موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين

محمد الخضر حسين

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - جَمَعَهَا وضَبَطها ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ لِلإمَامِ مُحَمّدْ الخَضْرِ حُسَيْنٌ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

تصدير الموسوعة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تصْدير الموْسوعة الحمد لله تعالى على ما هدى، والصلاةُ والسلام على نبينا محمد نور الحقِّ والهدى، وعلى آله وصحبه ومن اقتدى: يحدثنا لسانُ التاريخ الإسلامي المعاصر - وهو صادقٌ أمين فيما يتحدّث به -: أنّ الإمامَ محمد الخَضِر حسين عَلَمٌ من أعلام الإسلام، عمل فأجاد وأفاد، وجاهد فانتصر، وغرس فحصد، وأنتج فيضاً زاخراً مباركاً من العلوم التي ضَمَّتها هذه الموسوعة، والتي أطلقنا عليها اسم: (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر وعالم بلاد المغرب) - رحمه الله تعالى -. ولا يستقيم القول عن رجلٍ: إنه من عظماء الإسلام، ما لم تكن بين أيدينا حجةٌ تبرر هذا القول، وبرهانٌ تدعمُهُ الوقائعُ، وإلا، فإنه كالناطقِ عن هوى، والخائض في الغَيِّ. وقد نَهَجَتِ الموسوعاتُ العلميةُ الكُبرى أن تذكر في مطالعها لمحاتٍ - موجزةً أو مطوّلة - عن المؤلِّف، والمؤلَّف، والمحتوى، وهو منهاج حسن. ومن هذا المنطلق، وخدمة للمكتبة الإسلامية، والسعي المخلص لإثرائها بالكتب القيِّمة للإمام محمد الخضر حسين التي تُطبع لأول مرة في موسوعة منسّقة، مرتبة، أنيقة، حوت أعمالَه الكاملة التي وصل إليها التحقيقُ

والبحث حتى اليوم. يَسُرُّ (دار النوادر)، وتبتهجُ بهذا الإنجاز العلمي الذي طالما تطلع إليه المغربُ الإسلامي مع المشرق الإسلامي، وبعد طول انتظارٍ وترقُّب وإلحاحٍ من المؤسسات الفكرية والعلمية، سواء الدينية منها والأدبية، ومن قِبَلِ الأفراد والجماعات الذين يهتمون بعظماء أممهم، ويفاخرون ويباهون في الحديث عنهم بنواديهم ومجالسهم ومعاهدهم وجامعاتهم، ووسائل إعلامهم. هذه الموسوعة التي يجد فيها الباحث والدارس والمحقق والكاتب وطالبُ المعرفة والقارئ طِلْبَته ومُبتغاه في كل علم من العلوم التي أتاها الإمام من أبوابها الواسعة، فهو حَوْضٌ يُسقى من عذب فراته، ويصدر عنه الوارد مُرتوياً من مَعينه الخالص. وإذا رغبنا - في هذه المقدمة - أن نَعرض ترجمة لحياته، وجدنا أنفسنا أمام (بحرٍ لا ساحلَ له (¬1))، ولا ندري من أين نغوص؟ وكيف نلتقط الدرر، ولاحتاجَ الأمرُ إلى كتابة الأسفار. كيف نقدمه، وماذا ندوِّن من صفاته، ونسطِّر من أعماله، ونقدِّم جواهر كتبه وآثاره؟. ونتساءل: هل تفي هذه المقدمة في تصوير المشهد الذي نَنْشُد تِبيانه في مطلع هذه الموسوعة؟ كلا. إنه طراز نادر من العلماء المجاهدين، الذين صدقوا ما عاهدوا الله ¬

_ (¬1) كما جاء على لسان فضيلة الشيخ عبد المجيد اللّبان، رئيس اللجنة عندما تقدم الإمام لنيل عضوية (هيئة كبار العلماء) بكتابه "القياس في اللغة العربية".

عليه، وإنه من عظماء الإسلام، كلما كتبتَ عنهم، وخُضْتَ في سيرتهم، وعرضتَ مآثرهم وآثارهم، وأسعدتَ البصائر والعقول والقلوب ببحوثهم وآرائهم ودراستهم، قال لك القلم: هل من مزيد؟ إن أطلقتَ عليه صفةَ: الإمام المفسر، الإمام المحدّث، الإمام الزيتوني، الإمام القاضي، الإمام المجاهد، الإمام الخطيب، الإمام المحاضر، الإمام المصلح، الإمام اللغوي، الإمام الرحالة، الإمام الأديب، الإمام الشاعر، الإمام الناقض والناقد، وإمام مشيخة الأزهر، وجدت كل وصف من هذه الأوصاف العلمية ملازماً له حقاً وصدقاً، وقد أنصفتَ فيما وصفت، لا سيما بعد أن تطالع كافة آثاره العلمية. لا نكتب هذا من باب الإنشاء والمبالغة في البلاغة والبيان، وتزيين المقدمة بكلمات تثير كوامن الإنسان، إنما ندع القارئ وجهاً لوجه أمام هذه المواهب المتعددة التي وضعها الله - سبحانه وتعالى - فيه؛ ليستخلص منها المنزلة التي وصل إليها هذا الإمام. أجمع معاصروه وتلامذته ودارسوه من بعده على تقواه وصلاحه، وغزارة علمه ومعارفه، ومكارم أخلاقه، وطهارة سريرته، وأنه أوقف حياته بليلها ونهارها لخدمة الإسلام، ويدلنا على هذا الأمر: إنتاجه الغزير، وعطاؤه الوفير، وسيرته العطرة، وهذه التآليف المتعددة في اختصاصها وفنونها، وصدقها وأمانتها. صرفَ اهتمامه إلى علوم الشريعة واللغة والأدب، فاعتنى بالتفسير والحديث والفتاوى والأحكام، وتحدث عن أبطال الإسلام، وترجم لهم، وفي المقدمة: سيرةُ المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وسيرة السلف الصالح - رضي الله عنهم -.

اتخذ القرآنَ الكريم إماماً، والسنة النبوية قدوة، وفي هذا السبيل كانت رحلة حياته المباركة. اتخذ من الآية الكريمة: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16]، سبيلَه وطريقَه المستقيم طوالَ عمره. وجد في الكتاب المبين دُستوراً حكيماً عادلاً للناس كافة، إذا اتبعوه، سلموا في الدنيا والآخرة، وإن تركوه، خسروا الحياتين. ووجد في النور المحمديِّ الذي سرى ضياؤه في الشرق والغرب، وأنقذ العالم من ظلمات الشرك والجهالة والفوضى إلى نور الإيمان والعلم والنظام، المثلَ الأعلى للهدى والهداية، والرشد والإرشاد. ترى الإمام محمد الخضر حسين وضع نُصْبَ عينيه هاتين النعمتين العظيمتين، اللتين منَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهما على عباده: - القرآن الكريم، وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعلى هديهما توكَّل على الله -عَزَّ وَجَلَّ- في رحلة الإيمان، بدءاً من مدينة "نفطة" مكان ولادته، وانتهاء إلى "القاهرة"، وإمامته مشيخة الأزهر، ومن بَعْدُ انتقالُه إلى الرفيق الأعلى. كان توجهه إلى المؤمن في عبادته، وهداية للضال في عقيدته، والإرشاد للعامل في عمله، والراعي في بيته، والموسَّع عليه فيما أنعم الله به عليه، والقاضي على مِنَصَّة قضائه، والحاكم في مَنْصِبه ومسؤوليته، وزعماء الأمة أن يخلصوا في الأمانة التي حملوها. ولئن نهجت الأقلامُ في المقدمات أن تذكر نسب ولقب وكنية المترجَم،

ومولده ونشأته، ودراسته وشيوخه، ومؤلفاته وتلاميذه، ومكانته العلمية، وآراء العلماء فيه، ثم وفاته، فالأجدرُ بنا أن نضع لمحاتٍ سريعةً في سيرة الإمام، مع الإشارة إلى البحوث القيمة التي وردت في الكتب الموجودة في خاتمة هذه الموسوعة، والتي أعطت صورة عن الإمام وسيرته وتراثه.

ترجمة الإمام محمد الخضر حسين

ترجمَة الإمام محمّد الخضْر حسين * الإمام - مولده ونشأته: في واحة النخيل "نفطة" في الجنوب التونسي، وفي هذه المدينة الوادعة، الهادئة، الرائعة، والتي عرفت من قديم عصرها بـ "الكوفة الصغرى"؛ لما احتوته من علماء وأدباء وشعراء، وحتى يوم الناس هذا. ولد الإمام محمد الخضر حسين (يوم 26 رجب 1293 هـ - 21 جويلية تموز 1873 م) في عائلة علم وأدب، وشهرة وورع. والدُه الشيخُ الحسين بن علي بن عمر (¬1)، المعروف والمشهود له بالتقى والصلاح والزهد. ووالدتهُ السيدة حليمةُ السعدية بنتُ الشيخ مصطفى بن عزوز (¬2). وخاله العلامة الأجلُّ محمد المكي بن عزوز (¬3). وكلُّ من هذه الأسماء شُهُب ساطعة في سماء العلم والمعرفة، تتناقلها ¬

_ (¬1) انظر كتاب: "زاوية علي بن عمر" لعلي الرضا الحسيني. (¬2) انظر كتاب: "زاوية مصطفى بن عزوز"، وكتاب: "أعلام زاوية مصطفى بن عزوز" لعلي الرضا الحسيني. (¬3) انظر كتاب: "محمد المكي بن عزوز - حياته وآثار" لعلي الرضا الحسيني.

الإمام في مدينة تونس

الألسن في تونس والجزائر خاصة بالثناء والإكبار والاحترام. في هذه الدوحة الطاهرة نشأ وترعرع، وتلقى علومه في سنواته الأولى عن والدته السيدة حليمة التي عُرفت بعلمها وتقواها. وحفظ القرآن من صغره على يد شيخه عبد الحفيظ اللموشي، كما كان لخاله العلامة محمد المكي بن عزوز الفضلُ في تعليمه وتثقيفه، والعنايةِ به عناية خاصة. يقول الإمام في مقدمة ديوانه "خواطر الحياة": "نشأت في بلدة من بلاد الجريد يقال لها: "نفطة"، وكان للأدب المنظوم والمنثور في هذه البلدة نفحاتٌ تهب في مجالس علمائها، وكان حولي من أقاربي وغيرهم مَنْ يقول الشعر، فتذوقتُ طعم الأدب من أول نشأتي، وحاولت وأنا في سن الثامنةَ عشرةَ نظمَ الشعر". * الإمام في مدينة تونس: في سن الثالثةَ عشرةَ من عمره انتقلت عائلته من "نفطة" إلى مدينة "تونس" في أواخر سنة (1306 هـ - 1886 م). وانضم إلى (جامع الزيتونة) (¬1) طالباً للعلم، وهذا هو السبب في انتقال الأسرة إلى العاصمة. ويُعَدُّ (جامع الزيتونة) في تونس مثل (الجامع الأزهر) في القاهرة، و (جامع القرويين) في المغرب؛ من جهة تهيئة الطالب دينياً وعلمياً وخلقياً إلى أعلى منزلة ومرتبة يصل إليها. ومن شيوخه في الجامع الأعظم (جامع الزيتونة): خاله الشيخ محمد ¬

_ (¬1) وفق ما جاء في (دفتر شهادات التلامذة) أنه اتصل بصاحبه في أوائل شهر رجب سنة 1307 هـ.

الإمام في دمشق

المكي بن عزوز، ومحمد البشير الفورتي، ومحمد الشريف، ومحمد صالح الشريف، وأحمد بو خريص، ومحمد العزيز الوزير، وإسماعيل الصفايحي، وعلي الشنوفي، ومصطفى بن خليل، ومصطفى رضوان، وحسين بن حمد، ومحمد جعيط، ومحمد النجار، وأحمد بن مراد، وعمر بن الشيخ، وسالم بو حاجب، وغيرهم. وحصل على شهادة التطويع (¬1) يوم الأحد 14 من صفر الخير عام 1316 هـ. أما الشيوخ الذين كان لهم الأثر الأكبر في حياته - كما يقول الإمام بنفسه - فهم: خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز، وسالم بوحاجب، وعمر ابن الشيخ، وقد نوَّه في كثير من مقالاته إلى هذا الأثر والفضل. * الإمام في دمشق: هاجرت أسرة الإمام محمد الخضر حسين إلى دمشق سنة (1329 هـ - 1911 م)، والتحق بها في (4 شعبان 1330 هـ - 18 جويلية تموز 1912 م)، ودامت رحلته (¬2) مدة أربعة أشهر، وستة أيام، وعاد إلى تونس في 24 نوفمبر تشرين الثاني 1912 م، وأقام فيها مدة زاول خلالها نشاطه الثقافي، ولم تطب له الإقامة مجدداً؛ لظروف عديدة، فقرر الانتقال نهائياً إلى دمشق في شهر ديسمبر كانون الأول 1912 م، وكانت سنّه تُناهز الأربعين، وتكونت شخصيته من حيثُ العلمُ والمعرفة، وسبقته شهرته إلى دمشق، فاستُقبل بها بالتكريم والتقدير. ¬

_ (¬1) وهي الشهادة التي تمكن حاملها من التطوع لإلقاء الدروس في جامع الزيتونة، كما تؤهله للقيام بوظائف علمية ودينية. (¬2) دوّن هذه الرحلة، وسماها: "خلاصة الرحلة الشرقية" انظر كتاب: "الرحلات".

الإمام ونشاطه العلمي في دمشق

امتدت إقامته في دمشق من سنة 1912 إلى 1920 م، وتمثلت هذه الفترة في حياة الإمام بكرة الترحال والتنقل في العالم العربي وبعض البلدان الأوربية. كما نجده شعلة متوقدة من النشاط والإقبال على تحقيق رسالته التي اختطها لنفسه في خدمة الإسلام، والعمل في ميادينه الشتى التي يرتاح لها ضميره، وتطمئن بها سريرته، ويرضي بها ربه ودينه. ومن خلال إقامته في دمشق تبرز لنا ثلاث ومضات: أ - نشاطه العلمي الغزير، ومكانته الرفيعة لدى أهل العلم. ب - سجنه في معتقل جمال باشا. ج - جهاده في ألمانيا. * الإمام ونشاطه العلمي في دمشق: يتجسد نشاطه العلمي بالعلاقات الوثيقة مع كبار العلماء والأدباء والمفكرين، ومنهم: محمد كرد علي، ومحمد بهجة البيطار، وخليل مردم بك، وخير الدين الزركلي، وغيرهم، وعضويته في (المجمع العلمي العربي)، والتدريس في (المدرسة السلطانية)، ومحاضراته ودروسه الدينية في المسجد الأموي، والنوادي الأدبية. يقول الإمام في رسالة له من دمشق إلى الشيخ محمد صادق النيفر بتونس: "أما سيرتنا بدمشق، فلم تتغير عن الطريقة التي كنا نسلكها في تونس، وهو أن معظم أدبائها وكبرائها يعرفوننا ونعرفهم، وبالجملة: فقد لقيتُ منهم أخلاقاً حسنة، وآداباً مؤنسة، وفيما بلغني أنهم راضون عن سيرتنا، ومعجبون بمسلكنا في التعليم" (¬1). ¬

_ (¬1) كتاب "من أوراق ومذكرات الإمام محمد الخضر حسين، رسائل الخضر".

الإمام في معتقل جمال باشا

ومن الدلائل الباهرة التي تدل على مكانة الإمام في قلوب رجال الفكر والأدب بدمشق: أنه عندما اعتزم على الارتحال من دمشق إلى القاهرة، كتب له شاعر الشام الكبير خليل مردم بك ووزير خارجية سورية، ورئيس المجمع العلمي العربي كتاباً رقيقاً قال فيه: "سيدي! إن خير ما أثبته في سجل حياتي، وأشكر الله عليه: معرفتي إلى الأستاذ الجليل السيد محمد الخضر التونسي، فقد صحبتُ الأستاذ عدة سنين، رأيته فيها الإنسانَ العامل الذي لا تغيره الأحداث والطوارئ، فما زلت أغبط النفسَ على ظَفَرها بهذا الكنز الثمين، حتى فاجأني خبرُ رحلته عن هذه الديار، فتراءت لي حقيقة المثل: (بقدر سرور التواصل تكون حسرة التفاصل) " (¬1). * الإمام في معتقل جمال باشا: اعتُقلَ الإمام مدة ستة أشهر وأربعةَ عشرَ يوماً في شهر رمضان سنة (1334 هـ - 15 أوت آب 1916 م)، وحتى الرابع من شهر ربيع الثاني 1335 هـ، ووجهت إليه تهمة الإخلال بأمن الدولة العثمانية؛ لحضوره اجتماعاً خاض فيه المجتمِعون بسياسة الدولة، واستفتى فيه أحدُ المحامين الإمامَ عن نكث العهد من طاعتها، والخروج عليها، ودعا بعضُ الحضور إلى تأسيس جمعية للعمل على الانفصال عن الدولة العثمانية. وبرغْمِ أن الإمام من دعاة الوحدة الإسلامية، ولا يرتضي مثلَ هذه الدعوات، إلا أن السلطة اعتبرت عدمَ إبلاغها عن الاجتماع تهمة، وأحالته إلى المجلس العرفي العسكري الذي حكم بالبراءة من حيث النتيجة، وقدم الاعتذار للإمام. وكان من رفاقه في المعتقَل: الرئيس شكري القوتلي، وفارس الخوري، ¬

_ (¬1) ديوان "خواطر الحياة" للإمام.

الإمام في ألمانيا

وسعدي ملاَّ رئيس وزراء لبنان، وتم الاعتقال في (خان مردم بك)، وهو معتقَل رجال السياسة. ومن أجمل شعره في المعتقل: غَلَّ ذا الحَبْسُ يَدِي عن قَلَمٍ ... كانَ لا يَصْحُو عَنِ الطِّرْسِ فَناما هَلْ يَذُودُ الغُمْضَ عن مُقْلَتِه ... أوْ يُلاقِي بعدَه المْوتَ الزُّؤاما أنا لولا هِمَّةٌ تَحْدُو إلى ... خِدْمَةِ الإسلامِ آثَرْتُ الحِماما ومن جميل شعره، ورقَّته في محاورة جرت بين الإمام والأستاذ سعدي الملا عن البداوة والحضارة: جَرَى سَمَرٌ يومَ اعْتُقِلْنا بِفُنْدقٍ ... ضُحانا بهِ ليل، وسامِرُنا رَمْسُ وقالَ رفيقي في شَقا الحَبْسِ: إِنَّ فِي الْـ ... ــحَضَارَةِ أُنْساً لا يُقَاسُ به أُنْسُ فقلتُ لهُ: فَضْلُ البَداوَةِ راجِحٌ ... وحَسْبُكَ أَنَّ البَدْوَ لَيْسَ بِهِ حَبْسُ * الإمام في ألمانيا: رحل إلى ألمانيا في مهمة للاجتماع بالأسرى المغاربة الذين زَجَّت بهم فرنسا في خطوط القتال الأولى، ووقعوا في الأسر ضمن معسكرات؛ ليحرضهم على القتال ضد فرنسا، ويرغبهم في الانخراط والتطوع في جيش يعدُّ لمحاربة فرنسا. لبث في ألمانيا على مرحلتين: تسعة أشهر في عام 1917 م، وسبعة أشهر في عام 1918 م مع عدد من المجاهدين. وخلال إقامته في ألمانيا تعلم اللغة الألمانية، ودرس علوم الكيمياء والطبيعة على البروفسور (هاردر) أحدِ المستشرقين الألمان. في ذاك الأتون المشتعل ناضل الإمام، وجاهد من أجل المغرب،

الإمام في القاهرة

فأصدرت السلطة الفرنسية حكماً عليه بالإعدام غيابياً بتهمة تحريض المغاربة على الثورة، والانقلاب على المستعمر الفرنسي، وحجزت أملاكه في تونس - على قلتها -. كتب "مشاهد برلين" (¬1) مذكراته عن تلك الحقبة، وهي مختصرة، ولم يعثر المحقق علي الرضا الحسيني على المذكرات الكاملة. * الإمام في القاهرة: المرحلة الثالثة في رحلة الإمام محمد الخضر حسين، وهي مرحلة الاستقرار من عام 1920 - 1958 م، وهذه المرحلة أطلق عليها العلامة محمد الفاضل بن عاشور "مرحلة المجد الثقافي والشهرة العلمية". ارتقى فيها الإمام إلى أعلى مراتب العلمية: - بدأها في عمله في التصحيح بدار الكتب المصرية. - تشكيل الجمعيات الإسلامية والوطنية: جمعية الشبان المسلمين - جمعية الهداية الإسلامية - جمعية تعاون جاليات أفريقية الشمالية - جبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية، وألقى المحاضرات القيمة فيها. - تأسيس وإصدار وتحرير المجلات: "نور الإسلام" - "الهداية الإسلامية" - "لواء الإسلام". - تصدِّيه وردوده المتعددة، ولا سيما على طه حسين، وعلي عبد الرازق، وغيرهما، وقد أكسبته الشهرة الواسعة. - نشاطه اللغوي في (مجمع اللغة العربية). - تدريسه في كليات (الجامع الأزهر). ¬

_ (¬1) كتاب "الرحلات" للإمام.

* الإمام المفسر

- عضويته في هيئة كبار العلماء. - إمامته لمشيخة الأزهر. * الإمام المفسِّر: حفظ الإمام محمد الخضر حسين القرآن الكريم لفظاً ومعنى منذ صغره، وكان له القدوة في علمه وتعليمه، وكثيراً ما كان يلقي دروس التفسير ارتجالاً في رحلاته وجولاته، وفي مذكراته؛ لمجرد أن يُطلب منه تفسير آية، أو معنى كلمة، ونلمس في آثاره العلمية: استشهادَه بكتاب الله تعالى، وذكر الآيات القرآنية الكريمة التي تناسب المقام والمقال. قام بتفسير القسم الأكبر من سورة البقرة، من الآية الأولى، وحتى الآية 195، إضافة إلى سورة الفاتحة، ونشر هذا القسم من التفسير في مجلة "لواء الإسلام"، بدءاً من العدد الأول الصادر في رمضان المبارك سنة 1366 هـ. وتحت وطأة الشيخوخة لم يتمكن من الاستمرار في التفسير. وفسَّر آيات كريمة من السور القرآنية في دروس دينية يلقيها في المساجد الكبرى. يقول الإمام: "فمن واجب الكاتب في التفسير: أن يتجه إلى تمحيص الروايات، ولا يُعَوِّل إلا على ما صحَّت روايتُه، وأن يكون عارفاً بعلوم اللغة العربية، وفنون بلاغتها" (¬1). وبهذا القول كان منهجه في التفسير: يمحِّص الروايات، ولا يعتمد إلا على الروايات الصحيحة، وهو- كما نعلم - من كبار علماء اللغة العربية، والعارف بفنونها، وعلى هذا المنهج مشى في كتابه "أسرار التنزيل". ¬

_ (¬1) كتاب "بلاغة القرآن" بحث: "رأي في تفسير القرآن".

الإمام وعلوم القرآن

* الإمام وعلوم القرآن: وجَّه الإمام محمد الخضر حسين بالغَ اهتمامه وعنايته إلى القرآن الكريم، كتابِ الله الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. وإلى جانب ما عمله من تفسير بعض الآيات القرآنية الكريمة في كتابه "أسرار التنزيل"، فقد تصدى وردَّ على كل مَنْ حاول تحريف آياته، أو راح يهذي في تأويلها، أو يُلْحد بها. كما تناول بلاغة القرآن وإعجازه وفصاحته في مقالاته، وأبدى رأيه في تفسير القرآن، ونقل معانيه إلى اللغات الأجنبية، أو ترجمته إلى اللغات الأخرى، وجاء كتابه "بلاغة القرآن" حجة على ضلوعه في علوم القرآن. * الإمام والسيرة النبوية: نعمتان عظيمتان مَّن الله تعالى بهما على عباده: القرآن الكريم، وبعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة هادياً ومبشراً ونذيراً. والإمام محمد الخضر حسين الذي أتقن علم التفسير وعلوم القرآن، قال: "طالعْ كتبَ التاريخ، عربيةً وغيرَ عربية، وأمعنِ النظرَ في أحوال عظماء الرجال، من مبدأ الخليقة إلى هذا اليوم، فإنك لا تستطيع أن تضع يدك على اسم رجل من أولئك العظماء، وتقصَّ علينا سيرته ومزاياه وأعماله الجليلة، حديثاً يضاهي أو يداني ما نحدثك به عن هذا الرسول العظيم". لم يكتب الإمام السيرة النبوية شاملة، وإنما تناول منها بحوثاً كان يلقيها في محاضرات بالمناسبات الدينية، أو مقالات في المجلات ... له رسالة بحجم صغير بعنوان: "محمد رسول الله وخاتم النبيين"، تحدث فيها عن سيرته - صلى الله عليه وسلم - بشكل كامل وموجز، وله بحوثه في نواحٍ معينة

الإمام اللغوي

من سيرته - صلى الله عليه وسلم -، كما له ردود يفند بها مزاعمَ الضالين والمبطِلين الذين تحدثوا عن السيرة النبوية عن غواية وإفساد وزَيْغ في العقيدة. وفي كتابه "محمد رسول الله وخاتم النبيين" ما يعطى بياناً عن الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم -. * الإمام اللغوي: من العلوم التي حرص الإمام محمد الخضر حسين على توجيه العناية الفائقة لها: علوم اللغة العربية وآدابها. ولما كانت اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، وجدناه قد بدأ حياته العلمية بإتقانها ودراستها، وتفوق في ميدانها تفوقاً لا حدَّ له، ورافقه هذا الإبداع بها والتميز حتى آخر حياته الجليلة. ومن أوائل بحوثه في تونس: محاضرته "حياة اللغة العربية" (¬1)، وقد تناول فيها دلالة الألفاظ، وتأثير اللغة في الهيئة الاجتماعية، وأطوار اللغة، وفصاحة مفرداتها، واتساعها، وارتقاءها، وقال في مقدمتها: "فالغرض إنما هو البحث عن حال اللغة في حدِّ نفسِها من جهة أطوارها، ومحكم وضعها، واتساع نطاقها، وارتقائها مع المدنية، وما يشاكل ذلك". وبعد هجرته إلى دمشق، وقع تعيين الإمام عضواً عاملاً في (المجمع العلمي العربي) الذي عقد جلسته الأولى في 30 جويلية تموز 1919 م، واستمر في عضوية المجمع حتى انتقاله إلى القاهرة، وبقي عضواً مراسِلاً فيه. وفي القاهرة صدر مرسوم بتعيين الإمام عضواً عاملاً في (16 جمادى ¬

_ (¬1) محاضرة ألقاها سنة 1327 هـ في جمهور غفير من الأدباء وأساتيذ اللغة العربية في (الجمعية الصادقية) كبرى الجمعيات الأدبية في تونس، عندما كان مدرساً بجامع الزيتونة - انظر كتاب: "دراسات في العربية وتاريخها".

الإمام المصلح

الثانية 1352 هـ - 6 تشرين الأول 1933 م). عند أول التأسيس لمجمع فؤاد الأول للغة العربية (مجمع اللغة العربية)، وشارك في لجانه: الآداب والفنون - المعجم الوسيط - الأعلام الجغرافية - دراسة معجم المستشرق (فيشر) المتعلق بالألفاظ القرآنية ... وبحوثه اللغوية منشورة في مجلة المجمع من مقالات ومحاضرات وتعليقات، وشارك في عدة مؤتمرات لغوية. ومن أهم عطائه اللغوي: كتابه "القياس في اللغة العربية" الذي نال به عضوية هيئة كبار العلماء بالقاهرة: وضُمَّت لغوياتُه في كتابين: "دراسات في العربية وتاريخها"، و"دراسات في العربية". أنشد قصائدَ مطولةً وعديدة حول مكانة اللغة العربية وآدابها، والدعوة إلى العناية بها، واعتماد الفصحى. وبقي عضواً بارزاً من أعضاء المجمع العاملين بجد وإخلاص حتى تاريخ وفاته. * الإمام المصلح: للإمام محمد الخضر حسين كتابان هامان حول الإصلاح: "الدعوة إلى الإصلاح"، و"رسائل الإصلاح". حمل عب الدعوة إلى الإصلاح منذ مطلع حياته، واستمر في هذا السبيل القويم حتى آخر العمر المبارك ... وقد بين: الحاجةَ إلى الدعوة، والدعوة في نظر الإسلام، والمبادرة إلى الدعوة، والتعاضد على الدعوة، ومن الذي يقوم بالدعوة، والإخلاص في الدعوة، وطرق الدعوة، وآداب الدعوة، وسياسة الدعوة، والإذن في السكوت عن الدعوة، وعلل إهمال الدعوة، وآثار السكوت عن الدعوة،

الإمام المحاضر

وما يدعى إلى إصلاحه. هذه العناوين التي اتخذها سبيلاً له في إصلاح الأمة، ودعوتها إلى التواصي بالحق، وسلوك طريق الهداية والرشاد، والبعد عن زيغ العقيدة، ومحاربة أهل الضلال، ومجابهة دعوة الإلحاد والزندقة، ودفع بطلان من يحاول أن يدس في الإسلام الفتنة، وشموق المجتمع بعيداً عن دينه تحت أسماء لا تغني عن الحق شيئاً. * الإمام المحاضر: في كل ملتقى يكون فيه الإمام محمد الخضر حسين يتشوق الحاضرون للاستماع إلى محاضرة، وما إن يدخل مسجداً، أو معهداً علمياً، أو نادياً أدبياً، إلا ويلح عليه الحاضرون بطلب كلمة يلقيها على مسامعهم، ويستفيدون بها، ويستمتعون. وللإمام عشراتُ المحاضرات ألقاها في مناسبات عدة، ولعل أهمها: محاضرة "الحرية في الإسلام" التي ألقاها في (جمعية قدماء تلامذة الصادقية) بتونس مساء يوم السبت في 17 ربيع الثاني من عام 1324 هـ. تعد هذه المحاضرة من الوثائق القومية الهامة، فقد ألقيت في ظل حماية رهيبة، ومستعمر غاشم مرعب وسفاح، وقد تناقلت الألسنُ والأيدي هذه المحاضرة، وانتشر أثرها في قلوب التونسيين المؤمنين بحرية وطنهم؛ لأنهم لم يعتادوا أن يسمعوا صوتاً يتحدث عن الحرية في آذان شعب مضطَهَد. وكان خطابه على المنابر، أو في مجالس العلم باللغة الفصحى، واللهجة المؤثرة تطرب لها الأسماع، وتطمئن لها القلوب، وكتاب "محاضرات إسلامية" أنموذج.

الإمام القاضي

* الإمام القاضي: تولى الإمام محمد الخضر حسين القضاء في مدينة "بنزرت" من المدن التونسية الكبرى، كما تولى الخطابة والتدريس في جامعها الكبير؛ واستمر قاضياً نزيهاً عادلاً مدة سنة وسبعة أشهر، بدءاً من شهر ربيع الثاني 1323 هـ، ويبدو أنه شعر في قرارة نفسه بضيقٍ من هذا المنصب الحكومي الذي لا يتلاءم مع طبيعته، والذي رأى فيه منزلةً دون همته الكبرى، والهدفِ الذي يعمل له في خدمة الإسلام، وسرعان ما استقال ليعود إلى ميدانه العلمي الحر في رحاب جامع الزيتونة، دون أن تكبله الحكومة بهذا القيد، والذي يظهر أنها سعت إليه للتضييق عليه في نشاطه، وقد بدأت تراقبه، وتتبع خطواته. أقام العلامة محمد الطاهر بن عاشور مأدبةً للإمام بمناسبة توليته القضاء، وألقى خطاباً "على مأدبة وداع الشيخ النحرير محمد الخضر بن الحسين إذ تعين قاضياً ببنزرت في يوم السبت مساء 15 ربيع الثاني 1323 بمنزلي بالمرسى وبحضور طائفة من الأعيان ومن رجال القلم والعلم" (¬1). وأنهى الشيخ ابنُ عاشور خطابه بأبيات يقول فيها: قَسَماً بِإِحْساسِ المودَّةِ بيننا ... أكَّدْتُ في ملأٍ منَ الأحبابِ (¬2) لَسُرُورُ ساعاتٍ تُذَكِّرُ أُنْسَكُم ... في النَّفْسِ أَحْلَى مِنْ نَوَالِ طِلابِ والآنَ قُدِّرَ أَنْ يَشُطَّ مَزارُنا ... حَتَّى يُعَوَّضَ جَمْعُنا بِكتابِ ولتلكَ في قلبِ الصَّديقِ حزازةٌ ... ما هيَّ دونَ نوافذ النّشّابِ ¬

_ (¬1) من كتاب: "كتابات حول الإمام محمد الخضر حسين" (ص 23). (¬2) هذا في ظاهره قسم بغير الله، لكن ليس المراد به هنا القسم، إنما التأكيد، كما هي عادة الشعراء.

الإمام الناقض والناقد

لكنَّ للعدلِ المُضَيَّعِ دَعْوَةً ... تَقْضي علينا بامْتِثالِ جوابِ فاهنأْ بهذا الارتقاءِ وَكُنْ بهِ ... مِثْلَ الفَضيلةِ مَظْهَرَ الإِعْجَابِ وكانت بين الإمامين صداقة ارتقت إلى الأخوة، وضربت بها الأمثال في الوفاء. ويقول له الإمام الطاهر بن عاشور في نهاية الخطاب: "وإليك أيها الصديق تحية طيبة، تصحبونها معكم؛ لتذكركم وداداً لا يفنى وإن طال الزمان، وتفارقت الأبدان". ونظراً لما شاهده من خلال عمله بالقضاء، فإن قلمه لم يبخل بمقالات رائعة عنه، ونقرأ له: "القضاء العادل في الإسلام" (¬1)، و"القضاء العادل" (¬2)، و"مكانة القضاء" (¬3)، و"صفات القاضي في الإسلام" (¬4)، و"السياسة القضائية" (¬5). * الإمام الناقض والناقد: تصدى الإمام محمد الخضر حسين بجرأةِ العالم المتمكّن الذي لا يخشى إلا الله تعالى، ولا يخشى في الحق لومةَ لائم، أو جور سلطان، إلى من رأى في أقلامهم زيغاً عن الهدى، وضلالاً بعيداً، وفي أفكارهم عوجاً عن الرشد. واستل قلمه البليغ في الرد على: - طه حسين في كتابه "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، و"حقيقة ضمير ¬

_ (¬1) من كتاب: "رسائل الإصلاح". (¬2) من كتاب: "الهداية الإسلامية". (¬3) من كتاب: "الهداية الإسلامية". (¬4) من كتاب: "الهداية الإسلامية". (¬5) من كتاب: "الإرث الفكري للإمام محمد الخضر حسين".

الغائب في القرآن" (¬1). - علي عبد الرازق في كتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، وعلى مقالاته "العظمة" (¬2)، و"ملاحظات على مقال مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬3). - الشيخ محمود شلتوت في مقاله: "الهجرة وشخصيات الرسول" (¬4). - محمد خلف الله في مقاله: "الفن القصصي في القرآن" (¬5). - محمد أبو زيد الدمنهوري على كتابه "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن"، وعنوان رد الإمام: "كتاب يهذي في تأويل القرآن المجيد" (¬6). - الطاهر حداد في كتابه: "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، وعنوان رد الإمام: "كتاب يُلحد في آيات الله" (¬7). - عبد المتعال الصعيدي "تحريف آيات الحدود عن مواضعها" (¬8). - أحمد أمين "نقد اقتراح ببعض الإصلاح في متن اللغة" (¬9). - فريد أبو حديد "ملاحظات على البحث المقدم عن موقف اللغة العامية ¬

_ (¬1) كتاب: "بلاغة القرآن". (¬2) كتاب: "محمد رسول الله وخاتم النبيين". (¬3) كتاب: "محمد رسول الله وخاتم النبيين". (¬4) كتاب: "محمد رسول الله وخاتم النبيين". (¬5) كتاب: "بلاغة القرآن". (¬6) كتاب: "بلاغة القرآن". (¬7) كتاب: "بلاغة القرآن". (¬8) كتاب: "بلاغة القرآن". (¬9) كتاب: "دراسات في اللغة".

الإمام الشاعر

من اللغة العربية الفصحى" (¬1). - اللجنة المؤلفة من طه حسين، وأحمد أمين، وعلي الجارم، ومحمد أبي بكر إبراهيم "حول تبسيط قواعد النحو والصرف والرد عليها". - إبراهيم مصطفى "موضوع علم النحو" (¬2). - وله ردود أخرى على: رشيد رضا، ومحمد فريد وجدي وغيرهما مبثوثة في مجلة "الهداية الإسلامية" تدل على موسوعية الإمام في كل علم وفن. * الإمام الشاعر: إذا تصفحنا ديوان الإمام محمد الخضر حسين "خواطر الحياة"، نجد أنفسنا أمام شاعر انصرف في شعره إلى: الإسلاميات، والإخوانيات، والوطنيات، والوجدانيات، والاجتماعيات، والوصف، والرثاء. عفَّ عن الغزليات؛ لأنها ليست من طبيعته وأخلاقه. ويمكن أن نطلق عليه: الإمام الشاعر، أو الشاعر الإمام، صحيح أن شعره هو أقرب إلى الشعر التقليدي من الشعر المعاصر اليوم، فهذا مرده إلى حكمته وزهده وورعه. وديوانه يحتاج إلى تمحيص ودراسة، وبحث عميق، والاستفادة منه في بعض القضايا الوطنية والاجتماعية والتاريخية. * الإمام الرحَّالة: اعتنى الإمام محمد الخضر حسين بالرحَلات العلمية، وكتب حولها ¬

_ (¬1) كتاب: "دراسات في اللغة". (¬2) كتاب: "دراسات في العربية وتاريخها".

المقالاتِ الرائعةَ تعريفاً بها، وترغيباً للنهوض إليها، ودعوةً لأهل العلم ورجال الفكر للتنقل والارتحال في أقطار العالم الإسلامي؛ لما فيها من التعارف والتآلف بين المسلمين، والاطلاع على أحوالهم، وتبادل الرأي. ومن هذه المقالات: "أثر الرحلة في الحياة العلمية والأدبية" (¬1)، و"النهضة للرحلة" (¬2)، و"الرحلة والتعارف في الإسلام" (¬3). لم يكتف بالحديث عنها خطابة أو كتابة، بل بادر للقيام بها، وسعى إلى تحقيقها بنفسه، ولا سيما في مطلع حياته المباركة. ومن أهم رحلاته التي دوَّنها في مذكراته، ونشرها في تآليفه: - "الرحلة الجزائرية" (¬4) الثانية عام 1322 هـ - 1904 م. - "خلاصة الرحلة الشرقية" (¬5) إلى بلدان المشرق العربي عام 1330 هـ - 1912 م. وزار خلالها: مالطة، والإسكندرية، والقاهرة، وبورسعيد، وحيفا، ويافا، ودمشق، وبيروت، وإستنبول. - "حديث عن رحلتي إلى دمشق" (¬6) سنة 1356 هـ - 1937 م. - "رحلتي إلى سورية ولبنان" (¬7) سنة 1363 هـ. ¬

_ (¬1) كتاب: "الرحلات". (¬2) كتاب: "الرحلات". (¬3) كتاب: "الرحلات". (¬4) كتاب: "هدى ونور". (¬5) كتاب: "الرحلات". (¬6) كتاب: "الرحلات". (¬7) كتاب: "الرحلات".

- "مشاهد برلين" (¬1) سنة 1918 م. بالإضافة إلى الرحلات والتنقلات إلى ليبيا وطرابلس عام 1317 هـ - 1889 م، والرحلة الأولى إلى الجزائر عام 1321 هـ - 1903 م. ورحلته إلى الحجاز (¬2) لأداء فريضة الحج، وزياراته إلى ألبانيا وبعض بلاد البلقان، وتكراره لهذه الأسفار خدمةً للإسلام، وهي رحلات لم تُنشر تفاصيلها في منشورات الإمام، أو أن المحقق الأستاذ علي الرضا الحسيني لم يعثر عليها، وإن كان قد أبدى حرصَه على تتبعها، والتنقيب عنها فيما سلف من مجلات أدبية عربية وأجنبية - إن شاء الله تعالى -. ونستطلع في رحلاته العلمية أنه يتناولها من وجهة نظر الإسلام في الرحلة، ومثبطاتها، وعلاج تلك المثبطات، وفوائد الرحلة، وأثرها في حياة الراحل، وماذا يستفيد قوم الرجل من رحلته؟ وماذا تستفيد البلد ممن يرحلون إليها؟ وأثر الرحلة في تنمية العلوم، وثراء الأدب، وتعارف الشعوب، وآداب الرحلة، ... إلخ. وعندما نستعرض إحدى رحلاته "الرحلة الشرقية" أنموذجاً، نجدها في مجملها: مسامرات علمية، إلقاء دروس في التفسير، الاجتماع بأهل العلم والفضل والفكر على مختلف آرائهم، وزيارة المساجد والمعالم الدينية والأثرية التي ترتبط بالتاريخ الإسلامي، زيارة المكتبات العلمية العامة والخاصة، والاطلاع على موجوداتها من المطبوعات والمخطوطات النفيسة، زيارة دور ¬

_ (¬1) كتاب: "الرحلات". (¬2) له قصيدة (مشاهداتي في الحجاز)، ومطلعها: ألمجدٍ لا ينالُ القاطنينْ ... وَدَّعَ الصَّحْبَ وَحَيّا الظّاعِنينْ

العلم من جامعات ومدارس ومؤسسات، الاجتماع بعلماء الأمة وشيوخها، والمذكرات النافعة معهم. ونلمس في رحلاته: الحرصَ على أن تكون دروسه في التفسير والحديث والآداب الهدف السامي منها، وإلا - كما يراها - لا خير فيها إن لم تكن في هذا السبيل القيم. إن كثرة الأسفار والارتحال المستمر والدائم التي يجني من ورائها أهدافَه في الدعوة إلى سبيل الله تعالى، وخدمة الإسلام، بكل ما أكسبه الله تعالى من قوة وجرأة وقدرة على التحمل والصبر على المشاق، إلا أنه - في بعض الأحوال - يعبر عن هذا الترحال في شعره من ديوانه "خواطر الحياة". وتحت عنوان: (حادي سفينتنا) أبيات قالها عند مغادرته تونس سنة 1330 هـ، وقد أخذ الحنين إلى الوطن يزداد: حادِي سفينَتِنا اطْرَحْ مِنْ حُمولَتِها ... زادَ الوقودِ فَما في طَرْحِهِ خَطَرُ (¬1) وَخُذْ إذا خَمَدَتْ أنفاسُ مِرْجَلها .... مِنْ لَوْعَةِ البَيْنِ مِقْباساً فتَسْتَعِرُ (¬2) وقال عند سفره من دمشق تحت عنوان: (كأني دينار): كأَنِّيَ دينارٌ وَجِلَّقُ راحَةٌ ... تُنافِسُ في الإِنْفاقِ راحةَ حاتمِ (¬3) ¬

_ (¬1) حادي: الحادي: الذي يسوق الإبل، ويقصد به هنا: قبطان السفينة. زاد الوقود: ما توقد به مراجل السفينة. (¬2) البين: الفرقة. مقباساً: العود ونحوه تقبس؛ أي: توقد به النار. (¬3) جلق: دمشق. حاتم: حاتم الطائي، عربي، يضرب به المثل بجوده.

الإمام ومجلاته الأربع

فَكَمْ سَمَحَتْ بِي للرَّحيلِ ولَيْتني ... ضَرَبْتُ بها الأوْتادَ ضَرْبَة لازِمِ (¬1) وبعد عودته من برلين إلى دمشق سنة 1334 هـ قال (أحمد الظعن): أَطْوِي المراحِلَ مِنْ (بْرلينَ) في أَمَل ... لَمْ يَجْنِ زَهَرَتَهُ كَفُّ الّذِي قَطَنا (¬2) فَأَحْمَدُ الظَّعْنَ إِنَّ الظَّعْنَ أَظْفَرَني ... بِأَنْمُلٍ تَخْدِمُ الإِسْلامَ والوَطَنا (¬3) ومما قاله عندما دخل به القطار في بساتين دمشق لأول مرة سنة 1330 هـ: لَجَّ القِطارُ بِنا والنّارُ تَسْحَبُهُ ... ما بَيْنَ رائِقِ أَشْجارٍ وأَنْهارِ ومِنْ عَجائبِ ما تَدْريه في سَفَرٍ ... قَوْمٌ يُقادُونَ لِلْجَنّاتِ بالنَّارِ وتحت عنوان: (أرى سفري) يقول: أَرَى سَفَري شِعْراً ولكنْ بيوتَهُ ... مُفَصَّلَةٌ في غَيْرِ بَحْرٍ وفي بَحْرِ ومَقْطَعُ عُودِي مِنْ بَدائعِهِ أَلا ... تَرى عَجُزاً قَدْ رَدَّ فيه على صَدْرِي وللإمام قصائد أخرى يبث فيها الشوق إلى الأهل، ويشكو البعد عن الوطن. * الإمام ومجلاته الأربع: أصدر الإمام محمد الخضر حسين مجلتين: "السعادة العظمى"، و"الهداية الإسلامية". وترأس تحرير مجلتين: نور الإسلام "الأزهر" اليوم - و"لواء الإسلام". ¬

_ (¬1) اللازم: الثابت. (¬2) المراحل: جمع المرحلة: المسافة التي يقطعها المسافر في اليوم. (¬3) الظعن: السير. الأنمل: جمع الأنملة: رأس الإصبع.

الإمام وعضويته في هيئة كبار العلماء

- أصدر مجلة "السعادة العظمى" في تونس في (شهر محرم سنة 1322 هـ , شهر أفريل نيسان سنة 1904 م)، وهي أول مجلة عربية ظهرت في تونس نصف شهرية، وصدر منها 21 عدداً فقط وانقطعت عن الصدور في (شهر ذي القعدة سنة 1322 هـ - شهر جانفي كانون الثاني 1903 م). وهي مجلة إسلامية علمية أدبية. - وأصدر مجلة "الهداية الإسلامية" في القاهرة عن (جمعية الهداية الإسلامية) التي يرأسها، وصدر العدد الأول في جمادى الثانية 1347 هـ , وعلى مدى ثلاثة وعشرين مجلداً. - وترأس مجلة "نور الإسلام" مجلة الأزهر، وصدر العدد الأول في (شهر محرم 1349 هـ - شهر حزيران 1930 م)، واستمر في تحريرها حتى عام 1935 م. - ترأس تحرير مجلة "لواء الإسلام"، وصدر العدد الأول في (أول رمضان 1366 هـ - 19 يوليو 1947 م)، وحتى عام 1952 م، وانقطع عنها لارتقائه مشيخة الأزهر. كما ساهم في الكتابة في العديد من الصحف والمجلات في العالمين العربي والإسلامي. * الإمام وعضويته في هيئة كبار العلماء: من شروط العضوية في (هيئة كبار العلماء): أن يتقدم العضو ببحث فريد ومميز، وأن يكون بلغ مرتبة علمية رفيعة تؤهله لإشغال هذا المنصب. فقدم كتابه "القياس في اللغة العربية" سنة 1950 م، وتشكلت لجنة الامتحان - من قساة الممتحنين كما يقال - برئاسة الشيخ عبد المجيد اللبان.

الإمام في مشيخة الأزهر

وأجاب عن كل سؤال يطرح عليه من أحد أعضاء اللجنة، فيجيب عنه، ويستفيض بالشرح؛ لدرجة يجعل السائلَ في حيرة من أمره أمام هذا المسؤول. وأبدى الإمام محمد الخضر حسين من الرسوخ والتمكن ما أصاب اللجنةَ الفاحصة بالدهشة والإكبار والتعظيم له، وكأنه بحر يهدر بغزارة وفيض، حتى إن الشيخ اللبان صاح بإعجاب أمام كافة الحضور: "هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج؟! ". ونص القرار الذي أعطي للإمام بقبول عضويته: إن اللجنة امتحنت الشيخ محمد الخضر، فوجدته بحراً لا ساحل له. وصدر الأمر الملكي برقم 22 بتاريخ 29 أبريل 1951 م بتعيينه عضواً في جماعة كبار العلماء. وهذه العضوية هي السبيل إلى اختياره شيخاً للأزهر. * الإمام في مشيخة الأزهر: يذكر الإمام محمد الخضر حسين في مذكراته ما أخبرته أمه السيدة حليمة السعدية بنت الشيخ مصطفى بن عزوز: أنه في صغره كانت ترفع وليدَها بين يديها، وتربِّتُ عليه، وتداعبه وهي تنشد: إنْ شاءَ الله يا أَخْضَرْ ... تِكْبَرْ وتْرُوحْ الأَزْهَرْ واستجاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- دعاء الأم التقية الصالحة، وإذا بوليدها ينتقل من تونس إلى دمشق، ويجوب البلدان والأمصار إلى إسطنبول وبرلين، وإلى القاهرة؛ ليصبح إماماً وشيخاً للأزهر. وهذا دليل على صلاحه وتقواه، فأثابه الله في الدنيا، وعنده ثواب الآخرة. ارتقى مشيخة الأزهر في (2 المحرم سنة 1372 هـ - 22 سبتمبر أيلول سنة 1952 م)، واستقال في (2 جمادى الأولى سنة 1373 هـ - 8 جانفي

وفاة الإمام

كانون الثاني 1954 م). وله في مشيخة الأزهر مواقف جليلة: - منذ تقلد المنصب وهو يحتفظ في جيبه باستقالة محررة، ونسخة منها يحتفظ بها مديرُ مكتبه، وقال له: إذا أحسستَ بضعفي في موقف من المواقف، فقدم استقالتي نيابةً عني. - وفي مشيخة الأزهر كان يقول: "إن كانت جنّة، فقد دخلتُها، وإن كانت ناراً، فقد خرجتُ منها". - بعد اختياره شيخاً للأزهر، زاره اللواء محمد نجيب للتهنئة، وبعد مدة زاره السيد حسن الشافعي عضوُ قيادة الثورة، وأخبره أن اللواء نجيب يستدعيه للتشاور في بعض المسائل: فغضب الإمام - وقلّما يغضب - وأخرج ورقة من دُرْج مكتبه، وكتب عليها استقالته، وقال للسيد الشافعي: "قل لسيادة الرئيس: إن شيخ الأزهر لا ينتقل إلى الحاكم". - وقوله: "إن الأزهر أمانة في عنقي، أُسَلِّمها حين أُسَلِّمها، موفورةً كاملة، وإذا لم يتأتَّ أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقلَّ من أن لا يحصل له نقص". - وقوله: "يكفيني كوب لبن، وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العَفاء". * وفاة الإمام: انتقل الإمام محمد الخضر حسين إلى الرفيق الأعلى - وعيونُ الناس دامعة، وقلوبهم حزينة - بعد ظهر يوم الأحد في (13 رجب 1377 هـ - 2 شباط 1958 م). ودفن - بناء على وصيته - إلى جانب رفيقه العلامة أحمد

تيمور باشا، في مقبرة آل تيمور الخاصة، جانب مسجد الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في القاهرة. إن (دار النوادر) يسعدها أن تقدم "موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر وعالم بلاد المغرب"؛ لتأخذ مكانها الرفيع واللائق في المكتبة الإسلامية. والحمد لله في البدء والختام. رحمه الله رحمة واسعة، ورضي عنه وأرضاه. حَرَّرُه نور الدين طالب دمشق الفيحاء 30/ ربيع الأول/ 1431 هـ

ترجمة الجامع والمحقق لأعمال الإمام

ترجمة الجَامعَ والمحقق لأعمال الإمام هو الأستاذ المحامي علي الرضا بن زين العابدين الحسيني، ابنُ أخ الإمام محمد الخضر حسين. ولد في مدينة "دمشق" في (19 رجب 1351 هـ -17 نوفمبر تشرين الثاني 1932 م). نشأ في رعاية وعناية والده الفقيه اللغوي زينِ العابدين بنِ الحسين التونسي (¬1)، وفي بيت يلتقي فيه علماء الشريعة واللغة والأدب، ويُتلى فيه الذكر الحكيم، وتُعقد فيه دروس الوعظ والإرشاد. أخذ بداية علومه صغيراً في أحد الكتاتيب القرآنية - كُتّاب الشيخ سليم اللبني - رحمه الله تعالى -، ودراسته الابتدائية في مدرسة (خالد بن الوليد) في حي الميدان، والقريبة من مكان سكنى العائلة، وتابعَ دراسته الثانوية في ثانوية (التجهيز الثانية) المعروفة اليوم باسم: (أسعد عبد الله) في حي الحلبوني بدمشق. تخرج في كلية الحقوق بجامعة دمشق في 3 شعبان 1384 هـ - 7 كانون ¬

_ (¬1) اشتهر الشيخ زين العابدين بلقب (التونسي) نسبة إلى ولادته في تونس. انظر كتاب: "سيدي الوالد زين العابدين بن الحسين التونسي" للأستاذ علي الرضا الحسيني.

الأول 1964 م ... وأدى الخدمة العسكرية في (كلية ضباط الاحتياط) في مدينة حلب، وتخرج ضابطاً في سلاح المدرعات في 15/ 3/ 1958 م. عمل في مهنة المحاماة منذ (رجب 1385 هـ - 26 أكتوبر تشرين الثاني 1965 م). وطلب إحالته على التقاعد في 3/ 1/ 2002 م؛ ليتفرغ للبحث والعمل الثقافي. اهتم بتراث عمه الإمام محمد الخضر حسين منذ عام (1381 هـ / 1961 م)، وطبع له أول رسالة "محمد رسول الله وخاتم النبيين"، وكانت هذه الرسالة المباركة البابَ الذي دخل منه إلى آثار الإمام منتقلاً باحثاً، ومنقِّباً في دمشق والقاهرة، وتونس والجزائر والمغرب، وإستنبول وبرلين والمدينة المنورة - على ساكنها أطيبُ الصلاة والسلام -. كما زار العديد من الدول العربية والأجنبية دون راحة أو تقاعس حتى أحاط بها - إن شاء الله تعالى - في (36) كتاباً. شارك في مؤتمرات علمية وحقوقية في عدد من البلدان العربية، وألقى المحاضرات في مناسبات مختلفة، ولا سيما (ملتقى الإمام محمد الخضر حسين) في مدينة "بِسِكْرَة" بالجزائر كانون الأول ديسمبر 2007 م، و (ندوة الإمام محمد الخضر حسين وإصلاح المجتمع الإسلامي) في مدينة "نفطة" بتونس في كانون الثاني جانفي 2009 م. نظم الشعر في الخامسةَ عشرةَ من عمره بتشجيعٍ من والده الذي كان يحثُّه على إلقاء الشعر بالمناسبات التي يجتمع فيه العلماء في دار والده في حي الميدان. وأصدر من الدواوين: قلب شاعر - تونسيات - بثينة - زين - ورد وأشواك - نغمة العندليب - ربيع شاعر - ابتهال ودعاء - خواطر من القلب -

حديقة الشعر- خماسيات الحسيني - وكتب أخرى، وعمل على إعداد وطبع مؤلفات والده زين العابدين بن الحسين، وعمِّه اللغوي محمد المكي بن الحسين، وخال والده العلامة محمد المكي بن عزوز. كما أصدر: أعلام الهداية الإسلامية - أعلام المهاجرين التونسيين - روائع مجلة الهداية الإسلامية، وغيرها. وسّمه الرئيسُ زينُ العابدين بنُ علي رئيسُ الجمهورية التونسية بوسام الجمهورية لخدمة التراث في حفل عام بـ (قصر قرطاج) بتاريخ 7 أوت آب 1996 م. متأهل، وله أربعة أبناء: ثلاثة ذكور، وبنت واحدة.

1 - أسرار التنزيل - تفسير آيات قرآنية كريمة

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (1) «أسَرارُ التَّنزِيْل - تَفسِيرُ آيَاتٍ قُرآنِيَّة كَرِيْمَةٍ» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة ما إن ارتقى فضيلة الإمام الأكبر المرحوم محمد الخضر حسين - رضوان الله عليه - المرتبة العلمية الرفيعة التي انتهى إليها في قمة مجده العلمي، وفي أواخر حياته المليئة بالجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وما إن أضحى بحراً لا ساحل له في مختلف العلوم الإسلامية واللغوية، باشر في وضع تفسير محكم لكتاب الله العزيز، ينبع من صفاء علمه وعرفانه، وهدايته وتقواه. وبقلمه البليغ بدأ - رحمه الله - نشر التفسير الذي وضعه في مجلة "لواء الإسلام" التي كانت تصدر بالقاهرة، وكان رئيساً لتحريرها، بدءاً من العدد الأول الصادر بتاريخ الأول من شهر رمضان المبارك لعام 1366 هـ الموافق التاسع عشر من شهر يوليو تموز 1947. واستمر في هذا العمل الجليل، حتى أثقلته السنون، وقد قارب عمره الطاهر على الثمانين عاماً، وتحت وطأة الشيخوخة، توقف عن متابعة هذا الجهد الرائع، والإنتاج الفكري العظيم، وكانت آخر الصفحات من التفسير هي تلك التي نشرها في العدد الثاني عشر من السنة الرابعة لمجلة "لواء الإسلام"، والصادر في شهر شعبان لعام 1370 هـ الموافق شهر مايو أيار لعام 1951 م. قام المؤلف بتفسير القسم الأكبر من سورة البقرة حتى الآية 195،

بالإضافة إلى سورة الفاتحة، وبتفسير آيات قرآنية كريمة من سور مختلفة، وهي: آية من سورة آل عمران - آيات من سورة الحج - آيات الصيام - ثلاث آيات من سورة الأنفال - أربع آيات من سورة يونس - خمس آيات من سورة ص. وقد ضممنا في هذا الكتاب تفسير آيات سورة البقرة من 1 - 195، والمنشور في أعداد مجلة "لواء الإسلام"، ودروس التفسير التي ألقاها في بعض النوادي والجمعيات الإسلامية، ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" التي كان يصدرها المؤلف في القاهرة. والله نسأل السداد والتوفيق في خدمة رسالة الإسلام. على الرّضا الحسيني

تفسير سورة الفاتحة

تَفْسِيْرُ سُوْرَةِ الفَاتِحَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 1 - 7]. قد اشتملت هذه السورة بوجه إجمالي على مقاصد الدين؛ من توحيد، وتعبد، وأحكام، ووعد ووعيد. ولهذه المزية سميت: أم القرآن، وافتتح بها الكتاب المجيد، وأمر الناس بقراءتها في كل صلاة، وهي مقولة على ألسنة العباد لتعليمهم كيف يناجون البارئ تعالى، ويحمدونه، ويتضرعون إليه. وذهب بعض أهل العلم إلى أنها أول ما نزل من القرآن، وروي هذا عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -. وجمهور أهل العلم على أن أول ما نزل سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]. {بِسْمِ اللَّهِ}: الاسم: اللفظ الذي يدل على ذات أو معنى. (والله): علم على ذات الخالق تعالى، والباء في (باسم): متعلقة بفعل مقدر، والمعنى: أبتدئ القراءة متبركاً باسم الله، لا كما يفعل المشركون من البداية بأسماء آلهتهم متبركين بها، فيقولون: باسم اللات، باسم العزى. وإنما حذف الفعل العامل ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الأول من السنة الأولى.

في (باسم الله)؛ ليكون المبدوء به في اللفظ اسم الله دون شيء آخر. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: هما صفتان مشتقتان من الرحمة، والرحمة في أصل اللغة: رقة في القلب تقتضي الإحسان، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفاً لله تعالى، ففسرها بعض العلماء بارادة الإحسان، وفسرها آخرون بالإحسان نفسه، والموافق لمذهب السلف أن يقال: هي صفة قائمة بذاته تعالى لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإحسان. وليست الصفتان - أعني: الرحمن الرحيم - بمعنى واحد، بل روعي في كل منهما معنى لم يُراع في الآخر، فالرحمن بمعنى: عظيم الرحمة؛ لأن فَعْلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته، ولا يلزم منه الدوام؛ كغضبان، وسكران، والرحيم بمعنى: دائم الرحمة؛ لأن صيغة فَعيل تستعمل في الصفات الدائمة؛ ككريم، وظريف، فكأنه قيل: العظيم الرحمة الدائمها (¬1). وذهب ابن قيم الجوزية في الفرق بين الصفتين إلى أن الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة به تعالى، والرحيم دالٌّ على تعلقها بالمرحوم، فالرحمن دالٌّ على أن الرحمة صفته، والرحيم دالٌّ على أنه يرحم خلقه، فيكون الرحمن من صفات الذات، والرحيم من صفات الأفعال (¬2). {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: الحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار؛ من ¬

_ (¬1) "كشف المعاني" تفسير ابن جماعة. (¬2) "بدائع الفوائد".

نعمة، أو غيرها. والجملة مفيدة لقصر الحمد عليه تعالى؛ نحو قولهم: الكرم في العرب. وإنما كان الحمد مقصوراً في الحقيقة على الله؛ لأن كل ما يستحق أن يقابل بالحمد إنما هو صادر من الله، وهذا يقتضي أن يكون الحمد لله وحده. فالقصد من جملة الحمد: إنشاء الثناء عليه تعالى بمضمونها الذي يتلخص في أن الله مستحق لجميع المحامد. {رَبِّ الْعَالَمِينَ}: الرب: المالك، والسيد المربي، ولا يطلق على غير الله إلا مقيداً؛ نحو: ربّ الدار. والعالمين: جمع عالَم، والعالم: الخلق من ذوي العلم، وهم الإنس والملائكة والجن. وقيل: إن العالم اسم لكل مخلوق من العقلاء وغيرهم. وجمع في الآية بالياء والنون، وهما علامة جمع المذكر العاقل؛ لأنه أريد منه: ذوو العلم خاصة. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: وجه إعادة هذين الوصفين - وقد سبق تفسيرهما -: أن وصفه تعالى برب العالمين؛ أي: مالكهم، أو سيدهم، يثير في النفوس شيئاً من الرهبة، فقرن بوصف الرحمة؛ ليجعل بجانب الرهبة منه رغبة إليه، وفي ذلك استدعاء إلى الإقبال على طاعته، مع رجاء فضله وإحسانه. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: المالك: وصف من المِلك - بكسر الميم -. والدين: الجزاء؛ أي: إنه تعالى يتصرف في أمور يوم الدين تصرفَ المالك فيما يملك، قال تعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19]، وقرئ:

{مَلِكِ يوم الدين} من الملك - بضم الميم -، ومعناه: المدبر لأمور يوم الدين، كما قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16]. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}: العبادة: الطاعة البالغة للنهاية في الخضوع والتعظيم، والعبادة الصحيحة ما تحقق فيها أمران: الإخلاص، وموافقتها للوضع الذي رسمه الشارع. وقدّم المعبود على العبادة، فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ لإفادة قصر العبادة عليه، وهو ما يقتضيه التوحيد الخالص. والمعنى: نخصك بالعبادة، ولا نتجه بها إلى غيرك. وقال: {نَعْبُدُ} بنون الجماعة، ولم يقل: أعبد؛ ليدل على أنه يعبده في جماعة المؤمنين، ويشعر بأن المؤمنين المخلصين يكونون في اتحادهم وإخائهم بحيث يقوم كل واحد منهم في الحديث عن شؤونهم الظاهرة وغير الظاهرة مقام جميعهم. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: الاستعانة: طلب المعونة، ومعنى الجملة: نخصك بطلب الإعانة، ولا نتوجه بهذا الطلب إلى غيرك. ولم يذكر المستعان عليه من الأعمال؛ ليشمل الطلب كل ما يتجه إليه الإنسان من الأعمال الصالحة. وجاء طلب الاستعانة بعد قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ ليدل على أنهم لا يستقلون بإقامة العبادات، بل إن عون الله هو الذي ييسر لهم أداءها. {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}: الهداية: الإرشاد، والدلالة بلطف على ما يوصل إلى البغية، وتسند الهداية إلى الله، والنبي، والقرآن، وقد يراد منه: الإيصال إلى ما فيه خير، وهي بهذا المعنى لا تضاف إلا إلى الله - جلّ شأنه -. والصراط في أصل

اللغة: الطريق السهل المستوي، ومعناه في الآية: ما يدعو إليه الأنبياء - عليهم السلام - من العقائد والشرائع والآداب، ومن هدي إليها، فقد ظفر بأسباب السعادة في الدنيا والآخرة. {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}: الإنعام: إيصال الخير إلى الأحياء العقلاء، والمراد في الآية: الإنعام الديني، فالمنعَم عليهم: من عرفوا الحق فتمسكوا به، والخير فعملوا به. وقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ} بدل من {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، ولم يقل: "اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم" مستغنياً عن ذكر الصراط المستقيم؛ ليدل على أن صراط هؤلاء المنعَم عليهم هو الصراط المستقيم. وقال {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، ولم يقل: صراط الأنبياء أو الصالحين؛ ليدل على أن الدين نعمة عظيمة. ويكفي في الدلالة على عظمتها إسنادها إليه تعالى في قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}: بدل من {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. والغضب ضد الرضا، وهو في أصل اللغة حركة في النفس تنزع بها إلى طلب الانتقام، وإذا أسند إلى الله، فسروه بمعنى: إرادة الانتقام، أو بمعنى: الانتقام نفسه. والموافق لمذهب السلف أن يقال: هو صفة له تعالى لائقة بجلاله، لا نعلم حقيقتها، وإنما نعرف أثرها، وهو الانتقام من العصاة، وإنزال العقوبة بهم. وأتى في وصف الإنعام بالفعل المسند إلى الله تعالى، فقال: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، وفي وصف الغضب باسم المفعول، فقال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، وفي ذلك تعليم لأدب جميل، هو أن الإنسان يجمل به أن يسند أفعال الإحسان إلى الله، ويتحامى أن يسند إليه أفعال العقاب والابتلاء، وإن كان كل من الإحسان والعقاب

صادراً منه. ومن شواهد هذا قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]. {وَلَا الضَّالِّينَ}: الضالين: جمع ضالّ، وهو من لا يهتدي طريقاً يصل منه إلى المطلوب، فيمشي في غير طريقه، ويتخبط في عماية. وحرف (لا) في قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} جاء لتأكيد معنى النفي المستفاد من كلمة: غير. والمعنى: اهدنا صراط المنعم عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين. وورد في حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى (¬1). ومن لم يروا الحديث بالغاً في الصحة الدرجة التي توجب الوقوف عنده، فسروا المغضوب عليهم بمن فسدت إرادتهم، فعلموا الحق وعدلوا عنه، وقالوا في تفسير الضالين: هم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالات، لا يهتدون إلى الحق. ومن هؤلاء من ذهب في تفسيره إلى أن المغضوب عليهم كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة، وهم الفساق، وأن الضالين كلّ من أخطأ في اعتقاد، وهم فاسدو العقيدة. وقدَّم المغضوب عليهم على الضالين؛ لأن معنى المغضوب عليهم كالضد لمعنى المنعَم عليهم، فكان جديراً بأن يوضع في مقابلته قبل: الضالين. ¬

_ (¬1) رواه أحمد في"مسنده", وابن حبان في "صحيحه".

تفسير آيات من سورة البقرة

تَفْسِيْرُ آيَاتٍ مِنْ سُوْرَةِ البَقَرَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 - 5]. {الم}: افتتحت سور من القرآن الكريم بأحرف مقطعة، وقد ذهب المفسرون فيها مذهبين: مذهب من يعدها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، ومذهب من يتناولها بالتفسير؛ كسائر الآيات التي هي مجال لأنظار الراسخين في العلم، وجمهور أهل هذا المذهب يعدونها اسماً للسورة، ويزاد على هذا: أنها اسم فيه إشعار بأن القرآن الذي تحداهم الله به هو من جنس الكلام المركب من هذه الأحرف التي يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه في البلاغة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم دونها بمراحل فسيحة، وتصدير السورة بمثل هذه الأحرف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم، إذ يطرق أسماعهم لأول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم، وذلك ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني من السنة الأولى.

مما يلفت أنظارهم؛ ليتبينوا ماذا يراد منها، فيستمعوا حكماً وحججاً قد تكون أسباب هدايتهم. {ذَلِكَ الْكِتَابُ}: الكتاب: المكتوب. والمراد: القرآن المجيد، فإنه كان يكتب حين نزوله في الألواح ونحوها. وأتى به معرَّفاً، ولم يقل: ذلك كتاب؛ تنبيهاً لكماله في المعنى الذي تتفاضل فيه الكتب، وهو الهداية والحكمة، كما تقول: زيدٌ الرجلُ؛ أي: الكامل في الرجولة. وأشير إلى الكتاب باسم الإشارة المقرون بالكاف الدالة على بعد المشار إليه؛ تنزيلاً لعلو مرتبته، وبعدها في الكمال منزلةَ البعد المحسوس. {لَا رَيْبَ فِيهِ}: الريب: الشك. والقرآن لروعة حكمته، وسطوع حجته، لا يرتاب ذو عقل متدبر في كونه وحياً سماوياً، ومطلع هداية وإصلاح. فالآية تنفي الريب في القرآن عمّن شأنهم أن يتدبروه، ويقبلوا على النظر فيه بروية، ومن ارتاب في القرآن، فلأنه لم يقبل عليه بأذن واعية، أو بصيرة نافذة. {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}: الهدى في الأصل: مصدر هدى يهدي، واستعمل هنا بمعنى: هادٍ، مبالغة في الوصف بالهداية. والعرب يستعملون المصدر في معنى اسم الفاعل، مبالغةً في وصف الشيء بما صدر منه من الأفعال، أو قام به من الصفات. والمتقون: جمع مُتَّقٍ؛ أي: متصف بالتقوى. والتقوى درجات، أدناها: اجتناب الشرك، وأعلاها: اجتناب ما نهى الله عنه، والقيام بما أمر به، حسب الاستطاعة. وأشار إلى هذا من قال: "التقوى أن لا يراك حيث نهاك،

ولا يفقدك حيث أمرك". ومعنى كون القرآن هدى للمتقين: أنه يزيدهم هدى على ما لديهم من الهدى، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]. ويصح أن يكون المعنى: هدى للناس الذين صاروا متقين بهذه الهداية، كما لو قلت: هديت مهتدياً، أو كتبت مكتوباً، على معنى: أني هديت شخصاً صار مهتدياً بهذه الهداية، وكتبت خطاباً صار مكتوباً بهذه الكتابة، وهو أسلوب عربي صحيح، كما ورد في حديث: "من قتل قتيلاً، فله سَلَبُه" (¬1). {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}: الغيب: مصدر غاب يغيب، وكثيراً ما يستعمل بمعنى: الغائب، وهذا المعنى هو الظاهر من الآية، ومعناه: ما لا تدركه الحواس، ولا يعلم ببداهة العقل؛ كذات الله تعالى، وصفاته، وملائكته، واليوم الآخر. والإيمان بالغيب: التصديق به على وجه الجزم، والتصديق الجازم لا يحصل إلا عن دليل، وقيام الآيات على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقاً به عن دليل، فلا يحتاج في الإيمان بالملائكة والكتب التي نزلت قبل القرآن، والرسل الذين بعثوا من قبل، واليوم الآخر، إلى دليل زائد على الآيات التي قامت على صدق الرسول - عليه الصلاة والسلام -. أما الإيمان بالله، فإنما يحصل من الأدلة العقلية، ذلك لأن صدق الرسول في دعوى الرسالة لا يثبت إلا بعد الإيمان بالإله الحق. ¬

_ (¬1) استعمال اسم الفاعل في مثل هذا التركيب حقيقة لا مجاز.

{وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}: الصلاة في اللغة: الدعاء، واستعملها الشارع في العبادة ذات الركوع والسجود؛ لاشتمالها على الدعاء. وإنما تقام الصلاة بأدائها في أوقاتها المقدرة لها، وتعديل أركانها، وإيقاعها مستوفية لواجباتها، وآدابها. والصلاة المقامة بحق هي التي يصحبها الإخلاص، واستحضار جلال الله في الركوع والسجود، وهي التي تترتب عليها الآثار العظيمة من تزكية النفس وعفافها، وسلامة الناس من إيذائها؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}: رزقُ الله الناس: إعطاؤه لهم ما ينتفعون به من المطعومات والملبوسات ونحوها من مرافق الحياة. والإنفاق من الرزق: إنفاذ جانب منه في وجه من الوجوه الحيوية، وقد جاء في الآية مطلقاً، ووروده في مقام مدح المتقين يدل على أنه إنفاق في وجوه الخير. وقال: {يُنْفِقُونَ}، ولم يقل: أنفقوا؛ ليفيد أن الأنفاق يتجدد منهم المرة بعد الأخرى، والعرب تعبر بالمضارع ليفيد أن الفعل يحدث ويتجدد مرة بعد أخرى، والإنفاق في الآية مطلق، فيبقى على إطلاقه شاملاً للواجب والمتطوَّع به. وإيراد (من) في قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} إشارة إلى أن إنفاق بعض المال مع تجدد الإنفاق يكفي لدخول صاحبه في زمرة المهتدين المفلحين. وعني القرآن الكريم بمدح المنفقين، والحث على الإنفاق؛ إذ كان من أعظم الوسائل إلى رقي الأمم وسلامتها من كوارث شتى؛ مثل: الفقر، والجهل، والأمراض المتفشية، فببذل المال تسد حاجات الفقراء، وتشاد

معاهد التعليم، وتقام وسائل حفظ الصحة، إلى ما يشاكل هذا من جلائل الأعمال. {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}: هذا الوصف للمتقين بالإيمان بالقرآن وغيره من الكتب السماوية، بعد وصفهم بالإيمان بالغيب. والإيمان بما أنزل على الرسول إيمان برسالته، وموجب للعمل بما تضمنته شريعته، وإيجاب العمل بما تضمنه الكتاب المنزل على خاتم النبيين - صلوات الله عليه -، باق على إطلاقه. أما الكتب الأخرى، فيكفي الإيمان بأنها كانت وحياً وهداية، أما العمل، فإنما يتمسك فيه بما تضمنه القرآن المجيد، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]. ويصح أن يراد من الآية: من آمنوا بالكتب المنزلة قبل الإسلام، ثم لما جاء القرآن، وعرفوا أنه الحق، آمنوا به كذلك، والجمع بين الإيمانين على هذا النحو مزية أشار إلى فضلها الحديث الصحيح الوارد فيمن له أجران، ومن بينهم: "رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -". {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}: الآخرة تجيء وصفاً للدار الباقية، كما قال تعالى: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ} [الأنعام: 32]، ثم كثر استعمالها بدون ذكر الموصوف، حتى صارت اسماً يفهم منه الدار الباقية خاصة؛ كما قال تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4]، وقال هنا: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} و {يُوقِنُونَ}: من الإيقان، وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع بحيث لا يطرأ عليه شك، ولا تحوم به شبهة.

وإيراد الضمير {هُمْ} قبل قوله: {يُوقِنُونَ} تعريض بغيرهم ممن كان اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق للحقيقة، أو غير بالغ مرتبة اليقين. وللإيمان باليوم الآخر أثر عظيم في اجتناب الشر، والاستكثار من الخير، ففي وصف المتقين به تنبيه على الوجه الذي أحرزوا به الغاية من تقوى الله في السر والعلانية. {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}: هذا كلام مستأنف لبيان أن أولئك المتقين في المنزلة العليا من الكمال الإنساني، فقد وصفهم بأنهم على هدى عظيم، وإنما يتفاوت الناس في الكمال على قدر تفاوتهم في الهداية. ويدل على عظيم هذا الهدى: إيراده نكرة، فهو في معنى: هدى عظيم، على ما هو المعروف في علم البلاغة من أن التنكير يدل بمعونة المقام على التعظيم. ويضاف إلى هذا وصفه تعالى للهدى بأنه منه، فقال: {مِنْ رَبِّهِمْ}، فدل على أنه ضرب من الهدى عظيم؛ حيث إن الله تعالى هو الذي وفقهم إليه، ويسر لهم أسبابه. وقال: {عَلَى هُدًى}؛ ليفيد أنهم ظاهرون بالهدى ظهور من تمسكوا به، وتمكنوا منه تمكن من استعلى الشيء، وصار في قرار راسخ منه. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: هذه الجملة بيان لما يظفر به المتقون الحائزون لتلك الخصال من سعادة الدنيا والآخرة، والمفلحون: مأخوذ من الفلاح، وهو الفوز بالبغية. وبغية المتقين في الدنيا: أن تكون أوقاتهم مصروفة في الأعمال الصالحة ما استطاعوا، وتكون نفوسهم راضية بما قسم الله لها من رزق، وبغيتهم في الآخرة: السلامة من فزع يوم البعث، والفوز بنعيمي الروح والبدن في

دار الخلود. وتعريف الخبر {الْمُفْلِحُونَ} مع إيراد ضمير الفصل {هُمُ} يفيد أن الفلاخ مقصور على أولئك المتقين، فمن لم يؤمن بالغيب، أو أضاع الصلاة، أو قبض يده عن أداء حق المال، فاته الفلاح، فلا يحيا الحياة الطيبة في الدنيا، ولا يستحق السلامة من الفزع في الأخرى.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 6 - 10]. اشتملت الآيات السالفة على وصف حال المتقين، وبيان ما ينالون من هدى وفلاح، والشأن أن تتشوف النفوس عند سماع تلك الآيات إلى وصف أضدادهم، وبيان مصيرهم، وهم فريقان: الفريق المجاهر بكفره، والفريق الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فأشار إلى الفريق الأول، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}: الكفر في أصل اللغة: الستر والإخفاء، ثم شاع في جحود النعمة، كأن المنعَم عليه قد غطى النعمة بجحودها، ويستعمله الشارع في عدم الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما يجيء به الرسول نصاً صريحاً، ويصير معلوماً من الدين بالضرورة. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثالث من السنة الأولى.

وسمى من لم يؤمن بما يجب الإيمان به بعد الدعوة إليه: كافراً؛ لأنه صار بجحوده ذلك الحق وعدم الإذعان إليه كالمغطي له. وسواء: اسم مصدر بمعنى: مستوٍ. والإنذار: الإعلام بالأمر مع التخويف في مدة تسع التحفظَ من المخوف. ومعنى الجملة: إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارُك وعدم إنذارك. ويفهم من هذا: أنهم لا ينتفعون بالإنذار في الاهتداء إلى الإيمان، فقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} جملة مفسرة لمعنى الجملة قبلها، وهو استواء إنذارهم وعدم إنذارهم. والمعنى: أن هذه الطائفة لا يحصل منها إيمان البتة. وحرف (لا) إذا دخل على الفعل المضارع؛ نحو: {لَا يُؤْمِنُونَ}، أفاد أن الفعل لا يقع في المستقبل أبداً حتى تقوم قرينة تقصر النفي في المستقبل على وقت محدود. وليس المراد من الذين كفروا: كل من اتصف بالكفر؛ فإن كثيراً من الكافرين ينتفعون بالإنذار فيؤمنون، وإنما المراد منه: طائفة اعتلت قلوبهم، وانطمست بصائرهم، فأعرضوا عن الحق، والنظرِ في أدلته بعد إبلاغهم الدعوة، أو جحدوا الحق بعد إقامة الحجة عليهم. والحكمة في الإخبار بعدم إيمان هذا الصنف من الكفار: تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى لا يكون في صدره حرج من تمردهم وعدم إيمانهم بعد أن قام بواجب دعوتهم، وفي هذا تذكرة لكل داع مصلح بأن لا يحترق قلبه أسفاً على قوم دعاهم إلى سبيل من الحق، وبذل جهده في دعم دعوته بالحجة، فنأوا بجانبهم، وانحطوا في أهوائهم. {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}: هذا بيان للمانع لهم من الاهتداء للإيمان فيما يستقبل، كما أنهم لم

يهتدوا له فيما سلف. والختم: الوسم بطابع ونحوه؛ كضرب الخاتم على الكتب والأبواب. والقلب: المضغة الواقعة بالجانب الأيسر من الصدر، ويستعمل في القوة العاقلة التي هي محل الفهم والعلم. والسمع: مصدر سمع، ويطلق على القوة التي يقع بها السمع. ولما كان الختم يمنع من أن يدخل في المختوم عليه شيء، استعير لإحداث هيئة في القلب والسمع تمنع من خلوص الحق إليهما. وورد السمع في الآية مفرداً، مع إضافته إلى جماعة، وهو أسلوب عربي سائغ، وبلاغة اللغة تسع استعمال المفرد في معنى الجمع عند أمن اللبس، تفنناً في العبارة، وأخذاً بطريقة الإيجاز، فإن السمع أقل حروفاً من الأسماع. قال سيبويه: وحد لفظ السمع، إلا أنه ذكر ما قبله وما بعده بلفظ الجمع، وذلك يدل على أن المراد منه الجمع أيضاً. {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}: الأبصار: جمع بصر، وهو في الأصل: الإدراك بالعين، ويطلق على القوة التي يقع بها الإبصار، وعلى العين نفسها، وهذا المعنى أقرب ما تحمل عليه الأبصار في الآية، وهو الأنسب لأن تجعل عليه غشاوة؛ أي: غطاء. ومفاد الآية: أن تصير أبصارهم بحيث لا تهتدي لأن تنظر في حكمة المخلوقات وعجائب المصنوعات نظر اعتبار، كأنما جعلت عليها غشاوة. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: هذا بيان لما يستحقونه من الجزاء على إغراقهم في الكفر، واستحبابهم للمعاصي، والعذاب: الألم الفادح، ووصف بالعظيم على معنى أن سائر ما يجانسه من العذاب يكون بالنسبة إليه حقيراً هيناً.

وبعد أن ذكر قصة الفريق الثاني من الناس، وهم الكافرون بألسنتهم وقلوبهم، عطف عليها قصة الفريق الثالث، وهم الذين يبطنون الكفر في قلوبهم، ويظهرون الإيمان بأفواههم؛ أعني: المنافقين، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}: الناس: اسم لجماعة الإنس. واليوم الآخر: هو الوقت الذي يبتدئ بالبعث، ولا ينقطع أبداً، وقد يراد منه: اليوم الذي يبتدئ بالبعث، وينتهي باستقرار أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. واقتصر هؤلاء المنافقون في إظهار الإيمان على ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ليموهوا على المؤمنين بادعاء أنهم أحاطوا بالإيمان من جانبيه؛ فإن من يؤمن بالله واليوم الآخر إجابة لدعوة الرسول، شأنه أن يكون مؤمناً برسل الله وملائكته وكتبه. وقولى تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} رد لما ادعوه من الإيمان، ونفي له على أبلغ وجه؛ إذ جاء النفي مؤكداً بالباء في قوله: {بِمُؤْمِنِينَ}. إن الجملة نفث عنهم الإيمان بإطلاق، فافادت أنهم ليسوا من الإيمان في شيء، لا من الإيمان بالله واليوم الآخر، ولا من الإيمان بغيرهما. {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}: هذا بيان للغرض الذي دعاهم إلى أن يقولوا: آمنا بالله وباليوم الآخر وهم كاذبون. والخداع في أصل اللغة: الإخفاء والإبهام، ويستعمل في إظهار ما يوهم السلامة، وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير، أو التخلص منه. ويخادعون بمعنى يخدعون، وكثيراً ما يجيء فاعَلَ بمعنى فعل، نحو: عافاه الله، وعاقبت المجرم.

والله لا يخفى عليه صنيع المنافقين حتى يصح أنهم يخادعون الله على الحقيقة، وإنما سمى إظهارَهم الإيمان وإبطانهم الكفر خداعاً لله؛ لأن صورته صورة خداع. وأما خداعهم للمؤمنين، فبإظهارهم لهم أنهم إخوانهم في الإيمان يبتغون إرضاءهم، وهم يضمرون لهم العداوة، ويتربصون بهم الدوائر، أو بمجالستهم حتى يطلعوا على أسرارهم، فينقلوها إلى أعدائهم. {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}: الأنفس: جمع نفس بمعنى: ذات الشيء وحقيقته؛ أي: إنهم لم يخادعوا الله؛ لعلمه بما يسرون، ولم يخدعوا المؤمنين؛ لأن الله يدفع عنهم ضرر خداع المنافقين. وإنما يخدعون أنفسهم؛ أي: ذواتهم؛ لأن ضرر المخادعة عائد عليهم، ووبالها لاحقٌ بهم. {وَمَا يَشْعُرُونَ}: الشعور: العلم الحاصل بالحواس، ومنه: مشاعر الإنسان؛ أي: حواسه، والمعنى: ما يعلمون أنهم في الواقع إنما يخدعون أنفسهم، مع أن لحاق ضرر المخادعة بهم واضح وضوح ما لا يخفى إلا على فاقد الحس، ويستعمل الشعور بمعنى: إدراك الشيء من جهة تدق، وهو الفطنة، ومنه أُخذ الشاعر؛ لإدراكه دقائق المعاني، فإن حمل الشعور في الآية على هذا المعنى، كان قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ} في معنى: لا يدركون أنهم في الحقيقة يخادعون أنفسهم دون من سواهم؛ لأن ظلام الغي ضرب في قلوبهم، وجعلهم أغبياء لا يفطنون لمعاني دقيقة لو فطنوا لها، لرجعوا عن خداعهم، وأقلعوا عن نفاقهم.

{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: هذا بيان لعلة خداعهم، والمرض: العلة في البدن، ونقيضُه الصحةُ، وقد يستعمل على وجه الاستعارة فيما يعرض للمرء، فيخل بكمال نفسه؛ كسوء العقيدة، والحسد، والبغضاء، والرعب، وعلى مثل هذا يحمل المرض في قلوب المنافقين. {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}: هذا إخبار بمعنى أن الله ضاعف حسدهم بزيادته النعم على رسوله - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنين، أو كثر خوفهم ورعبهم بما يجدده لهما من مظاهر القوة والنصر. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}: العذاب: الألم الفادح، والأليم: المؤلم، وقد جاء فَعيل بمعنى مُفْعِل؛ نحو: الوجيع، والسميع، والنذير، والبديع، بمعنى: الموجع والمسمع والمنذر والمبدع. والكذب: الإخبار عن الشيء بخلاف الواقع، وكذب المنافقين في قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم غير مؤمنين. وجعلت الآية العذاب الأليم مرتباً على كذبهم، مع أن القوم كفرة، والكفر أكبر معصية من الكذب، لتشير إلى قبح الكذب، وتنفر منه بأبلع وجه؛ حيث خصته بالذكر، ويفهم أن هذا العذاب جزاء على الكفر أيضاً من سياق الكلام. أو يقال: إن جزاء الكفر دل عليه قوله تعالى في قصة الكافرين المجاهرين: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ إذ المنافقون يشاركونهم في الكفر الذي استحقوا به ذلك العذاب، ويساوونهم فيه، وهذه الآية جاءت لتدل على جزاء ما امتازوا به عن الكافرين

المجاهرين، وهو الكذب في دعوى الإيمان، فللمنافقين عذابان: عذاب عظيم على كفرهم، وعذاب أليم على كذبهم الذي يرتكبونه المرة بعد الأخرى خداعاً لله والمؤمنين. والدليل من الآية على أن كذبهم كان يتجدد حيناً بعد حين صيغة: {كَانُوا يَكْذِبُونَ}. وقرئ: (يُكَذّبونَ) من التكذيب؛ أي: يكذبون الرسول فيما يدعو إليه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 11 - 16]. وصفت هذه الآيات المنافقين بثلاث قبائح، مضافة إلى ما وصفتهم به الآيات السابقة من الكذب والخداع، وهي: الفساد، والسفه، والاستهزاء بالمؤمنين، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}: والفساد: خروج الشيء عن كونه منتفَعاً به، وفسر هذا بالكفر، والعمل بالمعصية، ومن كفر بالله وعصاه، فقد أفسد في الأرض، وإنما تصلح الأرض بالتوحيد والطاعة. ومن أكبر معاصي هذا الصنف من المنافقين: ما كانوا يدعون إليه في السر من تكذيب الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وجحد ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الخامس من السنة الأولى.

الإسلام، وإلقاء الشبه في سبيل الدعوة، ومن أكبر معاصيهم: مظاهرةُ المشركين كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، والظاهر أن القائلين لهم: {لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} هم بعض المؤمنين الذين اطلعوا على شيء من سوء أعمالهم. وكان جوابهم أن {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، والإصلاح: فعل ما فيه صلاح، والصلاح: الصواب في الأمر: ودلّوا بكلمة: {إِنَّمَا} على أنهم لا يفعلون إلا ما فيه صلاح، فلا يقع منهم الإفساد البتة. {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}: هذا تكذيب لهم في دعوى أنهم مصلحون، ووصف لهم بالإفساد على أبلغ وجه؛ فقد افتتحت الجملة بكلمة: {أَلَا}، وهي إنما تستعمل لتنبيه المخاطب، وإحضار ذهنه لما يرد بعدها من الحديث حتى لا يلقى إليه وهو غير متهيئ لسماعه، ووصل {أَلَا} بإنَّ الدالة على تأكيد الخبر وتحقيقه، وأورد الخبر بعدهما مؤكداً بوجه من أقوى وجوه التوكيد، وهو تعريف المسند {الْمُفْسِدُونَ}، وتوسط ضمير الفصل {هُمُ} بينه وبين المسند إليه، إذ قال: إنهم هم المفسدون، ولم يقل: إنهم مفسدون، ثم وصفهم بالجهل الفاحش، فنفى عنهم الشعور بما يصدر عنهم من الفساد، ومن أفظع الجهل أن يكون الرجل مفسداً، ولا يشعر بذلك، مع أن أثر فساده ظاهر في العيان، مرئي لكل ذي حس؛ فعدم شعورهم بالفساد الواقع منهم منبئ باختلال آلات إدراكهم، حتى صاروا يحسبون الفساد صلاحاً، والشر خيراً. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}: السفهاء: جمع سفيه، مأخوذ من السَّفَه الذي هو في الأصل بمعنى: الخفة، وقيل لضعيف الرأي وسخيف العقل: سفيه؛ لأنه خفيف لا رزانة

له، وبهذا المعنى يفسر {السُّفَهَاءُ} في الآية. والمراد من {النَّاسُ}: المؤمنون بالرسول، الصادقون في إيمانهم. والقائل لهم: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ}: الرسول، أو بعض المؤمنين. ثم إن بعض هؤلاء المنافقين يقول لبعضهم: أنؤمن كما آمن السفهاء؟ يريدون: أتباع الرسول بحق. وروي أنهم كانوا يقولون: أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان، وسفيه بني فلان؟ فأوحى الله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الذي يقولون. {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ}: هذا ردٌّ منه تعالى، وقلبٌ لصفة السفه عليهم؛ ذلك أنهم أعرضوا عن النظر في الدليل، وباعوا آخرتهم بدنياهم، وهذا أقصى ما يبلغه الإنسان من سفه العقل. وقد تضمن هذا الرد تسفيههم وتكذيبهم في دعوى سفه الصادقين في إيمانهم؛ فإن قوله تعالى: {إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} يفيد أن السفه مقصور عليهم، فلا يتجاوزهم إلى المؤمنين بحق. وإنما قال في الآية السابقة: {لَا يَشْعُرُونَ} , وقال في هذه الآية: {لَا يَعْلَمُونَ}؛ لأن الآية السابقة وصفتهم بالإفساد، وهو من المحسوسات التي تدرك بأدنى نظر، فيناسبه نفي الشعور الذي هو الإدراك بالمشاعر؛ أي: الحواس، أما هذه الآية، فقد وصفتهم بالسفه، وهو ضعف الرأي، والجهل بالأمور، وهذا لا يدركه الشخص في نفسه إلا بعد نظر وإمعان فكر، فيناسبه نفي العلم. {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ}: لقيه: إذا استقبله قريباً منه. ومعنى {آمَنَّا}: أخلصنا الإيمان بقلوبنا؛ لأن الإقرار باللسان معلوم منهم. و {خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}: انفردوا بهم،

وشياطينهم: زعماؤهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وصدهم عن سبيل الحق. والمعية في قولهم: {إِنَّا مَعَكُمْ} يراد منها: موافقتهم في دينهم. وأكدوا ما خاطبوا به شياطينهم بحرف التأكيد إذ قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ}؛ ليزيلوا ما قد يجري في خواطرهم من أنهم فارقوا دينهم، وانقلبوا إلى دين الإسلام بقلوبهم، ولم يؤكدوا ما خاطبوا به المؤمنين إذ قالوا لهم: {آمَنَّا}، ولم يقولوا: إنا آمنا؛ ليوهموهم أنهم بمرتبة لا ينبغي أن يتردد في إيمانهم حتى يحتاجوا إلى تأكيد. {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}: هذا وارد مورد الجواب عما قد يعترض به عليهم شياطينهم إذ يقولون: كيف تدعون أنكم معنا، وأنتم توافقون المؤمنين في عقيدتهم، وتشاركونهم في مظاهر دينهم؟ فقالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}. والاستهزاء: الاستخفاف والسخرية. والمعنى: أننا نظهر للمؤمنين الموافقة على دينهم؛ استخفافاً بهم وسخرية، لا أن ذلك صادر منا عن صدق وجد. {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}: ذهب فريق من أهل العلم إلى أن الاستهزاء هو التحقير على وجه شأنُه أن يتعجب منه، وهذا المعنى غير مستحيل على الله، فيصبح إسناده إليه تعالى على وجه الحقيقة. ورأى أكثر أهل العلم أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس؛ كأن يظهر المستهزئ استحسان الشيء، وهو في الواقع غير حسن، أو يقر المستهزأ به على أمر، وهو غير صواب، وهذا المعنى لا يليق بجلال الله، فيجب حمل المسند إليه تعالى على معنى يليق بجلاله، فيحمل على ما يلزم

الاستهزاء من الاحتقار والإهانة، أو على ما يترتب عليه من الجزاء، والمعنى: يجازيهم على هزئهم بالعذاب. وتسمية جزاء الذنب باسم الذنب معروفة في الكلام العربي، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]. وقال: {يَسْتَهْزِئُ}؛ ليفيد بصيغة الفعل المضارع أن استهزاءه بهم - أي: احتقارهم، أو مجازاتهم على استهزائهم - يتجدد، ويقع المرة بعد الأخرى. {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}: المدّ: الزيادة. والطغيان: الغلو في الكفر، والإسراف في العتو. والعَمَه: الضلال والعمى عن الرشد، أو أن يركب الإنسان رأسه، فلا يبصر الحق حقاً، والباطل باطلاً. ومدّ الله في طغيانهم: زيادته فيه بتمكينهم من المعاصي، أو بإملائه لهم؛ أي: إطالته لهم ما هم فيه من نعمة ورغد عيش، أو بإمهاله لهم. والمعنى: يمكنهم من المعاصي، أو يملي لهم، أو يمهلهم، حالَ كونهم يعمون عن رشدهم، أو يركبون رؤوسهم فلا يبصرون. {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى}: المشار إليهم هم المنافقون الموصوفون في الآيات السابقة بالكذب، والمخادعة، والفساد في الأرض، ورمي المؤمنين بالسفاهة، واستهزائهم بهم. ومعروف في علم البلاغة أن اسم الإشارة إذا أشير به إلى أشخاص وصفوا بصفات، يلاحظ فيه تلك الصفات، فهو بمنزلة إعادة ذكرها وإحضارها في أذهان المخاطبين، فتكون تلك الصفات - وهي هنا: الكذب، والمخادعة، وما عطف عليها - كأنها ذكرت في هذه الآية؛ ليعرف بها علة الحكم الوارد

بعد اسم الإشارة، وهو في هذه الآية: اشتراء الضلالة بالهدى. ومعنى اشتراء الضلالة بالهدى: اختيارها، واستبدالها به، وهذا لا يقتضي أنهم كانوا على هدى من ربهم فتركوه، بل يكفي فيه أن يجعل تمكنهم من الهدى؛ لقيام أدلته الواضحة، بمنزلة الهدى الحاصل بالفعل. {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}: اختير في الآية السابقة التعبير بالاشتراء؛ للدلالة على اختيارهم الضلالة على الهدى، وزادت هذه الآية في تصوير الشراء أنه كان على وجه التجارة، والتجارة: التصرف في رأس المال ابتغاء الربح، والربح: استفادة مالٍ زائد على رأس المال، والمعنى: أنهم لم يحصلوا من اشترائهم الضلالة بالهدى على ربح، وإذا كانت التجارة الحقيقية قد يفوت صاحبها الربح، ولا يقع في خسارة؛ بأن يبقى رأس ماله محفوظاً, فإن التجارة المقصودة من الآية التي هي استبدال الضلالة بالهدى، لا يقابل الربح فيها إلا الخسران، فإذا نفى عنها الربح، فذلك معنى أنها تجارة خاسرة. {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}: جاءت هذه الجملة عقب الحديث عن استبدال المنافقين الضلالة بالهدى، فيكون المعنى: وما كانوا مهتدين إلى سبيل الرشد وما تتجه إليه العقول الراجحة من الدين الحق. ويصح أن يراعى في هذه الجملة إخراج ذلك الاستبدال في صورة المبايعة التجارية، فيكون المعنى: وما كانوا مهتدين إلى طرق التجارة الرابحة؛ حيث باعوا الهدى الذي هو مطلع النجاح والسعادة، بالضلالة التي هي مهواة الخيبة والشقاء.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 17 - 20]. بعد أن وصف الله تعالى حال المنافقين في الآيات السابقة، ضرب لهم مثلين، أشار إلى الأول منهما بقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}: المثل في أصل الكلام: الشبيه والمثيل، ثم أطلق على القول السائر الذي شبه مضربه بمورده، ثم استعمل في الحال، أو الصفة، أو القصة إذا كان لها شأن، وفيها غرابة. وعلى هذا المعنى يحمل المثل في هذه الآية. وإنما تضرب الأمثال لإيضاح المعنى الخفي، وتقريب المعقول من المحسوس، وعرض الغائب في صورة الشاهد، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقعَ في القلوب، وأثبتَ في النفوس. واستوقد النار: أوقدها. وأضاءت ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السادس من السنة الأولى.

ما حوله: جعلت ما حوله مضيئاً، أو أشرقت فيما حوله. وذهب الله بنورهم: أذهبه؛ أي: سلبه منهم، وإسناد {ذَهَبَ} إلى الله مشعر بان أحداً لا يستطيع أن يرده إليهم، فما يمسكه الله لا مرسل له. وقال: {بِنُورِهِمْ}، ولم يقل: بنارهم؛ لأن إيقاد النار يكون للإضاءة، وللإحراق، والمقصود من إيقاد النار الواردة في المثل إنما هو الإضاءة. وقال: {بِنُورِهِمْ}، ولم يقل: بنوره، مع أن مرجع الضمير هو {الَّذِي اسْتَوْقَدَ}، وهو بحسب الظاهر مفرد، إما لأن {الَّذِي} قد يطلق بمعنى الذين، وله شواهد من كلام العرب، ومن القرآن نفسه؛ كما قال تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69]، أو لأن {الَّذِي} أريد منه جنس المستوقد، لا مستوقد بعينه، فصار في معنى جماعة من المستوقدين، وصح أن يعود عليه ضمير الجمع في قوله: {بِنُورِهِمْ}. {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ}: الظلمات: جمع ظلمة، وهي عدم النور وانطماسُه. وإيرادها بصيغة الجمع للمبالغة في شدتها، فكأنها لشدة كثافتها ظلمات بعضها فوق بعض. وأكد هذا بقوله تعالى: {لَا يُبْصِرُونَ}؛ أي: إن الظلمات بالغةٌ في الشدة، حتى إن أولئك المحاطين بها لا يتأتى لهم كما لا يتأتى لمن طمس على أعينهم أن يبصروا. ولتطبيق هذا المثل على حال المنافقين وجهان: وجه على مذهب من يرى من السلف أن المثل ضرب في قوم دخلوا في الإسلام عند وصول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ثم صاروا بعد الإيمان إلى كفر ونفاق، ووجه على مذهب من يرى من السلف أيضاً أن المثل ضُرب في قوم إنما دخلوا الإسلام من أول أمرهم نفاقاً.

فيقال على الوجه الأول: إن قصة هؤلاء الذين اكتسبوا بإيمانهم نوراً، ثم أبطلوا ذلك الإيمان بنفاقهم، ووقعوا في حيرة عظيمة، كقصة من استوقدوا ناراً، ولما أضاءت ما حولهم، سلب الله منهم ذلك الضوء، فراحوا في ظلام لا يهتدون إلى الخروج منه سبيلاً. ويقال على الوجه الثاني، وهو أن المثل مضروب في قوم لم يسبق لهم إيمان، وإنما دخلوا في الإسلام نفاقاً: إن قصة هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام نفاقاً، قد ظفروا بحقن دمائهم، وبغنائم الجهاد، وسائر أحكام المسلمين، فتمتعوا بذلك في الدنيا قليلاً، ثم صاروا إلى ظلمات العذاب الدائم في الآخرة؛ كقصة من استوقدوا ناراً لتضيء لهم، وينتفعوا بها، فأضاءت ما حولهم قليلاً، ثم طفئت، وصاروا إلى ظلمة شديدة مطبقة. {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}: هذا خبر لضمير مقدر يعود على المنافقين؛ أي: هم صم بكم عمي. ووُصف المنافقون بهذه الصفات؛ لأنهم - وإن كانت لهم آذان تسمع، وألسنة تنطق، وأعين تبصر - لا يسمعون خيراً، ولا يتكلمون بما ينفعهم، ولا يبصرون مسلكاً من مسالك الهداية، فقد صرف الله عنهم عنايته، ووكلهم إلى أنفسهم. ووردت هذه الصفات مجردة من حرف العطف، فلم يقل: صم وبكم وعمي، مع أنه يصح أن يقال: هو كاتب وشاعر وفقيه؛ لما عرف من استعمالات البلغاء أن تجريد أمثال هذه الأوصاف من حرف العطف يفيد تأكيدها؛ حيث إن المتكلم قد قصد إلى تقرير كل صفة منها على حدة. {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}: أي: لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو لا يرجعون عن الضلالة

بعد أن اشتروها. وأشار إلى المثل الثاني بقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ}: والصيّب: المطر، ويطلق على السحاب. والسماء: هذه المظلة المزينة بالكواكب، وكل ما علاك من سقف ونحوه. والرعد: الصوت الذي يسمع من السحاب. والبرق: الذي يلمع من السحاب. وفي الجملة إيجاز بحذف ما دل عليه المقام دلالة واضحة. والتقدير: أو كمثل ذوي صيّب ... إلخ. والمعنى: أن قصة هؤلاء المنافقين مشبهة بقصة الذي استوقد ناراً، أو قصة ذوي صيّب. {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ}: {الصَّوَاعِقِ}: جمع صاعقة. والصاعقة: قصفة؛ أي: صوت هائل من رعد شديد، تنقض معه نار لا تمر بشيء إلا دمرته. و (من) في قوله تعالى: {مِنَ الصَّوَاعِقِ} للتعليل. وإنما كانت الصواعق داعية إلى سدّهم آذانهم بأصابعهم، من جهة أنها قد تفضي بصوتها الهائل إلى موت. وجاء هذا صريحاً في قوله تعالى: {حَذَرَ الْمَوْتِ}. يقال: صعقته الصاعقة: إذا أهلكته بشدة صوتها، أو بالإحراق. والمعنى: يسدون آذانهم من أجل الصواعق حذراً من أن تقتلهم بروعة صوتها. والمعروف أن الذي يجعل في الأذن عند الفزع من الصوت الرائع رؤوس الأصابع، وهي الأنامل، ولكنه قيل: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ} مسايرة للمألوف في اللغة من نسبة ما يكون لبعض الشيء إلى ذلك الشيء، حيث يكون المراد جلياً واضحاً، وهو معدود من سعة التصرف في اللغة.

{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}: هذه جملة معترضة في أثناء ضرب المثل بذوي الصيّب. وإحاطته تعالى بالكافرين على معنى: أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاطُ به المحيطَ به، فهو قادر على النكال بهم متى شاء، وكيف شاء. وقال: {مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}، ولم يقل محيط بهم، مع تقدم معاد الضمير، وهم أصحاب الصيّب؛ إيذاناً بأنهم إنما استحقوا ذلك العذاب بكفرهم. {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}: {يَكَادُ}: من الأفعال التي تدخل على اسم يسند إليه فعل بعده؛ نحو: {الْبَرْقُ يَخْطَفُ}، فتدل على أن المسند إليه - وهو البرق - قد قارب أن يقع منه الفعل، وهو خطف الأبصار. والخطف: الأخذ بسرعة. والأبصار: جمع بصر، وهو قوة مودعة في العين يدرك بها الألوان والأشكال. والمعنى: أن البرق لشدة لمعانه يقرب من أن يخطف أبصارهم. {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا}: هذا وصف لما يصنعه أهل الصيّب في حالتي ظهور البرق واختفائه. وأضاء: لمع. وأظلم: ذهب ضوءه. وقاموا: وقفوا وثبتوا في مكانهم؛ أي: إنهم إذا صادفوا من البرق وميضاً، انتهزوا ذلك الوميض فرصة، فخطوا خطوات يسيرة، وإذا خفي لمعانه، وقفوا في مكانهم. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}: {شَاءَ}: أراد؛ أي: لو أراد الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم، لزاد في قصف الرعد فأصمهم، وفي ضوء البرق فأعماهم. أو يقال: إن قصف الرعد ولمع البرق المذكورَين في المثل سببان كافيان لأن يذهبا بسمع ذوي

الصيّب وأبصارهم لو شاء الله ذلك، فيكون معنى قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ} إشعاراً بأن تأثير الأسباب في مسبباتها إنما يكون بإذنه تعالى. وورود السمع في الآية مفرداً، مع أنه مضاف إلى جماعة، سائغ في نظم الكلام العربي؛ فإن اللفظ الذي يكون في الأصل مصدراً، ثم ينقل إلى غير المصدر، ويراد منه أفراد متعددة، قد يختار عند استعماله مراعاة أصله، فيؤتى به مفرداً؛ اعتماداً على القرينة الدالة على التعدد دلالة واضحة. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: الشيء في أصل اللغة: كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه. ويحمل في هذه الآية على الممكن خاصة، موجوداً كان أو معدوماً؛ لأن القدرة إنما تتعلق بالممكنات دون الواجب والمستحيل. والقدير: الفعال لما يريد. وهذه الآية بمنزلة الاستدلال على ما تضمنته الآية السابقة من أن الله تعالى قادر على أن يذهب بأسماع أصحاب الصيّب وأبصارهم متى شاء. وتطبيق هذا المثل على حال المنافقين: هو أن أصحاب الصيّب لضعفهم وخورهم لا يطيقون سماع الرعد الهائل، وفتح أعينهم في البرق اللامع، فيجعلون أصابعهم في آذانهم فزعاً من قصف الرعد، وخوفاً من صواعق تجلجل فوق رؤوسهم، فتدعهم حصيداً خامدين. وكذلك حال هؤلاء المنافقين؛ فإنهم - لضعف بصائرهم وعقولهم - تشتد عليهم زواجر القرآن ووعيده، وتهديده، وأوامره ونواهيه، فتشمئز قلوبهم، ويصرفون عنه أسماعهم، يخشون أن تتلى عليهم آيات تقع على أسماعهم وقع الصواعق الرائعة. قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثيراً

من الفرق المبتدعة إذا سمعوا شيئاً من الآيات أو الأحاديث المنافية لبدعتهم، أعرضوا عنها، وقالوا: سدوا عنا هذا الباب، واقرؤوا شيئاً غير هذا. وكذلك المشركون على اختلاف شركهم، إذا جرد لهم التوحيد، وتليت عليهم نصوصه المبطلة لشركهم، اشمأزت قلوبهم، وثقلت عليهم، ولو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم، لفعلوا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 21 - 25]. افتتحت سورة البقرة بذكر القرآن المجيد، ووصفه بأنه كتاب لا يتطرق إليه الريب في حال، واتصل بهذا آيات في تقسيم الناس إلى مؤمنين به، وكافرين مجاهرين، وكافرين منافقين، فكان من المناسب إلى هذا التقسيم توجيههم إلى الأمر الذي خلقوا من أجله، وهو عبادته تعالى دون ما سواه، فقال جلّ شأنه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}: العبادة: الخضوع البالغ الغاية، والربّ: المالِك، أو المربّي. وفي ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السابع من السنة الأولى.

ذكره تعالى باسم الرب، وإضافته إلى المخاطبين، تقوية لداعية إقبالهم على عبادته؛ فإن الإنسان إذا اتجه بفكره إلى معنى كون الله مالكاً أو مربياً له، وتذكر ما يحفه به من رفق، وما يجود به عليه من إنعام، لم يلبث أن يخصه بأقصى ما يستطيع من خضوع وتعظيم. {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}: الخلق: الإخراج من العدم إلى الوجود. والمعنى: أوجدكم بعد أن كنتم في عدم، كما أوجد الذين تقدموكم. وقدّم وصفه بخلق المخاطبين، مع أنه متأخر بالزمان عن خلق من تقدموهم؛ لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: لعلَّ: حرف موضوع ليدل على الترجي، وهو توقع حصول الشيء عندما يحصل سببه، وتنتفي موانعه. والشيء المتوقع حصوله في الآية هي التقوى، وسببه هي العبادة؛ إذ بالعبادة يستعد الإنسان لأن يبلغ درجة التقوى، وهي الفوز بالهدى والفلاح. والترجي قد يكون من جهة المتكلم، وهو الشائع. وقد تستعمل (لعل) في الكلام على أن يكون الترجي مصروفاً للمخاطب، فيكون المترجي هو المخاطب لا المتكلم. وعلى هذا الوجه يحمل الترجي في هذه الآية؛ لاستحالة حصول الشيء من عالم الغيب والشهادة؛ لأن توقع الإنسان لحصول الشيء هو أن يكون متردداً بين الوقوع وعدمه، مع رجحان الوقوع. والمعنى: اعبدوا ربكم راجين أن تكونوا من المتقين، وهم البالغون الغاية في الهدى والفلاح.

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا}: الفراش: ما يفترشه الإنسان ليستقر عليه بنحو الجلوس أو المنام. ومعنى جعل الأرض فراشاً: خلقها موطأة كالفراش؛ بحيث يتيسر الاستقرار عليها، والتقلب في مناكبها، والانتفاع بما أودع الله فيها من خيرات. وتصوير الأرض بصورة الفراش لا ينافي كونها مكوّرة؛ لأن الكرة إذا عظمت جداً، كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الانتفاع به. {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}: يقال لسقف البيت: بناء؛ أي: جعل السماء كالسقف للأرض؛ لأنها تظهر كالقبة المضروبة فوقها؛ كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 32]. ونبه للاعتبار بخلق الأرض قبل التنبيه للاعتبار بخلق السماء؛ لأن الأرض أقرب من المخاطبين، وانتفاعهم بها أظهر وأكثرُ من انتفاعهم بالسماء. قال الجاحظ: "إذا تأملت هذا العالم، وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منورة كالمصابيح، والإنسان كمالكِ البيت المتصرف فيه، وضروب النبات مهيأة لمنافعه، وضروب الحيوان مصرفة لمصالحه. فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل، وتقدير شامل، وحكمة بالغة، وقدرة غير متناهية". {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}: {السَّمَاءِ}: السحاب. والثمر: ما ينتجه الشجر. والرزق: ما يصلح لأن ينتفع به. والباء في قوله: {بِهِ} للسببية؛ أي: إنه جعل الماء سبباً في

خروج الثمرة، وهو القادر على أن ينشئها بلا سبب كما أنشأ الأسباب. وأورد {مَاءً} و {رِزْقًا} في صيغة التنكير التي تستعمل عند إرادة بعض أفراد المعنى الذي وضع له اللفظ لغة؛ لأن من الماء ما لم ينزل من السماء، ومن الرزق ما لا يكون من الثمرات، فمعنى الآية: أنزل من السماء بعض الماء، فأخرج به من الثمرات بعض ما يكون رزقاً لكم. {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}: الأنداد: جمع نِدّ، والندّ: المماثل، وإنما يقال على المماثل المخالف المناوئ. ولما ترك المشركون عبادة الله إلى عبادة الأوثان، وسموها آلهة، وزعموا أنها تدفع عنهم بأس الله، وتمنحهم ما لم يرد بهم من خير، شابهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله، قادرة على مخالفته ومضادته، وذلك معنى جعلها أنداداً، الذي هو مصب النهي في الآية. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: أي: لا تعبدوا أوثانكم عبادة من يعتقد أنها أنداد لله، وأنتم تعلمون أنها أشياء لا يصح جعلها أنداداً له تعالى. أو المعنى: وأنتم من أهل العلم والنظر، فلو تأملتم أدنى تأمل، لاضطررتم إلى الإيمان بالإله الواحد المتعالي عن مشابهة المخلوقات حقَّ الإيمان. وفي هذه الجملة مبالغة في زجرهم عن عبادة الأوثان من دون الله؛ لأن ارتكاب الباطل من الجاهل قبيح، وهو من العالم ببطلانه أشد قبحاً، وأدعى إلى أن يقابل بأغلظ الإنكار. بعد أن نبه للدليل القائم على وجود الخالق، وإبطال عقيدة الشرك، أورد الدليل القائم على صدق نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن آمن بالله، وبنبوة محمد

- عليه الصلاة والسلام -، فقد فاز بلب الإيمان، وأخذه من أطرافه، فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}: الريب: الشك. والعبد: يطلق بمعنى الرقيق؛ أي: خلاف الحر، ويطلق على الإنسان، ولو كان حراً؛ باعتبار معنى عام هو عبوديته لله، وعلى هذا الوجه أطلق في الآية مراداً منه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي إضافته إلى الله تعالى: {عَبْدِنَا} تنبيه على شرف منزلته عنده، واختصاصه به. وفي ذكره - صلوات الله عليه - باسم العبودية تذكير لأمته بهذا المعنى، حتى لا يغلوا في تعظيمه إلى أن يدّعوا إلهيته كما غلت بعض الفرق في تعظيم أنبيائهم أو زعمائهم، فادعوا إلهيتهم. والسورة: الطائفة من القرآن المسماة باسم خاص، والتي أقلها ثلاث آيات. والضمير في قوله: {مِنْ مِثْلِهِ} عائد على (ما نزلنا)، وهو القرآن. والمراد من مثل القرآن: ما يشابهه في حسن النظم، وبراعة الأسلوب، وحكمة المعنى. وهذا الوجه من الإعجاز يتحقق في كل سورة. وفي القرآن وجوه أخرى من الإعجاز؛ كالإخبار عن غيوب ماضية، أو غيوب مستقبلية، وكاشتماله على معان علمية دقيقة لا عهد للأميين بها. {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}: ادعوا: نادوا. شهداءكم: آلهتكم، جمع شهيد، وهو القائم بالشهادة. فقد كانوا يزعمون أن آلهتهم تشهد لهم يوم القيامة بأنهم على حق. ودون: بمعنى غير. والمعنى: نادوا الذين اتخذتموهم أولياء من غير الله؛ ليعينوكم

على المعارضة، أو ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثل القرآن بلاغة وحكمة بيان. وأمرهم بدعوة الأصنام، وهي جماد، وتسميتها شهداء، مع إضافتها لهم، وهي لا تعقل، ولا تنطق، واردان على الطريقة المعروفة بين البلغاء، المسماة في عرفهم: طريقة التهكم، وهي أسلوب لطيف يثير في نفوس المخاطبين من الألم ما قد يكون سبباً لتنبههم لجهلهم وانصرافهم عن ضلالهم. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: الصدق: مطابقة الكلام للواقع. وجواب الشرط {إِنْ كُنْتُمْ} محذوف دل عليه الكلام السابق دلالة واضحة، حتى صار ذكره في نظم الكلام، مما ينزل به عن مرتبة البلاغة. والمعنى: إن كنتم صادقين في زعم أنكم تقدرون على معارضة القرآن، فأتوا بسورة من مثله، وادعوا آلهتكم ليعينوكم، أو ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بما يماثله في حكمة معانيه وحسن بيانه. {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}: فإن لم تفعلوا: أي: تعارضوا القرآن، وتبيَّن لكم أن أحداً لا يستطيع معارضته، فخافوا العذاب الذي أعده الله للجاحدين، وهو النار التي وقودها الناس والحجارة. الوقود: ما يلقى في النار لإضرامها؛ كالحطب ونحوه. والحجارة: الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]. واقتران المشركين بما كانوا يعبدون في النار مبالغة في إيلامهم وتحسيرهم. والاقتصار على ذكر الناس والحجارة لا يؤخذ منه أن ليس في النار

غيرهما، بدليل ما ذكر في مواضع أخرى من القرآن: أن الجن والشياطين يدخلونها. وقوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} جملة معترضة بين الشرط {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} والجزاء {فَاتَّقُوا النَّارَ}، جاءت لتأكيد عجزهم عن معارضته؛ فإن في نفيها في المستقبل بإطلاق تأكيداً لنفيها في الحال. وفي هذه الجملة معجزة من نوع الإخبار بالغيب؛ إذ لم تقع المعارضة من أحد في أيام النبوة وفيما بعدها إلى هذا العصر. {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}: {أُعِدَّتْ}: هيئت للكافرين الذين يخلدون فيها، أو أنهم خصوا بها - وإن كانت معدة للفاسقين أيضاً -؛ لأنه يريد بذلك ناراً مخصوصة لا يدخلها غيرهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]. ولما ذكر الكفار، وما يصيرون إليه من عذاب الحريق، عطف على ذلك ذكر المؤمنين، وما يفوزون به من نعيم في حياتهم الباقية؛ كما هي سنّة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، فقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}: البشارة: الخبر السار. والجنّات: جمع جنة، وهي البستان الذي سترت أشجاره أرضه، ثم صار اسماً شرعياً لدار النعيم في الآخرة. والأنهار: جمع نهر، وهو مجرى الماء. وأسند إليه الجري في الآية، والذي يجري في الحقيقة إنما هو الماء؛ أخذاً بفن معروف بين البلغاء، وهو إسناد الفعل إلى مكانه؛ توسعاً في أساليب البيان. وقوله: {مِنْ تَحْتِهَا} وارد على طريق

الإيجاز بحذف كلمة: أشجار؛ اعتماداً على تبادرها إلى الذهن. والمعنى: تجري من تحت أشجارها الأنهار. {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}: معنى هذا: أن سكان الجنة كلما رزقوا في الجنة ثمرة، وجدوها مثل الذي رزقوه فيها من قبلُ في بلوغه الغايةَ من حسن المنظر، ولذة الطعم. وفي هذا إشارة إلى أن ثمار الجنة متماثلة في حسن منظرها، ولذة طعمها؛ بحيث لا تفضل ثمرة في ذلك على أخرى، فجميع ثمارها تلذه العين، ويستحليه الذوق، وإن اختلفت المناظر والطعوم. {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}: أتوا به: جِيئوا به. والمتشابه: مأخوذ من التشابه، وهو أن يشبه أحد الشيئين الآخر مع التساوي في وجه الشبه. وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها في معنى أن كل ثمر يشابه ما قبله في حسن المنظر ولذة الطعم مشابهةً لا يفضل فيها ثمر على آخر، بخلاف ثمر الدنيا، فإنه يتفاوت في مناظره حسناً، وفي طعومه لذة. {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}: الأزواج: جمع زوج، وهي المرأة يختص بها الرجل، ومعنى كون الأزواج مطهرة: أنهن منزهات عن كل ما يَشينُهن من العيوب في أبدانهن أو خلقهن. {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: {فِيهَا}: أي: في الجنات. وخالدون: باقون على الدوام، من الخلود،

وهو البقاء الدائم. وإنما يتم النعيم باطمئنان صاحبه على أنه دائم؛ ذلك أن النعيم متى كان محتمل الزوال، يبقى صاحبه منغصاً؛ إذ يذكر أنه سيفقده في مستقبل الأيام.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 26 - 29]. لما ضرب الله تعالى المثلين السابقين في حال المنافقين، أعني: قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17]، وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19]، أنكر المنافقون ذلك، وقالوا: إن الله أعلى وأجل من أن يضرب الأمثال، فأنزل الله تعالى رداً عليهم قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. وروي في سبب نزول هذه الآيات أثر آخر، هو أن هذه الآيات نزلت ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثامن من السنة الأولى.

رداً على اليهود؛ حيث أنكروا أن يضرب الله الأمثال بالمحقَّرات؛ كالذباب، والعنكبوت. ومناسبة هذه الآيات لما قبلها على مقتضى هذا الأثر: هي أن الله تعالى بعد أن نفى الريب عن القرآن بقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]، ونبه للدليل على إعجازه بقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، أشار إلى دفع شبهة أوردها الكفار قدحاً في كونه وحياً من الله، وهي أن القرآن ذكر فيه الذباب والنمل والعنكبوت، ولا يليق بكلام الله أن تذكر فيه هذه المحقرات. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}: يستحيي: من الاستحياء بمعنى: الحياء، وهو في أصل اللغة: انقباض النفس وانكسارها من خوف ما يعاب به ويذم، وهذا المعنى غير لائق بجلال الله، وليس المراد في هذه الآية نفيه عن الله، وإنما أريد نفيُ ما يترتب عليه؛ أعني: ترك الفعل. والمعنى: أن الله لا يترك أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها. وإطلاق الفعل كالاستحياء على ما يترتب عليه كترك الفعل، مألوف في الكلام البليغ حيث يكون المراد واضحاً. والمثل في اللغة: الشبيه. وهو في عرف القرآن: الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع كالمثلين السابقين، أو وصف غريب؛ نحو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73]. وضرب المثل: إيراده. وعبّر عن إيراده بالضرب؛ لشدة ما يحدث عنه من التأثير في نفس السامع، و (ما) في قوله: {مَثَلًا مَا}، هي ما الإبهامية

تجيء بعد النكرة، فتزيدها شيوعاً وعموماً؛ كقولك: أعطني كتاباً ما، تريد أي كتاب كان. والبعوضة: واحد البعوض، وهو طائر. وقوله: {فَمَا فَوْقَهَا} بمعنى: أكبر منها في الحجم؛ كالذباب والعنكبوت، والكلب والحمار. بيَّن في هذه الآية أنه يضرب الأمثال بالمحقرات من نحو البعوض فما فوقها، وأردف ذلك ببيان موقف الناس أمام هذه الأمثال، فذكر أنهم فريقان: مؤمنون، وكافرون، وأشار إلى وقعها في نفوس المؤمنين، فقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}: أمّا: حرف تُصدّر به الجملة للتأكيد، تقول: زيد ذاهب، فإذا قصدت تأكيد ذلك، وإفادة أن ذهابه واقع لا محالة، قلت: أمّا زيد، فذاهب. والضمير في قوله: {أَنَّهُ} يعود على المثل، أو على ضربه المفهوم من قوله: {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا}. والحق: خلاف الباطل: وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. ووجه كون المثل أو ضربه حقاً: أنه يوضح المبهم، ويفصل المجمل، فهو وسيلة إلى تقرير الحقائق وبيانها. وقال: {أَنَّهُ الْحَقُّ} معرفاً بأل، ولم يقل: إنه حق؛ للمبالغة في حقيقة المثل، ومن المعروف في علم البيان أن الخبر قد يؤتى به معرفاً بأل؛ للدلالة على أن المخبر عنه بالغ في الوصف الذي أخبر به عنه مرتبة الكمال. وأشار إلى ما يتلقى به الكافرون هذه الأمثال عندما تتلى عليهم، فقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}: {مَاذَا}: ما الذي. والإرادة في أصل اللغة: نزوع النفس إلى الفعل، وإذا

أسندت إلى الله تعالى، دلت على صفة له تتعلق بالممكنات، فيترجح بها أحد وجهي المقدور، وقد كان جائز الوقوع وعدم الوقوع. وقوله: {مَثَلًا} واقع موقع التمييز لاسم الإشارة (هذا)؛ كقولك لمن أجاب بجواب غير مقبول: ماذا أردت بهذا جواباً؟. وكلام هؤلاء الكافرين لفظة استفهام عما أراد الله من الأمثال، ومعناه: استحقار لهذه الأمثال، وإنكار لأن يكون الله قد ضربها للناس. {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا}: دلت هاتان الجملتان على أن العلم بكون المثل حقاً، مما يزداد به المؤمنون رشداً على رشدهم، وأن إنكاره ضلال يزداد به الكافرون تخبطاً في ظلمات جهلهم، وأفادتا: أن كلاًّ من فريقي المؤمنين به، والمنكرين له ليسوا بقليل، والمهتدون في أنفسهم كثير، وإذا وصفوا بالقلة، فبالقياس إلى أهل الضلال. والمثل إنما يراد من ضربه التذكر والهداية؛ كما قال تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25]. وقد يسمعه الزائغون عن سبيل الحق، ولا يتدبرونه بروية، فيزدادون به غواية وبعداً من مواطن الخير والتقوى. {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}: الفاسقون: جمع فاسق؛ من الفسق، وهو في أصل اللغة: الخروج، يقال: فسقت الرطبة من قشرها؛ أي: خرجت منه. وشرعاً: الخروج عن طاعة الله، فيشمل الخروج من حدود الإيمان، وهو الكفر، ثم مادون الكفر من الكبائر والصغائر، ولكنه اختص في العُرف من بعد بارتكاب الكبيرة، ولم يُسمع الفسق في كلام الجاهلية بمعنى الخروج عن الطاعة، فهو بهذا

المعنى من الألفاظ الإسلامية. وقصْرُ الإضلال بالمثل على الفاسقين إيذانٌ بأن الفسق هو الذي أعدّهم لأن يضلوا به؛ حيث إن كفرهم قد صرف أنظارهم عن التدبر فيه حتى أنكروه. وقالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلاً؟!. {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}: النقض: إفساد ما أبرمته من حبل أو بناء. وعهد الله: وصيته إلى خلقه، وأمرهم بما أمرهم به، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه، وشاع استعمال النقض في إبطال العهد من حيث تسميتهم للعهد حبلاً؛ لما في العهد من ثبات الصلة بين المتعاهدين. والميثاق: التوثقة، وهي التقوية والتثبيت. والمعنى: الذين يبطلون عهد الله؛ أي: شرعه؛ بترك العمل به بعد أن ثبّته وقوّاه بما أنزل من الآيات البينات. {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}: وصف أولئك الفاسقين بنقض عهد الله، ثم وصفهم في هذه الجملة بقطع ما أمر الله بوصله. وهذا الوصف يحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى؛ كقطع الرحم، والإعراض عن موالاة المؤمنين، وترك الجماعات المفروضة، وعدم وصل الأقوال الطيبة بالأعمال الصالحة. {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}: يقع الفساد في الأرض بعبادة غير الله، والدعاية إلى الكفر به، وإخافة السبل، وقطع الطريق، إلى غير ذلك من الأفعال التي تنزع إليها الطبائع المرذولة، والشهوات الطاغية. وقوله: {فِي الْأَرْضِ} إشارة إلى أن فسادهم

يتعدى إلى غيرهم، ولا يقف عند حدهم. وصف الذين ينكرون الأمثال في القرآن، ويستحقرونها، بالفسق، ونقض عهد الله، وقطع ما أمر الله بوصله، والفساد في الأرض، ووصل هذا ببيان عاقبة أمرهم، فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}: {الْخَاسِرُونَ}: جمع خاسر، مأخوذ من الخسر والخسران، وهو النقص. ومن نقض عهد الله، وقطع ما أمر الله بوصله، وأفسد في الأرض، فقد نقص نفسَه حظَّها من الفلاح والفوز، وكانت عاقبته الخزي في الدنيا، والعذاب في الأخرى. {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}: بعد أن عدد مساوئ أولئك الكافرين، وبيّن ما يصيرون إليه من الخسران في حياتهم العاجلة والآجلة، وجّه إليهم الإنكار والتوبيخ على الوجه المعروف في علم البلاغة باسم: "الالتفات"؛ حيث نقل الحديث عنهم من طريق الغيبة إلى طريق الخطاب، فقال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} ... إلخ. قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} استفهام لا يراد منه استعلام المخاطبين عن حال كفرهم، وإنما يراد منه معنى تكثر تأديته في صورة الاستفهام، وهو الإنكار والتوبيخ، كما تقول لشخص: كيف تؤذي أباك وقد رباك؟! لا تقصد إلا أن تنكر عليه أذيته لأبيه، وتوبخه عليها. وقوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} جارٍ مجرى التنبيه على أن كفرهم ناشئ عن جهل، وعدم تأمل في أدلة الإيمان القائمة نصب أعينهم.

والأموات: جمع ميت بمعنى المعدوم. والإحياء بمعنى الخلق. والمعنى: كيف تكفرون بالله، وحالكم أنكم كنتم معدومين فخلقكم؟! ويصح أن يفسر الأموات بفاقدي الحياة، والإحياء بنفخ الروح فيهم، والمعنى: كنتم أمواتاً يوم استقراركم نطفاً في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها، فنفخ فيكم الأرواح، وأصبحتم في طور إحساس وحركة وتفكير وبيان. وبعد أن وبخهم على كفرهم بمن أخرجهم من الموت إلى الحياة، أورد جملاً لاستيفاء الأطوار التي ينتقل فيها الإنسان من مبدأ الحياة إلى مقره الخالد في دار نعيم أو عذاب، فقال تعالى: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}: بقبض أرواحكم عند انقضاءآجالكم، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}: ببعثكم بعد الموت، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: تصيرون إليه دون سواه، فيجمعكم في المحشر، ويتولى حسابكم والحكم في أمركم، {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19]. أما الإماتة، فيشاهدونها بأعينهم، وأما البعث، فقد نبّه على ما يدل على صحته، وينفي استبعاده أو استحالته، فإنه لما قدر تعالى على إحيائهم أولاً، وجب أن يقدر على إحيائهم ثانياً، فإن بدء الخلق ليس بأهونَ عليه من إعادته. وفي قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ترهيب لمن ينزع إلى الشر، ويرتكب المعاصي من غير مبالاة، وترغيب لمن يقبل على فعل الخير، ويقوم على الطاعات.

يقولون: إن الأدلة الكونية التي أوردها القرآن ليتوصل بها الإنسان إلى الإيمان بالخالق - جل شأنه - ترجع إلى نوعين: دليل الإبداع؛ كاختراع الحياة في الجماد، ودليل العناية؛ أعني: عنايته تعالى بالإنسان. ويظهر هذا بالنظر إلى منافع ما في الأرض؛ فإنه يجدها على وفق ما يقتضيه وجود الإنسان، وتنتظم به شؤون حياته. وفي هذا المعنى ورد قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}: أي: إنه خلق جميع ما في الأرض، من نحو الحيوان والنبات، والمعادن والجبال من أجلكم، فهو المنعم بها عليكم لتنتفعوا بها في دنياكم، وتتقووا بها على طاعته. وفي الآية شاهد على أن الأشياء التي فيها منافع مأذون فيها حتى يقوم دليل على حرمتها. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}: أقبل وعمد إليها بإرادته، وتسويتها: تعديل خلقها وتقويمه. والسماء لم يُرَد منها فرد من أفراد السموات، وإنما أريد منها الأجرام العلوية الشاملة لجميع السموات، فصح أن يعود عليها ضمير جمع الإناث في قوله: {فَسَوَّاهُنَّ}. وكذلك يقول علماء العربية: إن اللفظ إذا أريد منه جنس ما وضع له؛ أي: المعنى الذي تشترك فيه أفراده، صار في معنى الجمع؛ لأن الجنس يتحقق في أفراد متعددة. وهذا الوجه في الاستعمال من أفصح الأساليب العربية التي تعتمد على رعاية المعاني دون التقيد بظواهر الألفاظ. {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: هذه الجملة مقررة لما ذكر قبلها من خلق السموات والأرض وما فيهما

على هذه الصورة الحكيمة؛ فقد دلت على أن ترتيب أجزاء تلك المصنوعات، وموافقة جميعها للمنافع المقصود منها، إنما حدث عن عالم بحقائق تلك الأجزاء وخواصها. ولإحاطته بكل شيء علماً وضع كل جزء في موضعه اللائق به.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 30 - 33]. بعد أن امتنّ الله تعالى على البشر في الآيات السابقة بنعمة خلقه لهم ما في الأرض جميعاً، ذكَّرهم في هذه الآيات بنعمة أخرى هي نعمة خلقه آدم، وخلق آدم مبدأ لخلق ذريته، وتكريمه موصول بتكريمهم، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}: إذْ: بمعنى وقت، واقعة موقع المفعول به لعامل مقدر دلّ عليه المقام. والمعنى: اذكر يا محمد وقتَ أن قال ربك للملائكة ... إلخ. وقد جاء هذا المقدر هنا مصرحاً به في آيات أخرى، كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69]. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد التاسع من السنة الأولى.

والملائكة: جمع ملاك بمعنى مَلَك، وهم نوع من الخليقة ذوو أجسام لطيفة يستطيعون أن يتشكلوا بأشكال مختلفة. والخليفة: من يخلف غيره في أمر. وآدم كان قد خلف الله في الحكم بالعدل، وقام بالخلافة أبناؤه من بعده، كما قال تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]. وخطاب الله للملائكة بأنه سيجعل خليفة في الأرض، لم يصدر على وجه المشورة، وإنما خاطبهم بذلك من أجل ما ترتب عليه من سؤالهم عن وجه الحكمة من هذه الخلافة، وما أجيبوا به من بعد. {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}: السفك: الصب. والتسبيح: التنزيه عما لا يليق. والحمد: الثناء. ومعنى {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}: ننزهك في حالة كوننا حامدين لك على توفيقك إيانا للتسبيح، والتقديس لله: تمجيده، ووصفه بما يليق من العلو، فيكون التسبيح: نفي ما لا يليق، والتقديس: إثبات ما يليق. وقد جاء تقديم التسبيح على التقديس، على المعروف من تقديم التخلية على التحلية. وقيل: التسبيح بالطاعات والعبادات، والتقديس بالاعتقادات والمعارف. والملائكة لا يعلمون الغيب، فلا بد أن يكونوا قد علموا ماذا سيكون من الفساد في الأرض وسفك الدماء بوجه من الوجوه التي يُطْلع الله بها على غيبه بعض المصطفين من خلقه. وقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} ... إلخ، إنما صدر منهم على

وجه استطلاع الحكمة في خلق نوع من الكائنات يصدر منها الإفساد في الأرض وسفك الدماء. وقطعهم بحكمة الله في كل ما يفعل لا ينافي تعجبهم من بعض أفعاله؛ لأن التعجب يصدر عن خفاء سبب الفعل، فمن تعجب من فعل شيء، وأحب الاطلاع على الحكمة الباعثة على فعله، لا يعد منكراً له في حال. {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}: قلنا: إن قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} لم يكن صادراً عن إنكار، وإنما هو استكشاف عن الحكمة. ولما كانت مكانتهم من طاعة الله، ويقينهم بأن أفعاله تعالى لا تصدر إلا عن حكمة يقتضيان أن يتلقوا ما أعلمهم الله به من جعل خليفة في الأرض بتسليم تام، ويتمهلوا إلى أن يطلعهم الله على الحكمة من خلق آدم بوجه من وجوه العلم، كانت مبادرتهم لسؤاله تعالى عن الحكمة غير واقعة الموقع اللائق بكمال أدب العارفين به، المقربين من حضرته، واقتضى هذا أن يجيبهم بجواب يذكرهم فيه بالأمر الذي شأنه أن يقف بهم في حدود الأدب اللائق بمقام الإلهية، وهو أنه تعالى عالم بما لا يحيط به علمُ أحد من خلقه، فله أن يفعل ما يشاء، ويأمر يما يشاء، وليس من أدب المؤمنين بأنه العليم الحكيم أن يسألوه - حين يأمرهم بشيء، أو يعلمهم بأنه سيفعل شيئاً - عن حكمة ما أمر به، أو ما سيفعله، بل شأنهم أن يتجهوا إلى استطلاع حكمة الأفعال والأوامر من أنفسهم، فإذا أدركوها، فقد ظفروا بأمنيتهم، وإن وقفت عقولهم دونها؛ ففي تسليمهم لقدر الله، وامتثالهم لأوامره الكفاية في القيام بحق التكليف، والفوز برضا الله الذي هو الغاية من الإيمان به، والإقبالِ على طاعته.

{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بعد أن أجاب الله تعالى الملائكة عن سؤالهم بجواب نبه فيه على الأدب اللائق بمن يخاطبه الله من عباده بأنه سيقضي أمراً، تفضل بإبداء جانب من حكمة خلق آدم، وجعلهِ خليفة في الأرض، وهو أنه سيزوده من العلم بما يكفي لأن تكون مصلحة خلقه، وإقامته خليفة، أرجحَ وأعظم من المفسدة التي تنشأ عن ذلك، فقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}. والأسماء: جمع اسم، والاسم: ما يكون علامة على الشيء. وتأكيد الأسماء بلفظ: {كُلَّهَا} ظاهر في أنه علّمه أسماء كل ما خلق من المحدثات. ويصح حمل الأسماء على خواص الأشياء ومنافعها؛ فإن الخواص والمنافع علامات على ما تتعلق به من الحقائق. وعرضُ الشيء: إظهاره. والضمير في قوله: {عَرَضَهُمْ} عائد على المسميات، وهي مفهومة من قوله: {الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}؛ إذ الأسماء لا بد لها من مسميات، فإذا جرى حديث عن الأسماء، حضر في ذهن السامع ما هو لازم لها؛ أعني: المسميات. ومدار عود الضمائر في اللغة على أن يكون معادها مذكوراً في نظم الكلام، أو مفهوماً من سياق الحديث. ودلّ على المسميات بضمير جمع الذكور العقلاء، فقال: {عَرَضَهُمْ} ولم يقل: عرضها؛ لأن في جملة هذه المسميات أنواعاً من العقلاء: الملائكة، والإنس، والجن، ومن الأساليب المعروفة بين فصحاء العرب تغليبُ الكامل على الناقص، فإذا اشتركا في نحو الجمع أو التثنية، أتي بالجمع أو التثنية على ما يطابق حال الكامل منهما.

والأمر في قوله تعالى: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} لم يكن من قبيل الأوامر التي يقصد بها التكليف؛ أي: طلب الإتيان بالمأمور به، وإنما هو وارد على وجه التبكيت؛ أعني: إفحام المخاطب بالحجة. وقوله تعالى: {صَادِقِينَ} من الصدق بمعنى: الصواب، كما أن الكذب قد يطلق ويراد منه الخطأ. والمعنى: أخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم مصيبين فيما خطر على أنفسكم من أنكم أفضل أو أعلم ممن سأجعله خليفة في الأرض. {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}: هذه الجملة واقعة موقع الجواب عن سؤال يخطر في ذهن السامع للجملة السابقة؛ إذ الشأن أن يقال عند سماع قوله تعالى: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ}: ماذا كان من الملائكة؟ هل أنبؤوا بأسماء المسميات المعروضة عليهم؟ فقال تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا} ... إلخ الآية وسبحان: اسم مصدر بمعنى: التسبيح؛ أي: التنزيه، وهو منصوب بفعل مضمر لايكاد يستعمل معه. ولو قال الملائكة: لا علم لنا بأسماء هذه المسميات، لكان جوابهم على قدر السؤال، ولكنهم قصدوا الاعتراف بالعجز عن معرفة أسماء تلك المسميات المعروضة على أبلغ وجه، فنفوا عن أنفسهم أن يعلموا شيئاً غير ما يعلمهم الله. ودخل في ضمن هذا النفي العام: الاعترافُ بالقصور عن معرفة الأسماء المسؤول عنها.

{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}: {الْعَلِيمُ}: الكثير العلم. والحكيم: ذو الحكمة. والحكمة تستعمل بمعنى: العلم، وتستعمل بمعنى: إتقان الفعل. وحمل الحكيم على هذا المعنى أولى من حمله على معنى العالم، حتى يفيد معنى زائداً على ما أفاده قوله: {الْعَلِيمُ} وقدم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة؛ ليكون وصفه بالعلم متصلاً بنفيهم العلم عن أنفسهم في قولهم: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} ولما اعترف الملائكة بالعجز عن معرفة ما سئلوا عنه، ونفوا عن أنفسهم العلم بأبلغ عبارة، وجه الله الخطاب إلى آدم-عليه السلام- يأمره بأن يخبر الملائكة بالأسماء التي سئلوا عنها، ولم يكونوا على علم بها، فقال تعالى: {قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}: أذن الله لآدم أن يعلم الملائكة بالأسماء التي فاتتهم معرفتها؛ ليظهر لهم فضل آدم، ويزدادوا اطمئناناً إلى أن إسناد الخلافة إليه تدبير قائم على حكمة بالغة. وعلمُ الغيب يختص به واجب الوجود - جلّ شأنه -؛ لأنه هو الذي يعلم المغيبات بذاته، وأما العلم بشيء من المغيبات الحاصل من تعليم الله، فلا يقال لصاحبه: إنه يعلم الغيب. وقوله تعالى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ... إلخ الآية: استحضار لمعنى قوله تعالى قبل هذا: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، وإعادة

له على وجه من التفصيل، أفاد أن علمه يشمل ما يظهرونه بأقوالهم أو أفعالهم، وما يضمرونه في أنفسهم، وفي قوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} ... إلخ: تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى؛ حيث بادروا إلى السؤال عن الحكمة، وكان الأولى بهم أن يأخذوا بالأدب المناسب لمقام الإلهية، فيدعوا السؤال عنها إلى أن يستبين لهم أمرها بوجه من وجوه العلم. أظهر الله فضل آدم - عليه السلام - من جهة العلم أولاً، ومن جهة أن علمه مستمد من تعليم الله له؛ فإن إمداد الله له بالعلم من طريق تعليمه إياه يدل على أنه محاط منه برعاية ضافية. ثم إن العلم الذي يحصل من طريق النظر والفكر قد يعتريه خلل، ويحوم عليه خطأ، فيقع صاحبه في الإفساد من حيث إنه يريد الإصلاح؛ بخلاف العلم الذي يتلقاه الإنسان من تعليم الله؛ فإنه علم مطابق للواقع لا محالة، ولا يخشى من صاحبه أن يحيد عن سبيل الإصلاح. وصاحب هذا العلم هو الذي يصلح للخلافة في الأرض، ومن هنا كانت السياسة الشرعية أرشد من كل سياسة، والأحكام النازلة من السماء أعدل من القوانين الناشئة في الأرض. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 34 - 37]. دلت الآيات السابقة على أن الله تعالى خص آدم - عليه السلام - بالخلافة، كما خصه بعلم غزير وقفت الملائكة عاجزة عنه، وأضافت هذه الآيات كرامة أخرى أكرمه الله بها، وهي أمره للملائكة بالسجود له، فقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}: هذا معطوف على قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ ...} [البقرة: 30]، والسجود في اللغة: الخضوع، والتذلل. وفي عرف الشارع: وضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة، والسجود المأمور به في الآية يحمل على المعنى المعروف في اللغة؛ أي: إن الله تعالى أمرهم بفعل تجاه آدم يكون مظهراً ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد العاشر من السنة الأولى.

للخضوع والتواضع له، غير وضع الجبهة على الأرض الذي هو عبادة، إذ عبادة غير الله شرك. ومن حملوا السجود في الآية على معنى وضع الجبهة على الأرض، ادّعوا أن سجوده كان لله، وأن آدم إنما كان كالقبلة يتوجه إليه الساجدون. وهو تأويل يبعده أن المقام مقام إظهار فضل آدم عليهم، وإظهار فضله لا يتحقق بمجرد كونه قبلة للسجود. {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}: أفادت الفاء في قوله: {فَسَجَدُوا}: أنهم سارعوا في الامتثال، ولم يتثبطوا فيه. وإبليس: اسم للشيطان أعجمي، وهو كائن حي. وقد أخطأ وجهَ الحق من حمله على معنى: داعي الشر الذي يخطر في النفوس. وليس من المعقول أن تحمل عليه الآيات، وهي صريحة في أنه كان يقول، ويقال له، ويرى الناس، ولا يرونه: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]. واستئناء إبليس من الملائكة ظاهر في أنه كان من قبيلهم؛ إذ الأصل في المستثنى أن يكون داخلاً تحت اسم المستثنى منه حتى يقوم دليل على أنه خارج عنه. والإباء: الامتناع مع الاختيار والتمكن من الفعل. والاستكبار: التكبر والتعاظم في النفس. و (كان) في قوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} بمعنى صار. ولما كان استثناء إبليس من الساجدين لا يدل على أنه ترك السجود عصياناً؛ إذ قد يكون تركه لعذر، دل بقوله: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} على أنه امتنع من السجود أنفة وتعاظماً، وأردف هذا التعاظم باعتراضه على الله تعالى في تفضيل

آدم، فصار بذلك في فريق الكافرين، فقال تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}. {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}: هذه الجملة معطوفه على قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ}. وقوله: {اسْكُنْ} أمر من السكنى؛ بمعنى: اتخاذ المسكن. وزوجه: حواء. والجنة: دار الثواب للمؤمنين يوم القيامة، على ما يتبادر إلى الذهن عند الإطلاق، وهذا هو المعروف عند كثير من أهل العلم. ومن المحتمل أن تكون هذه الجنة بستاناً بمكان مرتفع من الأرض، وإلى هذا الوجه من التفسير ذهبت طائفة من أهل العلم، ووقف آخرون دون ترجيح أحد التفسيرين؛ لقوة ما يورده كل من الفريقين شاهداً على ما ذهب إليه. والمخاطب بالأمر بسكنى الجنة: آدم، وحواء، ولكنه وجّه في صيغة الخطاب إلى آدم، وعطفت عليه زوجه؛ لأنه المقصود بالأمر، وزوجه تبع له. {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا}: الضمير في قوله: {مِنْهَا} عائد إلى الجنة، ويراد بالأكل من الجنة: الأكل من مطاعمها وثمارها. والرغد: الهنيء أو الواسع، يقال رغد عيش القوم: إذا كانوا في رزق واسع. و {حَيْثُ}: ظرف مكان. ومعنى الجملة: وكلا من مطاعم الجنة وثمارها كلاً هنيئاً أو واسعاً في أي مكان من الجنة أردتم الأكل فيه. وأذن لهم في التمتع بالأكل من الجنة في أي مكان شاؤوا حتى لا يكون لهم عذر في الأكل من الشجرة التي نهوا عن القرب منها.

{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} القرب: الدنو. ولم يذكر القرآن نوع هذه الشجرة، على عادته من عدم التعرض لذكر ما لم يدعو المقصود من سوق القصة إلى بيانه. والمنهي عنه هو الأكل من ثمار الشجرة. وتعليق النهي بالقرب منها؛ إذ قال: {وَلَا تَقْرَبَا}؛ لقصد المبالغة في النهي عن الأكل؛ إذ في النهي عن القرب من الشيء قطعُ لوسيلة التلبس به؛ كما قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، فنهى عن القرب من الزنا؛ ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه، وهي القرب منه. وأكد النهي بأن جعل عدم اجتنباب الأكل من الشجرة ظلماً، وقال: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}، وقد ظلما أنفسهما إذ أكلا منها، وكان الأكل منها سبباً في إخراجهما مما كانا فيه من عيشة هنيئة واسعة. {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا}: أزل: من الزلل، وهو عثور القدم وزلقها، ثم استعمل في ارتكاب الخطيئة، كما استعمل في خطأ الرأي مجازاً. والضمير في قوله: {عَنْهَا} عائد إلى الشجرة. ومعنى أزلهما عن الشجرة: أوقعهما في الزلة بسببها. ومن المحتمل أن يكون معنى (أزلهما): أذهبهما؛ كما يقال: زل من الشهر كذا؛ أي: ذهب وسقط. والمعنى: أبعدهما، وحولهما عن الجنة. {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}: ما كانا فيه: الجنة ونعيمها. والتعبير عن الجنة أو النعيم بقوله: (ما كانا فيه) أبلغُ في الدلالة على فخامة الخيرات التي كانا يتقلبان فيها مما لو قيل: من النعيم، أو الجنة؛ فإن من أساليب البلاغة في الدلالة على عظم الشيء أن

يعبر عنه بلفظ مبهم؛ نحو: (ما كانا فيه)؛ لتذهب نفس السامع في تصور عظمته وكماله إلى أقصى ما يمكنها أن تذهب إليه. ونسبة إخراجهما من الجنة إلى الشيطان، من قَبيل نسبة الفعل إلى ما كان سبباً فيه، وذلك أن أكلهما من الشجرة الذي ترتب عليه إخراجهما من الجنة، إنما وقع بوسوسة الشيطان لهما. {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}: الخطاب لآدم وحواء وإبليس. وقوله: {اهْبِطُوا} من الهبوط، وهو النزول والانتقال من مكان إلى آخر. وقوله: {عَدُوٌّ} وصف من العداوة، وهي التناكر والتنافر بالقلوب. وعداوة الشيطان لآدم نشأت عن حسد وتكبر منذ أُمر بالسجود له وأبى، وعداوة آدم وذريته للشيطان من جهة أنه يكيد لهم بالوسوسة والإغواء. وفي قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} تنبيه لعداوة الشيطان لآدم وذريته حتى يحذروا من أن تصغي قلوبهم لوسوسته حين يزين لهم بها أعمالاً منكرة، أو يقبح لهم بها أعمالاً صالحة. {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}: المستقر: موضع الاستقرار، أو بمعنى الاستقرار، نحو: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: 12] أي: الاستقرار. والمتاع: ما يتمتع به من المأكول والمشروب والملبوس ونحوه. والحين: الوقت، والمراد: وقت الموت، أو يوم القيامة. ومن كان على ذكر دائم من أن استقراره في الأرض، وتمتعه بنعيمها سينتهي بوقت لا يدري متى يدركه، فشأنه أن ينتفع بخيراتها، ويتمتع بطيب

العيش فيها، وهو مقبل على العمل لمرضاة الله ما استطاع، وشاكر لأنعمه بالقلب واللسان، لا يشغله عن الشكر شاغل من ملاذ هذه الحياة ومظاهر زينتها. {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}: التلقِّي في الأصل: التعرض للقاء، ثم استعمل في معنى أخذ الشيء وقبوله، تقول: تلقيت رسالة من فلان؛ أي: أخذتها منه، وقبلتها. والكلمات: جمع كلمة، وهي اللفظة الموضوعة لمعنى، ومعنى الجملة: استقبل آدم من ربه كلمات بالأخذ والقبول والعمل بها. وأظهر ما قيل في تعبين هذه الكلمات ما أشار إليه تعالى في سورة الأعراف بقوله: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]. {فَتَابَ عَلَيْهِ}: التوبة في أصل اللغة: الرجوع، وإذا عُدِّيت بعن كان معناها: الرجوع عن المعصية إلى الطاعة، وإذا عديت بعلى؛ كما جاءت في هذه الآية، كان معناها: قبول التوبة، فالعبد يتوب عن المعصية، والله يتوب على العبد؛ أي: يقبل توبته. {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}: هذه الجملة واردة مورد التعليل لقوله {فَتَابَ عَلَيْهِ}. والتواب: وصف له تعالى؛ من تاب؛ أي: قبل التوبة، وجاء في صيغة فَعَّال؛ ليدل على كثرة قبوله تعالى للتوبة من عباده، ويدل عن أنه يقبل توبة العبد، وإن وقعت بعد ذنب يرتكبه ويتوب منه، ثم يعود إليه بعد التوبة، ثم يتوب بعد العودة إليه توبة نصوحاً.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 38 - 39]. أخبر الله تعالى في الآيات السابقة أنه أمر آدم وحواء وإبليس بالهبوط من الجنّة؛ إذ قال تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36]، وأعاد خبر الأمر بالهبوط في هذه الآيات، فقال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} ... إلخ. وليست هذه الإعادة من قبيل التكرار الذي يقصد منه مجرد التوكيد، بل قص الأمر بالهبوط أولاً؛ ليعلق عليه معنى هو كون بعضهم لبعض عدواً، ثم قصة ثانياً؛ ليعلق عليه معنى آخر هو ما ترتب على الهبوط من تفصيل المخاطبين وانقسامهم إلى مهتدين وضالين. صرحت الآيات بأن الله تعالى نهى آدم عن الأكل من الشجرة، ولكن الشيطان وسوس له حتى أكل منها، ثم إن الله لقنه كلمات قالها مستغفراً، فتاب الله عليه، ثم أمره بعد قبول توبته بالهبوط من الجنة. وقد يتبادر إلى ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الحادي عشر من السنة الأولى.

الذهن أن آدم ارتكب ما نُهي عنه ارتكابَ من يتعمد المخالفة، فيكون أكله من الشجرة معصية، وهو من الأنبياء المرسلين، والرسل معصومون من أن يخالفوا أمر الله. وجواب هذا: أن آدم تعمد الأكل من الشجرة ناسياً النهي عن الأكل منها، وفعلُ المنهيِّ عنه على وجه النسيان لا يُعد في قبيل المعاصي التي يرتكبها الشخص وهو على ذكر من أنه يرتكب حراماً، وهذه هي التي يستحق صاحبها عقاباً أخروياً، وهي التي عصم الله منها أنبياءه. وإذا عاتب الله بعض المصطفين من عباده على ما صدر منهم على وجه النسيان، فلأن علمهم بالنهي يدعوهم إلى أن يقع النهي من نفوسهم موقع الاهتمام؛ بحيث يستفظعون مخالفته استفظاعاً يملأ نفوسهم بالنفور منها، ويجعلهم على حذر من الوقوع في بلائها. فالذي وقع من آدم - عليه السلام - هو أنه غفل عن الأخذ بالحزم في استحضار النهي، وجعلِه نصبَ عينيه حتى أدركه النسيان، ففعل ما نهي عنه غير متعمد للمخالفة. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]. {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}: الفاء في قوله: {فَإِمَّا} لإفادة ترتيب انقسام المخاطبين إلى مهتدين وكافرين على الهبوط المفهوم من قوله: {اهْبِطُوا}. و (إما) هي (إن) الشرطية دخلت عليها (ما) لإفادة التوكيد. والهدى من الله: الدلالة على ما هو حق وخير، بلسان رسول، أو آيات كتاب. ومن يتوسع في تفسير الهدى من الله، فيحمله على معنى الدلالة الشرعية أو العقلية، يبني تفسيره على أن الإيمان بالله لا يشترط في التكليف به مجيء رسول، أو إنزال

كتاب، فهو واجب على الناس؛ لما ركب الله فيهم من العقل، ونصب لهم من الأدلة، ومكن لهم من وجوه الاستدلال. دل على أن الهدى صادر منه بقوله: {مِنِّي هُدًى}، ثم أضافه إلى نفسه بقوله: {هُدًى}، فنبه لتعظيم أمر الهدى، وأنه أحق بأن يتبع ويتخذ سبيلاً لطمأنينة النفس في الدنيا، والفوز بالسعادة في الأخرى. والخوف: الفزع، وهو تألم النفس من مكروه يتوقع حصوله. والحزن: الغم الحاصل لوقوع مكروه، أو فقد محبوب. ومعنى (لا خوف عليهم): أن نفوسهم آمنة مطمئنة بحيث لا يعتريها فزع. كما أن قوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ينفي عنهم الاغتمام لفوات مطلوب، أو فقد محبوب. و (على) في قوله {عَلَيْهِمْ} تنبئ بمعنى الإحاطة والشمول؛ فإنها تستعمل مجازاً فيما يغلب على الإنسان، ويحيط به؛ نحو: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}؛ فإن غرض الداعين أن تشمل السلامة المخاطبين، وتحيط بهم من جميع جوانبهم. فمعنى (لا خوف عليهم): نفي ملابسة الخوف لهم ملابسة الإحاطة والاستيلاء كما هو شأن الخوف من أهوال يوم القيامة. وليس ببعيد أن يكون معنى {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}: أنهم بلغوا باستقامة السيرة وفضل التقوى حيث لا يخاف عليهم أحد أن يصيبهم في يوم الجزاء مكروه. ونفي الخوف والحزن ورد في الآية على وجه الإطلاق، وظاهره: أن المهتدين لا يعتريهم الخوف ولا الحزن في دنياهم، ولا في آخرتهم، ولكن قوله فيما يقابله من جزاء الكافرين: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يرجح أن يكون المراد: نفي الخوف والحزن عنهم في الدار الآخرة. ثم إن

الذين يتقون الله حق تقاته قد يأخذهم شيء من الحزن في الدنيا، وأوضح شاهد على هذا: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- عند احتضار ابنه إبراهيم- عليه السلام -: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما برضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون"، وقول يعقوب - عليه السلام - فيما قصة الله في القرآن: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ} [يوسف: 86]، ونفي الخوف والحزن عن المهتدين يوم القيامة كناية عن سلامتهم من العذاب، وفوزهم بالنعيم الخالد في الجنة، فتتم المقابلة بين جزاء المهتدين وجزاء الكافرين المشار إليه بقوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: هذا معطوف على قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ}، وارداً مورد المقابل له في تفصيل من يأتيهم الهدى من الله، ومقتضى وقوعه مقابلاً له أن يقال: والذين لم يتبعوا هداي أولئك ... إلخ، ولكنه عدل عن ذلك إلى قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}؛ لأن من لم يتبع هدى الله يشمل من لم تبلغه الدعوة، وغير المكلفين من نحو الصبيان وفاقدي العقل، وهؤلاء ليسوا من أصحاب النار. فظهر أن قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} جيء به على قدر من يستحقون الحكم عليهم بأنهم من أصحاب النار، والمجازاة بالعذاب الخالد الأليم. والآيات: جمع آية، وهي في الأصل: العلامة، وتستعمل في الطائفة من الكتاب المنزل، وفيما يستدل به على وجود الله تعالى وتوحيده، من نحو: بداح مصنوعاته، ومظاهر عنايته بالإنسان.

فالآيات هنا: الكتب المنزّلة، ومن يذهب إلى أن وجود الإيمان بالله لا يتوقف على دعوة رسول، يضيف إلى الكتب المنزّلة في تفسير (آياتنا): الدلائل الكونية الكافية في ربط القلوب بعقيدة التوحيد. وأضاف تعالى الآيات إلى نفسه، فقال: (آياتنا)؛ ليكون قبح التكذيب بها أظهر. وأتى بنون العظمة، فقال: {بِآيَاتِنَا} دون أن يقول: بآياتي؛ لبعث المهابة في نفوس السامعين، وذلك أدعى إلى تلقي الوعيد باهتمام. {وَأَصْحَابُ}: جمع صحب، مأخوذ من الصحبة، وهي الاقتران والملازمة. ودل بقوله: {خَالِدُونَ} على أن صحبتهم للنار دائمة، وليست من الصحبة التي تستمر مدة، ثم تنقطع، {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]. انتهت قصة آدم عند هذه الآية. ويجدر بنا أن ننبه لرأي أبداه بعض من كتب في التفسير منذ عهد قريب، وهو أن هذه القصة واردة على وجه التمثيل، لا أنها إخبار عن حقائق واقعة، وبسط القول في تقرير كونها تمثيلاً بما لا يسع المقام حكايته. والحقيقة أن القصة سيقت على وجه ظاهر في أنها واقعة، وتأويل آيات القصص على أنها من قبيل التمثيل لا يلجأ إليه إلا أن يكون حملها على المعنى الظاهر متعذراً، ولم يقم دليل شرعي أو عقلي يقتضي العدول في تفسير هذه القصة عن الظاهر من سياقها حتى يسهل صرف ألفاظها عن حقائقها، وتقبل دعوى أنها خارجة مخرج التمثيل. والقصة - مع كونها حقيقة واقعة - تنطوي على حكم شائقة، وعبر لامعة، يجدها المتدبر لكتاب الله قريبة المنال، عزيزة المثال؛ كأن يفهم منها: أن سياسة الأمم على الطريقة المثلى إنما تقوم على أساس راسخ من

العلم، ويفهم منها: أن فضل العلم النافع فوق فضل العبادة، وأن روح الشر الخبيثة إذا طغت في نفس، ذهبت البراهين عندها ضائعة، ولا يوجهها إلى الخير وعد، ولا يردعها عن الشر وعيد. ويستفيد منها الرئيس الأعلى كيف يفسح المجال لمرؤوسيه المخلصين يجادلونه في أمر يريد قضاءه، ولا يزيد على أن يبين لهم وجهة نظرة في رفق، وإذا تجاوزوا حد الأدب اللائق به، راعى في عتابهم ما عرفه فيهم من سلامة القلب، وتلقي أوامره بحسن الطاعة. ويستفيد منها المتقلب في نعمة يغبط عليها: أن مخالفة ما أمر الله قد تكون سبباً لزوال النعمة، وذلك ما يدعوه إلى تحصينها بالتزام الطاعة في كل حال. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 40 - 43]. تضمنت الآيات السابقة التذكيرَ بالنعم التي أنعم الله بها على البشر، ومن بينها: خلق آدم- عليه السلام -، وإظهار فضله على الملائكة بما أوتي من علم، ودل بقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [البقرة: 38] ... إلخ على أن البشر فريقان: مهتدون، وكافرون. واتجه التنزيل عقب هذا إلى تذكير طائفة خاصة من الكافرين المعاصرين للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم بنو إسرائيل، فقال تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}: {إِسْرَائِيلَ}: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام -. وفي إضافة المخاطبين إلى يعقوب - عليه السلام - بقوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} تشريف لهم بذكر نسبهم إلى أصل طيب؛ ليكون خطابهم بذلك داعية لذوي الفطر ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني عشر من السنة الأولى.

السليمة منهم إلى الإقبال على سماع ما يرد بعد النداء من التذكير بالنعمة. والذكر يكون بالقلب، ومعنى {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ}: تنبهوا لها، ولا تغفلوا عنها حتى تقوموا بواجب شكرها. ويكون الذكر باللسان، فيراد من الأمر بذكر النعمة: الأمر بالتحدث بها، والتحدث بنعمة الله مدعاة للتعبد بالشكر عليها. والنعمة: المنعَم به، وتجمع على نِعَم، وقد وردت في القرآن بمعنى النعم، لا تحتمل غير هذا المعنى؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، فلفظ العد والإحصاء يعين أنه أريد بها: النعم الكثيرة. والنعمة في هذه الآية التي نحن بصددها يترجح حملها على معنى النعم؛ إذ لم يقم دليل من الآية على أنه أريد بها نعمة معهودة. ثم إن مقام الدعوة إلى الإيمان يقتضي توجيههم إلى أن يذكروا نعم الله عليهم فيما سلف، ولله عليهم نعم كثيرة عظيمة. واستعمال المفرد في معنى الجمع؛ اعتماداً على ما ينساق إليه الذهن بقرينة قائمة في نظم الآية، أو بقرينة يلمحها الناظر في مقام الخطاب، أسلوب معدود من أبلغ أساليب البيان. {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}: العهد: ما من شأنه أن يراعى؛ كاليمين، والأمان، والوصية، والأمر، والضمان. وعهد الله: أوامره ونواهيه، والوفاء به: اتباع ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه. ويندرج فيه: ما أخذه على بني إسرائيل في التوراة من اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث، والإيمان به وبما جاء به من هداية وشريعة. وعهدهم الذي ضمن لهم الوفاء به في قوله: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}: ما وعد به المؤمنين بحق؛ من طيب

الحياة في الدنيا، والعيشة الراضية في الأخرى. {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}: الرهب: الخوف. ومعنى خوف الله وارد على معنى الخوف من مقته وسخطه وعقوبته. وتقديم الضمير (إياي) على الفعل (ارْهَبُونِ) إذ قال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} يفيد العناية والاهتمام بأن يرهب جانبه. والمعنى: لتكن قلوبكم عامرة بخشيتي؛ فإن امتلاء القلوب بخشية الله أعونُ لها على طاعته فيما يأمر به، وينهى عنه، ونقاءها من رهبة غيره دليل سمو الهمة، ورسوخ الإيمان، واستنارة البصيرة. وبعد أن دعا بني إسرائيل إلى ذكر النعم التي أنعم بها عليهم. وأمرهم بأن يوفوا بعهده ضامناً لهم الوفاء بعهدهم، ونبههم لأن يخافوا مقامه تنبهاً مشعراً بعزة سلطانه، وسعة قدرته، عطف على ذلك أمرهم بما هو المقصد الأهم من الخطاب، وهو الإيمان بالقرآن، فقال تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ}: المعنى: آمنوا بالكتاب المنزّل على محمد، وهو القرآن؛ فإنه مصدق لما بين أيديكم من التوراة؛ باشتمال دعوته على ما يحقق دعوتها؛ من التوحيد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ويدخل في تصديق القرآن للتوراة: إعلامه بما جاء فيها من الإشارة إلى بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومطابقة ما وصفته به مطابقة جلية. وإشعار بني إسرائيل بأن القرآن مصدق لما معهم من الكتاب، يحرك هممهم - إن كانوا يعقلون - للإقبال عليه متدبرين آياته، حتى يشهدوا حكمته، وتستيقن نفوسهم أنه دعوة الحق والإصلاح اللذين تقوم عليهما الطمأنينة

في الدنيا، والسعادة في الأخرى. {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}: الضمير في قوله: {بِهِ} عائد إلى القرآن المشار إليه في قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ}، والأولية هنا بالنسبة إلى غير المخاطبين من أهل الكتاب، فلا يرد عليه أن المشركين من قريش كانوا أول من كفر به. والموصوف بقوله: {كَافِرٍ} مقدر بمعنى: فريق. والمعنى: لا تكونوا أول فريق من أهل الكتاب يكفر بالقرآن، فيتبع خطواتكم أناس، وبهذا تصيرون أئمة للكفر، وتكون ضلالتكم أقبح الضلالات أثراً، وعقوبتكم أشد العقوبات هولاً. {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}: الاشتراء: وارد بمعنى: الاستبدال. والآيات: الدلائل الناطقة بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى رأسها الآية التي جمعت بين الدعوة والحجة، وهو القرآن المجيد. والثمن القليل: حظوظ الدنيا من نحو الرياسة والمال. والذي يستبدل به الثمن القليل: هو الإيمان بالآيات، وحذفت كلمة الإيمان في نظم الآية على عادة القرآن من الاكتفاء بالقرائن القائمة بوضوح دلالتها مقام الصريح من الألفاظ. ونزل تمكينه من الإيمان بالآيات منزلة حصوله بالفعل، فكأن الإيمان كان في حوزتهم، وتجردوا منه مستبدلين به شيئاً آخر، فمعنى اشترائهم تلك الحظوظ بالإيمان بالآيات: تركهم الإيمان بالآيات، وأخذهم بدله حظوظاً دنيوية هي حقيرة بالنسبة إلى ما يناله أولو الإيمان الخالص من رعاية ضافية في الدنيا، وخيرات حسان في الأخرى. {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}: الاتقاء: الحذر. واتقى الله: حذر عقابه. والحذر من عقاب الله يستدعي

تلقي أوامره ونواهيه بحسن الطاعة. وبهذا صح تفسير تقوى الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. وتقديم الضمير (إياي) على الفعل (اتقون) يفيد العناية والاهتمام بأن يتقى عقابه. ومن امتلأ قلبه بالخوف من الله، ودأب على الحذر من عقابه، برأه الله من أن يأتي جوراً، أو يعمل سوءاً، حذراً من أن يناله مخلوق بمكروه. {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} نهى بني إسرائيل فيما سلف عن أن يكونوا كفاراً ضالين، ونهاهم في هذه الآية عن أن يعملوا لإضلال غيرهم. ولدعاة الضلالة في إغواء الناس طريقتان: طريقة لبس الحق بالباطل، وهي المشار إليها بقوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}، وطريقة جحد الحق وإخفائه، وهي المشار إليها بقوله تعالى: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ}. ولبس الحق الباطل: خلطه به. وقد كانت تلك الطائفة تتصرف في بعض نصوص كتابهم بالتأويل الباطل اتباعاً للهوى. وهذا خلط للنص الذي هو حق بالباطل الذي هو التأويل الفاسد، وكان فيهم منافقون يجمعون بين الحق والباطل، فيقولون الحق بألسنتهم، ويبطنون الكفر في أنفسهم، وكان فيهم من يلقي حول الحق الظاهر شبهاً؛ ليوقع ضعفاء الإيمان في حيرة وتردد. أما كتم الحق: فجحوده وإنكاره. ومن هذا الباب: حذف بعض النصوص التي تنطق بما لا يوافق أهواءهم. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: يعدّ في كبائر المعاصي: خلط الحق بالباطل، أو جحود الحق. ويكون

وقعه أقبح، وفساده أكبر، وعاقبته أشأم، متى صدر من عالم يميز الباطل من الحق. ففي قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بيان لحال المخاطبين بالنهي، من أنهم كانوا يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق لا بجهالة، بل كانوا يفعلون ذلك وهم على علم بأنهم خلطوا الحق بالباطل، أو أخفوا حقاً بجحوده، وعدمِ بيانه للناس. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}: بعد أن أمرهم بأصل الدين الذي هو الإيمان، أمرهم بركنين من أركانه العملية، أولهما: أعظم العبادات البدنية، وهي الصلاة، وثانيهما: أعظم العبادات المالية، وهي الزكاة. وإقامة الصلاة: أداؤها مستوفية لأركانها وشرائطها المفصلة في كتب السنّة، والزكاة وردت في القرآن كالصلاة مجملة، وترك تفصيل القول في أحكامها إلى السنّة، والزكاة في اللغة: النماء والتطهير، وكلا المعنيين متحقق في الزكاة الشرعية، أما النماء، فبإخراج القسط المسمى زكاة يبارك الله في البقية من المال، فينمو، ويسلم من الآفات التي كثيراً ما تصيب أموال البخلاء بإيتائها، وأما التطهير، فلأن الزكاة تطهر المال من أن تكون فيه مظلمة. أمر بني إسرائيل بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة على الوجه الذي شرعه الإسلام، ثم عاد إلى فريضة الصلاة مؤكداً الأمر بها؛ لعظم أهميتها، فقال تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}: الركوع في أصل اللغة: الخضوع والانقياد. ويطلق في عرف الشارع على الركن المعروف في الصلاة، وهو خفض المصلي رأسه حتى تبلغ راحتاه

ركبتيه. وقد كنى به عن الصلاة، وهو الظاهر من سياق الآية. والسر في هذه الكناية: أن الأمر موجه إلى اليهود، وليس في صلاتهم ركوع، فكأنه يقول: صلوا الصلاة ذات الركوع، وهي الصلاة التي شرعها الإسلام. وأشار بقوله: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} إلى فضل أداء الصلاة في جماعة. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 44 - 48]. تضمنت الآيات السابقة تذكيرَ بني إسرائيل بالنعم التي أنعم الله بها عليهم من قبل، ثم دعوتهم إلى الإيمان بالقرآن، والعمل بما شرع من صلاة وزكاة، وجاءت هذه الآيات مفتتحة بتوبيخهم وتقريعهم على أمر لا يصدر عن عقل، ولا يليق بذي علم، وهو حثهم الناس على الخير، وهم لا يفعلون ما يأمرون به، فقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}: الأمر: طلب إيجاد الفعل. والبر: اسم يتناول كل عمل من أعمال الخير. والنسيان: غيبة الشيء عن القلب بعد حصول العلم به، وهو في الآية بمعنى: ترك العمل، على طريقة استعمال اللفظ فيما يكون لازماً لمعناه ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني من السنة الثانية.

الأصلي؛ فإن من نسي شيئاً، ترك العمل به لا محالة، وهذا من الأساليب التي اتسع بها مجال البيان، وجعلت البلغاء يخرجون المعنى الواحد في عبارات متنوعة، والداعي إلى حمل النسيان على معنى الترك: أن الناسي حقيقة غير مؤاخذ على ما نسيه، فلا يستحق هذا التوييخ الشديد الوارد في الآية. ومن الواضح أن التوبيخ في الواقع متوجه إلى نسيانهم أنفسهم؛ أي: تركهم العمل بما يأمرون به، لا إلى أمر الناس بالبر؛ فإن الأمر بالخير في نفسه فعل محمود، ولو صدر ممن لا يفعل الخير؛ إذ ليس من شرط وجوب الأمر بالمعروف أن يكون الآمر عاملاً به، وإنما عمله بما يأمر يجعل وعظه قريباً من القلوب، جديراً بأن يتلقى بالقبول. {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}: التلاوة: القراءة. والكتاب: التوراة. وكون المخاطبين يقرؤون التوراة، يزيد تركهم العمل بما يأمرون به قبحاً، ويستدعي أن يكون توبيخهم على هذا الترك أغلظَ من توبيخ من ترك العمل الصالح وهو لم يقرأ كتاباً سماوياً، ذلك أن قراءته الكتاب لا تبقي له وجه الاعتذار بالجهل الذي قد يتشبث به بعض الفاسقين عن أمر الله عندما ينكر الناس فسوقهم. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: يطلق العقل على قوة في النفس تستعد بها لقبول العلم، ويطلق على إدراك الأشياء بتلك القوة. فمعنى {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: أليس لكم إدراك يزجركم عن ارتكاب ما لا يليق من الأفعال؟! ومن ألطف أساليب الخطاب: أن يكون للموجَّه إليه النصيحة صفةٌ شأنها أن تنساق به إلى خير، ولكنه يفعل

فعلاً لا يناسب تلك الصفة، فيقع صدوره منه موقع الاستغراب، فيذكر له مسدي النصيحة تلك الصفة في معرض الاستفهام، وهو إنما يريد تذكيره بأن ذلك العقل ليس من شأنه أن يلتقي مع تلك الصفة في نفس واحدة، كما قال تعالى: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. فالمخاطبون يعقلون؛ أي: يدركون الأشياء، وبهذا الإدراك توجه إليهم التكليف بالعقائد والشرائع، ولكنهم لم يجروا على مقتضى ما لديهم من عقل؛ حيث كانوا يأمرون الناس بالخير، وينصرفون عنه بأنفسهم، فكأنه يقول لهم: إن ما أتيتم به فعل لا يلتئم بصفة العقل، يوحي إلى الناظر أن ليس لكم إدراك يمنعكم من ارتكاب ما لا يختلف في قبحه اثنان. {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}: أمر الله بني إسرائيل فيما سلف من الآيات بالإيمان، وإقامة الشرائع، ومخالفة الأهواء الداعية إلى كتم الحق وخلطِه بالباطل، ولما كان فيما أمرهم به مشاقّ لا يحتملها كل أحد بسهولة، أرشدهم في هذه الآية إلى ما يقوي عزائمهم، ويخفف عنهم أعباء تلك التكاليف، فقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}. الاستعانة: طلب المعونة. والصبر: حبس النفس على ما تكره، وكفّها عن أهوائها، فيقال: صبر على الطاعة؛ أي: حبس نفسه عليها متحملاً ما يلاقيه في أدائها من مشاق، وصبر عن المعصية؛ أي: كفّ نفسه عما تنزع إليه من شهوات جامحة. ووجْهُ كون الصبر معيناً على تلقي الأوامر بحسن الطاعة، هو أنه يتربى بالنظر في عواقب الأمور. ومن رسخت قدمه في هذا الشأن، وأصبح يقيس

الأعمال بعواقبها، وما يترتب عليها من آثار يحمدها، تضاءلت أمامه المصاعب، ولم يقف به عن العمل ما يلاقيه في سبيله من مشقة. وكانت الصلاة معينة على النهوض بالأعمال الجليلة، من جهة أنها عبادة يقوم بها العبد في كل يوم خمس مرات، يناجي فيها ربه، ويقرأ فيها من القرآن ما فيه حكمة وموعظة حسنة، فتزكو نفسه، وتصفو سريرته، ويستمر هذا الحال في غير أوقات الصلاة، حتى إذا حضر وقت عمل واجب غير الصلاة، وجد في نفسه إقبالاً عليه، واستهانة بكل ما يلاقيه في سبيل الله من مكاره وآلام. {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}: كبيرة: صعبة شاقة، يقال: كبر الشيء: إذا شق وثقل؛ كما قال تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13]. و {الْخَاشِعِينَ}: من الخشوع، وهو في الأصل: اللين والسهولة، ومعناه في الآية: الخضوع والاستكانة لله - جل شأنه - وضده الاستكبار. والمعنى: أن الصلاة صعبة إلا على الخاضعين الذين أسلموا وجوههم لله. والصلاة من حيث إنها قيام وركوع وسجود وجلوس ليس فيها صعوبة، والصعوبة من جهة أن الصلاة بحق ما يدخلها المصلي بقلب حاضر، فيؤديها مبتغياً رضا الله، تالياً القرآن بتدبر، ناطقاً بالدعوات والأذكار التي تشتمل عليها عن قصد إلى كل معنى، دون أن تجري على لسانه، وهو في غفلة عن معانيها التي هي روح العبادة. ويضاف إلى هذا في معنى صعوبة الصلاة: أنها فريضة شرعت لأن يقيمها العبد في كل يوم خمس مرات مدى الحياة، وإنما كانت سهلة على الخاشعين؛ لإيقانهم أنها من أهم وسائل الفلاح في الدنيا، والسعادة

في الآخرة، ولأنهم يجدون عند أدائها ارتياحاً واطمئناناً يجعل نفوسهم ناشطة للقيام بها كلما حل وقتها. {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}: يرد الظن في أكثر الكلام بمعنى: الاعتقاد الراجح، وهو ما يتجاوز مرتبة الشك، وقد يقْوى حتى يقرب من مرتبة القطع. وملاقاة الخاشعين لربهم يصح أن تفهم على معنى قربهم من يوم القيامة قرباً معنوياً، وجزائه لهم على ما فعلوا من خير، وإنما كان اعتقاد الخاشعين لملاقاة جزاء الله لهم بالحسنى ظناً، لا يقيناً؛ لأنه من الممكن أن يحكم الخاشعون على سيرتهم في بعض الأوقات الحاضرة بالاستقامة، ولا تخالطهم شبهة في أنها السيرة التي وعد الله بمجازاتها يوم القيامة الجزاء الأوفى، ولكن خواتم الحياة لا يعلمها كيف تكون غير علاّم الغيوب. ويفسر رجوعهم إليه تعالى على هذا الوجه بمصيرهم إلى دار السلام، وحلولهم بجواره؛ حيث لا يكون لأحد عليهم سلطان ولا منة كما كانوا في حياتهم الدنيا. وذهب كثير من المفسرين إلى أن الظن في الآية بمعنى: العلم، وساقوا على ذلك شواهد عربية، وقالوا: معنى ملاقاة الله: الحشر إليه بعد الموت، والرجوع إليه، وملاقاة الجزاء ثواباً أو عقاباً، وكل من الحشر وملاقاة الجزاء بعده داخل في قبيل العلم: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]. {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}: سيقت هذه الجملة المتضمنة أمر بني إسرائيل بذكر نعمته تعالى في آيات ألممنا بتفسيرها قريباً، وأعيدت هنا تأكيداً لتذكير المخاطبين بنعم الله

التي حقها أن تتلقى بخالص الشكر، ومن سنّة القرآن إعادة الجمل التي تشتمل على أمر يستوجب مزيد العناية، وهذا شأن ذكر النعم؛ فإنه مدعاة إلى تواردها على الذاكر لها، وناهض بالنفوس الكريمة إلى شكرها، والجد في طاعة مرسلها، وهو مع هذا موصول برضا الخالق الذي هو أسمى غاية تتجه إليها الهمم، وتسعى لإحرازها ليلها ونهارها. ويشعر تكرار هذه الجملة أن في بني إسرائيل غفلة عن تقدير النعم، شأن من لا يبالي كفرانها. {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}: قال تعالى في حق أمة الإسلام: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وبنو إسرائيل إنما فضلهم الله على العالمين أيام كانوا يقيمون التوراة، ويكثر فيهم الأنبياء، وقد يذكر الله القوم بنعمة كان أسداها إلى أسلافهم؛ كالتفضيل على العالمين، ثم يذكر لهؤلاء القوم مساوئ تنزل بهم إلى الحضيض. {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}: اتقوا: احذروا. وتجزي: تقضي، من جزى بمعنى: قضى. والمعنى: احذروا يوماً لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئاً من الحقوق. ومعنى اتقاء اليوم، وهو يوم القيامة: الحذر مما يجري فيه من فزع وعذاب، والحذر منه: بالسير على صراط الله المستقيم حسب الاستطاعة، فكأنه يقول: واستضيئوا بنور الإيمان، وأطيعوا الله فيما يأمر به أو ينهى عنه، وبهذه السيرة تسلموا من هول يوم القيامة وعذابه المهين. {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ}: الضمير في قوله: {مِنْهَا} يعود على {نَفْسٍ} في قوله: {عَنْ نَفْسٍ}، وهي النفس المأخوذة في ذلك اليوم للحساب، المسؤولة عما ارتكبت من

وزر، فهذه النفس إذا جاءت بشفاعة شفيع، لم تقبل منها. والشفاعة: أن يكون لأحد وجاهة عند أحد، فيسأله أن يعفو عن جناية صدرت من آخر، أو يصفح عن واجب أهمل القيام به، أو يستوهب منه له شيئاً. والآية نفت أن تقبل يوم القيامة شفاعة من أحد نفياً مطلقاً، ووردت آيات تنفي قبول الشفاعة إلا ممن أذن له الله فى ذلك؛ كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]، فصح أن تحمل الآية المطلقة - وهي التي نحن بصدد تفسيرها - على أنها واردة في شأن النفوس الكافرة، وتفهم الآيات الأخرى على صحة قبول الشفاعة للمؤمنين إذا أذن الله فيها للشافعين. وقد وردت أحاديث صحيحة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم -ستكون له شفاعة في دفع العذاب عن قوم، ورفع الدرجات لآخرين. {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}: العدل: الفدية. وسميت عدلاً؛ لأنها تعطى على أنها معادلة للمفدي بها. والمعنى: لا يؤخذ من أحد بدل من كفره بالغاً البدلُ ما بلغ؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91]. {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}: جاء الضمير في قوله: {وَلَا هُمْ} ضمير جمع، وهو عائد على نفس في قوله: {عَنْ نَفْسٍ}، والنفس مفردة، ذلك أن النفس هنا في معنى: نفوس،

وإيضاح هذا أن نفساً نكرة واقعة بعد نفي، أعني: (لا) في قوله: {لَا تَجْزِي}، والنكرة إذا وقعت بعد نفي تشمل كل فرد من أفرادها، فيكون نفس في قوله: {عَنْ نَفْسٍ} متناولة لكل فرد من أفراد النفوس، وبهذا كانت في معنى الجمع، وصح أن يعود عليها الضمير الموضوع ليدل على أفراد متعددة، وقد جرى القرآن على هذا الاستعمال المعروف في علم البيان؛ كما قال تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]. ومعنى قوله: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}: أنهم لا يجدون من يعينهم ويمنعهم من عذاب الله، أو لا يجدون من ينتصر لهم من الله إذا عاقبهم. وقد أتى القرآن الكريم إلى ما يحتمل أن يكون وسيلة إلى النجاة يوم القيامة، فنفاه نفياً باتأة حتى يعلم الجاحد بآيات الله، الفاسقُ عن أمره أن ليس هناك وسيلة ترجى للخلاص من عذاب، والفوز بنعيم، غير الإيمان وحسن الطاعة، ذلك أن المأخوذ بحق إما أن يجد من ينوب عنه في أداء الحق، فقال تعالى: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}، وإما أن يجد وجيهاً عند المطالِب له بالحق، فيسأل له العفو، فقال تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ}، وإما أن يقدم إلى المطالِب بالحق بدلاً من هذا الحق على نحو ما عرف في الدنيا باسم الفداء، فقال تعالى: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}، وإما أن يجد ذا قوة يعينه ويمنعه ممن يريد عقابه، فقال تعالى: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 49 - 53]. ذكَّرَ الله تعالى فيما سلف بني إسرائيل بنعمه إجمالاً، فقال: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}، وأتبع ذلك ببيان بعض النعم على وجه التفصيل؛ ليكون التذكير بالنعمة أبلغ، والحجة عليهم إذا لم يشكروها أوضح، وصدّر هذه النعم المفصلة بتفضيلهم على العالمين، فقال تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}. ولما كان تفضيلهم على العالمين قد يأخذهم بغرور، ويوقع في أوهامهم أنهم ليسوا في حاجة من بعده إلى صالح الأعمال، أرشدهم إلى أن التقوى هي سبب السلامة والفوز، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} ... إلخ الآية. ثم أورد عقب نعمة التفضيل نعماً أخرى عظيمة ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثالث من السنة الثانية.

الشأن، وهي ما أشار إليه في هذه الآيات، فقال تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}: إذ: بمعنى: وقت، فهي مفعول به لفعل ملاحظ في نظم الكلام، وهو: "اذكروا". والتنجية: التخليص والإنقاذ. والآل: الأهل والأتباع. وفرعون: اسم لملك مصر، كما يقال لملك الروم: قيصر، وملك الفرس: كسرى، وملك اليمن: تُبّع. ويسومونكم: من السَّوم بمعنى: التكليف. وسوء العذاب: أشقه وأصعبه. والمعنى: اذكروا وقت أن نجيناكم من آل فرعون إذ يكلفونكم أشق العذاب وأصعبه، والمراد من تذكيرهم بالوقت بما وقع من تنجيتهم من آل فرعون. {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}: هاتان الجملتان واردتان مورد البيان للجملة السابقة، فهما مبينتان لما أريد من سوء العذاب الذي كان فرعون وقومه يأخذون به بني إسرائيل. و {يُذَبِّحُونَ} من التذبيح الدال على كثرة الذبح الذي هو إزهاق الروح بإصابة الحلق. والأبناء: الأطفال الذكور. والاستحياء: الاستبقاء. والنساء: اسم جمع واحده امرأة، وأطلق على البنات؛ لأنهن يصرن نساء، وأطلق عليهن الاسم الذي يصرن إليه؛ لأن انتفاع آل فرعون باستخدامهن إنما يعظم عندما يصرن نساء. والمعنى: أن آل فرعون يقتلون ذكرانكم، ويستبقون إناثكم أحياء. وفي استبقاء الإناث عذاب من جهة إبقائهن خدماً، وإذاقتهن حسرة ذبح إخوتهن من الذكور. وكان فرعون يذبح أطفال بني إسرائيل مخافة

أن ينشأ فيهم من يناوئ سلطانه، ويعمل لتقويض أركان عرشه، وقد وقع ما تخوف منه؛ إذ نهض موسى- عليه السلام - ببني إسرائيل، وسار بهم في طريق النجاة، فسقط عرشه، ومات غريقاً، ونُجي ببدنه ليكون لمن خلفه آية. {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}: البلاء في الأصل: الاختبار والامتحان، ويكون في الخير والشر. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. وقال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]. فالله يبتلي الناس بالسراء ليشكروا، ويبتليهم بالضراء ليصبروا، أو ليقلعوا عما يتعرضون له من سخطه وأليم عقابه. والمتبادر من نظم الآية أن المشار إليه بقوله: {وَفِي ذَلِكُمْ} هو سوء العذاب الذي كان فرعون يسومهم إياه. ونسبة البلاء إلى الله إذ قال: {مِنْ رَبِّكُمْ} من جهة أنه سلط عليهم آل فرعون. ووصف البلاء بالعظم، فقال: {عَظِيمٌ}؛ لأن تذبيح الأبناء واستحياء البنات من أعظم البلاء الذي ينزل بالأمة على أيدي أعدائها. {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ}: الفَرْق: الفصل بين الشيئين، يقال: فرق كذا؛ أي: فصل بعضه عن بعض. و {الْبَحْرَ}: الماء الكثير مجتمعاً بمكان، ملحاً كان أم عذباً. والواقعة تقتضي أنه بحر يصل مصر بالأرض المقدسة. وقال المفسرون: هو بحر القلزم "البحر الأحمر". وقد انفلق البحر عند انتقال موسى - عليه السلام - ببني إسرائيل إلى

الأرض المقدسة، فمروا في طريق يبس، والأمن محيط بهم من كل جانب حتى بلغوا شاطئ النجاة. ومعنى {فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْر}: فصلنا بعضه عن بعض من أجلكم؛ أي: من أجل مروركم فيه، وهذا معنى قولهم: إن الباء في قوله: {بِكُمُ} للسببية. وإذا نظرنا إلى ما جاء في آية أخرى من أن موسى - عليه السلام - ضرب البحر بعصاه فانفلق، ثم إن القوم بعد انفلاق البحر بعصا موسى توسطوه بسيرهم بين جنبيه، ومن توسط شيئاً، صح أن يقال: إنه فرق بعضه عن بعض، فيقال: إن القوم فرقوا البحر، على معنى: أنهم فصلوا بعضه عن بعض بسيرهم في وسطه، ونسب الله فرق البحر بهذا المعنى إلى نفسه، فقال: {فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْر}؛ ليدل على أن القوم فرقوا البحر وقطعوه وعبروه، وهو معهم برعايته وعونه، فيؤول معنى {فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} إلى معنى قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف: 138]. {فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ}: في الآية جملة ملاحظة في النظم استغني عن ذكرها بدلالة المعنى عليها، وتقديرها مع الملفوظ به: وإذ فرقنا بكم البحر، وتبعكم فرعون وجنوده، فأنجيناكم من الغرق، أو من إدراك فرعون وآله لكم. وذكر الله تعالى في هذه الآية إغراق آل فرعون دون فرعون، وذكر في آية أخرى إغراقه، فقال تعالى: {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} [الإسراء: 103]. {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}: النظر: الإبصار. والمعنى: أغرقنا آل فرعون وأنتم تبصرون إهلاك عدوكم بالإغراق، وتشاهدونه بأعينكم، وهذا أدعى لليقين بهلاكه، وأبلغ

في الشماتة به. والعقيدة السليمة تقضي بأن تفهم واقعة انفلاق البحر لموسى وقومه على أنها معجزة كونية، لا أنها حادثة طبيعية منشؤها المد والجزر؛ كما يزعم بعض من لا يبالي أن يظهر برأي يدفعه صريح القرآن الكريم. {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}: هذا معطوف على الآيات السابقة، فهو على معنى: واذكروا إذ واعدنا. والموعود به: التوراة. والأربعون ليلة ميقات: لقضاء الوعد؛ أي: إن إعطاءه التوراة يكون عند تمام أربعين ليلة. فالأصل: واعدنا موسى أن نؤتيه التوراة عند انقضاء أربعين ليلة. والأسلوب العربي يسيغ- متى كان المراد مفهوماً للمخاطبين-الاقتصار على ذكر زمان الموعود به، أو مكانه، فيقولون مثلاً: وعدته يوم الخميس؛ أي: الزيارة، أو الحضور يوم الخميس، أو وعدته بطن الوادي، أو شاطئه؛ أي: الملاقاة به. ويدل على أن الموعود به التوراة: قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142]، ثم قال تعالى: {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 144 - 145]. وقال: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}، ولم يقل: أربعين يوماً؛ لأن أول الشهر العربي ليلة طلوع الهلال، ولهذا نجد العرب يؤرخون بالليالي، فيقولون: وقع كذا لخمس ليال - مثلاً - خلت من الشهر. {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}: {الْعِجْلَ}: ولد البقرة. والمراد: ما صنعه السامري على صورة العجل.

ومعنى اتخاذهم العجل: جعلهم له إلهاً يعبدونه. والضمير في قوله: {مِنْ بَعْدِهِ} يعود إلى موسى - عليه السلام - بملاحظة مضاف يدل عليه سياق الكلام. والمعنى: ثم اتخذتم العجل من بعد ذهاب موسى إلى الطور، وأنتم ظالمون لأنفسكم بعبادة غير الله. وكذلك كل من ارتكب شركاً أو إثماً فهو ظالم لنفسه؛ لأنه يلقي بها في شقاء وخسران، بدل أن يسمو بها إلى مقام كريم. {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: العفو: محو الذنوب، وعدم المؤاخذة بها. واسم الإشارة {ذَلِكَ} يعود على اتخاذ العجل المفهوم من قوله: {اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ}. والشكر: الحديث بنعمة المنعم، والثناء عليه. وحرف (لعل) في هذه الآية ظاهر في معنى التعليل، والمعنى: عفونا عنكم إذ تبتم بعد الارتداد عن دينكم؛ لتكونوا من الشاكرين على نعمة العفو. ومن شكر للمنعم نعمة من حيث إنها نعمة صادرة منه، كان شأنه أن يشكره على كل نعمة يُسديها إليه. فالعفو عن موبقة عبادتهم العجل بعد التوبة منها، شأنه أن يكون داعياً لشكرهم عليه، وباعثاً على قيامهم بواجب الشكر عند كل نعمة. {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: {آتَيْنَا}: أعطينا. والكتاب: التوراة. والفرقان: الشرائع والأحكام؛ لأنها تفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام. ويصح أن يراد من الفرقان: الآيات والمعجزات التي أجراها الله على يديه للدلالة على صدق رسالته، وسميت فرقاناً، لأنها تفرق بين دعوى الرسالة حقاً، ودعواها

زوراً. والمعنى: واذكروا إذ أعطينا موسى التوراة، والشرائع والأحكام، والآيات والمعجزات؛ لتهتدوا بها إلى سبيل الفلاح في الدنيا، والفوز بالسعادة في الأخرى. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 54 - 57]. تضمنت الآيات السابقة تذكير بني إسرائيل بنعم أنعم الله بها عليهم، وانجرّ الحديث عنها إلى ذكر جريمة من أكبر جرائمهم، وهي اتخاذهم العجل إلهاً يعبدونه من دون الله؛ إذ قال تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}، وأردف ذكر تلك الجريمة الكبرى بذكر نعمة هي من أعز نعمة تعالى، وهي العفو عنها إذ ندموا ولاذوا بالتوبة، فقال تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. ووصل هذا بنعمة هي مطلع الهداية، والطريق المبلغ للسعادة، وهي إنزال التوراة على موسى - عليه السلام -، فقال تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الرابع من السنة الثانية.

الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. ثم عاد الحديث في نظم الآيات التي بين أيدينا إلى تذكير بني إسرائيل بتلك الموبقة، موبقة الردة، ويما أضافوا إليها من مساوئ أخرى، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}: هذا معطوف على ما قبله مع ملاحظة فعل مقدر في نظم الكلام، هو: اذكروا. والمعنى: واذكروا إذ قال موسى لقومه ... إلخ. ومعنى {ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ}: أضررتم بها إذ حرمتموها بعبادة العجل الثوابَ الذي تناله بالإقامة على عهد موسى - عليه السلام -. وصدَّر موسى خطابه لقومه بقوله: {يَاقَوْمِ}؛ ليذكرهم بأنه منهم، والشأن أن الرجل لا يريد بقومه إلا خيراً. ففي هذا النداء مظهر من مظاهر التلطف، يريد به جلب دواعيهم إلى الإصغاء إليه، وتلقي أوامره بحسن الطاعة. {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}: التوبة: الندم على ملابسة الذنب، والإقلاع عنه، والعزم على عدم العود إليه. وذلك معنى الرجوع عن المعصية إذ يقولون: تاب إلى الله؛ أي: رجع عن معصيته. والبارئ: الموجد للأشياء على ما تقتضيه الحكمة. فكأنه يقول لهم: ارجعوا بالتوية إلى من خلقكم في أحسن تقويم، فهو المستحق للعبادة، وأما العجل، فإنما يعبده من يُشبْهه في الغباوة. ومن أمثال العرب: "أبلد من ثور". {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}: أمر موسى قومه بقتل أنفسهم بعد أمرهم بالتوبة، فيفيد نَظْمُ الآية أن

توبتهم لا تتم ولا تقبل إلا بقتل أنفسهم، وظاهر الآية: أنه أمرهم بقتل أنفسهم؛ أي: إزهاق أرواحهم، وهذا صادق بقتل بعضهم بعضاً، كما قال تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]؛ أي: فليسلم بعضكم على بعض، وقال تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]؛ أي: لا يلمز بعضكم بعضاً. وإنما أمرهم موسى بقتل أنفسهم على وجه التبليغ عن الله، إذ مثلُ هذا الأمر لا يصدر إلا عن وحي. ولم يزل هذا المعنى في ضمن التوراة التي يتدارسها اليهود إلى اليوم. ومما جاء فيها: "دعا موسى إليه من يرجع إلى الرب، فأجابه بنو لاوي، فأمرهم بأن يأخذوا السيوف، ويقتل بعضهم بعضاً، ففعلوا". ومما نراه قريباً في فهم القصة من الآية أن يكون بنو إسرائيل الذين عبدوا العجل، ثم ندموا على ما فعلوا، قد أمروا بقتل أنفسهم على أن يكون ذلك القتل متمماً لتوبتهم، وأسلموا أنفسهم للقتل، وقتل منهم طائفة أحرزوا فضل الشهادة، ثم إن الله تعالى رفع عنهم القتل كما ورد في بعض الروايات، وعفا عمن بقوا أحياء، وذلك معنى قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ}: اسم الإشارة {ذَلِكُمْ} عائد إلى التوبة والقتل المفهومين مما تقدم. وقال: {عِنْدَ بَارِئِكُمْ} وقد تقدم ذكره قريباً {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}، والمعروف في مثل هذا الموضع أن يكتفى بالضمير فيقال: عنده، ولكن قوانين البيان البارع تأذن في العدول عن الضمير إلى تكرير الاسم الظاهر متى أعطى الاسم الظاهر فائدة لا يعطيها الضمير، وهي أنه قال: {عِنْدَ بَارِئِكُمْ}؛ ليؤكد في نفوس المخاطبين ذلك المعنى الذي ينبئ به الاسم الظاهر، وهو أنه أوجدهم

من العدم، وصوّرهم فأحسن صورهم، فهو القادر على أن يفيض عليهم الخيرات الجزيلة، متى أسلموا له وجوههم، وآثروا إرضاء أهوائهم. والمعنى: أن قتل أنفسكم امتثالاً لما أمرتم به هو خير لكم من الإقامة على المعصية؛ فإن الموت آت لا محالة، وليس في تحمل القتل إلا تقديم ما لا بدّ منه. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}: هذا خطاب من البارئ تعالى موجّه إلى بني إسرائيل بعد أن انتهت محاورة موسى لهم بقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ}. وقد جاء هذا الخطاب على طريقة القرآن من الإيجاز؛ إذ حذفت منه جملة دل عليها معنى المنطوق به في النظم؛ أعني: قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} بعد قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}. والمعنى مع مراعاة الجملة المقدرة: فامتثلتم ما أمرتم به، فقبل البارئ توبتكم. والتوَّاب: قابل التوبة من عباده على كثرة ما يصدر منهم من الذنوب، وعلى عظم ما يرتكبون من الآثام. والرحيم: دائم الرحمة، أو واسعها؛ بحيث يشمل عباده بإحسانه ولطفه وتوفيقه على حسب ما تقضي به الحكمة. {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}: هذه محاورة من بني إسرائيل لموسى - عليه السلام - تتضمن طلبهم أن يروا الله معاينة. نادوا موسى باسمه، فقالوا: يا موسى! وورد دعاؤهم له باسمه عند محاورته في آيات متعددة، ومن أدب أصحاب نبينا-عليه الصلاة والسلام-: أنهم كانوا يدعونه بلقب الرسالة، فيقولون: يا رسول الله! والإيمان: التصديق. والرؤية: الإبصار. وجهرة: علانية ومعاينة. وكاد المفسرون يتواردون

على أن أصحاب هذه المحاورة كانوا مؤمنين بموسى- عليه الصلاة والسلام -، فيحمل قولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} على معنى: لانصدقك تصديقاً مطمئناً في النفس لا تحوم عليه شبهة، ولا يدنو منه ريب، وهو الإيمان الذي يدخل القلوب من طريق المعجزة الباهرة. {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}: {الصَّاعِقَةُ}: الموت، وما يكون سبباً للموت، من نحو: الصيحة، والنار تنزل من السماء. وبهذا المعنى نفسّر الصاعقة في الآية. وقال تعالى: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}، فأفاد أن العقوية نزلت عليهم وهم يشاهدونها، وفي مشاهدتها رعب وفزع يأخذ قلوبهم قبل أن يأخذ العذاب المهلك أجسامهم. وقد يخطر على البال أن هذه الآية تصلح لأن تكون دليلاً على عدم صحة رؤية الله بالعين الباصرة يوم القيامة؛ فإن الذين طلبوها سلط الله عليهم الصاعقة؛ كما سلط على عَبَدَه العجلِ القتل. ويُدفع هذا الخاطر بأن موسى - عليه السلام - قد علم أن رؤية الله ممكنة، فطلبها؛ كما جاء في سورة الأعراف: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]، وأعلمه الله أن رؤيته في الدنيا بالأبصار لا تقع، وصار هذا أصلاً معروفاً عنده وعند قومه، ولكن بني إسرائيل سألوا الرؤية بالأبصار بعد علمهم بذلك تعنتاً، أو لشك خالجهم، فأخذهم الله بالصاعقة وهم ينظرون؛ عقوبةً لهم على ما سألوا. وورد في الكتاب المجيد آيات تدل على أنه تعالى يُرى يوم القيامة؛ كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]. وورد أيضاً من الآيات ما يدل بظاهره على نفيها، ولكن الآيات المثبتة تأيدت بأحاديث صحيحة، فوجب المصير إليها، وفهمُ الآيات الأخرى على وجه يوافق الآيات

المؤيَّدة بالأحاديث الصحيحة الصريحة. {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ}: البعث في أصل اللغة: تحريك الشيء عن سكون، ومنه: بعث فلان الناقة: إذا أثارها من مبركها، ويستعمل بمعنى الإيقاظ كما ورد في قصة أهل الكهف: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف: 11 - 12]. وبمعنى الإحياء، وهو المراد في هذه الآية، بدليل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ}. وأبْعدَ في التأويل من ذهب في تفسير بعث هؤلاء القوم إلى كثرة نسلهم بدعوى "أنه بعدما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها، وظُن أن سينقرضوا، بارك الله في نسلهم". ولا داعي - فيما نرى - إلى العدول عن ظاهر الآية ما دامت الإماتة والإحياء بيد الله، وقد أخبر أنه أحيا هؤلاء القوم بعد إماتتهم، ولا يوجد في معنى هذا الخبر ما يُخل بوجه من وجوه الحكمة. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: حرف (لعلّ) هنا: ظاهر في معنى التعليل. والمعنى: أحييناكم بعد موتكم. لكي تشكروا الله على نعمه التي من جملتها رذُكم إلى الحياة بعد الموت، وكان إحياؤهم بعد هذا الموت نعمة تستوجب الشكر؛ من جهة أنهم يتمكنون به من الإيمان والعمل الصالح، وبذلك يدخلون في زمرة المفلحين. وهؤلاء القوم - وإن قبضت أرواحهم، وأصبحوا في عدد الموتى - قد صحّ تكليفهم بعد إحيائهم في الدنيا؛ لأن موتتهم كانت بمنزلة النوم أو الإغماء، فلم يشاهدوا فيها شيئاً من أحوال الآخرة؛ بخلاف الذين يبعثون من قبورهم يوم الحساب، لا يصح تكليفهم بعد بعثهم بإيمان ولا عمل

صالح؛ لأنهم رأوا رأي العين من أحوال الآخرة ما يجعل إيمانهم أو عملهم الصالح اضطرارياً، والتكليف إنما تتم حكمته وتظهر مزيته في أن يتجه الإنسان إلى ما كلف به، وهو على شيء من الاختيار. {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ}: نعمُ الله على بني إسرائيل أخروية، ومنها: ما ذكَّرهم به في الآية السابقة بقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}، ودنيوية، ومنها: ما ذكرهم به في هذه الآية. والغمام: جمع غمامة، وهي السحابة، وخصه بعض علماء اللغة بالسحابة البيضاء. والمعنى: جعلنا الغمام يُظلكم في النهار لمِقيكم حر الشمس، وكان هذا كما روى النسائي وغيره عن ابن عباس في مدة تيههم بين مصر والشام المشار إليه بقوله تعالى: {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26]. {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}: إنزال الشيء: تحويله من أعلى إلى أسفل، وهذا المعنى متحقق في المن والسلوى. ويستعمل بمعنى الإيجاد؛ كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6]. وقد اختلفت عبارات المفسرين في وصف المن، وأشهرها: أنه شيء يسقط على الشجر سقوط الثلج، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وتواردت عبارتهم على أن السلوى من نوع الطيور. والذي يؤخذ من ذكره بجانب المن أنه من أطيب الطيور طعماً. {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}: الأمر {كُلُوا}: للإذن؛ نحو: "فاصطادوا". والطيبات: جمع

طيب، وهو الحلال، أو اللذيذ المشتهى. ورزقناكم: جعلناه رزقاً لكم. ورزقُ الإنسان: نصيبه الذي يخصه دون غيره، وإن شئت فقل: هو ما يسوقه الله إليه لينتفع به. ويظهر الالتئام بين هذه الجملة وما قبلها بملاحظة فعل القول، والتقدير: وقلنا: كلوا من طيبات ما رزقناكم. وحذف القول- عندما ينساق إليه الذهن بقرينة واضحة - شائع في كلام العرب، كما قال فيه بعض علماء اللغة: حدّث عن البحر ولا حرج. {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: لما قص الله تعالى مساوئ من أفعال بني إسرائيل؛ نحو: اتخاذ العجل إلهاً، وسؤالهم رؤية الله بأبصارهم، ووصل ذلك بذكر النعم الدنيوية والأخروية التي كان يسبغها عليهم، استدعى ذلك أن يبعد عن الأذهان ما قد يخطر بها من أن تُسمى تلك القبائح التي كانت تصدر منهم ظلماً لله، فقال تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}؛ إذ لا يصل إليه تعالى نقص مما يرتكبون من الجرائم ولا ضرر، وإنما يرجع وبال ذلك إلى أنفسهم، والإخبار عن ظلمهم لأنفسهم بكلمة: {كَانُوا}، والفعل المضارع: {يَظْلِمُونَ} يدل على أن ظلمهم لأنفسهم كان يتكرر منهم؛ فإنك لا تقول في ذم زيد: "كان زيد يسيء إلى الناس"، إلا إذا كانت الإساءة تصدر منه المرة بعد الأخرى. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 58 - 60]. هذه الآية معطوفة على الآيات الواردة فيما تقدم لتذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم، وقد نبهت لنعمة من أجلّ هذه النعم، وهي تخليصهم من عناء التيه، والإذن لهم في دخول بلدة يجدون فيها راحة وهناءة. والقرية: المدينة، وتطلق على البلدة الصغيرة. ولم يتعرض القرآن لتعيين هذه القرية. وذهب جمهور المفسرين إلى أنها بيت المقدس. والظاهر أن الأمر بدخول القرية، كالأوامر السابقة واللاحقة، كان بوحي إلى موسى - عليه السلام -. {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}: الأمر بالأكل للإباحة. وقوله: {حَيْثُ شِئْتُمْ} تتمة للنعمة بالتوسعة ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الخامس من السنة الثانية.

عليهم؛ إذ أذن لهم في أن يتمتعوا بثمراث القرية وأطعمتها في أي مكان شاؤوا، والرغد: الواسع الهنيء. وهو مشعر بكثرة محصولات القرية، وعدم غلاء أسعارها. {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}: الباب: مدخل القرية. و {سُجَّدًا}: جمع ساجد؛ من السجود، وهو وضع الجبهة على الأرض. ويستقيم هذا التفسير بجعل قوله: {سُجَّدًا} من قبيل الحال المسماة: "الحال المقدرة"، وهي التي تقع بعد وقوع العامل، لا معه، والعامل في الآية: الدخول. والسجود إنما يتيسر بعد انتهاء الدخول. وهذا الضرب من الحال وارد في الكلام البليغ؛ كما قال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]. فإن الحلق والتقصير إنما يكون بعد الدخول، ومعنى الآية: ادخلوا باب القرية ناوين السجود شكراً لله على ما أنعم به عليكم؛ من إخراجكم من التيه، والمُقام ببلدة تعيشون فيها عيشة ناعمة. {وَقُولُوا حِطَّةٌ}: الحطّة: من حط بمعنى: وضع، وقد وردت هذه الكلمة وهي مفردة في معرض الحكاية بالقول: {وَقُولُوا حِطَّةٌ}، والمعروف أن القول لا يحكى به إلا الجمل، ولا يحكى به المفردات، إلا أن يكون المفرد في معنى الجملة؛ نحو: شعر، وخطبة، وهذا ما دعا المفسرين إلى فهم الآية على وجه يجري به القول على أصله من حكاية الجمل. ومن أقرب ما تفسر به الجملة أن يكون {حِطَّةٌ} مصدراً مراداً منه طلبُ حط الذنوب. وقد يجيء المصدر المراد منه الطلب مرفوعاً؛ نحو: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54]، ويحمل من جهة

صناعة الإعراب على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: مسألتنا حطة؛ أي: أن تحط عنا ذنوينا. والاقتصار في لفظ الجملة على الخبر وحده عند قيام قرينة تدل على المبتدأ، من أساليب الإيجاز المعدود في أبدع فنون البيان. {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ}: الغَفْر في أصل اللغة: الستر. وغفر الله الذنب: غطى عليه، وعفا عنه. والخطايا: جمع خطيئة، وهي الذنب، مأخوذة من خطئ؛ أي: ارتكب ذنباً، فهو خاطئ، ومن علماء اللغة من خصّ خطئ بارتكاب الذنب على عمد، بخلاف أخطأ، فإنه يستعمل بمعنى الوقوع في غير صواب مع القصد إلى الصواب، وهو المراد في قوله - عليه الصلاة والسلام -: "من اجتهد وأخطأ، فله أجر". {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}: المحسن لغةً: فاعلُ الحسن، ويراد منه في لسان الشارع: من أحكم عقيدة التوحيد، وأجاد سياسة نفسه، وأقبل على القيام بالواجبات، وكفى الناس شره. وزيادة الله للمحسنين: بأن يزيدهم على ما يستحقون من الثواب تفضلاً منه؛ كما قال تعالى في آية أخرى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر: 30]. {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}: التبديل: التغيير، وهو إزالة الشيء عما كان عليه؛ بإعطائه صورة غير الصورة التي كان عليها، أو تنحيته وجعل شيء آخر مكانه. والفعل "بدّل" يقتضي بدلاً ومبدلاً منه؛ {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70].

فالحسنات بدل، والسيئات مبدل منه. واقتضى مقام الإيجاز في الآية أن يقتصر فيها على ذكر البدل، وهو القول الذي لم يُقل لهم، ويحذف المبدل منه، وهو القول الذي قيل لهم. ومعنى الآية بعد ملاحظة المبدل منه المقدر: فبدل الذي ظلموا بالقول الذي أمرهم الله به قولاً آخر أتوا به على وجه العناد أو الاستهزاء. والآية تدل بظاهرها على انقسامهم إلى ظالمين وغير ظالمين، وأن الذين بدلوا هم فريق الظالمين منهم. ومأخذ العبرة من الآية: أن من أمره الله بان يقول قولاً، فترك القول الذي أمر به، وأتى بقول آخر مكانه، يدخل في قبيل الظالمين، ويتعرض بنفسه لأن يصيبه عذاب أليم. ومِثْلُ القول في مجرى القياس الصحيح: الفعلُ، فمن أمره الله بأن يفعل شيئاً، فترك الفعل الذي أمر به، ووضع مكانه فعلاً لم يأذن به الله، عُدّ ظالماً، واستحق العذاب الذي وعد الله بأن يصبه على رؤوس الظالمين. وكلا المغيرّين لما أمر الله به من قول أو فعل ضالّ مستحق لأن يكون مصيره سوء العذاب؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته كما ورد في "صحيح مسلم": "فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هَدْي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"، وفي رواية النسائي: "وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار". {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}: الرجز: العذاب. ولم يبين القرآن نوع هذا الرجز؛ إذ لم يدْع الحال إلى بيانه. والفسوق في أصل اللغة: الخروج، يقال: فسقت الرطبة عن القشر: إذا خرجت منه. وفي لسان الشارع: الخروج عن طريق الحق بكفر أو

معصية، ومقتضى ما تقدم؛ أعني قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا}: أن يكون المقام للإضمار، فيقال: فأنزلنا عليهم. ولكن أعيد الاسم الظاهر المتقدم، فقال: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}؛ تاكيداً لوصفهم بأقبح الأفعال، وهو الظلم، وإشعاراً بأن السبب فيما نزل عليهم من العذاب هو ظلمهم؛ أخذاً بالقاعدة المعروفة في البيان، وهي أن تعليق الحكم الوارد في الكلام على اسم الموصول يؤذن بأن سبب هذا الحكم هو الوصف الذي اشتقت منه الصلة، فتعليق الحكم الذي هو إنزال العذاب على اسم الموصول، وهو: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} يشعر بأن السبب في إنزال العذاب هو الوصف الذي اشتقت منه الصلة {ظَلَمُوا}؛ أعني: الظلم. أشعر قوله: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بأن سبب إنزال العذاب عليهم هو ظلمهم، وأكد هذا الإشعار بصريح من القول، فقال: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}.ومن الجليّ أن الباء في قوله: {بِمَا كَانُوا} للسببية، والمعنى: فأنزلنا على أولئك الظالمين عذاباً انصبَّ عليهم من جهة السماء عقوبةً لهم على ما كانوا يأتونه من الفسوق المرة بعد الأخرى. {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ}: هذا تذكير لبني إسرائيل بنعمة من عظيم نعمه، هي أنهم وقتما كانوا في التيه أدركهم عطش شديد، فأغاثهم الله بمياه غزيرة من حيث لم يحتسبوا، واستسقى في اللغة: طلب السقيا. والاستسقاء يكون عند عدم الماء، أو حبس المطر، وهو في الشريعة على ما ورد في السنة، إما بالدعاء في خشوع واستكانة، وإما بالخروج بالناس إلى المصلى، والصلاة بهم ركعتين كصلاة العيد من غير أذان ولا إقامة.

{فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ}: من أين جاءت هذه العصا إلى موسى - عليه السلام -؟ وكيف كانت صفتها؟ يحكي في ذلك المفسرون أقوالاً مختلفة، كما أن الآثار اختلفت في مصدر هذا الحجر الذي ضرب بها، وفي وصفه، ويكفي في فهم معنى الآية، واستفادة أن ما تضمنته من واقعة انفجار الماء إنما كان على وجه المعجزة، أن تعلم أن العصا كانت لموسى {بِعَصَاكَ}، وأن الحجر الذي ضرب بها كان من الصخر الذي ليس من شأنه الانفجار بماء. {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا}: انفجرت: انشقت. والعين: منبع الماء، يقال: انفجرت العين: إذا انشقت، وانصبّ ماؤها بشدة. والضمير في قوله: {مِنْهُ} عائد إلى الحجر. وبين هذه الجملة والجملة قبلها جملة محذوفة من النظم، لوضوح دلالة المعنى عليها. والتقدير: فضرب، فانفجرت. وكانت العيون اثنتي عشرة عيناً؛ لأن بني إسرائيل كانوا اثني عشر سبطاً، والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وهم ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر. {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}: في هذه الجملة تنبيه لحكمة الانقسام إلى اثنتي عشرة عيناً. وعلم: عرف. وكل أناس: أي: كل سبط. والمشرب: مكان الشرب، والجهة التي يجري منها الماء، وهي العين. والمعنى: قد عرف كل سبط العين التي صارت له، فلا يتعداها إلى غيرها، وخص كل سبط بمشرب معروف له؛ منعاً لما

عساه أن يثور بينهم من التنازع والشحناء. {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ}: هذه الجملة خطاب من الله لبني إسرائيل في الإذن لهم بأن يتمتعوا بما مَنَّ الله به عليهم من مأكول طيب، ومشروب هنيء. ويرتبط معنى الجملة بما قبلها بملاحظة فعل من القول دل على مكانه المعنى بوضوح. والتقدير: وقلنا: كلوا وا شربوا. والرزق: المرزوق من الطعام والشراب. وفي إضافته إلى الله تعالى: {رِزْقِ اللَّهِ} تعظيم للمنة، وإيماء إلى أنه رزق حاصل لهم من غير تعب ولا مشقة. {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}: تعثوا: من عثى يعثي عثياً؛ أي: أفسد. ويقال: عثا يعثو عثواً، فمعنى لا تعثوا: لا تفسدوا. والأرض: هذه المعمورة المقابلة للسماء. ومن أفسد في بيت أو بلد أو قطر، صحّ أن يقال له: لا تفسد في الأرض، وصحّ أن يقال وقتئذ: وقع اليوم فساد في الأرض. والفساد إذا وقع من الناس إنما يقع في الأرض. وفي التصريح بذلك مبالغة في تقبيح الفساد؛ حيث إنه يقع على وجه البسيطة، وقد خلقها مالكها لينتفع بها الناس، وليعملوا عليها صالحاً. وقوله: {مُفْسِدِينَ} حال مؤكدة، والتأكيد يرجع إلى النهي عن العثي، ووجه فصاحة هذا الأسلوب: أن المتكلم قد تشتد عنايته بأن يجعل الخبر أو الأمر أو النهي قارّاً في نفس السامع، واقعاً موقعاً لا يحوم به لبس، ومن مظاهر هذه العناية: التوكيد، وللتوكيد في العربية طرق مألوفة، منها:

إتباع الفعل بالمصدر، نحو قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]، ومنها: اشتقاق وصف من الفعل وإيراده في صورة الحال؛ نحو: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النساء: 79]، أو من فعل موافق له في المعنى، نحو: {وَلَّى مُدْبِرًا} [النمل: 10]. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، فقوله: {مُفْسِدِينَ} يكسو النهي عن الفساد قوة، ويجعله بعيداً من أن يغفل عنه أو ينسى. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 61 - 62]. {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ}: هذا تذكيو لهم باجابة رغبة من رغباتهم بعد إشعارهم بأنها رغبة ناشئة عن ذوف لا يقدر النعمة قدرها. والصبر: حبس النفس على الشيء، بمعنى: لزومه، ومنه: الصبر على الطاعات، أو حبسها عنه بمعنى: كفها، ومنه: الصبر عن المعاصي. والطعام: ما رُزقوا في التيه من المن والسلوى. ووصفوه بالوحدة، مع أن المن والسلوى نوعان؛ لأنهم أرادوا من الوحدة عدم التبدل ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السادس من السنة الثانية.

والاختلاف؛ فإنهما كانا على نهج واحد من الطيب واللذة، ولو التزم الرجل أطعمة لا يوضع غيرها على مائدته، صح أن يقال: إن فلاناً لا يأكل إلا طعاماً واحداً، يراد بالواحد: ما لا يتبدل، ولا يختلف. {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ}: الدعاء: الرغبة إلى الله، وسألوا موسى أن يدعو لهم؛ لأن دعاء الأنبياء-عليهم السلام- أقرب إلى الإجابة من دعاء غيرهم، وكذلك دعاء الصالحين؛ حيث يصدر من قلوب عامرة بتقوى الله وإجلاله، يلاقي من الإجابة ما لا يلاقيه فيه دعاء نفوس تستهويها الشهوات، ولا ترعى جلال الله حق رعايته. {يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا}: إخراج النبات: إظهاره بإيجاده، والمنبت له في الحقيقة هو الخالق - جلّ شأنه -. وإسناده إلى الأرض في قوله: {تُنْبِتُ الْأَرْضُ} أخذاً بعادة إسناده إلى الأرض على وجه المجاز. وإسناد الفعل إلى المكان الذي يقع فيه أسلوب عربي فصيح، والحقيقة في قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7]. والبقل: ما تنبته الأرض من الخضر مما يأكله الناس والأنعام. والمراد: ما يأكله الناس من نحو النعناع والكراث وشبهه. والفُوم: الحنطة، قال الزجاج: لا خلاف عند أهل اللسان أن الفوم: الحنطة. وقال الكسائي: هي: الثوم، والعدس والبصل معروفان. والظاهر من حال القوم: أن نفوسهم كرهت المنّ والسلوى، ورغبت في أن يكون البقل وما عُطف عليه بدلاً منهما. لا أن يرزقاه زيادة عليهما،

وبهذا يظهر معنى قوله تعالى: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}: القائل إما الله تعالى على لسان موسى - عليه السلام -، وإما موسى نفسه. والاستفهام لإنكاره عليهم سوء اختيارهم، وإيثارهم الأدنى على ما هو خير، وهو المن والسلوى، والاستبدال: الاعتياض. وفعل الاستبدال يتعدى إلى المأخوذ المرغوب فيه بنفسه، وإلى المتروك بالباء، والمرغوب فيه هنا: ما هو أدنى، وهو البقل وما عُطف عليه، والمتروك: ما هو خير، وهو المن السلوى. {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}: الهبوط: النزول. تقول: هبط الوادي: إذا نزل به، وهبط منه: إذا خرج. ومصر: يطلق على البلد العظيم، ويحتمل أن يراد منه هذا البلد المسمّى مصر. حكى أشهب عن مالك أنه قال: هي مصر قريتك، والمعنى: انتقلوا من التيه إلى مصر، فإنكم تجدون بها ما طلبتموه من البقل والحنطة وأشباهها. {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}: {الذِّلَّةُ}: الهوان. والمسكنة: الخضوع. وضربُ الذلة والمسكنة عليهم كناية عن إحاطتهما بهم كما تحيط القبّة بمن ضربت عليه؛ كما قال زياد الأعجم في عبد الله بن الحشرج:

إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}: باؤوا: رجعوا. وغضبُ الله: صفة من صفاته نعرف من آثارها الإهانة والانتقام. والمعنى: حقّ عليهم غضب الله، ومن حق عليه غضب الله، ألحق به العقوبة في الوقت اللائق بها. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}: هذا بيان لوجه إيقاعهم في الذلة والمسكنة، ونزولِ غضب الله عليهم. واسم الإشارة {ذَلِكَ} إشارة إلى هذين الأمرين العظيمين المشار إليهما في الآية السابقة. وكثيراً ما يشار باسم الإشارة المفرد إلى أشياء ذكرت قبله؛ نظراً إلى أنها صارت حاضرة في ذهن المخاطب بصورة تسمى بالمذكور سابقاً. والآيات: جمع آية. والآية تستعمل بمعنى: المعجزة، وبمعنى: النص المنزل على الرسول. ومن كفر بمعجزات الرسول، لم يؤمن بالنصوص المنزلة عليه، ومن هنا صح تفسير {بِآيَاتِ اللَّهِ} بالمعجزات، وبالنصوص الموحى بها. وكان هؤلاء القوم من بني إسرائيل؛ لاغراقهم في الكفر والفساد، يقتلون النبيين حيث يأمرونهم بمعروف، أو ينهونهم عن منكر. وقال: {بِغَيْرِ الْحَقِّ}، وقتلُ الأنبياء لا يكون بحق البتة؛ لزيادة التشنيع بقبح عدوانهم، ويشبه هؤلاء الطغاة الأمراء الذين ينحطون في أهوائهم، وتأخذهم العزة بالإثم، حيث يُسدي لهم العالم الأمين النصيحة في أمر يخرجون به عن

حدود الشريعة الغراء، فيضمرون له البغضاء، ويتأهبون لأن يلحقوا به الأذى ما استطاعوا. {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}: العصيان: الخروج عن طاعة الله. والاعتداء: مجاوزة حدوده تعالى. واسم الإشارة {ذَلِكَ} مشار به إلى الكفر، وقتلِ الأنبياء في الجملة السابقة. والباء للسببية. والمعنى: أن تمردهم في عصيان الله، وتجاوزهم حدوده المرة بعد الأخرى، زادهم عماية حتى استحبوا الكفر، ومردوا عليه، وامتدّت أيديهم إلى قتل الأنبياء بقلوب كالحجارة أو أشد قسوة. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}: لما أورد في الآيات السابقة وعيد اليهود على الكفر وارتكاب أفظع المعاصي بضرب الذلة والمسكنة عليهم، وحلول غضب الله بهم، أردف في هذه الآية ذلك الوعيدَ بالوعد على الإيمان الصادق والعمل الصالح؛ أخذاً بسنّة القرآن في وصل الإرهاب بالترغيب، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} ... إلخ الآية. فذكر أربعة فرق من الناس، وأشار إلى الفريق الأول بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا}، وهم المؤمنون بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -. وابتدأ بالمؤمنين المسلمين في ذكر من لا يفلحون إلا بالإيمان والعمل الصالح؛ إشعاراً بأن الإسلام قائم على أن الفوز عند الله لا ينال إلا بالإيمان والعمل الصالح، ولا فضل لأمة على أمة إلا بهذه الوسيلة. {وَالَّذِينَ هَادُوا}: {هَادُوا}: دخلوا اليهودية، وهي الديانة التي جاء بها موسى - عليه السلام -، نُسبت إلى يهود معرّب يهوذا - بالذال -، وهو أكبر أبناء يعقوب،

كما يروى، وإن لم يكن جميعهم من أبنائه، وأشار إلى الفريق الثالث بقوله: {وَالنَّصَارَى}: هم قوم عيسى - عليه السلام -، جمع نصران، ويقال: نصراني، وهو الأكثر في الاستعمال، ووجه هذا الاسم أنهم كانوا أنصاراً له. وقيل: هو مأخوذ من الناصرة، وهي القرية التي كان نزلها عيسى - عليه السلام -. {وَالصَّابِئِينَ}: جمع صابئ. وكان الصابئة ينسبون دينهم إلى نوح - عليه السلام -، ثم صاروا إلى الشرك، وبقيت منهم باقية على التوحيد. والمشركون منهم قالوا: إنا نحتاج في معرفة الله وأحكامه إلى متوسط روحاني، ولما لم يتيسر لهم مشاهدة الروحانيات "الملائكة"، والتلقي عنهم، فزعوا إلى الكواكب بزعم أنها هياكل للروحانيات، وصاروا يعبدون هذه الكواكب. ثم إن جماعة منهم قالوا: إن الهياكل لا تُرى في كل الأوقات؛ لأن لها طلوعاً وغروباً، فبدا لهم أن يتخذوا أصناماً على مثال الهياكل، ونصبوا كل صنم في مقابلة هيكل. وقد بعث الله إبراهيم- عليه السلام - فحاجّ الفريقين. وذكر الصابئة في هذا المقام، وهم من أبعد الأمم ضلالاً؛ لينبه على أن الإيمان الصحيح والعمل الصالح يرفعان صاحبهما إلى مرتقى الفلاح، وإن سبق له أن بلغ في الكفر والفجور أقصى غاية. {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا}: من لم تبلغهم دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهها، وكانوا ينتمون إلى دين صحيح في أصله، متى كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويعملون الأعمال

الصالحة على وجه ما أرشدهم إليه الدين الذي ينتمون إيه، فلهم أجور على إيمانهم، وعلى ما عملوا من خير. وأما الذين بلغتهم دعوة الدين الحنيف، ولم يقبلوها، فلا ينفعهم إلا أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر، ومن بعث بالشريعة العامة الخالدة، ولا ينالون من أجر الآخرة إلا على ما يعملون من صالح، والعمل الصالح في عرف الشرع الإسلامي: ما يبتغى به وجه الله، ويكون موافقاً للوضع الذي اعتد به الشارع في العبادات والمعاملات، والحكم والقضاء. والإيمان المشار إليه في قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ} يُفهم بالنسبة لليهود والنصارى والصابئين بمعنى صدور الإيمان منهم على نحو ما قرره الدين الحق، وُيفهم بالنسبة إلى المؤمنين المشار إليهم بقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا} على أنه مراعى فيه معنى الثبات والاستدامة، وبذلك ينتظم عطف: {وَعَمِلَ صَالِحًا} على قوله: {آمَنَ}، مع مشاركتهم لتلك الفرق فيما يترتب عليهما من الفوز بالأجر، وعدم الخوف والحزن في الآخرة. {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}: الأجر: الجزاء على العمل، وسمىّ الله ما يعطيه للمؤمن العامل أجراً على وجه التفضل منه، وقال: {عِنْدَ رَبِّهِمْ}؛ ليدل على عظم الجزاء من وجهين: أحدهما: أن ما يكون عند الله من الجزاء على العمل لا يكون إلا عظيماً، وثانيهما: أن المجازي لهم ربهم الذي عرفوه بصفة الحنان والكرم، والحنّانُ الكريم لا يعطي إلا ما يقرّ العين، ويفوق الوصف. والخوف: الفزع. والمعنى: لا يفزعون من هول يوم القيامة كما يفزع الكافرون، ولا يفوتهم نعيم فيحزنون كما يحزن المقصّرون.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 63 - 69]. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ}: الميثاق: العهد. والمراد من العهد: الإيمان الصحيح، والعمل الصالح، على وفق ما جاء في التوراة. وهو تذكير لبني إسرائيل بنعمة من أمثال النعم الواردة في الآيات السابقة؛ لأن أخذ ميثاقهم؛ ليعملوا بما في التوراة من المصالح العائدة إليهم. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السابع من السنة الثانية.

{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّور}: الرفع: الإعلاء. والطور: الجبل الذي ناجى الله به موسى - عليه السلام -. {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}: هذه الجملة محكية بقول محذوف دل عليه المعنى. والتقدير: وقلنا: خذوا ... إلخ. وما آتاهم: الكتاب؛ أعني: التوراة. والقوة: الجد والعزم والاجتهاد. وأخذ الميثاق كان قبل رفع الجبل فوقهم، على ما جاء في ترتيب النظم. ورفع الجبل لإشهادهم آية من آيات الله تقوي إيمانهم بأن التوراة منزلة من عند الله، وقوة الإيمان من شأنها أن تدفع إلى العمل بما في الكتاب المنزل بجد وعزم واجتهاد. {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: ذكرُ ما في الكتاب: بمدارسته، وتدبر أمره ونهيه، والمحافظة على العمل به. و (لعل) في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إما للتعليل، والمعنى: اتعظوا بما في الكتاب، لتتقوا الهلاك في الدنيا، والعذاب في الآخرة، وإما للترجي، والترجي مصروف إلى المخاطبين، والمعنى: اذكروا ما في الكتاب وأنتم ترجون أن تكونوا من فريق المتقين. {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}: {تَوَلَّيْتُمْ}: أعرضتم، والمشار إليه بقوله: {ذَلِكَ}: أخْذُ الميثاق، وقبول ما أوتوه من الكتاب. والمعنى: أعرضتم عن الميثاق بعد أخذه، أو عن الكتاب الذي أوتيتموه بعد أن قبلتموه.

{فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: {فَضْلُ اللَّهِ}: توفيقهم للتوبة. ورحمته: عفوه عن زلاتهم. والخسران: الهلاك. والمعنى: لولا أن الله وفقكم للتوبة، وعفا عن زلاتكم، لكنتم من الهالكين في الدنيا والآخرة. {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ}: {عَلِمْتُمُ}: عرفتم. والسبت: اسم لليوم المعروف من الأسبوع. وهذه إشارة إلى قصة هي أن الله تعالى حرّم على بني إسرائيل صيد الحيتان يوم السبت، وابتلاهم الله بأن كانت الحيتان تجيئهم يوم السبت دون سائر الأيام، فاتخذوا الحيلة لصيدها يوم السبت؛ كحفر حفير يقع فيه السمك، ويبقى فيه بعد جزر البحر، ثم صاروا يصيدونها يوم السبت علانية. {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}: القردة: جمع قرد، وهو الحيوان المعروف. والخسء: الصغار والذلة. وقوله: {كُونُوا} ليس بأمر على الحقيقة؛ لأن صيرورتهم قردة ليست في استطاعتهم، وإنما المراد منه: بسرعة الكون قردة، أو على وصف القردة. وجمهور المفسرين على أنهم مسخوا قردة على الحقيقة. وأكثرهم على أن من مُسخوا انقرضوا، ولم يعقبوا نسلاً. وقال مجاهد: لم تمسخ صورهم، ولكن مسخت قلويهم، فلا تقبل وعظاً، ولا تعي زجراً، فهو مثل ضربه الله لهم. {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}: الضمير في قوله: {فَجَعَلْنَاهَا} عائد إلى كينونتهم قردة المفهومة من قولى: {كُونُوا قِرَدَةً}. والنكال: العبرة؛ لأنها تنكل المعتبر بها؛ أي: تمنعه

من أن يرتكب مثل ما أصاب غيره من سوء العاقبة. و {يَدَيْهَا}: تثنية يد، وهي العضو المعروف. ويقال: الشيء بين يدي فلان؛ أي: حاضر، وعلى مشهد منه. {خَلْفَهَا}: بعدها. والمعنى: جعلنا مسخهم قردة عبرة لمن شهدها وعاينها، وعبرة لمن جاء بعدها ولم يشاهدها، وإنما تلقَّى خبرها من طريق موثوق به. وخص المتقين بإضافة الموعظة إليهم؛ لأنهم الذين ينتفعون بالعظة والتذكير، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]. وقال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}: هذا بيان لضرب من مساوئ بني إسرائيل في تعنتهم وعدم مسارعتهم لا متثال الأوامر، وجفائهم في مخاطبة موسى - عليه السلام - والظاهر: أن أمرهم بذبح البقرة كان بعد تنازعهم في أمر قاتل النفس على ما يرد في الآية من بعد، ولما لم يظهر لهم من ذبح البقرة مناسبة لسؤالهم عن القاتل، قالوا: أتتخذنا هزواً؟. وابتدأ القرآن القصة بالأمر بذبح البقرة، ولم يقل مثلاً: وإذ تنازعتم في القتيل، أمرناكم بذبح بقرة ... إلخ؛ لتقبل النفوس على تعرف ماذا يراد من ذبح البقرة، وتتشوق إلى ما يرد من الخبر المتصل به، وهو أمر القتل، فيقع منها موقع الأخبار المتلقاة بعد التشوق إليها، ويأخذ منها مأخذاً وثيقاً. {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}: الهزؤ: السخرية. ويلتئم المعنى بتقدير مضاف، والمعنى: أتتخذنا

موضع هزؤ؟ أو يحمل المصدر على معنى اسم المفعول، والمعنى: أتجعلنا مهزوءاً بنا؟ وكلا الوجهين معروف في الفصاحة العربية. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الاستفهام صادر عن سوء اعتقاد بنبيهم وتكذيبهم له، ومن المحتمل أن يكون صادراً عن جفاء وغلظ في الطبع، كما فعل الأعرابي الذي جبذ النبي - صلى الله عليه وسلم -بردائه حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه، وقال له: احمل لي على بعيريَّ هذين من مال الله الذي عندك، كما رواه الشيخان، وفي رواية البيهقي: "فإنك لا تحمل لي من مالك، ولا من مالِ أبيك". {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}: لما كان قولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} يدل على اعتقادهم أن موسى أخبر عن الله بما لم يأمر به، أجابهم موسى بقوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}. وأعوذ: من العوذ، وهو الالتجاء. والإخبار عن الله بما لم يأمر به من أسفل دركات الجهل. والمعنى: ألتجئ إلى الله من أن كون في زمرة الجاهلين. ونبهت الآية على أن الاستهزاء بأمر من أمور الدين جهل كبير، ومن الجهل ما يلقي صاحبه في أسوأ العواقب، ويقذف به في عذاب الحريق. ومن هنا منع المحققون من أهل العلم استعمال الآيات كأمثال يضربونها في مقام المزح والهزل، وقالوا: إنما أنزل القرآن ليتلى بتدبر وخشوع، وقصد إلى المحافظة على العمل به. {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}: هذا سؤال عن حال البقرة وصفتها؛ إذ وقع في نفوسهم أن البقرة التي يكون لها أثر في معرفة قاتل القتيل لا بد أن تكون على صفة خارجة عما

عليه سائر البقر. {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}: الفارض: المسنّة؛ لأنها فرضت؛ أي: قطعت سنّها، وبلغت آخرها. والبكر: الفتية، وقيل: هي التي لم تلد من الصغر. والعوان: متوسطة السن، وقيل: هي التي ولدت بطناً أو بطنين. وقوله: {ذَلِكَ} مشار به إلى ما ذكر من الوصفين السابقين: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ}، فرعاية لكونهما في معنى: ما ذكر، صح أن يجيء اسم الإشارة مفرداً، ورعاية لكون المشار إليه وصفين في الواقع، صح أن تضاف إليه كلمة {بَيْنَ}، وقاعدتها أنها لا تضاف إلا إلى متعدد. {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}: الأقرب إلى الذهن أن يكون هذا خطاباً من موسى - عليه السلام - ينصحهم به أن يتركوا إمعانهم في الأسئلة، ويسارعوا إلى طاعة الله بقدر ما يفهم من خطاب الأمر الموجه إليهم. {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}: بعد أن وصف لهم البقرة من جهة سنها، سألوا عن لونها. والفقوع: شدة الصفرة: يقال: أصفر فاقع؛ أي: شديد الصفرة، كما يقال: أحمر قانٍ؛ أي: شديد الحمرة. والسرور: لذة في القلب عند حصول نفع، أو توقعه، أو رؤية أمر معجب. وقال: {النَّاظِرِينَ} بصيغة الجمع؛ ليدل على كمال حسن منظرها؛ بحيث إنها تسر كل من ينظر إليها.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 70 - 74]. {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}: أعادوا السؤال عن حال البقرة بعد أن عرفوا سنها ولونها؛ ليزدادوا بياناً لوصفها. {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}: أي: إن البقر الموصوف بكونه عواناً، ويالصفرة الفاقعة، كثير، فاشتبه علينا، فلم ندر ما البقرة المأمور بذبحها. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثامن من السنة الثانية.

{وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}: هذا إخبار بأمل أنهم سيهتدون إلى البقرة المأمور بذبحها، وفي تعليق اهتدائهم بمشيئة الله دليل على إنابتهم وندمهم على ترك سرعة الامتثال للأمر. {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ}: الذلول: من الذل - بضم الذال وكسرها -، وهو ضد الصعوبة، يقال: بقرة ذلول؛ أي: ريّضة زالت صعوبتها، وإثارة الأرض: تحريكها وبحثها بالحرث والزراعة. والحرث: شق الأرض ليبذر فيها الحَبّ. والمقصود: نفي الذل وإثارة الأرض عن البقرة، فهي ليست بذلول تستعمل لإثارة الأرض بالحرث، كما أنها لم تستعمل لسقي الحرث. {مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا}: المسلَّمة: من السلامة؛ أي: مخلَّصة ومبرأة من العيوب. والشِّيَة: اللمعة المخالفة لبقية لون الشيء، فهي سليمة من كل عيب، وليس فيها لون يخالف لونها الذي هو الصفرة الفاقعة. {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}: {الْآنَ}: ظرف بمعنى الزمان الحاضر. والحق: الحقيقة. والمعنى: الآن جئت بحقيقة وصف البقرة؛ حيث استوفيتَ وصفها من جهة السن واللون، وكونها من السوائم لا العوامل، فلم يبق اشتباه في أمرها. {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}: من إيجاز القرآن أن حذف من صدر هذه الجملة جملتين مفهومتين من نظم الكلام. والتقدير: فطلبوا البقرة الجامعة للأوصاف السابقة، وحصّلوها، وذبحوها.

{وَمَا كَادُوا}: ما قاربوا، {يَفْعَلُونَ}: يذبحون. والمعنى: لم يقربوا من ذبح البقرة المأمور بها في أول الأمر؛ إذ تعسر عليهم تحصيلها، وصار بعيداً من أن تناله أيديهم، ثم اهتدوا إليها بعد ذلك التعسر، فذبحوها. {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}: النفس: الشخص. وادارأتم: أصله تدارأتم، ثم أدغمت التاء بعد إسكانها في الدال، وأتى بهمزة الوصل ليتوصل بها إلى النطق بالساكن، فصار ادّارأتم. ومعنى ادارأتم: تدافعتم؛ أي: اختلفتم وتنازعتم؛ لأن المتنازعين يدرأ بعضهم بعضاً؛ أي: يدفعه. والنفس: الروح، وترد بمعنى: الشخص، ويؤتى بالضمير العائد إليها مؤنثاً، ولهذا قال: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}. وهذه الآية خطاب لبني إسرائيل المعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم -، جرى على الأسلوب المعروف في مخاطبات الأقوام؛ إذ ينسب إلى الأخلاف ما فعل أسلافهم؛ اعتماداً على القرينة القائمة على أن الفعل صادر من الأسلاف. ويستعمل هذا الأسلوب عند القصد إلى ذم المخاطبين، والتنبيه على أنهم ليسوا من أسلافهم في الانحراف عن سبيل الرشد ببعيد. وهذه الواقعة، واقعة قتل النفس وتنازعهم فيها، جرت قبل أمرهم بذبح البقرة، وإن وردت في الذكر بعده، وقد نبهنا على أن تقديم الأمر بذبح البقرة في الذكر مجرداً عن الإشعار بواقعة أمر القتل؛ لتتشوف نفس السامع إلى ماذا يقصد من ذبحها، فيقع عند ذكره موقع ما تهتم به، شأن ما تتلقاه عند استشرافها إليه.

{وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}: {مُخْرِجٌ}: مُظهِر. وما كانوا يكتمون: هو أمر القتيل والقاتل. والجملة معترضة بين قوله: {فَادَّارَأْتُمْ}، وقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ}، والجملة المعترضة بين ما أنهما الاتصال تجيء تحلية يزداد بها الكلام البليغ حسناً. وفائدة هذه الجملة: إشعار المخاطبين- قبل أن يسمعوا ما أمروا بفعله لإظهار أمر القتل- بأن الحقيقة ستنجلي لا محالة. {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}: ضرب الشيء بالشيء: إيقاعه عليه. والضمير في قوله: {اضْرِبُوهُ} يعود على النفس، وتذكيره مراعى فيه معناها الذي هو الشخص أو القتيل. والقرآن لم يعين البعض الذي يضرب به، فأي قطعة ضربوه بها، فقد فعلوا ما أمروا به. {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى}: في الآية إيجاز؛ إذ حُذف ما بين هذه الجملة والجملة التي قبلها جملتان دل عليهما سياق الكلام دلالة واضحة. والتقدير: فضربوه ببعض البقرة، فأحياه الله. والدليل على هذا المقدر: قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} بعد قوله: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}. والكاف في قوله: {كَذَلِكَ} للتشبيه. واسم الإشارة مشار به إلى المشبه به، وهو إحياء ذلك القتيل الدال عليه الجملة المقدرة: "فأحياه الله"؛ أي: مثل إحياء ذلك القتيل بعد موته يحيى الله الموتى للحساب والجزاء يوم القيامة.

والآية ظاهرة في أن الذي ضرب ببعض البقرة صار حياً بعد أن زهقت روحه. وقد تعاطى تفسير الآية شيخان معاصران، أحدهما كتب في التفسير، والآخر كتب في قصص الأنبياء، وقد ذهبا مذهب التعسف في التأويل. أما الكاتب في التفسير، فقد جعل آيات: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} من تتمة القصة المبتدأة بالأمر بذبح البقرة كما يقول أهل العلم من السلف، ولكنه يرى أن ذبح البقرة وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في أمر القتل، لتعرُّف الجاني. وقال: "فمن غسل يده، وفعل ما رسم لذلك في الشريعة - أي: شريعتهم- برئ من الدم، ومن لم يفعل، تثبت عليه الجناية". ومعنى إحياء الموتى-على تفسيره-: حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس التي يحييها بمثل هذه الأحكام، وهذا الإحياء على حد قوله تعالى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، فالإحياء هنا معناه: الاستبقاء كما هو المعنى في الآيتين". والمؤلف في قصص الأنبياء قد جعل آيات: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} قصة مستقلة عن قصة ذبح البقرة المشار إليها بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}، وزعم أن قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} بمعنى: اضربوا المتهم ببعض النفس، وهي القتيل، فإذا كان قاتلاً، ظهر عليه انفعال نفسي ورعدة يعلم بسببها أنه القاتل دون سواه، أو هو على اتصال به. وجرى في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} على ما جرى

عليه سلفه في التفسير. وكل من هذين الرأيين مخالف لما ورد عن السلف، وبعيد عن أسلوب القرآن وبلاغته، ولو كان المراد من قوله: {يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} معنى الآيتين، لقال مثلاً: كذلك يحيي الله الناس، أو قال: ولكم في هذا الحكم حياة. {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: الآيات: الدلائل. والمعنى: يجعلكم مبصرين الدلائل الدالة على أنه قدير على كل شيء؛ من إحياء ذلك القتيل وغيره؛ لكي تستعملوا عقولكم في تعرف سبيل الرشد؛ فإن من لا يستعمل عقله متحرياً هذا السبيل، فهو كمن لا عقل له. {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}: {قَسَتْ}: من القسوة، وهي الصلابة. ونقيضها: الرقة. ووصف القلوب بالصلابة والغلظ يراد منه نبُوها عن الاعتبار، وعدم تأثرها بالمواعظ، وخلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله، واسم الإشارة {ذَلِكَ} مشار به إلى إحياء القتيل، أو إلى جميع المعجزات الواردة في الآيات السابقة. {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}: الحجارة: جمع حجر، وهو الصخرة. وحرف (أو) للتنويع؛ فإن قلوبهم متفاوتة في القسوة، منها ما هو قاس كالحجارة، ومنها ما هو أشد قسوة منها. والمعنى: فبعض قلوبهم كالحجارة، وبعضها أشد من الحجارة، فصاغ القرآن هذا المعنى في صورة موجزة، فقال: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}. وقال: {أَشَدُّ قَسْوَةً}، ولم يأت بأفعل التفضيل، فيقل: أقسى؛

لأن أشد قسوة أوضح دلالة على فرط القسوة من قولك: أقسى. {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَار}: هذا بيان لفضل الحجارة على قلوبهم القاسية. والتفجر: التفتح بالسعة والكثرة. والأنهار: جمع نهر، وهو مجرى الماء. وتحمل الأنهار على معنى الماء الجاري، والعرب يطلقون اسم المحل؛ كالنهر على الحالِّ فيه؛ كالماء. والقرينة على هذا الإطلاق قائمة؛ لأن التفجر إنما يكون للماء، والمعنى: أن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الغزير. وهذا إشارة إلى العين الجارية. {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ}: التشقق: التصدع بطول أو عرض. والمعنى: أن من الحجارة ما يتشقق إشفاقاً، فينبع منه الماء. وهذا إشارة إلى العين النابعة. {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}: الهبوط: التردّي؛ أي: النزول من أعلى إلى أسفل. والخشية: الخوف. والمراد: ما يلزم الخشية؛ من الطواعية والانقياد؛ لأن من خشي الله، أطاعه، وانقاد لما يريده منه. ووجهُ فضل الحجارة على قلوب أولئك: أنها أنفع من تلك القلوب القاسية، فتتفجر منها الأنهار، وتتشقق فيخرج منها الماء، وأنها لا تمتنع عما يريد الله منها؛ بخلاف قلوب هؤلاء؛ فإنها لا تنقاد، ولا تفعل ما تؤمر به. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: هذا تهديد لهم بأن الله ليس بغافل عن أعمالهم، بل سيحصيها عليهم،

ويحاسبهم عليها. والغفلة: السهو، وهي مستحيلة على الله، ولكنها وقعت هنا في سياق النفي، ونفي الشيء عنه تعالى لا يستلزم إمكانه؛ كما قال تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 75 - 79]. {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}: هذا خطاب للمؤمنين، وهو معطوف على قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الذي هو خطاب لليهود، والبلاغة تسمح بعطف خطاب موجّه لطائفة على خطاب موجه لطائفة أخرى؛ كقوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف: 29]. والطمع: تعلق النفس بإدراك مطلوب تعلقاً قوياً. و {يُؤْمِنُوا لَكُمْ} بمعنى: يصدقون مستجيبين لدعوتكم. والاستفهام في قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ} ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد التاسع من السنة الثانية.

جارٍ مجرى الإنكار عليهم، حيث طمعوا في استجابة أولئك اليهود لدعوة الإيمان، وحالهم ما ذكر في قوله تعالى بعدُ: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ. . .}. {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: الفريق المشار إليه في الآية: هم الأحبار الذين حرفوا التوراة. وكلام الله: التوراة. وتحريف كلام الله يصدق بتأويله تأويلاً فاسداً، وروي هذا الوجه في تفسير الآية عن ابن عباس. ويصدق بمعنى: تغييره بوضع كلام آخر مكانه، وهو الوجه الذي ذهب إليه جمهور المفسرين، وقد وقع من أولئك الأحبار التحريف بالتأويل وبالتغيير، كما فعلوا ذلك في نعته - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد روى البخاري أن من صفاته فيها: أنه أبيض رَبْعة، فغيّروه: أسمر طويل. وقد بسط جماعة من المحققين القول في إثبات تحريف التوراة على معنى: إسقاط بعض النصوص، ووضع كلام آخر بدلها؛ كابن حزم، وابن تميمة، وغيرهما، والتحريف بمعنى التأويل الباطل قد ارتكبه طوائف من الجهلة أو الملاحدة في القرآن الكريم. وأما التحريف بمعنى: إسقاط الآية، ووضع كلام بدلها، فقد حفظ الله منه كتابه العزيز {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. ومن الأسباب التي هيأها الله لحفظه، ما قام به عثمان -رضي الله عنه- من جمع الناس على مصحف، وإحراق كل مصحف وقع فيه تحريف على وجه الخطأ، أو سوء القصد. وإنما كان قيام فريق من اليهود بتحريف الكتاب سبباً لليأس من إيمان الطائفة المشار إليها بقوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}، ذلك لأن هذه الطائفة قد سبق أن تلقت دينها من قوم يحرفون الكتاب، وهم إنما يلقنونهم

ما حرّفوه، والمقلدون يتلقون ذلك عنهم بطاعة عمياء، ولا يلتفتون إلى الحق، ولا يتجهون إلى النظر في الأدلة الموصلة إليه، فالميئوس من إيمانهم طائفة معينة علم الله أنها شبّت على عماية التقليد، ولا يرجى منها الإقلاع عن الكفر، والرجوع إلى الدين الحق. ومعنى قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: أنهم يحرفون كلام الله من بعد ما فهموه، مع علمهم بما يستحقه محرِّفه من الخزي والعذاب الأليم. وقولى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ينبئ بأن من يرتكب المعصية وهو يعلم أنها معصية يستحق عليها من التوبيخ والذم أشد مما يستحقه مرتكبها وهو من الجاهلين. {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}: هذه الجملة بيان لنوع من مساوئ اليهود وقبائحهم الموجبة لليأس من إيمانهم، الكاشفة عما كانوا يضمرونه من النفاق. والذين آمنوا هم جماعة المؤمنين من الصحابة - رضي الله عنهم -، فإذا لقيهم هذا الفريق من اليهود، قالوا لهم: صدقنا بأن محمداً نبي بحق. {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ}: {خَلَا بَعْضُهُمْ}: صاروا إلى خلوة، وهو الموضع الذي ليس فيه غيرهم. والمعنى: انفرد بعضهم ببعض، وهم الذين لم ينافقوا، والذين نافقوا. {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}: التحديث: الإخبار عن حادث. والفتح: القصص، والمعنى: قال اليهود

غير المنافقين لليهود المنافقين مُعاتبين لهم: أتحدثون المؤمنين بما قصه الله عليكم في كتابكم؛ من أن محمداً نبي حق، وأنه صادق في رسالته؟! ويصح فهمُ الفتح بمعنى القضاء، والمعنى: أتحدثونهم بما قضاه الله فيكم، ومن قضائه فيهم: أخذُه ميثاقهم بأن يؤمنوا بمحمد، ويستجيبوا لدعوته. {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}: المحاجَّة: الاحتجاج، وهو القصد للغلبة، ويرجع إلى معنى إقامة الحجة، والمعنى: أتحدثون المؤمنين بما فتح الله عليكم؛ لتكون لهم الحجة عليكم عند اجتماعهم بكم في الآخرة؛ كما قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31]. ويصح - فيما نرى- أن يفهم قولهم: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} على معنى: أمام ريكم، ويكون كناية عن صحة محاجة المؤمنين لهم؛ فإن الحجة الصحيحة تكون مقبولة عند الله، ويقيمها الإنسان مشهِداً الله عليها، ولا سيما محاجة تقوم على الاستشهاد بنصوص موحى بها من الله، وهذا بخلاف المحاجة الباطلة؛ فإنها تكون بعيدة من الله، ولا يستقيم لصاحبها أن يقول: حاججتك عند الله. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: هذه الجملة معطوفة على قوله: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} وقد أتوا بها تأكيداً لإنكارهم على إخوانهم المنافقين تحديثَهم للمؤمنين بما فتح الله عليهم. والمعنى: أليست لكم عقول تمنعكم من أن تحدثوهم بما يكون لهم فيه حجة عليكم؟!.

{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}: هذا توبيخ وتجهيل لليهود الذين عاتبوا إخوانهم على تحديث المؤمنين بما فتح الله عليهم؛ فإن اعتقادهم بأن الله يعلم سرهم وعلانيتهم شأنه أن يمنعهم من أن ينهوا إخوانهم في السر عن تحديث المؤمنين بما في التوراة؛ فإنهم إنما يحدثونهم بحقائق أوجب الله عليهم أن يذيعوها بين الناس. {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}: الضمير في قوله: (منهم) يعود على اليهود المذكورين فيما سبق. والأميون: جمع أميّ، وهو الذي لا يحسن الكتابة، وسمّي أميّاً نسبة إلى الأم؛ أي: إنه باق على ما ولدته أمه من عدم معرفة الكتابة، أو نسبة إلى الأمَّة بمعنى: الخلقة؛ أي: إنه باق على خلقته، ولم يزد عليها تعلم الكتابة. والكتاب: التوراة. والأماني: جمع أمنية، وهي ما يقرأ. والمعنى: أن هذا الفريق من اليهود لا يعلمون من الكتاب إلا ما يقرؤونه قراءة عارية عن التدبر في معانيه. ويصح أن يكون المراد من الأمنية: ما يقدره الإنسان في نفسه، ويرغب في حصوله. وقد كان هؤلاء اليهود لا يعلمون الكتاب، وإنما كانت لهم أماني هي أن الله لا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، من غير أن يأخذوا أنفسهم بواجبات دينهم. {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}: الظن: ركون النفس إلى وجه من وجهين يحتملهما الأمر، دون أن تبلغ ذلك مرتبة القطع. وهو لا يكفي في معرفة أصول الدين مما يرجع إلى الإيمان، وإنما الواجب فيها أن تكون قائمة على الأدلة القاطعة، ومثلها

أصول الفقه التي تبنى عليها الأحكام العملية، وأما أحكام الوقائع الجزئية، فإن الراسخين في العلم يكتفون في تقريرها بما يصلون إليه من الظنون القوية. ومن أهل العلم من فسر الظن في الآية بمعنى: الشك، وهو التردد بين أمرين من غير أن يترجح أحدهما على الآخر، فيكون المعنى: أن هؤلاء اليهود ليسوا على علم من أمور الدين، وإنما هم في شك منها، وإن الشك لا يغني من الحق شيئاً. {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}: الويل: الفضيحة والخزي، وقيل: الويل: الهلاك، وهو وارد مورد الدعاء. و {الْكِتَابَ}: ما يكتبونه من أشياء اختلقوها ووضعوها بدلاً مما في التوراة. وقال: {بِأَيْدِيهِمْ}؛ ليؤكد أن الكتابة باشروها بأنفسهم، ويدفع توهم أنهم أمروا غيرهم بكتابتها، وأَمْرُ الشخص آخر بكتابة الكتاب، يسيغ نسبة الكتاب إلى ذلك الشخص على وجه المجاز. {ثُمَّ يَقُولُونَ} لأتباعهم الأميين: {هَذَا}؛ أي: ما كتبوه بأيديهم {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}؛ أي: من نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى- عليه السلام -، وإنما يقولون ذلك {لِيَشْتَرُوا بِهِ}؛ أي: المكتوب المحرف {ثَمَنًا قَلِيلًا}. والثمن: عرض الدنيا، وكل عرض يؤخذ في مقابلة وضع الحق مكان الباطل فهو قليل. {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ}: هذا وعيد لهم مرتب على كتابة الكتاب المحرَّف؛ أي: خزي وهلاك لهم على ما فعلوا من تحريف الكتاب.

{وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}: الكسب: اجتلاب النفع أو الضرر، وهو المراد من الآية. وهذا وعيد على أخذهم الأموال من الأتباع المقلدين لهم بغير حق. والآية تدل على تحريم أخذ المال بالباطل؛ كالرشوة، وإن أخذها برضا المعطي. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 80 - 83]. {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}: الضمير في قوله تعالى: {وَقَالُوا} عائد إلى الذين يكتبون الكتاب المشار إليهم في الآية السابقة بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. والمس: الإصابة. ووصف الأيام بقولهم: {مَعْدُودَةً} كناية عن قلتها، يقال: شيء معدود؛ أي: قليل، وشيء غير معدود؛ أي: كثير. وروي عن اليهود - فيما يزعمون -: أنهم سيعذبون سبعة أيام، أو أربعين يوماً، ثم ينقطع عنهم العذاب. والمعنى: وقال أولئك الذين يكتبون الكتاب بأيديهم من اليهود: لن تصيبنا النار إلا أياماً قلائل. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد العاشر من السنة الثانية.

وبهذا يجمعون إلى تبديل كتاب الله، وأخذِهم به المال الحرام، وافترائهم بأن هذا الذي كتبوه من عند الله، جريمةً أخرى هي الإخبار على وجه الكذب البحت بأنهم لا يقيمون في النار إلا أياماً معدودة. {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ}: أمر الله تعالى في هذه الآية نبيه الكريم بأن يرد على اليهود دعواهم الكاذبة؛ إذ زعموا أنهم لا يعذبون إلا أياماً قليلة، فقال تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ} والاستفهام في قوله: {أَتَّخَذْتُمْ} للإنكار. والعهد: الوعد. وإخلافه: عدم الإيفاء بالشيء الموعود به. والمعنى: قل يا محمد منكراً على اليهود ورادّاً عليهم تلك الدعوى المزعومة: أتقدَّمَ لكم من الله وعدٌ بذلك حتى يكون الإيفاء بهذا الوعد متحققاً؟ فإن إخلاف الوعد يجعل الوعد كذباً، والله تعالى منزه عن أن يقول ما ليس بحق. والإنكار متوجه إلى زعمهم أن النار لا تمسهم أكثر من أيام معدودة. {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}: هذا معطوف على قوله تعالى: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا}، وكأنه يقول: أيُّ الأمرين واقع: اتخاذكم عند الله عهداً، أم قولكم على الله ما لا تعلمون؟ والواقع هو أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، لا أنهم اتخذوا عند الله عهداً، وإنما أخرج الكلام مخرج التردد فيما هو الواقع؛ لما في أسلوب الاستفهام من ظهور القصد إلى تقريرهم بأنهم قالوا على الله ما لا يعلمون؛ فإنهم لا يستطيعون أن يزعموا أن الله وعدهم بما أخبروا به من أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة، وليس في أيديهم نص من كتابهم يستندون إليه في هذا الإخبار الذي جاؤوا به في صورة الجزم.

{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: هذا إبطال لقول اليهود: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}. و {بَلَى} حرف جواب؛ كنعم، إلا أنها تجيء لإثبات فعل ورد قبلها منفياً، وهو في الآية قول اليهود: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، فهي لإثبات أن النار تمسهم أكثر من أيام معدودة. وقال: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}، فكان إبطالاً لقولهم على وجه يشملهم وسائر من يعمل عملهم ويكفر كفرهم. والكسب: جلب النفع، ويستعمل في جلب الضرر؛ كما ورد في هذه الآية. والسيئة: الذنب صغيراً أو كبيراً، وحيث كانت أفعال اليهود المحكية عنهم اَنفاً من قبيل الكبائر، صح حمل السيئة هنا على الفاحشة الموجبة للنار. والإحاطة: الاستيلاء، والأخذ بالشيء من جميع جهاته. والخطيئة: السيئة، وإنما تحيط بصاحبها إذا أخذت القلب، فحرم من الإيمان، وأخذت اللسان، فحرم من الإقرار به. فالآية تدل على أن الخطيئة الموجبة للخلود هي المحيطة بصاحبها، وهذه الإحاطة إنما تتحقق بالكفر، وصحبة الشيء للشيء تدل في أصل اللغة على بقائه معه قليلاً أو كثيراً، وقد جرى العرف باستعمالها في معنى الملازمة، فإضافة الأصحاب إلى النار تنبئ بملازمتهم لها. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: لما ذكر الله تعالى أهل الفسوق والكفر، وما أعد لهم من العقاب الشديد الخالد، أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان والتقوى، وما تفضل به عليهم

من الخلود في دار النعيم، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا}، وهذا يتناول المؤمنين من أمة الإسلام، ومن كانوا على إيمان صحيح بما جاءتهم به رسلهم قبل البعثة المحمدية. والمعنى: أن من جمعوا بين الإيمان الصادق، والأعمال الصالحة، هم أصحاب الجنة الحقيقون بالخلود فيها. وهذا الوعد لا يتوجه إلى الذين آمنوا بقلويهم، وأقروا بألسنتهم، ولم يحافظوا على امتثال ما أمروا به، أو اجتناب ما نهوا عنه، فمصير هؤلاء إلى الجنة، وخلودهم فيها بعد جزائهم على ما ارتكبوا من عصيان، أو بعد عفو الله عنهم، يؤخذ من نصوص وأدلة أخرى، والنصوص التي قامت على أبدية الجنة أكثر من النصوص التي تدل على أبدية النار، ولم يخالف في أبدية الجنة عالم بحق. والمعروف بين علماء الإسلام: أن الخلود في النار متأبد، وأنها كدار النعيم لا يلحقها فناء. وقد تحدث عن هذه المسألة ابن تيمية، وبسط ابن القيم الحديث عنها في كتابه "حادي الأرواح". {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}: وردت هذه الآية مناسبة للآيات السابقة في توبيخ بني إسرائيل على مساوئ ارتكبوها، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا}. والميثاق: العهد، وعهد الله: ما يوصي به في بعض كتبه، أو على لسان رسول من رسله، فميثاق بني إسرائيل: ما أخذ عليهم في التوراة، أو على لسان موسى وغيره من أنبيائهم - عليهم السلام -، والمأخوذ عليهم: ما ذكر مفصلاً في الآية من قوله: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} إلى قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ}. {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}: عبادة الله: الإيمان به وبرسله، والعمل بما أنزل في كتبه. وقال:

{لَا تَعْبُدُونَ} في صورة الخبر المنفي، والمراد: النهي عن عبادة غير الله. والمعنى: لا تعبدوا غير الله. وإيراد الخبر في مقام يقصد منه الأمر أو النهي يفيد تأكيد الأمر أو النهي. وتقررت هذه الطريقة من المبالغة والتأكيد على أن المتكلم يلاحظ أن هذا الأمر أو النهي حقيق بأن يُتلقى بحسن الطاعة، فكأن وقوع المأمور به، أو المنهي عنه متحقق الوقوع، وينزل المتحقق الوقوع في منزلة الواقع، ويصير المقام مقام الإخبار بأن المأمور فاعل للمأمور به، أو مجتنب للمنهي عنه في الحال. {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}: الوالدان: الأب والأم. والإحسان: مصدر في معنى أَحْسَنوا. والإحسان في الأصل: فعل الحسن. وإحسانك إلى غيرك، وبه: أن تنفعه بما هو حسن. والإحسان بالوالدين: معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، والقيام بما أوجبه الله لهما من الحقوق. {وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}: هذا معطوف على قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ}.والقربى: مصدر بمعنى: القرابة، فذو القربي: من تكون بينك وبينه صلة قرابة من جهة الأب أو الأم. والإحسان بهم: القيام بما يحتاجون إليه بقدر الطاقة. {وَالْيَتَامَى}: جمع يتيم، وهو من فقد أباه. {وَالْمَسَاكِينِ}: جمع مسكين، وهو مرادف للفقير على معنى: من لا شيء له، أوله شيء طفيف من العيش لايكفي حاجته.

{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}: هذا من جملة ميثاق بني إسرائيل المفتتح بقوله: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}. والحسن: ضد القبح، فهو مصدر بمعنى: حَسَن؛ أي: ذي حسن، وقع موقع الصفة لمصدر محذوف. والمعنى: قولوا قولاً حسناً. وفي وصف القول بالمصدر الذي هو الحُسْن مكان الوصف الذي هو ذو حُسن مبالغةٌ في حسنه على ما هو معروف في فنون البيان. والأعمال الصالحة إما أن ترجع إلى حسن طاعة العبد لربه، وهي المشار إليها بقوله تعالى: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، وإما أن ترجع إلى حسن معاملة العبد لغيره من الناس، وهي المشار إليها بقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}. ثم إن حقوق الناس في حسن المعاملة متفاوتة، فأحقهم بالإحسان: الوالدان؛ لما لهما من فضل الولادة والعطف والتربية، ثم أولو القربى؛ رعاية لحق القرابة، ثم اليتامى؛ لقصور أيديهم وضعفها عن الكسب، ثم المساكين؛ لسد حاجاتهم، والفوز بثواب الرحمة بهم، وسائر الناس ممن ليسوا في حاجة إلى الإحسان إليهم بالفعل، يكفي في البر بهم أن يلاقيهم الإنسان بالطيب من القول، ويجيبهم بما يجب أن يجاب به. وهذا النوع من الإحسان سهل على النفوس؛ بحيث يستطيع الإنسان - متى قدر فضل التودد لخيار الناس قدره - أن يجري عليه في كل حال. بنيَّ إن البِرّ شيء هَيِّن ... وجه طليقٌ ولسانٌ لَيِّن {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}: هذا خطاب لبني إسرائيل معطوف على ما قبله. والصلاة التي أمروا بإقامتها، والزكاة التي أمروا بإيتائها، هما الصلاة والزكاة المشروعتان في

ديانتهم، ولعظم شأن هاتين العبادتين: البدنية والمالية، ذُكرتا على وجه خاص بعد الأمر بعبادة الله؛ اهتماماً بهما، وتوكيداً لأمرهما. {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}: تولى عن الشيء: رفضه، وانصرف عنه. والتوبيخ في الآية موجه إلى اليهود الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، واليهود الذين تولوا عن الميثاق من قبل، على طريقة تغليب الحاضرين على الغائبين؛ حيث أورد التوبيخ في صورة الخطاب، والفعل المنكر، وهو التولي، صادر من الحاضرين والغائبين. والقليل في قوله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا} هم من آمن قديماً من أسلافهم، أو حديثاً؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه. والإعراض: التولي، فقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} حال مؤكدة لمعنى الفعل الذي هو {تَوَلَّيْتُمْ}؛ إذ للتأكيد في لسان العرب طرق، منها: أن يعاد إسناد معنى الفعل إلى الفاعل في صورة الحال. والمعنى: ثم رفضتم أنتم وأسلافكم الميثاق رفضاً باتاً، إلا فريقاً منكم ليسوا بكثير استمروا على رعايته والعمل بموجبه. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 84 - 86]. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}: هذا معطوف على ما تقدم من الآيات الواردة في نقض اليهود للمواثيق والعهود. وما تقدم من قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ... إلخ يتضمن أوامر، والميثاق المشار إليه في هذه الآية يتضمن نواهي {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}. وقدم توبيخهم على عدم امتثال الأوامر على توبيخهم على عدم اجتناب المنهي عنها؛ لأن الأوامر هي الأصل في التكاليف الشرعية؛ حيث إنها تتضمن ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الحادي عشر من السنة الثانية.

أفعالاً؛ بخلاف النواهي؛ فإنها تتضمن تروكاً، ومشقة الأفعال أشدُّ- في الغالب - من مشقة التروك. والميثاق: العهد. وسبق لنا: أن عهد الله: ما أوصى به في كتابه، أو على لسان رسله. والميثاق أخذ من أسلاف المخاطبين. فالمعنى: أخذنا ميثاق أسلافهم الذين كانوا في عهد موسى - عليه السلام -. والسفك: الصبّ. والدماء: جمع دم، وهو معروف. والنهي عن سفك الدماء في معنى النهي عن القتل، ومعنى {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}: لا يتعرض بعضكم لبعض بالقتل، كما قال - عليه الصلاة والسلام - فيما روي في الصحيح: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض". {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}: الديار: جمع دار، وهي المسكن. والمعنى: لا يخرج بعضكم بعضاً من مساكنهم. ويدخل في معنى الإخراج من الديار: أن يتصدى الرجل لإيذاء جاره حتى يلجئه إلى الخروج من داره؛ تخلصاً من شره. وقال: {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}، فجعل إجلاءهم غيرَهم من مساكنهم إجلاء لأنفسهم، فنبه بذلك على أن الأمة المتواصلة بالدين أو النسب بالغةٌ من الوحدة بحيث يعد قتل الرجل لغيره إنما هو قتل لنفسه، وإخراجه من منزله إنما هو إخراج لنفسه. {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}: أقررتم: اعترفتم. وتشهدون: من الشهادة، وهي الإخبار عن علم. والخطاب لليهود الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو وارد مورد التوبيخ

لهم على عدم العمل بالتوراة، مع إقرارهم بصحة أحكامها. وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} واقع موقع الحال المؤكدة لقوله: {أَقْرَرْتُمْ}؛ كما يقال: فلان مقر على نفسه بكذا، شاهداً عليها. ويصح أن يكون قوله: {أَقْرَرْتُمْ} إخباراً عن اعتراف سلفهم بالميثاق، وقد عرفنا أنه قد يجيء ما يصدر من السلف في صورة خطاب للخلف. وقوله: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} إخبار عما وقع من اليهود الحاضرين في عهد نزول القرآن الكريم. والمعنى: اعترفتم؛ أي: اعترف أسلافكم بالميثاق، وأنتم تشهدون الآن على إقرارهم وقبولهم له. فيكون الإقرار في قوله: {أَقْرَرْتُمْ} صادراً من سلفهم، والشهادة مسندة إلى اليهود الحاضرين عند نزول الآية. {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ}: هذا تقريع لهم على عصيانهم بارتكاب ما نُهوا عنه. وقد وردت هذه الجملة على أسلوب قول العرب: "ها أنت ذا قائماً". فالضمير {أَنْتُمْ} مبتدأ، واسم الإشارة {هَؤُلَاءِ} خبر عنه، وجملة: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} حال، وهي من قبيل الأحوال التي لا تحصل الفائدة من الإخبار إلا بذكرها. والمعنى: ثم أنتم - يا معشر اليهود - بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم، وبعد شهادتكم على أنفسكم بذلك، صرتم في حال غير الحال التي كنتم عليها، فنقضتم العهد، وارتكبتم ما نهيتم عنه من القتل والإخراج من الديار. {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}: لما كان قتل بعضهم لبعض، وإجلاؤهم من ديارهم يحتاج إلى قوة وغلبة، بَيَّن تعالى أنهم يفعلون ذلك متعاونين عليه وهم آثمون ظالمون.

والتظاهر: التعاون. والإئم: الذي يستحق صاحبه الذَّم عليه والملام، أو: ما تنفر منه النفس، ولا يطمئن إليه القلب. والعدوان: تجاوز الحد في الظلم. {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ}: الأسارى: واحده أسير بمعنى: مأسور، وهو المأخوذ على سبيل القهر والغلبة. وفداء الأسارى: فكاكهم بإعطاء شيء عنهم. والمعنى: أنتم مع قتل بعضكم بعضاً، وإخراج بعضكم بعضاً من ديارهم، إذا وجدتم الذين أخرجتموهم من ديارهم أسرى في أيدي غيركم من الأعداء، تسعون لفكهم، وتبذلون عوضاً لإطلاقهم. وبيان هذا المعنى: أن حروباً كانت تنشب بين الأوس والخزرج قبيل الإسلام، وكان فريق من يهود المدينة حلفاء للخزرج، وفريق حلفاء للأوس، وكان كل فريق من اليهود يقاتل مع حلفائه، وقد يقتل اليهودُ من فريقٍ يهوداً من الفريق الآخر، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأمتعة، وإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أولئك الذين أخرجوهم من ديارهم. {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}: من أساليب البيان عندما يراد إعطاء الخبر جانباً من العناية والتأكيد: أن يصدر المتكلم الجملة بضمير المفرد الغائب "هو"، ثم يأتي بعده بالخبر، ويكون هذا الخبر هو معنى ذلك الضمير الذي وقع صدراً في الجملة، ويسمونه: ضمير الشأن. والضمير في قوله تعالى: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ} هذا القبيل.

و {مُحَرَّمٌ} من حرَّم بمعنى: منع. والمحرّم شرعاً: ما يعاقب على فعله، ويثاب بالقصد إلى تركه امتثالاً لنهي الشارع عنه. والمعنى: أنكم تخرجون فريقاً منكم من ديارهم، وإذا صار هؤلاء الفريق في الأسر، فاديتموهم، وإخراجهم من ديارهم محرم عليكم، فلمَ لم تتبعوا حكمة التوراة في النهي عن إخراجهم كما اتبعتم حكمها في مفاداتهم؟. {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}: هذا معطوف على قوله تعالى: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ}. والاستفهام للإنكار والتوبيخ على التفريق بين أحكامه تعالى بالإيمان ببعض، والكفر ببعض. والكتاب: التوراة. وبعض الكتاب الذي آمنوا به: هو ما حرم عليهم من ترك الأسرى في أيدي عدوهم، وبعضه الذي كفروا به: هو ما حرم عليهم من القتل والإخراج من الديار. والمعنى: كيف تستبيحون القتل والإخراج من الديار، ولا تستبيحون ترك الأسرى في أيدي عدوهم؟! فالإنكار-كما عرفت- غير متوجه إلى الإيمان ببعض الكتاب، وإنما الذي أنكر عليهم هو جمعهم بين الكفر والإيمان؛ إذ كفروا ببعض الأحكام، وآمنوا ببعضها، وإنما سمي عصيانهم بالقتل والإخراج من الديار كفراً؛ لأن من عصى أمر الله بحكم عملي، معتقداً أن الحكمة والصلاح فيما فعله؛ بحيث يتعاطاه دون أن يكون في قلبه أثر من التحرج، ودون أن يأخذه ندم وحزن من أجل ما ارتكب، فقد خرج بهذه الحالة النفسية من سبيل المؤمنين. وفي الآية دليل واضح على أن الذي يؤمن ببعض ما تقرر في الدين بالدليل القاطع، ويكفر ببعضه، يدخل في حساب الكافرين؛ لأن الإيمان

لا يتجزأ. {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: الجزاء: المكافأة على الشيء، ويستعمل في الخير والشر؛ أي: يكون ثواباً وعقاباً. واسم الإشارة {ذَلِكَ} مشار به إلى القتل والإخراج من الديار اللذين نقضوا بهما عهد الله بغياً وكفراً. والخزي: الهوان والمقت والعقوبة. وهذا وعيد من الله تعالى لأولئك اليهود الذين نقضوا عهده بالعقاب العاجل في الدنيا، وهذه سنة الله في كل أمة لا تتمسك بدينها، ولا تربط شؤونها الاجتماعية بأحكام شريعتها وآدابها. ومن أشد أنواع الخزي: أن يسلط عليها عدوها، فيرهقها بغياً وعدواناً، ويسومها سوء العذاب ليلاً ونهاراً. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}: أخبر في هذه الجملة أن الخزي الذي يصيبهم في الدنيا لا يكفر عنهم ذنوبهم، بل هم صائرون في الآخرة إلى عذاب أشد منه. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}: زمان يمتد من البعث إلى أن يفصل الله بين العباد، ويستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. و {يُرَدُّونَ}: يصيرون. ومن الوجوه التي صار بها عذاب الآخرة أشد: أنه عذاب خالد؛ بخلاف الخزي في الحياة الدنيا. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: هذا خطاب لليهود على وجه الالتفاف؛ أي: الانتقال من طريق الغيبة إلى طريق الخطاب؛ إذ قال: {تَعْمَلُونَ}، وقد قال تعالى فيما سبق: {يُرَدُّونَ}. والغفلة: السهو. والمعنى: أنه تعالى لا يأخذه سهو عن أعمالكم حتى يترك مجازاتكم عليها. فالمراد من نفي الغفلة: ما يتسبب عنها من ترك مجازاتهم.

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}: اسم الإشارة {أُولَئِكَ} مشار به إلى من سبق توبيخهم من اليهود في قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} ... إلخ الآية. ومعنى اشتراء الحياة الدنيا بالآخرة: إيثار متاعها؛ من نحو الرياسة والمال، على نعيم الآخرة، فكأنهم جعلوا حظوظهم من نعيم الآخرة ثمناً لما تمتعوا به في الحياة الدنيا. و {يُخَفَّفُ} من التخفيف، وهو التسهيل والتهوين، ونصر الشخص لغيره: دفعه عنه ما يراد به من مكروه. ومعنى الآية: أن اليهود الذين تقدم ذكرهم قد آثروا متاع الحياة الدنيا، ورضوا بها عوضاً من نعيم الآخرة، فلا يقطع عنهم العذاب، ولا يقلّل، ثم لا يجدون أحداً يدفع عنهم بقوته أو بشفاعته ما وقعوا فيه من أشد العذاب. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) وَ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 87 - 90]. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ}: هذا تذكير لبني إسرائيل بضرب من النعم التي أمدهم الله بها، ثم قابلوها بالكفر والإجرام. و {آتَيْنَا}: أعطينا. و {الْكِتَابَ}: التوراة. {وَقَفَّيْنَا}: أردفنا، وأتبعنا. وأصله من القفا، يقال: قَفَّاه: إذا تبعه، وقفاه بكذا: إذا أتبعه إياه. والرسل: جمع رسول بمعنى: مرسَل، وقد أرسل الله رسلاً بعد موسى ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني عشر من السنة الثانية.

- عليه السلام -، منهم: يوشع، وداود، وسليمان، وعزير، وإلياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى. {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ}: {الْبَيِّنَاتِ}: الآيات الواضحة الدالة على نبوته، فتشمل كل معجزة أوتيها عيسى- عليه السلام -؛ كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، والإخبار ببعض المغيَّبات. وخص عيسى بالذكر؛ لكونه صاحب كتاب هو الإنجيل، ولأن شرعه نسخ بعض الأحكام من شريعة موسى - عليه السلام -. وفي إضافة عيسى إلى أمه إبطال لما يزعمه اليهود من أن له أباً من البشر، وقد مشى خلفهم في هذا الزعم الباطل طائفةٌ من أشياع غلام أحمد القادياني مدعي النبوة كذباً، ويسمون أنفسهم: الأحمدية. {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}: أيدناه: قوّيناه، مأخوذ من الأَيْد، وهو القوة. والروح في الأصل: ما تحصل به الحياة. والقدس: الطهر والبركة. وذهب كثير من المفسرين إلى إن المراد بروح القدس: جبريل- عليه السلام -، وإطلاق هذا الاسم على جبريل ظاهر في مثل قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [النحل: 102]، ويصح تفسير روح القدس بالوحي الذي يمد الله به رسله؛ إذ هو شبيه بالروح الذي تحصل به الحياة؛ ذلك أن الأمم تحيا به حياة صالحة، وبغير الدين الحق لا يستقيم لها سير، ولا تنظم لها شؤون. {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ}: هذه الآية واردة مورد التوبيخ لليهود الذين صدرت منهم هذه الأفعال الفظيعة؛ من تكذيب الرسل، وقتلهم فريقاً منهم. وتهوى: من هوي: إذا

أحب، والهوى يكون في الحق، ويكون في الباطل، وعلى هذا الوجه ورد قوله تعالى: {بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ}. و {اسْتَكْبَرْتُمْ}: تكبرتم، والتكبر ينشأ عن الإعجاب بالنفس الذي هو أثر الجهل بها. {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}: هذا معطوف على قوله تعالى: {اسْتَكْبَرْتُمْ}، والمعنى: أنه كلما جاءكم رسول، استكبرتم عن إجابة دعوته؛ ازدراء له، فبادرتم فريقاً من الرسل بالتكذيب فقط؛ حيث لا تقدرون على قتلهم، وأقبلتم على فريق منهم بالقتل؛ حيث تقدرون على قتلهم، وقدم تكذيبهم للرسل على قتلهم إياهم؛ لأن التكذيب أول ما يصدر عنهم من الشر. وعبّر في جانب القتل بالفعل المضارع، فقال: {تَقْتُلُونَ}، ولم يقل: قتلتم كما قال: {كَذَّبْتُمْ}؛ لأن الفعل المضارع- كما هو المألوف في أساليب البلاغة- يستعمل في الأفعال الماضية التي بلغت من الفظاعة مبلغاً عظيماً، ووجهه: أن المتكلم يعمد لذلك الفعل القبيح؛ كقتل الأنبياء، ويعبر عنه بالفعل المضارع الذي يدل بحسب وضعه على الفعل الواقع في الحال، فكأنه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام السامع، وجعله ينظر إليها بعينه، فيكون إنكاره لها أبلغ، واستفظاعه لها أعظم. {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ}: هذا حديث عن اليهود الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو حكاية ما كانوا يقولون على سبيل الاعتذار عن عدم إيمانهم به. والغلف: جمع أغلف، ووصف القلوب بها على معنى: أن عليها أغشية تمنع ما جئت به

أن ينفذ فيها؛ كقولهم في آية أخرى: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5]. ويرجع هذا إلى معنى: أنها لا تفقه شيئاً مما تقوله. وقصدوا بهذا إقناطه - عليه الصلاة والسلام - من إجابتهم لدعوته حتى لا يعيد عليهم الدعوة من بعد. {لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ}: هذا تكذيب لهم فيما زعموه من أن قلوبهم مستورة بأغطية تمنعها من الفهم. والمعنى: أن قلوبهم ليست غلفاً بحيث لا تخلص إليها دعوة الحق، بل هي متمكنة بأصل فطرتها من قبول الحق، ولكن الله أبعدهم من رحمته، وأعمى أبصارهم؛ من أجل كفرهم بالأنبياء، وانصرافهم عن العمل بالكتاب الذي أنزل إليهم من قبل، فقيامُ حجة الله عليهم من جهة أنه خلقهم على الفطرة، والتمكن من الإيمان، غير مقسورين على الكفر، ثم إنهم استحبّوا الكفر على الإيمان. {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}: الفاء في قوله: {فَقَلِيلًا} للدلالة على أن ما بعدها متسبب عما قبلها، و (ما) في قوله: {فَقَلِيلًا مَا} لتأكيد معنى القلة. والمعنى: أن الله لعنهم، وكان هذا اللعن سبباً لقلة إيمانهم، فلا يؤمنون إلا إيماناً قليلاً، وقلة الإيمان ترجع إلى معنى أنهم لا يؤمنون إلا بقليل مما يجب عليهم الإيمان به، وقد وصفهم الله تعالى فيما سبق بأنهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض. {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ}: هذا تنبيه لنوع آخر من ضلالات اليهود الذين كانوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -.

والكتاب: القرآن، ووصفه بكونه من عند الله إيماء إلى أن ما يوحي به الخالق- جل شأنه - جدير بأن يُتلقى بالقبول وحسن الطاعة. و {لِمَا مَعَهُمْ}؛ أي: مع اليهود: التوراة. ومعنى كون القرآن مصدقاً لما معهم من التوراة: أنه موافق لها فيها يختص ببعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ونعته. {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}: {يَسْتَفْتِحُونَ}: يستنصرون؛ من الاستفتاح، وهو طلب الفتح؛ أي: النصرة. و {الَّذِينَ كَفَرُوا}: المشركون. وقد كان اليهود يستنصرون على أعدائهم من المشركين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته، فيقولون: اللهم انصرنا عليهم بالنبي الذي نجد نعته في التوراة. ولإيراد ما اشتملت عليه التوراة والإنجيل من النصوص الواردة في بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفته، مقامٌ غير هذا المقام. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}: {مَا عَرَفُوا}: نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو القرآن المشار إليه فيما سبق بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. ومعرفتهم للنبوة أو القرآن - أي: صدقهما- حصلت بنظرهم في علامات النبي الموعود به في التوراة وصفاته، ومعرفتهم لتحققها في النبي محمد - عليه الصلاة والسلام -. وإيضاح هذا: أن انطباق العلامات والصفات الواردة في التوراة على النبي- صلوات الله عليه -، مع ما انضم إليه من آيات صدقه الأخرى، يجعل اليهود على معرفة لا يخالجها ريب بأن نبوته صادقة، وكتابه وحي سماوي، ولكن فوات ما كانوا يحرصون عليه من أن يكون خاتم النبيين منهم، ملأ قلوبهم غيظاً وحسداً، وأخذ هذا الغيظ والحسد يغالب تلك المعرفة حتى

تغلَّب عليها، وحال بينها وبين أن يكون لها أثر هو الإذعان بالقلب، والإقرار باللسان. {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}: اللعنة: الإبعاد والطرد، فلعنة الله على الكافرين: إبعادهم وطردهم من مواقع رحمته وخيراته الباقية. وجعلت لعنتهم صادرة من الله؛ لإظهار شدتها، والإيمان إلى أنها لعنة لا مرد لها، {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 52]. وقال: {عَلَى الْكَافِرِينَ}، ولم يقل: عليهم؛ ليشعر بأن سبب حلول اللعنة هو كفرهم. {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}: بئس: فعل يستعمل للذم، كما يستعمل (نعم) للمدح، وكل من الفعلين يستدعي ذكر اسمين مرفوعين، أولهما الفاعل، والثاني يسمونه: المخصوص بالذم، أو المدح، و (ما) في قوله: {بِئْسَمَا} بمعنى الذي، وهي الفاعل. و {اشْتَرَوْا} يحمل - كما قال الجمهور - على معنى: باعوا؛ فإن أولئك اليهود لما أمكنهم الله من الإيمان الذي يفضي بهم إلى السعادة الباقية، ومن الكفر الذي يؤدي بهم إلى شقاء دائم، صار اختيارهم للكفر على الإيمان بمنزلة اختيار صاحب السلعة ثمنها على سلعته، فكانهم أعطوا أنفسهم التي كان في إمكانهم الانتفاع بإيمانها، وأخذوا الكفر عوضاً منها. فأنفسهم بمنزلة السلعة المبيعة، والكفر بمنزلة ثمنها المقبوض. وقوله: {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} في معنى: كفرهم بما أنزل الله، وهو المخصوص بالذم المشار إليه بفعل (بئس). و (ما أنزل الله): القرآن، ودين الإسلام. والمعنى: بئس الشيء الذي باعوا به أنفسهم، وهو كفرهم

بما أنزل الله؛ من كتابه الحكيم، ودينه القويم. ويصح أن يفسر الاشتراء بمعناه الكثير في الاستعمال، فتكون أنفسهم - في زعمهم - مشتراة لا مبيعة؛ ذلك أن اليهود يظهرون التمسك باليهودية، وأنهم لو صدقوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، واتبعوه، لوقعوا في عقاب الله، ويدَّعون في ظاهر حالهم أن تكذيبهم له يخلِّصهم من العقاب، فكأنهم يقولون: اشترينا أنفسنا؛ أي: خلصناها من العقاب بتكذيب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهذا لا ينافي أنهم عرفوا في أنفسهم صدق نبوته. {بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}: البغي: الحسد والظلم. وقال بعض علماء اللغة: البغي أصله الحسد، ثم سُمي الظلم بغياً؛ لأن الحاسد يظلم المحسود بابتغائه إزالة النعمة عنه. وجاء في الآية منصوباً على أنه علة لقوله: {يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. والفضل: الوحي. والمحسود هو النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد حسدوه على النبوة لما لم يكن من بني إسرائيل، وكان من العرب من ولد إسماعيل. ولم يذكره في الآية على وجه التعيين؛ لعلمه من مساق النظم، وللتنبيه على أن الحسد في ذاته منكر مذموم كيفما كان حال المحسود. وقال: {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}؛ ليكون أظهر دلالة على أن في الحسد معنى عدم الرضا بما يختاره الله لبعض عباده من خير. {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}: باؤوا: رجعوا، ولما كان كفر اليهود يتعدد؛ كما كفروا بعيسى - عليه السلام - وكفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان كفرهم باقياً مستمراً، حق عليهم

غضب الله، وأن يكون الغضب بالنظر لتعدد أسبابه مترادفاً متكاثراً، وذلك معنى قوله تعالى: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}. ولصح أن يكون معنى قوله: {عَلَى غَضَبٍ} تأكيدَ وقوعهم تحت غضب الله، دون أن يراد منه ترادف الغضب وتكاثره. {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}: الكافرون: اليهود المتحدَّث عنهم في الآيات السابقة، وهم الذين عرفوا نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكفروا بها، وباؤوا بغضب على غضب. وعبر عنهم بالاسم الظاهر، فقال: {وَلِلْكَافِرِينَ} دون الضمير، فيقول: ولهم؛ تنبيهاً على الوصف الذي لحقهم العذاب المهين من أجله، وهو الكفر. ويصح حمل قوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} على أنه وعيد لكل كافر بما يجب الإيمان به، فيتناول أولئك اليهود في جملة من يتناولهم من سائر الكافرين. والمهين: المُذِل. والمهين في الحقيقة هو الله - جلَّ شأنه -، وإنما أسندت الإهانة إلى العذاب، فقال: {عَذَابٌ مُهِينٌ}؛ لأن الإهانة تحصل بعذابهم، ومن أساليب البيان: إسناد الأفعال إلى أسبابها، ومن دواعيه: كون الفاعل الحقيقي معلوماً، والإيجاز هو اللائق بالمقام. * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحَمنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 91 - 95]. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}: هذا إخبار عن اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومعنى {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}: القرآن. ولم يذكر المنزل عليه؛ كأن يقول: على محمد؛ للعلم به، أو للتنبيه على أن وجوب الإيمان بالكتاب يكفي فيه العلم بأنه منزل من عند الله، وإذا حصل الإيمان بأن القرآن منزل من عند الله، استتبع ذلك استحضار أنه أنزل على محمد - عليه الصلاة والسلام -. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الأول من السنة الثالثة.

ومعنى (ما أنزل علينا): التوراة، وما جاء مقرراً لأحكامها على لسان موسى ومن جاء بعده من أنبيائهم. ومعنى إنزالها عليهم: تكليفهم بما اشتملت عليه من أحكام وآداب. ومعنى الآية: أن هؤلاء اليهود إذا عرض عليهم الإيمان بالقرآن، أجابوا بأنهم يؤمنون بالتوراة، وأرادوا أن إيمانهم بها يغنيهم عن الإيمان بما سواها. ووجه ذمهم على هذا الجواب: أنهم مأمورون بأن يؤمنوا بكل كتاب أنزله الله، فأجابوا بأنهم آمنوا ببعض ما أنزل الله، وهو ما أُنزل عليهم، فلم يكن إيمانهم مطابقاً لما أمر به الله، ومن كفر ببعض ما يجب الإيمان به، ولو آمن ببعضه، كان معدوداً في صميم الكافرين لا محالة. {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ}: هذه جملة استؤنف بها الإخبار بصريح القول عن كفرهم بالقرآن، و (وراء) بمعنى: سوى، أو بعد، والضمير في قوله: {وَرَاءَهُ} عائد على: (ما أنزل علينا) المكنى به عن التوراة. والمراد بما سوى التوراة أو بعدها: القرآن الكريم. {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}: الضمير (هو) عائد على القرآن المكنّى عنه بقوله: (ما وراءه). والحق: المطابق للواقع. ويوصف به القرآن، أو الدين؛ لاشتماله على الأحكام المطابقة للواقع. {مُصَدِّقًا}: مؤيداً، و (ما معهم)؛ أي: ما مع اليهود، وهي التوراة. ومعنى كون القرآن مؤيداً للتوراة: أنه يدل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبهذا كان مؤيداً للتوراة فيما اشتملت عليه من البشارة برسول ذكرت له نعوتاً لا تنطبق إلا على محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمدعي الإيمان بالتوراة يجب أن يؤمن بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإلا، كان كاذباً في ادعائه الايمان بالتوراة.

{قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: هذا أمر من الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم - بتوبيخ اليهود، وإبطال زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل عليهم، والفاء في قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} واقعة في جواب شرط محذوف دل عليه ما جاء بعده من قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. والمعنى: إن كنتم مصدقين بالتوراة، فلأي شيء تقتلون أنبياء الله، والتوراة لا تسوغ قتل الأنبياء؛ فإنها تدل على أن المعجزة دليل الصدق، ومن كان صادقاً في دعوى النبوة، فقتله كفر. ويرجع معنى الآية إلى نفي فعل الشرط، وهو كونهم مؤمنين؛ إذ لا وجه لقتلهم الأنبياء إلا عدم إيمانهم بالتوراة. وهذا كما تريد أن تنفي عن رجل العقل؛ لفعله ما ليس شأنه أن يصدر من عاقل، فتقول له: إن كنت عاقلاً، فلم فعلت كذا؟ أي: أنت لست بعاقل. وقتل الأنبياء وقع من أسلافهم، ويصح توبيخ الخلف بما فعله سلفهم متى كان الخلف يمشي في عماية السلف، ويرضى بما صنعوه من عصيان، وقد حاول اليهود المخاطَبون بقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} اغتيالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذهب كيدهم في ضلال. وكان الظاهر أن يقول: "فلم قتلتم الأنبياء من قبل؟ "؛ لأن القتل وقع وانقضى، ولكن قال: {تَقْتُلُونَ}؛ ليدل على أن قتلهم الأنبياء يتجدد، ويقع منهم المرة بعد الأخرى، فهو شأن من الشؤون التي كانت عادة جارية بينهم. وأضاف الأنبياء إلى الله، فقال: {أَنْبِيَاءَ اللَّهِ}؛ للدلالة على شرفهم العظيم، ولزيادة التنبيه لفظاعة عصيان اليهود؛ إذ يقابلون بالقتل من لا ينبغي لهم إلا أن يقابلوهم بالطاعة والتعظيم.

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ}: البينات: الآيات الواضحة الدالة على صدق نبوته؛ كانقلاب العصا ثعباناً، وفلق البحر، وانفجار العيون من الحجر. {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}: وردت هذه الجملة فيما تقدم من قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}، وأسلفنا في تفسيرها: أن السامري بعد أن ذهب موسى - عليه السلام - إلى الطور لمناجاة الله، صنع لليهود من حليهم عجلاً اتخذوه معبوداً من دون الله. والضمير في قوله: {مِنْ بَعْدِهِ} عائد على موسى؛ أي: من بعد مجيئه للمناجاة. والظلم: وضعُ الشيء في غير موضعه اللائق به. فمعنى {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}: وأنتم واضعون للعبادة في غير موضعها، أو: وأنتم قوم عادتكم وضع الأشياء في غير مواضعها. وفي تكرير قصة عبادتهم للعجل تنبيه على أنها بالغة الغايةَ القصوى من الفظاعة. ومن المعروف في بلاغة العرب أنهم إذا أرادوا التنبيه لتقبيح شيء، أو تعظيمه، كرروا الحديث عنه. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}: تقدمت هذه الجمل، وإنما أعيدت هنا؛ لرد دعوة اليهود أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم. والمعنى: إنكم تدعون الإيمان بما أنزل عليكم، وقد أعرضتم عما أمرتم به من قبول التوراة، ولم تتلقوا أحكامها بالطاعة حتى أُلجئتم إلى

قبولها بأن رفعنا فوقكم الطور، وقلنا لكم: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}؛ أي: بجد وحزم. {وَاسْمَعُوا}: ليس معنى السمع هنا إدراك القول فقط، بل المراد: سماع ما أمروا به في التوراة سمع تدبر وطاعة والتزام، فهو مؤكد ومقرر لقوله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}. {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}: هذا جواب منهم لقوله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا}. والمعنى: سمعنا قولك: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا}، وعصينا أمرك. فيكون جوابهم هذا مبالغة منهم في التعنت والعصيان. هذا ما يقوله جمهور المفسرين؛ أخذاً بالظاهر من معنى {قَالُوا}. وذهب بعضهم إلى أنهم قالوا: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} بلسان الحال، لا أنهم نطقوا بذلك، وإنما هو عبارة عن عدم قبولهم لما أمروا به، وقد يعبر بالقول مسنداً إلى الشيء حيث يفهم من حاله معنى كما يفهم من اللفظ الصريح؛ كما قال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]. {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ}: هذا معطوف على قوله تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}. والإشراب: السقي، وهو إيصال مائع إلى الجوف من طريق الفم، واستعمل على وجه التجوز في خلط لون بلون؛ كأن أحد اللونين سقى الآخر، فقالوا: بياض مشرَب بحمرة، وقالوا: أشرب قلبه حبّ كذا: إذا خالط حبه قلبه: إذا ما القلبُ أُشرب حبَّ شيءٍ ... فلا تأمل له الدهرَ انصرافا

ففي جملة: (أشربوا في قلوبهم العجل) مضاف محذوف؛ لدلالة المعنى عليه، وهو لفظ "حب". والتقدير: حب العجل. والمعنى: أن حب العجل خالطهم حتى خلص إلى قلوبهم كما يخالط الماء أعماق البدن. وحذفُ لفظ الحب من نظم الكلام يُشعر بشدة تعلق قلوبهم بالعجل حتى كأنهم أشربوا ذاتَ العجل. ودل قوله: {بِكُفْرِهِمْ} على أن حبهم البالغ للعجل ناشئ عن كفر سابق، فهو كفر على كفر. {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: لما زعم اليهود أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم من التوراة، وكانوا مع هذا الزعم يفعلون أفاعيل تناقض الإيمان بها، أمر الله تعالى رسوله - عليه الصلاة والسلام - بتبكيتهم، وذم ما يرتكبونه من أفعال هي الكفر بعينه، فقال تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. أضاف الإيمان إليهم، فقال: {إِيمَانُكُمْ}، ولم يقل الإيمان؛ لكونه إيماناً مزعوماً لهم، لا أنه إيمان صحيح. ولما كان الإيمان بكتاب يقتضي العمل بما اشتمل عليه من هداية وأحكام، صحّ أن يعبّر عن ذلك اقتضاء بالأمر، فقال: {يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ}؛ كما أطلق النهي على اقتضاء الصلاة لاجتناب الفحشاء والمنكر، فقال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. وقال: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ تشكيكاً في إيمانهم بالتوراة، وهي في معنى نفي إيمانهم بها، فتكون التوراة بريئة من أن تأمر بشيء يبغضه الله، وتحق كلمة الذم على ما ارتكبوه من عصيان إنما أمرتهم به أهواؤهم. والمعنى:

قل يا محمد لهؤلاء اليهود: بئس الشيء الذي يدعوكم إليه إيمانكم قتلُ الأنبياء، والعصيانُ، وعبادةُ العجل، إن كنتم مصدقين كما زعمتم بالتوراة، والواقع أن التوراة لا تسيغ شيئاً مما أتيتم به، فما أنتم بمؤمنين. {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: زعم اليهود أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً؛ كما حكى الله عنهم ذلك في قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا} [البقرة: 111] فأمر الله نبيه - عليه الصلاة والسلام - بأن يرد عليهم هذا الزعم الباطل، فقال: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ ... إلخ}. و {الدَّارُ الْآخِرَةُ}: الجنة كما قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83]. و {عِنْدَ اللَّهِ} بمعنى: في حكم الله؛ كما تقول: زيد عندي أفضل من عمرو؛ أي: في حكمي. و {خَالِصَةً}: مختصة. والتمني يستعمل في المعنى القائم بالقلب، ويستعمل في اللفظ الدال على ذلك المعنى؛ كأن يقول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا. وبهذا يفسر قوله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ}؛ لأن المعنى القائم بالقلب لا يطلع عليه أحد، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب. ومعنى الآية: قل يا محمد لليهود: إن كانت الجنة مختصة بكم، وليس لأحد سواكم فيها حق، فتمنوا الموت بألسنتكم. {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}: هذا من قبيل الإخبار بالغيب، وهو أن أولئك اليهود لا يتمنون الموت، ولو بألسنتهم. ودلَّت الآية على أن عدم تمنيهم الموت معلَّل بما قدمت أيديهم؛

من نحو: تكذيب الأنبياء، وقتلهم، وقولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} [الأعراف: 138]، إلى غير ذلك من كبائر المعاصي التي لم تصدر من أمة قبلهم ولا بعدهم. وهذا التمني الذي طلب منهم، ونفُي عنهم، لم يقع منهم؛ إذ لو وقع، لنقل، وتوفرت دواعي المخالفين للإسلام على نقله. ويكفي في تحقق هذه المعجزة: أن لا يقع تمني الموت من اليهود الذين تُحدوا بها في عهد النبوة، وهم الذين كانوا يناوئون النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجحدون نبوته عناداً، فلا يقدح فيها أن ينطق يهودي بعد ذلك العهد بتمني الموت، وهو حريص على الحياة. وقد يخطر على بالك: أنه ورد في الحديث الصحيح النهي عن تمني الموت، فكيف يأمر به اليهود؟ وجواب هذا: أن الحديث نهى عن تمني الموت عند الشدائد؛ لأن ذلك جزع، وعدم رضا بما قسم الله. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}: هذه الجملة واردة مورد التهديد والوعيد. ومعنى الظالمين: اليهود الذين تقدم ذكرهم، أو يراد به: كل من صدر منه ظلم، ويتناول بعمومه أولئك اليهود؛ فقد ظلموا بتعديهم ما حدّ الله، وادعوا اختصاصهم بالجنة، وانفرادهم بها دون الناس. وقال: {عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}، مع أن علمه تعالى يتعلق بالظالمين وغيرهم، فكان التهديد والوعيد أظهر وأقوى مما لو قال: عليم بهم، أو عليم بالعباد. * * *

بِسْمِ اللهِ الرَحَمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 96 - 100]. {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}: ادّعى اليهود - فيما قص الله تعالى عنهم آنفاً -: أن الدار الآخرة خالصة لهم، ولما كان شأن الصادق في دعوى: أنه إذا مات، صار إلى الجنة، لا يكره الموت، أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يطلب منهم على وجه التحدي النطق بتمني الموت إن كانوا صادقين، فلم يفعلوا، ولما كان في الناس من لا يتمنى الموت، ولا يشتد حرصه على الحياة، أخبر في هذه الآية أن أولئك اليهود في غاية الحرص على الحياة، فقال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}، فالضمير (هم) في قوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} عائد على اليهود الذين أخبر ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني من السنة الثالثة.

عنهم بأنهم لن يتمنوا الموت أبداً. والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -. و (تجد) من وجد بمعنى: علم، كما ورد في قوله تعالى: {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102]. و {أَحْرَصَ} من الحرص، وهو شدة الطلب. والتنكير في قوله: {عَلَى حَيَاةٍ} يُشعر بأنهم يحرصون على مطلق حياة، ويفهم حرصهم على الحياة الطويلة بالأَولى. وشدة الحرص على الحياة في نفسها، ملقيةٌ في الجبن، واحتمال الضيم، ولا تقع أمة تحت سيطرة عدوها، وتظل أعناقها خاضعة له إلا من شدة حرصها على أن تحيا، ولو كما يحيا الأنعام. {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}: لما كان قوله تعالى: {أَحْرَصَ النَّاسِ} في معنى: أحرص من جميع الناس، صح أن يراعى المعنى، ويكون قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} معطوفاً عليه، والمعنى: ولتجدن - يا محمد - أولئك اليهود أحرص من جميع الناس، وأحرص من الذين أشركوا على حياة. والذين أشركوا: أي: جعلوا لله شريكاً، أو شركاء في خلقه، ولا يؤمنون بالبعث، ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، وهؤلاء داخلون في عموم الناس من قوله: {أَحْرَصَ النَّاسِ}. وإنما ذكروا بوجه خاص؛ مبالغة في توبيخ اليهود على شدة حرصهم على الحياة، حيث إن أولئك المشركين لا يؤمنون بحياة أخرى بعد هذه الحياة، فلا يستبعد حرصهم على طول البقاء في الدنيا، فإذا زاد حرص من له كتاب على حرصهم، وهو معترف بالدار الآخرة، كان جديراً بأعظم التوبيخ. {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}: هذه جملة مستأنفة لبيان غلوهم في الحرص على الحياة. و {يَوَدُّ}

من المودة، وهي المحبة. و {لَوْ} بمعنى أن المصدرية. و {يُعَمَّر}: من التعمير، وهو إطالة العمر، يقال: عمره الله؛ أي: أطال عمره. و {أَلْفَ سَنَةٍ}: كناية عن طول المدة التي يود أن يعيشها. والمعنى: يتمنى الواحد منهم أن يعيش السنين الكثيرة، ولو تجاوزت الحد الذي يبلغه الإنسان في العادة، ذلك أن التمني يقع على الجائز، والمستحيل وقوعه عادة. {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ}: الضمير {هُوَ} عائد على {أَحَدُهُمْ}. و {بِمُزَحْزِحِهِ} من الزحزحة، وهي التبعيد والتنحية. والمعنى: ما أحد منهم يُبعده وينحِّيه تعميره من العذاب. {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}: هذه الجملة تهديد ووعيد لأولئك اليهود الذين ورد في الآيات السابقة ذكر مساويهم، وتبين أنهم كاذبون في دعوى أنهم أهل الجنة المختصون بنعيمها. و {بَصِيرٌ} من البصر، وهو إدراك المرئيات، وقد يراد به: العلم، يقال: إن لفلان بصراً بهذا الأمر؛ أي: معرفة، وعلى هذا الوجه تفسر الآية. والمعنى: أن الله عالم بأعمالهم، محيط بما يسرون منها وما يعلنون، فهو مجازيهم عنها كما يشاء. {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ}: سبب نزول هذه الآية - كما جاءت به الروايات، وأجمع عليه أهل التفسير -: أن اليهود في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: إن جبريل عدونا، قالوا هذا عندما سمعوا أن جبريل هو الذي ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوحي، وأرادوا من هذا: أنهم لا يؤمنون بوحي يجيء به عدوهم. وهذا نوع من منكرات أقوالهم.

ولا يستبعد أن يصدر منهم هذا القول؛ فقد قالوا بعد مشاهدتهم لمعجزات موسى - عليه السلام - القاطعة: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]. ويكفي في تصدي القرآن لإنكار قولهم: "إن جبريل عدونا" أن يقوله طائفة منهم على وجه العناد عندما يُدْعَون إلى إجابة الدعوة، ولا يلزم أن تكون عداوة جبريل عقيدة معروفة بين طوائف اليهود. وجبريل: اسم أعجمي، وقد تصرفت فيه العرب على عاداتها في تغيير الأسماء الأعجمية، فاختلفت اللغات في النطق به، وأفصحها: جبريل؛ كقنديل، وهي لغة أهل الحجاز. والضمير في قوله: {فَإِنَّهُ} عائد على جبريل، وفي قوله: {نَزَّلَهُ} عائد على القرآن المفهوم من سياق النظم. والاكتفاء في الدلالة على مرجع الضمير بما يفهم من سياق الكلام معهود في البلاغة العربية، وإنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، وجعل محل تنزيل القرآن القلب، فقال: {نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ}؛ لأن السبب في تمكنه - صلى الله عليه وسلم - من تلاوة القرآن، وإبلاغه للناس ثباتُه في قلبه. {بِإِذْنِ اللَّهِ}: إذن الله: أمره. والمعنى: قل يا محمد: من كان عدواً لجبريل، فلا وجه لعدوانه؛ لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه، وإنما نزل بأمر الله الذي تجب طاعته في كل ما يأمر به؛ كما قال تعالى في آية أخرى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ} [مريم: 64]. {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}: {مُصَدِّقًا}: مؤيداً، وهو حال تتصل بالضمير العائد على القرآن في

قوله {نَزَّلَهُ}، وما بين يدي القرآن: ما نزل قبله من الكتب السماوية، وأعظمها: التوراة. وتأييد القرآن لها: موافقته لها في الدلالة على التوحيد وأصول الدين. {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}: هذا معطوف على قوله: {مُصَدِّقًا}، وقد تضمن وصف القرآن بأنه هدى وبشرى؛ أي: هادٍ إلى سبيل السعادة والفلاح، ومبشرٌ للمؤمنين بالجنة، وقال: {وَهُدًى وَبُشْرَى}؛ مبالغة في وصفه بالهداية والبشرى؛ كأنه - لعظم هدايته وبشراه - صار نفس الهداية والبشرى، وهذا ما يلاحظه البلغاء عند وصفهم للشيء، أو إخبارهم عنه بالمصدر بدل اسم الفاعل؛ نحو: زيد عدلٌ، بدل قولك: زيد عادل. وقال: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}؛ لأن الهدى إنما ينتفع به المؤمنون، والبشرى، وهي الخبر الدال على خير عظيم، لا يحصل إلا لهم. {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}: عداوة العبد لله في كفره به، ومخالفته لأوامره عناداً، وعداوته للملائكة في إنكار فضلهم، ووصفهم بما ينافي عصمتَهم ورفعةَ منزلهم عند الله، وعداوته للرسل تكذيبُه لهم، وقصده لإلحاق الأذى بهم ما استطاع. وإفراد جبريل وميكائيل بالذكر، مع اندراجهما تحت عموم (ملائكته) استدعاه تصريحُ اليهود بعداوة جبريل، وتعظيم ميكائيل في حديث سبب نزول قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ}، وفي إفرادهما بالذكر تقرير لفضل ميكائيل، وزيادة رد عليهم في عداوة جبريل. وعداوة الله للعبد: في غضبه

عليه، ومجازاته له على كفره، وعدم الاستمساك بعُرا طاعته. وقال: {عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}، ولم يقل: عدو له، أو لهم؛ ليدل على أن عداوة كل واحد ممن اشتملت الآية على ذكرهم كفر. والمعنى: أن من عادى الله، أو ملَكاً من ملائكته، أو رسولاً من رسله، فقد كفر، وباء بعداوة الله له، ومن باء بعداوة الله، فجزاؤه الخزي وعذاب الحريق. {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}: تستعمل الآية بمعنى: المعجزة، وتطلق على جماعة حروف وكلمات من القرآن. وقوله: {أَنْزَلْنَا} يجعل {آيَاتٍ} ظاهرة في هذا المعنى، فآيات القرآن بَيِّنات؛ أي: واضحة الدلالة على معانيها، فمن تعسف في تأويلها، وأتى بما لا تألفه العقول الراجحة، فقد خرج بها عن أن تكون آيات بينات. {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ}: الفاسق: من الفسوق، وهو الخروج من شيء إلى آخر، ويستعمل في الكفر والمعصية؛ لأنه خروج من فطرة الله التي هي حق وصلاح إلى ما هو باطل وفساد. والفسق إن كان بالمعصية، فهو أعظمها، وإن كان بالكفر، فهو أعظم الكفر. ومعنى الجملة: ما يكفر بهذه الآيات البينات إلا الماردون على الكفر؛ ذلك أنها واضحة الدلالة بوجوه إعجازها على أنها تنزيل من رب العالمين، فمن تدبرها، أفضت به إلى الإيمان الصحيح لا محالة. {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}: أفادت هذه الآية: أن من عادة اليهود نقض العهود. والاستفهام في قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا} للإنكارة بمعنى: ما كان ينبغي. {عَاهَدُوا عَهْدًا}:

أعطوا عهداً. و (نبذ) من النبذ، وهو طرحك الشيء غيرَ معتدّ به، ونبذُ العهد: نقضه، وترك العمل به. والفريق: الجماعة، قليلة أو كثيرة. و (كلما) في قوله تعالى: (كلما عاهدوا) تدل على أن نبذ العهود يتكرر منهم المرة بعد الأخرى، كما قال ابن جريج فيما نقل عنه في تفسير هذه الآية: "لم يكن في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه؛ يعاهدون اليوم، وينقضون غداً". وكم عاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفوا بما عاهدوا؛ كما فعل بنو قريظة والنضير!. قال تعالى: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} [الأنفال: 56]. وإنما قال: {فَرِيقٌ مِنْهُمْ}؛ لأن من بني إسرائيل من لم ينبذ العهد؛ كعبدالله بن سلام. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}: {بَلْ} حرف يستعمل للانتقال من خبر إلى خبر، وهي هنا للانتقال من الإخبار عن فريق من اليهود بأنهم ينقضون العهد كلما عاهدوا، إلى الإخبار عن أكثر اليهود بأنهم لا يؤمنون. والمعنى: أن فريقاً من اليهود ينقضون كل عهد يعاهدونه، بل أكثر اليهود لا يدخل الإيمان في قلوبهم. فيشمل لفظ {أَكْثَرُهُمْ} ذلك الفريق الذي ينبذ العهد، وغيرَهم ممن لم ينبذوا العهد، فكل منهما محكوم عليهم بأنهم لا يؤمنون، فلا يؤمن من اليهود عندما يدعون إلى الدين الحق إلا قليل. * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101 - 103]. {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ}: أخبر تعالى في الآية السابقة بأن عادة اليهود عدم الوفاء بالعهود؛ إذ قال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}. وفي ذلك تسلية لرسوله - عليه الصلاة والسلام -؛ حيث سلكوا معه الطريقة في عدم الأخذ بما انطوى عليه كتاب الله من التبشير به، وإلزامهم إتباعه، وهذا مورد قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ ... إلخ}. فالضمير (هم) في قوله: ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثالث من السنة الثالثة.

{جَاءَهُمْ} عائد على اليهود. والرسول: محمد - صلى الله عليه وسلم -. ووصف الرسول بأنه آتٍ من عند الله؛ تعظيماً له، ومبالغة في إنكار عدم إيمانهم به. و (ما معهم) يراد منه: التوراة. وتصديق الرسول لها من جهة أن ما جاء به موافق لها في أصول الدين، أو لأنه جاء على الوصف الذي ينطبق على وصف الرسول المبشَّر به في التوراة. {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}: النبذ: الطرح والإلقاء. و {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}: اليهود، والكتاب الذي أوتوه: التوراة. وكتاب الله: التوراة. ونبذهم لها؛ لأنهم كانوا يتمسكون بها، وهي تدل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وصفته، وتوجب عليهم الإيمان به، فجحدوا، وأصروا على إنكار نبوته. وقوله: {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} مثل يضرب للإعراض عن الشيء جملة، تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره؛ أي: تولى عنه معرضاً؛ لأن ما يجعل وراء الظهر لا ينظر إليه، والإعراض عن بعض كتاب الله عناداً، إعراضٌ عن الكتاب كله. {كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: أي: كأن ذلك الفريق الذين أعرضوا عن كتاب الله لا يعلمون أنه كتاب الله، أو أنه صدق وحق، والواقع أنهم يعلمون ذلك، وإنما نبذوه مكابرة وعناداً. وشبههم بمن لا يعلمون؛ لأن العالِم الذي لا يسير في الحياة على مقتضى علمه يضاهي الجاهل في الخوض في الباطل، والانغماس في الآثام. {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}: {وَاتَّبَعُوا}: من الاتباع، وهو الاقتداء. والضمير (واو الجماعة) يعود

على اليهود الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. {تَتْلُو} من التلاوة بمعنى: الاتباع أو القراءة. و {الشَّيَاطِينُ} جمع شيطان، وهو كائن حي خلق من نار، كما قال تعالى حكاية عنه: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]. ويطلق على الممتلئ شراً ومكراً من الأنس. وورد بهذا المعنى في قوله تعالى يصف حال المنافقين: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] وفي قوله تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]. ومن هنا استطاع بعض المفسرين أن يحمل الشياطين في الآية التي نحن بصدد تفسيرها على الأشرار من الناس. وسليمان: هو النبي سليمان، ويرتقي نسبه إلى إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام -. وما تتلوه الشياطين: هو السحر. وتلاوته على ملك سليمان: أي: اتباعه في عهد ملك سليمان، ومعلوم أن ملك سليمان كان شريعة ونبوة. {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}: نزه الله بهذه الجملة سليمان - عليه السلام - عن عمل السحر الذي يتعاطاه أولئك الشياطين، وينسبونه إليه، ودلت الجملة على أن ذلك السحر ضرب من ضروب الكفر؛ إذ قال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}، ودلت على أنه من اختلاق أولئك الشياطين، فقال تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}. {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}: الضمير في قوله: {يُعَلِّمُونَ} عائد على الشياطين، أو على اليهود، ويكون الكلام عن الشياطين انتهى عند قوله: {كَفَرُوا}، وتكون جملة: {يُعَلِّمُونَ} بياناً لوجه اتباعهم للشيطان المخبر عنه بقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا ...}.

والسحر في أصل اللغة: الصَّرف، وشاع استعماله في كل عمل يخفى سببه، ويصور الشيء بخلاف صورته، ويقلبه عن جنسه في الظاهر لا في الحقيقة، وورد السحر في القرآن والحديث، فاتفق علماء الإسلام على أن هناك شيئاً يسمى سحراً، واختلفوا في تصويره، فذهب كثير من أهل العلم إلى أن للسحر آثاراً حقيقة، وقالوا: هو مزاولة النفوس الخبيثة لأفعال يترتب عليها أمور خارقة للعادة، وقالوا: هو خارق للعادة يظهر من نفس شريرة بمباشرة أعمال مخصوصة. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن السحر لا يبلغ أن يغير الحقائق في نفسها، وإنما هو تخجل وتمويه؛ كما قال تعالى في سحرة فرعون: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، فأخبر أن ما ظنوه سعياً منها لم يكن سعياً، وإنما كان تخييلاً، وقال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116]؛ أي: موهوا على الناس حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى، وقال هؤلاء: "لا يفعل الإنسان في غيره فعلاً من غير مماسة ولا ملامسة. وإذا كان السحر لا يتجاوز التخييل والتمويه، استبان الفرق بينه وبين المعجزة جلياً، فالمعجزات على حقائقها، وباطنها كظاهرها، ولو اجتهد الخلق كلهم على مقابلتها بالمثل، لما استطاعوا أن يأتوا بمثلها، وأما السحر، فإنما هو ضرب من الحيلة والتلطف لإظهار أمور لا حقيقة لها، ومن شاء أن يتعلم ذلك، بلغ فيه مبلغ غيره. وقد يلوح للناظر أن السحر الذي خاضوا في الحديث عنه نوعان: أحدهما: قلب حقيقة الشيء إلى حقيقة شيء آخر على وجه خرق العادة

في الواقع؛ كقلب جماد إلى حيوان، أو حيوان إلى جماد، وهذا النوع لم يقع لنا دليل، ولا ظاهر في الشريعة على وقوعه، وربما كانت الحاجة إلى الفرق بين المعجزة والسحر فرقاً واضحاً تقتضي عدم صحة وقوعه، فالساحر لا يبلغ أن يقلب العصا ثعباناً، ولا أن يفلق البحر فتمر بين فرقيه الجيوش، ولا أن يجعل الماء ينبع من بين الأصابع، فتروى منه العطاش، وأعني: أنه لا يجري على يده من خوارق العادات مثل ما يجري على أيدي الأنبياء للإعجاز. والنوع الآخر: وهو أن يزاول بعض النفوس الخبيثة أفعالاً يكون لها أثر في شخص آخر من غير اتصال ولا مماسة، فجائز الوقوع، ولا يبلغ في الاستبعاد مبلغ النوع الأول. {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}: هذا معطوف على {السِّحْرَ} في قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} و {الْمَلَكَيْنِ}: تثنية ملَك - بفتح اللام - والملك كائن نعلم من حقيقته أنه ذو حياة ونطق عقلي، ومن مميزاته: أنه لا يعصي الله فيما يأمره به؛ أي: إنه مفطور على الطاعة يأتيها من غير تكلف. و (بابل): بلدة قديمة بالعراق ينسب إليها السحر والخمر. و {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} اسمان للملكين. والذي أنزل عليهما: وصف السحر، وماهيته، وكيفية الاحتيال به؛ ليعرَّفاه الناس فيجتنبوه، ولكن الشياطين عرفوه، فعمِلوا به. والمؤمنون عرفوه، واستفادوا من الاطلاع عليه، فتجنبوه. واختصت بابل بالإنزال؛ لأنها كانت كثر البلاد عملاً بالسحر. ومما يروى في أصل

سحر بابل: أنه كان مبنياً على تعظيم الكواكب، وتسميتها آلهة، والاعتراف بأنها تقدر على ضر الشخص ونفعه، وكانت للسحر وقتئذ رُقى تشتمل على شرك بالله، يتقربون بها إلى الكواكب، ويموهون بها على العامة. {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}: الضمير في قوله: {يُعَلِّمَانِ} عائد إلى هاروت وماروت. والفتنة: المحنة والاختبار لتمييز المطيع من العاصي. ومعنى (لا تكفر): لا تعمل بما تتعلمه من السحر الذي هو من قبيل الكفر، وتعتقد صحته. ومعنى الآية: أن الملكين لا يعلِّمان أحداً من الناس السحر حتى يبذلا له النصيحة، ويقولا: إن هذا الذي نصفه لك إنما الغرض منه تمييز السحر من المعجزة، فحذار أن تستعمله فيما نهيت عنه، فتكون من الكافرين. والحكمة من تعليم الملكين الناس السحر: أن السحرة كثروا في ذلك العهد، واخترعوا فنوناً غريبة من السحر، وربما زعموا أنهم أنبياء، فبعث الله تعالى الملكين؛ ليعلما الناس وجوه السحر حتى يتمكنوا من الفرق بينه وبين المعجزة، ويعرفوا أن الذين يدعون النبوة كذباً إنما هم سحرة لا أنبياء. {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}: الضمير في قوله: (يتعلمون) عائد على {أَحَدٍ}، وعاد عليه ضمير الجمع (واو جماعة)، وهو في اللفظ مفرد؛ لأنه وارد في سياق النفي، ومن المعروف أن الاسم النكرة إذا ورد بعد النفي كان في معنى أفراد كثيرة، فيصح أن يعبر عنه بضمير الجمع. وذكر في هذه الجملة صنفاً خاصاً من السحر، وهو ما يتجه فيه الساحر إلى الزوجين، ويكون من أثره إزالة الألفة بينهما، وإحداث بغضاء تصير بهما

إلى أن يتفرقا. وتخصيص هذا الصنف من السحر بالذكر من قبيل التنبيه على صورة تظهر فيها مفسدة السحر بأشد ما يكون. {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ}: نسب في الجملة السابقة إلى السحر الضرر إذ قال: {مَا يَضُرُّهُمْ}، ودفع بهذه الجملة توهم أن يكون السحر مضراً بذاته؛ بحيث لا يتخلف عنه الضرر متى تعاطاه الساحر، وبين أن الضرر من السحر إنما يحصل بإذنه تعالى. والضمير (هم) عائد على السحرة الذين علمهم الشياطين السحر. و (ضارين) من الضرر، وهو ما يحصل به ألم في الجسم أو النفس. وإذنُ الله في هذه الآية: تخليته بين المسحور وضرر السحر؛ أي: إن شاء الله، حصل الضرر، وإن شاء، منعه، فلا يلحق المسحور منه أذى، وهذا ظاهر في أن لما كانوا يتعلمونه من السحر ضرراً، إلا أن يشاء الله وقاية المسحور منه. {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}: الضمير في قوله: {عَلِمُوا} عائد على أولئك اليهود الذين نبذوا كتاب الله، واستبدلوا به السحر. والخلاق: النصيب، والمعنى: ولقد علم أولئك النابذون لكتاب الله، المؤثرون عليه اتباع السحر: أن من استبدل السحر بكتاب الله، ليس له حظ من الجنة؛ إذ لم يكن له إيمان ولا عمل صالح يجازى به، ويثاب عليه. {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}: {شَرَوْا} باعوا، وبيع الأنفس يعني به بيع حظوظها من نعيم الجنة.

والمعنى: ولبئس شيء باع به أولئك السحرة حظوظ أنفسهم تعلمُ ما يضر من السحر، والعملُ به، ولو كانوا من أهل العلم، أو لو كانوا يعلمون مذمومية الشراء المذكور، لامتنعوا عن ذلك. وأثبت لهم في الجملة السابقة العلم بأن من أقبل على السحر بدل كتاب الله ليس له في الجنة من نصيب، وهو يتضمن علمهم بقبح السحر، وأنه عمل مذموم؛ لأن الشراء المذكور لما كان موجباً للحرمان في الآخرة، كان مذموماً غاية الذم، ثم نفى عنهم في هذه الجملة علمهم بذلك؛ إذ قال: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، وهذا جار على الأسلوب المعروف في فنون البلاغة من أن العالِم بالشيء إذا لم يجر على موجب علمه قد ينزل منزلة الجاهل به، وينفى عنه العلم كما ينفى عن الجاهلين. {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}: هذه الجملة من قبيل تعقيب الوعيد بالوعد. والمثوبة: الثواب والأجر. والمعنى: ولو أن أولئك الذين يتعلمون السحر ويعلمونه آمنوا بالرسول المشار إليه بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ}، أو بالقرآن والتوراة، واتقوا الله بامتثال ما أمر به، واجتنابِ ما نهى عنه، لأثيبوا، وثواب الله خير لهم من السحر، ولو كانوا من أولي العلم، لعلموا ذلك، واستبدلوا بالسحر ما هو خير منه. * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 104 - 108]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: هذا نداء من الله - جل شأنه - للمؤمنين الذين يشهدون مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد صدرت به الآية؛ لأهمية الأدب الذي وردت الآية داعية إلى الأخذ به، فإن نداء المخاطبين باسم المؤمنين يذكرهم بأن الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقى أوامر الله ونواهيه بحسن الطاعة. {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا}: {رَاعِنَا}: من المراعاة، وهي المراقبة والانتظار والإمهال، وقد ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الرابع من السنة الثالثة.

كره الله أن يخاطب نبيه - عليه الصلاة والسلام - بهذه الكلمة، وإنما كرهها إذ لحقها وجه من المفسدة، هو أن المسلمين كانوا يقولون: يا رسول الله راعنا؛ أي: راقبنا وأمهلنا حتى نتمكن من حفظ ما تلقيه لنا، فسمعتهم اليهود، فصاروا يقولون: يا أبا القاسم! راعنا، يوهمون أنهم يريدون طلب المراعاة، وهم يريدون معنى اسم الفاعل من الرعونة التي هي الحمق، فنهى الله تعالى المسلمين عن استعمال هذه الكلمة في خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يتخذها اليهود وسيلة إلى إذاية النبي بالسب والتنقيص. {وَقُولُوا انْظُرْنَا}: نهى المسلمين عن أن يقولوا في خطاب النبي - عليه الصلاة والسلام -: راعنا، وأمرهم بأن يقولون مكانها: {انْظُرْنَا}، وهي من نظر بمعنى: انتظر، تقول: نظرت الرجل أنظره: إذا انتظرته وارتقبته، وبهذا المعنى ورد قوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]. وفي الآية تنبيه لأدب جميل هو أن الإنسان يتجنب في مخاطباته الألفاظ التي توهم جفاء أو تنقيصاً في مقام يقتضي إظهار مودة أو تعظيم. {وَاسْمَعُوا}: أمر للمسلمين بحسن الاستماع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ بأن يقبلوا عليه بقلوبهم حتى يحفظوا ما يلقيه عليهم، ولا يفوتهم منه شيء. {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: الكافرون: اليهود الذين اتخذوا كلمة: {رَاعِنَا} وسيلة إلى إذايته - عليه الصلاة والسلام -. والأليم: الموجع.

{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}: {يَوَدُّ}: من الود، وهو محبة الشيء مع تمنيه. أهل الكتاب: اليهود والنصارى. والمشركون: عبدة الأوثان. والمعنى: لا يحب الكافرون من اليهود والنصارى ولا المشركون أن ينزِّل الله عليكم شيئاً من الخير؛ بغضاً فيكم، وحسداً لكم، وأعظم خير ينزله الله على المسلمين، ويشتد حسد أهل الكتاب لهم عليه هو القرآن الكريم؛ لما فيه من حكمة رائعة، وحجة بالغة، وبلاغة باهرة. {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}: أفادت الجملة السابقة أن الكافرين لا يودون إنزال الخير على المؤمنين، وجاءت هذه الجملة لبيان أن لله التصرف المطلق في إنزال الخير على عباده، رضي من رضي، وكره من كره، فقال تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ} ... إلخ. الاختصاص بالشيء: الانفراد به، تقول: اختص فلان بكذا؛ أي: انفرد به، ويستعمل متعدياً إلى المفعول به، فتقول: اختصصت فلاناً بكذا؛ أي: أفردته به، وجعلته مقصوراً عليه، وعلى هذا الوجه ورد الاختصاص في الآية. والرحمة تشمل النبوة والقرآن والنصر، وذلك كله مما لا يود الكافرون إنزاله على المؤمنين. وقال تعالى: {مَنْ يَشَاءُ}؛ ليعلم الناس أن اختصاصه بعض عباده بالرحمة منوط بمشيئته وحدها، وما لأحد عليه من حق. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}: الفضل: الخير، وكل خير يناله العباد في دينهم أو دنياهم إنما هو من عنده تعالى، يتفضل به عليهم، وذلك هو الفضل العظيم.

{نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}: وجه انتظام هذه الآية بما قبلها: أن نسخ الآية بخير منها من قبيل الفضل العظيم، فكأنها جاءت لتدل على أن الله لا يترك أولياءه المؤمنين من أن ينزل عليهم خيراً يود الكافرون أن لا ينزل عليهم. والنسخ في اللغة: الإبطال والإزالة، يقال: نسخت الشمسُ الظل؛ أي: أزالته. وفي عرف الشرع: بيان انتهاء مدة الحكم بخطاب لولا هذا الخطاب، لاستمر الحكم على مشروعيته بمقتضى النص الذي تقرر به أولاً. والآية: طائفة من القرآن. {أَوْ نُنْسِهَا} - بضم النون وكسر السين - من أنسى الشيء؛ أي: جعله منسياً، فمعنى نسخ الآية في قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}: رفع حكمها مع بقائها في نظم القرآن. ومعنى إنسائها في قوله: {نُنْسِهَا}: رفع الآية من نظم القرآن جملة. وسمي رفع الآية من النظم جملة إنساء؛ لأن شأن ما لا يبقى في النظم أن ينساه الناس؛ لقلة جريانه على الألسنة بالتلاوة والاحتجاج به. ويصح إبقاء الإنساء على حقيقته، وهي إذهاب الآية من القلوب، وإزالتها من الحافظة بعد أن يقضي الله بنسخها. ذلك أن إنساء الناس آية لم تنسخ إضاعة لشيء من القرآن، والله تعالى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. ومما يدل على نسخ الآية المنساة؛ أي: انتهاء مدة التكليف بها: قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، فيكون قوله تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا}

معبراً عن حال تعرض في بعض ما سيرفع من القرآن جملة، وهي أن ينساه الناس؛ لذهابه من قلوبهم قبل أن يعرفوا نسخه، ووجه ذكر هذا الحال بوجه خاص: أن ما ينسى لعدم حضوره في القلوب لا تعرف الآيات التي تقوم مقامه، فربما يقع في الوهم أنه ذهب من غير أن ينزل من الآيات ما يغني غناءه. وقرئ (ننسَأْها) - بالهمز -، من النسء، وهو التأخير. وعلى هذه القراءة يحمل النسخ في قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} على النوعين السابقين: نسخ الآية حكماً فقط، ونسخها حكماً وتلاوة. ومعنى ننسأها: نؤخر إنزالها إلى وقت ثان، فلا ننزلها، وننزل ما يقوم مقامها في القيام بالمصلحة. ويصح أن يفهم على أن الله تعالى إذا نسخ آية، أتى بالآية الناسخة، وهي خير من المنسوخة، أو مثلها، وإذا أخر آية، وهي الناسخة؛ أي: أبقاها إلى أن يأتي وقتها المناسب، أنزل الآية التي يراد نسخها من بعد، وهي عند إنزالها خير من الناسخة، أو مثلها. والخيرية في قوله: (خير منها)، والمماثلة في قوله: {أَوْ مِثْلِهَا} ترجع إلى ثواب العمل بها؛ فقد يكون ثواب العمل بالناسخة أوفر من ثواب العمل بالمنسوخة قبل نسخها، ويكون مماثلاً له، وإن كان كل واحدة من الآيتين: الناسخة والمنسوخة - بالنظر إلى الوقت المقدر للعمل بها - أَقْوَمَ على المصلحة من الأخرى. ولم يزل علماء السلف منذ عهد الصحابة - رضي الله عنهم - يذهبون إلى أن نسخ بعض الأحكام ثابت في الشريعة، إلى أن ظهر أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني المتوفى سنة 322، فأنكر وقوع النسخ في شريعتنا، وحمل النسخ الوارد في الآية على معنى نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين.

قال أبو بكر الجصاص المتوفى سنة 370 في كتاب "الأحكام": "وزعم بعض المتأخرين من غير أهل الفقه أنه لا نسخ في شريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وأن جميع ما ذكر فيها من النسخ فإن المراد منه نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين؛ كالسبت، والصلاة إلى المشرق". ثم قال: فارتكب هذا الرجل في الآي المنسوخة والناسخة، وفي أحكامها أموراً خرج بها عن أقاويل الأمة، مع تعسف المعاني واستكراهها. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: الاستفهام للتقرير، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو موجه بمعناه إلى أمته المسلمين. و (القدير) في صفات الله: المتمكن من أن يفعل ما يشاء على قدر ما تقتضيه الحكمة. ووجه اتصال هذه الجملة بحديث النسخ: أن النسخ إنما يكون بعد خلق أسباب يصير بها الشيء في وقتٍ مصلحةً، وفي وقت آخر مفسدة، ولا يخلق هذه الأسباب على الوجه المهيئ للنسخ، ويقرر الحكم الفاصل ملزماً به الناس، رضوا أم كرهوا، إلا القادر على كل شيء. وذهب بعض الكاتبين في التفسير منذ عهد قريب إلى أن المراد من {آيَةٍ} وفي قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}: المعجزة، لا آية الأحكام. وهذا الرأي مستقيم من جهة اللغة، ويساعده ما اتصل بالآية من قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، ولكن السلف منذ عهد الصحابة - رضي الله عنهم - تضافروا على تفسيرها بآية الأحكام، ولم ينقل عنهم - فيما علمنا - خلافٌ في ذلك. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: هذه الجملة واقعة موقع الدليل على ما تضمنته الجملة السابقة من

كمال قدرته تعالى وشمولها لكل شيء؛ إذ معناها: أنه تعالى يملك كل ما هو كائن. وخص السموات والأرض بالذكر؛ لأنهما من أعظم المخلوقات، أو ليدل بالسموات على المخلوقات العلوية، ويالأرض على المخلوقات السفلية، فهو الذي يتصرف في جميع الكائنات، يفعل ما يشاء في ذواتها وأحوالها، وإنما يملك هذا التصرف المطلق من وسعت قدرته كل شيء. {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}: وليّ الإنسان: من يتولى أموره، ويُجريها على حسب مصالحه. ونصيره: من يعينه ويقويه على من يناوئه. فمعنى هذه الجملة: ما لكم من غير الله من يتولى أموركم ويدبرها بحق، ولا من يعينكم على أعدائكم حتى تخلصوا من شرورهم، وتكونوا أنتم الأعزاء وهم الأذلاء، ومن كان الله وليه ونصيره، علم يقيناً أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له في دنياه وآخرته. {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}: دلت آية النسخ على أنه تعالى يختار للمسلمين ما هو الخير والأصلح لهم في التشريع، وهذا يستدعي تفويض أمر هدايتهم إلى تدبيره، فيكتفون بما أقامه على صحة الدعوة من آيات بينات، ويتقبلون ما يشرعه لهم ملتزمين الوقوف عنده، وجاءت للتنبيه لهذا آية: {أَمْ تُرِيدُونَ} ... إلخ. أم: بمعنى: بل، وهي تفيد انتقال من جملة إلى جملة، مع بقاء الجملة الأولى؛ أعني: قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ} بحالها من إفادة التقرير، وتقدر بعد أم همزة الاستفهام للإنكار، والخطاب للمسلمين. وإخراج الكلام في صورة خطاب الجماعة يشعر بأن الخطاب في الآية السابقة: {أَلَمْ تَعْلَمْ} موجه في

المعنى إلى جماعة المؤمنين. والمعنى: لا ينبغي لكم أن تقصدوا إلى سؤال رسولكم مسائل لا تلائم الإيمان الحق كما فعل قوم موسى إذ ألقوا عليه - بعد ظهور المعجزات، ووضوح الدلائل على رسالته - مسائل تدل على عدم رسوخ الإيمان في قلوبهم؛ كقولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]. وفي آية: {أَمْ تُرِيدُونَ} ومبالغة في الوصاية بالحذر من الوقوع فيما وقع فيه بنو إسرائيل من الاقتراحات التي لا تصدر عن قوم يوقنون؛ إذ جعل محط الإنكار إرادتهم للسؤال، وفي النهي عن إرادة الشيء نهي عن فعله بأبلغ عبارة. وقوله: {مِنْ قَبْلُ} تأكيد لما فهم من الفعل الماضي {سُئِلَ}؛ فإنه يدل على أن سؤالهم كان في زمن مضى. {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}: تبديل الكفر بالإيمان: أخذه بدل الإيمان. و {سَوَاءَ السَّبِيلِ}: وسطه. والسائر في وسط الطريق هو الذي يكون بمأمن من أن يتيه عن الغاية المنشودة. ومفاد هذه الآية: أن من يقترح على الرسول ما يقترح بعد ظهور الآيات البينات، والدلائل الساطعات؛ مثلما كان بنو إسرائيل يقترحونه على موسى، فقد اختار الكفر على الإيمان، وخرج عن الصراط السوي الذي هو الدين القيم، ومن المعروف أن عقبى الكافرين النار. * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحَمنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 109 - 112]. {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا}: هذا بيان لنوع من الشر الذي يضمره اليهود للمسلمين، وهو تمنيهم ارتداد المسلمين عن دينهم الحق. وودّ: تمنى. والكتاب: التوراة. والكثير من أهل الكتاب: بعض أحبار اليهود. و {يَرُدُّونَكُمْ} من رد بمعنى: صَيَّرَ، والردُّ إلى الكفر معناه: نقلهم من الإيمان إلى الكفر، فهو يستلزم أن يكونوا مؤمنين. وإنما صرح بذلك، فقال: {مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ}؛ لإظهار مزيد التشنيع عليهم فيما تمنوه؛ حيث تمنوا أن يكون مكان الإيمان كفر، وللتنبيه ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الخامس من السنة الثالثة.

على أن ما تمنوه بعيد الوقوع؛ فإن الإيمان الراسخ يمنع صاحبه من الانتقال منه إلى كفر. {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}: هذا علة لما تضمنته الجملة السابقة من تمنيهم رد المسلمين كفاراً. والحسد: قلق النفس من رؤية نعمة يصيبها إنسان، وينشأ عن هذا القلق تمني زوال تلك النعمة، وتمني زوال النعمة عن الغير مذموم بكل لسان، إلا نعمة أصابها فاجر أو جائر يستعين بها على الشر والفساد؛ فإن تمني زوالها كراهة للجور والفساد لا يدخل في قبيل الحسد المذموم، فإن لم تتمنَّ زوال النعمة عن شخص، وإنما تمنيت لنفسك مثلها، فهي الغبطة والمنافسة، وهي محمود؛ لأنها قد تنتهي بالشخص إلى اكتساب محامد لولا المنافسة، لظل في غفلة عنها. والحسد قد يهجم على الإنسان، ولا يكون في وسعه دفعه لشدة النفرة بينه وبين المحسود، وإنما يؤاخذ الإنسان على رضاه به، وإظهار ما يستدعيه من القدح في المحسود، والقصد إلى إزالة النعمة عنه. وعلَّل تمنيهم للمسلمين الكفر بعد الإيمان بالحسد؛ لينفي ما قد يخطر بالبال من أن تمنيهم ذلك جاء من جهة تدينهم وميلهم إلى الحق، ولو بحسب زعمهم. ومعنى كون الحسد من عند أنفسهم: أنه راسخ في طبائعهم، فلا يطمع في صرفه عن قلوبهم في حكمة أو موعظة. ودل قوله: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} على أنهم يوقنون في أنفسهم بصحة دين الإسلام؛ إذ الإنسان لا يحسد آخر على دين إلا أن يعرف في نفسه صحته، وأنه سبيل النجاة والفلاح.

{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}: معنى هذا: أن ودادتهم لكفركم بداعي الحسد وقعت بعد أن تبين لهم الحق، وهو صدق دعوة الإسلام؛ بما عرفوه من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما عاينوه في التوراة من النعوت المطابقة لما هو عليه، فكفْر هؤلاء كان على سبيل العناد، والجمود على الباطل، لا عن جهالة بصدق النبوة المحمدية. ويؤخذ من هذا: أن المراد بقوله: {كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}: اليهود الذين لهم علم بما في التوراة، واطلاع على سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك شأن أحبارهم. {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}: بعد أن حذّر المسلمين من مكر يكنه كثير من أهل الكتاب في أنفسهم، وهو تمنيهم تصيير المسلمين كفاراً، أمر المسلمين بموادعتهم، والصفح عنهم إلى حين، فقال تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا ...} إلخ. والعفو: ترك المؤاخذة على الذنب. والصفح: ترك التأنيب عنه، مأخوذ من الإعراض بصفحة العنق. والأمر في قوله تعالى: {بِأَمْرِهِ}: الإذن للمسلمين بالقتال عندما يكون لهم قوة يتمكنون بها من جهاد عدوهم. ومعنى الجملة: قابلوا أولئك اليهود بوجه العفو؛ بأن لا تتعرضوا لمجازاتهم على ما يظهر من آثار ذلك التمني والحسد في قول أو فعل، وأظهِروا أنكم لم تطلعوا على شيء من مكرهم حتى يأذن الله لكم بقتالهم، ودفعِ شرهم بقوة السلاح. وسمى ترك عقوبة المسلمين للكافرين عفواً، مع ضعف المسلمين، وما كان للكفار وقتئذ من شوكة، والعفو إنما يكون عند القدرة؛ للتنبيه على أن أصحاب الحق الذين هم تحت رعاية الله وتأييده

في حكم الأقوياء. فترك هؤلاء المحقين للقيام في وجوه أولئك المبطلين اتقاء لضرر أكبر، يصح أن يسمى عفواً. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: تضمنت الجملة السابقة وعداً من الله للمؤمنين بالقوة والنصر، وكانوا وقتئذ في حال قلة وضعف بالنسبة إلى كثرة عدوهم وقوته. فاقتضت هذه الحال تأكيد ذلك الوعد، فجاءت هذه الجملة لتأكيده؛ إذ بينت لهم أن كل شيء داخل تحت سلطان قدرته تعالى، وقد وعدهم بالتأييد على عدوهم، وإذا كان تعالى قادراً على إنجاز ما يعدهم به، وقع الموعود به في الوقت المسمى له لا محالة. وذكر اسم الجلالة في الجملة السابقة يقتضي أن يؤتى في هذه الجملة بالضمير، فيقال: إنه على كل شيء قدير، ولكن إعادة ذكر اسم الجلالة في الجملة يجعلها مستقلة، بخلاف ما لو أتى بالضمير، فإنه يشعر بتبعيتها للجملة الأولى. واستقلال الجملة يدل على شدة عناية المتكلم بالمعنى الذي تتضمنه. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}: أمرهم في الآية السابقة بالعفو والصفح عن أعدائهم، لحكمة تجعل العفو والصفح خيراً من العقوبة والتأنيب، وأمرهم في هذه الآية بالمواظبة على عمودي الإسلام، وهما: العبادة البدنية التي تؤكد صلة القرب من الله، وهي الصلاة، والعبادة المالية التي تؤلف بين قلوب الموسرين والمعسرين، وهي الزكاة.

{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} أمر في الجملة السابقة بالصلاة والزكاة على وجه خاص؛ لعظم شأنهما، وجاءت هذه الجملة مرغبة في فعل الخير على وجه عام، فتندرج فيها الصلاة والزكاة وغيرهما من الأعمال الصالحة فرضاً أو تطوعاً. وقال: {لِأَنْفُسِكُمْ}؛ تنبيهاً على أن ما يقدمونه من خير إنما هو لمصلحة أنفسهم. والذي يجدونه عند الله هو ثواب ما يقدمونه من العمل الصالح. وقال: {عِنْدَ اللَّهِ}؛ إشارة إلى عظم الثواب بعظمة من تدخر عنده أعمال الخير، ويتولى الجزاء عنها. {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: دلت الجملة السابقة على أن كل خير يفعلونه يجدون ثوابه عند الله، وجاءت هذه الجملة لتأكيد ذلك الوعد، فقد دلت على أن الله لا يخفى عليه عمل عامل، قليلاً كان أو كثيراً، وإذا كان عالماً محيطاً بكل عمل يصدر من الإنسان، كانت الأعمال محفوظة عنده تعالى، فلا يضيع منها عمل دون أن يلقى العامل جزاءه يوم الدين. وإعادة ذكر اسم الجلالة في هذه الجملة، مع تقدم ذكره في قوله: {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} يجعل الجملة مستقلة، وقد سبق آنفاً أن استقلال الجملة يدل على شدة الاهتمام بالمعنى الذي تضمنته، ومن فوائد إظهار اسم الجلالة في مقام يجوز فيه الإضمار: أن تكون الجملة كحكمة تقال عند كل مناسبة؛ بخلاف ما لو أتى بدل الاسم الظاهر بالضمير، فإن إلقاءها عند المناسبة يستدير أن تذكر الجملة السابقة معها؛ حتى يعرف المراد من الضمير.

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}: هذا بيان لنوع آخر من أباطيل أهل الكتاب. والضمير في قوله: (قالوا) عائد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى. والهود: اليهود، وقدمهم في الذكر على النصارى؛ لتقدمهم في الزمان، وأصل اللفظ المساوي لمعنى الآية: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، ولكن الآية عدلت في أداء هذا المعنى عن طريق المساواة، وسلكت طريق الإيجاز، فأصدرت القولين في جملة واحدة، وعطفت أحد الفريقين على الآخر بأو، فجات الجملة في الأسلوب التي وردت به الآية ثقة بفهم السامع، وأنه لعلمه بتضليل كل واحد من الفريقين صاحبه لا يذهب في فهم الآية إلى أن كل واحد منهم يقول: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، بل المقصود المعنى الذي أوردناه في أسلوب المساواة. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 135]؛ أي: قالت اليهود: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى. {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ}: الأماني: جمع أمنية، وهي ما يُتمنى. واسم الإشارة مشار به إلى ما تضمنه قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ} ... إلخ، وهو يتضمن أماني متعددة: أمنية اليهود أن لا يدخل الجنة إلا اليهود، وأمنية النصارى أن لا يدخل الجنة إلا النصارى، وأمنية كل من الفريقين حرمان غيرهم كالمسلمين من الجنة، ولهذا جاء خبر اسم الإشارة جمعاً، فقال تعالى: {أَمَانِيُّهُمْ}.

{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: لما ادعى كل من الفريقين اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتهم، جاءت هذه الجملة لمطالبتهم بالدليل على صحة دعواهم. و {هَاتُوا}: أحضروا. والبرهان: الدليل على صحة الدعوى. ولما كانت دعواهم الاختصاص بدخول الجنة شأنها أن تثبت بوحي من الله، لا لمجرد التمني، وكتبهم خالية مما يدل على صحتها، قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}؛ أي: أحضروا الدليل من كتبكم على أنكم مختصون بدخول الجنة إن كنتم صادقين فيما تدعون. والآية وردت خطاباً للمدعي بالباطل، ومطالبة له بذكر الدليل على ما ادعى؛ تبكيتاً وتعجيزاً. ويؤخذ من الآية: بطلان التقليد في أمور الدين، وهو قبول قول الغير مجرداً من الدليل، فلا ينبغي للإنسان أن يقرر رأياً في الدين إلا أن يسنده إلى دليل، كما أنه لا يقبل من غيره قولاً إلا أن يكون مؤيداً بدليل. أما عدم صحة التقليد في أصول الدين - أي: فيما يرجع إلى حقيقة الإيمان - فالأمر فيه جلي واضح. ولا نريد من هذا أنه يجب على كل مكلف التعمق في الطرق المدونة في علم الكلام، بل يكتفى في إيمان الشخص بأي دليل ينشرح به صدره للإسلام، وتحصل له به الطمأنينة؛ كأن يستمد إيمانه بالله من التنبه لحكمة الله في إتقان المخلوقات، أو في رعاية اللطف والرفق بالإنسان، ويستمد إيمانه بصدق الرسول من الاستماع إلى القرآن الكريم، أو من سيرته التي لم يظهر بمثلها أو بما يقرب منها بشر غير رسول. والقصد أن لا يكون إسلامه لمجرد أنه نشأ في بيئة إسلامية، أو ولد من أب وأم مسلمين.

وأما التقليد في الفروع؛ أي: في الأحكام العملية، فالناس بالنظر إلى القدرة على تمييز الصواب من الخطأ درجات، فمن له قدرة على فهم الأدلة، ومعرفة الراجح من الأحكام، لا يجوز له أن يتلقى الحكم من غيره إلا مقروناً بدليل، وإن كان قاصراً عن هذه الدرجة، أخذ بما يفتيه به العالم المشهود له بالرسوخ في علم الشريعة، والمعروف بالمحافظة على لباس التقوى ما استطاع. {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ}: هذا جواب عن قولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ} ... إلخ. و {بَلَى} حرف يصدر به الجواب لإثبات ما نفي في الجملة السابقة، والجملة السابقة نفت أن يدخل غير اليهود والنصارى الجنة، فتكون كلمة {بَلَى} لإثبات دخول غيرهم فيها، وهم المشار إليهم بقوله: {مَنْ أَسْلَمَ}. و {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}: اتجه إليه، وأخلص نفسه له، و {وَهُوَ مُحْسِنٌ}: من الإحسان، وهو الإتيان بالعمل على وجه حسن. وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإحسان بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه". والأجر: الثواب، وسمي الثواب أجراً؛ إيذاناً بقوة ارتباطه بالعمل، فمن المعروف أن الأجر لا ينال بدون العمل، وذكر الرب في هذا المقام يقوي رجاء العبد نيل الثواب الموعود به في الآية؛ فإن الرب - وهو الناظر في مصلحة العبد، المدبر لشؤونه - لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعماله الصالحة إلا أحصاها، وأعد لها الجزاء الأوفى. ولما كانت كثرة الثواب على الأعمال الصالحة لا تتم بها النعمة إلا إذا أمن الإنسان من أن يلحقه مكروه، أو يفوته مطلوب، قال تعالى:

{وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}: لا يخافون أن يصيبهم مكروه، ولا يحزنون لفوات مرغوب فيه. والمعنى: أنه لا يعتريهم ما يوجب الخوف أو الحزن، بل هم في أمن وسلامة من كل ما يكدر صفو ذلك النعيم المقيم. وأعيدت الضمائر على كلمة (من) في قوله: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} مفردة؛ مراعاة للفظها؛ فإنها في صورة المفرد، ثم أعيدت عليها ضمائر الجمع في قوله: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}؛ مراعاة لمعناها؛ لأنه لم يرد منها شخص واحد، وإنما أريد منها كل شخص يتحقق فيه إسلام الوجه إلى الله. والجمع بين مراعاة لفظ (من) ومعناها في كلام واحد معروف في الأساليب العربية البليغة نثراً وشعراً. * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحَمْنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 113 - 115]. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ}: تضمنت الآية السابقة تزكيةَ كل فريق من اليهود والنصارى نفسَه، وتضليلَه لغيره على وجه عام، وجاءت هذه الآية لبيان تضليل كل فريق منهما الآخر بوجه خاص، فقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} ... إلخ. والشيء: الموجود، أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وقد ينفى مبالغة في عدم الاعتداد به. واليهود كفرت بعيسى - عليه السلام -، وما زالوا يزعمون أن المسيح المبشر به في التوراة لم يأت، وسيأتي بعد، فهم يعتقدون أن النصارى ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السادس من السنة الثالثة.

باتباعهم له ليسوا على أمر حقيقي من التدين. والنصارى تكفر اليهود؛ لعدم إيمانهم بالمسيح، وقد جاء لإتمام شريعتهم، ونشأ عن هذا النزاع عداوة اشتدت بها الأهواء والتعصب حتى صار كل فريق منهما يطعن في دين الآخر، وينفي عنه أن يكون له أصل من الحق. {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ}: {يَتْلُونَ}: يقرؤون. واليهود يقرؤون التوراة، والنصارى يقرؤون الإنجيل. والمعنى: قالوا ذلك في حال كونهم من أهل العلم والكتاب. {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}: {كَذَلِكَ} في الأصل كاف التشبيه متصلة باسم الإشارة إلى البعيد، وكثيراً ما تستعمل في تشبيه شيء تقدم ذكره، وقد تُجرد من معنى التشبيه، وتُستعمل لمجرد تثبيت الخبر المتقدم عليها، أو المتأخر عنها، كما وردت في هذه الآية؛ فإن تشبيه قول الذين لا يعلمون بقول اليهود والنصارى قد حصل بقوله تعالى: {مِثْلَ قَوْلِهِمْ}، ولفظ (كذلك) إنما وقع موقع تثبيت الخبر، أعني قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}؛ كما وردت لهذا المعنى في قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 118]. والذين لا يعلمون: الذين لا يتلون الكتاب من مشركي العرب وغيرهم؛ فإنهم يقولون في المسلمين: ليسوا على شيء؛ أي: إنهم على ديانة باطلة. والهدف الذي ترمي إليه الآية هو أن إنكار اليهود والنصارى لرسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينبغي أن يثير شبهة على عدم صحتها؛ حيث يسبق إلى أذهان

الضعفاء من الناس أن تلاوتهم للكتاب تجعلهم أعرف بالنبوة الصادقة من غيرها، فكأن القرآن يقول: إن تلاوتهم للكتاب وحدها لا ينبغي أن تكون شبهة على أنهم أنكروا دين الإسلام لعلمهم بأنه ليس بحق، ألا ترون اليهود والنصارى وهم يتلون الكتاب كيف أنكر كل فريق منهما أن يكون الآخر على شيء حقيقي من التدين، فسبيلهم في إنكار دين الإسلام كسبيل المشركين الذين أنكروه على جهالة به. {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}: الضمير في قوله: {بَيْنَهُمْ} عائد على اليهود والنصارى. والاختلاف: تقابل رأيين فيما ينبغي انفراد الرأي فيه. ولم تصرح الآية بماذا يحكم الله بينهم، ومن مظاهر حكم الله يوم القيامة: إثابة من كان على حق، وعقاب من كان على باطل. ويفهم هنا على معنى أنه عيَّن لكل من الفريقين عقاباً على قدر ما ارتكب من الباطل. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا}: اختلف المفسرون فيمن نزلت فيهم هذه الآية، فمنهم من قال: وردت في شأن الرومانيين الذين غزوا بني إسرائيل، وخربوا بيت المقدس، ومنهم من ذهب إلى أنها نزلت في كفار قريش لما منعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية، وكيفما كان سبب النزول، فالآية تشمل بذمها ووعيدها كل من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وسعى في خرابها. {وَمَنْ}: استفهام يراد منه النفي، والمعنى: لا أظلم. و (المساجد) جمع مسجد، وهو المكان الخاص للعبادة، مأخوذة من السجود، وهو وضع الجبهة على الأرض خضوعاً لله وتعظيماً. وذكر اسم الله كناية عما

يؤدى فيها من العبادات؛ إذ لا تكاد عبادة تخلو من ذكر اسمه تعالى. والسعي في الأصل: المشي بسرعة، ويستعمل في معنى الطلب والعمل. والخراب: ضد العمارة، وهو التهدم، ويستعار لمعنى تعطيل المكان وخلوه مما وضع له. ومعنى الآية: لا أحد أظلم ممن حالَ بين المساجد وبين أن يعبد فيها الله، وعمل لخرابها بالهدم؛ كما فعل الرومان ببيت المقدس، أو بتعطيلها من العبادة؛ كما فعل كفار قريش، فهو مفرِط في الظلم، بالغ فيه أقصى غاية. ولا يتوهم متوهم أن بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 21]، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22] تناقضاً، إذ ليس في الآيات الثلاث سوى نفي أن يكون ظالم أظلم {مِمَّنْ مَنَعَ}، أو {مِمَّنِ افْتَرَى}، أو {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} [الكهف: 57]. فمفاد الآيات: لا أحد أشد ظلماً من هؤلاء الطوائف الثلاث. وهذا صادق عند تساويهم في الإفراط في الظلم، وبلوغهم فيه إلى ما ليس وراءه ظلم. {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ}: {مَا كَانَ لَهُمْ}: ما ينبغي لهم. والمعنى: ما ينبغي لأولئك الذين يحولون بين المساجد وذكر الله، ويسعون في خرابها أن يدخلوها إلا بخشية من الله، ولكن قست قلوبهم، وزين لهم الشيطان الكفر والعصيان، فسعوا في طمس مظاهر الهداية وانقطاع ذكر الله عنها، وهو السراج الذي يجعل الأرض مشرقة بنور ربها.

{لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: الخزي في الدنيا: الهوان والذلة، والعذاب العظيم في الآخرة: العذاب الخالد في النار، ولا أشقى ممن يعيش في هوان وذلة، وإذا مات، فمصيره إلى عذاب أليم لا يموت فيه ولا يحيا. {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}: {الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}: مكان شروق الشمس ومكان غروبها، ويراد منهما: جميع الأرض. واللام في قوله: (لله) تفيد معنى الملك. والمعنى: أن جميع الأرض ملك لله وحده. والتولية: الصرف من جهة إلى أخرى. و (ثم): اسم إشارة للمكان. والوجه: الجهة، فوجه الله: الجهة التي ارتضاها، وأمر بالتوجه إليها، وهي القبلة. والمعنى: ففي أي مكان من الأرض ولَّيتم وجوهَكم الجهةَ التي أمركم الله بالتوجه إليها، فهناك جهةُ الله التي تبرأ ذممكم باستقبالها. ومعنى هذا: الإذن بإقامة الصلاة في أي مكان من الأرض دون أن تختص بها المساجد، كما قال - عليه الصلاة والسلام -: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً"، وكأن الآية تومئ إلى أن سعي أولئك في منع المساجد من ذكره تعالى وتخريبها لا يمنع من أداء العبادة له تعالى، فلله المشرق والمغرب وما بينهما، فأينما حل الإنسان، وتحرى القبلة المأمور بالتوجه إليها، فهناك جهة الله المطلوب منه استقبالها. {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}: أصل الوسع: تباعد الأطراف والحدود، وهذا المعنى محال في ذاته

تعالى، ولما ورد الواسع في أسمائه تعالى الحسنى، ذهب المفسرون في فهمه إلى أن الوسع عائد إلى صفة من صفاته؛ كالرحمة، على معنى: التوسعة على العباد، والتيسير عليهم في أمر الدين، وكالملك على معنى: أنه محيط بالأشياء ملكاً، فلا يقع شيء إلا في ملكه. ولهذا المعنى مناسبة ظاهرة لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. {عَلِيمٌ} لايخفى عليه فعل فاعل أينما كان، وكيفما كان. * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحِمْنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 116 - 120]. {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}: هذا معطوف على قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ}. و {اتَّخَذَ} من الاتخاذ، وهو الصنع والجعل والعمل. والولد معروف، ويطلق على الذكر والأنثى، والواحد والجمع. والذين قالوا اتخذ الله ولداً هم اليهود والنصارى والمشركون، فقد حكى الله عن اليهود أنهم قالوا: عُزير ابن الله، وعن النصارى أنهم قالوا: المسيح ابن الله، وعن المشركين أنهم ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السابع من السنة الثالثة.

قالوا: الملائكة بنات الله، فيصح أن يكون الضمير في قوله تعالى: {وَقَالُواْ} عائداً على الفرق الثلاث، أو على بعضهم. وقد عرفنا من قبل أن القرآن يجري على الأسلوب المعروف في المخاطبات؛ حيث يسند إلى القوم ما صدر من بعضهم , فلما قال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] يكفي في صحة معنى الآية أن يكون هذا القول قد صدر من طائفة منهم. {سُبْحَانَهُ}: سبحان: مصدر لسَبّح بمعنى: نَزَّه، وهو منصوب بفعل لم يسمع من العرب التصريحُ به معه، والأصل: أُسبّحه سبحاناً، فحذف الفعل، وأقيم المصدر مقامه، وأضيف إلى ضمير المنزه. والمعنى: تنزيه الله تعالى عن السوء، وتبعيده عنه؛ أي: الحكم بنزاهته وبعده عن السوء. والتنزيه يتناول التنزيه بالقلب، وهو اعتقاد أن الله بريء من كل ما لا يليق بكماله، وباللسان؛ كقول: سبحان الله، والأول هو الأصل، والثاني ثمرة له؛ لأن الإنسان إذا اعتقد شيئاً، ظهر من قلبه على لسانه. {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: هذا إضراب عن مقالاتهم التي نسبوا بها إلى الله اتخاذ الولد، وأخذ في الاستدلال على بطلانها. اللام في قوله: {لَهُ} للاختصاص الكامل، وهو الملك الحقيقي. و {مَا} اسم موصول يراد منه الكائنات: ما يعقل منها، وما لا يعقل، ومن جملة هذه الكائنات: من ادعوا أنه ولد الله، والمعنى: أن قولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} زعمٌ باطل؛ فإن جميع ما احتوت عليه السماوات والأرض مملوك لله، يوجد ما يشاء، ويتصرف فيه كيف يشاء، فلا حاجة له تعالى إلى اتخاذ الولد؛ إذ الولد إنما يسعى إليه الوالد، أو يرغب فيه؛ ليعتز

به، أو ليحيى ذكره، أو ليستعين به على القيام بأعباء الحياة، والله تعالى منزه عن أمثال هذه الأغراض التي لا تليق إلا بمن خلق ضعيفاً كالإنسان. ثم إن الحكمة من التوالد: بقاء النوع محفوظاً بتوارد أمثال الوالد حيث لا سبيل إلى بقائه بعينه، أما الخالق تعالى، فهو الواحد في ذاته وصفاته، الباقي على الدوام، كما قال - جل شأنه -: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 26 - 27]. {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}: {قَانِتُونَ}: من القنوت، وهو الطاعة والخضوع. والمعنى: كل ما في السماوات والأرض مطيعون له خاضعون، لا يستعصي شيء منهم على مشيئته وتكوينه. وهذا حكم شامل لمن يعقل ومن لا يعقل. وجمع الخبر بالواو والنون التي هي حقيقة فيما يعقل، فقال: {قَانِتُونَ} تغليباً للعقلاء على غير العقلاء؛ إذ معنى القنوت - وهو الطاعة والخضوع للمشيئة والقدرة - يتحقق في العقلاء، وغيرهم، إلا أن للعقلاء طاعة وخضوعاً فوق طاعة غيرهم وخضوعه، ذلك أنهم يطيعون الله، ويخضعون له عن شعور منهم واختيار. والتغليب من الفنون المعدودة في محاسن البيان، وهو إخراج القول على وجه يختص بحسب الوضع اللغوي بطائفة من الناس أو غيرهم، ولكن الحكم يكون شاملاً لهذه الطائفة وغيرها، ويكتفى في الدلالة على شمول الحكم بقرينة؛ كلفظ: (ما) في قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وإنما يعبر بالوجه الخاص؛ كجمع قانت بالواو والنون الخاص بالعقلاء لمعنى هو: أن إسناد القنوت الذي هو الطاعة والخضوع ظاهر في العقلاء بأكمل مما يظهر في غيرهم.

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: لما ذكر أنه مالك لجميع ما في السماوات والأرض، وأن كل من فيها خاضع لسلطان مشيئته وقدرته، ذكر نفس السماوات والأرض، ودل على أنهما من آثار صنعه الحكيم. والبديع: المبدع، من أبدع. والإبداع: اختراع الشيء على غير مثال سبق. وخص السماوات والأرض بالإبدل؛ لأنهما أعظم ما يشاهد من المخلوقات. {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: {قَضَى}: أراد، والفعلان {كُنْ فَيَكُونُ} من الكون بمعنى: الحدوث. ومن المحتمل القريب أن تكون الجملة واردة على وجه التمثيل؛ أي: تمثيل حصول مراده تعالى دفعة بلا مهلة بحصول ما يؤمر به المطيع الذي يسرع إلى الامتثال عقيب سماع الأمر. والمعنى: إذا أراد الله شيئاً، حصل من غير امتناع ولا مهلة؛ كما يحصل ما يؤمر به المطيع الخاضع من غير إباء أو توقف لحظة بعد سماع الأمر. {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ}: هذا معطوف على قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} غير أن آية: {وَقَالُوا} قدح في التوحيد، واَية: {وَقَالَ الَّذِينَ} قدح في النبوة. و {الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}: جهلة المشركين. و {لَوْلَا} هنا بمعنى: هلَّا المفيدة للتحضيض، وهو الحض على الفعل الذي يذكر بعدها وطلبه. والمعنى: هلا يكلمنا الله إما بالذات، وإما بإنزال الوحي إلينا، أو يرينا حجة تقوم على صدق رسالتك. وقالوا هذا على وجه العناد والجحود لأن تكون الآيات التي أقامها الله على صدق رسالته آيات حقاً.

{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}: سبق لنا أن (كذلك) تستعمل لتئبيت أمر متقدم عليها، أو متأخر عنها. و {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}: الأمم المكذبة لرسلهم من أسلافهم وغيرهم. والتماثل المشار إليه بقوله: {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} يصح أن يكون في اقترل ما لا يليق سؤاله، ولا يلزم أن يكون في نفس قولهم: {لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ}. وقد سأل من قبلهم ما لا يليق سؤاله؛ كما قال بنو إسرائيل: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، وقالوا {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112]. {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}: الضمير في قوله: {قُلُوبُهُمْ} عائد إلى الذين لا يعلمون، والذين من قبلهم، وتشابه قلوبهم في العمى والعناد، وفي هذا تسلية له - صلى الله عليه وسلم -؛ بأنه كما لقي من أولئك الذين لا يعلمون جحوداً وعناداً، قد لقي الرسل قبله من أقوامهم مثل هذا الجحود والعناد. {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}: لما ذكر تعالى أن اقتراح ما تقدم من تكليم الله، أو إتيان آية إنما هو صادر من قوم لا يعلمون، أخبر في هذه الجملة بانه قد أقام على صدق رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - آيات بينات يفقهها قوم يوقنون، وهم من شأنهم الإخلاص في طلب الحق أينما كان، فيتجهون إليه من طريق الأدلة الصحيحة بقلوب نقية من الأهواء، ونفوس مبرأة من التقليد، وعقول لا تتعثر في الشبهات، فإذا وصلوا إلى حقيقة، تقبلوها بارتياح واذعان، أما من غلبت عليهم الأهواء، واستحوذ عليهم العناد، فلا يرجى منهم أن يفتحوا أعينهم في الآيات، وينتفعوا بها، وإن كانت أوضح من الشمس المشرقة، كما قال تعالى في شأنهم:

{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14 - 15]. والآيات البينات التي أقامها الله تعالى على صدق البعثة المحمدية لا يحيط بها استقصاء، يجدها الناظر بشيء من التدبر في السيرة الطاهرة، ويملأ منها يديه عندما يتلو القرآن المجيد حق تلاوته، ولا سيما تلاوة يراعي معها البيئة التي نشأ بها ذلك الرسول الأعظم، ويضاف إلى هذا الحكم التي تتدفق من فيض أحاديثه الواردة في الدعوة إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، وإصلاح شؤون الأفراد والجماعات في أي موطن، أو في أي عصر يعيشون. {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ}: لما ذكر في الجملة السابقة أنه تعالى بين الآيات لقوم يوقنون، أردفها بهذه الجملة؛ لبيان من بينت الآيات على يديه، فقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ}. والحق: من حق الشيء؛ أي: وجب وثبت، ويطلق الحق على الحكم الصادق، وهو المطابق للواقع، ويسمى الدين الصحيح حقاً؛ لاشتماله على الأحكام الصادقة. وعلى هذا الوجه يحمل الحق في هذه الآية. {بَشِيرًا وَنَذِيرًا}: البشير: المبشِّر وهو المخبِر بالأمر الصدق السار للمخبر به الذي لم يسبق له علم به. والنذير: المنذر، وهو المخبر بالأمر المخوف؛ ليحذر منه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مبشر بالثواب لمن آمن واتقى، ومنذر بالعقاب لمن كفر وعصى. وفي وصفه بالتبشير والإنذار تأكيد لما أعلم به في صدر الجملة من أنه مرسل بالحق.

{وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}: {الْجَحِيمِ}: المتأجّج من النار. وأصحابها: الملازمون لها، وفي تسميتهم أصحاب الجحيم دون أن يقول: الكافرين، أو المكذبين إيذانٌ بأن أولئك المعاندين من المطبوع على قلوبهم، فلا يرجى منهم الرجوع عن الكفر، والتعنت إلى الإيمان والإذعان. وفي هذه الجملة - مع قوله في الجملة السابقة: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} - تسلية له - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث لم يؤمن به أولئك الجاحدون المتعنتون. والمعنى: لا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن عليك أن تبشر وتنذر، وليس عليك أن توجد الهداية في قلوبهم، فأنت غير مسؤول - بعد ما بلغت- عن عدم اهتدائهم، بل الله يهدي من يشاء. {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}: الملة: الطريقة المسلوكة، ثم جعلت اسماً لما شرعه الله لعباده على لسان نبيه؛ ليتوصلوا به إلى السعادة الدائمة، وقد تطلق على ما ليس بشرع حق من الأديان المحرفة أو الباطلة، كما قال يوسف - عليه السلام - فيما قصة الله عنه: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف: 37]. وأفردت الملة، فقال تعالى: {مِلَّتَهُمْ} مع أن لكل من اليهود والنصارى ملة خاصة؛ لأن الملتين بالنظر إلى مخالفتهما لدين الإسلام وما طرأ عليهما من التحريف بمنزلة ملة واحدة، فاتباع إحداهما كاتباع الأخرى في قلة الانتفاع به. ونفي القرآن الكريم رضا الفريقين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه المبالغة؛ إذ علقه على أمر يستحيل صدوره عنه، وهو اتباعه لملتهم، فلا يرجى حينئذ رضاهم عنه، وإيمانهم به.

{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}: {هُدَى اللَّهِ}: دينه {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، والهدى بمعنى: الهادي إلى طريق الفلاح في الدنيا والآخرة. وإيراد {الْهُدَى} معرفاً بأل مع اقترانه بضمير الفصل {هُوَ} يفيد قصر الهداية على دين الله، وينفي أن يكون في دين غير دين الله هدى. وإذا كانت الهداية مقصورة على الدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يطمع اليهود أو النصارى في أن يتبع ملتهم؟!. {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}: اللام في قوله: {وَلَئِنِ} تُشعر بأن في الجملة قَسَماً مقدراً روعي في صدرها؛ ليفيد تأكيد ما تضمنته من أن متبع أهواء اليهود والنصارى لا يجد من الله ولياً ولا نصيراً. وأهواؤهم: آراؤهم المنحرفة عن الحق الصادرة عن شهوات في أنفسهم. و {الْعِلْمِ}: الدين، وسمي علماً؛ لأنه يعلم بالأدلة القاطعة. وقال: {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}؛ ليدل على أن الوعيد على ارتكاب أمر لا يأتي إلا بعد إقامة الحجة على أن الأمر كفر أو معصية. ووليُّ الشخص: من يتولى أموره، ويصرفها على ما تقتضيه مصلحته. ونصيره: من يعينه على من يناوئه ويبسط إليه يده بسوء.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 121 - 124]. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ}: بعد أن ذكر الله تعالى في الآيات السابقة أحوال الكافرين من أهل الكتاب، جاءت هذه الآية لبيان حال المؤمنين منهم. والذين أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى. و {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ}: يقرؤونه قراءة حقة، وإنما تكون قراءته حقة إذا كانت مصحوبة بضبط لفظه، وتدبر معانيه، وضبطُ لفظه يقتضي عدمَ تحريف ما لا يوافق أهواءهم؛ كالجمل الواردة في نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتدبر معانيه يستدعي اتباعَه، والعمل به. وجملة: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} حال من الضمير (هم)، وهذه الحال من قبيل الأحوال التي تلابس صاحبها بعد وقوع عاملها، فإنهم إنما يتلون الكتاب بعد أن يؤتوه، وهي ما يسميه علماء ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثامن من السنة الثالثة.

العربية: حالاً مقدرة؛ أي: مقدراً وقوعُها بعد وقوع عاملها. {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}: هذا خبر عن قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}، ولو لم يذكر اسم الإشارة "ذلك"، واقتصر على قوله: {يُؤْمِنُونَ بِهِ}، لحصلت فائدة إثبات الإيمان للذين أوتوا الكتاب، وتلوه تلاوة حقة، ولكنْ في ذكر اسم الإشارة، ووضعه في صدر الجملة المخبر بها زيادةُ تأكيد لإثبات إيمانهم؛ كما هو المعروف في فنون البلاغة. وفي هذه الجملة تعريض بأولئك المعاندين، فكأن الآية تقول: الذين آتيناهم الكتاب، وكان من حالهم أن تلوه حق تلاوته، يؤمنون به إيماناً لا يرتاب فيه، دون المعاندين المحرفين لكلمه عن مواضعه. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}: الكفر بالكتاب يتحقق بتحريفه، وإنكار بعض ما جاء فيه، وأثبت للكافرين الخسران في جملة توسط فيها ضمير الفصل {هُمُ} بين المبتدأ والخبر، وجاء الخبر معرفاً بال {الْخَاسِرُونَ}، فأفادت الجملة أن الكافرين بالكتاب يختصون بالخسران، ولا يتعداهم إلى غيرهم ممن أخلصوا الإيمان به، فالكافرون هم الخاسرون في الدنيا؛ حيث لا يعيشون فيها عيش المؤمنين بحق: صدور منشرحة، ونفوس مطمئنة، وتأييد من الله يجعلهم منصورين على من يناوئهم، وكذلك الإيمان الراسخ يفرغ على القلوب صبراً يخف به وقع الخطوب، ويذود عنها حرجاً لا يفارق صدر الكافر، ولو ملك رياسة قاهرة، وأموالاً وافرة، وإذا نهض صاحبه لكفاح عدو، كان نصر الله منه قريباً. والكافرون هم الخاسرون في الآخرة؛ إذ يفوتهم ما أعده الله للمؤمنين من نعيم دائم، ومقام كريم، ويخلدون بعد هذا الحرمان في عذاب مهين.

{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}: كرر بهذه الآية نداء بني إسرائيل ودعوتهم إلى ذكر ما أسبغ عليهم من النعم الدال على عِظَمها إسنادُ الإنعام بها إليه تعالى في قوله: {الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}، وأهمية الشيء تقتضي تكرار الأمر به؛ إبلاغاً في الحجة، وتأكيداً للتذكرة. وأيّ شيء أعظم أثراً في سعادة الإنسان من أن يكون على ذكر من نعم الله عليه؟ إذ ذِكْرُ نعم الله يملأ القلب بإجلاله، ويدعو إلى شكرها بحسن الطاعة، وشكرها يستدعي المزيد منها، ويكسب صاحبه الظفر برضا من بيده مقاليدها، ومَن ظفر برضا وليّ النعم، فقد جمع الخير من أطرافه. وتفضيلُ بني إسرائيل على العالمين - في العهد الذي كانوا يتمسكون فيه بالتوراة السالمة من التحريف- مندرجٌ في جملة النعم التي أنعم الله بها عليهم، وأفرد بالذكر في قوله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}؛ لأنه من خير ما يناله الإنسان في حياته، والنفوس الزاكية لا تبتهج بشيء أكثر من ابتهاجها حين تستيقن أن الله جعلها بمكانة تفضل بها سائر النفوس. {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}: تضمنت هذه الآية معنى الآية السابقة: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}، وأعيد هذا المعنى تأكيداً له، وتثبيتاً له في القلوب، ذلك أنه معنى متى غلب استحضاره على قلب من يتدبر العواقب، يكف يده عن كل شر، ويصير مصدراً لكل خير. ولا ريب أن من تيقن أنه سيشهد يوماً ذا أهوال لا ينفع الإنسانَ فيه إلا إيمانُه

وصالحُ عمله، وهو يوم الجزاء، اتجه به الحذر من سوء العاقبة إلى التمسك بأسباب السلامة والفوز في ذلك اليوم. ومعنى اتقاء يوم الجزاء: اتقاء ما يلاقيه الناس فيه من أهوال، واتقاؤها بأداء الواجبات، واجتناب المحظورات. وردت هذه الآية، وهي تنفي بظاهر عمومها أن يقبل يوم القيامة شفاعة من أحد لآخر، وورد في الآيات ما يدل على نفي الشفاعة إلا أن يأذن بها الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وما يدل على أن لا شفاعة إلا لمن ارتضى الله أن يشفع له: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، فيفهم قوله تعالى في الآية السابقة: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ}، وقوله في هذه الآية: {وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} على نفي الشفاعة التي لا يأذن بها الله، والشفاعة لمن لا يرتضي الله أن يشفع له؛ كالشفاعة للكافرين؛ كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]. وقد وردت أحاديث صحيحة تثبت شفاعته - عليه الصلاة والسلام - يوم القيامة، وليست شفاعته إلا أنه يدعو الله، فيستجيب له؛ كما قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، وفي قبول شفاعته على هذا الوجه إظهار لكرامته ورفعة منزلته عند ربه. {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}: بعد أن ذكر الله تعالى في الآيات السابقة نعمه على بني إسرائيل، وبين كيف كانوا يقابلون النعم بكفر وعناد، ويأتون منكرات الأقوال والأعمال، وختم الحديث عنهم بإنذار بالغ، وتذكير بيوم لا يغني فيه أحد عن أحد شيئاً، وصل حديثهم بقصة إبراهيم - عليه السلام -، فقال: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}. . . إلخ.

ووجه إيراد هذه القصة عقب ما قصه عن بني إسرائيل والمشركين: أن كلاًّ من الفريقين ينتمي إلى إبراهيم، ويقر بفضله، وقد ورد فيما حكاه الله عنه ما يقتضي قبولهم لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودخولهم في دينه القويم. والابتلاء في أصله: الاختبار والامتحان، وهو بهذا المعنى محال على علام الغيوب، فالمراد منه هنا: التكليف حتى يُحسِن القيام بما كلف به، فيكون ما يناله من الجزاء كأنه جاءه على سبيل الاستحقاق. وقال: {رَبُّهُ}؛ ليشعر التالي أو السامع بأنه ابتلاه بما ابتلاه به تربيةً له، وتقوية لعزمه حتى يستطيع النهوض بعظائم الأمور. والكلمات: جمع كلمة، وهي في الأصل: اللفظ المفرد، وتطلق بمعنى الكلام، كما تطلق على نفس المعاني التي تفهم من الألفاظ؛ نحو: الحكم، والإذن، والأمر والنهي، فالكلمات في الآية يصح أن تفسر بالأوامر التي كلف الله بها إبراهيم - عليه السلام -، وأتى بها على أتم وجه. والقرآن أجملَ في ذكر الكلمات، ولم يَرد في تعيينها حديث يجب الوقوف عنده، ولكن تسمية التكليف بها ابتلاء، وذكر إتمام إبراهيم لها على وجه الثناء، ينبئ بأنها من الأعمال التي لا ينهض بها إلا ذو عزم يتلقى أوامر ربه بحسن الطاعة. {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}: هذه الجملة مستأنفة لبيان ما مَنَّ الله به على إبراهيم - عليه السلام - من الكرامة، ورفعة المقام، بعد أن ذكر أنه عامله معاملة المختبر له؛ إذ كلفه بأمور شاقة، فقام بها أحسن قيام. و {جَاعِلُكَ} من جعل بمعنى: صَيَّرَ. والإمام: القدوة الذي يؤتم به في أقواله وأفعاله. وإمامةُ إبراهيم: النبوة؛

فقد كان نبياً يقتدي به الناس في أصول الدين ومكارم الأخلاق؛ كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125]، وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]. وإذا أريد من إمامته: أن يقتدى به في العقائد والشرائع، كان المراد من الناس: قومه الذين أوجب الله عليهم أن يتبعوه في جميع ما أوحى الله به إليه. {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}: هذه الجملة واقعة موقع الجواب عما شأنه أن يخطر في نفس السامع من السؤال عما كان من إبراهيم - عليه السلام - عند ما تلقى البشارة بالإمامة العظمى، وهي الرسالة، كان من إبراهيم أن طلب الإمامة لبعض ذريته أيضاً، فقال: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}. والذرية: الأولاد، وهذا القول - وهو من كلام إبراهيم - معطوف بالواو على الضمير في قوله: {جَاعِلُكَ}، وهو من كلام الله تعالى، دايراد المتكلم قولاً يعطفه على قول متكلم آخر، يسمى في العربية: عطف التلقين. وتقدير مقول إبراهيم: وجاعل من ذريتي إماماً. وقصده من هذا العطف: الطلب، ولكنه عدل عن أن يقول: اجعل من ذريتي إماماً إلى قوله: وجاعل من ذريتي؛ لأنه قصد أن يورد كلامه مورد تتمة كلام الله تعالى، فيستحق أن يقع كما وقع المعطوف عليه، أعني: قوله تعالى: {جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}. {قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}: وردت هذه الجملة جواباً عن قول إبراهيم: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، فالعهد هنا بمعنى الإمامة المشار إليها في قوله تعالى: {جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}. وفي الجملة

إيجاز بديم؛ إذ المراد منها: إجابة طلب إبراهيم من الإنعام على بعض ذريته بالإمامة؛ كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27] , ولكنها تدل صراحة على أن الظالمين من ذريته ليسوا أهلاً لأن يكونوا أئمة يقتدى بهم، وتشير إلى أن غير الظالمين منهم قد تنالهم النبوة، وقد نالت من ذريته إسحاق وإسماعيل ويعقوب ويوسف، وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل. والظلم الذي لا يستحق صاحبه النبوة: ما كان كفراً، أو مخالفة يأتيها وهو شاعر بأنه ارتكب إثماً. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 125 - 128]. {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ}: هذه الجملة معطوفة على قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ}. وجعلنا: صيَّرنا. والبيت: الكعبة، إذ غلب استعمال البيت فيها حتى صار اسماً لها. والمثابة: الموضع الذي يثاب؛ أي: يُرجع إليه، من ثاب يثوب: إذا رجع. ومعنى كون البيت الحرام مثابة للناس: أنهم يقبلون عليه من كل جانب، ويترددون إليه في كل عام، فلا يعدم قاصداً من الناس. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد التاسع من السنة الثالثة.

{وَأَمْنًا}: الأمن: السلامة من الخوف، وأمن المكان: اطمئنان أهله به، وعدم خوفهم من أن ينالهم فيه مكروه، فالبيت مأمن؛ أي: موضع أمن. وأخبر تعالى بأنه جعله أمناً؛ ليدل على كثرة ما يقع به من الأمن، حتى صار كأنه نفس الأمن. وكذلك صار البيت الحرام محفوفاً بالأمن من كل ناحية، فقد كان الناس في الجاهلية يقتتلون، ويغير بعضهم على بعض حوله، وأهلُه آمنون، ومن دخله كان آمناً من التشفي والانتقام؛ لما أودع الله في قلوب العرب من تعظيمه وتفضيله على غيره من بقاع الأرض. وقد أقر الإسلام هذه الحرمة على وجه لا يضيِّع حقاً، ولا يعطّل حدّاً. {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}: الاتخاذ: الجعل، تقول: اتخذت فلاناً صديقاً؛ أي: جعلته صديقاً. ومقام إبراهيم: الحَجَر الذي كان إبراهيم - عليه السلام - يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار. ومعنى اتخاذ مصلى مثه: القصد إلى الصلاة عنده، ورد في الحديث الصحيح: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "طاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين". ومن السلف من فسر مقام إبراهيم بالمسجد الحرام. وكان الحَجَر الذي يسمى مقام إبراهيم ملصَقاً بالبيت، وإنما حوله عمر بن الخطاب بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى موضعه المعروف الآن بمقام إبراهيم. {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}: {وَعَهِدْنَا}: أمرنا أو أوحينا. {أَن} بمعنى: أي، مفسرة للمأمور به، أو الموحى به المشار إليه بقوله: {وَعَهِدْنَا}. و {بَيْتِيَ}: البيت الحرام،

وأضافه تعالى إلى نفسه تشريفاً له، ولأنه أمر ببنائه وحجه وتطهيره. ومعنى تطهيره: صيانته من كل ما لا يليق ببيوت الله من الأقذاء والأرجاس والأوثان، وكل ما كان مظنة للشرك. وتطهير البيت -بمعنى: صيانته من تلك الخبائث- صادق بما إذا لم تكن موجودة به وقت الأمر بالتطهير، ويكون المعنى: أبقياه على طهارته، وكما قال الله تعالى في وصف نساء الجنة: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25]، وقد خلقهن طاهرات. {لِلطَّائِفِينَ}: جمع طائف، من طاف يطوف طوفاً وطوافاً: إذا دار حول الشيء، ومعناه: المتقوبون إلى الله بالطواف حول الكعبة. {وَالْعَاكِفِينَ}: جمع عاكف، من عكف على الشيء عكوفاً: إذا أقام عليه ملازماً له، ومعناه: المقيمون في الحرم بقصد العبادة، ويدخل في العبادة: مدارسة العلوم الدينية، وما يساعد على فهمها. {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}: الركع: جمع راكع. والسجود: جمع ساجد. والركوع والسجود من هيئات الصلاة وأركانها. فمعنى الركع السجود: المصلون. فالآية جمعت أصناف العابدين في البيت الحرام: الطائفين وإن لم يكونوا مقيمين؛ كمن يأتون لحج وعمرة، ثم ينصرفون، والعاكفين الذين يقيمون في الحرم بقصد الإكثار من العبادة في المسجد الحرام، والمصلين الذين يتقربون إلى الله بالصلوات فرائض أو نوافل. ويلوح من الآية أن للإقامة بالحرم فضلاً زائداً على فضل الطواف والصلاة.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا}: المشار إليه بقوله: {هَذَا}: مكة المكرمة. والبلد: كل قطعة من الأرض عامرة أو غامرة. و {آمِنًا}: ذا أمن؛ أي: مكاناً فيه أمن، وهو أمن أهله. وليس المراد أن البلد نفسه أمن؛ لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد، وإنما يلحقان أهل البلد، وبيان اللغة يسع إجراء أوصاف أهل البلد على البلد في نظم الكلام. {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}: {وَارْزُقْ}: من رزقه يرزقه: إذا أعطاه ما ينتفع به من مأكول وغيره. والثمرات: جمع ثمرة، وهي ما يحمله شجر أو زرع أو غيره من النبات. طلب إبراهيم - عليه السلام - من الله أن يجعل مكة بلداً آمناً، وأن يرزق أهلها من الثمرات ما يسد حاجاتهم؛ لأن البلد إذا امتدت فيه ظلال الأمن، وكانت مطالب الحياة فيه ميسرة، أقبل أهله على طاعة الله، وتفرغوا لذلك بقلوب مطمئنة. {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: دعا إبراهيم - عليه السلام - لأهل مكة بأن يُرزقوا من الثمرات، وأهل مكة؛ أي: المقيمون بها قد يكون من بينهم كافرون، فأراد تخصيص المؤمنين منهم بدعائه، فاتبع قوله: {أَهْلَهُ} بقوله: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} على وجه البدل؛ فصار المعنى: وارزق المؤمنين من أهله؛ على ما تقتضيه القاعدة العربية من أن البدل، وهو هنا: {مَنْ آمَنَ} هو المقصود بطلب الرزق، واقتصر على ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر في التعبير عن المؤمن، لأن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يقع على الوجه الحق إلا إذا صاحبه الإيمان بكتب الله ورسله وملائكته.

{قَالَ وَمَنْ كَفَرَ}: الضمير في {قَالَ} عائد إلى الله. و (من) فى قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} منصوب بفعل مقدر دل عليه {فَأُمَتِّعُهُ}، والمعنى: قال الله: وأرزق من كفر. وإيراد المتكلم قولاً من عنده معطوفاً على قول متكلم آخر، مألوف عربية، ويحسن موقعه حيث يقضي المقام إيجازاً في القول، ولولا هذا العطف، لكان المعنى متطلباً لأن يقال: قال الله: أرزقُ من آمن ومن كفر. وقد أرشدت الآية إلى أن الله يرزق الكافر في الدنيا كما يرزق المؤمن، وإذا كان إمتاع المؤمن بالرزق لأنه أهل لأن ينعم عليه بكل خير، فلإمتاع الكافر بالرزق حِكَم، منها: استدراجه المشار إليه بقوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182]، ولو خص الله المؤمنين بالتوسعة في الرزق، وحرم منها الكافرين، لكان هذا التخصيص سائقاً للكافرين إلى الإيمان على وجه يشبه الإلجاء، وقد قضت حكمته تعالى أن الإيمان [يكون] اختيارياً حتى ينساق إليه الإنسان من طريق النظر في أدلة عقلية يبصر بها أقوام، ولا يبصر بها آخرون. {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ}: أمتعه: من التمتيع، وهو إعطاء ما ينتفع به. و {قَلِيلًا}: وصف لمصدر محذوف في النظم، والمعنى: أمتعه تمتيعاً قليلاً، ووصف التمتع في الدنيا بالقلة؛ لأنه صائر إلى نفاذ وانقطاع. و {أَضْطَرُّهُ}: أسوقه بعد متاعه في الدنيا إلى عذاب لا يمكنه الانفكاك منه، وهو عذاب النار. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}: بئس: فعل يستعمل لذم المرفوع بعدها، وهو ما يسميه النحاة:

المخصوص بالذم. ووردت هنا لذم النار المقدرة في الجملة. والمعنى: بئس المصيرُ النارُ؛ أي: إنها مصير سيئ؛ كما قال الله تعالى في آية أخرى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 66]. {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}: هذا معطوف على قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}. والقواعد: جمع قاعدة، وهى الأساس، ورفعها: بالبناء عليها. والبيت: الكعبة. والتقبل: القبول، وقبول الله للعمل: أن يرضاه، أو يثيب عليه، وتصدير الدعاء بندائه تعالى باسم الرب المضاف إلى ضميرها، مظهر من مظاهر خضوعهما له، واجلالهما لمقامه، والخضوع له تعالى وإجلال مقامه من أسنى الآداب التي تجعل الدعاء بمقربة من الاستجابة، ورفعهما لقواعد البيت فيما مضى؛ أي: قبل نزول الآية يقتضي أن يقال: وإذ رفع إبراهيم، ولكنه قال: {يَرْفَعُ} بصيغة المضارع الذي هو موضوع للفعل الواقع في الحال، أو الفعل الذي سيقع في المستقبل، ولذلك وجه معروف في محاسن البيان، هو أن يستعمل المتكلم الفعل المضارع في عمل مضى؛ حيث يكون ذلك العمل من الأهمية بمكان، فأهمية العمل تضعه في نظر المتكلم موضع العمل المشاهد له، فيخرجه حالَ التكلم في صورة الفعل الحاضر في الواقع؛ إذ يعبر عنه بالصيغة الموضوعة للدلالة على الأفعال الواقعة في الحال. ومعنى الجملة: واذكر يا محمد ذلك الأمر الغريب، وهو رفع الرسولين العظيمين إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت، وهما يقولان بخضوع لي وإجلال: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}. ومن فوائد ذكر هذه القصة: أن يُقبل الناس على الاقتداء بهذين الرسولين الكريمين في القيام بالطاعات الشاقة، وهم يضرعون إلى الله - جلّ شأنه - ,

ويرجون منه قبولها. {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: طلب الرسولان العظيمان قبول ما تقربا به إليه تعالى من بناء البيت الحرام، ووصلا دعاءهما بذكر اسمين من أسمائه الحسنى يؤكدان بذكرهما أن رجاءهما لاستجابة دعائهما وثيق، وأن ما عملاه ابتغاء مرضاته جدير بالقبول، فقالا: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، ومن كان سميعاً للدعاء، عليماً بنيات الداعين وضمائرهم، كان تفضله باستجابة دعاء المخلصين في طاعته غير بعيد. {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}: {مُسْلِمَيْنِ}: من الإسلام، وهو الخضوع والإذعان، وقد كانا خاضعين لله، مذعنين في كل حال، وإنما طلبا الثبات والدوام على ذلك. والإسلام الذي هو الخضوع لله بحق إنما يتحقق بعقيدة التوحيد، وتحرِّي ما رسمه الشارع في العبادات والمعاملات، والإخلاص في أداء ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}: من ذرية إبراهيم وإسماعيل: العرب، ومن ذرية إبراهيم: بنو إسرائيل، فالدعاء شامل للفريقين؛ إذ ظهر من أولئك الذرية أقوام أسلموا وجهم لله من بين أمم عاشت في عماية، أما من العرب، فالأمر واضح، وأما من بني إسرائيل، فقد بعث فيهم أنبياء ورسل، ونشأ من بينهم هداة عادلون، قال الله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]. وصلاح الذرية مرغوب فيه طبعاً، والدعاء لهم بالصلاح مرغَّب فيه شرعاً،

وذلك ما فعل الخليل إبراهيم - عليه السلام -. {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}: أرنا: علِّمنا. والمناسك: جمع منسك، وهي العبادة والطاعة، ثم سميت أعمال الحج كلها مناسك؛ مثل: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، ورمي الجمار. {وَتُبْ عَلَيْنَا}: تسند التوبة إلى العبد، فيقال: تاب فلان إلى الله، ومعناها: الندم على ما لابس من الذنب، والإقلاع عنه، والعزم على عدم العود إليه، ورد المظالم إن استطاع، أو نية ردها إن لم يستطع، وتستند إلى الله، فيقال: تاب الله على فلان، ومعناها: توفيقه إلى التوبة، أو قبولها منه. فمعنى {وَتُبْ عَلَيْنَا}: وفقنا للتوبة، أو تقبلْها منا. والتوبة تكون من المعاصي كبائر أو صغائر، وتكون من ترك ما هو الأولى، أو من تقصير يؤدي إليه خطأ في الاجتهاد، وعلى أحد هذين الوجهين تحمل التوبة التي يسأل الأنبياء والمرسلون قبولها، أو التوفيق إليها. {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}: {التَّوَّابُ}: كثير القبول لتوبة المنيبين إليه، وقبول توبتهم يقتضي عدم مؤاخذتهم بما يأتونه من خطيئات، ثم هم بعد خلاصهم من عقوبة الخطيئة، أو المعاتبة عليها ينتظرون من رحمة الله أن تحفهم بإحسان. وإبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- طلبا قبول توبتهما صراحة إذ قالا: {وَتُبْ عَلَيْنَا}، ولوَّحا إلى طلب الرحمة بذكر اسمه الرحيم؛ إذ الرحمة صفة من أثرها الإحسان، فكأنهما قالا: تب علينا وارحمنا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 129 - 134]. {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}: دعا إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - كما ورد في الآيات السابقة - بدعوات، منها: أن يجعل الله من ذريتهما أمة مسلمة، ووصلا تلك الدعوات بما جاء في هذه الآية من طلب ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة، وهو أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم. فالضمير في قوله: {مِنْهُمْ} يعود إلى الذرية، أو الأمة المسلمة في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً}. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد العاشر من السنة الثالثة.

والرسول: من أوحي إليه بشرع وأُمِر بتبليغه. وقال بعض الكاتبين في العهد الأخير: "قد يعرَّف النبي بإنسان فُطر على الحق علماً وعملاً؛ أي: بحيث لا يعلم إلا حقاً، ولا يعمل إلا حقاً، على مقتضى الحكمة، وذلك يكون بالفطرة؛ أي: لا يحتاج فيه إلى الفكر والنظر، ولكن التعليم الإلهي، فإن فطر أيضاً على دعوة بني نوعه إلى ما جبل عليه، فهو رسول أيضاً، وإلا، فهو نبي فقط، وليس برسول"، ويستقيم هذا التعريف على وجه الحقيقة إذا قُصد منه إضافة مزية إلى الرسول زائدة على مزية الوحي إليه بالشرع والتبليغ، وهي فطرته على معرفة الحق، والعمل والدعوة إليه، على معنى: أنه ارتفع عن مستوى سائر البشر بفطرة بلغت من الصفاء أن تتلقى من الحقائق ما لا يتلقون، وتحكم من العمل بالحق والدعوة إليه ما لا يطيقون. وسألا أن تكون بعثة الرسول في ذريتهما؛ ليكون أمر الإيمان قريباً منهم، فإن من يعرفون مولد الرسول ومنشأه، ويدرون كيف كانت سيرته قبل دعوى الرسالة جاريةً على الصدق والأمانة، يكونون في أول من يؤمن به، إلا من يصاب بحسد أو عناد. وتلقِّي قومه الذين عُرفوا بحكمة الرأي لدعوته بالقبول والطاعة، ينبه من كان بعيداً من أرضه للنظر في شأن رسالته، فلا يلبث أن ينتفع بما يعرض عليه من حجته الساطعة، وحكمته البالغة. وسؤالهما لأن يبعث الله في ذريتهما رسولاً منهم لا يقتضي أن تكون بعثة هذا الرسول خاصة بهم، فدعوتهما استجيبت بأن بعث الله فيهم رسولاً منهم، وكانت رسالته عامة شاملة لهم ولغيرهم من الناس، وهو رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد قامت الأدلة القاطعة على عموم رسالته؛ كما يجدها الباحث مفصلة في علم الكلام.

{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}: تلاوة الشيء: قراءته. والآيات: دلائل توحيد الله وتنزيهه والنبوة والبعث. و {الْكِتَابَ}: القرآن، وتعليمه: بيان معانيه وحقائقه. ويصح أن تحمل الآيات على آيات القرآن، فهو يتلو عليهم آيات القرآن؛ ليحفظوها بألفاظها كما نزلت، ويتعبدوا بتلاوتها، وليعرفوا من فضل بلاغتها وروعة أساليبها وجهاً مشرقاً من وجوه إعجازها. ويعلمهم القرآن؛ أي: يبين لهم معانيه؛ ليعرفوا ما أقامه من دلائل التوحيد، وما اشتمل عليه من أحكام وحكم ومواعظ وآداب. {وَالْحِكْمَةَ}: الحكمة: العلم النافع المصحوب بالعمل الواقع موقعه اللائق به، ووضعها بجانب الكتاب يدعو إلى حملها على معنى السنة التي تنتظم أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، وبالسنة يعرفون كما يعرفون من الكتاب أصلح الأعمال وأعدل الأحكام وأسنى الآداب، وتتفتح لهم طرق التفقه في أسرار الدين ومقاصده. {وَيُزَكِّيهِمْ}: يزكيهم: من التزكية، وهي في الأصل التنمية، يقال: زكَّى الله مالك؛ أي: نماه، ثم استعملت في معنى جعل الإنسان يزيد في الخير والفضل. فمعنى يزكيهم في الآية: يجعلهم أزكياء؛ أي: زائدين في الخير والفضل. وإنما تتحقق التزكية بهذا المعنى إذا طهرت بواطنهم من أرجاس الشرك والإرادات السيئة، وطهرت جوارحهم من قاذورات المآثم. ومن هنا دلت

التزكية على معنى: التطهير من كل ما لا يليق التلبس به باطناً أو ظاهراً. والآيات ظاهرة في أن الدعاء من قوله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} إلى قوله: {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا} صادر من إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام -، ولم يجئ رسول تنطبق عليه الصفات الواردة في الدعاء إلا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فتعين أن يكون هو الرسول الذي طلبا إرساله في ذريتهما. وقد استوفت الآيات الواردة في صفات الرسول منابع الدين أصولاً وفروعاً، فكل رأي في الدين لا يستند إلى ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلوه من الآيات، ويعلمه من الكتاب والسنة، أو من الأصول المستمدة منهما على وجه معقول، فهو ردٌّ على صاحبه. {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: {الْعَزِيزُ}: القادر الذي لا يُغلَب على أمر. و {الْحَكِيمُ}: العالم الذي يدبر الأمور على وفق المصلحة، ومن كان قادراً على كل ما أراد، عالماً بوجوه المصالح، كانت استجابته قريبة من دعاء الخير الصادر عن إخلاص وابتهال. {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}: يقال: رغب في كذا: إذا أراده، واتجهت نفسه إليه، ورغب عنه: إذا كرهه، وانصرفت نفسه عنه. والملة في الأصل: الطريقة، وغلب إطلاقها على أصول الدين من حيث إن صاحبها يصل بها إلى دار السلام والكرامة عند الله. {سَفِهَ نَفْسَهُ}: استخفها وامتهنها. والجملة واردة مورد التوبيخ للكافرين الذين أحدثوا الشرك المخالف لما دعا إليه إبراهيم - عليه السلام - من التوحيد. والمعنى: لا يكره ملة إبراهيم وينصرف عنها إلى الشرك بالله

إلا من امتهن نفسه، ولم يبال أن يُدْبر بها عن طريق السعادة إلى طريق الخيبة والشقاء. {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}: {اصْطَفَيْنَاهُ}: اخترناه للرسالة، وعرَّفناه الملة التي هي أقوم طريق موصل إلى دار السلام. و {الصَّالِحِينَ}: من الصلاح، وهو الاستقامة طى الطريقة المثلى. وهذا بيان لخطأ من يرغب عن ملة إبراهيم، حيث أعرض عن اتِّباع من جمع الله له الكرامة في الدنيا إلى الكرامة في الآخرة، فكأنه يقول: من اصطفاه الله في الدنيا بالرسالة، وكان مشهوداً له في الآخرة بالاستقامة، حقيق بأن تُتبع ملته، ويقتدى بهديه. ويراد من ذكر الشهادة له بالصلاح في الآخرة: ما تقضيه هذه الشهادة من رفعة المقام وسعة الإكرام. {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}: هذا بيان لكمال استقامة إبراهيم التي رفعته عند الله المنزلة العليا، وجعلت ملته حقيقة بأن يرغب فيها، ذلك أن الله أمره بطاعته، وإسلام وجهه إليه في كل حال، فبادر إلى الامتثال، وقال: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}: وكان مقتضى قوله: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ} أن يجري الكلام على طريقة التكلم، فيقال: "إذ قلنا له"، ولكنه وقع العدول عن هذا الطريق إلى إسناد القول إلى الاسم الظاهر مضافاً إلى ضمير إبراهيم، فقال: {قَالَ لَهُ رَبُّهُ}؛ لإظهار مزيد اللطف به، والعناية بتربيته، كما أن إبراهيم قال: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، ولم يقل: أسلمت لك؛ ليذْكر الله بما يدل على عظم شأنه، ويشير

إلى أن من كان رباً للعالمين لا يليق بأحد من العالمين إلا أن يتلقى أمره بالخضوع وحسن الطاعة. والظاهر أن الآية تخبر عن أمر واقع بعد النبوة؛ كما قال الله تعالى لنبينا - صلوات الله عليه -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ} [هود: 112]. {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ}: دل ما سبق على أن إبراهيم كامل في الصلاح إذ قال: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. ودلت هذه الآية على أنه يجمع إلى كمال نفسه العملَ لتكميل غيره إذ قال: {وَوَصَّى بِهَا}، والتوصية: إرشاد الغير إلى ما فيه صلاح وقربة، سواء كان في حالة الاحتضار، أم في حالة غيرها، والضمير في قولها: {بِهَا} يعود إلى {مِلَّةِ} في قوله: {عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}، والمعنى: وصى إبراهيم بنيه بملته؛ أي: باتباعها. {وَيَعْقُوبُ}: مرفوع على أنه مبتدأ، وخبره مقدر في نظم الكلام، لفهمه من الجملة السابقة، والمعنى: ويعقوب كذلك؛ أي: أوصى بنيه بملة إبراهيم. {يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ}: هذا حكاية لما قال إبراهيم ويعقوب في وصيتهما لأبنائهما، والمعنى: قال كل منهما لأبنائه {يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى}. . . إلخ. واصطفى لكم الدين: استخلصه لكم، وهداكم للأخذ به، وهو دين الخضوع لله وحده، والتقرب إليه بأخلص الطاعات. {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}: تفيد هذه الجملة بحسب وضعها الأصلي: النهي عن الموت في حال

غير حال الإسلام، وليس الموت في استطاعة الإنسان حتى يُنهى عنه، أو يؤمر به، وإنما النهي في المعنى متوجه إلى أن يكون المخاطبون في حال لو جاءهم الموت وهم متلبسون به، لوقعوا في خسران مبين، فنهيهم عن الموت في حال غير حال الإسلام يراد منه: الأمر بالثبات على الإسلام إلى حين الوفاة، والمعنى: اثبتوا على الإسلام واستقيموا على محجته البيضاء حتى يدرككم الموت وأنتم في حال كونكم مسلمين. وكما ينهى عن الموت في حالة، والمراد: النهي عن التلبس بتلك الحالة، يؤمر بالموت في حالة، والمراد: الحث على التلبس بتلك الحالة؛ كما يقال: مت وأنت شهيد، والمراد: الحث على الاستشهاد في سبيل الله. ومن هذا القبيل قول المتنبي: عش عزيزاً أو مت وأنت كريمٌ ... بين طعن القنا وخفق البنود {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}: بعد توبيخ المخالفين لملة إبراهيم بقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}، وبيان أن هذه الملة هي التي كان إبراهيم أوصى بنيه كما أوصى بها يعقوب بنيه، جاءت هذه الآية للإنكار على أهل الكتاب افتراءهم على يعقوب، وزعمهم أنه كان على ما هم عليه من التدين، وبينت كيفية وصيته لبنيه، فقال تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ}، فكلمة {أَمْ} مستعملة للانتقال من جملة إلى أخرى، وللاستفهام الإنكاري الذي هو في معنى النفي، فهي مفيدة لمعنى (بل) والهمزة معاً، فكانه قيل: بل كنتم شهداء؟ والشهداء: جمع شهيد بمعنى حاضر، والمعنى: ما كنتم حاضرين وقت أن احتُضر

يعقوب؛ أي: أشرف على الموت، وأوصى بنيه باتباع ملة إبراهيم، فكيف تدَّعون ما ادَّعيتم عليه رجماً بالغيب؟!. ووجّه يعقوب الوصية لبنيه في صورة سؤال؛ ليدل على شدة اهتمامه بأمر هدايتهم، ويستدعي بسؤاله جواباً منهم يعبر عن رسوخ إيمانهم، وعقدِهم النيةَ على أن يخصوا الإله الحق بعبادتهم. {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}: هذه الجملة بيان لما أجابوا به يعقوب - عليه السلام -، وهو جواب يتضمن أنهم متمسكون بملة إبراهيم، وهي ملة لا تثليث فيها، ولا تشبيه بمخلوق. وإسماعيل عم يعقوب، وذكروه في جملة آبائه على وجه التجوز بإطلاق الأب على العم، وهو من المجازات المعهودة في فصيح الكلام، وقدموا إسماعيل في الذكر على إسحاق؛ لأنه أسنُّ منه. {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ}: الإشارة إلى إبراهيم - عليه السلام - وأبنائه. و {خَلَتْ}: مضت وانقرضت، والأمة: الجماعة يجمعهم أمر من نحو الدين والموطن واللغة. {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ}: الكسب: التحصيل والعمل لإصابة ما فيه نفع. وفي الجملة لفظ محذوف يقتضيه المعنى، والتقدير: لها ثواب ما كسبت، ولكم ثواب ما كسبتم. والذي ترمي إليه الآية: تحذير المخاطبين من أن يتركوا طاعة الله، أو يتباطؤوا في سبيلها اتكالاً على انتسابهم لآباء كانوا أنبياء أو صالحين. وقد جاء في الحديث الصحيح: "من أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه".

{وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: لا تسألون يوم القيامة عما كانوا يعلمون في الدنيا؛ أي: لا يقال لكم على وجه العتاب: لم عملوا كذا وكذا؟! فالآية واردة لتقرير سنة عامة هي أن لكل نفس وحدها ثواب ما عملت من خير، وهي التي تتحمل وحدها تبعة ما اكتسبت من سوء.

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬1) {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [لبقرة: 135 - 137]. {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}: الضمير في قوله: {وَقَالُوا} عائد إلى أهل الكتاب. و {تَهْتَدُوا}: تصيبوا طريق الحق. وقد قصت علينا هذه الجملة دعوة كل من الفريقين إلى دينه، وزعْمَه أنه الحق دون غيره، وليس المعنى أن الفريقين كليهما قالوا على وجه التخيير: كونوا هوداً تهتدوا، والنصارى قالوا مثل ذلك: كونوا نصارى تهتدوا، وساعد على إفادة هذا المعنى باللفظ الموجز الذي نطقت به الآية ما هو معروف من أن كل فريق منهما يعد ديانة الفريق الآخر باطلة. {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}: الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -. والحنيف في الأصل: المائل، ويستعمل بمعنى: ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الحادي عشر من السنة الثالثة.

العادل عن دين إلى دين، ووصف به إبراهيم - عليه السلام -؛ لعدوله عن الأديان الباطلة المعروفة في عهده إلى الدين الحق الذي أوحى الله به إليه، وصارت الكلمة - وإن كانت في الأصل بمعنى: المائل - إنما يراد منها: المائل عن الأديان المعوجة إلى الدين القيِّم. وذهب بعض القدماء الذين تناولوا هذه الآية بالتفسير إلى أن حنيفاً من الحنَف، وهو الاستقامة، فصح -على كلا المذهبين- أن يفسر الحنيف بالمستقيم. والمعنى: قل يا محمد: بل نتبع ملة إبراهيم في حالة حنيفيته؛ أي: استقامته على الدين. وهذا يشير إلى أن اليهودية والنصرانية غير مستقيمتين. وقد تضمن قوله: {بَلْ نَتَّبِعُ} إبطال ما ادعاه كل من الفريقين من أن الداخل في دينه على هدى من الله، ذلك أن حرف (بل) يأتي في صدر الجملة لإبطال ما تضمنته الجملة السابقة، فهي في الآية لإبطال دعوى أن اتِّباع اليهودية والنصرانية اهتداء. ثم إن الآية وصفت ملة إبراهيم بالاستقامة، فدلت على أنها أولى بالاتباع؛ إذ الملة المستقيمة أولى بالاتباع من الملل المعوجة. {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: أثبت لإبراهيم الاستقامة على الدين الحق، ونفى عنه في هذه الآية أن يكون مشركاً؛ أي: إنه لم يكن يعبد وثناً، ولا كوكباً، ولا شيئاً غير الله، وفي هذا تعريض بكفار العرب؛ إذ كانوا يدينون بأشياء من دين إبراهيم، ويخلطونها بعبادة الأوثان، وتعريض بأهل الكتاب؛ إذ كانوا يدَّعون اتّباع إبراهيم، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، وفي اليهود من كان يقول: عزير ابن الله.

{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ}: الخطاب للمسلمين، والإيمان بالله: أن يصدق الإنسان بما اختص به تعالى من صفات الكمال على وجه الجزم واليقين، تصديقاً ملاكه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. وإنما يقوم التصديق على وجه الجزم واليقين متى استند إلى دليل تطمئن به النفس؛ من نحو: النظر في أسرار الكون، وحكمة المخلوقات، والانتباه لما يلاقيه الإنسان في حياته من ألطاف. {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}: يعني: القرآن الكريم. وصح نسبة الإنزال إلى المسلمين؛ لأنهم مخاطَبون بما فيه من أمر ونهي وعظات وغيرها. {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ}: ما أنزل إلى إبراهيم: الصحف المشار إليها بقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18 - 19]. ونسب إنزالها إلى الأنبياء الثلاثة، ثم الأسباط بعد نسبته إلى إبراهيم - عليه السلام -؛ لأنهم يتعبدون بما فيها من الأحكام، ومأمورون بالدعوة إليه. والأسباط: جمع سِبْط، وهو الحافد، وهم حَفَدَة يعقوب؛ أي: ذريات أبنائه، وكانوا اثني عشر سبطاً كما قال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف: 160] , والمراد: الإيمان بما أنزل الله من الوحي على الأنبياء منهم. {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى}: {أُوتِيَ}: أعطي، وما أعطي موسى: التوراة، وما أعطي عيسى: الإنجيل، وعطف عيسى على موسى دون أن يكرر الفعل، فيقول: وما أوتي عيسى؛

لأن عيسى جاء مصدقاً لما في التوراة، وإنما نسخ منها أحكاماً يسيرة، كما قال تعالى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]، فكأن ما أوتيه النبيان شيء واحد. {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ}: بعد أن ذكر ما أنزل على أنبياء بأعيانهم، ذكر ما أنزل على غيرهم من الأنبياء على وجه عام، وذكر ما أوتي موسى وعيسى بوجه خاص؛ لأن الكلام في الآية مع اليهود والنصارى، وموسى متبوع لليهود، وعيسى متبوع للنصارى، وقدم الإيمان بالله؛ لأن الإيمان بالنبي وما أنزل إليه متوقف على الإيمان بالله، وقدم ما أنزل إلينا، وهذا يستلزم الإيمان به على وجهي الإجمال والتفصيل، أما ما أنزل على الأنبياء من قبل؛ كالتوراة والإنجيل، فيكفي الإيمان به على وجه الإجمال، بل قال النبي - صلى الله عليه وسلم -كما جاء في "الجامع الصحيح" للإمام البخاري-: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إليكم"، والمراد بما لا نصدقهم فيه ولا نكذبهم: ما يكون محتملاً للصدق والكذب. فمن الجائز أن يكون في نفس الأمر صدقاً، فنقع بتكذيبه في حرج، أو يكون كذباً، ولا ينبغي لنا أن نتلقى الكذب، ونضعه بمكان الصدق. {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ}: التفرقة: جعل شيء مفارقاً لآخر. و {أَحَدٌ} يستعمل بمعنى واحد، كما جاء في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]. ويطلق على ما يصلح أن يخاطب، واحداً كان أو مثنى أو مجموعاً، وإذا أضيف إليه كلمة (بين)، كان المراد به: جمعاً من الجنس الذي يدل عليه الكلام. وإنما

كان المراد به جمعاً؛ لأن (بين) لا تدخل إلا على متعدد، والجنس الذي يدل عليه الكلام في الآية هو جنس النبيين، فالمراد به: جماعة منهم. والمعنى: لا نفرق بين جماعة من النبيين، فنؤمن ببعضهم، ونكفر ببعض؛ كما فعل اليهود إذ كفروا بعيسى ومحمد، وكما فعل النصارى إذ كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، بل نؤمن بهم جميعاً. والإيمان بما أنزل إلى الرسول يستلزم الإيمان بهم جميعاً. {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}: الإسلام: الخضوع بالطاعة والانقياد للأمر والنهي. والضمير في قوله: {لَهُ} عائد إلى الله تعالى. والجملة مندرجة تحت قوله تعالى: {قَالُوا}. والمعنى: قولوا: آمنا بالله، وقولوا: نحن له مسلمون. فتكون الآية مبتدأة بالإيمان الذي هو التصديق بالقلب، ومنتهية بالإسلام الذي هو انقياد الجوارح بالعمل الصالح. {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا}: الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ لأن قول المؤمنين: {آمَنَّا بِاللَّهِ}. . . إلخ شأنه أن يكون سبباً لإيمان أهل الكتاب الإيمان الصحيح؛ لأنه الحق الذي لا شبهة فيه، وإن تخلف إيمانهم مع وجود ما يدعو إليه، فلقصر نظرهم، وشدة عنادهم. والمثل يستعمل بمعنى: نفس الشيء وحقيقته؛ من قولهم: مثل الرجل يمثل: إذا قام وانتصب، وبالانتصاب تتحقق صورته، وتبدو ظاهرة. وقد صرح بعض المحققين بأن المثل في الأصل: عبارة عن نفس الشيء وصورته، ثم شاع استعماله فيما يشابهه، فمعنى الآية: فإن آمنوا بنفس ما آمنتم به.

{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}: {تَوَلَّوْا}: أعرضوا، والشقاق: المخالفة والعداوة، والمعنى: وإن أعرضوا عن الإيمان الذي تدعوهم إليه، فإنما هم في مشاقة لك وللمؤمنين، ومن يشاقق الرسول والمؤمنين، فقد شاق الله، وما له في الهداية من نصيب. وقال: {هُمْ فِي شِقَاقٍ} مبالغة في وصفهم بالشقاق؛ حيث جعله مستولياً عليهم استيلاء الظرف على ما يوضع فيه. {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}: أفادت الجملة السابقة أن إعراض أولئك اليهود والنصارى عن دعوة الحق يقضي بأنهم في مشاقة وعداوة للنبي - عليه الصلاة والسلام -، وشأن العدو المشاق للأنبياء أن يبذل جهده في إيذائهم، والصد عن سبيلهم. وجاءت هذه الجملة بوعد الله لرسوله بأنه سيعصمه من أولئك المشاقين، فلا تصل إليه أيديهم بأذى. ويكفي: من الكفاية بمعنى: الوقاية، وفي الآية إيجاز ظاهر؛ إذ الكفاية إنما تتعلق بالأفعال لا بالذات، فالأصل: يكفيك الله شرهم؛ أي: يقيك منه. ويصح أن تحمل على معنى: الإغناء، فيكون المعنى: فسيغنيك الله عن مقاومتهم. وتصدير الفعل بالسين دون سوف إذ قال: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ} مشعر بأن ظهوره عليهم واقع في زمن قريب من زمن نزول الآية، وقد أوفى الله بعهده، فأظهره عليهم، ومنعه منهم؛ بتفريق كلمتهم، وقتل من لا بد من قتله، وإجلاء من يكفي في السلامة من شره الإجلاء. {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: هذه الجملة واردة مورد التقرير والتأكيد لما تضمنته الجملة السابقة

من ضمان الله تعالى لرسوله الأكرم العصمةَ من أعدائه؛ إذ إيراد وصفَي السميع العليم عقب خطابه - عليه الصلاة والسلام - بقوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} يحضر في الذهن معنى أن الله يسمع أقوالك، ويعلم نيتك وما تقصده بجهادك من إعلاء كلمة الحق، ومَنْ كان هذا شأنه، فما وعدك به من النصر على من يعادونك واقع لا محالة. ويصح أن يفهم من إيراد هذين الوصفين: أنه تعالى السميع لما يقول أعداؤكم، العليم بما يبيتونه لكم من مكر، فلا يتركهم دون أن يكف عنكم بأسهم، ويقطع دابرهم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 138 - 140]. {صِبْغَةَ اللَّهِ}: الصبغة في أصل اللغة: الحالة التي يقع عليها الصبغ، وهو تلوين الشيء كالثوب بلون، وأطلقت في الآية بمعنى: الإيمان بما ذكر مفصلاً في الآية من قبل؛ لأن الإيمان يتدخل في القلوب تدخل الصبغ في المصبوغ، ويظهر أثره على المؤمن كما يظهر أثر الصبغ على ما يصبغ، ويقال: تصبَّغ فلان في الدين: إذا أحسن دينه. وهذا متصل بقوله تعالى فيما سبق: {آمَنَّا بِهِ}. و {صِبْغَةَ اللَّهِ} هكذا بالنصب على أنه وارد مورد المصدر المؤكد لقولهم: {آمَنَّا}؛ فإنه في معنى: صبغنا الله بالإيمان، وكأنهم قالوا: صَبَغَنا الله بالإيمان صبغته. وإيراد المصدر {صِبْغَةَ اللَّهِ} تأكيداً لفعل يوافقه في المعنى، ويخالفه في ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني عشر من السنة الثالثة.

اللفظ؛ مثل: {آمَنَّا بِاللَّهِ} معهود في الكلام البليغ. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}: هذه الجملة واردة في صورة الاستفهام الذي يراد منه النفي، والمعنى: لا أحد أحسنُ من الله صبغة؛ أي: ديناً. وهذا التركيب يدل -بحسب أصل وضع اللغة- على نفي أن يوجد دين أفضل من دين الله، ويبقى احتمال أن يوجد دين يساويه في الحسن، وهذا الاحتمال لم ينفه التركيب بحسب أصل الوضع، ولكن مثل هذا التركيب صار أسلوباً يفهم منه - بمعونة مقام المدح - نفيُ مساواة دين لدين الله في الحسن، كما يفهم منه نفي أن يكون هناك دين أحسن منه. وأفضلية دين الله: من جهة هدايته إلى الاعتقاد الحق، والأخلاق الكريمة، والآداب السمحة، والعبادات الصحيحة، والسياسة الرشيدة، والمعاملات القائمة على رعاية المصالح. {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}: {عَابِدُونَ}: من العبادة، وهي العمل الذي يتقرب به إلى الله تعالى، وإنما يكون العمل عبادة وطاعة يستحق صاحبها ثواب الله إذا صحبه إخلاص، ووقع على الوجه الذي رسمه الشارع الحكيم. {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ}: الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -. والمحاجة: المجادلة. ومجادلتهم في الله بمعنى: المجادلة في دينه، ذلك أنهم يدَّعون أن دين الله الحق هو اليهودية، ويزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، فالدين إنما يلتمس منهم، وحق النبوة أن تكون فيهم. {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ}: الرب: الخالق المنعِم. والمعنى: قل يا محمد لأهل الكتاب: أتجادلوننا

في دين الله بدعوى أنكم أولى به من المسلمين، والحال أنه خالقنا المنعِم علينا، وخالقكم المنعِم عليكم، فنحن وأنتم في العبودية له سواء، وهو أعلم حيث يوحي بدينه الحق، فلا وجه لدعوى اختصاصكم به. {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}: لكل فريق منا أعمال يختص بما يترتب عليها من ثواب أو عقاب، فكما أنا نتساوى في العبودية له تعالى، نتساوى في استحقاق الجزاء على الأعمال الصادرة منا. {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}: {مُخْلِصُونَ}: من الإخلاص، وهو أن يقصد بالعمل وجه الله وحده. وقد وردت في تعريفه عبارات نبُه بها على بعض علاماته، فقالوا: هو أن يعمل الإنسان في الباطن كما يعمل في الظاهر، وقالوا: هو أن يكتم حسناته كما يكتم سيئاته، وقالوا: لا يبلغ الإنسان حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على عمل. ولم يصف المسلمون أعمالهم بالحسن، ولا أعمال المخاطبين بالسوء؛ تجنباً لنفور المخاطبين من سماع خطابهم، بل أوردوا كلامهم مورد قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، كما أنهم لم يقولوا: ونحن مخلصون، وأنتم غير مخلصين، بل اقتصروا على نسبة الإخلاص لأنفسهم، وفي ذلك تعريض لطيف بأن المخاطبين غير مخلصين لله؛ فإن إخبار الإنسان باشتراكه مع جماعة في أمر أو أمور، وإفراد نفسه بعد ذلك بأمر، يومئ إلى أن هذا الأمر الذي أثبته لنفسه خاصة معدوم في أولئك الجماعة. فمعنى الجملة: ونحن مخلصون في أعمالنا لله وحده، ولم نخلطها بشيء من الشرك كما فعل غيرنا.

{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى}: لما أنكر على أهل الكتاب محاجَّتهم في الله بغير حق، بقي من مباهتاتهم دعوى أن أسلافهم من الأنبياء كانوا على دينهم، فتكون دعواهم الاختصاص بالجنة صحيحة، فأبطلها سبحانه بقوله: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ}. . . إلخ. فحرف {أَمْ} في الآية واقع في مقابلة الهمزة في قوله: {أَتُحَاجُّونَنَا}، والمراد: إنكار محاجتهم في الله، وإنكار قولهم: إن إبراهيم وما عطف عليه من الأنبياء كانوا هوداً أو نصارى، فكأن الآية تقول: قل لهم: لا تحاجونا في الله، وتدَّعوا أننا لسنا على الدين الحق، ولا تقولوا: إن الأنبياء كانوا على دينكم، فكل ذلك زعم باطل، وقول مفترى. {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}: هذا وارد مورد إبكاتهم، ومعناه: أن مازعمتموه هو على خلاف ما يعلمه الله، فأنتم تقولون: إن الأنبياء السابقين كانوا على يهوديتكم أو نصرانيتكم، والله يقول: ما كان أولئك الأنبياء على دين اليهودية أو النصرانية، فهل أنتم أعلم بديانتهم، أم الله؟ ولا يمكنهم أن يقولوا: نحن أعلم، وإن قالوا: الله أعلم، قلنا لهم: قد أخبر في القرآن الذي قامت الأدلة القاطعة على أنه تنزيل منه بأن إبراهيم لم يكن يهودياً، ولا نصرانياً؛ أي: إنه بريء من الديانتين. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ}: عند أهل الكتاب شهادة من الله هي أن إبراهيم - عليه السلام - كان على دين الحنيفية بريئاً من اليهودية والنصرانية، وقد بلغتهم هذه الشهادة

من طريق القرآن، وهو المعجز الذي لا تحوم حول صدقه ريبة، فيصح أن تكون هذه الآية منكرة على أهل الكتاب عدم إقرارهم بأن إبراهيم ما كان يهودياً ولا نصرانياً على حسب ما أخبر به القرآن. وعند أهل الكتاب شهادة من الله هي ما اشتملت عليه التوراة والإنجيل من البشارة برسول تنطبق صفاته على حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد عرفوا ذلك، ولم يقروا به، والامتناع من الإقرار بالشيء مع قيام الحجة على ثبوته كتم للشهادة، فيصح أن تكون الآية منكرة عليهم كتم ما يجدونه في التوراة والإنجيل من صفات الرسول المبشر ببعثته، حيث كانت مطابقة لحال النبي - صلى الله عليه وسلم - مطابقة تامة واضحة. ولما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] الآية. فمن أهل الكتاب من آمن به، وأخبر بما في كتبهم من ذكره بصفته وعلاماته، ومنهم من لا ينكر أن يكون قد ذكر في الكتابين، ولكنه يكابر، ويقول: المقصود نبي لم يأت بعد. وقد تصدى لجمع هذه البشائر من كتابي اْلتوراة والإنجيل طائفة من أهل البحث والعلم في القديم والحديث، وبينوا وجه انطباقها على حال النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ بحيث لا يأخذ الناظر الطالب للحق ريبة في أنه الرسول الذي بشرت الأنبياء بمبعثه وعموم رسالته. ومن هذه البشائر: ما جاء في سفر التثنية من التوراة: "أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به". والنبي المماثل لموسى -عليه السلام- في الرسالة والشريعة المستأنفة هو النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإخوة بني

إسرائيل هم العرب؛ لأنهما يجتمعان في إبراهيم - عليه السلام -. وقوله: "وأجعل كلامي في فمه" يوافق حال النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمية وعدمِ تعاطي الكتابة. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: الغفلة: السهو والنسيان، وإذا نُفيت عن الله، فقيل: إن الله ليس بغافل عن كذا، فإنما يراد منها: إحصاؤه للشيء، وإحاطته به علماً، فالجملة تهديد ووعيد لأهل الكتاب، والمعنى: أن الله لا يترك أمرهم سُدى، بل هو مُحصٍ لأعمالهم، ومحيط بها علماً، وإذا كانت الأعمال معاصي وآثاماً، استحقوا العقوبة بها، ومن كبر المعاصي والآثام أن يكتم الإنسان شهادة عنده من الله. {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: الأمة المشار إليها في الآية: إبراهيم وآله. ووردت هذه الآية في آيات تقدم تفسيرها آنفاً، وأعيدت هنا بعينها؛ مبالغة في التحذير من الافتخار بالآباء، والاتكال على صلاحهم، والمقتضي لهذه المبالغة: أن النفوس مطبوعة على هذا الافتخار والاتكال. ولتكرار التحذير من الشيء أثر كبير في تطهير النفوس منه، وصرفها عنه، وكأن الآية تقول لأهل الكتاب في تأكيد: إن أمامكم ديناً دعيتم إلى اتباعه، واقترنت دعوته بالحجة، فانظروا في دلائل صحته وسمو حكمته، ولا تردوه بمجرد دعوى أن الأنبياء السابقين كانوا على ما أنتم عليه الآن؛ فإن دعواكم هذه لا تنفعكم، ولو في حال تسليمها لكم؛ إذ لا يمتنع اختلاف الشرائع باختلاف المصالح، وعلى حسب ما تقتضيه حكمة عالم الغيب والشهادة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 142 - 144]. {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من بعد الهجرة إلى المدينة كانوا يستقبلون في صلواتهم بيت المقدس، واستمروا على ذلك بضعة عشر شهراً؛ وكان النبي - صلوات الله عليه - يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم - عليه السلام - , فنزل قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ}. . . إلخ الآية. والسفهاء: جمع سفيه، وهو خفيف العقل، ومن لا يميز ما له وما عليه. وولاهم: صرفهم. والقبلة: المكان يتوجه إليه للصلاة، والمراد: بيت المقدس. والاستفهام ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الأول من السنة الرابعة.

في قوله: {مَا وَلَّاهُمْ} للإنكار. والمعنى: أن الجاحدين لنبوتك من اليهود والمنافقين سيقولون على وجه الإنكار -إذا حولتم وجوهكم عن استقبال بيت المقدس في الصلاة-: أيُّ شيء صرفهم عن استقبال القبلة التي كانوا عليها؟ وهذه الآية تدل على أنه سيقع حادث في أمر القبلة، وأن السفهاء سيتخذونه وسيلة إلى الطعن في حكمة التشريع. وسمى أولئك الجاحدين سفهاء؛ للتنبيه على أن إنكارهم لتغيير القبلة إنما هو وليد الجهل وخفة العقل. {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: هذا تعليم من الله تعالى لنبيه الكريم الجواب عن إنكار أهل الكفر والنفاق لتحويل القبلة. والمراد من المشرق والمغرب: جميع الأرض. {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: شرع قويم. والمعنى: قل يا محمد إذا قالوا ذلك: إن جميع الأمكنة مملوكة لله، وهي بالنسبة إليه متساوية، وله أن يخص بعضها بحكم دون بعض، فإذا أمرنا باستقبال جهة في الصلاة، فلحكمة اقتضت الأمر، وما على الناس إلا أن يمتثلوا أمره، وهو الذي يهدي من يشاء من خلقه، فيوفقه إلى طريق مستقيم؛ إذ يستقبل القبلة التي أمره بالتوجه إليها. وقال هنا: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هكذا منكَّراً؛ لأن المراد منه: أمر جزئي من أمور الشريعة هو استقبال البيت الحرام. وقال في سورة الفاتحة: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} معرفاً بأل؛ لأن المراد: الشريعة كلها، فكان من المناسب تعريفه بأل المفيدة للكمال. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}: الوسط في الأصل: ما بين طرفين أو أطراف، ويستعمل بمعنى: العدل والخير، ويوصف به المفرد والجمع، والمذكر والمؤنث؛ وهو في الآية بمعنى:

خيار عدول، وقيل للخيار: وسط؛ لسلامة الوسط مما يسارع إلى الأطراف من الخلل والفساد؛ وسالك الوسط من الطريق محفوظ من الانحراف إلى غير طريق. والمعنى: ومثلما جعل قبلتكم وسطاً؛ لأنها البيت الحرام الذي هو بناء الخليل إبراهيم - عليه السلام - جعلكم أمة وسطاً بين الأمم؛ ليتحقق التناسب بينكم وبين القبلة التي تتوجهون إليها في صلواتكم. ويصح أن يكون لفظ: {وَكَذَلِكَ} للتنبيه على الخبر المهم الذي ذكر بعده، وهو جعل المخاطبين وسطاً؛ أي: عدولاً، وما ترتب عليه من شهادتهم على الناس يوم القيامة. {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}: هذا بيان لوجه جعلِهم خياراً عدولاً، وهو استشهادهم، وقبول شهادتهم على الخلائق يوم القيامة. وشهداء: جمع شهيد، وصفٌ من الشهادة، وهي إخبار الإنسان بما شاهده، أو شهده؛ اْي: حضره، وتستعمل في الإخبار بما علم - ولو من غير طريق المشاهدة -. وتكون الشهادة في الدنيا بين الناس على أعمالهم ومعاملاتهم، وفي الآخرة بين الرسل وأممهم، كما قال تعالى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 69]. وتحمل شهادة الأمة في الآية على شهادنهم على الأمم السابقة بأن أنبياءهم قد بلغوهم الرسالة على وجهها؛ ومستند هذه الشهادة: ما قصه علينا القرآن الكريم من أنبائهم. وشهادة الرسول - عليه الصلاة والسلام - على أمته: إخباره بتصديقهم له، وتلقيهم دعوته بالطاعة. والحكمة في شهادة الأمة المسلمة على الأمم يوم القيامة: إظهار فضل الأمة التي استنارت بالحجة، واطمأنت للمعجزة، فاَمنت بجميع الأنبياء - عليهم السلام - , ولم تفرق بين أحد منهم.

وإيراد شهادة الأمة المسلمة على الناس مورد العلة لجعلهم وسطاً لا ينفي أن يكون هناك حكمة أو حكم أخرى تترتب على جعلهم أمة خياراَّ عَدولاً. وينتزع من الآية حكم ظاهر هو أن الشهادة لا تقبل إلا من العدول. والعدل: من يجتنب الكبائر من المعاصي جملة، ويتقي صغائرها في أغلب أحواله، ولا يأتي ما يقدح في مروءته. وقال الفقهاء؛ حرصاً على عدم إضاعة الحقوق: ولو اتفق أن كان أهل البلد كلهم فساقاً، لأقمنا للشهادة عليهم أقلَّهم فسقاً. {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}: الجعل هنا بمعنى: الشرع؛ والمراد من القبلة: بيت المقدس، فيكون في الآية دليل على أن الاتجاه إلى بيت المقدس كان بأمر من الله؛ كما ورد صريحاً في بعض الروايات، وهذه الآية جاءت لبيان حكمة الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس قبل أن تجيء الآية الناسخة لها. والحكمة: ما أرشد الله تعالى إليه بقوله: {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}، والانقلاب: الارتداد. والعقب: مؤخر القدم. ومعنى الانقلاب على العقب: الارتداد عن الإسلام. والمعنى: ما شرعنا التوجه إلى بيت المقدس إلا لنعلم من يتبع الرسول، ويأتمر بأوامره في كل حال، متميزاً ممن لم يدخل الإيمان في صميم قلبه، وإنما دخل في الدين، ووقف منه على حرف؛ بحيث يرتد عنه بأدنى شبهة؛ والله عالم بكل شيء، ولكنه شاء أن يكون معلومه الغيبي مشاهداً في العيان؛ إذ تعلَّق العلم بالشيء واقعاً في العيان هو الذي تقوم عليه الحجة، ويترتب عليه الثواب والعقاب.

{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}: (إن): هي (إنَّ) المشددة، خففت وألغيت عن العمل، وأتى بها لمجرد التأكيد. والضمير في {كَانَتْ} عائد إلى القبلة، وكبيرة: ثقيلة شاقة. وإنما أخبر عن القبلة بأنها ثقيلة شاقة على بعض النفوس؛ لأنها اسم لبيت المقدس الواجب استقباله في الصلاة، فوجوب الاستقبال صار شطراً من معنى القبلة؛ وهذا الشطر هو الذي جعلها شاقة على بعض النفوس. والمعنى: وإن القبلة -التي شرعناها لتمييز من يتبع الرسول ممن يعصي أمره- لا يسهل الاستسلام لشرعها إلا على الذين جعل الله في قلويهم نوراً من الهدى؛ فإنهم يتجهون إليها بخضوع، ولا يجدون في صدورهم حرجاً من استقبالها. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}: سبب نزول هذه الجملة: ما روي في الصحيح عن البراء بن عازب: أنه قال: "مات على القبلة -أي: بيت المقدس- قبل أن تحول رجالٌ، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. ومن هنا ذهب كثير من أهل العلم إلى أن المراد من الإيمان: الصلاة، وأطلق الإيمان على الصلاة؛ لأنه لازم لها؛ إذ لا صلاة بحق إلا مع الإيمان. ويصح أن يكون في الجملة مع هذا وعد للمخاطبين الذين ثبتوا على الإيمان عند فتنة القبلة بأن الله لا يضيع إيمانهم. ومعنى عدم إضاعة الصلاة أو الإيمان: أن الله يجازيهم على ذلك الجزاء الأوفى. {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}: الرؤوف: من الرأفة، وهي صفة تقتضي دفع المكروه، وإزالةَ الضرر.

والرحيم: من الرحمة، وهي صفة تقتضي الإنعام. وقدم رؤوف على رحيم؛ لأن دفع الضرر يقدم على الإنعام عندما تقتضيهما حال الشخص. وهذه الجملة واقعة موقع الاستدلال على أنه نقلهم من شرع إلى شرع أصلح، وعلى أنه لا يضيع صلاتهم، أو إيمانهم، فيتركه بغير ثواب؛ فإن الرؤوف الرحيم لا ينقل الناس من شرع إلا إلى ما هو أصلح، ولا يضيع أجر من آمن منهم وأحسن عملاً. {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}: دل قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ}. . . إلخ، على أنه سيقع تغيير للقبلة، وجاءت هذه الآية: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ} خطاباً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ووعداً له بأن القبلة التي سيؤمر بالتوجه إليها هي الجهة التي يحرص على أن ينزل الوحي بجعلها القبلة؛ وكان - صلى الله عليه وسلم - عندما أحب تحويل القبلة إلى الكعبة يُقبل بوجهه الكريم على السماء التي هي مصدر الوحي منتظراً نزول الوحي بذلك. ومعنى توليته قبلة يرضاها: تمكينه من استقبالها بشرع ذلك على وجه الإيجاب. وتحويل القبلة إلى الكعبة شُرع على مقتضى الحكمة، ورغبتُه - عليه الصلاة والسلام - فيه كانت موافقة للحكمة المقتضية للتحويل، وتقلب وجهه في السماء انتظاراً لشرع الحكم يدل على أنه قد يشعر بحكمة التشريع قبل نزول الوحي به. {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: وعد الله تعالى نبيه - صلوات الله عليه - بتوليته قبلة يرضاها، وعقب ذلك الوعد بالإنجاز، فقال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ}. والشطر: يطلق بمعنى:

نصف الشيء والجزء منه، ويطلق بمعنى: الجهة والنحو، وهذا ما يفهم من قوله: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ}، والمسجد الحرام: يطلق على المصلى العام، فيتناول الكعبة وما أحيط بها من نحو الحِجْر ومقام إبراهيم، ويطلق على الكعبة نفسها؛ وهذا ما يفهم من الآية؛ إذ القبلة إنما هي البيت الحرام. {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}: وجه الخطاب باستقبال الكعبة إلى نبيه الكريم، إذ قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ}، والمعروف أن الأصل فيما يخاطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحكام هو خطاب للأمة قاطبة، وجاءت هذه الجملة: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} مؤكدة لذلك، ودافعة احتمال أن يكون استقبال الكعبة من خواصه. والمشاهد للكعبة يجب عليه أن يستقبل عينها، والغائب عنها يكفيه استقبال جهتها، ويجتهد في تعرف الجهة ما استطاع.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 144 - 149]. {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}: الذين أوتوا الكتاب: علماء اليهود والنصارى. والضمير في قوله: {أَنَّهُ} عائد إلى تحويل القبلة إلى الكعبة. و {الْحَقُّ}: الحكم الثابت بإيجاب الله له. والتالون للكتاب من اليهود والنصارى يعلمون أن التحويل إلى الكعبة حق من جهة أنه دعا إليه من قامت الآيات البينات عندهم على أنه رسول الله حقاً. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني من السنة الرابعة.

{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}: هذه الجملة واقعة موقع الوعيد لأولئك الذين يعلمون الحق ويجحدونه؛ إذ معنى أن الله لا يغفل عن العمل: إحاطته به علماً. وعلمه تعالى لما يصدر عنهم من الباطل قولاً أو عملاً، يقتضي جزاءهم عنه الجزاء اللائق به. {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}: هذه الآية إراحة له - صلى الله عليه وسلم - من التطلع إلى اهتداء أولئك الذين يعرفون الحق من اليهود والنصارى ولا يتبعونه. واللام في قوله: {وَلَئِنْ} تشير إلى قسم مقدر في نظم الكلام لتاكيده، والمعنى: لا تنتظر يا محمد من أولئك اليهود أو النصارى أن يتبعوا قبلتك التي هي الكعبة، ولو جئتهم بكل آية تدل على أن التوجه إليها هو الحق من ربهم؛ لأن إعراضهم لم يكن عن شبهة، فتزول إذا حضرت الحجة، بل هو إعراض عن عناد، وما أضيعَ البرهانَ عند المعاند! والعناد يقع لغلبة هوى في النفس؛ من حب دنيا، أوجاه، أو نحو ذلك. {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}: هذه الجملة إخبار بأنه - عليه الصلاة والسلام - لا يتبع قبلة اليهود ولا النصارى، وردت لتقرير حقية القبلة التي هي الكعبة، وتأكيدها بأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يعدل عنها إلى غيرها؛ وفي هذا الإخبار قطعٌ لأطماع ما يتمناه بعض أهل الكتاب من أن يعود إلى قبلتهم. وأفرد القبلة، فقال: {قِبْلَتَهُمْ}، مع أن لكل من اليهود والنصارى قبلة خاصة؛ لاتحاد القبلتين في البطلان؛ بالتحويل إلى الكعبة، واتحادهما في الباطل جعلهما بمنزلة قبلة واحدة، والبلاغة العربية تسمح بالتعبير عن المثنى بمفرده إذا لوحظ اتحاد مفرديه

في وصف، كما تسمح بالتعبير عنه بصيغة الجمع إذا أضيف إلى مثنى مثله؛ كما قال تعالى: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}: ما أولئك اليهود بتابعين قبلة النصارى، ولا أولئك النصارى بتابعين قبلة اليهود، يأبون ذلك تقليداً لآبائهم، لا لدليل يستندون إليه بعد المقارنة بين القبلتين؛ فهم متفقون على عدم اتباع القبلة التي هي حق، ومشتركون في أن قبلة كل منهم ليست بحق، فاثبتوا على قبلتكم، ودعوهم وشأنهم، ولا تقيموا لمشاغبتهم وزناً. {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}: لما ثبت أن التحويل إلى الكعبة هو الحق، صار المتوجه إلى غيرها إنما هو متبع للهوى، قال تعالى محذراً للأمة من التوجه إلى بيت المقدس متابعة لأهل الكتاب تحذيراً في صورة الخطاب للإمام الأعظم - صلوات الله عليه -: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ}، والأهواء: جمع هوى، وهو الرأي الباطل. والعلم الذي جاءه على طريق الوحي هو أن أهل الكتاب مقيمون على باطل، وعلى عناد الحق، ووصفُ المتبع لأهوائهم بأنه من قبيل الظالمين، وعيدٌ بالجزاء الذي يليق بمن ظلموا أنفسهم أو غيرهم بارتكاب ما ليس بحق. فالآية وعيد وتحذير للأمة من اتباع آراء أهل الكتاب المنبعثة عن هوى، وأخرجت الوعيد والتحذير في صورة الخطاب للرسول الأكرم، الذي لا يتوقع منه أن يتبع أهواء أهل الكتاب؛ تأكيداً للوعيد والتحذير؛ فكأنه يقول: لو اتبع أهواءهم أفضلُ الخليقة وأعلاهم منزلة عندي، لجازيته

مجازاة الظالمين، وأحرى بهذه المجازاة من كانوا دونه في الفضل وعلو المنزلة إذا اتبعوا أهواء المبطلين. ومفاد الآية: أن هذا الوعيد منوط باتباع أهوائهم غير منظور فيه إلى حال المتبع له. وفي قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} شاهد على أن اتباع الرجل للهوى، وهو على علم منه، أفظعُ من اتباعه له وهو على جهالة، وأن مخالفته للحق وهو عالم به أدعى إلى عتابه أو عقابه وهو جاهل به. وقال فيمن يتبع أهواء المخالفين: {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}. وهو أبلغ من أن يقال: إنك ظالم؛ ذلك أن الإنسان إذا تصور فئة من الناس يضعون الأشياء في غير مواضعها بمخالفة أمر الله، أو بالاعتداء على الأعراض والأموال والأنفس، حصلت في نفسه صورة مستبشعة، ووجد فيها كراهية لأن يقال له: أنت من هذه الفئة، أشد من كراهيته لأن يقال له: أنت ظالم. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}: الذين أوتوا التوراة والإنجيل يعرفون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعنى معرفتهم له: علمهم بصدق رسالته الحاصل من دلائل نبوته، وموافقة نعوته لنعوت الرسول المبشر به في كتبهم، فهم يعرفون محمداً بصفته رسولاً من عند الله، لا يأخذهم شك في ذلك؛ كما لا يأخذهم شك في معرفة أبنائهم؛ لكثرة ملابستهم لهم، ولمعرفتهم أنه رسول حق يعرفون أن تحويل القبلة إلى الكعبة شرع من الله، لا يأخذهم في ذلك ريب. {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: يكتمون الحق: يخفونه ولا يعلنونه، فمن أنكر الحق، وجحد به، فهو كاتم له، ومن سكت عنه في الوقت الذي يقتضي بيانه، فهو كاتم له، غير

أنه أدنى درجة ممن ينكره بلسانه، ويصد عن سبيله. وقال: (يكتمون)، و {يَعْلَمُونَ} هكذا بالفعل المضارع، فدل على أنهم متمادون في العلم به، وعلى كتمانه؛ لما عرف سابقاً من أن التعبير عن المعنى بالفعل المضارع يدل على تجدده وتتابعه المرة بعد الأخرى. {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}: جملة مستأنفة لتقرير حقِّية ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشرائع بكونه من الله. والرب: المالك المنعم، وقال: {مِنْ رَبِّكَ}؛ ليشعره بأن هذا الحق من قبيل الخير الذي ينعم به عليه. ولم يعطف الجملة على ما قبلها، فيقول: "والحق من ربك"؛ لما عرف من فنون البيان أن قوة عناية المتكلم بمعنى الجملة من دواعي إلقائها على المخاطب مستقلة غير تابعة لما قبلها بحرف العطف. {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}: الممترين: من الامتراء، وهو الشك والتردد. والشك فيما أوحى الله به من حق، غيرُ متوقع منه - عليه الصلاة والسلام -؛ فالنهي موجه إلى الأمة في صورة الخطاب له؛ إذ في الأمة حديثو عهد بكفر يخشى عليهم أن يفتنوا بزخرف من القول يروِّج به أهل الكتاب شُبهاً تعلق بأذهان من لم يرسخ الإيمان في قلوبهم. {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}: الوجهة: الناحية، والمراد: القبلة، وموليها: متجهٌ إليها بتولية وجهه إياها. والاستباق: أشد السرعة؛ لأن الذي يسابق غيره إلى غاية يبذل جهده

في أن يسبقه إليها. فالأمر بالاستباق أمر بأقصى ما يمكن من السرعة. والخيرات: جمع خيرة، وهي الفاضلة من الشيء. والمراد: الأعمال التي اختارها الله للعباد ورضيها. والمعنى: لكل فريق قبلة يتجهون إليها، فسارعوا أنتم جهدكم إلى ما اختاره الله لكم من الأعمال التي من جملتها التوجه إلى الكعبة للصلاة. {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: هذا وعد لمن يطيع أمر الله، ويستبق الخيرات، ووعيد لمن يخالف أمره، وينصرف عن عمل الخير؛ كالذين يكتمون الحق وهم يعلمون، أو يولون وجوههم غير المسجد الحرام؛ فالله يأتي بالفريقين المطيعين والمخالفين يوم البعث من أي مكان أدركهم فيه الموت؛ ليجازي كل فريق على حسب طاعته أو مخالفته، ولا يعجزه ذلك، لأنه قادر على كل شيء. {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: شرع القرآن الكريم تحويل القبلة إلى الكعبة، وكرر الأمر بتولية الوجوه إليها في الصلاة، وكرر الوعيد على عدم اتباعها، وأتى في ذلك بوجوه من التأكيد تدل على عناية بالغة بشأنها؛ والمقتضي لهذه العناية، مع أن التوجه إلى القبلة فرع من فروع الدين، لا ركن من أركانه: هو أن التحويل جاء على خلاف رغبة اليهود؛ إذ كانوا يحرصون على أن يستمر المسلمون على التوجه إلى قبلتهم بيت المقدس، فاتخذوا من تحويل القبلة شبهة يقدحون بها في صحة النبوة؛ ليفتنوا ضعفاء العقيدة، وزعموا أن نسخ الحكم بعد شرعه منافٍ للحكمة، فلا يقع في الشرائع الإلهية، وانتشر تهويشهم، وكان له فيما يروى أثر في بعض النفوس الضعيفة، وبهذا أخذت مسألة القبلة شأناً

غير شأن بقية الأحكام الفرعية. ثم إن للقبلة بين الأمم شأناً عظيماً؛ إذ أصبح شعار كل ملة قبلتها، ولا يفارق الإنسان قبلة دينه إلا إذا فارق الدينَ نفسه، فلا جرم أن يُعنى القرآن بأمر القبلة هذه العناية من تكرار الأمر، والوعيد، ودفع الشبه، وتأكيد أنها الحق من الله، حتى يرد شغب أهل الكتاب، وينهض بضعفاء الإيمان إلى منزلة الراسخين في العلم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 150 - 154]. {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}: قال تعالى عند شرع تحويل القبلة إلى الكعبة: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. ثم قال مخاطباَّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحده: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، فدل على أن توجُّهه للكعبة كتوجه الأمة لا يختص ببقعة دون بقعة، ولا بزمان دون زمان، ولا بحضر دون سفر؛ ثم أعاد الأمر مخاطباً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأمة على وجه النعميم في جميع الأمكنة والأحوال، فقال تعالى: ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثالث من السنة الرابعة.

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، ولم يعد الأمر على هذا الوجه لمجرد التأكيد، بل أعيد ليرتب عليه التنبيه على علة التشريع بقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}. {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}: الناس: اليهود والمشركون. والحجة تطلق في أصل اللغة على كلام يقصد به غلبة الغير، سواء أكان دليلاً صحيحاً، أم باطلاً، كما قال تعالى: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16]، فالشبهة قد يطلق عليها في مجاري الاستعمال لفظ الحجة؛ وتحويل القبلة إلى الكعبة يبطل مما يجادل به اليهود في رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - قولهم: يخالفنا في ديننا، ويتبع قبلتنا؛ ويبطل مما يجادل به المشركون قولهم: إن محمداً لما ترك التوجه إلى الكعبة، ترك دين إبراهيم. {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}: {الَّذِينَ ظَلَمُوا}: هم المعاندون من فريقي اليهود والمشركين؛ فلاستيلاء الأهواء على قلوبهم لا يرجعون في تمييز الرشد من الضلال إلى الأدلة، ولا يرجى من الشبه التي تعلق بأذهانهم، أو تجري على ألسنتهم أن تذهب عند حضور الحجة الساطعة على بطلانها. {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}: الخشية: الخوف؛ والمعنى: فلا تخافوا أولئك المعاندين، ولا تقيموا لما يشاغبون به في أمر القبلة وغيره وزناً؛ فإني أكفيكم بأسهم، وأرد عنكم كيدهم، وخافوني فيما آمركم به من الطاعات، وحافظوا على التوجه في صلواتكم إلى البيت الحرام.

{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}: هذا معطوف على قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}، فهو حكمة ثانية لتولية الوجوه شطر المسجد الحرام. والمعنى: فولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام؛ قطعاً لمحاجة اليهود والمشركين، ولأجعل نعمتي عليكم في تشريع ما هو الأصلح والأفضل تامة. {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: قد تقوم (لعلَّ) في القرآن مقام التعليل، فتكون هذه الجملة منبهة لحكمة ثالثة في تحويل القبلة إلى الكعبة، وهي اهتداء المخاطبين بالسير في صراط مستقيم. وقد جعل في الآيات السابقة التوجه إلى القبلة المأمور بها صراطاً مستقيماً إذ قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]. {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ}: المعنى: حولت القبلة إلى شطر المسجد الحرام؛ لأتم عليكم النعمة، ولتكونوا من المهتدين، كما أرسلت فيكم رسولاً منكم إجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل إذ قالا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129]. . . الآية. وفي إرسال الرسول فيهم، وهو منهم، نعمة تستوجب شكراً زائداً على شكر أصل إرساله بالهدى ودين الحق؛ إذ إرساله منهم يسبقه معرفتهم لنشأته الطيبة، وسيرته النقية، وهممه السنية؛ وهذه المعرفة شأنها أن تسرع بأولي البصائر والفِطَر السليمة إلى اتباعه لأول معجزة تظهر على يده. {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا}: الآيات: دلائل التوحيد والنبوة والبعث، وتلاوتها: التذكير بها. ويصح

أن يراد من الآيات؛ آيات القرآن، وتلاوتها: قراءتها؛ فإن العارف بأساليب حسن البيان يدرك من مجرد تلاوة القرآن كيف ارتفع إلى الذروة التي كان بها معجزة ساطعة. {وَيُزَكِّيكُمْ}: يطهركم من الشرك والأخلاق الذميمة، واذا أشرقت النفوس بالتوحيد، وتحلت بالأخلاق الكريمة، قويت على تلقي ما يرد عليها من الحقائق السامية. {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}: {الْكِتَابَ}: القرآن، وتعليمه: بيان ما قد يخفى من معانيه، فهو غير التلاوة؛ كما قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وقد أبعد في التأويل من حمل الكتاب على الكتابة، إذ لم يكن من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تعليم الكتابة، وإنما كان يأمر بتعليمها وتعلمها. والحكمة: ما يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والأفعال التي جعل الله للناس فيها أسوة حسنة. {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}: ومما لم يكونوا يعلمونه، وعلَّمهم إياه النبي - صلى الله عليه وسلم -: وجوه استنباط الأحكام من النصوص، أو الأصول المستمدة منها، وبهذا النوع من التعليم صار الدين كاملاً قبل انتهاء عهد النبوة. ومما تلقوه عن الرسول الأكرم: العقائد السليمة، والعبادات الخالصة، والأخلاق القويمة، والآداب السَّنية، والأحكام العادلة، والسياسة الرشيدة. وقد كان العرب في جاهليتهم لا يُحكمون سياسة الجماعات، وبعد أن تلا عليهم الرسول الأكرم آيات الله، وعلمهم الكتاب والحكمة، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، خرج منهم رجال صاروا مثلاً عالية في سياسة الأمم

المختلفة البيئات والنزعات. {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}: ذكر الشيء: التلفظ باسمه، ويطلق بمعنى: إحضاره في الذهن، وهو ضد النسيان، ولا يكفي الإنسانَ في ذكر الله أن يُجري اسماً من أسمائه على لسانه، إلا أن يستحضر عظمته وجلاله، واستحضارُ العظمة والجلال هو الذي يبعث على استفراغ الوسع في الأعمال المأمور بها؛ من نحو: التسبيح، والتحميد، والتفكر في حكمة المخلوقات، وصرف الجوارح فيما يأذن به الخالق - جل شأنه - ويرضاه. وذكرُ الله للعبد يفهم على معنى: كفايته من يريد به سوءاً، ثم الإنعام عليه بالعزة في الدنيا، والسعادة في الأخرى. فالذكر في قوله: {أَذْكُرْكُمْ} مستعمل فيما يترتب على الذكر من المجازاة بما هو أوفى وأبقى. {وَاشْكُرُوا لِي}: الشكر: عرفان الإحسان وإظهاره بالثناء على المحسن، يقال: شكره، وشكر له؛ كما يقال: نصحه، ونصح له. وشكر العبد لله يطلق بمعنى: ذكر إحسانه الذي هو النعمة، ومن ذَكر أن ما يصل إليه من الخير هو من نعم الله عليه، واعترف بذلك من صميم قلبه، وحضر في نفسه جلال المنعم، لم يلبث أن يصرف ما أنعم الله به عليه من العقل والجوارح فيما يرضيه، ومن هنا صح حمل الشكر على معنى: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من العقل والجوارح فيما يأذن به من الطاعات. فالشكر المأمور في الآية: {وَاشْكُرُوا لِي} هو الشكر الذي يكون من مظاهره حسن الطاعة فيما يأمر به، أو ينهى عنه. وقدّم الأمر بالذكر على الأمر بالشكر؛ لأن الذكر يتعلق بالذات

وعظمتها، فهو أولى بالتقديم على النعم الصادرة عنها. {وَلَا تَكْفُرُونِ}: الكفر: الجحود، يستعمل بمعنى: عدم الإيمان، فيتعدى بالباء، فيقال: كفر بالله، ويستعمل بمعنى: عدم الشكر، فيتعدى بنفسه، فيقال: كفر بالنعمة؛ أي: جحدها، وكفر المنعم؛ أي: جحد نعمته، ولم يقابلها بالشكر. وهذه الجملة: {وَلَا تَكْفُرُونِ} تأكيد لقوله: {وَاشْكُرُوا لِي}. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}: لما كان الإيمان بحق يستدعي القيام بمصاعب، واحتمال مكاره؛ كالدعوة إلى الحق، والجهاد، وبذل المال في سبيل الخير، ولقاء الأذى من عدو أو سفيه، دل القرآن الحكيم على ما يعين على القيام بالمصاعب، واحتمال المكاره، فقال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}، فيستعين الإنسان بالصبر والصلاة على فعل الطاعات، وترك المعاصي، وعلى احتمال المصائب التي تجري بها الأقدار. والصلاة التي يستعان بها على القيام بالطاعات، ومخالفة الأهواء، والاطمئنان عند مفاجأة المصائب، هي الصلاة التي يستحضر فيها المصلي جلال الله، ويتدبر فيما يجري على لسانه من قرآن وذكر. وإن شئت فقل: هي الصلاة التي يلين فيها قلبه خشوعاً. والمفهوم من مقاصد الشريعة: أن الإنسان لا يثاب من صلاته على الأجزاء التي قضاها وقلبه مشغول بأمور دنيوية صرفة. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}: إن الله مع جميع خلقه بعلمه وقدرته، فهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، ومع بعض خلقه؛ باعزازهم ونصرهم، ووقايته لهم من بأس

أعدائهم، ومعيَّةُ الله للصابرين من هذا القبيل، فالله ناصر للصابرين، وكافيهم شر من يبسطون إليهم ألسنتهم أو أيديهم بالأذى. والجملة بيان لحكمة الاستعانة بالصبر، وهو الفوز والنصر. وقال تعالى: {مَعَ الصَّابِرِينَ}، ولم يقل: (مع المصلين)؛ لأن الصلاة كما أمر الله لا تقوم إلا بالصبر؛ فالمصلون بحق داخلون في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}. {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}: المعروف أن الموت: مفارقة الروح للجسد، فيسلب الجسد الحياة، ويعدم الحس والحركة الإرادية. وهذا المعنى حاصل فيما يرى لمن قتل في سبيل الله، كما يرى لمن مات على فراشه. والآية تنبه على أن في الشهداء مزية تفصلهم عن الموتى المعروفين لدى الناس، وهي أنهم في حياة سارة، ونعيم لذيذ عند ربهم؛ وهذه الحياة الممتازة ترفعهم عن أن يقال فيهم كما يقال في غيرهم: أموات، وإن كان المعنى اللغوي للموت حاصلاَّ لَهم؛ ولهذا يصح أن يقال: مات فلان شهيداً. وقد يكره الشارع إطلاق اسم على شيء، وإن كان إطلاقه عليه موافقاً للغة؛ حيث يكون إطلاقه مشعراً بشيء من الاستهانة بشأنه، ويحب أن يسمى باسم أدلَّ على فضله من ذلك الاسم. والمعروف أن أرواح السعداء من غير الشهداء في حياة ونعيم بعد الموت، ولكن للشهداء حياة أرقى تمتاز عن حياة غيرهم من السعداء، نؤمن بها كما ذكرها الله تعالى، ولا ندرك حقيقتها؛ إذ لا يمكن إدراكها إلا من طريق الوحي؛ كما قال تعالى: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}؛ أي: لا تحسون، ولا تدركون حالهم بالمشاعر؛ لأنها من شؤون الغيب التي لا طريق للعلم بها إلا الوحي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 155 - 160]. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}: تضمنت الجملة السابقة طلب الاستعانة بالصبر على احتمال المكاره، وتلقِّيها بسكينة؛ أعني: قوله تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}، ووردت هذه الجملة: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} منبهةً على مواطن لا يمر فيها الإنسان بسلامة إلا إذا اعتصم بعرا الصبر. (لنبلونكم) من البلو والبلاء، وهو الامتحان والاختبار. و {الْخَوْفِ}: غَمٌّ يلحق النفس لتوقّع مكروه، ومن أشدِّ ما تضطرب له النفوس من الخوف ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الرابع من السنة الرابعة.

توقُّعها لأن يقع تحت يد عدو لا همّ له إلا أن يرميها بأصلب عود في كنانته. والجوع: الحاجة إلى الغذاء، والمجاعة العامة تغشى الناس من القحط وعدم كفاية ما تنبته الأرض لسد حاجاتهم. وقد يصيب الجوع طائفة منهم لأسباب خاصة؛ كهجرتهم من أوطانهم؛ ليمحصهم الله بالابتلاء، ويمتاز المهاجر إلى دنيا يصيبها من المهاجر إلى الله ورسوله. والأموال: جمع مال، وهو ما يملك، وجرى للعرب عرف باستعماله في النَّعَم خاصة، ومن هنا حمل بعض المفسرين النقصَ من الأموال بهلاك المواشي، والنقصُ من الأنفسِ بِذهاب من عز عليهم بالقتل والموت. والثمرات: جمع ثمرة، وهي حمل الشجر، وقد تطلق على الشجر والنبات نفسه. وقال تعالى: {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ}، فأتى بلفظ (شيء) منكراً؛ ليفيد قلة ما يصيبهم به من هذه المكاره، وأنه يبتليهم منها بقدر ما يمتاز به غير الصابرين من الصابرين. ومعنى الآية: ولنصيبنكم بشيء من الخوف. . . إلخ؛ لنرتب على الصبر والثبات على الطاعة الثواب، ونرتب على الجزع وعدم التسليم لأمري العقاب. ومجرد الحزن عند نزول المصيبة معفو عنه، وإنما يؤاخَذ الإنسان على جزع يفضي به إلى إنكار حكمة الله فيما نزل به من البأساء أو الضراء، أو إلى فعل ما حرمه الشارع؛ من نحو: النياحة، وشق الجيوب، ولطم الخدود. {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}: بعد أن ذكر الله تعالى مواطن تضطرب منها النفوس، وتخرج أو تكاد تخرج فيها عن سبيل الرشد، أردف ذلك بذكر عاقبة الصبر الحسنى، وجزائه

الأسنى، فقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}. . . الآية. وهذه البشارة موجهة إلى الذين يتقون المصيبة بسكينة وتسليم لقضاء الله لأول حلولها، يشير إلى هذا قوله تعالى: {إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا}، فإنه يدل على أنهم يقولون ذلك وقت الإصابة، ويصرح بهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما ورد في الصحيح: "الصبر عند الصدمة الأولى". ومعنى {إِنَّا لِلَّهِ}: إنا لِلّه ملكاً وعبودية، والمالك يتصرف في ملكه ويقلبه من حال إلى حال كيف يشاء. ومن ربط نفسه بعقيدة أنه مِلْك وعبدٌ لرب حكيم رحيم، وجدها متهيئة للصبر عند كل مصيبة تفاجئه. ومعنى {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}: إنا صائرون إليه يوم القيامة، فيجازينا على ما دعانا إليه من الصبر والتسليم إلى قضائه عند نزول المصائب التي ليس في استطاعتنا دفعها. {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}: الصلوات: جمع صلاة. وصلاة الله على عباده: إقباله عليهم بالعطف، وجمعت؛ مراعاة لكثرة ما يترتب عليها من أنواع الخير في الدنيا والآخرة، وعطف عليها الرحمة، فقال: {وَرَحْمَةٌ}؛ ليدل على أن بعد ذلك الإقبال إنعاماً واسعاً، وجاءت الرحمة مفردة على أصل المصادر، وهو إفرادها؛ لأنها تستعمل في القليل من معناها وكثيره، والمقام في الآية يذهب بذهن السامع إلى كثرة الإنعام المترتب على الصبر الجميل. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}: فهم الذين اهتدوا لطريق الصواب بالتسليم وقت صدمة المصيبة دون غيرهم ممن جزعوا عند صدمتها حتى صدر منهم ما لم يأذن به الله. {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ}: الصفا في أصل اللغة: الحجر الأملس. والمروة: الحجر الأبيض

الليِّن. وجعلا علمين على موضعين بمقربة من البيت الحرام. والشعائر: أعمال الحج، وكل ما جعل علماً لطاعة الله من العبادات، واحدها شعيرة. ومعنى كون الصفا والمروة من شعائر الله: أنهما من المواضع التي يقام فيهما أمر من أمور دين الله، وهو السعي بينهما. {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}: الحج لغة: القصد، أو القصد إلى معظم. وشرعاً: القصد إلى البيت الحرام، في زمان خاص، بأعمال مخصوصة، والاعتمار كالعمرة لغة: الزيادة، وشرعاً: زيارة البيت الحرام بأعمال مخصوصة، وهي: الإحرام، والطواف، والسعي بين الصفا والمروة. والحج فريضة معلومة من الدين بالضرورة، أما العمرة، فذهب فريق من الأئمة إلى أنها واجبة، ولم يقع في يد آخرين؛ كالإمام مالك دليل كافٍ للقول بوجوبها، فقالوا: إنها سنة مؤكدة. والجناح: الإثم والحرج. و {يَطَّوَّفَ} أصله يتطوف، فابدلت التاء طاء، وأدغمت في الطاء بعدها، فصار يَطَّوَّف، والتطوف بالشيء كالطواف به: الإلمام به، والمشي حوله. وقد فسرته السنة بالنسبة إلى الكعبة بالدوران بها سبعة أشواط، وبالنسبة إلى الصفا والمروة بالسعي بينهما سبعة أشواط كذلك. وقد اختلفت أنظار الأئمة من أهل العلم في حكم السعي بين الصفا والمروة، فرأى فريق أنه من أركان الحج؛ كالإحرام، والطواف، والوقوف بعرفة، وذهب فريق إلى أنه ليس بركن، وإنما هو واجب يجبر عند تركه عمداً أو سهواً بالدم. وقال بعضهم: هو مستحب. والمسألة مبسوطة في كتب الأحكام.

وقد يخطر على بالك أن قوله تعالى: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} يدل على أن التطوف بالصفا والمروة مطلوب للشارع، ومعدود من الطاعات التي أقل درجاتها الندب، وقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} يقتضي رفع الإثم عن المتطوف بهما، والتعبير برفع الإثم عن الشيء يأتي في مقام الدلالة على إباحته، فما هو الأمر الداعي إلى أن يقال في هذه الشعيرة: لا إثم على من يفعلها؟ ويرفع هذا الاستشكال بالوقوف على سبب نزول الآية، وهو أن الأنصار كانوا في الجاهلية يُهِلّون "يُحرِمون" لمناة، ثم يطوفون بين الصفا والمروة من أجل صنمين، وهما: أساف، ونائلة، كانا عليهما، فلما جاء الإسلام، تحرجوا من الطواف بينهما. في "صحيح البخاري" عن عاصم، قال: قلت لأنس بن مالك - رضي الله عنه -: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم؛ لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} , فاستبان بهذا أن الآية وردت لدفع التحرج الذي كان يتردد في صدور الأنصار من التطوف بالصفا والمروة. {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}: {تَطَوَّعَ}: من التطوع، وهو فعل الطاعة، فريضة كانت أو نافلة. و {خَيْرًا}: أصله بخير؛ لأن تطوع إنما يتعدى بالباء، ولا يتعدى بنفسه، ثم حذفت الباء في نظم الكلام؛ نحو: أمرتك الخيرَ، والأصل: أمرتك بالخير، وذلك معنى قول علماء العربية: كذا منصوب بنزع الخافض. و {شَاكِرٌ}: من الشكر، وشكر الله لعباده: جزاؤهم على ما يعملونه من الصالحات ابتغاء مرضاته الجزاء الأوفى. والمعنى: ومن أتى بالحج أو العمرة طاعة لله، فاز

بالثواب الجزيل، والنعيم المقيم،؛ لأن من صفاته تعالى مجازاة من يحسنون العمل، وهو عليم بكل ما يصدر عن عباده من الأعمال، فلا يضيع عنده أجر المحسنين. ويصح حملُ التطوع في الآية على معنى: الإتيان بما زاد على الواجب. ومعنى الآية على هذا الوجه: ومن أتى بالحج أو العمرة مرة أخرى، فزاد على الواجب، فإن الله شاكر عليم. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}: الكتم والكتمان: إخفاء الشيء قصداً مع تحقق المقتضى لإظهاره. وكتم ما أنزل الله يشمل إخفاء نصوصه، وعدم ذكرها للناس، وإزالة النص ووضع شيء آخر مكانه، وتحريفه بالتأويل الفاسد عن معناه الصحيح جرياً مع الأهواء. و {الْبَيِّنَاتِ}: الآيات الدالة على المقاصد الصحيحة بوضوح، وهي ما نزل على الأنبياء من طريق الوحي. والهدى معناه: العلم النافع، فهو أعم من البينات؛ إذ يشمل المعاني المستمدة من الآيات البينات على طريق الاستنباط، والاجتهاد القائم على الأصول المحكمة. والكتاب: لا يعنى به كتاب معين، بل يراد منه جنس الكتب، فيصح حمله على جميع الكتب التي أنزلت على الرسل - عليهم السلام -. واللعن من الله للعصاة: إبعادهم من رحمته، وهو من اللاعنين؛ كالملائكة وغيرهم: الدعاء عليهم بالإبعاد من الرحمة. ودل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} على أن معصيتهم بالكتمان متناهية في الفظاعة؛ إذ عمدوا إلى ما أنزل إليه من هدى، وجعله

بَيِّناً عند الناس في كتاب يتلى، وأقدموا على كتمانه، وإنما يفعل هذا من بلغ الغاية في سفاهة الرأي. والآية نزلت في أهل الكتاب؛ إذ كانوا يكتمون بعض نصوص كتبهم؛ كما كتموا النصوص التي تتضمن البشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ رأوها مطابقة لنعوته وسيرته، ولكن وعيدها يتناول كل من يكتم بينة أنزلها الله أو هدى. ومن شواهد هذا العموم: قول أبي هريرة كما ورد في "صحيح البخاري": "لولا آيتان في كتاب الله، ما حدثت حديثاً"، ثم يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} إلى قوله: {الرَّحِيمُ}. ولكتمان المنتمين إلى علوم الدين ما أنزل الله من هدى بالسكوت أو التحريف أو التأويل الباطل عللٌ بسطنا الحديث عنها في رسالة "الدعوة إلى الإصلاح" (¬1). ومدار هذه العلل على عدم الرسوخ في الإيمان، وايثار رضا المخلوق على رضا الخالق - جل شأنه -. {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}: {تَابُوا}: ندموا على ما صدر عنهم من كتمان ما أنزل الله، وعزموا على عدم العود إليه، وأصلحوا ما أفسدوه بالكتمان ما استطاعوا الإصلاح، وبينوا للناس حقيقة ما كتموه، فأولئك يقبل الله توبتهم، ويشملهم برحمته؛ فإنه تواب رحيم. ¬

_ (¬1) انظر كتاب الإمام: "الدعوة إلى الإصلاح".

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 161 - 164]. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ}: تضمنت الآيتان السابقتان لعنَ الكاتمين لما أنزل الله، واستثناءَ التائبين منهم، وذكر في هذه الآية: المصرين على الكتمان، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، وقد عرفت أن الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} نزلت في أهل الكتاب الذين يكتمون بعض نصوص كتبهم التي من جملتها النصوصُ المشتملة على البشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فصح التعبير عن أصحاب ذلك الكتمان بالذين كفروا؛ ليحضرهم في الأذهان بأشنع وصف نعياً به عليهم، وهو الكفر، وليتناول وعيدُ الآية كل كافر، ولو بغير معصية الكتمان. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الخامس من السنة الرابعة.

{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}: سبق أن اللعن من الله للعاصي أو الكافر: إبعادهُ من رحمته، ومن المخلوق؛ كالملائكة والناس للكفار والعصاة: الدعاء عليهم بالإبعاد من رحمة الله؛ كأن يقال: لعنهم الله، أو عليهم لعنةُ الله، ولا حرج في اللعن بالوصف العام؛ كان يقال: لعن الله الكافرين، أو الفاسقين، أو الظالمين، ومن المحظور لعنُ الأشخاص بأعيانهم؛ كأن يقال: لعن الله فلاناً، أو على فلان لعنة الله، إلا من ثبت موتهم على الكفر؛ لاحتمال أن يتوب أولئك الأشخاص من كفرهم أو فسقهم، فيستحقوا القرب من رحمة الله، لا الإبعادَ منها، وقد يطلق اللعن بمعنى: السبِّ؛ أي: ذكر المعايب. وما يروى من أن بعض الصحابة كان يُلعن في عهد بعض الأمويين على المنابر، إنما يريدون من اللعن - إن صحت الرواية - ذكر أشياء ينسبونها إليه على أنها معايب له. والمراد من الناس: من يستقبحون الكفر، وهم المؤمنون، وكل مؤمن يلعن الذين ماتوا وهم كفار بلسانه أو بقلبه. {خَالِدِينَ فِيهَا}: الخلود: البقاء إلى غير نهاية، ويستعمل بمعنى: البقاء مدة طويلة، وإذا وصف به عذاب الكافر، فإنما يراد المعنى الأول. والظاهر: أن الضمير في قوله: {فِيهَا} عائد إلى اللعنة؛ لأنها المذكورة في الجملة، والخلود في اللعنة يقتضي الخلود في النار. ومن هنا جعل بعض المفسرين الضمير عائداً إلى النار المفهومة من معنى الجملة. {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ}: دل قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} على كثرة مدة العذاب، ودلت هذه الجملة

على شدة وقعه، والمعنى: أن المقدار الذي استحقوه من العذاب لا يتفاوت بحسب الأوقات شدة وخفة؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 74 - 75]. والزيادة في قوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ: 30] محمولة على معنى: استمرار العذاب، فهي إشارة إلى الخلود فيه، لا إلى الزيادة في شدته. {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}: الإنظار: الإمهال والتأخير، والمعنى: لا يمهلون عن العذاب كما يمهلون في الدنيا، بل يلاقيهم العذاب حال مفارقة الحياة. {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}: هذه الجملة معطوفة على قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا}. والإله: المعبود، ومعناه في الآية: المعبود بحق؛ بدليل الإخبار عنه بأنه واحد، والمعنى: وإلهكم الذي يستحق العبادة، فمن عبد شيئاً دونه، أو عبد شيئاً معه، فعبادته باطلة، والعبادة الصحيحة ما يتجه بها إلى المعبود بحق، ومن العبادات: الدعاء، فالصحيح منه ما يُقبِل به الإنسان على الإله الواحد موقناً بأن لا نافع ولا ضار سواه، وهذا لا ينافي أن ينتفع الإنسان بشفاعة بعض المقربين عنده تعالى حيث يأذن الله له بذلك. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}: أثبتت الجملة السابقة له تعالى الوحدانية، وإثباتُ الوحدانية يقتضي نفي الشريك في الإلهية، وجاءت هذه الجملة: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} مقررة لما تضمنته الجملة السابقة، فنفت عن الله الشريك صراحة، وأثبتت له مع ذلك

الإلهية، فمعنى {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}: أن الله إله، وليس شيء مما سواه بإله. {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}: لما كان ذكرُ الإلهية والفردانية يُحضر في ذهن السامع معنى القهر، وسعة القدرة، وعزة السلطان، وذلك مما يجعل القلب في هيبة وخشية، ناسب أن يورد عقبه ما يدل على أنه - مع العظمة والسلطان - مصدرُ الإحسان، ومُولي النعم، فقال: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}، وهذه سنة القرآن في الترويح على القلوب بالتبشير بعد ما يثير الخشية؛ حتى لا تقع من طغيان الرهبة عليها في قُنوط. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ}: لما تضمنت الآية السابقة إثباتَ وجوده تعالى، ونفي الإلهية عما سواه، جاءت هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها منبهة لبعض الأدلة على وجوده تعالى، وقد اشتملت على آيات يخرج الناظر من التفكير فيها إلى بطلان ما يفعله طوائف من البشر من عبادة بعض المخلوقات؛ كالكواكب، والنار، والحيوان، والأحجار، بزعم أنهها آلهة، أو شركاء الله في إلهيته، وأول هذه الآيات: السموات، فقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ}. والسموات: جمع سماء، والسماء: كل ما علا كالسقف. والمراد في الآية: الأجرام المقابلة للأرض، وهي سبع كما ورد ذلك صريحاً في قوله تعالى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [الطلاق: 12]. ذكرها القرآن هنا في جملة المصنوعات التي يجد فيها الناظر آيات عظيمة على وجود الله ووحدانيته، ونبه في آيات أخرى على بعض وجوه الاعتبار فيها؛ من نحو: تزيينها بمصابيح، ورفعها بغير عمد.

{الْأَرْضِ}: هذه الآية الثانية من الآيات الموصلة إلى معرفة الله، وقد نبه تعالى على بعض وجوه الاعتبار بها في آيات أخرى؛ كتفجير أنهارها، وعمارتها بحدائق ذات ثمار تختلف ألوانها، وبتفاضل كلها، وكوضعها بحال يتيسر معه للإنسان أن يتقلب في أرجائها، ويمشي في مناكبها، وينتفع بما يحتاج إليه منها أينما كان. وجاءت الأرض مفردة، وهي لا تجيء في القرآن إلا كذلك؛ لأن المشاهدة لا تقع إلا على أرض واحدة، ولا تقع على أثر أرض غيرها. ومن هنا حمل بعض أهل العلم تعددها الذي يتبادر من ظاهر قوله تعالى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] على أنها طبقات لا ينفصل بعضها عن بعض. {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: الاختلاف: التعاقب؛ أي: إن كلاً من الليل والنهار يأتي خلفاً من الآخر. والنهار للعمل وابتغاء الرزق، والليل للسكون والراحة والانفراد للعبادة لمن وفقه الله إلى أن يقضي جانباً منه في مناجاة الملك الكريم. ومن المحتمل القريب أن يكون المراد: اختلافهما في أنفسهما بالزيادة؛ والنقصان. ومأخذ العبرة من هذا الاختلاف: أن مُدد الليل والنهار تختلف، فلكل ليل أو نهار من السنة مدة يستوفيها بمقتضى نظام مطرد، وجَريُ الزيادة والنقص في الليالي والأيام على نظام لا ينخرم دليلٌ على أن هذا الاختلاف تدبير من إله قادر حكيم. وإذا كان لهذا الاطراد أسباب عرفت بعدُ، فإن الذي خلق

الأسباب، وجعل بينها وبين هذا الاختلاف تلازماً، إنما هو الإله الواحد القهار. {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ}: الفلك: ما عظم من السفن، ويستعمل للواحد والجمع، والظاهر: أن الوارد في الآية جمع؛ بدليل قوله: {الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ}، ولو كانت للمفرد، لقال: الذي يجري؛ كما قال في الآية الأخرى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119]. ووجه الاستدلال بالفلك على وجود الله، وإن كانت من تركيب الناس: أن الذي خلق الآلات التي كانت بها سفناً، وسخر لها البحر مع قوة سلطانه إذا هاج وعظم هوله، فتجري فيه مقبلة ومدبرة تشق الأمواج المتلاطمة شقاً إلى أن تصل إلى ساحل السلامة، وهي موقَرة بما ينفع الناس من نحو الأطعمة أو الأمتعة أو الحيوان، لا يكون إلا مقتدراً حكيماً. {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}: المراد من السماء: جهة العلو. وإحياء الأرض: اهتزازها ونموها، وإظهار ما أودع الله فيها من نبات وزهور وثمار. وموتها: خلوها من ذلك باستيلاء اليبوسة عليها. {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}: هذا معطوف على قوله: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ}، فما أنزله الله من السماء من ماء ينشأ عنه أمران: إحياء الأرض بالنبات، وبث الدواب فيها. والبثّ: تفرقة آحاد متكثرة في جهات مختلفة. والدابة: اسم من الدبيب، وهو المشي رويداً، فكل ما يمشي فوق الأرض، فهو بحسب الوضع اللغوي دابة،

وقد يجري عرف خاص باستعماله في نوع خاص من الحيوان؛ كذوات الأربع. والمراد في الآية: المعنى العام، وهو مطلق حيوان. وحرف (من) في قوله: {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} بيان لجنس الشيء المبثوث المفهوم من قوله: {وَبَثَّ فِيهَا}. ويكفي في (من) المبينة للجنس أن يكون المبهم الذي تبين جنسه مقدراً في نظم الكلام، مشاراً إلى مكانه بقرينة. والمعنى: وبث في الأرض شيئاً هو أنواع الدواب كلها. ووجه الاستدلال بالدواب على وجوده تعالى: هو اختلاف أحجامها وأشكالها وألوانها وأصواتها، ومدد حملها، وكيفية تناسلها، ووجوه الانتفاع بها، ومن أراد التوسع في هذا الضرب من الاستدلال، فليتجول في حديقة من حدائق الحيوان الكبرى معتبراً، لا لمجرد التلهي والترويح على النفس. {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}: {الرِّيَاحِ}: جمع ريح، وهي نسيم الهواء. تصريفها: تقليبها في الجهات، ونقلها من حال إلى حال. فتهب صَباً؛ أي من مطلع الشمس، ودبوراً أي من جهة الغرب، وشمالاً وجنوباً، وتهب حارة وباردة، وعاصفة ولينة، وملقحة للنبات وعقيماً. {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}: {الْمُسَخَّرِ}: من التسخير، وهو التذليل والتسيير. والسحاب يتألف من بخار يتصاعد من الأرض، ويتراكم في الهواء، فيسوقه الله موقراً بالمياه العذبة حتى يرسلها في البلاد التي يريد إحياءها. وقد كشف القرآن الكريم

عن هذا المعنى في قوله تعالى: {للَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [الروم: 48]. {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}: {يَعْقِلُونَ}: يتدبرون ويتفكرون فيما هو مودَع في الكائنات العلوية والسفلية من أسرار ونظم يمر عليها أشباه الأنعام وفي أبصارهم غشاوة، ويبصر بها أولو الفطر السليمة والأفكار الثاقبة، فيقتنون منها درراً غالية. ومعرفتنا لأسباب بعض المصنوعات الكونية البديعة لا يقف بنا حد هذه الأسباب، ويقطع النظر عن أن يعد تلك المصنوعات في جملة الآيات الدالة على الإله الواحد، بل ارتباطها بأسباب يشهد بأنها قائمة على نظام ليس من المعقول أن يحدث بنفسه، فنزداد يقيناً بأنها من صنع إله قادر حكيم. ويصل الناظر في هذه الآيات إلى معرفة وجود الله وتعاليه عن أن يكون له شريك كما يزعم طوائف المشركين. وقد أورد القرآن للوحدانية برهاناً صريحاً خاصاً في مثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 165 - 169]. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا}: بعد أن ذكر الله جانباً من الآيات الدالة على وجوده الحق ووحدانيته، وصف في هذه الآية حال المشركين، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ}. والأنداد: جمع نِدّ، وهو المماثل. والمعنى: أن من الناس من لا يعقل تلك الآيات، وتبلغ بهم الجهالة أن يخضعوا لبعض المخلوقات خضوعَهم لله بزعم أنها أمثال له. ويجري معنى الآية على كل طائفة يسندون إلى مخلوق أمراً انفرد به -عز شأنه-؛ من نحو: التحليل والتحريم، وإيصال النفع من ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السادس من السنة الرابعة.

طريق غيبي، وإلحاق الضرر بمن يشاء. {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}: الحب: ميل القلب إلى الشيء. والضمير (هم) عائد إلى قوله: {أَنْدَادًا}، ووروده في صيغة ضمير العقلاء ظاهر في أن المراد من الأنداد في الآية: من بلغ الجهال في تعظيمهم حد العبادة، أو كانوا يطيعونهم في أمر التحليل والتحريم الإطاعةَ الواجبة لله؛ كما حكى الله عنهم ذلك بقوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67]. وإذا كان الحب ميل القلب إلى الشيء، فإن من دواعي هذا الميل: كمال ذلك الشيء، فيصح إبقاء الحب في قوله: {كَحُبِّ اللَّهِ} على حقيقته؛ إذ لا كمال يداني كمال ذي الجلال والإكرام. فالمؤمن يحب الله؛ أي: يميل قلبه إليه لكماله، ويشتد ميله إليه وتعلقه كلما ازداد علماً ببديع حكمته، وبالغ حجته، وسعة رحمته، وعدالة أحكامه، وعزة سلطانه. ومن مقتضيات هذا الحب: إجلاله تعالى وعبادته. فدل قوله: {كَحُبِّ اللَّهِ} على أن حب المشركين لمن اتخذوهم أنداداً لله، هو الحب الذي يحمل على التعظيم البالغ والعبادة. {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}: حب المؤمنين لله أشدُّ من حب المشركين للأنداد؛ من جهة أن الحب الذي يدخل في القلوب من ناحية الاعتقاد بالكمال يعظم كلما عظم كمال من يحب، وقد عرفت أن كمال الله فوق كل كمال. ثم إن المحبة تشتد على قدر قوة الإيمان بكمال المحب، واعتقاد المؤمنين بكمال الله وليد أدلة يقينية، والكمال الثابت بيقين يستميل القلوب بأشد مما يستميلها الكمال

الذي تصوره الأوهام، أو يُتلقى من طريق التقليد. والتصريح بالأشدية في قوله: {أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} أبلغ من أن يقال: أحبُّ لله؛ كما قال تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]، مع صحة أن يقال: أو أقسى. {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}: هذا إخبار بسوء عاقبة الذين يتخذون من دون الله أنداداً المتقدم ذكرهم، وكان بمقتضى تقدم ذكرهم أن يقال: ولو يرون إذ يرون. ولكن وضع الموصول وصلته {الَّذِينَ ظَلَمُوا} موضع الضمير؛ ليحضر في ذهن السامع أنهم صاروا باتخاذهم الأنداد من الظالمين، وليشعر بأن سبب رؤيتهم العذاب الشديد هو ذلك الظلم العظيم. و (لو) في قوله: {وَلَوْ يَرَى} لمجرد تعليق فعل على آخر في المستقبل؛ نحو: لو يقوم زيد غداً، لاكرمته؛ أي: إن يقم أكرمه. والقوة: القدرة. وجواب (لو) محذوف من نظم الآية، فيقدر على حسب ما يقتضيه المقام. والمعنى مع ملاحظة الجواب المقدر: ولو يرى أولئك المشركون حين يعاينون العذاب المعد لهم يوم القيامة أن القدرة كلها لله وحده، وأن عذابه الذي يصيب به المتخبطين في ظلمات الشرك شديد، لرأوا ما لا يوصف من الهول والفظاعة. {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}: هذا تابع على وجه البدل قوله تعالى: {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ}. وتبرأ: من التبرؤ، وهو التخلص والتنصُّل. و {الَّذِينَ اتُّبِعُوا}: أئمة الكفر الذين يحرمون ويحللون عن غير أمر الله. و {الَّذِينَ اتَّبَعُوا}: أشياعهم الذين يتلقون

جميع أقوالهم بالتقليد والطاعة. والضمير في قوله: (رأوا) عائد إلى الفريقين: التابعين، والمتبوعين، و {وَتَقَطَّعَتْ}: انقضت واضمحلت. و {الْأَسْبَابُ}: جمع سبب، ويستعمل في الحبل، وكل ما يتوصل به إلى حصول مقصد، وتفهم في الآية على ما يكون بين الرؤساء والأذناب في الدنيا من روابط يتواصلون بها؛ نحو: الاتفاق في الدين والنسب والمحبة. والباء في قوله: {بِهِمُ} باء الملابسة، وهي التي يكون بين مجرورها وفاعل الفعل وجه من الملابسة؛ أي: الاتصال، ويعبر عنها علماء العربية بباء الحال؛ لأنها تقع مع مجرورها في الإعراب موقع الحال، نحو: تفرقت الطريق بالقوم. ووجه الملابسة بين القوم والطريق: سيرهم فيها. ونحو كبا بزيدٍ الفرسُ. ووجه الملابسة بين زيد والفرس: ركوبه إياه. وكذلك تقطعت بهم الأسباب: وجه الملابسة بين أولئك المشركين وتلك الأسباب: انعقادها بينهم في الدنيا، وطمعهم في نفعها لهم في الآخرة. والمعنى: إذ تنصَّل الرؤساء من المرؤوسين وقت أن عاينوا العذاب، وتقطعت الروابط بهم؛ أي: في حال ملابستها لهم. {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا}: {لَوْ} للتمني. والكرة: الرجعة. والمعنى: ليت لنا رجعة إلى الحياة الدنيا، فنتبرأ من هؤلاء الذين اتخذناهم أئمة، وأضلونا السبيل كما تبرؤوا منا في هذا اليوم العصيب!. {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}: كلمة {كَذَلِكَ} قد يصدَّر بها الخبر لتُشعر بأهمية المعنى الذي تضمنه.

و {أَعْمَالَهُمْ}: المعاصي التي ارتكبوها، وفي مقدمتها: اتباعهم لقادة مضلين. والحسرات: جمع حسرة، وهي أشد الندم على ما وقع من مكروه، أو مافات وقته من مرغوب فيه دون أن يقع. والمعنى: أن أعمالهم التي كانوا يحسبون أنهم أحسنوا بها صنعاً، وأنهم سيلاقون جزاءها في الآخرة السلامة والفوز، سيريهم الله إياها حسرات تتردد في صدورهم كأنها شرر الجحيم. {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}: وصفت الجمل السابقة ما يقع بين التابعين والمتبوعين من تقاطع، وما يتجرعونه عند معاينة العذاب من حسرات. وجاءت هذه الجملة لبيان عاقبة أمرهم، وهو الخلود في النارة إذ لا معنى لنفي خروجهم من النار وتأكيده بإيراده في جملة اسمية، {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} سوى دوام استقرارهم فيها؛ كما قال تعالى في آية أخرى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا}: الخطاب عام لجميع المكلفين من البشر. والآية واردة في تفنيد آراء من يحرِّمون على أنفسهم مطعومات لم يقم دليل من الشارع على تحريمها. فقوله: {كُلُوا} صيغة اْمر واردة في معنى الإباحة. والحلال: ما أذن الله في تناوله، فيخرج منه ما قام الدليل على حرمته لمفسدة في ذاته؛ كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، أو لوصف عارض؛ كالمغصوب، أو المسروق، فحرمته لتعلق حق الغير به. والطيِّب: ما تقبل عليه النفوس الطاهرة، وتنبسط

لتناوله، وإنما تنبسط النفوس الطاهرة لتناول طعام غير قذر، ولا موقع في تهلكة، فالقذر ينفر منه الطبع، والموقع في ضرر ينبذه العقل. فيحمل قوله تعالى: {طَيِّبًا} على أنه مقرر ومؤكد لمعنى يستفاد من قوله. {حَلَالًا}، وهو طهارة المطعوم، وخلوه من القذارة، وعدم إيقاعه في ضرر. والمعنى: يباح لكم أن كلوا من كل ما تحويه الأرض من المطعومات حالَ كون ما تأكلون منه حلالاً طيباً. وليس من الورع، ولا الزهد المرضي عنه شرعاً تركُ بعض المباحات؛ فإن الله سوّى فيها بين الفعل والترك. ومن يجعل تركها من الورع، والورع مندوب، كأنه يقول: إن الترك راجح على الفعل. وكان الحسن البصري، وهو من أجل التابعين، يقوِّم عِوَجَ من يعدُّون في الزهد المحمود الامتناعَ من تناول بعض المباحات؛ كالأطعمة الفاخرة. دخل عليه أحد زهاد البصرة، فقال له الحسن: أتحب الخبيص "طعام لذيذ"؟ قال: لا أحبه، ولا أحب من يحبه، فأقبل الحسن على جلسائه، وقال لهم: أترونه مجنوناً؟!. فلا ورع في ترك المباح من حيث إن فيه متعة للنفس، فذلك هو التنطُّع في الدين، وإنما الورع في ترك الإكثار من تناول مباحات؛ حذراً من أن يفضي الإكثار منها إلى بطر النفس، أو يدفعه سلطان التعود عليها إلى اكتساب المال، ولو من طريق فيه شبهة. {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}: الخطوات: جمع خطوة، وهي في الأصل: ما بين القدمين عند المشي. وتستعمل على وجه المجاز في الآثار. فالمعنى: لا تتبعوا آثار الشيطان،

وهي وساوسه التي يقذفها في صدور الناس؛ لينقلهم بها من طاعة إلى معصية، أو من معصية إلى أخرى. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}: هذا تعليل للنهي عن اتباعه. و {مُبِينٌ}: من أبان بمعنى: بان وظهر، والمعنى: أنه عدو لكم ظاهر بحيث لا تخفى عليكم عداوته. أو من أبان بمعنى: أظهرَ، والمعنى: أنه مُظهِر للعداوة. {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ}: هذه جملة واردة مورد البيان لمظهر من مظاهر عداوته. والسوء في الأصل: مصدر ساءه يسوعه؛ أي: أحزنه. ويطلق على المعصية، سواء كانت قولأ، أو فعلاً، أو اعتقاداً؛ لأنها تسوء صاحبها؛ أي: تحزنه في الحال أو المآل. والفحشاء: أقبح أنواع المعاصي، وأعظمها مساءة. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن السوء: ما لا حَدَّ فيه، والفحشاء: ما فيه حَدّ. والأمر في الأصل: الطلب بالقول، واستعمل في تزيين الشيطان المعصية؛ لأن تزيينها في معنى: الدعوة إلى ارتكابها. {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}: القول على الله بغير علم: أن يقول: حرم الله هذا، أو أحل هذا، من غير استناد إلى دليل يفيد العلم، فيدخل فيما يأمر به الشيطان: أن يحرم الرجل الشيء، أو يحلله متعمداً الكذب على الله، وأن يحرم أو يحلل بجهالة؛ حيث لم تتوفر فيه شروط الاجتهاد. وقد يخطر على بالك أن تقرير الأئمة المجتهدين لبعض الوقائع أحكاماً من طريق الاستنباط، قد يستندون في ذلك إلى دليل يفيد الظن بالحكم،

ولا يصل إلى أن يفيد العلم به، فيكون إفتاؤه في مثل هذه الوقائع من قبيل القول على الله بغير علم. ويزاح هذا الخاطر بأنه قد انضم إلى ذلك الدليل الظني أصل انعقد عليه الإجماع، وأصبح مقطوعاً به، وهو أن كل مجتهد بحق يكون حكم الشرع في حقه، أو حق من يتابعه، هو الحكم الذي أداه إليه اجتهاده، وبمراعاة هذا الأصل المقطوع به لم يكن المجتهد المشهود له بالرسوخ في العلم قائلاً على الله ما لا يعلم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 170 - 176]. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}: نهى الله تعالى فيما سبق عن اتباع خطوات الشيطان، ودل في هذه الآية على حال من أحوال المتبعين لخطواته، وهي تقليدهم لأسلافهم الجهلة، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. . . الآية. فالضمير في قوله: {لَهُمُ} ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - العدد السابع من السنة الرابعة.

يعود على طائفة ممن شملهم الخطاب بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}. والقائل لهم ذلك هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمسلمون. و {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}: القرآن، وشرائع الإسلام. و {أَلْفَيْنَا}: وجدنا، والمعنى: وإذا دعي أولئك الكفار إلى اتباع القرآن الذي هو منزل من عند الله، أعرضوا عنه، وقالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}: هذا رد عليهم، وبيان لبطلان الاعتماد في الدين على مجرد تقليد الآباء. وهمزة الاستفهام في قوله: {أَوَلَوْ كَانَ} واقعة موقع الإنكار. والمعنى: أيتبعون ما وجدوا عليه آباءهم، والحال أن آباءهم لا يعرفون شيئاً من أمور الدين، ولا يسيرون فيها على هدى؟!. وفي الآية إنكار للتقليد في أمور الدين، وحثٌّ على التمسك فيها بعرا الأدلة؛ أما العقائد، فلا تستقر في النفوس إلا إذا انبنت على دلائل نظرية مفصلة، أو مطوية في الصدور؛ بحيث لا تزلزلها الشبه، ولو ألقيت في زخرف من القول؛ وأما الأحكام العملية، فيجب على المكلف الأخذ فيها بغاية ما يستطيع من اجتهاد عند فقد النص، أو ترجيح عند اختلاف أهل العلم، أو متابعة من ثبت رسوخه في فهم الشريعة، وصدق لهجته عند الإفتاء. وفي ميسور الباحث أن يصل إلى معرفة من هو أهل للمتابعة من طريق ما ينقل من فتاوى الفقيه، وما يتحدث به ثقات الناس، أو يكتبونه عن سعة علمه، وصفاء بصيرته، واستقامة سيرته. {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}: المثل: الشأن والصفة. و {يَنْعِقُ}: يصيح، ويستعمل في صيحة الحق

وغيرها، فيقال: نعق المؤذن، ونعق الراعي بالضأن. والدعاء في الآية، كما هو الظاهر مما حكاه الطبري عن السدي: الصياح بالبهائم لتأتي، والنداء: الصياح بها لتذهب. وقيل: الدعاء للقريب، والنداء للبعيد، فيكون الصوت في النداء أرفعَ منه في الدعاء. والآية تمثل حال الكفار ومن يدعوهم إلى التوحيد بحال البهائم والراعي الذي ينعق بها، وذكر في جانب المثل المشبه المدعوين إلى التوحيد فقط، وهم الكفار، فقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا}. . . إلخ، ولم يذكر الداعي إلى التوحيد، وإنما دل عليه ما يقابله في المثل المشبه به؛ أعني: قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ}. والمعنى بعد ملاحظة ما اقتضى الإيجاز حذفه: وشأن الذين كفروا والداعي لهم إلى الإيمان حين يدعوهم، فيعرضون عن دعوته، وينصرفون عن تفهمها؛ كشأن البهائم والراعي حين يصيح بها لتقبل أو تدبر، فلا تسمع إلا صوتاً أو ألفاظاً لا تعقل لها معنى. {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}: صمٌّ عن استماع دعوة الحق، بكمٌ عن إجابة الداعي إليها، عميٌ عن آيات صدقها، فهم بمنزلة من فقدوا عقولهم؛ إذ فقدوا أهم طرق الإدراك؛ أعني: السمع والبصر، وأهم وسيلة للثقافة، وهي استطلاع الحقائق من طريق المحاورة. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}: الطيبات من الأطعمة: المستلذات، ويصح حملها على ما طاب من الرزق بتحليل الله له. وما رزقناكم: ما أوصلناه إليكم من الرزق، وهو ما ينتفع به، ومنه اسم "الرزاق"، وهو خاص به تعالى، لا يجوز إطلاقه على غيره؛

بخلاف الرازق؛ فإنه يصح إطلاقه على الإنسان الذي يكون سبباً في وصول رزق إلى غيره. {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}: تضمنت الجملة السابقة من الآية تذكير المؤمنين بنعمة عظيمة هي خلقه تعالى الطيبات من الرزق، وايصالها إليهم، ثم إذنه لهم في التمتع بها، وأمرهم في هذه الجملة بأن يصلوا نعمه بالشكر، فقال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ}، وشكر الله: الاعتراف بنعمته على وجه التعظيم، وهذا يستدعي امتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه. والعبادة: الخضوع والطاعة، ودل قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} على أن شكره تعالى لا يتحقق إلا مع التوحيد الخالص. فالمعنى: واشكروا لله إن كنتم تخصونه بالعبادة. {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}: أذن تعالى في التمتع بالطيبات، وأردف ذلك بتحريم الخبيثات، وهي: الميتة، وما عطف عليها. والميتة: ما فارقه الروح من غير ذكاة شرعية، حرم كلها؛ لفساد الجسم بذبول أجزائه وتعفنها. والدم المحرم: ما يسيل من الحيوان الحي، كثيراً كان أم قليلاً. ويحرم من دم الحيوان حلال الأكل بعد تذكيته ما كان جارياً، وذلك معنى قوله تعالى في الآية الأخرى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]. وحرمة الخنزير شاملة للحمه وشحمه وجلده. وإنما خص اللحم بالذكر؛ لأنه الذي يقصد بالأكل. ووجه تحريمه: قذارته، واشتماله على دودة تضر ببدن آكله. وأُهِلَّ: من الإهلال، وهو رفع الصوت، يقال: أهل المحرِم: إذا رفع صوته بالتلبية. والإهلال بالذبيحة لغير الله:

أن يذكر غير اسم الله عليها عند ذبحها؛ كما يفعل المشركون؛ إذ يذكرون على ذبائحهم أسماء ما يعبدونهم من دون الله. {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}: {اضْطُرَّ}: أُلجئ؛ أي: ألجأته إلى الأكل من تلك المحرمات ضرورة، وهي الخوف من تلف النفس، ولا ينتظر الجائع إلى أن يشرف على الموت. والباغي: من البغي. والعادي: من العدوان. والبغي والعدوان يستعملان بمعنى الظلم وتجاوز الحد، ولما وردا في الآية معطوفاً أحدهما على الآخر، اقتضى حسن البيان الذي عرف به القرآن الكريم أن يحمل كل منهما على معنى خاص يناسب أصل وضعه، وصح أن يقال: الباغي في أصل اللغة: الطالب لخير أو شر، وقد يخص بطالب الشر الساعي في فساد. وعلى هذا المعنى يحمل الباغي في الآية، فيتناول المسافر لارتكاب معصية؛ نحو: قطع طريق، أو قتل نفس. حتى يعزم التوبة. والعادي: من عدا؛ أي: تجاوز حد ما يجوز إلى ما لا يجوز، فيحمل على معنى المجاوز حد الضرورة؛ بأن يزيد في الأكل من تلك المحرمات على قدر سد الجوع إلى الشبع. والمعنى: فمن ألجأته ضرورة إلى كل شيء من تلك المحرمات، وهو غير ساع في فساد، ولا متجاوز سد الجوع، فلا إثم عليه فيما أكل منها. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: {غَفُورٌ}: من المغفرة، وهي صيانة العبد عما استحقه من العقاب. ويرد بعد ذكر التوية، وهذا واضح، ويرد بعد الترخيص؛ كما ورد هنا بعد الإذن للمضطر في الأكل من الميتة، وكما قال تعالى في آية التيمم: {فَامْسَحُوا

بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43]. ووجهه: أن من يعفو عن الخطايا، ويغفر الذنوب، شأنه أن يشرع ما فيه يسر، لا ما فيه عسر. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}: لما كانت دعوة الحق إنما تصل إلى الناس بعد الأنبياء - عليهم السلام - على ألسنة العلماء، عُنِي القرآن الكريم بإصلاح سيرة هذه الطائفة، وإخراجهم في أحسن تقويم، واشتدت عنايته بخصلة إذا رسخوا فيها، وحافظوا عليها، كانت مطلع كل خير، وهي أن يكونوا أمناء على ما تحملوه من هداية، ويضربوا بالدعوة إليها في وجوه الطغاة، لا يخافون لومة لائم، ولا سطوة غاشم، فمن الحكمة أن ينذر القرآن المرة بعد الأخرى سوء عاقبة كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى، ويصل التذكرة بوعيد ترتعد له القلوب رهبة. وهذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} إخبار على وجه التوبيخ والوعيد لمن يكتم شيئاً مما أنزل الله، فيخفيه عند السؤال عنه، أو عند الحاجة إليه، أو يزيله، ويضع شيئاً آخر مكانه، أو يتأوله على ما يوافق بعض الأهواء، يفعل ذلك لدنيا يصيبها، وهي الثمن الذي اشتراه؛ أي: استبدله بكتمان ما أنزل الله، ووصف هذا الثمن بالقلة؛ لأن كل ما يؤخذ في مقابلة إخفاء شيء مما أنزل الله فهو قليل. {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ}: في هذه الجملة تمثيل حالة أولئك الكفار الحاصلة من أكلهم ذلك الثمن القليل المفضي بهم إلى النار، بحالة من جمل نفس النار، ووجه الشبه بين الحالتين: أنه يترتب على كل ذلك المال الحرام من تقطيع الأمعاء، وشدة الألم، ما يترتب على أكل نفس النار، غير أن العذاب الحاصل من

كل النار يقع عندما تمتلى منها بطونهم، والعذابَ الحاصل من كل المال الحرام يقع عند لقاء جزائه، وهو الإحراق بالنار. وذكر من وجوه انتفاعهم بذلك الثمن الحقير: الأكلَ في بطونهم؛ ليشعر بدناءة هممهم، وسقوطها إلى حد أن يزهدوا في إبلاغ ما أنزل الله، ويبيعوه بملء بطونهم. {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: بما تطمئن به نفوسهم، وتنشرح له صدورهم؛ كما يكلم المؤمنين بحق. ويصح أن يكون نفي تكليم الله لهم كناية عن غضبه عليهم؛ فإن من اشتد غضبه على مسيء، أعرض عنه، وأبى أن يتوجه إليه، ولو بقليل من الكلام. {وَلَا يُزَكِّيهِمْ}: يُزَكيهم: من التزكية، وهي التطهير، وتستعمل بمعنى: الثناء، ومنه: زكَّى الرجل نفسَه: إذا وصفها، وأثنى عليها، وزكَّى الشهودَ: إذا عدَّلهم، ووصفَهم بأنهم أزكياء. فالذين يكتمون ما أنزل الله محرومون من فضل عظيم إنما يفوز به الذين يعطون الدعوة إلى هدى الله حقها، وهو تزكية الله لهم؛ أي: ثناؤه عليهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: بعد أن أخبر تعالى بأن أولئك الكاتمين إنما يأكلون في بطونهم ناراً، ودل على حقارتهم، وحرمانهم من تكليمه، وتزكيته لهم، أردف ذلك ببيان سوء منقلبهم، وشدة ألم العذاب الذي يصيبهم. {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ}: المشار إليهم بقوله تعالى: {أُولَئِكَ}: مَن تقدم حديثهم ووعيدهم،

وهم الكاتمون لما أنزل الله. واشتروا: استبدلوا، ومعنى استبدلوا الكفر بالإيمان، والعذاب بالمغفرة: أنهم عدلوا عن طريق العلم، وهو الرجوع إلى الحجة، فأخذوا الكفر بدل الإيمان، وعدلوا عن طريق الجنة، وهو الاستقامة على صالح الأعمال التي من جملتها: إبلاغُ ما أنزل الله، فأخذوا العذاب بدل المغفرة. {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}: ظاهر الجملة التعجبُ من صبر أولئك الكفار على النار، والتعجب: انفعال يحدث في النفس عند الشعور بأمر يجهل سببه، وهذا المعنى غير جائز في حق الخالق الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فإذا أوردت جملة من كلامه تعالى في الأسلوب الذي يستعمله العرب للتعجب، حملت على أن المعنى الذي استعمل فيه صيغة التعجب، وهو في هذه الآية: صبر أولئك الكفار على النار، قد حل محل ما يُتعجب منه، وهذا معنى قول أهل العلم: إن فعل التعجب في كلام الله يراد منه التعجيب؛ أي: جعل الغير يتعجب من ذلك الفعل، وهو في الآية: صبرهم على النار. والمعنى: تعجيب المؤمنين من جراءة أولئك الكفار، وارتكابهم ما يلقي بهم في النار، لا يبالون ما ارتكبوا، شأن الواثق من أنه يصبر على عذابهم المقيم. ويجري على هذا الوجه من التعجب: أن تقول لمن يجاهر السلطان المستبد بالعداوة، ويفعل ما يهيج غضبه: ما أصبرَك على السجن! لا تريد التعجب من صبره على السجن، وإنما تريد تلقينه أن التعرض لما يهيج غضب السلطان المستبد لا يقع إلا ممن شأنه الصبر على السجن، والقصد من هذا التعجب: تحذيره من التمادي على مجاهرة ذلك المستبد بالعداوة.

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}: أخبر تعالى فيما سبق: أن لأولئك الكفار عذاباً أليماً. وذِكرُه لهم بوصف الكتمان لما أنزل الله يُشعر بأن علة استحقاقهم للعذاب الأليم هو ذلك الكتمان، وجاءت هذه الآية مقررة لهذه العلة بأصرح عبارة، فقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ}. . . {ذَلِكَ}: مشار به إلى عذاب الكاتمين، والباء في قوله: {بِأَنَّ اللَّهَ} دالة على أن ما بعده سبب لما قبلها. و {الْكِتَابَ}: التوراة، والباء في قوله: {بِالْحَقِّ} للمصاحبة. والمعنى: ذلك العذاب الأليم واقع عليهم بسبب أن الله أنزل التوراة مصحوبة ببيان الحق الذي من جملته: البشارة بخاتم النبيين محمد، فكفروا ببعضه، وتناولوه بالتحريف والتأويل، إيثاراً لمطامع دنيوية على هدى الله الذي هو أساس كل سعادة. {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}: {اخْتَلَفُوا}: خالف بعضهم بعضاً. و {الْكِتَابِ}: التوراة، أو التوراة والإنجيل؛ إذ يصح أن يراد: جنسُ الكتاب، والمقام يصرفه إلى هذين الكتابين. واختلافهم في الكتاب: قول بعضهم: كله، أو شيء منه باطل، وتناوُل بعضِهم له بتحريف كلمِه عن مواضعه، أو تأويله على غير ما يُراد منه. والشقاق: الخلاف؛ كان كل واحد من المختلفين في شق غير الشق الذي يكون فيه الآخر. وإذا وصف الخلاف بالبعد، فُهم منه أنه بعيد من الحق، يقال: قال فلان قولاً بعيداً؛ أي: بعيداً من الصواب.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}: {الْبِرَّ}: الخير، وكل عمل مَرْضِيّ. وتولية الوجوه قِبل الشيء: التوجُّه إليه. {الْمَشْرِقِ}: قبلة النصارى في صلاتهم. والمغرب: مشار به إلى قبلة اليهود، وهي بيت المقدس. والخطاب في الآية موجَّه إلى أهل الكتاب، ذلك أن الله تعالى ذكر قبل هذا: أنهم في شقاق بعيد، ومن أسباب شقاقهم: أمر القبلة؛ إذ أكثروا الخوض فيه، وأنكروا على المسلمين التحول إلى استقبال الكعبة، وادعى كل من الفريقين، اليهود والنصارى: أن البر مقصور على قبلته، فرد الله ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثامن من السنة الرابعة.

عليهم بأن نفى البر عن قبلتهم، ثم قال بياناً لما هو البر: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}: {مَنْ آمَنَ}: وقع في اللفظ موقع الخبر عن قوله: {الْبِرَّ}، والخبر في المعنى لفظ مضاف إلى من آمن، مقدر لفهمه من سياق الجملة. والمعنى مع ملاحظة المقدر: ولكن البر بِرُّ من آمن بالله. وهذا الضرب من الإيجاز معهود في كلام البلغاء؛ إذ تجدهم يقولون: السخاء حاتم، والشعر زهير؛ أي: إن السخاء سخاء حاتم، والشعر شعر زهير. والإيمان بالله: التصديق بما لا تتم معرفته إلا به، وهي الصفات الواجبة له تعالى؛ من نحو: الوحدانية، والقدم، والبقاء، والقدرة، والعلم، والغنى المطلق. ومن اعتقد أن الله حَلَّ في غيره، أو اتحدَ به، فقد عمي عن سبيل النجاة، واستبدل بالإيمان جحوداً. والإيمان باليوم الآخر: التصديق بالبعث، وما يقع بعده من حساب وثواب وعقاب على الوجه الذي وصفته نصوص الشريعة بأجلى بيان. ومما دلت عليه نصوص الشريعة الغراء دلالة لا تحوم بها شبهة: أن للأجسام نصيباً من ذلك النعيم أو العذاب، ولا يختص به الأرواح؛ كما يزعم بعض من لا يريد، أو لا يستطيع أن يأتي الحقائق من أبوابها، وقد كان المشركون ينكرون بعث الأجسام، ويزعمون استحالته، ويوردون في ذلك الشُّبه؛ كما قالوا فيما قصه القرآن الكريم: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]. ورد الله عليهم بدليل نظري ينفي استحالة وقوعه، وهو قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79]. وحيث جاز وقوعه، وقام الدليل السمعي من طريق الوحي المقطوع

بصدقه على أنه واقع، دخل التصديق به في حقيقة الإيمان. ومن أنكر جزءاً مما يتقوم به الإيمان، صح أن ينفى عنه الإيمان، ولا يوضع في حساب المؤمنين. والجاحدون باليوم الآخر لا يبالون أن يرتكبوا القبائح، ويبسطوا أيديهم في البغي، إلا حيث يخشون أن تراهم أعين الناس. وتنالهم عقوبة من ذي سلطان. {وَالْمَلَائِكَةِ}: أجسام لطيفة نورانية قادرون على التشكل في صور مختلفة، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ووجه دخول التصديق بهم في حقيقة الإيمان: أن الله وسطهم في إبلاغ الوحي للأنبياء -عليهم السلام-، وذكر ذلك في الكتاب، وتحدث الأنبياء عنهم بما لا يدع في النفس شبهة في أن الملَك مخلوق ذو حياة ونطق عقلي. فمن لم يؤمن بهذا النوع من المخلوقات على الوجه الذي وصفه الكتاب العزيز، فقد أنكر الوحي، وحُرم من إيمان يبنى عليه سيرة يصل بها إلى أمن وسعادة. {وَالْكِتَابِ}: القرآن. والإيمان به يستلزم الإيمان بجميع الكتب المنزلة من عند الله. والإيمان بالنبيين: التصديق بأنهم رجال اصطفاهم الله لتلقي هدايته وكتبه، وإبلاغها للناس في صدق وأمانة. والنبيون الذين يجب الإيمان بهم: كل من ثبتت نبوته بقرآن، أو حديث صحيح. والدليل القاطع على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين يجعل المدعين للنبوة بعده مضلين، والمصدقين لمزاعمهم ضالين. {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ}: هذا معطوف على قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}. {وَآتَى}: أعطى.

والضمير في قوله: {حُبِّهِ} عائد إلى المال. والأموال منها ما شأنه أن يُحب، وهو الطيب، ومنها ما لا يُرغب فيه، وهو الخبيث؛ أي: الرديء. وإيتاء المال الذي يدل على صدق إيمان صاحبه، ويرتقي به إلى منازل الأبرار، إنما هو بذل ما كان محبوباً له، وهو نفائس الأموال والطيبات من الرزق؛ كما قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. والقربى: القرابة؛ أي: قرابة المعطي للمال. والمعنى: وأعطى المال -على محبته له- ذوي قرابته، فهم من بين المحتاجين أولى بالمعروف؛ لأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم، وهذا سر تقديمهم في الآية على من ذكر بعدهم من بقية الأصناف المستحقين للعطف والإحسان. {وَالْيَتَامَى}: جمع يتيم، وهو من فقد أباه بالموت، ولم يبلغ الحلم، وهم أولى بالمعروف بعد ذوي القربى، متى كانوا محتاجين؛ لشدة عجزهم عن كسب ما يسد حاجاتهم. {وَالْمَسَاكِينَ}: جمع مسكين، وهو من لا شيء له من المال، أو له شيء لا يكفي حاجاته. {وَابْنَ السَّبِيلِ}: هو المسافر المنقطع عن ماله. وسمي ابن السبيل؛ أي: الطريق؛ لأنه يظهر للناس من جانبها. ويعطى المسافر الغني في بلده من الصدقات إذا لم يمكنه الاستقراض، فإن أمكنه الاستقراض، خرج عن أن يكون أهلاً لقبول الصدقات. وفي هذا تنبيه على أن المسلمين -وإن اختلفت أوطانهم- ينبغي أن يكونوا في التعاطف والتعاون على مرافق الحياة كأسرة واحدة.

{وَالسَّائِلِينَ}: جمع سائل: وهو الطالب للمعروف. ويحملون على أنهم سألوا بدافع الحاجة حتى يعرف أنهم سألوا وهم في يسار أو كفاف. {الرِّقَابِ}: جمع رقبة، وهي في الأصل: العنق، وتطلق على البدن كله، كما تطلق العين على الجاسوس، فصح حمل الرقاب على الأسارى والأرقاء. ولفظ {فِي} بعد حرف العطف ينبئ بأن هناك لفظاً مقدراً مضافاً إلى الرقاب هو المقصود بإيتاء المال. والمعنى مع ملاحظة اللفظ المقدر: وأعطي المال في تخليص الأسرى من أيدي العدو بفدائهم، وتخليص الأرقاء بشرائهم وإعتاقهم. {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}: ذكر في خصال البر: مواساةَ الخلق إذ قال: {وَآتَى الْمَالَ}، فدل على أنه لا بر إلا لمن يكون رحيم القلب، سريم العطف على ذوي الحاجات ما استطاع، وعطف على ذلك خصلة أخرى ترجع إلى التزامه القيامَ بما يأمره الله به من حسن الطاعة، فقال تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}. وإقامة الصلاة: أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وآدابها. والزكاة يراد بها: الزكاة المفروضة على الوجه المفصل في السنة. وما تقدم من إيتاء ذوي القربى، وما عطف عليهم يراد منه: نوافل الصدقات. وإيتاء الزكاة: وضعها في أيدي مستحقيها من الفقراء والمسكين، أو تسليمها لمن يصرفها في مواضعها المنصوص عليها في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ. . .} [التوبه: 60]. وفي الأموال حقوق لذوي الحاجات غير الزكاة. ومما لا يجري فيه خلاف بين أهل العلم: أن الحاجة إذا بلغت بطائفة من الأمة حد الضرورة، وجب على ذوي اليسار سدها، ولو مما زاد على قدر الزكاة.

{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}: هذا معطوف على {مَنْ آمَنَ}. {وَالْمُوفُونَ}: من الإيفاء، وهو الإنجاز. والعهد: الميثاق والذمة، فيشمل ما يقع بينهم وبين الناس من عقود، وما يلتزمون لله من نذور؛ كما قال في آية أخرى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، ويدخل في هذه الخصلة: الوفاء بالوعد؛ فإنه معدود في أسمى مكارم الأخلاق. ويقضي بإنجاز الوعد إذا علق بسبب؛ كأن يقول لشخص: تزوج، وأدفع لك المهر، فعقد الموعود على امرأة اعتماداً على هذا الوعد. وقال تعالى: {إِذَا عَاهَدُوا}، فأشار إلى أن إيفاءهم بالعهد لا يتأخر عن وقت حصول العهد. {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}: {الْبَأْسَاءِ}: الفقر. {وَالضَّرَّاءِ}: السقم والوجع. والبأس: القتال. {وَالصَّابِرِينَ} معطوف في المعنى على {مَنْ آمَنَ}؛ كقوله: {وَالْمُوفُونَ}، ولكنه جاء منصوباً جرياً على الأسلوب المعروف بين البلغاء، وهو أن المتكلم إذا أراد التنبيه على فضل زائد في المعطوف على مرفوع، غَيَّرَ وجه الإعراب، وأتى به منصوباً على تقدير فعل يدل عليه مقام المدح، وجرى علماء العربية على أن يبينوه بنحو: أمدح، أو أخصّ. ولا ريب في أن خصلة الصبر على الشدائد، وحين القتال في سبيل الله، جديرة بأن ينبه لمزيد فضلها؛ إذ هي أصل لكثير من المكارم؛ كالعفاف عما في أيدي الناس، والتسليم للقضاء الذي لا مرد له، والإقدام الذي يحمى به الدين، وتسلم به النفوس والأموال والأعراض. وجاءت كلمة (حين) في قوله: {وَحِينَ الْبَأْسِ} مشيرة إلى أن مزية الصبر في القتال إنما تظهر حين تدور رحى الحرب، وتأخذ الأسلحة في قطف الرؤوس من الأعناق، وسلب

الأرواح من الأجساد. وقد يكون في الإنسان شيء من قوة الجأش، ويحشر نفسه في زمرة الأبطال، ويزحف في مقدمة الزاحفين، حتى إذا التقى الجمعان، وكشرت المنايا تحت سحاب النقع، أخذ الفزع من الموت بمجامع قلبه، وذهبت نفسه شَعاعاً، ولاذ بالفرار، أو استسلم للعدو، وفاته أن يكون من الصابرين حين البأس. وجاءت أنواع الصبر في الآية على وجه الترقي من الشديد إلى الأشد، فالصبر على المرض أصعب من الصبر على الفقر، والصبر حين البأس أصعب من الصبر على المرض. {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}: المشار إليهم: من تقدم ذكرهم من المحرزين لخصال البر. واسم الإشارة (ذلك) أحضرهم في أذهان المخاطبين، وهم متصفون بتلك الخصال العظيمة. وجاء الإخبار عنهم بأنهم الصادقون المتقون مبشراً لهم بأنهم بلغوا بإحراز تلك الخصال الغاية التي يطمح إليها أرباب البصائر النيرة، والنفوس الطاهرة، وهي مقام الصدق والتقوى، والصدق توصف به الأقوال المطابقة للواقع، وتوصف به الأفعال الواقعة على ما ينبغي أن تكون عليه؛ كما قالوا: صدقوهم القتال، وقالوا: فلان صادق الحملة. ومن حازوا خصال البر صادقون في القيام بما أوصى الله به من أعمال الخير. والمتقون: من الاتقاء، وهو الحذَر، واذا أطلق المتقي في كلام الشارع، فهو الحذِرُ من عقاب الله؛ بتجنب معاصيه، وامتثال أوامره. وعقبى الصادقين المتقين الفوز بطمأنينة النفس في العاجلة، والنعيم الدائم في الآخرة. ففي هذه الجملة من الآية ثناء على أولئك الأبرار، وإيحاء إلى ما يلاقونه من اطمئنان وخيرات حسان.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178 - 179]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}: أفادت الآية السابقة أن البر هو الإيمان بالله، والإخلاص في طاعته الذي يظهر في إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومواساة ذوي الحاجات، والوفاء بالعهود، والصبر على البلاء، والاستهانة بالموت في مواقع الجهاد إعلاء لكلمة الحق، وأتبع ذلك بشرع بعض الأحكام العملية الجليلة، وابتدأ منها بما يرجع إلى حفظ الدماء؛ لأخذه منزلة ذات شأن في إصلاح العالم، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ}. {كُتِبَ}: من الكتابة، وهي في الأصل: الخط بما يدل على معنى، ويستعمل بمعنى: الفرض، والإيجاب، فمعنى كتب عليكم: فرض عليكم، والقصاص: العقوبة بالمثل من قتل أو جرح، والقتلى: جمع قتيل، والقصاص ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد التاسع من السنة الرابعة.

فيهم: قتل القاتل عقوبة له على القتل، مع مراعاة المساواة التي تتقرر بتقدير الشارع الحكيم. وإنما يفرض القصاص عند القتل الواقع على وجه العمد والعدوان، وحيث يطالب به أولياء القتيل. وصدرت الآية بخطاب: {الَّذِينَ آمَنُوا} تقوية لداعية إنفاذ حكم القصاص، فكأنه يقول: إن معكم من الإيمان ما يمنعكم من التهاون بإقامة هذا الواجب؛ فإن المؤمن الصادق يحرص على أن يسد الأبواب في وجه كل فتنة تحل عرا الألفة والمودة بين الأفراد والجماعات، وتلقي بحبل الأمن في اضطراب واختلال. والقرآن الكريم يوجه الخطاب في عقوبات الجنايات كالقصاص إلى الأمة على أن يقيمها الرئيس الأعلى، أو من ينوب عنه. وتوجيه الخطاب إلى الأمة يُشعرها بأن عليها جانباً من التبعة إذا أهمل أولو الأمر هذه العقوبات، أو لم يقيموها على حق، ويشعرهم بأنهم مطالبون بعمل ما يساعد الحكام على وضع العقوبات في حدود العدل؛ كتسليم الجاني، وأداء الشهادة عليه في صراحة وأمانة. {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}: هذا بيان لمعنى المساواة في القتل المشار إليها بلفظ القصاص، فالجملة تتمة لمعنى الجملة السابقة، ومفادها: أن يقتل بالمقتول قاتلُه دون ما سواه؛ لأن أخذ غير الجاني ليس بقصاص، بل هو اعتداء ثان، وإنما يرتفع الفساد بالقصاص، لا بالقتل ظلماً. وفي الآية إبطال ما كان جارياً في الجاهلية؛ حيث إن القبيلة القوية إذا قتلت منها القبيلة الضعيفة شخصاً، لا ترضى إلا أن تقتل معه أشخاصاً من شيعته، وإذا قتلت منها عبداً، لا ترضى إلا أن

تقتل به حراً، وإذا قتلت منها أنثى، لا ترضى إلا أن تقتل بها رجلاً. وبتحرِّي قصد الشارع من القصاص يستبين أن الجماعة التي تشترك في قتل الواحد حقيقةٌ بأن تؤخذ به قصاصاً؛ حتى لا يتوسل إلى قتل أفراد كثيرة بأيدي جماعة تجمع أمرها، وتخوض بسلاحها مشتركة في سفك دماء معصومة واحداً بعد آخر. {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}: وردت هذه الجملة حديثاً عن إسقاط ولي المقتول القصاصَ عن القاتل، وإعطاء القاتل لولي المقتول الديةَ بدلَ القصاص، فقال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} عفي: من العفو، وهو الإسقاط، ومن عفي له: هو القاتل، و {أَخِيهِ}: ولي المقتول، و {شَيْءٌ}: القصاص، وهو مفعول به ناب عن فعل عفي، وهذا الوجه من الإعراب هو الموافق لما عرف به القرآن الكريم من حسن البيان، ومعنى هذه الجملة المصوغة في طريق الإيجاز: أن ولي المقتول أسقط القصاص راضياً بأخذ الدية، وفي هذا الحال يكون شأن ولي المقتول طلب الدية، وشأن القاتل أداؤها، فجاء قوله تعالى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وصيةً لولي المقتول بأن يتبع القاتل عند طلب الدية بالمعروف؛ أي: يرفق في الطلب، وينتظره في حال عسرة إلى ميسرة، وجاء قوله: {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وصيةً منه تعالى للقاتل بأن يؤدي الدية بإحسان؛ أي: لا يمطل بها، ولا يبخس منها. ويصح حمل العفو على معنى العطاء، وهو معنى معروف في كتب اللغة، وجرى عليه بعض كبار العلماء في تفسير الآية، والمعنى: فمن أعطِي، وهو ولي المقتول، من أخيه، وهو القاتل، شيئاً، وهو الدية، فعلى ولي المقتول

اتباعه بالمعروف، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان. وسمي القاتل أخاً لولي المقتول؛ تذكيراً بالأخوة البشرية والدينية حتى يهز عطف كل واحد منهما إلى الآخر، فيقع بينهم العفو، والاتباع بالمعروف، والأداء بإحسان. {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}: المشار إليه: الحكم المفهوم من تيسير أمر القصاص بشرع الدية، فشرعها من آثار رحمته تعالى، وعدم إرادته الحرج فيما شرع من الدين، ففي الدية تخفيف على القاتل، ونفع لأولياء القتيل، وقد جمع الإسلام في عقوبة القتل بين العدل والرحمة، فجعل القصاص حقاً لأولياء المقتول إذا طالبوا به، وذلك عدل، وشرع الدية إذا أسقطوا القصاص عن القاتل، وذلك رحمة. {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: المشار إليه: قبول الدية، والاعتداء: قتل القاتل، والمعنى: فمن اعتدى على القاتل بعد قبول الدية، فله عذاب شديد الألم في الآخرة. {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}: لما كان القصاص أشد عقوبة يؤخذ بها الجناة، عني القرآن ببيان حكمته توطيناً للنفوس على الانقياد إليه، وتقوية لعزم أولي الأمر على إقامته، فقال تعالى مبيناً حكمة شرعه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}. في القصاص حياة من وجهين: أولهما: أن الشخص إذا هم بقتل شخص، وعلم أنه إذا قتله اقتص منه، امتنع من قتله، فيكون القصاص سبباً للردع عن قتل أنفس كثيرة. ثانيهما: أن القبائل القوية إذا قتلت منها القبيلة الضعيفة أحداً، لا تكتفي بقتل القاتل حتى تلحق به آخرين من عشيرته، والقصاص لا يتجاوز القاتل

إلى غيره، فيكون سبباً لحماية نفوس كثيرة من غائلة الإسراف في الانتقام؛ كما قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]. ونقل عن العرب ما يدل على أنهم تحدثوا عن حكمة القصاص من قبل، وأبلغ كلمة عبروا بها عن هذا المعنى قولهم: "القتل أنفى للقتل"، ولكن لورود الحكمة في القرآن فضل من ناحية حسن البيان الذي يسارع بها إلى أقصى القلوب، ويجعلها مثلاً سائراً يجري على الألسنة، ويتقلب في الأندية؛ حتى يعظم أثرها في حياة المؤمنين، وإذا شئت أن تزداد خبرة بفضل بلاغة القرآن، وسمو مرتبته في حسن البيان على مرتبة ما نطق به بلغاء البشر، فانظر إلى هذه الجملة: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، وإلى قولهم: "القتل أنفى للقتل"، وأقم بينهما وزناً بالقسط، فإنك تجد من نفحات الإعجاز ما ينبهك لأن تشهد الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق. ومن فضل بيان الآية: أنها جعلت سبب الحياة القصاص، وهو القتل عقوبة على وجه التماثل، أما العبارة العربية، فقد جعلت سبب الحياة القتل، ومن القتل ما يكون ظلماً، فيكون سبباً للفناء لا للحياة. وتصحيح هذه العبارة أن يقال: القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً. والآية جاءت خالية من التكرار اللفظي، فعبرت عن القتل الذي هو سبب الحياة بالقصاص، والعبارة العربية كرر فيها لفظ القتل، فمسها بهذا التكرار من الثقل ما سلمت منه الآية. ومن الفروق الدقيقة بينهما: أن الآية جعلت القصاص سبباً للحياة التي تتوجه إليها الرغبة مباشرة، والعبارة العربية جعلت القتل سبباً لنفي القتل

الذي تترتب عليه الحياة. {يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}: {الْأَلْبَابِ}: جمع لُبّ، وهو العقل الخالص من شوائب الأوهام، أو العقل الذكي، وهو ما لا يبطئ في استبانة الحقائق، واستخراج لطائف المعاني من مكامنها. وخص النداء بأولي الألباب، مع أن الخطاب بحكمة القصاص شامل لهم ولغيرهم؛ لأنهم الذين يتدبرون عواقب الأمور، ويعرفون قيمة الحياة، ويقدرون حِكَم التشريع قدرَها. وفي هذا النداء تنبيه على أن من ينكرون مصلحة القصاص، وأثره النافع في تثبيت دعائم الأمن، يعيشون بين الناس بعقول غير سليمة. ولا يزال الناس يشاهدون في كل عصر ما يثيره القتل في صدور أولياء القتلى من أحقاد طاغية، لولا أن القصاص يخفف من سطوتها، لتمادت بهم في تقاطع وسفك دماء دون الوقوف عند حد. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: ترد (لعل) في كلام الله مورد التعليل، وهي هنا تعليل لمعنى فهم من قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}. وإيضاح هذا: أن بيان حكمة القصاص ينساق منه الذهن إلى معنى شأنه أن يذكر في مجاري الاستعمال، ولكن طريقة القرآن في الإيجاز جرت على حذف ما تغني القرائن الواضحة عن ذكره، ولا يزيد التصريح به في نظم الكلام حسناً، وهذا المعنى الذي يقع في الذهن، وشأنه أن يذكر بعد بيان الحكمة، وقبل قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يعبر عنه بلفظ: فكتبناه عليكم، أو شرعناه لكم، والمعنى: ولكم في القصاص حياة، فكتبناه عليكم؛ لتتقوا القتل حذراً من القصاص.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 180 - 182]. {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ}: استفاض في عرف الشارع بمعنى: وجب عليكم. وحضور الموت يقع عند معاينة الإنسان للموت، ولعجزه في هذا الوقت عن الإيصاء، فسر بحضور أسبابه، وظهور أماراته؛ من نحو: العلل المخوفة، والهرم البالغ. والخير؛ المال، ومقام الأمر بالوصية فيه يشعر بأن المراد: المال الكثير، وبهذا فسر الجمهور الخير في الآية. ولم يرد نص من الشارع في تقدير ما يسمى: مالاً كئيراً، وإنما وردت آثار عن بعض الصحابة والتابعين في تقديره بحسب اجتهادهم، وبالنظر إلى ما يسمى في العرف مالاً كثيراً؛ كما قال ابن عباس - رضي الله عنه -: من ألف درهم إلى ثمان مئة درهم. وقال إبراهيم ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد العاشر من السنة الرابعة.

النخعي: من ألف درهم إلى خمس مئة درهم. وتسمية المال الموصى فيه خيراً يشعر بأن الوصية إنما تكون من المال الحلال، وأما المال الحرام، فيجب إعادته إلى أربابه، ومن أوصى فيه، فقد ارتكب إثماً، وحقت عليه عقوبة المعتدين. والوصية اسم من أوصى يوصي، فهي بمعنى الإيصاء، وقد تستعمل بمعنى الموصى به. ومعنى الجملة: إذا حضر أحدكم الموت، وقد ترك مالاً كثيراً، وجب عليه الإيصاء بجانب منه لوالديه: أبيه وأمه، وأقاربه. وبدأ بالوالدين؛ لعظم حقهما. وجاءت الجملة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} غير معطوفة على ما قبلها بالواو؛ تنبيهاً على أهمية ما تضمنته من حكم الإيصاء؛ إذ لم تجعل تابعة لما قبلها بحرف العطف. {بِالْمَعْرُوفِ}: هذا يتعلق بالوصية. والمعروف: العدل الذي يتعارفه الناس، وهو في الوصية: أن لا يتجاوز بها ثلث المال، وأن لا يوصي للأغنياء ويترك الفقراء، أو يوصي للقريب ويترك الأقرب. ومن حكمة الإرشاد إلى الإيصاء إلى الأقربين، وإيثارهم بهذا الإحسان على غيرهم: أن العرب في الجاهلية كانوا يوصون للأبعد طلباً للفخر، ويتركون الأقرب، وهو أشد منه فقراً ومسكنة. {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}: الحق: الواجب. والمتقون: المؤمنون، أو الذين اتخذوا التقوى سيرة لهم.

وعدل عن الخطاب، فلم يقل: عليكم، ووضع للمتقين موضع ضمير الخطاب؛ تأكيداً للأمر بالوصية؛ إذ يشعر أن القيام بالوصية، والمحافظة عليها من شعائر المتقين، فمن أهملها، فقد رضي لنفسه الحرمان من الدخول في صفوفهم، وفاته أن يحشر يوم القيامة في وفدهم. وردت هذه الآية في الوصية للوالدين والأقربين، والمعروف عند الأمة منذ عهد السلف أن الوصية لا تصح لوارث، والوالدان لهما نصيب مفروض في المواريث، ومقتضاه: عدم صحة الوصية لهما؟. ويزيح هذا الإشكال من طريق التفسير: أن فريقاً من أهل العلم -وهم جمهور المفسرين- ذهبوا إلى أن آية الوصية قد نسخ منها حكم الوصية للوارث. وإيضاح وجه النسخ: أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية. فقامت مقامها في الوصية للوارث، ودل على هذا المعنى صراحة: الحديث الشريف، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث". وهذا الحديث -وإن لم يبلغ مبلغ الحديث المتواتر الذي يصح نسخه للقرآن بنفسه- قد امتاز عن بقية أخبار الآحاد بأن الأمة تلقته بالقبول، وأخذوا في العمل به من غير مخالف، فأخذ بهذا قوة الحديث المتواتر في الرواية، واعتمدوا عليه في بيان أن آية المواريث قامت بتقدير الأنصباء في الميراث مقام آية: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} في الوصية للوارث. وروى البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس - رضي الله عنه -: "كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع".

ومن أهل العلم من لم يستطيعوا أن يهملوا حديث: "لا وصية لوارث"؛ لاستفاضته بين الأمة، وتلقيهم له بالقبول، فقرروا العمل به، وأبطلوا الوصية لوارث، ولكنهم ذهبوا -مع هذا- إلى أن آية الوصية للوالدين محكمة غير منسوخة، وتأولوها على وجوه، منها: أن المراد من قوله: {لِلْوَالِدَيْنِ}: الوالدان اللذان لا يرثان لمانع من الإرث؛ كالكفر، والاسترقاق، وقد كانوا حديثي عهد بالإسلام، يسلم الرجل، ولا يسلم أبواه، وقد أوصى الله بالإحسان إليهما. {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ}: {بَدَّلَهُ}: غيره، وتغيير الإيصاء: بالزيادة في الموصى به، أو النقص منه، أو تغيير صفته، أو كتمان الوصية من أصلها. ومن يتوقع منهم تبديل الوصية: هم الأوصياء والشهود. وسمعه: علمه وتحققه. والضمير المنصوب في قوله: {بَدَّلَهُ} عائد على الإيصاء المفهوم من الوصية، وهو الإيصاء الواقع على الوجه المشروع، ولهذا جاء مذكراً. وإيضاح هذا: أن من الأصول التي قررها الباحثون في مزايا اللغة العربية وأسرار بلاغتها: أن اعتناء العرب بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم، ويرون أن الألفاظ إنما هي وسيلة إلى تحصيل المعنى، فلا مانع عندهم من أن يخرجوا على القانون المطرد ما دام المعنى المراد مستفاداً على الوجه الاكمل، ويصير هذا الوجه المخالف لما هو الظاهر داخلاً في أساليب البلغاء منهم. والقرآن يجري في مثل هذا على ما يجري عليه البلغاء، فهم يراعون ما تقتضيه الألفاظ في أكثر كلامهم، وقد يراعون ما يقتضيه المعنى؛ كأن

يكون للمعنى غير الحقيقي التأنيث اسمان: اسم مقرون بهاء التأنيث؛ كالوصية، واسم مجرد منها؛ كالإيصاء، فيذكرون المعنى باسمه المؤنث، ويعيدون عليه الضمير باعتبار اللفظ المذكر، وكل من الوجهين عربي فصيح. {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}: الإثم: الذنب، وجمعه آثام. والأَثام؛ كسحاب: جزاؤه، يقولون: كانوا يفزعون من الآثام أشد ما يفزعون من الأثام. أي: إنهم يفزعون من الذنوب أشد مما يفزعون من عقوباتها. والضمير في قوله: {إِثْمُهُ} يعود على الإيصاء المبدل، أو على التبديل المفهوم من قوله: {بَدَّلَهُ}. ومقتضى تقدم ذكر من يبدلون الإيصاء: أن يعبر بالضمير، فيقال: فإنما إثمه عليهم، ولكنه وضع الموصول {الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} موضع الضمير؛ ليؤكد أن علة وقوع الإثم عليهم هو ذلك التبديل. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: هذه الجملة وعيد للمبدل للوصية. والمعنى: إن الله سميع للوصية، عليم بما يقع فيها من تبديل وتحريف. {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}: {خَافَ}: من الخوف، وهو في الأصل: حالة تعتري النفس عند الانقباض من شر يتوقع حصوله، ووقوع ذلك الشر قد يكون مظنوناً، وهو الأكثر، وقد يكون معلوماً، فاستعمل الخوف في الظن، والعلم بالمحذور، ثم اتسع فيه، واستعمل في مطلق الظن والعلم. فمعنى {خَافَ} في الآية: علم، أو ظن ظناً غالباً. والجنف: العدول عن الحق على وجه الخطأ. والإثم: العدول عنه على وجه التعمد. والآية واردة في الوصي يرى أن الموصي حاد

في وصيته عن وجه المعروف، فأذن له أن يصلح ما ظهر له فيها من خطأ أو حيف. والضمير في قوله: {بَيْنَهُمْ} عائد إلى الموصى لهم. والإصلاح بينهم: بإجرائهم على الوجه المعروف في الوصية. والمعنى: أن الوصي إذا رأى في الوصية انحرافاً عن الحق خطأ أو عمداً، وأصلح بين الموصى لهم بردِّهم إلى الوجه المشروع، فليس عليه من إثم. وهذه الجملة بمنزلة الاستثناء من قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ}، فكأنه يقول: إن ذلك الوعيد الوارد في التبديل إنما هو لمن غير حقاً بباطل، وأما من غير الوصية بالإصلاح، فليس عليه من إثم؛ لأنه غير الباطل بحق. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: تضمنت الجملة السابقة رفع الإثم عمن بدل الوصية باجرائها على الوجه المعروف، وجاءت هذه الجملة المشتملة على وصفه تعالى بأنه واسع المغفرة والرحمة مؤكدة لرفع الإثم عمن يقصد بعمله الإصلاح، ومقررة لاستحقاقه الإحسان منه تعالى؛ فإن من يغفر الذنوب، ويرحم المذنبين، تكون مغفرنه ورحمته أقرب إلى من يقصد بعمله الإصلاح، ولو اعتمد على ظن غالب، أو أخطأ وجه الصواب منه.

تفسير آيات الصوم

تَفْسِيرُ آيَاتِ الصَّوْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 183 - 185]. تضمنت الآيات السابقة إيجاب القصاص، ثم إيجاب الوصية، وجاءت هذه الآيات عقبها بإيجاب عبادة هي من أعظم أركان الإسلام، وهي الصيام، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}: وردت هذه الآيات في صيغة الخطاب مفتتحة بالنداء، ووصف المخاطبين بأكمل خصلة تقوم عليها السعادة في الدارين، وهي الإيمان؛ ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الأول من السنة الثانية.

ليقبل الناس على ما يلقى إليهم من أمر هذه العبادة، ويضعوه موضع العناية بقدر ما يقتضيه إيمانهم وتقديرهم الشرف الذي اكتسبوه من خطاب رب العالمين. قال الحسن: إذا سمعت الله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، فارع لها سمعك؛ فإنها لأمر تؤمر به، أو نهي تُنهى عنه. والصيام في أصل اللغة كالصوم: الإمساك عن الفعل؛ من نحو: الأكل، والمشي، والكلام، وخصه بعض المفسرين بالإمساك عما تنازع إليه النفس. وحقيقته شرعاً: الإمساك بنية عن الأكل والشرب ومباشرة النساء من طلوع الفجر إلى مغرب الشمس. ومعنى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}: فرض عليكم. وقد دل القرآن على بعض أحكامه، ودلت السنة على سائرها. {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}: معنى الجملة: أن الصيام كتب على من قبلنا من الأنبياء وأممهم، والتشبيه في قوله: {كَمَا كُتِبَ} يرجع إلى الوجوب؛ أي: إن الله فرض عليكم الصيام مثلما فرضه على من تقدمكم من الأمم. وحكمة التذكير بأن الصيام قد فرض على الأمم السابقة: تخفيف وقعه على النفوس؛ حيث إن الصائم يكف نفسه عن كثير من الشهوات التي اعتاد التمتع بها، فإذا قيل له: إن هذه العبادة قد فرضت على أمم من قبلنا، وأفهم السياق أنهم لم يهملوها، خف عليه أمرها، وأقبل على أدائها بنفس مطمئنة.

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: هذه الجملة واقعة موقع التعليل لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}. والمعنى: فرض عليكم الصيام؛ لتدخلوا في زمرة أهل التقوى، ذلك أن الصيام يكف النفوس عن كثير مما تنزع إليه النفس من خواطر السوء، ويربي فيها ملكة الصبر، ومغالبة طغيان الشهوات، ويروضها إلى عمل الخير مقبلة عليه راغبة فيه، وبهذه السيرة يبلغ العاملون أسمى منازل البر والتقوى. {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}: وصف الأيام المفروض صيامها بكونها معدودات، يكنى بذلك عن قلتها؛ ليخفف أمر صيامها متتابعات على المكلف، فيقبل عليه محتملاً مشقته التي لا تزيد على مشاق اعتاد الناس احتمالها للحصول على مآرب من متاع هذه الحياة وزينتها. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}: العدة: من العد بمعنى: معدود. ولم تقدر الآية المرض الذي يؤذن لصاحبه بالفطر، ولكن المحققين في فهم مقاصد الشريعة حملوه على المرض الذي يلحق صاحبه بالصوم مشقة فوق ما يجده وهو سليم البنية؛ كمن يخشى تزيُّد المرض، أو تأخر برئه. وظاهر الآية أيضاً: أن كل ما ينطلق عليه اسم سفر، يبيح الفطر. والذين ينظرون عند تقرير الأحكام إلى حكمة التشريع يرون أن الفطر إنما أبيح للمسافر نظراً إلى ما يلحقه من المشقة. ولما كانت لا توجد في كل مسافة يتنقل بها الشخص من موضع إقامته إلى مكان آخر، كان مناط الرخصة هو السفر

الذي شأنه أن توجد فيه مشقة. وقد اختلف الفقهاء في تقديره، فقدره طائفة من الأئمة بمسير ثلاثة أيام، وقدره آخرون بمسير يومٍ السيرَ الوسط، فمن أخذ في سفر يقدر بمسير يوم على الدواب السيرَ المعتاد، يباح له الفطر، وإن قطع تلك المسافة في زمن أقل من يوم؛ كراكب سيارة أو طائرة. ومعنى الآية: فمن كان منكم مريضاً، أو مسافراً، فأفطر، فالواجب عليه متى برئ من مرضه، أو انقطع سفره، صيام أيام بعدد ما أفطر فيه من أيام رمضان. {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}: ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذه الآية نزلت عند ابتداء فرض الصيام على وجه الرخصة، فكان الناس مخيَّرِين بين الصيام والفدية، ثم نسخ التخيير بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، ورويت آثار صحيحة عن السلف في هذا المعنى. ولعل وجه القول بنسخ هذه الآية: هو أن الشارع لم يرد إرغام العباد على الصوم وهم يستكبرون مشقته، ويستصعبون القيام به، فخيرهم بينه وبين الفدية، ولما استبان لهم أن مشقته على المؤمن بحق غير فادحة، وتتابعوا على الصيام مؤثرين له على الفدية، نسخ التخيير الذي تضمنته الآية، وبقيت الآية تتلى ليعرف منها أن الشريعة تأخذ في تشريعها مأخذ الحكمة، وتسلك مسلك التدريج في تقرير الأحكام التي يحتاج المكلف في احتمال مشقتها إلى عزيمة نافذة. وأنكر آخرون من أهل العلم أن تكون الآية منسوخة، وقالوا: الإطاقة في قوله تعالى: {يُطِيقُونَهُ} بمعنى: القدرة على الصيام بتكلف شديد، وحملوا قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} على أصحاء يستطيعون الصوم،

ولكنهم يلاقون فيه مشقة شديدة، وهم الشيوخ والعجائز. وأضاف بعض الأئمة. إلى هؤلاء: الحامل، والمرضع إذا خافتا أن يلحق ولديهما ضرر من الصيام. وقد بينت الآية الفدية بطعام مسكين. ويكفي في تحقيق طعام المسكين المقدار الذي يشبعه في اليوم الواحد. {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}: التطوُّع: فعل الشيء على وجه التبرع. والمعنى: فمن تطوع فاعلاً خيراً بأن زاد على القدر المقرر للفدية، فأعطى لمسكين واحد ما يكفيه الجوع أكثر من يوم، أو أطعم مسكينين فأكثر، فما تطوع به معدود عند الله في أعمال الخير التي يجازى صاحبها الجزاء الأوفى. {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}: هذا خطاب لمطيقي الصيام من الذين خُيروا بين الصوم والفدية، فهي من متممات قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. والمعنى: أن الصوم أفضل من الفدية، ذلك أن الفوائد الروحية والاجتماعية التي تحصل بالصوم أرجحُ من الفوائد التي تحصل بالفدية. ويصح أن تكون هذه الجملة موصولة بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، فيكون المراد منها: فرض عليكم الصيام. . . إلخ، ثم قال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}؛ أي: إن الصوم من الأعمال التي تورثكم خيراً عظيماً. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: هذا أسلوب معروف في بلاغة اللغة العربية، يقصد منه: التحريض على فعل ما هو خير؛ كما ورد في هذه الآية، أو الزجر عما فيه شر؛ كما قال تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]، فقوله تعالى:

{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بمعنى: إن كنتم من أهل العلم. والمعنى: وصومكم خير لكم، فصوموا إن كنتم من أهل العلم؛ لأن شأن أهل العلم المبادرةُ إلى الفعل متى عرفوا وجه الخير منه. {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}: هذا بيان للأيام المعدودات المفروض على الناس صيامها، ومعنى إنزال القرآن في شهر رمضان: ابتداء نزوله فيه، فقد أنزل في ليلة القدر، وكانت وفتئذ في رمضان، وهي المشار إليها بقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3 - 4]. وفي قوله: {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} تنبيه لمزية في هذا الشهر اقتضت تخصيصه بأن يكون مظهراً لركن من أهم أركان الإسلام، وهو الصيام، تلك المزية هي: جعله مبدأ لإنزال الكتاب الذي استضاء الناس بما فيه من هدى وبينات من الهدى والفرقان. ومعنى كون القرآن هدى للناس: أنه يرشدهم إلى سبيل الحق، ويدعوهم إلى مراقي الفلاح في الدنيا، ومعارج السعادة في الأخرى. وقوله: (بينات) وصف لآيات المقدَّرة في نظم الآية. {وَالْفُرْقَانِ}: ما يفرق بين الحق والباطل؛ أي: يفصل بينهما. والمعنى: أن القرآن أنزل هدى وآيات بينات؛ أي: واضحات، من جملة ما أنزل الله به كتبه، وبعث به أنبياءه من الهدى والفرقان. {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}: أمر بصيام شهر رمضان بعد أن وصف الشهر بكونه مطلع هداية القرآن؛

ليجد الأمر بالصوم من نفوس السامعين إقبالاً زائداً وعناية. وشهد: من الشهود بمعنى: الحضور، فمعنى شهد الشهر: حضر فيه؛ أي: كان مقيماً وقت دخوله. {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}: أعيد في هذه الجملة ذكر الرخصة للمريض والمسافر؛ تأكيداً لمشروعيتها، وتنبيهأ على أنها صادرة عن عناية من شارعها، حتى لا يقع في نفوس المتقين أدنى حرج من الأخذ بها. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}: هذه جملة مستأنفة لبيان حكمة الإذن للمريض والمسافر في الفطر، وهي أن الله تعالى بنى تشريعه على اليسر والرفق، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. ومن مثل هاتين الآيتين تقررت في الشريعة قاعدة من القواعد التي تشهد بسماحتها، وهي: المشقة تجلب التيسير. وارادة الله في التشريع تنبئ بعدم إرادته للعسر، فقوله تعالى: {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} تصريح بما فهم من الجملة قبلها لتوكيد معناها، وتقوية يقين المكلفين بأنهم لا يلاقون فيما شرع الله عسراً في حال. {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}: روعي في هذا التعليل قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، والمعنى: أوجب عليكم إذا أفطرتم لمرض أو سفر عدة أيام أخر؛ لتكملوا عدة الأيام المفروض عليكم صيامها، فلا يفوتكم الأجر العظيم الذي يعده الله لصائمي الشهر كله.

{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}: تكبير الله: تعظيمه. وهذا التعليل مراعى فيه الإذن للمريض والمسافر في الفطر على وجه الرخصة، ثم بيان كيفية قضائهما للأيام التي أفطرا فيها، والمعنى: أرشدكم إلى التخلص من مشقة الصيام في حال مرض أو سفر، وإلى كيفية القضاء، فجمع لكم على التيسير والحصول على أجر الصيام كاملاً؛ لتعظموه على هذه الهداية. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: هذه الجملة واردة مورد التعليل للترخيص والتيسير بالإذن في الفطر والقضاء من بعد. والشكر في الأصل: تصور النعمة وإظهارها. ويطلق بمعنى: الثناء على المحسن بذكر إحسانه، فشكر العبد لله: أن يثني عليه بذكر النعمة التي أنعم بها عليه. ومعنى الجملة: يسر لكم أمر الصوم، فرخص لكم في الفطر عند توقع مشقة زائدة على العادة، وجعل القضاء عندما ينقطع المرض أو السفر محصلاً للثواب الذي وعد به الصائمون، الذين لم يعرض لهم عذر يبيح لهم الفطر، شرع ذلك؛ لتتلقوه بالشكر الذي هو معدود في أفضل ما تتقربون به إليه.

تفسير آيات من سورة البقرة

تَفْسِير آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 186 - 188]. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}: ظاهر نظم الجملة أنهم سألوا عن الله، والسؤال لا يكون عن الذوات، وإنما يكون عن شأن من شؤونها، ولكن الجواب -أعني: قوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} - يدل على أنهم سألوا عنه تعالى من جهة القرب والبعد، ويؤيده الأثر المروي عن أُبَيٍّ، وهو أن المسلمين قالوا: يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه "ندعوه سراً"، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت الآية: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي. . .}. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الحادي عشر من السنة الرابعة.

ولم يصدر الجواب بقُل، أو فقل؛ كما وقع في أجوبة مسائلهم الواردة في آيات أخرى، نحو: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105]، بل تولى جوابهم بنفسه؛ إشعاراً بفرط قربه منهم، وحضوره مع كل سائل؛ بحيث لا تتوقف إجابته على وجود واسطة بينه وبين السائلين من ذوي الحاجات. {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}: يجيب الله دعوة الداعي إذا صدرت عن إيمان وخشوع قلب، وورد تقييد إجابة الدعاء بالمشيئة في قوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41]، وورد في الصحيح ما يدل على أن المؤمن إذا دعا بما فيه خير، لم يخب عند الله دعاؤه، ولكن لا يلزم أن يعطيه نفس ما طلبه. روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مسلم يدعو الله -عَزَّ وَجَلَّ- بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل إليه دعوته، وإما أن يدخرها له في الأخرى، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها". {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}: وعد الله العباد في الجملة السابقة بأنه يجيب دعاءهم إذا دعوه، وأمرهم في هذه الجملة بإجابة ما يدعوهم الله إليه من الطاعات. والاستجابة: الإجابة. والرشد: حسن التصرف في الأمر من دين أو دنيا، وكأنه تعالى يقول: إني أجيب دعاءكم، وأنا ربكم الغني عنكم، فاستجيبوا أنتم لدعوتي، واذا استجبتم لها، فإنما تستجيبون ما فيه رشدكم الذي هو وسيلة سعادتكم في الحياتين العاجلة والآجلة، وأمرهم بالإيمان بعد الأمر بالاستجابة؛ لأنه أول مراتب الدعوة، وأولى الطاعات بالاستجابة.

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}: رويت آثار في أن الناس كانوا عندما فرض صوم شهر رمضان إذا أفطروا يأكلون ويشربون، ويقربون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا، امتنعوا، واتفق أن باشر بعضهم امرأته بعد أن نام، وشكا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ. . . إلخ} و. وليلة الصيام: الليلة التي يصبح منها الإنسان صائماً. والرفث: الفحش من القول، ويكنى به عن مباشرة النساء، وهو المراد من الآية. {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}: هذه الجملة واردة مورد المقتضى لإباحة مباشرة النساء ليلة الصيام، ذلك أن كلاً من الزوجين يسكن إلى صاحبه، ويكون من شدة القرب منه كالثوب الملابس له، وقد كانت العرب تسمي المرأة: لباساً، وهذا حال يقوى معه الداعي إلى المباشرة، فمن رِفقه تعالى أن أحلها لهم ليلة الصيام. {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ}: هذا مظهر من مظاهر رفق الله بمن كانوا يباشرون أزواجهم قبل أن يحل الله لهم ذلك. و {تَخْتَانُونَ}: تظلمون وتنقصون، والمعنى: كنتم تظلمون أنفسكم، وتنقصون نصيبها من الخير بمباشرة أزواجكم قبل أن يحلها الله لكم، فقبل توبتكم، وعفا عنكم؛ أي: محا أثر ما فعلتموه بغير إذنه. {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}: هذا مرتب على قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ}. و (الآن): ظرف

لما يقع في الزمن الحاضر وما يقرب منه. و {بَاشِرُوهُنَّ}: من المباشرة، وأصلها: اتصال البشرة بالبشرة، وكنى بها عن الجماع كالملامسة، والأمر للإباحة. {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}: ابتغوا: اطلبوا. و {مَا كَتَبَ اللَّهُ}: ما قضى به وقسمه، وأقرب ما يفسر به: الولد. وهذا مشعر بأن النكاح شرع ليُبْتغى به النسل؛ حتى يتحقق ما يريده الله من بقاء النوع الإنساني. وإذا أضيف إلى النسل قضاء الشهوة، فلأن قضاءها قد يُبتغى للتعفّف عن الحرام، فيصح أن يدخل في معنى: {مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}. {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}: {الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}: أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره، و {الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}: ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة الليل. وجاء في الروايات الصحيحة: أن قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} تأخر نزوله عن الجمل السابقة له، في "الصحيحين" من حديث سهل بن سعد، قال: "أُنزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، ولم ينزل: "من الفجر"، فكان رجال إذا أرادوا الصوم، ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أنه يعني: الليل والنهار". وورد في الصحيح عن عدي بن حاتم، قال: لما نزلت هذه الآية، عمدت إلى عقالين لي أسود وأبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، وجعلت

أنظر في الليل إليهما، فلا يتبين لي، فعمدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك، فقال: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار"، ونزل قوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ}. ولما جعلت الآية طلوع الفجر غاية لإباحة المفطرات التي من جملتها المباشرة، دلت على أن الإنسان إذا مضى عليه وقت من النهار وهو جنب، كان صومه صحيحاً. {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}: الأمر بإتمام الصيام إلى الليل ينبئ بأن الصوم ينتهي عند غروب الشمس، وأن الليل ليس بوقت الصيام، فمن واصل الإمساك عن المفطرات في الليل، فلا ثواب له على هذا الإمساك؛ لأنه لم يقع في الوقت الذي رسمه الشارع لعبادة الصوم، بل يعدُّ هذا المواصل فاعلاً لمحظور، فلا بد للصائم من تناول شيء من المفطرات بعد الغروب، ولو شيئاً قليلاً من الماء. وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الوصال -وهو أن يصوم الشخص اليوم وما بعده من غير أن يتناول مفطراً في الليل الفاصل بينهما-، فقيل: يا رسول الله! إنك تواصل، فقال: "إني لست مثلكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني". {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}: الاعتكاف في اللغة: اللبث واللزوم. وفي عرف الشارع: لبث الرجل في المسجد مدة يقصرها على العبادة، ولا يخرج منه إلا لما تدعو إليه حاجة الإنسان مما يوجب إعادة الطهارة. ومن شروطه: الصوم، أو من سننه. ولما أطلق في الجملة السابقة الإذن في مباشرة النساء ليلة الصيام،

كان ذلك الإطلاق مظنة لأن يراد منه إباحة المباشرة للصائم في جميع الأحوال والأماكن، فخُصَّ من سائر الأحوال: الاعتكافُ، ومن الأماكن: المساجد، فقال: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}: المشار إليه: الأحكام المقررة فيما سبق؛ من إيجاب وتحريم. والحد في اللغة: الحاجز بين الشيئين المتقابلين؛ ليمنع من دخول أحدهما في الآخر. وسميت الأحكام حدوداً؛ لأنها تحجز بين الحق والباطل. والآيهَ واردة مورد النهي عن مخالفة تلك الأحكام. ومعنى: لا تقربوها: لا تأتوها بالمخالفة. ودل على النهي عن مخالفتها بالنهي عن قربها؛ مبالغة في التحذير من مخالفتها؛ لأن النهي عن القرب من الشيء نهي عن إتيانه نفسه بالأحرى. والآية تنبه بقولها: {فَلَا تَقْرَبُوهَا}؛ لاجتناب ما فيه شبهة، وترشد إلى ترك الأشياء التي تفضي في غالب أمرها إلى الوقوع في حرام. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}: المعنى: مثل ذلك البيان الذي بَيَّن الله به الحدود المنهيَّ عن قربها بالمخالفة، يبين آياته؛ أي: أدلته للناس وحججه؛ لكي يتقوا حدوده فيما أمر به، أو نهى عنه، أو أباحه. {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}: لا تأكلوا: لا تأخذوا. والمعنى: لا يأخذ بعضكم مال بعض، ويستولي عليه بغير حق. وعبر عن الأخذ بالأكل؛ لأن الأكل أهم وسائل الحياة، وفيه تصرف الأموال غالباً. وهذه الآية أصل من الأصول التي يقوم عليه إصلاح المعاملات، وقد دلت على حرمة أكل أموال الناس بالباطل على وجه الإجمال،

وفصلت نصوص أخرى وأدلة وجوهَ أكل الأموال بالباطل؛ مثل: الغصب، والسرقة، والقمار، والربا، إلى ما هو مفصل في كتب الأحكام من المعاملات التي لا تختلف أنظار المجتهدين الراسخين في تحريمها. {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: {وَتُدْلُوا}: معطوف على: {وَلَا تَأْكُلُوا}، والإدلاء في الأصل: إرسال الدلو في البئر، ويستعمل في معنى الدفع والإلقاء. وعلى هذا المعنى يفهم قوله تعالى في الآية: {وَتُدْلُوا بِهَا}. و {الْحُكَّامِ}: جمع حاكم، وهو الذي يفصل بين الخصمين. والفريق: القطعة المعزولة من جملة الشيء. والإثم: الفعل الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب. ومعنى الإدلاء بالأموال إلى الحكام: إلقاء أمرها، أي: حكومتها وخصومتها إلى القضاة؛ لتأخذوا من طريق الحكم قطعة من أموال غيركم -أعني: خصومكم- بما يوجب إثماً؛ كشهادة الزور، واليمين الفاجرة، أو تأخذوها متلبسين بالإثم في حال كونكم تعلمون أنكم على باطل. وإتيان الباطل مع العلم بأنه باطل أدعى إلى التوبيخ من إتيانه على جهالة به. وحُكْم الحاكم على ما يقتضيه الظاهر من أمر القضية لا يُحل في الواقع حراماً، ولا يُحرم حلالاً. ومن المحتمل القريب أن يفهم من نظم الآية: تحريم إعطاء مال للحاكم على وجه الرشوة. والمعنى: ولا تدلوا بأموالكم -أي: بعضها- إلى الحكام؛ لتتوصلوا بأحكامكم الجائرة إلى أكل فريق من أموال الناس بغير حق.

ولا غرابة في أن يعنى القرآن الكريم في سياسته الرشيدة بالتحذير من جريمة الرشوة؛ فإنها المعول الذي يهدم صرح العدل من أساسه، وبها تفقد مجالس القضاء حرمتها، ولا يبقى للجالسين على كراسيها كرامة. وللرشوة شَبَه بالسرقة؛ لأنها تؤخذ من يد مالكها خفية. وشبه بالغصب؛ لأنها تؤخذ منه تحت سلطان القضاء.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 189 - 193]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ}: بيّن تعالى في الآيات السابقة أحكاماً عملية، منها: صيام شهر رمضان، وهو -أي: الصيام- يتضمن النهي عن كل الطعام في أيام ذلك الشهر، ولو كان المأكول حلالاً، ومن راض نفسه عن الامتناع من أكل الحلال في نحو ثلاثين يوماً نهاراً من السنة، صار مستعداً لأن يمتثل النهي عن أكل الحرام في جميع حياته، فكان المقام بعد ذكر شرع الصيام مناسباً للنهي عن كل المال بغير حق في جميع أيام الحياة، فقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني عشر من السنة الرابعة.

ثم إن حديث الصيام اتصل بشرط رؤية الهلال، وهذا ما يحرك في النفوس خاطر السؤال عن الأهلة، فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ}. {الْأَهِلَّةِ}: جمع هلال، وهو الكوكب الذي يطلع في أوائل كل شهر، ويسمى: هلالاً ثلاث ليال، أو سبع ليال؛ حيث يغلب ضوءه على ظلام الليل، ثم يسمى: قمراً إلى أن يعود من الشهر الثاني. ودلت الجملة على أن طائفة من الناس سألوا عن حال من أحوال الأهلة، وورد في بعض الروايات أن السائلين هم اليهود، وأنهم سألوا عن الحكمة من خلقها، وهذا ما يطابقه الجواب عن سؤالهم حيث وقع ببيان الحكمة فقال تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}: المواقيت: جمع ميقات، وهو وقت يقدر لعمل من الأعمال، فالأهلة معالم يوقِّت بها الناس صومهم، وزكاتهم، وحجهم، وعِدد نسائهم، ومُدد حملهن، ومدة الرضاع، وغير ذلك من آجالهم في تصرفاتهم المالية. وخص الحج بالذكر، مع أن الأهلة مواقيت لعبادات أخرى؛ كالصوم والزكاة، إيماء إلى أن الحج مقصور على الميقات الذي عينه الله تعالى له، وأنه لا يجوز نقله إلى شهر آخر كما كانت العرب تفعل؛ إذ كانوا ينقلون ما شاؤوا من الأشهر الحرم الأربعة -التي من جملتها ذو الحجة- إلى شهر آخر غير حرام، وهو النسيء المشار إليه بقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]. وخص الشارع المواقيت بالأهلة وأشهُرِها، دون الشمس وأشهُرِها؛ لأن الأشهر الهلالية تعرف برؤية الهلال ومحاقه، وذلك ما لا يخفى على أحد من الخاصة والعامة أينما كانوا؛ بخلاف الأشهر الشمسية، فإن معرفتها تنبني

على النظر في حركات الفلك، وهي لا تتيسر إلا للعارفين بدقائق علم الهيئة. وورد في سبب نزول الآية رواية أخرى ضعيفة تتضمن أن بعض الصحابة سألوا عن سبب تزايد الهلال في أول الشهر، وتناقصه في آخره، فأجيبوا ببيان حكمة خلقها: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، ومقتضى هذه الرواية وورود الجواب ببيان حكمة خلق الأهلة، لا ببيان المسؤول عنه، وهو سبب اختلافها بالتزايد والتناقص: أن تكون الآية من قبيل ما يسميه علماء البلاغة: "الأسلوب الحكيم"، فكأن المسؤول يقول للسائل: كان الأولى بك أن تسأل عن هذا الحال الذي أجبتك به، وهو في الآية حكمة خلق الأهلة، لا عن الحال الذي سألت عنه، وهو سبب تزايدها في أول الشهر، وتناقصها في آخره. {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}: لما ذكر في الآية السابقة أن الأهلة مواقيت للحج، صح أن يوصل ذلك بإنكار عادة جرى عليها الأنصار في حجهم، فقال تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}، هذه العادة، كما روي في سبب نزول الآية: أن الأنصار كانوا إذا أحرم الرجل منهم في الجاهلية، لم يدخل بيتاً من بابه، بل كان يدخل من نقب في ظهره، أو يتخذ سلماً يصعد فيه، فقيل لهم: ليس البر بتحرجكم من إتيان المنازل من أبوابها. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى}: تقدم أن البر اسم لخصال من الخير فُصلت في قوله تعالى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ} [البقرة: 177] الآية. ولما كان معنى التقوى حاملاً لتلك الخصال السنية، اكتفى بذكرها هنا في بيان معنى

البر، فقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى}، فالبر نفس التقوى. وأخبر عنه بمن يوصف بالتقوى، فقال: {مَنِ اتَّقَى}، وقد تقدم أنه أسلوب معروف في كلام البلغاء؛ إذ يحذفون المضاف -الذي هو الخبر في المعنى- متى قام عليه دليل، وهو هنا الوصف الذي يحمله قوله: {مَنِ اتَّقَى}، والمعنى: ولكن البر تقوى من اتقى. {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}: تضمنت الجملة السابقة أن إتيان البيوت من ظهورها ليس من البر، وبقي محتملاً لأن يكون من المباح الذي لا حرج فيه، فقال تعالى آمراً بالكف عنه، ومرشداً إلى أنه ليس بجائز: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}. والأمر بإتيان البيوت من أبوابها يقتضي أن إتيانها من ظهورها باسم الدين غير مأذون فيه، وكل ما يفعل باسم الدين، وليس له في الدين من شاهد، فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة. {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: هذا أمر بالتقوى التي تتضمن القيام بجميع الواجبات، واجتناب البدع والمنكرات، فالمعنى: افعلوا ما أمركم الله به، واجتنبوا ما نهاكم عنه؛ لتكونوا من المفلحين، وهم الفائزون بالحياة المطمئنة في الدنيا، والنعيم الخالد في الآخرة. {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}: أمر بالتقوى، ثم عطف على ذلك الأمر بعمل من أجلِّ مظاهرها، وأعزِّ ما تبذل النفوس في التقرب به إليه تعالى، وهو الجهاد، فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وهذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة. والمقاتلة

كالقتال: محاولة الرجل قتلَ من يحاول قتله. وسبيل الله: دينه. والمقاتلة في سبيل الله: الجهاد لإعلاء كلمته؛ حتى يكون أهل دينه الحق أعزاء، لا يسومهم أعداؤه ضيماً، وأحراراً في الدعوة إليه، وإقامة شرائعه العادلة في ظل سلطان مهيب. {وَلَا تَعْتَدُوا}: الاعتداء: مجاوزة الحد فيما أمر الله به، أو نهى عنه. والمعنى: وقاتلوا لإعلاء كلمة الله من يناصبكم القتال من المخالفين، ولا تتجاوزوا في قتالهم إلى من ليس شأنهم قتالكم؛ كنسائهم، وصبيانهم، ورهبانهم، وشيوخهم الطاعنين في السن إلى حد الهرم، ويلحق بهؤلاء: المريض، والمقعد، والأعمى، والمجنون. وقد وردت بالنهي عن قتل هؤلاء الأحاديث النبوية، ووصايا الخلفاء الراشدين لقواد جيوشهم، فهؤلاء يتجنب قتلهم، إلا من قامت الشواهد على أن له أثراً من رأي أو عمل في الحرب يؤازر به المحاربين لينتصروا على المجاهدين. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}: هذا كالتعليل للنهي عن مجاوزة ما حده الله في قتال المخالفين. ومحبة الله لعباده: صفة من صفاته تعالى، من أثرها: الرعاية، والإنعام. وإذا نفى الله محبته لطائفة، فهو كناية عن بغضه لهم، واستحقاقهم لعقوبته. {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}: الضمير في قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ} عائد إلى قوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، و {ثَقِفْتُمُوهُمْ}: أدركتموهم، وظفرتم بهم. والمعنى: واقتلوا الذين ينا صبونكم القتال في أي مكان لقيتموهم فيه من حِلّ أو حَرَم.

{وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}: حيث: ظرف مكان. والمكان الذي أخرجوهم منه: مكة؛ فإن المشركين من قريش اشتدوا في أذية المسلمين حتى ألجؤوهم إلى الخروج منها بالهجرة إلى الحبشة أولاً، ثم إلى المدينة ثانياً. والمعنى: أخرجوهم من مكة التي أخرجوكم منها. {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}: الفتنة: الابتلاء والامتحان والعذاب، والصرف عن الشيء، وكثر استعمالها في التضليل والصد عن الدين، ثم على الكفر. وهي في هذه الجملة ظاهرة في معنى ما عرف به المشركون من الصد عن الدين، وإيذاء من يتقبله. والمعنى: لا تبالوا قتلهم حيث أدركتموهم؛ فإن فتنتهم للمؤمنين أشد ضرراً من قتلكم لهم. {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ}: أذن الله للمؤمنين في قتل الذين يناجزونهم القتال؛ دفعاً لشرهم أينما وجدوا. وجاءت هذه الجملة لاستئناء المسجد الحرام من المواطن التي يجدونهم فيها؛ مراعاة لحرمته، ما لم يفاتحوا المؤمنين فيه بالقتال، فإن فاتحوهم بالقتال فيه، كان دفع شرهم بالقتل أرجح من الكف عنهم، وذلك ما يدل عليه في صراحة قوله تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ}. والمعنى: فإن بدؤوكم بالقتال عند المسجد الحرام، فلا حرج عليكم في قتلهم عنده؛ فإن المنتهك لحرمة المسجد إنما هو البادئ بالقتال فيه، لا المدافع له. {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}: اسم الإشارة (ذلك) عائد إلى قتل المقاتلين أينما وجدوا. والجزاء:

ما يقع في مقابلة إحسان أو إساءة، فيطلق على ما يثاب به المحسن، وعلى ما يعاقب به المسيء، وهو معنى الجزاء هنا. وفي هذا تنبيه على أن قتل المقاتلين غير خاص بمن فاتحوا المؤمنين بالقتال من كفار قريش، بل هو جزاء لكل من يفعل فعلهم من المخالفين. {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: مساق حديث هذه الآية: الكافرون المقاتلون للمسلمين، فيكون معنى هذه الجملة المتفرعة عن حديثهم: فإن انتهوا عن الشرك، ومقاتلتكم، فكفوا عنهم، ولا تتعرضوا لهم؛ فإن الله غفور رحيم. وكل من تاب من كفر أو معصية، فشأن الله معه أن يغفر له ويرحمه. {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}: الضمير (هم) عائد على الذين يقاتلوننا. والفتنة: المحنة والعذاب والاضطهاد. والمعنى: قاتلوا أولئك المحاربين حتى تكسروا شوكتهم، ولا يستطيعوا أن يفتنوا طائفة من أهل الدين الحق، بصدهم عن دينهم، ومنعهم من الدعوة إليه، وإخراجهم من ديارهم، أو التغلب على حق من حقوقهم. والآية تحذر المؤمنين من أن يستسلموا لمن يحاربونهم، ويقعدوا عن قتالهم كراهة للموت، أو جهلاً بسوء المنقلب الذي ينقلب إليه الواقعون تحت سلطان أعدائهم المستبدين. {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}: الدين في اللغة: العادة والطاعة، ثم استعمل فيما يتعبَّد به الله، صحيحاً كان أم باطلاً. والدين الصحيح: ما شرع الله لعباده على لسان الأنبياء؛ ليتوصلوا به إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل. ومعنى كون الدين لله: أن

يكون الدين الظاهر هو دين الله. وقد تم هذا بقتال المسلمين للمشركين، فلم يلتحق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى حتى كان الدين الظاهر في جزيرة العرب ما كان طاعة وعبادة لئه. {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}: العدوان في أصل اللغة: الاعتداء والظلم الذي هو من الأفعال المحرمة، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وهو بهذا المعنى لا يجوز ارتكابه مع أحد، ولو كان ظالماً، ولكن الآية قالت: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}، فظاهرها إباحة الاعتداء على الظالمين. وتزاح هذه الشبهة من طريق فهم الآية أنها جرت على ما يجري في كلام البلغاء من تسمية جزاء الظلم والاعتداء: ظلماً واعتداء؛ لاتحادهما، أو تشابههما في الصورة. ومما ورد من أقوالهم في هذا المعنى قولهم: "ظلمني فلان، فظلمته". وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، فالاعتداء في قوله: {فَاعْتَدُوا} يراد منه: جزاء الاعتداء، فالعدوان في الآية يراد منه القتل حيث يرتكب جزاء للمقاتلين. والمعنى: فإن انتهوا عن قتالكم، فقد انتفى عنهم وصف الظلم، فكفوا عن قتلهم، فإن قتلتموهم بعد انتهائهم عن مقاتلتكم، فقد ارتكبتم معهم ما لا يرتكب إلا جزاء للظالمين.

تفسير آيات من سورة البقرة

تَفْسِيرُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}: ذكر الله تعالى في صدر هذه السورة فِرَقَ من بلغتهم دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم: المؤمنون المخلصون، المشار إليهم بقوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 2 - 3]، والكافرون المجاهرون بالكفر، المشار إليهم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، والمنافقون، وهم الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، المشار إليهم بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]. وبعد أن وصف الله تعالى هذه الفرق، ودل على عاقبة كل فريق منهم، ¬

_ (¬1) ملخص درس من دروس التفسير التي كان يلقيها الإمام في دار جمعية الهداية الإسلامية بالقاهرة. وقد نشر في مجلة "الهداية الإسلامية" -الجزء الثاني عشر من المجلد الثالث عشر.

أقبل عليهم مخاطباً لهم بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فخطاب الأمر بالعبادة متوجه إلى الفرق الثلاث، أما الكافرون والمنافقون، فعلى معنى أمرهم بأداء العبادة، والمنافقون -وإن أدوا بعض العبادات- فإنهم يؤدونها خالية من شرط صحتها الذي هو قصد امتثال أمر الله تعالى، وأما المؤمنون، فأمرهم بالعبادة على معنى طلب ازديادهم منها، ومداومتهم عليها. والخطاب يتناول الموجودين في هذه الفرق وقت نزول الآية، ومن سيوجد منهم إلى قيام الساعة، وخطاب الشارع -على هذا الوجه من العموم- معلوم من الدين بالضرورة. ويصح جعل الخطاب في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} موجهاً إلى الكافرين خاصة، ويؤيده أن قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}، وقولى تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} إنما يليق بالمنكرين، ولكن إيراد الخطاب شاملاً لأقوام، ثم الانتقال بعد إلى خطاب فريق منهم، أسلوب مألوف في أساليب بلاغة اللغة العربية. والعبادة الصحيحة ما تحقق فيها شرطان: قصد امتثال أمر الله تعالى، وموافقتها للهيئة المأخوذة عن الشارع، فالعبادة التي لا يقصد بها امتثال أمر الله، أو تفعل على وجه مبتدع، عبادة مردودة على وجه صاحبها. وأورد الأمر بالعبادة في صيغة الخطاب المقرون بالنداء؛ اهتماماً بأمر العبادة، وتفخيماً لشأنها؛ ذلك أن صيغة الخطاب المصدر بالنداء، يهز داعية المخاطبين إلى استماع الكلام أكثر مما يهزها صيغة الغيبة، أو صيغة الخطاب من غير نداء.

والعبادة جديرة بالاهتمام وتفخيم الشأن؛ إذ للعبادة خلق الجن والإنس، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وفي قوله تعالى: {رَبَّكُمُ} تقوية لداعية امتثال الأمر، وتنبيه على أظهر شيء يدعوهم إلى أن يتوجهوا إليه بالعبادة، ويخصوه بها، وهو نعمة الربوبية. {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}: أمر الله تعال بعبادته، وأتبع الأمر بما يدل على وجوده، وهو خَلق المخاطَبين، وخلق من قبلهم، والخلق: إيجاد الجواهر، وهو بهذا المعنى لا يوصف به إلا الله تعالى، ولا يصح إطلاقه على غيره بحال، ويقال بمعنى: التقدير والتسوية، وهذا المعنى يجوز نسبته إلى غير الله تعالى؛ كما وصف عيسى - عليه السلام - في قوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة: 110]. وقدم وصفه بخلق المخاطبين على وصفه بخلق من قبلهم، وكان مقتضى الترتيب الزمني أن يقال: "الذين من قبلكم، وخلقكم" ذلك أن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهرُ من علمه بأحوال غيره. وللقرآن المجيد في الاستدلال على وجود الخالق تعالى طريقان: طريق الاختراع، وهو الاستدلال بما أبدعه - جل شأنه - من المخلوقات؛ مثل: إيجاد الحياة في الجماد، وطريق العناية بالإنسان، ويرجع هذا الطريق إلى موافقة وجود المخلوقات لوجود الإنسان؛ أي: إن خلقها كان لمنفعته؛ كما قال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: ترد (لعل) في كلام العرب لرجاء المتكلم، وهو ارتقابه الشيء المحبوب،

أو إشفاقه؛ وهو ارتقابه الأمر المكروه، وكلا المعنيين مستحيل في حق علام الغيوب؛ فإن كلاً من الرجاء والإشفاق يكون عند تردد الشيء بين الوقوع وعدم الوقوع، إلا أن وقوعه هو الراجح في رأي المتكلم، ومن هنا قال بعض المفسرين: إن (لعل) في كلام الله تعالى لتحقيق ما يجيء بعدها، وهذا المعنى لا يجري في قوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]؛ فإن فرعون لم يتذكر، ولم يخش من دعوة موسى - عليه السلام - , والأقرب أن يقال: إن الترجي في الآية التي نحن بصدد تفسيرها مصروف إلى المخاطبين؛ كآية: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ}، والمعنى: اعبدوا ربكم راجين أن تكونوا أتقياء، والتقوى: بلوغ أقصى درجات العبادة. {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا}: الفراش في الأصل: مصدر فرش؛ أي: بسط، واستعمل هنا بمعنى اسم المفعول؛ أي: المفروش. والمعنى: بسط لكم الأرض، وذللها لكم حتى صارت صالحة للاستقرار عليها، والتقلب في مناكبها، والتصرف فيها بنحو الزراعة التي هي أصل المعاش. وهذا من قبيل الاستدلال بطريق العناية؛ فقد دل على أنه خلق الأرض على حال توافق مصلحة الإنسان، يشير إلى هذا قوله: {جَعَلَ لَكُمُ}. وكون الأرض فراشاً؛ أي: مبسوطة، لا ينافي كونها على شكل كرة؛ لأن الكرة التي يعظم حجمها، تكون كل قطعة منها كالسطح، يتيسر الاستقرار عليه، والارتفاق به. {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}: البناء في الأصل: مصدر بنى، ويستعمل بمعنى: المبني؛ كما ورد

في هذه الآية، والمعنى: جعل السماء مبنية كالقبة المضروبة فوقكم، وفي هذا تنبيه لما يرونه عند النظر إلى السماء من بديع الكواكب السيارة والثابتة، ثم ينتقلون منها إلى ما يتصل بهذه الأجرام من منافع أنوارها، والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، وفوائد اختلاف الليل والنهار، ونحو ذلك. وهذا وجه إلحاقها بطريق الاستدلال بالعناية. وقدَّم الأرض على السماء؛ لأنها أقرب إلى الإنسان من السماء، ولأن الإنسان بحال الأرض أعرف منه بحال السماء؛ لأن أول ما يحتاج إليه بعد الخلق المستقرُّ، وهو الأرض. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}: يصح حمل السماء في الآية على معنى: السحاب؛ فقد قال علماء اللغة: كل ما علاك فهو سماء، فليست الآية منافية لما عرف من أن المطر يتولد من السحاب على الوجه المشار إليه بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [النور: 43]. {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}: {الثَّمَرَاتِ}: جمع ثمرة، وهي ما يتطعم من أحمال الشجر والنجم، وهو ما لا ساق له من النبات، والباء في قوله: {بِهِ} للسببية. و {مِنَ} في قوله: {مِنَ الثَّمَرَاتِ} للتبعيض، والمعنى: فأخرج بالماء بعض الثمرات رزقاً لكم. وقد أودع الله سبحانه في الماء خاصية كان بها سبباً لتغذية النبات ونموه، ومتى شاء -جل شأنه- نزَعْ هذه الخاصية من الماء، انتفت عنه سببية التغذية والتنمية.

وهذا أيضاً من قبيل الاستدلال بالعناية؛ إذ دل على أنه أنزل من السماء ماء؛ ليخرج به ثمرات تكون رزقاً للإنسان. {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: الأنداد: جمع ند، والند: المماثل المكافئ، وفسر في الآية بمعنى: الشريك، فكل من عظَّم مخلوقاً التعظيمَ الذي لا يليق إلا بالله تعالى، فقد اتخذ ذلك المخلوق نِدّاً لله، وتتناول الآية مشركي العرب؛ لعبادتهم الأصنام، والصابئين؛ لعبادتهم الكواكب، والمجوس؛ لعبادتهم النار، والنصارى؛ لتعظيمهم المسيح - عليه السلام - تعظيماً لا يحق إلا لله. وممن يجعلون لله أنداداً: أولئك الفرق الضالة الذين يعتقدون إلهية زعمائهم؛ كطائفة البهائية الذين يعتقدون إلهية زعيم مذهبهم. ومن واجب دعاة الإصلاح: أن يراقبوا أحوال من يزورون قبور الصالحين، حتى إذا أحسوا من زائرٍ المبالغةَ في تعظيم صاحب القبر؛ كالانحناء أمامه في هيئة الراكع أو الساجد، نبهوه برفق، وأنقذوه من الوقوع في اعتقاد أن الولي يملك لنفسه أو لغيره نفعاً أو ضراً، وأعادوه إلى ما يوافق التوحيد الخالص؛ من أن النفع والضر من طريق غيبي إنما هو بيد الله الذي بيده ملكوت كل شيء. والواو في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} للحال، والمعنى: فلا تجعلوا لله شركاء في حال أنكم من أهل العلم، ونسب العلم إلى أولئك المشركين؛ لأنهم كانوا يعرفون جانباً من دقائق أمور الدنيا، وغوامض أحوالها. وفطنة العرب ودهاؤهم مما تشهد به أشعارهم وخطبهم وبعض محاوراتهم.

ويصح أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون أنه لا ند له؛ فإن من المشركين مَنْ كانوا يعتقدون بوجود الإله الحق، ويعبدون مع ذلك الأصنام بزعم أنها تقربهم إليه زلفى، وهم المشار إليهم بقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]. وعلى كلا الوجهين يكون قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تأكيداً للتوبيخ على اتخاذ الأنداد لله؛ فإن من يأتي الباطل، ومعه من العلم ما شأنه أن يمنعه من إتيانه، أو يأتي الباطل وهو يعلم بطلانه، يكون أسخف عقلاً، وأحط منزلة ممن يأتيه وهو معدود فيمن شأنهم الجهل بدقائق الأمور، أو الجهل بأن ما أتاه باطل، ومن هنا كانت زلة العالم أقبح من زلة الجاهل، وتناول الألسنة له بالإنكار على مخالفة أمر الله أشدّ من إنكارها على من يخالف أمر الله، وشأنه الجهل بالمخالفة، أو بالعواقب التي يصير إليها المخالفون عن أمر الله.

تفسير آيات من سورة البقرة

تَفْسِيْرُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 119 - 120]. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لما أودع في قلبه من الرحمة- شديدَ الحرص على قبول الناس لدعوته، دايمانهم بالحق الذي بعث به، حتى إذا لقي من المدعوين قلوباً نافرة، وأسماعاً غير واعية، ضاق صدره، واشتد حزنه، فكان فيما ينزل عليه من القرآن المجيد آيات لتسليته، والترويح عن نفسه، ومن هذه الآيات: آيات يذكره الله فيها بأنه هو رسول، وما على الرسول إلا البلاغ؛ أي: إنه غير مسؤول عن الناس إذا لم يؤمنوا برسالته، وشأن ذلك الحزن البالغ أن يعتري من كلف بأمر، فلم يقض ما أمر به، وعلى هذا الوجه من التذكير ورد قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}: (الحق) في الأصل: الحكم الصادق: ويطلق على الدين؛ لاشتماله على الأحكام الصادقة، فيفسر الحق في هذه الآية بالدين الذي هو الإسلام. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الحادي عشر.

و {بَشِيرًا}: من البشارة، وهي الخبر السار الصادق الذي لا علم للمخبر به من قبل. و {وَنَذِيرًا}: من النذارة، وهي الإعلام بالشيء، والتحذير منه، والمعنى: إنا أرسلناك بالدين الحق؛ لتبشر من أطاع بالنعيم المقيم، وتنذر من عصى بالعذاب المهين. وقدم وصف التبشير على وصف الإنذار؛ لأن التبشير أقرب إلى طبيعة الدعوة المحمدية من الإنذار؛ ذلك أن مع الرسول - صلوات الله عليه - حججاً قاطعة، شأنها أن تأخذ بالقلوب، فلا تحتاج إلى الإنذار، وإنما تحتاج إلى التبشير؛ لزيادة اطمئنانها، وإذا لم يُجب أقوام دعوته، فقد جاؤوا على خلاف ما تقتضيه حال الدعوة المحمدية من الإنذار؛ ذلك أن مع الرسول - صلوات الله عليه - حججاً، وأخذت من النفوس المأخذ الذي يناسب قوة دلائلها، أما الإنذار، فإنما يحتاج إليه في حال يقف فيه دون الدعوة جهل غليظ، أو عناد شديد. ثم إن التبشير أقرب إلى القصد من الرسالة؛ لأنه يتعلق بما هو رحمة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أرسل رحمة للعالمين، وأما الإنذار، فيتعلق بما هو عذاب، والعذاب غير مقصود من الرسالة، إنما يقع جزاء لمن استكبر عنها، ولم تبلغ منه قصدها. واقتصار الآية على وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبشارة والنذارة لا ينفي أن يكون من مقاصد رسالته التي يسأل عنها أحكام المعاملات والجنايات التي قررتها شريعته الغراء؛ لأن شدة حزنه على أولئك الطوائف المصرين على كفرهم، هو حال من يعتقد أنه مسؤول عن عدم إيمانهم، فاقتضى هذا الحال أن يذكر بأن واجبه إنما هو القيام بالوسائل الموصلة إلى الإيمان، والباعثة على

العمل الصالح من بيان الحق والبشارة والنذارة، أما نفس إيمان المدعوين، أوطاعتهم، فغير داخل في واجبات رسالته. وقوله تعالى: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}: قرئ (تسأل) بصيغة المبني للمجهول، وحرف (لا) للنفي، والمعنى: أنك لست مسؤولاً عمن بلغتهم الرسالة، وأقمت عليهم الحجة إذا لم يؤمنوا، وقرئ بصيغة المبني للفاعل، وحرف (لا) للنهي، وفي الآيات على هذه القراءة تهويل لعقوبة الكافرين، والنهي عن السؤال عن شخص أو أشخاص، أسلوب معروف في كلام العرب يشيرون به إلى أن حال المنهي عن السؤال عنه بالغة في الفظاعة حيث لا يستطيع السامع أن يسمع حديثها، أو لا يستطيع المخبر أن يجريه على لسانه. و {الْجَحِيمِ}: النار إذا شب وقودها، وقال: {أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}، ولم يقل: الكافرين؛ ليدل على جزاء كفرهم، وهو عذاب الجحيم يتقلبون فيه المرة بعد المرة على ما يقتضيه معنى الصحبة. {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}: كان - صلى الله عليه وسلم - يلاطف طوائف من اليهود والنصارى؛ حرصاً على دخولهم في الإسلام، فأخبره الله، وهو علام الغيوب: أنهم مصرون على كفرهم، ولا يرجى منهم الرضا عنه في حال، وجاء الإخبار عن إصرارهم في أقوى وجه من وجوه المبالغة؛ إذ سد كل طريق من طرق رضاهم عن النبىِ - صلى الله عليه وسلم -، إلا طريقاً واحداً هو اتباعه لملتهم، وهذا الطريق نفسه يستحيل من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم منه، فالآية أفادت أنهم مصرون على الكفر إصراراً لا يرجى لهم الرجوع عنه، حتى لا يجهد النبي - صلوات الله عليه - نفسه في دعوتهم، أو

يقضي وقتاً في ملاطفتهم. وإذا كانت الآية واردة في فريق من اليهود والنصارى أصروا على كفرهم عناداً، ولم تفد الحجة والملاطفة في دعوتهم، لم يرد على الآية أن فريقاً من اليهود والنصارى قد دخلوا في الإسلام، ورضوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن يتبع ملتهم، ومن الخطأ أن يقوم رجل بدعوة طوائف من اليهود أو النصارى إلى الدين الحنيف، فيقول له قائل يريد تثبيطه عن الدعوة: إنما تجد نفسك في عبث، ويتلو عليه هذه الآية. وتقديم اليهود على النصارى في هذه الآية؛ لتقدم اليهودية على النصرانية في الظهور، ولأن اليهود كانوا أشد عداوة للمؤمنين، وأبعد قلوباً من الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحرص على إيذائه وإيذاء من آمن برسالته. وأضاف الملة إلى اليهود والنصارى مفردة، مع أن لكل فريق ملة؛ تنزيلاً للملتين منزلة واحدة؛ لاشتراكهما في الوجه الذي نهى الله عن اتباعهما من أجله، وهو الاشتمال على ما لا يسمى هداية، ولا يدني المتعلق به إلى سعادة. وهذا الذي أخبر به القرآن الكريم عن اليهود والنصارى، إما أنهم كانوا يضمرونه في نفوسهم، وإما أنهم كانوا يقولونه بألسنتهم، وعلى أي حال كان، يستدعي جواباً، وقد أرشد الله نبيه الكريم إلى الجواب بقوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}: هدى الله: هو الإسلام، وقد دلت الآية على أن الإسلام هدى، وأن غيره من الملل ليس بهدى، دلت على هذين المعنيين بإيراد المسند الذي هو كلمة {الْهُدَى} معرفة، ثم بوضع ضمير الفصل بينه وبين المسند إليه الذي

هو {هُدَى اللَّهِ}؛ فإن هذا الأسلوب يفيد قصر المسند الذي هو {الْهُدَى} على المسند إليه الذي فسرناه بالإسلام. والمعنى: أن الهدى مختص بالإسلام، لا يتعداه إلى غيره من الملل. أما أن الإسلام هدى، فإنه يدعو إلى الخير دعوة حكيمة جامعة؛ كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]؛ أي: تبياناً لكل ما تكمل به النفوس البشرية، وتصل به إلى سعادتها في الدنيا والآخرة، وأما أن غيره من الملل ليس بهدى، فلما دخلها من التحريف، وما أضيف إليها من الاراء الصادرة عن الهوى. {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}: الأهواء: جمع هوى، وهو في الأصل: ميل النفس إلى ما تلذه من خير وشر، ومن استعماله في الخير قول عائشة -رضي الله عنها- للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أرى ربك إلا يسارع في هواك"؛ أي: رضاك، وكثرة استعمال الهوى في ميل النفس المذموم، ويدخل في هذا القبيل: كل هوى ينشأ عنه رأي أو قول لا يوافق العلم الصحيح، وأهواء أهل الكتاب التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتباعها: آراؤهم، وأقوالهم الصادرة عن الهوى، والعلم الذي يمنع من اتباع أهواء المخالفين: ما أخذ من طريق الوحي مباشرة، أو أخذ من طريق النظر في الأدلة التي نصبها الشارع للعقول. وقوله: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} نفي لأن يكون الله ولياً له أو ناصراً على تقدير أن يتبع هذه الأهواء، وولاية الله للرسول أو غيره من المؤمنين: رعايته له، وتوفيقه إياه لما فيه الخير، ونصره إياه: تأييد جانبه،

وكف أيدي المعتدين عنه؛ حتى يفوز بالسلامة منهم، والظهور عليهم. واستعملت (إن) للشرط في قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ}؛ لأنها تستعمل كـ (لو) لفرض وقوع فعل الشرط، ولو مع القطع بعدم وقوعه، وكذلك اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهواء اليهود والنصارى غير محتمل الوقوع، وإنما ذكر على وجه الفرض، وبني عليه ذلك الوعيد البالغ؛ ليزداد - عليه الصلاة والسلام - في الاحتراس من آرائهم قوة؛ كما قال تعالى في آية أخرى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]. وفي توجيه الخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إشعاراً بأنه -وهو صاحب تلك المكانة العليا، والأعمال الصالحة التي تملأ ليله ونهاره- لو اتبع أهواء اليهود والنصارى، لفقد الولاية والنصر من الله، فغيره من الناس أحرى بأن يجازى بالحرمان من تلك النعمتين العظيمتين إذا تعلق بآراء المخالفين دون ما قضى به الله، ومن فاتته ولاية الله وتأييده، عاش في الدنيا مضطرب القلب، منكود الحياة، واذا قضى نحبه، فإلى هون وعذاب. ويفهم من الآية بعد هذا أن من عمل على مقتضى العلم المستند إلى هداية الله، ونبذ آراء المخالفين التي لا توافق هذا العلم، فإنه يظفر بولايه الله الضافية، ونصره العزيز، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].

تفسير آيات من سورة آل عمران

تَفْسِيْرُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 52 - 55]. {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ}: الضمير في قوله: {مِنْهُمُ} هو عائد إلى بني إسرائيل المشار إليهم في الآية السابقة بقوله: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 49]. والإحساس في الأصل: الإدراك بإحدى الحواس الخمس، واستعمل هنا في العلم على وجه المجاز؛ إذ العلم لازم للإدراك بإحدى الحواس. والذي أحسه عيسى - عليه السلام - بعد دعوتهم: إصرارهم على الكفر، وعتوهم فيه، ومن المظاهر التي علم منها هذا الإصرار والعتو: إيذاؤهم له بنحو الاستهزاء. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد الثامن عشر.

{قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}: والخطاب في قوله: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} موجه إلى من آمنوا به، والمراد من الاستفهام: الطلب، والأنصار: جمع نصير، ونظيره: أشراف جمع شريف، وقوله: {إِلَى اللَّهِ} واقع موقع الحال من قوله: {أَنْصَارِي}، والمعنى: من ينصرونني منهين نصرتهم إلى الله، ومعنى إنهاء نصرتهم إلى الله: قيامهم بها يريدون وجه الله دون قصد غاية أخرى، فنصرة عيسى - عليه السلام - من جهة أنه رسول، ونصرة رسول الله نصرة لله؛ أي: تأييد لدينه، فهي من الأعمال الصالحة المقدمة إلى الله، ومن هنا كان قول الحواريين: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} أحسن وقعاً من أن يقولوا: نحن أنصارك. ونصرتهم لعيسى - عليه السلام -: بحمايته من أولئك الكافرين، ودفع أذاهم عنه، أو بدعوتهم إلى الدين الذي جاء به، وتأييده بالحجة، ولا تحمل على الجهاد؛ إذ لم يثبت أن عيسى - عليه السلام - قد أمر به. {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}: وقوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ} واقع موقع التعليل لقولهم: نحن أنصار الله؛ إذ لا دافع إلى نصرة دين الله غير الإيمان به إيماناً صادقاً، ثم قالوا: {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، فأكدوا إسلامهم إذ جعلوه مما يصح أن يشهد به الرسول، وهو لا يشهد بإسلام إلا أن يكون على علمٍ من صدقِ صاحبه وإخلاصه {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ}: ثم انتقلوا من خطاب عيسى - عليه السلام - إلى مناجاة الله تعالى، فقالوا: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ}، وهذا عرض لحالهم على الله

تعالى، فقولهم: {آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ} إخبار عما انطوت عليه نفوسهم من الإيمان الصادق، وقولهم: {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} تصريح يقتضيه الإيمان الصحيح من امتثال المأمورات، واجتناب المحظورات؛ إذ لا يتم اتباع الرسول إلا بامتثال ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه، وإن لم يوجد له ماخذ من الكتاب الذي أنزل عليه، والله يعلم إيمانهم وصالح أعمالهم، وإنما قصدوا تقديم وسيلة إلى استجابة دعائهم بقولهم: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}: والشاهدون: الذين يشهدون بالتوحيد، وما لا يتم الإيمان إلا به، أو الأنبياء - عليهم السلام -؛ فإنهم شهداء أممهم يوم القيامة؛ كما قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]. وبعد أن قص حال المؤمنين بعيسى - عليه السلام - , عاد إلى الحديث عن أولئك الكافرين، وأشار إلى ما كانوا يأتمرون به من قتله، مقروناً بوعيد بالغ، فقال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}: والمكر: إيصال المكروه إلى الشخص على وجه يخفى، فيصح إسناده إلى الله تعالى من غير حاجة إلى دعوى المشاكلة، وقد أسند إليه تعالى ابتداء في قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]. وفي إسناد المكر بهم إلى الله إيذان بأن المكر الواقع بهم أعظم من المكر الذي بيتوه لعيسى - عليه السلام -، وجاء هذا المعنى مصرحاً به في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، وكان مكر الله خيراً من مكرهم؛ لأنه نافذ

لا محالة، ولا يقع إلا حيث يقتضيه العدل. {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}: و (إذ) في قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى} ظرف يتعلق بقوله: {وَمَكَرَ اللَّهُ}. والتوفي في أصل اللغة: أخذ الشيء وتسلمه، تقول: توفيت ديني من فلان؛ أي: قبضته منه، ثم استعمل في الموت على وجه المجاز؛ لأن من أماته الله، فقد توفاه، فيكون هذا الاستعمال من قبيل إطلاق اسم اللازم على الملزوم. فإذا ورد التوفي في كلام عربي، حُمل على الأخذ والتسلم حتى تقوم قرينة على أن المراد منه: الموت الذي هو مفارقة الروح للجسد. وورد التوفي في آيات يتعين صرفه فيها إلى معنى الأخذ والقبض، ولا يصح حمله على الموت؛ كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، فمعنى التوفي هنا: الأخذ والقبض، ولا يصح تفسيره بالموت؛ لأنه جعل من الأنفس المتوفاة ما لم تمت، فقال: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ}، وقال: {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، وكما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام: 60]، فجعل التوفي هنا مقابلاً للبعث في النهار، ولم يجعله مقابلاً للموت. ويدلكم على أن التوفي إنما يستعمل في الموت على وجه المجاز المصحوب بقرينة: أن القرآن لا يأتي به في مقابلة الحياة، وإنما يقابل

الحياة بلفظ الإماتة؛ كما قال تعالى: {يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الجاثية: 26]، وقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام: 95]. ونبني على هذا صحة تفسير {مُتَوَفِّيكَ} بمعنى: آخذك وقابضك؛ فإنه تفسير تتقبله اللغة، وله نظائر في آيات الذكر الحكيم، وانظر في قول عيسى - عليه السلام - فيما قصه الله عنه في آية أخرى: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]؛ حيث قابل التوفي بحال كونه فيهم، ولم يقابله بالحياة؛ كأن يقول: ما دمت حياً، وهذا ظاهر في أنه لم يرد من التوفي: الإماتة. هذا ما نختاره في فهم قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}، وحملت طائفة التوفي على معنى: الإماتة، مع إيمانهم بأن عيسى - عليه السلام - رفع إلى السماء، وأنه سيموت من بعد، وأبدوا لتقديم قوله: {مُتَوَفِّيكَ} على قوله: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وجهاً غير بعيد، هو أن اليهود قرروا قتله، فاقتضى الحال المبادرة إلى بشارته بأن أيديهم لا تصل إليه بالقتل، وأنه يموت على فراشه الموت المعتاد. {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}: هذا ظاهر في رفعه بجسده، ومستبعد جداً أن يراد منه: رفع مكانته؛ لأن الخطاب لعيسى - عليه السلام - وهو روح وجسد، فيحمل على أنه قد تعلق بهما حتى يقوم دليل على أنه تعلق بواحد منهما فقط. ومما يبعد تفسير الرفع برفع مكانته: أنه قال تعالى في آية أخرى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157 - 158]، وهذا رد على اليهود، وتكذيب لهم في دعوى أنهم قتلوه، ولا يكون رداً عليهم وتكذيباً إلا إذا

كان الرفع لجسده، إذ لا يحسن أن يرد على من قالوا: قتلنا المسيح بأن الله رفع درجته، وإنما يكون قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} رداً على ما قاله اليهود لو قالوا: إن عيسى قلاه ربه، وأبعده، أو حط مكانته. ويؤيد فهم الآية على معنى رفعه بجسده: أن النصارى يعتقدون أن عيسى - عليه السلام - رفع بجسده، فلو لم يكن عيسى قد رفع بجسده، لما جاءت الآية على هذا الوجه الذي يوافق معتقدهم، بل يؤتى بعبارة أخرى تبطل هذا الاعتقاد؛ كما أبطل زعمهم أنه قتل وصلب، أو يأتي بعبارة لا تجاري على الأقل مذهبهم. {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: تطهيره - عليه السلام - منهم بإبعاده عنهم، وهذا في نفسه محتمل لأن يطهره منهم بالهجرة من أوطانهم، ولأن يطهره برفعه إليه من أرضهم، والهجرة من أوطانهم لم يشر إليها القرآن كما أشار إلى هجرة إبراهيم وموسى ونبينا محمد -صلوات الله عليهم-، ولم تثبت بها رواية، أما رفعه، فقد دل عليه قوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157]، وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، فيكون قوله: وَمُطَهِرُكَ تأكيداً لقوله: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، ومشيراً إلى أن من كفروا به نجس، لا ينبغي للطيب الذي يئس من هدايتهم أن يبقى متصلاً بهم، وفال: {مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، ولم يقل: {مِنْهُمْ} إيماء إلى علة نجاستهم التي هي الكفر. {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: هذه بشارة ثالثة لعيسى - عليه السلام -، هي أن المتبعين له يكونون أعلى ممن كفروا به، وكان المتبعون له قبل الإسلام النصارى الذين آمنوا

به إيماناً صحيحاً، والمتبعون له بعد الإسلام هم المسلمون؛ لأنهم اتبعوه في أصول الدين، واتبعوا النبي الذي بشر به، ودعا إلى الاقتداء به. ولا شك أن المؤمنين بعيسى - عليه السلام - إيماناً صادقاً يعلون الكافرين بالحجة والقلب عند المجادلة في الحق، ويعلونهم بالسلطان متى أخذوا بوسائل القوة كما يقتضيه معنى الاتباع، فلو أن قوماً يصدقون برسالة عيسى - عليه السلام -، ولكنهم اتبعوا الشهوات، ولم يعدوا للكافرين به ما استطاعوا من قوة، لما تناولهم هذا الوعد الصادق، ولما كان علو الكافرين عليهم بالسلطان -لو وقع- موضع اشتباه، ومثار استشكال في تحقق ما وعدت به الآية. {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}: ثم وجه الخطاب إلى عيسى - عليه السلام - ومن اتبعوه، ومن كفروا به، فقال: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ}؛ أي: مصيركم {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمور الدين، وإذا رفع المهتدين إلى جنات النعيم، وأحاط الغاوين بعذاب مهين، فقد حكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.

تفسير آية من سورة آل عمران

تَفْسِيرُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]. وردت الآيات السابقة لهذه الآية في حال من انهزموا يوم التقى المؤمنون والمشركون في يوم أحد، وتضمنت تلك الآيات الكريمة استحقاقهم للملامة والتعنيف؛ حيث تولوا منهزمين، وتركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجاه العدو، ولو جرى معهم رسول الله - صلوات الله عليه -، على ما يستحقون، لقابلهم بالعتاب والتوبيخ، ولكنه لاقاهم في رفق، ولم يواجههم باللوم، وذلك معنى قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}: فالفاء في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ} للترتيب؛ لأنهم فروا من مواطن الجهاد، واستحقوا اللوم والتأنيب، فقابلهم - عليه الصلاة والسلام - باللين، و (ما) في قوله تعالى: {فَبِمَا} مزيدة للتأكيد؛ أي: تأكيد الاختصاص الذي دل عليه تقديم الجار والمجرور؛ أعني قوله: (بما رحمة) على الفعل؛ أعني: قوله: ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الحادي عشر.

{لِنْتَ}، والمعنى: ما لنت لهم إلا برحمة من الله، ونظيره قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة: 13]؛ أي: ما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم. والرحمة يوصف بها الإنسان، فتكون بمعنى العطف والحنو، وهذا المعنى الذي هو رقة القلب لا يصح أن تفسر به الرحمة الواردة وصفاً للباري -جل جلاله- , بل نقول: إن رحمة الله صفة ثابتة له تعالى، لا نعلم حقيقتها، وإنما نعرف أثرها الذي هو إيصال الخير، كما أننا لا نعلم حقيقة علمه تعالى، وإنما نعرف أنه صفة تحيط بالأشياء على ما هي عليه. دلت الآية على أن لينه - عليه الصلاة والسلام - لمن خالفوا أمره، وتولوا عن موقع القتال، إنما كان برحمة من الله. فالله حقيق بحمد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ وفقه لفضيلة الرفق بأولئك المؤمنين، وحقيق بحمد أولئك المؤمنين؛ إذ كان لين رسول الله إنما هو أثر من أثر رحمة الله. {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ}: الفظاظة: الخشونة. وغلظ القلب: قسوته. والانفضاض: الانصراف، والمعنى: لو كنت خشناً في قولك أو فعلك، قاسي القلب، لانصرفوا من مجلسك، ولما استضاؤوا بنور هديك، والفعل الواقع بعد (لو) الشرطية في حكم المنفي، فقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} ينفي عنه - عليه الصلاة والسلام - الفظاظة التي تظهر في قول أو فعل، وقوله: {غَلِيظَ الْقَلْبِ} ينفي عنه سبب الفظاظة الذي هو جفاء الطبع، وبهذا يثبت له - عليه الصلاة والسلام - لين الجانب، وسماحة الخلق، وكأن الآية تقول: هو لين في قوله وفعله، وإن لينه هذا لم يصدر عن أمر عارض من نحو رغبة أو رهبة، بل كان عن طبيعة كريمة في النفس.

وليعتبر في هذه الآية من يتولى أمراً يستدعي أن يكون بجانبه أصحاب يظاهرونه عليه، حتى يعلم يقيناً أن قوة الذكاء وغزارة العلم وسعة الحياة وعظم الثروة، لا تكسبه أنصاراً مخلصين، ولا تجمع عليه من فضلاء الناس من يثق بصحبتهم إلا أن يكون صاحب خلق كريم من اللين والصفح والاحتمال. وطبيعة اللين وسماحة الخلق، لا تنافي مزية الحزم، والأخذ بالتي هي أشد عندما يقتضي الحال ذلك: إذا قيل رفقاً قال للحلم موضع ... وحلم الفتى في غير موضعه جهل وتمييز موضع اللين من موضع الشدة يرجع إلى ذكاء الإنسان، وإدراكه لطبائع الأشخاص الذين ينالونه بمكروه. {فَاعْفُ عَنْهُمْ}: العفو: عدم المؤاخذة على الإساءة مع القدرة على المؤاخذة عليها، والحلم: ضبط النفس في هيجان الغضب، وإذا قيل: إن العفو والحلم متقاربا المعنى، فلأن عدم المؤاخذة على الإساءة المسمى عفواً إنما يعد في مكارم الأخلاق متى صار طبيعة للنفس، وإذا صار طبيعة لها، سهل ضبطها عن هيجان الغضب، وكذلك ضبط النفس عن هيجان الغضب يعد في مكارم الأخلاق بالنظر لما يتبعه من عدم المؤاخذة على الإساءة، فأمر الرجل بأحد الوصفين: العفو والحلم، أو مدحه به، يغني في نظر علماء الأخلاق عن أمره أو مدحه بالآخر. والعفو الخالص: أن لا يؤاخذ الرجل بالإساءة، ولا يبقى له في نفسه أثر من غيظ، حتى يكون حاله في معاملة المسيء، وحبه له الخير، كحاله

لو لم يسئ إليه. أُمر - عليه الصلاة والسلام - بالعفو، وإنما يعفو فيما يختص به من الحقوق؛ كأن يؤذيه شخص في مال، أو يسيء إليه بكلمة جافية لا تبلغ حد الكفر، وأما الإساءة فيما هو حق الله؛ كترك الصلاة أو الصيام، أو شرب الخمر، فلا يملك عنه إلا الله، قالت عائشة -رضي الله عنها- فيما روي في الصحيح: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منتصراً من مظلمة ظلمها قط، ما لم تكن حرمة من محارم الله". وكان - صلى الله عليه وسلم - المثال الأكمل في هذا الخلق العظيم، وشواهد هذا ثابتة في كتب السيرة والحديث. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}: اطلب لهم من الله المغفرة للذنوب المتعلقة بحقوقه تعالى، وأما الجنايات المتعلقة بحقوق العباد؛ من نحو: الجناية على مال شخص، أو بدنه، أو تناوله بغيبة، أو لمز، فأمر العفو عنها قد جعله الله في أيدي المجني عليهم، ووكله إلى رضاهم. فعفوه - عليه الصلاة والسلام - عمن يسيء إليه، ودعاؤه لمن يقع في مخالفة أمر الله بالمغفرة، أوضحُ شاهد على أنه كان يحمل لأصحابه العطف الخالص، والشفقة التامة، وإذا رأينا في سيرته أنه كان يقيم الحدود، ويعاقب المعتدين على حق من حقوق الله، أو حقوق العباد، من غير لين، فلحفظ الدين، أو لإقامة العدل، أو لتقرير الأمن. {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}: المشاورة في الأمر: المراجعة فيه لاستطلاع الرأي الصالح؛ أي:

راجعهم في الأمر لترى رأيهم فيه. والمراد من الأمر: ما يعرض من أمور الدنيا؛ من نحو: تدبير الحروب، وأما أمور الدين، فقد أغناه الله عن الشورى فيها بما ينزل عليه من الوحي، أو بالاجتهاد الذي ينظر فيه بنور الله إن قلنا: إنه كان - عليه الصلاة والسلام - يجتهد في بعض الأحكام العملية. وهذه الآية قررت أصلاً عظيماً من أصول السياسة الرشيدة، وهو: أن لا يستبد ولي الأمر في تصريف الأمور دون أن يأخذ رأي أولي العلم، وقد قررت هذا الأصل بأبلغ وجه؛ إذ وجهت الأمر فيه إلى أكبر الناس عقلاً، وأعرفهم بطرق المصالح، وأقلهم حاجة إلى الاستعانة برأي غيره، وهو أكمل الخليقة - صلوات الله عليه -، فليس لأحد بعد هذا أن يتخيل أنه في غنى عن المشاورة بما أوتي من كمال العقل وسداد الرأي. وفي الشورى: استبانة الرأي الحق من بين آراء متعددة، وفيها: تطييب خواطر من يهمهم أن يدبر الأمر على بصيرة، وفيها: تأليف قلوبهم؛ بما في مراجعة ولي الأمر لهم من التنبيه على رفعة أقدارهم في نظره. وقد يتوهم الرجل: أن الاستشارة تنبئ عن الاحتياج إلى رأي غيره، فهي من علامات اعتقاده بضعف رأيه، والحقيقة أن الإنسان -وإن بلغ عقله الغاية- لا يستغني عن الاستعانة في مشكلات الأمور بآراء الرجال؛ إذ العقول قد تكون نافذة في ناحية من الأمر، واقفة عند الظاهر في ناحية أخرى منه، ولعلك لا تجد عقلاَّ فَي الناس ينفذ في كل ناحية وجهته إليها، ومن أدرك هذه الحقيقة، عرف يقيناً أن احتياج الإنسان إلى الاستشارة من مقتضيات الفطرة البشرية، ومن يجري على مقتضى الفطرة البشرية التي ليس في طاقته الخروج عنها إلا بعصمة من الله، لا يحق لأحد أن ينسبه إلى نقص. وإن

قلنا على وجه الفرض: إن احتياج الرجل إلى رأي غيره في بعض الأمور نقص، فإنا إذا وضعنا هذا النقص في كفة، ووضعنا الفوائد التي تحصل من الاستشارة في كفة، رجحت هذه الفوائد، وغطت على ذلك النقص، حتى كأنه ذهب، ولم يبق له عين ولا أثر. {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}: العزم على الشيء: عقد الضمير على فعله، والتوكل على الله: الاعتماد عليه، والثقة به، والآية ظاهرة في أن التوكل يكون عند تعاطي الأسباب، فقد أمرت بالتوكل عند العزم على العمل، فهنالك عزم وعمل يقارنهما التوكل، وفي هذا رد على من يتوهم أن التوكل نفض اليد من الأسباب جملة، ومن أثر هذا التوهم: أن وجد في الأمة أشخاص يرضون بأن يكونوا عالة على الناس، وهم قادرون على أن يقوموا بمطالب حياتهم، ويعيشوا في عزة وكرامة. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}: المحبة من الإنسان: ميل الطبع إلى الشيء، وهذا المعنى ممتنع في حق البارئ -جل جلاله- , فإذا أضيفت المحبة إليه تعالى، فهي صفة ثابتة له تعالى لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف من آثارها: إيصال الخير إلى المحبوب، وحفظه في الدنيا، وإعلاء منزلته في الدار الباقية.

تفسير آيات من سورة الأنفال

تَفْسِيرُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الأَنْفَالِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 24 - 26]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}: وصف المخاطبين بالإيمان، وأورد الخطاب في صيغة النداء، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ ليقوي داعيتهم إلى امتثال ما أمرهم به بعد، فإنَّ وصفهم بالإيمان إيذان بأن فيهم ما يبعث على حسن الطاعة، وهو الإيمان الذين يستدعي إجلال الأمر، وخوف مقامه، أو رجاء أنعامه، وصيغة النداء تجعلهم كأنهم في حضرة رب العالمين، وهو يسمعهم شهادته لهم بالإيمان، ويدلهم على ما فيه حياة العزة والكرامة. وقوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا} أمر من الاستجابة، وهي الإجابة والامتثال، وطاعة الرسول هي طاعة الله؛ كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ¬

_ (¬1) مجلهَ "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد الحادي عشر.

اللَّهَ} [النساء: 80]، ولكنه أمر بها بعد الأمر بطاعة الله؛ للدلالة على وجوب طاعة الرسول فيما جاء به مما ليس في القرآن المجيد، وأكد هذا الأمر بإعادة حرف الجر مع حرف العطف، فقال: {وَلِلرَّسُولِ}، مع صحة أن يقال: "والرسول". والأمر بالاستجابة لله وللرسول يقتضي أن يقال: (إذا دعواكم) مسنداً إلى ضمير الاثنين، وإنما أفرد الضمير، فقال: {إِذَا دَعَاكُمْ}؛ تنبيهاً على أن دعوة الرسول هي دعوة الله، فإسناد الدعوة إلى الرسول يغني عن إسنادها إلى الله، وإنما قلنا: إن الضمير في قوله: {دَعَاكُمْ} عائد إلى الرسول؛ لأن الرسول هو المباشر للدعوة، ولأنه أقرب مذكور في نظم الآية. وهذه الآية إحدى الشواهد الناطقة بأن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد طرق التشريع، وأنه كالكتاب في العمل بما يتضمنه من الأوامر والنواهي. وقد ضل قوم السبيل، فزعموا أن التشريع مقصور على القرآن الكريم، واطرحوا الأحاديث، وأملت عليهم الزندقة حديث: "ما أتاكم عني، فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله، فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله، لم أقله". قال يحيى بن معين: هذا الحديث وضعته الزنادقة، وقد عارض بعض أهل العلم هذا الحديث المصنوع بيد الزندقة، فقالوا: نحن عرضنا هذا الحديث على كتاب الله، فوجدناه مخالفاً لكتاب الله؛ إذ وجدنا كتاب الله يأمر بطاعة الرسول، ويحذر من المخالفة عن أمره في كل حال. وقوله تعالى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} يتعلق بقوله: {دَعَاكُمْ}، والمعنى: أجيبوا الله والرسول إذا دعاكم الرسول لما يحييكم الحياة الطيبة في دنياكم وآخرتكم، وهي الطاعات، ولا ريب أن امتثال أوامر الدين واجتناب نواهيه،

يورثان الحياة الطيبة في الأولى والآخرة، ومما يحيى المؤمنين الحياة الطيبة: جهاد العدو المحارب، ذلك أن العدو إذا استولى على الأمة، قبض على زمام أمرها بيد غاشمة، وأقام بينها وبين القوة والعزة حواجز، فلا تعيش إلا في ضعف وذلة ونكد من العيش، وقتال العدو يدفع عنها هذه الكارثة، ويمكنها من أن تفوز بسلامة أعراضها وأموالها، وتتمتع بالحرية في إدارة شؤونها، وابتغاء وسائل رفعتها، وإقامة شعائر دينها، والتقاضي إلى أحكام شريعتها، وذلك عين الحياة الطيبة في الدنيا، ووسيلة الحياة الطيبة في الأخرى. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}: يحول: يحجز، والمعنى: أن الله يحول بين المرء ومقاصده؛ أي: إنه قد يفعل ذلك، وقال: {بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} مكان بين المرء ومقاصده؛ لأن القدرة على الحيلولة بين المرء وقلبه تستلزم القدرة على الحيلولة بين المرء وكل مقصد يحضر قلبه، ويعقد عليه عزمه، وكذلك نرى المرء قد يريد خيراً أو شراً، ثم ينصرف عنه، نراه قد أراد خيراً، فيغضب، ويدفعه الغضب إلى أن يريد شراً، ونراه قد عزم على شر، فيرى حجة، أو يسمع موعظة، فيعود إلى إرادة الخير. فالآية تشعر المخاطبين بأنهم لا يملكون تنفيذ ما عزموا عليه إلا أن يأذن به الله، فإذا استجابوا لله وللرسول، فليس من حقهم أن ينسبوا الطاعة إلى أنفسهم كأنهم استقلوا بها من بدايتها إلى نهايتها، بل واجبهم أن يذكروا عند القيام بالطاعة فضل الله عليهم؛ إذ وفقهم لها، ولم يحل بينهم وبينها. أمرهم أن يعلموا أنه يملك قلوبهم التي هي مواطن إرادتهم، ثم أمرهم أن يعلموا أن مصيرهم إليه، فقال تعالى:

{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}: أي: تبعثون، وفي هذا إعلام بأن أمرهم في كلتا الحياتين بيده، فلا يعملون في الدنيا عملاً إلا بإذنه، ولا يجزيهم على أعمالهم في الآخرة إلا هو. {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}: الفتنة في أصل وضعها: الامتحان والاختبار، ووردت بمعنى: الكفر، والضلال، والمعصية، والعذاب، ويصح أن تفسر الفتنة في الآية بالمعصية. وإصابتها للظالمين وغيرهم، بمعنى: إصابة أثرها لهم، وهو ما تجره في الدنيا من شقاء وعذاب. والفتنة التي يعم وبالها مرتكبيها وغيرهم: ما كان من نحو إقرار المنكر، وتفرق الكلمة وإهمال التعليم الديني والقعود عن دفاع العدو، فإن شؤم عاقبة هذه المعاصي لا يخص الذين ظلموا، وهم المقرّون للمنكر، والعاملون لا نفصام عرا الاتحاد، والمهملون للتربية الدينية، والقاعدون عن الجهاد تكاسلاً، بل يتعداهم إلى غيرهم من نحو الأطفال والمستضعفين من الرجال والنساء، وهذه المعاصي تُسقط الأمم من عليائها، بل هي الطعنات النافذة في مقاتلها، فإقرار المنكر سبب كثرة الفسوق وانتشاره في البلاد، وانتشارُ الفسوق يفسد الأخلاق، ويذهب بالرجولة والغيرة على الكرامة، وإذا فسدت أخلاق القوم، وذهبت الرجولة من نفوسهم، انحدروا في خزي ودمار. وتفرق الكلمة سبب التخاذل، وعدم التعاون على فعل الخير ودفع السوء، وذلك ما يلقي بالأمة في بؤس وهوان، وترك تربية النشء تربية دينية يأتي بعواقب مشؤومة، وأي عاقبة أشأم من أن يتولى أمور الأمة ملاحدة

يسوسونها على ما توحيه إليهم أهواؤهم، ويعطلون ما استطاعوا أحكام شريعتها، والقعودُ عن الدفاع سبب وقوع الأمة بأجمعها تحت سلطان عدو يذيقها من عذاب الهون ما تؤثر من أجله الموت على الحياة. ويصح أن تفسر الفتنة في الآية بما تأتي به تلك المعاصي من وبال؛ كولاية الفجار التي يأتي بها إهمال التربية الدينية، وكقهر العدو للأمة الذي يأتي به ترك إعداد القوة، أو القعود عن الدفاع، واتقاءُ الفتنة على هذا الوجه يحصل باتقاء أسبابها. ولا يشكل علينا عموم الفتنة، وإصابتها للظالمين وغيرهم بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]؛ فإن مورد هاتين الآيتين عقاب الآخرة، ويلحق به عقوبات الجنايات في الدنيا، فهذان العقابان لا يتجاوزان المسيء إلى البريء، وأما الآية التي نحن بصدد تفسيرها {وَاتَّقُوا فِتْنَةً}، فموردها البلاء الدنيوي الذي جرت سنة الله بحلوله عقب تلك المعاصي ذات الآثار المشؤومة. روى البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أنزل الله بقوم عذاباً، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم". أمر باتقاء الفتن التي يمتد لهبها إلى الأبرياء، وكد التحذير منها بوعيد شديد، فقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}: ففي قوله: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} إيذان بأن واضع يده في مثال هذه الفتن يجازيه الله عليها بالعقاب الشديد في الآخرة، وإن أدركه شؤم عاقبتها في الدنيا. قال تعالى:

{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ}: الخطاب للمهاجرين، وقد كانوا بأرض مكة في قلة، وكفار قريش يستضعفونهم؛ أي: يجدونهم ضعافاً، فيصيبونهم بالأذى. والتخطف: الأخذ بسرعة، وفيه إيماء إلى شدة ضعفهم، وسهولة أخذهم؛ حيث أخبر أنهم يخافون أن يأخذهم الناس بسرعة، وإنما يؤخذ بسرعة من لم يكن له شيء من القوة يدافع به، ولو إلى حين، والمعنى: اذكروا وقت قلتكم وهوانكم على الناس، وخوفكم من اختطافهم لكم، والتذكير بوقت مضاف إلى شؤون إنما هو تذكير بتلك الشؤون نفسها. وبعد أن ذكرهم بما كانوا فيه من قلة العدد، واستضعاف كفار قريش لهم، وخوفهم من تخطف الناس لهم، ذكرهم بنعمة إنقاذهم من ذلك الاستضعاف، وتأييدهم بالنصر على عدوهم، فقال تعالى: {فَآوَاكُمْ}: أي: جعل لكم مأوى تتحصنون فيه من عدوكم، وهي المدينة المنورة. {وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ}: أي: قوى شوكتكم، وهيأ لكم وسائل النصر؛ من نحو: مظاهرة الأوس والخزرج، وإمدادكم بالملائكة في يوم بدر، وإلقاء الرعب في قلوب محاربيكم. وذكر في الآية النعمة التي أنقذهم بها من الاستضعاف والخوف، وهي: الإيواء، والتأييد بالنصر، ولم يذكر ما يقابل قوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ}؛ كأن يقال: "فكثر عددكم"؛ لأن تأييدهم بالنصر يشير إلى تكثير عددهم بمن انضم إليهم من الأنصار، أو لأن قلة العدد ليست مكروهة لذاتها، وإنما تكون

مكروهة من أجل ما يسام به ذوو العدد القليل من الاستضعاف، وما يساور قلوبهم من الخوف. وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل ولما كان الشأن فيمن قلَّ عددهم، وابتلوا باستضعاف عدوهم لهم، ولم يكونوا في أمن على حياتهم، أن يكونوا في عسر من العيش، ذكر تعالى في جملة ما أنعم به على المهاجرين: أنه رزقهم من الطيبات، وإن لم يذكر قبل أنهم كانوا في ضيق من العيش، فقال تعالى: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}: وكذلك كان المسلمون بعد الهجرة في عيش أوسع مما كانوا فيه قبل الهجرة، فقد انفتحت أمامهم طرق الاكتساب من نحو التجارة، وأحل الله لهم التمتع بمغانم الجهاد. لننظر في حال أولئك الرجال الذين كانوا قليلاً مستضعفين، غير آمنين على حياتهم، فآواهم الله، وأيدهم بنصره، ورزقهم من الطيبات، لعلنا نقف على سنة من سنن الله في ما يكون فيه القوم من ضعف وخوف، وبؤس وهوان على الناس، وإمتاعهم بالقوة والأمن وطيب العيش، والانتصار على العدو. نرى أولئك الرجال يؤمنون بالله إيماناً صادقاً، ويصبرون للبلاء يصيبهم في سبيل الحق، ولو اشتدت مرارته، وطال أمده، ويأبون أن يلقوا إلى الضالين أو الفاسقين بالمودة، ويحملون في صدورهم الرحمة والسخاء، وكانوا ينظرون إلى عدوهم بعين الحذر، ويأخذون بأسباب النجاة ما استطاعوا، إلى نحو هذا من الخصال التي هداهم إليها الكتاب الحكيم. فنقتبس من هذا أن سنة الله في القوم الذين يحتفظون بهذه الخصال أن

يجعلهم في أمن ومنعة وعزة، وعيشة راضية، ولا عجب أن نرى المسلمين اليوم في كثرة، وهم فيما نرى ونسمع من استضعاف، فقد أضاعوا جانباً عظيماً من الخصال التي تقوم عليها سنة الله في تخليص القوم من عدو يضع يده فوق أيديهم. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: كلمة (لعل) تُحمل في هذه الآية وأمثالها على معنى التعليل؛ أي: أسبغ عليكم تلك النعم لتشكروا، ومن مظاهر الشكر: استجابتهم لله والرسول إذا دعاهم، واتقاؤهم الفتن التي تصيب المجرم والبريء.

تفسير أربع آيات من سورة يونس

تَفْسِيرُ أَرْبَعِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ يُونسَ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس: 62 - 65]. افتتحت الآية بحرف {أَلَا}؛ لتنبيه السامع، وإحضار ذهنه؛ حتى يجيئه الكلام بعدها، وهو متهيئ لتلقيه، فيقع في نفسه أمكنَ وقع. والأولياء جمع وليّ، والوليُّ وصفٌ مأخوذ من الوَلْي، وهو القرب، وإطلاقه على المؤمن الصادق؛ لأنه قريب من الله قرباً روحانياً، وهو القرب الذي ينال بطهارة القلب، وخلوص النية، واستقامة الأعمال. {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}: الخوف: غمٌّ يلحق النفس لتوقع مكروه. والمراد من نفي الخوف: نفي ما يوجب الخوف؛ أي: إن أولياء الله يكونون في نجاة وسلامة من المكاره، ومن خاف على وليّ من الوقوع في مكروه، فخوفه آتٍ من غير طريق، وواقع في غير موضع. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الحادي عشر.

وإذا حصل لبعض المتقين خوف من عقاب الله، فإنما هو الخوف من أن يقعوا فيما يسلبهم الولاية، وما عدا هذا، فهو خشوع القلب أمام جلال الله وعظمته. وقد يبدو لك أن الآية نفت الخوف على أولياء الله، ومن أولياء الله من تلحقه المكاره في الدنيا، فقد يصاب في بدنه أو ماله، وقد يناله بعض المجرمين بأذى؛ من نحو: السب، أو السجن، أو الضرب، أو القتل. وجواب هذا: أن الآية نفت الخوف على أولياء الله من مكاره يوم القيامة، تلك المكاره التي تنتفض قلوب الموقنين عند توقعها فزعاً، وأما مكاره الدنيا، فإنهم يسألون الله تعالى أن يكفيهم شرها، وإذا مسهم شيء منها، تلقوه بصبر جميل، ومتى نظروا إلى ما يترتب على صبرهم عليها من رضا الخالق، خف أمرها، وحمدوا عاقبتها. فأولياء الله لا تلحقهم مكاره الآخرة لإطلاق، وقد تلحقهم في الدنيا مكاره يعقبها ما هو خير منها، ومن لا يناله مكروه إلا أن يعقب ذلك المكروه خير أكبر منه، صح أن ينظر إلى ذلك المكروه الذي يصيبه بعين الاستصغار. ويقال: إن أولياء الله هم تحت رعاية الله في كل حال، فلا يدركهم في الدنيا ما يوجب الخوف عليهم. {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}: الحزن: غمٌّ يلحق النفس من فوات نافع، أو حصول ضار. والمراد من نفي الحزن ما يوجب الحزن؛ أي: إن أولياء الله لا يمسهم ضرر، ولا يفوتهم خير، فلا يدركهم حزن في الحياة الآخرة البتَّة، وأما في الدنيا، فقد يلحقهم ما يثير شيئاً من الحزن؛ كحزن يثيره الإحساس بشدة وجع، أو تثيره عاطفة رحمة أو محبة؛ كأن يرى ولده يعالج سكرات الموت، أو يرى أخاً أو صديقاً

قد أزمع على رحلة طويلة، وحزنه في كل حال يصاحبه الرضا بقضاء الله، والحزن المصاحب للرضا بالقضاء في الدنيا يكسب صاحبه خيراً، ويعود عليه بأجر، فلا يراد نفيه عن أولياء الله. فأولياء الله لا يغتمون لفوات نافع، أو حصول ضرر في الآخرة بإطلاق، وإذا ضاقت صدورهم في الدنيا للوقوع في أذى، أو عدم الظفر ببغية، فإنما هو حزن تثيره طبيعة من نحو المحبة، والشفقة، ولا يلبث أو يزول. {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}: هذه جملة مستأنفة لبيان المزية التي رفعتهم إلى منزلة الولاية، وهي جمعهم بين الإيمان وحسن الطاعة؛ فإن الاتقاء يصدق بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والجملة واقعة موقع جواب يتشوف إليه السامع عندما يسمع أن أولياء الله في نجاة من كل مكروه، فكأنه قيل: من هم الأولياء؟ وبماذا أدركوا ذلك الفضل العظيم؟ فقيل: هم الذين آمنوا، وكانوا يتقون. وذكر الإيمان الذي هو التصديق بصيغة الماضي؛ لأنه يقع عقب الحجة دفعة، ثم يستقر في النفس، وذكر الاتقاء بصيغة المضارع؛ لأن فعل المأمور به، وترك المنهي عنه يتجدد، ويقع مرة بعد أخرى. بعد أن أخبر تعالى بسلامة أوليائه من المكاره التي توجب الخوف أو الحزن،، أشار إلى ما ينالونه بعد هذه السلامة من خير وكرامة، فقال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}: و {الْبُشْرَى}: الخبر السار، والمعنى: أنهم يبشرون في الدنيا وفي الآخرة بما يسرهم، ولم يذكر المبشر به؛ لتعم البشارة كل ما يوعدون به من فضل ونعيم، أما البشرى في الدنيا، فقد رويت أحاديث تنبئ بأنها الرؤيا الصالحة

يراها المؤمن، أو تُرى له، ومن لم يروا أن هذه الأحاديث بالغة مبلغ الصحة ذهبوا في تفسيرها مذاهب، أظهرها: أن البشرى في الدنيا: ما جاء في الكتاب أو السنَّة من وعد الله المتقين بالفضل، ورفعة المنزلة؛ مثل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 47] , وقوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} [التوبة: 21]. والرؤيا الصالحة من قبيل الإلهام الصادق، فهي داخلة في البشارة في الدنيا. وأما البشرى في الآخرة، فنحو تلقي الملائكة بالسلام، وإخبارهم إياهم بما أعد الله لهم في دار الكرامة، وإلى هذا يشير قوله تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103]. وتطلق البشرى على ما يبشر به الإنسان من خير، ويصح حمل الآية على هذا الوجه، والمعنى: أن لأولياء الله خيرات في الدنيا والآخرة يستبشرون بها، أما خيرات الآخرة، فكل ما تشتهيه الأنفس، وتلذه الأعين، ومن خيرات الدنيا التي تعد من عواقب الإيمان والتقوى: النصر على الأعداء؛ ذلك أن من الواجبات التي لا تتحقق التقوى إلا بها: الدعوة إلى سبيل الله، والذود عن الحق بما يستطاع من يد أو لسان، ومن قام بهذا الواجب، كف الله عنه أيدي أعدائه، وأظهره عليهم، ولو كانوا أكثر منه مالاً، أو أوسع جاهاً، أو أنفذ كلمة. هذا ما يشاهد من سنة الله في الأفراد، وذلك ما يدعو المؤمن أن يمضي في سبيل دعوته إلى الحق، ولا يثبطه عنها أن يكون لخصم الحق سطوة؛ فإنهم إن استطاعوا أن يلحقوا به أذى، قد يجعل الله في ذلك الأذى خيراً كثيراً.

وكذلك الجماعة تستضيء بنور الإيمان، وتسير على الصراط السويّ؛ فإن أيسر شيء عليها أن تنجو من سيادة عدو لا يرحمها، بل تملأ عينه بمهابتها، وتظهر عليه متى تصدى لمناوأتها. {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}: كلمات الله: أقواله، ومن جملتها: مواعيده، فتتناول الآية ما وعد به المؤمنين الصادقين من خير في الدنيا أو الآخرة، ويدخل في هذا: الرؤيا الصالحة؛ فإنها من قبيل الوعد، وعدم تبديلها في تحقق ما تدل عليه من حصول خير لمن رؤيت له. {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: {الْفَوْزُ}: النجاة والظفر بالخير، والمشار إليه: ما ذكر قبل من أن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأي فوز أعظم من أن يظفر الإنسان بسعادة الدارين؟!. {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ}: هذا تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما كان المشركون يؤذونه به من أقوال جافية، ولم يبين في هذه الآية ماذا قالوا، لعله مما قصه الله عنهم قبل هذه الآيات بقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [يونس: 38]، أو أطلق القول ليتناول كل ما يتفوهون به في حقه من المقالات الخاطئة. وموضع العبرة من هذا: أن يقف الداعي إلى الحق موقف العزم والثبات، فلا يقيم لما يقوله الذامون أو المتهكمون به وزناً، ويضرب به وراء أذنه، ونرى ضعيف الإيمان بما يدعو إليه هو الذي يحزن لأقوال المبطلين حزناً يثبطه عن الدعوة، أو يصرفه عنها، متكئاً على أن ما يلاقيه من الأذى عذر يبيح له أن يسكت مع الساكتين.

{إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}: هذا استئناف واقع موقع التعليل لنهيه - عليه الصلاة والسلام - عن الحزن، والعزة: الغلبة والقهر، فكأنه قيل: لا تحزن لما يقوله المشركون، فإن الغلبة والقهر في ملكة الله وحده، ولا يملك سواه شيئاً منها، وإذا كانت العزة لله وحده، فإنه سيعصمك منهم، وينصرك عليهم. وموضع العبرة من هذا: أن سنة الله قد جرت بأن يجعل العزة في جانب الذين آمنوا وكانوا يتقون، فإذا ابتلي المؤمنون المتقون بعدو ينالهم بأذى، وتلقوا ذلك الأذى بصبر، وجاهدوا في دفاعه عن أنفسهم بكل وسيلة ممكنة، فإن عاقبتهم الخلاص من تلك اليد الباغية، ولا يلبثون أن يدركوا عزتهم، وتكون يدهم فوق يد عدوهم. {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: لا يغرب عن سمعه ما يقولونه في حقك من سوء، ولا يغيب عن علمه ما يتعرضون لك من أذى، فهو الذي يجازيهم بما يقولون، وما يفعلون.

تفسير آيات من سورة الحج

تَفْسِيرُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الحَجِّ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27 - 28]. تضمنت الآية الكريمة السابقة نهي إبراهيم - عليه السلام - عن الشرك، وأمره بتطهير البيت للطائفين والعاكفين، والركع السجود، وجاءت هذه الآية عطفاً على ما تقدم في أمره بدعوة الناس إلى الحج، فقال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}: الخطاب لإبراهيم - عليه السلام -. والتأذين: الإعلام. والمعنى: أعلم الناس بأن الله أمر بالحج. هذا ما يدل عليه لفظ الآية. أما كيفية هذا الإعلام، فمن أهل العلم من ذهب إلى أنه دعا الناس إلى الحج في جملة ما دعا إليه من شرائع الدين؛ كالصلاة، والزكاة، والصيام، وذهب آخرون -تعلقاً ببعض الآثار- إلى أنه "صعد جبل أبي قبيس، فقال: يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج، فحجوا، فلم تبق نفس إلا أبلغها الله نداء إبراهيم، فمن لبى حينئذ، حج، ومن سكت، لم يكن له فيه نصيب". ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الرابع من السنة الأولى.

وهذا الأثر من قبيل الإخبار بغيب: فنقول كما قال الحافظ أبو بكر ابن العربي في كتاب "أحكام القرآن": "وربنا على ذلك مقتدر، فإن صح به الأثر، استمر عقيدة واستقر، وإلا، فالتفسير الأول يكفي في بيان معنى الآية" - يعني: تفسير التأذين بالحج بالإعلام به في جملة الشرائع-. {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}: قال: {يَأْتُوكَ}، وإنما يأتون البيت الذي بناه، وهي الكعبة؛ أخذاً بطريقة الإيجاز من حذف بعض الألفاظ المفهومة من مساق الكلام. والمعنى: يأتوا بيتك؛ أي: البيت الذي توليت بناءه بأمر من الله. والرجال: جمع راجل، وهو الماشي على قدميه. والضامر من الإبل والخيل: ما انضم جنباه هزالاً من طول السير، ويطلق على المذكر والمؤنث. ولفظ {كُلِّ} في قوله: {كُلِّ ضَامِرٍ} مستعملة في معنى التكثير؛ أي: يأتوك مشاة، وركوباً على ضُمَّر كثيرة، والعرب قد يستعملون كلمة (كل) للدلالة على كثرة ما تضاف إليه. والآية ذكرت أغلب الأحوال التي يأتي عليها الحجّاج إلى البيت الحرام، وهي أن يجيئوا مشاة، أو ركوباً على الإبل والخيل، وهذا لا ينافي أن يجيء عهد يكثر فيه السير إلى مكة على السيارات أو الطائرات. واستدل بعض الفقهاء على أن المشي على الأقدام أفضل من الركوب بتقديم الرجال في الآية على راكبي الضمَّر. ويروى عن ابن عباس أنه قال: ما ندمت على شيء فاتني في شيبتي إلا أني لم أحج راجلاً. ويروى: أن الحسن بن علي حج ماشياً من المدينة إلى مكة، وإن النجائب لتقاد معه.

وذهب كثير من أهل العلم إلى أن الركوب أفضل، واستندوا في هذه الأفضلية إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجّ راكباً. {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}: الفج: الطريق، والعميق: البعيد، والجملة وصف لكل ضامر. وجاء الضمير العائد على {كُلِّ} ضمير الجمع المؤنث إذ قيل: {يَأْتِينَ}؛ مراعاة للمعنى؛ لأن كل ضامر في معنى جماعة، أو جماعات من الضمر، ومراعاة لفظ (كل) يقتضي إفراد الضمير بأن يقال: كل ضامر يأتي من كل فج عميق، وكل من الطريقتين: مراعاة المعنى، ومراعاة اللفظ، يرد في الكلام البليغ، وتعدد الطرق في أداء المعنى الواحد من سماحة اللغة، واتساع مجالها أمام أرباب الفصاحة والبلاغة. {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}: هذا تلبية للغرض المقصود من إتيانه البيت الحرام رجالاً وركباناً، فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا} يتعلق بقوله: {يَأْتُوكَ}، ويشهد: من الشهود بمعنى: الحضور، والمنافع: جمع منفعة، وهي ما يحصل للإنسان من خير. ودل على أن هذه المنافع عائدة إلى الحجاج خاصة بقوله: {لَهُمْ}، والمعنى: يأتوك ليحضروا؛: يدركوا منافع مختصة بهم. ووردت المنافع في الآية مطلقة، فتشمل المنافع الدينية والدنيوية. أما الدينية، فمغفرة الله ورحمته ورضوانه التي يظفر الحاج بها عند أداء مناسك الحج؛ من نحو: الإحرام، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، ولا يريد بذلك إلا إجابة دعوة الحق. وأما المنافع الدنيوية، فالتجارة، والقصد إليها - بعد القصد إلى أداء

فريضة الحج - لا يخل بالإخلاص الكافي لاستحقاق المثوبة من الله. وضابط ذلك: أن يعزم على أداء فرض الحج، ويشعر في نفسه أن التجارة إنما جاءت عرضاً؛ بحيث لو عرض له مانع من تعاطي التجارة، لم ينثن عزمه عن الحج، أو يصبه وهن، واستمر على قصد الحج، والإقبال عليه بصدر منشرح وقلب سليم. وللحج فوائد كثيرة العدد، عظيمة الخطر، من أهمها: التعارف، ثم التوادد، ثم الاتحاد، ثم التعاون على إقامة المصالح العامة، ودفع الأخطار الفادحة. ولو اتجهت أنظار الشعوب الإسلامية إلى هذه الغاية الخطيرة بعناية، وعملوا لها بحكمة وحزم، لوجدوا كبر مساعد على أن تتوافق اَراؤهم، وتتقارب مشاريهم، وتتماثل مراميهم، فيستعيدوا سيادتهم، ويعيشوا في عزة وطمأنينة. {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}: ذكر اسم الله: حمده وتقديسه. والأيام المعلومات: أيام العشر عند جماعة من الصحابة والتابعين، منهم: ابن عباس، والحسن البصري، وبه قال أبو حنيفة. وذهب جماعة، منهم: مالك بن أنس وأصحابه إلى أن الأيام المعلومات: يوم النحر، ويومان بعده. والبهيمة: كل ذات أريع في البر أو البحر. والأنعام: جمع نَعَم، وهي: البقر والإبل والمعز والضأن. والمعنى: ويقدسوا الله ويحمدوه شكراً على ما رزقهم من بهيمة الأنعام. وذهب بعض أهل التفسير إلى أن ذكر الله في الآية كناية عن النحر

والذبح؛ لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر الله إذا ذبحوا أو نحروا. وفي التعبير بذكر اسم الله عن الذبح والنحر تلبية على أن الذبح أو النحر لا يكون قرباناً إلا إذا ذكر عليه اسم الله. فالمعنى على هذا الوجه من التفسير: ليشهدوا منافع لهم، ويذبحوا أو ينحروا ما رزقوا من بهيمة الأنعام ذاكرين الله عليهما. {فَكُلُوا مِنْهَا}: هذا إذن لأصحاب الهدايا والأضاحي في الأكل منها، والأمر محمول على الندب؛ لما في كلهم منها من المخالفة لأهل الجاهلية؛ إذ كانوا لا يأكلون من هداياهم، ولما فيه من مواساة الفقراء ومساواتهم في الأكل أخذاً بفضيلة التواضع. وإنما يندب الأكل من الهدي الذي يتطوع به الإنسان من نفسه، أما الهدي الواجب؛ كنذر المساكين، وما يجبر به نقص يقع في بعض واجبات الحج، فلا يجوز الأكل منه؛ قياساً على سائر الكفارات. والمسألة مبينة في كتب الأحكام. وإذا جاز لصاحب الهدي أن يأكل منه، جاز له أن يطعم منه بعض الأغنياء منى شاء. {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}: {الْبَائِسَ}: من أصابه بؤس؛ أي: شدة. والفقير: الذي لا شيء له، أو الذي له بُلغة من العيش، كقوت اليوم ونحوه، والجمع بين وصفي البؤس والفقر للتذكير بأنه في شدة؛ أي: ضر، وبأنه في حاجة إلى الإطعام. والآية أذنت لصاحب الهدي في الأكل منها، وأمرته بأن يطعم منها البائس والفقير، فيبقى انتفاعه منها بالبيع على حكم المنع؛ نظراً إلى أنه

إنما قصد بها القربة إلى الله، وهذا بالنسبة لصاحب الهدي، ويجوز لمن يتصدق عليه بجلدها أن ينتفع به من طريق البيع، كما تفعل جمعيات الإسعاف. وقد كان القاضي أبو بكر بن العربي عندما تهدم سور إشبيلية جبر الناس على تسليم لجود ضحاياهم؛ ليستعان بأثمانها على إصلاح السور.

تفسير خمس آيات من سورة ص

تَفْسِيْرُ خَمْسِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ ص

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 21 - 25]. مناسبة هذه الآيات لما سبقها من الآيات: أن الآيات السابقة وردت في شأن داود - عليه السلام -، وآخرها قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]. ومن فصل الخطاب: الفرق بين الحق والباطل، والحكم بين الخصوم بالعدل، وذلك ما تضمنته هذه الآيات التي نريد تفسيرها. {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ}: النبأ: الخبر، والخصم: المخاصم، ويطلق على الواحد والاثنين ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الرابع من المجلد الحادي عشر.

والجمع؛ مثل: طير، وضيف. وقوله تعالى بعد: {لَا تَخَفْ خَصْمَانِ} ينبئ أن المراد من الخصم هنا: اثنان، فيكون إيراد ضمير الجمع في قوله تعالى: {تَسَوَّرُوا}، و {دَخَلُوا}، و {مِنْهُمْ} من باب إجراء المثنى مجرى الجمع، وهو معروف في الكلام العربي الفصيح. والاستفهام في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ} ليس بالاستفهام الذي يستدعي جواباً، وإنما هو أسلوب عربي يراد منه التشويق إلى القصة؛ لما تضمنته من الموعظة الحسنة، والآداب السامية. {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}: التسور: صعود السور، وهو الحائط المرتفع، والمحراب: الغرفة، والمعنى: أتوا من أعلى سور الغرفة، ويطلق المحراب على صدر البيت، ومنه: محراب المسجد. و {إِذْ}: بدل اشتمال من {الْخَصْمِ}، والمعنى: هل أتاك نبأ الخصم نباُ وقتِ تسورهم للمحراب. {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ}: {إِذْ} هنا يدل من {إِذْ} في الجملة السابقة، والفزع: انقباض يعتري الإنسان من رؤية شيء مخيف، وفزع منهم؛ لظنه أنهم يريدون اغتياله، وهو منفرد للعبادة. والأنبياء - عليهم السلام - وإن كانوا في أعلى درجات الشجاعة، قد يأخذهم الخوف من أشياء شأنها أن تأتي بعواقب مكروهة، وفضلُهم في أن خوفهم لا يكون له أثر فيما ينبغي أن يكونوا عليه أمام الأشياء المخيفة؛ من نحو: الصبر والثبات، والدفع بالتي هي أحسن.

قال هشام لمسلمة: يا أبا سعيد! هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو؟ قال: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه على حيلة، ولم يغشني فيها ذعر سلبني رأيي. قال هشام: هذه البسالة!. ولما رأى الخصمان منه أثر الفزع، افتتحا خطابهما بما يزيل عنه الفزع، وذلك قوله تعالى: {قَالُوا لَا تَخَفْ}: وظاهر الآية: أن هذا القول صادر من الخصمين؛ إذ جاء مسنداً إلى ضمير الجماعة، ولعله صدر من المدعي، ولما كان المدعى عليه موافقاً على ذلك، نسب إليهما، ونسبة الفعل إلى جماعة يكون الفعل قد صدر من بعضهم، والآخرون راضون به، كثير في الكلام العربي. {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ}: البغي: الظلم، وخصمان: خبر لمبتدأ محذوف هو ضمير المتكلم، التقدير: نحن خصمان ظلم بعضنا بعضاً، وما جرى في الآية من التعبير بضمير المتكلم في قوله: {بَعْضُنَا} أحد أسلوبين في العربية، ثانيهما: أن يعبر في مثل هذا المقام بضمير الغائب. فيقال: نحن خصمان بغى بعضهما على بعض؛ كما تقول: نحن رجال نكرم الجار، أو يكرمون الجار. وفي قولى: {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} إشعار بأن قضيتهما وقع فيها بغي لا محالة، وذلك مما يقيم لهما العذر في المسارعة إلى رفعها إليه، ولو بتسور المحراب، ومن دواعي المسارعة إلى رفع القضية: خشية ما قد يعرض من نحو غَيبة الشاهد، أو المدعى عليه.

{فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ}: الحق: ما يريه الله الرسول من طريق الوحي، أو من طريق النظر بنور الله، إذا قلنا: إن من الأحكام ما يقرره الرسول من طريق الاجتهاد، أو ما يريه الذين أوتوا العلم على طريق الاجتهاد الصحيح، وما عدا هذا، فهو الباطل، والحكم به كفر إن كان على اعتقاد أنه أصلح وأحكم مما قررته الشريعة، وظلم وفسوق إن كان جرياً مع الهوى، وإيثاراً لمتاع الحياة الدنيا على رضا الله. {وَلَا تُشْطِطْ}: الشطط في الأصل: البعد، ومعناه هنا: الجور؛ لما في الجور من البعد عن حدود العدل، وحذَّره من الجور بقوله: {وَلَا تُشْطِطْ} بعد أن طلب منه الحكم بالحق؛ ليحضر في ذهنه صورة الجور، فيذكر ما يترتب عليه من شرور؛ كما أحضر في ذهنه صورة الحق؛ ليذكر ما يترتب على إقامته من خيرات. وفي الآية دليل على أن للخصوم أن يذكّروا القاضي بفضل العدل، ولو على وجه الأمر به، ويحذروه من الجور، ولو على وجه النهي عنه، وقد نص الفقهاء على أن قول بعض الخصوم للقاضي: اتق الله، لا يعد جفاء يستحق عليه التأديب. {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}: الهداية: إراءة الطريق، وسواء الشيء: وسطه، والصراط: الطريق الواضح، والمعنى: أرشدنا إلى وسط طريق الحق، وهو قصد السبيل، والماشي في وسط الطريق أبعدُ عن الانحراف عنه من الماشي في طرفه. وفي هذه الجملة تأكيد لما دل عليه قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ}

من أنهما رفعا قضيتهما إليه بقصد الوصول إلى الحق، لا كما يفعل كثير من المخاصمين إذ يقصدون من رفع القضايا أكل مال بالباطل، أو إعنات الخصم، وقهره في مجلس القضاء. {إِنَّ هَذَا أَخِي}: الأخوة تكون في النسب والدين والصحبة، والآية محتملة لكل واحدة منها، وفي ذكر خصمه بوصف الأخوة زيادة تشنيع عليه بالظلم؛ فإن الأخوة شأنها المنع من الظلم، فلا يعمد الأخ إلى ظلم أخيه إلا أن يكون ظلمه بالغاً. {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا}: النعجة: الأنثى من الضان، و {أَكْفِلْنِيهَا}: اجعلني أكفلها، أو أجعلها كفلي؛ أي: نصيبي، والمعنى: مَلِّكنيها. {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}: عزني: غلبني، والغلبة في الخطاب تظهر عندما يكون الصادر منه الخطاب ذا سلطان يخشاه المخاطب، ولولا هذا السلطان، لكان في إمكان صاحب النعجة الواحدة ألا يجيب سؤاله، ولا يحتاج إلى أن يشكوه إلى داود - عليه السلام -. قال ابن العربي: كان ببلدنا أمير يقال له: سيري بن أبي بكر، فكلمته أن يسأل لي رجلاً حاجة، فقال لي: أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غصب لها؟! فقلت: أما إذا كان "أي: السلطان" عدلاً، فلا. ووجه ما قاله ابن العربي: أن السلطان العادل يستطيع الناس أن يردوا طلبه لبعض الحاجات، ولا يخشون بأسه، والرئيس الجائر هو الذي يطلب

الحاجة من أحد مرؤوسيه، فلا يسعه إلا أن يجيب طلبه؛ خشية من أن يحرمه من حق، أو يجور عليه في قضية. {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}: عدى السؤال بـ (إلى) فقال: {إِلَى نِعَاجِهِ}؛ لتضمينه معنى فعل آخر هو الضم، والمعنى: ظلمك بسؤال نعجتك ضاماً لها إلى نعاجه، وأكد الجواب بالقسم الدال عليه اللام في قوله: {لَقَدْ}؛ اهتماماً بما تضمنه من الحكم على المدعى عليه بالظلم، أو أكده؛ لأن الخطاب -وإن كان موجهاً في الظاهر إلى المدعي، وهو يعلم أنه مظلوم- قد روعي فيه حال من هو المقصود بالخطاب، وهو المدعى عليه، وحاله يقتضي تأكيد الحكم عليه بالظلم؛ لأن سؤاله -وهو ذو قوة- لنعجة أخيه؛ ليضمها إلى نعاجه، شأن من ينكر أن يكون هذا ظلماً. والظاهر أن المدعى عليه قد أقر بما قاله المدعي، ولم يذكر في الآية هذا الإقرار؛ إذ لم يكن فيه من عبرة يراد التنبيه لها في هذا المقام. {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}: الخلطاء: جمع خليط، وهو الصاحب، والمعنى: أن كثيراً من الأصحاب يعتدي بعضهم على بعض، وهذا تسلية للمظلوم بأن ما جرى عليه قد جرى ويجري على كثير من الناس. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}: (ما) في قوله: {مَا هُمْ} وردت لتأكيد القلة المفهوم من قوله: {وَقَلِيلٌ}؛ أي: هم قليل جداً، وفي الآية زجر للمدعى عليه عن البغي؛ إذ أشارت إلى أن بغيه قد حرمه أن يكون في قبيل المؤمنين الصالحين.

{وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ}: الفتنة: الابتلاء؛ أي: ظن عندما تسور الخصمان المحراب أنهما يريدان اغتياله، وأن الله قد أراد ابتلاءه بذلك، ثم تبين له بعدُ: أن هذا الظن غير مصيب، وأنه وقع في ظن الأَولى لمثله ألا يقع فيه، فبادر إلى طلب المغفرة من ذلك الظن، ولم يكتف داود - عليه السلام - بالاستغفار كما يفعل كثير ممن يدركون أنهم وقعوا في سيئة، ولا يصرون على الإقلاع عنها في المستقبل، بل رجع إلى الله رجوعاً حقاً، وقدم بين يدي توبته عملاً صالحاً، ذلك ما دل عليه قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} خرّ: وقع وانحط، والركوع: الانحناء، والمعروف أن (خر) تستعمل للسجود، يقال: خر ساجداً، فيصح حمل الركوع على معنى السجود، ومن المحتمل القريب فهم الآية على معنى أنه ركع وسجد، فأشير إلى السجود بلفظ: خر، ودل على الركوع بقوله: {رَاكِعًا}، والمعنى: أنه سجد، والحال أنه قد ركع. قال الحسن بن الفضل: سألني عبد الله بن طاهر عن قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَخَرَّ رَاكِعًا} هل يقال للراكع: خر؟ قلت: لا، قال: فما معنى الآية؟ قلت: فخر؛ أي: سجد بعد أن كان راكعاً. والإنابة: الرجوع إلى الله بالتوبة، والتوبة: الندم على إتيان السيئة، والإقلاع عنها، والعزم على عدم العود إليها. {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ}: المشار إليه بقوله: {ذَلِكَ} هو الظن المفهوم من قوله تعالى: {وَظَنَّ

دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}، وقد عرفت أن هذا الظن ليس بذنب، أو ليس فيه فعل محظور، ولا ترك واجب، وإنما هو مقام النبوة والرسالة يستدعي الأخذ بالأكمل في كل حال، فإذا لم يأخذ الرسول بالأكمل، رأى نفسه بمنزلة من لم يأخذ بالواجب من سائر المكلفين، واستغفر لما أتى من غير الأكمل، وصح أن يسمى عدم مقابلته بالعتاب: مغفرة وعفواً. {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}: الزلفى: القربة والمنزلة، والمآب: المرجع، وجاءت الزلفى بمكانها مقدمة على حسن المآب؛ لأن القربة والمنزلة عند الله أفضل وأهم من المآب الذي يراد به: المرجع في دار النعيم. قص الله تعالى عن داود - عليه السلام - أنه استغفر، فغفر له، وأنه خر راكعاً متقرباً إليه، فكان له عنده الزلفى، وأنه أناب إليه؛ أي: رجع تائباً، فكان له عنده حسن المآب. هذا ما يصح أن تفسر به هذه القصة متى نظر إلى الآيات مجردة عن النظر إلى الآثار، أما الآثار المعزوة إلى بعض السلف في تفسيرها، فمنها ما لا يليق بمقام النبوة والرسالة، فيجب طرحه، وعدم الالتفات إليه، ومنها ما هو محتمل غير بعيد. وأقرب تأويل يستند إلى الآثار: أنه كان في عهد داود - عليه السلام - رجل له امرأة حسنة، فطلب منه داود أن يتنازل له عنها بطلاق ليتزوجها، فساق الله إليه ذينك الخصمين، وهما إما رجلان من البشر، أو ملكان في صورة رجلين؛ ليأخذ من قصتهما عبرة، وينتبه إلى أن سؤال الرجل أن يتنازل عن زوجته قد جرى خلاف ما يقتضيه الزهد المناسب لمقام النبوة، وليس هذا الطلب بمحظور في شرع، وقد يخفف أمره أن

داود - عليه السلام - إنما سأل الرجل التنازل عن زوجته بعد أن فهم أنه لم يكن شديد التعلق بها، وقد يكون مثل هذا الطلب مما يسيغه العرف في ذلك العهد. وملخص القول: أن داود - عليه السلام - لم يأت على حسب هذا الوجه من التفسير سيئة قطعاً، ولم يزد على أن التفت إلى أمر دنيوي، وطلبه من طريق غيرُه أولى منه.

2 - بلاغة القرآن

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (2) «بَلاغَةُ القُرْآنِ» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة القرآن الكريم كتاب الله العظيم، والمعجزة الخالدة إلى يوم الدين، والنور المبين، أنزله -جلّ جلاله- على خاتم النبيين؛ ليكون هادياً ومرشداً للأمة الإسلامية، يرتقي بها إلى مراقي الفلاح، ويفتح لها باب السعادة في الدارين. كتاب يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين، أنزله الله- سبحانه وتعالى- على نبيه الكريم؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وفيه بيان كل شيء، وقد فصلت آياته تفصيلاً، وأحاط بكل شيء علماً، فهو لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78]. وبحوث الإمام محمد الخضر حسين -رضوان الله عليه- في القرآن الكريم - هي عمل كاتب صادق، خاض في كل ميادين العلم، وصال فيها وجال، وفي بحوثه القرآنية -شأنه في كل ميدان ومقام-, كان المحقّقَ المدققَ، والبليغ المحلّق، في كل مقال له آية، وكل بحث يغوص فيه راية، وأية راية؟! وله في كتاب الله العزيز فرائد قيمة، فيها من العلم الغزير بقدر ما فيها من حسن البيان، وفصاحة الكلم. أنار بها العقول التي حاول الزيغ أن ينقلها إلى تهلكة، وأزاح عن سبيل الإسلام ظلماتٍ بعضُها فوق بعض. فجاء الحق بقلمه بيّناً، وزهق الباطل من قلمه زهقاً، إن الباطل كان زهوقاً.

وبأسلوبه البليغ حين يكتب في "بلاغة القرآن"، وبعلمه الصادق وقلبه المؤمن إذ يتحدث عن "نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية"، وبتقواه وورعه حين يهدي إلى "رأي في تفسير القرآن"، وبفضل الموجه العليم حين يحاضر طلابه في الأزهر حول "المحكم والمتشابه في القرآن الكريم"، إلى آخر تلك البحوث النورانية. وإذا ما واصلت السير معه في درب الهدى إلى النقد، نجده الإمام الذي لا يخشى في الحق أحداً، ولايسكت عن رأي جاهل أو مضلّ يدس على الإسلام، بل سرعان ما يجرد قلمه المؤمن؛ ليحطم به أفكار أعداء الحق، ويدلي بالحجة بعد الحجة، والبينة إثر البينة، فيفحم الحائدين عن جادة الصواب، ويردهم على أعقابهم خاسئين خاسرين. جمعت تلك البحوث والردود ومقالات النقد في كتاب خصصت به ما كتبه الإمام عن القرآن العظيم، والدفاع عن آياته ومعانيه، وجعلت لها عنوانا: "بلاغة القرآن"، وهو البحث الأول في الكتاب. رحم الله الإمام محمد الخضر حسين الذي كان مثالاً عزّ مثيلُه في الكفاح والجهاد والدفاع عن الحق دون خوف أو سأم. وأذكر بيتاً من الشعر للعم الإمام يردده، وهو قائله: ولولا ارتياحي للنضال عن الهدى ... لفتشت عن واد أعيش به وحدي ذكرت في الهامش عند مطلع كل بحث: المصدرَ الذي نقلت عنه. والله نسأل الهداية والتوفيق في خدمة رسالة الإسلام، والحمد لله رب العالمين. علي الرّضا الحسيني

بلاغة القرآن

بلاغة القرآن (¬1) لدعوة الإسلام براهين ناطقة بأنها دعوةُ حقٍّ، ولسانُ صدقٍ، وأقوى هذه البراهين دلالةً، وأملؤها للقلوب يقيناً: ذلك الكتابُ الذي نزل به الروح الأمين على خاتَم النبيّين. ولو لم تقترن الدعوة الإسلامية إلا به، لكان كافياً في إقامة الحجّة على أنها الرسالة الشاملة الخالدة. وللبحث في إعجاز القرآن نوَاحٍ كثيرة، اتجه إليها المفسرون وعلماءُ البيان بتفصيل، فكشفوا الغطاء عن كثير من أسرارها، ووضعوا أيديهم على جانب عظيم من حقائقها، والناحية التي سنحدِّثك عنها في هذا المقال هي: ناحية بلاغته، وحسن بيانه. بلاغةُ القول: أن تكون ألفاظه فصيحة، ونظمه محكماً، ودلالته على المعنى منتظمة وافية. أما فصاحة ألفاظه، فبأن يسهلَ جريانها على اللسان، ويخفَّ وقعها على السمع، ويألفها الذوق غيرَ نابٍ عنها، وهي مع ذلك جاريةٌ على ما ينطق به العرب، أو يجري على قياس لغتهم. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد العشرين الصادر في شهر ربيع الأول 1367 هـ.

وأما إحكام نظمه، فبأن تقع كل كلمة منه موقعها اللائق بها؛ بحيث تكون كلماته متناسبة، يأخذ بعضها برقاب بعض، فلا يمكنك أن تضع يدك على كلمة وتقول: ليت هذه الكلمة تقدمت عن تلك الكلمة، أو تأخرت عنها. وأما انتظام دلالته، فبأن يطرق اللفظُ سمعك، فيخطر معناه في قلبك، وحصولُ المعنى في القلب بسرعة، أو بعدَ مهلة يرجع إلى حال السامع من الذكاء، أو بطء الفهم، وحال المعنى من جهة ظهوره، وقرب مأخذه، أو دقته وغرابته. ويتحقق انتظام دلالة الكلام بإخراج المعاني في طرق تُريكَها في أقوم صورة، وأعلقها بالنفس؛ كالتشابيه، وضرب الأمثال، والاستعارات، والكنايات المصحوبة بقرائن تجعل قصد المتكلم قريباً من فهم السامعين. وأما كون الدلالة على المعنى وافية، فبأن يؤدي اللفظ صورَ المعاني التي يقصد المتكلم البليغ إفادتها للمخاطبين على وجه أكمل؛ بحيث تكون العبارة بمفرداتها وأسلوبها كالمرآة الصافية، تعرض عليك ما أودعت من المعاني، لايفوت ذهنك منها شيء. ونريد من المعاني التي يؤديها الكلام غير منقوصة: ما يشمل المعاني التي يراعيها البليغ زائدة على المعنى الأصلي الذي يقصد كل متكلم إلى إفادته، وهي المعاني التي يبحث عنها في علم البيان، وتسمى: "مستتبعات التراكيب"، وكثيراً ما ننبه لهما فيما نكتب من التفسير. هذه الوجوه التي يرجع إليها حسنُ البيان يتنافس فيها البلغاء من الكتاب والشعراء ويتفاضلون فيها، درجات، فترى كلاماً في أدنى درجة، وآخر فيما

هي أرفع منها، ولا تزال تصعِّد نظرك في هذه الدرجات المتفاوتة إلى أن تصل إلى كلام يبهرك بفصاحة مفرداته، ومتانة تأليفه، وانتظام دلالته، وبهجة معانيه المالئة ما بين جوانبه. فإذا أردنا أن نتحدث عن بلاغة القرآن، أتينا إلى البحث عنها من هذه الوجوه التي وضعناها بين يديك، فننظر في ألفاظه من جهة فصاحتها، وفي نظمه من جهة أخذ كل كلمة الموضعَ اللائق بها، وفي دلالتها من جهة تصوير المعاني، وإيصالها إلى الأذهان من غير تعسف، ولا التواء، ثم في جمله من جهة ما تحمل من المعاني التي يستدعي المقام مراعاتها. أما فصاحة مفرداته، فلا تمرُّ بك كلمة منه إلا وجدتَها محكمة الوضع، خفيفة الوقع على السمع. وأما متانة نظمه، فقد بلغت الغاية التي ليس وراءها مطلع، فلا يمكنك -وأنت العارف بقوانين البيان، الناظرُ في منشآت البلغاء لإمعان- أن تشير إلى جملة من جمله، وتقول: ليتها جاءت على غير هذا الوضع، أو تشير إلى كلمة من كلمها، وتقول: لو استبدل بها كلمة أخرى، لكانت الجملة أشدَّ انسجاماً، وأصفى ديباجة. يصل الكلمة بما يلائمها، ويعطف الجملة على ما يناسبها، ويضع الجملة معترضة بين الكلمتين المتلائمتين، أو الجملتين المتناسبتين، فترى الكلمتين أو الجملتين مع الجملة المعترضة بينهما كالبناء المحكم المتلائم الأجزاء، فلا يكاد الفكر يشعر بأنه انقطع بالجملة المعترضة عن الكلمة الأولى، أو الجملة، ثم عاد إلى كلمة أو جملة مرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً. وأما انتظام دلالته على ما يقصد إفادته وإحضاره في الأذهان، فإنك

ترى فيه التشابيه الرائعة، والأمثال البارعة، والاستعارات الطريفة، والمجازات اللطيفة، والكنايات المنقطعة النظير، والتعريض الذي يقتضيه المقام، فيكون أقربَ إلى حسن البيان من القول الصريح. وقد يخطر على بالك أن في القرآن آياتٍ مشكلة، أو متشابهة، والحق الذي لا مرية فيه: أن لا إشكالَ في القرآن عند من يتدبره برويَّة، ويأتي إلى التفقه فيه، وقد تزود بقوانين لغة العرب، واستضاء بمعرفة فنون بيانها. وليس في القرآن متشابه على معنى أن في الآيات ما لا يظهر تأويله للناس؛ بحيث يتلُونه، أو يستمعون إليه، ولا يعودون بفائدة علمية أو أدبية. وأما استيفاؤه للمعاني التي يستدعي الحال الإفصاحَ عنها، أو الإيماء إليها، فإنك تنظر في الآية، وتتدبر المعنى الذي سيقت من أجله، فتعود منها ويدك مملوءة من الفوائد التي تقع إليها؛ من حيث تقرر شريعة، أو تقيم حجّة، أو تلقي موعظة، أو ترسل حكمة، إلى نحو هذا مما تستبين به سبيل الرشد، وتنتظم به شؤون الحياة، وترتفع به النفوس إلى أعلى درجات الفلاح في دنياها وآخرتها. بلغ القرآن الطرف الأعلى من حسن البيان، على الرغم من أشياء اجتمعت له، ولو عرضت لكلام مخلوق، لنزلت به عن المكانة العالية إلى ما هو أدنى. ترى البليغ من البشر يحسن البيان، ويأخذ لبَّكَ بالمنشآت الرائقة، حتى إذا طال به مجال القول، وقطع فيه أشواطاً واسعة، رأيت في جمله أو أبياته تفاوتاً في البراعة، وأمكنك أن تبصر فيها ضعفاً، وتستخرج بنقدك الصحيح من أواخر كلامه مآخذ أكثر مما تستخرج من أوائلها. ولكن القرآن الكريم على طول أمده، وكثرة سوره، نزل متناسباً في

حسن بيانه؛ كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] , ثم قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. وترى البليغ من البشر يخوض في فنون من الكلام متعددةٍ، فإذا هو يرتفع في فن، وينحط في آخر. ولكن القرآن الكريم يتصرف في فنون كثيرة؛ مثل: الوعظ، وإقامة الحجج، وشَرْع الأحكام، والوصف، والوعد والوعيد، والقصص، والإنذار، وغير ذلك من الوجوه التي تتصل بالهداية العامة، فلا تتفاوت فيها ألفاظه الرشيقة، وأساليبه البديعة. والمعروف أن القرآن أتى بحقائق أَسَّس بها شريعة واسعة النطاق، وليس من شأن هذه المعاني أن تظهر فيها براعة البلغاء كما تظهر فيما ألفوه من نحو: المديح، والرثاء، والتهمئة، والغزل، ووصف المشاهد، إلى غير ذلك مما يطلقون لأفكارهم فيه العِنان، فتذهب مع الخيال كل مذهب، وترتكب من المبالغات ما استطاعت أن ترتكب، والقرآن الكريم يعبر عن تلك المعاني التي تستدعي صدق اللهجة، وصوغ الأقوال على أقدار تلك الحقائق، فترى الفصاحة ضاربة أطنابها، والبلاغة مرسلة أشعتها. في بلغاء البشر من تحس من شعره أو خطبته أو رسالته أنه لم يكن يتصنع فيما يقوله، ذلك أنك تجد في كلامه: الجيد، والوسط، والرديء، وفيهم من تحس فيما يقوله التصنع، وهذا هو الذي يغلب على كلامه المنظوم أو المنثور الجودةُ في تصوير المعنى، والتعبير عنه بكلام موزون، أو غير موزون. ولكن القرآن الكريم بالغٌ الغايةَ من حسن البيان، فلا يجد فيه الراسخ في نقد المنشآت البليغة ما ينزل عن الدرجة العليا، بل يحس روح البلاغة

التي لا يحوم عليها شيء من التصنع سارية في آياته وسوره، سواء في ذلك تصويره للمعاني، أو نظم الألفاظ الناطقة بها. ومن مظاهر بلاغة القرآن: أنه يورد القصة في أوفى درجة من حسن البيان، ثم يعيدها في سُورَةِ أخرى على حسب ما يقتضيه مقام الوعظ، حتى إذا عقدت موازنة بين حكايتها هنا، وحكايتها هناك، وجدتهما في مرتبة واحدة من البلاغة، لا تنزل إحداهما عن الأخرى بحال. أما البليغ من البشر، فقد يسوق إليك القصة في عبارات أنيقة، ثم يريد أن يعيدها مرة أخرى، فإذا هي في درجة من البراعة منحطة عن درجتها الأولى.

نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية

نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية (¬1) " يتحدث الناس عن نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية، وتأتينا الرسمائل في السؤال عن حكم هذا النقل، وذلك ما دعاني أن أنظر في هذا الموضوع الخطير، وأعرض ما وصلت إليه من نتيجة، وأرجو أن أكون ممن استقام في البحث حتى اهتدى إلى الحقيقة". * هل في المستطاع ترجمة القرآن إلى لغة غير عربية؟ للقرآن -ككل كلام عربي بليغ- معانٍ أصلية، وهي ما يستوي في فهمه كل من عرف مدلولات الألفاظ المفردة، وعرف وجوهَ إعرابها؛ من فاعلية، ومفعولية، وحالية، وإضافية، وما يشاكل ذلك من الأحوال المبحوث عنها في علم النحو. فالمعنى الأصلي في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] يفهمه كل من له إلمام باللغة العربية، سواء عليه أكان خبيراً بطرق البلاغَة، أم فاقدَ الإحساس الذي يتذوق به طعمها، فكل عارف بمدلولات ألفاظ هذه الآية، ووجوه إعرابها، يعقل منها أن قَتْل الذي يَقتل نفساً بغير حق، يحمي من القتل فيما بعد، ويكون سبباً لحياة كثير من الناس؛ لما في القصاص من الزجر البالغ والإرهاب. ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء الثاني من المجلد الثاني الصادر في شهر صفر 1350 هـ.

وللقرآن معانٍ ثانوية، ويسميها علماء البلاغة بـ: مستتبعات التراكيب، وهي خواص النظم التي يرتفع بها شأن الكلام، وتتسابق في مجالها فرسان البلاغة من الخطباء والشعراء، فقد يتحد الخطيبان أو الشاعران فيما يريدان إفادته من المعاني الأصلية، ويتفاضلان فيما يتبع هذه المعاني من لطائفَ ومعانٍ ثانوية. والمعنى الأصلي قد يوافق فيها بعضَ الآيات منثورٌ أو منظوم من كلام العرب، ولا تمس هذه الموافقة إعجاز القرآن؛ فإن إعجازه ببديع نظمه، وروعة بيانه، وبما حفَّ به من المعاني الزائدة على أصل المراد، وبحكمة معنى كل آية؛ بحيث لا يجد أولو الأبصار في آياته تخاذلاً، ولا في كلماته لاغية، وبما يضاف إلى هذا من إخباره عن غيوب وقعت كما وصفها. وإذا كان للقرآن معانٍ أصلية، وأخرى تابعة، وهي مظهر بلاغته، وملاك إعجازه، فإن ترجمته بالنظر إلى المعاني الثانوية غيرُ ميسورة، إلا أن توجد لغة توافق اللغة العربية في دلالة ألفاظها على هذه المعاني المسماة عند علماء البيان: خواص التراكيب، وذلك ما لا يسهل على أحد ادعاؤه، وممن نبَّه على هذا في القديم: أبو القاسم الزمخشري في "كشافة" إذ قال: "إن في كلام العرب -خصوصاً القرآن- من لطائف المعاني ما لا يستقل بأدائه لسان". وليس في هذا إنكار أن يكون في اللغات الأخرى بلاغة، ويكفي في تعذر ترجمة ما يحمله اللفظ العربي من دقائق المعاني، أن هذه المعاني، أو بعضها، مما لا يشير إليه اللفظ المرادف له من اللغة الأجنبية، إلا أن تصاغ له جملة مستقلة، وأضرب المثل لهذا بأن تقديم المفعول على الفعل يدل

في اللغة العربية على الاهتمام بشأنه، وربما كانت اللغة الأخرى لا تدل بالتقديم على هذا المعنى، فيحتاج المترجم في الدلالة على معنى الاهتمام الذي يشير إليه اللفظ العربي بالتقديم إلى عبارة أخرى بعد العبارة التي ينقل بها أصل المعنى، وإذا كان التنكير يدلّ في اللغة العربية على التعظيم أو التحقير، ولم يعتد أهل اللغة الأجنبية أن يدلّوا به على هذا المعنى، فإن المترجم يقتصر في ترجمة الاسم النكرة على مدلوله اللغوي، ويفوته معنى التعظيم أو التحقير الذي يعدُّ من مقاصد المتكلم العربي، ويدخل فيما يورث الجملة العربية رفعة، وإذا زاد المترجم كلمة ترادف معنى عظيم أو حقير، ذهب رونق البلاغة الذي هو حلية اللفظ العربي؛ لأن لأخذ هذا المعنى من التنكير وقعاً في نفس السامع غيرَ الوقع الذي يكون له عندما ينطق المتكلم بلفظه الصريح. وعلى فرض أنه يوجد لسان أجنبي يستقل بأداء ما في كلام العرب من لطائف المعاني، فلا يثق أحد بأنه وصل إلى كل ما في الآية من المعاني التي يرتفع بها شأن الكلام، حتى يصح له ادعاء أنه عبّر باللغة الأجنبية عن كل ما أريد من الآية، وأن نقله لها إلى تلك اللغة ترجمة طبق الأصل. والذي يمكن نقله إلى لغة أخرى إنما هو معانيه الأصلية؛ حيث لا تقصر اللغات الأجنبية عن تأديتها. قال أبو إسحق الشاطبي في كتاب "الموافقات": "إن ترجمة القرآن على الوجه الأول -يعني: النظر إلى معانية الأصلية- ممكن، ومن جهته صح تفسير القرآن، وبيان معانيه للعامة، ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه، وكان ذلك جائزاً باتفاق أهل الإسلام، فصار هذا الاتفاق حجَّة في

صحة الترجمة على المعنى الأصلي". وإذا كان نقل المعاني الأصلية قد يقع صحيحاً، وكان في مستطاع من يجيد لغة أجنبية أن ينقل هذه المعاني من اللغة العربية إلى اللغة التي أجاد معرفتها، لم يبق سوى النظر في تفصيل حكم هذا النقل، وبيان حال المنع منه، أو الإذن فيه. ويرجع النظر في هذا البحث إلى مقامين: المقام الأول: قراءة ترجمة القرآن في الصلاة. والمقام الثاني: نقل معاني القرآن ليطلع عليها أهل ذلك اللسان لعلهم يهتدون. المقام الأول: نجد في المسائل التي هي موضع خلاف بين الأئمة: القراءة في الصلاة بألفاظ غير عربية يعبر بها عن طائفة من معاني القرآن الكريم. يروى عن الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه -: أنه كان يرى جواز القراءة في الصلاة باللغة الفارسية، وبنى بعض أصحابه على هذا القول جوازها بالتركية والهندية، وغيرها من الألسنة، وظاهر هذه الرواية: جواز القراءة بالفارسية ونحوها، ولو كان المصلّي قادراً على النطق بالعربية، ومبنى هذا على أن القرآن اسم للمعاني التي تدل عليها الألفاظ العربية، والمعاني لا تختلف باختلاف ما يتعاقب عليها من الألفاظ واللغات. أما صاحباه الإمامان أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، فجعلا القراءة في الصلاة باللسان الأعجمي من قَبيل ما تدعو إليه الضرورة، فأجازاها للعاجز عن العربية، دون القادر على القراءة بها، وهذا ما تجري به الفتوى

في مذهب الحنفية. قال في "معراج الدراية": "إنما جوّزنا القراءة بترجمة القرآن للعاجز إذا لم يخل بالمعنى؛ لأنه قرآن من وجه باعتبار اشتماله على المعنى، فالإتيان به أولى من الترك مطلقاً، إذ التكليف بحسب الوسع". وما روي عن الإمام أبي حنيفة من جواز القراءة في الصلاة بترجمة القرآن قد صح رجوعه عنه، حكى هذا الرجوع عبد العزيز في "شرح البزدوي"، قال صاحب "البحر المحيط": "والذين لم يطلعوا على الرجوع من أصحابه قالوا: أراد به عند الضرورة، والعجز عن القرآن، فإن لم يكن كذلك، امتنع، وحكم بزندقة فاعله". وليس الإلحاد ممن قدر أن يقرأ في الصلاة بالعربية، فعدل عنها إلى الأعجمية ببعيد. أما المالكية والشافعية والحنابلة، فقد منعوا القراءة بترجمة القرآن في الصلاة، سواء أكان المصلي قادراً على العربية، أم عاجزاً، ناظرين إلى أن ترجمة القرآن ليست قرآناً، إذ القرآن هو هذا النظم المعجز الذي وصفه الله تعالى بكونه عربياً، وبالترجمة يزول الإعجاز. قال القاضي أبو بكر بن العربي -وهو من فقهاء المالكية- في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44]: قال علماؤنا: هذا يبطل قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه -: إن ترجمة القرآن بإبدال اللغة العربية منه بالفارسية جائز؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} نفى أن يكون للعجمة إليه طريق، فكيف يصرف إلى ما نفى الله عنه؟ ثم قال: "إن التبيان والإعجاز إنما يكون بلغة العرب، فلو قلب إلى

غير هذا، لما كان قرآناً ولا بياناً، ولا اقتضى إعجازاً". وقال الحافظ ابن حجر-وهو من فقهاء الشافعية- في "فتح الباري": "إن كان القارئ قادراً على تلاوته باللسان العربي، فلا يجوز له العدول عنه، ولا تجزئ صلاته (أي: بقراءة ترجمته)، وإن كان عاجزاً"، ثم ذكر أن الشارع قد جعل للعاجز عن القراءة بالعربية بدلاً، وهو الذكر. وقال الشيخ ابن تيمية -وهو من فقهاء الحنابلة- في الرسالة الملقبة بـ: "السبعينية": "وأما الإتيان بلفظ يبين المعنى؛ كبيان لفظ القرآن، فهذا غير ممكن أصلاً، ولهذا كان أئمة الدين: على أنه لا يجوز أن يقرأ بغير العربية، لامع القدرة عليها، ولا مع العجز عنها؛ لأن ذلك يخرجه عن أن يكون هو القرآن المنزَّل". وخلاصة البحث: أن الخلاف في القراءة في الصلاة بغير العربية يرجع إلى مذهبين: أولهما: أن ذلك محظور، والصلاة بهذه القراءة غير صحيحة، وهو مذهب الجمهور من أئمة الدين. وثانيهما: جواز القراءة بالأعجمية عند العجز عن النطق بالعربية، وهو مذهب الإمامين: أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، ولا يعد بجانب هذين المذهبين ما يعزى للإمام أبي حنيفة من صحة القراءة بالفارسية، ولو للقادر على العربية؛ لما عرفت من صحة رجوع الإمام عنه، والقول الذي يرجع عنه الإمام لا يعد قولاً في المذهب، وإذا نظرنا إلى أن من الفقهاء الحنفية من حمل ما روي عن الإمام أبي حنيفة على حال العجز عن العربية، لم يبق في المذهب الحنفي سوى قول واحد، وهو تقييد الجواز بحال

العجز عن النطق بالعربية. المقام الثاني: في نقله للاطلاع على حكمته: في النقل وجوه من الفساد تقتضي المنع منه، وفي النقل مصلحة تستدعي الإذن فيه، وها نحن أولاً نذكر لك وجوه الفساد، ونكشف عن وجه المصلحة، ونعرض عليك آراء أهل العلم، ونرجو أن يكون نقل ما يمكن نقله من المعاني الأصلية على وجه التفسير غير محظور. * وجوه الفساد في ترجمته: الترجمة نوعان: أحدهما: أن يعمد المترجم إلى كل كلمة عربية، ويضع بدلها ما يرادفها من اللسان غير العربي، ثم يسوق الجملة مراعياً ترتيبها على قدر ما تسمح به قواعد ذلك اللسان، وهذا ما يسمى: ترجمة حرفية. ثانيهما: أن يلم بمعنى الجملة العربية، ثم يصوغه في جملة من اللغة الأخرى، سواء أساوت ألفاظُ الترجمة ألفاظَ الأصل، أو اختلفتا إيجازاً وإطناباً، وهذا ما يسمى: ترجمة معنوية. والخلل الذي تشترك فيه الترجمتان -الحرفية والمعنوية-: أن يكون اللفظ ذا معنيين، أو معان تحتملها الآية، فيضطر المترجم إلى أن يضع بدله من اللغة الأجنبية اللفظ الموضوع لما يختاره من المعنيين، أو المعاني؛ حيث لا يجد لفظاً يشاكل اللفظ العربي في احتمال تلك المعاني المتعددة. ومثال هذا: ما صنع (ماكس هينج) مترجم القرآن للِّسان الألماني، فإنه ترجم الإبِلَ في قوله: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] باللفظ الموضوع في الألماني للسحاب، وهو أحد المعاني التي حملت عليها الآية،

والجمهور يفسرون الإبل بالحيوان المعروف، وهو المتبادر، ولا داعي إلى صرف اللفظ عنه إلى ذلك المعنى المجازي، وهو السحاب. ومن الخلل الذي يدخل الترجمة الحرفية: أن يستعمل القرآن اللفظ في معنى مجازي، فيأتي المترجم بلفظ يرادف اللفظ العربي في معناه الحقيقي. وهذا ما صنع (مارماديوك بكتهول) مترجم القرآن إلى اللسان الإنكليزي في كثير من الآيات، وقد وقع من هذه الناحية في أخطاء لا تحصى، تجدونه -مثلاً- يترجم قوله تعالى: {فَيَدْمَغُهُ} من آية: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء: 18] بمعناها الأصلي، وهو: (فيشج رأسه)، ويترجم قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] بمدلولها الأصلي، وهو جمع اليد إلى العنق، وإطلاقها، والقارئ الإنكليزي لم يعتد أن يفهم من مثل شج الرأس معنى الغلب، ولا من جمع اليد إلى العنق وإطلاقها معنى البخل والإسراف. ومن هذا القبيل: أن يطلق لفظاً عاماً، ويريد به خاصاً؛ كما أطلق الواقعة على يوم القيامة في قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة: 1]، فيأتي المترجم بما يرادف الواقعة دون ما يرادف يوم القيامة، وكذلك فَعل المترجم الألماني، إلا أنه كتب في أسفل الصحيفة منبهاً على أن المراد: يوم القيامة. ومن هذا الباب: أن يستعمل القرآن الكلمة، ومعناها لا يظهر إلا بملاحظة متعلق محذوف، ويكون هذا المتعلق قريب المأخذ في النظم العربي، دون لغة الترجمة؛ كقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11]؛ فإن ترجمتها من غير ذكر متعلق السابقين الواردة

أولاً، وهو: (في الدنيا)، ومتعلق السابقين الواردة ثانياً، وهو: (في الآخرة) لا تأتي للقارئ الألماني بفائدة. وفي القرآن بعد هذا كلمات كثيرة اختلف فيها أهل العلم، فمنهم من يقف دون تفسيرها، فيؤمن بأن لها معاني صحيحة، ويدع تعيين هذه المعاني إلى علم الله وحده، ومنهم من يأخذها بالتأويل، ويذكر لها معاني معقولة، ويذهب هذا الفريق في التأويل مذاهب يحتاج ترجيح أحدها على غيره إلى ذوق في لغة العرب سليم، ونظر في فهم أصول الدين مستقيم، وهذا ما يسمونه: آيات الصفات في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. وقد تعرض الإمام الغزالي في كتاب "إلجام العوام للأخبار الموهمة للتشبيه"، وقرر الإمساك عن التصرف في ألفاظها بتفسيرها بلغة غير عربية، وقال: "لا يجوز النطق إلا باللفظ الوارد، لأن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها، ومنها ما يوجد لها فارسية تطابقها، لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها، ومنها ما يكون مشتركاً في العربية، ولا يكون مشتركاً في الفارسية". ولما يعرض في ترجمة القرآن من الصعوبة، أجاز بعضهم ترجمة الآيات المحكمة والقريبة المعنى بمقدار الضرورة إليهما من التوحيد وأركان العبادات، وقال: لا يتعرض لما سوى ذلك، ويؤمر من أراد الزيادة على ذلك بتعلم اللسان العربي (¬1). * الداعي إلى نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية: كان المسلمون -فيما سلف- يقتحمون للسيادة كلَّ وعر، ويركبون ¬

_ (¬1) نسبه الزركشي في "البحر المحيط" إلى بعض الأئمة المتأخرين من المغاربة.

لإظهار دين الله كل خطر، ويلبسون من برود البطولة والعدل وكرم الأخلاق ما يملأ عيون مخالفيهم مهابة وإكباراً، وكانت اللغة العربية تجر رداءها أينما رفعوا رايتهم، وتنتشر في كل واد وطئته أقدامهم، فلم يشعروا في دعواتهم إلى الإسلام بالحاجة إلى نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية، وربما كان عدم نقلها إلى غير العربية، وهم في تلك العزة والسلطان، من أسباب إقبال غير العرب على معرفة لسان العرب، حتى صارت أوطان أعجمية إلى النطق بالعربية. ذلك الأمر الذي جعل اللغة العربية تتقلب في البلاد، والقرآن يُدرس باللسان الذي نزل به في كل واد، قد سكنت منذ حين ريحه، وتقطعت أسبابه، غشيت المسلمين فتن، وناموا عن واجب الدعوة إلى سبيل ربهم، فخسروا مظاهر عزِّهم، وفقدوا الوسائل التي كانت تسعد اللغة العربية، فتنطلق بها ألسنة المخالفين، ويدخلون منها إلى الاطلاع على ما في القرآن من بلاغة وحكمة. أصبحنا أمام أمر واقع، هو: عدم استطاعتنا لنشر اللغة العربية في غير بلاد إسلامية يرأسها مسلم طاهر السريرة، وإبلاغ دعوة الإسلام إلى الشعوب غير الإسلامية فريضة لا تسقط إلا حين يسقط غيرها من الفرائض، فلا بد لنا من ابتغاء الوسيلة إلى القيام بهذه الفريضة، وليس في يدنا اليوم وسيلة إلاَّ نقل معاني القرآن إلى ألسنة من نريد دعوتهم إلى شريعته الغراء. ومما يدعو اليوم إلى نقل معانيه إلى بعض اللغات الأجنبية على وجه التفسير: أن كئيراً من الأوربيين -ومنهم قُسس- قد ترجموا القرآن إلى لغاتهم تراجم مملوءة بالخطأ، وإنما يُكفى شر هذا الفساد بإراءة أصحاب تلك

اللغات معاني القرآن على وجهها الصحيح. هذا ما يأخذ النظر إلى مذهب الإذن في نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية، وقد صرح بجواز هذا النقل طائفة من كبار أهل العلم. قال ابن بطَّال: "إن الوحي كله -متلوّاً وغير متلوٍّ- إنما نزل بلسان العرب، ولا يرد على هذا كونه - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الناس كافة، عرباً وعجماً وغيرهم؛ لأن اللسان الذي نزل عليه به الوحي عربي، وهو يبلغه إلى طوائف العرب، وهم يترجمونه لغير العرب بألسنتهم". وقال الحافظ ابن حجر: دافمن دخل الإسلام، أو أراد الدخول فيه، فقُرِى عليه القرآن، فلم يفهمه، فلا بأس أن يعرَّب له؛ لتعريف أحكامه، أو لتقوم عليه الحجة، فيدخل فيه" (¬1). وقال ابن تيمية في "الرسالة السبعينية": "ولكن يجوز ترجمته كما يجوز تفسيره، وإن لم تجز قراءته بألفاظ التفسير، وهي إليه أقرب من ألفاظ الترجمة بلغات أخرى". وبعض من منعوا ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية صرحوا بما يقتضي جواز تفسيره بها. قال القفّال من كبار علماء الشافعية: عندي أنه لا يقدر أحد على أن يأتي بالقرآن بالفارسية، قيل له: فإذاً لا يقدر أحد أن يفسر القرآن، قال: ليس كذلك؛ لأن هناك يجوز أن يأتي ببعض مراد الله، ويعجز عن بعضه، أما إذا أراد أن يقرأها بالفارسية، فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد الله. ¬

_ (¬1) "الفتح"، باب: ما يجوز من تفسير التوراة وكتب الله بالعربية.

* نتيجة البحث: إذا كانت ترجمة القرآن إبدالَ اللفظ العربي بلفظ من لغة أجنبية يقوم مقامه في الدلالة على ما يفهم منه عربية، فإنا نرى كثيراً من الآيات لا يمكن ترجمتها على هذا الوجه ترجمةً صحيحةً، فترجمة القرآن من فاتحته إلى منتهاه غير متيسرة، ولو بالنظر إلى المعاني الأصلية؛ فإن الآيات المحتملة لوجوه متعددة لا يمكن نقلها إلى لغة أخرى إلا على وجه واحد، وهذا ليس بترجمة، وإنما يصح أن يسمى: تفسيراً، إذاً يجوز نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية على أنها تفسير، لا على أنها ترجمة مطابقة للأصل. ولا بد في نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية من إشعار القارئين بأن هذا النقل تفسير لا ترجمة، ومن طرق التنبيه: جمل تكتب في حواشي الصحائف يبين بها أنَّ هذا أحد وجوه، أو أرجح وجوه تحتملها الآية، ومما يُدفع بمثل هذا البيان: توهُّمُ من يقرأ تراجم الأوربيين أن في القرآن اختلافاً؛ فإن المترجم الألماني -مثلاً- قد ترجم {الْإِبِلِ} في قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] بالسحاب، والمترجم الإنكليزي ترجمها بمعنى الحيوان المعروف، فالأورويي الذي يقرأ الترجمتين يتوهم أن هذا الاختلاف في أصل نسُخ القرآن، ولا يخطر له أن هذا الاختلاف نشأ من جهة أن كلاً من المترجمين نقل معنىً من معنيين يحتملهما لفظ الآية. وإذا كانت الترجمة بمعناها الحقيقي -ولو للمعاني الأصلية- لا تتيسر في جميع آيات القرآن، وإنما المتيسر الترجمة على معنى التفسير، كانت الترجمة المعنوية أقرب إلى الصحة من الترجمة الحرفية، متى أفاد بها المترجم

معنى الآية في أسلوب من أساليب اللغة الأجنبية لا زيادة فيه ولا نقصان. فلو قامت جمعية ذات نيات صالحة، وعقول راجحة، وتولت نقل معاني القرآن إلى بعض اللغات الأجنبية، وهي على بينة من مقاصده، وعلى رسوخ في معرفة تلك اللغات، وتحامت الوجوه التي دخل منها الخلل في التراجم السائرة اليوم في أوروبا، لفتحت لدعوة الحق سبيلاً كانت مقفلة، ونشرت الحنيفية السمحة في بلاد طافحة بالغواية قاتمة.

رأي في تفسير القرآن

رأي في تفسير القرآن (¬1) أنزل الله القرآن هادياً إلى سبيل السعادتين الأولى والآخرة، مؤيداً هدايته بالحجج التي لا تدع في النفوس شبهة، وفي هذا الكتاب آيات تبدو معانيها للنّاسِ عند تلاوتها، ومنه آيات لا تبدو معانيها إلا لرسول، أو راسخ في العلم، فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقال - عليه الصلاة والسلام - داعياً لابن عباس - رضي الله عنه -: "اللهم فقَههُ في الدين، وعلِّمه التأويل"، وفي رواية: "علمه الحكمة وتأويل الكتاب". وورد في الصحيح أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسير بعض الآيات، ورويت آثار عن الصحابة في التفسير كذلك، وتعاطى التفسير من التابعين طوائف؛ كمجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، وعطاء بن رباح. وظهر بعد هؤلاء طبقة الذين ألفوا في التفسير كتباً تجمع أقوال الصحابة والتابعين؛ كسفيان بن عيينة، وشعبة بن الحجّاج، وإسحاق بن راهويه. وكتب في التفسير بعد هؤلاء جماعة منهم: ابن جرير الطبري في الشرق، وبقي بن مخلد في الأندلس، ودخل في زمرة المفسرين جماعة من علماء ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الخامس من السنة الأولى الصادر في شهر المحرم 1366 هـ - تشرين الثاني، نوفمبر 1947 م.

اللغة؛ كالفرّاء، وأبي عبيدة، والزجّاج. وصار التفسير إلى صنفين: تفسير يستند إلى الآثار المنقولة عن السلف، ويسمى: التفسير بالمأثور، وتفسير يستند إلى فهم علماء اللغة والبلاغة، ويسمى: التفسير بالرأي، وفي كل من الطريقتين علم غزير يقدره المنصف البصير، ولكنهما لم يخلوا من مآخذ يجب على الناظر في التفسير الاحتراس منها. أما التفسير بالمأثور، فقد دخله الخلل من جهة روايات لم يصح إسنادها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو إلى من نسبت إليه من الصحابة. وكان ابن جرير الطبري ينقد الروايات، فإذا ظهر له أن الرواية غير موثوق بها، تركها، وأبدى رأيه الخاص. ودخل في التفسير بالمأثور أشياء يأسرها نفر من الإسرائيليين؛ مثل: كعب الأحبار، ووهب بن منبه، فربما ينقل هؤلاء القوم من الإسرائيليات ما له اتصال بتفسير بعض الآيات من قصص القرآن، ويتلقاها بعض المفسرين دون أن يعنوا بتمحيصها، والتثبت في صحة روايتها، وممن تيقظ لهذا: أبو محمد بن عطية من علماء الأندلس، فلخّص تلك التفاسير، وتحرّى ما هو أقرب إلى الصحة، وتبعه القرطبي في تلك الطريقة، فأسقط من تفسير ابن عطية القصص والتاريخ، وأثبت بدلها أحكام القرآن، واستنباط الأدلة. وممن أنكر الأخذ بالإسرائيليات: أبو بكر بن العربي في تفسيره "قانون التأويل" (¬1). ¬

_ (¬1) يوجد منه قسم كبير بدار الكتب المصرية.

وأما التفسير بالرأي، فقد يدخله الخلل من جهة مخالفته لما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسير الآية برواية صحيحة، أو من جهة عدم موافقته لما تقتضيه قواعد اللغة أو بلاغتها؛ ذهولاً عنها، أو لقلة الخبرة بها. قال مالك: لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله تعالى إلا جعلته نكالاً. وعلى مثل هذا تحمل الآثار الواردة في ذم تفسير القرآن بالرأي، فمن واجب الكاتب في التفسير أن يتجه إلى تمحيص الروايات، ولا يعول إلا على ما صحت روايته، وأن يكون عارفاً بعلوم اللغة العربية، وفنون بلاغتها، وبهذا يسلم من أن يخوض فيما ابتدعه قوم من النوع الذي يسمونه: التفسير الباطني. والتفسير المنسوب إلى الباطن صنفان: صنف اخترعه طائفة من الزنادقة؛ ليعطلوا أحكام الشريعة، أو ليقلبوا حكمة القرآن إلى معان سخيفة، وهذا باطل ببداهة العقل. وصنف ينسب إلى المتصوفة، ويطلق عليه بعضهم: الكلام في القرآن من باب الإشارة، وقد تحدث عن هذا الصنف بعض أهل العلم، وأنكروا أن يكون من قبيل التفسير. قال الواحدي: صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق في التفسير، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير، فقد كفر. وقال ابن الصلاح: لا يريدون التفسير، ولو أرادوا أن ما يقولونه تفسير للقرآن، لكانوا من الباطنية، وإنما ذلك تنظير منهم لما ورد؛ أي: هي معان يجدونها في نفوسهم عند التلاوة.

فالفرق بين تفسير الباطنية، وبين تفسير أصحاب الإشارة؛ أن الباطنية يفسرون الآيات بتلك المعاني المنبوذة على أنها هي المقصود من القرآن، أما أصحاب الإشارة فيسلِّمون أن المراد من القرآن هي المعاني التي يذكرها أهل العلم بالتفسير، غير أنهم يذكرون عند تفسير الآية معاني تخطر في أذهانهم عند التلاوة، وإن لم تدل عليها الآية بطريق من طرق الدلالات المعروفة في الاستعمال العربي. ومع هذا الفرق الواضح بين صنفي التفسير بالباطن، فان الاقتصار في تفسير ألفاظ القرآن على ما يقتضيه استعمالها العربي، يكفي لتقويم العقول، وتزكية النفوس، وإرشادها إلى وجوه الإصلاح الذي تُدرك به السعادة في الآخرة والأولى. وإذا كان الباطنية يخرجون بألفاظ القرآن عن مقتضى أوضاعها ومجازاتها المألوفة، فهناك طائفة أخرى تحمل ألفاظه على حقائقها اللغوية. وقد يكون حملها على المجاز أو التمثيل هو الذي تقضي به البلاغة، ويستدعيه المقام الذي سيقت فيه الآية، ومن هذا كان من شرائط المفسر للقرآن: أن يكون ملماً بفنون البيان، ذا ألمعية مهذبة تسعده على أن يعرف المواضع التي تفهم فيها الألفاظ على حقائقها، والمواضع التي يليق ببلاغة القرآن أن تفهم فيها على المجاز، أو التمثيل. وحدث في هذا العصر آراء في التفسير يذيعها نفر لا يرقبون في القرآن حكمة ولا بلاغة؛ كمن ينكر المعجزات الكونية بإطلاق، فيؤول آيات المعجزات على وجوه تجعلها من الحوادث العادية، وإن كان تأويلها لا يجري على استعمال الألفاظ المعروف في اللغة، ولا تحتمله أساليب بلاغتها.

هذه هي الطريقة الموصلة إلى التفسير الحق -فيما نرى-. وننظر بعد هذا في الأهداف التي يتجه إليها المفسر، فنقول: أنزل القرآن لمقصدين ساميين: أولهما: هداية البشر إلى سبل السعادة في الحياتين الدنيا والآخرة. ثانيهما: دلالته على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما ادعاه من الرسالة التي هي مطلع تلك الهداية العامة، فكان أعظم معجزة وأخلدها على وجه الأرض. فمن أراد تفسير القرآن، فليتجه إلى وجوه الهداية التي أرشد إليها؛ من نحو: العقائد، والعبادات، والأخلاق، والآداب، وأحكام المعاملات، ويتجه مع هذا إلى الوجوه التي كان بها معجزة خالدة. وقد تفاوتت آراء المفسرين في البحث عن وجوه هدايته، ووجوه إعجازه على قدر تفاوتهم في العلم والفهم. وتجاوز قوم حدود هذين الهدفين، وأطلقوا لأقلامهم العنان، فاستطردوا في التفسير مباحث لا يتوقف عليها فهم القرآن من حيث إنه هداية، أو مباحث لا يحتاج إليها في تقرير وجه من وجوه إعجازه، وإنما هي مسائل ترجع إلى علوم أخرى مستقلة بنفسها. كنت يوماً في مجلس حافل، فقال أحد حاضريه: إن القرآن نزل للوعظ والإرشاد، ولا يضره أن يوجد فيه ما يكون مخالفاً لقضايا بعض العلوم القطعية. فقلت: نحن نعلم أن القرآن الكريم لم ينزل لبيان الحقائق العلمية التي يبحث عنها في مثل العلوم الطبيعية والرياضية، ولكنه إذا عرَّج في طريق هدايته على شيء مما يبحث عنه أرباب هاتيك العلوم، عرفنا حق

اليقين أنه لا يقول إلا حقاً، ولا أرى هذا الرأي الذي أبديتَه إلا أنك فرضته فرضاً؛ إذ لا تستطيع أن تأتينا بمثال يرينا كيف قرر القرآن شيئاً يخالف ما ثبت في العلوم اليقينية. وهنا انقطعت المحاورة العلمية بيني وبينه من ناحية المباحثة العلمية. وقد يورد بعض من لا يفرق بين الظنيات والعلميات، ومن لا يمعن النظر في فهم البليغ من الكلام، أشياءَ يزعم أنها علميات جاء القرآن على خلافها، فمن واجب المفسر أن يتصدى لإزاحة هذه الشُّبَه، ويبين بالطريق المنطقي أن ما أورد على القرآن لا يدخل في العلميات، أو يذهب في تفسير الآية على وجه يلائم بلاغة القرآن، ولا يخالف ما قرره العلم، وأقام الدليل على أنه قطعي لا يلابسه ريب.

أمثال القرآن الكريم

أمثال القرآن الكريم (¬1) ضرب الله الأمثالَ في كتابه العزيز، دلَّ على هذا الكتابُ نفسُه، فقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]، وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 27]. ودلَّ على هذا قوله - عليه الصلاة والسلام - فيما رواه الترمذي عن عليٍّ - رضي الله عنه -: "إنّ الله أنزل القرآن آمراً وزاجراً، وسنَّة خالية، ومثلاً مضروباً". وتتبع ابن القيم أمثال القرآن التي تضمنت تشبيه الشيء بنظيره، والتسوية بينهما في الحكم، فبلغت بضعة وأربعين مثلاً. وجرى على طريقة القرآن في ضرب الأمثال أحاديثُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى روي عن عبد الله بن عمر: أنه قال: "حفظتُ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ألفَ مثل"، وهذا الأثر قد نبه نقَّاد الحديث على عدم صحته، لكن روايته تُشعر بأن الأمثال الواردة في السنة ليست بقليل. وقد عقد للأمثال النبوية أبو عيسى الترمذي في "جامعه" باباً أورد فيه ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد السادس عشر الصادر في شهر رمضان 1362 هـ.

أربعين حديثاً. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "لم أر من أهل الحديث من صنَفَ فأفرد للأمثال باباً غير أبي عيسى، ولله درُّه، لقد فتح باباً، وبنى قصراً أو داراً، ولكنه اختط خطاً صغيراً، فنحن نقنع به، ونشكره عليه". فللأمثال أثر بليغ في تلقي الدعوة بالقبول، لذلك أحرزت بين الأساليب التي يتحراها القرآن في هدايته منزلةً سامية. ولما دعاني حضرات الفضلاء جماعةُ المحاضرات بكلية اللغة العربية إلى إلقاء محاضرة بالكلية، آثرت أن يكون موضوع المحاضرة: أمثالَ القرآن الكريم. فلا جرمَ أن نوجه النظر إلى البحث عن معنى المثل، ثم إلى البحث عن فوائد ضرب الأمثال، فتحقيق معنى المثل، وبيان الحكمة من ضربه، هما الغرضان اللذان نرمي إليهما في هذه المحاضرة. * المثل في اللغة: يستعمل المثل في أصل اللغة بمعنى التشبيه والمِثْل، ثم قالوا للقول السائر الممثل مضربه بمورده: مثلاً. والمثل بهذا المعنى هو الذي ألّفَ فيه علماء اللغة كتب الأمثال، كأبي عبيدة، وابن حبيب، وابن قتيبة، وابن الأنباري، وأبي هلال، والميداني. ولما كان العرب لا يضربون الأمثال إلا بقول فيه حُسن وغرابة، نقلوا لفظ المثل إلى معنى ثالث هو: الشأن الغريب، والقصة العجيبة، وبهذا المعنى فسر لفظ المثل في كثير من الآيات؛ كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15]. ونبّه الزمخشري لهذه المعاني الثلاثة، ودلَّ على أنها وردت في اللغة

على هذا الترتيب، فقال في "كشافه": "والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثل والنظير، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده: مثل، ولم يضربوا مثلاً، ولا رأوه أهلاً للتسيير، ولا جديراً بالتداول والقبول إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه، ثم قال: وقد استعير المثل للحال، أو الصفة، أو القصة إذا كان لها شأن، وفيها غرابة". وكذلك يقول السعد التفتازاني في "الشرح المطول": "ولكون المثل مما فيه غرابة، استعير لفظه للحال، أو الصفة، أو القصة إذا كان لها شأن غريب، ونوع غرابة؛ كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15]؛ أي: فيما قصصنا عليكم من العجائب قصة الجنة العجيبة". وحدث بعد هذا أن ذهب علماء البيان في تعريف المثل إلى معنى رابع، إذ قالوا في بحث المجاز المركب: إن المجاز المركب الذي تكون علاقته المشابهة متى فشا استعماله، سُمِّي: مثلاً، وإلا سُمِّي: مجازاً مرسلاً، وقالوا: فما لم يكن استعارة، أو لم يفشُ استعماله، فليس بمثل عندهم، فالمثل إذاً هو: المجاز الذي تكون علاقته المشابهة، ويفشو استعماله. وإنما قلنا: إن ما ذهب إليه البيانيون معنى رابع للمثل، وليس هو المعنى الذي يريده المؤلفون في أمثال العرب، ذلك أن المؤلفين في الأمثال لا يقصرون المثل على ما يكون استعماله من قَبيل الاستعارة؛ نحو قولك للمتردد في فعل أمر: "مالي أراك تقدِّم رِجلاً، وتؤخر أخرى؟ "، وقولك لمن ترك شيئاً عند سنوح الفرصة لإدراكه، ثم قام يسعى إليه بعد فوات الفرصة: "الصيفَ ضَيَّعْتِ اللبنَ". بل يطلقون المثل على كلام شائع؛ لحسنه، أو لاشتماله على حكمة بالغة، فيتناول كلاماً يكون استعماله في مضربه على

وجه الاستعارة، وما يكون استعماله على وجه الحقيقة؛ نحو: "السعيدُ من اتَّعظَ بغيرِه"، وما يكون استعماله على وجه التشبيه الصريح؛ نحو قولك: "يخاف شرَّه، ويشتهي قربَه"؛ كالخمر يشتهي شربها، ويخشى صداعها. فتلخص لنا مما سبق: أن للمثل معنى في أصل اللغة هو: الشبيه والمثل، ومعنى هو: القول السائر، ومعنى هو: الوصف الغريب، أو القصة الغريبة، ومعنى هو: المجاز المركب الذي تكون علاقته المشابهة، ويفشو استعماله. * المثل في القرآن: فإذا رجعنا بعد هذا إلى تعرف أمثال القرآن المشار إليها بمثل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]؛ لنعلم ما المراد من المثل الذي يضربه الله للناس، فهل يراد منه: الشبيه والنظير؟ أو يراد منه: القول السائر الذي يشبه مضربه بمورده، أو يراد منه الحال، أو القصة الغريبة، أو يراد: المجاز المركب المستعمل على وجه الاستعارة؟ لنا في تحقيق معنى المثل في القرآن نظران: ننظر أولاً في كلام من تصدوا في علوم القرآن إلى أمثاله، فكتبوا فيها مصنفاً مستقلاً كما فعل أبو الحسن الماوردي، أو عقدوا لها باباً خاصاً كما فعل الشيخ السيوطي في كتاب "الإتقان"، وفعل الشيخ ابن القيم في كتاب "إعلام الموقعين". ثم ننظر ثانياً في بعض معاني الآيات التي استعمل فيها القرآن كلمة المثل؛ لعلنا نعرف بها ماذا يراد من المثل في استعمال القرآن. النظر الأول في كلام من بحثوا في أمثال القرآن: لم يقع بأيدينا تأليف الماوردي في أمثال القرآن، ولكن السيوطي نقل

عنه: أنه قال: "من أعظم علوم القرآن علمُ أمثاله، والناس في غفلة عنه؛ لاشتغالهم بالأمثال، وإغفالهم الممثلات، والمثل بلا ممثل كالفرس بلا لجام، والناقة بلا زمام". وهذه العبارة تدل على أنه يريد من أمثال القرآن الآيات المشتملة على تمثيل حال أمر بحال أمر آخر، سواء أورد هذا التمثيل بطريق الاستعارة، أم بطريق التشبيه الصريح، وهذا المعنى هو الذي نفهمه من قول السيوطي: "الغرض من المثل: تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد". ولكن الشيخ السيوطي قسَّم الأمثال إلى أمثال صريحة، وأمثال كامنة، وأتى للأمثال الصريحة بأمثلة من الآيات المشتملة على تشبيه حال شيء بحال شيءآخر؛ كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17]. ثم أخذ في الحديث عن الأمثال الكامنة، ناقلاً لها عن الماوردي، فقال: "وأما الكامنة، فقال الماوردي: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب ابن إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سألت الحسن بن الفضل، فقلت: إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن، فهل تجد في كتاب الله: "خير الأمور أوساطها"؟ قال: نعم، وأورد آيات تتضمن معنى المثل، منها: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. قال: قلت: فهل تجد في كتاب الله: من جهلَ شيئاً، عاداه؟ قال: نعم، في موضعين: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39]، {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11].

وجرى على هذا النحو حتى قال له: فهل تجد فيه: لا تلد الحية إلا حيَّةً؟ قال: قال تعالى: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27] وأجد فيما مرّ عليَّ من هذا النوع: أنه ذُكر الظلم في مجلس ابن عباس، فقال كعب: إني لا أجد في كتاب منزل "أن الظلم يخرب الديار"، فقال ابن عباس: أنا أوجدكه في القرآن؛ قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52]. وقال شخص لآخر: أين تجد في القرآن: "الجار قبل الدار"؟ قال: أجده في قوله تعالى: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]. وبمقتضى هذا يصح لنا أن نقول: من أمثال القرآن الكامنة: "خير الأمور أوساطها"، ومن أمثاله الكامنة: "من جهل شيئاً عاداه"، ومن أمثاله الكامنة: "لا تلد الحية إلا حيّة". إذاً يعد من أمثال القرآن في نظر السيوطي والماوردي: أقوال لا تشتمل على استعارة أو تشبيه، إذ لا يقول أحد: إن في قولهم: "خير الأمور أوساطها"، أو قولهم: "من جهل شيئاً عاداه"، أو قولهم: "الجار قبل الدار" استعارة أو تشبيهاً. فأمثال القرآن لا يستقيم حملها على أصل المعنى اللغوي الذي هو الشبيه والنظير، ولا يستقيم حملها على معنى الأمثال عند من ألَّفوا في الأمثال، إذ ليست أمثال القرآن أقوالاً استعملت على وجه تشبيه مضربها بموردها، ولا يستقيم حملها على معنى الأمثال عند علماء البيان، إذ المثل عندهم ما استعمل على وجه الاستعارة، وفشا استعماله، ومن أمثال القرآن ما ليس باستعارة، ثم هي أمثال من وقت نزولها، فلم يتحقق فيها إذ ذاك

فشو الاستعمال. وننظر إلى ما سلكه ابن القيم في تقدير أمثال القرآن، فتجده يقول: فيها -أي: أمثال القرآن- تشبيه شيء بشيء في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر، واعتبار أحدهما بالآخر، وساق لبيان هذا نحو عشرين مثلاً من القرآن الكريم، وعندما نتأمل في هذه الأمثال، نجد كثرها وارداً على طريقة التشبيه الصريح؛ كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} [يونس: 24]. ومنه ما يجيء على طريقة التشبيه الذي يسميه بعض علماء البلاغة: التشبيه الضمني، أو التشبيه المكنّى عنه؛ كقوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]، إذ ليس فيه تشبيه صريح، وإنما هو تشبيه ضمني؛ نحو: فإن تَفُقِ الأنامَ وأنتَ مِنْهُمْ ... فإنَّ المِسْكَ بعضُ دَمِ الغَزالِ ونجد من بينها ما لم يشتمل على تشبيه ولا استعارة؛ كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]. فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} قد سماه الله: مثلاً، وليس فيه استعارة، ولا تشبيه. النظر الثاني في استعمال القرآن لكلمة "مَثَل": يستعمل القرآن كلمة "مثل" في تشبيه حال قوم بحال آخرين؛ كقوله

تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17]، أو تشبيه حال شيء بحال شيء آخر؛ كقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35] إلى آخر الآية. وقد يستعمل القرآن كلمة مثل في وصف، أو قصة تقع في نفس المخاطب موقع الغرابة، دون أن يكون فيه تشبيه أو استعارة؛ كقوله تعالى: {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الحج: 73] الآية على ما بيّنا آنفاً. فضرب المثل في القرآن قد يستعمل في تمثيل حالة غريبة بأخرى مثلها، وقد يستعمل في ذكر حالة غريبة تُقْصَدُ لنفسها، ولا يراد تمثيلها بنظيرة لها، ومن هنا ترى المفسرين قد يختلفون في تفسير آياتٍ سمّاها الله: مثلاً، فمنهم من يفسرها على قصد جعلها مثلاً لشيءٍ آخر، ومنهم من يفسرها على أنها قصة غريبة في نفسها، فيمكننا أن نقول: أمثال القرآن: ما يضربه الله للناس من أقوال تتضمن ما فيه غرابة؛ من تشبيه، أو استعارة، أو قصة، ويدخل في هذا كل ما سماه القرآن قبل ذلك أو بعده: مثلاً، بل ويعد في أمثال القرآن كل ما اشتمل على تمثيل حال شيء بحال آخر؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 39 - 40].

* الآيات الجارية مجرى الأمثال: فإن سأل سائل عن الآيات التي تجري على ألسنة الناس كما تجري الأمثال؛ كقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]؛ إذ يستعملونها في المتاركة، قلنا: هذا الضرب من الآيات يسميه علماء البيان: ما خرج مخرج المثل، أو جرى مجرى الأمثال، فقد قالوا في بحث التذييل من باب الإطناب: إن التذييل ضربان: ضرب لم يخرج مخرج المثل، وهو ما لم يستقل لإفادة المراد، وضرب خرج مخرج المثل؛ بأن تكون الجملة الثانية حكماً كلياً منفصلاً عما قبله، جارياً مجرى الأمثال في الاستقلال وفشو الاستعمال؛ نحو قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]. وقد أخبرنا السيوطي بأن جعفر بن شمس الخلافة عقد في كتاب "الآداب" باباً في ألفاظ من القرآن تجري مجرى المثل؛ كقوله تعالى: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 58]، وقوله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، وقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100]، وقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، وقوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]. وقد أدخل علماء البديع أمثال هذه الآيات في النوع الذي يسمونه: إرسال المثل، وهو: أن يأتي المتكلم بما يجري مجرى المثل من حكمة أو غيرها فيما يحسن التمثل به، ولا ندع هذا الضرب من الآيات حتى ننبه على حكم استعمال الآيات استعمال الأمثال، فقد رآه بعض أهل العلم خروجاً عن أدب القرآن.

قال الرازي في تفسير قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]: "جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة، وذلك غير جائز؛ لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به، بل يتدبر فيه، ثمّ يعمل بموجبه". * فوائد ضرب المثل: يُضرب المثل لتقرير حال الممثَّل في النفس؛ حيث يكون الممثَّل به أوضح من الممثَّل، أو يكون للنفس سابقةُ أُلْفَةٍ وائتناس به؛ كما ضرب الله مثلاً لحال المنفق رياء؛ حيث لا يحصل من إنفاقه على شيء من الثواب، فقال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 264]، فقد مثَّل حال المرائي في إنفاقه بحال الحجر الأملس يكون عليه تراب، فيصيبه مطر غزير، فيذهب بما عليه من تراب، فأعمال المرائي مثل التراب الذي كان على الحجر، فإنها تذهب هباء، ولا يجد لها ثواباً، وفي هذا المثل تقرير لخيبة المرائي على وجه أبلغ ما يكون. ويضرب المثل للترغيب في الممثَّل؛ حيث يكون الممثّل به مما تستحسنه النفوس، وترغب فيه؛ كما ضرب الله مثلاً لحال المنفق في سبيل الله؛ حيث يعود عليه الإنفاق بخير كثير، فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]. ويضرب المثل للتنفير؛ حيث يكون الممثَّل به مما تكرهه النفوس، وتنفر منه؛ كما ضرب الله مثلاً لحال المغتاب، فقال تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]،

وليس من شك في نفور الطباع من أكل لحم الأخ وهو ميت، فينبغي أن يكون نفوره من الغيبة بمقدار هذا النفور. ويضرب المثل لمدح الممثَّل؛ حيث يكون في الممثَّل به صفات تستحسنها النفوس، وتمدح من يحرز مثلها؛ كما ضرب الله مثلاً لحال الصحابة - رضي الله عنهم -، فقال تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]. فالزرع يُخرج شطأه، وهو ما تفرع في شاطئيه -أي: جوانبه-، ثم يقوى، ويستغلظ -أي: يصير بعد الدقة غليظاً-، وكذلك حال الصحابة؛ فإنهم كانوا في بدء الأمر قليلاً، ثم أخذوا في النمو حتى استحكم أمرهم، وامتلأت القلوب إعجاباً بعظمتهم. ويضرب المثل للذم؛ حيث يكون للمثَّل به صفة يستقبحها الناس، ويذمّون مَنْ رضي لنفسه بمثلها؛ كما ضرب الله مثلاً لحال من آتاه الله كتابه، فنكث يده من العمل به، وانحط في أهوائه، فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 175، 176]، فقد مثَّلت الآية حال العالِم المنحط في أهوائه بحال الكلب الذي هو أخبث الحيوان، وأخسها نفساً, ذلك أن المنحط في أهوائه شديد اللهف على الدنيا، قليل الصبر عنها، فلهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. ويضرب المثل في مقام الاحتجاج؛ حيث يلزم من تسليم الممثَّل به،

وإدراك أن الممثّل مطابق له، الرجوعُ إلى الاعتقاد بالحق؛ كما ضرب الله مثلاً للدلالة على أنه الإله الحق، وأن الأوثان لا تستحق أن تُعبد، فقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل: 75]. إذ دلَّ بالمثل على عجز الأصنام عن أن تنفع عابدها بشيء؛ إذ مثَّل حالها بحال العبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، ودل على كمال قدرته؛ إذ جعل في مقابلة العبد المملوك الممثل للأصنام من اتسع رزقه، وكان ينفق منه كيف يشاء، ومن له مُسكة من العقل لا يتولى العاجزَ بالعبادة، ويدع عبادة القادر على كل شيء. ومن بديع أسلوب القرآن في ضرب المثل: أن يسوق الجمل مستعملاً لها في معانيها الحقيقية، قاصداً بها غرضاً خاصاً؛ كالاحتجاج على بعض العقائد، وبعد أن يفيد بها هذا الغرض يعود إلى جعلها مثلاً يرمي إلى غرض من الأغراض التي تضرب لها الأمثال، فانظروا إن شئتم إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 16، 17]. فقوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ... إلى قوله: زَبَدٌ مِثْلُهُ} ظاهر في معنى تقرير حجة على كمال قدرته تعالى، وبعد أن أقام به حجة على المشركين، جعل هذا القول نفسَه مثلاً يستبين به الحق والباطل، فقال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}، وهذا من الإيجاز الذي بلغ به القرآن أعلى

طبقات البلاغة. إذا ضرب الله مثلاً، فهل يجوز أن يراد من ذلك المثل: المعنى الذي سيق من أجله؛ نحو: التقرير، أو التحسين، أو التقبيح، ولا يلزم أن تكون صورة الممثّل به واقعة في نفس الأمر؟! ذهب فريق إلى جواز ذلك، فترون الزمخشري - وهو ينكر أن يصرع الشيطان الإنسان - يقول في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]: "تخبُّطُ الشيطان من زعمات العرب، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرعه، فورد على ما كانوا يعتقدون". أو يقال: إن الله لا يضرب المثل إلا بما يقع، حتى إذا ضرب المثل بشيء، أمكننا الاستدلال بالتمثيل على وقوع ذلك الشيء، وهذا ما يقوله جمهور أهل السنَّة، ونحن نستبعد أن يمثل الله تعالى بأمر يزعمه النّاس زعماً باطلاً؛ فإن التمثيل به دون تنبيه على بطلانه لا يلائم ما عرف في هداية القرآن، ومن هنا قرر المحققون من الأصوليين قاعدة هي: أن ما يقصه القرآن من قول يتضمن رأياً، ولا يقرنه بتنبيه على بطلانه، أو يكون قد نبَّه عليه من قبل، فإنه يعد حقاً لا محالة. فالقرآن لا يمثّل بشيء يزعمه العرب زعماً باطلاً، ولكنه قد يمثّل بشيء لا يدخل في قبيل المزاعم الباطلة، وإنما هو شيء يصفه بصفات مفهومة الحقائق، ممكنة الوقوع، وإن لم تقع عليها أعين النّاس مجتمعة، فالله تعالى يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261]، فقد ذكر طائفة من الباحثين

أن هذا من قبيل التمثيل موجود، وأن البرّة "الحبة من البر" قد تبلغ في الأرض القوية المغلة أن تنبت سبع سنابل في كل سنبلةٍ مئة حبة، وعلى فرض أن لا يرى النّاس حبّة بلغت في الإنبات هذا المبلغ، لم يكن في تمثيل القرآن بها من بأس. وقد يضرب القرآن المثل بأمر موجود على حال حُسن أو قُبح، والناس يعتقدونه على ما هو عليه من حسن أو قبح، وإن لم يروه بأبصارهم، ولكنه يحضر في أذهانهم بصورة جميلة، أو صورة قبيحة، فيكون التمثيل به تمثيلاً بأمر موجود، وصورته الحاضرة في الأذهان مطابقة للواقع من حيث حسنها أو قبحها، ومثل هذا قوله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 64، 65]، فالشيطان شخص حي، ولكن المخاطبين لم يروه بأبصارهم، وجاء التمثيل في هذه الآية على ما اعتقدوه اعتقاداً مطابقاً من قبح صورته، وعلى هذا النحو يجري التمثُّل بالمَلَكِ في قوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]، فإن التمثيل جار على ما تصوروه من حسنه، وهذا التصور صادق لا محالة. وإن تعجب، فاقضِ العجبَ ممن يعمد إلى قصة في القرآن، قصها الله تعالى؛ لما فيها من عبرة وحكمة، ويجرؤ على أن يقول: "إن هذه القصة وردت على طريقة التمثيل"! يقول هذا، وليس بيده شاهدٌ من الآية نفسها، ولا دليلٌ سمعيُّ من غيرها، ولا أن العقل السليم ينكر أن تكون واقعة؛ كما قال بعضهم هذا القول في قصة الملائكة، وسجودهم لآدم - عليه السلام -. ولو فتح هذا الباب من التأويل الجامح، لاتخذه ضعفاء الإيمان وسيلة إلى جحود كثير من الحقائق؛ حيث يحملون آياتها على أنها تمثيل، ويخترعون

لها من الممثلات ما تشاء أهواؤهم. وإذا كان القرآن إنما نزل بلسان عربي مبين، فإن العرب لا يذهبون بالكلام مذهب التمثيل إلا أن يحفوه بقرينة كافية في الدلالة على أنه تمثيل.

المحكم والمتشابه في القرآن الكريم

المحكم والمتشابه في القرآن الكريم (¬1) لكل من المحكم والمتشابه معنى في أصل اللغة، ومعنى في عرف الشرع. أما المحكم لغة: فإن مادة "حكم" تدور على معنى الصرف والمنع، ومنه: حَكَمَةُ اللجام: للحديدة التي تمنع الفرس من الاضطراب والجموح، ومنه: حُكْمُ الحاكم؛ لأنه منْع للظالم من وضع يده على حق غيره، ومنه: الحكيم؛ لأنه يمنع نفسه من اتباع هواها، وارتكاب ما لا يليق. ويرجع إلى هذا المعنى قولهم: أحكمته إحكاماً: إذا أخذت على يده، قال جرير: أَبَني حَنيفةَ أَحْكِموا سُفَهاءَكُمْ ... إِنّي أخافُ عليكُمُ أَنْ أَغْضَبا ومنه: الإحكام بمعنى: الإتقان؛ لأنه منع للشيء من الخلل والخطأ، يقال: بناء محكم؛ أي: متين، لا وهنَ فيه، ولا خلل. وأما المتشابه: فمعناه في أصل اللغة: أن يكون أحد الشيئين مشابهاً ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر، والجزء الثاني عشر من المجلد الثامن عشر، الصادران في الجمادين 1365 هـ , وهي محاضرة ألقاها الإمام لطلاب السنة الثالثة (تخصص المادة) بكلية أصول الدين بالجامع الأزهر.

للآخر، ولما كان من شأن المتشابهين تعذرُ التمييز بينهما، أطلق هذا الاسم على كل ما لا يهتدي الإنسان إلى حقيقة المراد منه، من باب إطلاق اسم السبب على المسبب، ومما جاء فيه التشابه بمعنى تعذر التمييز: قوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70]؛ ومما جرى على هذا الوجه قولهم: اشتبه علىَّ الأمر. وأما معنى المحكم والمتشابه في عرف الشريعة: فقد اختلفت فيه آراء أهل العلم مذاهب، ولا نطيل البحث بإيراد الأقوال الضعيفة ومناقشتها، وإنما نعمد إلى قولين مشهورين بين أهل العلم، وننظر في أدلتهما، فنعلم أيهما أوفق لحكمة الشريعة، وأقرب إلى فهم قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. وأول القولين: أن المحكم: ما اتضحت دلالته، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، وهذا مذهب من يؤمنون بالمتشابه، ويفوضون العلم به إلى الله تعالى، وبهذا سُمّوا: "مُفَوِّضَة"، وينسب هذا المذهب إلى جمهور السلف. والمفوضة يتفقون على صرف الألفاظ في المتشابه عن معانيها المعروفة عند العرب، وهم بعد هذا فريقان: فريق لا يتعرضون إلى المعنى المراد، ولو بوجه مجمل. وفريق قد يعينون نوع المجاز؛ كأن يحملوا الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، والوجه في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] على أنه صفة من صفات الله، ولكنهم

يفوضون معنى هذه الصفة إلى الله تعالى، وهذا ما ينسب إلى الأشعري، وأكثرِ السلف. وثاني القولين المشهورين: أن المحكم: ما اتضحت دلالته، والمتشابه: ما كان خفيّ الدلالة، وهؤلاء يؤولون المتشابه على ما ترتضيه أفهامهم من المعاني، فيخرج من الخفاء إلى وضوح، ولهذا سُمّوا: "مُؤَوِّلَة"، والتأويل إما بحمل الألفاظ على الحذف، أو المجاز المفرد، وإما بحملها على طريقة التمثيل. واختلاف الجمهور في معنى المتشابه بهذين القولين اقتضاه اختلافهم في معنى قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]. فالمفوضة يقولون: إن قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مبتدأ، وجملة {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} خبر عنه، ومفاد هذا الوجه من الإعراب: أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه من الآيات. والمؤولة يقولون: إن قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} معطوف على اسم الجلالة عطف المفرد على المفرد، وقوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} استئناف مبين لحال الراسخين في العلم، ومقتضى هذا الوجه من الإعراب: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، ويقولون مع التأويل له: آمنا به، كلٌّ من المحكم والمتشابه من عند ربنا. ولننظر في هذين المذهبين من جهة دلالة الآية أولاً، ثم من جهة الأدلة الخارجة عن الآية ثانياً. أما من جهة ما تدل عليه الآية، فقد قال أصحاب مذهب التفويض:

الظاهر أن قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] وقع معادلاً لحال الزائغين المشار إليه بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7]، ويكون معنى الآية: وأما الراسخون في العلم، فيقولون آمنا به، ولم يأت في الآية - على هذا الوجه الظاهر في المعادلة - مبالغة في رفع شأن الراسخين في العلم؛ حيث لم يسلك بهم مسلك المعادلة اللفظية لأولئك الزائغين. وأجاب المؤولة: بأن المعادل لا يلزم أن يكون مذكوراً في النظم، بل قد يكون محذوفاً؛ اكتفاء بما يدل عليه من القرائن اللفظية أو الحالية، فيصح أن يقال: إن المعادل لقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ} محذوف، وتقديره: وأما الذين في قلوبهم هدًى وطمأنينة، فلا يتبعون ما تشابه منه ليفتنوا به الناس، ويؤولوه على حسب أهوائهم. وقال المفوضة أيضاً: إن قوله تعالى: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] ينبئ أن الراسخين لا يعلمون تأويله؛ إذ لو كانوا ممن يعلم تأويله، لم يكن لهذا القول فائد؛ إذ لا غرابة في الإيمان بما ظهر معناه، وإنما تكون له فائدة حيث يكون إخباراً عن إيمانهم بالمتشابه مع عدم فهمهم للمراد منه. ويجاب عن هذا: بأن قولهم: {آمَنَّا بِهِ} إيحاء إلى أن إيمانهم به هو الذي دعاهم إلى أن يسلكوا في تأويله الطريقة اللائقة به، وفي ذلك تعريض بأن من اتبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة، وتأولوه على ما يوافق أهواءهم ليسوا بمؤمنين (¬1). وقال المؤولة: إن وصف أهل العلم في الآية بالرسوخ يقتضي أن يكون ¬

_ (¬1) والفرق بين التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، والتأويل الذي يبتغيه الزائغون: أن الأول يقوم على الدليل، والثاني يقوم على الهوى ابتغاء الفتنة.

الحكم المسند إليهم مما يحصل بطريق الرسوخ في العلم، فيكون الحكم المثبت لهم هو العلم بالمتشابه، لا مجرد قولهم: آمنا به؛ فإن هذا القول لا يمتاز به الراسخون في العلم، بل يستوي فيه الراسخون في العلم وغيرُ الراسخين. قال ابن عطية: "تسميتهم راسخين تقتضي أنهم يعلمون أكثر من الحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلمه الجميع؟ وما الرسوخ في العلم إلا المعرفة بتصاريف الكلام بقريحة معدة". وأجاب أنصار مذهب المفوضة: بأن فائدة وصفهم بالرسوخ في العلم: المبالغة في قصر علم تأويل المتشابه على الله تعالى؛ لأنه إذا قيل: إن الراسخين في العلم لا يعلمونه، وذلك مفاد قوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7]، كان عدم علم غيرهم بتأويله مفهوماً بالأولى. وأما الاستدلال بأمور خارجة عن مدلول الآية، فيرجع إلى ثلاثة وجوه: القراءات، والآثار، وحكمة التشريع. أما القراءات، فقد استدل المفوضة بما رواه الحاكم في "مستدركه": أن ابن عباس كان يقرأ: (وما يعلم تأويله إلاّ الله، ويقول الرّاسخون في العلم: آمنّا به)، وهذه القراءة تدل على أن الواو في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] للاستئناف، لا لعطف الراسخين على اسم الجلالة. ويجيب المؤولة: بأن هذه الرواية لا تثبت بها القراءة، وإن أنزلناها منزلة خبر الآحاد، فهي لا تزيد على إفادة أن ابن عباس يرى أن المتشابه مما استأثر الله بعلمه، وقد اختلفت الرواية في هذا عن ابن عباس، ومما حكي

عنه: أنه قال بعد تلاوة الآية: "أنا ممن يعلم تأويله". وتمسك أنصار مذهب المفوضة بقراءة الوقف على اسم الجلالة، ثم استئناف القراءة بقوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7]، والوقف على اسم الجلالة شاهد بأن العلم بالمتشابه مما استأثر الله به، وليس لمخلوق عليه من سبيل. وحمل بعض أنصار مذهب التأويل قراءة الوقف على أن المراد من المتشابه: ألفاظ استعملت في معان ليس للبشر قابلية لفهمها بالكنه، ويراد إفهامها لهم بوجه مجمل؛ كالنصوص الواردة في بعض أحوال يوم القيامة. وأما الاستدلال من جهة الآثار، فقد روي أن صَبيغ بن عسيل جاء من البصرة إلى المدينة في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأخذ يسأل الناس عن متشابه القرآن، وعن أشياء، فأحضره عمر، وضربه ضرباً موجعاً، ثم أرجعه إلى البصرة، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته. ولو كان المتشابه مما يعلمه الراسخون في العلم، ولا أرسخ في علم الشريعة من الصحابة، لترك صبيغٌ لمن يجيبه عن تأويل ما يسأل عنه من المتشابه. وقد يجاب عن هذا: بأن صبيغاً لم يكن يسأل عن المتشابه استرشاداً، بل كان يورد المتشابهات تعنتاً، فإنما عاقبه عمر لسوء قصده، ومنعَ الناس من مخالطته حذراً من أن يفتن بأسئلته قلوب العامة. وأما الاستدلال من جهة حكمة التشريع، فقد قال أصحاب طريقة التأويل: يبعد أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته.

وأجاب المفوضة: بأن ورود مثل هذا الخطاب يكفي في حكمته ابتلاء العبد بتلقي كلمات من الشارع لا يعلم المراد منها؛ ليظهر فضله في الإيمان بها، وتفويض أمرها إلى الله، مقراً بالعجز عن الوصول إلى المراد منها. ويختلف المفوضة في ضبط أنول المتشابه، فابن حزم - وهو من أصحاب هذا المذهب - يخص المتشابه بالحروف، والأقسام الواردة في أوائل السور، فقال في كتاب "الأحكام": "والمتشابه لا يوجد في شيء من الشرائع إلا بالإضافة إلى من جهل دون من علم، وهو في القرآن، وهو الذي نهينا عن اتباع تأويله، وعن طلبه، وأُمرنا بالإيمان به جملة، وليس هو في القرآن إلا للأقسام التي في السور؛ كقوله تعالى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1 - 2]، وقوله: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2]، والحروف المقطعة في أوائل السور، وكل ما عدا هذا من القرآن، فهو محكم. والمعروف بين أهل العلم: أن السلف يعدون في المتشابه ألفاظاً واردة في الآيات والأحاديث تدل بمقتضى استعمالها العربي على صفات أو أفعال يستحيل إضافتها إليه تعالى؛ نحو قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. ومن المفوضة: أبو إسحاق الشاطبي، غير أنه قسَّم المتشابه إلى حقيقي وإضافي، وأراد من الحقيقي: ما لا سبيل إلى فهم المراد منه، وأراد من الإضافي: ما اشتبه معناه؛ لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر، وقال: "فإذا تقصى المجتهد أدلة الشريعة، وجد فيها ما يبين معناه، والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جداً، وبالمعنى الإضافي كثير".

وليس من شك في أن هناك آيات كثيرة وأحاديث قد يعدُّها بعضهم من قبيل المتشابه، وينبغي إخراجها من دائرة الاختلاف؛ حيث إنه يمكن فهمها على وجه صحيح لا كلفة فيه، ونضرب المثل لهذا آياتٍ أو أحاديث تشتمل على ألفاظ عرف في كلام العرب استعمالها في معان على وجه الكناية أو المجاز، وصح حملها على هذه المعاني المعروفة في الاستعمال؛ كقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]؛ فإن حمل الآية على معنى الجود واضح لا شبهة فيه. ويخرج عن موضع الاختلاف آيات الأحكام؛ إذ ليس لأحد أن يقول في آية أو حديث يرجع إلى التشريع: إن هذا من قبيل ما استأثر الله بعلمه. ونختار بعد هذا: أن في القرآن آيات متشابهات؛ أي: غير واضحة الدلالة، فإما أن تصل إليها أفهام الراسخين في العلم بعد النظر، وإما أن تصل إليها أفهام بعض منهم دون بعض، وفهمها إما أن يكون على وجه مفصل، وإما أن يكون على وجه مجمَل تحصل به فائدة للمخاطب، وإن لم يصل إلى كنه المراد منه؛ كالآيات والأحاديث الواردة في بعض أحوال يوم القيامة، أما أن يخاطب الله عباده بكلام يستأثر بعلمه، ولا يفهم منه أحد ماذا أريد منه، ولو بطريق الإجمال، فذلك ما نراه بعيداً، ولم تقم أدلة تلجئنا إلى اعتقاد وجوده. لا يظهر للمتشابه على مذهب المفوضة فائدة سوى ابتلاء العبد بتلاوة كلمات تعلو عن فهمه، ولكنه يتيقن أنها حق، ويفوض أمرها إلى الله، مقراً بالعجز عن الوصول إلى معناها، وذلك دليل قوة الإيمان. وأما على مذهب المؤولة، فله فوائد متعددة:

منها: أن وجود المتشابه في الشريعة يجعل في الوصول إلى المراد صعوبة ومشقة، وذلك موجب لزيادة الثواب عند الله. ومنها: أن وجود المتشابه يدعو الإنسان إلى الرجوع إلى الأدلة النظرية، فيصل إلى الحقائق من طرق الاستدلال، ويتخلص من أسر التقليد. ومنها: أن البحث عن المراد من المتشابه يعلم الإنسان طريق التأويل، ووجوه ترجيح بعض هذه الطرق على بعض. قال الطيبي مشيراً إلى هذا الوجه: "إنما كان المتشابه في القرآن؛ لأنه باعث على تعلم علم الاستدلال؛ ذلك أن معرفة المتشابه متوقفة على معرفة الاستدلال؛ فتتوجه الرغبات إليه". ويذكرون في فوائد ورود المتشابه: أن القرآن دعوة للخواص والعوام، وطبائعُ العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق؛ كإثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه، وقد يسبق إلى ذهنه أن هذا عدم ونفي، فيقع في التعطيل، فكان من الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ يتبادر إلى أذهانهم منها ما يتخيلونه، وذلك هو المتشابه، ويوضع بجانب هذا ما هو حق صريح يدل على أن المراد غير ما سبق إلى أذهانهم، وهذا الوجه من حكمة ورود المتشابه ظاهر فيما كان من قبيل الصفات ونحوها.

اليمين في القرآن والحديث

اليمين في القرآن والحديث (¬1) اليمين: ربط النفس بالامتناع عن شيء، أو الإقدام عليه، بمعنىً معظَّمٍ عند الحالف حقيقة، أو اعتقاداً، وسمّي الحلْف يميناً، لأن العرب كان أحدهم يأخذ بيمين صاحبه عند التحالف. والأحرف التي ترد في اليمين معروفة، وهي: الواو، والباء، والتاء، والهاء. وقد وردت الواو في القرآن؛ كقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93]، والتاء في قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57]، والباء لم ترد إلا مع فعل القسم؛ كقوله تعالى: {أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 53]، وأما الهاء، فلم ترد في القرآن الكريم أصلاً، وإنما وردت في كلام العرب؛ كقولهم: هاللهِ لأفعلنَّ كذا. ومن الصيغ المذكورة للقسم المفيدة للتوكيد والتحقيق قولُ القائل: لا أقسم بكذا؛ كقوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1]، وقولى تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1]، وهذا من الأساليب البليغة في التوكيد والتحقيق؛ ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد التاسع من السنة التاسعة الصادرة في جمادى الأولى 1375 هـ - ديسمبر 1955 م.

للدلالة على أن المخبر عنه واضح بينٌ لا يحتاج إلى قسم. وورد في القرآن قسم بعمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، والقسم بالعمر قد ورد في الشعر الجاهلي؛ كما قاله طَرَفَة: لَعَمْرُكَ إِنَّ الموتَ ما أَخْطَأَ الفَتى ... لَكَالطِّوَلِ المُرْخَى وثِنْياهُ باليَدِ وورد في القرآن الحَلْف ببعض المخلوقات؛ تنبيهاً للناس على عظم شأن المقسَم به، أو لبيان فضله؛ كقوله تعالى: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطو: 1 - 6]، أو- للحث على العمل الصالح فيه؛ كقوله تعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1 - 3]. ويحذف القسم بالقرآن حيناً، ويبقى جواب القسم، وهو المقسوم عليه؛ لقرينة تدل على القسم، وهي اللام؛ كقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 186]، فاللام دليل على أن هناك قسماً محذوفاً، والحذف لقرينة تدل على المعنى معهود في العربية. وقد يحذف جواب القسم، وهو المقسم عليه، ويبقى القسم؛ كما قال تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1]، فالمقام في وصف القرآن أنه حق، وتقدير الجواب: إنه حق، فالدليل على جواب القسم، وهو المقسم عليه، وصفُ القرآن بذي الذِّكر؛ فإن الذكر لا يكون إلا حقاً؛ كما حذف جواب لمَّا في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89]، فتقدير جواب لمّا:

كذّبوا، واستهانوا، أو نحوه. وكان العرب يحلفون بما يعتقدون عظمته، فيحلفون بمعبوداتهم وآبائهم، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحلف بغير الله، فقال: "من حلف، فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله" إشارة إلى كفره، وقال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً، فليحلف بالله، أو ليصمت". واليمين ثلاثة أقسام: 1 - يمين غموس: وهي يمين على شيء مضى بأنه وقع، على حين أن الحالف يعلم أنه لم يقع، أو يحلف أنه لم يقع، وهو يعلم أنه وقع. وسميت غموساً؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ولا كفارة فيها، وإنما فيها التوبة والاستغفار. 2 - ويمين عقد: وهي الحلف على شيء مستقبل بأنه يقع أو لا يقع، وهذه هي التي تجب فيها الكفارة عند الحنث. والكفارة: العمل الذي من شأنه أن يكفِّر الخطيئة؛ أي: يسترها، وهي المبينة في قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]. 3 - ويمين لغو: وهي المشار إليها بقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]، وهي الحلف على شيء ظن الحالف أنه كما اعتقد، فيظهر الشيء على خلاف ظنه، وحكمها أنها لا كفارة فيها، ولا إثم. وقد اختلف الفقهاء في تفسير لغو اليمين التي ذكرت في قوله تعالى في سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا

عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. والشافعي يرى أن اليمين اللغو: هي ما لا يقصد به الحالف يميناً؛ مثل: لا والله لتأكلن معي، وعنده أن الحلف على ما ظنه الحالفُ واقعاً، ولم يقع، من الغموس التي تجب فيها الكفارة، وتغفر بها. أما الحنفية والمالكية، فيرون أنها لغو لا كفارة فيها، ولا يلزم بسببها شيء. واليمين يراعى فيها العرف، ويقدم على الوضع اللغوي، فمن حلف ألاّ يأكل لحماً، فأكل سمكاً، فإنه لا يحنث عند الحنفية؛ لأنه لا يطلق على السمك في العادة اسمُ اللحم، وإن سمي به في اللغة. ويحكى: أن ابن أبي ليلى أرسل جماعة يسألون أبا حنيفة عن حكم من حلف ألاّ يأكل لحماً، وأكل سمكاً، فقال أبو حنيفة: لا يحنث، فقالوا له: يقول الله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12]، فقال لهم: ما تقولون فيمن حلف ألا يجلس على بساط، وجلس على الأرض؟ فقالوا: لا يحنث، فقال لهم: ما قولكم في قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19]!؟ فسكتوا. واليمين تلزم إذا لم يستثن صاحبُها؛ بأن يقول: إن شاء الله. وسمي هذا الشرط استثناء، لأنه في معنى: إلا أن يشاء الله. وإنما ينفع الاستثناء إذا قصده الحالف قبل انتهاء جملة الحلف، ولو بحرف، لأنه إذا لم ينطق بذلك الحرف، لا يكون حالفاً؛ لأن يمينه لا تتم حتى ينطق بذلك الحرف. ويحكى أن أحد فقهاء المالكية كان ببغداد يتلقى العلم، فلما انتهى من التلقي، وأراد أن يرجع إلى بلده، ذهب إلى المكاري، فوجد معه مكارياً

آخر، فقال المكاري لزميله: إني حضرت اليوم في درس الشيخ فلان قولَ ابن عباس: إن الاستثناء في الحلف -ولو بعد سنة- جائز، وأرى ذلك خطأ؛ فإن الله تعالى يقول: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، ولو كان الاستثناء جائزاً، لقال له: استثن في يمينك. فقال الفقيه: بلد يكون المكاري فيه بهذه الدرجة من العلم لا أخرج منه! ويمكن أن يجاب عما روي عن ابن عباس: بأن الاستثناء خاص بالتشريع الإسلامي، ولم يكن معروفاً في شريعة أيوب. ويعتبر في اليمين: قصدُ الحالف إن حلف من تلقاء نفسه، أما إن طلب منه أحد الحلفَ على أمر، فحلفه، يكون على قصد محلِّفه، فإذا قصد الحالف غير ما يريده المحلِّف، فلا نظر لقصده، واليمين منعقدة. أما تغليظ اليمين في الدعوى - والتغليظ هو: تخويف الحالف من عاقبة حلفه بجعله في بعض الأماكن المقدسة مثلاً -، فلم يرد فيه إلا ما رواه جابر بن عبد الله من قوله - عليه السلام -: "من حلف على منبري آثماً، تبوأ مقعده من النار". ومن الفقهاء من قاس على منبر الحرم النبوي غيرَه من منابر المساجد، وهذا القياس قريب. ومنهم من قصر التغليظ في الحلف على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأبي حنيفة، ورأى القياس عليه غير وجيه، واقتصر على تحليف المدعى عليه بين يدي القاضي فقط. وكنت أرى القاضي المالكي في تونس يرسل مع المطلوب لليمين أحد أعوانه إلى جامع الزيتونة، ويحلف بالموضع الذي فيه نسخة من

المصحف الشريف. ومن حلف بالقرآن، فقد انعقدت يمينه الشرعية؛ لأنه حلف بكلام الله؛ فقد نص الفقهاء على أن الحلف بذات الله، أو صفة من صفاته يمينٌ شرعية منعقدة. ومن العامة من يحلف بالله كذباً، ويحلف بالولي. وسمعت بأذني رجلاً عامياً يقول لآخر: والله! ما فعلت كذلك، فقال: لا أصدقك، ولو حلفت بحق الولي فلان. فينبغي تعليم العوام: أن الله أعظم من كل عظيم. وقد سمعت بعض المنتمين للعلم يعتذر لمثل هذا العامي بعذر مثل الذنب، فيقول: إن الله حليم يغفر لمن حلف به كاذباً، والولي يبادر إلى الانتقام ممن يحلف به كاذباً. وقد أمر الشارع من حَلَف أن يترك فعل خير؛ كصلة رحم، بأن يفعله، فقال تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، ونبَّه في الصحيح على من حلف على شيء، ورأى غيره خيراً منه أن يكفِّر عن يمينه، ويفعل ما هو خير؛ قال - صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح: "من حلف على يمين، ورأى خيراً منها، فليكفِّر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير". وأخيراً: نوجه أنظار الناس إلى أن الله كره لعباده كثرة الحلف، ونهاهم عنه في قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224]. ومن النّاس من يتخذ كثرة الحلف وسيلة لخداع غيره، وحمله على

تصديقه، وقد ذمَّ الله ذلك، ومقت أصحابه، ونهى النبيَّ والمؤمنين عن تصديق أيمانهم، فقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10]. فليحذر المسلمون كل فعل وقول يشكك في عهدهم وصدقهم؛ حتى تكون كلمتهم موضع ثقة، ولا تكون بهم حاجة إلى ترديد الأيمان؛ فإنَّ تعوُّد الحلف مظنة الكذب، وسبيل العصيان.

الرقية والاقتباس والاستخارة والقرآن

الرقية والاقتباس والاستخارة والقرآن (¬1) أُنزل القرآن دعوة إلى الحق، وهداية إلى مصالح الدنيا والآخرة؛ ليُخرج الناس من ظلمات الحيرة إلى صبح اليقين، فشُرعت تلاوته للتعبد والتدبر في آياته، وأخْذ الأحكام، وتحقيق مسائل من مفردات العربية وأساليبها، ويتبع ذلك تلاوتُه للاستشفاء من عوارضَ جسمية، وهي: الرقية بالقرآن كتلاوته، فيَشْفي الله من رقية القرآن، كما يهدي بتلاوته من يشاء من عباده. روي في الصحيح عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: "كنا في مسير لنا على حيٍّ من أحياء العرب، فجاءتنا جارية، وقالت: إن سيد الحي سليم (لديغ)، فهل فيكم راقٍ؟ فقام معها أبو سعيد، ورقاه بالفاتحة، فشفي، فأمر لهم بثلاثين شاة، فلم يتصرفوا فيها حتى أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسألوه، فأقرهم على ذلك". فالنبي الكريم أذن في اتخاذ القرآن وسيلة لدفع شرورٍ ومكاره دنيوية. وأما كتابة بعضه في ورقة، واتخاذه حرزاً يُتقى به من شرور الدنيا، فلم أره في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا سيرة السلف الصالح. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السابع من السنة التاسعة الصادر في ربيع الأول 1375 هـ - نوفمبر تشرين الثاني 1955 م.

ورأيت في تراجم بعض الشيوخ: أن شخصاً جاءه، وقال له: قد وجدت حرزاً بخطك ملقًى في مزبلة، فعزم الشيخ على أن لا يكتب حرزاً بعد ذلك. ولا يتلى شيء من القرآن بقصد الوصول إلى دنيا يصيبها. وحكي عن بعض العلماء من أهل القيروان: أنه كان في حالة بؤس، فقيل له: اقرأ سُورَةِ الواقعة، فإن قرأتها كل يوم، تجلب الرزق. فقال: لولا أن أهجر سُورَةِ من القرآن، لم أتلها في المستقبل ما دمت حياً، إذ كان بعض الناس يقصد بقراءتها جلب الرزق. وقد تكون قراءة القرآن للتعبد والتدبر مؤدية إلى تيسير ما عسر، من حيث إنها طاعة خالصة لله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]. والاقتباس: وهو تضمين النثر أو الشعر بعضَ القرآن لا على أنه منه، فلا يقال: قال الله تعالى، بل يذكر كأنه من المتكلم، وقد رآه بعض الفقهاء ماسًّا بقداسة القرآن، فهو محرَّم عنده بإطلاق. والتحقيق: أنه في الدعاء أو الموعظة والحديث الذي يراد به تعليم الحكمة جائز. واستعماله في المزاح والكلام الذي لا يكون معه القلب خاشعاً لله لا يجوز. واقتبس النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض القرآن في مقام الدعوة إلى الحق، وقال في حديث له مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كما في الصحيح: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]. وقد استعمل العلماء الاقتباس في خطبهم وغيرها مما يراد به الجد؛

كقول البيضاوي في خطبة "تفسيره": (الحَمْدُ لله الّذي نَزَّلَ الفُرْقانَ على عَبْدِه لِيَكونَ للعَالمين نَذيراً)، وقوله: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، وقوله: (مَنْ ألقى السَّمْعَ وهو شَهِيد)، واستعمله القاضي عياض في خطبة كتاب "الشفاء"؛ كقوله: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء: 72]. وقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]. واستعمله محمد بن جزي في خطبة كتابه "القوانين"، فقال: {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. واستعمل الشهاب الخفاجي في خطبة "شرح الشفاء" آية شطراً من تسجيع، ولم يقل: قال الله تعالى، فقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]. ومن باب الاقتباس: أن يجيء الإنسان إلى الجملة من القرآن المنسوبة إلى الله، فينسبها إلى نفسه؛ كقول بعض الولاة لبعض المساجين: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. وقول آخر في عُمّالِهِ: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25، 26]. وذلك تشبُّهٌ بالإله، ومعصية كبيرة. والتحريف اليسير جائز في الاقتباس دون القرآن، قال أحد أساتذتنا: واعتمدت على أن التحريف جائز في الاقتباس، فقلت في مرثية: ... ونَمارِقُ مَصْفوفَةٌ وزَرابِيُّ. ومن الشعراء من تجرأ واقتبس بعض القرآن والأحاديث النبوية في شعر غزلي أو هزلي، فالإيمان يقضي بتجنب ذلك، فهو إعراض عن الحق إلى ضلال مبين.

وفي القرآن آيات فيها حكمة وبلاغة يضعها الناس في كلامهم موضعَ الأمثال، وتسمَّى: أمثال القرآن؛ كقوله تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقوله أيضاً: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، وقوله: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، وقوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]، وقوله تعالى: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]، وقد نص المفسرون وغيرهم على أنها تستعمل في مقام الوعظ، وتعلم الحكمَة، ولا تستعمل في المزح والكلام الخالي من الحكمة؛ كقول بعضهم: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] في مقام المتاركة. وقصة المرأة التي يزعم أنها تتكلم بالقرآن قد ذكرت في كتب لا يعول عليها في هذا الشأن، وعلى فرض وقوعها، فاستعمال امرأة لبعض القرآن في أمور عادية تخصها لا يقره عالم من العلماء. ومن الناس من يأخذ الفأل من القرآن، فإن وجد آية تأمر بفعل شيء، فعل؛ كأن يسافر، أو يتزوج، وإن وجد آية تنهى عن فعل شيء، ترك الفعل، ويفهم أنه نهي عنه. حكى بعض المؤرخين أن بعض العلماء أراد السفر في البحر، ففتح المصحف، وقابله قوله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان: 24]، فترك السفر، وغرق المركب في البحر براكبيه، وهذا مصادفة، ولم يرد القرآن لأخذ الفأل منه، بل نزل شفاء لما في الصدور. وحكوا عن يزيد بن معاوية: أنه فتح المصحف، فقابله قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15]، وقال كلاماً خارجاً

عن الدين، وهذا موضوع من أصله عن يزيد لا ينبغي ذكره على أنه واقع. ومنهم من يستخير بالقرآن على وجه آخر، وهو أن يفتح المصحف، ويضع المفتاح بنصف المصحف، ويربطه ربطاً محكماً، ويضع جانباً من عروته على إصبعه، وجانباً على إصبع جانبه، فإن دار عن يمينه، استدل به على الإذن في الفعل، وإن دار على اليسار، استدل به على المنع من الفعل؛ والقرآن إنما نزل هداية. وقد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستخارة بصلاة ركعتين، وقراءة سورتين: الكافرون، وقل هو الله أحد، ويقول عقب الركعتين: "اللهم إني أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علّام الغيوب، اللهم إن كنتَ تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله، فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، وأرضني به". وفي الصحيح: "أن جابر بن عبد الله قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة في القرآن". وإذا استخار المؤمن الله تعالى في فعل أمر، انشرح صدره لفعل الأمر إن كان فيه خير، فإن لم يكن فيه خير، انصرف قلبه عن فعله. ومن الناس من لا يستغني بالاستخارة الشرعية، فيضيف إليها استخارة منامية يقول فيها: إن كان الأمر خيراً لي في ديني ومعاشي، فأرني خضرة أو بياضاً، أو ماء جارياً، وإن كان شراً لديني ومعاشي، فأرني سواداً أو دخاناً.

وينبغي الاستغناء بالاستخارة الشرعية عن غيرها من جميع الاستخارات التي هي مبتدعة غير مطردة. وأذكر بهذه المناسبة استخارة السبحة، فإنها بدعة، لا يعوَّل عليها في شيء، خير أو شر، ولا يرتكبها إلا من لعبت به نفسه، ولا يجنح لها إلا من يجهل الاستخارة الشرعية الوحيدة. فيجب على أبنائنا أن يدَعوها، ويطهروا سيرتهم من عملها.

إعجاز القرآن وبلاغته

إعجاز القرآن وبلاغته (¬1) جاءت آيات من القرآن بأنباء عن الأمم السابقة؛ كقصة آدم، وقوم نوح، وقوم هود، وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى - عليهم السلام -، وكثير منها لا يعرفه العرب، فحكاها القرآن حكاية من حضرها وشاهدها، ولم نجد في التاريخ ما يخالفها. وقول بعضهم: إن قصة آدم تمثيل، وغير واقعة كلامٌ لا يستند إلى شيء معقول، فضلاً عن تاريخ صحيح. وقوله تعالى في قصة مريم: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]؛ حيث جعلها أختَ هارون قد أجاب عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: بأنهم كانوا يُسَمّون بأسماء أنبيائهم، وليس المراد هارون أخا موسى. ومن أنباء القرآن ما يكون مستقبلاً , ووقع كما أخبر به؛ كقوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4]؛ فقد غَلبت الروم في بضع سنين كما أخبر به القرآن في قوله: {سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثامن من السنة الحادية عشرة الصادر في ربيع الثاني 1377 هـ - نوفمبر تشرين الثاني 1957 م.

وقد نزل القرآن في آخر غزوة من غزوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال للمخلَّفين: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الفتح: 16]، ولم يدعُهم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها نزلت في آخر غزوة من غزواته، ودعاهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إلى قتال أهل الردّة ذوي بأس شديد. ولا يدخل في الإخبار بالمغيبات ما توهمه بعضهم من أن مصر تفتح للعثمانيين في عهد السلطان سليم سنة كذا؛ أخذاً من قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]؛ إذ أن حروف (ولَقَدْ) توافق حروف (سليم) في حساب الجمل، والذكر يوافق حسابها تلك السنة، فيكون المعنى: سليم، كتبنا في الزبور من بعد تلك السنة أن الأرض -أي: مصر- يرثها عبادي الصالحون، وهم العثمانيون. فلا يؤخذ من القرآن إلا ما نزل للهداية، وما حصل من فتح سليم لمصر في السنة المذكورة كان مجرد مصادفة. والقرآن وصل بالبلاغة - وهي مطابقة الكلام لمقتضى الحال - إلى أعلى مما وصل إليه بلغاء العرب، فتحدّاهم بقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] , وقوله: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13]. وأذكر بهذه المناسبة أني زرت الشيخ محمد بن يحيى الشنقيطي في الحجرة التي نزل بها من زاوية الشيخ إبراهيم الرياحي في تونس سنة 1315 هـ , فوجدته يتلو من حفظه الأبيات التي وجهها السائل للشيخ السبكي، ويقول فيها: أسيدَنا قاضي القضاة ومَن إذا ... بدا وجهُه استحيا له القَمَرانِ

رأيتُ كتابَ الله أكبرَ معجزٍ ... لأفضلِ من يهدى به الثقلانِ ولكنني أبصرتُ في الكهف آيةً (¬1) ... بها الفكرُ عن طولِ الزمانِ عياني وما هي إلا استطعما أهلَها فقد ... أرى اسْتَطْعَماهُمْ مثله ببيان فما السرُّ للقرّاء في وضع ظاهرٍ ... مكان ضميرٍ؟ إنَّ ذاكَ لِشانِ وذكر في الجواب: أن (أهلها) جمع مضاف يفيد العموم، فيدل على أنه استطعم جميع أهل القرية؛ بخلاف ما لو أتى به ضميراً، فإنه يحتمل أن يكون الاستطعام لمن أتاهم، وهم سكان أول القرية. وقد جاء في القرآن ما نطق بمعناه العرب، فقالوا: (القتلُ أَنفى للقتل)، وقال القرآن: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]. وقال العرب: كلُّ ابنِ أنثى وإن طالت سلامتُه ... يوماً على آلَةٍ حَدباءَ محمولُ ولقول القرآن: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]؛ فما نطق به القرآن أوجز وأبلغ. وحكاية القرآن لأقوال الناس؛ كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 90 - 93] إنما هي حكاية لمعنى ما قالوه، لا لفظه، فلا يكون منهم معجزاً كإعجاز القرآن. ¬

_ (¬1) يقصد بها سورة الكهف - الآية 77.

وأذكر بهذه المناسبة أنه أقيمت مأدبة للشيخ محمد عبده عندما زار تونس، وكان من الحاضرين الشيخ سالم بو حاجب، فحكى حكاية اقتضى الحال أن يعيدها الشيخ محمد عبده للحاضرين، فقال له الشيخ: قد أعدتها بأحسن مما قلته أنا. والشيخ محمد عبده لم يزد في الحكاية معنى لم يقله الشيخ، وإنما حكاها بألفاظ أفصحَ من عبارة الشيخ بو حاجب، وأبلغَ. وتذاكرت مع الشيخ عارف المنير أحدِ علماء الشام في علوم القرآن، فأخبرني بأن بعضهم قال له: ما وجه معجزة القرآن؟ فأجابه الشيخ عارف بقوله: بلاغته، فقال له المعترض: بلوغ الكلام الدرجة العليا من بلاغة اللغة لا يدل على أنه معجزة، كما أن (هوميروس) ألَّف في تاريخ اليونان قصيدة قالوا: هي أبلغ ما قيل في لغة اليونان، ولم يستطع أحد أن يقول مثلها في البلاغة، ولم يكن بذلك رسولاً. فقلت للشيخ عارف: الفرق بين بلاغة (هوميروس) وبلاغة من يليه فرق قريب، أما الفرق بين بلاغة القرآن، وأبلغِ متكلم باللغة العربية، ففرق بعيد، فيصح أن يكون معجزة للرسول، وإن أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بليغة في ذاتها، ولكنْ هناك فرق بينها وبين القرآن. وقد تحدى الرسول العرب بالقراَن، فعجزوا عن الإتيان بمثله. ومن بلاغة القرآن: قولُه تعالى حكاية عن عيسى - عليه السلام -: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فالمراد: وإن تغفر لهم، فإنك أنت القوي الغالب الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة، ولا يصح الوقف إلا على قوله: {الْحَكِيمُ}، وليس مراده الاستشفاعَ لهم حتى يقول: فإنك أنت الغفور الرحيم - كما توهمه بعضهم، وجعل الوقف على

قوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ}، وجعل قوله: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] مستأنفاً. وهذا الوجه من وجوه الإعجاز لا يدركه إلا من عرف بلاغة اللغة العربية. ومن إعجاز القرآن: اشتماله على حِكَم ومعان صحيحة، وعدم وجود اختلاف بينها مع كثرتها، وهذا الوجه من الإعجاز يدركه حتى من لا يعرف بلاغة اللغة العربية. وقد دخلت إلى مسجد (بايزيد) بالآستانة في رمضان، فوجدت عالماً تركياً يدرس "شرح السعد على التلخيص" في بلاغة اللغة العربية، فكان يقرأ النص العربي، ويشرح لهم المعنى باللغة التركية، فيفهمون المعنى وحكمته. وقد سألني بعض من له دراية بعلوم الفلسفة، فقال: إن الحكماء يقولون: إن الصداقة لا تدوم إلا بين الفضلاء، فهل يوجد هذا المعنى في القرآن؟ فقلت له: يقول الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، فهذا يدل على أن الفضلاء يستمرون على صداقتهم، ولو مع الأهوال العظيمة. وإن القرآن وحده دعوة وحجة، ويشير إلى هذا قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]؛ حيث جعل سماعه للقرآن حجة كافية في الدعوة. وعلماء جامع الزيتونة لا يقرؤون تفسير القرآن إلا إذا قرؤوا علوم المعقول والمنقول، حتى يدركوا بلاغة القرآن. وأذكر أنه طلب مني بعض الطلبة أن أقرأ لهم "تفسير البيضاوي" في جامع (حمودة باشا)، فأجبت رغبتهم، وقرأت منه دروساً، فأرسل إليَّ

القاضي المالكي يدعوني إلى المحكمة، فذهبت إليه، فقال لي: بلغني أنك تدرس التفسير، فقلت: نعم، فقال لي: على من قرأته؟ فقلت: على شيخنا عمر بن الشيخ، وشيخنا محمد النجار، فقال لي: هؤلاء ما قرؤوا التفسير إلا بعد أن صاروا شيوخاً كباراً. فبلغ الأمر إلى الوزير الكبير الشيخ محمد العزيز بوعتور، فقال: يترك المسجد الذي تكلم معه عنه القاضي المالكي؛ عملاً بقاعدة عدم النزاع مع الكبراء، ويدرّس في مسجد آخر، فقرأت التفسير في مسجد (أبي القاسم الجلّيزي).

ترجمة القرآن

ترجمة القرآن (¬1) لكل كلام عربي بليغ معانٍ أصلية تحصل من مجرد نسبة الفعل إلى الفاعل، أو الخبر إلى المبتدأ، وهي ما يقع عليه فهم كل سامع عرف ما وضعت له ألفاظ الجملة، وكان خبيراً بما تدل عليه وجوه إعرابها؛ من نحو: الفاعلية، والمفعولية، والحالية، والإضافة، وللكلام بعد هذه المعاني الأصلية معانٍ ثانوية، وهي ما يبحث عنها في علوم البلاغة، ويسميها علماء البلاغة: مستتبعات التراكيب. وبهذه المعاني يرتفع شأن الكلام، وفي مجالها يتسابق فرسان البراعة من الخطباء والكتاب والشعراء، فقد يتفق المتكلمان بمنظوم أو منثور في إفادة المعنى الأصلي، ويمتاز أحدهما عن الآخر بما يلابسه من معان زائدة على المعنى الذي اشتركا في إفادته. وللقرآن المجيد معان أصلية، هي ما تفيد الآيات المفصلة من الأوامر والنواهي، والحِكَم والأحكام والقصص، وما ترسمه من أوضاع العبادات، وتقيمه من حجج على عقيدة التوحيد، وما تحثُّ عليه من أخلاق وآداب، وتبشر به من ثواب، وتنذر به من عقاب، إلى ما يشاكل هذا من المعاني الزائدة ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثامن من السنة الرابعة الصادر في ربيع الثاني 1370 هـ - يناير كانون الثاني 1951 م.

إلى تهذيب النفس وإصلاح الاجتماع. نزل القرآن لإفادة هذه المعاني التي تقرر بها حقائق الدين القويم، وأوردها في آيات يلابسها من لطائف المعاني وروعة النظم ما يساعد على وقوعها في النفوس المستعدة لإدراك الحقائق موقعَ الإجلال والإعجاب. ولهذه اللطائف من المعاني والروعة الخاصة بنظمه العربي أثر عظيم في تكوين حقيقة قرآنيته، وبها تمَّ شطر من المهمة التي نزل لتحقيقها، وهو الإعجاز، فهو الكتاب الوحيد الذي ينطق بالدعوة، والحجةِ على صدقها في كلام واحد. فالباحث في صحة ترجمة القرآن ينظر إلى ناحيتين: المعاني الثانوية التي تمَّ بها الإعجاز، والمعاني الأصلية التي تحصل من مجرد إسناد فعل إلى فاعل، أو خبر إلى مبتدأ. * المعاني الثانوية: ليس بالمستطاع أن تُنقل إلى لغة أجنبية المعاني الأصلية، وهي محفوفة بالمعاني التي هي مظهر بلاغة القرآن، والناهضة بقسط عظيم من بينات إعجازه. وممن نبَّه على هذا في القديم: أبو القاسم الزمخشري في "كشافه" إذ قال: "إن في كلام العرب -خصوصاً القرآن- من لطائف المعاني ما لا يستقل بأدائه لسان". ولا يسهل على أحد ادعاءُ أن في اللغات المعروفة اليوم، ما يسع نقل معاني القرآن الأصلية، مع ما يلابسها من أسرار المعاني التي يسميها البلغاء: خواص التراكيب.

* المعاني الأصلية: يمكن نقل المعاني الأصلية إلى لغة أجنبية؛ حيث لا تقصر اللغة الأجنبية عن تأديتها. قال أبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته": "إن ترجمة القرآن على الوجه الأول -يعني: النظر إلى معانيه الأصلية- ممكنٌ، ومن جهته صح تفسير القرآن وبيانُ معانيه لمن ليس له فهم على تحصيل معانيه، وكان ذلك جائزاً باتفاق أهل الإسلام، فصار هذا الاتفاق حجَّة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي". وإذا كان نقل المعاني الأصلية قد يقع صحيحاً، وكان في مستطاع من يجيد لغة أجنبية أن ينقل هذه المعاني من اللغة العربية إلى اللغة التي أجاد معرفتها، لم يبق سوى النظر في تفصيل حكم هذا النقل، وبيان حال المنع منه، أو الإذن فيه. في القرآن آيات واضحة المعنى، لو نقل معناها الأصلي إلى لغة أجنبية، لتساوى كلام المفسر المحقق العربي، والناقلِ له إلى اللغة الأجنبية في أداء ذلك المعنى الأصلي؛ كآية: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، وهي الآية التي صدَّر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطابه إلى قيصر وكسرى في الدعوة إلى الإسلام، وهما لا يعرفان العربية، وإنما يتلقيان معناها من طريق الترجمة كبقية ما اشتمل عليه خطاب الدعوة. فنقلُ المعنى الأصلي لآية أوآيات من هذا القبيل جائز، وهذا ما يريده

أبو إسحاق الشاطبي فيما حكينا عنه آنفاً، ويصح أن يتفق أهل الإسلام على جوازه. أما ترجمة المعاني الأصلية للقرآن كله، أو لجزء كبير منه متتالي الآيات، فيلحقها من الخلل ما يوجب الحذر منه. يقع في الذهن أن لترجمة القرآن المجيد فائدة هي نشر دعوة الإسلام بين الشعوب التي لا تفهم الكلام العربي، ويضاف إلى هذا: أن كثيراً من الأوربيين قد صنفوا ما سمَّوه: ترجمة القرآن، واشتملت هذه التراجم على أخطاء فاحشة صدرت منهم على جهالة، أو على عمد، ولا يكفي شرَّ هذا الفساد إلا أن ننقل معاني القرآن إلى تلك اللغات على وجه صحيح. ويتراءى إزاء هذا وجوهٌ من الفساد تعترض في سبيل ترجمته، حرفية كانت أو معنوية. ومن هذه الوجوه: أن يكون اللفظ ذا معنيين، أو معانيَ تحتملها الآية، فيضطر المترجم إلى أن يضع بدله من اللغة الأجنبية اللفظ الموضوع لما يختاره من المعنيين أو المعاني؛ حيث لا يجد لفظاً يشاكل اللفظ العربي في احتمال تلك المعاني المتعددة. واشتمالُ القرآن على آيات كثيرة تحتمل وجوهاً من التأويل -ولاسيما الآيات المتشابهة؛ كآيات الصفات- يجعل من يحاول ترجمته مضطراً إلى أن يأخذ في الترجمة بالوجه الذي يراه راجحاً، فتخرج التراجم -إذا تعددت- مختلفةً اختلافاً متباعداً، وذلك الاختلاف يفتح باباً لتوهم المطلعين عليها -من غير العارفين بالعربية- أنه قد وقع في نُسَخ القرآن اختلاف كما وقع في غيره من الكتب السماوية.

ئم إننا لا نأمن من إخراج شيء يقال له: ترجمة القرآن أن تحل هذه التراجم في أذهان العامَّة من غير العرب محل القرآن نفسِه، ويكتفون بها عن قراءة القرآن في الصلاة، وتلاوتِه على وجه التعبد، ولا يدرون أنهم يتعبدون بغير ما أنزل الله. ونستخلص من هذا البحث: أن القرآن يراعي في حقيقته المعاني الأصلية مضموماً إليها المعاني الثانوية التي هي وجوه بلاغته. وترجمة المعاني الأصلية وحدها، وتسميتها: ترجمة للقرآن، يوهم أن المترجم أخذ معاني القرآن من أطرافها، ونقلها إلى اللغة الأجنبية، كما يقال في ترجمة غيره: ترجمة طبق الأصل، وهذا هو الفرق بين التفسير والترجمة، فالمفسر يتكلم بلهجة المبيِّن لمعنى الكلام على حسب فهمه، فكأنه يقول للناس: هذا ما أفهمه من الآية، والمترجم يتكلم بلهجة من أحاط بمعنى الكلام، وصبَّه في ألفاظ لغة أخرى. فكأنه يقول: معنى هذا الكلام هو عين معنى الآية، وشأن المفسر أن يقول: يعني كذا، وشأن المترجم أن يقول: قال كذا. ولهذا الفرق منع كثير من أهل العلم رواية الحديث بالمعنى؛ لأنها في الحقيقة من قبيل الترجمة، ولم يختلفوا في جواز شرح الحديث؛ لأنه من قبيل التفسير. والعمل الذي يصان به القرآن الكريم من تحريف، أو وهمٍ يتسرب إليه من طريق الترجمة، ويقضي هو دعوته العامة الخالدة، ويمكّن من لا يعرف العربية من الاطلاع على جانب عظيم من المعاني المودَعة في ألفاظه المنزلة من عند الله: أن يتولى طائفة من الراسخين في الإيمان وفهمِ القرآن تأليفَ تفسير باللسان العربي، لا يزيدون فيه على ما يفهم على وجه التحقيق من

الآية، مع ملاحظة ما اقتضى الإيجاز حذفه، ثم يتولى طائفةٌ ترجمةَ هذا التفسير بأمانة وبراعة، وتظهر هذه الترجمة بعنوان: "ترجمة تفسير القرآن"، وينبه على أن التفسير ألَّفته لجنة، وترجمته تحت إشراف رئاسة دينية حازمة، ومن المعهود أن التفسير لا يخلو من كلمة تنبئ أنه تفسير لا ترجمة.

حقيقة ضمير الغائب في القرآن

حقيقة ضمير الغائب في القرآن (¬1) * تمهيد: من الواضح أن الألفاظ المفردة إنما وضعت لأن يُضَم بعضُها إلى بعض، فتفيد المخاطب معنىً كان يجهله قبل أن تركَّب وتُلقى عليه. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - العدد الثاني من المجلد الأول الصادر في شهر رجب 1347 هـ. قدم الإمام بحث "حقيقة ضمير الغائب في القرآن" بالكلمات التالية: رحل الدكتور طه حسين مندوباً إلى مؤتمر المستشرقين السابع عشر بجامعة (أكسفورد)، وألقى هنالك محاضرة عنوانها: "ضمير الغائب واستعماله اسم إشارة في القرآن"، وقد نشرت مجلة "الرابطة الشرقية" ملخص هذه المحاضرة، فإذا هي طائشة الوثبات، كثيرة العثرات، فرأينا من حق العلم علينا أن ننشر في هذه المجلة ما تراءى لنا فيها من أغلاط، وللقراء الأذكياء القول الفصل، وما خفي الحق عن باحث يتقصّى أثره بذكاء وتؤدة. وقد اعتمدنا في هذا النقد على أن التلخيص مكتوب بإملاء من صاحب المحاضرة، وأخذنا في هذا بأمارات، منها: أنه قد يعبّر بضمير المتكلم في مقام لو كان الملخِّص غيره، لعبّر فيه بضمير الغائب، اقرأ قوله: "وقد تقصى صاحب البحث هذه الآيات التي لم تتم فيها المطابقة، فرأى أن ضمير الصلة أتى مفرداً في القرآن دائماً إلا مرتين، وهما قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42]، وقوله: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ =

ففي الكلام معان هي ما يقصد إيصالها إلى أذهان المخاطبين، وفيه ألفاظ هي بمنزلة الجسور تعبر عليها المعاني من نفوس الناطقين إلى نفوس السامعين، وإذا كانت الألفاظ بمنزلة الوسائل، كانت في الدرجة الثانية بالنظر إلى المعاني التي هي المقصود من نظم الكلام. صرف البلغاء هممهم إلى المعاني، وأبدعوا في تصويرها، وأعني من المعاني: تلك الصور التي تبقى قائمة في نفوس السامعين بعد سماع خطبة أو قصيدة، ثم نظروا إلى الألفاظ، فإذا هي عند تركيبها كالأجسام تجول فيها الأرواح، أو البرود تتجلى فيها الأجسام، فأحسّوا أن الروح الزاكية يجمل ¬

_ = مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء: 82]، فأما ما عدا الصلة، فلم تتحقق فيه المطابقة نحو مئة مرة، غير أنا نجد أحياناً الضمير كما رأينا ... إلخ". فلا يستقيم لملخص غير صاحب المحاضرة أن يعبر بالاسم الظاهر، فيقول: "وقد تقصى صاحب المحاضرة"، ويعبر بضمير الغيبة في قوله: "فرأى"، ثم يعبر بعد هذا بضمير المتكلم فيقول: "غير أنا نجد أحياناً الضمير كما رأينا"! ولا تأويل لهذا سوى أن الذي أملى التلخيص هو صاحب المحاضرة نفسه، ولكنه تصنَّع في إسناده إلى غيره، ولم يلبث أن أدركته الغفلة عما تصنع له من إسناد التلخيص إلى كاتب آخر، فوردت عليه ضمائر المتكلم منساقة بنفسها، فلم يكن منه إلا نطق بها. ويضاف إلى هذا أنه يسمي نفسه في التلخيص: الباحث، أو صاحب المحاضرة؛ شأن المتواضع، ولو كان الملخص غيره، لعلم أن المحاضر لا يرضى منه إلا بلقب: الدكتور، أو الأستاذ. ولم نعن ببيان أنَّ ملخِّص المحاضرة هو صاحب المحاضرة إلا لنرفع عن قلمنا الحرج إذا قلنا عند حكاية جملة أو جمل من هذا التلخيص: قال المحاضر، أو صاحب المحاضرة.

بها أن تكون في جسم نقي اللون، متناسب الأعضاء، وأن الجسم الناضر يزيده حسناً على حسنه أن يظهر في ملبس بهي المنظر، رقيق الحاشية، كذلك المعاني تخطر على فكر البليغ، فيقتضي حالها أن تلقى في لفظ جيد السبك، محكم النظم، آخذٍ بالغرض من جميع نواحيه. ومن أجل ذلك وجَّه بلغاء العرب جانباً عظيماً من عنايتهم إلى تخيُّر الألفاظ، وإحكام نسجها بمقدار ما تؤدي صور المعاني، وتضعها في نفس السامع الموضع اللائق بها من الإعجاب أو القبول. وليس من شرط جودة الكلام أن يكون لكل جزء من صورة معناه التركيبي لفظٌ مفرد يختص بالدلالة عليه، بل مدار حسن البيان على أن تصير صور المعاني في نفس المخاطب بحالها التي كانت عليها في نفس المتحدث بها، وسواء بعد هذا أكانت الألفاظ مفصَّلة على قدر المعاني في الكثرة والقلَّة، أم كانت المعاني فوق ما تدل عليه الألفاظ بحسب أوضاعها اللغوية. ولاعتماد حسن البيان على نقل صور المعاني إلى نفوس المخاطبين كما هي، لم يبال العرب أن يكتفوا في الدلالة على بعض المعاني بمساق الكلام، وما تقتضيه طبيعة المعنى، إلى نحو هذا من القرائن التي لا يضبطها حساب، بل يعدون في أصول بلاغتهم أن يطرحوا كثيراً من الألفاظ متى وثقوا بأن في نظم الكلام أو الأحوال الخارجة عنه ما ينبِّه السامع إلى مدلولاتها. ومن ثمَّ نشأ فنُّ الإيجاز بوجه عام، وكان للحذف في كلامهم مجالٌ ذهب فيه علماء النحو والبيان كل مذهب، وتقلبوا في كل شعبة من شعابه، ففي أساليب البلغاء الإيجاز، وفي كلامهم الاعتماد في تصوير المعاني على ثقافة السامع، وما يغني غَناء الألفاظ من أحوال، ولو كانت خارجة عن مقتضيات

الكلِم وهيئة تأليفها. فاطراح كثير من الألفاظ -مع القصد إلى إفادة مدلولاتها اللغوية- لا يمس بفصاحة الكلام، ولا يقدح في بلاغته، ما دام الكلام منسوجاً على المنوال الذي ينسج عليها الفصحاء، وما دامت المعاني التي يراد نقشها في نفس المخاطب سالمة من أن تصل إلى النفس مختلة الهيئة، أو مبتورة بعض الأجزاء. والمنوال الذي يحرِز به الكلام وصفَ الفصاحة، إنما يؤخذ فيه بما يرد عن فصحاء اللغة، فما ورد في منظومهم أو منثورهم، كان النسج عليه سائغاً مقبولاً، وما لم يعرِّجوا عليه في أقوالهم، كان خارجاً عن فصاحتهم، متعدياً حدود بلاغتهم، ولا يُرجَع في الحكم على الأسلوب بالصحة أو الفساد إلى الذوق، حتى يُجعل للذوق مدخلٌ في تقرير القواعد النحوية، وشاهدنا في هذا: أن اللغات تختلف في هذا الباب اختلافاً كثيراً. فالعرب -مثلاً- لا يفصلون بين أداة التعريف والمعرَّف في حال، والألمان يوردون بين أداة التعريف والمعرَّف جملاً كثيرة، أفيصح للناشئ على لغة العرب أن يعد هذا الفصل في لغة الألمان خروجاً عن حد الفصاحة، ويدْعوهم -باسم التجديد- إلى أن يَدَعوه، ويَصلوا أداة التعريف بالمعرَّف لزاماً؟!. وتتفق اللغتان العربية والألمانية في تعريف الاسم الذي يراد منه الجنس، وكثيراً ما يحذفونها في الألمانية حيث لا يصلح حذفها في العربية، فيقول العربي مثلاً: أحبُّ الشجر، وكذلك يتكلم الألماني بما يرادف هذا في لغته، إلا أنه قد يسقط في هذا المقام أداة التعريف، فيكون تعريب كلامه حرفياً:

"أحبُّ شجراً"، وذلك ما لا يقوله العربي حين يقصد إلى أنه يحب جنس الشجر، أفيصح لمن شبَّ على لغة العرب أن يثور على لغة الألمان، ويرميها بالخلل في مثل هذا الاستعمال الذي ألفه فصحاؤهم، وأصبح معنى الجنس مفهوماً منه كما يفهم من استعمال الشجر مقروناً بأداة التعريف؟!. هذا الاختلاف هو الذي يحتم علينا أن نرجع في تقرير قوانين اللغة من الوجهة النحوية إلى ما يجري عليه فصحاؤها، وحقيق علينا أن نتلقى كل ما جروا عليه في منظومهم ومنثورهم بالتسليم والقبول، ولا يضرّ شيئاً من أساليبهم أن ذوقاً لم يتقلَّب فيما تقلَّبت فيه أذواقهم، أو لبس صبغة لغة أخرى، أن يتنكر له ويطيش في القول إلى أن يرميه بالبعد عن مواقع الفصاحة. وإذا كان مقياس الفصاحة عند أهل اللغة إنما يعتمد على استعمال الفصحاء، فكل ما يجيء في القرآن مما يرجع إلى قانون تأليف الألفاظ، ووضعِ كل مفرد موضعه اللائق به، لا نتردد في أنه استعمال عربي فصيح، ولا نرتاب في أنه وارد على وَفْق ما ينطق به فصحاء العرب من غير تجافٍ عنه، ولا تحرج منه، وحجتنا في هذا: أن آيات كثيرة تصف القرآن بأنه عربي؛ أي: أنزل بلغة العرب لفظاً وأسلوباً، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقال تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3]، وقال تعالى: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، ولو جرى شيء من القرآن على ما يخالف قوانين اللغة، لما صح أن يقال فيه: إنه نزل بلسان عربي مبين، ولوجد خصوم الإسلام من فصحاء العرب الطريقَ إلى أن يطعنوا في الآيات النازلة على غير القوانين المركوزة في طبائعهم، ويرموها

بعدم الفصاحة، وشيء من هذا لم يقصه القرآن، ولا حملته إلينا رواية، وقد قصَّ علينا القرآن، وحملت إلينا الروايات كثيراً من مطاعنهم، والشبه التي كانت تلابس عقولهم. فتسليمُ أن ليس في القرآن ما هو خارج عن قانون اللسان العربي ضربةُ لازِب، فإن تخيَّل أحد في جملة من القرآن أنها حائدة عن مناهج الفصاحة، فليس له إلا أن يوجه طعنه فيما لم يرتضه منها إلى أصل اللسان العربي، وينفي عن هذا الاستعمال إن شاء وصف الفصاحة، فيكون للكاتبين في تقويمه بيان غير هذا البيان. وإذا أبدع القرآن فأعجز، فليس معنى هذا أنه خرج عن قوانين كلام العرب النحوية، وإنما هو الإبداع في تأليف المعاني وصوغ الكلم في الأساليب الحكيمة، وهي -مع هذا- لا تخرج عن رعاية تلك القوانين.

النقد

النقد * القاعدة النحوية في ضمائر الغائب: قال صاحب المحاضرة: "القاعدة النحوية: أن ضمير الغائب يجب أن يعود إلى مذكور يتقدمه لفظاً ورتبة، وأن يطابق هذا المذكور في التذكير والتأنيث، وفي الإفراد والتثنية والجمع، هذه القاعدة شاملة لا يقبل النحويون فيها استثناء، فإن عرض ما يوهم تأخر المرجع عن الضمير، تأوَّلوا، وتكلفوا لإثبات أن هذا التأخير اللفظي لا يستلزم تأخر الرتبة، وهم - على كل حال - لا يقبلون استثناء في قاعدة المطابقة بين الضمير ومرجعه". لم يوجد في القواعد النحوية منذ نشأت إلى يوم انعقد مؤتمر المستشرقين قاعدة تقول: إن ضمير الغائب يجب أن يعود إلى مذكور لفظاً ورتبة، وإنما قال النحاة - كما قال ابن مالك في "التسهيل" -: الأصل تقديم مفسر ضمير الغائب. ويعللون هذا الأصل بأن ضمير المتكلم والمخاطب تفسرهما المشاهدة، وضمير الغائب عارٍ عن هذا الوجه من التفسير، فكان الأصل تقديم معاده؛ ليعلم المراد بالضمير قبل ذكره، وأجمعوا بعد هذا على أن العمل على هذا الأصل غير واجب، وسوَّغوا أن يكون الضمير عائداً إلى متأخر في اللفظ متى كانت مرتبته في نظم الكلام متقدمة، فلم يقع بينهم اختلاف في صحة

المثل السائر: "في بيته يؤتى الحكم"، وما يضاهيه في احتوائه ضميراً يعود على متأخر في اللفظ، متقدّم في الرتبة؛ كما قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67]. وقال أرطاة بن سهية: تمنَّتْ وتِلكُم من سفاهة رأيها ... لأهجوَها لما هجتني مُحارِبُ فـ "الحكم" في المثَل، و"موسى" في الآية، و"محارب" في البيت قد وردت مفسرة لضمائر ذكرت قبلها، ولم يجد النحاة فيها أو في أمثالها ما يخالف قاعدة مطردة حتى يحتاجوا فيها إلى تكلف وتأويل، بل النحاة أنفسُهم قرروا قاعدة صحة عود الضمير على ما كان متأخراً في اللفظ، وأصلُ رتبته في نظم الكلام التقديم، وشواهد هذه القاعدة في القرآن وكلام العرب بالغة من الكثرة ما يمنع أن يحوم حولها خلاف، والذي جرى فيه الخلاف بينهم إنما هو الإتيان بالضمير مفسراً باسم يتأخر عنه لفظاً ورتبة، نحو: "زان علمُهُ محمداً"، فالجمهور يذهبون إلى فساد مثل هذا التركيب، ويذهب الأخفش، وابن جني، وابن مالك إلى صحته، ومن شواهدهم على هذا قول حسان: ولو أن مجداً أخلدَ الدهر واحداً ... من الناس أبقى مجدُه الدهرَ مُطْعِما فالحقيقة أن النحاة لا يوجبون عودَ الضمير على متقدم في اللفظ والرتبة، بل يجيزون عودَه على متأخر في اللفظ، وهو متقدم في الرتبة، كما يجيزون عوده على متقدمه في اللفظ، ورتبتُه التأخير؛ نحو قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124]. فمن الخطأ المكشوف قول المحاضر: "القاعدة النحوية أن ضمير الغائب يجب أن يعود إلى مذكور يتقدمه لفظاً ورتبة".

وقول المحاضر: "هذه القاعدة شاملة لا يقبل النحويون فيها استثناء" حكمٌ لا يطابق الواقع؛ فقد عرفت أن المحاضر حرَّف القاعدة النحوية، ولم يأت بها على وجهها الصحيح، وما كان منهم إلا أن قالوا: "يمتنع عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة"، والفرق واضح بين هذه العبارة، وبين أن يقال: يوجبون عود الضمير على مذكور يتقدمه لفظاً ورتبة. ثم إن قاعدتهم الصحيحة - وهي أوسع نطاقاً من القاعدة المصنوعة في مؤتمر المستشرقين - يقبلون فيها الاستثناء، وقد استثنوا بالفعل أبواباً من الكلام نطق فيها العرب بضمائر ترجع إلى متأخر عنها لفظاً ورتبة، ولكثرة ما ورد من شواهدها أدخلها النحاة في "مقاييس اللغة"، ولم يمنعوا أحداً من أن يصوغ الكلام على طرائقها، وهذه الأبواب المستثناة يعرفها طلاب علوم العربية من قبل أن ينتقلوا إلى كتبها العالية، وإليها يشير ابن مالك في كتاب "التسهيل" بقوله: "ويتقدم غير مَنْوِيّ التأخير إن جرَّ برُبَّ، أو رفع بنِعْمَ، أو شبهها، أو بأول المتنازعين، أو أبدل منه المفسر، أو جعل خبره، أو كان المسمى ضمير الشأن عند البصريين، أو ضميرَ المجهول عند الكوفيين". فالنحاة يستثنون من القاعدة القائلة: "يمتنع عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة" هذه الأبوابَ التي سردها ابن مالك، وهي مبسوطة في كتب النحو بشواهدها العربية وأمثلتها. وما زعمه المحاضر من أنهم لا يقبلون استثناء في قاعدة المطابقة بين الضمير ومرجعه على كل حال، لا يستقيم مع إجازتهم إعادة الضمير على متأخر لفظاً ورتبة في باب "رُبَّ"، وتصريحهم بأنه يلتزم في هذا الضمير الإفراد والتذكير، وإن كان مفسره جمعاً أو مؤنثاً، ومن شواهدهم على هذا

قول الشاعر: رُبَّهُ فتيةً دعوت إلى ما ... يورثُ المجد دائباً فأجابوا * زَعْمُ المحاضر أن في القرآن ضمائر خارجة عن القاعدة النحوية: قال المحاضر: "ولكن هذه القاعدة بجزأيها إن اطردت في الشعر والنثر، فهي لا تطرد في القرآن الكريم، ذلك أن في القرآن الكريم ضمائر لا تعود إلى مذكور يتقدمها لفظاً ورتبة، وفيه ضمائر يظهر أنها تعود إلى مذكور، ولكنها لا تطابقه تذكيراً وتأنيثاً، أو إفراداً وتثنية وجمعاً". قد أريناكم كيف أورد المحاضر القاعدة بعبارة غير صادقة، وفصلنا لكم القول في أنهم لم يوجبوا عود الضمير على متقدم لفظاً ورتبة، ولم يقولوا سوى أن الأصل في مرجع الضمير أن يكون متقدماً في نظم الجملة، وسوَّغوا بإجماع للمتكلم أن يخالف هذا الأصل، ويأتي بالضمير راجعاً إلى متأخر في اللفظ، متقدم في الرتبة متى شاء، ومنهم من أباح له أن يأتي به راجعاً إلى متأخر في اللفظ والرتبة على نحو ما مثلنا، ورأى أن الشواهد التي ظفر بها من كلام العرب كافية لأن تجعله باباً مفتوحاً في وجه كل من يأخذ لسانه بالعربية الفصحى. وإذا استبان لكم أن القاعدة التي وضعها المحاضر في مؤتمر المستشرقين، وعزاها إلى علماء العربية لم يقلها أحد منهم، فلا ضرر في أن تطَّرد، أو لا تطَّرد، ونعترف للمحاضر بأنها لم تطَّرد، ولن تطَّرد في شعر ولا نثر، كما أنها لا تطَّرد في القرآن الكريم. أما القاعدة الصادقة، وهي القائلة بامتناع عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، فهي - بعد رعاية ما استثني منها - مطردةٌ في القرآن الكريم حكماً مُسمَّطاً.

* حصر هذه الضمائر في تسعة أنواع: النوع الأول، والثاني، والثالث: تحدَّث المحاضر عن الضمائر التي يزعم أنها خارجة عن القاعدة النحوية، وحصرها في أنواع تسعة، فقال: "الأول: الضمائر التي يراد بها الذين تعودوا حوار النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومجادلته، واستفتاءه في مكة والمدينة من المسلمين وغير المسلمين. الثاني: الضمائر التي يراد بها القرآن. الثالث: الضمائر التي يراد بها النبي نفسه" , ثم قال: "ويمكن التمثيل لهذه الأنواع الثلاثة بقوله تعالى فى سُورَةِ هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [هود: 13]، فالواو راجعة إلى المشركين من أهل مكة، وهم لم يُذكروا، وفاعل افترى راجع إلى النبي، وهو لم يُذكر، ومفعوله راجع إلى القرآن، وهو لم يُذكر. ومن النوع الأول: كلُّ الآيات والجمل التي تبتدئ بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ} [البقرة: 220]، ومن الثاني قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، ومن النوع الثالث قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1]. وضع المحاضر تلك القاعدة الهازلة، وعزاها إلى النحويين، ثم بنى عليها دعوى أن ضمائر الغيبة في القرآن ترد على خلاف القاعدة النحوية، وأخذ يسوق على هذه الدعوى من الآيات ما يخيل به إلى السامع أنها خارجة عن قانون علماء العربية، وإذا كنا على علم من الفرق بين وجوب عود الضمير على مذكور تقدم لفظاً ورتبة، وهو القاعدة التي يعزوها المحاضر إلى علماء النحو، وبين قولنا: "يمتنع عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، إلا ما استُثني"، وهو القاعدة النحوية الصحيحة، عرفنا أن هذه الآيات إنما هي خارجة عن

القاعدة المصنوعة في مؤتمر المستشرقين؛ حيث لم تعد فيها الضمائر على مذكور تقدم لفظاً ورتبة، وهي غير مخالفة للقاعدة الصحيحة؛ إذ لم يجئ فيها ضمير عائد على متأخر لفظاً ورتبة، وقصارى ما يقال فيها: إنها راجعة إلى ما استغني عن ذكره بما يدل عليه من قرائن في نفس اللفظ، أو أحوالٍ أخرى تحفُّ بمقام الخطاب، وهذا الوجه من استعمال ضمائر الغيبة قد قرره النحاة والبيانيون، ولم يروه منافياً لقاعدة من قواعدهم في حال. فهذا ابن مالك يقول في كتاب "التسهيل": "الأصل تقديم مفسر ضمير الغائب، ولا يكون غير الأقرب إلا بدليل، وهو إما مصرح به بلفظه، أو مستغنى عنه بحضور مدلوله حساً أو علماً، أو بذكر ما هو له جزءٌ، أو كلٌّ، أو نظير، أو مصاحب بوجه ما". وهذا ابن الحاجب يقول في "الكافية": "والمضمر ما وضع لمتكلم أو مخاطب أو غائب تقدم ذكره لفظاً أو معنى أو حكماً". وهذا السكاكي يقول في كتاب "المفتاح" عند البحث عن الداعي إلى أن يكون المسند إليه ضمير غيبة: "أو كان المسند إليه في ذهن السامع". وقال العلامة السيد في "شرحه" مبيناً حضور المسند إليه في ذهن السامع: "وحضوره فيه إما لكونه مذكوراً لفظاً، أو معنىً، إما لكونه في حكم المذكور لقرائن الأحوال، لفظيةًّ كانت أو معنوية". وقال سعد الدين التفتزاني في "الشرح المطول": "وقد يكون وضع المضمر موضع المظهر لاشتهاره ووضوح أمره؛ كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [القدر: 1]؛ أي: القرآن، أو لأنه بلغ من عظم شأنه إلى أن صار متعقل الأذهان؛ نحو: هو الحي الباقي، أو لادعاء أن الذهن لا يلتفت إلى

غيره؛ كقوله في المطلع: زارت عليها للظلام رُواق وقد ساق النحاة من الآيات ومنظوم العرب ومنثورهم شواهد على أن ضمير الغيبة يصحُّ عوده على ما لم يتقدمه في اللفظ، وإنما حضر في ذهن السامع بقرائن الأحوال، لفظية كانت أو معنوية. ومن هذه الشواهد: قول الشاعر: وما أَدري إذا يمَّمْتُ أَمراً ... أريدُ الخيرَ أيُّهُما يَليني فالشاعر لم يذكر إلا الخير، وأتى بضمير المثنى راجعاً إليه، وإلى الشر الذي يصاحبه في الخطور على الذهن غالباً. ومنها: قول الشاعر: وكل أناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهم ... ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فهو ساربُ فمرجع الضمير في قوله: "قيده" لم يتقدم في اللفظ، وإنما علم من سياق الجملة قبله، والمراد: قيد فحلنا. ومنها: قول الشاعر: فإنك والتابين عروة بعد ما ... دعاك وأيدينا إليه شوارعُ فكالرجل الحادي وقد تلع الضحى ... وطَيْرُ المنايا فوقهنَّ أواقعُ فالضمير في قوله: "فوقهن" يعود إلى الإبل المنبِّه عليها لفظُ: "الحادي"؛ فإن الحادي يستدعي إبلاً محدودة، فأغنى ذلك عن ذكرها. ومنها: قول أبي كبير الهذلي: ولقد سريتُ على الظلام بمغشمٍ ... جَلْدٍ من الفتيان غير مثقَّلِ

ممن حَمَلْنَ به وهنَّ عواقدٌ ... حَبْلَ النطاقِ فشبَّ غيرَ مهبَّلِ فالضمير في قوله: "حملن" عائد إلى النساء، ولم يجر لهنَّ ذكر، ولكن المراد مفهوم من لفظ: "حمل"، وما وقع فيه من سياق الكلام. ومنها: قول لبيد: حتى إذا ألقت يداً في كافرٍ ... وأجَنَّ عوراتِ الثغورِ ظلامُها فإنه أراد: حتى إذا ألقت الشمس يداً في الليل إذ غربت، ولم يجر للشمس ذكرٌ في شعره. ومنها: قول العباس بن عبد المطلب: مِنْ قَبْلِها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورقُ فإنه يريد: من قبل الأرض؛ أي: قبل وجودك فيها، ولم يجر ذكرٌ للأرض في كلامه. النوع الرابع: قال المحاضر: "الرابع: الضمائر التي تعود إلى الأفعال، وذلك حين يأمر الله بأمر أو ينهى عن شيء، ثم يريد بعد ذلك تحسين ما أمر به، أو تقبيح ما نهى عنه، أو تأكيد الأمر والنهي، ومثال ذلك قوله تعالى في سُورَةِ البقرة: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 149]، وقوله تعالى في سُورَةِ المائدة: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8]، وقوله تعالى في سُورَةِ الأنفال بعد أن بين أحكام الموالاة بين المسلمين والكافرين: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]، والنحويون يرجعون هذه الضمائر عادة إلى مصدر متصيد - كما يقولون - من الكلام السابق".

يريد المحاضر أن يضع في أذهان المستمعين إليه أن الضمائر في هذه الآيات واردة على خلاف القاعدة النحوية، وهي إنما تخالف المقالة التي زوَّرها عليهم في مؤتمر المستشرقين، وقد استبان لكم أن تلك المقالة لا يعرفها النحاة، والضمائر في هذه الآيات جاءت مطابقة لاستعمال عربي صحيح، وهو ما قرره النحاة من أن مرجع الضمير قد يكون جزءاً من مدلول كلمة تقدمته، وساقوا على هذه القاعدة شواهد من كلام العرب، وأخرى من القرآن الكريم. ومن هذه الشواهد: قولهم: "من كذب، كان شرًّا له"، ففي "كان" الضمير يعود إلى الكذب الذي هو جزء من مدلول كذب. ومنها: قول الشاعر: إذا زُجِرَ السفيهُ جرى إليه ... وخالف والسفيهُ إلى خلافِ فالضمير في "جرى" عائد إلى السَّفَه المفهوم من لفظ: السفيه. ومنها: قول القطامي: همُ الملوك وأبناءُ الملوكِ لهم ... والآخِذونَ به والسّاقَةُ الأُوَلُ فالضمير في قوله "به" عائد إلى الملك المستغنى عنه بذكر ما يحضره في ذهن السامع، وهو لفظ الملوك. وعلى هذا النحو من الخطاب جاء قول الشاعر: ومَنْ يكُ بادياً ويَكُنْ أخاه ... أنا الضحَّاكُ ينتسج الشمالا فإن الضمير في قوله: "أخاه" عائد إلى البدو الذي هو ضد الحَضَر، وهو لم يذكر في النظم، إنما دل عليه قوله "بادياً".

ومن الآيات التي أوردوها مستشهدين بها على صحة هذا الاستعمال: قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 180]، فالضمير في قوله: {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} راجع إلى البخل المستغنى عن ذكره بقوله تعالى: {يَبْخَلُونَ}. فالنحاة يقررون صحة استعمال الضمير راجعاً إلى المصدر الذي يدل عليه فعل، أو وصف متقدم، ويسوقون الآيات والأبيات شواهدَ على ما يقرونه، لا أنهم قرروا وجوب عود الضمير على مذكور يتقدم لفظاً ورتبة، ولما اعترضتهم هذه الآيات وما يجري مجراها من الشعر، أخذوا يتأولون ويتصيدون. النوع الخامس: قال المحاضر: "الخامس: الضمائر المبهمة، وهذه الضمائر قسمان: أحدهما: يعود إلى متقدم، ولكنه لا يطابقه؛ كقوله تعالى في سورة النساء: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4]، فالهاء في {مِنْهُ} ظاهرة في الرجوع إلى الصدقات، ولكنها لا تطابق الصدقات في الجنس، ولا في العدد، ولهذا قال الزمخشري في "الكشاف": إن هذه الهاء بمعنى اسم الإشارة؛ كأنه قال: فإن طبن لكم عن شيء من ذلك نفساً. القسم الثاني: ضمائر لا ترجع إلى متقدم، ولكن يفسرها متأخر لفظاً ورتبة؛ كقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: 29]. ذكرنا في التمهيد: أن بلغاء العرب لا يجمدون على رعاية الألفاظ، بل يوجهون عنايتهم الكبرى إلى نقش صور المعاني في أذهان المخاطبين،

فتراهم ينسجون الكلام على رعاية ما سبق من الألفاظ في أغلب أحوالهم، وقد يذهبون فيه إلى ما يطابق المعنى، غيرَ مبالين بالألفاظ حيث لا يتوقف حسنُ صياغة المعنى على التزام رعايتها، فإذا دلوا على المعنى بلفظ، لم يجدوا حرجاً في أن يتحدثوا عنه كأنه ذكر بلفظ آخر مألوف الاستعمال عند تأدية هذا المعنى الذي صيغ من أجله الخطاب. وهذا مذهب من مذاهب البيان فسيح، بسطه ابن جنّي في كتاب "الخصائص" تحت عنوان: (فصل في الحمل على المعنى)، وقال: قد ورد في القرآن وفصيح الكلام منثوراً ومنظوماً. وقال بعد هذا: والحمل على المعنى في هذه اللغة واسع جداً، ومن صوره: تصويرُ الجماعة في صورة الواحد، ومن شواهد هذا التصوير قول العرب: "هو أحسن الفتيان وأجمله"، أفردوا الضمير مع أن مرجعه فيما يظهر جماعةٌ؛ لأن هذا الموضع يكثر فيه استعمال الواحد، ومن شواهده: قول ذي الرمة: وميَّةُ أحسنُ الثَقلين وجهاً ... وسالفةً وأحسنُه قَذالا فترك رعاية اللفظ المنطوق به، وبنى كلامه على لفظ آخر مما يؤلف في هذا المكان، فأفرد الضمير كأنه قال: أحسن مخلوق. وفي الحديث النبوي: "خيرُ نساء ركبنَ الإبلَ خيارُ نساءِ قريشِ، أحناهُ على ولد في صِغَره، وأرعاه على زوجٍ في ذاتِ يده"، فقد أتى بالضمير في قوله: "أحناه، وأرعاه" مفرداً؛ ذهاباً إلى المعنى؛ فإن قوله: "خير نساء" في معنى خير مَن وُجد، أو خُلق. قال ابن الأثير: ومنه قولهم: "أحسن الناس خلقاً, وأحسنه وجهاً"، وهو كثير من أفصح الكلام.

ومن هنا نعلم - بوجه مجمل -: أن القرآن إذا استعمل لفظ الجمع للدلالة على معنى، وأتى في حديثه عن هذا المعنى بالضمير مفرداً، فإنما سلك منهجاً يألفه فصحاء العرب، ولا يجدون في نفوسهم حرجاً من أن يلفظوا به، ولا في آذانهم نفوراً من أن يستمعوا إليه. وعلى هذا تأويل قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4]، فإن المعنى الذي أريد بالصدُقات، قابل لأن يستعمل له لفظ غير جمع، وهو الصداق، أو ما أصدق، فيكون الضمير في قوله: "منه" عائداً على معنى الصدقات باعتبار اسم آخر شأنه أن يستعمل للدلالة عليه، حتى كأنه قيل: وآتوا النساء صدُقاتهن، أو ما أصدقتموهن. ولا يغيب عنّا أن مراعاة الألفاظ المعبر بها عن المعنى أولاً، ثم الإتيان بضمائر الغيبة على وفقها، هو الذي يجري عليه العرب في أكثر مخاطباتهم، وهو الذي يتتابعون عليه الواحد بعد الآخر، وذلك ما أخذ علماء العربية أن يجعلوا مطابقة الضمير لمرجعه قاعدة متبعة، ونعلم - مع هذا -: أن استعمال ضمير الغيبة منظوراً فيه إلى المعنى، كأنه عبَّر عنه بلفظ آخر يطابقه الضمير، هو مسلك عربي فصيح، وإن لم يبلغ مبلغ الوجه الأول في شيوعه بينهم، ودورانِه على ألسنة عامتهم، وقلةِ ظهور هذا الاستعمال في خطب البلغاء وقصائدهم، ثم قلةُ استباق ألسنة الجمهور إليه في مخاطباتهم لا يخدش في فصاحته، بل لا ينزل به عن مكانة الوجه الشائع، وإنما هو وجه ينتحيه الفصحاء في مقامات لا يجدون في انتحائه ما يخلّ بصورة المعنى، ولا يبطئ بذهن المخاطب عن أن يدرك المراد كما يدركه عندما يؤتى بالضمير مطابقاً للفظ المنطوق به في نظم الكلام، وهو جدير بأن لا يكثر في مخاطبات العامة، وأن

لا تسبق إليه ألسنتهم؛ لأنه لا يأخذ مأخذه في كل مقام، ولا يجري معه الذهن إلى الغرض أينما وقع، بل يحتاج إلى قوة من البلاغة يلاحظ فيه كيف يكون إرجاع الضمير إلى المعنى باعتبار اسم غير مذكور، وإرجاعه إليه باعتبار اللفظ المذكور على سواء. وسنبحث الوجه الذي حكاه المحاضر عن الزمخشري في صحيفة آتية، ونعرض عليك في تأويل هذه الآية وجهاً آخر نراه قريباً، ولا تراه - إن شاء الله - بعيداً. وأما آية: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [المؤمنون: 37] التي أوردها المحاضر مثلاً لما ورد في القرآن من الضمائر المفسرة بمتأخر عنها لفظاً ورتبة، فأسلوبها عربي شائع مألوف، وقد قدمنا لك أن النحاة عندنا يقررون قاعدة امتناع عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة يستثنون منها أبواباً، ومن هذه الأبواب ما صيغت فيه هذه الآية، وهو أن يؤتى بالضمير أولاً، ثم يخبر عنه بما يفسره، ويحتجون على هذا بأقوال العرب، وبهذه الآية نفسها، ومن شواهدهم عليه: "هي النفس تحمل ما حملت"، وقولهم: "هي العرب تقول ما شاءت". النوع السادس: قال المحاضر: "السادس: الضمائر التي تقع في آيات التشريع؛ كقوله تعالى في سُورَةِ البَقَرَةِ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229]، فالألف في: {يَخَافَا} راجعة إلى الزوجين اللذين لم يُذكرا، وأوضحُ مثال لهذا النوع آيةُ المواريث في سورة النساء، فالضمائر التي تعود فيها إلى غير

المذكور كثيرة". الضمير في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا} يعود إلى الزوجين المستغنى عن ذكرهما بحضورهما في أذهان المخاطبين من الحديث عن الطلاق المعبر عنه بقوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، والبقاء على الزواج المعبر عنه بقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}، والصداق المذكور في قوله: {مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ}، بل من الخطاب في قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229]. وقد بسطنا لك البحث في أن إعادة الضمير على ما يُستغنى عن ذكره بما يسبقه من القول قاعدة عربية قائمة بنفسها، ولا تصطدم مع أي قاعدة، ما عدا القاعدة التي صنعها المحاضر في مؤتمر المستشرقين، وأضافها إلى النحاة وهم لا يعلمون. وعلى نحو آية: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وردت الضمائر في آية المواريث، ولا شيء منها إلا وهو راجع إلى ما استُغنى عن ذكره بما ينبه على مكانه، ويلوَّح إليه. النوع السابع: قال المحاضر: "السابع: الضمائر التي يفهم مرجعها من النص؛ كقوله تعالى في سورة النحل: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61]، فالهاء راجعة إلى الأرض التي لم تذكر، وقوله تعالى لإبليس: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34]، فالهاء راجعة إلى الجنة التي لم تذكر". يريد المحاضر أن يلقي في آذان المستمعين إليه: أن هذه واردة على خلاف تلك القاعدة التي ألصقها بالنحاة، وصوَّرها بقوله: يجب عودُ الضمير

على مذكور يتقدمه لفظاً ورتبة، والحقيقة أن النحاة قرروا قاعدة تجري عليها هذه الآيات بسهولة ورفق، وهي صحة عود الضمير الغائب على ما يحضر في ذهن المخاطب من مساق الكلام، وقد ذكر هذه القاعدة ابن مالك وغيره، وسقنا إليك من شواهدها ما لا يسعك إلا أن تتلقاه باصغاء وقبول. النوع الثامن: قال المحاضر: "الثامن: الضمائر التي تعود إلى "من" دون أن تطابقها جنساً أو عدداً، والنحويون يقولون: إن الضمير يرجع إلى "من" باعتبار لفظها، فيفرد ويذكر، وباعتبار معناها، فيطابق هذا المعنى جنساً وعدداً، ولكن رجوع الضمائر إلى الألفاظ مرة، وإلى المعاني مرة أخرى، لا معنى له، فأنت لا تقول: حمزة أقبلت؛ مراعاة لتأنيث اللفظ، وإنما تقول: حمزة أقبل؛ مراعاة لتذكير المعنى، ولو جاز إرجاع الضمائر إلى الألفاظ مرة، وإلى المعاني مرة أخرى، لأصبحت اللغة والنحو ضرباً من اللعب". الألفاظ التي تستعمل للدلالة على العقلاء ثلاثة أنواع: أحدها: لفظ يراد به شخص معين؛ كالأعلام، والضمير الذي يكنَّى به عن فرد معين لا يكون إلا كمرجعه مفرداً. ثانيها: لفظ يرد في صيغة جمع التكسير، أو أحد جمعي السلامة، والضمير العائد إلى معاني هذه الجموع شأنه أن يكون كمرجعه جمعاً مطابقاً، ويلحق بهذا القسم نحو: الذين، واللاتي. ثالثها: ألفاظ تقال على المفرد مرة، وعلى الجمع مرة أخرى؛ نحو: "مَنْ" الموصولة، ولفظ "منْ" إن أريد به شخص واحد معين، فالضمير الراجع إليه لا يكون إلا مفرداً، أما إذا لم يرد منه شخص واحد، بل أريد منه جماعة،

فهذا ما نطق العرب بالضمير الراجع إليه مفرداً تارة، وجمعاً مرة أخرى، وهذا شأنهم معها فيما إذا أريد منها جنس من يتحقق فيه معنى صلتها. ومن شواهد عود الضمير عليها مفرداً، وقد أريد منها جماعة: قول بعض شعراء الحماسة: وإني لمِمَّنْ يَبْسُطُ الكَفَّ بالنّدى ... إذا شَنَجت كفُّ البَخيل وساعدُه فـ"مَن" هنا مستعملة في جمع، وأعيد عليها الضمير مفرداً. ومن شواهد عود الضمير عليها جمعاً: قول قبيصة بن النصراني أحد شعراء الحماسة: أُحدِّث من لاقيتُ يوماً بلاءه ... وهم يحسبون أنني غيرُ صادقِ فالضمائر العائدة على "مَنْ" المستعملة في جمع تُفرد في حال، وتُجمع في أخرى، وهذا أمر واقع في كلام العرب، غيرُ مختص بضمائر الغيبة في القرآن، بل الواقع أن هذا الحكم لا يختص بـ "من" الموصولة، ولكنه يتعداها إلى أسماء كثيرة يستعملها العرب لتدل على أفراد متعددة، ويعيدون عليها الضمير إن شاؤوا جمعاً، وإن شاؤوا مفرداً، ومثال هذا لفظ "الجمع" نفسه؛ فإنهم يتحدثون عنه حديثهم عن الجموع مرة، كما قال أحد شعراء الحماسة: وجَمْعُ بني قرّان فاعرض عليهمُ ... فإنْ يقبلوا هاتا التي نحن نؤبسُ ويجرونه مجرى المفرد أخرى كما قال آخر منهم: قد صبَّحتْ معنٌ بجمع ذي لَجَبْ ... قيساً وعِبْدَانَهُمُ بالْمُنْتَهَبْ وجد في اللغة هذا النوع من الكلم الذي يطلق على أفراد متعددة،

وللمتكلم الخيار في أن يذهب فيه مذهب الحديث عن المفرد، أو مذهب الحديث عن الجماعة، ولم يبق للنحاة من عمل سوى أن يفرقوا بين الحالين، فقالوا في حال إعادة الضمير عليه جمعاً: إنه محمول على المعنى، وفي حال إعادته عليه مفرداً: هو محمول على اللفظ. ونحن نفهم من هذا: أن المتكلم ينظر أحياناً إلى معنى "مَنْ" التي يراد بها جماعة، فيجده ذا أفراد متعددة، فيعيد عليها ضمير الجمع، وينظر أحياناً إلى لفظ "مَن"، فيجده خالياً من علامة الجمع المقتضية لأن يكون الضمير العائد إليها جمعاً، فيفرد الضمير؛ رعاية للفظها، ولا يعنون بهذا أن الضمير؛ يعود إلى اللفظ من حيث هو حروف، فإن الضمائر إنما يكنّى بها عما يتحدث عنه، وهو المعاني، بل هو عائد إليه من حيث دلالته على المعنى المراد منه، وإنما اعتبروا اللفظ في حال إفراد الضمير، مع أن الضمائر لا تعود على الألفاظ من حيث إنها حروف؛ نظراً إلى أن اللفظ بخلوِّه من علامة الجمع ساعد على أن يجيء الضمير مفرداً، وإذا وقفنا عند هذا الحد، قلنا: إن العرب يحافظون على المطابقة بين الضمير ومرجعه، والنحاة يشترطون هذه المطابقة كما حافظ عليها العرب، غير أن هذه المطابقة إما أن يراعى فيها المعنى الذي يكنى عنه بالضمير، وإما أن يراعى فيها حال اللفظ الذي عبر به عن المعنى أولاً. ومما نراه قريباً أن يقول باحث: إن المتكلم حين يفرد الضمير العائد إلى الألفاظ المستعملة في الجمع إنما ينظر إلى المعنى في صورة تقبل هذا الضمير، وهو أن يلاحظ الأفراد المتعددة من حيث اجتماعُها وانضمامُ بعضها إلى بعض، حتى كأنها وهي في سلك المعنى الجامع بينها شيء واحد،

وإنما تستقيم هذه الملاحظة مع الألفاظ الخالية من علامات الجمع، إذ هذه العلامات تمنع من أن تلاحظ هذه الأفراد في صورة شيء واحد. ومجمل القول: أن الألفاظ التي يراد منها جماعة؛ كـ "مَن"، وجَمْع، وفريق، لا يجد العرب حرجاً في أن يعيدوا عليها ضمائر الجمع؛ نظراً إلى ما دلَّت عليه من الأفراد المتعددة، أو يعيدوا عليها الضمائر مفردة؛ نظراً إلى أن اللفظ لا يتجافى عن هذه الضمائر، وقابل لأن يلاحظ معه مجموع الأفراد في هيئة ما تقع عليه نظرة واحدة، ومراعاةُ اللفظ والمعنى في تركيب واحد كما يجيء في بعض الأبيات طريقةٌ عربية مألوفة، ومن شواهدها: لستُ ممَّنْ يَكِعُّ أو يستكينو ... ن إذا كافحته خيلُ الأعادي فقد أعاد الضمير على "من" في قوله: "يكع" مفرداً، وأعاده عليها ضميرَ جمع في قوله: "يستكينون". * الضمير العائد على "الذي": قال المحاضر: "وأكثر من هذا أن عدم المطابقة ليس مقصوراً على "مَنْ"، بل يتجاوزها إلى "الذي"، مع أن "الذي" مفرد قطعاً، فلا يصح أن يرجع الضمير إلى لفظه مرة، وإلى معناه مرة أخرى، فمن ذلك قوله تعالى في سورة الزمر: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]، وقوله تعالى في سُورَةِ البَقَرَةِ: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا} [البقرة: 264]. قد يراد من نحو "الذي" شخص معين، وهو في هذا الحال لا يعود عليه الضمير إلا مفرداً، وقد يراد منه الجنس؛ ليتناول الحكمُ به كلَّ فرد يتحقق فيه

معنى الصلة، وهذا ما يذهب العرب في الحديث عنه إلى إفراد الضمير مرة، وجمعه مرة أخرى، وإذا أتوا بضمير الجمع، فلأن "الذي" يتناول بوساطة دلالته على الجنس أفراداً متعددة، فتحصل المطابقة بين الضمير ومرجعه من جهة المعنى، فالإخبار عن "الذي" بما يشار به إلى الجمع في آية: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ} [الزمر: 33]، وعود ضمير الجمع على "الذي" في آية: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ} [البقرة: 264] إنما هو قائم على رعاية أن "الذي" مستعمل في جنس من يتحقق فيه معنى الصلة، والجنس ذو أفراد لا تحصى. * الضمير العائد على المعرف بأل الجنسية: قال المحاضر: "بل لا يقتصر عدم المطابقة على"من"، و"الذي"، وإنما يتجاوزهما إلى أسماء مظهرة، منها العام، ومنها الخاص. فمن الأول: قوله تعالى في سورة الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [الأحقاف: 16]. ومن الثاني: قوله تعالى في سورة طه: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 24 - 28] ". أما الآية الأولى، فإن الإنسان مراد منه الجنس، والجنس يتناول أفراداً كثيرة، فصحَّ من هذا الوجه أن يشار إليه بما يشار به إلى الجمع، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف: 17] إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [الأحقاف: 18]، وقد أشار صاحب "الكشاف" إلى وجه الإخبار بـ "أولئك" عن قوله: {وَالَّذِي قَالَ}، فقال: المراد بالذي قال: الجنسُ القائلُ ذلك، ولذلك وقع الخبر مجموعاً.

وأما آية: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27]، فمرجع الضمير فرعونُ وملؤه الذين شأنهم أن يحضروا في علم السامع متى ذُكر فرعون، إذ رئيس القوم كفرعون لا تقع صورته في الذهن غالباً إلا مصحوبة بما يحف به من رجال، وقد بسطنا لك القول في أن الإتيان بضمير الغيبة لا يتوقف على أن يكون مرجعه مذكوراً لفظاً، بل يكفي فيه أن يحضر في ذهن السامع، ولو من غير طريق الألفاظ الموضوعة للدلالة عليه. * رأي المحاضر في الضمائر غير المطابقة: قال المحاضر: "فعدم المطابقة إذن ليس من خصائص الضمير، ولا هو من خصائص الأسماء الموصولة، وإنما هو أسلوب من أساليب القرآن، إذا أمكن ضبطه وتحديده، فقد أمكن حل مسألة الضمائر غير المطابقة، أو التي لا مرجع لها، ويتلخص هذا الأسلوب في أن القرآن يستعمل أحياناً أسماء عامة أو خاصة، وهو يريد أن هذه الأسماء تدل على أصحابها أولاً، وتمثل جماعات أخرى ثانياً؛ أي: أن هؤلاء الأشخاص ممتازون، لهم من المكانة في حياتهم الاجتماعية ما يجعلهم عنواناً لقومهم". قال المحاضر هذا، وأراد تطبيقه على الآية الأولى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} [الأحقاف: 15]؛ بناء على أنها نزلت في أبي بكر الصديق، وعلى الآية الثانية: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27] زاعماً أن فرعون يمثل المصريين!. قد أريناك أن ليس في القرآن ضمير لا يطابق مرجعه، وأن مرجع الضمير قد يكون مذكوراً، وقد يستغنى عن ذكره بما يدل عليه من قرينة لفظية، أو غير لفظية، والآية من هذا القبيل، ولا يشترط في مطابقة ضمير الجمع لمرجعه المذكور قبله أن يكون لفظه جمعاً، بل يكفي فيه أن يكون مدلوله الجنس،

وهو يتناول أفراداً كثيرة، والآية الأولى واردة على هذا السبيل، ونزولها في أبي بكر الصديق لا يمنع من إرادة جنس الإنسان المتصف بالمعنى المحكي عنه، فيتناول أبا بكر، وسائرَ من يتحقق فيه ذلك المعنى. * عدم اكتفائه بهذا الرأي في دفع مشكلة عدم المطابقة: قال المحاضر: "هذا الحل واضح في نفسه، وهو مفهوم من النحو المنطقي الصرف، ولكنه لا يزيل المشكلة؛ لأن مسألة المطابقة بين الضمير وبين مرجعه المذكور لا تزال قائمة". ليس في الآيات إشكال ما دام العرب ينطقون بالضمير من غير أن يذكر مرجعه في نظم الكلام، وما دام علماء العربية يصرحون بجواز هذا الاستعمال، ويسوقون عليه الشواهد الكثيرة، وليس في الآيات إشكال ما دام العرب يجرون الكلمات التي تدل على معانٍ عامة، ولم يكن في لفظها علامة جمع مجرى ما يجيء في صيغة جمع تكسير، أو جمع سلامة، فيعيدون عليها ما شاؤوا من ضمائر الجمع، أو ضمائر الإفراد، وما دام علماء العربية يذهبون في هذا الاستعمال إلى أنه عربي مبين، ولا يرونه ناقضاً لشيء من قواعدهم، وآفةُ المحاضر في هذا كله إنما جاءت من ناحية تلك القاعدة التي اصطنعها بلسانه، ورماها على النحاة، وكتبُهم تنادي ببراءتهم منها. * زَعْمه أن القرآن يستعمل ضمير الغيبة اسم إشارة: قال المحاضر: "إنه يرى أن القرآن نفسه يحل هذه المشكلة حلاً لا شك فيه، ذلك أن هذه الآيات التي لم تتحقق فيها المطابقة، والتي تبلغ نحو المئة، قد ورد فيها اسم الإشارة سبعاً وأربعين مرة، وورد فيها الضمير ثلاثاً وأربعين مرة. وإذن، فالقرآن يستعمل في هذه الآيات الضميرَ واسم

الإشارة على السواء، وإذن، فالضمير في هذه الآيات بمعنى اسم الإشارة. ونحن نعلم أن اسم الإشارة لا يلزم أن يرجع إلى مذكور يتقدمه لفظاً ورتبة، وإنما يجب أن يرجع إلى المشار إليه، وإن لم يطابقه عدداً وجنساً، سواء ذكر هذا المشار، أو لم يذكر". وقال: "إنه يرى أن هذه القاعدة يجب أن تطبق على كل الضمائر التي لا مرجع لها، أو التي لا تطابق مرجعها؛ بحيث تؤخذ هذه الضمائر على أنها أسماء إشارات". لا مشكلة فيطلب حلها؛ ذلك لأن الآيات التي أوردها المحاضر استوفت مراجعها، وتحققت فيها المطابقة على الوجه الكافي في نظر البلغاء، ودعوى أن الضمائر في هذه الآيات مستعملة بمعنى اسم الإشارة، من الخواطر التي لا داعي إليها، وإنما يحتاج إليها من يتوهم أن القاعدة النحوية توجب أن يكون مرجع الضمير مذكوراً يتقدم في اللفظ والرتبة، ويتوهم أن المطابقة بين ضمائر الجمع ومراجعها لا تتحقق إلا أن يكون المرجع من صيغ الجموع، وشيءٌ من هذا لم يلتزمه العرب، ولم يجعله واضعو اللغة حكماً مسمطاً. يقول المحاضر: "ونحن نعلم أن اسم الإشارة لا يلزم أن يرجع إلى مذكور يتقدمه لفظاً ورتبة". وهذا القول من نوع ما يُرمى به على غير روية، والحقيقة أن اسم الإشارة قد يشار به إلى محسوس حاضر، وهذا يستغني بالإشارة الحسية عن أن يتقدمه في الكلام ما يشار إليه، أما إذا أشير به إلى أمر معقول، أو شخص غائب عن حضرة الخطاب، فهذا حكمه حكم ضمير الغائب في احتياجه

إلى مرجع يفسره. قال الرضي في "شرح الكافية": واسم الإشارة لما كان موضوعاً، للمشار إليه إشارة حسية، فاستعماله فيما لا يدرك بالإشارة الحسية؛ كالشخص البعيد، والمعاني مجاز، وذلك يجعل الإشارة العقلية كالحسية، واسم الإشارة حينئذٍ يحتاج إلى مذكور قبله، فيكون كضمير راجع إلى متقدم. وقد نقل العلامة السيد كلام الرضي هذا في "حواشي الشرح المطول" حكماً مسلماً. وهذا أمر معقول بالبداهة لو كان المحاضر ممن رزقوا التؤدة في البحث، فلو قال قائل: لقيت بالأمس ذلك، مشيراً إلى شخص غير حاضر، ولم يجر في الكلام ما يدل عليه، لما أتى بشيء من الفائدة، ولما عده السامعون إلا هاذياً. وأكثر الآيات التي أوردها المحاضر إنما كُنِّي بضمائرها عن معان معقولة؛ كآية: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، أو أشخاص غائبين عن حضرة الخطاب؛ كآية: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27، 28]، فلا مفر للمحاضر إذاً من أن يبتغي لهذه الضمائر مشاراً إليه قد تقدم ذكره، إلا أن يدعي أن هذا النوع الجديد من أسماء الإشارة لا يدخل تحت سلطان قاعدة قديمة، وما هذا الادعاء من صاحب هذه المحاضرة ببعيد. وإذا قال المحاضر: أكتفي في اسم الإشارة بما يدل على المشار إليه، ولو من غير صريح الكلام. قلنا: قد اكتفى علماء العربية في مرجع الضمير بمثل هذه الدلالة، فيكون الخلاف بينك وبينهم في أنهم يسمون الواو في نحو قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف: 187]: ضميراً، وأنت تسميه: اسم إشارة،

وتكون رحلتك إلى مؤتمر المستشرقين لم تثمر سوى أنك جئت إلى نوع من الضمير، وقلت: إني وضعت له اسماً جديداً لم يسمه به علماء اللغة العربية في القديم. قال المحاضر:، "فالضمير إذن في هذه الأنواع الثمانية مستعمل على أنه اسم إشارة. وقد أحس القدماء أنفسهم هذا، فقاله الزمخشري في "الكشاف" - كما قدمنا -، ورووا أن رُؤبة لما سُئل عن الضمير في قوله: كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ أجاب: "أردت: كأن ذاك". ذكر صاحب "الكشاف" لإفراد الضمير في آية: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ} [النساء: 4] وجهين: أحدهما: ما أوردناه فيما سلف من أن يكون الضمير راجعاً إلى الصداق الذي يجده السامع في ذهنه عند ذكر الصدُقات؛ لأنه في معنى: وآتوا كل واحدة من النساء صداقها. وثانيهما: أن يكون الضمير "جارياً مجرى اسم الإشارة، كأنه قيل عن شيء من ذلك"، ومعنى هذا - فيما يظهر - أن الضمير في قوله: "منه"، وهو مفرد، كنَّى به عن الصدُقات، وهو جمع، أجراه له مجرى اسم الإشارة المفرد؛ فإنه قد يشار به إلى الاثنين؛ نحو قوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]، وقد يشار به إلى الجمع؛ كقوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]. فالذي يؤخذ من عبارة الزمخشري: أن ضمير المفرد كني به عن جمع؛ إلحاقاً له باسم الإشارة في أنه قد يشار به إلى جمع، فالإجراء يرجع إلى هذا الوجه، وهو استعمال المفرد

للجمع، وهو مستقيم، ولو مع بقاء الضمير بحالة كناية عن شيء تقدَّمه. فصاحب "الكشاف" لا يريد من قوله: أجري مجرى الإشارة: أنه نقل عن معناه الذي هو مجرد الكناية عن شيء يفسره إلى معنى اسم الإشارة، وإنما يريد: أن هذا الضمير أعطي حكم اسم الإشارة الذي هو استعماله للجميع، وإعطاء الكلمة حكم الأخرى لا يتوقف على أن توافقها في المعنى، بل يكفي فيه أن يكون بين الكلمتين مشابهة في بعض الوجوه، والمشابهة بين الضمير واسم الإشارة في: الإبهام، واحتياج كل منهما في استعماله إلى ما يوضح المراد منه. ويدلك على أن الزمخشري إنما يريد بإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة إعطاءَه حكمَه فقط، ولا يقصد إلى أن يكون الضمير بمعنى اسم الإشارة، أو اسم إشارة: أنه بعد أن استشكل الإشارة بالمفرد المذكور في قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] إلى مؤنثين، وهما بِكر وفارِض، وذهب إلى دفع الاستشكال إلى أن المشار إليه في تأويل (ما ذكر)، أو (ما تقدم)، قال: وقد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا. ورؤبة لا يقصد بقوله: "أردت كأن ذاك": أنه استعمل الضمير اسم إشارة، وإنما يقصد: أنه أعاد ضمير المفرد على الخطوط؛ إجراء له مجرى اسم الإشارة في استعماله لمتعدد، وغير خفي أن اسم الإشارة في هذا الموضع لا يختلف عن الضمير إلا بحكم عدم المطابقة، فقوله: "أردت كأن ذاك" لا يدل على أنه نقل الضمير إلى معنى اسم الإشارة، وإنما هو تنبيه على اللفظ الذي نقل حكمه إلى الضمير، وهذا اللفظ - من حيث إنه يشير إلى ما تقدم ذكره - لا يتميز عن الضمير الذي يكنّى به عن متقدم، فصحَّ أن يوضع موضع

الضمير عند بيان القصد إلى إجرائه مجراه في استعماله لما هو متعدد. وسيقوم لك على هذا من قول السعد شاهد مبين. ثم إن ما يذكر به اسم الإشارة المفرد من عدم المطابقة أمر ظاهري، والتحقيق أن العرب قد وضعوا "ذاك"، أو "ذلك"؛ ليشار به إلى المفرد، و"ذان" - مثلاً - للمثنى، و"أولئك" لما كان جمعاً، فإذا وجدنا اسم الإشارة المفرد نحو "ذلك" مشاراً به إلى متعدد، فإنما هو لضرب من التصرف في تصوير المعنى، ذلك بأن تلاحظ المتعدد في صورة الشيء الذي يدلون عليه بكلمة مفردة. فأنت إذا أتيت في صدر كلامك بمثنى، أو جمع، فقد جعلت مدلوله الذي هو الفردان أو الأفراد مذكوراً في الحضرة، فيأخذ بهذا الذكر عنواناً آخر هو "ما ذكر"، فيصح لمن يخاطب الأذكياء أن يلاحظه كأنه مصرح به في نظم الكلام، ويشير إليه باسم الإشارة المفرد: "ذاك"، أو "ذلك". وقد أحس صاحب "الكشاف" نفسه بالحاجة إلى التأويل في اسم الإشارة المفرد حين يشار به إلى اثنين، فقال في تفسير قوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]. فإن قلت: كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين وإنما هو للإشارة إلى واحد مذكر؟ قلت: جاز ذلك على تأويل "ما ذكر"، و"ما تقدم"؛ للاختصار في الكلام. فالزمخشري يرى أن اسم المفرد إذا استعمل في مثنى أو جمع، فعلى ضرب من التأويل، فإذا جعل ضمير"منه" العائد على "الصدُقات" في الآية الكريمة جارياً مجرى اسم الإشارة، فلأن اسم الإشارة اشتهر باستعماله للمثنى

والمجموع على ذلك الضرب من التأويل أكثر مما اشتهر به الضمير. وكذلك يقول السعد التفتازاني: يكنّى باسم الإشارة الموضوع للواحد عن أشياء كثيرة باعتبار كونها في تأويل "ما ذكر"، و"ما تقدم". وقد يقع مثل هذا في الضمير، إلا أنه في اسم الإشارة أكثر وأشهر، ولهذا قال رؤبة: "أردت: كأَن ذاك" (¬1). وإذا كان اسم الإشارة المفرد إنما يستعمل للمثنى، أو للمجموع على ضرب من التصرف، فلنذهب بالضمير المفرد إلى ذلك الضرب من التصرف من غير وساطة اسم الإشارة، فنقول: إن الضمير في قوله تعالى: "منه" عائد إلى الصدُقات باعتبار العنوان الذي أخذته من ذكرها في صدر الجملة، وهو "ما ذكر". النوع التاسع: قال المحاضر: "النوع التاسع من هذه الضمائر: ضمير الشأن؛ كقوله تعالى في سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1]، فالهاء في "أنه" لا ترجع إلى شيء، وهي لا تشير إلى شيء أيضاً". ثم قال: "إن ضمير الشأن هذا قد فقد معناه، وأصبح أداة لفظية يراد بها تقوية الجملة في القصص، أو في الوعد والوعيد، لا أكثر ولا أقل، وهذا الضمير شائع على هذا النحو في قديم الأدب وحديثه، لا يدل إلا على تقوية الجمل، وصبغها بشيء من الجلال". ألقى المحاضر في صدر محاضرته تلك القاعدة المصنوعة، وقال: ¬

_ (¬1) حاشية الشمني على المغني.

إنها لا تنطبق على القرآن؛ لأن فيه ضمائر لا تعود إلى مذكور يتقدمها لفظاً ورتبة، وفيه ضمائر تعود إلى مذكور، ولكنها لا تطابقه، وقال: إنه حصر الضمائر في أنول تسعة. فالذي يقرأ المحاضرة من أولها حتى يصل إلى قوله: النوع التاسع من هذه الضمائر: ضمير الشأن، يسبق إليه بطبيعة البحث أن المحاضر يرى أن ضمير الشأن من الضمائر الواردة في القرآن على خلاف القاعدة النحوية التي لا تقبل استثناء. والواقع: أن تلك القاعدة المزعومة ليس لها في العربية أصل ولا فرع، أما ما يقوله الجمهور حقاً، وهو: أنه يمتنع عود الضمير على متقدم لفظاً ورتبة، فقد وصلوه بالاستثناء - كما أسلفنا -، ومن جملة هذه المستثنيات: ضمير الشأن. ويقولون: إذا قصد المتكلم إلى أن يستعظم السامع حديثه قبل الأخذ فيه، افتتحه بالضمير المسمّى: ضمير الشأن، ونصّوا على التزام إفراده وتذكيره، إلا إذا وليه اسم مؤنث، أو فعل موصول بعلامة مؤنث؛ كقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. ولم يكن هذا الضمير مختصاً بالقرآن، ولا بالقصص والوعد والوعيد، بل هو شائع في كلام البلغاء، يبنون عليه أقوالهم حيث يقتضي الحال عرضَها في لفظ مجمل قبل إلقائها على وجه من التفصيل. يقول المحاضر: إن هذا الضمير لا يرجع إلى شيء، ولا يشير إلى شيء، وهو إن حاول بهذا أن يجعله كحروف الصلة، فمدفوع بأنه في صورة ضمير الغائب المذكر أو المؤنث، وشأن ما يجيء في هذه الصورة أن يكنى به عن شيء، وليس فيما ذهب إليه علماء العربية من أنه كناية عن الخبر الذي يأتي بعده من بأس.

* زَعْمُهُ أن النحو محتاج إلى وضع جديد: قال المحاضر: "فلا بد إذن من وضع النحو وضعاً جديداً، ولكنا نلاحظ أن النحو ليس سيئ الوضع فحسب، ولكنه قاصر عن الإحاطة باللغة العربية نفسِها، قواعدُه غير متقنة، منها ما يضيق فيسرف في الضيق، ومنها ما يتسع فيسرف في السعة". قد أدلينا إليك بالحجج المعقولة والشواهد المأخوذة من أفواه العرب: أن ضمائر الغيبة في القرآن لم تجئ إلا على ما يجري عليه البلغاء في مخاطباتهم، ولم تجئ إلا على ما تجد له عند علماء العربية أصلاً ثابتاً، وليس في هذه الأصول ما ينبو عنه العقل، أو يتجافى عنه الذوق، واستبان لك: أن المحاضر وضع لمحاضرته أساساً خرباً، فكان كل ما بناه عليه متداعياً إلى السقوط، متخاذلاً. فلا بد إذن من الاعتراف بأن علماء العربية خدموا اللغة، فاستنبطوا القواعد، وسردوا الشواهد، وذهبوا في البحث والاستدلال مذاهب بعيدة عن هذا اللغو الذي أجهد فيه المحاضر نفسه، واقتحم به لجج البحار؛ ليملأ به آذان أولئك المستشرقين. وحقيق بمن يتصور أن النحاة قالوا بوجوب عود الضمير على متقدم لفظاً ورتبة أن يقول: إن النحو قاصر عن الإحاطة باللغة العربية، وحقيق به أن يقول في قواعده: إنها غير متقنة، ولكنهم لم يقولوا هذا الذي نثره المحاضر في مؤتمر المستشرقين. فالذين يُقبلون على الكتب العالية لعلماء العربية؛ ككتاب "التسهيل" لابن مالك، و"شرح أبي إسحاق الشاطبي للخلاصة"، و"شرح ابن يعيش للمفصل"، ويطالعونها بذكاء وتثبت وإنصاف، لا ينصرفون

عنها إلا بإكبار وإعجاب، ولا أنكر أن في كثير من الكتب النحوية شيئاً من الأقوال الواهية، والمذاهب الضيقة؛ فإن هذا شأنُ كل علم، معقولاً كان أو مسموعاً، والذي أعنيه: أن هذه الكتب تحتوي القواعد التي يجري عليها الفصحاء من العرب، فمن الميسور للباحث بإخلاص أن يقف عليها، ويميز منها تلك الآراء الضعيفة، والمذاهب الحرجة، ويخرجها في أسلوب حكيم. يوجد في لغة الألمان مُثُلٌ لما جاء في لغة العرب؛ من الإتيان بضمير لا يرجع إلى مذكور في نظم الجملة، فتجدهم يقولون: هي تمطر، أو تبرق، أو ترعد، أو: هو برد، ولا يزيدون على ضمير الغائب والفعل، فمن مبلغُهم نظريةَ هذا المحاضر؛ لعلهم يغيرون نحوَهم، ويسمون هذا الضمير: اسم إشارة؛ حتى لا يقذفهم المحاضر كما قذفَ علماءَ الأزهر بأنهم قوم لا يقبلون آراء المجددين؟!. * زَعْمه أن النحو لا يكفي لتفسير القرآن: قال المحاضر: "إن علم النحو العربي لا يكفي لتفسير القرآن الكريم وتخريجه من الوجهة النحوية الصرفة"، قال هذا، ثم اقترح: "أن يوضع للقرآن نحو خاص كما هو الشأن في الأبيات البيانية في اللغات الأوربية على اختلافها"، وقال: إن هذا النحو الخاص نافع قيّم من جهتين: الأولى: أن يزيل ما يعلق بنفوس بعض المستشرقين من الشك حين يقرؤون القرآن مستنيرين بالنحو القديم، فيرون بينه وبين هذا النحو ضُروباً من الخلاف، فيعجلون ويقضون بأن في القرآن خطأ نحوياً، والواقع أن القرآن لم يخطئ، وإنما قَصَّر النحويون حين وضعوا قواعد النحو، فلم

يستوعبوا القرآن والشعر، ولم يستقصوهما. الثانية: أن هذا النحو الخاص سيكون أساساً صالحاً لنحو آخر جديد للغة العربية كلِّها يعتمد على بحث أدقَّ وأشدَّ استقصاء من بحث المتقدمين". يقول المحاضر: إن النحو لا يكفي لتفسير القرآن الكريم، ولهذا القول نصيبٌ من الصحة لو صدق عليهم ظن المحاضر في تلك القاعدة التي عرفتم ما هي، وكيف حملها إلى مؤتمر المستشرقين على غير أمانة، فإن كان يقصد إلى شيء آخر غير ضمائر الغيبة، فليأتنا به، ويُرنا كيف تقصر القواعد النحوية عن تأويله، أما اقتراحه بأن يوضع للقرآن نحو خاص، فرأي لا يخطر على بال أحد إلا أن تكون له حاجة يحاول الوصول إليها على هذه الوسيلة. القرآن نزل بلسان عربي مبين، والقواعد النحوية قائمة على الاستشهاد به، وبما يصدر عن البلغاء من منظوم ومنثور، ولا نجد لعلماء العربية قاعدة قرروها شاملة من غير استثناء، وفي القرآن ما ورد على خلافها، وعلى فرض أن نجد في القرآن تركيباً لم نستطع إرجاعه إلى شيء من قواعدهم، فإننا نحكم بأن ذلك الضرب من الاستعمال مطابق لاستعمال العرب، وقد غفل عنه واضعو القواعد، ولا يسوغ لنا في حال أن نذهب إلى أن هذا الاستعمال من خصائص القرآن، ونعمل على أن نضع له نحواً خاصاً، ذلك ما لا يرضى عنه القائمون على أصول اللغة العربية حتى يحملوا في صدورهم قلباً كقلب هذا المحاضر، ويضعوا نصب أعينهم الغاية التي وضعها نصب عينيه. يزعم المحاضر أن هذا النحو الخاص يزيل ما يعلق بنفوس بعض المستشرقين من الشك حين يرون ما بين القرآن وما بين النحو ضروباً من

الاختلاف، ونحن نعلم أن المستشرقين الذين بلغوا أن يقرؤوا القرآن ليستنيروا بالنحو القديم، وهم من التمهل في الحكم وتقصي البحث من كتب متعددة لا يعلق بنفوسهم شك، ولا يرون أن بين القرآن والنحو القديم ضروباً من الاختلاف. أما من يتصور القواعد مقلوبة رأسها على عقبها، فلا حق له في أن يضع، أو يوضع له نحو غير النحو الذي بناه علماء العربية، فأحكموا بناءه. يزعم المحاضر أن هذا النحو سيكون أساساً صالحاً لنحو آخر يعتمد على بحث أدق من بحث المتقدمين، ولكن المثال الذي قدمه في هذه المحاضرة لا يصلح شاهداً على أن في إمكان من هم إلى العقلية الغربية أقرب منهم إلى العقلية الشرقية أن يضعوا للغة الفصحى نحواً يداني نحو المتقدمين، فضلاً عن أن يكون أدق وأشد استقصاء منه، ولا يفرح المحاضر أن طائفة من الغائبين عن علوم اللغة، قد ضربوا أيمانهم على شمائلهم استحساناً منهم لما يقول، فإن الذين يسارعون إلى تقليد كل من ينعق باسم الجديد - وإن كان مبطلاً - غيرُ قليل.

القرآن لا يقول إلا حقا

القرآن لا يقول إلا حقا ً (¬1) كنت سمعت من نفر غير مثقفين بعلوم الشريعة رأياً في القرآن يخرج به عن كونه تنزيلاً من حكيم حميد. قال بعض هذا النفر: إن القرآن يأتي بالقصة لكونها جارية عند العرب، وهي غير مطابقة للواقع، إنما يريد بها الموعظة والاعتبار. وكتب آخر قائلاً - زيادة على ما تقدم -: إنما يكسوها ثوب الفن القصصي. وقال آخر منهم: إن القرآن يشتمل على قضايا مخالفة للعلم القطعي ... ولم نسمع منهم شاهداً منطقياً، وإنما يذكرون قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، فيقولون: إن القرآن دلَّ على أن عيسى وجد من غير أب، والعلم يخالف ذلك، فيدل على أن الابن لا يوجد بغير أب. ويذكرون قوله تعالى: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]؛ حيث إن هارون أخو موسى، فكيف يكون أخاً لمريم أمِّ عيسى- عليه السلام - وبين الرسولين زمان بعيد؟. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - العددان الحادي عشر والثاني عشر من المجلد الثالث والعشرين، الصادران في ذي القعدة وذي الحجة 1373 هـ.

والجواب عن الآية الأولى: أن عيسى- عليه السلام - قد وجد من غير أب كما يدل عليه القرآن، ولا يستطيع العلم أن يقيم دليلاً منطقياً على أن الولد لا يوجد من غير أب، ما عدا أن العادة جرت بأن الولد لا يكون إلا من أب؛ ولله أن يخالف العادة بالمعجزة التي تجري في وجود رسول أو على يد رسول. والدليل القاطع قائم على أن الشرع من عند الله، فما يقوله يكون ولا بد صادقاً، وقد دل على أن عيسى - عليه السلام - ولد من غير أب، فنؤمن به، ولا نكون مخالفين للعقل السليم في الإيمان بذلك. والجواب عن الآية الثانية، أعني: قوله تعالى: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]: أن هارون هذا أخ صالح لمريم - عليها السلام - سمي باسم هارون الرسول، والقرآن حكى ما صدر منهم، وليس من شأنه أن يقول: إن هارون غير هارون الذي هو أخو موسى - عليه السلام -. ومن ذا الذي يعتقد أن هارون أخو مريم أمِّ عيسى هو هارونُ موسى؟! والقرآن تحدث عن التوراة والإنجيل، وعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - طولَ الزمان الذي بينهما، فكيف يراد في القرآن من هارون أخي مريم هارونُ أخو موسى؟. والقول: إن القرآن لا يُحكى فيه إلا ما كان واقعاً، قرره أبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته" بعد أن تتبع القرآن بنظر وبحث، فقال: "كل حكاية في القرآن فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها - وهو الأكثر - ردٌّ لها، أولاً، فإن وقع ردٌّ لها، فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه، وإن لم يقع معها رد، فذلك دليل على صحة المحكي وصدقه. ثم قال: إن القرآن سمي: فرقاناً، وبرهاناً، وبياناً، وتبياناً لكل شيء،

وهو حجة الله على خلقه على الجملة والتفصيل، والإطلاق والعموم، وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق، ثم لا ينبِّه عليه". ومن ظن أن في القرآن قصة باطلة، أو قضية تخالف العلم الصحيح، فقد وقع فيما يستلزمه هذا الظن لزوماً بيناً لا خفاء فيه من أن القرآن كلام ليس من عند الله، فإن الله قادر على أن يصور الموعظة والاعتبار في قصص واقعة، وقضايا موافقة للعلم الصادق، ومما جاءت به الشريعة لإبطال ما يعتقده العرب من المزاعم الباطلة. وإذا كنا نعدُّ مَن يسوق في كلامه قصة غيرَ واقعة بأسلوب يوهم أنها واقعة عاجزاً أو جاهلاً، كما نعدُّ من يأتي بكلامه بجملة ينكرها العلم عاجزاً أو جاهلاً، فكيف نعتقد أن الخالق - جل جلاله - يسوق في كلامه ما ليس بحق، ولا ينبّه له؟! وإذا كان بعض السياسيين يريد أن يجلب قلوب الناس إلى غرض محمود بقصة يعرف أنها غير واقعة، أو كلام يعرف أنه لا يطابق العلم الصحيح -؛ فربما كان حُسن القصد غطى على عيب الكذب، وهذا لا يقرر في حق الباري -جل شأنه-؛ إذ هو قادر على أن يؤلف قلوب الناس بغير حكاية ما ليس بحق، والكذب مستحيل في حق الأنبياء - عليهم السلام -، فكيف يكون من الله- جلَّ وعلا -؟. كتبنا هذه؛ ليتنبه المعتزون بدينهم لمغالطات الحائدين عن السبيل؛ حتى لا يكونوا عن هداية الله معرضين.

الفن القصصي في القرآن

الفن القصصي في القرآن (¬1) قدَّم أحد طلاب الجامعة المصرية رسالة موضوعها: "الفن القصصي في القرآن"؛ لينال بها لقب: "دكتور"، وقد تناولت الصحف الحديث عن هذه الرسالة، ودارت مناقشات حادة، هذا يعدّها من قبيل الإلحاد في آيات الله، وذاك يقف بجانبها، ويناضل عنها مناضلة الراضي عن آرائها، ووقف بعض الشبان بين هؤلاء يتعرفون وجه الحق فيما يتناظر فيه الفريقان؛ وكنّا ننتظر أن تقع الرسالة في أيدينا؛ لنلقي عليها نظرة فاحصة، حتى اطلعنا في "مجلة الرسالة" على نص التقرير الذي بعث به إلى عميد كلية الآداب أحدُ أعضاء اللجنة التي ألّفت لفحص الرسالة، وهو الأستاذ أحمد أمين، ثم اطلعنا في "جريدة أخبار اليوم" على مقال لأستاذ من أعضاء هذه اللجنة أيضاً يعلن فيه: أنه راض عما تضمنته الرسالة، وأنه هو الواضع للمنهج الذي تقدم عليه كاتب الرسالة لدرس القرآن، ثم اطلعنا في "مجلة الرسالة" على مقال لكاتب الرسالة ساق فيه نصوصاً لبعض المفسرين والأصوليين، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامة" - الجزءان السابع والثامن من المجلد العشرين الصادران في محرم وصفر عام 1367 هـ - والجزءان الأول والثاني من المجلد الحادي والعشرين الصادران في رجب وشعبان عام 1367 هـ. وهو نقد كتاب "الفن القصصي في القرآن" للدكتور محمد أحمد خلف الله.

وأخرى للشيخ محمد عبده، والشيخ رشيد رضا؛ بدعوى أن هذه النصوص تشد عضده، وتجعل ما كتبه حقيقة معترفاً بها من قبل. ولما تجمع لديَّ تقرير الأستاذ أحمد أمين، وما كتبه الأستاذ الراضي عما كتب في الرسالة، بل الموجّه لصاحبها إلى ما وضع، ثم ما نشره كاتب الرسالة نفسُه من بعد، رأيت أن أكتب كلمة على حسب ما اطلعت عليه في الصحف، وفيما اطلعت عليه الكفاية. صدَّر الأستاذ أحمد أمين تقريره بالعبارة الآتية: "وقد وجدتها رسالة ليست عادية، بل هي رسالة خطيرة، أساسها أن القصص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار من غير التزام لصدق التاريخ، والواقع أن محمداً فنان بهذا المعنى". ثم قال: "وعلى هذا الأساس كتب كل الرسالة من أولها إلى آخرها، وإني أرى من الواجب أن أسوق بعض أمثلة توضح مرامي كاتِب هذه الرسالة، وكيفية بنائها". ثم أورد الأستاذ أحمد أمين أمثلة منتزعة من الرسالة تشهد بما وصفها به في هذه العبارة المجملة. جاء في التقرير ما يأتي: "يرى - يعني: كاتب الرسالة - أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي، وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادثة تصويراً فنياً؛ بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد؛ مثل: أن البشرى بالغلام كانت لإبراهيم، أو لامرأته، بل تكون القصة مخلوقة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] ... إلخ، ص 14 وما بعدها".

ما يرد في القرآن على وجه الإخبار لا يكون إلا موافقاً للواقع، هذا ما يقتضيه الإيمان بأنه تنزيل من عليم حكيم، ولو أجزنا أن يكون فيه أقوال غير مطابقة للواقع، لكان معنى ذلك: أن من أقواله ما يكون كذباً، وليس الكذب سوى عدم مطابقة الكلام للواقع. وإذا كان الفضلاء من الناس يتبرؤون من أن يقولوا زوراً، ويعدّونه في أقبح الرذائل المزرية بالإنسانية، فما كان لنا أن نلصقه بكلام ذي العزة والجلال، ناظرين إلى مقام الربوبية كما ننظر إلى شاعر أو كاتب قد يعجز عن أن يظهر براعته الفنية في الحوادث الواقعة تاريخياً. يصف كاتب الرسالة الكتابَ الحكيم بالتناقض في رواية الخبر الواحد، مستدلاً بذلك على أنه لا يلتزم الصدق التاريخي، ويقول: "بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد؛ مثل: أن البشرى بالغلام لإبراهيم، أو لامرأته". التناقض في الأخبار: أن يختلف الخبران بالإيجاب والسلب، مع اتحادهما فيما عدا ذلك، ويلزم من صدق أحدهما كذبُ الآخر؛ كأن تقول: بشرت زيداً بقدوم ابنه، ثم تقول: لم أبشر زيداً بقدوم ابنه، ومثل هذا الضرب من الكلام لم يقع في الآية الكريمة، وإنما ورد: أن الله بشَّر عن طريق الملائكة إبراهيم - عليه السلام - بغلام؛ كما قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] , {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112]، وفي آية أخرى: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53]، وورد في آية أخرى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]. ومن المعقول أن يبشر الملائكة إبراهيم - عليه السلام -, ثم يبشروا امرأته

بغلام هو إسحاق، فيذكر في آية: أنهم بشروا به إبراهيم، ويذكر في آية أخرى: أنهم بشروا به امرأته، ومن ذا الذي يتوهم أن في مثل هاتين البشارتين شيئاً من التناقض، أو ما يشبه التناقض؟! يزعم كاتب الرسالة أن القرآن يختلق بعضَ القصص، فقال: "بل تكون القصة مخلوقة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ} [المائدة: 116] ... إلخ" ولا ندري ما هو الدليل الذي ينهض أمام هذه الآية، ويدل على أن القصة المشار إليها مخلوقة غير واقعة، والأدلة في مثل هذا إما نصوص تاريخية ثابتة الرواية، وإما أن يُشعر المتكلمُ مخاطبه بأنه يريد تصويراً فنياً، وإما أن يبدو للمخاطب من طبيعة الحادثة ما يجعلها مستحيلة الوقوع، ولم يرد نص تاريخي ينفي ما اشتملت عليه القصة من خطاب الله تعالى لعيسى وجواب عيسى- عليه السلام -، ولم يقل الله تعالى - لا صراحة ولا تلويحاً -: إن هذه القصة مخلوقة غير واقعة، وإنما أريدُ تصوير حادثة تصويراً فنياً، وليس في القصة معنى يحكم العقل المنطقي باستحالته. وقال كاتب الرسالة - على ما جاء في التقرير -: "إن الإجابة عن الأسئلة التي كان يوجهها المشركون للنبي ليست تاريخية، ولا واقعة، وإنما هي تصوير نفسي عن أحداث مضت، أو أغرقت في القدم، سواء كان ذلك الواقع متفقاً مع الحق والواقع، أم مخالفاً له. ص 28". نتحدث مع صاحب الرسالة في هذا الموضوع الديني بصفته مسلماً، فنقول: قد قام الدليل القاطع على أن القرآن كلام الله، وأن رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد بلّغ ما أُنزل إليه من ربه، فكل ما جاء في القرآن من خبر فهو صادق، وإنما الصدق مطابقةُ الكلام للواقع، ونستند في الجزم بصدق أخبار القرآن

إلى الدليل القائم على صدق الرسول في دعوى الرسالة، والدليل القائم على أن القرآن وحي من الله -جل شأنه- ولو كان القائل: "إن النبي- عليه الصلاة والسلام - إنما يصور واقعاً، في نفسه، سواء كان ذلك الواقع متفقاً مع الحق والواقع، أم مخالفاً" لا ينتمي إلى الإسلام، لقلنا: نحن معنا أدلة لا تحوم حولها شبهة على أن القرآن لا يقول إلا حقاً، فإن أبيت أن تصغي إليها بأذن واعية، فاعمد إلى قصة من قصص القرآن، وأقم على أنها مخالفة للحق دليلاً يقره المنطق، ويتقبله العقل. يقول كاتب الرسالة: "إن المشركين كانوا يوجهون إلى النبي أسئلة، وإن الإجابة عنها ليست تاريخية، ولا واقعة". ونحن لا ندري من أين عرف كاتب الرسالة أن إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أسئلة المشركين لم تكن تاريخية، ولا واقعة! فقد يهمل التاريخ أحداثاً، فلا يدل عليها صراحة، ولا رمزاً، ولكنه لا يستطيع أن يأتي إلى أحداث أخبر عنها القرآن على وجه خاص، ويحكم عليها بأنها غير واقعة، حكماً يدخل إليه من باب الروية والإنصاف. قال كاتب الرسالة: "والقرآن يقرر أن الجن تعلم بعض الشيء، ثم لما تقدم الزمن، قرر القرآن أنهم لا يعلمون شيئاً. ص 29، والمفسرون مخطئون حين يأخذون الأمر مأخذ الجد. ص 30". لم يقرر القرآن أن الجنّ لا يعلمون شيئاً وإن قال في قصة وفاة سليمان - عليه السلام -: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14]. فالآية إنما نفت عن الجن علم الغيب، وهو ما يحصل للعالِم ذاته،

ومن هنا كان مختصاً بالخالق -جل شأنه- قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، فدلت الآية على أن علم الغيب خاص به تعالى، وأما غيره، فلا يعلم الأشياء الغائبة عنه بذاته، وإنما يعلم منها ما يعلمه الله؛ كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27]. ومن هنا نفهم كيف ينفي النبي - عليه الصلاة والسلام - عن نفسه علم الغيب، مع أن الله قد أظهره على أشياء كثيرة كانت غائبة عنه، فقال: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188]، فنفي علم الغيب عن الجن لا ينافي أنهم يعلمون بعض الأشياء بطريق من طرق العلم الخفية. فكاتب الرسالة مخطئ في فهمه أن بين الآية التي تثبت للجن العلم ببعض الشيء، والآية التي تنفي منهم علم الغيب، تناقضاً. قال كاتب الرسالة: "الأنبياء أبطال ولدوا في البيئة، وتأدبوا بآدابها، وخالطوا الأهل والعشيرة، وقلدوهم في كل ما يقال ويفعل، وآمنوا بما تؤمن به البيئة من عقيدة، ودانوا بما تدين به من رأي، وعبدوا ما يعبد من إله. ص 27". أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها، وممن حكى الإجماع على هذا: الإمامُ عضد الدين في كتاب "المواقف"، والقاضي عياض في كتاب "الشفاء". ولكن كاتب الرسالة يقول: إنهم قلدوا الأهل والعشيرة في كل ما يقال ويفعل، وآمنوا بما تؤمن به البيئة من عقيدة، وعبدوا ما يعبد من إله. وإنما يقول هذا، ويخرج عن إجماع المسلمين من استطاع أن يملأ

يده من روايات تاريخية صحيحة، أو استطاع أن يقيم دليلاً نظرياً يسعه المنطق السليم، وليس بيد الكاتب نقل مقبول، ولا دليلٌ معقول، وإنما هي دعوى عارية من كل شاهد، فلندعْ بسطَ الحديث عنها حتى نعرف الشبهة التي دفعت الكاتب إليها؛ حتى عبَّر عنها بجمل يؤكد بعضها بعضاً، وأسرف في تسويتهم بالمشركين إلى أن قال لك: "وقلدوهم في كل ما يقال ويفعل"!. قال كاتب الرسالة: "تصوير أخلاق الأمم - كبني إسرائيل - ليس بضروري أن يكون واقعاً، بل يصح أن يكون تصويراً فنياً يلاحظ الواقع النفسي أكثر من صدق القضايا ... إلخ. ص 75". القرآن وحي سماوي، فإذا وصف أخلاق أمم؛ كبني إسرائيل، دلَّ بالضرورة على أن وصفهم بتلك الأخلاق واقعي، ومن ادَّعى أن القرآن غير صادق فيما وصف، فليأت بآية وصفت بعض الأمم بأخلاق، ودلت الرواية أو الدراية على أن هذا الوصف غير مطابق للواقع. قال كاتب الرسالة: "القصة هي العمل الأدبي الذي يكون نتيجة تخيل القاصّ لحوادث وقعت من بطل لا وجود له، أو لبطل له وجود، ولكن الحوادث التي ألمت به لم تقع أصلاً، أو وقعت ولكنها نُظمت على أساس فني، إذ قدم بعضها، أو حذف بعضها، وأضيف إلى الباقي بعض آخر، أو بولغ في تصويرها إلى حد يخرج بالشخصية التاريخية عن أن تكون حقيقية إلى ما يجعلها في عداد الأشخاص الخيالية، وهذا قصدنا في هذا البحث من الدراسة القرآنية. ص 81". هذا الذي يقوله الكاتب إنما ينطبق على القصص التي يقصد من تصنيفها

إظهار البراعة في صناعة الإنشاء، أو في إجالة الخيال، أو بعض الارتياح والمتعة في نفوس القارئين؛ مثل: مقامات بديع الزمان، أو مقامات الحريري، أو القصص التي تنشر اليوم في بعض الصحف السائرة، أما قصص القرآن، فهي من كلام رب العزّة، أوحى به إلى الرسول الأكرم؛ ليكون مأخذ عبرة، أو موضع قدوة، أو مجلاة حكمة، وإيمانُ الناس بأنه صادر من ذلك المقام الأسنى يجعل له في قلوبهم مكانة محفوفة بالإجلال، ويمنعهم من أن يدرسوه كما تدرس تلك القصص الصادرة من نفوس بشرية تجعل أمامها أهدافاً خاصة، ثم لا تبالي أن تستمد ما تقوله من خيال غير صادق، أو تخرج من جد إلى هزل، وتضع بجانب الحق باطلاً. قال كاتب الرسالة: "أخطأ الأقدمون في عد القصص تأريخاً. ص 83". لم يخطئ المتقدمون ولا المتأخرون في عد القصص تأريخاً، بل هم على بينة من أمرهم إذ يعدون القرآن أصحَّ مصدر لما يقص من شؤون الأمم الغابرة، والأمم التي كانت تعيش وقت نزوله؛ ذلك أن الدليل القائم على أن القرآن وحي إلهي هو الدليل الذي يشهد بأن قصصه تاريخ حق لازم للإيمان بأنه وحي سماوي، ومن يزعم أنه يوجد هذا الإيمان بدون ذلك الاعتقاد، فهو كمن يزعم أن الشمس طالعة، والنهار غير موجود. قال كاتب الرسالة: "منهجه - أي: القرآن - هو معالجة القصة من حيث هو أدب، ويعني بذلك خلق الصور والابتكار والاختراع (ص 84) ولذلك لا مانع من اختلاف تصور الشخصية الواحدة في القرآن. ص 85". لم يعالج القرآن القصة من حيث هي أدب، وإنما يوردها من حيث إنه مطلع حكمه، ومأخذ عبرة، وحيث كان لبلاغة القول - بعد حكمة المعنى

وقوة الحجة - أثر زائد في توجيه النفوس إلى الصراط السوي، أنزل الله القرآن كله في أفصح الألفاظ، وأبدع الأساليب، حتى بلغ بحسن بيانه أنه كان المعجزة الخالدة. وأشار الأستاذ أحمد أمين في تقريره إلى أن كاتب الرسالة يسمّي القصة في القرآن: أسطورة، فقال عازياً إلى تلك الرسالة: "وجود القصة الأسطورية في القرآن. ص 89"، ثم اطلعنا على مقال لكاتب الرسالة نشره في "مجلة الرسالة" يقول فيه: "وأرجو أن لا يزعجنا هذا اللفظ (أسطورة)، ونقع في أخطاء وقع فيها غيرنا حين ظن أن معنى الأسطورة: الكذب والمين، أو الخرافات والأوهام، فذلك ما لم يقصد إليه القرآن الكريم، وقال: "ليست الأسطورة في حس القرآن الكريم إلا ما سطره الأقدمون من أخبارهم وأقاصيصهم، بذلك تنطق آياته، وإلى ذلك فطن المفسرون" ثم نقل عن الطبري تفسيره للأسطورة بما: "سطره الأولون وكتبوه من أخبار الأمم". ونقل عن "الكشاف" أنه فسرها: "بما سطره المتقدمون من نحو الحديث عن رستم، واسفنديار". ثم نقل عن "المنار" للشيخ رشيد رضا: أنه فسر الأساطير في قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25]: بقصص الأولين وأحاديثهم التي سطرت في الكتب على علاتها، وما هي بوحي من الله". من المفسرين من يفسر الأسطورة بما سطره الأولون وكتبوه من أخبار الأمم، وهذا لا ينافي ما قاله آخرون من أنها الأباطيل والخرافات، قال صاحب "الكشاف" عند تفسير قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: "فيجعلون كلام الله وأصدق الحديث خرافاتٍ وأكاذيبَ، وهو الغاية من التكذيب". قال الألوسي في تفسير {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} من هذه الآية: "أي: أحاديثهم

المسطورة التي لا يعوَّل عليها". ونقل عن قتادة: أنه قال في تفسيرها: "كذبهم وأباطيلهم". وإذا رجعنا إلى كتب اللغة نجد صاحب "المصباح" يقول: "والأساطير: الأباطيل". وصاحب "لسان العرب" يقول: "الأساطير: الأباطيل"، ويقول أيضاً كما قال صاحب "القاموس": "والأساطير: أحاديثُ لا نظام لها"، وفي "اللسان" أيضاً: "يقال: سطّر فلان علينا: إذا أتى بأحاديث تشبه الباطل". وهذه النصوص وحدها كافية لأن تمنع كاتب الرسالة من أن يسمي القصة في القرآن: أسطورة. قال كاتب الرسالة: "ولعل قصة موسى في الكهف لم تعتمد على أصل من واقع الحياة (89)، بل ابتدعت على غير أساس من التاريخ". وضع الكاتب أمامه قصص القرآن، وأخذ يُصدر فيها أحكاماً تمليها عليه محاكاته لقوم يجحدون، فعمد إلى قصة موسى في سورة الكهف، ونفى عنها أن تكون قد اعتمدت على أصل من واقع الحياة، ووصفها بأنها ابتدعت على غير أساس من التاريخ، مظهراً عدم الجزم بذلك، إذ صدَّر حكمه بحرف: "لعل"، فقال: "لعل قصة موسى ... إلخ". والذي يتصدى لأن يحكم على قصة نبي في القرآن بأنها لم تعتمد على أصل من واقع الحياة، شأنه أن يعرف تاريخ ذلك النبي من طريق غير القرآن، ويملأ يده من روايات بالغة في الصحة درجة تكسبه الجزم بأن ما حكاه القرآن غير واقع، فله أن يقول حينئذٍ: إن هذه القصة مبتدعة على غير أساس من التاريخ، فهل دخل الكاتب إلى هذا الحكم المصدَّر بـ "لعل" من طريق هو أرجح دلالة على الواقع من نصوص القرآن المجيد؟!

قال كاتب الرسالة: "والقرآن عمد إلى بعض التاريخ الشعبي للعرب، وأبطال أهل الكتاب، ونشره نشراً يدعم غرضه (ص 93)؛ كقصة ذي القرنين". إذا قص القرآن حوادث كان حديثها يدور بين العرب، أو أهل الكتاب، فإنما يقصها لقصد يعود على دعوته الشاملة بتأكيد، وهو - بعد هذا - لا يقص من تلك الحوادث إلا الواقع، وليس من المعقول أن يجاري القرآن العرب أو أهل الكتاب فيما يتسامرون به في مجالسهم، فيعرض منها ما ليس بواقع، وهو تنزيل من علّام الغيوب. أما قصة ذي القرنين، فقد ذكر القرآن أن الكفار وجهوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سؤالاً عن ذي القرنين، فقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف: 83]، ولا يخطر على بال أحد فَهمَ مساق القصة، وعرفَ ما يقصده أولئك المتعنتون من أسئلتهم، أن يكون قصدهم من هذا السؤال أن تصور لهم قصة ذي القرنين في صورة فنية، وإن كانت غير مطابقة للواقع التاريخي، فيكون غرضهم إذاً اختبار حال المسؤول من جهة حسن البيان، وذلك ما لا يحتمله لفظ الآية، ولا يساعد عليه مساقها. نزل الوحي بالجواب عن هذا السؤال، قال تعالى: {قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 83، 84] ... إلخ القصة، وقد اختلف الكاتبون في: من هو ذو القرنين الذي تحدث عنه القرآن في هذه القصة؟ وأخذوا يتحدثون عن الإسكندر الرومي، والإسكندر اليوناني، وغيره. ونحن نطرح كل حديث عن شخص لا ينطبق عليه ما وصف به القرآن ذا القرنين، ونقطع ببطلان أن يكون ذلك الشخص هو المسمَّى في هذه القصة: ذا القرنين، ونقول: إن القصة الواردة في القرآن موافقة للواقع التاريخي

ما دام المؤرخون لا يستطيعون أن يقيموا دليلاً مقبولاً على أنه لم يوجد في العصور الخالية شخص صدرت منه الأعمال التي نسبت في القصة إلى ذي القرنين، وإذا لم يذكر القرآن العصر الذي ظهر فيه ذو القرنين، ولا البلد الذي نشأ فيه، ولا الشعب الذي ينتسب إليه، كان من المتعذر على المؤرخ أن ينكر صدق قصته إنكاراً يقيم له العارفون بآداب البحث وزناً. قال كاتب الرسالة: "عناصر القصة هي العناصر الفنية والأدبية التي اتخذ منها الفنَّان مادته التركيبية، والتي أعمل فيها خياله، وسلط عليها عقله، ونالها بالتغيير والتبديل، حتى أصبحت وكأنها مادة جديدة بما بث فيها من روحه، وكذلك القصص في القرآن، والبحث عن المصادر في القصص القرآني على هذا الأساس". عرَّف الكاتب - قبل هذا - القصةَ بأنها: العمل الأدبي الذي يكون نتيجة تخيل القاص لحوادث وقعت من بطلٍ لا وجود له، أو بطل له وجود، ولكن الحوادث التي ألمت به لم تقع أصلاً ... إلخ ما نقلناه من كلامه - فيما سلف - وعرّف عناصر القصة هنا بأنها: العناصر الفنية والأدبية ... إلخ. وما قاله الكاتب في تعريف القصة يصح أن يقال في قصة يؤلفها فنان يريد من تأليفها إظهار براعته البيانية، ولا يبالي في تخيله أن تكون الحوادث التي أَعملَ فيها خياله، وسلَّط عليها عقله، وقعت من بطل لا وجود له، أو من بطل له وجود، ولكن الحوادث التي ألمت به لم تقع أصلاً. ولا يليق بباحث مطمئن إلى أن القرآن وحي سماوي أن يقول بعد أن عرّف القصة وعناصرها بما عرفهما به: "وكذلك القصص في القرآن". ويقول كاتب الرسالة: "والبحث عن المصادر في القصص القرآني على

هذا الأساس". أشار الكاتب إلى أن للقرآن مصادر، وهذا ما يقوله المخالفون الذين يقولون: إن القرآن من تأليف محمد، ويزعمون أن هناك مصادر استمد منها النبي محمد ما جاء به من شريعة الإسلام، ومن مصنفاتهم كتاب يسمونه: "مصادر الإسلام". والمسلمون على يقين من أن للقرآن مصدراً واحداً هو الله الذي يقول الحق، وهو يهدي السبيل. قال كاتب الرسالة: "يجب أن لا يزعجنا؛ لأنه الواقع العلمي في حياة كل الفنون والآداب (118)، وطبق هذا المبدأ تطبيقاً واسعاً". لا يزعجنا أن يسوق بعض الكاتبين قصص القرآن الكريم مَساقَ القصص التي يُعمل فيها الفنان خياله، ويسلط عليها عقله، مادام الدليل الذي قام على أن القرآن كلام الله لا يزال قائماً نصب أعيننا؛ ذلك أن القرآن دعوة مقرونة بحجة تشهد للدعوة بأنها صادرة من حضرة ذي الجلال، لا أنها من صنع بشر فنان، قد يغطي بزخرف قوله ما تنطوي عليه عباراته من معانٍ لا تطابق الواقع التاريخي. قال كاتب الرسالة: "وما تمسك به الباحثون من المستشرقين ليس سببه جهل محمّد بالتاريخ، بل قد يكون من عمل الفنان الذي لا يعنيه الواقع التاريخي، ولا الحرص على الصدق العقلي، وإنما يتتج عمله، ويبرز صوره بما ملك من الموهبة الفنية، والقدرة على الابتكار والاختراع، والتغيير والتبديل. ص 136". ادعى المستشرقون أن في القرآن قَصصاً غيرَ موافق للواقع التاريخي، وكذلك زعم كاتب الرسالة: أن القصص في القرآن لوحظ فيه التصوير الفني دون الواقع التاريخي، والصدق العقلي، فكاتب الرسالة يوافق المستشرقين

في أن بين قصص القرآن ما لا يوافق الواقع التاريخي، غير أن المستشرقين يعللون هذه المخالفة بعدم معرفة محمد للتاريخ، وكاتب الرسالة يعللها بأنه - عليه الصلاة والسلام - يسوق القصة غير معنيٍّ بالواقع التاريخي، ولا حريصٍ على صدقها العقلي، وإنما كانت وجهته التصوير الفني، والابتكار والاختراع، والتغيير والتبديل!. وانظر ماذا ترى في قوله: "ليس سببه جهل محمد بالتاريخ، بل قد يكون من عمل الفنان الذي لا يعنيه الواقع التاريخي"، فهل كاتب الرسالة أطلق اسم الفنان على محمد - صلوات الله عليه - فيكون قد حاكى المستشرقين في زعمهم: أن القرآن من صنع النبي محمد، أو أطلقه - بصفته مسلماً - على منزِلّ القرآن، ووصفه بأنه لا يعنيه الواقع التاريخي، ولا الصدق العقلي؟ وفي كلا الأمرين زهد في الاحتفاظ بالعقيدة السليمة!. والمسلم الحق من يؤمن بأن القرآن مُنَزّل من عند الله، لا من صنع محمد- عليه الصلاة والسلام -, وينزه القرآن عن ذلك التصوير الفني الذي لا يعنى فيه بالواقع التاريخي، وليس قصص القرآن إلا الحقائق التاريخية تصاغ في صور بديعة من الألفاظ المنتقاة، والأساليب الرائعة. قال كاتب الرسالة: "تتدرج القصص في القرآن كما يتدرج أدب كل أديب، فالأدباء يلتمسون المتعة واللذة في كل أمر فني يعرض لهم، ثم يتقدمون خطوة، فيبغون الاستمتاع واللذة بالمحاولات الأولى التي تقوم على التقليد والمحاكاة، ثم يكون التخلف شيئاً فشيئاً، والدخول في ميدان التجارب الخاصة، ومظاهر ذلك: النسخ، والتدرج بالتشريع 169 إلخ". جعل الكاتب القصص القرآني يتدرج كما يتدرج أدب كل أديب، وقال:

إن الأدباء يلتمسون المتعة واللذة في كل أمر فني يعرض لهم. والواقع أن القرآن لم ينزل ليجاري الأدباء في أدبهم، ويذهب في المبالغات مذهبَهم، ويستخف بحرمة بعض الحقائق استخفافَهم، وإنما نزل القرآن ليهدي الأدباء وغيرَ الأدباء إلى ما يلائم الفِطَر السليمة من عقائدَ وآدابٍ وأعمال، فوجهته الدعوةُ إلى الإصلاح الشامل، وليست هذه الدعوة الإصلاحية وليدةَ الدخول في ميدان التجارب الخاصة، ولا النسخ والتدرُّج بالتشريع من مظاهر الدخول في تجارب، بل الدعوة هدايةٌ من خالق التجارب والمجربين، والنسخ والتدرج بالتشريع من مظاهر علمه القديم، كما هو مفصَّل في أصول الشريعة.

تحريف آيات الحدود عن مواضعها

تحريف آيات الحدود عن مواضعها (¬1) اطلعت على مقال نشره بعض الكاتبين في العدد السادس من "جريدة السياسة الأسبوعية" تحت عنوان: "التشريع المصري وصلته بالفقه الإسلامي"، فرأيت الكاتب قد أبدى رأياً هو: أن الأمر في آية حد السرقة، وآية حد الزنا، يحمل على الإباحة، لا على الوجوب. وقد مهد الكاتب لهذا الرأي بكلام في الاجتهاد يشير إلى أن ما سيقوله في آيات الحدود من قبيل الاجتهاد المعروف بين علماء الإسلام. ونحن لا نريد التعرض لذلك التمهيد، فننظر في مرتبة الاجتهاد، وفي صفات من يقبل منه دعوى أنه بلغ تلك المرتبة، بل نقصر البحث على ذلك الرأي؛ حتى يستبين القارئ: أنه رأي لم يصدر عن اجتهاد، ولا تثبُّتٍ في فهم كلام الشارع الحكيم. ذكر الكاتب في صدر مقاله: أن مقالاً كان قد نشر في "السياسة الأسبوعية" حوى أفكاراً أثارت في نفسه من الرأي ما كان يريد أن يرجئه إلى حين؛ لأن النفوس لم تتهيأ بعدُ لفتح باب الاجتهاد، ثم قال: "ولكني ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع من المجلد التاسع الصادر في محرم سنة 1356 هـ- مارس آذار 1937 م. في الرد على مقال عبد المتعال الصعيدي المنشور في صحيفة "السياسة الأسبوعية" العدد السادس، 20 فبراير شباط 1937 م - القاهرة.

ساُقدم على ما كنت أريد إخفاءه من ذلك إلى حين، وسأجتهد ما أمكنني في ألا أدع لأحد مجالاً في ذلك التشنيع الذي يقف عقبة في سبيل كل جديد". ثم تحدث الكاتب عن الحدود، مدعياً أن الأمر الذي سيثيره قد يصل فيه إلى إعادة النظر في النصوص التي وردت فيها لبحثها من جديد، وقال: "سأقتصر الآن على ذكر ما ورد في تلك الحدود من النصوص القرآنية، وذلك قوله تعالى في حد السرقة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 38، 39]، وقوله تعالى في حد الزنا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وقال: "فهل لنا أن نجتهد في الأمر الوارد في حد السرقة، وهو قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا}، والأمرِ الوارد في حد الزنا، وهو قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} فنجعل كلاًّ منهما للإباحة، لا للوجوب، ويكون الأمر فيهما مثل الأمر في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، فلا يكون القطعُ في السرقة حداً مفروضاً لا يجوز العدولُ عنه في جميع حالات السرقة، بل يكون القطع في السرقة هو أقصى عقوبة فيها، ويجوز العدول عنه في بعض الحالات إلى عقوبة أخرى رادعة، ويكون شأنه في ذلك شأنَ كل المباحات التي تخضع لتصرفات ولي الأمر، وتقبل التأثر بكل زمان ومكان، وهكذا الأمر في حد الزنا، سواء أكان رجماً، أم جلداً؟ ".

هذا ما يقوله الكاتب، وقد سمَّاه في صدر المقال: رأياً، وقال: إنه كان يريد إرجاءه إلى حين؛ لأن النفوس لم تتهيأ لفتح باب الاجتهاد، وأن الناس يسرعون إلى التشنيع والطعن في الدين. وقال: "فلا يجد من يرى شيئاً من ذلك إلا أن يكتمه، أو يظهره بين أخصائه ممن يأمن شرهم، ولا يخاف كيدهم "، وقال: "ولكني سأقدم على ما كنت أريد إخفاءه من ذلك إلى حين". فنحن إذا نقدْنا هذا الذي يقوله الكاتب، فإنما ننقد رأياً كان يخفيه إلى حين، وإن كساه - في آخر المقال - ثوبَ المسائل التي يطرحها خالي الذهن؛ ليعرف وجه الحق مما تحرره أقلام الكاتبين. من مقاصد الشريعة الغرّاء: حماية الأنفس، والأموال، والأعراض، والأنساب، فعمدت إلى ما يكون الاعتداء به على هذه الحقوق أكثر أو أشد ضرراً، فشرّعت له عقوبة معينة، وفوَّضت ما عدا ذلك إلى ولي الأمر ليجتهد فيه رأيه. فأشدُّ ما يُعتدى به على الأنفس القتلُ، فجعلت عقوبته القصاص، وأغلبُ ما يُعتدى به على الأموال السرقةُ، فجعلت عقوبته قطعَ اليد، وأغلبُ ما يتعدى به على عرض المرأة قذفُها بالزنا، فجعلت عقوبة القاذف أن يجلد ثمانين سوطاً، وأشد ما يُهتك به عرضها، ويجر العار إلى أسرتها، ويدخل الريبة في نسب أبنائها، ويجعلها منبت ذرية يعيشون بين الناس في مهانة وازدراء، فاحشةُ الزنا، فجعلت عقوبة الزاني البكر مئة سوط، والمحصن الرجم. وعقوبة الجلد ثابتة بنص القرآن، وأما الرجم، فثابت بالسنَّة. وليس مقامنا هذا مقامَ بسط ما يترتب على هذه الجنايات من الفتن، والإخلال بالأمن، ولا بسط ما في إقامة هذه الحدود من حفظ الأنفس والأموال والأعراض، وإنما وجهة نظرنا نصوص آيات حد السرقة، وحد الزنا؛ لننبه على

أن هذه الآيات غير قابلة لذلك التأويل الذي لا يملك أحد تغييره، ولا يصح لمن بيده إنفاذه أن يعدل عنه إلى عقوبة يضعها من نفسه. ومن ينظر في آيات حد السرقة، وحد الزنا مجرداً من كل هوى، لم يفهم منها سوى أن من يرتكب السرقة، عقوبتُه قطع اليد، ومن يرتكب فاحشة الزنا، عقوبتُه الجلد، وأن الأمر في قوله: {فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]، وقوله: {فَاجْلِدُوا} [النور: 2] واردٌ في الوجوب القاطع، فإن بناء الأمر بالقطع في آية حد السرقة على قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]، وبناء الأمر بالجلد في آية حد الزنا على قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] يصرفه عن احتمال الإباحة إلى الوجوب، ذلك أن تعليق الحكم على شخص موصوف بوصف يؤذن بأن المقتضي للحكم هو ذلك الوصف الذي قام بالشخص، وإذا كان الوصف جناية؛ مثل: السرقة، والزنا، ووضع لها حكماً في صيغة، ولم يذكر حكماً غيره، لا يصح أن يقال: إن هذا الأمر محتمل للإباحة؛ كما احتملها الأمر في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] الآية. ثم إن اتصال آية السرقة بقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] صريحٌ في الدلالة على أن الأمر بالقطع للوجوب؛ لأنه واقع في الآية موقع المنبِّه على إن من تحقق فيه وصف السرقة، فهو مستحق لهذه العقوبة (عقوبة القطع)، وإذا قضى الشارع في جناية بعقوبة، وصرح أنها جزاء الجناية؛ أي: إنها على قدر جنايته، لم يكن للأمر بهذه العقوية وجه غير الوجوب، وفي وصفه الحد بأنه "نكال من الله" إيذانٌ بأن من وقف في سبيل إنفاذه، فقد حارب الله، ومن رأى أن غيره من العقوبات أحفظ للمصلحة، فقد زعم أن علمه فوق علم الله.

وكذلك اتصال آية حد الزنا بقوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] يمنع من حمل الأمر فيها على الإباحة؛ فقد عرف الشارع أن في الناس من تثور في نفسه العاطفة العمياء، ولا ينظر إلى المصالح بعقل سليم، فيرى أن في جلد الزاني إفراطاً في العقوبة، فحذر من الانقياد إلى تلك العاطفة الجاهلة بقوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}، ثم نبه على أن مقتضى الإيمان: تنفيذ أحكام الله في غير هوادة، فقال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور: 2]. وإذا نظرت بعد هذا إلى قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، رأيته كيف أمر بأن يُقام هذا الحد بمرأى طائفة من المؤمنين؛ ليكون في إعلانه وإذاعته الزجرُ البالغ، وفي الأمر بإعلان العقوبة قصداً للمبالغة في الزجر ما يؤكد أن الأمر بالجلد وارد على سبيل الوجوب؛ لأن الشارع يكره إشاعة ما يصدر عن الأشخاص من آثام، فما أمر بإعلان الحد الذي يستدعي إشاعة ما وقع من الفاحشة إلا حيث أصبح الحد أمراً حتماً، وكان إعلانه من متممات ما يقصد بالحد من الزجر. وقد مشى كاتب المقال في غير طريق؛ إذ جعل الحدود من المباحات التي تخضع لتصرف ولي الأمر، فقد عرفت أنها ليست من المباحات، بل هي من الواجب المعين. والدليل على أنها من الواجب الذي لا يقوم غيره مقامه متى تحقق معنى الجناية: أن القرآن أفردها بالذكر، وقرن الأمر بأبلغ وجوه التوكيد، وطريقته المعروفة في التخيير أن يذكر الأنواع المخير بينها؛ كقوله تعالى في كفارة اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ

أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، وقوله في عقوبة البغاة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33]. ويدلكم على أن الحدود من قَبيل الواجب المعين: سنَّةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القولية، والعملية. أما القولية: فإنّا نراه حين يذكر الجناية يذكر بجانبها الحد الشرعي، كما قال في السرقة: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يد"، وقوله: "وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها". وأما السنَّة العملية: فإنه لم يعاقب من شرعت في حقهم الحدود إلا بهذه الحدود. وليصرف صاحب المقال نظره عما يزعمه غير المؤمنين؛ من أن هذه الحدود عقوبات لا تلائم حال المدنية، ويذكر لنا مثلاً من مصالح الزمان والمكان التي تقتضي أن تكون عقوبة مرتكب جريمة السرقة، أو فاحشة الزنا، غيرَ ما ورد في الشرع، ويقول لنا: ما هي العقوبة المبتدعة التي تفعل في حفظ الأموال والأعراض ما يفعله القطع أو الجلد؟ بقيت آيات الحدود منذ عهد النبوة محفوظة من عبث المؤوّلين، لا يختلف العلماء في أن الأوامر فيها للوجوب، وأن من أضاعها، وهو قادر على إقامتها، فهو فاسق أو جاحد، إلى أن ظهرت فئة خاسرة؛ مثل: زعيم طائفة القاديانية محمد علي؛ إذ حاول أن يفتح في حصن تلك الأوامر ثلمة، فقال - وتابعه في رأيه أبو زيد الدمنهوري - إن السارق: من اعتاد السرقة، والزاني:

من اعتاد الزنا، وهو تأويل خرج به عن قانون اللغة العربية، بعد أن خرج به عن سنَّة النبي القولية والعملية. وجاء بعده كاتب المقال، فهجم على آيات الحدود بمعول ذلك التأويل الذي تنكره اللغة والسنَّة وحكمة التشريع، ولو جرى الناس على مثله من تفسير الكتاب المجيد، لكَفَوْا خصومَ الإسلام جانباً من العمل لهدم أركانه، وطمسِ معالمه. {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

كتاب يهذي في تأويل القرآن المجيد

كتاب يهذي في تأويل القرآن المجيد (¬1) علم الله أن في البشر عقولاً لا تدرك وجوه الخير، وأن في وجوه الخير ما لا تصل إليه العقول بنفسها، وعلم أن فيمن يعقلون بعض هذه الوجوه أولي أهواء نزَّاعة إلى الشر، فأنزل كتاباً يدعو إلى توحيد الخالق، ويهدي إلى مكارم الأخلاق، ويسنُّ للقضاء والسياسة العامة أحكاماً عادلة، وينبه على بعض سننه في الخليقة لندرك بالغ حكمته، ويذكرنا بأيام أمم قد خلت من قبلنا لنتعظ بها، ونحذر سوء منقلبها، ويقصُّ علينا من أنباء رسله ما يصف لنا صبرهم على ما أوذوا، وتأييده لهم بما يقطع عذر المنكرين لرسالتهم، ويخبر عن بعض الحقائق الغائبة عن أبصارنا، لنزداد علماً بسعة خلقه، وكمالِ قدرته، ونفقه أن ما لدينا من وسائل العلم لا نكسب به من العلم إلا قليلاً. وقد شاء الله تعالى أن ينزل هذا الكتاب على سيدنا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، وقضت حكمته أن ينزله بلسان عربي مبين، بلسان أمة اختصت لذلك العهد بمزايا تهيئها لأن تتقبل دعوته، وتفقه مقاصده، وتشيد بجانبه دولة تقيم لمن ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" العدد الثاني من المجلد الثاني الصادر في صفر 1350 هـ - وهو نقد كتاب "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن" تأليف محمد أبو زيد الدمنهوري - طبعة مصطفى الحلبي عام 1349 هـ.

تقلدوه عزة، وتمد على رؤوس دعاته حماية يتقلبون في ظلالها، ويبلغون الأمة هداية الله تحت رايتها. أنزل الله كتابه الكريم، وعهد ببيانه إلى رسوله العظيم - صلى الله عليه وسلم -، فتلقى عنه أصحابه ذلك الكتاب، وبيانَ ما كان يخفى عليهم من آياته، فما انتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى حتى تركها شريعة غرَّاء، ليلُها كنهارها، وما انقرض عهد أصحابه - رضي الله عنهم - حتى ورثها عنهم التابعون، وأدَّوها إلى الذين جاؤوا من بعدهم بأمانة وتقوى، وما زال القرآن يدرس، والراسخون في العلم لا يختلفون في فهم آياته، إلا آياتٍ لا يمس الخلاف فيها أصلاً من أصول الدين، وليس فيما يعتد به من هذا الخلاف ما يخرج فيه الفهم عن أساليب اللغة العربية، ومقتضى وضعِ ألفاظها، حتى ظهر أشخاص قلَّ في علم اللغة نصيبُهم، أو خفَّ في علم الشريعة وزنُهم، فتناولوا القرآن بعقول لا تراعي في فهمه قوانين البلاغة، ولا تدخل إلى تفسيره من باب السنَّة الصحيحة، فأدخلوا في تفسير القرآن آراء سخيفة، ومزاعم منبوذة، ووَجدت هذه الآراء وهذه المزاعم عند بعض العامة وأشباه العامة متقبَّلاً. وشرٌّ من هؤلاء طائفة الباطنية، الذين هم رهط من المجوس، ائتمروا على أن يكيدوا الإسلام بتأويل القرآن على وجوه غير صحيحة؛ ليصرفوا الناس عن محجته البيضاء، ويأخذوهم إلى ما شاؤوا من نِحَل خاسرة وأهواء، ولولا رجال يدرسون الدين ببصائر تنفذ إلى لبابه، ويرزقون إيماناً يسوقهم إلى دفاع الخبائث عن حياضه، لكان لأولئك المضلين جولةٌ أوسعُ مما جالوا، واستدراج للنفوس أكثر مما استدرجوا. وعلى الرغم مما في كتب العلماء المصلحين من حق واضح، وحجة

دامغة، لم ينقطع شر هذا الرهط الذين يمكرون بكتاب الله، ويحرفون كلمه عن مواضعه؛ ليقضوا مآرب، ويشفوا صدور قوم لا يؤمنون. وها هي تلك الفرقة البهائية قامت منذ عهد غير بعيد تتبع خطا الباطنية: تجهد نفسَها إجهادهم، وتهذي في تأويل كتاب الله هذيانهم. وقد تسنَّى لها أن تستهوي بعض النفوس الغافلة أيام كان دعاتها يراؤون الناس، ويضعون على ألسنتهم مسحة من الدين الحنيف، أما اليوم، فقد غرَّهم الغرور، فأعلنوا نحلتهم، وجعلوا الناس على بينة من باطن أمرهم، فما لهم بعد هذه العلانية إلا أن يُنقض بناؤهم، ويحذر المسلمون أينما كانوا حبائل دعاتهم. ويضاهي البهائيةَ وأسلافَهم الباطنيةَ في العمل لتقويض أصول الإسلام على طريقة التأويل نفر يضعون على رؤوسهم بياضاً، ويحملون في صدورهم سواداً، لم يرسموا لأنفسهم نحلة دينية، وإنما هي الغواية لعبت بعقولهم، وإكبارُ خصوم الدين ران على قلوبهم، فانطلقوا إلى القرآن الكريم يؤولونه على ما يوافق شهواتهم، ويقضي حاجات في نفوس ساداتهم، يفعلون هذا ولا يرقبون في اللغة العربية ذمة، ولا يرعون لسنَّة أفضل الخليقة حُرمة، وتراهم ينبذون ما يقرره أئمة العربية، أو أئمة الدين نبذاً لا يتكئ على دليل، ويطلقون ألسنتهم في هؤلاء الأئمة الذين خدموا الدين والعلم والأدب، وإنما يعرف فضلَهم العالم الناقدُ النبيل. ومن هؤلاء النفر شخص سولت له نفسه أن يخوض في آيات الله كالذين خاضوا فيها على عماية، فكتب جملاً قصيرة قذف فيها شيئاً من وساوسه، وسماها: تفسيراً، بل تناهى في الافتتان بها، فسماها: "الهداية والعرفان". والذي يقرأ هذه الجمل لا يرتاب في أن صاحبها جامد على المحسوسات،

جاحد لكثير مما أخبر به القرآن، منكرٌ لأحكام قررها القرآن والسنَّة، وأجمع عليها الصحابة وأئمة الإسلام من بعدهم جيلاً بعد جيل، ولكنه يريد أن يدل على إنكاره بما يرتكبه في الآيات من سوء التأويل. ونضع بين أيدي القراء أمثلة من هذا الكتاب؛ ليعلموا أن رئاسة الأزهر الشريف قد قضت بسعيها في حجزه وإتلافه واجباً، هو حماية العامة من أن يقرؤوا إلحاداً في آيات الله غير مقرون بما يكشف القناع عن وجهه الفظيع، وضلاله البعيد. * تأويله لآيات المعجزات: ينكر ذلك المؤول المعجزات صراحة، فقد قال في صفحة (306): "وإن آيتهم - أي: الرسل - على صدق دعوتهم لا تخرج عن حسن سيرتهم، وصلاح رسالتهم، وأنهم لا يأتون بغير المعقول، ولا بما يبدل سنته ونظامه في الكون"، وقال في ص (161): "وبعد هذا تعلم أن الله ينادي الناس بأنهم لا ينبغي أن ينتظروا من الرسول آية على صدقه في دعوته، غير ما في سيرته ورسالته". وقد جرى هذا المؤول وراء طائفة البهائية؛ فإنهم ينكرون للرسل - عليهم الصلاة والسلام - معجزات، صرَّح بإنكارها داعيتُهم المسمى: أبا الفضل، فقد ذكر المعجزات في كتابه المسمى بـ: "الدرر"، وقال: وكثير من أهل الفضل وفرسان مضمار العلم اعتقدوا أن جميع ما ورد في الكتب والأخبار من هذا القبيل كلها استعارات عن الأمور المعقولة والحقائق الممكنة مما يجوزه العقل المستقيم. ثم أخذ يؤول بعض ما ورد في تلك المعجزات من قرآن وحديث

على نحو الوجهة التي ضلَّ فيها هذا المؤول من بعده. لم ينقل عن أحد ممن يؤمن بالرسل - صلوات الله عليهم - إنكارُ المعجزات التي هي خوارق عادات يغير الله بها بعض سننه الظاهرة؛ لتكون حجة على صدق من يبعثه داعياً إلى سبيله، وإنما ينكرها طائفة ممن أنكروا بعثة الرسل إذ قالوا: إن الرسالة تتوقف على المعجزة، والمعجزة خرق للعادة، وخرق العادة محال. ودعوى استحالة خرق العادة قد أثخنتها الأدلة طعناً، فلا يقيم لها النظر الصحيح وزناً، وكم من عقول ضلت سبيل الرشد، وآفتها عدم التفرقة بين ما لا يكون عادة، وما يقتضي العقل بأن لا يكون، فيغلطون في تصور ما يستبعد العقل وقوعه استناداً للعادة، ويخالونه من قبيل ما لا يمكن وقوعه، واستبعاد العقل لشيء لم تجر العادة بوقوعه لا يقف أمام نصوص شريعة قامت الآيات البينات على أنها تنزيل من رب العالمين، وليس ما يقصه القرآن من معجزات الرسل - عليهم الصلاة والسلام - إلا تغييراً لبعض السنن الكونية الظاهرة، وتغيير هذه السنن لا يقتضي بمنعه عقل يقدر الخالق قدرها، ويسلم أن هذه السنن من صنعها. وقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59] نص في أن الله تعالى أرسل مع الرسل المتقدمين آياتٍ غيرَ سيرتهم وصلاح رسالتهم، وقد مرَّ المؤول على هذه الآية، ولم يمسها بتحريف. وإذا كانت معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - التي هي خوارق عادات قد شهدها الصحابة، وعرفها السلف، لا تأخذهم في صدق أحاديثها ريبة، ونقلت إلى مَن بعدهم على طرق تكتنفها الصحة من كل جانب، وكانت بمجموعها بالغةً

حدَّ التواتر الموجب للعلم، استبان لنا أن المراد من الآيات التي منع من إرسالها: تكذيبُ الأولين آياتٍ خاصة هي ما اقترحته قريش؛ من نحو: إحياء الموتى، على ما ذكره المحدّثون والمفسِّرون في سبب نزول الآية، والمعنى: ما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من الآيات إلا أن أمثالهم من المطبوع على قلوبهم؛ كعاد، وثمود قد كذبوا بها، فتوغُّل المقترحين في الضلال إلى حد مَن لا يُرجى منه الانتفاع بالآيات يجعل إرسالَ الآيات التي اقترحوها بعد إراءتهم آيات تثبت الرسالة، وتقوم عليهم حجة، خالياً من الفائدة، وعدم إرسال هذه الآيات المقترحة لا يقتضي أن لا يظهر على يده - صلى الله عليه وسلم - آية من غيرها لم تقترح عليه، أو اقترحها عليه غيرُ من نزلت فيهم آية: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} [الإسراء: 59]، فهذه الآية - بملاحظة أنها نزلت في آيات خاصة اقترحها عليه قوم بأعيانهم - لا تدل أن الله لا يرسل أي آية من غيرها. ينكر ذلك المؤول المعجزات، فأخذ يتقصى الآياتِ الواردةَ في شأنها، وينحو بها نحواً يخرجها عن أن يكون فيما تدل عليه خارق للعادة، ولا يندى جبينهُ حياءً أن يتعسف في التأويل، فيأتي به بعيداً من مواقع حسن البيان، خارجاً عن المعقول من دلالة الألفاظ. فانظر ماذا صنع في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117]، فقد ذهب بالعصا إلى معنى الحجَّة، وقال: "يصور لنا كيف كشفت حجته تزييف حجتهم حتى سلموا له وآمنوا به". وقال في قوله تعالى: {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ}، وقوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ

فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [القصص: 32]: "تفهم من تمثيل هذه الرواية أن الله أعد موسى، وهيَّأة للدعوة، وأراه كَيف يتغلب على خصمهِ بالبرهان والحجة". وقال عند قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 107، 108]: "انظر كيف يكون التمثيل في قوة الحجة والبرهان". وقد اتبع المؤول في هذه مهذار البهائية المسمى: أبا الفضل؛ فقد ذكر في (ص 51) من كتابه المسمى: "الدرر البهية": أن أهل الفضل - فيما يزعم - فسروا العصا بأمر الله وحكمه، وقال: إن موسى - عليه السلام - بهذه العصا غلب على فرعون وجنوده، ومحا حبائل عتوه وجحوده، وذكر في (صفحة 53) من ذلك الكتاب: أن اليد البيضاء عبَّر بها عن الرسالة. في القرآن مجاز واستعارة وكناية، ولكنه يسلك هذه الطرق على الوجه الذي يأتيه البلغاء من العرب، وشأن البلغاء أن لا يخرجوا عن الحقيقة إلى أحد هذه الطرق إلا أن يكون سهل المأخذ، واضحَ المقصد، أما ما يبدو على وجهه تكلف، أو يكون في دلالته التواء، فمعدود في معيب الكلام، وداخل فيما يذهب بمزية الفصاحة، وتأويلُ الآيات - على ما قاله المؤول وسلفه البهائي - يجعلها من قبيل المجاز الذي ينبو عنه الذوق؛ لتعسفه، ويبعد منه الفهم؛ لخلوه من القرينة المشيرة إلى أنه مستعمل في غير ما وُضع له، فالمؤول ومعلمُه البهائي لم يقدروا الله حقَّ قدره؛ إذ صرفوا كلامه عما يدل على سعة قدرته، وخرجوا به عن حدود البلاغة، وهو مثلها الأعلى، والمختص بذروتها القصوى.

وانظر ماذا صنع في قوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [آل عمران: 49]؛ فقد حرف قوله: {أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ} عن حقيقته، وقال: يفيدكَ التمثيل لإخراج الناس من ثقل الجهل وظلماته إلى خفة العلم ونوره، وتردَّدَ هنا في معنى إبراء الأبرص، فقال: فهل عيسى يبرئ هذا بمعنى: أنه يكمل التكوين الجسماني بالأعمال الطيبة، أم بمعنى أنه يكمل التكوين الروحي بالهداية الدينية؟ ". ويدلك على أنه يذهب في تأويل الآية إلى غير مذهب المسلمين قوله عند قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [القصص: 32]: واعلم أن قصة موسى في العصا واليد كقصة عيسى في إحياء الموتى، وشفاء المريض، كلاهما يتشابه في معناه على الناس. وقد مشى في هذا خلفَ ذلك البابي المسمَّى: أبا الفضل؛ إذ تصدى في كتابه المسمى: "الدرر البهية" لبيان معنى هذه المعجزة، فقال في (صفحة 53) يتحدث عن حال بني إسرائيل: "حتى انتهت دورتهم، وانقضت مدتهم، وماتت قلوبهم، وبرصت بالذل جباههم وجنوبهم، فرجعوا من أسر الفراعنة إلى أسر القياصرة، وعن عبادة المصريين إلى عبادة الرومانيين، حينئذ طلعت شمس الحقيقة عن أفق بلاد الجليل، وارتفعت نغمات الإنجيل، فأحيا الله تعالى بأنفاس عيسى - عليه السلام - بعضاً من تلك النفوس الميتة، وبرأ بيده المباركة جملة من الجباه المبروصة". زخرف من القول، وتحت هذا الزخرف جحودٌ لمعجزات الرسل - عليهم السلام -، وصرفٌ لآيات الله عن معانيها المفرغة في لفظها العربي المبين، والتي عرفها المسلمون منذ نزل بها الروح الأمين متضافرين عليها

جيلاً بعد جيل. يقول الله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49]، والمعنى الذي يعقل من الآية: أني أصور لكم من الطين شيئاً على هيئة الطير، فأنفخ فيه، فيكون طيراً حياً بأمر الله، وأبرئ الأعمى، والذي به وَضَحٌ، وأعيد الحياة إلى جسم من فقد الحياة، أفعلُ كلَّ ذلك بأمر الله. وأما نحو إخراج الناس من ثقل الجهل إلى خفة العلم، وإبراء الجباه المصابة ببرص الذل، فلا يصح حمل الآية عليها؛ إذ القرآن بريء من أمثال هذه الاستعارات البالغة في التكلف والتعقيد غاية تذهب عندها الفصاحة وحسن البيان. وإذا قرأت في بعض كتب التفسير ما يسمونه: الإشارات، ووجدت في الحديث عن هذه الآيات ما يقارب أو يماثل كلام المؤولِ، أو البهائيِّ، فاعلم أن أصحاب الإشارات غيرُ من يسمونهم الباطنية، فالباطنية يصرفون الآية عن معناها المنقول أو المعقول إلى ما يوافق بغيتهم؛ بدعوى: أن هذا هو مراد الله دون ما سواه، وأما أصحاب الإشارات، فإنهم - كما قال أبو بكر بن العربي في كتاب "القواصم والعواصم" -: "جاءوا بألفاظ الشريعة من بابها، وأقروها على نصابها، لكنهم زعموا أن وراءها معانيَ غامضة خفية وقعت الإشارةُ إليها من ظواهر هذه الألفاظ، فعبروا إليها بالفِكر، واعتبروا منها في سبيل الذكر". فأصحاب الإشارات لا ينفون - كما ينفي الباطنية وأذنابهم - المعنى

الذي يدل عليه اللفظ العربي من نحو: الأحكام، والقصص، والمعجزات، وإنما يقولون: إنهم يستفيدون من وراء تلك المعاني، وعلى طريق الاعتبار معانيَ فيها موعظة وذكرى. وعلى ما بين مذهبهم ومذهب الباطنية من فرق واضح، نرى في أهل العلم من نازعهم في إلصاق تلك المعاني بألفاظ القرآن، وقال: إن ما جاء في صريح القرآن والسنَّة من مواعظ وحكم يغني عن ارتكاب هذه الطرق البعيدة، التي هي - في الأصل - نزعةُ قوم شأنهُم الصدُّ عن هدى الله، وتعطيلُ أحكام شريعته الغراء. وأنكر ذلك المؤولُ أن يكون عيسى - عليه السلام - قد تكلم في المهد، فسام قولَه تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران: 46] سوءَ التأويل، فقال: "في دور المهد، وهو دور الصبا، علامةٌ على الجرأة، وقوةِ الاستعداد في الصغر"، يريد: أنه يكلمهم في سن اعتيد فيها الكلام. جاء في "الجامع الصحيح" للإمام البخاري ما يدل على أن عيسى - عليه السلام - تكلم قبل أوان الكلام، تجد هذا في حديث: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة"، وذكر في أولهم عيسى - عليه السلام -. وروى ابن جرير الطبري بسنده إلى ابن عباس - رضي الله عنه -: أنه قال في تفسير المهد: "مضجع الصبي في رضاعه". والمهد في الأصل: مصدر مَهَدَ؛ أي: بسط ووطَّأ، وهو كما في "لسان العرب": اسم لموضع الصبي الذي يُهيأ له ويوطأ لينام فيه، فكان على المؤول إذ فسره بدور التمهيد للحياة أن يقيم على هذا شاهداً من كلام العرب، ويبدي الوجه الذي دعاه إلى الإعراض عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلا،

كان هذا التأويل علامة على جرأته، واستعداده لأن يخوض في آيات الله بغير علم، وعلى غير أصل. أنكر أن يكون عيسى - عليه السلام - قد تكلم في المهد، وتأول آية: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران: 46] على ما سمعت، وبمثل هذا التأويل تناول قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29]، فقال: "أي: كان ذاك النهار ولداً صغيراً، فكيف يأمرنا وينهانا ونحن كبار القوم، فهذا ابن حرام". ولما رأى أن ما قبل الآية، وهو قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم: 27] يدفعه عن هذا العبث، صرفه عن وجهه، فقال: "تحمله على ما يحمل عليه المسافر، ومنه تفهم أنه كان في سياحة طويلة". لم يكف المؤولَ أن يخرج فيما يكتب عن قوانين اللغة، فطاش إلى أن يقول في التاريخ ما لا يعرفه التاريخ، فمن أين اطلع على أن مريم - عليها السلام - كانت في سياحة طويلة؟! كان على المؤول أن يثبت هذه السياحة الطويلة من التاريخ، أو من القرآن، ثم يقول: "ومنها تعلم أنها كانت تحمله على ما يحمل عليه المسافر"، ولكنه قلبَ الكلام، فأتى إلى قوله تعالى: {تَحْمِلُهُ} الذي هو ظاهر في أنها تحمله بنفسها، وحرَّفه إلى معنى: تحمله على مركوب، وأذن لك في أن تأخذ منه أنها كانت في سياحة طويلة!. ومقتضى إنكاره لمعجزات الرسل: أن لا يسلم أن عيسى - عليه السلام - خُلق من غير أب. وقد كتب عندما وصل إلى آيات هذه المعجزات بلسان يدل على إنكارها في غير صراحة، فقال في تأويل قوله تعالى: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي

غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20]: "استنكرت لما طرأ على فكرها أن الولد يأتيها من غير السبب الَمعروف". وقال: "في قوله تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 23] اختصار في التعبير لا يعوق دور الحمل الطبيعي". وقال عند قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]: "فيه ملحوظة ظريفة هي: أن موسى لم يذكر له أب، ولكن قومه لم ينكروا أباه، أو يقولوا فيه كما قالت النصارى في المسيح: ابن الله؛ بناء على أن المسيح نسب إلى أمه، ولم يذكر له أب". فإذا نظرت إلى قوله: "لما طرأ على فكرها أن الولد يأتيها من غير السبب المعروف"، ثم إلى قوله في حديثه عن موسى - عليه السلام - "بناء على أن المسيح نسب إلى أمه، ولم يذكر له أب" إذا لاحظت هذا، وهو صادر ممن ينكر المعجزات، عرفت أنه لا يعترف - كما لا يعترف اليهود - بأن عيسى- عليه السلام - خلق من غير أب. وحرَّف قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]، فقال: "اضرب بعصاك البحر: اطرقه، واذهب إليه"، وقال: "هذا بيان لحالة البحر يصوره لك بأنه مناطق بينها طرق ناشفة يابسة". قال هذا، ولم يتحدث عن الفاء في قوله تعالى: {فَانْفَلَقَ}، وظاهر تأويله أن يكون المعنى: فذهب إلى البحر، فانفلق، فيكون الانفلاق قد وقع عقب الذهاب إلى البحر، والمؤولُ يقول: "يصور لك البحر بأنه مناطق بينها طرق ناشفة يابسة".

ثم إن قوله تعالى: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] ظاهرٌ في تصوير حال البحر عند انفلاقه؛ ليريك كيف ينجي رسله على طرق يفتحها من أجلهم، فتقف الأهوال حولهم، لا يمسكها أن تطغى عليهم إلا قدرتُه التي يدخل تحت سلطانها كل ما يدخل في حيز الإمكان. ومما هو ظاهر في هذا المعنى: قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 77 - 79]، فالمعقول من هذه الآية: أن الطريق الذي سلكه موسى - عليه السلام - إنما تنحى عنه الماء حالَ مروره به، وأن فرعون اقتفى أثره عندما رأى الطريق الذي يسير فيه موسى وقومه يبساً، ولما انحدر فرعون وقومه في هذا الطريق، عاد الماء إلى حاله، وغشيهم من اليم ما غشيهم، فكانوا من المغرقين. وأما قول المؤول: إن فرعون أضل الطريق اليبس الذي اهتدى إليه موسى، فمن الأشياء التي يفرضها، ويحمل عليها الآيات إنكاراً للمعجزة. وحرَّف قوله تعالى: {قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38]، فقال: "بعرشها: بملكها، يريد أن يضع خطط الحرب، ونظام الدخول في البلد، فطلب الخريطة التي فيها مملكه سبأ؛ ليهاجمها، ويريها أنه جادٌّ غيرُ هازل". يقول الله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا}، ويقول هذا المؤول: "يأتيني بخريطة مملكتها"، وإذا كان طلب خريطة مملكتها لوضع خطط الحرب، فما وجه عرض هذه الخريطة عليها بعد أن جاءت مسلمة؟ وما حكمة سؤالها عن مطابقة هذه الخريطة؟!

عبثٌ يهذي به حول كتاب الله، فلا تقوى تحجمه عنه، ولا حكمة يفرق بها الجد والمزح، فترفعه عن أن يقول ما يضحك الناس منه. وحرَّف قوله تعالى: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، فتأولها على وجه ينكر به أن يكون إبراهيم - عليه السلام - أُلقي في النار، وخرج منها سالماً، فقال: معناه: نجَّاه من الوقوع فيها. وذكر أن نجاته كانت بالهجرة؛ أي: من وطن قومه إلى ناحية فلسطين. وظاهر الآية أنه أُلقي في النار، وقد سلب الله منها حرارتها، فإن حمل على معنى إيجاد حائل بين النار وجسم إبراهيم، فهو تأويل غير بعيد، أما صرفُ الآية إلى معنى عدم الوقوع في النار، فتأويل لا داعي إليه، ولا مسوغ له إلا ضيقُ الذهن عن تصور بشر يُلقى في النار، ولا تحرقه النار، وإذا لم يقل القرآن: "فألقوه، فقلنا: يا نار كوني برداً"، فلسبك الآية في إيجاز يلائم حد الإعجاز، فالجملة التي تدل على إلقائهم له في النار بالوضع والمطابقة حذفت من النظم استغناءً عنها بذكر ما يستلزمها، ولا يستقر معناه في ذهن السامع إلا بتقديرها، وهو قوله تعالى: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}. وحرَّف قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]، فقال: "الإسراء: يستعمل في هجرة الأنبياء، والمسجد الحرام: الذي له حرمة، والأقصى: الأبعد: مسجد المدينة". وقصد المؤول إنكار واقعة الإسراء، فحمل الآية على هجرته - عليه الصلاة السلام - من مكة إلى المدينة.

أجمع أهل العلم: أن أوائل هذه السورة نزل بمكة؛ أي: قبل الهجرة، ولو كان هذا المؤول ممن يفقه فائدة معرفة ما نزل بمكة، وما نزل بالمدينة في تفسير كتاب الله تعالى، لما تجاسر على تفسير الآية بواقعة الهجرة، وقد روى واقعة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس جمعٌ عظيم من الصحابة - رضي الله عنهم -، منهم: جابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، ومالك ابن صعصعة، وجاءت هذه الروايات في الكتب الصحيحة؛ مثل: "الجامع الصحيح" للإمام البخاري، "والجامع الصحيح" للإمام مسلم، فلو كان هذا المؤول ممن درس كتب السنَّة، وكان ممن يستضيء في تفسير كتاب الله تعالى بسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما رمى بنفسه في حفرة لا يسمع صيحته فيها إلا فارغُ الذهن من مبادئ الدين، أو مزلزَلُ العقيدة ما لقي ضِلِّيلاً، إلا مال به عن السبيل. * دعوته إلى الفسوق عن أحكام الشريعة: يريد المؤول أن يفتح لذوي الأهواء باب الخروج عن الدين، وتعطيل أحكام الشريعة، فزعم أن المصلحة قد تكون في غير ما أمر الله به، فحرَّف قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقال: "يفيدك أن المخالفة المحذورة هي التي تكون للإعراض عن أمره، وأما التي تكون للرأي والمصلحة، فلا مانع فيها بل هي من حكمة الشورى". المؤول يجيز تقرير رأي مخالف لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أمر الله تعالى، ويرى في هذا الرأي المخالف مصلحة تجعله أهلاً لأن يعمل عليه بدلاً من أمر الله، يقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ

الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، ومصداق هذه الآية: من يحكم بغير ما أنزل الله، معتقداً أن المصلحة فيما حكم به، ويتناول من يفتي برأي، معتقداً أنه أحفظ للمصلحة مما أنزل الله، فمن يأذن للناس في تقرير رأي مخالف لأمر الله، فإنما يقودهم إلى حفرة من النار هي إنكار أن يكون الله تعالى أحكم الحاكمين. فإن زعم المؤول أنه قصد ما كان يراجعه فيه بعض أصحابه - رضي الله عنهم - من نحو بعض الآراء الحربية، قلنا له: إنك أطلقت في تأويلك، ولم تقصره على هذا النوع من أوامره - عليه الصلاة والسلام - ثم إن مخالفة الأمر عدمُ العمل به، وإبداءُ بعض الصحابة لآرائهم في شيء من تدابير الحروب لا يسمى: مخالفةً للأمر، بل كانوا يعرضون عليه الرأي، فتارة لا يراه صالحاً، فيرده، ولو عملوا على مقتضى رأيهم، لحق عليهم وعيدُ الآية، وتارة يرى فيه المصلحة، فيأمر بالعمل به، والعملُ على هذا النحو من قَبيل اتباع أمره، فأين المخالفة؟!. * إنكاره للجن: يجيء هذا المؤول إلى الآيات التي ذُكر فيها الجن، ويحمل الجن على غير المعنى الذي عرفه الصحابة ومَن بعدهم من أئمة الدين وعامة المسلمين، وأكتفي بأن أسوق ما قاله في آية هي من أظهر ما يدل على أن الجن خلق غير الإنس، وهي قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1]؛ فإنه بعد أن أحال القارئ على آيات من سور متعددة، قال: "بعد هذا تفهم أنه يطلق الجن والجنة على الزعماء المستكبرين من السادة المتبوعين، ويعبر عن الإنس بسائر الناس المقلدين والتابعين المستضعفين"، ويفسر الجن في بعض الآيات بقواد الجيش.

لم ينقل عن أحد من المسلمين - على اختلاف فرقهم - إنكارُ الجن، وإنما ينكرهم طائفة من غير المسلمين. قال ابن حزم من كتاب "الفصل": "لما أخبرت الرسل الذين شهد الله -عَزَّ وَجَلَّ- بصدقهم بما أبدى على أيديهم من المعجزات المحيلة للطبائع، بنصِّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- على وجود الجن في العالم، وجب ضرورة العلمُ بخلقهم ووجودهم". وقال: "وأجمع المسلمون على ذلك (وجود الجن)، نعم، والنصارى والمجوس والصابئون، وأكثر اليهود، حاشا السامرة فقط، فمن أنكر الجن، أو تأول فيهم تأويلاً يخرجهم عن هذا الظاهر كافرٌ ومشرك". وإنما ينكر الجن من جمد عقلُه في دائرة من المحسوسات لا يتخطاها أنملة، ونحن نعلم أن العقل وحده لا يصل إلى العلم بوجودهم، كما أنه لا يستطيع إقامةَ الدليل على نفيهم، بل إذا سئل عنهم، وهو صحيح النظر، مجردٌ من كل تقليد، أقر بإمكان وجودهم؛ إذ ليس من شرط كل موجود أن يدرك بإحدى الحواس الخمس، فقدرة الله تعالى تسع خلقاً ينشأ من عنصر لطيف، فلا يقع عليه النظر، وإذا أقرَّت العقول إمكانَ شيء، وأخبر الدين القائم على البرهان بوجوده، تلقينا خبره بالقبول، ولم نفرق بينه وبين ما أدركناه بالمشاهدة، أو ثبت بالأدلة العقلية مباشرة. * إنكاره للشياطين: ينكر المؤولُ الجنَّ، وينكر أن يكون هناك مخلوق غير الإنسان يقال له: شيطان. تجد هذا الإنكار عندما يرد لفظ إبليس أو الشيطان في آية، فيأبى أن يبقيه على المعنى المعروف في الكتاب والسنَّة وإجماع المسلمين، فانظر إلى أصرح آية في هذا المعنى، وهي قوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ

أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34] كيف تأول لفظَ إبليس فيها، فقال: "إبليس اسمٌ لكل مستكبر على الحق، ويتبعه لفظ الشيطان، والجان، وهو النوع المستعصي على الإنسان تسخيره". وكذلك تأول قوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص: 36، 37]، فقال: "والشياطين يطلقون على الصناع الماهرين، والأشقياء المجرمين"، ولما وجد قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] نصاً في أن الشيطان مخلوق يصل أثر فتنته إلى نفس الإنسان دون أن يأخذه بإحدى حواسه، ذهب في تأويل الآية مذهب من يتظاهر بتفسير القرآن، وهو يدس في تفسيره جحوداً، فقال: "من حيث لا ترونهم فيها شياطين، فيخدعونكم بأنهم من الأولياء الناصحين". وإذا حمل بعض المفسرين لفظ الشياطين في بعض الآيات على أشرار من الإنس؛ كما قالت طائفة في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] المراد: شياطين الإنس، فما كان هؤلاء لينكروا ذلك الصنف من الجن المخلوق من نار السموم، وإنما هو تأويل بدا لهم أن اللفظ يحتمله قريباً أو بعيداً، ولا يستطيعون أن يذهبوا إلى مثل هذا التأويل دي قولى تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] , فمن حمل مثل هذه الآية على فريق من الإنس، فهو ممن لا يؤمن إلا بما يلمس، أو يرى، ولم يجعل اللهُ للعقول المتحجرة على تفسير كتابه سبيلاً. * تأويله للملائكة: يتخبط المؤول عندما تجيئه آية فيها اسم الملائكة، فمرةً يفسره برسل

النظام والسنن في الكون؛ كما قال عند قوله تعالى: {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 248]: "إشارة إلى أنه يأتيهم بسنن الله ونظامه؛ أي: بتغلبهم على العدو، وبقوة الحرب ونظامه، والملائكة كما قلنا في (ص 24) رسل النظام والسنن في الكون". وقال عند قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34]: "الملائكة: رسل النظام وعالم السنن، وسجودُهم للإنسان معناه: أن الكون مسخر له". ومرة يجعل الآية التي ذكر فيها الملائكة من قبيل التمثيل؛ كما قال في قوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1]: "يمثل لك السرعة في إجراء سننه في الكون وتنفيذ أوامره في العالم". وفسر جبريل وميكائيل في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] بأنهما قسمان من الملائكة، وقال: "الأول رسول الوحي والإلهام، والثاني رسول السنن والنظام". وقال عِندَ تأويل الملائكة من قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 177]: "وهذا تابع للإيمان بالله، فمن يؤمنُ بالله يؤمنُ بخلقه ونظامه. والملائكة رسل هذا الخلق والنظام". فتحريفه الآية بادعاء التمثيل مرة، وذكره لسنن الكون ونظمه مرة أخرى، وجعله جبريل وميكائيل قسمين من الملائكة، دون الاعتراف بأنهما فردان منهم، يدل على أنه يريد من الملائكة معنى غيرَ المعنى المعروف في صريح الكتاب والسنَّة، ونصوص الشريعة في دلالتها على وجود الجن والملائكة

متساوية، وهما من جهة إمكان وجودهما في منزلة واحدة. * إنكاره لأحكام معلومة من الدين بالضرورة: أطلق المؤول قلمه في الإنكار حتى ألحدَ في آيات الحدود والأحكامِ المعلومة من الدين بالضرورة، فانظر إلى ما صنع في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] إذ قال: "يعطي معنى: التعوُّد؛ أي: إن السرقة صفة من صفاتهم الملازمة لهم، ويظهر لك من هذا المعنى أن من يسرق مرة أو مرتين، ولا يستمر في السرقة، ولم يتعود اللصوصية، لا يعاقَبُ بقطع يده". وكذلك حرّف قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، فقال: "يطلق هذا الوصف على المرأة والرجل إذا كانا معروفين بالزنا، وكان من عادتهما وخلقهما، فهما بذلك يستحقان الجلد"، وهذا الذي قاله في اسم الفاعل من أنه يدل على التكرار والتعود من بهتانه الذي لا يقف عند حد! فاسم الفاعل؛ نحو: السارق، أو الزاني إنما يدل على ذات قامت بها السرقةُ أو الزنا، ولا دلالة له على تجدد قيام الوصف بالذات، ولا على تعودها عليه، هذا ما يقوله علماء العربية في القديم والحديث. قال ابن مالك في كتاب "التسهيل" معرّفاً اسم الفاعل: "اسم الفاعل: هو الصفة الدالة على فاعل، جارية في التذكير والتأنيث على المضارع من أفعالها، لمعناه، أو معنى الماضي". فقوله: لمعناه، أو معنى الماضي، تنبيهٌ على أنه لا يدل على أزيدَ مما يدل عليه الفعل، وهذا وجه الفرق بينه وبين صيغ المبالغة؛ كفعَّال، ومفعال، وفَعول؛ فإن هذه الصيغ تدل على معنى زائد على حدوث الصفة لمن قامت

به، وهو قوتها فيه، أو كثرةُ صدورها منه. والكوفيون يمنعون عمل صيغ المبالغة في نحو المفعول، ويعللون هذا المنع بعدم مجاراتها للفعل المضارع في وزنه، وبمخالفتها له في معناه؛ لأنها تزيد عليه بالمبالغة، ومقتضى هذا: أن اسم الفاعل عمل في نحو المفعول؛ لأنه لا يخالف المضارع في معناه، فعلماء العربية من كوفيين وبصريين مجمِعون على أن اسم الفاعل لا يدل على أكثر مما يدل عليه الفعل، وإذا كان علماء العربية الذين قضوا أعمارهم الطويلة في تقصِّي اللغة، والتفقه في كلام العرب قد تظاهروا على أن اسم الفاعل لا يدل على مقدار من الوصف أكثرَ مما يدل عليه أصل المضارع والماضي، أفيستطيع المؤول أن ينقض بناءهم بكلمة لا تمتُّ إلى البحث بسبب، وإنما هي وليدة الهوى، والانهماك في مخالفة أهل العلم؟!. وعمد إلى الآيات الصريحة في ملك اليمين، وحَرَّفها بالتأويل تحريفاً لا يختلف عن صريح الإنكار، إلا أن عليه مسحةً من النفاق، فانظر كيف حرَّف قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، وحمل الفتيات على: الخادمات، فقال: "فيه عناية بالخادمات، وتسهيلٌ لمن يريدون الزواج ولا يستطيعون النفقات على ذوات البيوتات". وقال عند قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]: "خادميكم، وخادماتكم". وقد ارتكب في الآيات الواردة في هذا الشأن من التأويل ما لا يخطر على بالِ أصلبِ الباطنية جبهةٌ، فانظر إليه ماذا يقول في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ

يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، يقول: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ}: كتاب الله، وما كتب الله، وما كتب من الزواج والنسل. {فَكَاتِبُوهُمْ}: عاونوهم على أداء الكتاب". ولو قلت له: إن الذين فسروا الآية بأن يكاتب الرجلُ رقيقَه على مال، حتى إذا أدى ما كتب عليه، صار حراً، قد أقاموا الشاهد على هذا من كتب السنَّة واللغة، فهل لك شاهد على ما تأولت عليه الآية، وما قلت في تأويلها من أن المكاتبة: المعاونة على أداء الكتاب، لما كان جوابه إلا أن هذا المعنى قد نفث في صدره، وهو لا يرجع في تفسير كتاب الله إلى السنَّة، ولا إلى قانون اللغة. ولا مرد لهذا الجواب إلا أن تتلو عليه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وتقرأ عليه قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193 - 195]. ومن مقتضى إنكاره لأصل ملك اليمين: إنكارُه لأن يتمتع الرجل بما ملكت يمينه من الإماء، وكذلك تجده يحرف الآيات الواردة في هذا الشأن؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5، 6]، فقال المؤول: "أو ما ملكت أيمانهم من الخدم؛ فإن لهم ما ليس لغيرهم، فقد يكونُ في الإنسان فروج؛ أي: نقائص وعيوب يسيئه أن يراها النّاس فيه، ولكن لا يسيئه أن يراها خدمه". إذا كان في بعض تأويله ما ينادي بانحرافه عن الهدى إلى مكان بعيد، ففي بعضه ما ينادي بأن الرجل ليس له فكر يتحامى به فضيحةَ العَبَث، ويحبسه عن أن يقول ما يضحك منه المحزون، فالمؤول يصرف الآية عن أن تكون

للحث على الطهر والعفاف إلى الأمر بستر العيوب والنقائص عن الناس، إلا عن الأزواج والخدم، ولم يكتف بهذا التأويل السخيف، فقال عقبه: "ومن البلاغة في التعبير أن لفظ (أو) أفاد التنوع بين ما يباح للأزواج، وما يباح لملك اليمين؛ إذ يوجد من العيوب ما لا ينبغي كشفه على الخدم". ولا ندري كيف يفهم من (أو) العاطفة لـ {مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} على قوله: {أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 6] التنويع بين ما يباح للأزواج، وما يباح لملك اليمين، وهذا الذي يباح للصنفين - فيما زعم - لم يذكر في نظم الآية؟ والإسلام جاء، فوجد عادة الرق جارية بين المتحاربين، فهذّبها، وترك الأخذ بها لاجتهاد الإمام، ولكنه أوصى بالإحسان إلى الرقيق، والرفق به، وندب إلى تحرير الرقاب، وجعله كفارة لبعض ما يرتكبه الإنسان من عمل سيئ؛ كالظهار، والفطر في رمضان، والحنث في اليمين، وقتل النفس خطأ، وجعل في يد الحاكم عتق الأرقاء الذي يلحقهم ممن هم تحت أيديهم ضرر فادح، وتفويضُ أمر الاسترقاق إلى الإمام يجعل له الحق في العدول عنه كما هو مفصل في كتب الأحكام. وأنكر إباحة تعدد الزوجات الذي جرى عليه السلف من الصحابة فمَن بعدهم، وجعل آية: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] خاصةً باليتامى، فقال: " {مِنَ النِّسَاءِ}: نساء اليتامى الذين فيهم الكلام؛ لأن الزواج منهن يمنع الحرج في أموالهن"، ثم قال: "ولتعلم أن التعدد لم يشرع إلا في هذه الآية بذلك الشرط السابق"؛ يعني: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}، واللاحق؛ يعني: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} [النساء: 3].

ومن البيِّن تجافي هذا المعنى الذي ذكره المؤول عن نظم الآية، ومن أظهر الوجوه التي يستقيم معها النظم، ولا تمس إجماعَ المسلمين من الصحابة فمَن بعدهم بشيء: أن يكون المعنى: وإن خفتم أن تهضموا شيئاً من حقوق اليتامى؛ لضعفهن، وتحرجتم منها، فدعوا التزوج بهن، وانكحوا ما طاب لكم من النساء غيرهن مثنى وثلاث ورباع. * زعْمُه أن المسلمين يروون الأحاديث النبوية عن اليهود: لا يبالي المؤول أن يتكلم في غير أمانة، ويقول ما لا يطابق الواقع، ومن أمثلة هذا: أنه تعرض عند تأويل قوله تعالى: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47] لما ورد في سحر بعض اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "من الغريب - مع هذا الدليل المبين -: أن المسلمين ينقلون في كتبهم: أن النبي سُحر؛ بناء على حديث رواه اليهود، كما ينقل النصارى أن المسيح صُلب؛ بناء على رواية اليهود أيضاً". من يقرأ هذه الجملة يفهم منها: أن حديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقاه المسلمون عن اليهود، والحقيقة أن الحديث مروي بأسانيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه، وفي هذا الحديث: أنه علم بهذا السحر من طريق الوحي، ومن رواته من الصحابة - رضي الله عنهم -: عائشة، وابن عباس، وزيد بن أرقم، ثم رواه عن هؤلاء جماعة من الثقات حتى بلغ الأئمة: البخاري، ومسلماً، والنسائي، والبيهقي، وغيرهم، ولا صلة لحديث السحر بيهودي سوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوحي إليه بما فعل اليهودي لَبيدُ بن الأعصم من السحر. وأنكر بعض الناس هذا الحديث في القديم، وأخذهم الريب فيه من ناحيتين:

إحداهما: قوله تعالى: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47]، فهذا مما قصه الله تعالى عن كفار قريش من سياق الإنكار عليهم، ومقتضاه: نفي أن يكون قد سحر، والقرآن مقدم على الحديث. ثانيتهما: أن تأثره بالسحر - عليه الصلاة والسلام - يقدح في الثقة بما يبلِّغه عن الله تعالى من أمر ونهي. والذين لا يسارعون إلى تكذيب الأحاديث المروية بأسانيد صحيحة ما وجدوا لدفع ما يرد عليها من الشبه طريقاً، يقولون: إن قريشاً أرادوا من قولهم: {مَسْحُورًا} معنى اختلال العقل، فيكون مرادفاً لقولهم: {مَجْنُونٌ}، أو أرادوا: أنه مسحور سحراً من أثره هذا الدين الذي يدعو إليه، وهذا موضع الإنكار عليهم بإجماع، ويقولون: إن السحر إنما تسلط على جسده وجوارحه الظاهرة، ولم يمس شيئاً من عقله وقلبه، ويدل لهذا: حديثُ ابن عباس - رضي الله عنه - في رواية ابن سعد: "مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأُخذ عن النساء والطعام والشراب". وليس من غرضنا الآن البحث عن حقيقة السحر (¬1)، ولا بسط القول في حديث سحره - عليه الصلاة والسلام -, وإنما أردنا أن نريك كيف يحاول المؤول أن يقذف المسلمين بتهمة تَلقّي أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اليهود. وانظر إلى قوله: "إن المسلمين ينقلون في كتبهم"؛ فإنها كلمة لا أحسبها صدرت منه إلا في حال نسيانه أنه استعار ثوبَ الإسلام؛ ليتمكن من سحر أبناء المسلمين، وصدهم عن السبيل. ¬

_ (¬1) انظر كتاب: "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان" للإمام محمد الخضر حسين - باب: في حديث السحر.

هذه أمثلة من كتاب حشوُه الجحود والهذيان، نسوقها في هذه الرسالة؛ ليزداد المسلمون علماً بأن مؤلفه مهزول الفكر، منحرفٌ عن الرشد، {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].

كتاب يلحد في آيات الله

كتاب يلحد في آيات الله (¬1) قرر الإسلام للمرأة حقوقاً رفعت شأنها، وجعلتها عضواً عاملاً في دائرة الصيانة، وعلى وجه يحفظ بينها وبين زوجها وأقاربها المودةَ الصادقة، والعاطفةَ الفياضة بكل خير، وما زالت المرأة المسلمة تعيش مع الرجل القائم على آداب الإسلام مغتبطة هانئة، شأنها النظر في تربية الولد، وتدبير المنزل، وشأن الرجل معاشرتها بالمعروف، والقيامُ بحاجاتها، ومسايرة رغباتها ما دامت محفوفة بسياج الطهر والحياء. وما زال المصلحون يدعون إلى رعاية حقوقها المنبَّه عليها بقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] , حتى ظهر نفر تخيَّلوا أن الرقي كله في مظهر المرأة الأوربية، فقاموا ينادون لأن تتبع المرأة المسلمةُ الأوربيةَ شبراً بشبر، وذراعاً بذراع. نقول هذا بمناسبة الحديث عن كتاب ظهر في تونس منسوباً إلى بعض من لبست نفوسهم من التجافي عن الدين ما لبسته نفوس هؤلاء الذين يزعمون أنهم أنصار المرأة. ويقولون - والجهل ضارب في أدمغتهم -: إن الإسلام ظلم المرأة، ويذكرون: تعددَ الزوجات، وجَعْلَ الطلاقِ في يد الرجل، ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - العدد الثامن من المجلد الأول الصادر في شهر شعبان 1349 هـ. وهو نقد كتابا "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" تأليف الطاهر حداد.

وجَعْلَ نصيبها من الإرث نصفَ نصيب الرجل، ونحوَ هذه الأحكام مما قرره الإسلام، وعرفت العقول السليمة حكمتها، وموافقتها لما تقتضيه الحياة الراقية. باطلٌ من القول لغط به نفر من غير المسلمين في الشرق، فوقع في آذان أحداث في تونس، ولم يجد لديهم من متانة العقيدة، وقوةِ البصيرة ما يدفع عنهم خبثه، فأساغوه، وردَّدوا صوته محاكاة لأولئك النفر، والمحاكاةُ في الباطل أدلُّ على قصر النظر من ابتكاره، ولكن المستعدين للتقليد فيما تشقى به الأمة لا يفقهون. ظهر هذا الكاتب منسوباً لأحد من يحملون شهادة (التطوع) (¬1) بجامع الزيتونة، وقد سلك صاحبه طريقة مخادعة الغافلين من المسلمين بتأويل نصوص الشريعة، وتحريف كلمها عن مواضعه، ولم يتعظ هذا الكاتب بمن ذهب في الكيد للدين هذا المذهب، فخاب سعيه، ولم يزد على أن كشف للناس سريرة مغبرّة كانوا يظنونها نقية، بل أحيا شُعوراً دينياً كان في بعض النفوس خاملاً؛ إذ دلَّ المسلمين على أن من وراء هذه الأقلام ضمائر لا ترجو لله وقاراً، وأيدياً تعمل لتقويض بناء الشريعة ليلاً ونهاراً. ظهر هذا الكتاب، فقابلته الأمة التونسية بالإنكار، وقامت الصحف هنالك بواجبها، فنقدته من الوجهتين: الدينية، والاجتماعية، وكتب بعض العلماء مقالات في بيان ما فيه من جهالة وغواية، وألَّفت النظارةُ العلمية ¬

_ (¬1) شهادة يأخذها الطالب بعد أن يقضي في الطلب نحو سبع سنين. ولعلها تساوي الشهادة الأهلية في الأزهر الشريف، وسميت (تطوعاً)؛ لأنها تخول صاحبها أن يدرّس في الجامع متطوعاً.

بجامع الزيتونة لجنة من العلماء الذين درسوا أصول الشريعة على بصيرة، وعُرفوا باستنارةِ الفكر، وتمييزِ الجديد النافعِ مما هو جديد آثمٌ، فدرست اللجنة الكتاب، ووضعت تقريراً فيما احتواه من منكرات وضلالات. لقي الكتاب ما يستحق من التفنيد، وسعي النظارة العلمية لتجريد صاحبه من الشهادة التي يحملها، ولكنه لم يعدم أن يجد أفراداً يموّهون باطله، ويروِّجون زائفة، فأقاموا لصاحبه حفلة تكريم، وعجلوا إلى بث دعاية له في مصر، ولفقوا مقالات حملوا فيها على العلماء وأرباب الصحف الذين نقدوا الكتاب بعقل، وفضحوا ما فيه من تضليل، ثم بعثوا بتلك المقالات إلى صحف لا ترعى للحقائق ذمة، فنشرتها لهم، ولم يكن لها من الأثر سوى ارتياح غيرِ المسلمين لأن يُرمى الدينُ الحنيف بيد منتسب إلى معهد أُسس ليكون حصناً للدين مانعاً. وفي هذه المقالات اغتباط أولئك النفر بأن بعض الفرنسيين كانوا في جانب صاحب الكتاب، يدافعون عنه، وينقدون سلوك الصحافة التونسية في الرد عليه، ولم لا يكون الفرنسيون في جانبه، وهو يضرب الإسلام في الصميم، ويأتي لهدمه من باب لا يستطيع الفرنسيون أن يأتوه وهم فرنسيون؟؟!. وفي هذه المقالات رمي للمستنيرين؛ كالمحامين، والأطباء في تونس بأنهم خذلوا صاحب الكتاب لغايات شخصية، ونحن نرى في مصر محامين وأطباء يؤمنون بالقرآن أبلغ الإيمان، ويرون أن ما منحه الإسلام للمرأة من الحقوق هو عين الصواب، وما عداه جهل بعواقب الأمور، ولم لا يكون المحامون والأطباء في تونس قد جمعوا إلى علم الحقوق والطب هداية وتوفيقاً؟ وزعم كاتب تلك المقالات أن النظارة العلمية عقدت لجنة من بعض

أعضائها، ومن بعض المدرسين، وقرروا - فيما بلغهم - أن المدرك التشريعي الذي يراه مؤلف الكتاب لا ينافي الإسلام، إلا أن المؤلف لم يبلغ رتبة الاجتهاد. وقد اطلعنا في الصحف التونسية على ما يخالف هذا الزعم. قالت جريدة "الزهرة" الغرَّاء: "بلغنا أن اللجنة التي ألفتها النظارة العلمية للنظر في كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" قد أتمت أعمالها، وأنهت تقريراً في ذلك للوزارة الكبرى، وكان جميع أعضاء اللجنة على وفاق تام مجتمعين على أن الكتاب المذكور يحوي في عدة نواح منه أوجهاً كثيرة من الضلال والتضليل، وبهذه الصفة يعتبر مروقاً من الدين، وخروجاً على إجماع الأئمة من علماء الإسلام، ومحاربة لحضرة الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - ". ونقلت جريدة "الوزير" الغرَّاء محادثات في شأن الكتاب جرت بين رئيس تحريرها، وفضيلة شيخ الإسلام (¬1) بتونس الشيخ "أحمد بيرم"، وبعض أعضاء اللجنة، ومما قاله شيخ الإسلام في حق الكتاب أنه: "يخالف الشريعة الإسلامية في كثير من المواقف؛ كمسألة تعدد الزوجات، ومسألة الميراث، ومسألة الحجاب". وقال رئيس الإفتاء المالكي الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: إنه "يشتمل على مخالفات كثيرة لأحكام الشريعة الإسلامية تعد ضلالات، وقد بتت اللجنة رأيها الذي يحوم حول هذا". وقال المفتي المالكي الشيخ أبو الحسن النجار: "إنه يخالف النصوص الشرعية، لا في فروعها فقط، بل في أصولها، وما علم من الدين بالضرورة". ¬

_ (¬1) هو لقب رئيس الإفتاء الحنفي.

وقال المفتي المالكي الشيخ عبد العزيز جعيط: "وفي رأيي الخاص: أن كثيراً مما تضمنه الكتاب يوجب المروق من الدين". هذه آراء شيخ الإسلام بتونس، وبعض أعضاء اللجنة المكلفة بفحص الكتاب، وهي صريحة في أنهم يرون أن في محتوياته ما هو ضلالة ومروق من الدين، وليس من المعقول أن يقول عالم مسلم في الحكم على مثل ذلك الكتاب: إن المدرك التشريعي الذي يراه مؤلفه لا ينافي الإسلام، فقد وصلت إلينا نسخة من هذا الكتاب، فقرأناه، فإذا هو يعتسف طرقاً ملتوية، ويرمي بأقوال منكرة، ويتشبث بآراء منبوذة، ولو قصر صاحبه البحث على تعليم المرأة، وتربيتها، وإنكار ما يفعله بعض الرجال من الاستخفاف بحقوقها، والمبالغة في حجابها، لقلنا: كتاب يدعو إلى ناحية من نواحي حياتنا الاجتماعية، وكان حظه منا شكراً وتقريظاً, ولو ذهب صاحبه في البحث مذهب من لا يعرف الشريعة، فقرر آراءه الخاصة دون أن يتعرض للقرآن الكريم، لقلنا: نسي تعاليم الإسلام، وكانت خطة العلماء معه أن يذكروه بأن آراءه في واد، والدين في واد، وكان له الخيار بعد هذه التذكرة أن يتشبث بهذه الآراء المنحدرة من عقول داجية، أو يرجع إلى شريعة نزل بها الروحُ الأمين على خاتم النبيين؛ لتكون هداية للعالمين. ولكن هذا الكاتب لم يتحر فيما كتب الطريقة الصالحة، ولم يتق الله في شريعته الغراء، فأقبل على القرآن يحرِّف آياته عن مواضعها، ويضاهي الذين يخادعون الله في تأويلها. ولا حاجة بنا إلى تتبع خطيئات الكتاب بعد أن تصدى طائفة من علماء تونس ونبهائها إلى نقضه، وبيان ما يحمله من أباطيل.

وحسبنا أن نسوق إلى القراء أمثلة يعرفون بها كيف قام ذلك الكاتب يردد صوت هؤلاء المخالفين الذين يحاربون الإسلام في غير استحياء. قال ذلك الكاتب: "يجب أن نعتبر الفرق الكبير بين ما أتى به الإسلام وجاء من أجله، وبين ما وجده من الأحوال العارضة للبشرية، والنفسيات الراسخة في الجاهلية قبله، دون أن تكون غرضاً من أغراضه"، وجعل الكاتب في القسم الأول: عقيدة التوحيد، ومكارم الأخلاق، وجعل في القسم الثاني: تعدد الزوجات، ونحوه، وقال عن هذا القسم: "لا يمكن اعتباره حتى كجزء من الإسلام". جاء الإسلام لبيان العقائد الصحيحة، ومكارم الأخلاق، وجاء لتقرير أحكام العبادات والمعاملات، فالجميع جاء من أجله الإسلام، وإن اختلفت مراتب الأحكام شدة ورفقاً، وما يترتب عليها من المصالح قوة وضعفاً، وزعمُ أن الإسلام جاء من أجل العقائد والأخلاق، وأن في أحكام المعاملات ما لم يأت الدين من أجله، ولا يعد كجزء منه، إنكارٌ لجانب عظيم من الشريعة، وطرح أحكام المعاملات، وإباحة الحكم فيها بغير ما أنزل الله؛ باعتقاد أنه أحفظ للمصلحة، انسلاخٌ من الدين بلا شبهة، وتعدد الزوجات من قَبيل ما أنزل الله حكم إباحته. قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، فمن قضى بالمنع قضاء عاماً معتقداً أن المصلحة في هذا المنع، فقد قضى بغير ما أنزل الله، وأصبح مصداق قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. اختلق الكاتب هذا الرأي ليبني عليه طرحَ كل حكم في الإسلام لا يوافق

ذوقَه أو هواه؛ بزعم أن الإسلام لم يجئ من أجله، وأنه لا يعد كجزء منه، وإن جاء به نص صريح في الكتاب أو السنة المتواترة، وهذا رأي لا يرتاح إليه إلا من يسره كثرةُ سواد المنسلخين من الدين؛ إذ لا مِعْول يفعل في هدم الشريعة فعلَه لو أنه وجد في الناس غفلة وجهالة. وقال الكاتب: "إن الإسلام لم يقرر نزول ميراث المرأة عن الرجل كأصل من أصوله التي لا تتخطاها". هذا مما بناه الكاتب على زعمه: أن من أحكام الإسلام ما لم يجئ الإسلام من أجله، يقول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] إلى قوله تعالى: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 12 - 14]. فالله تعالى يوصي بأن تُعطى الأنثى نصفَ ما يُعطى الذكر، ويجعل هذه الوصية حداً من حدوده، ويتوعد على تعديها بالنار والعذاب المهين، وذلك الكاتب يريد من المسلمين أن يهملوا وصية ربهم، ويتعدوا حدوده، ويجعلوا ميراث الأنثى مساوياً لميراث الذكر، على الرغم من الحكم الواضحة فيما أوصى الله به من إعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين. وقال الكاتب: "لقد حكم الإسلام في آيات القرآن بتمييز الرجل عن المرأة في مواضع صريحة، وليس هذا بمانع أن يقبل بمبدأ المساواة الاجتماعية بينهما عند توافر أسبابها بتطور الزمن، ما دام يرمي في جوهره إلى العدالة

التامة، وروح الحق الأعلى". الإسلام يرمي إلى العدالة التامة، وقد قرر أصلاً هو أن تكون المرأة في عفاف، فمن العدالة التامة أن ينهى عن اختلاطها بالرجل إلا أن يكون محرماً، وقرر على الرجل القيام بحاجاتها وحاجات ما يرزقان من ولد، فمن العدالة التامة أن يكون حظ الرجل من الميراث أكثر من حظها، وهل في الأزمنة طور يقتضي بطبيعته سقوطَ العفاف من حساب الفضيلة؟ وهل في الأزمنة طور يقتضي بطبيعته وضعَ نفقة الرجل وولده على عاتق المرأة؟ يكون هذا الطور عندما يخلق الرجل والمرأة خلقاً آخر. وذلك ما لا يقصد الكاتب الحديث عنه. ومن جرأة الكاتب قوله: "ليس لي أن أقول: تعدد الزوجات في الإسلام؛ لأني لم أر للإسلام أثراً فيه، وإنما هي سيئة من سيئات الجاهلية الأولى". يقول الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، ويجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النكاح بين اثنين أو ثلاث أو أربع، والرسول - عليه الصلاة والسلام - يشهد ذاك، ويقرهم عليه، واستمر العمل على تعدد الزوجات جارياً في الأمة جيلا بعد جيل، حتى أتى هذا الكاتب، فرأى أن ينفيه من الإسلام، على الرغم من أنه منصوص في كتاب الله، والعمل به جارٍ منذ عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا يظن بمسلم الجهل بأن تعدد الزوجات مما أباحه الإسلام، ولكن الكاتب أراد تقبيحه، وهو ممن يزعم أنه يتكلم بلسان الشريعة، فقدم جحوده لأن يكون من الإسلام؛ حتى يتيسر له أن يصفه بأنه سيئة من سيئات الجاهلية.

يجيء الكاتب إلى الحديث الصحيح، ويحاول رده بزعم أنه تُكلم في سنده، وليس لهذا الزعم وجه سوى أن الحديث لا يوافق الرأي الذي أحبَّ تقليده؛ كما قال: "وروى بعض أهل الحديث: أنه - عليه السلام - قال ما معناه: "النساء ناقصات عقل ودين"، ورغماً مما قيل في سند هذا الحديث إلى النبي، فإنه - على فرض صحته - لا يدرى أكان يحدثنا به عن أصل تكوين المرأة في جوهرها - ولا دليل على ذلك من لفظ الحديث -، أو هو يعبر عن حالتها في تلك العصور، يعتذر عن بعض هفواتها لسائليه أو سامعيه". كلامه هذا يدل على أنه متهجم على الشريعة بهوّى أكَمَّهُ، وأنه لا يتكلم في الدين بعد البحث ولو قليلاً، والحديث الذي أشار إليه الكاتب مروي في "صحيحي البخاري ومسلم"، ولفظه في البخاري: "ما رأيتُ من ناقصاتِ عقل ودين أذهبَ للبِّ الرجلِ منكنَّ، قلن: وما نقصانُ ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادةُ المرأة مثلَ نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك نقصانُ عقلها. أليسَ إذا حاضت، لم تصلِّ، ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك نقصان دينها". فالحديث في الصحيح، وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - ماذا أراد منه، والوجه الذي ذكره في نقصان دين المرأة يرجع إلى أمر لازم لها من جهة الأنوثة، وهو الحيض، فإن كان للعصور طور ينقطع فيه الحيض عند النساء جملة حتى يؤدين الصلاة والصيام في أوقاتهما المحدودة، لم يكنَّ حينئذ ناقصات دين. والوجه الذي ذكره عليه - الصلاة والسلام - في نقصان عقلها - أعني: عدم مساواة شهادتها لشهادة الرجل - مبني على ما يغلب على النساء من

النسيان، والأحكام العامة تبنى على الغالب. ولعل الكاتب ينكر أن النسيان يعرض للنساء أكثر من الرجال، وإن دل عليه قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، فننبئه أن بعض علماء أوروبا قرروا أن في ذاكرة المرأة ضعفاً، وأنها لا تستحضر الماضي كما يستحضره الرجل. فهذا الدكتور (أوتو فينجر) الطبيب الفيلسوف النمساوي شهد في كتابه المسمى: "الجنس والأخلاق" (¬1) في (صحيفة 94 - 116) بأن المرأة ضعيفة الذاكرة، فقال: "إن التذكر هو التغلب على ما مضى من الزمن، واستحضاره في الذهن، ولا يمكن للمرأة - لأسباب عضوية ونفسية - السيطرةُ على هذه الموهبة؛ لأن حياتها متقطعة، لا تذكر منها إلا اليسير؛ بخلاف الرجل؛ فإنه يمكنه تتبع سلسة حياته حلقة فحلقة، ولا يغيب عنه جوهرها في أي وقت من الأوقات". بل قرر في هذا الكتاب ضعفَ قوتها العاقلة، فقال في (صحيفة 76 - 84): "لا يمكن للمرأة التفرقة بين الشعور والتفكير - أي: بين حياتها الوجدانية والعقلية -، ولكن الرجل يمكنه فصلهما عن بعضهما فصلاً تاماً". وقال في (ص 85 - 93): "إن النبوغ إحدى ميزات الرجل، ولا يمكن أن تصل إليه المرأة مهما بلغت موهبتها". ومن جرأة الكاتب على مقام الرسالة الأعظم قوله: "إن تعدد أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس تشريعاً لأمته كترغيب لها فيه، وإنما كان ذلك قبل التحديد، ¬

_ (¬1) ظهر هذا الكتاب في اللسان الألماني في مايو سنة 1903 م، وأعيد طبعه 27 مرة، ونقل إلى نحو عشر لغات من اللغات الأوربية.

والنبي إنسان كالبشر، غيرُ سالم من تأثير عوارض البشرية عليه فيما لم ينزل به وحي سماوي". معنى هذا: أن تعدد زوجاته - عليه الصلاة والسلام - لا يستند إلى وحي، وأن هذا من قبيل ما لا يليق فعله؛ إذ جعله من سيئات الجاهلية. أما أن تعدد زوجاته لم يكن بوحي، وأنه - عليه الصلاة والسلام - مدفوع إليه بعوارض بشرية، فزعمٌ باطل؛ فإن الله تعالى يقول في حق زينب - رضي الله عنها-: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]، وقد تزوجها - عليه الصلاة والسلام -، وفي عصمته عائشة، وسودة، وحفصة - رضي الله عنهن -. وورد في آيات كثيرة ذكر أمهات المؤمنين على وجه يدل على أن الله راضٍ عن هذا التعدد، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 50]، وقال تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب: 32] , وإذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يفعل الشيء عن اجتهاد، فيجيء على خلاف الأولى، فيأتي الوحي منبهاً لما هو أولى، فمسألة تعدد زوجاته ليست من هذا القبيل في شيء؛ فقد نزل الوحي صريحاً في إباحته، ورضا الله عنه. ولتعدد زوجاته - عليه الصلاة والسلام - حكم دينية اجتماعية تسمو عن عقول هؤلاء الذين لا يفهمون للزول حاجة غير قضاء الشهوة، ومن الحكم: تلقي أحكام الشريعة، وإبلاغها للناس؛ كما قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34].

وسنعود إلى هذا البحث في مقال آخر - إن شاء الله - (¬1). ودعا الكاتب إلى السفور مفتوناً بحال المرأة الأوربية، وزيَّن لقراء كتابه أن يجمعوا بين نسائهم وفتيانهم وأصدقائهم للمحادثة، ولم يكتف بقول بعض أهل العلم: إن الزينة الظاهرة المأذون في إبدائها بقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] هي الوجه والكفان، فقال: "إن ما ظهر من الزينة وقع في القرآن مبهماً؛ اعتباراً منه لأعراف الناس في ذلك بتطور الزمان". والناظرون في الشريعة بإخلاص يرون أن القرآن إذا نهى عن إبداء الزينة، فإنما يريد: قطعَ وسائل الفجور، فليس لأحد أن يجعل هذا من قبيل ما يراعى فيه العرف، حتى إذا جرى عرف قوم بكشف المرأة لصدرها أو ساقيها، قضى فيه بالإباحة - على زعم أن القرآن أبهم ما أباح إبداءه من الزينة؛ ليؤخذ فيه بأعراف الناس -، والرجوع في مثل هذا إلى العرف يفتح طرقاً من الشر إنما جاء القرآن ليسدها. ونحن ممن يدعو إلى تعليم البنات وتهذيبهن، وإكرام الزوجات ورعاية حقوقهن، والرفق بالنساء لضعفهن، ولكننا ننكر هذا الذي يدعو إليه الكاتب من الإغضاء عنهن إلى حد الاختلاط برجال ليسوا بمحارم لهن، فإن ذلك مما نهت عنه الشريعة، وأرتنا المشاهدُ رأيَ العين أنه أقربُ الوسائل إلى تلويث الأعراض، ونكدِ العيش، وهو إلى ابتذال المرأة أقربُ منه إلى كرامتها، وإلى عنائها أقربُ منه إلى راحة بالها، فالكاتب يعبث بحقوق المرأة المسلمة من وراء العبث بأحكام الشريعة، ويعمل لأن يفسد عليها دنياها قبل أن ¬

_ (¬1) انظر كتاب: "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان"، بحث: تعدد الزوجات في الإسلام - للإمام محمد الخضر حسين.

يفسد عليها آخرتها. وقرأنا للكاتب بعد هذا جملاً كثيرة يطعن بها في علماء الإسلام، ويقذفهم فيها بأنهم لم يفهموا مقاصد الشريعة، ذلك لأنهم لم يمنعوا تعدد الزوجات، ولم ينزعوا حق الطلاق من يد الرجل، ولم يجعلوا ميراث الأنثى مساوياً لميراث الذكر، ولم يأذنوا للناس في أن يضعوا حبل الفتاة على غاربها تجتمع مع من تشاء، إلى نحو هذا من الشهوات التي لو طاشت إليها آراؤهم، لانطفأت حكمة الله، واندرست معالم الهداية، فلا قرآن يُتلى، ولا سنَّة تُروى، وعلى الدين الحقِّ يومئذ السلامُ. وكان من رأينا صرف القلم عن ذكر هذا الكتاب؛ اكتفاء بما تناولته به أقلام أهل العلم في تونس من الرد المحكم، ولكن الدعاية التي قام بها شركاء صاحب الكتاب في مصر دعتنا إلى أن نذكره، ونُري القراء مثلاً من باطله؛ ليحذروا فتنة، ويعلموا أن في الشرق نفوساً تقضي باسم الشريعة مآرب قوم يبتغون فساد ما بقي فينا من عقيدة سليمة، وأدب نُغبط عليه، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]

قصة أيوب - عليه السلام - ونقض آراء حديثة في تفسيرها

قصة أيوب - عليه السلام - ونقض آراء حديثة في تفسيرها الردُّ الأوَّل (¬1) " اطلعت في إحدى المجلات التي تصدر في القاهرة على مقال تعرَّض فيه كاتبه لمفسري القرآن الكريم، وبالغ في نسبتهم إلى التقصير في التفسير، وساق ما فسَّروا به قصة أيوب - عليه السلام - مثالاً لذلك التقصير، وأورد وجوهاً زعم أنها تُبطل ما أجمعوا عليه من التفسير، ثم ذكر تأويلاً للقصة، مدعياً أنه هو الصواب، ووعد بأنه سينسج على هذا المنوال في بيان تقصير المفسرين. وقد وقفت في هذا المقال على آراء لا تدخل تحت قوانين المنطق، وأخرى لا تتقبلها بلاغة القرآن، فأردت تنبيه طلاب العلم لما في تلك الآراء من نشوز؛ حتى يكونوا على بينة من أمرها". * القصة: قال الله تعالى في سورة الأنبياء: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83، 84]. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء العاشر، والجزء الثاني عشر من المجلد السابع لعام 1354 هـ، والأجزاء الثاني والثالث والرابع من المجلد الثامن لعام 1354 هـ.

وقال الله تعالى في سورة ص: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 41 - 44]. وهذه الآيات هي التي تصدَّى كاتب المقال لتأويلها. * صفوة آراء العلماء في تفسيرها: حمل المفسرون الضرَّ في آية الأنبياء على المرض، والضرُّ يستعمل في المرض على وجه الحقيقة، ولم يرد في وصف هذا الضر الذي مسَّ أيوب - عليه السلام - آية، أو حديث صحيح، فيحمل على مرض لا يكسب الجسمَ قبحاً، ولا يُحدث في نفس من يشاهده نفُوراً، كما أنه لم يرد في مقدار مدته آية، أو حديث صحيح، فتحتمل أن يكون أياماً، أو أشهراً، أو سنين، غير أن المرض الذي يمدح الله رسولاً من رسله على الصبر عليه شأنه أن يكون في ألمه شدة. أما قوله تعالى في سورة ص: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]: فقد حمل كثير من المفسرين النصب والعذاب على معنى الضر الوارد في آية الأنبياء، وسنشرح وجهة نظر هؤلاء فيما بعد، وحملها آخرون على تعب القلب وألمه مما يوسوس به الشيطان من تعظيم أمر المرض؛ ليوقعه في الجزع، أو يوسوس به إلى بعض قومه من أن الله لا يبتلي الأنبياء بمثل ما ابتلاه به من الضر، ثم سأل أيوبُ الله تعالى أن يكفيه شر هذه الوسوسة، كما سأله كشفَ الضر عنه من أصله. وقد توسع بعض المفسرين في هذه القصة، فساق فيها روايات لا يوجد

من بينها رواية صحيحة ثابتة. قال القاضي أبو بكر بن العربي في تفسيره المسمَّى: "قانون التأويل": ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبر الله عنه في كتابه في الآيتين: (آية الأنبياء، وآية ص)، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله: "بينما أيوب يغتسل، إذ خرَّ عليه رِجْلٌ من جراد من ذهب". {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]: الركض بالرجل: تحريكها، والمغتسل: الماء يغتسل به، والشراب معروف، ومعنى الآية على ما يقتضيه وضع مفرداتها اللغوية: أن الله تعالى أمر أيوب - عليه السلام - بتحريك رجله، وقولُه بعد الأمر بتحريك الرجل: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} يشعر بأن هذا المغتسل البارد والشراب، وجد بتحريك الرجل، وورود هذه الآية عقب إخبار الله بدعاء أيوب أن يعافيه من المرض، أو يكفَّ أذى الشيطان عنه، يدلُّ على أن لهذا الركض صلة بحال استجابة دعائه. وكذلك يقول المفسرون: ركض برجله؛ أي: حرّكها دافعاً بها الأرض، فنبع بالركض ماء أُمر بالاغتسال به، والشرب منه، فكان ذلك الدواء القاطع لما ألمَّ به من المرض، وفي السلامة من المرض انقطاعُ وسوسة الشيطان. فإن قال قائل: أي فائدة لركض أيوبَ برجله، والله قادر على أن يفجر الماء من غير ركض بالرجل؟. قلنا: إن الله قادر على أن يفجر اثنتي عشرة عيناً لبني إسرائيل من غير أن يقول لموسى - عليه السلام -: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} [الأعراف: 160]، وقادر على أن يفلق له البحر من غير أن يقول له: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاك

الْبَحْرَ} [الشعراء: 63]، وقادر على أن يردَّ الكفار على أعقابهم يوم حُنين من غير أن يَرمي النبي - صلى الله عليه وسلم - الحصى في وجوههم، ولكن الله تعالى إذا أراد إظهار معجزة لنبيّ من أنبيائه، أمره بفعلٍ يكون كسبب في الظاهر يرتبط به ذلك الأثر العظيم، وبهذا الفعل الذي يصدر من النبي، فيظهر عقبه الخارقُ، تزداد النفوس علماً بأن هذا الخارقُ إنما أظهره الله من أجله. {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [ص: 43]: يصح أن يكون معنى هبة الأهل: جمعهم عليه بعد تشتت، ومعنى هبة مثلهم: تناسل أهله بعد معافاته إلى أن بلغ عددُ الفروع مقدارَ أصولهم، وإنما يمنُّ الله تعالى على رسول من رسله بجمع أهله عليه متى كان أهله يؤمنون به، ويؤيدون دعوته. {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]: هذا حكايةُ قولٍ أوحى الله به إلى أيوب - عليه السلام -، وإذا قطعنا النظر عما أورده المفسرون من الروايات، واحتفظنا بحمل الألفاظ على معانيها الحقيقية مع مراعاة طريقة القرآن في الإيجاز، قلنا: إن أيوب - عليه السلام - صدر منه يمين على أن يضرب بعض من له أن يؤدبه بالضرب أسواطاً معدودة، لسبب لم يسمه القرآن المجيد، ولما كان المعروف في موجب هذا اليمين أن يكون الضرب بالأسواط مفرقة، أرشده الله إلى طريق أخفَّ من ذلك الطريق المعروف، وهو الضرب بضغث يجمع من الأعواد مقدارَ الأسواط المذكورة في اليمين. ولعلك تعلم أن القرآن يكتفي من القصة بذكر موضع العبرة، ولم ينزل ليكون كتاب تاريخ حتى تنتظر منه أن يذكر: منِ المحلوف على ضربه؟

وما سبب الحلف؟ وما عدد الأسواط؟. وموضع العبرة من هذه الآية: هو أن أيوب - عليه السلام - رأى بعض أهله قد فعل، أو قال ما يستحق عليه العقوبة، فحلف وهو غاضب لله على أن يعاقبه على ذلك بأسواط معدودة، فأراه الله وجهاً يجمع بين رعاية حرمة اليمين، ورفع جانب من شدة العقوبة، فذلك من أثر الغضب لله، وهذا التخفيف من أَثر رحمة الله بالمتقين من عباده. هذا صفوة ما يقوله أهل العلم في تفسير قصة أيوب - عليه السلام -, وقد خالفهم في أصل تفسيرها كاتبُ ذلك المقال، وسنريك في آخر مقالنا هذا أن لرأيه صلة برأي محمد علي زعيم طائفة القاديانية الخارجة عن سبيل المؤمنين. * المفسرون والإسرائيليات: قال صاحب المقال: "إنهم - أي: المفسرين - كثيراً ما يكتفون بذكر إسرائيليات ليس لها سند أصلاً، فضلاً عن أن يطمع في تصحيح ذلك السند". في المفسرين من ينقل الإسرائيليات من غير تمحيص، وفي محققيهم من يأبى الرجوع إلى الإسرائيليات، وينقدها على مقتضى قوانين الشرع والعقل، وكذلك فعل القاضي أبو بكر بن العربي في تفسيره "قانون التأويل"؛ فإنه قال عند تفسير هذه القصة: "وإذا لم يصح عنه - أي: أيوب - قرآنٌ ولا سنَّة إلا ما ذكرنا، فمن الذي يوصل للسامع خبره؟ وعلى أي لسان سمعه؟ والإسرائيليات موضوعة عند العقلاء لعدم الناقل، فأغمضْ عن مسطورها بصرَك، وضُمَّ عن كتبها يديك، واصمم عن سماعها أُذنيك؛ فإنها لا تزيد فكرك إلا خبالاً".

ثم أخذ ينقد ما يوجد في المفاسير من أخبار أيوب - عليه السلام -، فيقول في بعضها: هذا باطل، وفي بعضها: هذا بعيد، وفي بعض آخر: هذا ممكن، ولكنه يفتقر إلى نقل، وهكذا تجده يضع كل خبر في مكانه اللائق به. وقد أخذ القرطبي في تفسيره بجانب من كلام القاضي أبي بكر بن العربي، ونقدِه لأخبار هذه القصة. * كيف يحكي كاتب المقال أقوال المفسرين؟ حكى كاتب المقال أقوال المفسرين في آيات القصة الواردة في سورة ص، وربما اقتصر في النقل على القول الذي يراه أبعدَ من المعقول، ويهمل ذكر أقوال هي أقربُ إلى ظاهر الآية، ولعله يريد بذلك التمهيدَ لأن يقع تفسيرُه الذي أتى به من بعدُ موقعَ القبول. قال صاحب المقال: "نرى المفسرين قد فسروا النُّصب والعذاب في الآية بداء أصاب أيوبَ، قد فعل به الأفاعيل، وبَرَّحَ بجسمه أيَّ تبريح، حتى نفر الناسُ منه، وحتى عجز عن الحركة، فلا ينتقل من مكان إلى مكان إلا أن يحمله حامل، ثم يقولون: وقيل: المراد بالنصب والعذاب: ما كان يوسوس إليه به الشيطان في مرضه من البلاء، وإغرائه بالجزع". من المفسرين من ذهب إلى أن المراد من النصب والعذاب في قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]: هو المراد من الضر في قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83]، وهو المرض، ويكون إسناد المس بالنصب والعذاب إلى الشيطان من قَبيل إسناد الفعل إلى سببه؛ أدباً مع الفاعل الحقيقي، وهو الله تعالى، ولكن الوجه الذي كان به الشيطان سبباً لما ابتلي به أيوب من المرض لم يتعرض له القرآن الكريم؛ جرياً على طريقة الإيجاز والاقتصار

في القصص على ما يقصد التنبيه له من مواضع العبرة. وقد ساق بعض المفسرين في تفصيل هذا السبب روايات لا يوجد من بينها رواية ثابتة في الصحيح. ويكفي تالي القرآن أن يفهم - على هذا الوجه من التفسير -: أن ما أصاب أيوب - عليه السلام - من وسومة الشيطان هو من النوع الذي يجر إلى معصية كبيرة أو صغيرة، وألهم أيوب - عليه السلام - ذلك؛ ليأخذ في الحذر من وساوس الشيطان بالتي هي أبلغ، وقصه الله في القرآن؛ ليتعلم منه غير أيوب: أن النفوس الطاهرة قد يردها خاطر تحسبه خيراً، ويكون تركه أولى من فعله، فينبغي لها أن لا تسكن إلى خاطر حتى تستبين أنه قبس من نور الله. هذه وجهة نظر من يجعل النصب والعذاب الوارد في سورة ص هو الضر الوارد في سورة الأنبياء. أما الذين يفسرون النصب والعذاب بما يوسوس به الشيطان؛ من تعظيم أمر المرض، والإغراء بالجزع، فإنهم يبقون الضر في سورة الأنبياء على معنى المرض، وسلكوا هذا الطريق من التفسير حيث لم يظهر لهم وجه في نسبة المرض إلى الشيطان، ورأوا أقرب ما يكون من وسوسة الشيطان للمريض: هو إثارة جزعه من المرض؛ ليضعف صلته بمقام الإلهية، ويحرمه أجر الصبر على المصيبة. فالفريقان متفقان على أن أيوب - عليه السلام - ابتلي بمرض سمَّاه لشدته: ضراً، ودعا الله أن يكشفه عنه، غير أن من المفسرين من يصف مرض أيوب - عليه السلام - على نحو ما جاء في التوراة، ومما جاء فيها: "ولبس لحمي الدود"، والمحققون من أهل العلم ينفون هذا، ويقولون: إن مرض

أيوب لم يكن من قَبيل الأمراض المنفِّرة. قال الألوسي في تفسير آية ص: "ولعلك تختار القول بحفظهم - أي: الأنبياء - مما تعافه النفوس، ويؤدي إلى الاستقذار والنفرة مطلقاً، وحينئذ فلا بد من القول بأن ما ابتلي به أيوب - عليه السلام - لم يصل إلى حد الاستقذار والنفرة؛ كما يشعر به ما روي عن قتادة، ونقله القصاص في كتبهم". وكذلك يقول بعض علماء الكلام؛ كالباجوري في "حواشي الجوهرة": ما كان بأيوب من البلاء كان بين الجلد والعظم، فلم يكن منفراً، وما اشتهر في القصة من الحكايات المنفرة فهي باطلة. قال صاحب المقال: "ويفسرون الركض بالرجل: بأن أيوب أُمر من ربه بوساطة جبريل أن يضرب برجله في الأرض، فضرب بها كما أمر، فنبعت عينان أُمر أن يشرب من إحداهما، وأن يغتسل من الأخرى". هذا ما يقوله بعض المفسرين، ويقتصر طائفة من محققيهم على ما يفهم من ظاهر القرآن؛ من أن المشار إليه واحد، هو المغتسل، وهو الشراب. قال القاضي البيضاوي: "فنبعت عين، فقيل: هذا مغتسل، وقيل: نبعت عينان". وقال الألوسي: "ظاهر الآية اتحاد المخبَرِ عنه بمغتسل وشراب". قال صاحب المقال: "ويفسرون قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [ص: 43]: بأن الله أحيا له أولاده الذين كان قد أماتهم، وولد له مثلهم". لم يذهب إلى هذا الرأي جميع المفسرين، بل ذهب طائفة من محققيهم إلى أن هبة أهله: جمعُهم عليه بعد تفرق. قال القاضي البيضاوي في تفسير الآية: "بأن جمعناهم عليه بعد تفرق".

وفي تفسير الألوسي: "وقيل - وإليه أميل -: وهبه من كان حياً منهم". ذكر صاحب المقال تفسيرهم لقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ} [ص: 44]، وقال: "ثم يزيدون على ذلك أن هذه رخصة باقية إلى اليوم؛ بشرط أن يصيب كلُّ أعواد الحزمة جسمَ المضروب". هذا مذهب بعض الفقهاء؛ بناء على أن قول القائل: والله! لأضربنَّ فلاناً عشرة أسواط - مثلاً - يتناول صورة الضرب بها مجموعة متى أصاب كلُّ عود منها جسمَ المحلوف على ضربه، فتكون صورة الضرب بالأعواد مجموعة على ذلك الشرط، من موجب صيغة اليمين عند الإطلاق. وذهب آخرون إلى أن موجب صيغة هذه اليمين عند الإطلاق: هو الضرب بالأسواط مفرقة، ويرى أن ما جاء في الآية شرع خاص بأيوب - عليه السلام -، ومقتضى هذا المذهب: أن من صدرت منه يمين على نحو اليمين التي صدرت من أيوب - عليه السلام -, فإما أن يفعل ما حلف عليه، وهو الضرب بالأسواط مفرقة، وإما أن يكفّر عن يمينه. * رد الوجوه التي رام كاتب المقال أن يبطل بها قول المفسرين: ساق صاحب المقال ما يقوله المفسرون في تفسير القصة، ثم قال: "ولم يدروا أنه قد فاتهم أولاً: أن المقصود من أن يقص الله تعالى حال الرسل على خاتم أنبيائه - صلى الله عليه وسلم - إنما هو: الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله، وما احتملوه من أذى وبلاء في طريق الدعوة إلى الله؛ {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]. قد يقص الله تعالى من أنباء الرسل - عليهم السلام -, ولا يذكرهم بما يرجع إلى ما أصابهم في سبيل الله من أذى، وإنما يذكرهم ليدل على ما كان

لهم من خلق عظيم، أو عمل خطير، أو حكمة بالغة، أو منزلة عنده سامية، أو ما أجراه على أيديهم من آيات، أو شرعه في عهدهم من أحكام. ولا ندري كيف أورد كاتب المقال آية: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} [هود: 120]، وليس فيها شاهد على أن المقصود من قصص الرسل - عليهم السلام - إنما هو الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله، فإن تثبيت فؤاده - صلى الله عليه وسلم - زيادة يقينه، وطمأنينة قلبه، فالتثبيت بهذا المعنى يأتي من الاعتبار بأنباء الرسل - عليهم السلام -، ولو لم تكن من قبيل الحديث عما أصابهم في سبيل الله. قال صاحب المقال: "وماذا عسى أن يكون من العبرة في أن يقص الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: أنه اصطفى أيوب لرسالته، ثم أمرضه، فأعجزه عن القيام بأعباء الرسالة، وما تتطلبه الدعوة من قول وعمل لا ينهض بها إلا سليم معافى"؟. إن فيما قصه الله تعالى من شأن أيوب - عليه السلام - لعبرةً لأولى الألباب، رسولٌ من أكرم الرسل، وأعلاهم عند الله منزلة، يكون في نعمة؛ من صحة الجسم، وانتظام الشمل، فيصاب بالمرض، وانقطاع أهله عنه، يتلقى هذا المصاب بالصبر الجميل، حتى إنه لم يصرح بالدعاء، بل سلك به طريق التعريض؛ إذ ذكر في مناجاته: أنه في ضر، وأن رحمة الله أوسعُ من كل رحمة. وإذا ذكَّر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بشدة ما أصاب أيوب - عليه السلام - من البلاء، وبقوة ما كان يتلقاه من الصبر، قَوِيَ يقينه - صلى الله عليه وسلم - بأن شدة البلاء في الدنيا قد تنزل حيث يكون رضا الله عظيماً، والمقام عنده رفيعاً، وخفَّ عليه ما كان

يناله من المكاره، وازداد صبره على احتمال الأذى قوة على قوة. قال صاحب المقال: "وفاتهم ثانياً: أن هذا يتنافى مع حكمة الله السامية، وإلا، فكيف يصطفيه لرسالته، ثم ينزل به ما يحول بينه وبين النهوض بأعباء تلك المهمة، وتلك المهمة - كما علمت - تتطلب صحة وعافية، وقوة وسلامة؟ ". يبتلي الله بعض رسله بمرض غير منفر، ثم يعافيه من ذلك المرض الشديد؛ ليظهر فضل صبره للناس، ويتبينوا أن الأمراض الشديدة قد تعرض للرسل - عليهم السلام -، ولا يخدش ذلك في نبوتهم، بل يزدادون به من الله قرباً. ولقد جعل الله لكل رسول مقداراً من الوقت يصرفه في الدعوة، وليس بواجب على الله لا عقلاً ولا شرعاً أن يكون رسوله في صحة، وتمكُّنٍ من الدعوة من يوم بعثته إلى يوم وفاته، فإذا بعث أيوب - عليه السلام -، فدعا قومه، وبلغ الجهد في دعوتهم، ثم أصابه الله بمرض لحكمة بالغة، ثم عافاه فعاد إلى الدعوة، لم يكن هذا منافياً لاصطفائه للرسالة، ولا هو بالأمر الذي يتنافى مع الحكمة. قال صاحب المقال: "وفاتهم ثالثاً: أنهم بذلك خرجوا بشأن أيوب عن شؤون جميع الأنبياء، وجعلوه بدعاً من الرسل؛ إذ المعلوم ضرورة: أن مصاب الأنبياء والرسل، وبلاءهم الذي يألمون له، ويضرعون فيه إلى ربهم إنما هو إعراض قومهم عن دعوتهم، وعدم الاستجابة لهم، وصد الشيطان للناس عن سبيل الله؛ كما أنه من المعلوم: أن كل نبي لابد أن يصاب بتلك المصيبة؛ بشهادة قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا

إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] ". لم يخرج المفسرون بشأن أيوب عن شؤون جميع الأنبياء، ولم يجعلوه بدعاً من الرسل، وإنما فهموا الآية على ما تدل عليه ألفاظها العربية، وحملوها على معنى فيه حكمة وعبرة، وهم يعرفون أن الأنبياء - عليهم السلام - يصابون بإعراض قومهم عن دعوتهم، وأن لكل نبي عدواً من المجرمين، ولا يلزم من هذا حملُ كل آية وردت في قصة رسول على معنى إصابته بإعراض القوم، وصد الشيطان عن سبيله متى كانت صريحة، أو ظاهرة في غير هذا المعنى. وقال صاحب المقال: "وفاتهم رابعاً: أنهم بهذا التأويل قد خرجوا بالآيات عن سنن القصص التي جاء بها القرآن؛ فإنه لم يقص علينا - فيما حدثنا به عن أنبياء الله ورسله - إلا ما يتصل بأمر الرسالة، ويرتبط بسير الدعوة للعظة والعبرة، وماذا في قَصِّه علينا مرضَ أيوب من عبرة، وهو لا يحدثنا إلا بما فيه أبلغُ العبر؟ وماذا فيه من خطير الشأن، وهو لا يحدثنا إلا بحوادث ذاتِ شأن خطير؟ ". لم يخرج المفسرون بالآيات عن سننِ القصص التي جاء بها القرآن: وسننُ القصص في القرآن: أن يحدثنا عن الرسل - عليهم السلام - بما فيه حكمة أو موعظة، ولا فرق بين أن تكون هذه الحكمة أو الموعظة مرتبطة بسير الدعوة، أم راجعة إلى ناحية أخرى من نواحي الهداية، أو السعادة أو الكرامة، كما حدثنا عن يوسف - عليه السلام -: أنه أُلقي في الجب، وبيع بثمن بخس، واستعصم حيث تهيج عاصفة الشهوة، وأوتي الملك، وحدثنا عن إبراهيم - عليه السلام -: أنه أمر في المنام بذبح ابنه، فلما تلَّه للجبين،

فداه الله بذبح عظيم، وحدثنا عن يعقوب - عليه السلام -: أنه ابتلي بفقد يوسف، وحزن عليه حزناً طويلاً، وكان عاقبة تسليمه الأمر إلى الله أن التقى به في أطيب حال، وأعز مقام. فلمَ لا يحدثنا عن أيوب - عليه السلام - بأنه ابتلي بمرض شديد، وانقطاع عن الأهل، فما كان منه إلا الصبر والرضا، وكان عاقبة صبره الجميل عافية ضافية، وانتظامَ الشمل بعد تقطع. ويدرك عظمَ بلاء المرض من تقلب في الأوجاع ليالي وأياماً، ويعرف شدة مصيبة الانقطاع عن الأهل من تمزق شمله بعد اجتماع، وابتعد عمن يعز عليه بعد معاشرة وإيناس. قال صاحب المقال: "وفاتهم خامساً: أن حديث حلف أيوب، والرخصة له بالخلوص منه على ذلك الوجه أشبهُ شيء بالعبث الذي لا يليق بالمخلوق، فضلاً عن الخالق العلي الحكيم؛ إذ المعقول: أن العبد إنما يحتال للخلوص من الرب، فكيف يحتال الرب للخلوص من نفسه؟ فهو تعالى المحلوفُ به، وهو تعالى الدالُّ على الحيلة فيما يزعمون". تخيل كاتب المقال أن تفسير أهل العلم لقول الله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] يجعل الآية من قبيل دلالة الله تعالى لأيوب على حيلة للتخلص من موجب اليمين، والواقع أنهم لا يفهمونها على هذا المعنى، وإنما يفهمونها على أنها شرع حكم من الله روعي فيه جانب الرحمة بمن حلف أيوب - عليه السلام - على ضربه، فهو حكم صدر على وجه الفتوى لأيوب خاصة، أو له ولقومه عامة، وعلى كل حال، فهو شرع معناه: أن الضرب بضغث يشتمل على مئة عود - مثلاً - يحقق عند الله تعالى غرض الحالف على الضرب بمئة سوط، وهو بهذا الوجه لا يدخل في نوع الحيل

كما تخيَّل كاتب المقال. قال صاحب المقال: "وإذا كان الله قد أراد أن يعفي أيوب من يمينه، فماذا يمنعه أن يعفيه بدون تلك الحيلة، وهي منه، ومن أجله؟ ". يقول أهل العلم: إن الكفارة لم تكن مشروعة في عهد أيوب - عليه السلام -، بل لم تكن مشروعة في صدر الإسلام، وإنما شُرعت بعدُ؛ بدليل قول عائشة - رضي الله عنها -: "لم يكن أبو بكر يحنث في يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين". فالحالف في عهد أيوب - عليه السلام - ليس له إلا فعل المحلوف عليه، فأراد الله إرشاد أيوب إلى وجه أخفّ من الوجه المعروف لبرِّ يمينه، ومن الذي يستطيع أن ينكر أن الله تعالى قد يخفف بعض الواجبات المشتملة على مشقة، فيسقط بعضها، أو يقيم ما يشبهها من بعض الوجوه مقامها؟. قال كاتب المقال: "وفاتهم سادساً: أن دلالة أيوب على هذه الحيلة، وشرعَها له تقريرٌ لمبدأ المراوغة والمحاولة، وهي آفة اجتماعية، وداء خلقي يتنزه الله تعالى أن يكون ذلك من تشريعه للناس؛ إذ لا يصلح معها أيُّ عمل، سواء ما ارتبط منه بالخالق، أو ارتبط بالمخلوق؛ لأنه لا يبقى منه غير صورته، ثم يمضي خالياً من السر الذي لأجله يستتبع العمل آثاره ونتائجه". قلنا لكم: إن أيوب حلف أن يضرب بعض أهله أسواطاً معدودة، والمعروف: الضربُ بها مفرقة، فشرع الله له طريقة أخفَّ هي الضربُ بها مجموعة، وجعلها مجزئة في برِّ يمين أيوب، أو أيمان قومه عامة، وليس في هذا شيء من تعليم مبدأ المراوغة والمحاولة، وفي الضرب بالأعواد مجموعةً إيلامٌ، غيرَ أنه دون إيلام الضرب بها مفرقة، فلم يكن الضرب

بالضغث خالياً مما يستتبعه من الآثار والنتائج. قال صاحب المقال: "وفاتهم سابعاً: أن ذلك ينزل الآية عن مستوى البلاغة الذي هو في متناول البشر، فضلاً عن الإعجاز الذي يجب أن يكون للقرآن الكريم؛ فإنه ليس أضعف أسلوباً وأوهن تركيباً من كلام يتوقف معناه على ما لا يفيد سابقُه ولا لاحقُه، بل لا بد من معونة أخرى يحدثك بها غير صاحب هذا الكلام، وهم قد جعلوا معنى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44] متوقفاً على خبر أن أيوب كان قد حلف ليضربن امرأته مئة سوط". قلنا: إن القرآن ليس بكتاب تاريخ، وإنما هو كتاب إرشاد، ومأخذ عبر، فقد يسوق من القصة أشياء هي موضع عبرة، ويسلك في سوقها ضرباً من الإيجاز يعد في أساليب بلاغته المتناهية، فلما جاء في قصة أيوب - عليه السلام -: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] تبادرَ إلى الأذهان أن أيوب - كان لسبب ما - حلف أن يضرب شخصاً - ممن يباح له ضربُه تأديباً - أسواطاً معدودة، فأوحى الله إليه أن يضربه بهذه الأسواط مجموعة؛ رحمة بالمحلوف على ضربه، ولا يتوقف هذا المعنى الذي هو موضع العبرة على معرفة سبب الحلف، أو الشخص المحلوف على ضربه، أو عدد الأسواط، وما يذكره بعض المفسرين في تفصيل ذلك إنما هو توسع منهم في التفسير؛ أخذاً من روايات وصلت إليهم، يفعلون ذلك مع اعتقاد أن أخذ العبرة من الآية لا يتوقف على شيء من ذلك. * رأي كاتب المقال في تفسير الآية، ورد هذا الرأي: تأوَّل كاتب المقال قوله تعالى: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] بمعنى: إعراض الناس، واستهزائهم بالدعوة والداعين؛ فإن ذلك من عمل

الشيطان، وقال: "وما كانت شكوى الأنبياء إلا من إعراض أممهم عن الاستجابة، ولا كان حزنهم الذي كان يبلغ أحياناً حد الإهلاك للنفس إلا لبطء في سير الدعوة إلى الله تعالى، انظر إلى قوله تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]، وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6] ". لا يتم لكاتب المقال هذا الوجه من الرد على المفسرين إلا أن يصح أن الأنبياء - عليهم السلام - لا يشكون إلا من إعراض أممهم عن الاستجابة؛ كما ادعاه ذلك الكاتب، وهذه الدعوى غير صحيحة، فقد شكا يعقوب - عليه السلام -، وحزن لفقد يوسف - عليه السلام -، فقال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، وقال الله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} [يوسف: 84]. أما الآيتان اللتان ساقهما على ما يقول، فغاية ما يثبت بهما: أن الأنبياء يحزنون لإعراض الناس عن دعوتهم، وذلك ما يعرفه المفسرون، ولا يقتضي أن الأنبياء لا يشكون ولا يحزنون إلا من هذا الإعراض. قال كاتب المقال: "ولما كانت الشكوى قد تشعر بوهن في العزيمة، وضعف الثقة، وعدم القوة في السير إلى الغاية، كان جواب تلك الشكاية أن قيل له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]، فالمراد بالركض هنا: عقد العزيمة وتأكيدها، واستتمام الثقة وإكمالها، والمضاء بالقوة، وبغير تردُّد ولا توانٍ إلى الغاية". ما جاء في سورة الأنبياء يدل على أن أيوب - عليه السلام - يقصد من مناجاته الدعاء لكشف البلاء؛ فإن الله تعالى بعد أن حكى قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ

الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء: 84]. وعلى نسقه يقال: إن قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] قائم مقام آية {فَاسْتَجَبْنَا} في آية الأنبياء، وإنما يكون في معنى الإخبار بالاستجابة إذا دلَّ على حال يخرج بها أيوب من عهد البلاء إلى عهد السلامة، وهذا الحال متحقق فيما جرى عليه المفسرون من أنه أُمر بالركض، فانفجر الماء، وكان في اغتساله وشربه منه عافية وسلامة. ويؤيد أن قوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} واقع موقع الإخبار باستجابة الدعاء عطفُ قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [ص: 43] عليه، كما عطف: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء: 84] على قوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء: 84] في سورة الأنبياء. وإن سلمنا أن قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] من قبيل الشكوى، فليس من لوازم شكوى الرسول إلى الله من إعراض قومه عن دعوته أن يكون واهنَ العزيمة، ضعيفَ الثقة، عديمَ القوة في السير إلى الغاية، والشكوى إلى الله تعالى من الضر تكون مع الصبر؛ كما أن الشكوى إليه من إعراض القوم تكون مع قوة العزم، وقد شكا نوح - عليه السلام - من عدم قبول قومه للدعوة إذ قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح: 5، 6] الآيات، ولم يأت بعد هذه الشكوى ما يشير إلى وهن عزيمته، وضعف قوته، فنسبةُ رسولٍ من رسل الله إلى وهن العزيمة، وضعف الثقة، وعدم القوة في السير إلى الغاية، ليس بالأمر الهين، فلا بدَّ له من نقل ثابت صريح، ولا يكفي في إثباته مجردُ شكواه إلى الله تعالى من عدم قبول القوم لدعوته، وقولُ الله تعالى في الثناء على أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ

الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] يبعد هذا الذي نسبه إليه كاتب المقال. قال صاحب المقال مفسراً قوله تعالى: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]: "ولما كان تردد المرء في غايته، ووهن عزيمته إليها، وضعف ثقته بها، صَدَأً يغشى الأرواح، ومرضاً يتعب النفوس، ويضايق الصدور، كان عقد العزيمة واستكمال الثقة غسلاً للروح من صدئها، وشفاء للنفس من مرضها، ونقعاً لغلَّة الصدر، لذلك قال الله لرسوله أيوب: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} ". فرض كاتب المقال أن أيوب - عليه السلام - كان متردداً في إدراك الغاية من الدعوة، واهنَ العزيمة إليها، ضعيفَ الثقة بها، حتى صار هذا الحال صدأ غَشَّى روحه، ومرضاً أتعب نفسه، وضايق صدره، فرض الكاتب هذا؛ ليجعل المراد من المغتسل البارد والشراب: عقد العزيمة، واستكمال الثقة. ونحن نعلم أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وليس من شأنه أن ينحو نحو هذه الكنايات والاستعارات المتكلفة: يعبر عن تقوية العزم بالركض بالرجل، ثم يجعل الركض مغتسلاً بارداً وشراباً، دون أن ياتي بكلمة واحدة تنبه لما قصده من هذه الكناية أو الاستعارة. حمل كاتب المقال قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] على معنى: عقد العزم، وجعل اسم الإشارة في قوله تعالى: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} راجعاً إلى الركض بالرجل، وقال: "والآية - كما ترى - ليس فيها مرجع لاسم الإشارة إلا الركض المفهوم من قوله: {ارْكُضْ} المكنى به عن توثيق العزم، والأخذ بالحزم؛ كما هو مقتضى النظم الكريم المجاري لقواعد اللغة التي تأبى أن يكون لاسم الإشارة مرجع غير هذا من الماء والعين كما يقتضيه تفسير المفسرين؛ إذ ليس في النظم ما يدل عليه بأي وجه من وجوه الدلالة".

رد كاتب المقال قولَ المفسرين: إن المشار إليه هو الماء؛ بأن هذا يقتضي أن لا يكون لاسم الإشارة مرجع غير الماء، وليس في النظم ما يدل عليه، وذلك شيء تأباه قواعد اللغة. أما نحن، فنعلم أن المشار إليه هو الماء المعبّر عنه بقوله: {مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، وليس هذا الموضع من المواضع التي يحتاج فيها اسم الإشارة إلى مرجع يتقدم ذكره. ذلك أن اسم الإشارة قد يستعمل مشاراً به إلى محسوس مشاهَد للمتكلم والمخاطب، وهذا وجه استعماله الحقيقي، فتقول لمخاطبك مشيراً إلى كتاب حاضر بين أيديكما: هذا كتاب قيم، وتقول له مشيراً إلى ماء جار: هذا ماء عذب. وقد يستعمل اسم الإشارة مشاراً به إلى أمر معقول، أو غائب، واستعماله في كل من هذين المعنيين مجاز، وفي هذين الموضعين يحتاج اسم الإشارة إلى مرجع يذكر فعله؛ كأن تتحدث عن غائب الحضرة، وتقول: ذلك كتاب مفيد، أو تتحدث عن أمر معقول؛ كالحلم، والكرم، وتقول: هذا خلق شريف. ومن البيِّنِ أن اسم الإشارة في الآية مستعمل في أمر يراه المتكلم والمخاطب، وهو الماء، فلا يحتاج إلى مرجع يتقدمه كما ظن صاحب المقال. قال كاتب المقال في تأويل قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [ص: 43]: "أي: هدينا أهله، فآمنوا به، واستجابوا لدعوته، وهدينا له مثلهم من غير أهله، فليس المراد بالهبة هنا: هبة الخَلْق والإيجاد، بل

هبة الهداية والإرشاد؛ بدليل تعبيره بالأهل دون الذرية والولدان؛ كما في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53]؛ إذ كل ما يهتم له الأنبياء إنما هو أن يهدي الله بهم، لا أن يولد لهم". قد عرفت - فيما كتبناه آنفاً -: أن طائفة من المفسرين يقولون: المراد من هبة الأهل في هذه الآية، ومن إيتائهم في سورة الأنبياء: جمعُهم عليه بعد تفرق، لا إيجادهم بعد عدم، ولا إحياؤهم بعد موت، وصاحبُ المقال يفسر هبة الأهل: بهدايتهم له، فلننظر أيّ التفسيرين أقرب مأخذاً من الآية. الهبة: إعطاء الشيء بلا عوض، وهذا المعنى يتحقق في جانب الله تعالى بجمعه أهلَ الرجل عليه بعد تفرقهم، كما يتحقق في إيجاد أهلٍ لمن لم يكن له أهلٌ، فحملُ الهبة على الجمع بعد التفرق حملٌ للفظ على معنى قريب من الذهن، أما الهداية، فمعنى زائد على ما يفهم من لفظ الهبة، وإنما يصرف اللفظ عن المعنى المتبادر متى وجد المقتضى لهذا الصرف، ولا مقتضى لصرف الهبة عن الجمع بعد التفرق إلى معنى الهداية فيما نعلم. أما قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} , فإن الهبة هنا على معنى: جعله مؤازراً له في الدعوة، وفُهم هذا المعنى من دليل آخر، وهو قول موسى - عليه السلام -: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 29 - 31]، ومن قوله تعالى في الآية نفسها: {نَبِيًّا}؛ فإن هبة النَّبيِّ إلى أخيه النبي ظاهرة في معنى التآزر على الدعوة إلى الحق. يقول كاتب المقال: "إذ كل ما يهتم له الأنبياء إنما هو أن يهدي الله بهم، لا أن يولد لهم". إذا كان القصد من قصة أيوب - عليه السلام - الاعتبارُ بصبره على ما أصابه

من البلاء، ثم التذكيرُ بأن عاقبة الصبر فَرَجٌ بعد شدة، وسَعَة بعد ضيق، وسلامة بعد مرض، فأي بُعد في أن يقص الله على خاتم أنبيائه والذين آمنوا معه أن أيوب - عليه السلام - ابتلي بشدة من المرض، ووحشة من ابتعاد الأهل، فتلقى المصيبتين بسكينة، وأقام عليهما في صبر جميل، فكان عاقبة صبره وسكونه تحت سلطان القضاء أَنْ بدَّله بالمرض صحة، وبتفرق شمل أهله جمعاً. وإن كلاً من الشفاء بعد السقم، وملاقاة الأهل بعد التفرقة، لنعمةٌ كبيرة يقدرها من قاسى الأمراض حيناً من الدهر، وتجرع مرارة الابتعاد عمن يعز عليه من الأهل. ثم إن في الخلاص من المرض، والتمتع بالصحة قوةً على النهوض بأعباء رسالته، كما أن لخروج الداعي، وهو محفوف بأمة نبيلة من عشيرته الأقربين أثراً كبيراً في نجاح دعوته. يهتم الأنبياء - عليهم السلام - لأن يهدي الله بهم، ونتيقن أن معظم اهتمامهم موجه إلى هذه الغاية، ولكنهم يقدرون نعماً أخرى فلا يفوتها أن تأخذ حظاً من اهتمامهم؛ فقد أثنى إبراهيم - عليه السلام - على الله تعالى بما يهب له من نعمة الشفاء بعد المرض، فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما حضرت ابنَه إبراهيمَ - عليه السلام - الوفاةُ: "وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" (¬1)، ومن يحزن لفراق ولد أو أهل، فشأنه أن يهتم لوجودهم، ويعد هبتهم له نعمة يجب أن تقابل بالشكر. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري".

ذكر كاتب المقال: أن الخطة التي رسمها الله لجميع أنبيائه: اللين والرفق في الدعوة، وخرج من هذا إلى تفسير قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، فقال: "أي: لا ترفع في وجوه قومك رمحاً ولا عصًا، ولا تُعلظ لهم في القول، ولا تخاشنهم في الطلب، بل لَوِّح في وجوههم بالرياحين والأزهار، ولا تأثم بالغلطة والجفوة". هكذا يقول صاحب المقال، ويقول زعيم طائفة القاديانية الضالة عن السبيل محمد علي في تعليقه على ترجمته للقرآن الكريم إلى اللغة الانجليزية: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا}: القرينة تدل على أن المقصود من ذلك أعداؤه، والمراد من أخذ الضغث والضرب بها: معاملتهم باللين والرفق. أما أبو زيد الدمنهوري صاحبُ ذلك التفسير المنبوذ (¬1)، فقال في تأويل الآية: إن أيوب كان في سفر مسه منه تعب ومشقة، وكان محتاجاً إلى الماء، وقوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} يفيد أنه كان في حاجة إلى عمل يعيش به. والضغث: هو المجموعة من خليط من الحطب أو الحشيش أو غيره، يعني: خذ بيدك شيئاً من هذا ليكون بضاعة". وقد أخذ أبو زيد صدر تأويله هذا من زعيم القاديانية؛ فإنه قال في ذلك التعليق: إن التعب والعذاب اللذين أدركا أيوب أتيا - فيما يظهر - من رحلته في صحراء حصل له فيها عطش شديد. ولنعد إلى البحث في آراء صاحب المقال، فنقول: إنه سلك بتأويل هذه القصة مسلك من لا يرعى لحسن البيان حقاً، ولا للذوق العربي عهداً، فيحمل آيات من القرآن الحكيم متتابعات على كنايات واستعارات لا تدخل ¬

_ (¬1) راجع بحثه: "كتاب يهذي في تأويل القرآن المجيد" في هذا الكتاب.

إلى الآذان إلا كرهاً: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] مراد منه: توثيق العزم، {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] مراد منه: ذلك الركض، {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ} [ص: 43]: هديناهم له، {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] معناه: لوّح إليهم بالرياحين والأزهار. والحق أن القرآن لا يأتي هذا التعقيد، ولا ينحو في بيانه هذا النحو، ولا تجد في آياته سلسلة كنايات واستعارات تبقى معانيها الأصلية محجوبة عن البلغاء كمعاني هذه الآيات في رأي كاتب ذلك المقال.

الرد الثاني

قصة أيوب - عليه السلام - الرد الثاني (¬1) كان أحد أهل العلم قد قام بحركة نقد غير معتدل، وجَّهه نحو المفسرين، ووقع في يدي المقال الثاني من مظاهر هذه الحركة، فلقيتني فيه آراء ناشزة، ووجدت صاحبه ينادي في آخره بأنه سيتمادى في هذا الشأن، فرأيت أن أنبه طلاب العلم لما في هذه الآراء من نشوز، ورجوت أن يتنبه صاحب المقال للانحراف الذي أخذ قلمه في بعض الجمل، فيسلك مسلك الاعتدال فيما يكتبه بعدُ في تقصير المفسرين. اطِّلع صاحب المقال على ما كتبته، ونشُر في مجلتي "الفتح"، و"الهداية الإسلامية"، فكتب يحاول الرد عليَّ في مقال نشره في إحدى المجلات التي تصدر في القاهرة، فقرأت هذا المقال، فألفيته قد أعاد ذكر تلك الآراء، وأضاف إليها أخوات، فرأيتني مضطراً لأن أعلق على هذا المقال أيضاً جملاً تُنبه لما بينه وبين المنطق الصحيح من مجافاة. افتتح صاحب المقال رده بكلمات عبر بها عن إخلاصه فيما كتب، ثم قال: "ولا أدل على أني كنت كتبت ما كتبت مخلصاً: أن مقالي لم أحاول ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد السابع الصادر في جمادى الثانية 1354 هـ.

فيه إلا غاية واحدة، هي المحافظة على قدس الأنبياء، والإعلاء من شأن الأنبياء بمقدار ما يوجب لهم الإسلام". لا يدل نقد الآراء على أن الناقد يتهم صاحبها بعدم الإخلاص، وإخلاصُ صاحب الرأي لا يمنع من نقد الرأي نفسِه إذا لم يكن واضحَ الدليل، وفيما قاله المحققون من المفسرين في تفسير قصة أيوب - عليه السلام - محافظة على قدس الأنبياء - عليهم السلام -، والإعلاء من شأنهم بمقدار ما يوجب الإسلام. حكى صاحب المقال في رده قولي: "وقد وقفت في هذا المقال على آراء لا تدخل تحت قوانين المنطق، ولا تقبلها بلاغة القرآن، فأردت تنبيه طلاب العلم لما في تلك الآراء من نشوز حتى يكونوا على بينة من أمرها"، ثم قال: "أما غيرة الكاتب - يعنيني - على الطلاب، فكان من حقها أن تكون في حمايتهم من الوقوع في خرافات قد تصادم القطعيَّ من الدين، أو تزلزل أصلاً من أصوله، أو تشوه جمالَ الإسلام، أما حمايتُهم من خطأ في قانون منطقي أو بلاغي، فذلك أمر يسيرٌ ما دام لا يُفضي بهم إلى باطل من الدين". حق طلاب العلم علينا أن نحميهم من الوقوع في خرافات تصادم المعلوم من الدين، أصلاً كان أم فرعاً، وحقهم علينا أن نحميهم من آراء نخشى أن تفضي بهم إلى الغفلة عن شيء من حقائقه، وإن صدرت عن إخلاص، وحملُ آياتٍ من الكتاب الحكيم على معانٍ تجعلها بمعزل عن البلاغة لم يكن بالأمر اليسير الذي تصرف عنه الأنظار، وكم من باطل لهج به النّاس، وهو لم ينحدر إلا من تأويل القرآن على خلاف مالا تقتضيه

قوانين البلاغة العربية!. قال صاحب المقال في رده: "فيجب أن تدعهم - أي: طلاب العلم - في هذا لتفكيرهم وتقديرهم، ولهم بعدُ ما تسيغه عقولهم في حدود ما جعله الإسلام للأنبياء من تعظيم وتكريم". لا أدري من أوجب علىَّ أن أدع آراء يُفسر بها القرآن، وهي - فيما أرى - خارجةٌ عن قانون المنطق أو البلاغة، وأكتفي في ذلك بتفكير طلاب العلم وتقديرهم، وكلٌّ من الشرع والعقل لا يوجب شيئاً من ذلك، أما الشرع، فالآيات الواردة في الإرشاد إلى الحق كثيرة جلية. وأما العقل، فإن السكوت عما يخالف المنطق والبلاغة يفضي إلى اختلال نظم العلم، ولو قبل النّاس هذا الذي أشار به صاحب المقال عليَّ، واتخذوه قاعدة يسيرون عليها في حياتهم العلمية، لامتلأت الدنيا بصيحات الباطل، وشغلت هذه الصيحات من الآذان مواضع أكثر مما تشغله اليوم. قال صاحب المقال في رده: "فما دعا الأستاذَ أن يكتب تلك العبارة، وهي لا تكتب إلا حين يكون في المقال خطر ديني شارفَ أن يلتهم الطلاب، وليس في المسلمين غيور سواه". لم نصف آراء صاحب المقال إلا بأن فيها نشوزاً، ونشوزُها تجافيها عن قانون العلم، وإذا عنينا بجانب طلاب العلم، فلأن في الطلاب من يفتح أذنه لكل رأي يقال فيه: إنه جديد، ولا يزهد فيه إلا حين يرى أن غيره أثبتُ أصلاً، وأقوى بينةً، فتلك العبارة تقال والطلاب في حصن منيع من كل خطر ديني، ويكتبها الكاتب ولو كان في المسلمين آلاف من أهل الغيرة سواه. ولا نكتم صاحب المقال أن نزعته في التفسير، والنماذج التي قدمها،

ووعد بأنه سيذهب ويجيء في أمثالها، يشعران بخطر ديني إن أطلق له العنان، يقلبْ كثيراً من الحقائق، وإن كان صاحب تلك النزعة وأولئك النماذج مخلصاً. قال صاحب المقال في رده: "ومن ذا الذي أحلَّ الكاتب هذه المنزلةَ حتى يكون هو من دون رجال العلم حاملَ لواء الطلاب؟ اللهم إنها شنشنة أعرفها من أخذم، وقد عرفها اليوم من الكاتب وأمثاله كثير من النّاس". تنبيه طلاب العلم لنشوز بعض الآراء منزلةٌ يحلُّها كلُّ من يرى أن بيده حجةً، وليس في هذا التنبيه معنى حمل لوائهم، وإنما هي الصلة التي تكون بين الآباء والأبناء، وهذه الصلة وحدها تدعونا إلى أن نعرض عليهم ما ينشر في الصحف من الآراء المتصلة بالدين، ونحدثهم عنها بصراحة. وأما قول صاحب المقال: "اللهم إنها شنشنة ... إلخ"، فذلك ما ندعه لتفكير القراء وتقديرهم. كان صاحب المقال قد ذكر في حديثه عن المفسرين: "أنهم كثيراً ما يكتفون بذكر إسرائيليات ليس لها سند صحيح أصلاً". فعلقنا على هذا: أن في المحققين من المفسرين من لا يعِّولون على الروايات الإسرائيليات، ويردُّونها في غير هوادة، وسقنا كلام أبي بكر بن العربي في "قانون التأويل" شاهداً على ذلك، فقال صاحب المقال في رده: "نقول للكاتب: هذا ما نحمد الله عليه إذ وافقَنا في أن بعض المفسرين جاؤوا في قصة أيوب بروايات غير صحيحة؛ فإنا لم نأخذ على المفسرين أكثر من هذا". لم يكن تعليقنا على عبارته الأولى واقعاً في غير موضع؛ فإنه كان

يتحدث عن المفسرين من غير استثناء، فدفعنا بذلك التعليق ما يسبق إلى بعض الأذهان من أن جميع المفسرين يستندون في التفسير إلى الإسرائيليات، ولو لم ينازع المفسرين إلا في روايات غير صحيحة، لما تحرك قلم للرد عليه. قال صاحب المقال: "ووافقنا الكاتب كذلك في أن المفسرين قد استندوا في تفسير القصة إلى إسرائيليات لم تصح، ولا يمكن تصحيحها". الذي كتبته: أن أصل المعنى الذي اتفق عليه المفسرون في تفسير قصة أيوب - عليه السلام - لا يستند إلى إسرائيليات، والروايات الإسرائيليات التي يذكرها بعض المفسرين لا يتوقف عليها هذا المعنى الأصلي، وهذا أبو بكر ابن العربي الذي قال في الإسرائيليات ما قال، لا يخالف المفسرين في أصل تفسير القصة في أن أيوب - عليه السلام - ابتلي بمرض، وأنه أُمر بضرب رجله، فنبع ماء أُمر بالاغتسال والشرب منه، وأنه أمر بالضرب بضغث، فبرَّت يمينه بذلك. ذكر صاحب المقال أني وافقته في أن المفسرين استندوا في تفسير القصة إلى إسرائيليات، وقال: "وإذا تم هذا، فنحن نسائل الكاتب: هل الآية قطعية في هذا المعنى الذي فسرها به المفسرون؟ أو الكاتب يوافقني على أن الآية ليست قطعية في هذا المعنى، بل تحتمل معنى آخر؟ ". أصل البحث: أن صاحب المقال يدَّعي أن ما قاله المفسرون لا يُفهم من الآية، وأنه يستحيل أن يكون مقصوداً من الآية؛ لأنه جعل بعضه من نسبة العبث إلى الله تعالى، وجعل بعضه يفضي إلى أن الله تعالى يحتال لنفسه بنفسه، إلى آخر الوجوه التي حام بها حول ما قاله المفسرون.

فصاحب المقال يقول: إن ما قاله المفسرون باطل قطعاً، وإن آراءه هي المرادة من الآية، وكنا عندما رددنا عليه دعواه هذه، ذكرنا أن ما قاله المفسرون صحيح، مع صرف النظر عن كل رواية إسرائيلية، وأن ما أوّل به هو الآية مخالف لظاهر القرآن، وغير مراعًى فيه حسن البيان الذي يتم به وجه إعجاز القرآن. فيكفي في صحة المعنى الذي يقوله المفسرون: أن لا يخالفه ظاهرُ القرآن، ولا يقوم دليل صادق على بطلانه. قال صاحب المقال في رده: "وإذا كان الأمر كذلك - أي: لم يكن ما فسر به المفسرون قطعياً -، فللناظر في الآية أن يفسرها بمعنى غير هذا المعنى ما دام قد وجدت لديه مرجحات". لم ننكر على الكاتب مجرد مخالفته للمفسرين، ولم نقل له: كيف تترك ما قاله المفسرون، وتأتي بآراء تخالفه؟ فإنا نقدر حرية النظر، ونقدر ما تأتي به من ثمر في العلم، وإنما موضع البحث في: أن ما قاله المفسرون هل هو معنى صحيح، أو غير صحيح؟ وأن آراء صاحب المقال هل هي معقولة، أو غير معقولة؟. عاد صاحب المقال فحكى في رده ما سقناه من أن في محققي المفسرين من يأبى الرجوع إلى الإسرائيليات؛ كابن العربي، ثم قال: "ونقول للكاتب: إنه على هذا يكون فاتني أن أستثني أبا بكر مما أخذته على المفسرين، وقد يكون في عبارتي ما يصح أن يُعفي ابنَ العربي من هذا الحكم؛ فإني قلت: كثيراً ما يكتفون، ولم أقل: هم دائماً يكتفون". كان لصاحب المقال مخرج في أن يقول: أردت من المفسرين ما عدا

أبا بكر بن العربي، أو أن أداة التعريف في قوله: "أن المفسرين كثيراً" للجنس، لا للاستغراق، وأما أنه قال: "كثيراً"، ولم يقل: "دائماً"، فذلك ما لا يفيده شيئاً؛ لأن الكثرة هنا أو الدوام مما يرجع إلى جهة القضية، والمعنى: أن المفسرين يكتفون في كثير من الأوقات بذكر الإسرائيليات، لا دائماً، وكثرة وقوع المحمول الذي هو الاكتفاء دون دوامه، لا أثر لها في نقص أفراد معنى الموضوع الذي هو كلمة "المفسرين"، فدوام النسبة لا يجعل القضية كلية، كما أن عدم دوامها لا يجعلها جزئية. حكى صاحب المقال في رده ما نقلناه عن ابن العربي من إنكار الاستناد إلى الإسرائيليات، ثم قال: "ونقول للكاتب: إذا كان هذا ما قاله ابن العربي فيما قاله المفسرون في تفسير قصة أيوب، فما له لم يوجه الرد الذي كتبه إلى ابن العربي بدل أن يوجهه إليَّ، وأنا لم أقل أكثر من هذا؟ ". لا أدري ماذا أرد على ابن العربي، وهو لم يزد على أن أنكر التعلق بالإسرائيليات، وهذا الإنكار حق، ولكن صاحب المقال يخيِّل إلى القراء: أني أخالف في إنكار التعلق بالإسرائيليات، وموضع الرد على صاحب المقال شيء آخر قاله هو، ولم يقله ابن العربي، وهو تلك الوجوه التي أثارها حول المعنى الذي اتفق عليه المفسرون، وتلك الآراء التي ساقها على أنها تفسير للقصة. ثم قال صاحب المقال في رده: "اللهم إنك تعلم ما في نفسي، وتعلم ما في نفس هذا الكاتب، فإني أَكِلُ أَمْرَ جزائه إليك، فأنت العليم بذات الصدور". دعوةٌ صالحة نرجو من الله قبولها، ونسأل الله تعالى أن يهدي صاحبَ

المقال إلى الطريقة المرضية في تفسير كتابه المجيد. ثم قال صاحب المقال في رده: "يا هذا الكاتب! إذا كان ما جاء في قصة أيوب بعضُه باطل، وبعضه بعيد، وبعضه يفتقر إلى نقل، فماذا بقي بعد هذا؟ ". بقي بعد هذا ظاهرُ القرآن؛ فإنه موافق للمعنى الذي عرف منذ عهد الصحابة والتابعين، ولم يخالف فيه، حتى العلماء الذين ينكرون الإسناد إلى الإسرائيليات أشدَّ النكير. ثم قال صاحب المقال في رده: "وهل يكون من فهم في الآية معنى غير هذا المعنى الذي لم يستند إلا إلى إسرائيليات لم تصح، يكون قد خالف قوانين المنطق، وقال قولاً لم تتقبله بلاغة القرآن؟ أو يكون ذلك منك زعماً دفعتك إليه أغراض وغايات؟ ". خالف صاحب المقال قوانين المنطق والبلاغة في الوجوه التي ادعى أنها تبطل أصل ما قاله المفسرون، وخالفهما في حمل آيات القصة على معان تجعل القرآن في ناحية، وحسنَ البيان في ناحية أخرى، وليس هناك أغراض وغايات إلا أن الله تعالى يقول: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3]. ذكرنا في مقالنا السابق: أن صاحب المقال ربما اقتصر في حكاية أقوال المفسرين على أقوال يراها أبعدَ من المعقول، ويهمل أقوالاً هي أقربُ إلى ظاهر الآية، ونبهنا على ما أردنا من ذلك، فقام في رده يدافع عن ذلك الصنيع. من ذلك: أنه كان قد نقل أن "المفسرين قد فسروا النصب والعذاب في الآية بداء أصاب أيوب قد فعل به الأفاعيل، وبرح بجسمه أيَّ تبريح،

حتى نفر الناس منه، وحتى عجز عن الحركة، فلا ينتقل من مكان إلى مكان إلا أن يحمله حامل". فنبهنا إلى أن حق صاحب المقال أن ينقل ما قاله بعض المحققين من أن مرض أيوب - عليه السلام - لم يكن من الأمراض المنفرة المستقذرة، وما زاد صاحب المقال في دفاع هذا على أن قال: "إن البعض الذي اقتصر على كونه مرضاً فحسب، لا يمكنه أن ينكر أن أيوب قد شكا منه كما حدثنا القرآن، فلا بد أن يكون مرضاً غير عادي، حتى يضج منه نبي من الأنبياء". هو مرض غير عادي، ولكنه غير منفر، وفَرقٌ بين أن يكون المرض شديداً في نفسه، وبين أن يكون منفراً، فالأول يصيب به الله تعالى الأنبياء - عليهم السلام - لمضاعفة أجرهم؛ كما وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه؛ فإنه كان يوعَك وعكاً شديداً، حتى قالت عائشة - رضي الله عنها - ما رأيت أحداً أشدَّ عليه الوجعُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال - عليه الصلاة والسلام -: "إني أُوعَك كما يوعَك رجلانِ منكم"، وأما المرض المنفر، فذلك ما نعتقد أن الله تعالى لا يصيب به أنبياءه - عليهم السلام -. وكان صاحب المقال قد حكى في مقاله عن المفسرين: أنهم يقولون في تفسير قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]: الآية أن أيوب أُمر من ربه بوساطة جبريل أن يضرب برجله الأرض، فضرب بها كما أمر، فنبع عينان ... إلخ. فنبهنا على أن صاحب المقال أهمل ذكر قول المحققين من المفسرين، وهو: أن الذي نبع عين واحدة، فقال صاحب المقال في رده: "وهل كون النابع عيناً أو عينين مما له أيُّ مدخل - عن قرب أو عن بعد - في أن يكون

تمهيداً لقبول ما قلته عن تفسير الآية؟! ". من البين أن القول الذي أهمله هو ظاهر القرآن؛ إذ المشار إليه في الآية واحد، فلماذا ترك صاحب المقال هذا القول الذي هو ظاهر القرآن، ونقل القول الآخر الذي لا يُقبل إلا إذا ثبتت به رواية؟!. كان صاحب المقال قد حكى عن المفسرين: أنهم يقولون في تفسير قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [ص: 43]: إن الله أحيا له أولاده الذين كان قد أماتهم، وولد له مثلهم، فنبهنا على أن من المفسرين من ذهب إلى أن هبة الأهل في الآية بمعنى: جمعهم بعد تفرق، وفهمُ هذا من الآية أقربُ من حملها على معنى إحيائهم بعد إماتتهم، فقال صاحب المقال في رده: "إذا كنت قد تركت من أقوالهم هذا القول، فإني لم أكن في تركه إلا ضد نفسي؛ لأن هذا المعنى إن لم يكن هو ما قلته في تفسير الآية، فهو قريب منه، أو هو مصحح لما فهمته في الآية؛ لأني قد فهمت في هبة الأهل هدايةَ الله لهم بدعوة أيوب، وإنذاره إياهم، وهم إذا استجابوا لدعوة أيوب، فقد اجتمعوا عليه بعد تفرق". إذا كان يرى أن ما فهمه من الآية هو الصواب، أفلا يكون من الإنصاف للمفسرين أن ينقل عنهم ما كان قريباً من هذا الصواب، أو مصححاً له، ولا يقتصر في حكاية آرائهم على ما كان بعيداً من هذا الصواب، أو مناقضاً له؟. كان صاحب المقال قدِ حكى ما قاله المفسرون في قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، وقال: "ثم يزيدون على ذلك: أن هذه رخصة باقية إلى اليوم؛ بشرط أن يصيب كل أعواد الحزمة جسم المضروب".

ولما كان صاحب المقال يحكي أقوال المفسرين حكايةَ مَن ينكرها، ويحاول تقويضها، وحكى عنهم بإطلاق: أن الرخصة باقية إلى اليوم، نبهنا أن هناك قولاً آخر، وهو أن الآية شَرْعٌ خاص بأيوب - عليه السلام -، وأشرنا إلى أن كلاً من القولين مبني على وجه من النظر؛ لنهيئ القارئ لرفض ما سيقوله صاحب المقال في رد المعنى الذي قاله المفسرون، ولكن صاحب المقال أبى إلا أن يكتب، فقال: "وأقول لهذا الكاتب: ما هذا العبث؟ (كذا)، وهل أنا حين كنت أكتب كنت بصدد تلك المذاهب، حتى إذا اقتصرت على نقاء مذهب من مذاهبهم، ترد عليَّ بأن هناك مذهباً آخر للفقهاء؟ ". غفل صاحب المقال عن أنه نسب القول الذي ذكره للمفسرين، لا للفقهاء؛ فإنه قال: "ويزيدون"؛ يعني: المفسرين، ولينظر ما هو السبب في ذكر هذا القول، ونسبته إليهم دون غيره؛ فإنه لا يريد إفادة القراء بذكر ما ذكره قطعاً؛ لأنه قول مبني على تفسير باطل في نظره، والمبني على الباطل باطل، ولا نستطيع أن نقول: لم يكن يعلم حالَ الكتابة إلا القولَ الذي ذكره؛ فإن قوله: "حتى إذا اقتصرت على نقل مذهب من مذاهبهم" يشعر بأنه كان مطلعاً على هذه المذاهب. ثم قال صاحب المقال: "اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، لو أنه الإخلاص يدفع الكاتب، لما وجدت في كتابته ما هو أبعد شيء عن الموضوع، ولما حاد به الغرض عن الجادة". نترك التعليق على هذا لتفكير القراء وتقديرهم. وكان صاحب المقال قد أورد على المعنى الذي اتفق عليه المفسرون وجوهاً ظهر له أنها تبطل ذلك المعنى قطعاً، فنقدنا تلك الوجوه وجهاً فوجهاً،

فذهبت من بين أيدينا هباء، فقام صاحب المقال يحاول في رده أن يعيد تلك الوجوه بعد ذهابها. كان صاحب المقال قد قال: "ولم يدروا - أي: المفسرين -: أنه قد فاتهم أولاً: أن المقصود من أن يقص الله تعالى حال الرسل على خاتم أنبيائه - صلى الله عليه وسلم - إنما هو الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله، وما احتملوه من أذى وبلاء في طريق الدعوة إلى الله، {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]. ولا يخفى على من درس مبادئ اللغة العربية: أن عبارته تفيد حصر القصد من قصص الرسل - عليهم السلام - في الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله، وما احتملوه من أذى وبلاء في طريق الدعوة، فقلنا له في ردنا: إن الله تعالى قد قص على خاتم أنبيائه - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الرسل - عليهم السلام - ما لا يرجع إلى ما أصابهم في سبيل الله من أذى، وقلنا: إن الله تعالى يذكِّر رسوله - صلوات الله عليه - بما كان للرسل - عليهم السلام - من خلق عظيم، أو عمل خطير، أو حكمة بالغة، أو منزلة سامية، أوآية بيّنة، أو حكم عملي، وقلنا: إن الآية التي سقتها لا تشهد بأن قصص الأنبياء لا يقصد منها إلا الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله؛ فإن تثبيت الفؤاد زيادة يقينه، وهذا قد يأتي من ناحية غير ناحية أنباء ما أصابهم في سبيل الله من أذى. كتب صاحب المقال يحاول رد هذا، فقال: "إن ذكر الرسول بخلق عظيم، أو عمل خطير، أو حكمة بالغة، أو منزلة سامية، هذا لا يحدث به القرآن عن نبي من الأنبياء إلا في طريق الحديث عن دعوتهم، وما كان منهم مع قومهم"، ثم تحدث بحديث في شكل قاعدة هو: أن القرآن إن حدَّث عن

نبي من الأنبياء بخلق أو عمل أو حكمة أو منزلة، دون أن يذكر من أمر دعوته شيئاً، فُهم أن ذلك الخلق لا يتصل إلا بأمر دعوته. هل يكفي صاحبَ المقال في التخلص من الآيات الواردة في خلق عظيم، أو حكمة بالغة، أو منزلة سامية أن يكون لذلك الخلق أو الحكمة المنزلة صلةٌ بالدعوة؟ وأنّى له ذلك وهو يقول على وجه الحصر: "إن المقصود من القصص إنما هو الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله، وما احتملوه من أذى وبلاء في طريق الدعوة"، وليس كل ما يتصل بالدعوة فيه اعتبار بما أصاب في سبيلها!. ثم إننا نرى القرآن قد يصف بعض الرسل بخصال لا صلة لها بالدعوة، ولا بما يلاقيه الرسول في سبيلها؛ كما قال الله تعالى في حق يحيى - عليه السلام -: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14] , وبرُّ الوالدين عمل صالح يقوم به الرسول وغيرُ الرسول من النّاس الطيبين، وواجب على من تكون له دعوة، ومن لم تكن له دعوة. وحاول أن يجيب عن الآيات الواردة في المعجزات والأحكام، فلم يزد كذلك على أن قال: "إنها تتصل بأمر الدعوة"، ولو قال: إني ذهلت في استعمال صيغة الحصر إذ قلت: "إنما هو الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله"، أو نسيت أن صيغة "إنما هو" تفيد الحصر، لقلنا: كلنا يذهل، وكلنا ينسى، ولكنه قال ذلك، وزاد عليه قوله: " فليس للكاتب حق أن يذكر مثل هذا إلا أن يكون ممن يريد المغالطة؛ ليشوه آراء قد لا يحب لأشخاص أصحابها أن يكون لهم رأي جميل"، وعذره في هذا المزيد: أنه حريص على أن يكون رأيه في التفسير نافذاً.

قال صاحب المقال في رده: "وهو حين يحدث عن أمر أيوب، إنما يحدث الرسول الكريم؛ ليثبت فؤاده، وماذا في أمر المرض والصبر عليه من تثبت فؤاد الرسول، ذلك الفؤاد الذي لا يتزلزل إذا تزلزلت الجبال، فهو الذي يقول: "والله! يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما فعلت حتى يُظهره الله، أو أهلك دونه"؛ إذ مقتضى هذا أن فؤاد الرسول إنما يهتز أو يخف ثباته لأخطر الشؤون وأكبرها بما لا يعزّي فيه حديث عن مرض". إن كان صاحب المقال يجري في بحثه على أن معنى آية: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} [هود: 120]: أن كل ما نقصه عليك من أنباء الرسل هو ما نثبت به فؤادك حين يهتز لأمر خطير، أو تدركه خفة، فمن أنباء الرسل - عليهم السلام - ما لو نظرت إليه وحده، وجدت له حكمة غير تثبيت الفؤاد حالَ اهتزازه لأمر خطير؛ كالآيات المسوقة للثناء عليهم ببعض الأعمال الصالحة؛ نحو: صدق الوعد، وبر الوالدين، والآيات المشتملة على بعض أحكام شرعية. ونحن نرى ما يراه أهل العلم من أن المراد من تثبيت الفؤاد: يقينه واطمئنانه، واليقين والاطمئنان يزدادان بكل نبأ يقصه الله تعالى من أنباء الرسل على اختلاف أنواعها، وتباين مقاصدها، وكلما ازدادت النفس من عند الله علماً، ازداد يقين صاحبها ضياء، فازداد فؤاده ثباتاً وسكينة. قال صاحب المقال: "وإنه ليعد نابياً عن مكان التأسي من يجيء لقائد من القواد قد كان في عَدد وعُدد، فاندحر جيشه، وأسر القائد، واحتُلت العاصمة، وثُل العرش، وديس التاج، فيقول لذلك القائد المأسور: لا تحزن؛ فإن بستان فلان قد اجتاحته آفة، أو فلان قد مات له اليوم ولد".

أتى صاحب المقال إلى قائد اندحر جيشه، ووقع في يد العدو أسيراً، واحتلت العاصمة، وثل العرش وديس تاج الجالس عليه، وجعل ذلك مثلَ حال رسول - صلى الله عليه وسلم - كما أتى إلى رجل اجتاحت بعضُ الآفات بستانه، أو مات له ولد، وجعل حاله بمنزلة قصة أيوب - عليه السلام - بحسب المعنى الذي يقوله المفسرون، وقد وجد هذا المثل في ذوق صاحب المقال مساغاً، فعززه بآخر، وقال في الصفحة بعد: "يكون مثل القرآن في قَصِّ شأنِ أيوب على الرسول، مع أن معنى الآية ما يقوله المفسرون، كمثل من يقول لملك أنزل عن عرشه، واندحر جيشه، واحتلت عاصمته: تعزّ؛ فإن فلاناً قد مات ولده، أو إن فلاناً قد خسر في تجارته. ينبغي لضارب الأمثال أن يأتي بالمثل مطابقاً لحال من يسوق من أجله المثل، وحالُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيدة من هذين المثلين بُعدَ النور من الظلام، ومن العجب أن يضرب حال القائد المأسور مثلاً لحال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقول: "بالله عليك أيها الكاتب! لا تصغِّر من شأن الأنبياء، ولا تحقر من جلالة القرآن". ولا أدري كيف صغرَّتُ من شأن الأنبياء - عليهم السلام -، أو حقَّرتُ من جلال القرآن، وأنا لم أزد على أن قلت: إن المعنى الذي تتابَعَ عليه المفسرون من عهد الصحابة والتابعين، معنى يشهد له ظاهر القرآن. وهل يريد صاحب المقال أن كل من رأى أن أيوب - عليه السلام - أُصيب بمرض، فصبر، فعافاه الله، يكون مصغراً من شأن الأنبياء، محقراً لجلال القرآن؟!. وكان صاحب المقال قد أورد على المعنى الذي يقوله المفسرون: أن

القصة تكون خالية من العبرة، وقال: "وماذا عسى أن يكون من العبرة في أن يقص الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: أنه اصطفى أيوب لرسالته، ثم أمرضه، فأعجزه عن القيام بأعباء الرسالة، وما تتطلبه الدعوة من قول وعمل؟ ". فنبهنا على أن في ذلك عبرةً أيَّ عبرة، هي: أن رسولاً من كرم الرسل يكون في نعمة من صحة الجسم، وانتظام الشمل، فيصاب بالمرض، والانقطاع عن الأهل، ويتلقى هذا المصاب بالصبر الجميل، حتى إنه لم يصرح بالدعاء إلا تعريضاً إذْ قال: ربِّ! {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، ثم إن هذا النبأ يقوي يقينه - صلى الله عليه وسلم - بأن شدة البلاء قد تنزل حيث يكون رضاء الله عظيماً، والمقام عنده رفيعاً. فقام صاحب المقال يفتش عن شيء يعلقه في رده على هذا الذي قلناه، فجاء برأي يدعو إلى التعجب، كما يدعو إليه نفيه العبرة من القصة على الوجه الذي ذكره المفسرون، ذلك أنه صدَّر تعليقه بإنكار أن يكون قاصداً تهوينَ المصيبة على المعنى المذكور في التفسير حتى قال: "ولو كان الكاتب يريد إحقاقَ حق، لما انزلق عن الموضوع إلى الكتابة في شيء لم يكن من غايتي حين كتبت، ثم قال: "ولتكن المصيبة على هذا الوجه من أعظم المصائب، ولكنها لم تكن بعد ذلك كله مما يمتاز به الرسل. فكم من أناس لم يكونوا رسلاً، وكانوا صالحين، وكانوا في مثل ما كان فيه أيوب من نعمة، ثم أصيبوا بمثل ما أُصيب أيوب - على ما زعمه المفسرون - ثم لم يكن منهم إلا الصبر الجميل! ". وقد عرف القراء أن صاحب المقال أنكر أن يكون في القصة على تفسير ما أصاب أيوب - عليه السلام - من المرض عبرةٌ، فذكرنا أن في ذلك عبرة،

وتركنا الرد عليه في قوله: "فأعجزه عن القيام بأعباء الرسالة" إلى الكلام في دفع شبهته الثانية؛ لأنها واردة بهذا المعنى نفسه. وأي حرج على الكاتب إذا وصف مرض أيوب - عليه السلام - بالشدة، وهو يقرر موضع العبرة التي نفاها صاحب المقال، ما دام الكاتب لم يقل له: إنك قد جعلت في هذا المقام أمر المرض هيناً، وهو عظيم؟. ثم ما هو الدليل على أن الله تعالى لا يذكر الرسل - عليهم السلام - إلا بما كان من مميزاتهم، ونحن نرى أن الله تعالى يمدحهم بأخلاق سنية، أو أعمال زكية، يشاركهم فيها غيرهم من الصالحين، ولكن سناء أخلاقهم فوق كل سناء، وفضل أعمالهم فوق كل فضل، فقد مدح الله تعالى إسماعيل - عليه السلام - بأنه صادق الوعد، ومدح يحيى - عليه السلام - بأنه برٌّ بوالديه، وفي الصالحين صدقُ الوعد، وفيهم البرُّ بالوالدين، فلماذا لا يذكر الله تعالى أيوب - عليه السلام - بالصبر على بلاء المرض، والانقطاع عن الأهل، وإن كان في الصالحين من يصبر على مثل ذلك، ولا يظهر أن لصدق الوعد وبر الوالدين صلةً بالدعوة أشدَّ من صلة الصبر على البلاء المبين؟. قال صاحب المقال في رده: "وأي مناسبة بعد هذا بين ما كان فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شدائد تتصل بالدعوة، وبين أن يكون أيوب قد أصيب بمرض، فصبر عليه، وبين الأمرين من الفرق ما بين الليل والنهار، وما بين الثلج والنار؟ ". شأن ما يقصه الله تعالى من أنباء الرسل - عليهم السلام - أن يثبت فؤاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: يزيد يقينه قوة؛ فإن دلائل الحق تضع في النفس قرارة اليقين، وكلما كثرت، ازداد بها اليقين قوة، وقصة أيوب - عليه السلام -

التي هي وحي صادق تدل على أن الله تعالى يبتلي بعض أوليائه بأشد البلاء، حتى إذا وجد منه قلباً ساكناً، ونفساً راضية مطمئنة، كشف عنه البلاء، وكانت عاقبة ذلك الصبر أن يزيد الله منزلته رفعة، ويثني عليه ثناء يرفع به ذكره؛ كما قال تعالى في أيوب - عليه السلام -: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]. فلهذه القصة مناسبة بما كان يلاقيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بلاء يأتي من ناحية الخلق، أو بلاء ينزل من السماء، وهي من القصص التي يكون لها أثر في تثبيت الفؤاد، وجعله الفؤاد الذي ينزل به البلاء، فيجده في درع من السكينة والثبات. سبق أن صاحب المقال قد اعترف في رده بأن أنباء المعجزات والأحكام الشرعية مما يتصل بأمر الدعوة، وفي قصة أيوب - عليه السلام - مع المعنى الذي يقوله المفسرون معجزة: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، وحكم شرعي: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] زيادة عما فيها من أدب جميل: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، وخلق عظيم: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}. قال صاحب المقال في رده: "ما كان رسول الله بحاجة إلى أن يقوى يقينه بأن الثواب على قدر المصيبة، وأن رفعة المقام لا تمنع من عظيم البلاء حتى يقص عليه شأن أيوب ليزيده يقيناً بهذا". لم أقل إن قصة أيوب - عليه السلام - تقوي يقينه - صلى الله عليه وسلم - بأن الثواب على قدر المصيبة، ولم أعرج في مقالي السابق على هذا المعنى، وإنما قلت: يقوي بها يقين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن شدة البلاء قد تنزل حيث يكون رضا الله

عظيماً، والمقام عنده رفيعاً، ومن أثر ذلك أن يخف عليه ما كان يلقاه من المكاره، وذلك معنى لا لبس فيه. ثم ذكر صاحب المقال مخاصمة عشيرته له - صلى الله عليه وسلم -، وشدةَ عنادهم له، وإمعانهم في إيذائه، وقال: "أسائل الكاتب: أيُّ المعنيين أدخلُ تحت قوانين المنطق، وأيُّ المعنيين أكثرُ تقبلاً لبلاغة القرآن أأن يقال للرسول في تلك الحال: اصبر على ما أنت فيه؛ فإن أيوب قد مرض وصبر، أم أن يقال له: اصبر؛ فإن أيوب قد صابر في الدعوة، وجاهد قومه، ومع ذلك قد صرفهم الشيطان بوسوسة لا تستند إلا إلى الإغواء والإضلال، فصبر على ذلك صبراً جميلاً؟ ". وردت أنباء كثيرة من قصص الرسل - عليهم السلام - في المصابرة على الدعوة، واحتمال الأذى في سبيلها، ولا يلزم شرعاً ولا عقلاً أن يكون جميع أنباء الرسل المسوقة في القرآن من هذا الباب، فإذا ورد نبأ في معنى غير الصبر على الأذى في سبيل الدعوة، وكان في هذا المعنى حكمة وعبرة، أخذ فيه بالظاهر، ولم يسغ إخراج الآية عن ظاهرها إلى معانٍ لا يصل إليها الذهن، إلا أن يقال له: إن هاهنا كنايات، واستعارات، فامش عليها إلى تلك المعاني، وإن لم توافق هذه الكناياتُ والاستعارات ما عهد في القرآن الحكيم من حسن بيان. هذا ما رأينا تعليقه على ما كتبه صاحب المقال في رده من آراء، ومن الله تعالى الهداية والتوفيق.

الرد الثالث

قصة أيوب - عليه السلام - الرد الثالث (¬1) كان صاحب المقال الذي حكم بتخطئة جميع المفسرين في تفسير قصة أيوب - عليه السلام - قد أورد وجوهاً على زعم أنها تُبطل ما قاله المفسرون، فعلقنا على تلك الوجوه ما يدفعها وجهاً بعد وجه، فقام يعيد ذكرها في مجلة تصدر بالقاهرة، ويحكي ما دفعناها به، ثم يحاول الدفاع عنها. وقد تعرض للدفاع عن الوجه الأول مثها في آخر مقاله الثاني، فناقشنا دفاعه في مقالنا المنشور في الجزء الثاني عشر من المجلد السابع من "مجلة الهداية"، واستبان أنه وجه ليس له في توهين ما يقوله المفسرون من أثر، ثم كتب مقالاً ثالثاً يدافع به عن بقية الوجوه، ويبدي آراء لم يكن أبداها من قبل، فرأينا أن ننقد هذا المقال الثالث، ونكشف عما اشتمل عليه من دفاع لا يجدي، وآراء لا ترتبط بأصول. حاول صاحب المقال أن يرد ما قاله المفسرون من أن أيوب - عليه السلام - ابتلي بمرض شديد، فصبر عليه، فقال في مقاله الأول: "وفات المفسرين ثانياً: أن هذا يتنافى مع حكمة الله السامية، وإلا، فكيف يصطنعه لرسالته، ثم ينزل به ما يحول بينه وبين النهوض بأعباء تلك المهمة، وتلك ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد الثامن الصادر في شهر شعبان 1354 هـ.

المهمة - كما علمت - تتطلب صحة وعافية وقوة وسلامة؟!. فرددنا هذا في مقالنا الأول، وقلنا: "إن الله يبتلي بعض رسله بمرض غير منفر، ثم يعافيه من ذلك المرض الشديد؛ ليظهر فضل صبره للناس، ويتبينوا أن الأمراض الشديدة قد تعرض للرسل - عليهم السلام -, ولا يخدش ذلك في نبوتهم، بل يزدادون من الله قرباً". وقلنا: "وقد جعل الله لكل رسول مقداراً من الوقت يصرفه في الدعوة، وليس بواجب على الله لا عقلاً ولا شرعاً أن يكون رسوله في صحة وتمكن من الدعوة من يوم بعثه إلى يوم وفاته، فإذا بعث الله أيوب، فدعا قومه، وبلغ الجهد في دعوتهم، ثم أصابه بمرض، ثم عافاه فعاد إلى الدعوة، لم يكن هذا منافياً لاصطفائه للرسالة، ولا هو بالأمر الذي يتنافى مع الحكمة". حكى صاحب المقال ذلك الوجه، وما دفعناه به، وحاول رد ما دفعناه به، فقال: "ليس مثل هذا من المواطن التي يتبين بها فضل الصبر الذي يبلغ من العِظَم أن ينوه به الله، وهو ذو الجلال في كتابه، وهو القرآن المجيد عن أيوب، وهو رسول كريم، فإن مثل ذلك إن لم يكن من الشؤون الهينة في جانب رسول كريم، فهو من الهين في جانب الكتاب العزيز، وإن لم يكن هيناً بالقياس إلى الكتاب، فهو جِدُّ هين بالقياس إلى ذي العظمة والجلال". قصة المرض الشديد، وملاقاته بالصبر الجميل ليست من الشؤون الهينة في جانب رسول كريم، ولا في جانب الكتاب العزيز، بل هي من الشؤون التي يعظ الله فيها المصطَفَين من عباده، ويذكرهم بها في كتابه، فمن الجلي أن الصبر فضيلة، وأنه يتفاوت في الفضل، بحسب شدة المصيبة، وطول مدة نزولها، وبحسب الغاية التي يحتمل من أجلها المكروه، فلِمن صبر على فقد

ولد يعزُّ عليه مزيةٌ فوق مزية من صبر على فقد مال، ولمن صبر على مرض يطيش معه المنام ليالي كثيرة، فضلٌ على من صبر على مرض يأرق له ليلة أو ليلتين، ولمن صبر على نصب يناله في سبيل الدعوة إلى الإصلاح فضلٌ على من صبر على نصب يلقاه في ابتغاء متاع هذه الحياة. فالمرض المُمِضُّ من أشد المصائب، والصبر عليه من أسنى الفضائل، فمن حكمة القرآن أن لا يهمل التذكير بالصبر على هذا النوع من المصائب، وما قصة أيوب - عليه السلام - إلا تذكير بالصبر على مصيبة قد تتزلزل عندها القلوب جزعاً، وقد تشكو منها الألسنة، فلا ترعى في شكواها أدباً. ثم قال صاحب المقال في رده: "فالمفهوم ألا يحدِّث ذو الجلال والكبرياء في كتاب له مجيد إلى أفضل رسله العظام إلا إذا كان الحديث عن شأن خطير". يذكّر ذو الجلال والكبرياء في كتابه المجيد أفضلَ رسله العظام بحال أيوب - عليه السلام -, وقد وقع في بلاء من أشد ما يصيب الناسَ في هذه الحياة، وهو المرض البالغ، والانقطاع عن الأهل، فلاقاه بصبر وسكينة. فالمرض الشديد يبعث في الجسم ألماً، وفي العين أرقاً، وفي المضجع قلقاً، وفي النفس غماً، وناهيك ببلاء قد يتمنى صاحبه الموت العاجل ليخلص من أوجاعه، فما ينبغي لأحد أن يستخف ببلاء المرض، ويعدَّ التذكيرَ بحال من لاقاه بسكينة ورباطة جأش لا يليق بمقام الرسول، أو القرآن، أو مقام ذي العظمة والجلال. قال صاحب المقال في رده: "أما المرض، فهو يسير يحتمله عاديُّ الناس، فضلاً عن الرسل الذين هم رجال من البشر ممتازون".

ليست الأمراض من الأمور التي يحتملها عادي الناس، بل الأمراض الممِضَّة لا يحتملها إلا أقوى الناس عزماً، وأثبتُهم في التذكير بالعواقب قَدَماً، ثم إن احتمالها على معنى سكون القلب لها، وامتلائه بالرضا عن قضاء الله بها، وإن طال أمدها، درجةٌ لا يبلغها إلا الأنبياء والصالحون الذين استضاؤوا بحكمتهم، واقتدوا بسيرتهم. قال صاحب المقال في رده: "فالأمر بين إحدى اثنتين، إما أن يكون مرضاً عادياً، فلا يكون الصبر عليه صبراً يظهر به فضل، ولا يصح أن يتحدث عنه القرآن، وإما أن يكون مرضاً غير عادي بلغ إلى حد أن فرق عليه أهله وقومه كما تزعمون، وذلك ما يتنافى مع الحكمة، فمن يدعو إذا تفرق عنه أهله وقومه؟ ". ما أصاب أيوبَ - عليه السلام - مرض شديد غيرُ منفر، ومثله مثل المرض الذي أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "إني أُوعَك كما يُوعَك رجلانِ منكم" (¬1). القرآن ذكر أن الله وهب له أهله؛ أي: جمعهم عليه، ولم يذكر سبب انقطاعهم عنه، فندع الخوض فيه إلى أن يثبت بنقل صحيح. قال صاحب المقال في رده: "ثم إن مثل هذا المرض يتخذ منه قومه عليه حجَّةً، ويحيطه بالشبه، فلهم أن يقولوا إذ ذاك: إنه مجنون يهذي من شدة المرض، فارجموه، أو أهملوه، ولقد رمى الأنبياءَ أقوامُهم بالجنون، مع أنهم كانوا في صحة وقوة، فكيف إذا كان أيوب على ما تزعمه الإسرائيليات؟ ". لم نقل: إن أيوب - عليه السلام - بُعث وهو مبتلىً بهذا المرض، أو ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري".

إنه ابتلي به يوم بُعث، وبأي دليل ينفي صاحب المقال أن يكون هذا النبي الكريم بُعث إلى قومه، ودعاهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وهو يتمتع بالصحة زماناً كافياً، ثم ابتلاه الله بهذا المرض لحكمة بالغة، ثم كساه ثوب العافية، فعاد إلى الدعوة العامة بقوة؟. وماذا يكون لو قال قائل: إن أيوب كان يدعو كل من يتصل به، ثم إن المدعوين إلى الحق متى كانوا على شيء من العقل والاستعداد للرشد، يفرقون بين المرض الذي يحتمل أن يكون كلامُ صاحبه من قَبيل الهذيان، والمرض الذي لا يرتابون في أن صاحبه يتكلم في يقظة ذهن، وحضور فكر، فليس من البعيد أن ينتفع أناس بدعوة النبي لهم، ولو في حال مرضه، دون أن تعترضهم شبهة. أما المعاندون، فقد كفانا صاحب المقال أمرهم؛ حيث ذكر أنهم يرمون بالجنون مَن كان في صحة وقوة. قال صاحب المقال في رده: "أما أن يتبين الناس أن الأمراض قد تعرض للرسل والأنبياء، فذلك لا يتوقف على أن يكون المرض بالغاً حَدَّ أن يتحدث عنه القرآن لأعظم الرسل والأنبياء". في تبين الناسِ أن الأمراض الشديدة تعرض للرسل - عليهم السلام - إزاحةٌ لشبهة كثيراً ما تسبق إلى الظنون، هي: أن شدة بلاء الإنسان علامة هوانه عند الله، وهذه الحكمة مضمومة إلى غيرها؛ من نحو: ظهور فضل أيوب - عليه السلام - في صبره العظيم، تجعل القصة من نوع القصص التي ينزل بها القرآن على أعظم الرسل والأنبياء. قال صاحب المقال في رده: "أما أن الله قد جعل لكل رسول مقداراً

من الوقت يصرفه في الدعوة، وأنه ليس بواجب على الله أن يكون الرسول من بعثه إلى وفاته داعياً، فإني أقول لهذا الكاتب: إن ذلك غير صحيح؛ فإن القرآن لم يحدثنا بمثل ذلك عن رسول من الرسل، ولو كانت الدعوة على ما يتصورها الكاتب كمعركة تنتهي بالغلبة أو الصلح، أو سفر ينتهي بالإياب، لما لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو فيها إلى الله ". لم أقل، ولم يقل المفسرون: إن أيوب - عليه السلام - قام بالدعوة حيناً، ثم تركها وقعد في بيته، أو أقبل على شأن آخر، حتى يكون مثلُ الدعوة مثلَ معركة تنتهي بالغلبة أو الصلح، أو مثل سفر ينتهي بالإياب. وعبارتي تمنع صاحب المقال من أن يتخيل أني أتصور الدعوة كمعركة أو سفر، ولست - بحمد الله - ممن يريد ضرب الأمثال، فلا يوفَّق في ضربها، والصورةُ الصحيحة لقصة أيوب - عليه السلام -: أن قوماً في جهالة وفوضى، أرسل الله إليهم رسولاً يدعوهم إلى العقائد السليمة، والأعمال الصالحة، فدعاهم ما شاء أن يدعوهم، ولا مانع عقلاً ولا شرعاً بعد هذا أن يبتليه الله بمرض، ثم يعود إلى الدعوة العامة مرة أخرى. وإذا وسعت الحكمة وجود فترات بين الرسل - عليهم السلام -، فلم لا تسع وجود فترة قصيرة في أيام دعوة الرسول الواحد، ولا سيما فترة ظهرت لها حكمة سامية، وكانت موطن عبرة رائعة؟ ثم قال صاحب المقال: "وإني أتحدى الكاتب بأن يذكر لي رسولاً واحداً حدد الله له مقداراً من الوقت يصرفه في الدعوة، ثم يستريح بعد ذلك". أما أن الله تعالى قد جعل لكل رسول مقداراً من الوقت يصرفه في الدعوة، فذلك أمر ثابت لا يحتمل الجدل بحال؛ فإن أيام بعثات الرسل

تختلف مقاديرها كما تختلف مقادير أعمارهم، فنوح - عليه السلام - بقي في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بقي في الدعوة نحواً من ثلاث وعشرين سنة. وأما قوله: "ثم يستريح بعد ذلك"، فكلام لم أقله، وقوانين المنطق تأبى زيادة أمثال هذه الكلمات التي لا تفهم من منطوق الكلام، ولا فحواه، ولا هي من مقتضياته، بل في كلامي ما يصرح بصحة أن ينقطع عن الدعوة العامة لمرض، ثم يعود إليها، فأين معنى الاستراحة بعد ذلك؟ حكى صاحب المقال في رده ما قلته من صحة أن يكون أيوب قد مرض، ثم عاد إلى الدعوة، وقال: "إن طبيعة الدعوة والإرشاد تقتضي الاستمرار والاطراد، وإن العقل يقضي بفساد هذه الصورة - يعني: الانقطاع عن الدعوة بمرض -"، وقال في الاستدلال على هذا الفساد المزعوم: "إن انتكاس المرض أشد من بدايته، وكذلك انتكاس الشعوب في المبادئ والتقاليد، ومن التفت إلى ميقات موسى، وأنه لم يغب عن قومه إلا لتلقي التوراة، ومع هذا، ومع استخلافه فيهم أخاه هارون، فقد انتقضوا عليه، وتركوا عبادة الله إلى عبادة العجل، ومن التفت إلى ما كان بعد موت رسول الله، مع أنه لم يمت إلا بعد أن أكمل الدين، وتمت السنَّة، ومع هذا، فقد ارتد كثير من القبائل إثر موته، وكثير منهم حاول منع الزكاة، من التفت إلى هذا، علم أن الدعوة ليس لها مدى تنتهي إليه، بل لا بد لها من تعهد مستمر، وتذكير مطرد". قلنا: إن أيوب - عليه السلام - قام بالدعوة، ثم ابتلي بالمرض، ولم نقف على نصوص نعرف منها أن من قومه من اهتدى بدعوته قبل مرضه، فإذا فرضنا أنه لم يهتد به فريق منهم، فلا يقال: إن مرضه يفضي إلى انتكاسهم في

المبادئ والتقاليد، وإذا فرضنا أن من قومه من قبلوا دعوته، ونبذوا مبادئهم وتقاليدهم القديمة قبل مرضه، فإن مرض الرسول كغيبته وموته لا يقتضي بطبيعته انتكاس القوم ورجوعهم إلى الغي بعد الرشد. وإذا انتكس طوائف من أقوام الرسل عند غيبة الرسول، أو بعد موته، فلأن الإيمان الصحيح لم ينفذ في قلوبهم، ولم يبلغ مبلغ اليقين من نفوسهم، والإيمان الراسخ يحفظ على الإنسان رشده، بل يوجِد منه هادياً يقوم مقام الرسول في مرضه، أو غيبته، أو بعد موته، وهل يستطيع صاحب المقال أن يثبت أن الفريق الذين اهتدوا بدعوة أيوب - عليه السلام - قبل مرضه من صنف القوم الذين ينتكسون؟ أليس من الجائز أن يكونوا من طبقة المؤمنين الذين لا يغير مرض الرسول أو موته شيئاً من رشدهم؟ كان صاحب المقال أورد على المعنى الذي ذهب إليه المفسرون وجهاً ثالثاً، فقال: "إنهم خرجوا بشأن أيوب عن شؤون جميع الأنبياء، وجعلوه بِدْعاً من الرسل؛ إذ المعلوم ضرورة: أن مصاب الأنبياء والرسل الذي يألمون له، ويضرعون فيه إلى ربهم، إنما هو إعراض قومهم عن دعوتهم، وصد الشيطان للناس عن سبيل الله"، وقال: "من المعلوم: أن كل نبي لا بد أن يصاب بتلك المصيبة؛ بشهادة قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52] ... إلخ الآية". فدفعنا هذا: بأن المفسرين حملوا الآية على ما تدل عليه ألفاظها العربية، وحملوها على معنى فيه حكمة وعبرة، وأن اعتراض الشيطان لدعوة كل نبي لا يستدعي حمل كل آية وردت في قصة رسول على معنى هذا الاعتراض. حكى صاحب المقال في رده هذا الذي قلناه، وحاول دفعه، فقال:

"إن الآية إن لم تكن ظاهرة فيما أقول - لأنه لا يرد عليه من الإشكال ما يرد على المعنى الذي ارتضاه المفسرون من نسبة إنزال المرض بأيوب إلى الشيطان بنصب وعذاب، ولقد حاولوا دفع الإشكال بما لا ينفعهم ولا يجدي-, فالآية ليست صريحة، ولا ظاهرة في تلك الإسرائيليات المشكلة والخادشة لقدس الأنبياء، فلتكن الآية على الأقل محتملة لما تزعمه الإسرائيليات، ولما فسرت به الآية". المفسرون يقولون: إن الضر في قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] مرادٌ منه: المرض، وهو موافق لما جاء في "لسان العرب" من استعمال الضر في المرض والهزال بوجه خاص، وقالوا: رجل ضرير؛ أي: مريض مهزول. ثم إن المس في قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} متعلقٌ بذات أيوب، كما أن الباء في قوله: {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء: 84] متصلةٌ بذات أيوب أيضاً، وأيوبُ جسم وروح، وإذا كان للضر معنى شائع عند العرب يتألم منه الجسم والروح، وهو المرض، حملت عليه الآية حتى يقوم الدليل على إرادة غيره. ويوافق ظاهرَ القرآن في المعنى الحديثُ المتفق على صحته، فقد جاء في إحدى رواياته: "لما عافى الله أيوب، أمطر عليه جراداً من ذهب" (¬1). والمعافاة ظاهرة في الشفاء من المرض. وأعاد صاحب المقال ما قاله مراراً من أن حمل الآية على المرض يجعلها خالية من العبرة والحكمة، ويجعل أيوب بدعاً من الرسل، وقال: "إذ يكون القرآن قد حدَّث عن أيوب حديثاً لم يحدثه عن أحد من الأنبياء، ¬

_ (¬1) كتاب "المستدرك" للحاكم.

وهو حديث المرض، أما سائر الأنبياء، فقد حدَّث عن دعوتهم إلى الله". لو كان في هذا الذي يقوله شيء من الحق، لجاء آخرُ وأنكر أن يكون يوسف - عليه السلام - أُلقي في الجب، ودخل السجن؛ لأنه حديث لم يحدثه الله عن أحد من الأنبياء، وهكذا يقال في قصة إبراهيم بذبح ابنه، ثم فدائه، بل في كل نبأ يقصه الله عن رسول، ولم يقصه عن غيره من الرسل. كان صاحب المقال ذكر في الوجوه التي زعم أنها تبطل قول المفسرين: أن المفسرين قد خرجوا عن سنن القصص في القرآن، وقال: "فإنه لم يقص علينا عن الرسل إلا ما يتصل بأمر الرسالة، ويرتبط بسير الدعوة للعظة والعبرة، وماذا في قصه علينا مرض أيوب من عبرة؟ ". فقلنا في رده: سنن القصص في القرآن: أن يحدثنا عن الرسل - عليهم السلام - بما فيه حكمة وموعظة، ولا فرق بين أن تكون هذه الحكمة أو الموعظة مرتبطة بسير الدعوة، أو راجعة إلى ناحية أخرى من نواحي الهداية، أو السعادة أو الكرامة، وذكرنا حديثه عن يوسف - عليه السلام - حين ألقي في الجب، وعن إبراهيم - عليه السلام - حين أُمر بذبح ابنه، وعن يعقوب - عليه السلام - حين ابتلي بفقد يوسف. فقام صاحب المقال يحاول في رده دفع هذا الذي قلنا، فقال: "قد ذكر هذا الكاتب ثلاثة من الرسل كدليل على أن القرآن قد يقص علينا من شؤون الرسل ما لا يتصل بالدعوة، ويريد أنه بذلك لا تكون الآيات خارجة عن سنن القصص في القرآن، ولكن الكاتب في هذا إما مغالط، وإما أنه ألهاه الغرض عن الفرق بين أيوب، وبين من ذكره من الأنبياء، ولو ألقى عن نفسه الهوى،

لعلم أن القصص الذي جاء به القرآن عن يوسف قصص مفصل طويل قد استغرق من طفولته إلى كهولته، وقد انتظم حوادث خطيرة، وشؤوناً مختلفة، وأموراً ذات خطر، ما بين دليل على فضل، أو أمارة على مجد، مما يصح أن يمتاز به الأنبياء عن غيرهم من النّاس، وأين هذا من مرض أيوب الذي هو - على ما يزعمون - قد شكاه لربه تصريحاً أو تلويحاً، وهو عرض عادي يحتمله كثير من عاديي الناس؟ ". يتذكر القراء أن صاحب المقال قال في الوجه الأول: "إن المقصود من أن يقص الله تعالى حال الرسل على خاتم أنبيائه - صلى الله عليه وسلم - إنما هو الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله، وما احتملوه من أذى وبلاء في طريق الدعوة إلى الله {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] "، فرددنا عليه: بأن الله تعالى قد قص من حال الرسل ما لا يرجع إلى ما أصابهم في سبيل الله، وما احتملوه من أذى وبلاء في طريق الدعوة، بل قد يذكرهم؛ ليدل على ما كان لهم من خلق عظيم، أو عمل خطير، أو حكمة بالغة ... إلخ. ثم ذكر صاحب المقال في الوجه الرابع: "أن الله لم يقص علينا من الرسل إلا ما يتصل بأمر الرسالة، ويتصل بسير الدعوة"، فقلنا له: قد قص علينا القرآن أن يوسف ألقي في الجب، وبيع بثمن بخس، واستعصم حيث تهيج عاصفة الشهوة، وأن إبراهيم - عليه السلام - أمر في المنام بذبح ابنه؛ فلما تله للجبين، فداه الله بذبح عظيم، وأن يعقوب - عليه السلام - ابتلي بفقد يوسف، وحزن عليه حزناً طويلاً. فأخذ صاحب المقال يدفع ما أوردناه من قصة يوسف - عليه السلام - بهذا الحديث الذي سقناه لكم. وما حديثه هذا إلا رجوعٌ ثانٍ عن رأيه، فإنه كان يرى أن المقصود من

قصص الرسل هو الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله؛ ليبني عليه أن المرض لم يكن مما يصيب في سبيل الله، فلا يقصه الله تعالى عن أيوب - عليه السلام -، ثمَّ رجع إلى أن قصص الرسل تأتي بما يتصل بأمر الرسالة، ويرتبط بسير الدعوة، ولما ذكرنا له شؤوناً قصها القرآن عن يوسف - عليه السلام -، وهي لا تتصل بأمر الرسالة، رجع فقال: إن ما جاء عن يوسف مفصل طويل استغرق من طفولته إلى كهولته. ومعنى هذا: أن القرآن قد يقص عن حال الرسل ما لا يتصل بأمر الرسالة، ولا يقصد به الاعتبار بما أصاب في سبيل الله، متى كانت القصة مفصلة طويلة. وهذا مردود بأن ما ذكر في القرآن، وهو لا يتصل بالرسالة، ولا بأمر الدعوة، إن كان خالياً من العبرة، فالقرآن لا يأتي من القصص إلا بما فيه عبرة، وإن كان مشتملاً على عبرة، فالعبرة التي تستدعي ذكر الشيء المفصل الطويل، تصلح أن تكون داعية لذكر أمثاله في القصة الموجزة. ثمَّ نقول لصاحب المقال: لا يفيدك أن تكون الحوادث التي اشتملت عليها قصة يوسف عظيمة، ولا أن شؤونها مختلفة، وأن أمورها ذات خطر، وإنما يفيدك أن تبيّن كيف كانت تتصل بأمر الرسالة، وتربط بسير الدعوة، أما أنها تدل على فضل، فصبر أيوب - عليه السلام - بالمعنى الذي يقوله المفسرون يدلّ على فضل. وأما قوله: "مما يصح أن يمتاز به الأنبياء عن غيرهم"، فالمعروف أن الأنبياء - عليهم السلام - يمتازون بالوحي والمعجزات، وبأن أخلاقهم أكمل، وأعمالهم في الإخلاص أبلغ، ومقاماتهم عند الله أرفع، ولم يقل أحد: إن الأنبياء يمتازون بنحو: الإلقاء في الجب، والبيع بالثمن البخس، والامتناع

من فعل الفاحشة، والاجتماع بالأبوين والإخوة بعد غيبة طويلة. والواقع أن هذه الأشياء من القصة قد ذكرت لتؤخذ منها حكمة وعبرة، ولا اتصال لها بالرسالة إلا من جهة أنها وقعت لرسول عظيم. ثمَّ قال صاحب المقال في رده: "على أن القرآن لم يقتصر في الحديث عن يوسف على تلك الحوادث ذات البال، بل حدثنا - إلى ذلك - عن دعوته لقومه، وذكر آيات: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 34]، وقوله: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف: 39] ". وهذا تعديل آخر لرأيه، ومعناه: أن القرآن قد يقص من أحوال الأنبياء ما لا يتصل بأمر الرسالة إذا تحدث عن دعوتهم، ولو في موضع آخر. ونناقش هذا أيضًا بأن ما يقصه القرآن - مما لا يتصل بأمر الرسالة - إنما يقصه لعبرة، ومتى وجدت العبرة في حال من أحوال رسول كريم، جاز أن يقصها القرآن، ولو لم يقص عن ذلك الرسول شيئًا يتصل بأمر رسالته أو دعوته. وكذلك عمد صاحب المقال إلى ما أوردناه من ذكر الله تعالى لابتلاء يعقوب - عليه السلام - بفقد ابنه يوسف وحزنه عليه حزنًا طويلًا، وحاول التخلص من هذا بأن: (القرآن لم يفرد يعقوب بالحديث عنه بأنه ابتلي بفقد ابنه، فحزن عليه، وإنما جاء ذلك في طريق الحديث عن يوسف - عليه السلام -". وهذا رجوع آخر عن رأيه، ومعناه: أن الله تعالى قد قص من أحوال الأنبياء ما لا يتصل بأمر دعوتهم أو رسالتهم إذا تحدث عنهم عن طريق الحديث عن رسول آخر.

وبمثل هذا حاول دفع ما أوردناه من ابتلاء إبراهيم - عليه السلام - بذبح ابنه، فقال: "ذلك شأن ذكر على سبيل الاستطراد، ولم يكن هو كل ما حدثنا بها القرآن عن إبراهيم، ولم يذكر القرآن قصة الذبح مستقلة، بل جاءت كتتميم عقب حديث عن أمر دعوته إلى قومه". والحق أن مدار قصص القرآن على العبرة والحكمة، ولا فرق بين ما يورده مستقلًا، وما يورده عقب حديث عن أمر الدعوة، أو في طريق الحديث عن رسول آخر؛ كما أنَّه لا فرق بين ما يتصل بالدعوة، وما يتصل بغيرها من أسباب المجد أو السعادة. ثم ذهب صاحب المقال في قصة الذبيح مذهباً آخر، وهو عدم التسوية بين من أمر بذبح ابنه، فسارع في امتثال الأمر مسلماً بقلبه، وبين من مرض، فراح يدعو ربه؛ كما قال - تصريحاً أو تلويحاً -, وقال: "إن ذبح الابن لمما لا يتحمله إلا الأنبياء". موضوع البحث: هل القرآن يقص من أحوال الأنبياء ما لا يتصل بالرسالة والدعوة؟ أما أن هذا الحال أشد، وأن هذا الحال أخف، فخارج عن موضع البحث. ثم إن قتل الولد إن نظرنا إليه في نفسه، لم نجده مختصاً بالأنبياء، فإنا نجد كثيراً من الآباء قد تلابسهم شهوات، فتتغلب على عواطفهم، فيقتلون أولادهم، وإن نظرنا إليه من جهة فعله عن أمر الله، لم نستطع أن نقول: هذا لا يحتمله إلا نبي، فإنه يرجع إلى قوة الإيمان, وإسلامِ القلب إلى الله، ولا نشك في أن عمر بن الخطّاب، أو أبا بكر الصديق، أو غيرهما من صادقي الإيمان لو أتاه أمر من الله بذبح ابنه، لفعل ما أمر به على وجه يُعد به عند الله

ممتثلاً مخلصاً، ولا يصح أن يكون الإيمان الصحيح وتقوى القلوب أضعفَ أثراً من تلك الشهوات التي تدفع إلى قتل بعض الأبناء بغير حق. وليعتبر صاحب المقال بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]؛ فقد أثبت في هذه الآية أن من المسلمين من لو أمر بقتل نفسه، لفعل، والذي يقتل نفسه امتثالاً لأمر الله يحتمل أن يقتل ابنه امتثالاً لمثل هذا الأمر. ولكن الفرق بين الرسول وغير الرسول - في قتل الابن امتثالاً لأمر الله - يرجع إلى حال القلب، وهو أن يكون رضا الرسول بالابتلاء أقوى، وغلبة إجلاله له على عاطفة الأبوة أظهر.

الرد الرابع

قصة أيوب - عليه السلام - الرد الرابع (¬1) كان صاحب المقال قد أورد على المفسرين: أن حديث حلف أيوب، والرخصة له بالخلوص منه على ذلك الوجه أشبهُ شيء بالعبث الذي لا يليق بالمخلوق، فضلًا عن الخالق، وقال: "إذ المعقول: أن العبد إنما يحتال للخلوص من الربّ، فكيف يحتال الربُّ للخلوص من نفسه، فهو تعالى المحلوفُ به، وهو تعالى الدالُّ على الحيلة - فيما يزعمون -". وقلنا في الرد عليه: إن المفسرين لا يفهمون الآية على معنى الدلالة على الحيلة، وإنما يفهمونها على أنها شرعُ حكمٍ من الله، روعي فيه جانبُ الرحمة بمن حلف أيوبُ - عليه السلام - على ضربه، فهو حكم صدر على وجه الفتوى لأيوب خاصة، أو له ولقومه، وعلى كل حال، فهو شرع معناه: أن الضرب بضغث يشتمل على مئة عود - مثلاً - يحقق عند الله تعالى غرض الحالف على الضرب بمئة سوط. أرأيتم ماذا قال صاحب المقال في محاولة الرد على هذا؟ قال: "يتحرج هذا الكاتب من أن أقول: دلَّ الله أيوبَ على الحيلة، ولكن لا يتحرج من أن يقول: شرع الله الحيلة، مع أن هذا أبشعُ وأفظع، ¬

_ (¬1) مجلة الهداية الإِسلامية - الجزء الثالث من المجلد الثامن الصادر في شهر رمضان 1354 هـ.

وإنا إذا قدمنا الله عن أول المعنيين، كان أولى أن نقدسه عن الثاني؛ فإن شرع الحيل تعليم للمراوغة، وقضاء على الأعمال أن تكون صوراً خالية من "رواحها". لو نظر صاحب المقال في المعنى الذي يقوله المفسرون من جهة أنه المعنى الذي اتفق عليه علماء الإِسلام من مفسرين ومحدثين وفقهاء، لخفف شيئًا من هذه النزعة، وتناول بحثه في شيء من الهوادة، شأنَ الباحثين الذين يعرفون أن رمي أولئك العلماء قاطبةً بأنهم نسبوا إلى الله ما لا يليق به، ليس بالأمر الهين الذي تكفي فيه حركة لسان، أو جرة قلم. ولو ألقى صاحب المقال نظرة على كتب السنَّة، لوجد فيها شيئاً يدعوه إلى التثبت فيما يكتب، يجد فيها أحاديث مسندة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صريحة في أن الضعيف الذي لا ترجى له صحة، ويثبت عنه الزنا، ويخشى من جلده مئة جلدة الهلاك، أن يُضرب بعُثكول فيه مئة شِمراخ ضربةً واحدة، ولم يطعن في هذه الأحاديث أحد بأنها نسَبت إلى الله، أو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لا يليق به. وهذا الحكم الذي تضمنته هذه الأحاديث قد قرره جمع عظيم من أئمة الدين؛ كالحنفية، والشافعية، والحنابلة، واتخذوه مذهباً. ولا أورد هذا على معنى أنه حجة قاطعة عن البحث، وإنما أريد: أن أمرًا اتفق عليه المفسرون على اختلاف مذاهبهم، ووردت بمثله أحاديث قالوا في بعضها: إن رجاله رجال الصحيح، وقرره جمع عظيم من أئمة الدين في مذاهبهم، لا ينبغي لذي علم أن يهاجمه من غير أن يُعِدَّ له قوة. والحق أن لله تعالى أن يشرع من الأحكام ما يرى الحكمة في شرعه، وله أن يغير حكماً أشدَّ إلى ما هو أخفُّ إن قضت الحكمة التخفيف، وليس

في تفسير الآية بالمعنى الذي يقوله المفسرون تعليمٌ للمراوغة، وإنما هو شرعُ حكمٍ أخفَّ من الضرب مئة سوط مفرقة، وليس في هذا التشريع قضاء على الأعمال أن تكون صوراً خالية من أرواحها؛ فإن في الضرب بالضغث إيلاماً، إذ المراد: الضرب به على الطريقة المعروفة في إقامة الحدود. قال صاحب المقال في رده: "وإنا نسائل الكاتب، ونشتد في سؤاله: هل ما حلف عليه أيوب كان مما يتعذر أو يتعسر تنفيذه، أو لم يكن كذلك؟ فإن كان الأوّل، كان معنى هذا أن أيوب قد غلبه غضبه، فكان منه ما لا يكون إلا من شرار الناس دون خيارهم، وكيف ينزل أيوب وهو نبي إلى هذا الدرك، فيحلف على أمر يتعذر أو يتعسر عليه تنفيذه، ويحتاج في الخلوص منه إلى شرع حيلة، وإن كان الثاني، كان هينَ! التنفيذ يسيراً". إن أيوب - عليه السلام - حلف على أمر يستطيع تنفيذه، ولكن في تنفيذه شيء من الشدة على المحلوف على ضربه، فاقتضت رحمة الله بالمحلوف على ضربه أن يخفف عنه العقاب، ومن الجائز أن يكون هذا المحلوف على ضربه بحال من ضعف البدن استحق بها هذا التخفيف على نحو ما ورد في تخفيف الحد على الضعيف الذي لا يرجى صحته. ثم إن أيوب - عليه السلام - إنما ابتغى بحلفه على ما حلف رضا الله، ولا يمنع هذا من أن يرتاح لتخفيف حكم العقاب على بعض المؤمنين به، ويعده رحمة به، كما كان رحمة للمحلوف على ضربه، والأنبياء - عليهم السلام - يستقيمون على أمر الله، وينفذون أحكامه دون أن تأخذهم في دين الله رأفة، ويرتاحون لتخفيف الأحكام على أممهم، بل يطلبون لهم من الله تعالى التخفيف، ومن شواهد هذا: حديثُ الصلوات ليلة الإسراء، وطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - تخفيفها

إلى أن صارت الخمسون خمساً. قال صاحب المقال: "أما أنها حيلة، فليس للكاتب مناص من القول بذلك؛ إذ الحيلة ليست شيئًا غير معالجة الوصول إلى غاية من غير طريقها المقدر لها، حين يتعذر أو يتعسر سلوك هذا الطريق إليها، وما دام أيوب - عليه السلام - كان قد حلف على غير هذه الصورة، فحصول تلك الصورة للخلوص من يمينه يجعلها حيلة لا محالة". بعد أن يشرع الله تعالى الضرب بالضغث، ويجعله كافياً عن الضرب مئة سوط مفرقة، يصير الضرب على نحو المشار إليه من قَبيل العمل الذي يوصل إلى غاية من طريقها المقدر لها. وكان صاحب المقال قد قال في ذلك المقال: "وإذا كان الله قد أراد أن يُعفي أيوب من يمينه، فماذا يمنعه أن يُعفيه بدون تلك الحيلة، وهي منه ومن أجله؟ ". فقلنا تعليقاً على هذا: "إن الكفارة عن اليمين إنما شُرعت في الإِسلام، فالحالف في عهد أيوب ليس له إلا فعلُ المحلوف عليه، فأرشد الله أيوبَ إلى وجه أخف. ومن الذي يستطيع أن ينكر أن الله قد يخفف بعض الواجبات المشتملة على مشقة، فيسقط بعضها، أو يقيم ما يشبهها من بعض الوجوه مقامها؟ ". فكان من صاحب المقال أن قال في رده: "فلم لم يشرع الكفارة في هذا الوقت، وقد اقتضتها الأحوال والحوادث، بدلَ أن يشرع هذه الصورة التي إن لم يسلم الكاتب أنها حيلة، فهي على الأقل على صورة الحيلة؟ "، ثم قال: "أمَّا تلك الصورة التي يزعمها المفسرون، فهي أشبه شيء بالعبث،

لا يتحقق معه حكمة، ولا يليق بالله تشريعها". ليست تلك الصورة من قبيل الحيلة، ونحن لا نعرف، ولا صاحب المقال يعرف: أن الأحوال والحوادث لذلك العهد قد اقتضت شرع الكفارة، أما أن حالة من حلف أيوب - عليه السلام - على ضربه تقتضي رحمة، فهذه الرحمة ترجع إلى تقدير علام الغيوب، فإذا شرع ما يخفف عنه أمر الضرب، فذلك تقدير حكيم. وتعلق صاحب المقال بعد هذا بأمر صغير هو: أنه وقف عند قولي: "فأرشد الله أيوب إلى وجه أخف"، وقال: "ولا يفوتني أن ألفت الكاتب هنا إلى أنه قد رجع من أن هذا كان تشريعاً إلى كونه إرشاداً، وتلك هي عبارتي أو في معناها". ومن الواضح الجلي أن قولي: "فأرشد" بعد أن صرح قبل ذلك وبعده بأن ما كان من الله إنما هو تشريع، يفهم منه القارئ لأول نظرة: أن المراد: الإرشاد على وجه التشريع، فأين هذا من قوله: إنه دلالة على الحيلة، وتعليم للمراوغة؟. ثم قال صاحب المقال: "على أنه إذا كان ما حلف عليه أيوب قد بلغ حدّ المشقة، فقد صار من باب: الضرورات، والضروراتُ تبيح المحظورات، ويجب أن يكون هذا التشريع غير خاص بالإِسلام؛ فإن عدالة الله ورحمته أزليتان، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإعفاء أيوب يكون على هذا الوجه غير تلك الصورة التي يجب أن يتنزه عن تشريعها رب العالمين". قد يكون ما حلف أيوب - عليه السلام - ممكن التنفيذ، وليس هناك ضرورة من نوع الضرورات التي تبيح المحظورات، وإنما هناك حال اقتضى

تخفيفَ الحكم، وما يقتضي تخفيف حكم العقاب غيرُ ما يقتضي الإعفاء منه جملة. ثم قال صاحب المقال في رده: "ولقد أتى الكاتب هنا بعبارة مجملة ملفوفة لا يفهم القارئ منها مراده، وهي قوله: "ومن الذي يستطيع أن ينكر أن الله قد يخفف بعض الواجبات المشتملة على مشقة، فيسقط بعضها، أو يقيم ما يشبهها من بعض الوجوه مقامها؟ ". ثم كتب نحو صفحة تحدث فيها عن تخفيف بعض الواجبات، ولم يأت ولو بشبهة في رد هذا الذي قلته، فلنزد ما قلته بياناً، ثم نعرض عليك ماذا قال صاحب المقال في هذا المقام: أما البيان، فذلك أن الله تعالى قد يخفف بعض الواجبات، فيسقط بعضها كما خفف عمن نذر التصدق بجميع ماله، فجعل الثلث مجزئاً عن الجميع، وقد يخفف بعض الواجبات، فيقيم ما يشبهها من بعض الوجوه مقامها, كما أقام التيمم مقام الوضوء، وكما أمر إبراهيم - عليه السلام - بذبح كبش مقام ذبح ابنه، وجعل ابن عباس قصة الذبيح موضع قياس، فأفتى فيمن نذر ذبح ابنه بذبح شاة، فشَرعْ الضرب بالضغث مكان الضرب بالسوط مئة مفرقة من قَبيل تخفيف الواجب بإقامة ما يشبهه من بعض الوجوه مقامه. وأما حديث صاحب المقال، فإنه قسم تخفيف بعض الواجبات إلى نسخ، وإلى استثناء في أحوال مخصوصة، وخرج من هذا التقسيم: بأن الضرب بالضغث مكانَ الأسواط المفرقة لا يصح أن يكون من هذا القبيل، فقال: "ويجب أن يلتفت إلى أن إسقاط بعض الواجب نسخاً لا يكون إلا بعد تطور

في الأمة يقضي بتغيير صورة المشروع". ذهب قوم من أهل العلم إلى أن الضرب بالضغث مكانَ الضرب بالسوط مفرقة، كان شريعة لأيوب - عليه السلام - ولقومه عامة، وليس لأحد أن ينازع هؤلاء بدعوى أن هذا نسخ، والنسخ لا يكون إلا بعد تطور الأمة؛ إذ حالة تلك الأمة غير معروفة لنا. ثم إننا نعلم أن أحكاماً قد تغيرت في عهد نزول الوحي، ونعلم أنها لم تتغير إلا لحكمة، فمدار النسخ على تحقيق الحكمة، وإذا ثبت النسخ بنص أو إجماع، أو بمعرفة أن هذا الحكم متأخر عن هذا الحكم، ولم يمكن الجمع بين دليليهما، فقد تقرر النسخ عند أهل العلم، وليس لأحد أن يطالبهم بعد هذا بإثبات أن الأمة تطورت تطوراً يقتضي هذا التشريع. فإذا وردت آية من القرآن الكريم، ورآها بعض النظار من قبيل الناسخ لحكم سابق؛ فللرد عليه طرق معقولة؛ كأن ينازع في إفادة النص تغيير الحكم على وجه القطع، أو في تأخره عن الحكم المدعى نسخه، أو في عدم صحة الجمع بين دليلي الحكمين. وذهب قوم آخرون إلى أن حكم الضرب بالضغث رخصة لأيوب -عليه السلام - خاصة، ورجحوا مذهبهم بأن قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44]، يشير إلى وجه الترخيص، فيكون الترخيص مقصوراً على من وجد منه الصبر، وهو أيوب - عليه السلام -. قال صاحب المقال في رده: "وأن الإسقاط استثناء إنما يكون لطوارئ تجعل الواجب شاقاً، وتكون تلك الطوارئ ليس للمكلف دخل في صورتها؛ لأنه إنما يستحق رحمة الله، فيخفف عنه الواجب؛ لأنه لا دخل له فيما صعب

به ذلك الواجب، أو يكون له تدخل بمباح؛ كالسفر في قصر الصلاة، على أن السفر قد يكون لطوارئ لا مدخل للمكلف فيها، بل تكون وليدة القدر البحت". أخذ كاتب المقال في شروط الإسقاط: أن لا يكون للمكلف دخل في سببه الذي هو صعوبة القيام بالواجب، إلا أن يكون التدخل مباحًا, كالسفر في قصر الصلاة، وبنى على هذا: أن أيوب - عليه السلام - يكون بمقتضى قول المفسرين- قد تدخل في صعوبة الواجب تدخلًا غير مباح، فلا يستحق الرحمة بتخفيف الواجب عنه، فقال: "أما ما تزعمه الإسرائيليات - يعني: ما اتفق عليه المفسرون -، فمقتضاه أن أيوب - عليه السلام - هو الذي أراد أن يحمل نفسه هذه المشقة التي احتاجت إلى تلك الحيلة، واحتاجت إلى ذلك العبث الذي لا يعقل كونه تشريعاً عاماً، فإن كان التخفيف ليس عامًا، بل هو خاص بذلك الحادث، فقد قلنا: ما ضرورة هذا اللعب حينئذ؟ ". نظر صاحب المقال فيما يقوله المفسرون نظرة مستعجلة، وكان من أثر هذا الاستعجال: أن صنع له مقتضيات لم تكن بينها وبينه صلة. يقول المفسرون: إن أيوب - عليه السلام - حلف على أن يؤدب شخصاً قال أو فعل ما يستحق عليه التأديب، وما كان غضبه عند الحلف إلا لله، والنبي لا يؤدِّب إلا بحق، وليس في الحلف على الوعيد من إثم، فلم يتدخل أيوب - عليه السلام - في سبب الواجب الشاق من طريق محرم، فهو حقيق بالرحمة، وأهلٌ لأن يخفف عنه ما فيه مشقة. وليس فيما شرعه الله من كفاية الضرب بالضغث من حيلة، ولا عبث،

ولا لعب، وإنما هو حكم من الأحكام التي ينزلها على رسوله حاملة شيئاً من التخفيف عنه وحده، أو عنه وعن أمته عامة، وليس بمستنكر أن يختص الله نبيًا من أنبيائه ببعض الأحكام، وليس بمستنكر أن يخفف الله عن الأمة بعض الواجبات الشاقة، وإن لم يظهر لنا أن مشقة الواجب ازدادت على ما كانت عليه شدة. كان صاحب المقال ادعى: أن المعنى الذي يذكره المفسرون ينزل بالآية عن مستوى البلاغة الذي هو في متناول البشر، فضلًا عن الإعجاز الذي يجب أن يكون للقرآن الكريم، وعلل هذا بأنهم ذكروا قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44]، معنى يتوقف على ما لا يفيده سابقه، ولاحقه؛ لأنهم جعلوا: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} متوقفا على خبر أن أيوب كان قد حلف ليضربن امرأته مئة سوط. وقلنا في رد هذا: إن القرآن كتاب إرشاد، ومأخذ عبر، فقد يسوق من القصة أشياء هي موضع العبرة، وشملك في سوقها طريق الإيجاز، وقوله في هذه القصة: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، يتبادر منه إلى الأذهان أن أيوب - عليه السلام - حلف أن يضرب شخصاً أسواطاً، فأوحى الله إليه أن يضرب بهذه الأسواط مجموعة، ولا يتوقف موضع العبرة في هذا على معرفة سبب الحلف، أو الشخص المحلوف عليه، أو عدد الأسواط. كان من صاحب المقال أن قال في رده: "ولكن الله قد قص علينا من شؤون الأنبياء قصصاً مفصلاً مطولاً، وإن شئت أوضح شاهد على ذلك، فدونك سورة يوسف التي استغرقت شؤونه من طفولته إلى كهولته". من الرسل - عليهم السلام - من لم يقص الله من أنبائهم شيئاً، ومنهم

من قص من أنبائهم، وما يقصه من أنباء هؤلاء يتفاوت قلة وكثرة، فقد يأتي من سيرة رسول على شؤون قليلة، ويأتي من سيرة آخر على شؤون أكثر من ذلك، وفي كُلٍّ حكمة ومأخذُ عبرة. وقصة يوسف - عليه السلام - ذُكرت فيها شؤون من طفولته، وشؤون كهولته؛ لما في هذه الشؤون من عبر ذات أثر في الوعظ والإرشاد، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن قصة يوسف قد استغرقت شؤون طفولته، وشؤون كهولته، وإن ذكر فيها من شؤونه أكثر مما ذكر في القرآن من شؤون غيره. فالتفصيل في قصة يوسف - عليه السلام - إنما هو بالنسبة لما ذكر من شؤون غيره، ولو نظر صاحب المقال إلى أسلوب سوق القصة، وقاسه بأسلوب مؤرخ يعلم حالَ يوسف من نشأته إلى يوم وفاته، لظهر له كيف سلك القرآن - حتى في قصة يوسف - طريقةَ الإيجاز. وأزيد على هذا: أني لم أقل: إن القرآن يسلك في القصص مسلك الإيجاز دائمًا، وإنما قلت: "فقد يسوق من القصة أشياء هي موضع عبرة، ويسلك في سوقها مسلك الإيجاز"، ومن القريب إلى اللهم حمل "قد" في قولي: "فقد يسوق من القصص" على التكثير، أو التقليل، فتكون عبارتي في معنى: أن القرآن يسوق في بعض الأوقات، أو أكثر الأوقات من القصص أشياء هي موضع العبرة، ويسلك في سوقها طريق الإيجاز، ومقتضى أدب البحث وقوانين المنطق الفطري أو اليوناني أن يقال في الرد علي: إن القرآن لم يسلك فيما يقص عليك مسلك الإيجاز قط، لا أن القرآن قد سلك في بعض القصص مسلك التفصيل أو التطويل. ثم قال: "وليقل لنا هذا الكاتب بعد هذا: ما معنى إذن أن القرآن ليس

كتاب تاريخ، وإنما هو كتاب إرشاد؟ وليقل لنا: بماذا يسمّى ما قصه علينا القرآن من تاريخ الأنبياء؛ وهل التاريخ إلا إرشاد مبين وعبرة بالغة؟ ". إذا قلنا: إن القرآن ليس بكتاب تاريخ، فلأنه أنزل ليعظ الناس، ويعلمهم الحكمة، وإذا أخبر ببعض شؤون من مضوا من الرسل وغيرهم، فلِما فيها من حكمة أو عبرة. أما المؤرخ، فإنَّه يقصد لتدوين أخبار الأفراد أو الدول أو الأمم، ولا يبالي أن يسوق من الأخبار ما لو عصرته لم تجد فيه شيئاً من العبرة أو الحكمة. ثم قال صاحب المقال في رده: "ويقول هذا الكاتب: قد يسوق القرآن من القصة شيئاً هو موضع عبرة، وإنا نسائله، ونلُحف في سؤاله: ما هي تلك العبرة في أن حلف أيوب أن يضرب أحدًا من الناس ضربًا قد شق عليه تنفيذه، فاحتاج إلى تلك الحيلة للخلوص منه، أفي مثل هذه دلالة على صبر، أو على شجاعة، أو على أي فضيلة من الفضائل؟ إن مثل هذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدلّ على خلق لا يليق بخواص الناس، فضلًا عن الأنبياء؛ إذ الاندفاع بأذى غير محتمل، شر، وشر منه الحلف على ذلك الوعيد". إذا صدر من شخص قول أو فعل، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يستحق جزاء على هذا القول أو الفعل، وقدر الجزاء بأسواط معدودة، ثم شرع الله حكماً فيه تخفيف هذا الجزاء، كان في هذا التخفيف رحمة بذلك الشخص، ورحمة بالنبي؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -- وإن كان يرى أن ما حلف عليه من العقاب حق، وأن تنفيذه عدل - قد يتمنى لو أن ذلك الشخص لم يأت ما استحق عليه هذه العقوبة، فإذا خفف الحكم ممن بيده الأمر، ارتاح له، وسرَّه أن كان هو، أو هو وأتباعه مظهراً لتلك الرحمة الأزلية.

فلا حرج على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحلف متوعداً على تأديب من يستحق الأدب، بل يعد حلفه أثراً من أثر الغضب لله، وله في تنفيذه المثوبة. ولا حرج عليه في ارتياحه لأن يخفف الله عنه أو عن أتباعه حكماً فيه شيء من المشقة، فإذا دلت الآية على أشياء، فإنها تدل على فضيلة الغضب لله، وعلى جواز الوعيد بالعقوبة البدنية على فعل أو قول لم يراع فيه حق الله، وعلى إباحة الحلف على هذا الوعيد، وعلى أن للحلف بالله حرمةً توجب على الحالف فعلَ ما حلف عليه، فلا يتركه، ولا يفعله على غير وجهه المعروف إلا أن يأذن به الله، وتدل بعد هذا على الخلق العظيم، أو العمل الصالح يجعل الشخص بمقربة من رحمة الله، ويكون سبباً لتخفيف بعض الأحكام، كما أن المعاصي قد تكون سبباً لشدة بعض الأحكام: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] الآية. قال صاحب المقال في رده: "أما تبادر هذا المعنى الذي يذكره المفسرون، فإنما كان من وقوفهم أمام تلك الإسرائيليات مكتوفي الأذهان، مغلولي الأيدي، حتى أصبح هذا المعنى متوارثاً يأخذه اللاحق عن السابق، ولولا تلك الإسرائيليات، ما استطعت أن تفهم هذا من الآية". الضغث: الحزمة من الأعواد، والحنث: الخلف في اليمين، فقوله: {وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، يدلّ على أن أيوب - عليه السلام - صدر منه يمين، وقوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ} [ص: 44]، يدل على أن الحلف كان على الضرب أسواطًا بقصد أن تكون مفرقة، وأن الله تعالى أراد تخفيف هذا العقاب، فجعل الضرب بالأعواد المجموعة مجزئاً. ثم إن هذا المعنى هو الذي يرويه المفسرون والمحدثون عن بعض

الصحابة، ولم يرووا - فيما نعلم - عن أحد منهم معنى غير هذا المعنى، ودعوى أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفضلاء التابعين وقفوا في تفسير الآية أمام تلك الإسرائيليات مكتوفي الأذهان، مغلولي الأيدي، لا نراها إلا دعوى ناشئة عن نظرة عجلى. قال صاحب المقال في رده: "وإذا صحَّ أنه يفهم من الآية، فأي مناسبة بينها وبين الآيات قبلها؟ وما معنى قوله حينئذ بعد هذا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44]، وليس في ذلك دليل على صبر؟ ". ذكر الله تعالى من قصة أيوب - عليه السلام -: أنه نادى ربه لاجئاً إليه مما مسه به الشيطان من النصب والعذاب: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، فاستجاب الله نداءه، وأراد كشفَ التفسير عنه على طريق معجزة، فأمره بضرب الأرض برجله، فنبعت عين بماء بارد، فأذن له في الاغتسال والشرب منه، فعوفي: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، ثم أنعم عليه بعد المعافاة بنعمة أخرى هي جمعهم عليه بعد إنقطاعهم عنه: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [ص: 43]، ثم عطف على هذا نعمة أخرى هي: أَنْ خفف عنه حكم يمين تتعلّق ببعض أتباعه: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، فتضمنت الآيات: أن الله تعالى أنعم على أيوب - عليه السلام - بثلاث نعم، هي: معافاته من المرض، وجمع أهله حوله، وتخفيف حكم اليمين عنه، وعد هذا من النعم؛ لأنه كان يود أن المحلوف على تأديبه لم يأت الأمر الذي أوجب هذا الأدب، وبعث على هذه اليمين. ثم ختمت القصة بالإيماء إلى أنه حقيق بأن يكون مظهراً للعناية، ومصباً

للنعم، فقال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]، والصبر والرجوع إلى الله تعالى في كل حال من أجل الوسائل التي تدني الإنسان من عناية الله ورحمته، فينقله من مقام الصبر على الضراء إلى مقام الشكر على السرّاء. قال صاحب المقال: "أما إذا جرينا على ما فسرتُ أنا به الآيات، فإنك تجد الآيات كلها ترجع إلى أصل واحد، ويربطها نسب واحد، وكلها تصور موضوعًا واحدًا"، ثم أعاد ذكر ما فسر به الآيات، حتى تفسيره لقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]؛ من حملها على معنى "لَوِّحْ إليهم بالأزهار والرياحين"، وجعلها كناية عن اللين في الدعوة؛ ثم قال: "وبذلك نجد موقعًا جدَّ مناسب لقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا}؛ فإنَّه ليس أمضَّ على النفوس، ولا أغمض فيها من أن تدعو قوماً على حق مؤيد بالبرهان، ثم هم يعرضون ويستهزئون، ثم ترى نفسك بعد ذلك وأنت محتوم عليك ملاينتهم ومحاسنتهم". قد أريناك وجه ارتباط قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} بالآيات قبله على الوجه الذي يقرره المفسرون، وهو جارّ على أن هذه الآية واقعة مما قبلها موقع السبب من المسبب، فيرجع نظم الآيات إلى معنى: أنعمنا عليه بالمعافاة، وجمع الشمل، وتخفيف حكم تلك اليمين؛ بما كان يتحلّى به من فضيلتي: الصبر، والإنابة إلى الله في كل شأن. أما صاحب المقال، فإنَّه زعم في مقاله أن أيوب - عليه السلام - كان في وهن عزيمة، وضعف ثقة، وعدم قوة في السير إلى الغاية، فأمر أن يكون ذا عزم، وقيل له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]؛ أي: اعقد عزمك، ثم فسر قوله

تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، بمعنى: جادلهم بالرفق، ولما وصل إلى قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا}، ووجد هذا الثناء البليغ ينقض قوله: إن أيوب كان في وهن من العزم، وضعف في الثقة، جعل الصبر راجعاً إلى احتماله الإعراض والاستهزاء، ومقابلتها بالتلويح بالأزهار والرياحين بعد أن أمر بذلك. ومقتضى هذا التأويل: أن الصبر في قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} حصل بعد أن ظهر منه وهن العزم، وضعف الثقة، ولكن المفسرين يذهبون في وجه الربط إلى أن أيوب - عليه السلام - كان مفطوراً على الصبر من أول أمره، فلم يهن عزمه، ولم تضعف ثقته، ولم تعدم قوته على السير إلى الغاية، ومن كان على هذه الصفة، فهو أهل لهذا الثناء البليغ: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]، وأحقُ من رجل اصطفاه الله للرسالة، فظهر منه - كما يزعم صاحب المقال - وهنُ العزم، وضعف الثقة، وعدم القوة على السير إلى الغاية!.

الرد الخامس

قصة أيوب - عليه السلام - الرد الخامس (¬1) كان صاحب المقال - بعد أن انتهى في مقاله من إيراد تلك الوجوه التي زعم أنها تبطل قول المفسرين في قصة أيوب عليه السلام - قد أبدى رأيه في تفسيرها، وناقشنا رأيه، حتى استبان أنه من قبيل الخواطر التي لا تستند إلى أصول. كان قد أوَّلَ قولَه تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] بمعنى: إعراض الناس، واستهزائهم بالدعوة، وقال: "وما كانت شكوى الأنبياء إلا من إعراض أممهم، ولا كان حزنهم الذي كان يبلغ أحياناً حدَّ الإهلاك للنفس إلاّ لبطءٍ في سير الدعوة إلى الله"، وقال: "انظر إلى قوله تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]، وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6] ". فقلنا في الردِّ عليه: لا يتم لكاتب المقال هذا الوجهُ من الرد على المفسرين، إلا إذا صحَّ أن الأنبياء لا يشكون إلا من إعراض قومهم - كما زعم -، وهذا الزعم غير صحيح، فقد شكا يعقوب - عليه السلام -, وحزن لفقد يوسف ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الرابع من المجلد الثامن الصادر في شهر شوال 1354 هـ.

- عليه السلام -، فقال: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] وقال تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} [يوسف: 84]. ونبَّهنا على أن الآيتين اللتين ساقهما في الاستشهاد إنما يثبتان أن الأنبياء يحزنون لإعراض الناس عن دعوتهم، والمقام مقام استدلال على أنهم لا يشكون، ولا يحزنون إلا من إعراض قومهم. فكان من كاتب المقال أن قال في رده: "أنا لا أنفي أن الأنبياء يحزنون لغير إعراض قومهم عن دعوتهم، ولكني أقول: إنهم لا يحزنون لشيء حزنَهم لصدِّ الشيطان من يدعونهم عن سبيل الله". ولعل القارئ الكريم يرجع إلى عبارته، فيجده يقول: "وما كانت شكوى الأنبياء إلا من إعراض أممهم"، وهذه عبارة تقصر شكوى الأنبياء على إعراض أممهم، فيحق لنا أن ندفعها بمثل قول يعقوب - عليه السلام -: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]. وقال في رده: "ثم أقول بناء على هذا: إن القرآن لا يعني بالحديث عن حزن الأنبياء إلا حزناً يتصل بالدعوة وسيرِها في أممهم، وقد قلت قبل هذا: إن القرآن لم يفرد يعقوب بالحديث عنه، وإنما جاء هذا الحديث الذي ذكره الكاتب في طريق قصص يوسف - عليه السلام -". كاتب المقال يقول: "ما كانت شكوى الأنبياء إلا من إعراض قومهم"، فقلنا: إن يعقوب شكا من فقد يوسف - عليهما السلام - كما أخبر القرآن، والمنطق يقضي عليه بأن يسلم أن الأنبياء يشكون من بلاء غير إعراض قومهم، أو ينازع في أن يعقوب شكا إلى الله شيئاً غير الإعراض، أما قوله: "إن القرآن إنَّما حكى شكوى يعقوب من فقد يوسف في طريق قصة يوسف"،

فلا يصلح أن يكون دفاعاً عن قوله: "وما كانت شكوى الأنبياء إلا من إعراض أممهم عن الاستجابة". وكان صاحب المقال قد قال في مقاله: "ولما كانت الشكوى قد تشعر بوهن في العزيمة، وضعف في الثقة، وعدم القوة في السير إلى الغاية، كان جواب تلك الشكاية أن قيل له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]، فالمراد بالركض هنا: عقد العزيمة، وتأكيدها، واستثمار الثقة وإكمالها، والمضاء بالقوة بغير تردد ولا توان إلى الغاية". فكتبت مبيناً أن قول أيوب - عليه السلام -: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، من قبيل الدعاء, لأنه قام مقام قوله تعالى في سورة الأنبياء: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83]، وعلى نسقه يقال: إن قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، قائم مقام آية {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء: 84]، في سورة الأنبياء؛ وإنما يكون في معنى الإخبار بالاستجابة إذا دلَّ على حال يخرج بها أيوب من البلاء إلى السلامة، وهذا محقق فيما جرى عليه المفسرون في تفسير آية: {ارْكُضْ}. كتبت هذا، وصرحت بأن أيوب - عليه السلام - يقصد من مناجاته الدعاء بكشف البلاء, لأدل على أن خطاب أيوب في سورة ص من قبيل الدعاء على طريقة التعريض، وأن ما قاله المفسرون موافق لجعل الآية من قبيل الدعاء الذي لا يدلّ على شيء أكثر من الضراعة إلى الله عند الوقوع في شدة. وكان من صاحب المقال أن خرج عن هذا القصد، وأخذ يذكر أن ما جرى عليه هو في التفسير أيضًا يجعل قول الله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} دلالة على

الخروج من ألم استبطاء النصر، فهي بمثابة بشارة بنجاح دعوته متى أكد العزيمة، واستتم الثقة، فيكون قوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]، قد وقع موقع الاستجابة. وهذا الذي كتبه لا يليق رداً على ما كتباه؛ لأن موضوع البحث هو أن الوجه الذي فسر به الآية لا ينتظم معناه إلا أن يجعل الآية من قبل الشكاية الدالة على وهن في العزيمة، وضعف في الثقة، وعدم القوة في السير إلى الغاية، وكان ردنا على هذا: أن خطاب أيوب من قبيل الدعاء الخالص، وهذا المعنى موافق لما قاله المفسرون، أما وهن العزيمة، وما عُطف عليه، فشيء زائد على ما يقتضيه حال الدعاء. ثم قلت في الرد: "وإن سلمنا أن قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، من قبيل الشكوى، فليس من لوازم شكوى الرسول إلى الله من إعراض قومه عن دعوته أن يكون واهن العزيمة، ضعيف الثقة، عادمَ القوة في السير إلى الغاية، والشكوى إلى الله تعالى من التفسير تكون مع الصبر، كما أن الشكوى إلى الله من إعراض القوم تكون مع قوة العزم". فقال صاحب المقال في رده: "أنا لم أقل: إن هذه الشكوى وهن في العزيمة، ولكن قلت: تشعر بوهن في العزيمة، وما أظن الكاتب يجهل الفرق بين العبارتين، ولما كانت حسنات الأبرار سيئات المقربين، كان الجواب الطبيعي من الله مؤدبِ الأنبياء هو أن يقول له: اعقد العزيمة، وأكدها، وذلك ما يغسل عنك ألماً أنت فيه من بطء دعوتك وإعراض قومك". لم أحك عنه إنه قال: إن شكاية أيوب وهن في العزيمة، بل حكيت عنه أنه قال: "ولما كانت الشكوى قد تشعر بوهن في العزيمة، وضعف في

الثقة، وعدم القوة في السير إلى الغاية، كان جواب تلك الشكاية أن قيل له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] ". ومن يتحدث عن كلام وقع خطاباً لعلَّام الغيوب، ويقول فيه: إنه يشعر بوهن في العزيمة، وضعف في الثقة، فقال له علَّام الغيوب: اعقد عزمك، فلا بد من أن يريد: أن هذا كان إشعاراً للمخاطب، وهو الله، فيكون قد أثبت لصاحبه الوهن في العزيمة، والضعف في الثقة، فإذا قلنا: إن صاحب المقال قد نسب إلى أيوب - عليه السلام - وهنَ العزيمة، وما عُطف عليه، فلأنه جعل مناجاته لله مشعرةً بذلك، وجعل قول الله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} مترتباً على ذلك الإشعار. ثم قال صاحب المقال في رده: "على أنه قد جاء في القرآن ما يدلّ صراحة على أن الأنبياء كثيراً ما يستبطئون نصر الله"، وأورد آية: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214]، وقال: "إذ لا مانع من أن أيوب حين اشتد عليه أمر قومه، وإعراضهم عنه، يستبطئ سير الدعوة، ويستبطئ نصر الله، وما في ذلك من مساس بقدس الأنبياء, فإن حرصهم قد يدفعهم إلى الاستباق من الله بالنجاح". قد يستبطئ الرسول نصر الله، ويقول: متى نصر الله؟ ولا يدخل ذلك على أنه واهن العزيمة، وضعيف الثقة، عادم القوة في السير إلى الغاية، فإذا فرض صاحب المقال أن أيوب - عليه السلام - استبطأ سير الدعوة، أو استبطأ نصر الله، فليس له أن يفرض شيئاً آخر بعده، وهو وهن العزيمة وما عُطف عليه، وهذا هو موضع بحثنا معه إذ قلنا: "فنسبة رسول من رسل الله إلى وهن العزيمة، وضعف الثقة، وعدم القوة في السير إلى الغاية، ليست بالأمر الهين،

فلا بدَّ له من نقل ثابت صريح، ولا يكفي فيه مجرد شكواه إلى الله تعالى من عدم قبول القوم دعوته". ثم قال: "لا، بل قد جاء في القرآن ما يدلّ على أكثر من ذلك، جاء فيه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110]، فانظر كيف نسبت الآية إلى الرسل يأساً من النصر ونجاحِ الدعوة، وقد يفهم الجاهلون في ذلك مساساً بقدس الأنبياء، ولكنهم في ذلك جد مخطئين؛ فإن استبطاء الأنبياء للنصر حيناً، ويأسهم حيناً آخر، ليس من سر سوى شديد رغبتهم، وبالغ حرصهم على نجاح دعوتهم، وإيمانِ قومهم، لا جرم يستبطئون النصر، ولا جرم ييئسون". قد يجتهد الرسول، فيحدد مدة يظن أن النصر لا يتأخر عنها، حتى إذا طال الزمن، وانقضت المدة المحدودة للنصر بحسب ظنه، ولم ير النصر، استشعر اليأس من أن ينصر في الدنيا، وظنَّ أن نفسه قد كذبته فيما كانت تحدثه به عن النصر، فإذا نصرُ الله يأتيه فجأة، فينجي الله من يشاء، ولا يُرد بأسُه عن القوم المجرمين، وإذا استشعر الرسول هذا اليأس، فلأنه ليس بواجب على الله - في نظر العقل - أن ينزل العذاب في الدنيا على من لم يؤمنوا برسله، كما أنه ليس من لوازم الرسالة أن يهتدي بها طوائف كثيرة من الناس، ففي الحديث الصحيح: "يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه الرجل والرجلان، والنبي ومعه الرهط". والرسول مع استشعاره لليأس يستمر على القيام بواجب الرسالة حتى يأتي أمر الله، فلا يصح الاستشهاد باستشعار الرسل لليأس من النصر، أو من إيمان قومهم في بعض الأحيان، على أن أيوب - عليه السلام - كان واهنَ

العزم، ضعيف الثقة، عادم القوة في السير إلى الغاية. ثم قال في رده: "وأخيراً: فاسألوا هذا الكاتب عن تلك الآيات: هل تكفي نقلاً ثابتاً، أم يحتاج معها إلى دليل آخر؟ ". الآية الأولى دلت على أن الرسول قد يستبطئ النصر فيقول: متى نصر الله؟ واستبطاء النصر شيء، ووهن العزم وعدم القوة في السير إلى الغاية شيء آخر. والآية الثانية دلت على أن الرسول قد تطول أيام دعوته، ولا يظهر على قومه، فيستشعر اليأس من الانتصار عليهم في الدنيا، فيأتيه النصر فجأة، واستشعار اليأس من هذا الانتصار لا يدلّ على الوهن في العزم، وعدم القوة في السير إلى الغاية. وإن سلَّمنا أن الله قد يبعث رسولًا يجمع إلى الوهن في العزيمة، والضعف في الثقة عدمَ القوة في السير إلى الغاية، فإني محتاج إلى دليل يثبت أن أيوب - عليه السلام - قد اجتمعت فيه هذه الأشياء، حتى يصح لي أن أنسبها إليه وأنا مطمئن القلب، بريء من أن كون قد نسبتها إليه بغير حق. والنبيُّ يؤثر أن يصاب في جسمه على أن يصاب في عزمه وثباته في الدعوة إلى الغاية. وكان صاحب المقال أوَّلَ قولَه تعالى: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، على أن اسم الإشارة راجع إلى الركض بالرجل، فقال: "ولما كان تردد المرء في غايته، ووهن عزيمته، وضعف ثقته بها، صَدَأً يغشى الأرواح، ومرضاً يتعب النفوس، ويضايق الصدور، وكان استكمال العزيمة، واستتمام الثقة غسلاً للأرواح من صدئها، ونقعاً للغلة، قال: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} ". فقلنا في التعليق على هذا: "فرض كاتب المقال أن أيوب كان متردداً

في إدراك الغاية، واهنَ العزيمة حتى صار هذا الحال يغشى روحه، فرض الكاتب هذا, ليجعل المراد من المغتسل البارد والشراب: عقد العزيمة، واستكمال الثقة". فقال في دفاعه: "إنه بعد ما تلوتُ عليك من آيات القرآن ما عُزِي إلى الرسل؛ من استبطاء النجاح في دعوتهم، لم يكن ذلك فرضًا، بل هو أمر واقع، بل الواقع أكثرُ من هذا، فقد نسب إلى الرسل اليأس من النصر في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} [يوسف: 110]، ... إلخ ". استبطاء النصر، أو استشعار اليأس منه، أمر يقع للرسل - عليهم السلام -، أما وهن العزم، وعدم القوة في السير إلى الغاية، فقد نسبهما صاحب المقال إلى أيوب - عليه السلام - فرضاً؛ فإنه على تسليم أن يكون المراد من قوله تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]،: الشكاية من إعراض قومه، فإن مجرد هذه الشكوى لا يكفي دليلاً على أنه وقع في وهن من العزم، وفقد القوة في السير إلى الغاية، وقد شكا نوح - عليه السلام - من إعراض قومه عن في دعوته، فقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح: 5، 6]، ولا يصح لأحد يقف على هذه الآيات أن يقول: إن نوحاً - عليه السلام - كان واهن العزم، ضعيف الثقة، فاقد القوة في السير إلى الغاية. وقال صاحب المقال في رده: "ونحن نعلم - كما يعلم هذا الكاتب -: أن هذا القرآن نزل بلسان عربي مبين، ونوقن أن القرآن نزل - مع هذا - مملوءاً بالكنايات والاستعارات، أما أن ما بينته من الكناية فيه تكلف، فسرُّ التكلف في نظر هذا الكاتب تأثر نفسه بالإسرائيليات، وتلك نتيجة طبيعية للتقليد،

ولم يبق بين يدي الكاتب من شبهة إلا أن يقول: إنا وجدنا آباءنا كذلك يقولون". في القرآن استعارات بديعية، وكنايات لطيفة؛ كقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]، وقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]، وقولى تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35]، وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8]، وقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وقوله تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]. فإذا قلت: إن ما ذكره صاحب المقال في تفسير: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، فيه تكلف، فسزُ ذلك أني وجدته غيرَ ملائم لما عرف به القرآن من حسن البيان، وبعيداً من طريقة القرآن في إيراد الإستعارات والكنايات؛ إذ يأتي بها على وجه تتسابق به المعاني إلى الأذهان تسابقَها عندما يعبر بألفاظها الحقيقية. وكان صاحب المقال قد ذكر من وجوه رده على المفسرين: أن تفسيرهم "يقضي بأن مرجع اسم الإشارة إلى الماء، وهذا يقتضي ألا يكون لاسم الإشارة مرجع، وليس في النظم ما يدل عليه، وذلك شيء تأباه اللغة". فقلنا في دفع هذا: إن اسم الإشارة يستعمل مشاراً به إلى أمر معقول، أو غائب، وهذا الاستعمال هو الذي يحتاج فيه إلى مرجع، ويستعمل مشاراً به إلى محسوس مشاهَد للمتكلم والمخاطب، وهذا الاستعمال لا يحتاج فيه

اسم الإشارة إلى مرجع، ومن البين أن اسم الإشارة في الآية مستعمل في أمر يراه المتكلم والمخاطب، وهو الماء. كتبنا هذا، وفي ظننا أن صاحب المقال إنما كتب ذلك الوجه من الرد غافلًا عن تفصيل الحكم في مرجع اسم الإشارة، وأنه سيمسك عن الخوض في هذا البحث، ولكنه كلف قلمه أن يكتب شيئاً يسميه: رداً على ما كتبناه، فقال: "وإنا نقول لهذا الكاتب أولًا: إن القرآن إنما يحكي الجملة التي أوحى الله بها إلى أيوب، وأيوب - طبعاً - لم يركض برجله إلا بعد أن تلقَّى هذه الجملة، وساعةَ تلقيها لم يكن الماء موجوداً حتى يكون مشاهداً للمتكلم والمخاطب، فتكون الإشارة حينئذ إلى غائب مما يحتاج إلى مرجع في الكلام". يقول المفسرون: إن قوله تعالى: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، حكاية لما قيل لأيوب بعد امتثاله للأمر، ونبعِ الماء، أو مقول لقول مقدر معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام؛ كأنه قيل: "فركض برجله، فنبعت عين، فقلنا له: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} (¬1)، فاستبان من هذا أن المفسرين يصرحون بأن الإشارة في قوله تعالى: {هَذَا مُغْتَسَلٌ} وقعت بعد الركض بالرجل، ونبع الماء، ولم يبق إلا أن صاحب المقال لم ينصف المفسرين، إذ قام يحمل عليهم حملته، ولا يكلف نفسه النظر في عباراتهم بشيء من التدبر. ثم قال: "ونقول ثانياً: إن مشاهدة المتكلم والمخاطب للمشار إليه إنما ¬

_ (¬1) "تفسير الألوسي".

تغني عن مرجع بالنسبة إلى المتكلم والمخاطب، أما إذا أريد إفهام الكلام لغير المتكلم والمخاطب، فلا بدَّ من مرجع يمكن للسامع معه أن يفهم ما يسمعه، وإلا، لصحَّ أن تقول لشخص: أنا اليوم قابلت فلاناً، وقلت له: هذا ملك أخي، دون أن يسبق ذكر المشار إليه، ودون أن يكون في الكلام ما يدل عليه، مع أن هذا كلام لا يمكن لمن تحدثه به أن يفهمه". لو ذكر لك طبيب اسم شخص، وقال لك: شكا إليَّ مرضاً نزل به، فقلت له: هذا دهن، وهذا شراب، لفهمت ماذا أراد، ورأيت اسم الإشارة كيف يستغني عن مرجع يتقدم عليه. ولو حدثك إنسان عن شخص، وقال لك: شكا إليَّ شدة البرد، فقلت له: هذا رداء وإزار، وهذا فراش وغطاء، لرأيته في غنى عن أن يذكر لاسم الإشارة مرجعاً غير ما أشار إليه من بعد. وقوله تعالى: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، بعد حكايته قول أيوب - عليه السلام -: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83]، وقوله: {بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، وبعد قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]، ظاهرٌ في أن المشار إليه هو الماء النابع من الأرض. وكان صاحب المقال قد قال في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [ص: 43]: "أي: هدينا له أهله، فاَمنوا به، واستجابوا لدعوته، وهدينا له مثلهم من غير أهله". وقال: "فليس المراد بالهبة هنا هبة الخلق والإيجاد، بل هبة الهداية والإرشادة بدليل تعبيره بالأهل دون الذرية والولد كما في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53]؛ إذ كل ما يهتم له الأنبياء إنما هو أن يهدي الله لهم، لا أن يولد لهم".

فقلنا له: إن طائفة من المفسرين يقولون: إن المراد من هبة الأهل في هذه الآية، ومن إيتائهم في آية الأنبياء: جمعُهم عليه بعد تفرق، لا إيجادهم بعد عدم، ولا إحياؤهم بعد موت، وهذا المعنى أقرب إلى الفهم من معنى: هدينا له، وقلنا: إن الهبة: إعطاء الشيء من غير عوض، وهذا المعنى يتحقق في جانب الله بجمع أهل الرجل عليه بعد تفرقهم، فحمل الهبة على الجمع حمل للفظ على معنى قريب من الذهن، أما الهداية، فمعنى زائد على ما يفهم من لفظ الهبة، وإنما يصرف اللفظ عن المعنى المتبادر متى وجد المقتضى لهذا الصرف. فقال صاحب المقال في رده: "أنا لا أدري لم كان المعنى الحقيقي للفظ الهبة إنما يتحقق في جانب الله بجمعه أهلَ الرجل بعد تفرقهم، ولا يتحقق بهداية أهل الرجل به بعد ضلالهم". قال الله تعالى في سورة الأنبياء: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء: 84]، وقال في سورة ص: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [ص: 43]، وفي الآيتين أمران يصرفان الهبة والإيتاء عن معنى: أنه وجد له أهلًا بعد أن لم يكن له أهل: أولهما: مجيء لفظ الأهل مضافاً إلى ضمير أيوب - عليه السلام -؛ فإنه ظاهر في أن الهبة تعلقت بهم، وهم أهل. ثانيهما: قوله تعالى: {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [ص: 43]؛ فإنه إذا كان هؤلاء المثل من قبيل الأهل، لا ينتظم المعنى على أن تكون الهبة أو الإيتاء بمعنى: الخلق والإيجاد, إذ يصير المعنى: خلقنا له أهله، وأهلاً مثلهم، فلا يظهر له وجه من الفائدة مقبول، وإذا لم يصح حمل الهبة أو الإيتاء على الخلق والإيجاد،

كان المعنى المتبادر من نسبة الهبة أو الإيتاء إلى الله: جمعهم عليه بعد تفرق؛ فإن إعطاء شيء لشخص إيصالُه إليه، والإيصال يتحقق في جمعهم عليه بعد التفرق، أما معنى هدايتهم بعد كفرهم، فأمر خارج عن معنى الإيتاء والهبة، فلا يحملان عليه إلا بدليل. ثم إن حمل الهبة والإيتاء على معنى الهداية يستدعي أن يحمل قوله: {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [ص: 43]، على طائفة من غير أهله، والمماثلة ظاهرة في العدد، وإذا كانت الآية مسوقة مساق الامتنان، فإن الامتنان يظهر في كثرة من شملتهم هذه الهداية، وإذا قيل في معنى الآية: آمن به أهله، ومثلهم معهم، لم يكن المعنى ملائمًا للسياق؛ فإن إيمان أهل الرجل ومثلهم معهم لا يدل في العادة على كثرة المؤمنين به، ولا يظهر أن يكون المراد بيان عدد من آمنوا بأيوب؛ فإن عدد أهله غير معروف، حتى إذا قيل: وآمن مثلهم معهم، عرف مقدار من آمنوا به. أما ما يقوله المفسرون، فإنه يوافق ما سيقت له الآية من الامتنان؛ فإن انقطاع الرجل عن أهله بلاءً، وجمع أهله عليه نعمة، كيفما كان عددهم، ومتى قيل: وآتيناه مثلهم معهم، كان وجه المنة أظهر، فالتأم معنى الآية مع السياق. وقال صاحب المقال: "إن المعنى الذي فسرتُ به الآية أقربُ إلى المعنى الحقيقي مما فسر به المفسرون، إذ هداية الله للناس أكبرُ ما يهتم له الأنبياء، ففي الهداية يتحقق معنى الإعطاء، أما جمع الأهل فهو: أولاً: هَيّنٌ على الأنبياء ما دام لم يكن جمعاً للهداية. وثانياً: ليس فيه جديد يوهب، إن أهل الرجل هم أهله، إن تفرقوا عنه، أو اجتمعوا عليه".

قد أريناك أن معنى الجمع بعد التفرق في لفظ الهبة أظهر من معنى الهداية، ومتى كان هناك معنى يتبادر من اللفظ، ويتحقق به معنى الهداية، كان أحقَّ بأن تحمل عليه الآية، وعدّ الجمع بعد التفرق في سياق النعم يقتضي أن يكون الله قد جمعهم عليه وهم مهتدون بهديه، وأهل الرجل في حال تفرقهم عنه أهله، ولكن انقطاع الصلة بينه وبينهم يجعلهم بمنزلة العدم، فجمعُهم عليه بعد انقطاع الصلة كإيجادهم بعد أن لم يكونوا. وكان قد قال في مقاله: "إذ كل ما يهتم له الأنبياء إنما هو أن يهدي الله لهم، لا أن يولد لهم". قال هذا لينفي أن يكون جمعُ الأهل بعد التفرق مما يهتم له النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يستحق في زعمه أن يذكر في جملة النعم التي أنعم الله بها عليه: فقلنا في الرد عليه: يهتم الأنبياء لأن يهدي الله بهم، ولكنهم يقدرون نعماً أخرى، فلا يفوتهم أن تأخذ حظاً من اهتمامهم، فقد أثنى إبراهيم - عليه السلام - على الله بما وهبه من نعمة الشفاء، فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موت ابنه: "إنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون"، وهذا يدل على أنهم يهتمون لأشياء غير هداية قومهم. فقال في الردّ على هذا: "وإذا كان الكاتب معترفاً بأن أهم ما يهتم له الأنبياء أن يهدي الله بهم، فلنسجل عليه هذا، ثم نعرفه أنا نعتقد أن الأنبياء بشر، يألمون لما يألم له الناس، ويحزنون لما له يحزنون، لكن القرآن لا يحدثنا عنهم إلا بأهم ما يهتمون له". ولعل كاتب المقال نسي أنه قال: "إذ كل ما يهتم له الأنبياء إنما هو أن يهدي الله لهم، لا أن يولد لهم"، فهو يحصر كل ما يهتم له الأنبياء في الهداية

لهم، فكان من مقتضى المنطق أن نورد عليه أشياء ظهر فيها اهتمام الأنبياء، وليست من قبيل هداية القوم، ولو قال: إن أهم ما يهتم له الأنبياء أن يهدي الله بهم، لسلكنا في الرد عليه وجهة أخرى هي: أن كون الهداية أهم في نظر النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا يمنع من أن يذكر الله تعالى أمرًا كان مظهراً من مظاهر الإنعام الذي يرتاح له النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان دون نعمة الهداية به. كان صاحب المقال قد قال في تفسير قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]: "أي: لا ترفع في وجوه قومك رمحاً ولا عصاً، ولا تُغلظ لهم في القول، ولا تخاشنهم في الطلب، بل لوّح لهم في وجوهم بالرياحين والأزهار، ولا تأثم بالغلظة". فكتبنا في التعليق عليه: "هكذا يقول صاحب المقال، ويقول زعيم القاديانية الضالَّة عن السبيل محمَّد علي في تعليقه على ترجمته للقرآن الكريم إلى الإِنجليزية: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا}: القرينة تدل على أن المقصود من ذلك أعداؤه، والمراد من أخذ الضغث والضرب بها معاملتهم باللين والرفق". ونقلنا بعدُ: أن أبا زيد الدمنهوري صاحب التفسير المنبوذ قد أوَّل: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} بمعنى: أخذه بيده شيئاً من مجموعة من خليط من الحطب أو الحشيش، أو غيره؛ لتكون بضاعة يكتسب بها العيش، ونبهنا على أن قول أبي زيد في تفسير: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]،: أن أيوب كان في سفر مسه منه تعب ومشقة، وكان محتاجاً إلى الماء، هو ما فسر به الآية زعيمُ تلك الطائفة الخارجة عن سبيل المؤمنين. وكان من صاحب المقال أن كتب في رده فقال: "قل لي بربك: ماذا يفيد الكاتب من أن يعلق على ما أولت به الآية بسوق ما قاله زعيم القاديانية،

وسوق ما قاله أبو زيد الدمنهوري؟ ". القاديانية وليدة الباطنية، ومن مبادئ هذه الفرقة إنكارُ المعجزات الكونية، وقد التزم زعيمهم أن يأتي إلى كل آية ظاهرة في معجزة كونية، ويخرجها عن ظاهرها بكلام يجعلها أمراً عادياً، وجرى في أثره أبو زيد صاحب التفسير المنبوذ، فلا يمر بآية فيها معجزة إلا حزَفها عن معناها كما يحرفها زعيم القاديانية. وقد وجدت في تفسير صاحب المقال لهذه القصة رأياً أول من قاله زعيم تلك الطائفة، ويكفي داعياً إلى التنبيه على ذلك حق التاريخ, فإن نشأة الآراء وأسباب نشأتها من الأغراض التي يبحث عنها العالم، ويراها من وسائل التحقيق في العلم. ثم إني نبهت لذلك على أمل أن يتروى صاحب المقال في النزعة التي أخذ ينزع إليها في تفسير كتاب الله، ومن قال لشخص: إن رأيك غير صواب، وقد سبقك إليه فلان الضال، قد يريد حثَّه على إعادة النظر في رأيه؛ عساه أن ينكشف له من وجوه فساده ما خفي عليه من قبل؛ فإن شأن الطوائف الضالَّة عن السبيل أن يبنوا اَراءهم على أهواء طائشة، أو أصول فاسدة. وأما سوقُ ما قاله أبو زيد الدمنهوري، فلأن أبا زيد ركب في تفسير القصة كما ركب زعيم القاديانية رأسه، وذكر الشيء لمناسبة يسميه أهل العلم: استطراداً. وقال صاحب المقال: "أعرف فريقاً من الناس - منهم هذا الكاتب - اعتادوا ألا يفاجئوا العامة بحق يخالف خرافاتهم وأوهامهم، ويرون أن هذا سبيل إلى تزعُم العامة، وأن في ذلك منافعَ لهم ومصالح، كما اعتادوا أن

يستَعْدوا العامة على أنصار الحق". حاربت، وأحارب الخرافاتِ والأوهام، ولتزعُّم العامة سيرة غيرُ السيرة التي أغدو عليها وأروح، ولو كنت أحرص على هذا التزعم، لآثرت السلامة من ألسنة بعض الخلق، على الحق، ولست ممن يرى استعداء العامة على أهل البدع والضلالات والأهواء، فضلًا عن استعدائهم على أنصار الحق، وأرى أن خير ما يستعدى على هؤلاء الحجَّة، والمجادلة على طريق آداب البحث، ذلك أن الحجة والمجادلة على قانون المنطق هي التي تقتل آراءهم، وتستأصلها من منابتها. وقال في رده: "ولقد كان هذا الفريق في كل عصر قَذى في عين الإِسلام، وشوكة في ظهره". شتم رجلٌ عمرَ بنَ ذر، فلم يرد عليه، وقال له: "إني أَمَتُّ مشاتمةَ الرجال صغيراً، فلن أحييها كبيراً". قال صاحب المقال في رده: "واسألوا هذا الكاتب: ماذا دعاه أن يكتب ما كتب؟ هل جئت بشيء يخالف أصلًا من أصول الدين، أو فرعاً من فروعه؟ وكل ما جئته أني خالفت تلك الإسرائيليات التي يكاد يراها الكاتب ديناً تجب الثورة على من يخالفه". الرد على طريقة البحث العلمي لم يسبق لأحد أن سماه: ثورة، ويكفي داعيا إلى مناقشة الكاتب: تخطئته للمفسرين بإبداء خواطر لا تتصل بأصول معقولة، ثم أخذه في تفسير القرآن على نحو لا يلتقي مع بلاغة القرآن، وحسنِ بيانه. وحكى صاحب المقال ما قلته في الرد عليه من أن مسلكه في تأويل القصة مسلك من لا يراعي لحسن البيان حقاً، ولا للذوق العربي عهداً؛ إذ

حمل آيات من القرآن الكريم متتابعات على كنايات واستعارات لا تدخل الآذان إلا كرهاً، وقال في الرد على هذا: "هكذا يقول هذا الكاتب، وإنها لدعاوى يلفظها الكاتب دون أن يكون عليها دليل، أو شبه دليل". المفسرون يحملون آية: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، علي معانيها الحقيقية، ويحملون آية: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، كذلك على معانيها المعروفة في اللغة، أما صاحب المقال، فإنه عمد إلى هذه الآيات، وخرج بها على باب من الاستعارة والكناية غير معروف في أساليب ذلك الكتاب الذي نزل بلسان عربي مبين. ويكفي في التنبيه على بطلان هذا التفسير: أن نحكي عبارات صاحبه مجردة من كل تعليق، فإنك لا تجد أحدًا يتلو القرآن الحكيم، أو يستمع إلى من يتلوه، حتى يعرف روعة بيانه، ويأنس بحسن استعاراته وكناياته، يتقبل هذا الذي يقوله صاحب المقال في هذه الآيات، ومن الذي يجد في ذوقه أو ذهنه استعداداً لقبول أن يكون معنى قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}. قوِّ عزمك، واستتم ثقتك؛ فإن استكمال العزم واستتمام الثقة يغسل الأرواح من التردد في الغاية، ووهن العزيمة، وضعف الثقة، وينقع غلتها؟! أو لقبول أن يكون معنى قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ}: لا تغلظ لقومك في القول، بل لوّح لهم في وجوههم بالأزهار والرياحين؟!. وإذا كان صاحب المقال يحسب أن كل استعارة وكناية أبلغُ من الحقيقة، فقد ظن ما لم يخطر للبلغاء على بال. فالحق أن القرآن المجيد لا يأتي الاستعارة أو الكناية إلا أن تكون واضحة

المنهج، قريبة المأخذ، وبمثل هذا الوجه اشتد عضدنا في الرد على طائفة الباطنية؛ إذ حرَّفوا الآيات عن مواضعها، وصرفوها إلى استعارات وكنايات ينكرها الذوق السليم، ولا تحتملها قوانين البيان. ثم قال كاتب المقال في رده: "وإنَّما اندفع هذا الكاتب إليها - أي: إلى تلك الدعاوى -؛ لتأثره بإسرائيليات نشأ عليها، فغدت عقيدةً عنده لا يستند فيها إلا إلى التقليد، وقديماً رمى الناس الأنبياء بالسحر والجنون، وغير ذلك، مع وضوح حجتهم، وسطوع برهانهم، ولكنه التقليد أعماهم حتى قالوا: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74]، ". يريد من الدعاوى: ما بينته من حمله للآيات على استعارات وكنايات بعيدة لا داعي إليها، ولا قرينة تساعد عليها، وقد أكثر من ذكر أني أكتب متأثرًا بالإسرائيليات، أو كتب عن تقليد، وهذا حديث لا يعود على البحث بجدوى؛ فإنا نكتب لذوي الفطر السليمة، والأفكار النبيهة، وهؤلاء يميزون الشبهة من الحجَّة، ويفرقون بين المعقولات والخيالات، ولا يتجافون عن رأي لمجرد أنه رأي قديم، أو يطيشون إلى آخر لمجرد أنه رأي جديد، فلا يضر الباحثَ أن يقال عنه إنه متأثر بالإسرائيليات، وهو غير متأثر بها، أو يقال عنه: إنه مقلد، وهو يسوق بحثه على طرق منطقية. وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

نزل القرآن على سبعة أحرف

نزل القرآن على سبعة أحرف (¬1) ورد هذا الحديث من رواية نحو عشرين من الصحابة، وعدَّه أبو عبيد في الأحاديث المتواترة. ولم يرد نص أو أثر في المراد من السبعة الأحرف (¬2). والحرف يطلق بمعنى: الكلمة، وواحد حروف التهجيّ، والمعنى، والوجه، واللغة، وطرف الشيء. ومن هنا اتسع الخلاف بين المتكلمين في معنى الحديث. فذهبت طائفة إلى أنه حديث مشكل لا يدرى معناه، وهذا ما ذهب إليه أبو جعفر بن سعدان النحوي، واختاره السيوطي في "حاشيته على سنن النسائيُّ"، وقال: والمختار عندي: أنه من المتشابه الذي لا يدرى تأويله. وذهب جمهور أهل العلم إلى أنه من الأحاديث الميسورة البيان، وهؤلاء اختلفوا اختلافًا كثيراً. ¬

_ (¬1) محاضرة ألقاها الإمام محمد الخضر حسين لطلبة التخصص في التفسير والحديث بكلية أصول الدين بالجامع الأزهر - وجدتها مخطوطة في أوراق الإمام المحفوظة في دار الوثائق القومية بالقاهرة. ونشرتها سابقاً في كتاب "المستدرك الأول من تراث الإمام محمد الخضر حسين". (¬2) "العواصم والقواصم" لأبي بكر بن العربي.

ونحن نذكر أشهر أقوالهم، ونقرر ما هو الراجح من جهة الدليل: أولها: أن المراد من السبعة الأحرف: أصناف من الكلام، وهي: النهي، والأمر، والحلال، والحرام، والمحكم، والمتشابه، والأمثال، واستدل هؤلاء بحديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان الكتاب الأول ينزل على سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحِلّوا حلاله، وحرِّموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه" (¬1). وردّ هذا الرأي بأن حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه" يدل على أن الأوجه السبعة المذكورة قد تجتمع في كلمة، والأحرف- بمعنى الأصناف المذكورة في حديث ابن مسعود - لا تجتمع في كلمة واحدة، ثم إن حديث عمر بن الخطّاب، وهشام بن حكيم يدل على أن اختلاف الأحرف يرجع إلى اللفظ دون المعنى، فإنهما لم يختلفا في تفسيره، وإنما اختلفا في قراءة حروفه. وإذا لم يصح أن يكون حديث ابن مسعود مفسِّراً لحديث: "نزل القرآن على سبعة أحرف"، فمن المحتمل أن يكون قوله: "زاجر، وآمر، وحلال ... إلخ " كلام مستأنف. ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة، أو يحمل على أنه تفسير للأبواب في قوله: "على سبعة أبواب"، لا للأحرف ¬

_ (¬1) رواه أبو سلمة عبد الرحمن عن ابن مسعود، وأبو سلمة هذا لم يلق ابن مسعود، فهو منقطع. وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن الزهريّ عن أبي سلمة، مرسلاً، وقال: هذا مرسل جيد.

من قوله: "على سبعة أحرف". ثانيها: المراد من الأحرف: الأوجه، وهي وجوه تأدية المعنى الواحد بألفاظ مترادفة، ونسبه ابن عبد البر إلى أكثر أهل العلم، ونبَّه على أن المراد: تأدية المعنى بألفاظ مختلفة، ولو كانت من لغة واحدة؛ نحو: هلمَّ وتعالَ وأقْبِلْ. ثالثها: المراد من الأحرف: الوجوه التي يراد بها التغاير، وهذا ما ذهب إليه ابن قتيبة، وفصّل هذا الوجوه السبعة فقال: 1 - ما تتغير حركته، ولا يزول معناه ولا صورته؛ مثل: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ} [البقرة: 282]، - بالفتح، والرفع -. 2 - ما يتغير بالفعل مثل: (باعدْ) بلفظ الطلب، و (باعدَ) بلفظ الماضي. 3 - ما يتغير باللفظ مثل: (ننشزها)، و (ننشرها). 4 - ما يتغير بإبدال حرف قريب المخرج مثل: (طلح منضود)، و (طلع منضود). 5 - ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل: (وجاءت سكرة الموت بالحق)، و (سكرة الحق بالموت). 6 - ما يتغير بزيادة أو نقصان مثل: (والذكر والأنثى)، (وما خلق الذكر والأنثى). 7 - ما يتغير بإبدال كلمة بأخرى مثل: (كالعهن المنفوش)، و (كالصوف المنفوش). ونوقش هذا الرأي بأن الحديث ورد وأكثرهم يومئذ لا يكتب، ولا يعرف الرسم، وإنما كانوا يعرفون الحروف ومخارجها، فمن البعيد جعل ما يختلف

بالحركات مع اتحاد صورة الكتابة حرفاً. ونرى من البعيد أيضاً أن يقصد الحديث إلى أن يعد ما يختلف فيه اللفظان بحروف متقاربة حرفاً، وما يختلف فيه اللفظان بحروف متباعدة حرفاً، بل الظاهر أن ما يختلف بالحروف حروفاً متقاربة أو متباعدة يعدّ حرفاً واحداً. ولا يتمشى هذا القول مع من يرى أن السبعة الأحرف باقية في المصحف. ونحن نستبعد أن يلاحظ في الحديث إلى أن يعد ما يختلف فيه اللفظان بحروف منقوطة، أو تغير بحروف متقاربة أو متباعدة حرفاً من الأحرف السبعة في الحديث يعدُّ اختلاف الألفاظ بنقط بعض حروفها، أو بحروف متقاربة أو متباعدة حرفاً مستقلاً. رابعها: إن الأحرف السبعة ترجع إلى كيفية النطق بالتلاوة من إدغام وإظهار، وتفخيم وترقيق، وإمالة وإشباع، ومدّ وقصر، وتخفيف وتليين وتحقيق؛ لأن العرب كانت مختلفة اللغات في هذه الوجوه، فيسَّر الله عليهم؛ ليقرأ كل إنسان بما يوافق لغته، ويسهل على لسانه. خامسها: أن المراد من الأحرف: اللغات، وإلى هذا ذهب أبو عبيد، والزهريّ، وصححه البيهقي في "شعب الإيمان"؛ أي: أن القرآن نزل على سبع لغات من لغات العرب. والمراد: أن اللغات السبع مفرَّقة في القرآن، لا أن كل كلمة تقرأ سبع لغات. وإذا اعتمدنا تغير الأحرف باللغات، فإنما نعني: أن الله تعالى أنزل القرآن على هذه اللغات حتى يتيسر لكل عربي أن يقرأه على وفق لغته، لا أنه أباح للعرب أن يقرأ كل القرآن بلغته، ولو لم يسمع القراءة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويدل على أن هذه الأحرف متلقاة من النبي - صلى الله عليه وسلم -: حديث عمر، وهشام؛

إذ قال كل منهما: "أقرأني النبي - صلى الله عليه وسلم -". قالوا: وقد ثبت عن بعض الصحابة: أنه كان يقرأ بالمترادف، ولو لم يكن مسموحاً له، وساقوا على هذا: أن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - أنكر على ابن مسعود قراءته: (عتّى حين) بدل (حتّى حين)، وكتب له: أن القرآن لم ينزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل. وإذا صح هذا الأثر، حُمل قول عمر على معنى: أن الله أنزل القرآن أولاً بلسان قريش، ثم سهله على الناس، فجوّز لهم أن يقرؤوه على لغتهم. فينبغي إقراؤه وتعليمه على اللغة التي نزل بها أولاً.

3 - دراسات في الشريعة الإسلامية

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (3) «دِرَاسَات في الشَّرِيْعَةِ الإسْلاميَّةِ» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة " دراسات في الشريعة الإِسلامية" هذا الكتاب الذي أصدرناه ضمن المجموعة القيمة لمؤلفات الإمام الأكبر العلامة المرحوم محمَّد الخضر حسين - رضوان الله عليه - هو مجموعة المقالات التي خطتها يراعته الصادقة في مجلة "لواء الإِسلام"، والذي كان رئيساً لتحريرها منذ أن صدر العدد الأوّل منها في الأول من شهر رمضان لعام 1366 هـ الموافق 19 يوليو (تموز (1947 م بالقاهرة، ومما نقتطفه من مقال للأستاذ أحمد حمزة صاحب امتياز المجلة، نشره في العدد الثاني عشر من السنة الحادية عشرة قوله: "ومنذ أن اتجهنا إلى إنشاء مجلة لواء الإِسلام، نتقدم بها محتسبين النية خدمة لهذا الدين الحنيف، وبياناً لحقائقه، لم نجد علمًا يحمل اللواء سوى الشيخ الخضر حسين، فأرسى قواعد التحرير فيها، وتعهدها بتوجيهه، وقلمه وقلبه المنير، ونيته وإخلاصه - رضي الله عنه -، فسارت قدماً إلى الإمام، تحمل رسالتها، وتتجه إلى غايتها، ومن ورائها الخضر ... ، ولم ينقطع عن رئاسة التحرير إلا عندما شغل بمنصب شيخ الأزهر، وفي هذا المنصب أعاد إليه كرامته، وأكد عزته، ولا يزال الأزهريون يذكرون له مواقف الشمم والإباء. فرضي الله عنه في الصديقين والصالحين والأبرار المجاهدين ... ".

أما تفسير القرآن الكريم الذي قدمه العم الإمام في مجلة "لواء الإِسلام"، فقد أفردناه في كتاب مستقل تحت عنوان "أسرار التنزيل"، والله نسأل السداد. علي الرّضا الحسيني

الله موجود

الله موجود (¬1) لما فتح المسلمون البلاد شرقاً وغرباً في أقصر وقت؛ ليس الدين وسماحته، ووقع اختلاط المسلمين بالأجانب لأخذ ما امتاز به الأجانب من العلوم، أخذ بعض من اعتقد الإِسلام ديناً يتحول عن عقيدته؛ لأنه لم يدرس شريعة الإِسلام، أو لم يدرسها حقَّ دراستها بحيث يستطيع أن يرد شبه الأجانب بسهولة، أو بنظر دقيق، فحاكاهم، وصار حرباً على الدين، كما جاهر بعض أفراد منهم بعداء الإِسلام، وزعم حسناته سيئات، وجرأهم على هذا الزعم والتمويه براعتهم في الأشياء الكونية. ونحن نفرق بين ما يدعو إليه الدين من الاعتقاد الصحيح والعمل المستقيم، وما تأتي به التجربة من العلوم التي قال فيها - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، فالدين جاء لما تضل فيه العقول من العقائد الصحيحة, والأعمال الاجتماعية التي لا تدرك استقامتها إلا بالوحي، ومن أمعن النظر، رأى الفرق واضح بين ما أرشد إليه الدين، وما تركه لتجربة المخلوقين، فلم يعرفوا الكهرباء والإذاعة وصنع القنبلة الذرية ونحوها؛ لأنها متروكة للتجربة الحسية. وبلغ بعض المنحرفين عن السبيل أن أنكروا أمراً ظاهر الدليل، وهو ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإِسلام" - العدد الثاني عشر من السنة العاشرة.

وجود واجب الوجود. ولظهور دليله، قال بعض الأئمة: إن الإنسان يعذب عذاب الخالدين؛ لتركه الاعتقاد بواجب الوجود، ولو لم يرد من الله -عز شأنه- رسول، وراعى غيرهم ظاهر الآية وعمومها، وهو قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. فقال هذا الفريق: لا لِعذب الله أحداً عذاب الخالدين إلا إذا بلغته دعوة رسول على وجهها. والدليل المنبه لوجود واجب الوجود هو إمكان الأشياء وحدوثها، أو بحدوثها, كما هو مقرر في علم الكلام. ونذكر الاستدلال بحدوث الممكنات على وجه الاختصار، فنقول: إن وجود الحوادث بديهي؛ كالحيوان والنبات، فهذه الحوادث لم توجد بنفسها قطعًا، فلا بد لها من موجد، فإن كان الموجد لها واجب الوجود، فقد تم المراد، وارتفع النزاع، وإن كان الموجد لها حادثاً، فيلزم الدور والتسلسل. "والدور: هو أن يكون الشيء الذي وجد بالحادث هو الذي أوجد الحادث، وهذا مستحيل، والتسلسل يقتضي وجود حوادث لا أول لها، وهو مستحيل أيضاً". وهذه الطريقة في الاستدلال أبين وأقصر من غيرها، وإن كانت طريقة الاستدلال بالممكن صحيحة وقطعية أيضاً. ولما كانت الأعراض لا توجد إلا بوجود الأجسام، كان الدليل على حدوث الأجسام متضمنا دليل حدوث الأعراض. والقرآن الكريم أكثر من الاستدلال على وجود الخالق بحدوث الأعراض؛

لأنه أقرب الطرق وأظهرها لإفهام الخلق؛ فإن القرآن نزل ليفهمه كل الناس من الخاصة والعامة. قال الرازي: إن الاستدلال بحدوث الأعراض يتضمن التذكير بالنعم. وقد سلك القرآن الكريم في الاستدلال على وجود الخالق طريقين: أولهما: كمال القدرة. وثانيهما: تمام النعمة واللطف بالخلق؛ كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]. فهذه الآية جمعت بين الاستدلال بكمال القدرة، وإتمام النعمة، ومثلها الآيات الدالة على كمال القدرة، والآيات الواردة في إتمام النعمة. وانظر إلى قول موسى - عليه السلام - فيما قصه القرآن عنه: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]. أي: أعطى كل شيء صورته الخاصة، وشكله المعين المطابقين للحكمة والمصلحة. واستدل أبو حنيفة - رضي الله عنه - على بعض الدهرية، وهم الذين عناهم القرآن بقوله: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] فقال: لو أن رجلًا يقول لكم: إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال، مملوءة بالأثقال، قد احتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة، ورياح مختلفة، وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها، ولا متعهد يدفعها، هل يجوز ذلك في العقل؟ قالوا: لا، قال: سبحان الله! إذا لم يجز في

العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مُجرِ، فكيف يجوز نظام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها، وتغير أعمالها، وسعة أطرافها، وتباين أكنافها من غير صانع وحافز؟ فأسلموا. واستدل الشافعي - رضي الله عنه - بحدوث الأعراض أيضاً على وجود الله، فقال: ورقة الفرصاد (التوت) تأكلها دودة القز، فيخرج منها الإبريسم (الحرير)، وتأكلها النحل، فيخرج منها العسل، وتأكلها الشاة، فيخرج منها البعر، وتأكلها الظباء، فينعقد في نوافحها المسك، فمن الذي جعل هذه الأشياء كذلك، مع أن الورقة واحدة؟ واستدل أحمد بن حنبل على وجود الإله بحدوث الأعراض أيضاً، فقال: قلعة حصينة ملساء، لا فرجة فيها، ظاهرها كالفضة المذابة، وباطنها كالذهب الإبريز، ثم انشقت الجدران فخرج من القلعة حيوان سميع بصير. من فعل هذا؟ وعنى بالقلعة: البيضة، والحيوان: الفرخ الذي خرج منها. وزعم بعض البسطاء: أن الجواهر وأعراضها حدثت بطبيعتها، وليس هناك موجد غيرها، يقولون هذا، وهم يعترفون بأن الطبيعة لا تعقل كثيراً ولا قليلًا، فكيف يجوز أن تنظم الطبيعة الكون هذا التنظيم البديع؟ فالقول بأن الطبيعة هي التي أحدثت هذا النظام قول مرفوض بالبداهة، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. والمعجزات التي تجري على أيدي الرسل -عليهم الصلاة والسلام - هي من فعل الله، وقد زادت الإيمان باللهِ قبل الإيمان بالرسل- عليهم الصلاة والسلام ولهذا ترى من فلاسفة الإِسلام إيماناً قوياً صحيحاً. قال أبو بكر بن الطفيل: فيلسوف الأندلس يصف الروح والبدن:

نورٌ تردَّد في طينٍ إلى أجلٍ ... فانحاز علواً وخلّى الطين للكفنِ يا شد ما افترقا من بعد ما اجتمعا ... أظنُّها هدنة كانت على دَخَنِ إن لم يكن في رضا الله اجتماعُها ... فيا لها صفقة تمتْ على غبنِ وأدلة القرآن قطعية الدلالة، فيها مقنع وكفاية لكل ذي عقل مفكِّر، فانظر إلى قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]. تجد الدليل القوي على وجود الخالق -جل وعزّ-.

الأحكام العادلة

الأحكام العادلَة (¬1) شرع الإِسلام لسياسة الشعوب أحكاماً تجري على سبيل العدل، وسار الخلفاء الراشدون على تنفيذها بحق، وتلقوا الثناء عليها من كل ناحية. وقام بعض الملوك الذين لم يدرسوا الدين كما يجب يتقبلون فتاوى الأئمة المجتهدين فيها؛ كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وسفيان بن عيينة، وإبراهيم النخعي، ويتقبلون آراء العلماء الراسخين؛ كالإمام سحنون، وابن عبد البر، ومنذر بن سعيد، وأبي بكر بن العربي، وأمثالهم، وكثير من هؤلاء الأئمة بنوا الحكم بالإفتاء والتأليف المسند إلى الأدلة التي تواترت على المصلحة، والفرق بين هذا وبين القانون هو الإحاطة بالمصلحة، وإنما ينازع في الأخذ بأحكام الشريعة من ينظر في مقتضيات العصر بعين فاترة، أو يجعل نظرته كمرآة لمعرفة الحق والباطل. وإذا كانت الأحكام مأخوذة من الكتاب والسنّة لا تخرج عن الحقيقة، ويقف الإنسان أمامها راكعاً أو ساجدًا، والنظر السليم أفادنا بهذا. والدليل على ذلك: أنه إذا ذكر لك الإنسان قانوناً وضعياً، ورأيته موافقاً ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإِسلام" - العدد العاشر من السنة الحادية عشرة.

للنظر الصحيح، فإنه إما أن يكون وافق القانوني الفطري، أو يكون ما قرره من أحكام مستمداً من المسائل المقررة في مذاهب الأئمة المجتهدين. والفرنسيون لما استولوا على الجزائر ترجموا "مختصر الشيخ خليل" المؤلف في الفقه المالكي إلى لغتهم. فمن الجائز أن ما قرر في القانون من المسائل التي وضعوها في قانونهم الوضعي أخذ من هذا الفقه. والمصلحة قد يفهم من النص الخاص اعتبارها, كمصلحة تعدد الزوجات المفهوم من قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. وقد يفهم إلغاؤها من النص؛ كمنفعة الربا التي اعتبر الشارع إلغاءها نظراً للمضار الحاصلة منه. وقد يعتد الشارع بالمصلحة، وإن لم يتقدم منه نص خاص على اعتبارها، ولكنه يفوض إلى المجتهد إذا أدرك المصلحة تعليق الحكم عليها، وتسمى: المصلحة المرسلة؛ أي: مطلقة عن التقييد بدليل خاص على اعتبارها أو إلغائها، ويتركها للمجتهد؛ مراعاة للقواعد التي أخذت من الكتاب والسنّة. إن المصلحة إذا لم يخصها الشارع بنص على اعتبارها أو إلغائها ترجع إلى المجتهد، ولا يقبل النظر فيها إلا منه؛ لأنه هو الذي يعرف ما نص عليه الشارع، وما يناسب المصلحة التي يعتبرها الشارع أو يلغيها، ونظره هنا له اعتباره الشرعي؛ لاستناده إلى قاعدة مأخوذة من الكتاب والسنّة، وهي: مراعاة المصلحة المرسلة. ومثل ذلك: اشتراط المالكية الخلطة بين المدعي والمدعى عليه في مطالبة المدعى عليه باليمين، وبذلك قيدوا النص العام، وهو الأثر القائل: من أنكر فعليه اليمين، وذلك فراراً من تطاول أدنياء الناس على كبرائهم،

وسوقهم إلى القضاء للغض من كرامتهم. وقد منع الشارع من تزوّج المسلمة بالنصراني، أو اليهودي؛ لأن النكاح ينبني على حسن معاشرة الزوجين، ولأن للإسلام كرامة تزول عندما تتزوج يهودياً أو نصرانياً لا يؤمن بدينها. والقانون يحيى ذلك، وكأنه لا يحرص على تزوج المرأة بمن لا يزيل كرامتها. والشارع يورث المرأة نصف ما يرثه الرجال، والقانون يورثها بقدر ما يرث الرجال، مع عدم اعتباره أن إنفاق الرجل عليها وعلى أولادها وعلى المسكن والمطعم والمشرب واجب عليه، لا عليها، وإن كانت ذات مال. وكنت زرت شيخ الإِسلام بتونس، فوجدت في المجلس شيخنا أبا حاجب، وقريبه السيد محمد أبا حاجب، فقال قريبه: ها هنا مسألة اختلفت فيها الشريعة والقانون، وهي: أن يبيع إنسان حيواناً، أو ثوباً لا يملكه، فإن ثبت ببينة أن المبيع ملك لآخر غير الذي باعه، فالشريعة تقول: يعطي الحيوان أو الثوب لصاحبه، والمشتري يرجع على البائع بالثمن. والقانون يقول: إن الثوب أو الحيوان يبقى بيد المشتري، والمالك هو الذي يرجع على البائع بالثمن. فافترق المجلس على أن حكم الشريعة أرجح مصلحة. فالشارع يرى أن صاحب الشيء: الحيوان، أو الثوب يعطى حقه عاجلاً، والمكلف بتتبع البائع إنما هو المشتري منه بعقد باطل، وما قاله القانون ترويج للاعتداء على أموال الناس بغير حق. ومن أدرك الحقيقة، ووقف عندها، عده رقيق الدين متعصباً لما يعتقد. ويعجبني بعض الوزراء إذ أصدر قانوناً يوافق الشريعة بخلاف القانون الذي قبله، فقال له بعض الوجهاء يمازحه: إن بعض الناس يعدون ما فعلته

من الرجعية، فقال: إن كان هذا رجعية، فأنا أول الرجعيين. فتركها كلمة دالة على استقامة عقيدته وكمال خلقه. وألفت جماعة كبار العلماء لجنة للمقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية، فعاتبني بعض الناس على تأليف هذه اللجنة، وقال: إن المستعمر يفهم أنا عزمنا على العمل بالشريعة في المحاكم كلها، فقلت: إن المقارنة بين الشريعة كالمقارنة بين القوانين تفعله الدول كلها. وحدثني من أثق بروايته: أن ملك تونس ظهر على وجهه سرور عندما أُخبر بوفاة الشيخ إبراهيم الرياحي المفتي بتونس؛ لأن الشيخ كان يعترض بشدة على ما يفعلونه نفاقاً لأهوائهم. ونختم هذا المقال بما أخبرنا به صديقنا الأستاذ محمد عبد السلام القباني من أن أحد الإيرانيين كتب: أن القانون الروماني إنما ظهر في أوربا بالحالة التي عليها الآن بعد ظهور الإِسلام. وقرر الأستاذ في مقالات نشرف في بعض الصحف العربية أن طائفة من الفرنسيين رحلوا إلى الأندلس، ونقلوا الفقه الإِسلامي إلى اللغة الفرنسية، وأدخلوا بعض الأحكام في القانون الروماني، وأظهروه في أوربا، فمن قال: إن الفقه الإِسلامي أخذ من القانون الروماني، أنكر هذه الحقيقة. وتلقت مقالات الأستاذ بعض الصحف الفرنسية بالاستحسان، وقالت: إن هذه الحقيقة مجهولة عند أوربا الآن. وكأن من طبع ما يسمى "المدونة الرومانية" اتباعاً لما ظهر في أوربا لم يطلع على هذه المقالات.

كيف تستنبط القواعد من الكتاب والسنة؟

كيف تستنبط القواعد من الكتاب والسُّنة؟ (¬1) يستنبط المجتهد الحكم من نص الشارع مباشرة، أو يستنبطه بطريق القياس، فإذا قال الشارع: أمر كذا واجب أو ممنوع، وذكر علّة الوجوب أو المنع، أو أشار إليها بحسب فهم المجتهد، فالمجتهد يحكم في غير ما ذكره الشارع متى وجد فيه العلة المذكورة، أو المنبَّه عليها بحكم الأمر المنصوص، وذلك هو القياس، وهو: مساواة الفرع الذي ألحقه المجتهد للأصل الذي ذكره الشارع، وعلق عليه الحكم، وهو من قواعد الشرع حيث دلت موارد متعددة على التعبد به. ومن ألَّف في القواعد، لم يذكر منها القياس؛ لأنه من الأصول الأساسية الموصلة لاستنباط القواعد. وهذه الأصول، هي: الكتاب، والسنّة، والإجماع، والقياس. والذي يضرب به المثل في جودة القياس: أبو حنيفة - رضي الله عنه -. ومن وقف بالشريعة عند الحد المنصوص عليه، فقد سار في طريق غير مناسب لشريعة نزلت لتكون الشريعة العامة الخالدة. والقاعدة: بيان يأخذه المجتهد من موارد كثيرة من الشريعة، ولهذا كانت - أي: القاعدة - قطعية عند المجتهد، وأسوق مثلاً لهذا: قاعدة ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإِسلام" - العدد السابع من السنة العاشرة.

ارتكاب أخف الضررين، فإنها مأخوذة من مثل قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]، فعيب السفينة بالخرق أخفّ ضرراً على أصحابها من انتزاعها كلّها من أيديهم على وجه الغصب. ومن قوله - صلى الله عليه وسلم - حين قام الصحابة ليمنعوا العربي الذي يبول في المسجد: "دَعُوه لا تُزْرِمُوه"، أي: لا تقطعوا عليه ما هو فيه، فيحدث له ضرر. إن لبول الأعرابي في المسجد ضرراً خفيفاً يمكن إزالته بالماء، وفي حمله على قطع البول ضرر كبير؛ لما قد يصيبه من مرض، فاحتمل أخف الضررين. ومن ذلك احتمال كيد المنافقين وأذاهم في عهد النبوة، ففيه ضرر بالمسلمين، ولكنه أخف من الضرر الناشئ عن قتلهم، وهو ما أشار إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قصة عبد الله بن أبيّ حين قال ما حكاه القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعه؛ لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه"، فقالة السوء هذه أكبر ضرراً من كيدهم. ومن القواعد قولهم: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فهذه قاعدة أخذها الفقهاء من سيرة الشريعة المطهرة، فكانت تقدم إزالة المفاسد على جلب المصالح، وأسوق مثلًا لهذا: الربا، والقمار، والخمر، فقد يكون فيها منفعة، ولكن المفاسد التي تنشأ عنها أعظم، فحرمت لإزالة مفاسدها تحريماً مغلظاً، وألغيت المنفعة التي تحصل منها. ويتصل بهذه القاعدة (¬1) ترجمة القرآن الكريم، ففيها، مفاسد كثيرة، ¬

_ (¬1) القاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

وفيها منفعة طفيفة، وهي اطلاع الأجانب على شيء من أحكام القرآن وحكمته، فترجمته محرمة؛ تقديماً لدرء المفاسد على جلب المصالح؛ لأن الترجمة تؤدي إلى الإخلال ببلاغة القرآن ومعانيه. ويتصل بهذه القاعدة أيضاً: قتل رسول الأعداء، فقد تكون فيه مصلحة للمسلمين؛ كأن يكون حسن التدبير لقومه، أو بالغاً في الشجاعة، وفي قتله مفاسد، وهي ترك إرسال المحاربين من يمهد لهم الصلح، أو يسعى في عقد اتفاق بتسليمهم، فحرم قتله؛ درءاً لهذه المفاسد. ومن أمثلة هذه القاعدة: قول أبي جعفر المنصور للإمام مالك: سأحمل الناس على العمل بما في"الموطأ" من أحكام، فقال له الإمام مالك: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في البلاد، وأفتى كلٌّ بما رآه، فلا يجوز تكليف الناس العمل بما في "الموطأ"، فقول أبي جعفر المنصور يحمل الناس على الموطأ من باب مراعاة المصلحة، ومعارضة الإمام مالك في ذلك من باب تقديم درء المفاسد على جلب المصلحة، وهو تعطيل ما رواه الصحابة وأفتوا به مما ليس في "الموطأ". ويقدّم درء المفاسد على جلب المصالح إذا كانت المفسدة أعظم من المصلحة، أو كانت مساوية للمصلحة، فإن كانت المفسدة أقل من المصلحة، وعظمت المصلحة إلى أن غطت على المفسدة، قدم جلب المصلحة على درء المفسدة؛ كالطائرات؛ فإنها لا تخلو من أخطار؛ كالسقوط في بعض الأحيان، وموت الراكبين فيها، ولكن المصالح التي تترتب على ركوبها عظيمة، فيقدم جلب المصالح هنا على درء المفاسد؛ لأن المصالح أعظم كثيراً من المفاسد.

وقد حصر القاضي الحسين الشافعي، مذهبَ الشافعية في أربعة قواعد: الأولى: اليقين لا يرفع بالشك. والثانية: الضرر يزال. والثالثة: المشقة تجلب التيسير. والرابعة: العادة محكمة. والقواعد الأربع قد تشتمل على قواعد أصغر منها، فقاعدة: اليقين لا يرفع بالشك، تشتمل على قاعدة الاستصحاب، الذي هو: إعطاء الحاضر حكم الماضي حتى يقوم الدليل على تغير الحكم، ويدخل فيها: أن اللفظ يحمل على عمومه أو إطلاقه حتى يقوم الدليل على تخصيصه أو تقييده. والقاعدة الثانية، وهي: الضرر يزال، تشتمل على قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، وعلى قاعدة: ارتكاب أخف الضررين، وعلى مثل: رد المغصوب، وضمان المتلفات، وحرمة تضييق الطريق العام للمسلمين. والقاعدة الثالثة، وهي: المشقة تجلب التيسير، تشتمل على المعاملات؛ من بيع، وإجارة، وقرض، وسَلَم، وإقالة، وشُفعة، وقسمة، وصلح، وشركة، ونحو ذلك. القاعدة الرابعة، وهي: العادة محكمة، ويرجع في هذه القاعدة إلى حمل اللفظ على ما يجري به العرف في الأيمان والأوقاف والوصايا. ويعمل بها بعض الفقهاء في جهاز الزوجة، فيقضي به لها، وإن كان في بيت الزوج وحوزته. وذكر بعض الفقهاء قاعدة خامسة، وهي: الأعمال بمقاصدها، وأدخل فيها قاعدة سد الذرائع؛ لأن المنع من الأمر الذي ظاهره الصحة سببه أنه

قصد به الفساد. وممن ألّف في القواعد من- الشافعية -أيضاً: العز بن عبد السلام، ومن- الحنفية-: أبو طاهر الدبوسي، وابن نجيم، ومن - الحنابلة -: ابن رجب، ومن - المالكية -: القرافي، والمقري، وأبو إسحاق الشاطبي. والقاعدة التي يأخذها المجتهد من آيات وأحاديث كثيرة، قد يجيء حديث آحاد صحيح مخالف لها في ظاهره، فيعمل بالحديث فيما نص عليه، ويعمل بالقاعدة في بقية الجزئيات؛ كحديث العَرِيّة، وهي نخيلات يهبها صاحب البستان لمحتاج، ثم يشتريها منه بمقدار رطبها تمراً يابساً، فالقاعدة تقتضي المنع من بيع رطب بيابس، فنستعمل الحديث في إجازة العريّة كما ورد، ونترك القاعدة على حالها فيما عدا ذلك، وقد يفرق بين الحديث والقاعدة؛ بأن الحديث خاص بمن أعطى نخلات على وجه المعروف، والقاعدة مراد بها غيره. وكان خالنا وأستاذنا الشيخ المكي بن عزوز قد سافر إلى الآستانة، وتولى دراسة الحديث بدار الفنون، وأذيع عنه في تونس بأنه صار يقول بفتح باب الاجتهاد، ولما لقيته بالآستانة، ذكر بعض الحاضرين له هذه المسألة، فقال: إني مالكي في المسائل الاجتهادية، أما إذا ورد حديث صحيح، فأعمل به، ولو خالف المذهب، وكلام الأستاذ يوافق قول ابن قيم الجوزية: إن الحديث إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يصح عنه - عليه السلام - حديث آخر ينسخه، فالفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه، وترك كل ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائناً من كان. وقال أبو بكر بن عربي عند قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ

خَيْرًا} [النور: 33]،: إن الآية والحديث إذا جاءا على خلاف الأصل، فكل منهما أصل بنفسه يرجع إليه بذاته، ويجري على حكمه. ومن الفقهاء الباحثين من يقول: إذا جاءت الشريعة باختصاص بعض الأحكام بنوع يفارق به نظائره، فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم، ويمنع المساواة لغيره، لكن ذلك الوصف الذي يختص بذلك النوع قد يظهر لبعض الناس، وقد لا يظهر. وهذا كله يجري في الحديث المخالف في الظاهر للقاعدة المشتملة على جزئيات من نوع جزئياته؛ كحديث العارية؛ فإنه يقتضي جواز بيع رطبها باليابس، والقاعدة تقتضي منع بيع الرطب باليابس. أما استخراج الحكم من القاعدة، فالفقيه ينظر في الواقعة إذا لم يرد فيها نص خاص بالشارع، ويجمعها من أطرافها، وينظر إلى مقتضى الزمان والموطن الذي وقعت فيهما، وما جرت به عادة القوم مما لا يخالف نصاً من شارع، ثم يأتي على قاعدة تلائم الواقعة بجميع خصائصها، ويطبقها عليها. ولا يكاد الفقهاء يختلفون في القواعد؛ لأنها قطعية، وقد يختلفون في تطبيقها؛ لأن التطبيق ظني، كما اتفقوا على قاعدة: (الضرر يزال)، واختلفوا في الرحى يضعها الرجل في عرصة داره، فيؤذي جاره بصوتها، فأطلق بعضهم منعها، وقيد بعضهم المنع بما إن كان صوتها شديداً، فإن كان ضعيفاً جاز وضعها. وقد اتفقت كلمتهم في قاعدة: (الضرر يزال)، واختلفت في مقدار الضرر الذي تجب إزالته، وهذا اختلاف في تطبيق القاعدة. ويزيد هذا وضوحاً بأنه وقعت بيني وبين أحد الأساتذة من العراق محاورة في موضوع: أن مشقة الحركة عند الوصول إلى السنّ البالغة تسقط

عن الإنسان وجوب العمل في سبيل الدفاع عن الدين. فقلت: نحن متفقون على الأصل، وهو أن للسن البالغة حكماً نافذاً لا يمكن معارضته، ولكن العمل في سبيل الدين معقود بالإمكان، وباب الإمكان لا يزال مفتوحاً، فالاتفاق على تحقيق الأصل لا يوجب الاتفاق على كل جزئي من جزئياته. وكان أستاذ أساتذتنا في بلاد الجريد بتونس الشيخ المدني بن عزوز إذا سئل عن حكم واقعة، ووجد في كتب الفقه ما يطابق الحكم، أفتى به، وإذا لم يجد لذلك نصاً، استنبط له حكمًا من القواعد المقررة في المذهب، وكذلك كان شيخنا الشيخ محمد النجار (بتونس) إن وجد للمسالة نصاً من الفقهاء، أفتى به، وإن لم يجد نصاً، أجرى عليها القواعد التي تلائمها. وذكر القواعد عند ذكر الحكم ينفع المقلد أيضاً، فالمسألة المنتظمة في سلك وثيق مع غيرها، ترسخ في نفسه كثر من المسائل المجردة عن القواعد، وكنت أقرأ الأحكام الفقهية في كتب مجردة من القواعد، ولما اطلعت على الأحكام مصحوبة بقواعدها، صرت أتمتع بها أكثر من قبل، وأحفظها في ذهني أكثر من الأحكام المجردة، فإذا عرف المكلف من الفقيه الفائق علمًا وعدالة: أن دعوى النسخ في الآية والحديث لا تقبل إلا بدليل، حصلت له فائدة، وإذا عرف: أن الحكم في المسألة مبني على قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك)، وذكر له أشياء تشملها القاعدة، ازداد رسوخا في الحكم، واتسعت دائرة فهمه أكثر من قبل. فمن يدرس أحكام الشريعة بقواعدها يزداد رسوخاً في فهمها، ويراها رأي البصير كيف كانت أحكم شرع وضع للناس.

الحديث الصحيح حجة في الدين

الحديث الصّحيح حجة في الدين (¬1) بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الحق بقول لا يحوم به ريب، ولا يدنو منه قصور، لحمته حكمة، وسداه فصاحة، وتلقاه أصحابه - رضي الله عنه - على بصيرة وفطرة سليمة وقوة حافظة، وعرفوا مقاصده، وبلغوه كما صدر عنه، ونطق به، فكان قوله متممًا لما دعا إليه القرآن الكريم، حتى نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. بلّغ الصحابة القرآن وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بصدق وأمانة من يبلّغها بصدق وأمانة كذلك، ولم يأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتابة الحديث خشية أن يختلط بالقرآن، واعتمد على ما عرف عن العرب من قوة الحافظة والضبط، وعلى صدق أصحابه وأمانتهم، وإنما أذن بالكتابة في أشياء لا تلتبس بالقرآن. ووصل إلينا من الكتب التي قيل: إنها أول ما ألف في الحديث كتاب "الموطأ" للإمام مالك، ولم يكن مالك بعيداً من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى إن ما يسمونه ثنائيات الموطأ هي الأحاديث التي بلغت مالكاً بسند فيه راويان فقط بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاء بعده عهد المحدّثين الذين ألّفوا في الصحيح؛ كالبخاري، ومسلم. وما يسمونه: ثلاثيات البخاري هي الأحاديث التي بلغت البخاري بسند ثلاثة رواة بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإِسلام" - العدد الثاني عشر من السنة الثامنة.

والحديث الصحيح: هو الذي يرويه عدل ضابط عن عدل ضابط، وهكذا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم على أن الحديث الصحيح حجة في الدين، ووقائع احتجاجهم بالحديث النبوي كثيرة لا يسع هذا المقال ذكرها. وأنكر الاحتجاج بالحديث في الدين بعضُ من ينتمون إلى الإِسلام (¬1)، وحصر الاحتجاج في القرآن الكريم، وتأول آياته على ما يشتهي، وقد وجد في رواية الحديث بعضُ الزنادقة ثلمة يدخلون منها إلى وضع أحاديث تخالف الشريعة، وتزري بها، ووجد الجاهلون الكذابون طريقاً إلى أن ينسبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله، فوضع العلماء منذ ذلك العهد علمين: علم رواية الحديث، وهو يبحث فيه عن كيفية اتصال الحديث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث أحوال الرواة، وعدالتهم، وكيفية السند اتصالاً وانقطاعاً. وعلم دراية الحديث، وهو علم يبحث عن المعنى المفهوم من ألفاظ الحديث، وعن المراد منها، مع مراعاة ضوابط العربية، وقواعد الشريعة، ومطابقة أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد نبّه المؤلفون في هذين العلمين لفريق اشتهر بوضع الحديث، وصرحوا بأن تجريح الرواة، والطعن فيهم ليس من الغيبة المحرمة؛ مراعاة للمصلحة التي تنجم من تجريحهم والطعن فيهم، وممن ألف في ذلك: البخاري، والنسائيُّ، والذهبي، وذكروا من علامات الوضع ما يتعلق بالمتن؛ كأن يكون مخالفاً للواقع، أو إلى ما عهد في الشريعة، أو ما عرف به النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) انظر كتاب: "الإِسلام دين عام خالد".

من الحكمة وسمو القول. وبمثل هذا التحقيق تبين الحديث الصحيح من الحديث الضعيف والموضوع. وإنما يحتج في الأحكام العملية بالحديث الصحيح؛ لأنه يفيد العلم؛ أي: الظن القوي، وهو يجب العمل به في الأحكام العملية؛ بخلاف العقائد؛ فإنه يعتمد فيها على الأدلة العقلية المنطقية، وعلى الحديث المتواتر من الأدله السمعية. وكذلك أصول الأحكام، فإنه يتيسر للمجتهدين القطع فيها حيث يأخذونها من موارد متعددة من القرآن والحديث، فهي بمنزلة المتواتر. وقد روي عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي: "أنهم كانوا إذا روي لهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث، يقضون به، ولا يتجاوزونه". وقال كل واحد من الأئمة الأربعة: "إذا صح الحديث، فهو مذهبي". وقال الحافظ أبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام": "إن الآية عندنا، أو الحديث إذا جاء على خلاف الأصل، فهو أصل، بنفسه، ويجري على حكمه". والإمام الشافعي قد كتب في الاحتجاج بالسنّة ما تيسر له، وقال: "لا أعلم من الصحابة ولا من التابعين أحداً أخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قُبِلَ خبره، وانتهى إليه، وأثبت ذلك". وقال ابن القيم من الحنابلة: "إن الحديث إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، فإن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه، وترك كل ما خالفه". والحديث الصحيح قد يجيء بياناً لمجمل في القرآن الكريم، أو يزيد حكماً على ما فهم من ظاهر القرآن، وكلٌّ داخل في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ

الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. ولا يكون الحديث الصحيح مخالفاً للقرآن إلا إذا كان مبطلاً لنص من نصوصه. فمن المحتمل القريب أن يوحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكم زائد على ما في القرآن، أو أن يفهم من القرآن بطريق القواعد التي أسسها القرآن؛ كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وذكر أحد أساتذة هذا العصر: أن العلماء خدموا الحديث من جهة السند أجلّ خدمة، ثم قال: "وأما من جهة المتن، وتبيين ما هو زمني، وما هو تشريع عام، وتبيين ما هو ديني، وما هو سياسي، فهذا لم يلتفت إليه". والواقع المشاهد الذي نعقد عليه الضمير: أن المحدّثين والمجتهدين قد خدموا متن الحديث، ودخلوا في غضونه، وكشفوا أسراره؛ كما فعلوا في السند. فعلماء الحديث والفقه من عهد الصحابة فما بعد لم يقصِّروا في فهم المتن، وبذلوا كل عناية في فهمه، فنظروا في الجنايات، وجعلوا إقامة الحدود من حق الحاكم العام، والحدود ترفع الضرر في كل زمان ومكان، وما عداها يسمّى: تعزيراً، وزجراً، وفوضوا أمره للحاكم أيضاً، وتقديره بما يقتضيه الحال، واستنبطوا من القرآن والحديث قواعد عامة تصلح أن تطبق على كل جيل، وهذا الاستنباط متوقف على نظر دقيق في المتن على نحو ما في القياس.

ومن هذه القواعد المستنبطة من القرآن والحديث: الضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، واليقين لا يرفع بالشك، والعادة محكمة، والأعمال بمقاصدها، وارتكاب أخف الضررين، والضرورات تبيح المحظورات، والاستصحاب، والاستحسان الذي هو قياس خفي في مقابلة قياس جلي. ثم إن شرّاح الأحاديث عندما يبحثون في متنها يتعرضون لما يفيده المتن من الإباحة، أو الندب، أو الوجوب، أو الكراهة، أو التحريم، ويتعرضون فيما يفيده الأمر من الإرشاد والإصلاح أو التشريع، ويذكرون أن فعله - عليه الصلاة والسلام - عادي، أو شرعي، وربما اختلف الفقهاء في ذلك حسب اختلاف الأدلة. وقد يتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحكم مطلقاً؛ مراعاة للغالب، أو لقاعدة سبقت، فيقيده المجتهد بالقاعدة المقتضية لمراعاة المصلحة؛ كما قيد الإمام مالك حديث: "اليمين على من أنكر" بإثبات الخلطة بين المتداعيين؛ إذ الغالب أن من يدعي على أحد من الناس شأنه أن يتصل به اتصالاً يقرِّب دعواه. وقد قرر علماء الأصول: أن تصرُّف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكون بالتبليغ، والفتوى، والقضاء، والإمامة، وكل منها شرعي، غير أن الشريعة وكلت للإمام أن يجتهد في تصريف الأمور التي كان يتصرف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحسب المصلحة؛ كتقسيم الغنائم والإقطاع. وقد يختلف الفقهاء في الواقعة الواحدة هل تصرف فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفة الإمامة أو تصرف فيها بصفته مشرّعاً عامّاً؟؛ كإحياء موات الأرض، وإعطاء سلب القتيل للقاتل. ومن الأدلة على عنايتهم بمتن الحديث: بحثهم في أحاديث تخالف - بحسب الظاهر- الواقع، أو ما عهد في الشرع، فبعضهم يحملها على الوضع

من غير نظر إلى سندها، وبعضهم يؤولها على وجوه يدخل بها في الصحيح متناً وسنداً. ويدل على بذلهم العناية في النظر إلى المتن: بحثهم عن العلة التي روعيت في الحكم الملفوظ به؛ ليفصلوا القياس على قدر العلة المبحوث عنها. ومن تصرف في متن الحديث هذا التصرف لا يقال فيه: إنه لم يلتفت إلى النظر في متن الحديث. وسنبحث من بعد - إن شاء الله - في القواعد التي كانت بها أحكام القرآن والحديث كفيلة بمصالح كل زمان ومكان.

الشهادة وأثرها فى الحقوق

الشهادة وأثرها فى الحقوق (¬1) الشهادة لغة: الحضور؛ كما في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. ومعناه: فمن حضر منكم الشهر، أي: لم يكن مسافراً، فليصمه. والعلم؛ كما في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]؛ أي: علم الله والملائكة وأولوا العلم أنه لا إله إلا هو. وشرعاً: بيان يستند إلى علم، أو غالب ظن بلفظ، أو ما يقوم مقامه، كخط كاتب، أو إشارة أخرس، عن ثبوت حق أو سقوطه، وهي مأخوذة من الشهود بمعنى الحضور؛ لأن الشاهد مشاهد لما غاب عن غيره، أو من العلم؛ لأن الشاهد يعلم ما لا يعلم غيره. وتتحد الشهادة ورواية الأخبار الشرعية في شرط: الإِسلام، والعقل، والبلوغ، والعمل على شهادة الصبيان فيما يجري بينهم من الجرح والقتل ليس في الحقيقة باعتماد على شهادة، وإنما هو من قبيل الاعتماد على بينة وقرينة تدل على الحق. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإِسلام" - العدد الخامس من السنة العاشرة.

وأما الحرية، فمن الأئمة من خص شرطها بالشهادة، ومنهم من لم يشترطها في الشهادة، فأجاز شهادة غير الحر. وقد روى البخاري في "صحيحه" من الآثار والسنة ما يدل على جواز شهادة غير الحر؛ كروايته للأخبار النبوية. ويفترقان بالتعدد، فالشاهد لا بد أن يكون متعدداً، وراوي الخبر الشرعي يقبل وإن كان واحداً. وإنما اشترط التعدد في الشهادة دون الأخبار الشرعية؛ لأنها تقع على أمر خاص بشهادة الرجل بأن لزيد ديناراً على عمرو، فهي بيان لا يتعدى زيدًا إلى غيره، فاحتمال أن يكون بين الشاهد الواحد وبين عمرو عداوة حملته على الشهادة عليه، وبالتعدد يضعف، أو يزول الاحتمال؛ بخلاف الأخبار الشرعية؛ كما روى الراوي في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" من التعلق بالمكلفين عامة، فلا يظهر الاحتمال الذي جاز أن يكون في الشهادة. فالشارع احتاط للحقوق، وتجنب شهادة الزور ما أمكن تجنبها، فلشهادة من يوثق بشهادته فائدة عظيمة في إقامة الحقوق؛ فقد خلق الله الإنسان مدنياً بالطبع، والمدنية تقتضي الاجتماع والتعامل، وفي الناس من يبتغي منفعته بالحق أو بالباطل، والشاهد الذي يوثق بشهادته هو الذي يبين صاحب الحق من صاحب الباطل، فشارع الشهادة المعتد بها بين الناس شارع حكيم. والإِسلام أخذ في صفات الشاهد أن يكون عدلاً، والعدالة: ألا تصدر من الإنسان كبيرة، وإذا وقعت منه صغيرة، لا يصر عليها. ونص الفقهاء على أنه إذا عمّت في الناس معصية يعاقب صاحبها العقاب

الذي وعد به عليها، ولكنها لا تقدح في الشهادة؛ حفظاً للحقوق. وعندما كنت قاضياً (¬1) أتتني من المجلس الأعلى في تونس مراسلة أذن بها المجلس في التجريح في شهود وثيقة، فاذنت بتجريح الشهود، فجرح بعض العدول أحدهم بتأخير الصلاة عن وقتها، وتأخير الصلاة عن وقتها يعد من الكبائر، فلقيت أستاذنا الشيخ محمد النجار، وكان عضواً في المجلس الأعلى، فقال لي: ماذا فعلت في الوثيقة الفلانية؟ فأخبرته بالتجريح، فقال لي: لا تقبل التجريح بتأخير الصلاة عن وقتها؛ لأنه من قبيل الغيبة، وإن كانت عقوبتها عند الله عقوبة سائر الكبائر. وزاد بعض الفقهاء في تعريف العدالة: ألا يخرج الشاهد عن المروءة، وهي حسن السمت، وعدم مخالطته لأرذال الناس، وكثرة المجنون، وفعل ما يستقبح في العادة، وإن كان بحسب الأصل مباحاً, ككشف الرأس يستقبح قديماً في الشرق، ولا يستقبح في الغرب، وكركوب ملك أو وزير على حمار يشق به شوارع البلد، فهذا مستقبح عادة، فيقدح في الشهادة. ورفعت إلى ابن بشير قاضي قرطبة قضية استشهد فيها أحد المتداعيين بالخليفة عبد الرحمن الناصر، فقال له ابن بشير: ائتني بشاهد عدل! فسأله الخليفة عن السبب في عدم قبول شهادته، فقال له: لو طلب مني الخصم التجريح فيك، لا بد أن أمكنه من ذلك. واتفقوا على أن معلوم الفسق لا تجوز شهادته، غير أن من الأئمة من يحمل المسلم على العدالة حتى يقوم الدليل على تجريحه، ومنهم من يشترط في الشهادة تعديلَ المسلم، روى الإمام مالك في "الموطأ": "أن رجلاً جاء ¬

_ (¬1) تولى الإمام القضاء في مدينة "بنزرت" بالجمهورية التونسية عام 1906 م.

إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من العراق، وقال: شهادة الزور قد ظهرت بأرضنا، فقال له عمر: أو قد كان ذلك؛ قال: نعم، فقال عمر: والله! لا يؤسر أحد في الإِسلام بغير العدول". وكان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وصدر من خلافة عمر، يقبلون شهادة المسلم بغير تعديل. وفي خلافة عمر بن الخطاب ظهرت شهادة الزور، فلا تقبل شهادة المسلم إلا بتعديل. وشاهد الزور: هو الذي يشهد بما لا يعلم، ولو طابق الواقع، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. وقال تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]. وسئل - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح عن الكبائر، فقال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور"، وفي رواية في الصحيح أيضاً، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك باللهِ، وعقوق الوالدين"، ثم جلس وكان متكئاً فقال: "ألا وقول الزور". قال: وما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت؛ أي: شفقة عليه، وكراهية لما يزعجه. وبلغني وأنا بتونس أن بعض الشهود يتلقى العقد في يوم، ويسجله في دفتره بتاريخ يوم أو يومين بعده، فأنكرت ذلك، وحضرت لعقد زواج يوم الخميس أو يوم الجمعة، ولما اطلعت على الدفتر الذي سجل به العدول العقد، وجدته سجل بتاريخ يوم أو يومين بعده، يفعلون ذلك وهم يعتقدون

أنه لا ضرر في تأخير عقده، فقلت لأحد شهود العقد: هذه شهادة غير صحيحة، فهي غير مطابقة للواقع، وقد يكون أحد المتعاقدين قد مات قبل التاريخ, أو غاب غيبة بعيدة، فيحصل الضرر لأحد المتعاقدين، أو كاتب العقد. ومن حفظ الشارع للحقوق: أنه أجاز للإنسان أن يعتمد في شهادته على غالب الظن؛ كحصر الورثة: وعدم نفقة الزوج على زوجته. ولو اشترط في ذلك العلم القاطع، لضاعت حقوق الورثة وحقوق الزوجة. ومن حفظه للحقوق: إجازته لشهادة الاسترعاء، وتسمى: شهادة الاستحفاظ، وهي أن يخاف الإنسان ضياع حق؛ كأن يتسلط عليه ظالم قوي، ويريد أن يغتصب منه منزله، فيشهد العدول على أنه وهبه لفلان، ويشهد عدولاً آخرين سرّاً بأنه إنما فعل ذلك خوفاً من الظالم، وإذا زال الخوف من الغاصب، رجع إليه منزله. وقد اختلف الفقهاء في شهادة الاستغفال، وتسمى: شهادة الاختفاء، وهي أن يكون الشهود في موضع لا يراهم به المطلوب منه الإقرار بالحق، فيعترف بالحق وهو لا يعلم أن الشهود يسجلون عليه هذا الإقرار. فأجازها بعض الفقهاء, حفظاً للحقوق، ومنعها بعضهم؛ لما فيه من التحيل والمخادعة. وروي عن مالك: أن الحرص على تحمل الشهادة قادح في الشهادة. وإذا اختفى ليشهد، فهو حرص عليها. وزرت بعض الأصحاب، وجلسنا مدة نتحدث، وفي انتهاء المجلس أخبرني صاحبنا بأنه فتح الآلة التي تملي عليه ما دار بالمجلس. ولعل هذه الآلة تقوم مقام شهادة الاحتفاظ إن كانت تحكي نطق المقر يعترف بالحق كما هو.

وإجازة بعض القضاة لتحليف الشهود وتفريقهم؛ ليؤدي كل منهم شهادته على حدة، قائمة على أنه ظهرت لهم من المصالح التي أمر الشارع المجتهد بمراعاتها. وحكي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما. وحكي أن ابن بشير قاضي قرطبة حفف شهود تركة. ومن القضاة من يعول على العدالة، ولا يفرق بين شهود القضية. وحكى الإمام الشافعي: أن أمَةً شهدت مع امرأة عند قاض، فأراد أن يفرق بينهما، فقالت له: لا تفرق بينناة فإن الله تعالى يقول: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]. وبهذه الآية يستدل من منع من تفريق القاضي للشهود. وقد يوجد في باب الشهادة قبول شهادة غير العدل؛ كأهل قرية كلهم غير عدول، فإنا نقيم في الشهادة عليهم أقلهم فسقاً حفظاً للحقوق، وصيانة للدماء، وهذا لا ينافي شرط العدالة في الشاهد, فإن المراد هو الشاهد الذي لا تدعو إليه ضرورة خارجة عن العقد. وتتفاوت العدالة في الشهود بحسب قيامهم بالواجبات، وتجنبهم المعاصي.

الذرائع: سدها وفتحها

الذّرائع: سدُّها وفتحها (¬1) الذريعة: الوسيلة، يقال: جعلت ذريعتي لفلان فلاناً؛ أي: وسيلتي إليه. والسد: المنع، يقال: سد عليه الطريق؛ أي: منعه من الدخول فيه. وهذا أصل قول الفقهاء في قاعدة سد الذرائع: منع ما يجوز؛ لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز. فقد منع الشارع ما يجوز في نفسه؛ خشية أن يتوصل به إلى محرّم. وما يمنعه الشارع من الأفعال قسمان: قسم يشتمل بنفسه على المفسدة؛ كالقتل بغير حق، والزنا، والسرقة، والقذف، وشرب الخمر. وقسم لا يشتمل على المفسدة بنفسه، وإنما هو مقدور للمكلف، وأصله الجواز، ولكنه يفضي إلى ما فيه المفسدة، وهذا هو الذي يسمى: ذريعة، ويسمى منعه: سداً. والذرائع على ثلاثة أقسام: قسم اعتبره الشارع، ومنع منه حيث كان يفضي كثيراً إلى ما فيه المفسدة؛ ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإِسلام" - العدد الثالث من السنة التاسعة.

كسب آلهة المشركين في وجوههم؛ فإنه يؤدي إلى ما فيه المفسدة، وهو سب الإله الحق، وإن كان سب آلهة المشركين في نفسه ليس فيه مفسدة، قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. وكضرب النساء بأرجلهن وفيها الخلاخل؛ ليسمع وسواسَ الحلي من يريد الاتصال بهن، قال تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]. فضرب الأرجل بالخلاخل في نفسه ليس فيه مفسدة، ولكنه ذريعة إلى ما فيه مفسدة، وهو اتصال الأجنبي بالمرأة. وقسم ألغاه الشارع؛ لقلة ما يفضي إليه من مفسدة بالنسبة إلى كثرة ما ينتج عنه من المصلحة؛ كزرع العنب، فقد يفضي إلى اتخاذ الخمر من عصيره، فلم يمنعه الشارع؛ نظراً للمصلحة التي تنجم عنه كثيراً، وهو أكله من جملة الثمرات، واكتفى الشارع بالنهي عن الخمر نفسه. والقسم الثالث من الذرائع: يتردد بين المصلحة والمفسدة، ولم يبين له الشارع حكماً بدليل خاص، كما بيَّن القسمين السابقين، وهذا القسم هو الذي بحث فيه المجتهدون، واتجهت أنظار الكثير منهم إلى منعه، واختلفوا في بعض الفروع؛ كالصور المعروفة في بيوع الآجال، التي منها: أن يبيع شخص لآخر سلعة بمئة إلى أجل، ثم يشتريها منه نقداً بخمسين، فقد نص كثير من الأئمة على منعها؛ لأن البائع خرج من يده خمسون جنيهاً، وأخذ عند حلول الأجل مئة، والسلعة قد جعلت ذريعة للربا، وجعل هؤلاء الأئمة علة المنع من العقد كثرة قصد الناس منه الوصول إلى الربا، وجعلوا المنع

حكماً مطرداً، من غير نظر إلى من يقصد الربا ومن لا يقصده؛ لأن علة الحكم يكفي فيها أن تكون مظنونة، ولا يشترط فيها أن تكون محققة. وذكر القائلون بسد الذرائع في معرض الأدلة: آية: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، وآية {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} [النور: 31]. وحديث: "قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فباعوها، وأكلوا ثمنها"؛ فإن الشحوم حرمت عليهم تحريماً ذاتياً، فتوسلوا ببيعها إلى الانتفاع بثمنها كما ينتفعون بالشحوم، وبذلك توصلوا إلى إبطال تحريمها. وذرائع الفساد التي في الآيتين والحديث مجمَع على سدها، ولكن المجتهد يعدها في جملة ما استقرأه من موارد الشريعة، فإن لا يقرر قاعدة إلا إذا استقرأ معناها من نصوص متعددة تدل بجملتها على أن قصد الشارع سد ذرائع الفساد، فإذا حصل له الجزم من تتبع النصوص الكثيرة بالمعنى الذي استقرأه فيها، صاغه حينئذٍ قاعدة، فإذا جرت واقعة فيها ذرائع فساد حكم بالمنع مستنداً إلى القاعدة، حيث لم يرد في الواقعة دليل خاص على سدها، والقاعدة تنزل من كلام الشارع منزلة اللفظ العام، فتطبق على الوقائع التي تدخل تحتها من غير توقف في حكمها على دليل خاص. فإذا ذكر المجتهد الآية والحديث، فإنما يذكر بعض ما استند إليه في تقرير القاعدة. وقد ساق ابن القيم أدلة كثيرة على سد الذرائع من الكتاب والسنّة وعمل السلف، وذكر في هذا الصدد مخالفة الإمام الشافعي للقول بسد الذرائع، فقال الحفيد بن رشد في "بداية المجتهد": وقال الشافعي: وحمل المسلمين

على التهم لا يجوز. وقال ابن رشد: والشافعي لا يعتبر التهمة، وإنما يراعي مما يحل ويحرم من البيوع ما اشترط البائعان، وذكراه بألسنتهما، وظهرا من فعلتهما. وقد تعرض ابن القيم الجوزية في "إعلام الموقعين" للإمام الشافعي، فقال: "ومن عرف سيرة الشافعي، وفضله ومكانته في الإِسلام، علم أنه لم يكن معروفًا بفعل الحيل، ولا بالدلالة عليها، ولا كان يشير على مسلم بها، وكان رحمه الله- يجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد ونيته، وفرق بين أن يعتبر القصد في العقد، ويجريه على ظاهره، وبين أن يسوغ عقدًا قد علم بناءه على المكر والمخادعة، وقد علم أن باطنه خلاف ظاهره، ولو قيل للشافعي: إن المتعاقدين تواطآ على ألف بألف ومئتين، وتراوضا على ذلك، وجعلا السلعة محللاً للربا، لم يجوِّز ذلك، وأنكره غاية الإنكار، وقد كان الأئمة من أصحاب الشافعي ينكرون على من يحكي عنه الإفتاء بالحيل". ومقتضى تحرير مذهب الشافعي: أن الشافعي لو علم أن المتعاقدين قصدا الوصول إلى الربا، لوافق غيره في تحريم الصور التي يحرمها غيره مطلقًا، سواء علم قصد المتعاقدين إلى الربا، أم لم يعلم. والذين يذهبون إلى إباحة الذرائع يقولون: إنما نسمي ما يتوصل به إلى ممنوع: وجوه المخارج من المضائق، ولا نسميها: الحيل التي تنفر الناس من اسمها. وليس في الشريعة مضائق حتى يحتاج إلى الخروج منها، فإن أرادوا بالمضائق ما نهى عنه الشارع نهيَ تحريم، أو أمرَ به أمر إيجاب، فالتكاليف

التي تتضمن تحريماً أو إيجاباً كلها مضائق إذاً، والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وكيف لا يسلم القائلون بإباحة الذرائع، وأنهم ناقضوا قصد الشارع، فكان الشارع- في زعمهم- قال لهم: توصلوا بهذا الوجه الجائز إلى ما حرمته، وتوصلوا بهذا الوجه الجائز إلى إسقاط ما أوجبته، واستدلوا على مذهبهم بأدلة تصدى ابن تيمية وابن القيم إلى إبطالها. والتحقيق الذي نراه، ونقر عليه العقيدة: أن الذريعة التي يقصد بها التوصل إلى محرم، كالربا، أو يقصد بها التوصل إلى إسقاط واجب؛ كالزكاة، يجب سدها. وكما تمنع الذرائع المفضية إلى فساد، تفتح الذرائع المقدور عليها الموصلة إلى واجب؛ كالسعي لصلاة الجمعة، والرحلة إلى الحج لمن كان خارج الحرم، قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ} [الجمعة: 9]. وقال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]. ويقال هذا في السلاح الذي يقاتل به الأعداء، فالأمر بإعداد السلاح أمر ليس بواجب لا لذاته، بل لتحقيق واجب هو القتال. وكذلك الرحلة لطلب العلم مأمور بها؛ لأنها ذريعة إلى طلب العلم اللازم للفرد أو الأمة، قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122]. فالفقيه إذا استقرأ هذه النصوص ونحوها، وقرر فتح ذرائع الواجبات،

فإذا عرضت عليه واقعة يتوقف فيها قيام المكلف بواجب على أمر مقدور له، طبق على الواقعة قاعدة فتح ذرائع الواجبات، وقضى عليه بفعل ذلك الذي توقف عليه القيام بالواجب.

مراعاة العرف

مراعاة العرف (¬1) العرف - وأريد منه: العادة - هو: ما غلب على الناس من قول وفعل وترك. والشريعة جاءت بإبطال العرف الفاسد. فمما أبطلت من عرف فاسد: قول الجاهلية للمتزوج: بالرفاء والبنين. ووجه فساده: أنه مبني على احتقار البنات وكراهتهن، فأبدلت به الشريعة - كما ورد في الصحيح - قوله - صلى الله عليه وسلم - للمتزوج: "بارك الله لكم وفيكم وعليكم". وروى بقي بن مخلد عن رجل من بني تميم، قال له: وكنا نقول في الجاهلية: بالرفاء والبنين، فلما جاء الإِسلام، علّمنا نبينا، وقال: "قولوا: بارك الله لكم، وبارك فيكم، وبارك عليكم". ومما أبطلته من عرف فاسد: بيوعهم الفاسدة التي نبه عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر شرّاح الأحاديث وجه فسادها، وهو الغرر والجهالة، وتعاطيهم الربا والميسر، وأكلهم ما ذبح على النصّب، (وهي الأصنام). ومما جروا عليه في عرفهم الفعلي، وألغاه الشارع: جعلهم في الإبل: ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإِسلام" - العدد الأول من السنة التاسعة.

بحيرة، وسائبة، ووصيلة، وحاماً. والبحيرة كما في الصحيح: الناقة التي يُمنع دَرُّها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس. والسائبة: التي يسيّبونها لآلهتهم، فلا يحمل عليها شيء. والوصيلة: الناقة البكر تبكر في أول نتاج لها بأنثى، ثم تثنّي بعدها بأنثى، ويسمونها الوصيلة؛ لأن إحداهما وصلت الأخرى، وليس بينهما ذكر. والحام: هو فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا انقضى ضرابه، قالوا: قد حمى ظهره، وتركوه لآلهتهم، وأعفوه من الحمل. وأما ما جرت عادتهم بتركه، وأمر الشارع بفعله؛ لما فيه من المصلحة، فمثل: تركهم القتال ونحوه في الأشهر الحرم، فأحلّه الشرع للمصلحة. والعرف ثلاثة أقسام: قسم نهى عنه الشارع، كما ذكرنا في عادات الجاهلية من الربا ونحوه. وقسم أقره الشارع؛ كأصل الحج، وإذنه في إضافة أبناء السبيل، والصناعة والتجارة والزراعة، وكعدم التعرض لرسول محارب جاء من جانب المحاربين، فالعرف جاء بأن رسول المتحاربين لا يتعرض له أحد بأذى. وقسم لم يلغه الشارع كما ألغى القسم الأول، ولم يعتبره بدليل خاص كما اعتبر القسم الثاني. وهذا القسم هو الذي بحث فيه الأئمة المجتهدون، فهل يعتبر في أحكام الشريعة حيث لم يلغه الشارع، أو يلغى منها ولا يعتبر حيث لم يعتبره الشارع بدليل خاص؟.

وذهب أكثر الأئمة من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى اعتباره، وبناء الأحكام الشريعة عليه. والإمام الشافعي لا يعتبر من العرف إلا ما أرشد الشارع إلى اعتباره؛ كالإنفاق على المرأة بما يقتضيه العرف؛ كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند زوج أبي سفيان: "خذي لك ولولدك بالمعروف". وسمّى بعض الفقهاء العرف دليلاً شرعياً، والدليل الشرعي هو نصُّ الشارع على حكم، وليس العرف نصّاً للشارع، ولكن سمّاه بعض الفقهاء: دليلاً؛ نظراً إلى جريانه بالمصلحة، وجريانه بالمصلحة دليل على إذن الشارع فيه. وقد يستدل بعض الفقهاء على مراعاة العرف في الأحكام بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]، ويضعف هذا الاستدلال: أن العرف في الآية محتمل للعرف بمعنى: الإحسان. ويستدل عليه بعض الفقهاء بحديث: "ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن"، وهذا ليس بحديث، وإنما هو قول ينسب إلى ابن مسعود. ويصح حمل المسلمين في هذا الأثر على جميع المسلمين، فيكون المراد به: الإجماع، لا مراعاة العرف. والمعلوم من الأصول: أن قاعدة مراعاة العرف لا تؤخذ من آية واحدة، أو حديث؛ فإنها كسائر القواعد يتحراها المجتهد في موارد متعددة من الشريعة. والأئمة الذين يقولون بمراعاة العرف، وإن لم يدل عليه دليل خاص، يقولون: إنهم تتبعوا الشريعة، فوجدوها تعتبر العرف إذا لم تكن به مفسدة،

وتتبعوا فتاوى الصحابة - رضي الله عنه -، فوجدوهم يراعون العرف كذلك، فأخذوا من هذا دليلاً عامًا على اعتبار العرف إذا لم يشتمل على مفسدة. وينقسم العرف الذي ذهب الأئمة إلى مراعاته: إلى عرف قولي؛ ككنايات الطلاق؛ فإنه يعتبر ما جرى به العرف منها، وتصدر الفتوى بمقتضاه. وعرف فعلي؛ كانتفاع المستأجر بمصعد وضعه المالك في المنزل، ولم يكن منصوصاً عليه في العقد، فجريان العرف به كافٍ في ثبوت حق المستأجر. وعرف يجري بترك الشيء، فيأذن الشارع بما جرى العرف بتركه؛ كتسامح الناس مع من لقط ثمراً ساقطاً من غصن خارج عن البستان، فعرفهم في التسامح دليل على رضاهم بذلك، وقد أقره الشارع. وإلغاء الشارع للعرف، بمعنى: أن ما جرى به العرف نفسه يكون مناطاً للحكم؛ كالربا، والبيوع الفاسدة، والطواف بالبيت من غير ستر، ودخول البيوت من ظهورها, فإنه جرى بها عرف الجاهلية، وهي نفسها مناط التحريم. كما قد يكون إلغاء الشارع للعرف بمعنى: أن ينص على أن ما جرى به لا يكون وسيلة إلى حكم شرعي؛ كتبني ولد الغير, فإنه عادة جارية عند العرب، ويأخذ المتبنَى عندهم حكمَ الابن الحقيقي، والشارع نص على أن ما جرى به العرف من التبني لا يكون وسيلة لإجراء أحكام الابن الحقيقي عليه، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]. وكذلك العرف الذي لم يلغه الشارع، ولم يعتبره بدليل خاص، وإنما

اعتبره المجتهد بالدليل العام، قد يكون نفسه مناطاً للحكم؛ كالاستقاء من بئر مملوكة عُرف بالعادة أن صاحبها لا يستأذن في الاستقاء منها. وقد يكون وسيلة إلى حكم شرعي؛ كما إذا تنازع الزوجان بعد الدخول في الصداق؛ فقد جرى العرف بدفع الصداق قبل الدخول، فكان العرف وسيلة الحكم الشرعي الذي هو: القول للزوج. وإذا نظرنا إلى الوقاع التي قال الأئمة: إنها من قبيل اعتبار العرف، وجدنا العرف إما أن يقيد المطلق، أو يخصص العام، وكذلك قال الفقهاء: إن العرف المعتبر هو الذي يخصص العام، ويقيد المطلق، وأما عرف يبطل الواجب، أو يبيح الحرام، فلا يقول به واحد من أهل الإِسلام. ومثال العرف الذي يخصص العام: قول الإمام مالك: إن الزوجة الحسيبة شريفة القدر جرى العرف بأن لا ترضع ولدها بنفسها، بل يأتي الزوج لها بمرضع. وهذا عرف يخصص العام في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]. ومن المعروف في الشريعة: أن الوكيل له أن يتصرف في الأمر الذي وكّل عليه بمصلحة الموكل، فإذا قال أحد للوكيل: اشتر لي ثوباً، وكان قاضياً، فاشترى له ثوباً لم يعتد القضاة لبسه، كان تصرفه مردوداً عليه. فالعرف يقيد المطلق، أعني قوله: اشتر لي ثوباً. وقد أخطأ سبيل الحق من جعل العرف وحده دليل إذن الشارع، فقال: إن كشف ما بين السرة والمنبت جائز؛ لأن العمال يتعاملون بذلك، فليس هناك حاجة ولا ضرورة تدعو إلى كشف ما بين السرة والمنبت، فيجب على

كل مسلم أن ينهاهم عن هذا العرف الفاسد. وربما يخطر للقارئ أن تقييد المطلق من النص، أو تخصيص العام منه يبطل بعض النص. والجواب: أن الشرع جاء لإبطال العرف الفاسد، والإذن في العرف الخالي من المفسدة، أو المشتمل على مصلحة، وتقييد المطلق، وتخصيص العام إنما أخرجا أفراد العرف التي لا توجد فيها العلة الداعية إلى اعتبار العرف، فلا يكون ذلك مبطلاً لبعض النص؛ لأن النص إنما أراد الأفراد المشتملة على علة اعتبار العرف دون غيرها، وإذا حكمنا بتقييد المطلق من النص، أو تخصيص العام منه، فإنما قيدنا المطلق، وخصصنا العام بقاعدة مستمدة من الشرع، وهي إقرار العرف إذا كان خالياً من المفسدة. والكتاب، والسنّة، والأصول القطعية المستمدة منهما، شريعة واحدة يبين بعضها بعضاً. فما جرت به العادة في عهد النبوة يكون حكمه من اعتبار أو إلغاء ثابتاً بالكتاب أو السنّة، وما علم جريانه في عهد الصحابة، ولم يذكر له مخالف، يكون حكمه من اعتبار أو إلغاء ثابتاً بالإجماع، وعادة دخول الحمام جارية على هذا الوجه، فإن كانت في عهد النبوة، فالرخصة فيها ثابتة بالنص الشرعي، وإن كانت في عهد الصحابة، فالترخيص فيها ثابت بدليل الإجماع. والرخصة في الحمّام جاءت من جهة أن مقدار ما يستعمل من الماء، وهو من قبيل البيع مجهول، وأن بقاء الشخص في مبنى الحمام من قبيل الإجارة، والمدةُ مجهولة. وإنما يكون الحمام رخصة شرعية إذا روعي فيه ستر ما يجب ستره.

قال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب "الموافقات": "وما ذكر من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس في التحقيق باختلاف من أصل الخطاب؛ لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي، وإنما معنى الاختلاف: أن العوائد إذا اختلفت، رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها". وقال القرافي في قواعده: "إن الأحكام تجري مع العرف والعادة، فينتقل الفقيه بانتقالها". وقد ينص المجتهد المقتدى به على رواية واقعة راعى فيها العرف الذي هو جارٍ في وقته، ويكون العرف قد تغير، فيتبع فقيه آخر نصه الذي انبنى على عرف تغير، ولهذا قال القرافي: "واتباع نص الرواية - رواية المجتهد - في بعض النوازل من الجهل العظيم". وضربوا مثلاً بالصداق إذا جرى العرف بدفعه قبل الدخول، وتنازع الزوجان، فالقول للزوج؛ لأن معه أصلاً شاهداً، وهو العرف، وإن لم يجر به عرف، فالقول للزوجة؛ لأن معها أصلًا، إذ الأصل عدم الدفع. ومما يوردون مثالاً للعرف الذي يختلف باختلاف المواطن: تحديد ساعات العمل من اليوم للعمال؛ فإنه يراعى فيه العرف، وإن لم ينص عليه في عقد العمل. ومن ذلك أيضاً: كشف الرأس لذي المروءة في المجالس العامة؛ فإنه مألوف عند أهل الأندلس، ولا يقدح في شهادتهم، ولكنه عند أهل المروءة في الشرق يقدح في شهادتهم، وإن كان في الأصل مباحاً. وقد يجري العرف بعقد فاسد، فهل يكون وسيلة لحكم شرعي؟ فاختلف أصحاب مالك، بعضهم يرى أن العرف العام إذا جرى بعقد فاسد،

فهو مثل جريانه بعقد صحيح، فالقول لمن يكون بجانبه العرف، ولو كان فاسداً؛ لأن المعنى الذي كان سبب اعتبار العرف الصحيح موجود في العرف الفاسد، فيكون شاهداً على صدق مدعيه. وذهب فريق إلى أن العرف الفاسد غير معتبر شرعاً، فلا يجوز أن يعتبر وسيلة لحكم شرعي. وقال المالكية: إن الغيبة، وإن كانت من الكبائر التي يعاقب عليها شرعاً، لا تقدح في الشهادة؛ لأنها لما غلبت على الناس، فالشرع يأذن بإلغائها خشية ضياع الحقوق. وأذكر بهذا: أني كنت قاضياً في "بنزرت" وملحقاتها في تونس، فجاءتني رسالة من المحكمة الشرعية العليا بتونس بأن أقبل التجريح في شهود وثيقة، فُجِّرح بعضهم بأنه يؤخر الصلاة عن وقتها، فالتقيت بأستاذنا الشيخ محمد النجار العضو بالمحكمة العليا، فقال لي: إن تأخير الصلاة عن وقتها كالغيبة لا يجرَّح به الشهود؛ لأنه صار غالباً في الناس. والشريعة السمحة لم تترك طريقاً للخير إلا فتحته، ولم تدع طريقاً للفساد إلا أغلقته، والعرف يعتبر إن قام على أساس وثيق، ويلغى إن جرى بالناس في غير طريق.

حكمة الإسلام في العزائم والرخص

حكمة الإِسلام في العزائم والرُّخص (¬1) خلق الله الإنسان وبين جنبيه نفس تتقلب يميناً تارة، ويساراً تارة أخرى، إذ يريد أن يعرف حاله كيف يكون إذا فارقت روحه جسده. وقد أرسل الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل عليه شريعة عزائمها حزم، ورخصها رفق، فاستقرت النفس على حال، واطمأنت إلى عقيدة. وللتشريع أحكام شرعت ابتداء، يتوجه الخطاب فيها لجميع المكلفين؛ كالوضوء، والصلاة، والصيام، ويسمّى هذا النوع: فرض عين؛ لأنه فرض على كل شخص بعينه. وأحكام يتوجه فيها الخطاب إلى الأمة على أن يقوم به طائفة من القادرين عليه؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بشؤون الجنائز، وهذا النوع يسمّى: فرض الكفاية؛ فإن قيام طائفة به يكون كافياً. وأحكام يتوجه الخطاب فيها إلى قوم من المكلفين، كل واحد بعينه؛ كالأحكام الخاصة بالنساء؛ كإرضاع الولد، والفطر في أيام الحيض والنفاس في رمضان، أو الأحكام الخاصة بالرجال؛ كدفع المهر للزوجة، والإنفاق عليها، وتحريم لبس الذهب والحرير، وهذه الأنلا الثلاثة تسمى: عزائم. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإِسلام" - العدد الرابع من السنة التاسعة.

والعزم في اللغة: قطع الأمر. والعزيمة إذا نسخها نص، فالناسخ هو العزيمة، وإن كان أقل مشقة من العزيمة المنسوخة؛ كوقوف العشرين من المسلمين في وجه المئتين من العدو، وهو الأصل؛ فإنه نسخ بالنص، أعني قوله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]. والرخص: جمع رخصة، وهي السهولة واللين، ويخاطب بها من يشق عليه الشدة التي تقع في العزائم؛ كالتيمم لمن يشق عليه الوضوء، أو الصلاة من جلوس لمن يشق عليه الصلاة قائماً. وأصل الرخصة في حكم الشرع: الإباحة، ولا تبلغ بصفتها رخصة أن تكون مستحباً أو واجباً، فإن تجاوزت الرخصة أصلها، وبلغ الداعي إليها حد الإشراف على الموت؛ كأكل لحم الميتة للمضطر إليه، فتصبح الرخصة عندئذ عزيمة؛ لأن تركها يؤدي إلى قتل النفس، وهو محرّم بالإجماع. والعزيمة قد تكون فيها مشقة عادية يحتملها الإنسان راضياً محتسباً أن الله يحفظه من الهوان والخزي في الدنيا، ويجزيه بالحسنى في الآخرة. والعزيمة قد تسقط إذا ترتبت على فعل خطأ في حق الله؛ كمن باشر أجنبية يظنها امرأته، فتسقط عنه العزيمة، وهي حدّ الزنا بسبب هذا الخطأ؛ لأن الحدود من حقوق الله. ولا تسقط العزيمة في حق المخلوق، ولو كان الفعل خطأ؛ كوجوب الدية على القاتل خطأ، أو ضمان المال الذي أتلفه. وقد تسقط العزيمة بالنسيان كمن أفطر يوماً في رمضان يظنه من شعبان.

وحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" يروى عن أحمد بن حنبل، ومحمد بن نصر المروزي أنه غير صحيح. وقال الإمام النووي: هو حديث حسن. وعلى فرض صحته، فيراد منه الخطأ في حق من حقوق الله. وتسقط العزيمة عمن أكره على كلمة الكفر، قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. والظاهر من الآية الكريمة (في سورة البقرة): أن الله علم من المؤمنين القائلين في دعائهم: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]،: أنهم قصدوا حقوق الله في مثل عقوبة القتل الخطأ، والأكل في رمضان نسياناً، وأما ما يتعلق به حق المخلوق، فهو باق لايسقط. وتسقط عزيمة الطلاق والبيع بالإكراه، كما تسقط عزيمة الكفر بالإكراه. ولا تسقط العزيمة عمن أكره على قتل شخص، أو غصب ماله؛ لأن الله سبحانه وتعالى- يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. والجهل بالحكم ليس بعذر تنتهك معه العزيمة؛ فإن مخالفة المكلف لحكم الشارع بسبب الجهل تعد إنتهاكاً لا يقبل فيه عذر بسبب جهالته. وقد تخفف العزيمة بتغيير صورتها؛ كصلاة الخوف، فالأصل فيها أن يقسم القائد العام المجاهدين طائفتين: طائفة تقف أمام العدو، وطائفة يصلي بهم ركعة، ثم تذهب الطائفة التي صلى بهم ركعة إلى مقابلة العدو، وتأتي الطائفة الأخرى، فيصلي بهم الركعة الثانية.

وقد تخفف العزيمة بجمع التقديم؛ كجمع صلاة العصر مع صلاة الظهر، وصلاة العشاء مع صلاة المغرب، وجمع التأخير؛ كتأخير صلاة الظهر إلى وقت صلاة العصر، وتأخير صلاة المغرب إلى صلاة العشاء. وقد تطلق الرخصة في الشرع على معنى غير المعنى الذي ذكرناه في مقابلة العزيمة، وهذا المعنى هو: رفع التكاليف الغليظة، والأعمال الشاقة التي شرعها الله للأمم السابقة المشار إليها بقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]. مثال ذلك: نهيهم عن اصطياد السمك يوم السبت، وابتلاؤهم بمجيئه في هذا اليوم، وعدم مجيئه في الأيام الأخرى. ولم يقع في الشريعة الإِسلامية مثل هذا التكليف الذي وقع في الشرائع السابقة؛ فإن الأمم السابقة كلفت بهذه المشاق عقاباً لها على عتوها وبغيها، كما قال تعالى بعد ذكر تلك التكاليف: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146]. وفي الآية الأخرى: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163]. أما شريعة الإِسلام، فشريعة عامة في مختلف المواطن والعصور، فمن المناسب ألا يكون فيها حرج، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وقد تطلق الرخصة على أمور تناولتها قاعدة المنع، ولكن وجد في تلك الأمور وجه يقتضي إباحتها واستثناءها من قاعدة المنع، مثال ذلك: أن يعطي صاحب بستان ثمر نخلة أو نخلات شخصاً مجاناً، فإذا أراد صاحب البستان أن يشتري هذا الثمر بتمر يابس، فقاعدة منع بيع الرطب بالتمر خَرصًا (تقديري تحرّم على صاحب البستان شراءه بتمر ممن أعطاه، لكن استثني هذا من

التحريم، والوجه في استثنائه من القاعدة تضرُّر صاحب البستان من دخول صاحب الثمر في بستانه، وهو وجه يدعو إلى إباحة شرائها. والفرق بين هذا المعنى للرخصة، والمعنى الذي ذكر مقابلا للعزيمة: أن سبب الإباحة في الوجه الأوّل متحقق في كل فرد من الأفراد المستثناة من الأصل، أما الوجه الثاني، فلا يلزم أن يكون سبب الإباحة متحققاً في جميع الأفراد، فينبني عليه جواز شراء صاحب البستان للعارية، وإن لم يتحقق تضرره فعلاً بدخول صاحب العارية في بستانه. وإن مشقة التكاليف لا تبلغ كثيراً من مشقات الدنيا، ولاسيما إذا نظر إلى ما في التكاليف من الخير الدنيوي والثواب الأخروي. وإننا نرى من غلبت عليه الأهواء، لا يطمئن إلى حكمة ما جاء به الشرع من الأحكام، إلا إذا ذكر له ضرر خاص يلحقه من مخالفة الشرع، حكي أن أحد الحكام طلب من عالم من العلماء فتوى تخالف الشرع، فأبى أن يفتي بذلك، وقال: هذا مخالف للإسلام، فألح عليه الحاكم، وأشار إلى عقوبته إذا لم يفْته، فقال الشيخ: أنا أستطيع أن أفتيك بما تريد، ولكن في بلاد الإِسلام الأخرى علماء للشريعة سيقولون: إن الحاكم ولّى الفتوى من يجهل الشريعة الإِسلامية. فقال الحاكم: أنا لا أحب أن يقول الناس هذا، وانصرف عنه.

موقف الإسلام من الرؤيا وتأويلها

موقف الإسلام من الرؤيا وتأويلها (¬1) جعل الله حال الإنسان في الحياة يقظة أو نوماً، فيكون في اليقظة تحت سلطان العقل، فيدرك الحقائق با لأدلة المنطقية، والروايات الثابتة، ويكون في حال النوم تحت تصرف الخيال أو الإلهام. وقد خاض العلماء في حقيقة الرؤيا، ويكفينا أن نقول: هي اعتقادات في قلب النائم بانتظام أو غير انتظام. والشريعة تعرضت لأقسام المرئي والحلم، فالمرئي تارة يكون صوراً خيالية تتقلب في اختلاف وتناقض وتسلسل في غير ملاءمة، وهذه تسمى: أضغاث أحلام، وتارة تكون منتظمة تنبه على حسن ما وقع أو قبحه، أو تنبه على حسن ما سيقع في المستقبل أو قبحه، وهو الأكثر في المرائي. ويدخل في المتخيل ما تتحدث به النفس في اليقظة، فترى في النوم ما يتعلق به. ويدخل فيه تهاويل الشيطان وتخاويفه، وعلامته: أن يعرض على أدلة الشريعة، فتنهى عنه إن أمر الشيطان لإتيانه، أو تأمر به إن نهى عن إتيانه، وهذا الضرب لا يعرف بالعقل إلا من جهة الدليل القاطع الذي قام على صدق الشرع ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإِسلام" - العدد الأول من السنة الثامنة.

فيما يقوله، والعقل لا يستطيع أن ينفيه بالأدلة المنطقية. ومرائي الأنبياء إلهام من الله بلا شك، ولهذا تثبت بها الأحكام الشرعية، كما قصَّ الله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: أنه قال لابنه الذبيح: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]. فقول الذبيح: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} دليل على أن إبراهيم أمر في المنام بذبح ابنه، وأراد تنفيذه، وهو من أشد ما شرع من الأحكام، وقوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} لا يقصد به تخييره، وإنما يقصد به ظهور عقله وثباته وحسن طاعته لله بقوله: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} والإِسلام، كان جعل الرؤيا الصالحة جزءاً من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، لم يجعلها مستنداً لأحكام الشريعة. فغير الأنبياء لا يثبت برؤياهم حكم شرعي، فقد يخطئ في الضبط والتأويل. وهذا أبو بكر الصديق، على صفاء سريرته، واستنارة بصيرته، قد أخطأ في التأويل، حتى قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أصبت بعضاً، وأخطأت بعضاً" (¬1). ¬

_ (¬1) الحديث رواه البخاري، ونصه: أن ابن عباس - رضي الله عنه -كان يحدث: أن رجلاً أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها، فالمستكثر، والمقل، وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر، فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر، فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر، فانقطع، ثم وصل. فقال أبو بكر: يا رسول الله! بأبي أنت، والله لتدعني فأعبرها! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اعبر". قال: أما الظلة، فالإِسلام، وأما =

وسئل الإمام مالك - رضي الله عنه -: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال أبالنبوة يُلعب؟! وإنما يستأنس بها في البشارة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات"، وفي رواية: "يراها المسلم، وترى له". وتكون للإنذار، وهي المشتملة على ما يتألم منه، ولو عرض على الدلائل الشرعية، لكرهته، وأمرت باجتنابه؛ كمصاحبة الفاسق، والاقتران بامرأة غير صالحة. وتكون لاطمئنان النفس عما يقع في المستقبل من المصائب؛ كما ورد في الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت في رؤياي أني هززت سيفاً، فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحُد، وهززته أخرى، فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين". وتجيء الرؤيا لحكمة الانتصار على الأعداء كما قال تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال: 43]. وإيضاح هذا أن الله جعل أول محارب للمسلمين كفار قريش، وقريش ¬

_ = الذي ينطف من العسل والسمن، فالقرآن حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن والمقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض، فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به، ثم يوصل له، فيعلو به. فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطات؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أصبت بعضاً، وأخطأت بعضاً". قال: فوالله! لتحدثني بالذي أخطات، قال: "لا تقسم". - معنى ظلة: سحابة. تنطف: تقطر. يتكففون: يأخذون بكفهم. السبب: الحبل.

ممن اشتهر بالنخوة والبسالة في الحرب، والذي فهمناه من سنة الله أن ينصر أولياءه على أعدائهم بالطرق المعروفة في القتال، حتى يظهر للملأ أن أولياءه انتصروا بالشجاعة والاستخفاف بالموت في سبيل الدعوة إلى الحق، ومن المعروف أن تتغلب الفئة القليلة على الفئة الكثيرة إذا كانت الفئة القليلة أوفى شجاعة، وأقوى صبراً على الشدائد، والفئة القليلة تغلب الكثيرة على حسب ضعف الفئة الكثيرة، فقد يقتضي حال المئة من الفئة الكثيرة أن يغلبها أربعون أو ثلاثون من الفئة القليلة، كما قال الشاعر: وإن ابن باديس لأكبر حازم ... ولكن لعمري ما لديه رجال ثلاثة آلاف لنا غلبت له ... ثلاثين ألفاً إن ذا لمحال ومن عرف قريشاً، وحرصهم على أن يكونوا هم الغالبين، فلا بد أن يبذلوا شجاعتهم وكل ما يملكون من صبر في قتال المسلمين، وغير معقول عادة أن يغلب المئة منهم الأربعون أو الخمسون من فئة أخرى تكون ظالمة مثلهم. ولما كان المؤمنون يحاربون قريشاً الذين عرفوا بالنخوة والإقدام في الحروب، والحرص على أن يكونوا الغالبين لمن دعاهم إلى دين غير دينهم، فشأنهم أن لا تتغلب عليهم الفئة القليلة إلا أن يؤيدهم الله بروح من عنده، فأراهم في النوم جيش العدو قليلًا حتى ينشطوا للقائه، ولا تتفرق آراؤهم، فقال تعالى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [الأنفال: 43]، وأراهم جيش العدو مثليهم عند اللقاء؛ ليحرصوا على قتاله، ولا يعودوا إلى الهزيمة بعد لقائه، ويبذلوا ما استطاعوا من الشجاعة في غلبه، وما هو إلا أن الله جعل أنظارهم تخطئ في تقدير جيش العدو، وجعل أنظار العدو تخطئ

في تقدير جيش المؤمنين؛ لينتصر أولياء الله على أعدائه، فالخطأ في التقدير واقع في الأنظار، وقد شاءه الله، كما يقع الخطأ في تقدير أشياء أخرى. وإضافة تخطئه الأنظار إلى الله؛ لأنه أتى بفائدة عظيمة هي: اتحادهم عند العزم على القتال، واستمرارهم عليه عند الالتحام. فالرؤيا قد تكون صريحة؛ كقول إبراهيم - عليه السلام -: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102]. أو قريياً من الصريح؛ كما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - صورة عائشة - رضي الله عنها - في سَرَقَة (قطعة) من حرير، وقال: (أُريتك في المنام مرتين إذا رجل يحملك في سرقة، فيقول: هذه امرأتك، فأكشفها، فإذا هي أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند الله، يُمضِمه". وقد تكون - وهي أكثر- محتاجة إلى تأويل، كرؤيا العزيز، وقوله للملأ: {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]. وقولهم: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44]. وقد تصدق الرؤيا من كافر؛ كرؤيا العزيز، ورؤيا صاحبي السجن التي أوّلها يوسف - عليه السلام -، ووقعت كما أولها. وصدق هذه الرؤيا كان لمصلحة هي خروج يوسف - عليه السلام - من السجن، وتوليه إدارة شؤون المال التي كان فيها صلاح بيت المال ونظامه. وتصدق الرؤيا عاجلاً كما يقع في كثير من المرائي، وقد تصدق آجلاً؛ كرؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - المشار إليها بقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27].

فإنها وقعت في السنة المقبلة من الرؤيا، وكرؤيا يوسف - عليه السلام - المشار إليها بقوله تعالى: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]. وقد تاأولها يوسف عندما خرَّ له أبواه سجّداً، فقال: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]. وكان ذلك بعد رؤيته بسنين. وقد نهى الإسلام عن الكذب في المنام، وعدَّه النبي من أكذب الكذب، فقال كما جاء في الصحيح: "من أفرى الفرى أن يُرِي عينيه ما لم تر"، وفي الصحيح أيضأ: "من تحلَّم بحلم لم يره، كلّف أن يعقد بين شعرتين، ولن يفعل". والرؤيا الصادقة إن كانت واضحة، أو أوِّلت تأويلاً صادقا، من قبيل معرفة بعض ما في الغيب، ولم يجعل الإسلام الاطلاع على الغيب طريقاً من طرق إثبات الأحكام، ومن هذا قال النبي: "إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحنَ من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع"، وقال الأصوليون: الإلهام ليس بحجة. وجاء في الصحيح: أن الإنسان قد يرى في النوم ما يكدره، وذكر آداباً إذا قام بها، لا يضره بشيء؛ كالاستعاذة من الشيطان الرجيم، وأن لا يقصها على أحد. فالرؤيا الصادقة وتأويلها قد اعترفت بها الأديان السماوية، بل قال بها غير المتدينين أيضاً، وأتى الإسلام فأقرها، ووكل أمرها إلى عارف بتأويلها إن كان في حاجة تأويل.

وبعض المؤمنين بها يسرفون في حكاية ما يرونه في النوم، سواء كان منتظماً، أو غير منتظم؛ كما يسرف بعض الناس فيعبر كل ما يحكى له من المرائي على ما يسر الرائي؛ مخافة أن يصفه بالجهل. ويقابل هذا من ينكر الرؤيا جملة، ويعدها من أضغاث الأحلام، فلا ينبغي الالتفات إليها؛ فكلا الرجلين مسرف في اعتقاده، والمحق من يقول بأصل الرؤيا. ويبقى الاعتقاد بصدق الرائي وتأويل ما يراه عائداً إلى الثقة وحسن الظن.

الكبيرة والصغيرة

الكبيرة والصغيرة (¬1) يكون الإنسان مؤمناً كاملاً بصحة الاعتقاد بالله، واجتناب الكبائر والصغائر، فإن اعتقد ما لا يليق اعتقاده بالله، كان غير مؤمن، وإن فعل ما نهى عنه الدين، أو ترك ما أمر به، كان عاصياً، فغير المؤمن بالله من يجحد بواجب الوجود، أو صفة من صفاته العليّة؛ كالوحدانية، والقدم، والقدرة، والعلم، أو أنكر الملائكة، أو شيئاً من كتبه، أو أحد رسله، أو البعث، أو جحد ما وقع عليه الإجماع وعلم من الدين بالضرورة؛ كالصلاة، والصوم، والحجّ، والزكاة، وأن الشريعة جاءت بأحكام المعاملات كما جاءت بأحكام العبادات. والمعاصي التي لا تبلغ مرتبة الكفر منها كبائر وصغائر، وتأدب بعض العلماء فلم يذكر في المعاصي صغائر؛ إجلالاً لمن يعصى بها، وإلا، فهم متفقون على أن المعاصي منها كبائر، ومنها صغائر، والدليل على انقسامها إلى كبائر وصغائر هو الكتاب والسنّة، والقواعد المأخوذة منهما. أما الكتاب، فقدقال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]. وأما الحديث، فقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في "صحيح مسلم"، وغيره، عن أكبر الكبائر، فقال - عليه السلام -: "أن تجعل الله نداً وهو خلقك"، ثم ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الأول من السنة الحادية عشرة.

قال: ثم أيّ؟، قال: "أن تزاني حليلة جارك". وفي حديث آخر: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل له: ما هي يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وأكل الربا". وليس في الحديث حصر للكبائر في سبع، وإنما فيه ذكر سبع منها. وحديث ابن عباس في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبرين، فقال: "إنهما ليعذّبان، وما يعذَّبان في كبير"، وفي رواية: "وإنه لكبير، أما أحدهما، فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر، فكان يمشي بالنميمة" .. أما النميمة وهي نقل كلام الغير للإضرار به، فكبيرة، وأما عدم الاستتار من البول، فكبيرة؛ للمواظبة عليه، والصغيرة تأخذ حكم الكبيرة بالمواظبة. وألحق العلماء بما ذكر في الكتاب والحديث من الكبائر ما كانت مفسدته عظيمة؛ كمفسدة الكبائر المنصوص عليها، وألحقوا بالصغائر ما تكون مفسدته قليلة، وتقدير المفسدة يرجع إلى المجتهد في الشريعة؛ لأنه هو الذي يعرف مقدار المفسدة التي جعلها الشارع مقياساً للحكم على الكبيرة والصغيرة. وذكر الفقهاء الكبائر والصغائر في حقيقة الشهادة، قالوا: يقدح في الشهادة ارتكاب الشاهد لكبيرة، أو إصراره على صغيرة، وفسروا الإصرار على الصغيرة بأن تتكرر منه، ولا يظهر التوبة منها، ولا الندم عليها، وارتكابه للذنوب الصغيرة مع الإصرار عليها دليل على استخفافه بالشهادة. وذهب أهل السنّة إلى أن فاعل الكبيرة يعذب عذاباً شديداً، ولا يخلد في النار كما يخلد المشركون، ويؤيد ما ذهبوا إليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا

يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. وذهب الخوارج، وهم الذين خرجوا على عليّ - كرم الله وجهه - إلى أن مرتكب الكبيرة خالد في النار، والمعتزلة يرون أنه في منزلة بين المؤمنين والكافرين، وأنه يخلد في العذاب، وقد استدل الفريقان بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]. ولا يرى أهل السنّة في هذه الآية دليلاً؛ لأن المقصود بها من قتل وهو كافر مؤمناً، أو أن المراد بالخلود طول الإقامة من غير تأبيد، ويلحق بالكفر معاصي إذا ارتكبت كانت كفراً؛ كتكفير الصحابة جملة؛ لأنه يقتضي إبطال الشريعة كلها، فهم رواتها، وعنهم أخذت؛ بخلاف من سب بعضهم؛ فإنه لا يخرج من دائرة الإيمان، وإنما يعتبر مرتكباً لكبيرة، فقد ورد في حديث البخاري: "من عادى لي ولياً، فقد آذنته بحرب"، وهو يشمل من سب الصحابة، لاسيما من شهد له رسول الله منهم بأعظم الإيمان، وأكمل الأعمال؛ كأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي ابن أبي طالب - رضي الله عنهم أجمعين -. وألف أحد العلماء في تونس رسالة فيمن يقف في صفوف الأجانب، ويقاتل المسلمين، وأثبت أنه كافر. وقال أبو الحسن الأشعري: من بنى لطائفة كافرة محلاً يكفرون فيه بالله، فهو كافر. ولا أظن عالماً بقواعد الشريعة يخالف في كفر من يطلع الأجانب على عورات المسلمين، ليغلبوهم على أمرهم، ويستولوا على أوطانهم. ومن المعاصي ما اختلف فيه الأئمة؛ كترك الصلاة، فقد عدّه الإمام

أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - كفراً، وعدّه الجمهور كبيرة. ولا يعد عاصياً من عرف منه الدخول تحت سلطان الشريعة، وإنما خالف الجمهور بدليل شرعي من شأن العلماء أن يستدلوا به، فإذا خالف بغير دليل شرعي، فابتدع رأياً لا يقول به الشرع، فتلك ضلالة. وورد على أحد أصدقائنا من العلماء سؤال، وأظنه من غير المسلمين، يطلب فيه معرفة الحكم في تأخير صلاة الجمعة إلى يوم الأحد، هل يعد تصرفاً مخالفاً للدين، أو لا؟ فذاكرني في الجواب، فقلت: تحويل صلاة من يومها إلى يوم آخر خروج عن الدين؛ لأنه من قبيل تغيير ما أجمع عليه العلماء، وعُلم من الدين بالضرورة، لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. ومعلوم من أصول الفقه: أن الشارع ذكر لكل صلاة وقتاً معيناً، وبيّن له بداية ونهاية، فذلك الوقت سبب لوجوب الصلاة وصحتها، فمن أداها في غير وقتها، لم تصح منه، ولكن الشارع إن أمر بقضائها، فقد وجد دليل على صحة قضائها بعد فوات وقتها، والجمعة عين لها الشارع وقتاً معيناً، فمن أداها في غير ذلك الوقت، فقد أداها في وقت لم ياأذن به الله، فلا تصح له صلاة الجمعة. وسألني أحد علماء الجزائر سنة 1943 م، وهو في طريقه إلى الحجاز عن قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29]؛ فإن الآية تدل على ما يشاؤه الإنسان ويفعله من معاص قد شاءه الله، فكيف يتفق هذا ومسؤولية الإنسان عن أفعاله؟ فقلت حينذاك: إن المراد من المشيئة المسندة إلى العبد في الآية هي

المشيئة المستلزمة للفعل؛ أي: التي يتبعها الفعل، فما يشاؤه العبد ويفعله، سواء كان من معصية أو طاعة، لا يقع إلا أن يشاء الله وقوعه، ويراد من مشيئة الله في الآية: المشيئة الكونية التي هي قائمة على الحكمة العامة في نظام الكون، ولا يراد من المشيئة المسندة إلى العبد المشيئة المطلقة، فقد يشاء العبد شيئاً، ويعدل عن فعله، فذلك الفعل الذي شاءه العبد ولم يفعله لم يشأ الله فعله، ومؤاخذة العبد على فعل المعاصي من جهة إرادتها وكسبها فقط، ومذهب أهل السنّة: أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والأتقياء الفضلاء يتركون المعاصي كبائر وصغائر إذعاناً لله تعالى، لا خوفاً من عقابه فقط، بحيث لو أمنوا من عقابها، لم يعصوا الله، وهذا معنى الأثر الوارد من قولهم: نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله، لم يعصه. وقد قضيت في عاصمة الجزائر مدة طويلة في إحدى الليالي مع أحد علماء الجزائر، وهو الشيخ الحفناوي بن عروس، وهو صاحب تأليف: "تعريف الخلف برجال السلف" في أسلوب هذا الأثر الذي رواه السعد التفتازاني في شرحه المطول عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقد رأيت بعض المحدثين ذكر أنه بحث عن هذا الأثر بحثاً شديداً، فلم يقف له على ما دلّ على أنه مرفوع أو موقوف. وفي "الحلية" لأبي نعيم من طريق عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن سالماً لشديد الحب لله، لو لم يحب الله، ما عصاه". فعلى المؤمنين أن يتبعوا حدود الله، ويلتزموا ما بيّنه الرسول الكريم، وأن يجنبوا أنفسهم الكبائر، ولا يستهينوا بمقارفة الصغائر؛ فإن الإصرار يجعلها كبائر.

الذوق، وفي أي حال يعتد به؟

الذّوق، وفي أيّ حال يُعتدُّ به؟ (¬1) يذكر الذوق في كتب اللغة بمعنى حقيقي أو مجازي، ويذكر فيما يتحدث فيه الناس في معنى الجمال، ويذكر في علم البلاغة بمعنى، ويذكر في كتب التصوف بمعنى، ويستعمله بعض المعاصرين في مقابلة الأحكام الشرعية. ونحن نتحدث عن الذوق بحسب المعاني التي تراد منه حتى يتبين ما يعتدُّ به من الذوق، وما لا يعتد به. الذوق في اللغة، وهو الأصل: إدراك طعم الشيء؛ كمن يدرك الحلو فيرتاح له، أو يدرك المرّ كالصبر فينفر منه. وقد أشار الناس إلى أن الإنسان يتناول ما يرتاح له ذوقاً، قال شاعرهم: أما الطعام فكلْ لنفسك ما اشتهت ... والبَسْ لها ما يشتهيه الناس فالإنسان يتناول من ألوان الطعام والمشروب ما طاب له، ما لم يكن مضراً بالعقل؛ كالخمر، أو البدن؛ كالميتة، أو العقيدة؛ كما أُهِلَّ به لغير الله، أو نازعاً منه صفة العدالة؛ كمن يضع يده في طعام آخر بغير رضاه. ويستعمل الذوق في اللغة مجازاً فيما يرتاح له الإنسان؛ كالنوم، والرحمة، فيقال: ما ذقت اليوم نوماً، وأذاقه الله رحمة. ويستعمل فيما يستلزم النفور ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السادس من السنة الثامنة.

منه؛ كالبأس والعذاب. والذواق: ما يتناول من طعام، وما يروى من حكمة. وقال بعض علماء البلاغة في الأثر الوارد عن الصحابة - رضي الله عنهم -: كانوا لا يفترقون إلا عن ذواق: الذواق: ما يتناول من طعام. ويكنّى به عما يذكرون من حكمة على وجه النصيحة والموعظة. والذوق فيما يتحدث فيه الناس في إيثار السمرة على البياض، أو البياض على السمرة، أو السمن على نحافة الجسم، وتفضيل العيون السود على العيون الزرق. واختلاف الناس في إيثار أمر من هذا يرجع إلى اختلاف الذوق، وليس لأحد دليل عقلي يستطيع به تفضيل لون على آخر. واختلاف الناس في مأكلهم وملابسهم وتنظيم بيوتهم يرجع إلى اختلاف أذواقهم. والذوق عند علماء البلاغة: هو قوة في الطبع يدرك بها الرفيع من الكلام والمنبوذ منه، ولا يرجع الحكم فيه إلى قواعد مقررة، بل إلى استحسان الطبع للكلام أو استهجانه، سواء كان في التئام حروف الكلمات، أو التئام بعض الكلمات مع بعض، أو وقوعها الموقع اللائق بها. ويتبع هذا أن يكون الاستحسان أو الاستهجان في التشابيه والمجازات والاستعارات والكنايات. وقد ضرب صاحب "دلائل الإعجاز" أمثلة لذلك، فمما خفي استهجانها عند بعض الباحثين في البلاغة، وظهر لهم استحسانها، وليست في الواقع بمستحسنة: قول المتنبي: عجباً له مسك العنان بأنمل ... ما حفظها الأشياء من عاداتها والذوق السليم ينكر قوله: ما حفظها الأشياء؛ لأن الإضافة تدل على

أن لها حفظاً، ومراد الشاعر: أن ليس من عادتها الحفظ أصلاً، فالمناسب أن يقول: ما حفظ الأشياء. ومما ظهر استهجانه، وليس بمستهجن: قول ابن الرومي: وجهل كجهل السيف والسيف منتضى ... وحلم كحلم السيف والسيف مُغمد قال الصاحب بن عباد: كان الأستاذ - يعني: ابن العميد - يختار من شعر ابن الرومي، وينقط عليه، وسلم إليّ القصيدة التي أولها: "راعت طلاعى جمرة تتوقد"، فتأملتها، فوجدته ترك خير بيت فيها، وهو قوله: "وجهل كجهل السيف"، وقلت: لم ترك الأستاذ البيت؟ فاعتذر بعذر كان شراً من تركه، فقال: تركته لأنه أعاد السيف أربع مرات. وقال الصاحب: لو قال: وجهل كجهل السيف وهو منتضى، أو كجهل السيف وهو منتضى، أو كحلم السيف وهو مغمد، فسد المعنى؛ يعني: من جهة البلاغة. وقد أنكروا على أبي تمام قوله: كانوا برود زمانهم فتصدعوا ... فكأنما لبس الزمان الصوفا حيث أسند لبس الصوف إلى الزمان، وذلك ينفر منه الطبع؛ كإنكارهم الاستعارة المكروهة في قوله: لا تسقني ماء الملام فإنني ... صبّ قد استعذبت ماء بكائي حيث أضاف الماء إلى الملام، وعادتهم إضافته لما يستحسن؛ كماء الحسن، وماء البشاشة، وماء الحياء، ويكنى عن العزة بماء الوجه. وقال المتنبي: وقد ذقت حلواء البنين على الصبا

حتى قال بعضهم: ما زالت الأذواق تستهجن ماء الملام حتى عززها أبو الطيب بحلواء البنين. وقد أراد أبو تمام أن يجعل استعارة ماء الملام كجناح الذل في الآية؛ إذ حكي أن بعض المستهجنين استعارة ماء الملام أرسل له قارورة، وقال له: أرسل لي شيئاً من ماء الملام. فقال أبو تمام: أرسل لي ريشة من جناح الذل، أرسل إليك شيئاً من ماء الملام!. والفرق بين ماء الملام وجناح الذل في حسن السبك وانتقاء وجه الاستعارة لا يخفى على ذوق سليم يدرك الحسن من المستهجن. وبعض من يشهد له بالذوق السليم قد يغفل، فلا يبصر وجه الاستهجان في الاستعارة وغيرها، ويبصر به غيره، كما غفل أبو تمام عن استهجان ماء الملام، والمتنبي عن حلواء البنين، وإلا فمن يقول كأبي تمام: من لم يُسَسْ ويطير في خيشومه ... وهج الخميس فلن يقود خميسا ومن يقول كالمتنبي: فلو أن المقام به علوٌّ ... تعالى الجيش وانحطّ القتامُ شأنهما أن يتنبها لما في استعارة ماء الملام وحلواء البنين من الاستهجان. واختلاف الشعراء والكتاب في أساليبهم يرجع إلى اختلافهم في الذوق. وربما يبدو للذوق العاجل في نظر القرآن أن لو ذكر القرآن لفظاً آخر غير الذي ذكره، لكان أحكم نظاماً، وأوفى بلاغة؛ كما إذا نظر الذوق على عجل قوله تعالى حكاية عن عيسى - عليه السلام -: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118].

ويبدو له أن المناسب لقوله تعالى: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} [المائدة: 118] اسم الغفور، بدل العزيز، ولكن لفظ العزيز أنسب عند التأمل بقوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ}، والمعنى: إن تعذبهم، فإنهم عبادك ليس لأحد سلطان لأن يمنعك من عذابهم، وإن تغفر لهم، فلا سبيل لأحد أن يصدك عن المغفرة لهم، فإنك أنت العزيز؛ أي: الغالب على كل شيء، الحكيم الذي يضع كل شيء الموضع اللائق به. ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم، لكان معرضاً بالشفاعة لهم، وهو يريد أن يفوض الأمر إلى الله ليفعل ما يشاء، وهو العالم بما يقتضيه حالهم من التعذيب والمغفرة لهم. وتجرأ بعض القارئين فقرأ: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، وعوقب معاقبة من يتعمد تبديل ألفاظ القرآن بما يوافق ذوقه الخاص. وقواعد النحو لا يعتبر فيها الذوق الخاص؛ كما لو أراد بعض الأذواق أن يؤنث العدد للمؤنث، ويذكره للمذكر، وأن يصرف الممنوع من الصرف، فإن فعل ذلك، فقد جاء بلغة أخرى غير العربية الفصحى؛ لأنه يعتبر في قواعدها ما روي عن العرب، سواء وافق الذوق الخاص، أو لم يوافقه، ولاسيما لغة نزل بها القرآن، وألّفت بها في شتى كتب العلوم كتب قيمة. والذوق عند الصوفية، ويعبرون عنه بالوجد: عرفان يقذفه الحق في قلوب أوليائه يفرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره. وشرط أصحابه أن يوافق قرآناً وسنّة. قال سهل بن عبد الله التستري، وهو من أساطين الطائفة: كل وجد

لا يشهد له الكتاب والسنّة فهو باطل. وقال أبو سليمان الداراني، وهو من أكابرهم أيضاً: إني لتمرُّ بي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين من الكتاب والسنّة. فإذا فعل بعض من ينتمي للصوفية شيئاً، وقال: إنه عرفان من حق، ولم يشهد له كتاب أو سنّة، أو سيرة السلف الصالح، تركناه جانباً. ومن هنا قال العلماء: المتشابه لا يكون إلا في كلام الشارع ليقضى فيه بالمحكم لحكمة يعلمها الشارع، وأما المخلوق، فيحكم على كلامه بما يقتضيه لفظه الصريح العربي؛ حتى لا يدعي المخلوق يلحد في كلامه أنه من قبيل المتشابه. والذوق عند بعض أهل العصر: إدراك ما يليق في العمل أو المعاملات، فيقولون: فلان صاحب ذوق: إذا كان يحسن ما يعمل، أو يحسن معاملة غيره. وقد يخطئ في الذوق بعض أهل العصر، فيستعمله في القوانين والأعمال الشرعية، وهو طبيعة تتربى بمحاكاة بعض الأجانب، وتغلو به المحاكاة إلى قوانينهم ومعاملاتهم؛ كالربا، ولا يزيد إن ذكرت له حداً من حدود الشريعة أن يقول: هذا مناف للذوق. وإنما يحسن أن نحاكيهم فيما سبقونا إليه من الأشياء المادية؛ كالهاتف، والبرق، والأسلحة، والطائرات، والغواصات، والإذاعة، وأما الأمور العقلية المعنوية، فقد دلت المشاهدة على أنهم ونحن فيها سواء. وإنما يعتد في القوانين بالمصالح العامة، ولا يعتد بالذوق الخاص، ولا بالذوق الذي تربى من عادة بنيت على غير مصلحة.

والخلاصة: أن الذوق في اللغة، وفيما يتحدث به الناس في اللون أو الشكل أو البراعة في القول يعتد به، وأما في قواعد النحو، فالمعتمد به ما ورد عن العرب، أو اقتضاه القياس على كلامهم. ولا عبرة بالذوق في أحكام الشرع، فيعتد فيها بما ورد عن الشارع، وما اقتضته المصالح العامة.

النذر

النَّذر (¬1) حُكْم الشارع: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف؛ بأن يقتضي منه فعل شيء، وهو الواجب، والمندوب، أو يقتضي منه ترك شيء، وهو المحرم، والمكروه، أو يخيره بين فعل الشيء وتركه، وهو المباح. ثم إن الواجب قسمان: وهما: ما يوجبه الله على الإنسان ابتداء؛ كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، وما يوجبه الإنسان على نفسه ويلتزمه من غير أن يوجبه الله عليه أولاً، وهو النذر. وإيضاح الفرق بين الواجب المتأصل، والواجب بالنذر في نظر الشريعة: أن أحكامها مبنية على رعاية المصالح والمفاسد، فإن كانت المصلحة في النظام الاجتماعي عظيمة، فهو الواجب المتأصل، وإن كانت مصلحته قليلة، فهو المستحب، فإن كانت مصلحته لا تحصل إلا بالنذر، وهي كمال الأدب مع الخالق، فإن النذر وعد من الإنسان لربّه بشيء، وكمال الأدب مع الخالق أن ينجز الإنسان ما يعده به، فمصلحة النذر هي كمال الأدب مع الخالق، بخلاف مصلحة الواجب المتاصل؛ فإنه يقتضيها النظام الاجتماعي؛ كإيجاب الصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثالث من السنة الحادية عشرة.

وكان النذر مشروعاً في الأمم السابقة، قال الله تعالى قاصّاً عن امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 35]. وقولها: {مُحَرَّرًا} معناه: أنه يزهد في الدنيا، ويقوم على عمل الآخرة، ويكون في خدمة الكنيسة. وقال تعالى في قصة مريم - عليها السلام -: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]. وكان عدم الكلام في شريعتهم داخلاً في الصوم، وذكر القرآن أن أتباع عيسى - عليه السلام - ألزموا أنفسهم واجبات لم يقضها الله عليهم، فتركوا الدنيا وشهواتها؛ كالتزوج بالنساء، ونحوه، ولكنهم لم يراعوها حق رعايتها؛ أي: لم يحافظوا عليها حق محافظتها، فذمّهم الله بذلك، ومعلوم أن الذم موجّه إلى من لم يراع ما التزموه بأنفسهم حق رعايته. ومن بقاياهم أرباب الصوامع الآن. وكنت حضرت في احتفال ببرلين ألقى فيه أحد المنتمين إلى الإسلام خطبة قال فيها: "إن إبراهيم - عليه السلام - قد نذر ذبح ابنه على عادة الأمم المتوحشة، ففداه الله بذبح عظيم". ونبهت بعض من يتصل بالمحاضر إلى الآية التي صرحت بأنه رأى في المنام أنه يذبحه، ورؤيا الأنبياء وحي، وهذه الرؤيا ابتلاء من الله لإبراهيم - عليه السلام -, فلما كاد أن يفعل ما أمر به، وظهر صدقه، فداه الله بذبح عظيم، ولولا أن الكلمة التي قالها المحاضر قيلت في احتفال رسمي، ونشرت في الصحف الألمانية، لما كتبتها.

وقد أقرت الشريعة الإسلامية النذر، وجعلته مما يطالب الوفاء به، فأخبر الله تعالى بأنه يعلم النفقات والنذور، فقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270]. ومدح الموفين بالنذر، فقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]. وقال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]. وقال - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الصحيح في وصف الذين يخرجون عن الدين: "وينذرون ولا يوفون". فالشارع جعل الوفاء بالنذر هو الطاعة. وقد قال بعض الفقهاء: إنه خلاف الأولى، ففعلُ الإنسان المستحب بغير نذر؛ لأن الله أمر به على وجه الاستحباب، أولى من فعله بمقتضى النذر. وقال بعض الفقهاء: "نكره النذر، وننهى عنه، ولكن من نذر شيئاً من طاعة الله، لزمه الوفاء به فرضاً". وجاء في الحديث الصحيح: أن النذر لا يقدم شيئاً، ولا يؤخره، وإنما يستخرج فيه من البخيل. والحديث تحذير من التهاون بعد إيجاب الوفاء به. والفرق بين النذر والدعاء، مع أن كلاً منهما لا يقدم شيئاً ولا يؤخره، أن الدعاء عبادة؛ بحيث يلام الإنسان على تركه؛ بخلاف النذر؛ فإنه في ذاته ليس بعبادة، فلو قضى الإنسان حياته كلها ولم ينذر فيها فلا يلام على ذلك، وإنما يلام إذا نذر، ولم يوف بالنذر، فإن شفاه الله من مرض مثلاً، فالأولى أن يصلي أو يصوم شكراً لله على نعمته من غير نذر.

والنذر إنما يتعلق بالمستحب، ومصلحة المستحب في ذاته تقتضي الاستحباب، فإذا أضيف إليها مصلحة النذر، وهي كمال الأدب مع الله تعالى، صارت عظيمة، فجاء الوجوب من هذه الجهة، ووجب الوفاء به. والشارع لم يأمر بالنذر، ولا مدح الناذرين، وإنما أمر بالوفاء بالنذر، ومدح الموفين به. وتعليق النذر على أمر يفعله الله في المستقبل مكروه، فإن وقع، يجب الوفاء به؛ كان يقول الإنسان: إن شفاني الله من المرض، أو شفى ابني، فعلي صلاة كذا، أو صوم كذا. ووجه كراهته: أنه وقف العبادة على فعل في المستقبل، والعبادة يفعلها الإنسان في الوقت الذي يتيسر فيه الفعل. ولا ينعقد النذر المتعلق بالحرام؛ كأن يقول: لله عليّ شرب كأس خمر، قال - عليه الصلاة والسلام - كما في الصحيح: "من نذر أن يطيع الله، فليطعه، ومن نذر أن يعصيه، فلا يعصه"، كما لا يتعلق النذر بترك الحلال: كأن يقول: لله عليّ ألا أشرب اللبن، فلا يلزمه الوفاء به. ومن الفقهاء من قال: عليه كفارة يمين في المسألتين. ومن النذر المكروه ما يسميه الفقهاء بنذر اللجاج، وهو أن يريد الإنسان التنفل بصلاة أو صيام أو صدقة، ويخاف التهاون به، فينذره؛ ليلزم نفسه به. ووجه كراهته: أنه لم يرد من المنذور به أن الله أمر به خاصة، بل دخل في نية النذر أن يجعله وسيلة لعدم التهاون. وإذا نذر الإنسان نذراً، ومات قبل الوفاء به، فلوارثه أن يقضيه عنه. وفي الصحيح: أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نذر كان

على أمه، وماتت قبل أن تقضيه، فأفتاه أن يقضيه عنها. ومن لا يرى من الفقهاء النيابة في الأعمال البدنية؛ كمالك بن أنس، يحمل النذر في الحديث على أنه متعلق بمال؛ كالصدقة، ونحوها. ومن المحدثات التي لم تكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا في عهد السلف: النذر للأولياء. والأقرب لقصد الناذر أن يوزع النذر على الفقراء المقيمين حول الولي. ويجب أن يعلم الناذر الصيغة الصحيحة للنذر. ولا يجوز للإنسان أن يتصرف في مال شخص إلا إذا انطبقت عليه شروطه؛ كمن يقف من ماله ما يختص بطائفة القراء مثلاً، فينبغي لمن لم يكن من القراء أن يترك الانتفاع به. وأذكر بهذه المناسبة: أن أبا بكر العربي استأذن في الدخول على الإمام الغزالي، فأذن له بالدخول، فوجد بين يديه خبزاً وخلاً، ولكنه لم يدعه إلى الأكل. قال ابن العربي: فتذاكرت مع بعض الأساتذة في هذا الشأن، ومن الوجوه التي عرضت لي أن قلت: إنه طعام خاص بالصوفية، ولم يرني الغزالي من أهل هذا الشأن. والهدف من هذا المقال: أن النذر غير مطالب به من الشارع في نفسه، فإذا نذر الإنسان مستحباً، وجب عليه الوفاء به.

المتعة

المتُعَة (¬1) المتعة: اسم مصدر من التمتيع. وتطلق في الشريعة على متعة الطلاق، وهي: إعطاء المرأة عند طلاقها ما تنتفع به من مال ونحوه، قال تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]. وتطلق أيضاً على متعة الإحرام بالعمرة في أشهر الحج مع أداء الحج في تلك السنة، قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]. واستعمل القرآن الاستمتاع في الانتفاع بملابسة الزوجة في النكاح الدائم، فقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24]. وتسمية الصَّدُقات بالأجور؛ لأن الصداق يعطيه الرجل ليتمكن من الانتفاع بملابسة الزوجة. وورد في الشريعة متعة النكاح. ومتعة النكاح - وهي النكاح إلى أَجَل معين - هي موضع البحث في هذا المقال: يتلخص من الأحاديث الصحيحة التي رواها مالك في "الموطأ"، والبخاري ومسلم في "صحيحيهما": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم نكاح المتعة يوم ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد العاشر من السنة الثامنة.

خيبر، وأباحه وحرمه يوم الفتح بمكة، وقال: "هو حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة"، وهذا دليل صريح على تأبيد التحريم. وأما من صرّح بأنه كان يستمتع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر حتى نهى عنه عمر، فمحمول على أنه لم يبلغه حديث النهي حتى نهى عنها عمر. فعمر بن الخطاب إنما أظهر تحريم المتعة الذي روي في الحديث. وقد وقع إجماع الصحابة على ذلك. والتحقيق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رخص في متعة النساء للضرورة القصوى، فلو أنه لم يبح المتعة في ذلك الحين، لتعطل السير في سبيل الدعوة. والنسخ واقع في بعض أحكام الشريعة حيث زالت العلة الباعثة على الحكم المسمى، وليس هذا موضع الأدلة على جواز النسخ ووقوعه، وإنما ننكر القول بالنسخ لمجرد شبهة التنافي بين الدليلين. وروى المحدثون عن ابن عباس - صلى الله عليه وسلم - إباحتها، ثم الرجوع إلى تحريمها. ومن العلماء من يرى أن النكاح المؤقت يعدّ من المتعة؛ كما قال ابن شاس في كتاب "الجواهر": "ولا يجوز تأقيت النكاح، وهو المتعة". ومنهم من يرى الفرق بينهما، فنكاح المتعة باطل، وهو لا يراعى فيه من شروط النكاح إلا الاستبراء؛ أي: لا يراعى فيه الشهود، والنكاح المؤقت يكون بشهود، ولكنه محدود بوقت. وروي عن الإمام زفر من الحنفية: أنه قال: إن النكاح المؤقت صحيح، وشرط التوقيت باطل. وذلك معنى قولهم: إن نكاح المتعة باطل باتفاق، والنكاح المؤقت باطل عند الأكثر.

وقول زفر بصحة النكاح، لا يوافق رضا أحد الزوجين؛ لأن كلاً منهما دخل على التأجيل. ونسب أحد الفقهاء الحنفية إلى الإمام مالك: أنه أجاز نكاح المتعة، وردَّ هذه النسبة تقي الدين بن دقيق العيد، وقال: إن هذه النسبة خطأ؛ فقد بالغ المالكية في منع النكاح المؤقت حتى أبطلوا توقيت الحل بسببها، فقالوا: لو علق على وقت لابد من مجيئه، وقع الطلاق الآن؛ لأنه موقت للحل، فيكون في معنى نكاح المتعة. ويؤيد ما قاله ابن دقيق العيد، من أن المالكية لا يقولون بإباحة المتعة: قولهم: من تزوج امرأة على أن يأتيها نهاراً، ولا يأتيها ليلاً، يفسخ العقد؛ لأنه يشبه نكاح المتعة. وقد روى مالك الحديث الوارد في تحريم المتعة، وقال أبو الوليد الباجي في "المنتقى": "وسئل مالك عمن تزوج امرأة، وهو يضمر في نفسه أن يسر بها، ويستمتع بها مدة، ثم يفارقها، فقال مالك: ذلك جائز، وليس من الخلق الجميل، ولا أخلاق الناس. وعلل بعض أصحابه ما أفتى به مالك من جواز النكلاح مع أنه ليس من الخلق الجميل، ولا أخلاق الناس: أن العقد وقع على وجهه، ولم يشترط فيه شيء، ونكاح المتعة ما شرطت فيه الفرقة عند انقضاء المدة، فقد يتزوج الرجل المرأة على نية غير الإمساك، فيسره أمرها، فيمسكها، وقد يتزوجها بقصد إمساكها، فيرى منها ضد الموافقة، فيفارقها". وما أفتى به مالك من الجواز في هذه المسألة قال به غيره من الأئمة، إلا الإمام الأوزاعي، فإنه حرم هذا العقد، وعدَّه من قبيل المتعة. والحادثة

تخالف نكاح المتعة التي حرمها الحديث الصحيح، وهي النكاح لأجل معين يصرح به كل واحد من المتعاقدين. فالواقعة المسؤول عنها مالك هي موضع اجتهاد من الأئمة. وفي بعض كتب الفقه والتفسير نسبة إباحة نكاح المتعة إلى الشيعة. وفي كتاب "البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار" لأحمد بن يحيى بن المرتضى من علماء الشيعة الزيدية: القول بتحريم نكاح المتعة؛ لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من النهي عنها، وتحريمها. ونسب إلى الشيعة الإمامية إباحتها، فالشيعة الذين يذهبون إلى جواز المتعة هم الشيعة الإمامية. ويذكر المؤرخون القصة الآتية، وهي: أن محمد بن منصور، قال: كنا مع المأمون في طريق الشام، فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكِّرا غداً إليه، فإن رأيتما للقول وجهاً، فقولا، وإلا، فاسكتا إلى أن أدخل. قال: فدخلنا عليه وهو يستاك، ويقول وهو مغتاط - يعرِّض بعمر - رضي الله عنه -: متعتان كانتا على عهد رسول الله عنه، وأنا أنهى عنهما! من أنت - يريد عمر - رضي الله عنه - حتى تنهى عما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!. فاومأ أبو العيناء إلى محمد بن منصور، وقال: رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول، نكلمه نحن!! فأمسكنا. فجاء يحيى بن أكثم، فجلس وجلسنا، وقال المأمون ليحيى: مالي أراك متغيراً؟ فقال: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام! فقال: وما حدث فيه؟.

قال: النداء بتحليل الزنا!! قال: الزنا!! قال: نعم، المتعة زنا. قال: ومن أين ما قلت؟ قال: من كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- ومن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]. وتلا إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7]. يا أمير المؤمنين! زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا. قال: أهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث وتلحق الولد، ولها شرائطها؟ قال: لا. قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين، وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما عن علي بن أبي طالب، قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي بالنهي عن المتعة، وتحريمها بعد أن كان قد أمر بها. فالتفت إلينا المأمون، وقال: أمحفوظ هذا من حديث الزهري؟ فقلنا: نعم يا أمير المؤمنين، رواه جماعة منهم مالك - رضي الله عنه -. فقال: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة!. وجرى في مجلس القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن حماد ذكر يحيى ابن أكثم، فرفع شأنه، وقال: كان له يوم في الإسلام لم يكن لأحد مثله، وذكر هذا اليوم. ونحن نقرأ تاريخ علماء أجلة كالقاضيين في قرطبة: منذر بن سعيد البلوطي، وابن بشير، وقاضي الآستانة شمس الدين محمد الفناري، فنراهم كيف يقابلون الخلفاء بمثل ما قابل يحيى بن أكثم الخليفة المأمون، ولا يجدون

منهم إلا إقلاعاً عن الهوى، ورجوعاً إلى الحق كما رجع الخليفة المأمون. فنكاح المتعة، وإن شابه النكاحَ الدائم في الوصول إلى حظ النفس من التمتع بملابسة المرأة، فإن النكاح الدائم تنسجم به الحياة الاجتماعية، ويمتاز عن نكاح المتعة بالسكون والمودة، والرحمة وحسن المعاشرة، وبه ينتظم المنزل في اطمئنان، ويتكون به النسل الصالح الذي يتربى تحت رعاية والده ووالدته، ويسلم من العار الذي يلحقه من نسبته إلى أم رضيت بنكاح المتعة. ويستفيد الرجل بالنكاح الدائم الاتصال بأهل بيت يعدّهم ويعدّونه بمنزلة الأقارب، ويستعين بهم، ويستعينون به على مرافق الحياة. هذا شأن النكاح الدائم في الطبقة المهذبة، وإنما تستقيم الحياة الاجتماعية إذا كان جمهور الأمة مهذبين. وقد أصبح نكاح المتعة بعد تحريمها زناً، فيعاقب مرتكبه أشد العقوبة، ولا يحد حد الزنا؛ مراعاة لمن قال بإباحتها قبل انعقاد الإجماع على تحريمها. ومن المحقق أن الإجماع الذي يعد منكره غير مسلم، هو الإجماع الذي لا يقع فيه خلاف، ويكون معلوماً عند المسلمين ضرورة؛ كالصلوات الخمس، وأوقاتها.

استحضار الأرواح

استحضار الأرواح (¬1) سأل سائل عن استحضار أرواح الموتى بأنفسها، هل هو واقع، أو شعوذة ممن يدعي إحضارها؟. فقلت: كانت دعوى استحضار أرواح الموتى تذكر، ولا نعطي لها بالاً؛ لأن في اعتقادنا أن كل مسلم يعتقد أنها شعوذة، لا أكثر ولا أقل؛ لأنها من المسائل التي لا تصدق فيها التجارب، ولا تتحقق فيها الأدلة المنطقية. ولما كنت بألمانيا، سمعت أيضاً أن أناساً من أوروبا وأمريكا يدّعون أنهم يستحضرون أرواح الموتى، ويخبرونهم عن حالهم، وبعض ما يقع لهم في الحياة، فأقول: إن هذه الواقعة باطلة بنفسها. واجتمعت بقسيس في بلد (لنداو) من ألمانيا، وسألته: هل حضر جلسة من جلسات هؤلاء الذين يدعون استحضار الأرواح؟ قال القسيس: هذه دعوى باطلة، والعلماء ينكرون ذلك. وجئت إلى مصر، ووجدت هذه المسألة دائرة في المجالس، فبعض الناس يصدق بها، وبعضهم يتوقف فيها، وأكثرهم ينكرون ذلك. فقلت: حيث ظهرت المسألة في أوروبا وأمريكا ننظر أقوال كبار علمائهم ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد التاسع من السنة الثامنة.

أولاً، ثم نقرر ما يقوم عليه الدليل من الشرع الحنيف، ولا يهمنا كثيراً أو قليلاً اتفاقهم على استحضار الأرواح، واختلافهم في ذلك، وإنما نريد أن نعلم: ما رأيهم في هذا الادعاء؟ وجدنا الدكتور يعقوب صروف ينكر استحضار أرواح الموتى، ونقل في مجلة "المقتطف" عن مجلات أوروبا وأمريكا إنكار كثير من علمائهم الذين حضروا جلسة استحضار الأرواح، وصرحوا بأنها شعوذة وخداع. قال: ويدل على هذا: أن أشهر الذين كانوا يدَّعون مناجاة الأرواح اعترفوا آخراً أنهم كانوا يستعملون الحيل والخداع للناس، والأرواح التي يزعم مستحضروها أنها أرواح الموتى لا تفعل إلا أسخف الأعمال وأحقرها، فلا تكتشف سراً في كشفه فائدة لأحد، ولا تنبئ بأمر من الأنباء به نفع ما. وصدق الدكتور صروف، فقد دلت المشاهدات الطويلة على أنه ليس في زعم استحضار الأرواح من فائدة دنيوية أو أخروية، سوى تسلية النفوس الفارغة من الأعمال؛ بإراءتها الباطل في ثوب الحق كبقية المظاهر السحرية. ثم قال: وإن الذين يصدقون بمناجاة الأرواح، ويمارسون ذلك، تضعف قواهم العصبية رويداً رويداً، وينتهي أمرهم إلى الجنون، وهذا أمر معلوم يدل على أن أعصابهم كانت ضعيفة من أصلها، أو مائلة إلى الضعف، ومن كانت أعصابه كذلك، لا يركن إلى أحكامه وتصوراته. وتعرض إلى العلماء الذين يصدقون بهذه الشعوذة، وقال: إن العلماء المنجرين أشد انخداعاً من غيرهم، حتى قال أحد المشعوذين: إن العالم الذي يجلس حيث نجلس، ويلتفت حيث نقول له أين يلتفت، هو الرجل الذي تجوز عليه حيل الشعوذة، ويرى ويصدق ما لا يراه ولا يصدقه تلامذة المدارس.

وقد جرب بعض المحاكم بإنجلترا استحضار الأرواح في قضية قتل، فلم تحصل منه نتيجة، ولم يروها من الطرق المثيرة للشبهة حتى يعتبر في تقرير الجنايات. وممن أنكر استحضار الأرواح الشاعر أحمد شوقي، وقال فيما صنع من الشعر: لا تسمعن لعصبة الأرواح ما ... قالوا بباطل علمهم وكذابِهِ الروح للرحمن جلَّ جلاله ... هي من ضنائن علمه وغيابِهِ غُلبوا على أعصابهم فتوهموا ... أوهام مغلوب على أعصابِهِ وطالعت "دائرة المعارف" للأستاذ فريد وجدي، فوجدته أثبت صحة استحضار الأرواح؛ استدلالاً بما وقع فيه بعض علماء أوروبا من تصديق مدعي استحضارها. ولا شأن له إلا أن نقل عنهم ما يقولون. وتابعه بعض الشيوخ هنا، وأسرع إلى متابعته حيث وجد فيه شاهداً على الماديين، والماديون يسهل الرد عليهم بغير استحضار الأرواح. وقال الشيخ المراغي في تقريظ كتاب الدكتور هيكل: "من الفوائد التي أتى بها الابتكار الحديث: استحضار الأرواح". والأستاذ المراغي أخذ أقوال من شهدوا بأن المسألة صدق، ولم يوجه نظره إلى بحث المسألة باعتناء. وقام أحد الكاتبين في مصر، فترجم كتاباً لأحد الأوروبيين في تصديق ما قاله بعض مدعي استحضار الأرواح، وزاد عليه الكاتب في مقدمته ذكر بعض من ادعى أنهم حضروا لديه في حجرة استحضار الأرواح، منهم: عباس

البهائي، فقال: "قد تجسدت روح الزعيم الديني الفارسي عبد البهاء غير مرة، وكان يسلم علي بالعربية أولاً، ثم تكلم بالإنجليزية تكلم العالم المطلع (¬1) ". ولسنا بصدد الكلام على اعتقاد الكاتب الذي ذكر زعيم البهائية بما شاء. وذكر ممن استحضر أرواحهم في جلسة واحدة جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وويصا واصف، وطنطاوي جوهري، ومصطفى كامل. ونقل الكاتب نحو الصحيفة والنصف من رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده، ومضمونها: أن الروح غير البدن، وأن كلاً منهما مستقل ... وهذا النقل لا يفيده؛ فإن تغاير البدن والروح هو الذي ذهب إليه المحققون من علماء الإسلام. ونحن لا نتكلم على تغاير البدن والروح، وإنما نتكلم على استحضار الروح بعد الموت. وذكر الكاتب مستدلاً على استحضار الأرواح بما كتبه الشيخ المراغي في تقريظ كتاب الدكتور هيكل، وبينّا وجه تقصيره في بحث المسألة. كما ذكر الكاتب شعر شوقي في تكذيب من يزعم استحضار الأرواح، وادعى أن روح شوقي اتصلت به في عالم الروح، ورجعت عما سبق لها ¬

_ (¬1) البهائية: طائفة ضالة، تنسب إلى بهاء الله، لقب يدعى به ميرزا حسين علي الزعيم الثاني للمذهب الذي تتولاه هذه الطائفة، وتسمى هذه الطائفة أيضاً: البابية نسبة إلى "الباب"، وهو لقب ميرزا علي الذي ابتدع هذه النحلة، وكانت عقوبته أن أعدمته الحكومة الإيرانية صلباً في تبريز سنة 1265 هـ إثر فتن وحروب ثارت بين أشياعه وبين المسلمين سفكت فيها الدماء.- انظر كتاب: "القاديانية والبهائية" للإمام.

من الإنكار عليه. وقال الكاتب: "لا ينكر استحضار الأرواح إلا البله من المتدينين والملاحدة". قال هذا، ولم يقم دليلاً على استحضار الأرواح يقنع الأذكياء من المتدينين. ونحن لا نؤمن باستحضار أرواح الموتى؛ لوجوه غير الوجوه التي نقلناها من مقال الدكتور صروف. منها: أن الشريعة الحكيمة نصت على أن من مات ذهبت روحه إلى عالم الآخرة، ولا يعلم ما يقع في عالم الآخرة إلا الله، أو من ارتضى من رسول، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27]. وإذا علم غير الرسول من الغيب، فبإلهام من الله في المنام، أو بصفاء البصيرة، وكلاهما يعطي ظناً قوياً، لا في قوة ما يطلع الله عليه من ارتضى من رسول، والله أعلم وأحكم من أن يطلع على غيبه شخصاً يعدُّ حجرة يتسلى فيها الناس بالحديث مع الموتى. ومنها: أن الكتاب نص على أن الناس منهم سعيد وغير سعيد، وقد جعل الله لروح كل واحد منهم حالاً خاصة، ومدعي استحضار أرواح الموتى يزعم أنه جمع بين أرواح مختلفة الأحوال، دون أن يفرق بين من يعرف بالعقيدة السليمة، ومن يعرف بالجحود. ومنها: أن الدين الحنيف صرح بأن الجان والشياطين أحياء كائنون، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6].

وقال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]. وقد قامت الدلائل الواضحة من الشريعة على أن الجان والشياطين يتصورون بصورة الآدميين صوتاً وشكلاً. فعلى فرض أن يسمع مستحضر الأرواح صوت الميت، أو يرى شبحه، هل يستطيع أن يقيم لنا الدليل على أنه سمع صوت الميت، أو رأى شبحه، لا صوت الروح العابثة مثلت صوته أو شبحه، وأخبرت ببعض ما تعرفه من أحواله؟! فإن لم يستطع ذلك، فلنتمسك بالحقائق التي قام عليها الدليل من الشريعة الإسلامية.

حكم الإسلام فيمن بلغته الدعوة

حكم الإسلام فيمن بلغته الدعوة (¬1) سأل فريق من المثقفين عمن يؤمن بالله، ويعمل صالحاً، ولا يؤمن بالإسلام، هل ينجو من العذاب الخالد، وإن بلغته دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ربما دعاهم إلى هذا السؤال قوله تعالى في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]. وجواب ذلك: أنه انعقد إجماع علماء الإسلام على أن من بلغته الدعوة بلوغاً كافياً، ولم يؤمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا ينجو من العذاب الخالد. ومستند الإجماع فيما أجمعوا عليه: أن الله أرسل الرسل - عليهم السلام - بالمعجزات الواضحة، فمن لم يؤمن برسول، فقد جحد تصديق الله لرسوله في دعوة الرسالة، ومن جحد تصديق الله لرسوله، فكيف يكون مؤمناً بالله؟! فلهذا حكم الله على من لا يؤمن بالمعجزات البينات بأن لا يكون مؤمناً به حقيقة. ومن هؤلاء الرسل الذين حكم الله على من لا يؤمن برسول الله منهم بالعذاب الخالد: محمد - عليه الصلاة والسلام -. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثالث من السنة الثامنة.

فقد أعطاه الله من المعجزات الواضحة ما خضعت له الفطر السليمة، والعقول المتمرنة على الأصول المنطقية، وأهمها الكتاب العزيز. فمن لم يؤمن به، لم يؤمن بالله الإيمان المعتد به؛ لأنه كذّب المعجزات التي أظهرها الله تأييداً لدعوته، ولأن من كذّب الرسول لا يؤمن بالهدى الذي أرسل ليبلغه إلى الأمة، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. فجعلهم في الآية غير مؤمنين إذا وجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضى به عليهم .. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح: 13]. فجعل عدم الإيمان بالرسول قاضياً عليهم بالكفر، ولا يتحقق الإيمان بالله إلا بتحقق الإيمان بالرسول، ولا يتحقق الإيمان بالرسول إلا بتحقق الإيمان بالكتاب الذي أرسل به، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} البقرة: 89]. ومن لم يؤمن بالقرآن، فقد جحد ما قام الدليل القاطع على أنه من عند الله، فيكون غير مؤمن بالله إيماناً صحيحاً، قال الله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. ولا يكون متبعاً للنور الذي أنزل معه إلا إذا اعتقد أن الحكمة فيما يأمر به، أو ينهى عنه. فالإيمان بالرسول والكتاب الذي أرسل به أساس متين للإيمان بالله.

ومن لا يؤمن بالله، فلا يسمى عمله صالحاً، وإنما هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. والآيات دالة على أن الإيمان بالله لا يكون مقبولاً إذا تبعها الإيمان بالرسول والكتاب الذي أنزل معه هدايةً للمتقين. وأما الآية - أعني قوله تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]. فالقرآن قد يورد الكلام مطلقاً، ويعتمد على تقييده في آية أخرى، فقيد المتفقهون الآية المطلقة بالآية الأخرى. ولا يطلق القرآن، والمعنى قاض بالشرط، ما لم يكن الشرط مأخوذاً من قاعدة معروفة، أو لفظ صريح. والآيات الكثيرة تدل على أن من لا يؤمن بشريعة الإسلام، وقد بلغته دعوة الرسول - صلوات الله عليه -، فليس بمؤمن. والمراد من {وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} في الآية: الذين انقرضوا، ولم تبلغهم دعوة الرسول الذي أرسل بالكتاب الحكيم. فإذا بُينت الآية بهذا الوجه، كنا فهمنا القرآن على وجه يتفق مع الآيات الأخرى، وينسجم مع الإجماع الذي مشى عليه علماء الإسلام. ويؤيد هذا الوجه من التفسير: ما ذكره السيوطي في أسباب نزول الآية؛ من أن سلمان الفارسي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أصحابه الذين كان معهم، فنزلت الآية.

العدوى والطيرة

العَدْوى والطِّيَرَة (¬1) جاءت الشريعة الإسلامية لتهذيب النفوس، وتطهيرها من المزاعم الباطلة، وطبعها على الاعتقاد بأن لا يقع تصرف في الكون إلا بإذن الله. ومن المزاعم الباطلة التي تجول في النفس: الاعتقاد ب العدوى والطيرة. فالعدوى: اسم مصدر من الإعداء، يقال: أعداه الداء إعداء وعدوى، وهو: أن يصيبه مثلُ ما بصاحب الداء. ومن الأمراض ما يصيب الصحيح؛ لقربه من المريض، ومخالطته؛ كالطاعون، والجذام، والجرب، فيعتقد أناس أن العدوى سرت من المريض إلى الصحيح بذاتها، فقال - عليه الصلاة والسلام - كما ورد في الحديث الصحيح: "لا عدوى، ولا طيرة". فبيّن أن مرض الصحيح بقدر الله. وقد يحصل للصحيح مرض مثل الذي حصل للمريض الذي قاربه وخالطه، فحدوث المرض بقدر الله، ولم يحدث لذات العدوى، وإنما جعل الله القرب والمخالطة سبباً ظاهراً للمرض، لا سبباً مستلزماً للمسبب، كما قال - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي قال له مستشكلاً لحديث "لا عدوى": يا رسول الله! ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثالث من المجلد العاشر.

الإبل تكون في الرمال كأنها الظباء، فيخالطها البعير الأجرب، فتجرب؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ومن أعدى الأول؟ "، وهذا من أبين الحجج، ومعناه: أن الذي أصاب الأول هو قدر الله، وهو الذي أصاب الثاني أو الثالث بالمرض. والدليل على أن القرب من المريض ومخالطته سبب ظاهري لا يستلزم مسببه: أن كثيراً من الناس يقربون من المريض، ويخالطونه، ولا يصيبهم مرضه. ومما يتعلق بهذا المعنى: الحديث الصحيح، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يورد ممرض على مصح"، ويرتبط به أيضاً قوله في الحديث الصحيح: "فر من المجذوم فرارك من الأسد"؛ فإنها يعارضان بحسب الظاهر حديث: "لا عدوى". وتندفع هذه المعارضة الظاهرية بأن الشارع يفسح المجال للمكلف بأن يراعي الأسباب الظاهرة، ويتجنبها؛ شفقة عليه من أن يقع في قلبه ما ينهى عنه الشارع، ويحتاج في دفعه إلى مجاهدة نفسه. وبهذا يمكن الجمع بين الأحاديث الصحاح التي ينفي بعضها العدوى، ويحث بعضها على الاحتياط، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث الصحيحة، فهو أولى من ترجيح بعضها على بعض. ومن مرت به الحياة في تصرفاتها على الإيمان الذي يقبل الزيادة، وعلى الإيمان المؤيد باليقين، أدرك أن الشريعة أعطت لكل من الفريقين حكماً يناسبه، ويليق بحالته، فهما مقامان: مقام التوكل، ومقام مراعاة الأسباب الظاهرة. ولما كان أكثر الناس وعامتهم يغلّبون الأسباب الظاهرة، ويربطون بين

المخالطة والإصابة بالمرض، جاء نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن دخول أرض وقع بها الطاعون، أو الخروج منها فراراً من القدر، مراعياً حال العامة، والغالب من الناس. وأطلق عمر - رضي الله عنه - على عدم دخوله بالجيش أرضَ الطاعون: فراراً من قدر الله؛ إذ قال لأبي عبيدة: نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، لشبهه بالفرار الشرعي، وليس هو فراراً شرعياً؛ لأن الذي فرّ منه أمر خاف على الجيش منه، فلم يهجم عليه، والذي فر إليه أمر لا يخاف على الجند منه. والذي يخرج من الأرض الموبوءة فراراً من الوباء، فارٌّ من أمر هجم على أرضه، وخاف منه على نفسه، فيظهر فيه معنى عدم الاستسلام للقدر. ويفهم من الحديث: أن الخروج من أرض الوباء منهي عنه إذا أراد الفرار من الطاعون، وأما إذا خرج لحاجة تخصه، فلا ينهى عن الخروج. وفي سنة 1319 هـ زرت قفصة (مدينة بالجريد) (¬1)، وقضيت مدة في مطالعة تأليف "انتهاز الفرصة في محادثة عالم قفصة"، وهو تأليف لابن مرزوق، أورد فيه الأسئلة التي وجهها إليه الشيخ محمد بن يحيى عالم قفصة، وأجوبتها، فرأيت به ندم عمر بن الخطاب على رجوعه من الطاعون إلى المدينة. والجواب عن ذلك: أن عمر بن الخطاب لم يندم على عدم الدخول بالجيش إلى الأرض التي بها الطاعون، وإنما ندم على سرعة رجوعه بالجيش إلى المدينة، وعدم انتظاره ارتفاع الطاعون، وقد ارتفع عقب رجوعه. وأما الطيرة - بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تسكن الياء -: فهي التطير؛ ¬

_ (¬1) مدينة بالقطر التونسي.

أي: التشاؤم، وأصلها: أن العرب في الجاهلية يعتمدون الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر ما، ورأى الطير طائراً على جهة اليمين، تيمَّن به، وذهب لأمره، وإذا طار على جهة اليسار، تشاءم به، ورجع، وكانوا يسمون ما طار إلى جهة اليمين بالسانح، وما طار إلى جهة اليسار بالبارح، وربما هيج أحدهم الطير ليرى طيرانه على جهة اليمين أو اليسار، فيعتمدها، فجاء الشرع بنفي ذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا عدوى ولا طيرة". وورد في الحديث الصحيح: "أن الشؤم في ثلاث: في الدار، والمرأة، والفرس". واتفق العلماء على أن ليس في المرأة معنى يسمى شؤماً إذا تزوجها الرجل يلحقه ضرر، ولا في الدار إذا سكنها، ولا في الفرس إذا ملكها، وحملوا الشؤم على معنى خارج عن الزوجة والدار والفرس، فقالوا: شؤم المرأة: سوء أخلاقها، وبذاءة لسانها، وشؤم الدار: ضيقها، وسوء جيرانها، وشؤم الفرس: جماحها، وحرنها. وإلى ذلك أشار البخاري في "صحيحه". وفي بعض الروايات الصحيحة عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث يتحدث عن أقوال الجاهلية، ولم يحضر الراوي صدر الحديث، وهو: "يقول الجاهلية ... "، وإنما حضر عندما قال الرسول: "الشؤم في ثلاث". وقد بقي التطير في كثير من المسلمين. ويذكر في هذا المقام على ابن الرومي الشاعر؛ فقد كان كثير التطير، وكان أصحابه يعبثون به ويرسلون إليه من يتطير باسمه، فلا يخرج من بيته

طوال يومه. والبلغاء يكرهون افتتاح القصيدة بما يتطير به، فأنكروا على ابن مقاتل قوله في مطلع قصيدته في مدح الداعي إلى الحق: موعد أحبابك بالفرقة غد فقال له الممدوح: بل موعد أحبابك، ولك المثل السيئ! وأنكروا عليه افتتاحه لقصيدة أخرى، إذ يقول: لا تقل بشرى ولكن بشريانِ ... غرة الداعي ويوم المهرجان فتطير منه الداعي، وقالوا: إنه عاقبه على ذلك، وقال: إصلاح أدبه أبلغ من إثابته عليها، وهذا من غطرسة الأمراء، فكان يكفيه ألا يثيبه على القصيدة. وقد أصلحت هذا المطلع، ونفيت عنه تخيبه؛ حيث قلت في تهنئة بعض أصحابنا بزفافه في ليلة المولد الشريف: قل بشريان: فغرة الميلاد ... وزفاف يمن حُفّ بالإسعاد وأنكروا طالع قصيدة إسحاق بن ابراهيم الموصلي إذ يهنئ المعتصم ببناء قصر، ويقول: يادار غيَّرك البِلى ومحاكِ ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك؟! فتطير المعتصم بهذا المطلع، وأمر بهدم القصر من فوره. فالشريعة تنهى الإنسان أن يعتقد أن العدوى تسري من المريض إلى الصحيح بذاتها، وتنهاه أن يتطير بشيء من الحوادث، وتأمره أن يعلم أن ما وقع في الكون إنما هو بإذن الله وقدره، وينبغي للشاعر أن يتجنب في مطلع قصيدة ما يكرهه السامع، ويتطير منه.

الزكاة وأثرها في نهوض الأمة

الزّكاة وأثرها في نهوض الأمّةِ (¬1) الزكاة لغة: النماء، يقال: زكا الزرع، أو المال: إذا كثر، ونما. وشرعاً: إخراج جزء مقدر من المال، ودفعه إلى المصارف المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. ومناسبة المعنى الشرعي للمعنى اللغوي: أن الجزء القدر الذي يخرج من المال يحصل به النماء والبركة لأصل المال، قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]. أي يضاعف ثوابها. ومن حكمتها: شكر نعمة المال، كما أن من حكمة الصلاة شكر نعمة البدن. وقد أمر بها القرآن الكريم مجملة، فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]. وورد الحديث الصحيح مفصلاً لزكاة الذهب والفضة، والقمح والشعير ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني من السنة العاشرة.

والتمر، والإبل والبقر والغنم، ماعزاً أو ضأناً. ومن أدلة وجوبها قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]. فمضمون الآية أنه: لا يخلّى سبيل أحد إلا إذا تاب من الشرك، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة. وظاهر آية مريم: أن عيسى - عليه السلام - أُمر بالزكاة، قال تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31]. فقرن العبادة المالية بالعبادة البدنية كما قرنتا في خطاب المسلمين، أعني قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]. وما أديت زكاته من المال يجوز لصاحبه أن يتصرف فيه بالادخار والإنفاق بطريق من الطرق التي تقتضيها المصلحة. ووجوب إخراج ما زاد على الحاجة ينسب إلى أبي ذر الغفاري، ويقولون: إنه يستدل عليه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35]. وهذا الخبر غير ثابت عن أبي ذر، فقد روى البخاري في "صحيحه" عن زيد بن وهب: أنه قال: مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر - رضي الله عنه -، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية، فقال معاوية: إنها نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه خلاف

في ذلك، وكتب إلى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت فكنت قريباً، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّروا علي حبشياً، لسمعت وأطعت. والآية ظاهرة فيما ذهب إليه أبو ذر الغفاري من أنها عامة في المسلمين وأهل الكتاب، فأبو ذر كان يعرف أن ادخار ما أديت زكاته لا يدخل في وعيد آية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34]. إنما كان يدعو إلى الزهد في الدنيا، ويشتد في دعوته، ويحث الناس على إخراج ما زاد على حاجتهم، والزهد البالغ إنما يسلكه الخواص من الناس، ويطالب به عامتهم بدعوة لينة. قال أبو بكر بن العربي في هذه الواقعة: "وإنما كان الصحابة قد يختلفون، وربما أغلظ بعضهم لبعض قولاً، فشكاه معاوية إلى عثمان، فأرسل إليه عثمان؛ ليكون مجاوراً له في الأماكن الطيبة ... إلخ". وفي ترتيب الأعضاء المذكورة في قوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة: 35] نكتة لطيفة؛ لأن قصد الذي يكنز المال إمّا نيل وجاهة واسعة، أو كل طعام طيب، أو لبس ثوب ناعم، فجاء كيّ الجباه مناسباً للراغب في الوجاهة، وكيّ الجنوب ملائماً للقاصد أكلاً، وكي الظهور موافقاً للباغي ثوباً يطرحه على ظهره وجسمه. وذكر القرآن الكريم في آية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60] مصارف الزكاة، ومن بين المستحقين: المؤلفة قلوبهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي من الزكاة

صنفاً أسلم على ضعف؛ كعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، والعباس ابن مرداس؛ تأليفاً لهم، ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاء عيينة والأقرع يطلبان قسطهما من الزكاة، فقال لهما عمر بن الخطاب: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدفعها تأليفاً لكما، فأما اليوم، فقد أعز الله تعالى الإسلام، وأغنى عنكما، فإن ثبتّا على الإسلام، وإلا بيننا وبينكم السيف!. وقول عمر مبني على أن علة إعطائهم نصرة الإسلام، فإذا زالت العلة باستغناء الإسلام عنهم، سقط الحكم، وهو إعطاؤهم الزكاة، ولو رجعت العلة، وهو انتصار الإسلام بأمثالهم، لعاد الحكم، وهو إعطاؤهم الزكاة. وذكرت الآية في جملة المصارف: سبيل الله، والمراد: منه الجهاد باتفاق العلماء، فيصرف قسط من الزكاة على الفقراء المجاهدين، والسلاح، والمصانع، وبناء القناطر، وما يستعمل في وسائل الدفاع والجهاد في سبيل الله. وتجب الزكاة في الفواكه والخضراوات، قال الإمام أبو حنيفة: تجب الزكاة فيما عدا الحطب والحشيش، مستدلاً بعموم الحديث الصحيح، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سقت السماء والعيون العُشر، وما سقي بالنضح - أي السانية - نصفُ العشر". قال أبو بكر بن العربي: ومذهب أبي حنيفة أقوى دليلاً، وأحوط للمساكين، وأولاها بشكر النعمة. ومما استدلوا به: قوله تعالى: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. والحق هو الزكاة.

وذكر في الآية: الرمان وهو من الفواكه. والمجتهد الذي يراعي قصد الشارع يرى أن الحلي الذي يتخذ للزينة واللباس لا تجب فيه الزكاة؛ لأن المقصود الزينة واللباس، والزكاة تجب فيما قصد به المعاملة من الذهب والفضة. والذين يقفون عند نص الشارع يرون وجوب الزكاة فيه مطلقاً؛ لأنه ذهب أو فضة كما ورد في الحديث. والأوراق النقدية المستعملة مكان الذهب والفضة تجب فيها الزكاة كما تجب في النقدين، فإذا اعتبرت من العروض، سقطت حقوق الفقراء، وما عطف عليهم، فيضيع ركن من أركان الإسلام. وسئلتُ في بلاد الجزائر عما يأخذه الحاكم الظالم من المال، هل يعدّ من الزكاة أم لا؟ فأجبت بما رأيت لبعض الفقهاء من التفصيل، وهو أنه: إن أخذ المال باسم الزكاة، يحسب من الزكاة، وإن أخذه باسم الضريبة، أو الغصب، لا يحسب منها، ويجب على صاحب المال إخراج الزكاة. والزكاة متعلقة بالمال، فأينما وجد المال والنصاب، تجب الزكاة، فتجب في مال العاقل البالغ، والمجنون، والصبي. والخطاب بالزكاة في مال الصبي والمجنون ومن يماثلهما من ناقصي الأهلية، أو فاقديها، يوجه إلى الوليّ، وقد ثبت عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها كانت تخرج الزكاة من أموال أيتام كانوا في حجرها. ولا يجوز نقل الزكاة عن موضعها؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - لمعاذ بن جبل: "فأعلمهم - أي: أهل اليمن - أن عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم، وتردّ على فقرائهم"، ومعناه: أن يأخذ من أغنياء كل بلد ما يرد

على فقرائهم، فإن لم يوجد في موضع الزكاة فقير، نقلت إلى غيره، وإن كان في غيره من هو أشد حاجة إلى الزكاة، نقل بعضها إلى هذا الفريق، مع رعاية الأقرب بلداً فالأقرب. وقال الشافعي: لا يعطى من الزكاة القادرُ على الكسب. ويرى كثير من الأئمة إعطاءها للفقير، ولو كان قادراً على الكسب؛ لعموم الآية والحديث. ومذهب الشافعي أدعى وأحث على العمل للفقير من مذهب الجمهور، فالفقير القادر على الكسب إذا علم أنه يعطى من الزكاة، ترك العمل. ومن امتنع من دفع الزكاة، أُخذت منه قهراً، فإن قاتل دونها، قوتل. ولما امتنع جماعة من دفع الزكاة إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وتأولوا قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]. فزعموا أن دفع الزكاة إنما يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو الذي خوطب بالآية، قال أبو بكر الصديق: لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، وقاتلَهم. فالذين قاتلهم أبو بكر صنفان: صنف منع الزكاة وهو مُظهر للإسلام، وصنف ارتد علناً بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. والأصل فيما يخاطب به - صلى الله عليه وسلم - أن يكون خطاباً للأمة، فيقوم به من يتولى أمورهم، ما لم يقم دليل واضح على أنه من خصائصه. وظاهر من مثل قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 42 - 44]: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ولكن لا تقبل منهم إلا إذا اعتقدوا، وأقروا بشروط صحتها، وهو الإسلام.

والزكاة ليست منحة من الغني للفقير، بل هي حق واجب الأداء، وركن من الإسلام يجب النهوض به، ودفعه لمستحقه؛ ليستطيع الفقير أن يعيش عيشة طيبة، وفي ذلك تقوية للأمة، وتثبيت لأركانها.

الغيبة وأثرها في النفوس

الغيبة وأثرها في النّفوسِ (¬1) أمر الإسلام بحفظ عرض الإنسان كحفظ ماله ونفسه ونسبه، ومن حفظ عرض الإنسان: تحريم اغتيابه. والغيية: ذكر المرء بما يكره من خَلقٍ أو أخلاقٍ، أو ملبس أو مركب، أو ما شابه ذلك حين غيبته. وقد نهى عنها الإسلام بوجه خاص، فقال تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]. فنفَّر منها القرآن الكريم على أبلغ وجه، وأقوى أسلوب؛ إذ جعل المحبة متجهة إلى ما لا يمكن أن تتجه إليه النفس، ولا يميل إليه الطبع، وهو أكل لحم الميت، وزاد الصورة شناعة وبشاعة: أن جعل الميت إنساناً، وأخاً لمن يأكله، ولا يقارف هذا إلا حيوان متوحش لا يخضع لتشريع، ولا عهد له بتهذيب. وجعلُ المأكول لحم ميت دقيق في معناه؛ لأنه يلفت إلى جبن المغتاب؛ إذ يتخذ من غياب أخيه وسيلة إلى ثلم عرضه، وتجريح سمعته، وهو غافل لا يدري ما أصابه، فيدفع عن نفسه، ويحامي عن عرضه. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الأول من السنة العاشرة.

ومن المغتابين من يعتذر من قبيح صنعه بأنه إنما ذكر الرجل بما فيه، وذلك عذر لا ينجيه، كما بيّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "أتدرون ما الغيبة؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك بما يكره"، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان في أخيك ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه، فقد بهتّه"؛ أي: افتريت عليه. فالمغتاب لا يخلو من الإثم الكبير، والذنب العظيم؛ لأنه لا يبرح بين الإيذاء والافتراء. وقد حكى القرطبي وغيره الإجماع على أن الغيبة كبيرة. والعجب أن الغزالي يراها أصبحت من الصغائر؛ لشيوعها، وعموم البلوى بها، حتى لا يبرأ منها إلا من عصم الله، وقليل ما هم. وللرد عليه نقول: إن شيوع الذنب لا يمكن أن يجعله صغيراً، وإلا هانت الآثام، وتبدلت الأحكام، ولا يستقيم استصغار شأن الغيبة مع النصوص القرآنية والأحاديث النبوية في تقبيحها وتغليظ ذنبها. فالغيبة كبيرة ولا شك، وقد فصل بعض العلماء أمرها تفصيلاً حسناً، فقال: قد يكون منها ما هو صغير بطبعه؛ كعيب الدابة، والثوب، ومنها ما هو من كبر الكبائر؛ كغيبة الناس بألفاظ الفسق والفجور ونحوها مما يؤذي وينقص. وتجوز الغيبة في الأحوال الآتية: 1 - التجريح والتعديل: وهو تناول رواة الأحاديث والأخبار بنقد أحوالهم، وبيان أخلاقهم؛ حتى يمكن تمييز قولهم، وقبول أخبار الثقات

منهم. والمحدِّثون قد عُنوا بتاريخ الرواة، وتفصيل كل ما يتصل بهم من جهة الشريعة، ومن جهة المروءة. وكان أحمد بن حنبل يقول: هاهنا رجل كأن الله خلقه لهذا الشأن، يظهر كذب الكذابين، وهو يحيى بن معين. وقد وضعوا في ذلك كتباً تميز الثقة من الضعيف والكذاب، ومن أشهرها: "ميزان الاعتدال" للذهبي، وفيه يذكر كل من تناوله نقد من الرواة بتعديل أو تجريح. وقد امتد النقد إلى علماء اللغة والأدب، فكتب أبو منصور الأزهري في مقدمة "التهذيب" تجريحاً لفريق من علماء اللغة، منهم: أبو بكر بن دريد، والجاحظ، وذكر فيهما من الأخلاق ما يردّ رواية ما ينفردان به، وكان ابن تيمية يردّ قول الأصفهاني صاحب "الأغاني"؛ لأنه يصرح بفسق نفسه، ويذكر في ذلك أموراً هائلة. 2 - الشهادة: فيباح للخصم أن يجرح من يشهد عليه، بقصد إقرار الحق والوصول إلى العدل. ومن حرص الشارع على تمكين الحق: أن القاضي لا يحكم بعلمه في قضية ما، ولا يعتمد على علمه إلا في التعديل والتجريح. 3 - التظلم: وذلك إذا تظلم أحد من حيف أصابه، جاز له أن يتكلم فيمن ظلمه وجار عليه، ويقدح في نزاهته في حدود موضوع ظلامته. ويشهد لهذا قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]. 4 - النصيحة: فيباح للمسلم عند نصيحة أخيه المسلم أن يبصِّره بحال من يريد أن يعامله أو يصاهره وهو جاهل بأمره، ولا جناح عليه في ذكر ما يعرفه

فيه من العيوب التي تمنع من معاملته، وذلك يدخل فيما يجب على المسلم من النصيحة لله ولرسوله ولجماعة لمسلمين. 5 - المتجاهر بالفسق: فلا غيبة في ذكره بما أعلن من فسقه؛ لأن إظهاره لأوزاره دليل على عدم مبالاته بتجريح الناس لعرضه. 6 - الاستعانة على مقاومة المنكر بمن يقدر على تغييره: فمن رأى منكراً، وجب عليه أن يشكوه، ويبين حال مرتكبيه لمن يستطيع تغييره، وذلك استجابة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان". وإباحة الغيبة في الأحوال السابقة مردها ضرورة شرعية، أو وسيلة حتمية لتحقيق رواية، أو تعديل شهادة، أو دفع ظلم، أو منع ضرر. والغيبة من الأوزار الفاشية التي عم بلاؤها، وقلّ من الناس من وقاه الله منها، ولا يقتصر التعرض لها على عامة الناس، بل كثيراً ما يقع في إثمها أولى الناس بالنهي عنها من العلماء وأصحاب المعرفة. وكان بعض شيوخنا يزيد على تخطئة المؤلفين عبارات تدل على عدم احترامهم، وتعد من الغيبة. ومن المؤرخين من ينسب إلى بعض السلف غير متحر في الرواية قولاً أو عملاً يحط من شأنه، يعد غيبة، كما فعل من تكلم في طلحة، والزبير، وعائشة - رضي الله عنهم -؛ فقد ذكر أنهم خرجوا لقتال علي - كرّم الله وجهه -, والواقع أنهم خرجوا لمطالبة عليّ للأخذ بدم عثمان - رضي الله عنه -، ولم يخرجوا لقتال. ومن أجل ذلك نرى في تراجم السابقين من رجال الدين الورعين تصريح بعضهم بقوله: "ليس عليّ مظلمة لأحد".

وهذه العبارة تحمل في ثناياها براءته من الغيبة، وبُعدَه عن الوقوع في أعراض المسلمين. وقد كان السلف الصالح - رضوان الله عليهم - قدوةً كريمة في تنزيه ألسنتهم ومجالسهم عن دنس الغيبة، ومن خير المأثور في ذلك: قول الحسن البصري في الرد على من يسألونه عن الخلاف بين الصحابة زمن عثمان وعلي: "تلك دماء طهّر الله منها سيوفنا، أفلا نطهر منها ألسنتنا؟! ". وما زال في علماء المسلمين على تتابع من يقتدي بهذه السنّة، فقد رأيت العالم الجليل الشيخ بدر الدين الحسني يأخذ نفسه وجلساءه بتحرج شديد من أي كلمة فيها مساس بأحد من الناس، حتى في مذاكرة العلم ومسالك المؤلفين. وكان أستاذنا الشيخ عمر بن الشيخ يقتصر في الدرس على بيان خطأ المؤلفين، ويبين الحق في المسألة. فما أجدر هذا النهج بالاتباع! وما أحوج المغتابين بالإقلاع عن هذه الرذيلة التي يحسبونها هينة، وهي عند الله عظيمة! وما أولاهم بالإسراع إلى التوية النصوح التي تمحو عنهم وزرها، وتكفهم عن الخوض في سير الناس وأعراضهم! ومما ينبغي أن يحفزهم إلى التوبة، ويشعرهم بما عليهم من تبعة: أن من الفقهاء من يشترط لقبول التوبة: أن يعفو من أصابته الغيبة، وفي ذلك حرج للمغتابين. * * *

حقوق الزوجية

حقوق الزّوجيّة (¬1) قرر الشارع للزوجين حقوقاً تحصل بها الغاية من النكاح، وهي: تنمية النسل، وحسن المعاشرة، ودوامها، والتعاون على مرافق الحياة، وجاءت هذه الحقوق بعبارة عامة في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]. ومعنى الآية: أن للنساء حقوقاً على الرجال مثل ما للرجال على النساء من حقوق، والمماثلة بين حقوقهما في الوجوب، لا في جنس الحق؛ إذ يجب على أحد الزوجين من جنس الحق ما لا يجب على الآخر، والدرجة ثبتت للرجل من جهة رعايته للمرأة بالولاية، والإنفاق عليها. وقد ذكرت هذه الحقوق مفصلة في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والقواعد المأخوذة منهما، وليس في وسع هذا المقام ذكر هذه الحقوق مفصلة، ولكنا نذكر منها ما يسعه المقال، ويقتضيه الحال. فمن حقوق المرأة: المهر، وهو المال الذي تطلبه الزوجة من الزوج، ويتفقان عليه، ولا يجوز للزوج أن ينقص منه شيئاً. وقد جعل الشرع لأقلّه حداً، وهو ربع دينار، ولم يحدد أكثرها، وقصة ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الاسلام" - العدد الرابع من السنة الحادية عشرة.

عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين أراد أن يمنع من التغالي في المهور، والعجوز التي اعترضت عليه بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، ورجوع عمر إلى قولها مشهورة. ومن حقوق الزوجة: إنفاق الزوج عليها معاشاً وملبساً ومسكناً، ويزداد حسن المعاشرة بمداواتها إذا مرضت، واحتاجت إلى ذلك، فيعطي أجر الطبيب، وثمن الدواء. ومن الواجب على الزوج: أن يعين لها خادماً إن اعتادت ذلك في بيت أبيها. ومن حقوق الزوجة: مراجعة الزوج فيما تراه قد حاد فيه على الصواب، ومن الرجال من لا يقبل من زوجته أن تراجعه، ولو بالحق، وفي الصحيح: أن عمر بن الخطاب قال: صخبت على امرأتي، فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر علي أن أراجعك؟ فوالله! إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه. ومن حقوق الزوجة: أن تذهب إلى المسجد لتؤدي العبادة مع الجماعة؛ فقد كان النساء يصلين في آخر المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعدن إلى بيوتهن. ومن حقوق الزوجة: أن تأخذ من مال زوجها - من غير إذنه - حاجتها وحاجة أولادها إن كان مقتراً. ودليله قصة هند بنت عتبة؛ فقد سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل يحل لها أن تأخذ من مال أبي سفيان من غير علمه ما تنفقه على نفسها وعلى أولادها؛ لأنه رجل شحيح؟ فأجاز ذلك لها الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وليس من حقها أن تلي وظيفة عامة؛ كالقضاء ونحوه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة".

وما نقل عن أبي حنيفة من إجازته ولايتها القضاء فيما تقبل شهادتها فيه، قد حمله الحافظ أبو بكر بن العربي على أنها تحكم في جزئية تنتدب لها؛ لخبرة خاصة بها، وليس المقصود أن تولّى وظيفة القضاء. ومن حقوق الزوجة: ألا يدخل عليها الزوج من سفر إلا بعد أن تسمع بقدومه. وورد في هذا حديثان صحيحان: أحدهما: يقتضي أنه لا يدخل عليها فجاة؛ لئلا يعد ذلك تخوناً لها. قال جابر بن عبدالله: إنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يطرق الرجل أهله ليلاً مخافة أن يتخونهن، أو يلتمس عثرتهن". وثانيهما: عن جابر أيضاً، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال عند رجوعه من غزوة: "أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً؛ لكي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة". وهذا الحديث يقتضي عدم مفاجأتها بالقدوم؛ لئلا يجدها غير مرضية، فيحصل التنافر. هذا إذا أمكنه أن تعلم قدومه قبل الدخول عليها. ومن حقوق الزوجة: أن تتصرف في مالها كما تشاء، وليس للزوج حق في. التصرف فيه قليلاً أو كثيراً إلا بإذنها. ومن حقوق الزوجة على الزوج - إذا أضرّ بها ضرراً بيناً -: أن تطلّق نفسها منه، ولا تتوقف على طلاقه؛ كان يضربها ضربا مبرحاً؛ فإنه تزوجها لأن يعاشرها بالمعروف، وضربها ضرباً مبرحاً يخل بمعاشرتها بالمعروف. أما حقوق الزوج: فمن حقه: أن تكون عصمة الزوجة بيده، فيمسكها بالمعروف، أو يسرحها بإحسان. وقد أمره الشارع بمعاشرتها بالمعروف، فقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].

وقال - عليه الصلاة والسلام - كما في الصحيح: "واستوصوا بالنساء خيراً". وأمر الشارع بالصبر عليها إذا كرهها، فقال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] والخير الكثير هو: الولد الصالح، أو تغير الكراهة إلى ألفة ومحبة. وسمعت شيخنا أبا حاجب يقول: قد أكد الله المودة والرحمة بين الزوجين بنسبتهما إلى جعله - سبحانه وتعالى - في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. فالرابطة بين الزوج وزوجته أقوى من الرابطة التي تكون طبيعية؛ كالبنوة، يقول الشاعر: أحبُّ الصبي النذلَ من أجل أُمِّه ... وأكرهه من أجلها وهو كَيِّسُ ومن حقوق الرجل: أن ينظر إلى وجه المخطوبة وكفيها قبل العقد، حتى يطمئن إلى صحتها وقبول ذاتها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أذن بالنظر إلى ذلك، ولم يأذن في جَسِّ بدنها، أو الخلوة بها. ومن حقوق الزوج: نقل الزوجة إلى البلد الذي يريد أن يسكنه، واشترط عليها ذلك؛ بشرط أن يثبت قبل الانتقال أنه محسن لها، وأن تكون الطريق مأمونة، وأن يكون بالبلد الذي ينتقل إليه قضاء عادل. ومن حق الزوج: أن يبتغي الثقافة في زوجته؛ لأن الثقافة تعينها على تدبير المنزل، وتربية الولد تربية صحيحة، وللمرأة أن تتعلم ما تشاء من العلوم بالطريقة التي تلائم كمالها، ومما صدر من الخواطر: أن الرجل والمرأة كالبيت من الشعر، ولا يحسن في البيت من الشعر أن يكون شطره محكماً، والشطر

الآخر متخاذلاً. ونجد في التاريخ الإسلامي منذ عهد الصحابة - رضي الله عنهم - فما بعده مسلمات فاضلات، شاركن الرجال فيما يبرعون فيه من حديث وفقه وعلوم وآداب، يعرف هذا من اطلع على تراجمهن، أو اطلع على تراجم الرجال الذين أخذوا عنهن. ومن هؤلاء النساء اللاتي برعن بعلوم الدين زوجةُ أحد القضاة بالأندلس، فقد حكي أنها فاقت العلماء في معرفة الأحكام والنوازل، فكان القاضي في مجلس قضائه تنزل له النوازل، فيقوم إليها، فتشير عليه بالحكم، وهما اللذان عناهما الشاعر بقوله: فياليته لم يكن قاضياً ... وياليتها كانت القاضيا ومن حقوق الزوج: إجابة الزوجة له في الأمر الذي يكون له حق واضح، وتدعوه إليه الحاجة، فإن لم تجب لذلك، هجرها في المضجع، فإن لم تجب، ضربها ضرباً خفيفاً. قال تعالى. {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34]. وإذا ذكر في دعوة وجه استحقاقه للإجابة، ولم تجب، فله هجرها. ويكفيه في هجرها التفاته عنها، فإن لم تجب بعد الهجر، دار الأمر بين طلاقها، أو ضربها الضرب الخفيف. فالضرب الخفيف من قبيل ارتكاب أخف الضررين. فالشارع نهى عن الطلاق، ولاسيما إذا كان بين الزوجين أُلف. وابن عباس - رضي الله عنهما - يمثل الضرب الخفيف بعود السواك. ولم يرد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب إحدى زوجاته قط.

وقصارى ما فعل: أنه يهجرهن حيث وقع منهن مثل ما نزل فيه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1]. وبعد أن أعطى الشارع لكل من الزوجين حقوقه، فإن ادعى أحدهما أن الآخر لم يف بحقوقه، خاطب الحكام بقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] النساء: 35]. ومعناه: أن ابعثوا رجلاً من أهل الدين والمعرفة من أهل الزوج، ورجلاً من أهل الزوجة كذلك، وينظران في شأنهما. وتسمية القرآن لهما بالحكمين دليل على أنه ينفذ ما يريانه في الزوجين كما يراه الحاكم. فالشارع قرر لكل من الزوجين المسلمين حقوقاً، إن رضي بها، ورعاها كل منهما لصاحبه، عاشا في اطمئنان وارتياح عيشة راضية.

صلاة الجماعة وأثرها في اتحاد الأمة

صلاة الجماعة وأثرها في اتّحاد الأمّة (¬1) شرعت الصلاة لعقد الصلة بين الخالق تعالى والمخلوق، وهذا المعنى ظاهر من القراءة والركوع والسجود والتشهد، وما تشتمل عليه هذه الأعمال من الذكر والدعاء. وروعي في صلاة الجماعة وبناء المساجد مصلحة اجتماعية، وهي اطلاع أهل الحي وأهل القرية على أحوال بعضهم، فيتعاونون على ما يسد حاجتهم ولرفع شأنهم. ولعظم فائدتها وتأكيد الأحاديث الواردة في شأنها، ذهب بعض الأئمة إلى أنها فرض عين على كل مكلف لا عذر له في تركها. وقال علماء آخرون: هي فرض كفاية لابد أن يقوم بها طائفة من المصلين. وقرر الشارع لصلاة الجماعة أحكاماً تدل على عنايته بها، وأن له قصداً زائداً على عقد الصلة بين العبد وربه، فأمر ببناء المساجد، وجعلها بيوتاً يؤمها المصلون على اختلاف طبقاتهم من أعلى البشر إلى أدناهم، ويأوي إليها الغرباء الذين لا يجدون أمكنة يأوون إليها، قال - صلى الله عليه وسلم - كما روى في الحديث الصحيح: "من بنى لله مسجداً، بنى الله له مثله في الجنة". ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الرابع من السنة العاشرة.

وشرع الأذان، وهو دعوة إلى الصلاة بكلام مشتمل على عقيدة الإيمان، وهو سنّة، وإذا تركه أهل بلد، قوتلوا عليه، وقد تصبح السنّة بالنسبة للجماعة فرض كفاية حيث تكون شعاراً ظاهراً للإسلام. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الأذان أفضل من الإمامة، وأدلته مبسوطة في كتب الفروع. ومما يدل على رغبة الشارع في صلاة الجماعة: أنه لو صلى أحد منفرداً، ودخل على جماعة يصلون، يستحب له أن يعيد الصلاة معهم. روى مالك في "الموطأ": أن محجناً - رضي الله عنه - كان في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأُذّن للصلاة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى، ثم رجع، ومحجن في مجلسه لم يصل معه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منعك أن تصلي مع الناس؟ أولست برجل مسلم؟ "، فقال: بلى يا رسول الله، ولكني قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جئت، فصلِّ مع الناس، وإن كنت قد صليت". ويذكر المؤرخون في تراجم العلماء النبلاء: أنهم يواظبون على صلاة الجماعة، ومواظبتهم على صلاة الجماعة في المسجد تدل على أنه لا يغيب عن أذهانهم ما ينتج عنها من خير المعاش والمعاد. ويدل على عناية الشارع بصلاة الجماعة: أنه أذن لولي الأمر أن يعطي المواظب على إمامة صلاة الجماعة في المسجد جانباً من بيت المال. قال الشهاب القرافي في كتاب "الفروق": "الفرق بين قاعدة الأرزاق وقاعدة الإجارات: أن كلاً من الأرزاق والإجارات بذل مال بإزاء المنافع من الغير، إلا أن باب الأرزاق أدخلُ في باب الإحسان، وأبعدُ عن باب المعاوضة، وباب الإيجارات أبعد في باب المشاحّة، وأدخل في باب المماكسة، وجعل

ما يتناوله الامام على الإمامة، والقاضي على القضاء، والمدرس على التدريس من ولي الأمر أرزاقاً لا إجارة". وقال: "وكثير من الفقهاء يغلط في هذه المسألة، ويعتقدون أنها من قبيل الإجارة، فيتورع بعضهم عن تناول الرزق عن الإمامة بناء على القول بجواز الإجارة على الإمامة في الصلاة، وليس الأمر كما ظن، بل الأرزاق مجمَع على جوازها؛ لأنها إحسان ومعروف وإعانة. والقول بأن الإمامة من قبيل الإجارة - وهي مع ذلك جائزة - مبني على أنها إجارة على ملازمة المكان المعلوم، في الوقت المعلوم، لا على الصلاة نفسها؛ فإنها واجبة على الشخص، وله أجرها من الله، فلا يجوز له أخذ أجرة من الناس عليها". وروي: أن أحد علماء الجزائر جاء إلى تونس في عهد ابن عرفة، ووجد بعض أئمتها يتناولون جانباً من المال على الإمامة، فامتنع من الصلاة وراءهم باعتقاد أن ما يتناوله الإمام من قبيل الإجارة التي لا وجه لها. ومما يدل على شدة رغبة الشارع في صلاة الجماعة: أنها تفضل صلاة الفرد بدرجات كبيرة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة". ومما يعبر عن فرض صلاة الجماعة بالقول البالغ: همه - صلى الله عليه وسلم - بتحريق بيوت من يتخلفون عن بعض الصلوات، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالفه إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم". ومما يدل على أن الشارع يريد تأليف الناس إلى صلاة الجماعة: أمره

للإمام بأن يخفف في صلاته، قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح: "إذا صلى أحدكم بالناس، فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه، فليطل ما شاء" ويريد التخفيف في القراءة والركوع والسجود وغير ذلك. وكنت في مجلس الشيخ محمد بن (¬1) يحيى عالم شنقيط بتونس، فقال الشيخ ما قاله - صلى الله عليه وسلم - من تخفيف الإمام في الصلاة، فقال له بعض الحاضرين: إن الشيخ أحمد التيجاني كان يطيل الصلاة بالمصلين، فقال له الشيخ: أنا أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنت تقول: فعل رجل، ثم قال الشيخ: لعل المصلين جميعاً طلبوا منه الإطالة في الصلاة. ومما يدل على أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ: أن الشارع أذن للمأمومين أن يصلوا قياماً وراء الإمام الذي يصلي جالساً لعذر. وروى الوليد بن مسلمة عن مالك: أن المأمومين يصلون وراء الإمام العاجز قياماً، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، والأوزاعي. ويدل على أن صلاة الجماعة مطلوبة للشارع: إمامة الصبي الذي بلغ حد التمييز. ومن الأئمة من يجيز إمامته في الفرض والنفل، ومنهم من يجيز إمامته في النفل دون الفرض. ووجهه: ما ذهب إليه الفريق الأول: أنه لا يشترط اتحاد نية الإمام ¬

_ (¬1) ومن مصنفات الشيخ الشنقيطي "شرح على صحيح البخاري"، ومؤلف خاص في "الفروع التي أخذت من الكتاب والسنّة خاصة".

والمأموم في الفرض أو النفل كما يقول الشافعي، ووجه الفريق الثاني الذي يفرق بين النفل والفرض: أن صلاته نفل، فلا يصح أن يقتدي به من تجب عليه الصلاة. وكنت أحد أعضاء لجنة ألفها أحد وزراء الأوقاف السابقين بمصر في البحث في أسباب تحبيب المساجد إلى الشبان حتى تمكنهم المحافظة على صلاة الجماعة، وكان مما قررته اللجنة من الأسباب: أن تلقى محاضرات في المساجد تصبو النفوس إلى سماعها، ولكن اللجنة انحلت بتغيير الوزارة قبل أن تتم علمها. ومن الترغيب في صلاة الجماعة، وتيسير فضلها: أن من أدرك ركعة مع الإمام، فقد أدرك فضل الصلاة معه، وإلى هذا المعنى ذهب بعض الفقهاء في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك من الصلاة ركعة، فقد أدرك الصلاة". ويصح أن يكون الحديث متعلقاً بالوقت، ومعناه: من دخل في الصلاة، فصلى ركعة، وخرج الوقت، كان مدركاً لجميعها، وتكون كلها أداء. ويدل على أن الشارع أراد أن تكون صلاة الجماعة عنوان النظام الذي يجب أن تكون عليه الجماعة مع رئيسهم: أمره بتسوية الصفوف، قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح: "لتسَؤُونَّ صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم". وتسوية الصفوف: سد الخلل الواقع فيها، واعتدال القائمين بها على سمت واحد. واختلاف الوجوه: كناية عن اختلاف القلوب بالعداوة والبغضاء؛ فإن العداوة والبغضاء محلها القلوب، ولكن يظهر أثرها في الوجوه. ويؤيد هذا المعنى حديث أبي داود وغيره: "أو ليخالفن الله بين قلوبكم".

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أقيموا صفوفكم، وتَراصُّوا". وقال: "تسوية الصفوف من حسن الصلاة". ويدل على عنايته باتباع الإمام: أنه نهى المأموم عن مسابقة الإمام في ركوع أو سجود، فقال - عليه الصلاة والسلام - في الصحيح: "أما يخشى أحدكم، أو: ألا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار! "، وهذا تحذير منه - صلى الله عليه وسلم - من مسابقة الإمام في سجود أو ركوع، فالحديث يفيد: أن السابق للإمام في أفعال الصلاة يتعرض لأن يكون رأسه رأس حمار، ولا يلزم من التعرض لشيء وقوعه، فإذا فعل المكلف ما يمكن أن يكون سبباً لقلب رأسه رأس حمار، ولم يقع ذلك، فقد عطل الفعل عن السببية لحكمة يعلمها الله. وقال أبو بكر بن العربي في "القبس": "ليس للتقدم قبل الإمام سبب إلا طلب الاستعجال، ودواؤه أن يعلم أنه لا يسلِّم قبل الإمام، فلا يستعجل في هذه الأفعال". وجعل بعض القضاة السبب في عدم قبول شهادة السلطان: تركه لصلاة الجماعة. وحكي في "الشقائق النعمانية": أن السلطان أبا يزيد شهد عند شمس الدين محمد الفناري قاضي الآستانة في قضية، فردّ شهادته، فسأله عن سبب ردها، فقال له: إنك لا تصلي مع الجماعة، فبنى السلطان أمام قصره جامعاً، يسمى الآن: جامع أبا يزيد، وعين لنفسه موضعاً فيه، فلم تفته الجماعة بعد ذلك. ولم يرد لإمامة الفاسق بالجوارح؛ أي: معلوم الفسق، حديث؛ خاص

يعتمد في تقرير الأحكام، وإنما وردت أحاديث عامة في الإمامة، فمن الأئمة من أخذ بالأحاديث العامة، فقال بصحة الصلاة وراء الفاسق مع الكراهة، ومن الأئمة من لم يجوِّز الصلاة وراءه، إلا إذا خشي إثارة فتنة. واستند هؤلاء إلى أن الإمامة وظيفة شريفة كالشهادة، فلا يوضع فيها إلا عدل، أو مستور الحال. وألقيت في بلاد الجزائر درس تفسير تعرضت فيه لقراءة المأموم وراء الإمام، وذكرت مذهب من يقول: إذا صلى المأموم في مكان لا يسمع قراءة الإمام، فليقرأ وحده - وهو مذهب أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - فاستحسن الشيوخ الحاضرون هذا المذهب، واقتضت المناسبة ذكر الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]. والإنصات للقراءة ورد في الآية مقروناً بالاستماع، وإذا كان الاستماع غير متيسر، فلا يجب الإنصات، بل يقرأ الماموم ما شاء؛ خشية أن يشتغل بالتفكر في أمور خارجة عن الصلاة. ويدل على أن الشارع يريد تنظيم الجماعة في المسجد على وجه مألوف للجميع: نهيه عن وجود رائحة كريهة؛ كرائحة الثوم بالقرب من المسجد، قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح: "من أكل من هذه الشجرة - يعني: الثوم -، فلا يقربن مسجدنا"، ومن رواية في الصحيح أيضاً: "من كل ثوماً أو بصلاً، فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليصلّ في بيته"، وروى مسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا وجد ريحها في المسجد، أمر لإخراج من وجدت فيه إلى البقيع. وقد وصف الكتاب الحكيم عمّار المساجد بحقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر، فقال تعالى:

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة: 18]. وعمارة المسجد: إصلاحه بالترميم، وتنظيفه، وتنويره، وإدامة العبادة والذكر فيه، وتدريس العلم النافع به. وإن القائم بالإمامة قائم بعمل حيوي عظيم، وهو حفظ الصلة بين الخالق والمخلوق، وعمل اجتماعي واسع، وهو تعارف أهل الحي أو القرية وتعاونهم على مصالح الحياة، وإنما تتفاوت الأمم بحسب تفاوتهم في هذه الصلة والعمل الاجتماعي الكبير. ويدرك هذا النفع من يعلم عين اليقين أن الأمة المقطوعة الصلة عن الله وشريعته لا تساوي في النظر الثابت على الحقائق جناح بعوضة. فإذا كان المال الذي يتناول من بيت مال المسلمين يقدر بحاجة الناس إلى عمل الشخص الذي تناوله، فمن حق الإمام الراتب أن يكون واسع الرزق، ناعم البال، وكان الخلفاء لعظم فائدة الإمامة يتولونها بأنفسهم، فيؤمون الناس في صلاتهم، ويعظونهم في خطبهم، وذلك مما يدعوهم إلى معرفة حال الأمة، وما تحتاج إليه من إرشاد.

الدعوة القائمة على حق

الدعوة القائمة على حق ّ (¬1) ما رأى الإسلام مصلحة إلا أمر بها، وما رأى مفسدة إلا نهى عنها، فإن كانت المصلحة عظيمة، أمر بها على وجه الوجوب، وإن كانت ضئيلة، أمر بها على وجه الاستحباب، وإن كانت المفسدة عظيمة، نهى عنها على وجه الحرمة، وإن كانت قليلة، نهى عنها على وجه الكراهة. هذا ما تقرر عند من أسلموا بحق. وقد أنكر الإسلام وحاربه طائفتان: طائفة الباطنية، وطائفة الملاحدة. والباطنية: من يظهرون الإسلام، ويخفون الكفر، ويؤولون الآيات والأحاديث بغير ما قصد منها، يصرفونها عن وجه المصلحة الوارد تقريرها، والمفسدة التي حذر منها، وأريد إزالتها. ومن الباطنية: طائفة البهائية، وطائفة القاديانية. ولما صار لهم أتباع ممن كانوا مسلمين، ووجدوا دولة تحميهم وتعطيهم أجوراً ومكافأة عما أحدثوه في الإسلام من التفرقة، صرحوا بإنكار حقائق الإسلام. والملاحدة: ينكرون حقائق الإسلام من أصلها. وكثرتهم وقلتهم بحسب ما يلقون من الرد عليهم، وإنكار ما يعتبر إنكاره. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السابع من السنة الحادية عشرة.

وأما سبب باطنية هؤلاء، وإلحاد هؤلاء، فملاكه الجهل بحقائق الدين، وتقليد غير المسلمين في بعض عقائدهم، أو تقليد ما يرمون به الإسلام من الأوهام الناشئة عن سوء العقيدة. كنت في بعض اجتماعات حافلة، فقال بعضهم: إن القرآن مشتمل على آيات منافية للقضايا العلمية القطعية، ووقفت أرد عليه، وقلت: إن القرآن كغيره من الكتب السماوية التي لم تحرف، لم يأت ليعلم الناس القضايا العلمية، فقد ترك ذلك للعقول؛ لأنها تدركها بصعوبة أو سهولة، ولكنه إذا أتى على قضية علمية، لا يأتي إلا بما يكون مطابقاً للواقع. فقال المعترض: إن الغزالي يقول ذلك، ولم يسمّ الكتاب الذي نسب إليه قول الغزالي. فقلت: يستحيل أن يقول الغزالي ذلك، فلو قاله، لكفّره العلماء جميعاً حيث نسب إلى الله قولاً غير مطابق للواقع. وقد ظهر هذا الرأي في هذا العصر، وأخذه الملاحدة عندما بحثوا عن رأي يوافق إلحادهم، ويسترهم عند من يظن أنه موافق للإيمان. وقد أخذ هذا الرأي أفراد مقلدين من صرّح به من أهل هذا العصر، ولعلهم لم يتنبهوا إلى أنه مخالف للإيمان الصحيح. وكان بعض المعتزلة ينكرون المعجزات المخالفة لما وصل إليه العلم في وقتهم؛ كما أنكر بعضهم الإسراء بالجسد الذي صرح به القرآن في قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]. وقالوا: إن قطع الجسد للمسافة التي بين المسجد الحرام والمسجد

الأقصى لا يمكن في ليلة أو بعض ليلة. ودفع العلماء هذا الاستشكال بشعاع الشمس الذي يخرج منها، ويقطع الكثير من الأميال في وقت قريب، ولكن العلم بالطائرات دل على أن الجسم يقطع المسافة الطويلة في وقت قريب. قلت للأستاذ محمد المكي (¬1) في الآستانة - وكان مدرس علم الحديث في دار الفنون -: هل استمعت لمعروف الرصافي؟ - وكان مدرس علم آداب اللغة العربية في دار الفنون أيضاً-، فقال: ما اجتمعت به، فجاء يوماً، وقال: اليوم كنت جالساً عند المدير - وهو تركي -، فدخل إنسان، وقال المدير: هذا معروف الرصافي، فجاءت المناسبة إلى قوله تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبا: 12]. وقال معروف الرصافي: إن سليمان كان يعرف علم الطائرات، فقال المدير تلك معجزة سليمان. قالها مرتين. ويؤخذ من هذا أن العلم قد يأتي بما تكون صورته كصورة المعجزة. والفرق بينهما: أن المعجزة من فعل الله الذي لا دخل للمخلوق في شأنها، وما يصل إليه العلم إنما حصل بالتجارب التي عرفها العلماء، واستطاعوا أن يعملوا مثلها. على أن ما وقع من سليمان - عليه السلام - لم يصل إليه العلم، فإن بساط سليمان كان يسير به الريح، كما قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} [ص: 36]. ¬

_ (¬1) العلامة محمد المكي بن عزوز، وهو خال الإمام.

والعلم لم يصل إلى أن يسخر الريح، فيكون البساط غدوه شهر، ورواحه شهر، ولم يصل إلى نقل الجسم في أقرب وقت إلى مسافة بعيدة من غير استعمال الأدوات المعروفة في علم الطائرات. ومن المعجزات ما لم يصل إليه العلم، ولن يصل إليه العلم؛ كمعجزة القرآن لمحمد - عليه الصلاة والسلام -، وإحياء الموتى لعيسى - عليه السلام -. كنت مصححاً في القسم الأدبي في دار الكتب المصرية، وطلب مني بعض من تعرفت به استعارة خطاب من الشيخ جمال الدين الأفغاني إلى (رينان)، فاستعرت له الخطاب، وكان باللغة الألمانية، فأعطاه لمن يعرف اللسان الألماني، فترجمه له، فأتاه مترجم وأنا معه في منزله، وقال له: وجدت الشيخ جمال الدين يقول لرينان: إن الإسلام لا يطابق العلم والمدنية، فقلت: لعل المترجم أخطأ في الترجمة، فأعطيت الكتاب لمن يعرف الألمانية جيداً، فقال مثل ما قال المترجم. ويبقى لمن يعتذر للشيخ جمال الدين أنه كتب الخطاب بالعربية أو الفرنسية، والخطأ نشأ من الترجمة. على أن القرآن والحديث النبوي الصحيح بين أيدينا، وليس فيهما ما يخالف المدنية الفاضلة. وكنت في برلين آخذ دروساً في الطبيعة والكيمياء عن المستشرق (الدكتور هردل)، فأخبرني الدكتور بأن أحد الألمان قرأ القرآن، وأسلم، وقال الدكتور: إن الإسلام حقيقة تكلم في التوحيد بما لم يتكلم به دين آخر، وأخبرني من أثق به من الهنود: أن الدكتور إقبال رجع من إنجلترا، فأخذ يتلو القرآن بتدبر، وقال: لو علمت أن القرآن فيه هذه الفلسفة، ما سافرت من أجلها إلى لندن. وروي: أن أبا الوليد الباجي عالم الأندلس أتى إلى الشرق، ودرس

العلوم، ولما رجع إلى الأندلس، قال له بعض أبناء الملوك: هل قرأت كتاب الأخلاق لأرسطو؟ فقال له أبو الوليد: أقرأت كتاب الأخلاق الذي أنزل على محمد؟ يريد: القرآن المجيد. ومن الناس من تجاوزوا في القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم، وجميع ما نظر فيه الناظرون. وهذا - كما قال أبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته" - لا يصح، فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وعلومه، وما أودع الله فيه من حكمة، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء خارج عن أحكام التكليف، وأحكام الآخرة. وأيدوا قولهم بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [لأنعام: 38]. وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]. والجواب عن ذلك: أن المراد بالشيء: ما تعلق بحال التكليف. وما نقل عن بعض الصحابة وغيرهم مما هو خارج عن حال التكليف لم يثبت عنهم بحال.

فساحة الصدر ونزاهة اللسان عن المكروه

فَساحَة الصَّدْر ونزاهةُ اللسان عن المكروه (¬1) خلق الله الإنسان، وجعل له لساناً يبين به الحقيقة، ويتوسل به إلى ما تقتضيه الحياة من المرافق. فمن استعمله للحكمة، أو القول النافع، فقد أقر بالنعمة، ووضع الشيء في الموضع الذي خلق من أجله. ومن كمال الإنسان: ألا ينطق إلا بالحكمة، أو القول المفيد له، أو لسامعه. والشريعة أمرت بإلانة الكلام حتى للأعداء، فقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع الكلمة النابية، أو يبلغه أن قوماً منافقين تكلموا بسوء، ونسبوا إلى مقام النبوة ما لا يليق به، فيقول بعض الصحابة: دعنا نقتلهم، فيقول: دعوهم لئلا يقول كفار قريش: إن محمداً يقتل أصحابه. وقال أنس بن مالك: خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال أُفٍّ، ولا: لم صنعتَ، أو هَلاَّ صنعت. وحكي عن الأحنف الذي يضرب به المثل في سعة الصدر، والإغضاء عن النابية التي يقذف بها: أن رجلاً أخذ في إساءته حتى وصل إلى حيّه، ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الحادي عشر من السنة الحادية عشرة.

فوقف الأحنف وقال للرجل: قل ما شئت أن تقوله قبل أن يسمعك أهل الحيّ فيؤذوك. وكان الأستاذ بدر الدين الحسني عالم الشام، لم يسمع منه أحد كلمة مكروهة، ولا يسمح لأحد كبير أو صغير أن يذكر أحداً في مجلسه بسوء. ويحكى أن الوزير بتونس الشيخ محمد العزيز أبو عتور لا يُسمِع أحداً خادماً أو غيره قولاً مكروها. وروي: أنه نبّه على سائق سيارته بأن لا يسرع في السير بها، فاسرع السائق، فاشار إليه أن يتمهل، فأسرع مرة أخرى، فقال له: قف بالعربة، ونزل وفرش منديلاً له على الأرض، وجلس عليه، وقال للسائق: اذهب إلى تونس، واقض الحاجة التي أسرعت من أجلها، وارجع تجدني هنا. ووقع بيني وبين العلماء نزاع في مسألة، فلم يقتصر على ما يراه صحة لرأيه، بل زاد على ذلك كلاماً لا يتعلق بالبحث، فأجبته بذكر الحقيقة والتاريخ، وقلت له: ما زاد على ذلك، فغير أهل العلم أقدر عليه من أهل العلم. ويعجبني ذهاب بعض الفقهاء إلى أن حرية رأي المجتهد في أحكام الدين إنما تقتصر على ذكر الدليل الذي يدل على تأييد رأيه، دون أن يصف رأي المخالف بضلال، أو خروج عن الشريعة كما يفعل أهل الأهواء. وابن حزم عالم فاضل، غير أنه نقص من قدره أنه أطلق لسانه في الأئمة، ولم يقتصر على بيان رأيه والحجة عليه، أو بيان بطلان ما ذهب إليه غيره من الأئمة. وقد نسب بعض المتعصبين من فقهاء المالكية إلى الإمام مالك طعناً في مذهب الإمام أبي حنيفة، ولكن أبا الوليد الباجي قال في كتاب "المنتقى":

"إن هذا موضوع على الإمام؛ لأن ما عرف به مالك من العقل والعلم والفضل يرد ذلك". وقد قال مالك: "أدركت بالمدينة قوماً لم يكن فيهم عيوب، فبحثوا عن عيوب الناس، فبحث الناس عن عيوبهم. وأدركت قوماً لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فسكت الناس عن عيوبهم". ويدل على عظيم تقديره لمذهب غيره: إباؤه حمل الناس جميعاً على العمل بما في كتابه "الموطأ" حين عرض عليه الخليفة ذلك، وقال له: إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في البلاد، وعند كل منهم علم. وقد روى عنه "موطأه" محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وذلك قاطع على ما كان يسود بينهم من فساحة صدر، ونزاهة علم. وألَّف أحد علماء الأندلس رسالة في فضائل مالك، وذكر فيها: إنما أباحت الشريعة ذكر إنسان بما يكره في مواضع، منها: أن يذكر اعتداءه عند من يرجو أن يجيره منه، أو أن يصفه عند الشهادة عليه بما يفعله من ظلم، أو عند استشارة من يريد معاملته بتجارة أو مصاهرة، أو بذكر الفاسق بما جاهر به من ذنوب قصداً إلى زجره. والحرية الفاضلة، والعدالة المحمودة، لا يسمح بها إلا واسع الصدر لا يحول بين امرئ وحقه، كما روي عن عمر بن الخطاب: أنه قال لرجل: لا أحبك، فقال الرجل: أيحملك عدم الحب لي على منعي من حق ثبت لي؟ فقال عمر: لا، فقال الرجل: إنما يأسف على حب الرجال النساء. وما سجن عمر بن عبد العزيز يزيدَ بن المهلب إلا بعد ما اطلع على كتاب أرسله إلى سليمان بن عبد الملك يقول فيه: أرسلت لك الهدايا والأموال

على قطارات، أولها عندك، وآخرها عندي، فتبين بذلك أنه يأخذ أموال الناس بغير حق. ومن عدالة عمر بن عبد العزيز: أنه كان ينكر على سليمان بن عبد الملك الخليفة قتله الرجل لمجرد شتمه له، ويقول له: ليس لك إلا أن تشتمه كما شتمك. وقد كنت - بعد أن نلت درجة العالمية من جامعة الزيتونة - أنشأت مجلة (¬1) علمية أدبية، وهي أول مجلة أنشئت بالمغرب، فأنكر عليَّ بعض الشيوخ، وظن أنها تفتح باب الاجتهاد؛ لأني قلت في أول عدد منها: "ودعوى أن باب الاجتهاد مغلق لا تُسمع إلا مع دليل يبطل الدليل الذي انفتح به أولاً"، وشجعني على إنشائها شيخنا أبو حاجب، وقال لي في باب الشفاء من جامع الزيتونة: أقول لك ما قاله ورقة بن نوفل: "ما أتى أحد بمثل ما جئت به، إلا عودي". وكان ممن شجعني عليها كذلك الوزير محمد أبو عتور، وشكا إليه بعض الشيوخ مما نشر في المجلة فيما يتعلق بالخطابة، فأجابه الوزير، وكان من العلماء الأجلة، ورأيت له نسخة من "المفتاح" للسكاكي كتبها بخط يده الجميل: إن ما تنشره المجلة لا يعارض الشرع، ولا القانون. ومن قلد إماماً من المجتهدين، لا ينبغي له أن يغض من قدر غيره. وإن كان ولا بد من انتصاره لمذهبه، فيكون بتقوية حجته، وليكن ذلك بحسن أدب مع الأئمة؛ فإنهم على هدى من ربهم. وقد ضل بعض الناس، فحمله التعصب لمذهبه على التصريح بما ¬

_ (¬1) انظر كتاب الإمام: "السعادة العظمى"، وهو يضم مقالات الإمام في مجلة "السعادة العظمى" التي أصدرها بتونس عام 1322 هـ 1904 م.

لا يجوز في حق العلماء الذين هم نجوم الملة. ومن العادات الجارية في الشرق والغرب: أن يتخذ صاحب المنزل خادماً يساعده في شؤون المنزل. ومن المحافظة على آداب الإسلام أن لا يدعو الخادم بلقب يجرح عاطفته، وليكن الخادم بمنزلة الابن أو الأخ في مطعمه وملبسه. وإن كلفه بعمل يشق، أعانه عليه. ولقد خالجني الأسف لما سمعت صاحب المنزل يقول للخادم: هل صحا سيدك محمد من النوم؟ ويريد صاحب المنزل بمحمد: (ابنه) الذي لا يتجاوز الثالثة أو الرابعة من عمره. ولا خير في أمة يكون شطرها فاقداً عزة النفس وسمو الهمة.

مكافحة المظالم موجبة للسلام

مكافحة المظالم موجبة للسّلام (¬1) المظالم: جمع مظلمة - بكسر اللام وفتحها-، وهي مأخوذة من الظلم بمعنى: وضع الشيء في غير موضعه. والمعاصي كلها من قبيل وضع الشيء في غير موضعه، ولهذا تسمى: ظلماً. والشرك بالله ظلم فوق كل ظلم. والمراد في هذا المقال بالمظلمة: اعتداء شخص على آخر في نفسه؛ بالضرب أو الجرح أو القتل، أو ماله؛ بالغصب أو السرقة أو النهب، أو عرضه؛ بالشتم أو القذف، حاضراً أو غائباً. والمظلمة تدرك مفسدتها الظاهرة بالعقل الفطري، وإنما تتفاوت العقول في وجه مكافحتها. وهؤلاء المشركون من قريش، حيث كثر فيهم الزعماء، وشاهدوا من التغالب ما لم يرجعهم عنه سلطان، عقدوا حلفا على رد المظالم، وإنصاف المظلوم في دار عبد الله بن جدعان، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم قبل النبوة، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "قد شاهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً، لو دعيت إلى مثله في الإسلام، لأجبت"، وسمي: حلف الفضول كما قال ابن الأثير في "النهاية"؛ تشبيهاً له بحلف كان قديماً في مكة أيام جُرهم في التناصف والأخذ للضعيف من القوي، قام به رجال، كلهم يسمى: الفضل. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السادس من السنة العاشرة.

وقال صاحب "القاموس": سمي حلف الفضول؛ لأنهم تحالفوا ألا يتركوا عند أحد فضلاً يظلمه أحداً إلا أخذوه له منه. وقد انشرح - صلى الله عليه وسلم - لهذا الحلف، وكان قبل النبوة يعمل كل ما فيه خير، فلما جاء الإسلام جعل مكافحة المظالم من مقاصده. وأكده بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" رواه أحمد في "مسنده"، والبيهقي في "شعب الإيمان". وكان العرب يقولون: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وذكر - صلى الله عليه وسلم - هذه الجملة بعينها، فقالوا: ننصره إذا كان مظلوماً، فكيف ننصره إذا كان ظالماً؟ فبين لهم كيف تكون النصرة مطابقة للحكمة، وقال: "تحجزه عن الظلم بأن تأخذ على يده، فإن ذلك نصره". وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرون المظالم بأنفسهم، فلما تجاهر الناس بالمظالم، كان أول من أفرد لها يوماً عبد الملك بن مروان، يقصده فيه المتظلم. وجلس عمر بن عبد العزيز بعد دفن سليمان بن عبد الملك، ونادى مناديه: ألا من كانت له مظلمة، فليرتجعها، وجعل لا يدع شيئاً مما كان في يد سليمان بن عبد الملك أو أهل بيته إلا ردها مظلمة، وقيل له: يخاف عليك من ردها العواقب. فقال: كل يوم أتقيه دون يوم القيامة فلا وقيته!. ثم خلفاء بني العباس. وأول من جلس لها المهدي، ثم الهادي، ثم الرشيد، ثم المأمون، إلى أيام المهتدي المتوفى سنة مئتين وخمس وخمسين من الهجرة. ثم ردّوها إلى القضاة. ثم أفردوا لها والياً يندب للنظر فيها في جميع الأيام.

ثم تنوسيت هذه الوظيفة. وصار أمر التصرف فيها إلى الحاكم الأعلى. والذي تصدر عنه المظالم رجل قوي ببدنه، أو عصابته، أو ماله، أو جاهه، فيعتدي على الضعيف، فيفتك بجسمه، أو ينغمس في عرضه، أو يتناول ماله بغير حق، ويخرج بما يفعله عن الإنسانية. قال محمد بن كعب في كتاب له يصف الإنسان الكامل: "وإذا غضب، لم يخرجه غضبه عن الحق، إذا قدر لم يتناول ما ليس بحق له". وللحكام العادلين قصص كثيرة في مكافحة الظالمين، وأذكر منها: أن رجلاً من العامة دخل على مجلس المنصور بن أبي عامر، وقال له: إن لي مظلمة عند الوصيف الذي على رأسك، وقد دعوته إلى الحاكم، فلم يأت، فقال المنصور للوصيف الذي على رأسه: انزل صاغراً، وساو خصمك! وذكر العامي قضيته، فقال المنصور لصاحب الشرطة الخاص بمجلسه: خذ هذا الوصيف إلى صاحب المظالم ينفذ عليه حكمه بما يوجبه الحق من سجن وغيره. وأبعدَ الوصيفَ عن الخدمة. ويؤخذ من هذه القصة التي قصها صاحب "نفح الطيب" أنه كان في الأندلس وظيفة صاحب المظالم. وتقترب الأمة من الحرية بقدر ما تقل فيها المظالم، وقد قضيت في ألمانيا سنة وأربعة أشهر تقريباً لم أر أحداً يرفع صوته على آخر بالشتم، أو يرفع يده لأذيته، فأقول: هذا من خلق القرآن الكريم؛ إذ جمع الحرية الفاضلة في قوله تعالى: {تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]. والطغاة من الناس من تقل مظالمهم في أيام الحكام العادلين، يخشون

صولتهم من جهة، ويحاكونهم في آدابهم من جهة أخرى، ولأن الحاكمين العادلين قد يسدون بحسن تدبيرهم كثيراً من الحاجات الداعية إلى ارتكاب ظلم، فالعدل يجعل الأمة في سلام داخلي؛ حيث يبث الألفة والأخوة بين الأفراد، كما يجعلها في سلام خارجي؛ حيث ينهض بها إلى أن تدافع عن كيانها وحقوقها بما تملك من قوة. وقد تصدر المظالم من المتولي شؤون القوم، وتكون نفسه زكية، فيعرف كلمة الحق إذا ذكرت له. وأذكر بهذا: أن الخليفة عبد الرحمن الناصر احتاج إلى شراء دار، فذكرت له دار الأيتام في حجر القاضي منذر بن سعيد البلوطي، فندب من يقوِّم الدار. ثم خاطب القاضي ببيعها منه. فقال القاضي: الدار لم يصبها وهن، ولا الأيتام في حاجة إلى النفقة، فإن أعطاهم أمير المؤمنين الثمن الذي تثبت به الغبطة، أمرت وصيهم بالبيع، وإلا فلا. فأظهر الخليفة الزهد في الدار. وخشي القاضي أن تصدر من الخليفة عزمة يلحق الأيتام منها ضرر، فأمر بنقض بناء الدار، وباع أنقاضها بأكثر مما قومت به للخليفة. فسأله الخليفة عن سبب نقض الدار، فذكر له قول الله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]. فقال الناصر: نحن أولى من ينقاد إلى الحق. ويدلكم على أن كلمة الحق من العلماء الناهضين يريدون بها وجه الله، لا تنتج إلا خيراً: أن صاحب تونس كان يكرم العلماء، ويقربهم من مجلسه. فقال لهم ذات ليلة: نحن ملوك الآن، أحسن من الملوك السابقين،

فقال له الشيخ حمودة الريكلي: في أي شيء أنتم أحسن؟ فقال: إن الملوك السابقين كانوا يقتلون العلماء، ونحن نكرمهم ونقربهم من مجالسنا. فقال له الشيخ: الأمر ظاهر، فإن الملوك السابقين كانوا يفعلون المنكر، ويعترض عليهم العلماء، فيقتلونهم، ونحن نسكت لكم عما تفعلونه، فلماذا تقتلوننا؟؟ فغضب الأمير، ودخل إلى داره. ثم أرسل إلى العلماء بأن يذهبوا إلى منازلهم، ويبقى الشيخ حمودة، فذهبوا معتقدين أن الأمير سيعاقب الشيخ بأشد عقوبة. ثم خرج الأمير بعد مدة، وقال للشيخ حمودة: جزاك الله خيراً فيما قلته، وأعطاه في الصباح عربته الخاصة، ونزل بها إلى تونس. ومن ذكر القصة من المؤرخين قال: في هذه القصة ذكر حسن للشيخ والأمير. والحكام العادلون يتلقون الموعظة من العلماء الناصحين بالقبول. دخل أبو بكر الطرطوشي الأندلسي على أمير الجيش، ومن جملة ما وعظه به قوله: وسهّل الحجاب، وانصر المظلوم. وكتب سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز يعظه، ومن جملة ما قاله في كتابه: "إن استطعت أن تأتي يوم القيامة لا يتبعك أحد بمظلمة، فافعل". وقد جرت العادة أن ينجو الإنسان من الظلم إذا استند إلى وجيه يهابه الناس، ونذكر بهذا قول أبي الوليد الباجي: لولا السلطان، لنقلني الذر (¬1) من الظل إلى الشمس. وهذا سبب ظاهر قد يفيد في الدنيا، ويكون سبباً شرعياً إذا كان القلب مع هذا الاستناد متعلقاً بالله. ¬

_ (¬1) الذر: صغار النمل.

والمظلمة لا تغفر إلا أن يعفو صاحبها عنها في الدنيا أو الآخرة، وإذا طلب الظالم من المظلوم تحليله من المظلمة، يكفي في التحليل أن يقول المظلوم: قد عفوت عنك، ولا يلزم الظالم تعيين المظلمة؛ لأن تعيينها قد يبقي القطيعة، أو يزيدها. والقصد صفاء السريرة، وعقد رابطة الألفة والأخوة بين الظالم والمظلوم من جديد. وأذن الشارع للمظلوم أن يكافح الظالم، وخير من المكافحة أن يعفو عنه إذا لم يعتقد الظالم أن العفو نشأ عن ضعف، فيزيد في طغيانه. فإن زاد المظلوم على ما اعتدي به عليه، دخل في دائرة الظالمين. وإن عفا عن الظالم، فقد دخل في زمرة المحسنين. أما من يسمونهم بالمعمرين فلهم في المظالم قصص تملأ أسفاراً، فلا أدري ما أذكر منها وما أدع، وخاطبتني المحكمة الفرنسية سنة 1925 م بإشارة من شيخ المدينة أن أكون عضواً في المحكمة لأحضر حكمها بين الوطني والفرنسي، فامتنعت عن هذه العضوية، ولم أرض أن يصدر الحكم الجائر بحضوري. والله ولي كل رشاد وسداد.

ما يلاقيه العلماء من المكاره

ما يلاقيه العلماء من المكاره (¬1) شأن علماء الشريعة أن يكونوا حُفَّاظاً على خزائن الدين، لا يبالون بما يلاقونه في حفظها من الأذى؛ كالسجن، وضرب السياط، والقتل، والإخراج من البلد الذي استقر أمره فيه، والعزل من الوظيفة. ولكن منهم من يتوهم الأذى من قوي لا يهتم بأمر الشريعة، فلا يبالي أن يؤثر رضا المخلوق على رضا الخالق، ويقبض يده على حفظها، بل من هذه الطائفة فريق ينكر حقائق الشريعة، ويتأول القرآن والحديث النبوي على ما يشتهي. وقد وجد أعداء الإسلام من هؤلاء مساعدين على إنشاء جمعيات لتفريق كلمة المسلمين؛ كالبهائية، والقاديانية، وغيرهما. ولكن القرآن الكريم وسيرة العلماء الذين خدموا الدين بإخلاص قد أبقيا على الإسلام رونقه، ولم يستطع أولئك الغربان أن يدخلوا فيه فساداً يعسر علاجه، وإن كثر عددهم، وإن الحق المبين في جانب الفريق الذي قام على حفظ خزائن الشريعة. فسعيد بن جبير لما ظفر به الحجاج، قتله؛ لأنه بايع ابن الأشعث، ودارت بين الحجاج وسعيد مناظرات عند قتله تدل على أن سعيداً يخشى الله، ولا يهاب الموت. وسعيد بن المسيّب أحد الفقهاء السبعة ضربه أمير المدينة أسواطاً بإذن ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد العاشر من السنة التاسعة.

عبد الملك بن مروان حين لم يبايعه، وعرضت على ابن المسيّب وجوه تقيه الضرب بالسياط لو فعلها، ولكنه امتنع، ورأى راحة نفسه في التمسك بما يراه حقاً. والإمام أبو حنيفة طُلب لولاية القضاء في بغداد والكوفة، فامتنع ورعاً وزهداً، فضُرب أسواطاً، ولم يقبل القضاء. والإمام مالك أفتى بعدم لزوم يمين المكره، والمبايعة تتضمن يميناً، ولما أمره الأمير بالرجوع، أبى، فضربه أسواطاً، وازداد رفعة بين الناس. ودخل سفيان الثوري على الخليفة المهدي، ووعظه بعظات بالغة، فقال المهدي: اكتبوا عهداً بولاية القضاء في الكوفة لسفيان الثوري، فكتبوه وأخذه، ولما خرج، رمى العهد في نهر الفرات، واختفى، ولم يروا له أثراً حتى تولى قضاء الكوفة شريك النخعي. وعلماء الشريعة قد يتورعون عن ولاية القضاء؛ لأن القضاء معرفة الأحكام، وتطبيقها على الوقائع الخاصة، وقد يقع الخطأ في التطبيق، بخلاف الفتوى؛ فإنها الإخبار عن الأحكام الشرعية، وأما تطبيقها على الوقائع الخاصة، فيحتاج إلى فهم آخر، ومن أجل ذلك امتنع الشيخ إبراهيم الرياحي التونسي من ولاية القضاء، وفر إلى زغوان، وولي بعد ذلك الفتوى، فقبلها. وانظر سيرة أحمد بن حنبل إذ امتنع من القول بخلق القرآن، فسجن، وضرب بالأسواط، وهو مصرّ على القول بأن القرآن قديم. وكذلك البويطي صاحب الإمام الشافعي، حمُل من مصر إلى بغداد، وأُمر بأن يقول: القرآن مخلوق، فأبى، وسلك طريق أحمد بن حنبل، فضرب وسجن، ومات في السجن

وسجن عالم تلمسان الشيخ ابن مرزوق؛ لأن سلطان تلمسان خطب ابنة أمير تونس، فامتنعت البنت واختفت، فاتهم ابن مرزوق أنه عالم بالمكان الذي اختفت فيه. وسجن ابن خلدون في عهد أبي عنان بفاس، وعلّل لسان الدين بن الخطيب ذلك السجن ببعده عن حسن التاني، واعتزازه بفهمه، وجودة إدراكه. وسجن إبراهيم أبو علاّق، حيث خاطب أمير تونس، وكان وزيره خازن دار حاضراً، بقوله: باشر بنفسك أمر الملك سيدنا ... فإن توكيل بعض الناس تمهيل ففهم الوزير أنه المقصود بهذا البيت، وسجنه مدة طويلة، ثم أطلقه. والسجن محنة وبلاء للإنسان. وروى لنا أستاذنا أبو حاجب: أن وزيراً قال للملك: لا أرى السجن تعذيباً لأحد؛ فإن الإنسان يجلس في مكان، ويأتيه أكله وشربه إلى أن يخرج من السجن، فقال الملك للسجّان: هيئ مكاناً لفلان، وأعطه ما يطلبه، وقال للوزير: هناك مكان في الحبس تقيم فيه، وانظر: أفي الحبس تعذيب أم لا؟ فقال: نعم، فجلس في الحبس بعض يوم، وصادف أن اجتمع برجل لا يفهم ما يقال له، فقال للسجّان: قل للأمير: قد عرفت في هذا اليوم مقدار عذاب السجن، فأمر بإطلاقه. وعذاب الحبس من جهتين: من جهة أنه يصاحب الإنسان فيه من لا يلائم ثقافته وأخلاقه وذوقه، ومن جهة أنه يبعد الإنسان عن الحرية؛ حيث يمنعه من التقلب في الأماكن التي يريدها. وأذكر بهذه المناسبة أني قلت حين دخلت إلى المحجر الصحي بلبنان،

وهي بلدة المريجات: بين المريجات ما تحلو مناظره ... للعين لكنّ نفسي سامها ضجرُ والنفس تضجر من دار المقام على ... رغم وإن كان من سمّارها القمرُ وقد يؤذى العالم بالنفي من البلد الذي نشأ فيه، أو استقر به حاله؛ كما نفي ابن حزم من قرطبة إلى قرية خارجها، ونفي القاضي الحفيد ابن رشد إلى مراكش، وأحرقت كتبهما، وحب البلد الذي نشأ فيه الإنسان واستقر به أمر طبيعي، كما قال ابن خميس حين بعد عن تلمسان متشوقاً إليها: تلمسان لو أن الزمان بها يسخو ... منى النفس لا دار السلام ولا الكرخ وقال ابن الرومي: وحببّ أوطان الرجال إليهمو ... مآرب قضّاها الشباب هنالكا وقد يعاقب العالم بالعزل من وظيفته، بناء على أن العزة والرفعة بين الناس إنما نالها بالوظيفة. وحكى لنا أستاذنا أبو حاجب: أن عالماً من العلماء أنكر على الأمير بعض المظالم، فقال له: قد عزلتك من الفتوى والإمامة والتدريس بالمسجد الفلاني! فقال له العالم: عندي وظيفة أخرى، لا تستطيع أن تعزلني منها، وهي مقامي العلمي، لا تستطيع أنت ولا غيرك أن يعزلني منه، وهو الذي يهمني. وقد يهدد العالم إذا لم يُفْتِ بما طُلب منه، ولا يتخلص من التهديد إلا أن يذكر للفتوى ضرراً يعود على المستفتي، وأذكر لهذا مثالاً: أن بعض

الأمراء أمر المفتي بأن يفتي على وجه يخالف الشرع، فامتنع المفتي من الإفتاء، فهدده الأمير بوعيد شديد، فقال له المفتي: إن بلاد الإسلام عامرة بعلماء الشريعة، فيقولون: إن الأمير فلاناً ولّى في مصر مفتياً جاهلاً بشريعة الإسلام! ولما علم الأمير أن في تهديده ضرراً خاصاً يتعلق به، عدل عن الاستفتاء. وقد يخرج العالم من البلد إذا عرف أن البلد سيقع في يد من لا يرعى للإسلام حرمة، ولا يؤمن به، كما خرج أبو عبد الله بن الأزرق من غرناطة إلى تلمسان؛ حيث استطال على غرناطة عدوّ لها، والعلامات تدل على أنه سيأخذها لا محالة. وقد يضيق على العالم أمر العيش، فينتقل إلى بلد يكون العيش فيه أوسع، كما ذكر المؤرخون: أن القاضي عبد الوهاب بن نصر خرج من بغداد لضيق عيشه فيها، ونزل في مصر، فلقي من أهلها احتفاء، وتولى القضاء بها إلى أن توفي، ودفن بالقرافة. وقد يتنكر أمير البلد للعالم، فيترك العالم البلد الذي تنكر أميره إلى بلد آخر لا تمتد إليه سطوته؛ كما وقع لابن خلدون حين تنكر له أمير تونس، فرحل إلى مصر، وعاش بها إلى أن توفي، ودفن بمقابر الصوفية، المسماة الآن: باب النصر. وقد يصدر من ولي الأمر شيء مخالف للدين، ويتعذر على العالم كفّه، فيغادر العالم بلده إلى بلد آخر؛ كما وقع لعز الدين بن عبد السلام حين أعطى الأمير مدينة صفد للإفرنج، فغضب العز، وترك الدعاء له في خطبته، ورحل إلى مصر، وتولى القضاء بها، وارتفع شأنه، وبقي بها إلى

أن توفي عزيزاً مكرماً. والعلماء يقيسون رقي الاجتماع بالموافقة للدين، والتمسك بأحكامه، ومن ذلك أن عالماً مغربياً مرّ بمصر في طريقه إلى الحج، فلما رجع إلى بلده، سئل عن مصر، فقال: من لم ير مصر، لم ير عز الإسلام.

ما يلاقيه العلماء من سماحة أهل العلم

ما يلاقيه العلماء من سماحة أهل العلم (¬1) شأن العالِم أن يقدُر العالِم قدره، ويرعى ما يستحقه من حفاوة وإجلال؛ لأنه عرف قيمة العلم، وقيمة من يبذل العناية في تحصيله، ولولا العلم، لعاش الناس في حياتهم بعيدين عن الرشد، قريبين من الضلال كما كانوا في جاهليتهم. وقد جرى على هذا الشأن أئمة علماء الشريعة، فالتقى الإمامان أبو حنيفة، ومالك، وشهد كل منهما لصاحبه بالفطنة والعلم والفهم، وما نسبه بعضهم إلى مالك من أنه قال في أبي حنيفة: إنه أضلَّ الناسَ بالرأي، فقد كذّب ذلك أصحابُ مالك، وممن كذّبه: أبو الوليد الباجي في كتاب "المنتقى". فابو حنيفة روى عن مالك بعض الأحاديث كما هو ثابت في "مسند أبي حنيفة" - رضي الله عنه -، وروى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة "الموطأ" عن مالك، وعبد الله بن المبارك من أصحاب أبي حنيفة، وكان مالك يجلّه، وأبو حنيفة في علمه وزهده وتقواه لا يقول مالك فيه هذا القول. وسمع الإمام سفيان الثوري بقدوم الإمام الأوزاعي للحج، فخرج لتلقيه في ظاهر مكة إكراما له. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني عشر من المجلد التاسع.

وبعث الإمام الليث برسالة إلى الإمام مالك معترضاً بعض الأصول التي رآها مالك منزعاً للشريعة، وأجابه مالك برسالة ذكر فيها وجه ما ذهب إليه، وسنده، وقد تجلى في الرسالتين احترام كل منهما لصاحبه، ورعاية أدب البحث والنقد، فلم يخرجا عن موضوع بحثهما، ولا مسَّ أحد منهما كرامة الآخر. وهاك نموذجاً من رسالة الليث للإمام مالك - رضي الله عنه - يناقشه في مسائل اختلف فيها أهل المدينة وغيرهم من أهل الأمصار، فاستفتح الرسالة بقوله: "سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو. أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة، قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرّني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه". ثم انتقل إلى سرد المسائل التي فيها الخلاف في أسلوب يتحلى بالوقار والإجلال حتى ختم الرسالة بقوله: "وأنا أحبّ توفيق الله إياك، وطول بقائك، لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك وإن نأت الدار. فهذه منزلتك عندي، ورأي فيك، فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إليّ بخبرك وحالك، وحال ولدك وأهلك، وحاجة إن كانت، أو لأحد يوصَلُ لك، فإني أسرّ بذلك. والسلام عليكم ورحمة الله". وصحب الإمام الشافعي الإمام مالكاً مدة، وأخذ عنه "الموطأ"، وكثيراً من الفقه، ومخالفته لآراء مالك في الشريعة لا تقدح في أقواله المشتملة على

إجلال مالك وتعظيمه؛ كقوله: فما أحد أمنّ عليّ من مالك، وجعلت مالكاً حجة فيما بيني وبين الله - سبحانه وتعالى -. وأثنى الإمام مالك على الإمام الشافعي بالحفظ والفهم. والتقى مالك وأبو يوسف القاضي صاحب الإمام أبي حنيفة على بساط الكرامة والإنصاف. ومما أخذه أبو يوسف عن مالك: أن زكاة الفطر خمسة أرطال وثلث رطل بغدادي، بعد أن كان يقول: إنها ثمانية أرطال، لمّا أراه مالكٌ الصيّعانَ التي توارثها أهل المدينة من أسلافهم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان بين يحيى بن معين وأحمد بن حنبل صحبة وألفة واشتراك في الاشتغال بعلم الحديث، وروى أحمد بن حنبل عن يحيى بن معين بعض الأحاديث، وكان من أقرانه، ولم يجد أحمد بن حنبل - مع عظم شأنه - غضاضة في أن يروي عن يحيى بن معين، وهو من أقرانه. ووصف جماعة من أكابر العلماء الإمام الغزالي، وأطلقوا أعنة القول في الثناء عليه، منهم: الحافظ أبو بكر بن العربي، وقال بعضهم لما التقى بالغزالي: من اجتمع بالغزالي، وجده فوق ما يتخيل من العلم والفهم. وقد دخل عالم تلمسان (ابن مرزوق) جامع الزيتونة، فوجد الشيخ ابن عرفة يدرّس قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف: 36]. ويستعرض وجوه القراءة والإعراب في الآية، فعرض لوجه غامض منها، وسأل طلبته عنه، فلم يجيبوا، وأجاب ابن مرزوق، قال - أي ابن مرزوق -: وكنت قريب عهد بحفظ كتاب "التسهيل"، فبينت الوجه وشاهده من كلام العرب، فقال ابن عرفة: لعلك ابن مرزوق! وأكرمه واستضافه.

ومدح ابن مرزوق ابن عرفة بأن عادته الإنصاف في المذاكرة. ودخل عالم توزر (¬1) الشيخ إبراهيم أبو علاق جامع الزيتونة، فوجد أستاذنا سالماً أبا حاجب في أحد الدروس، فباحثه الشيخ أبو علاق حتى أبرمه، وهو لا يعرفه، فدعا ملاحظ المسجد لإخراجه، فخرج الشيخ أبو علاق، وابتدأ قصيدة قال في مطلعها: تقاصرت مذ أبدى التطاول سالم ... وسالمت والقاصي المكان يسالم فلما سمع الأستاذ القصيدة، وعرف أنه من العلماء الأدباء، ذهب إليه، واعتذر له، وأكرمه، واستمرت الصحبة بينهما. والكاتبون في تراجم العلماء يقولون عند تزكية كثير من العلماء: "إن فلاناً لم يقل في أحد سوءاً"، وهذا كثير في "الشقائق النعمانية". ومن لم يقل في أحد سوءاً، كسب حمد الناس ومحبتهم، سواء أكان من العلماء، أم من غيرهم. ومن خلق العلماء الراسخين تقريبُ إخوانهم من الحاكم الذي يختصهم بمودته؛ كما صنع أبو بكر محمد بن الطفيل إذ قرب القاضي الحفيد ابن رشد وغيره من العلماء المحققين من الخليفة يوسف بن عبد المؤمن، وكما فعل الحافظ ابن حجر إذ نوّه بشأن الأستاذ محمد بن يحيى الأندلسي عند الأشرف، فأقبل عليه، وولاه قضاء المالكية بالقاهرة. فتلك الأمثال تبين ما كان عليه العلماء من السلف الكريم من التآخي والمحبة والإيثار، وتلك طبيعة العلم إذا تمكن من الروح، ولم يكن نظرياً ¬

_ (¬1) مدينة تونس.

صرفاً؛ فإنه يطبع الأخلاق والأعمال على الإحسان والمجاملة والمروءة، ولذلك زكى الله - سبحانه وتعالى - العلماء أكرم تزكية، وأثنى عليهم أجمل الثناء بقوله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. ومن خشية الله: محبة العلم وأهله؛ كما جاء في ترجمة ابن الحاجب، فقالوا: إنه كان محباً للعلم وأهله، وكذلك كان شأن العلماء من قديم الزمان، فمما يؤثر عن أرسطو قوله: "الصّداقة لا تدوم إلا بين الفضلاء". والآية الكريمة تقرر ما هو أجمل من هذا وأجل إذ تقول: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف: 67]. فبينت أن الأهوال لا تؤثر على الصداقة عند العلماء الأتقياء. وأمنيتنا في تحرير هذا المقال أن يستمر العلماء على الألفة والتوادد؛ حتى يمكنهم القيام بأمر الدعوة إلى الدين الحق على كمل وجه، ويحافظون على أدب البحث مادام المخالف طالباً للحق بقلب سليم، أو مادام ذو الرأي لم يخرج عن دائرة الإسلام المعروفة بين المسلمين.

ما يلاقيه العلماء من سماحه الأمراء

ما يلاقيه العلماء من سماحه الأمراء (¬1) جاء الكتاب الحكيم والحديث النبوي بحكم بالغة، وعقائد ثابتة، وأحكام عادلة، ودلائل قاطعة، وقد نظر فيها العلماء اليقظون بإمعان وفكر ثاقب، واستنبطوا منها على طريق الدلالة العربية ما يلائم الزمان والمكان، وأدرك الأمراء الموفقون حكمة الكتاب والحديث، وما استنبطه العلماء منهما بعقول مستنيرة، وقلوب سليمة، فأكرموا العلماء، ولاقوهم بسماحة وصدر واسع، واتفق العلماء والأمراء على إجراء الإصلاح بين طوائف المسلمين، ومن أقام في جوارهم. وما زال نور الكتاب الكريم يتجلى لكل ذي عقل كبير، ونفس مستبصرة تنشد الحق أينما كان. وأذكر بهذه المناسبة: أني لقيت مستشرقاً ألمانياً أثناء مقامي في ألمانيا دخل الإسلام لمعاشرته عالماً مسلماً، وصله بالثقافة الإسلامية، ووقفه على شيء من أسرار كتاب الله، وسنة رسوله، فانشرح صدره للإسلام لما آنس من رشده وحكمته، وقد وصف صديقه العالم فقال: ما رأيت عالما مثله قط. وبمثل هذا العالم المستنير اهتدى الناس، واقتدى الحكام والأمراء في مختلف الأعصار، واحتفوا بهم، وبالغوا في إكرامهم. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الحادي عشر من السنة التاسعة.

ومن ذلك: ما رواه المؤرخون في إكرام الخليفة عبد الرحمن الناصر لأبي علي القالي عند وفوده عليه بالأندلس، فقد أمر الخليفة ابنه الحاكم بالخروج إلى ظاهر قرطبة، ومعه وفد من خواصه؛ لتلقيه تكرمةً له، وكما أوفد ابن الأحمر سلطانُ غرناطة وفداً من حاشيته للقاء ابن خلدون حفاوة به. ومن هذين الخبرين يظهر حرص الأمراء على إكرام العلماء قبل لقائهم لمجرد سماعهم بمنزلتهم في العلم. وكان الأمراء إذا سافروا، صحبوا العلماء؛ ليتولوا تبيين الأحكام إذا سئل عنها الأمير. ومن هؤلاء: هارون الرشيد؛ فقد صحب عبد الله بن المبارك في سفر، فلما نزلوا في بعض المنازل، التفث الناس حول ابن المبارك، وقالت جارية لهارون الرشيد: من هذا الذي أحاط الناس به؟ فقال لها: هذا عبد الله بن المبارك عالم خراسان. قالت: هذا واللهِ المُلْك، لا مُلكُ هارون الذي لا يساق الناس إليه إلا بالشُّرط والأعوان. وروي أيضاً: أن أرخان سلطان تركيا عندما أزمع سفراً، زار شيخ العلماء، وطلب منه أن يرسل معه أحد الشيوخ الذين حوله؛ لأن الناس يسألون السلطان عن الأحكام، وهو لا يعرفها، فيجيبهم الشيخ. وكان العلماء موضع ثقة الأمراء، وائتمانهم على الأسرار وعظائم الأمور، فكانوا يوفدونهم في السفارة إلى الملوك والأمراء؛ لعلمهم بأحوال الاجتماع، وما ينبغي لهذه المهام من حكمة وحسن تات للأمور، فأوفد ملك غرناطة ابن خلدون إلى ملك إسبانيا، وأوفد ابن الأحمر لسان الدين بن الخطيب إلى أمير مراكش، ويذكرون: أنه أنشد بين يدي الأمير قصيدة أعجبته، فاستجاب

لما أوفد فيه قبل أن يجلس ابن الخطيب، فقيل: لم يظفر أحد بجواب رسالته قبل جلوسه غير ابن الخطيب. ومن الأمراء من كانوا يحتملون من العلماء شدة موعظتهم وغيرتهم على الدين، وغضبهم للحق: خطب منذر بن سعيد البلوطي عالم قرطبة خطبة الجمعة بحضرة الخليفة الناصر، فعاب من يسرف في البناء وتشييد القصور، وإنفاق أموال المسلمين في زخرفة البناء، حتى تلا قوله تعالى في قوم عاد: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 128 - 129]. فغضب الناصر، واستاء من تعريض الخطيب به، وشكا ذلك لابنه الحكم، الذي أشار عليه بعزله، فقال الناصر: أمثل المنذر في علمه وتقواه نعزله طاعة لنفس أمارة بالسوء؟! وأبى ذلك. ويروى: أن ابن بشير قاضي قرطبة تقدم إليه أحد الخصوم، واستشهد بالخليفة الناصر، فقال له القاضي: ائتني بشاهد عدل، وسمع بذلك الخليفة، فسال ابن بشير: لماذا لم تقبل شهادتي؟ فقال ابن بشير: لو طلب مني المدعى عليه الإذن له في تجريحك، لوجب أن آذن له!. فأضاف ابن بشير إلى نزاهته: حسنَ بصره بالسياسة والقضاء. ويذكر الرواة للشيخ عز الدين بن عبد السلام موقفاً جليلاً في الشام حين أعطى الصالح إسماعيل الملقب بأبي الجيش مدينة صفد للصليبيين، فغضب الشيخ لذلك غضباً شديداً، وترك الدعاء له في خطبة الجمعة، فساء ذلك العمل الملكَ وأحفظه عليه، وخرج العزّ مهاجراً إلى مصر حيث تلقاه

الملك الصالح أيوب ملك مصر بالتكرمة والإعزاز، وولاه قضاء مصر، والخطابة في جامع عمرو. ومن شواهد رعاية الأمراء للعلماء المعرضين عن مظاهر السلطان: ما كان ليحيى بن يحيى من المنزلة الرفيعة عند أمراء الأندلس، حين كان يمتنع عن ولاية القضاء، ويشير بشيوخ آخرين، فتقبل إشارته، وتنفذ مشورته. وكان الخلفاء يتقبلون أحكام الشريعة من العلماء برضاً وإذعان، فقد حدّثوا: أن أبا يوسف كان جالساً مع الرشيد، فدخل عليهما يهودي يشتكي من الرشيد، فأعمل أبو يوسف سياسته في التسوية بين الخصمين، فنهض من مكانه بجانب الرشيد، وأمر اليهودي بأن يجلس فيه، وجلس هو أمامهما، وتبين عند نظر الدعوى أن الحق لليهودي، فقضى له، وأنفذ الرشيد حكمه عليه. وكان الأمراء يولون العلماء القيادة العامة إذا أرسلوا جيشاً للحرب؛ تكريما لهم، فهم على ثقة من إخلاصهم، وحماستهم لحماية الدين، كما كان يحيى بن أكثم في بغداد، ومنذر بن سعيد البلوطي في قرطبة. وكان الأستاذ أسد بن الفرات تلميذ مالك بن أنس القائد العام للجيش الذي فتح صقلية، وكان يتقدم الجيش مقاتلاً بنفسه حتى قتل شهيداً. وبعض الأمراء يعجب بالعالم، فيريد أن يحمل الناس على أقواله، فيأبى العالم ذلك؛ إبقاء لحرية القول؛ كما روي عن هارون الرشيد حين التقى بالإمام مالك في المدينة، واطلع على كتاب "الموطا"، أراد أن يحمل الناس على العمل به، فأبى مالك، وأشار إلى أن أقوال المجتهدين في كل مكان حرة، لا يعطلها أولو القوة عن العمل بها ما دامت مستندة إلى اجتهاد بنص شرعي،

أو قاعدة يعتدّ بها. وصفوة القول: أن الأمراء يعظمون علماء الشريعة، ويقدرونهم حق قدرهم؛ لأنهم يقومون بأجل العلوم، وأفسحها مجالاً، وهي علوم الشريعة التي نزلت من السماء. فالعلماء المخلصون، والأمراء العادلون هم قواعد الشعب الإسلامي، فإذا اختلفا في جوانب الثقافة، فينبغي للأمراء أن يراعوا حقائق الشريعة وآدابها، وينبغي للعلماء أن يتحروا ما راعته الشريعة في نصوصها وقواعدها من مصالح المسلمين، فبذلك يلتقي العلماء والأمراء على رعاية حقائق الشريعة، ومصالح الجماعة الزمنية، فتنهض الأمة على قدميها، ولا يجد الناقد المنصف موضعاً للنقد، ولو حرص كل الحرص على أن يجد سبيلاً للمؤاخذة والتجريح.

المال المباح في الإسلام

المال المباح في الإسلام (¬1) حرم الإسلام أشياء؛ لمفسدتها في ذاتها، فلا يجوز للإنسان بيعها، ولا شراؤها، ولا امتلاكها؛ كالدم، والميتة، والخنزير، والخمر، وحرّم أشياء بالنص الصريح؛ حيث لم يحصل للإنسان سبب ملكها؛ كالمعصوب، والمسروق، والرشوة، والميسر، والربا. واتفق العلماء على أن الإنسان إذا عرف الشيء المحرم بعينه؛ كالمغصوب، والمسروق، والرشوة، لا يجوز له قبوله، ولا التصرف فيه لنفسه، فإذا عرف صاحبه، رده إليه، وإذا لم يعرف صاحبه، تصدق به على الفقراء، أو صرف في المصلحة العامة بالعدل. ومن الناس من يكون في ماله حرام وحلال، سواء كان الحرام أقل أو كثر، ولم يعرف الحرام بعينه؛ كأموال السلاطين والأمراء، فأكثر علماء السلف على قبول جوائزهم، وأكل طعامهم. وقد ألّف الحافظ ابن عبد البر في ذلك رسالة؛ حيث عاب عليه أهل بلده "شاطبة" أكل طعام السلطان. وقد أجاز قبولَ جوائزهم، وأكل طعامهم جماعةٌ من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الحادي عشر من السنة العاشرة.

كزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وعثمان بن عفان، والشعي، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وابن شهاب الزهري، والحسن البصري، وغيرهم من علماء الكوفة والبصرة. وكان سعيد بن المسيّب وابن سيرين يمتنعان عن قبول جوائز السلاطين، وأكل طعامهم، فلا يقبلان جائزة من سلطان، ولا يأكلان لهم طعاماً؛ نظراً إلى أن في أموالهم كثيراً مما هو محرّم. فالحاكم الأعلى من خليفة وغيره، لا يجوز له أن يتناول من بيت مال المسلمين إلا ما تدعو إليه حاجته، وكذلك كان الخلفاء الراشدون، وعمر ابن عبد العزيز، إذ طبقوا أوامر الإسلام على سيرتهم، مع الورع والخوف من الحساب. وروي: أن أسد بن الفرات كان يقبل جوائز الولاة، ويقول: هذا بعض حقنا، والله حسيبهم في الباقي. وكان بعض العلماء المتورعين دخلوا على ملك، فقدّم لهم طعاماً، فاعتذر بعضهم بالصوم، واعتذر آخرون بالصوم أيضاً، ولكنهم أخذوا شيئاً من طعام الملك، وأعطوه للفقراء، واقتصر بعضهم على ما يمسك الرمق، إذ كان جائعاً، ويباح له ذلك بإجماع. وسأل ملك الأندلس يحيى بن يحيى الليثي عما يلزمه كفارة عن فطر رمضان بمباشرة جارية له، فأفتاه يحيى بصيام شهرين، واعترض عليه العلماء، حيث لم يفته بالتخيير بين الصيام والإطعام وتحرير رقبة، فقال: لو أفتيته بذلك، لاختار غير الصيام. ومن العلماء من تأوّل فتوى يحيى الليثي بالصيام فقط على أن مال

السلطان أكثره حرام لا تصح منه الكفارة، وتحريرُ الرقبة. والخلاصة: أنه يجوز قبول جوائز الملوك والأمراء؛ كما دلّ عليه عمل السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم، وذلك أيام الخلفاء الراشدين الذين لم يأخذوا مالاً إلا بحقه. ومن لم يقبل جوائز السلاطين، فكان ذلك حين اختلطت أموالهم بالمحرّم، وأصبحوا يتصرفون في أموال المسلمين تصرفهم في خاصة أموالهم. وهنا نذكر أمثالاً توضح بعض الشبه التي يدخل منها الحرام في الأموال لتجتنب؛ استبراء للعرض، وورعاً في الدين؛ فإن الورع يترك ما فيه شبهة، ولو كان ظنه بإباحته أقوى من حرمته؛ حرصاً وتحوطاً. فمن تلك الأمثال: 1 - أنه لو أوصى رجل صانعاً أن يصنع له شيئاً وصفه له، فأتى به الصانع على الوجه المطلوب، فقال أبو حنيفة: إن هذه الصورة لم يقع فيها إيجاب ولا قبول، فلا يعد وصف الشيء، ولا مطابقة الصنع للوصف بيعاً يبيح إلزام الواصف بدفع الثمن للصانع، وقال غيره من أصحابه: يعد ذلك بيعاً يلزم بدفع الثمن، وبهذا القول الأخير أخذت المجلة العثمانية؛ لحرصها على تلمس المصلحة العملية، ولو ضعف القول به في مذهب الحنفية الذي كانت تلتزمه. 2 - وأذكر أني حين كنت في ألمانيا لم آكل من لحوم حيوانهم؛ لأني عرفت أنهم لا يذبحون الحيوان بالطريق الشرعي، إنما يقتلونه بالضرب على رأسه، أو بالخنق، وأخذت في ذلك بقوله تعالى عند تعداد المحرّم من الحيوان:

{وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3]. وهو منطبق على ما يفعلون. 3 - ومن الأمثلة الظاهرة الحرمة؛ لشدة ما فيها من الغرر؛ حتى لا يعلم أحد المتعاقدين ربحه من خسره، ما شاع من عقود التأمين، ومن صورها: أن يتعاقد شخص وشركة على حياته أو عقاره أو سلعته، ملتزماً أن يؤدي للشركة مبلغاً معيناً في مدة معينة على أقساط، فإذا مات قبل نهاية المدة، أو هدم العقار، أو هلكت السلعة، وجب على الشركة أن تؤدي إليه أو لورثته المبلغ المتعاقد عليه، ولو لم يدفع منه إلا قسطاً واحداً، وحينئذ يأخذ مالاً بغير وجه شرعي، وأمثال هذه العقود محرمة؛ لأنها مبنية على المخاطرة والغرر الذي من أجلها حُرِّم الميسر، وأظهر في الغرر والمخاطرة والتحريم: ورق (اليانصيب)، فهو ميسر وقمار محرم شرعاً. 4 - ومن محدثات الحرام: ما شاع بين الناس من أداء بعض الأموال لترك منزل منخفض الإيجار بحكم القانون، وهو المعروف (بخلو الرجل)؛ فإن المال المدفوع في هذا السبيل، سواء كان للمستأجر القديم، أو لصاحب المنزل، هو من قبيل كل أموال الناس بالباطل؛ إذ يحصل عليه آخذه دون مقابل أو استحقاق، وبغير وجه شرعي. 5 - وننبه هنا مزيد تنبيه بعض التجار الذين يغتنمون الفرص لاحتكار السلع ورفع الأسعار؛ لينتفعوا بإرهاق المسلمين، ونحذرهم مما في ذلك من شديد الحرمة والإثم الكبير. ما أحرى المسلمين أن ينزهوا أنفسهم وأموالهم ومطاعمهم ومعايشهم عن الحرام، ويتقوا مواطن الشبهات، فمن اتقاها، فقد استبرأ لدينه وعرضه،

ومن واقع شيئاً منها، كان كالراتع حول الحمى، يوشك أن يقع فيه، والنصيحة الخالصة لعلمائهم: أن يتثبتوا غاية التثبت قبل الإقدام على الفتيا؛ فإنها مسؤولية كبيرة، ولاسيما إذا كان مناطها الحلال والحرام، والحكم في تصرفات الناس، ولا بأس على من جانبه الصواب في الفتيا؛ لسهو، أو تعجل، أن يرجع إلى الحق، فهو به أحرى، والله ورسوله به أولى، وله أسوة حسنة في أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -، حين أراد أن يحدد المهور بدراهم معدودة، ويحرم ما زاد على ذلك، فلما نادته العجوز بكتاب الله في قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]. سارع إلى الرجوع عن رأيه إلى هدي ربه، فما أحوجنا إلى إحياء هذه السنن، واتباع هذا الهدي الكريم، ومن أجل تعرض الفرد للزلل في الرأي، جعل الإجماع حجة في الشريعة؛ لأن الحكم يمر على أفراد كثيرين، فيتمحص الرأي، ويتبين الحق، ويقطع الحكم، ويرشد المسلمون.

الطلاق في الإسلام

الطلاق في الإسلام (¬1) خلق الله الرجل في حاجة إلى المرأة، وخلق المرأة في حاجة إلى الرجل، يحتاج كل منهما إلى الآخر من جهة النسل، والعفاف، والتعاون على مرافق الحياة، وجعل الرابط بنيهما القِران، وأودع العصمة في يد الزوج؛ لأن التجارب دلت على أنه أحفظ للعصمة من المرأة، وأوجب عليه صداقها ونفقتها وكسوتها وسكناها، والقيام بشأن النسل الذي ينشأ في حجرها؛ لأن الرجل بطبيعة خلقه أقدر على العمل من الزوجة، وأباح له حل العصمة عندما يوجد ما يقتضيه من الأسباب، وحديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" محمول على الطلاق الذي يقع لغير سبب شرعي. وأسباب الطلاق المعتبرة متعددة: منها: أن يريد الزّوج النسل للمصالح التي يطلب النسل من أجلها، وتكون زوجته مصابة بمرض أو عقم، ولا ترضى بالبقاء مع زوجة أخرى. ومنها: أن يكون في طبعها شراسة؛ بحيث لا يطيب العيش بينها وبين زوجها، والنكاح مبني على حسن المعاشرة بين الزوجين. حدثنا أستاذنا الشيخ سالم أبو حاجب: أنه لما سافر إلى إيطاليا، سأله ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني من السنة التاسعة.

أحد المستشرقين الطليان قائلاً: لماذا أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج يهودية أو مسيحية، وحرّم على المسلمة أن تتزوج يهودياً أو مسيحياً؛ فهذا تعصب من الإسلام. فقال له: ليس هذا تعصباً في الدين، بل روعيت فيه حكمة اجتماعية، هي: أن الزواج يكون ليعيش الزوجان في اطمئنان وحسن معاشرة، والمسلم مؤمن بأن موسى وعيسى رسولان، ومن أجل هذا لا تصدر منه كلمة تسيء إلى المرأة في عقيدتها؛ بخلاف اليهودي أو المسيحي؛ فإنه يرى دين المرأة المسلمة باطلاً، ولا يؤمن برسول الإسلام الذي تعتقد المرأة صدقه، فتصدر منه كلمات تكدر عيشها، ولا يحصل المقصود من النكاح، وهو حسن المعاشرة. وهذا الذي قاله الشيخ قريب مما يلاحظ شرعاً من أن الشارع لا يريد أن يكون لغير المسلم سلطان على المسلم أو المسلمة في أي حال. وقد أشار العلامة أبو البركات بن الحاج إلى بعض الحكم في إباحة الطلاق في وثيقة طلاق كتبها بنفسه عندما طلق عائشة بنت الوزير محمد بن إبراهيم الكناني، ونص الوثيقة: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على محمد وآل محمد، يقول عبد الله الراجي رحمته محمد المدعو بأبي البركات ابن الحاج، اختار الله ولطف به: إن الله - جلت قدرته - كما أنشأ خلقه على طبائع مختلفة، وغرائز شتى، فمنهم السخي والبخيل، وفيهم الشجاع والجبان، والغبي والفطن، والكيس والعاجز، والمسامح والمناقش، والمتكبر والمتواضع، إلى غير ذلك من الصفات المعروفة من الخلق، كانت العشرة لا تستمر بينهم إلا بأحد

أمرين: إما بالاشتراك في الصفات، أو في بعضها، وإما بصبر أحدهم على صاحبه، مع عدم الاشتراك. ولما علم الله أن بني آدم على هذا الوضع، شرع لهم الطلاق؛ ليستريح إليه مَن عيلَ صبرُه على صاحبه؛ توسعة عليهم، وإحساناً منه إليهم، فلأجل العمل على هذا طلق عبد الله محمد - المذكور - زوجه الحرة العربية المصونة عائشة بنت الشيخ الوزير الحسيب النزيه الأصيل الصالح الطاهر المقدس المرحوم أبي عبد الله محمد المغيلي، طلقة واحدة ملكت بها أمر نفسها، عارفاً قدره، ونطق بذلك إراحة لها من عشرته، طالباً من الله أن يغني كلاً من سعته، وشهد على نفسه في صحته وجواز أمره يوم الثلاثاء أول يوم من شهر ربيع الثاني عام إحدى وخمسين وسبع مائة". وقد قال كاتب الوثيقة حقاً. فإذا اتجهت رغبات أحد الزوجين إلى شيء، ووقف الآخر دون تنفيذها، حصل سوء المعاشرة، واختل أمر الوفاق بينهما، وقد يطلع أحد الزوجين في سيرة الآخر على ما يقتضي الفراق بينهما، ولا يحسن بهما أن يطلع عليه غيرهما، فيقع الفراق. وإنا لنعلم أن في الناس من يطلّق لغير سبب معتدِّ به شرعاً؛ جهالةً، أو استهانة، ولا يردعه عن ذلك إلا التعليم الصحيح، والتربية الإسلامية، ونحن نتكلم على ما قرره الإسلام، واتبعه الخاضعون لأمره ونهيه. والذين ينكرون الطلاق في الإسلام يوجهون إنكارهم للزوج، ويظنون أنه يطلق بدافع من هواه، مع أن الطلاق كثيراً ما يقع لتحقيق رغبة الزوجة متى انصرفت نفسها عن الزوج. ولذلك شرع الإسلام الخلع، وهو أن تعطي الزوجة مالاً للزوج في مقابل طلاقها.

وروي في الصحيح: أن امرأة ثابت بن قيس جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالت: يا رسول الله! إن ثابت بن قيس لا أعتب عليه خُلقاً ولا ديناً، ولكني أكره الكفر في الإسلام - تعني: عدم القيام بحقوق الزوج -، ففهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نفسها انصرفت عن ثابت، ولا يستقيم لهما الزواج بعد هذا، فقال لها على وجه الإرشاد والإصلاح: "أتردين عليه حديقته؟ "، قالت: نعم، قال - صلى الله عليه وسلم - لثابت: "اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة". وقد عقد الفقهاء للخلع باباً أوردوا فيه كل ما يتعلق به من فروع. وكان الرجل في الجاهلية يحلف بما يحلف به ألا يباشر زوجته، ويتركها كالمعلقة السنة أو السنتين؛ إضراراً بها، فجاء الإسلام، وحدد الحلف على اجتناب الزوجة بألا يزيد على أربعة أشهر، فإما أن يفيء؛ أي يعود الزوج في أثنائها إلى ملابسة الزوجة، فإن عاد في أثنائها، لم يلزمه طلاق، وإنما تلزمه كفارة اليمين فقط، وإما ألا يعود حتى تنقضي مدة أربعة أشهر، فيلزمه القاضي الفيئةَ، أو الطلاق. ويرى بعض الفقهاء وقوع الطلاق بمجرد انتهاء المدة، وليس المقام مقام سرد الأدلة وترجيح بعضها على بعض، ولكن ظاهر الآية، وهو قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227]. في جانب الرأي الأول. وروي في الصحيح عن أنس بن مالك: أنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه، وأقام في مشربة (غرفة) له تسعة وعشرين يوماً، ثم نزل، فقالوا

له: يا رسول الله! آليتَ شهراً، فقال: "الشهر تسعة وعشرون". وإيلاء كإيلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جائز باتفاق. ومن عرَّف من الفقهاء الإيلاء بأنه الحلف على ألا يقرب زوجته أربعة أشهر فصاعداً، لم يُدخل فيه إيلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لم يكن بهذه الصفة، إنما آلى من نسائه شهراً فقط؛ تأديباً لهن على ما صدر منهن في حقه - عليه السلام -، فهذا إيلاء لم يتكلم عنه الفقهاء؛ لأنه غير داخل في الإيلاء الذي عرفوه. وكان الرجل في الجاهلية إذا قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي، حرمت عليه، وجاء الإسلام فأعطى هذه الكلمة حكماً غير الطلاق، وهو اعتبارها إثماً يجب الكفارة عنه بتحرير رقبة أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكيناً، ولا تحسب طلاقاً. جاء في الصحيح: أن أوس بن الصامت غضب على زوجته يوماً، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي، وندم، واستاءت هي، وحزنت لأولاد لها صغار، فقالت: إن تركتهم له، ضاعوا، وإن أخذتهم، جاعوا، واشتكت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2]. وذكر بعد ذلك الكفارة التي بيناها. وقد عقد الفقهاء للظهار باباً مستقلاً، وأوردوا فيه ما يتعلق بالظهار من فروع. والطلاق تحرمه الديانة المسيحية تحريماً باتاً، إلا إذا ثبتت الخيانة

الزوجية، فتفرق بين الزوجين تفريقاً جسدياً من غير طلاق، بمعنى: أنه لا يجوز لأحد منهما عقد زواج جديد. وهذا الحكم مأخوذ من "إنجيل متى" (5: 33)، ولكن لما قامت في أوربا النظم اللادينية، وانفصلت الدولة عن الكنيسة في التشريع، واعتبرت الزواج عقداً مدنياً لا يراعى فيه أي اعتبار ديني، أبيح الطلاق بحكم من القاضي؛ بناء على قضية يقيمها طلاب الطلاق من الزوجين. وقد وضع القانون لهذا النوع من القضايا شروطاً عسيرة التنفيذ، تطيل زمن التقاضي، حتى يبلغ أحياناً بضع سنين، فإذا ثبت بعد هذا كله ضرورة الطلاق؛ للخيانة الزوجية، أو العقم، أو الضرر الشديد، حكم القاضي بالطلاق. ولشدة هذه الشروط، وعسر التوصل إلى الطلاق، فشا بين الأوربيين أن يتفق الزوجان المتنازعان على الفراق، وسلوك كل منهما المسلك الذي يرتضيه من غير تقاضٍ، ولا إثبات طلاق، وفي هذا من الفساد ما نعيذ المسلمين من التعرض لأمثاله لو أخذوا بتقييد الطلاق. وإن التقييد - مهما يسرت سبله - سيعرض الأسر لفضح الأسرار، وكشف الخطايا، والدين الإسلامي حريص على صيانة الحرم والأعراض. ولو اكتفى بأي بينة، لعاد الأمر إلى أسوأ مما يشتكى منه اليوم من كثرة حوادث الطلاق، فستلصق التهم بالأبرياء، وتقذف المحصنات الغافلات بما يندي له جبين الفضيلة، ويزعزع أركان الأخلاق. ومن ذا الذي يقدم على زواج امرأة وقفت بين يدي القاضي، وقضى عليها بأنها سيئة العشرة، أو عقيم، بل ما هو أشنع من ذلك من الدعاوى؟!. إن الأمر سيزداد تعقيداً ببقاء حوادث الطلاق كما هي، وإيجاد فريق

منبوذ من النساء يتضاعف عددهن كل عام، وهن المطلقات عن طريق القضاء. فليعتبر بهذا من يريدون أن يقلدوا غير المسلمين حتى في الأمور التي ظهر فسادها، ونطقت الحكمة بتجنبها.

تعدد الزوجات في الإسلام

تعدد الزوجات في الإسلام (¬1) كان العرب يعدّدون الزوجات قبل الإسلام إلى عشر نسوة فأكثر، ويسمون المرأة التي تكون مع أخرى في عصمة: (الضَّرَّة)، فيقولون: امرأة مُضِرٌّ؛ أي: ذات ضرائر، ورجل مُضِرٌّ؛ أي: زوج ضرائر. ولما سافر أستاذنا أبو حاجب إلى إيطاليا، دخل المكتبة العربية بها، وتناول كتاباً به أمثال عربية من جملتها العبارة الآتية: كان العرب إذا خطبهم لاعب الشطرنج، منعوه، وقالوا: إنه - أي: الشطرنج - ضرّة ثانية. وقال الشيخ المرتضى في "شرحه القاموس المحيط": وكره في الإسلام أن يقال: لها ضرة، بل يقال: جارة، وكذلك جاء في الحديث. وكره الإسلام هذه التسمية؛ مراعاةً لمعناها الأصلي، وهو أن كلاً منهما تسعى في مضرة الأخرى. ولما جاء الإسلام، أباح للرجل أن يتزوج اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، إن أمِنَ من الجور بينهن، وإلا، وجب عليه أن يقتصر على واحدة، كما قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الحادي عشر من السنة الثامنة.

وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]. أي: فلكل من يريد الجمع أن يتزوج من النساء باثنتين أو ثلاث أو أربم، سواء اتفق الأزواج في عدد زوجاتهن، أم اختلفوا، مع الشرط المذكور، وهو العدل بينهن. وانعقد إجماع المسلمين من أهل السنّة، والظاهرية، والزيدية، والإباضية، والإمامية على إباحة ما صرّح به القرآن من الاثنتين والثلاث والأربع، فلم يقل أحد من المسلمين إنه لا يجوز التزوج بأربع أو ثلاث أو اثنتين. وقرن الله بين العدل في اليتامى، والعدل في النساء؛ إشارة إلى أنهما مسألتان مهمتان في الحياة الاجتماعية، لا تصلح الحياة بالجور على اليتامى؛ كما أنها لا تصلح بالجور على الزوجات في عصمة واحدة، ففي كليهما يستطيع الرجل إذا خُفَي ونفسه أن يتصرف في مال بغير حق، فإن كان ولياً ليتيم، تصرف في ماله بسلطان الولاية، وإن كان زوجاً، تصرف في مال الزوجة بسلطان الزوجية. وحاول بعض أهل العصر، بل زعم أن الإسلام لا يبيح تعدد الزوجات، فإنه شرط للتعدد العدل، ثم قال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]، فنفى استطاعة الإنسان العدل الذي هو شرط للتعدد، فتبطل إباحة التعدد لبطلان شرطه. ولو لم يرد في إباحة التعدد سوى هاتين الآيتين اللتين أوردهما المعاصر، لبيَّنَّا له المراد من العدل فيهما، وحسبنا ذلك، ولكن إباحة التعدد وردت في غير هاتين الآيتين من القرآن أيضاً، والحديث، وعمل السلف الصالح. فقد قال الله تعالى عند ذكر المحرمات من النساء: {وَأَنْ تَجْمَعُوا

بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]. فلو كان الجمع بين الزوجتين في عصمة واحدة ممنوعاً في الشريعة، لاكتفى به عن تحريم الجمع بين الأختين. والعدل في الآية الأولى، أعني: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] المراد منه: العدل في الإنفاق والكسوة والمبيت، والعدل في الآية الثانية، أعني: قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] يراد منه: العدل في محبة القلب، وما يتبعها من آثار لا يستطيع الإنسان أن يحترس منهاة كالنشاط لملابسة زوجة دون أخرى، بدليل قوله تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]. وأما الحديث الصحيح، فقد نهى - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، وهو في الدلالة على إباحة التعدد كقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]. فلو كان التعدد غير مباح، لاكتفى بمنع التعدد عن تحريم التزوج بالمرأة على عمتها أو خالتها. ومنه ما روي في الصحيح: أن الرجل إذا تزوج بكراً، أقام عندها سبعاً، ثم قسم، وإذا تزوج ثيباً، أقام عندها ثلاثاً، ثم قسم. وروى أبو داود، والنسائي، والترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث القَسْم بين الزوجات، والوعيد على الجور فيه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشِقُّه مائل". وورد في الصحيح: أن الصحابة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعددون الزوجات، من ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين سعد بن الربيع الأنصاري،

وعبد الرحمن بن عوف، فعرض سعد على عبد الرحمن أهله وماله، وقال له: انظر أيّ زوجتيّ شئت حتى أنزل لك عنها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلوني على السوق. وورد في الصحيح أيضاً: أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أن يتزوج بنت أبي جهل على فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - فأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع بين بنت رسول الله، وبنت عدوّ الله في عصمة. فاستئذان علي - كرم الله وجهه - دليل على أن تعدد الزوجات مباح في الإسلام، وإنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - منصبٌّ على الجمع بين بنت رسول الله، وبنت عدو الله في عصمة. وإلى مثل هذا يشير العارفون بمقام النبوة حين يقولون: لا يجوز للإنسان أن يأتي عملاً يتأذى منه النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وإن كان ذلك العمل في الأصل مباحاً. وأما أعمال السلف الصالح، فقد روي في الصحيح: أن عبد الله بن جعفر جمع بين بنت علي - رضي الله عنه - وزوجة أبيها بعد وفاته. وروي في الصحيح: أن الحسن بن الحسن بن علي جمع بين بنتي عم له في ليلة واحدة، وهما بنت عمر، وبنت محمد ابني علي. والشواهد من هذا كثيرة لا يمكن إحصاؤها. وخالف بعض من لا يعتد بخلافه، فاباح الزيادة على أربع، وزعم أن معنى مثنى ثلاث ورباع إباحة مجموع هذه الأعداد، وهو تسع. وهذا مردود بالنص؛ لأن المفهوم من الآية لا يفيد إباحة هذا الجمع، ولو كان ذلك مقصوداً، لقال: تسعاً، وكان ذلك أخصر وأبلغ، وعلى هذا النص انعقد الإجماع.

وتعدد أمهات المؤمنين، وبلوغهن إلى تسع زوجات هو خصوصية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد بسط العلماء القول في حكمه السامية، وهي لكثرتها يستدعي التعرض لها مقالاً مستقلاً يتبع فيه بعضها بعضاً. وقد عرف في أصول الشريعة: أن الشيء قد يكون فيه نفع، وتكون فيه مفسدة أعظم من النفع، فينهى عنه؛ كالخمر والقمار، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. فنهى عنهما حيث غلب الإثم على النفع. وقد يكون فيه ضرر، ونفعه أكبر من ضرره، فيأذن فيه؛ كالحرب فيها ضرر، وهو موت فريق من رجال الأمة، ولكن العزة والكرامة التي تنالها الأمة بعد الحرب أكبر من ضررها بدرجة قصوى، فأذن فيها. ومن هذا الباب تعدد الزوجات، فيه ضرر على إحدى الزوجات بمشاركة الأخرى لها في الزوج، وفيه مصالح للزوج والأمة إذا روعي شرطه، وهو العدل بينهن. فالإسلام أباح تعدد الزوجات على وجه الرخصة للرجل بدول طبعية واجتماعية، فقد تصاب الزوجة بمرض يمنع الزوج من ملابستها، أو تكون مصابة بعقم يمنع من النسل، وهو القصد الذي رمى إليه الشارع بالزول، ولتوثيق صلة الزوج بأسرة أخرى تظاهره وتعينه. ثم إن الرجال على فرض مساواتهم للنساء في العدد، فإنهم يتعرضون لأخطار لا يتعرض لها النساء؛ من حرب، ونحوها، فينشأ عن ذلك أن يكون نساء خاليات من رجال يقومون عليهن، ويحفظون حرمهن، ويدفعون عنهن

قالة السوء. والمشاهدة تدل على زيادة النساء على الرجال. وإذا وقع ظلم ممن عد عدّد الزوجات، فلعدم الثقافة الإسلامية، أو التهاون بها، فإذا كافح وليّ الأمر هذه الجهالة، أو التهاون بأحكام الدين، فأرى الناس حقائق دينهم وآدابه بالمعلمين الراشدين، والوعاظ المخلصين، صار تعدد الزوجات على قدر ما تدعو إليه المصلحة الظاهرة، ولا يقع لمجرد حظ النفس والانحطاط في أهوائها. فالتعليم السليم، والعظات البالغة توجد عند الرجال من الأخلاق ما لا توجده المحاكم السائدة. والعيوب التي يذكرها من يدعي ضرر التعدد إنما هي نتيجة الجهل بالتشريع، أو التهاون به، ولا شك أنها تزول بالتهذيب والموعظة، كما كان ذلك من العصور الزاهرة بالدين. فالمنصفون من الناس - ولو من غير المسلمين - يعترفون أن الإذن في تعدد الزوجات مع مراعاة العدل بينهن ضروري في الأمة إذا أرادت أن تعيش في عفاف وعزة بكثرة نسلها، وصيانة أعراضها، وهذا ما توخاه الإسلام في إباحة تعدد الزوجات مع رعاية شروطه.

النظافة في الإسلام

النظافة في الإسلام (¬1) لما كان الإسلام ديناً عاماً لا يختص بقوم دون قوم، وديناً خالداً لا يختص بجيل دون آخر، أتى بكل ما فيه إصلاح الدارين: الأولى، والآخرة. ومما فيه إصلاح الدارين: النظافة، قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح: "إن الله طيب يحب الطيب، ونظيف يحب النظافة، فنظفوا أفناءكم، ولا تشبهوا باليهود". ونظافة الله كناية عن تنزهه عن سمات الحادث، وتعاليه عن كل نقص، وحبه النظافة في غيره كناية عن خلوص إيمانه، ونفي الشرك، ومجانبة الأهواء، ومنها: نظافة الجسم والملبس عن الحرام والشبه. وفرض في اليوم والليلة خمس صلوات، وأوجب لها الوضوء، وهو أن تكون الأعضاء الظاهرة؛ كالوجه، واليدين، والرجلين مغسولة بالماء، مع مسح الرأس، واستحب المضمضة والاستنشاق، وأوجب إزالة ما كان نجساً، ونص على النجس؛ كالبول، والمني، ونحوهما، وما يجب منه الوضوء؛ كالبول، والنوم؛ كما هو مقرر في كتب الأحكام. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الخامس من السنة الحادية عشرة.

وأوجب الوضوء لغير الصلوات الخمس ونوافلها؛ كصلاة الجنازة، وصلاة العيد، وسجود التلاوة، والخسوف والكسوف. وأذن للإنسان بأن يعيد الوضوء، وإن علم أنه متوضع. وشرع الوضوء لمجرد النوم، ففي الصحيح عن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع". وفي الحديث الصحيح عن مزايا الوضوء: أن الأمة يدعون يوم القيامة: الغرّ المحجلين من أثر الوضوء. والغرّ جمع أغر، وهو في الأصل: الفرس الذي في جبهته بياض. والمحجلين: جمع محجل، وهو في الأصل: الفرس الذي في ثلاث قوائم منه بياض، والمراد: معنى النور والكمال. والحديث يشعر بأن المعاصي التي يكون مصدرها أعضاء الوضوء تمحى. وأشار بعضهم إلى هذا المعنى بقوله: يارب أعضاء الوضوء عتقتها ... من عبدك الجاني وأنت الواقي والعتق يسري بالغنى يا ذا الغنى ... فامنن على الفاني بعتق الباقي وقد أشار الشاعر إلى حكم فقهي، وهو: أن من كان له مملوك أعتق جزأه، فإن الإعتاق يسري إلى جميع الأجزاء، فيعتق عليه بكمال. وفرض الشارع على المسلم - ذكراً أو أنثى - الغسلَ لجميع البدن، إذا خرج منه الماء في اليقظة، أو النوم. فإذا كانت امرأة، وجب عليها الغسل إن طهرت من الحيض والنفاس، وعلل الغسل في هذه الأحوال بأنها تجعل الإنسان في شيء من الكسل، وغسلُ جميع البدن بالماء يعيد له النشاط الذي كان عنده. وسن الغسل في كل يوم جمعة؛ ليأتي المسجد وهو نظيف من كل

مكروه، وقد مدح أبو العلاء المعري في لزوميته الشريعة الإسلامية، وقال في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -: وحثَّ على تطهير جسم وملبس ... وعاقب من قذف النساء الغوافل وقد أمر الشارع باجتناب أشياء، ونهى عن الانتفاع بها؛ لقذارتها؛ كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، وأمر بإزالة أشياء شأنها أن يتصل بها ما يتقزز منه؛ كقص الأظفار، وقص الشارب؛ بأن يحفي منه ما طال عن الشفة بحيث لا يتقزز منه الآكل أو الجالس معه. وأمر بالسواك، وأن يكون متخذاً من عود الأراك ونحوه. فقال - عليه الصلاة والسلام - كما في الصحيح: "لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عندكل صلاة". ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن استعمال الإناء الذي ولغ فيه كلب إلا بعد غسله مرات، وعلله بعض الفقهاء بنجاسة الكلب. وعلله الجد ابن رشد في "مقدمته" بتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الأناء مريضاً بداء الكلب، فيخاف من ذلك السم، وأيده الحفيد صاحب "البداية". ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح - عن الشرب من فم السقاء؛ لأنه قد يخالط الماء من ريق الشارب ما يتقزز منه غيره. ونهى - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح - القائمَ من النوم أن يُدخل يده في إناء الوضوء حتى يفرغ عليه الماء مرتين أو ثلاثاً. ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التنفس في الإناء، والنفخ فيه، فقد يتغير الماء بما يتناوله فمه، ويتصل بالمعدة من مكروه.

وتمضمض النبي - صلى الله عليه وسلم - بالماء بعد أن شرب اللبن، وقال "إن له دسماً"، ويؤخذ من الحديث: أن من تناول ما له دسمٌ يتمضمض بعده. ولما كانت رائحة فم الصائم تتغير بالصيام، فيتقزز منها صاحبها، أو من تصل إليه الرائحة، قال - عليه الصلاة والسلام - كما في الصحيح مادحاً لها من جهة أنها أثر عبادة، فقال: "لخلوفُ فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك". وكون الخلوف أطيبَ عند الله من ريح المسك كناية عن قبوله للصيام، ورضاه به. فالإسلام اعتنى بالنظافة، وأعطاها من العناية ما تستحق. قال صاحب "نفح الطيب": وأهل الأندلس أشد خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون، وما يفرشون، وغير ذلك مما يتعلق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه، فيطويه صائماً، ويبتاع صابوناً يغسل به ثيابه، ولا يظهر فيها ساعة في حالة تنبو العين عنها. وأذكر بهذه المناسبة: أن الشاعر الصفاقسي المسمى: الغراب ترك عباءة له عند أحد أصحابه بتونس ليغسلها، ويرسلها له، فتأخر إرسالها، فأرسل له خطاباً يقول فيه: إذا فقد الماء من بلدكم والصابون، وهاد إليكم من بلدنا الجمالون، جاءك الماء مع الذين هادوا والصابون. واقتبس قوله: الذين هادوا والصابون من الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} [الماندة: 69]. ومن عناية الإسلام بالنظافة: وجود الحمامات في بلاد الإسلام كلها؛ كقرطبة، وقد قيل: إن فيها سبع مائة، أو تسع مائة حمام. وإن ما قلت هو الحمامات العامة، وهو ما يسميه صاحب "نفح الطيب"

المبرزة للناس، فإنها في مصر قليلة بالنظر لكثرة سكانها، وإنما قلت: الحمامات العامة لكثرة؛ حماماتها الخاصة، إذ قلما تجد بيتاً أو شقة خالية من حمام. فلا يعتبر من الزهد في الإسلام لبس ثوب غير نظيف، ولا لبس مرقعة لا يراد بترقيعها استدامة الانتفاع بها. قال الحافظ أبو بكر بن العربي: ما حكي عن عمر بن الخطاب من أنه كان يرقع ثيابه، إنما يفعله لاستدامة الانتفاع به، وذلك شعار الصالحين، حتى اتخذه المتصوفة شعاراً، فجعلته في الجديد، وليس بسنّة، وهو بدعة عظيمة. وإنما المقصود من الرقع: هو الانتفاع بالثوب.

العلوم في دائرة الإيمان

العلوم في دائرة الإيمان (¬1) الإيمان: معرفة الله بصفاته العلية، ومعرفة ملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويلزم من الإيمان: الإقرار بشريعة الله، وهي العلم بصحة الأحكام المأخوذة من الكتاب والسنّة، والأصول المستنبطة منهما بالاجتهاد المُعْتَدِّ به، فمن أذعن لهذه الأحكام، واعتقد أنه مكلف باتباعها من الله -عَزَّ وَجَلَّ-، يُعَدُّ محافظاً على مركز دائرة الإيمان، ومن لم يؤمن بها، فقد أفسد مركز الدائرة، وأيّ دائرة يصح وضعها بغير مركز ثابت؟؟!!. وعلم الأخلاق من صلب الدعوة، فالقرآن المجيد، والحديث النبوي عامران بمدح مكارمها، والدعوة إليها، وسيأتي الحديث عنها بسعة في مقال مستقل - إن شاء الله -. والعلم بالأحكام، ومكارم الأخلاق، على الوجه الذي أمر به الشارع، موقوف على معرفة كيف كان العرب يستعملون اللفظ في المعاني التي يهمهم اطلاع المخاطب عليها؟. والطريق إلى معرفة كيف يستعمل العرب الألفاظ في المعاني، هو: علم اللغة والنحو والصرف، وقد قام بها فريق يوثق بعلمهم وروايتهم، ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد التاسع من السنة العاشرة.

فكانت هذه العلوم موصلة إلى الأحكام التي يتوقف الإيمان على الإذعان لها، وذو البصيرة يعرف من الشواهد التي تساق على المسألة المُصِيبَ من اللغويين والنحاة. ولما كانت الشريعة عامة خالدة، جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعجزات شاهدها من حضر في عهد النبوة. وأعظم هذه المعجزات باقٍ ميسَّر إدراكه لمن جاء بعده - صلى الله عليه وسلم -، وهو القرآن الكريم. ومن هنا اعتنى العلماء بالبحث عن وجه إعجازه، ووضعوا علوم البلاغة التي هي: البيان، والبديع، والمعاني. فالبلاغة علومٌ اقتضى وضعها كمال الإيمان، ولما وليت التحرير بالقلم العربي في وزارة الحربية بالآستانة، قدموا لي ورقة لأكتب فيها شخصيتي، وما أميل إليه من العلوم أكثر من غيره، وجهة تخصصي العلمي، فكتبت أني مختص بعلوم البلاغة، وأصول الفقه الإسلامي، وكان بجانبي أحد علماء "شنقيط"، فقال لي: لِمَ زدت وصف (الإسلامي)؟ فلم يسعني إلا أن قلت له: كتبتها لزيادة الإيضاح؛ وقد سمعت من يسمي القوانين الوضعية: فقها، فيضعون بالطبيعة للقوانين الوضعية أصولاً، فتكون كلمة (الإسلامي) للاحتراز من غيره. ولما كانت معرفة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تزيد في الإيمان قوة، ألّف فيها بعض العلماء كتباً خاصة؛ كما فعل القاضي عياض في كتاب "الشفاء"، وغيره، فكان علم السيرة من العلوم التي يزداد بها الإيمان كمالاً. ولما كان علم التاريخ مما يزيد الإيمان طمانينة، والأخلاق حسناً، وأشار إليه القرآن الكريم بقوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5]، صار

من العلوم الداخلة في الإيمان، والمطلوب ممارستها. وإنما يريد الشرع من المؤرخ أن يكتب ما شاهده بنفسه، أو تواتر عن غيره تواتراً صحيحاً، أو أخبره به الثقة الأمين، فلا يُدْخِلُ الكاتب في التاريخ ما يخبر به من ثبت أنه له اتجاهاً غير رشيد يريد ترويجه بين الناس. وفي كتب التاريخ كذب كثير، سببه عدم تحري المؤرخ في الواقعة، أو يكون له اتجاه غير رشيد، فلنبحث عن نفسية كاتب التاريخ ونزعته قبل أن نقرأ ما يرويه من الوقائع، فقد قال بعض من يدّعي معرفة التاريخ قولاً يحط من كرامة بعض الأئمة، ولولا الثقات الكثيرون الذين اتصلوا بهؤلاء الأئمة، وشهدوا بأنهم يتقون الله، ويخافونه في السر والعلانية، لارتاب الناس في سيرتهم، ولم يأخذوا الشريعة المطهرة من أفواههم. والطب يكفي شاهداً على أنه من العلوم الداخلة في دائرة الإيمان: فتوى الفقهاء بالاعتماد على إشارة الطبيب بضرر استعمال الماء في الطهارة، والعدول إلى التيمم، وضرر الصوم في رمضان، وإباحة الفطر في نهاره. وإنما يُنكر على الطبيب إن اعتقد أن الدواء هو الذي شفى المريض من المرض بذاته، لا أن الله جعل الدواء من سُنن الشفاء الكونية، ولو شاء، لعطله عن التأثير. والكيمياء والطبيعة من علم سنن الله في الكون، فمن اعتقد أن الذي ربط سبباً بمسبب قادرٌ على أن يفصل بينهما بتعطيل السبب، وإيجاد سبب آخر؛ كمعجزات الأنبياء - عليهم السلام -، فهو متبع لسبيل المؤمنين. ولما نزلت الشريعة لإصلاح النظام الاجتماعي حتى يستطيع الإنسان أن يعبد الله وهو مستنير القلب، مشروح الصدر، أذن له في تعلم ما تقتضيه

الحكمة، ويستقيم به النظام؛ كعلم الرياضة؛ من حساب وهندسة وجبر، وعلم الجغرافيا، وعلم الفلك؛ وقد قال بعض الأئمة: يجب على القاضي مراعاة الهندسة. وحكى قضية أخطأ فيها قاض جاهل بعلم الهندسة، وأصاب فيها قاض عارف بأصولها. وقد شاع علم أصول الهندسة بين المسلمين، حتى أدخل بعض اصطلاحاتها أحد الشعراء في منظومته، فقال: كأن فؤادي مركز لهم وهم ... محيط وأهوائي إليه خطوط وعلم الجغرافيا غير خارج عن دائرة الإيمان؛ إذ فيه فوائد كثيرة. وأخبرنا أستاذنا الشيخ سالم أبو حاجب: أنه لما سافر إلى الآستانة، سأله أحد قواد الجيش عن حكم تعلم الجغرافيا في الإسلام، فقال له الشيخ: واجب أن يتعلمه طائفة من المسلمين، فقال له القائد: إنه قيل لي: إنه يحرم دراسته، فقال له الشيخ: أنت كبير جماعة من الجيش، لو جاءك الإذن من الحاكم الأعلى أن تذهب بالجيش إلى بلد كذا لتقاتل أهلها، فإذا لم تكن عارفاً بالمسافة التي بينك وبين البلد، ولم تكن عارفاً بما يوجد في طريقك مما يحتاج إليه الجيش، ولم تكن عارفاً بحالة البلد الذي أمرت بمقاتلة أهله، لا يمكنك أن تعد للجيش العدة التي تجب له، وتلقي به في تهلكة؛ وهذا مثال يعطيك أن الإسلام يأذن بكل علم فيه مصلحة. وسمعت أستاذنا الشيخ إسماعيل الصفائحي القاضي ينكر على من منع من تعلم الجغرافيا، ويقول: إن عمر بن الخطاب قال في وصيته لبعض قواد الجيش: "كونوا أعلم بأرض العدو منهم". وتحدث أحد كبار الرجال عن بلد في قارة أوربا، ونسبها في الكتابة

إلى قارة أفريقية، فتندَّرَ به أناس شأنهم أن يتندروا بكل من يخطئ في العلم خطأ فاحشاً. وعلم الفلك داخل في دائرة الإيمان، حتى قال بعض الأئمة: يعتمد ما يقوله الفلكي في ثبوت شهر الصوم، وفي مسائل دلت التجارب على صدقه فيها؛ كالخسوف، والكسوف. وإنما ينكر الإسلام ما يقوله المنجمون عن توهم من غير دليل ثابت؛ كالذي أشار إليه أبو تمام في قصيدته: وخوّفوا الناس من دَهْياءَ مُظْلِمَةٍ ... إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذَّنَبِ بعد أن قال: والعلمُ في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشُّهُبِ والمنطق الذي دونت قواعده مستقلة به في تأليف، أو ذكرت معه الآراء الفلسفية، ورُدَّ على الزائف منها بأدلة كافية، غير خارج عن دائرة الإيمان. وقد أصاب محمد بن عبد الكريم العقيلي في رده على من يقول بتحريم المنطق، إذا قال من أبيات: وما المنطق المعنيّ إلا عبارة ... عن الحق أو تحقيقه عند جهله أريني - هداك الله - منه قضية ... على غير هذا ننفها عن محله والذكي المتنبه إن كتب أو خطب، يدرك الحد والقياس القائمين على صواب من نفسه، ولكن قراءة المنطق تفيد قليل الذكاء، وتسرع بالذكي إلى إدراك الصواب من الحد والقياس. وما المنطق إلا نتيجة تفكير أذكياء. وعلم الحقوق: إن درسه إنسان ليزداد علماً بحكمة الشريعة، فقد

درس ما يزيده إيماناً، وإن درسه ليكثر سواد أهله، ويجاريهم في علومهم، فإلى الله إيابه، وعليه حسابه. والعلم لا يزيد الإنسان رفعة، ولا يعطيه فضلاً، إلا إذا صاحَبه عمل محمود. والتفكير والمشقة التي تحصل من مزاولة العلم لا تعد من وسائل الفضل عند الله إذا لم يصحبها قصد حسن. وقد أصاب علماء البلاغة إذ قرروا في علمهم: أن العالم الذي لا يعمل بمقتضى علمه هو والجاهل سواء. فيحسن إلقاء الخبر إليه، وإن علمه خالياً من التوكيد، كما يلقى إلى الجاهل، واستدلوا بقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]. فأثبت في صدر الآية لهم العلم بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا} ونفاه عنهم بقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. وخلاصة المقال: أن الإسلام يأذن في كل علم يزيد في الإيمان، أو يفيد في النظام الذي قصدت الشريعة إلى إقامته، وأن العلم لا يعد شرفاً بنفسه، وإنما يعد شرفاً إذا صحبه عمل صالح، أو اتجاه مستقيم.

الرفق بالضعفاء

الرفق بالضعفاء (¬1) من أدب الإنسان وسمو أخلاقه: أن يرفق بالناس في أقواله وأفعاله. وبالرفق يمتاز عن بقية الأجسام الحية، ولما دعت عائشة - رضي الله عنها - على اليهودي الذي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: السام عليكم - والسام: الموت -، قال لها النبي - عليه الصلاة والسلام -: "مهلاً يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق في كل شيء". وأذكر في هذا النسق قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. فقد دلت الآية على أن الدفع بالحسنى شأنه أن يجعل العدو كأنه ولي حميم. فما بالك بمن ليس في قلبه عداوة، أو في قلبه شيء من الود؛ فإن الحسنى تجعله موالياً، أو أصفى ولاء، وأعظمَ مودة. وبهذا الخلق العظيم فتح المسلمون تلك الممالك الطويلة العريضة في أقرب وقت. ومن الرفق الذي يحبه الله: اللين في القول، وحسن المعاملة، ويتأكد الرفق إما بالضعفاء في أنفسهم، وهم من ليس لهم مال ولا عصبية ولا جاه. أو بالضعفاء بالنسبة لمن يتولى أمورهم، وتكون كلمته نافذة في تصرفهم؛ ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثامن من السنة العاشرة.

كالمرؤوس بالنسبة إلى الرئيس. أما الصرامة، فمقتضياتها في الأمم المثقفة قليلة، وقلتها بحسب تفاوت الأمم في الثقافة، واستعمالها في موضعها مشعر بأن الرفق بالضعيف صادر من مكارم الأخلاق، لا من ضعف في الطبيعة. ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: المساكين؛ فيخاطبون بلطيف القول، ويعاملون بالتي هي أحسن، من غير مَنّ ولا استكثار. قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]. وكان - صلى الله عليه وسلم - يحثّ على إخفاء الصدقة؛ كما ذكر في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فقال: "ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". وأخبرت وأنا في (ألمانيا): أن هناك جمعية خيرية ترسل في البريد إلى المحتاجين المعونة من غير أن يعلموا من أين جاءتهم. وهذا المعنى وجد في جزيرة العرب قبل ما يزيد على ألف سنة؛ فقد جاء في تاريخ أحد أهل الخير: أنه كان يرصد المعونة إلى المحتاجين من غير أن يعرفوه، ولما مات، وانقطعت عنهم المعونة، عرفوا أنه هو الذي كان يرسل إليهم المعونة. ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: الأيتام؛ فقد كان شأن آبائهم أن يقوموا بمآربهم، ولما فقدوهم، فقدوا الحنان الذي كان يسعى بحاجتهم، فأمر الله بالمحافظة على أموالهم إن كان لهم مال، قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]. وأمر بمخاطبتهم بالرفق، فقال تعالى:

{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)} [الضحى: 9]. وإطعامهم عند الحاجة، فقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا} [الإنسان: 8]. ووعد كافل اليتيم بالدرجة العالية في الجنة، فقال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا"، وأشار بأصبعيه المسبّحة والوسطى. ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: الأسير، فإذا أخذ من المعركة، كان في إلانة القول له، ومعاملته في المطعم والملبس كأمثاله من الوطنيين. وحكى لي الثقة بأن الدكتور (أنصاري الهندي) قال له: لقيت إنجليزياً في لندن أخذه أسيراً لجيش العثماني في واقعة - الدردنيل -، فأخذ يمدح الأتراك بحسن معاملتهم للأسرى، فقلت له: هي أخلاق الإسلام، لا أخلاق الأتراك وحدهم. وأهديت له كتاباً فيه حقائق إسلامية، فلقيته بعد أيام مسلماً، وقال لي: النور الذي نبحث عنه الآن لقيته، وجد في جزيرة العرب منذ مئات من السنين. ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: المرؤوس بالنسبة إلى الرئيس الذي يأمره وينهاه، فيخاطبه بلين من القول، ويعامله بالحسنى؛ فيجد من طاعته ما لا يجده إن عامله بغطرسة وجفاء. وأخبرني أستاذنا القاضي الشيخ (إسماعيل الصفائحي): أن صاحب تونس ولّى شخصاً رئاسة جماعة، فلم يجد منهم من الطاعة ما كان يظنه، فاشتكى إلى الأمير منهم، فقال له الأمير: أنا أعطي نصف الوظيفة فقط، ونصفها الآخر تعطيه أنت لنفسك؛ وهو معاملة المرؤوسين بما يستدعي

ائتلافهم وطاعتهم. وذكر المؤرخون عن بعض كبار الرؤساء: أنهم يحسنون القول والعمل مع كل من واجههم. فانظر إلى ما كتب في ترجمة الوزير أبي بكر بن عبد العزيز الأندلسي؛ فقد قالوا: إنه كان يبتسم في مواضع القطوب، ويظهر الرضا في مواضع الغضب، ويجتهد ألا يخرج عنه أحد غير راض، وإن لم يستطع الفعل، عوض عنه القول. ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: أهل البيت بالنسبة إلى رب البيت، فيخاطبهم باللين من القول، ويؤنسهم بما لا يخل بهيبته. وانظر إلى ما قصه الله تعالى من موعظة لقمان - عليه السلام - لابنه - وكلها نصح وحنان -، منها قوله: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 17 - 18]. وفي الحديث الصحيح: أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يراجعنه في الكلام، ويتقبل منهن ذلك؛ وكان رجال قريش لا يتقبلون مراجعة الكلام من نسائهم. وفي الصحيح أيضاً: أن أنس بن مالك قال: "خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي: أفٍّ، ولا لم صنعت؟ ولا ألا صنعت؟ ". ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: الغرباء، الذين يسمّون في عرف الشارع بأبناء السبيل، فإنهم لا يعرفون العادات الجارية في الناس، ولا يعرف الناس عنهم سوى أخلاقهم أو ثقافتهم، فإن راقتهم، قدروها قدرها، وإن لم ترقهم، ابتعدوا عنهم بقدر ما عرفوه من حالهم.

وروي: أن (أبا عبد الله المقري) كان في مجلس السلطان (أبا عنان)، فدخل نقيب الأشراف، فقام له السلطان ومن معه، ولم يقم له أبو عبد الله المقري، فاشتكى النقيب إلى السلطان، فقال السلطان: هذا وارد علينا، فنتركه على حاله حتى ينصرف. وأذكر بهذه المناسبة: أني زرت السيد (عبد العزيز محمد) وزير الأوقاف سابقاً في منزله، فلقيت السيد (عزيز عزت) الذي كان سفيراً في "لندن"، وتولى مناصب كبيرة في القاهرة، فقال له السيد عبد العزيز: هذا (محمد الخضر حسين) وهو تونسي، فقال السيد عزيز عزت: الأجانب هم الذين اخترعوا: هذا تونسي، وهذا مصري، وهذا شامي، وربطوا ذلك بالوظائف؛ فالمسلم أينما حل، فذلك وطنه، وقد يكسر هذا القيد في بعض البلاد الإسلامية؛ كمصر، وسورية. ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: المدينون المعسرون بالنسبة إلى دائنيهم، فيطالبون بالمعروف؛ وينتظرون إلى زمن الميسرة، أو يتجاوز عنهم إن كان في الدائنين فضل. وفي الصحيح: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أُتيت بمعسر، فتجاوز عنه؛ لعل الله يتجاوز عنا، فلقي الله، فتجاوز عنه". ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: طلاب العلم بالنسبة لأستاذهم، فيقابلهم بوجه طليق، وقول لين، ويشجعهم على البحث في المسائل. وكان شيخنا سالم أبو حاجب يحب من الطلبة البحث، ويلاقي السؤال المهم بابتهاج، وبدعو للطالب بالفتح.

كنت يوماً في درسه الجامع البخاري، وقرر الشيخ الفرق بين صبر على كذا، وصبر عن كذا، فقال: صبرت على كذا؛ أي لازمته؛ فيقال: صبر على الطاعة. وصبرت عن كذا؛ أي: تركته؛ فيقال: صبرت عن المعصية؛ أي تركتها؛ فقلت له: قد ترك الشاعر هذا الفرق إذ قال: والصبر يحمد في الأماكن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم فمقتضى هذا الفرق أن يقول: إلا عنك فإنه مذموم، فاغرورقت عيناه، وظهر على وجهه ابتهاج، ودعا لي بخير، ولم يسعه إلا أن يقول: إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، فالشاعر استعمل "على" موضع "عن"؛ كما قال الآخر: إذا رَضِيتْ عليَّ بنو قشير ... لعمرُ الله يعجبني رضاها فإن رضي يتعدى بحسب الأصل بـ: "عن"؛ كما قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]. والمطالبة بالرفق وحب البحث تجري مع كل مدرس أينما كان، ويرفق بالمتعلمين، ويشجعهم على البحث، ويتوقع أن يصيروا رؤساء في بعض الأيام المقبلة، ويسوس الضعفاء بالرفق، والطغاة بالعزم. ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: المشتري بالنسبة إلى التاجر، فالمشتري مضطر إلى شراء المتاع الذي يحتاج إليه، والتاجر يتحكم في ثمن المبيع، فالرفق بالمشتري يدعوه إلى أن يذكر الثمن الذي فيه ربح عادل، ولما فسدت أخلاق كثير من التجار، وصاروا يرغبون في الربح الكثير، وقع التسعير فيما يحتاج إليه، وإنما يكون التسعير شرعياً إذا كان الثمن عادلاً، لا يضام فيه التاجر، ولا المشتري.

ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: المرضى، فيحسن من الطبيب - بعد أن يفحص المريض بجد، ويتحرى الدواء الناجع - أن يخفف عن المصاب بالقول اللين، ويخاطبه خطاب من يرجو له الشفاء، والطبيب الماهر يسره شفاء المرضى على يديه أكثر مما يدخره المترفون في خزائنهم. حكي: أن الطبيب أبا علي بن جزلة كان يحمل لمن يعرفهم الأشربة والأدوية بغير عوض، ويتفقد الفقراء، ويحسن إليهم. وأخلاق الأطباء في بلاد الإسلام كريمة، والأمل تأليف رسالة خاصة في أخلاق الأطباء، وحسن خدمتهم للإنسانية. ونحن نعلم يقيناً أن عادات الناس تختلف في نفسها، ولكن الأخلاق الكريمة لا تختلف في نفسها باختلاف المواطن والعصور. فالضعيف محتاج إلى من يشد أزره بالرفق، والشارع يرغب في أن تكون درجات الضعفاء قريبة من درجات ذوي القوة، وإنما يقربون من ذوي القوة بالرفق والتراحم، وإنفاذُ رغبة الشارع أعلى هدف يرمي إليه الإنسان في هذه الحياة. والرفق بالضعفاء يدعو الحاكم إلى أن يفكر في الطريق الموصلة له إلى حقهم. والرفق في القضاء هو الذي حمل بكار بن قتيبة قاضي مصر على وعظ المدعى عليه إذا وجبت عليه يمين، ويتلو عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 77].

الأدباء العلماء

الأدباء العلماء (¬1) من الناس من يجيد الشعر، ولا يقصد للمباحث العلمية، وهم: الشعراء؛ كأبي تمام، والبحتري، وبشار، وابن هانئ، وغيرهم. وفيهم من يجيد الشعر، ويحرر المباحث العلمية، وهم الأدباء العلماء. وهؤلاء الأدباء العلماء هم الذين نشير إليهم في هذا المقال، فمنهم الإمام الشافعي - رضي الله عنه -، ومرتبته في العلم والفتوى معروفة، وقد ذكروا في تاريخه: أنه كان يقول الشعر الجيد، وأورد له ابن خلكان في تاريخه شعراً يدل على أنه من الشعراء المجيدين. وممن يجيد الشعر: القاضي عبد الوهاب المالكي البغدادي، وقد جاء إلى مصر ومرّ بالمعرة فالتقى بأبي العلاء المعري، وقال أبو العلاء في حقه: المالكي ابن نصر زار في سفر ... بلادنا فحمدنا النأي والسفرا إذا تفقه أحيا مالكاً جدلاً ... وينشر الملك الضِّلِّيل إن شعرا يريد بالملك الضليل: امرؤ القيس. ومنهم: منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي، فقد كان يقول الشعر الجيد، ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني من السنة الحادية عشرة.

ويحقق النظر فيما يصدر عن غيره من الشعر. حكي: أنه أتى إلى مجلس أبي جعفر النحاس في مسجد بمصر، فوجده يشرح شعر قيس بن الملوّح (مجنون ليلى)، ومن جملته أبيات قال فيها: قد اسلمها الباكون إلا حمامة ... مطوقة باتت وبات قرينها فقال له منذر: وماذا باتا يفعلان؟ فقال له أبو جعفر: وماذا تقول أنت يا أندلسي؟ فقال له: بانت وبان قرينها، فسكت أبو جعفر. ومن الأدباء العلماء: يحيى بن يحيى الليثي: كان يقول الشعر المجيد، ويفهم لطائفه؛ فقد حكى في تاريخه: أنه سمع أبياتاً من الشعر، فاستلطفها، وكتبها على ظاهر كفه. قال حاكي القصة: فرأيته يكبر في الصلاة على جنازة، والأبيات على ظاهر كفه. ومن أدباء العلماء: أبو الوليد الباجي، فقد أخذ علم الشريعة والفلسفة من الشرق، وكان يقول الشعر الجيد. ومن شعره: إذا كنت أعلم علم اليقين ... بأن حياتي جميعاً كساعةْ فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأصرفها في صلاح وطاعةْ ومن أدباء العلماء: القاضي أحمد بن محمد الأرّجاني؛ فإنه كان عالماً كبيراً، وشاعراً مطبوعاً، ولذلك قال: أنا أفقه الشعراء غير مدافع ... في العصر لا بل أشعر الفقهاء ومن شعره: قوله في التحريض على الشورى: اقرن برأيك رأي غيرك واستشر ... فالحق لا يخفى على الاثنين

والمرء مرآة تريه وجهه ... ويرى قفاه بجمع مرآتين ومن أدباء العلماء: ابن دقيق العيد، فكان دقيق النظر في لطائف الشعر، وكان معجباً بقصيدة ابن خميس المغربي، يضعها في مجلسه، ويكثر مطالعتها. وكان شيخ شيوخنا المفتي الشيخ إبراهيم الرياحي من أدباء العلماء، يقصد في الفتوى، ويقول الشعر الجيد، أرسله ملك تونس إلى سلطان المغرب، فأنشد بين يدي السلطان قصيدة يقول في مطلعها: إن عزّ من قبر النبي مزارُ ... فلنا بزورة نجله استبشار وهنأه بقصيدة أخرى ضمّن فيها غنيمة وقعت للسلطان من البحر في اليوم الذي بلغ فيه السلطان تفسير قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] الآية، ومطلعها: دلائل فضل الله فينا تُتَرْجِمُ ... وإن غفلت عنا طوائف نوّم ومن أدباء العلماء: القاضي الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، جدُّ صديقنا الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، كان عالماً محققاً، وشاعراً عظيماً، ومن شعره قوله وهو يتكلم على الناقة عندما قصد الأمير الصادق من أمراء تونس: ولاح لها من كاذب الفجر ما يبدو فقلت لها: مهلاً وبالصادق ابشري فقالت: أجل إن الأمير هو القصدُ وممن لقيت من الأدباء العلماء: شيخنا الشيخ سالم أبو حاجب، فكان يقول الشعر، مع كونه يغوص على المسائل العلمية بفكر ثاقب. سافر مع

الوزير خير الدين التونسي إلى الآستانة، وخاطب السلطان بقصيدة، فأمر السلطان بإعطائه وساماً، وقال له المكلف بإعطاء الأوسمة: هذا وسام براتب، فأبى قبوله، وقال: إن من العيب عندنا أن يحمل العالم وساماً، فلما عاد إلى تونس، قال له ملك تونس: لو قبلتَ الوسام، لغضبت عليك؛ لأني كنت عرضت عليك مثل ذلك، فأبيتَ. ومن أدباء العلماء: الشيخ المكي بن عزوز، فكان عالماً جليلاً، وأديباً كاملاً. ومن شعره: قوله في أستاذه حين ختم كتاب "المواقف" دراسة: إذا عمر بن الشيخ وافى لدرسه رس ... تعال التقط درّاً بملء جفان وقال فيه لما تولى الفتوى: بك جامع الزيتونة السامي غدا ... في العدّ لا يرضى بغير الخنصر يريد: أن إصبع الخنصر أول الأصابع في العدّ والحساب. ومن أدباء العلماء: الشيخ عبد الرحمن قراعة المفتي بمصر، فقد كان عالماً كبيراً، وأديباً بليغاً. بعد ما قدمنا من الأمثلة لاجتماع العلم والأدب لطائفة من العلماء، يتبين أن الأدب معدود بين العلوم المطلوبة، والصفات المكملة للعالم، وقديماً كان في الناس من غالى في مدح الشعر، فقال: ولولا خلال سنّها الشعر ما درى ... بغاةُ العلا من أين تؤتى المكارم والأدب له أسلوبان: الشعر، والنثر الفني، فكل منهما يستعمل في الهزل والجد، غير أن الهزل على الشعر أغلب، وربما وجد في الشعر من

التذلل والتصاغر ما لا يوجد في النثر الفني؛ كقول بعضهم: وما أنا إلا عبد نعمتك التي ... نسبت إليها دون أهلي ومعشري ولهذا ذم الشعر من قال: ولولا الشعر بالعلماء يُزري ... لكنت اليوم أشعرَ من لَبيد والبيت ينسب للشافعي. والحق أنه ليس من طبيعة الشعر أن يزري بالعلماء، ولا أن يكون قبيحاً، وإنما الشاعر هو الذي يهزل، أو يجد، وهو الذي يقبح، ويقول ما يزري أحياناً، ولذلك قال الشاعر: وأحسن الشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته: صدقا والأدباء العلماء خدموا الإسلام خدمة لا يستهان بها، وكان بيانهم مترجماً عن تعاليم الإسلام وأحكامه، يقول أبو العلاء المعري في وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم -: وحثَّ على تطهير جسم وملبَسٍ ... وعاقب عن قذف النساء الغوافلِ وحرّم خمراً خلت ألباب شربها ... من الطيش ألباب النعام الجوافلِ فصلى عليه الله ما ذرّ شارق ... وما فت مسكاً ذكره في المحافل وقد كان الشعر من جنود الله التي تقاتل في سبيله، وبث دعوته؛ كالذي فعله حسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وغيرهما من شعراء الرسول في نصرة الإسلام. وقد كان أدب العلماء الأدباء يمتاز بصفات تناسب سمعتهم وجدهم، فكان خالصاً للحكمة، والدعوة للفضائل والحق.

ومن خير الأدباء العلماء: القاضي عبد العزيز الجرجاني صاحب كتاب "الوساطة بين المتنبي وخصوصه"، وحسبك في وصفه والكشف عن أدبه أبياته التي يقول فيها: يقولون لي: فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما يقولون: هذامورد، قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظِّما ولكن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تَجَهَّما ومما يذكر في هذا المقام: فلسفة الشعراء، وفلسفة الحكماء، فالشاعر المتفلسف: هو الذي يغوص في المعاني اللطيفة، والتخيلات البديعة، وفلسفة الحكماء: هي نظريات عقلية ينتجها البحث العلمي. ولذلك لا تعد خطرات الشعراء من علوم الفلسفة. فلا يقال: فلسفة ابن هانئ، ولا فلسفة المتنبي؛ كما يقال: فلسفة أرسطو وأفلاطون. وخير ما أختم به بيتان لمفتي الموصل الشيخ حبيب الله، وهو من أدباء العلماء، وقد اقترح على بعض أدباء الشام تشطيرهما، وهي مع التشطير: (سيد الرسل ومن بعثتُه) ... سطعت فانقلب الليل نهارا سُلبت أمتك العزَّ وكم ... (كست الكونَ بهاء وفخارا) (قم إلى النور الذي جئت به) ... والورى في غسق الجهل حيارى تلق نار الغيّ تسطو حوله ... (أفترضى أن يكون النور نارا؟)

زينة الإنسان حسن السمت

زينة الإنسان حسن السَّمت (¬1) خلق الله الإنسان، وجعله خليفة له في الأرض، وأودع فيه العقل والفهم؛ ليدل الناس على معرفته، ويبين لهم الأحكام التي يوحي بها إليهم، ويجريها عليهم إذا اختلفوا، وأرسل الأنبياء - عليهم السلام - مُثلاً علية، وأكملُهم - صلى الله عليه وسلم -، فكان الإمام الأعظم الذي يقتدى بأقواله وأفعاله التي منها: حسن السمت (¬2). وحسن سمت الإنسان: ألا ينحط في الهزل والمجون، وألا يرتكب ما يستهجنه الناس من أمثاله؛ كالأكل في الطريق العام، مع التزامه فعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه. وتركه لما يستهجنه الناس في عاداتهم يجعله الفقهاء مروءة، وقد زادوا في تعريف الشهادة - كما سبق لنا بيانه في بعض المقالات -: مراعاة الشاهد للمروءة، وفسروها بأن لا يفعل الإنسان ما يُستهجن في العادة، وهو المراد بقولهم في القاعدة المعروفة: "العادة محكَّمةَ"، والفرق بين ما يستهجنه الناس، وبين ما ينهى عنه الشارع من أول الأمر على وجه الكراهة أو الحرمة: أن ما ينهى عنه الشارع تكون المفسدة كبيرة أو صغيرة في نفس الفعل، أما ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد العاشر من السنة العاشرة. (¬2) السمت: الطريقة، وهيئة أهل الخير.

الذي يعد اجتنابه من المروءة، فيكون النهي عنه من جهة استقباح الناس له فقط، ولهذا يقول الفقهاء: إنه يختلف باختلاف المواطن والأزمان؛ مثل: كشف الرأس؛ فإنه كان يخالف المروءة في الشرق، ولا يخالفها في بلاد الغرب. ومن حسن سمت الرجل: أن يلبس ملابس أمثاله في البلد الذي استوطنه، ولم نر في التاريخ أن قاضياً يخالف لبس القضاة إلا ابن بشير؛ فقد كان قاضياً في قرطبة، ولا يلبس لبس القضاة. ومن يحافظ على لبس وطنه، أو اللبس الذي نشأ فيه مما لا يستهجنه الناس، نتركه وشأنه؛ فإن الإنسان يصعب عليه أن يغير الملبس الذي نشأ فيه. وقد حكى المؤرخون: أن أبا العباس الميكالي طلب منه أن يتقلد ديوان الرسائل، فاشترط أن يبقى بلبسه المعتاد له، فأخبر السلطان بذلك، فرضي بشرطه، فكان يجلس بالديوان متعمماً متطلساً، ويؤتى له بالرسائل، فيقضي فيها بما يقتضيه العلم. ولا يخرج عن حسن السمت المزح القليل الصادق؛ فإن فيه ترويحاً للنفس، وأنساً للجليس، وكان - صلى الله عليه وسلم - وهو الإمام الأعظم - يمزح نادراً، ولا يقول إلا حقاً. وروى المؤرخون: أن منذر بن سعيد البلوطي - مع ما أحيط به من الوقار - كان يمزح قليلاً. وحكى المؤرخون أيضاً عن القاضي شريح بن الحارث، وكان قد استقضاه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على الكوفة: أنه كان يمزح حتى في مجلس القضاء مع الخصوم.

وقد يقول المؤرخون بعد أن يصفوا العالم بالزهد والصلاح: وكان رقيق الطبع في النادرة، فلا يردها إذا أمكنته. وبقدر محافظة الإنسان على حسن السمت تكون مهابته في قلوب الناس. ومن حسن السمت: ألا يفر المرء من صف القتال خوفاً من الموت؛ فإن الفار من صف القتال يعد من قبيل الجبناء الذين يحبون الحياة على أي حال، ويؤثرونها على الموت في سبيل الدعوة إلى الحق، وعوتب أحد الكبار عن فراره من وجه العدو، فاعتذر بأنه فرّ من الأسر وما يلحقه فيه من الإهانة، ولو علم أنه يموت في صف القتال، لما فر، وهذه الدعوى ربما تقبل من شجاع معروف لا يهاب الموت. وقال بعض اليهود للمسلمين يعاتبونهم على الجولة التي وقعت لهم في غزوة أحد: إنكم فررتم يوم أحد، فقال له المسلم: ولكن رسول الله لم يفر. وواقعة أحد لله فيها حكمة، وقد ذكرها الكتاب المجيد، وفصلتها السيرة أحسن تفصيل. والعامة والخاصة من الناس يرون أن العالم الذي خالف الشريعة قد اختل سمته، ومن رضي منهم أن يموت في السجن، ولا يخالف الشريعة بما يطلب منه، فقد حافظ على حسن سمته الذي أمره الله بالمحافظة عليه. ويرى الذين ضربوا أو سجنوا؛ كمالك بن أنس، وأحمد بن حنبل - رضي الله عنهما -: أن السجن أو الضرب لا يمس حسن السمت، ويرى أناس: أنه إهانة لهم؛ إذ هو يخالف هيبتهم التي يحملها الناس لهم. ويرى سائر الناس: أن تحمل الأذى، والصبر على المكاره يزيد في

حسن سمتهم. وقال المؤرخون: لم يزل مالك بعد ذلك الضرب في علو ورفعة؛ كأنما كانت تلك السياط حلياً حُلّي به. وكذلك أحمد بن حنبل كان ما وقع له من الضرب والسجن في التاريخ ذكراً مجيداً، وكانت هيبته عند الناس فوق ما يقتضيه علمه وروايته. روي أن عالمين دخلا على ملك جالس على بساط من حرير، أما أحدهما، فأخذ يطوي البساط من جهته حتى وصل إلى الملك، وأما الآخر، فقد داس على البساط، وفرش رداء عندما وصل إلى الملك، وجلس عليه، وقد رأوا أن جلوسهما على بساط من حرير يخل بسمتهما، وينافي كرامتهما عند الله، وعند الملك وحاشيته. وكان أستاذنا الشيخ محمد المكي بن عزوز (¬1) يدرس لنا في جامع القصر بتونس شرح ابن هشام لقصيدة كعب بن زهير في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن جملتها أبيات غزلية، وكان الشيخ يشرح الأبيات الغزلية، فدخل جماعة من العامة، وجلسوا بالحلقة، فخشي الشيخ أن ينكروا عليه شرح الأبيات الغزلية، فانتقل في الحال إلى حديث زاهر - رضي الله عنه - ودخول النبي - صلى الله عليه وسلم - السوق، وزاهر يبيع شيئاً أمامه، والقصيدة بأبياتها الغزلية مقطوعة السند عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن ألغى أحكام الشريعة، وأتى عوضها بقانون وضعي، فقد خرج بالقضاة عن سمتهم المهيب. وقد يخرج الإنسان على حسن السمت بالقول؛ كمن ينطق الفحشاء، ¬

_ (¬1) خال الإمام.

ويذكر العورات بأسمائها. قال أنس كما في الصحيح: "ولم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً"، ومعناه: لم يكن رسول الله ينطق بالفحشاء، ولا متكلفاً النطق به؛ أي: لم يكن الفحش خلقاً له، ولا مكتسباً. وللأدباء في الكناية والمجاز مندوحة من الخروج على حسن السمت بالقول إذا اضطروا إلى ذلك، ووردت في القرآن الكريم ألفاظ كانت في عهد نزوله مجازات، ثم صار الناس بحسب العرف يستعملونها في المعنى المجازي، وهذا لا ينافي أن القرآن الكريم لا يستعمل هذه الألفاظ إلا على وجه المجاز.

المنافقون في عهد النبوة والملاحدة بعده

المنافقون في عهد النبوة والملاحدة بعده (¬1) لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وصار للمؤمنين قوة من المهاجرين والأنصار، ظهرت طائفة المنافقين. والنفاق: إظهار الإسلام، وإخفاء الكفر، فصار المنتمون إلى الإسلام طائفتين: طائفة مؤمنة، وطائفة منافقة، ويزداد عدد المنافقين بحسب رسوخ قدم الإسلام في المدينة، حتى إن واقعة بدر التي كانت في رمضان في السنة الثانية من الهجرة لم يحضرها منافق غير عبد الله بن أبي ابن سلول. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف بعض المنافقين، ولا يعرف بعضاً؛ كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101]. ثم نزل قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف أن المتكلم منافق من لحن قوله؛ أي: فحواه. والفحوى: ما يفهم من لفظ الإنسان من غير تصريح به. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل المنافقين في جماعة المسلمين، ولا يقتلهم، مع علمه بأنهم غير مسلمين؛ اتقاء أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السادس من السنة التاسعة.

حتى إن الله نهاه - عليه الصلاة والسلام - أن يصلي عليهم إذا ماتوا، ولا يزور قبورهم، ولم يأمره بقتلهم، فقال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]. ونتج عن قبوله لهم: أن ذا الفطرة الغريبة من الحق؛ لكثرة اطلاعه على سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، عرف أن الإسلام دعوة إلى الحق، فيدخل فيه حقيقة. ونتج عن قبوله لهم: أنه خرج من أصلابهم من أخلصوا في إسلامهم، وكان لهم مزايا في نصرة الإسلام كثيرة، ولأنهم كثروا سواد المسلمين في نظر المشركين. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]. فمجاهدة الكافر المحارب بالحجة والسيف، ومجاهدة المنافق بالحجة والموعظة الحسنة. وذكر - عليه الصلاة والسلام - علامات النفاق بقوله: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا ائتمن خان"، وزاد في "صحيح مسلم": "وإذا خاصم فجر"، فالمنافق إذا حدث، لا يبالي أن يكذب، وإذا عاهد، لا يبالي أن يغدر، وإذا ائتمن، لا ييالي أن يخون، وإذا خاصم، لا يبالي أن يفجر. وذكر الله المنافقين في كتابه الكريم، ووصفهم بأنهم يكذبون، والكذب هو الباب الذي يدخلون به في أرض النفاق، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8].

وأشار تعالى إلى بعض المنافقين بالكذب، فقال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. ويزيد المنافقين على معصية الكذب: معصية الحلف على ما يقولونه كذباً، قال الله تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107]. ووصفهم بأنهم إذا عاهدوا، نكثوا عهدهم، فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 75 - 76]. ووصفهم بأنهم يخونون من ائتمنهم، فقال تعالى: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74]. وقد نزلت هذه الآية في طائفة من المنافقين تحدثوا عند رجوعهم من تبوك باغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما يصلون إلى العقبة، فأُخبر النبي بذلك، فتحفَّظ منهم. ومن خيانتهم إذا ائتمنوا: أن جماعة من المنافقين جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وطلبوا منه الإذن في السكنى خارج المدينة، فأعطاهم إبلاً وراعياً، فقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، فلما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم، بعث من أدركهم، وافتكَّ منهم الإبل، وفعل معهم ما فعلوه مع الراعي. ومن فجورهم في الخصام: أن منافقاً ويهودياً تخاصما، فطلب اليهودي رفع القضية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطلب المنافق رفعها إلى كعب بن الأشرف، ورفعت إلى رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، فحكم فيها العدل، فلم

يرتض المنافق حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 60 - 61]. ووصف الله المنافقين بعدم تنبيههم للفساد الذي يظهر منهم، وعدِّهم للفساد صلاحاً، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 11]؛ أي: بالدعوة إلى الكفر والمعاصي، {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11]. قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67]؛ أي: يأمرون بالكفر والمعاصي، وينهون عن الإيمان والطاعة. وذكر تعالى أنهم يعدون المؤمنين إذا آمنوا بالله واليوم الآخر سفهاء، والسفه: قلة العقل وخفته. وعبَّر عن عدم تنبيههم للفساد بقوله: {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12]. فإن الشعور إدراك الأشياء بأحد المشاعر الخمسة، والفساد يدرك بالمشاهدة. وعبر في جانب السفه بقوله: {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]. لأن السفه يدرك بالعقل، وإدراك العقل يسمى علماً.

والمنافقون يزعمون أن فريقهم أعزّ، وأن فريق المؤمنين أذل؛ كما قص الله عنهم ذلك بقوله: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]. قال الله تعالى مبطلاً لزعمهم: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]. والمنافقون في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم أضافوا إلى الكفر الاستهزاء بالمسلمين، كما حكى الله عنهم بقوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]. ولأنهم يُطلعون الكفار على أحوال المسلمين، ولأنهم يضرون بالمسلمين خفية؛ بخلاف الكفار؛ فإنهم يضرون بالمسلمين علناً، فيتيسر الانتقام منهم، وتقوم الحجة عليهم، أما المنافقون، فلا تقام الحجة عليهم، ويتعذر الانتقام منهم. والمنافقون يجدون في الناس من يميل إليهم؛ لكثرة أموالهم، ونجابة أبنائهم، ووجاهة أجسامهم، وطلاقة ألسنتهم في الحديث عن الدنيا، فيزدادون طغياناً، ويحسبون أن هذه مزايا تغنيهم عن الإيمان الصحيح. وقد نهى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الإعجاب بأموالهم وأولادهم وأجسامهم وحسن حديثهم إذا لم يكن معها إيمان صادق، فقال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} [التوبة: 55]. وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204].

وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4]. وكان المنافقون يكرهون الخروج إلى الغزو، ويعتذرون إذا كانت مسافته بعيدة؛ كغزوة تبوك، وإذا خرجوا إلى الغزو، يضعون العقبات في طريق المسلمين، ويريدون أن يكون الأعداء هم الغالبين، قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47]. والخبال: الفساد، وتخذيل المؤمنين. والمنافقون يتصلون بأعداء الأسلام، ويودون أن يتولى العدو أمر المسلمين، ويتصرف في شؤونهم. روي: أن جماعة من المنافقين بنوا مسجداً قرب مسجد قباء بإذن أبي عامر الراهب بالشام؛ ليكون معقلاً لهم، وذهب أبو عامر إلى ملك الروم يحرض على قتال المسلمين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107]. ومن الخداع الذي دبره جاحدو آيات الله: أن قالوا لإخوانهم في العقيدة أن يقولوا أول النهار: آمنا بالله ورسوله، ويكفرون آخر النهار، حتى يقول المؤمنون؛ إنما يقول هؤلاء آمنّا، وكانوا أهل علم، فلما وجدوا الدين غير صالح، رجعوا إلى عقيدتهم، قال الله تعالى مشيراً إلى هذا الخداع: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ

النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72]. ولا يعلم هؤلاء المخادعون أن الذين آمنوا بالله ورسوله ما آمنوا إلا بعد النظر في سيرة الرسول - عليه الصلاة والسلام- ومعجزاته، وحكمة القرآن، وأحكامه العادلة، ومواعظه الحسنة، ولا ينطلي على أذهانهم دخول طائفة مذبذبة في الإسلام على وجه النفاق وخروجها منه. ووصف الله المنافقين بأنهم يقومون إلى الصلاة وهم كسالى، ولا يقومون إليها بنشاط وحرص على مناجاة الله كما يقوم إليها سائر المسلمين. ووصفهم بأنهم يقومون إلى الصلاة رياء الناس، وهذا إشارة منه إلى أنهم لا يصلون في خلواتهم. ووصفهم بأنهم يذكرون الله قليلًا، ومعلوم أن من لا يصلي إلا عند حضور الناس لا يذكر الله إلا بلسانه عندما يصلي رياء الناس. * * * والملاحدة بعد المنافقين في عهد النبوة ثلاث فرق: فرقة ليسوا من المؤمنين، ولا يأخذون الكتاب والحديث بتأويل، وهؤلاء أشبه أناس بالمنافقين في عهد النبوة؛ كبعض المساعدين في الثورة على عثمان - رضي الله عنه -. وفرقة يقولون: آمنّا، وهم لا يؤمنون، ويتناولون الكتاب والسنّة بتأويل ينكره العقل السليم. وقصدُ هذه الفرقة: أن تظهر للناس سوء مقاصد الشريعة، وأن الشريعة خالية من الحكمة، وإنما يتمسك بها من لا يزن القول بميزان الحكمة؛ كجماعة الباطنية؛ فإنهم يؤولون الشريعة، ويخلونها من الأقوال الحكيمة، وهم طائفة من الفرس، خلا بعضهم لبعض، وقالوا: إن الإسلام

انتشر في أوطاننا، وساد على أمتنا، ولقوته لا يمكننا أن نحاربه بالسيف، وإنما نحارب نصوصه، ونزيل حكمته بالتأويل على وجوه لا يقبلها العقل السليم، منهم: طائفة الإسماعيلية، ومن متأخريهم: البهائية، والقاديانية، كما حققنا نشاة مذهبهم، والغرض الذي بني عليه في مقالات سابقة. وفرقة لم تفهم حرية الرأي على حقيقتها التي كانت وسيلة لرقي الشعوب واتحادها، وصاروا يقلدون الأجنبي في ذلك، ومن هؤلاء من قالوا: في القرآن قضايا تخالف العلم القطعي، ولم يأتوا بمثال صحيح قطع به العلم، وجاء القرآن مخالفًا لهم، فإما أنهم لم يفهموا القرآن على وجهه، وإما أن يكون ما زعموه في القرآن مخالفًا للعلم لم يكن مخالفًا للعلم في الواقع. ومن سوء اعتقاد هؤلاء: أنهم أنكروا ركناً من أركان الإسلام مجَمعًا عليه منذ عهد النبوة إلى عصرنا هذا. وعلامة هؤلاء: أن يكثروا من الحديث عن علماء الدين، والحط من شأنهم، ولا يستثنون إلا من يساعدهم على أهوائهم، ويضع حظوظهم بين أيديهم. وإذا بعد الناس عن علماء الدين، بعدوا عن الدين جملة. ولا نخشى ضياع القرآن؛ فإن الله تكفل بحفظه، وإنما نخشى إعراض المسلمين عن تلاوته، وجهلهم لما اشتمل عليه من أصول وحقائق وآداب.

ملاحظات على مقال: (مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -)

ملاحظات على مقال: (مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬1) (¬2) نشر الأستاذ علي عبد الرازق في "جريدة الأخبار" يوم المولد الشريف ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام "- العدد الثامن من السنة الثامنة. (¬2) كتب علي عبد الرازق ردًا على هذه الملاحظات في مجلة "لواء الإسلام" العدد العاشر من السنة الثامنة. وقد اطلع الإمام محمد الخضر حسين على الرد، فأعقبه بالكلمة التالية: "كتب الأستاذ علي عبد الرازق مقالًا عنوانه: مولد النبي، ونشره في "جريدة الأخبار" يوم المولد، وهو الذي يتذكر فيه المسلمون عظمة رسول الله، وسيرته المنقطعة النظير، بانيًا على ما قاله في كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، وزاد عليه: الحديث في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتبنا على المقال ملاحظات كنا نحسب أن الأستاذ يدفع الملاحظات التي أوردناها بنصوص شرعية، أو أصول علمية، فيكفينا الله عاقبة الخلاف، أو يقر ما ذكرناه من الملاحظات، والرجوع إلى الحق فضيلة، أو يسكت، فيكون كل منا أبدى رأيه، والناس ينظرون ماذا يروون. ولكنه كتب مقالًا أظهر به أنه رد الملاحظات التي أوردناها في "لواء الإسلام"، وخرج فيه إلى أشياء غير علمية، وليس من شأننا أن نخوض فيها مع الخائضين، فيضيع الحق بيننا، والقراء المنتبهون يعرفون الواقع، والتاريخ الصحيح من ورائهم شهيد بذلك". وإن الإطلاع على رد علي عبد الرازق وما تضمنه من كلمات خارجة عن نطاق البحث العلمي، ورد الشيخ الخضر - رضوان الله عليه -، يعطي صورة رائعة للأخلاق النبوية التي يتحلى بها الشيخ الخضر، ويوضح الفرق الشاسع بين أهل العلم والمعرفة والاتزان، وبين غيرهم.

مقالاً عنوانه: مولد النبي، واطلعت على هذا المقال، ولاحظت فيه أشياء أردت أن أنبه القارئ عليها؛ لتتم الفائدة المقصودة من المقال، واخترت أن أنقل العبارة التي أبدي عليها الملاحظة بنصها؛ ليشاركنا القارئ في النظر فيها، ونكون للأستاذ صاحب المقال منصفين. قال الأستاذ في صدر مقاله: "قد يلاحظ بعض الباحثين: أن ميلاد محمد - صلى الله عليه وسلم - قد تم على وفق السنن الطبيعية التي بنى الله عليها هذا الكون، وأجرى عليها نظام الحياة بين جميع البشر، فلم يقترن ميلاده بالمعجزات الصادعة التي اقترن بها ميلاد عدد من إخوانه السابقين من الرسل، ولا سيما موسى، وعيسى - عليهم الصلاة والسلام -". أراد الأستاذ من بعض الملاحظين: نفسَه؛ فإنه حكم في هذه الدعوة الخطيرة في أسلوب جديدة ليقبل الناس على سماعها، وإن لم يعقبها بدليل معقول. حُفّ - صلى الله عليه وسلم - في مولده إلى بعثته بألطاف إلهية، وهذا المظهر المشمول بالعناية كافٍ في سماع دعوى الرسالة. على أن المحدِّثين رووا أحاديث منها ما هو صحيح فيما وقع قبل الرسالة من إرهاصات، واذا لم تتواتر، فلعدم الحاجة الملحة إلى روايتها بالتواتر. فالمدار على أن يكون دليل صدق الرسالة قاطعًا، وهو المعجزة المقارنة للدعوى. قال الأستاذ: "هنالك روايات تحاد تروى عن إرهاصات صحبت مولد محمد - عليه السلام - وسواء أصحت هذه الروايات كلها، أو بعضها، أو لم يصح شيء منها، فإنها لم تبلغ من قوة السند، ولا من قوة الإعجاز ما بلغته الروايات عن مولد عيسى وموسى".

المدققون في فهم عبارات المؤلفين يرون أن الأستاذ تكلم على الأحاديث التي رويت في إرهاصات مولد محمد- عليه السلام -، وذكر لها ثلاثة احتمالات: إما أن تصح كلها، أو يصح بعضها، أو لم يصح منها شيء، وربط هذه الاحتمالات الثلاثة بأنها لم تبلغ في قوة السند وقوة الإعجاز ما بلغته الروايات عن مولد عيسى وموسى، مع أنه على الاحتمال الثالث، وهو أنه لم يصح منها شيء، لا يقال: إنها لم تبلغ في قوة السند ما بلغته الروايات عن مولد عيسى وموسى. قال الأستاذ: "وإذا نحن جاوزنا فترة الميلاد إلى ما بعدها من أطوار حياة محمد كلها، وجدنا أن حياته كانت أيضاً في هذه الأطوار تسير على وفق السنن الطبيعية التي بنى الله عليها هذا الكون، وأجرى عليها نظام الحياة البشرية، فلم تقترن بالمعجزات الصادعة التي اقترنت بها حياة عدد من إخوانه السابقين من الرسل، ولاسيما موسى وعيسى". ثم ذكر الأستاذ ما قصه القرآن الكريم من معجزات موسى وعيسى - عليهما السلام-، وقال: "لم يجئ محمد أصحابه بمثل تلك المعجزات الصادعة التي تدهش العقول، وترج القلوب، وتزعج النفوس". ذكر القرآن معجزة انشقاق القمر في قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}. [القمر: 1 - 2]. فالتعبير بالفعل الماضي في قوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}، وتعقيبه بقوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا

سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] آية على دليل على أن المراد ما روي في الصحيح من انشقاق القمر عندما سأل المشركون النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقه في دعوى الرسالة. وقال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء. وقال السبكي: انشقاق القمر متواتر لا يجوز إنكاره. وذكر القرآن معجزة الإسراء المشار إليها بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]. ومعجزة المعراج الثابتة في الصحيح المشار إليها بقوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم 11 - 12]. وقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم 17 - 18]. وفي الصحيح معجزات وقعت بمحضر الصحابة؛ كتكثير الماء القليل، حتى قال النووي: "وتكثير الماء بلغ مرتبة التواتر"، وتكثير الطعام، وغير ذلك، وعبّر عنها الإمام البخاري بعلامات النبوة، وعبر غيره بآيات النبوة. والمعجزات تثبت بصحة السند، وصلاح القدرة الإلهية لها، ولا يكفي في نفيها استبعاد الذهن لها، إذ هي خارقة للعادة، فلا بد أن يستبعدها الذهن أول بدء، فإذا تأمل في صحة سندها وصلاح القدرة لها، اعترف بها. قال الأستاذ: "وقد طالبه قومه، وألحوا عليه في الطلب بن يأتيهم بمثل ما جاء به الرسل من قبله من تلك المعجزات، فكان- عليه السلام - يدفعهم بالحجة البسيطة الواضحة التي لا تكد العقل، ولا تخفى على أي ناظر".

ثم أورد الأستاذ ثلاث آيات: الأولى: قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت: 50]. وقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]. والآية الثالثة: قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]. وقد اطلع على هذه الآيات، وتلاها حق تلاوتها المحدِّثون الذين رووا أحاديث المعجزات؛ كالبخاري، ومسلم، وغيرهما من أصحاب السنن، والأئمة؛ كمالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، ورأوها لا تنافي إجراء المعجزات على يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقصارى ما تدل عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يملك المعجزات، وأن الله هو الذي يجريها على أيدي الرسل- عليهم السلام- عندما يرى إجراءها مناسبًا لعظمته، وعلم أن الحال يقتضي إجراءها، لا بمجرد اقتراح المشركين، فإن منهم من يقترح المعجزات، وفيه جفاء طبيعة، وعدم استعداد للإيمان بها، قال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2]. ودل بالآية: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] على أنهم يقسمون، ولا يراعون للأيمان عهداً، قال تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109].

وقال الأستاذ: "هكذا كان في مولده وفي حياته مستقيماً على قواعد البشرية، منسجماً مع أنظمة الطبيعة، خاضعاً لسنن الكون". كان محمد - صلى الله عليه وسلم - في ميلاده وحياته كلها كما قال الأستاذ، وهذا لا ينافي أن الله يصونه بألطافه، ويكرمه بالمعجزات؛ ليعلم أنه رسول من الله، فيبطل انحراف الناس عن البشرية إلى جانب البهيمية، وانسجامهم مع دواعي الطبيعة غير الفطرية، وخضوعهم لمن لا يتعظ بسنن الله الكونية. قال الأستاذ: "فالصلاة كتاب على المؤمنين موقوت، ولكن ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا". الآية أصلها: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101]. فذكر الأستاذ السبب الثاني للقصر من الصلاة، وهو خوف فتنة الذين كفروا، وتركَ السبب الأول لقصرها، وهو الضرب في الأرض، أعني: السفر إلى بلد آخر. قال الأستاذ: "والصيام مكتوب على المسلمين، ولكن على الذين يطيقونه فدية طعام مساكين". لا أعلم أحدًا من المسلمين يقول: إن يطيقونه بمعنى: يستطيعونه، وتبقى عنده الآية باقية على حكمها. وكثر العلماء على أن الآية منسوخة بالآية بعدها، أعني قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].

كما روى الإمام البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أصحاب النبي ذلك، ومن لا يقول بنسخ الآية يفسر يطيقونه على وجه يلتئم بما هو مقرر في الشريعة؛ من أن صيام رمضان فرض على كل مسلم ومسلمة، إلا من استثنتهم الشريعة ناظرةً إلى المشقة التي تلحقهم بالصيام. ذكر الأستاذ هنا الصلاة، والصيام، والحج، ولم يذكر الزكاة؛ لأنه لا يراها من الدين، فقال في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، وهو يتحدث عن الزكاة والجزية والغنائم: "ولا شك أن تدبير المال عمل ملكي، بل هو أهم مقومات الحكومة على أنه خارج عن وظيفة الرسالة من حيث هي، وبعيد عن عمل الرسل باعتبارهم رسلاً فحسب". والزكاة وردت في القرآن غالباً مع الصلاة، والفقهاء يجعلون للزكاة بابًا مستقلاً، ويذكرون الجزية والغنائم في باب الجهاد. وعلماء الإسلام المنبثون في الشرق والغرب من عهد النبوة إلى عصرنا هذا المجتهدون يستندون في تقرير الأحكام العملية إلى الكتاب أو السنة، أو الأصول المستمدة منهما، والتابعون لمذهب إمام يعرفون أن إمامهم يستند في الأحكام العملية إلى الأصول الثلالة. فالمجتهدون وتابعوهم يعلمون أن الأحكام تستند إلى الشريعة نصاً أو استنباطاً، والمرجع في أمور الدين إلى علمائه الذين يدرسونه بحق، ويخلصون لله في دراسته، وليذكر لنا الأستاذ واحدًا من العلماء قال؛ إن الخلافة والقضاء ونحوهما ليست من الدين في شيء. واقتصر الأستاذ في ذكر مطالب الشريعة على الصلاة والصيام والحج،

ولم يذكر أحكام المعاملات؛ لأنه أخرج الأحكام العملية من نظر الوحي، فقال في كتابه "الإسلام وأصول الحكم": "والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا، ولا القضاء، ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها، ولم ينكرها، ولا أمر بها، ولا نهى عنها، صانما تركها لنا نرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة". وقد كتبنا في رد هذا الرأي وما قبله في "كتاب نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم". واستدل الأستاذ بالآيات القرآنية، ولم يذكر أن القرآن معجزة؛ لأنه بسبيل نفي المعجزة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أجمع المسلمون على أنه معجز للخلق كافة، وقد صرح القرآن نفسه بأنه معجز، فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]. وتحدث الأستاذ عن المنهج الجديد، وقال: "بطلت الحاجة إلى المعجزات، وقام مقامها حكم العقل وسلطان العلم والنظر، وبذلك تمت الآية الكبرى لمحمد بن عبد الله". إن الإسلام انتشر، وقبلته الطبائع البشرية الصافية، وهم يطالعون في كتب الأئمة المحدثين والفقهاء والمتكلمين معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأحكام التي جاء بها، فلا تزيدهم إلا إيماناً واطمئناناً.

وقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] قد يراد بالآيات: الزلازل، والرعد القاصف، والبرق الخاطف؛ لأنه يذكر بحوادث الساعة، وقد يراد بالآيات: المعجزات؛ لأنه ينشأ عن مشاهدتها إنذار بأن عذاب الله في الآخرة لمن لم يذعن بها.

تحقيق مذهب مالك في رفع اليدين عند الركوع والرفع منه

تحقيق مذهب مالك في رفع اليدين عند الركوع والرفع منه (¬1) تفقهتُ في مذهب مالك - رضي الله عنه -، ودرست الكتب التي اعتمدت رواية رفع اليدين عند التكبير في افتتاح الصلاة فقط، دون رفعهما عند الركوع والرفع منه؛ "مختصر الخليل"، وغيره، ثم اطلعت على "المدونة" التي رواها سحنون عن ابن القاسم، فرأيت ابن القاسم روى فيها عن مالك عدم رفع اليدين في الركوع والرفع منه؛ حيث قال: قال مالك: لا أعرف رفع اليدين في أي شيء من تكبير الصلاة، لا في خفض، ولا في رفع، إلا في افتتاح الصلاة برفع يديه شيئاً خفيفاً. ثم قال: قال ابن القاسم: كان رفع اليدين عند مالك ضعيفاً، إلا في تكبيرة الإحرام. واستدل في "المدونة" على هذه الرواية بقول عبد الله بن مسعود: ألا أصلي لكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فصلى، فلم يرفع يديه إلا مرة. واستدل عليها بحديث البراء بن عازب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ثم لا يرفعهما حتى ينصرف. وبحديث عاصم بن كليب عن أبيه: أن علياً كان يرفع يديه إذا افتتح ¬

_ (¬1) وجه بعض قراء مجلة "لواء الإسلام" إلى الإمام السؤال التالي: نرى كثيراً من المالكية لا يرفعون أيديهم عند الركوع والرفع منه، فما هو مذهب مالك في هذه المسألة؟ مجلة "لواء الإسلام"- العدد الثالث من السنة العاشرة.

الصلاة، ثم لا يعيد. ثم قال: وكان أصحاب ابن مسعود يرفعون في الأولى، ثم لا يعودون. وروى ابن وهب، وأشهب عن مالك: رفع اليدين عند الركوع، والرفع منه، وهذه الرواية هي التي يوافقها ما رواه مالك في "الموطأ"؛ إذ قال: عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله بن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة، رفع يديه حذوَ منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع، رفعهما كذلك أيضاً، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود. زاد جماعة من الحفاظ ممن روى "الموطأ" عن مالك: رفع اليدين عند الانحطاط للركوع؛ كيحى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن قاسم، وغيرهم. وقد عرفت أن رواية ابن وهب وأشهب يرجحهما الحديث الذي رواه مالك في "الموطأ". وكثير من الفقهاء يقدمون رواية ابن القاسم في "المدونة" على غيرها. وأجاب المعتمدون على رواية رفع اليدين عند الركوع والرفع منه عما رواه ابن القاسم في "المدونة" من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - الذي قال فيه: أصلي لكم صلاة رسول الله، ولم يرفع يديه إلا مرة: بأنه ضعفه البيهقي، وروي عن ابن المبارك: أنه قال: لم يثبت عنده حديث ابن مسعود. وروى البخاري في "جزء رفع اليدين" تضعيفه عن أحمد بن حنبل، وعن يحيى بن آدم، وتابعهما البخاري على تضعيفه، وضعفه غيرهم؛ كالدارقطني. وأجابوا عن حديث البراء بن عازب من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه

إذا افتتح الصلاة، ثم لا يرفعهما حتى ينصرف: بأن أئمة الحديث ضعفوا هذا الحديث، وممن نص على تضعيفه: سفيان بن عيينة، والشافعي، وعبد لله الحميدي شيخ البخاري، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين. وأجابوا عما روي عن علي - رضي الله عنه - يديه إذا افتتح الصلاة، ثم لا يعود: بأنه ضعفه البخاري، وروى تضعيفه عن سفيان الثوري، وقال الشافعي: لا يثبت عن علي، وابن مسعود ما يروى عنهما: أنهما كانا لا يرفعان أيديهما في غير تكبيرة الإحرام. فالأرجح في مذهب مالك رواية ابن وهب، وأشهب؛ إذ هي التي توافق حديث عبد الله بن عمر الذي رواه في "الموطأ"، ورواه عنه البخاري. قال القاضي عياض في "الإكمال": اختلف العلماء في الرفع في الصلاة، والمعروف من عهد الصحابة - رضي الله عنه -، ومذهب العلماء كلهم إلا الكوفيين الرفعُ عند الافتتاح، وعند الركوع، والرفعُ منه، وهي إحدى الروايات المشهورة عن مالك، وعمل بها كئير من أصحابه، ورووها عنه، وأنها آخر أقواله. والإمام مالك قال كما قال غيره من الأئمة: إذا صح الحديث، فهو مذهبي، وقد صح عنده حديث عبد الله بن عمر، ولم يتعقبه بشيء. قال ابن العربي - وهو مالكي - في "العارضة": الصحيح أنها ترفع في ثلاثة مواضع؛ لحديث ابن عمر المشهور في "الموطأ"، ومتابعة كبار الصحابة له في ذلك. ونقل البخاري في "جزء رفع اليدين عند الركوع"، والرفع منه عن علي ابن المديني: أنه قال: حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الركوع، والرفع منه.

تحقيق مذهب مالك في إشارة المصلي في التشهد بإصبعه

تحقيق مذهب مالك في إشارة المصلي في التشهد بإصبعه (¬1) الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه أجمعين. وبعد: فقد وردت أحاديث صحيحة في صفة الجلوس في التشهد، رواها مسلم وغيره، وفيها الإشارة بالإصبع التي تلي الإبهام، وتسمى: الإصبع المسبِّحة، لأنه يسبَّح بها الله؛ أي: يوحد، وتسمى: السبابة؛ لأن العرب يستعملونها عند السباب. ومن هذه الأحاديث الصحيحة قول عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في الصلاة، وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام". وحديث عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد في الصلاة، وضع يديه على ركبتيه، وأشار بإصبعه". فمن الفقهاء من فهم أن الإشارة بالإصبع هي تحريكها، فقال كما قال خليل في "مختصره": "وتحريكها دائماً"، وكما ذهب إليه ابن عرفة في ¬

_ (¬1) جواب الإمام عن سؤال حول حقيقة مذهب الإمام مالك في تحريك المصلي إصبعه أثناء التشهد - مجلة "لواء الإسلام" - العدد الخامس من السنة العاشرة.

"مختصره" من أن "الإشارة هي تحريك الإصبع"، وجعل خليل وابن عرفة تحريك الإصبع دائمًا هو المشهور في المذهب، حيث صدر بهذا القول، وأن أبا الوليد الباجي ذهب إلى أن الإشارة هي التحريك؛ حيث فسر ما رواه مالك من حديث عبد الله بن عمر الإشارة بما يقتضي أن الإشارة هي: التحريك مدة التشهد. ومن الفقهاء - وهم الكثيرون - من يفهم أن الإشارة بالإصبع غير تحريكها، فقال ابن القاسم كما رواه الباجي في "المنتقى": "ويمد إصبعه من غير تحريك". وممن يفرق بين الإشارة بالإصبع وتحريكها: أبو محمد عبد الله بن أبي زيد؛ إذ صدر في "الرسالة" القول بالإشارة، فقال: "ويبسط السبابة، ويشير بها، واختلف في تحريكها". وممن فرق بين الإشارة وتحريك الإصبع من المالكية: الحافظ أبو بكر ابن العربي؛ إذ قال في "العارضة": "وإياكم وتحريك أصابعكم في التشهد، ولا تلتفتوا إلى رواية "العتيبة"؛ فإنها بلية، والعجب ممن يقول: إنها مقمعة للشيطان إذا حركت، واعلموا أنكم إن حركتم للشيطان إصبعاً، حرك لكم عشرة، إنما يقمع الشيطان بالإخلاص والخشوع، والذكر والاستعاذة، وأما بتحريكها، فلا، وإنما عليه أن يشير بالسبابة كما جاء في الحديث" ويؤيد ما قاله ابن العربي: ما خرجه أبو داود عن عبد الله بن الزبير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحركها" وقال الحفيد ابن رشد في "بداية المجتهد": "واختلف في تحريك الإصبع، والثابت أنه كان يشير فقط".

ومن المالكية من يرى: أن الإصبع التي تلي الإبهام إنما تحرك وقت قول المصلّي: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما يقول الشافعي. ونسب هذا القول إلى يحيى بن عمر الأندلسي، ويحيى بن مزين. وفهم بعضهم شهرته من تصدير ابن الحاجب في "مختصره الفقهي"؛ إذ قال: "ويشير بها عند التوحيد". وجعل ما ذهب إليه خليل، وابن عرفة هو القول الثاني. ولعل ما روي عن الإمام مالك من أنه كان يلح في تحريك إصبعه، أو يواظب على تحريكها عند التشهد في "العتبية"، وليس في "المدونة"- حسبما بحثنا- شيء يتعلق بإشارة السبابة، أو تحريكها في التشهد. ويوجد في كتاب "إعلام الموقعين" لابن قيم الجوزية غلط واضح، هو: "أن بعض الفقهاء خالفوا السنّة الصحيحة المحكمة، وعدّ منها: إشارة المصلي في التشهد بإصبعه". وأورد حديث ابن عمر، وحديث ابن الزبير، وغيره، وقال: "فردوا ذلك كله بحديث لا يصح، وهو ما رواه محمد بن إسحاق، ونصه "التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، ومن أشار في صلاته إشارة تفهم منه، فليعدها" ثم قال: "والصحيح عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يشير في الصلاة". ولم أر من المالكية من استدل بهذا الحديث على عدم الإشارة بالإصبع. وقد ذكر هذا الحديث بسنده الإمام الطحاوي في "شرح معاني الآثار" مستدلًا به لمن يقول: الإشارة في الصلاة لحاجة؛ كتسليم الداخل، تبطل صلاته، وليعدها، فالإشارة في هذا الحديث يراد بها: الإشارة لحاجة؛ كردّ السلام، والإشارة في حديث ابن عمر يراد منها مدّ الإصبع في التشهد.

وقد عرفت مما ذكرنا أن جماعة من كبار المالكية يرجحون عدمَ تحريك الإصبع مدة التشهد، وهو ظاهر في "الموطأ"، إذ قال في حديث ابن عمر "ويشير بإصبعه"، والموافق لرواية عن مالك، وهو ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة: الحنفي، والشافعي، والحنبلي؛ إذ لا يوجد في مشهور هذه المذاهب تحريك الإصبع مدة التشهد.

نزول القرآن في رمضان

نزول القرآن في رمضان (¬1) أول ما نزل من القرآن كان في رمضان، أما الباقي، فكان في سائر الشهور، وأول ما نزل كان في ليلة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]. فالمراد بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]؛ أي: الذي ابتدأ فيه نزول القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - صلاة التراويح (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى صلاة التراويح وحده، فصلّى معه جماعة، فقال لهم: "خشيت أن تفرض عليكم", فترك الجماعة، وأعادها عمر بن الخطاب؛ لأن العلّة التي كان يخشاها النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمن منها، ولم يبتدعها عمر من نفسه، إنما وافق النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ صلاها بجماعة مرة أو مرتين، فهي سنّة عن النبي، وإن ¬

_ (¬1) كانت إدارة مجلة "لواء الإسلام" تعقد ندوات شهرية تطرح من خلالها أبحاث إسلامية، وقد شارك الإمام في قليل منها. وقد أوردنا في الصفحات التالية ما أدلى به من آراء. ندوة "لواء الإسلام"- العدد الأول من السنة الثامنة. (¬2) ندوة مجلة "لواء الإسلام"- العدد الأول من السنة الثامنة. وللإمام بحث قيم في صلاة التراويح منشور في هذا الكتاب.

رجم الزاني المحصن وشرعيته

كان النبي تركها، فلمعنى، وهو: ألا يلتزمها الناس، فيشق عليهم. تصلى في بعض المذاهب - كالمالكية - اثنتي عشرة ركعة، ويقول الحنفية بأنها ثماني ركعات. رجم الزاني المحصن وشرعيته (¬1) اتفق الأئمة وغيرهم من العلماء على أن حد الثيب من الرجال والنساء الرجم. وروي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجراه على من اعترف بالزنا. وذكر الشارع في الشهادة به: أن يكون الشهود أربعة، وشرط للشهادة به شرطاً قلما يتحقق في الخارج، ولهذا لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأئمة الرجم اعتماداً على الشهادة. وورد في "صحيح البخاري": أن النبيء - صلى الله عليه وسلم -. رجم يهودياً ويهودية اعترفا بالزنا. والقول بن رجم ماعز كان سياسة لا حدّاً؛ لأنه تبجح بأنه زنى، يأباه سياق الأحاديث ومنطوقها، ففي الحديث كما في "صحيح البخاري ": أن والد الزاني قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "سألت رجلاً من أهل العلم، فأخبروني بأن على ابني جلد مئة وتغريب عام، وعلى امرأة هذا الرجم"، وهذا شاهد بأن الرجم معروف عند العلماء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشاهده أيضاً: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "واغد يا أنيس على امرأته، فإن اعترفت، فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها". قال سفيان الثوري: ألا وقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورجمنا بعده، فأخشى ¬

_ (¬1) ندوة مجلة "لواء الإسلام" - العدد السادس من السنة الثامنة.

إن طال بالناس الزمن أن يقول قائل: والله! ما نجد أية الرجم في كتاب اللُّه، فيضلوا بترك فضيلة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو قام الحبل أو الاعتراف. والرجم كما في "صحيح البخاري" موجود في التوراة، ومنه قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - به على يهودي ويهودية اعترفا بالزنا. ولا تكون التوراة أحرص على المرأة وحماية الأسرة من الكتاب الحكيم. وعلى العالم أن يبين الحقائق التي تلقاها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن السلف الصالح، ولا يبالي من يخالفه، ويبتغي بديلاً منها. والمرأة لم تحارب الله ورسوله، ولم تسع في الأرض فساداً حتى يطبق النبي - صلى الله عليه وسلم - آية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]. فإن رأى صاحب هذا الرأي أن مجرد الزنا سعي في الأرض بالفساد، فالآية لا يراد منها الفساد الذي يحدث بالمعصية على إطلاقها، وإنما يراد منها: فساد معهود، وهو قطع الطريق. ولا يظهر أن المرأة تطبق عليها آية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} على أن نصت صراحة على جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً بالقتل أو الصلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل، أو بالنفي من الأرض، فلو كان الزنا داخلاً فيها، ما نص على عقوبته في آية النور بالجلد، وفي الأحاديث بالرجم. وتأويل القرآن والأحاديث الصحيحة على غير ما يراد منها يعد تشريعاً جديداً.

بحث لفظي في آيتي السرقة والزنا

أما قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. فقد فسر العلماء المحصنات بالحرائر، والذي يمكن أن تعذب الإماء بنصفه هو الجلد. والقرآن يطلق المحصنات على الحرائرة كما في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25]. بحث لفظي في آيتي السرقة والزنا (¬1) الزنا دوافع المرأة إليه أكثر من دوافع الرجل، فهي أحوج إلى أن تُردع؛ لأن دواعيها أقوى، فمن ثَمَّ بدأ بها. والسرقة دواعي الرجل إليها أكثر؛ لأنه هو القائم بالنفقات، فهو أحوج إلى الردع، ولذلك بدئ به. عاشوراء (¬2) عاشوراء لها أصل في الإسلام؛ فإن رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - حينما قدم المدينة، وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا؟ "، قالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون، فنحن نصومه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن أولى بموسى منكم"، فصامه. وقال: "إن عشت إلى قابل، لأصومنّ التاسع". ¬

_ (¬1) ندوة "مجلة الإسلام"- العدد السادس من السنة الثامنة. (¬2) ندوة "مجلة الإسلام" - العدد السادس من السنة الثامنة.

عصمة الأنبياء

عصمة الأنبياء (¬1) الأنبياء معصومون من المعاصي بامتناع منهم بالحجة والبرهان، قال تعالى في شأن يوسف- عليه السلام -: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]. وهم يثابون؛ لأنهم ممتنعون بأنفسهم، وتاركون للمعاصي. ترجمة القرآن (¬2) القرآن فيه آيات قطعية الدلالة على معانيها؛ مثل قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]. وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91]. والآيات التي تدل على الوحدانية، وأكثر آيات العقائد، وآيات الحدود، وآيات الأوامر، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]. فهذه الآيات تترجم معانيها؛ ليقف عليها من لا يعرف العربية. وهناك آيات لا يترجم إلا تفسيرها؛ مثل: الآية الظنية الدلالة، كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فالقرء له معنيان: الحيض، والطهر، فهل المعنى في الآية: ثلاث ¬

_ (¬1) ندوة "مجلة الإسلام"- العدد السادس من السنة الثامنة. (¬2) ندوة "مجلة الإسلام"- العدد السابع من السنة الثامنة. راجع كتاب "بلاغة القرآن" للإمام.

حيضات، أو ثلاثة أطهار؟. فالذي يترجم هو أحد المعنيين، وهذه الترجمة تكون للمعنى الذي فهمه المفسر من آية القرآن. وقد كتبت في هذا الموضوع في "مجلة الأزهر" في السنة الأولى لها.

4 - محمد رسول الله وخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (4) «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة كانت مشيئة الله تعالى في خلقه أن يُبعثَ محمدٌ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رسولاً إلى الناس كافة هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الحق بإذنه وسراجاً منيراً، ومبعوثاً لنشر مكارم الأخلاق، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة. وهو المثل الأعلى في الشرف والحسب وكمال الخلق والسيرة القويمة، ولن تجد فضيلة إلا كانت من صفاته. يقول الإمام محمد الخضر حسين: "طالعْ كتب التاريخ، عربية وغير عربية، وأمعن النظر في أحوال عظماء الرجال من مبدأ الخليقة إلى هذا اليوم، فإنك لا تستطيع أن تضع يدك على اسم رجل من أولئك العظماء، وتقص علينا سيرته ومزاياه وأعماله الجليلة حديثاً يضاهي أو يداني ما نحدثك به عن هذا الرسول العظيم ". مقالات وبحوث ومحاضرات في السيرة النبوية الكريمة، كتبها أو ألقاها الإمام في مناسبات ذكرى المولد النبوي الشريف، أو الهجرة النبوية المباركة. جمعتها وأعددتها في هذا الكتاب تحت عنوان "محمد رسول الله وخاتم النبيين". وهي إحدى الرسائل التي تضمنها الكتاب. ولن يحيط مجموع الكتاب بالسيرة النبوية الزاخرة التي تحتاج إلى

مجلدات، وإنما تناول جوانب من السيرة الشريفة في مقالات عن رفقه، وحكمته في السياسة، وسيرته في الخليقة، وصبره ومتانة عزمه، وبلاغته، وشجا عته، ورجاحة عقله، وحكمة رأيه، وآداب خطبه، وهجرته، وإبادته للاصنام، ودعوته، وقضائه على المزاعم الباطلة، وعظمته، وغيرها من البحوث العلمية الفائقة. وعندما يكتب الإمام في السيرة النبوية، فإن الإخلاص رائده، والعلم القويم منهاجه. إن كتابة الإمام في السيرة النبوية، والدفاع عنها، ورد سهام المغرضين، وتفنيد مزاعم المبطلين والزائغين عن الحق بالحجة والبرهان، دليل على إيمان راسخ في القلب، وعلم واسع في العقل، ويقين صادق عند صاحبه أوقف حياته المليئة بجلائل الأعمال لهذه الدعوة الخالدة. أشرت في الهامش عند مطلع كل بحث إلى المصدر الذي نقلت عنه. والله نسأل الهداية والتوفيق في خدمة رسالة الإسلام، والحمد لله رب العالمين. علي الرّضا الحسيني

مقدمة الإمام محمد الخضر حسين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الإمام محمد الخضر حسين الحمد لله الذي أمتعنا بنعمة الإسلام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة لجميع الأنام، وعلى آله النبلاء الكرام، وأصحابه الهداة الأعلام، وكل من دعا إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة إلى يوم القيام. أمّا بعد: فقد كَثُرَ ما وقع في أيدينا من صحف يضعها أولئك الذين سمّوا أنفسهم: "المبشرين"، ويتعرضون فيها لدين الإسلام بكلمات خبيثات، يبتغون بها إخراج أبنائنا وبناتنا من نور الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟!. ما أراه في تلك الصحف من زور وبهتان، ثم ما أذاعته الصحف السيّارة في العهد القريب من قصص محاولة تلك الطائفة لتنصير بعض الفتيان أو الفتيات، قد دعياني إلى تحرير رسالة في سيرة رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، ودلائل نبوته السنية. وغير خفيّ على من يقمّر هذا الرسول الأعظم قدره: أن ليس في طوق كاتب- ولو ألقت إليه البلاغة أعنَّتها - تقضي المعاني التي في هذه السيرة العظيمة، أو تساق في دلائل هذه النبوة المباركة، إنما القصد من تأليف هذه الرسالة: أن أصوغ من تلك السيرة النبوية، ودلائل النبوة المحمدية فصولاً وجيزة، ثم أعرضها عليك في صفحات يمكنك أن تأتي عليها في زمن قليل.

خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وأمتعه بنعمة العقل، وهي من أجل ما ينعم به الخالق الحكيم. أمتعه بنعمة العقل؛ ليهتدي به إلى الحياة الطيبة، وما الحياة الطيبة إلا أن تعرف النفوس مُنشئها ومصيرها حق اليقين. تعرف منشئها؛ لتقوم بما يستحقه من التعظيم والإجلال، وتعرف مصيرها؛ لتعدّ له ما تستطيع من صالح الأعمال. ولكن المشاهدات الصائبة، والتجارب الصادقة، والأخبار المتواترة، دلت على أن للعقول حدوداً لا تتعداها، ونظرات قد تنحرف عن قصد السبيل، فتخطئ مرماها، فاقتضت حكمة الله تعالى ورحمته بالخليقة: أن يرشد العقول إلى حقائق لا تصل إليها بنفسها، ويريها قصد السبيل؛ حتى لا تزيغ نظراتها، فبعث الرسل - عليهم السلام - مؤيدين بالآيات البينات، داعين إلى سبيل الحق بابلغ الحِكَم وأحسن العظات. وما زال الرسل - عليهم الصلاة والسلام - يُبعثون إلى الأقوام الطاغية، فيحاجّونهم، ويعظونهم، ويبشرونهم وينذرون، يهتدي بهديهم أولو الألباب، ويكفر بهم من حقت عليه كلمة العذاب، حتى جاء الزمن الذي خصه الله تعالى بأن يكون مطلع هداية عامة، وشريعة خالدة، ذلك هو الزمن الذي بُعث فيه أفضل الخليقة سيدنا محمد العربي القرشي - صلى الله عليه وسلم -. محمد الخضر حسين 1352 هـ - 1933 م

أديان العرب قبل الإسلام

أديان العرب قبل الإسلام (¬1) قصَّ الله تعالى علينا في القرآن المجيد: أن العرب كانوا يتخبطون في ضلالة الشرك، ويتخذون من دون الله آلهة، فيبعث إليهم أنبياء ليهدوهم السبيل، ويدعوهم إلى العقائد السليمة، والأخلاق الكريمة. * بعثة هود - عليه السلام -: أقدم قوم من العرب قصَّ الله علينا أنهم كانوا يعبدون الأصنام، فأرسل إليهم رسولاً: قوم عاد، وكانت منازلهم بالأحقاف، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الأحقاف: ا 2]. والأحقاف: جمع حِقْفِ، وهو الرمل المستطيل فيه اعوجاج وانحناء. فالآية ظاهرة في أن منازلهم كانت ببلاد فيها رمال كثيرة. وذكر ابن قتيبة أنهم كانوا ثلاث عشرة قبيلة ينزلون الرمل: بالدوّ، والدّهناء، وعالج، ووَبَار، وعُمان، إلى حَضْرَ موت. وهذا لا يخالف ما جاء في سورة الفجر من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" الأجزاءالتالية: الجزء التاسع من المجلد الحادي عشر، ربيع الأول سنة 1358 - أبريل 1939 - والجزء الثاني عشر من المجلد الحادي عشر، جمادى الثانية 1358 - يولية 1939 - والجزء الأول من المجلد الثاني عشر، رجب 1358. والجزء الثالث من المجلد الثاني عشر، رمضان 1358 هـ.

فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ (¬1) ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 7 - 8]؛ لصحة أن تُحمل العماد على عماد الأخبية. ثم إن نزولهم بالأحقاف لا يمنع من أن تكون لهم مبانِ ضخمة. والقرآن الكريم يشير إلى هذا فيما قصَّه الله تعالى علينا من مواعظ هود - عليه السلام - إذ قال: [أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 128 - 129] (¬2). وكان هؤلاء القوم يعبدون آلهة غير الله، ولم يصرح القرآن الكريم بما كانوا يتوجهون إليه بالعبادة على وجه التعيين، ويروى أنهم كانوا يعبدون الأصنام (¬3). وجَمْعُ الآلهة في قوله: {بِتَارِكِي آلِهَتِنَا} [هود: 53]، وجَمْعُ الأسماء في قوله: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف: 71] يدل على أن عاداً كانت تعبد آلهة متعددة. ويقال: إن عاداً أول من عبد الأصنام بعد الطوفان، والقرآن الكريم إنما يدل على أن بعثة هود كانت بعد بعثة نوح - عليه السلام -، قال تعالى فيما يقصه من قول هود لقومه: [واذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69]؛ أي: خلفاء من بعدهم؛ لتعتبروا بما كان من عاقبتهم، وتشكروا الله على ما أعطاكم من قوة، ووهبه لكم من نعمة. ¬

_ (¬1) هو إرم بن سام الذي هو أحد جدود عاد، فإرم بدل من عاد؛ لأن أولئك القوم يطلق عليهم اسم جدهم عاد، واسم جدهم إرم. (¬2) الريع: الجبل، أو المكان المرتفع، والآية: القصر، والمصانع: ما كان من نحو الحصون ومجاري المياه. (¬3) قال المسعودي في "مروج الذهب": كانوا يعبدون ثلاثة أصنام، وهي: صمود، وصداء، والهباء، وقال المسعودي أيضاً: إن عاداً كان يعبد القمر.

بعث الله هوداً - عليه السلام - إلى هؤلاء القوم، فدعاهم إلى نبذ عبادة غير الله، وأمرهم بإخلاص العبادة لله وحده، قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65]. وذكر في وعده لهم على إجابة دعوته أن لهم قبل خير الآخرة خير الدنيا، فقال: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]. وهذا ما يناسب دعوة القوم الذين غرقت قلويهم في الحرص على الدنيا: أن يبشروا بأن الاستقامة على هدى الله أعظم وسائل السعادة في هذه الحياة. وتوعَّدهم بعقوبة الدنيا والآخرة إذا هُم تمادَوا في غيِّهم، فقال: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26]. وقال: {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [هود: 57]. ولم يكن من قومه إلا أن كذَّبوه، وتنقَّصوه، وجحدوا ما جاء به من الآيات، وأصروا على ما وجدوا عليه آباءهم من عبادة غير الله، فقالوا فيما قصه الله تعالى من إجابتهم لهود: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66]، وقالوا: {جِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70]، وقال تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود: 59]. ووقف هود - عليه السلام - موقف من لا يهاب أهل الباطل، ولا يبالي بهم، ولا بما هم فيه من قوة وطغيان، ولا بما طبعوا عليه من الحرص على إذاية الداعين إلى الحق، والمبادرة إلى البطش بهم، فقال: {نِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي

بعثة صالح - عليه السلام - لثمود

تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54 - 56]. وكذلك يجب أن يكون دعاة الإصلاح في كل حين: يزدرون أهل الضلال، ويواجهونهم بكل ما ملكوا من حجةٍ وحكمة. دعا هود - عليه السلام - قومه إلى الحق، ودلَّهم على سبيل الخير، فاستحبوا الكفر على الإيمان إلا قليلاً منهم، وكان عذابهم أن أرسل الله عليهم ريحاً شديدة الصوت: {(5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 6 - 7]. أباد الله أولئك الجاحدين، ولم يبق منهم أحد، قال تعالى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8]. وقال {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72]، وقال: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} الأحقاف:] 25، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم: 50 - 51]. ونجى هوداً والذين آمنوا معه. قال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [الأعراف: 72]. وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58]. * بعثة صالح - عليه السلام - لثمود: بُعث صالح إلى قوم من العرب يقال لهم: "ثمود". وثمود: قبيلة من العرب العاربة كانوا يسكنون الحِجْر: بين الحجاز والشام. وفي "صحيح البخاري" عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل الحِجْر في غزوة تبوك، أمرهم ألا يشربوا من بئرها، وألا يسقوا منها. وفي "صحيح البخاري" أيضاً:

دعوة صالح لثمود

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مر بالحِجْر، قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين؛ أن يصيبكم الله مثل ما أصابهم"، ثم تقنع بردائه وهو على الرحل، وأسرع السير حتى أجاز الوادي. وكان هؤلاء القوم يعبدون غير الله: يروى أنهم كانوا يعبدون الشمس، وفي "مروج الذهب"اللمسعودي، وغيره: أنهم كانوا يعبدون الأوثان. والقرآن الكريم لم يتعرض لما كانوا يعبدون على وجه التعيين، وإنما دلَّ على أنهم كانوا يعبدون غير الله، ومن أدلة هذا: قولهم فيما قصه الله عنهم: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود: 62]. * دعوة صالح لثمود: دعا صالح - عليه السلام - قومه إلى عبادة الله وحده، قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73]، وذكرهم بما وهب الله لهم من النِعم، وحذرهم من إطاعة المفسدين، قال تعالى: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74]. وقال: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [هود: 61]؛ أي: ابتدأ خلقكم منها، {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ أي: جعلكم عمّارها، أو طلب منكم أن تعمروها، {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْه} [هود: 61]: أقلعوا عما أنتم عليه؛ فإنه يقبل منكم، ويتجاوز عنكم، {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ} [هود: 61] برحمته {مُجِيبٌ} [هود: 61] لسائليه. وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 150 - 152]. وكان من قومه أن أعرضوا عن الدعوة، وجحدوا بما جاء به من الآية

آية نبوته

البيّنة، وقال فيما قصه الله عنهم: [ياصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود: 62]: كنا نرجو قبل هذه المقالة والدعوة أن يكون عقلك كاملاً، [أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: 62]. وردَّ عليهم صالح في رفق ولطف، فقال: {يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود: 63]. * آية نبوته: دعا صالح - عليه السلام - قومه إلى الحق، فاقترحوا عليه أن يأتيهم بآية تدل على صدق دعوته، قال الله تعالى فيما يقصه عنهم: {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 154]، فكان له في الناقة التي آتاه الله آية ظاهرة، قال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59]؛ أي: آية بيّنه، وقال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف: 73]. أما وجه المعجزة فيها، فلم يصرح به القرآن الكريم إلا ما جاء من قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28]. وقوله تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155]. وروى أحمد، والحاكم عن جابر، قال: لما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحِجْر، قال: "لا تسألوا الآيات؛ فقد سألها قوم صالح، وكانت الناقة ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، وكانت تشرب ماءهم يوماً، ويشربون لبنها يوماً، فعقروها، فأخذتهم صيحة أهمد الله منْ تحت أديم السماء منهم" (¬1). ¬

_ (¬1) هذا الحديث قال فيه ابن كثير هو على شرط مسلم.

ودلَّ القرآن الكريم أن من قوم صالح من قبلوا دعوته، وآمنوا بما جاء به، يؤخذ هذا من قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 75]. واتفق رأي ثمود بعدُ على عقر الناقة، وكان صالح ينذرهم أن يتعرضوا لها: {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73] فعقروها, {وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77]، فقال لهم صالح - عليه السلام - {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65]. ولما أمسوا، هموا بقتله كما أخبر الله تعالى في قوله: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 48 - 49]؛ أي: لنكبسنه في داره مع أهله ليلاً، ونقتله، {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 49]. ولما انتهت الأيام الثلاثة، جاءتهم صيحة من فوقهم، ورجفة شديدة من تحتهم، فأصبحوا في دارهم جاثمين، قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14] (¬1). وقال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17]. وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا ¬

_ (¬1) أطبق عليهم العذاب، كما يقال: دمدم عليه القبر؛ أي: أطبقه عليه، وقيل: الدمدمة: إهلاك في استئصال.

بعثة إسماعيل - عليه السلام - للعرب

عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ (¬1) الْمُحْتَظِر} [القمر: 31]. وقال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78]. * بعثة إسماعيل - عليه السلام - للعرب: بُعث إبراهيم - عليه السلام - في أرض بابل، ودعا قومه إلى الدين الحنيف، فلم يجيبوا دعوته، فهاجر، وورد الشام ومعه زوجته سارة (¬2). وأتى مصر، وحاول أحد الجبارين الاعتداء على سارة، وخلصها الله منه، وأخدمها "هاجر". ثم رجع الخليل - عليه السلام - إلى أرض المقدس، ووهبته سارة أمتها هاجرة رجاء أن يرزقه الله منها ولداً، فدخل عليها إبراهيم، فحملت منه، وولدت منه إسماعيل - عليه السلام -، وحصلت لسارة غيرة من هاجر، وطلبت من الخليل أن يغيِّب وجهها عنها، فذهب بها الخليل حتى وضعها حيث مكة اليوم. وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس: ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، إلى أن كرمها الله بنبع زمزم. ومر بها رفقة من جرهم، فنزلوا هنالك، وشب إسماعيل، وتعلم منهم العربية، فلما أدرك، زوجوه امرأة منهم. ¬

_ (¬1) كالهشيم اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. (¬2) قيل: ابنة ملك حران، فارقت دين قومها، فتزوجها إبراهيم - عليه السلام -، والمشهور أنها ابنة عمه (هاران)، وأما من زعم أنها ابنة أخيه "هاران"، وادعى أن نكاح بنت الأخ كان إذ ذاك جائزاً، فزعم باطل لا يستند إلى دليل، ولا ما يشبه الدليل.

بعثة شعيب - عليه السلام - إلى مدين

وعاد إبراهيم - عليه السلام - إلى مكة، وبنى بها البيت الحرام، يعينه على ذلك ابنه إسماعيل - عليه السلام -, وبعث الله إسماعيل بشريعة إبراهيم إلى جرهم والعماليق. وذكر بعضهم أنه أرسل إلى جرهم والعماليق وقبائل من اليمن في زمن إبراهيم - عليه السلام - (¬1). وإذا أرسل إسماعيل بشريعة إبراهيم؛ فإن إبراهيم كان يدعو إلى التوحيد الخالص، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب؛ كما يدعو سائر الأنبياء، ومن شريعته: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، قال الله تعالى في قصة إسماعيل: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55]. ومن شريعته: حج البيت: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]. ومنها: الاختتان، كما ورد في الصحيح. * بعثة شعيب - عليه السلام - إلى مَدْيَن: من العرب الذين كانوا يعبدون غير الله: مدين، وكانت منازلهم تجاور أرض معان بأطراف الشام، ومما عرفوا به من الفساد في الأرض: أنهم كانوا يبخسون المكيال والميزان؛ أي: يأخذون لأنفسهم بالزائد، ويدفعون لغيرهم بالناقص. فبعث الله إليهم شعيباً - عليه السلام - داعياً إلى التوحيد والإصلاح، وبعثته كانت بعد بعثة إبراهيم - عليه السلام - يدل على هذا: قوله لقومه كما جاء في الآية: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89]، وقال تعالى في قصة إبراهيم: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]. والقرآن الكريم يسمي من ¬

_ (¬1) "السيرة الحلبية".

أرسل إليهم شعيب بمدين تارة، وبأصحاب الأيكة (¬1) مرة أخرى، فقال: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 85]، وقال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 176 - 177]. وقد اختلف أهل العلم في بيان هذا، فقال قوم: إن شعيباً أرسل إلى أمتين: مدين، وهم الذين عُذبوا بالصيحة، وأصحاب الأيكة، وهم الذين أخذهم الله بعذاب يوم الظلة (¬2). وقال آخرون: إن شعيباً أرسل إلى أمة واحدة تسمى: مدين، وهم أنفسهم أصحاب الأيكة، وهذا هو المختار. قال ابن كثير في "تاريخ": ومن المفسرين من قال: إن أصحاب الأيكة أمة أخرى غير أهل مدين، وقوله ضعيف، لم يوافقوا عليه، وإنما عمدتهم شيئان: أحدهما: أن الله تعالى قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. ولم يقل: أخوهم كما قال: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 85]. ثانيهما: أنه ذكر أنه عذب أصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة، وذكر في مدين أنه عذبهم بالرجفة والصيحة. والجواب عن الأول: أنه تعالى لم يقل: أخاهم بعد ذكر الأيكة؛ لأن ذكره غير مناسب بعد وصفهم بعبادة الأيكة، ولما نسبهم إلى العبيد، ساغ ذكر الأخوة؛ كما قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65] وقال: ¬

_ (¬1) سموا أصحاب الأيكة؛ لأنهم كانوا يسكنون أيكة؛ أي: غيضة تنبت ناعم الشجر، وقيل: الأيكة: اسم للبلد الذي كانوا يسكنونه. والأظهر ما قاله ابن كثير من أنهم كانوا يعبدون أيكة. (¬2) يعزى هذا إلى السدي، وعكرمة.

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73]. والجواب عن الثاني: أنه جمع عليهم الثلاثة أنواع من العذاب: الصيحة، والرجفة، وعذاب الظلة (¬1). دعا شعيب - عليه السلام - قومه إلى نبذ ما كانوا يعبدون من دون الله، والإقلأع عن الفساد، {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87]، وأتاهم بآية بينة على صدق رسالته، أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى فيما يقصه من قول شعيب: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 85]، والآية ما يجريه على الرسول من المعجزة. وسلك في دعايتهم كل طريق حكيم من التبشير؛ كقوله: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90]. أو الإنذار؛ كقوله: {وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89] (¬2). وقوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84]. ولم ينتفع القوم بالآيات والمواعظ، فأصروا على كفرهم وفجورهم، ¬

_ (¬1) لم يبين القرآن الكريم حقيقة هذا العذاب، والذي يذكره الرواة: أن الله تعالى بعث عليهم ريحاً حارة شديدة، فأخذت بأنفاسهم، وبعث عليهم سحابة، فأظلتهم من الشمس، وهي الظلة، حتى إذا اجتمعوا تحتها، أسقطها الله عليهم ناراً، ورجفت بهم الأرض، وجاءتهم الصيحة من فوقهم. (¬2) قوم لوط لم يكونوا ببعيد من قوم شعيب، لا في الزمان، ولا في المكان، ولا في الصفات والأفعال القبيحة.

الشرك في بلاد العرب

وقالوا فيما قصه الله عنهم: {يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91]. ولما أيس شعيب من إيمانهم، استنصر الله تعالى في مجازاتهم بما يستحقون، فقال: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]. فاستجاب الله له فيهم، وجمع عليهم أنواعاً من العقاب، {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 94]. ونجى الله شعيباً والذين معه، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود: 94]. * الشرك في بلاد العرب: انتشر في بلاد العرب الدين الحنيف الذي تلقوه من إسماعيل - عليه السلام -، وما زالوا على ذلك حتى مرت عليهم أحقاب، وفعلت فيهم الأهواء فعلتها، ووجدت الآراء الباطلة في نفوسهم مواضع، فابتعدوا عن سبيل الرشد، وذهبوا في أودية الضلال فرقاً، حتى أصبحت الجزيرة كمعرض للملل الضالة، والآراء الفاسدة، فيجد الباحث في تاريخهم أصنافاً كثيرة من مظاهر الشرك كانت قائمة في الجزيرة؛ من نحو: عبادة الأصنام، والأنصاب (¬1)، ¬

_ (¬1) قال ابن الكلبي في كتاب "الأصنام": إن المصنوع من خشب أو ذهب أو فضة على صورة إنسان: صنم، وإذا كان من حجر، فهو وثن. وذهب آخرون إلى أن الصنم والوثن مترادفان. فقال: ما يعبدون من الحجر على غير صورة، فهو نصب، وما يكون تمثالاً، فهو صنم ووثن. وحكى صاحب "المصباح" قولاً بأن الأنصاب هي الأصنام، فقال: النصب: حجر نُصب وعبد من دون الله. قيل: هي الأصنام، وقيل: غيرها؛ فإن الأصنام مصورة، والأنصاب بخلافها.

عبادتهم الأصنام

والأشجار، والملائكة، والجن، والحيوان، ومن دين الصابئة وعبادة الكواكب، ومن المجوسية والبرهمية. * عبادتهم الأصنام: سبب ضلال العرب في عبادة الأصنام بعد تمسكهم بملة إبراهيم - عليه السلام -: أن أولاد إسماعيل لما ملؤوا مكة، وانتشروا في البلاد لطلب الرزق، كان الظاعن منهم يحمل معه حجراً من حجارة الحرم، وحيثما نزل، وضعه، وطاف به طوافه بالكعبة، ثم انجرَّ بهم ذلك إلى المبالغة في تعظيم تلك الأحجار، فعبدوها، وعادوا إلى ما كانت عليه الأمم الضالة من قبلهم. ثم ظهر عَمرو بن لُحي الخزاعي أيام تغلبت خُزاعة على مكة، ونفت منها جرهم، وكان قد تولى سدانة البيت، فدعا إلى عبادة الأوثان. وسبب ضلال عمرو هذا فيما يروى: أنه دخل البلقاء من أرض الشام (¬1)، فرأى قوماً يعبدون الأصنام، ويقولون: هذه أرباب نتخذها، نستنصر بها فننصر، ونستسقي بها فنسقى، وكل من سألها يعطى، فرجع إلى مكة ومعه صنم منهم، فنصبه على الكعبة، ودعا القوم إلى عبادته، ففعلوا. تفشت في العرب عبادة الأصنام، فأقاموا في جوف الكعبة تماثيل، وكان أعظمها في زعمهم: "هبل". ووضعوا حول الكعبة نحو ستين وثلاث مئة صنم (على عدد أيام السنة)، ومن الأصنام التي وضعوها حول الكعبة: إساف، وكان على الصفا، ونائلة، وكانت على المروة. واتخذ أهل كل دار من مكة صنماً يعبدونه من ¬

_ (¬1) البلقاء: كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى، قبتها عمان.

التماثيل القائمة في الكعبة، والأنصاب الموضوعة حولها. وللعرب أصنام في غير مكة يبالغون في تعظيمها، منها: "اللات" (¬1)، وهو صنم لثقيف، "ومناة" (¬2): صنم كان منصوباً على ساحل البحر بقديد (الجبل الذي بين مكة والمدينة)، وكانت العرب جميعاً تعظمه، وتذبح حوله، ولم يكن أحد أشد إعظاماً له من الأوس والخزرج، "وفلس" (¬3): صنم لطيء، و"نهم" (¬4): صنم لمزينة، و"ذو الخلصة": صنم لخثعم ودوس وبجيلة، و"الأقيصر": كان بمشارف الشام للخم وجذام، وغطفان، و"ذو الكفين": صنم لدوس، و "ذو الشرى": صنم لبني الحارث بن يشكر، و"رضا": صنم لربيعة، و"عميانس": صنم لخولان، و"سعير": صنم لعنزة. ومن أصنامهم: "ود" كان في قبيلة كلب، و"سواع"، وكان في قبيلة هذيل، و"يغوث"، وكان في قبيلة مراد، و"يعوق"، وكان في قبيلة همدان، و "نسر"، وكان في حمير. وقد ذكر القرآن المجيد هذه الأصنام الخمسة في قصة نوح - عليه السلام -، قال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]. روي عن ابن عباس: أن هذه الأصنام كانت لقوم نوح - عليه السلام -, ¬

_ (¬1) بالتاء المشددة، وقرأ بها ابن عباس وعكرمة وجماعة؛ تسمية للصنم بوصف الذي كان يلتُّ عنده السويق. (¬2) "الأصنام " لابن الكلبي. (¬3) ضبطه صاحب "القاموس" بكسر الفاء وسكون اللام. (¬4) بضم النون وسكون الهاء.

مظاهر تعظيمهم للأصنام

ثم انتقلت إلى العرب من بعدهم. ومن المحتمل القريب أن تكون أسماء هذه الأصنام بقيت تذكر إلى ما بعد نوح، ثم اتخذ العرب أصناماً، وسموها بهذه الأسماء. ومن هذه الأصنام: ما كان يتخذ من الأحجار النفيسة؛ كهبل؛ فإنه كان - فيما يروى - من عقيق أحمر على صورة إنسان، ومنها: ما يتخذ من نحاس؛ كصنم خزاعة الذي أقاموه فوق الكعبة، ومنها: ما يتخذ من الحجارة؛ كمناة؛ فإنه كان صخرة مربعة، ونحو ذي الخلصة؛ فإنه كان مروة بيضاء، وعليها نقش في شكل تاج، ومنها: ما يتخذ من الخشب؛ كذي الكفين. * مظاهر تعظيمهم للأصنام: كان عبّاد الأصنام يزورون الأصنام، ويتمسحون بها، ويتقربون إليها بالذبائح، ويحلفون بها، ولا يتعرضون لمن التجأ إليها، وكانوا يرون أن سبّها يأتي بأمراض معضلة، ويؤلفون أسماء أبنائهم من أسمائها؛ تبركاً بها، كما قالوا: عبد العزّى، وزيد اللّات، وزيد مناة، وعبد يغوث، وعبد نهم، وعبد ود، وعبد غنم، وعبد المدان (¬1)، وعبد رضا، وعبد كلال (¬2)، وعبد مناف (¬3)، وعبد ياليل (¬4). وكانت الحيَّض من النساء لا يدنون من الأصنام، ولا يتمسحن بها، ¬

_ (¬1) قال ابن دريد: المدان: اسم صنم، وفي "القاموس": المدان؛ كسحاب: صنم. (¬2) هو ابن عبد ياليل أحد سادات الطائف، عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه الدعوة، فلم يجبه. (¬3) في "القاموس": ومناف: صنم. (¬4) في "القاموس": يا ليل كهابيل: رجل، وصنم.

عبادتهم لبعض الأشجار

وإنما كانت الواحدة تقف ناحية منها (¬1). وكانوا يسكبون لها خمراً أو زيتاً أو حليباً، ويجعلون أمامها طعاماً ليكله الطير، وكانوا يقصون عندها نواصي أولادهم، ويحلقون شعورهم، وكان العذارى يرقصن حولها مسبلات ذيولهن. وكانوا يَقسِمون لها من حرثهم وأنعامهم، قال تعالى: ({وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]. وبيان هذه القسمة الضالة - على ما جاء في بعض الروايات -: أنهم كانوا يعينون شيئاً من حرث ونتاج لله تعالى، فيصرفونه إلى الضيف والمساكين، وأشياء منها لآلهتهم، فينفقون منها لسدنتهم، ويذبحون عندها، فإذا رأوا ما جعلوه لله تعالى زاكياً نامياً، يزيد في نفسه خيراً، رجعوا فجعلوه لآلهتهم، وإذا زكا ما جعلوه لآلهتهم، تركوه؛ معتلين بأن الله تعالى غني. * عبادتهم لبعض الأشجار: كان العرب يعبدون بعض الأشجار، و"العزى": سمرة (¬2)، كان لغطفان يعبدونها، وكانوا بنوا عليها بيتاً، وأقاموا لها سدنة (¬3). وقيل: ثلاث سمرات، أو نخلات، وكانت قريش تخصها بالإعظام، وكانوا يعظمون ذات أنواط، ¬

_ (¬1) "الأصنام" لابن الكلبي. (¬2) واحد السمر، وهو شجر الطلح. (¬3) "معجم ياقوت".

عبادتهم بعض الحيوان

وهي شجرة عظيمة في جوار مكة، كانت الجاهلية تأتيها كل سنة، فتعلق عليها أسلحتها، وتذبح عندها. * عبادتهم بعض الحيوان: من العرب من كانوا يعبدون بعض الحيوان؛ فقد جاء في قصة وفد طيء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر إليهم، وقال: "إني خير لكم من العزى ولاتها، ومن الجمل الأسود الذي تعبدونه من دون الله" (¬1). وجاء في قصة عمرو بن حبيب الملقب بذي الكيود: أنه أغار على بني بكر، فأصاب سقباً (¬2) كانوا يعبدونه، فنحره وأكله، إلى هذا يشير الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في "عمود النسب " (¬3) بقوله: وانسب (¬4) حبيبهم وذا الكيود ... آكل سقب بكر المعبود * عبادتهم الكواكب: كان بعض كنانة يعبدون القمر والدبران، وبنو لخم وجرهم كانوا يعبدون "المشتري"، وبعض بني طيء عبدوا "سهيلاً"، وبعضهم عبدوا "الثريا"، وبعض قبائل ربيعة عبدوا "المرزم"، وطائفة من تميم عبدوا "الدبران"، وبعض القبائل لخم وخزاعة عبدوا "الشعرى العبور". ¬

_ (¬1) "الروض الأنف" (ج 2 ص 342). (¬2) السقب: ولد الناقة. (¬3) توجد منه نسخة بدار الكتب المصرية. (¬4) الضمير يعود على بني فهر، وهو الذي يقول فيه الشاعر: ألا كل من سمي حبيب ولو بدت ... مروءته يفدي حبيب بني فهر

عبادتهم للملائكة

* عبادتهم للملائكة: من العرب من كانوا يعبدون الملائكة، ويزعمون أنهم بنات الله يشفعن لهم عنده (¬1) وقد أنكر الله تعالى عليهم ذلك، فقال تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا} [الإسراء: 40]. وورد في القرآن الكريم أن الله - سبحانه وتعالى- يسأل الملائكة يوم القيامة عن عبادة الإنس لهم، فيتبرؤون منهم ومن ولايتهم، جاء هذا في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 41]. وسؤال الله تعالى للملائكة يدل على أن من الإنس من كانوا يتوجهون بعبادتهم إلى الملائكة، وقول الملائكة: [بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ] ظاهر في نفي أن يكون من الإنس من يتوجه إليهم بالعبادة، وأن المشركين إنما كانوا يقصدون بعبادتهم الجن. ومن وجوه تفسير الآية التي يكون بها جواب الملائكة موافقاً للسؤال: أن أولئك الإنس كانوا يتوجهون بالعبادة إلى الملائكة، ولكنهم كانوا يتخيلون للملائكة صوراً، وهذه الصور إنما تطابق حال الجن، فيصح أن يقال: إن هؤلاء الإنس إنما يعبدون أصحاب تلك الصور، وهم الجن. ومن الوجوه التي تجعل الجواب موافقاً للسؤال: أن الملائكة جعلوا عبادة الإنس لهم عبادة للجن؛ لأن الجن - وهم الشياطين - وسوسوا لهم بهذه العبادة، فنسبة عبادة الإنس للجن من جهة أنهم وسوسوا بها. ¬

_ (¬1) "الملل والنحل" للشهرستاني، و"مروج الذهب" للمسعودي.

عبادتهم الجن

* عبادتهم الجنَّ: من العرب من كانوا يعبدون الجن، قال أبو المنذر في كتاب "الأصنام": كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن، وهم المشار إليهم بقوله تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 41] وقال ابن عطية في تفسير هذه الآية: "يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عُبدت، في سورة الأنعام، وغيرها، ومن آيات الأنعام الظاهرة في هذا قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} [الأنعام: 100]، وجاء في سورة الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]؛ أي: زاد الرجال العائذون الجن رهقاً؛ أي: تكبراً، أو عتواً، ذلك أن الرجل منهم إذا أمسى في وادٍ قفر، وخاف على نفسه، نادى بأعلى صوته: يا عزيز هذا الوادي! أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك. وجاء في هذا من الشعر قول بعضهم: قد استعذنا بعظيم الوادي .... من شر ما فيه من الأعادي فلم يجرنا من هزبر عاد والاستدلال على أن في العرب من كانوا يعبدون الجن بآية: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 41]؛ غير ظاهرة فإن سؤال الله تعالى للملائكة عن عبادة الإنس لهم يشعر بأن هناك جماعة من الإنس يتوجهون بعبادتهم إلى الملائكة، فيكون جواب الملائكة بأن هؤلاء إنما كانوا يعبدون الجن، غير مناسب السؤال إلا على أحد الوجوه التي أوردناها في بحث عبادتهم للملائكة.

وقد يلوح للناظر وجه في تاويل الآية يمكن أن تدل به على أن من الإنس من كان يعبد الملائكة، ومنهم من كان يعبد الجن، وهو أن يقال: لما حضر المشركون من عباد الملائكة والجن والأصنام، وأراد الله تعالى إقامة الحجة على أن غيره لا يستحق أن يعبد، وجَّه الخطاب إلى أشرف من توجه المشركون إليه بالعبادة، وهم الملالكة، حتى إذا تبرؤوا، وتبين بإقرارهم أنهم غير أهل لأن يعبدوا، كان قصور غيرهم عن مرتبة العبادة أولى، وكان جواب الملائكة أن تبرؤوا من الإنس الذين كانوا يعبدونهم، فقالوا: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} [سبأ-41]. وبعد هذه البراءة انتقلوا إلى الإخبار بأن أولئك المشركين كانوا يعبدون الجن. فاسم الإشارة في قوله: {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40]، مشار به إلى جملة المشركين بالنظر إلى أن فريقاً من هذا المجموع كانوا يعبدون الملائكة، والضمير في قوله تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: 41] يعود إلى مجموع المشركين بالنظر إلى الفريق الذين كانوا يعبدون الجن، وكلمة {بَلْ} تستعمل في عطف الجمل لمجرد الانتقال من خبر إلى آخر، فهي هنا للانتقال من التبرؤ من الإنس إلى وصفهم بعبادة الجن، ولا غرابة في إطلاق اسم يتناول جماعة، ثم يخبر عنه بأمر صدر من بعضهم لأمر يقتضيه المقام، والأمر الذي اقتضى في السؤال تخصيص عبادتهم للملائكة بالذكر: هو ما أشرنا إليه من أن الملائكة أشرف معبوداتهم، والذي اقتضى في جواب الملائكة ذكر عبادتهم للجن: هو أنه كان شأن أكثر المشركين؛ فإن الذين كانوا يعبدون الأصنام يتعلقون مع ذلك باعتقاد أن من ورائها أرواحأ خفية تتصرف في شؤونهم، وكثرهم يسمون هذه الأرواح بالجن.

عبادتهم للكواكب

* عبادتهم للكواكب: كان بنو لخم وجرهم يعبدون المشتري، وبعض كنانة عبدوا القمر والدبران، وبعض قبائل ربيعة عبدوا سهيلاً، وبعضهم عبدوا الثريا، وبعض قبائل ربيعة عبدوا المرزم، وطائفة من تميم عبدوا الدبران، وبعض قبائل لخم وخزاعة عبدوا الشعرى العبور. قال ابن قتيبة: "كان قوم الجاهلية عبدوا الشعرى العبور، وفتنوا بها، وكان أبو كبشة الذي كان المشركون ينسبون إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أول من عبدها، وخالف قريشاً، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعا إلى عبادة الله، وترك عبادة الأوثان، قالوا: هذا ابن أبي كبشة (¬1)؛ أي: يشبهه". ومن العرب من عبدوا الشمس، ومن أثر هذا تسميتهم لها بالإلهة، قال عتبة بن الحارث اليربوعي: تروحنا من اللهباء (¬2) عصرا ... وأعجلنا الإلهة أن تؤوبا وذكر صاحب "تاج العروس": أن الشمس اسم لصنم قديم، وقال: قد سمت العرب: عبد شمس، وهو بطن من قريش، قيل: سموا بذلك الصنم، وأول من تسمى به: سبأ بن يشجب. ومن أثر اعتقادهم بتأثيرها في الكون: ما هو جار في بعض البلاد إلى الآن من أن الغلام إذا سقطت له سن، أمسكها بين السبابة والإبهام، واستقبل بها الشمس، ورماها نحوها طالباً منها أن تعوضه سناً أحسن ¬

_ (¬1) وقيل: أبو كبشة كنية وهب بن عبد مناف جد النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة أمه. (¬2) في "اللسان": اللعباء - بالعين-.

البرهمية في العرب

من السن الساقطة. ومن أثر عبادتهم للكواكب: تسميتهم أبناءهم بأسماء مضافة إليها؛ نحو: عبد شمس، وعبد المشتري. * البرهمية في العرب: اشتهر دين البرهمية في سكان عمان (¬1)، والبرهمية منسوبة إلى برهم، وهو المعبود الأول أو الأكبر عند أصحاب هذا المذهب المنتشر في الهند، ويصفون هذا المعبود بأنه أصل كل الموجودات، واحد أزلي (¬2). وبرهما في الهند هيكل يعبده البراهمة (¬3)، ويتوجهون إليه بالدعاء، وهم يعبدون مع ذلك الشمس؛ بدعوى أنها ينبوع النور والحرارة، فهي أول المعبودات في زعمهم، ويستدل بعضهم بهذا على أن البرهمية فرع للمجوسية قبل ظهور زرادشت. * دين الصابئة في العرب: من العرب من كانوا على دين الصابئة، ومذهب الصابئة يقوم على عبادة الملائكة، ذلك أنهم قالوا: إنا نحتاج في معرفة الله وأحكامه إلى متوسط روحاني، ولما لم يتيسر لهم مشاهدة الروحانيات، والتلقي منها، لجؤوا إلى الكواكب؛ بزعم أنها هياكل الروحانيات، وصاروا يعبدون الكواكب ¬

_ (¬1) "خلاصة تاريخ العرب" لسيديو. (¬2) يريدون به: الطبيعة، ولهذا كانت لهم آلهة متعددة يمثل كل منها مظهراً من مظاهر الطبيعة. (¬3) انظر: كتاب محمود بن سبكتكين الذي بعث به إلى ديوان الخلافة عند فتح الهند في ترجمة ابن سبكتكين من "تاريخ ابن خلكلان".

تقرباً إلى الروحانيات التي تقربهم - فيما يزعمون - إلى الباري - جل جلاله -، والكواكب التي كانوا يعبدونها: السبع السيارات، أو بعض الكواكب الثابتة، فصابئة الروم تعبد السيارات، وصابئة الهند تعبد الثوابت (¬1). ثم إن جماعة منهم قالوا: إن الهيكل السماوية لا ترى في كل الأوقات؛ لأن لها طلوعاً وغروباً، وظهوراً بالليل واحتجاباً بالنهار، فلا يمكن التقرب بها في كل وقت، وبدا لهم أن يقيموا أشخاصاً مبصرة لهم في كل وقت يتوسلون بها إلى الهياكل، فاتخذوا أصناماً على مثال الهياكل، ونصبوا كل صنم في مقابلة هيكل. وقد بعث الله تعالى إبراهيم - عليه السلام -, فحاجَّ الفريقين: عباد الكو اكب، وعباد الأصنام. ومن أثر ديانة الصابئة في بلاد العرب: اعتقادهم بالأنواء (¬2)، وييان ذلك: أن للقمر ثماني وعشرين منزلة، وتسمى هذه المنازل بأسماء كواكب تظهر فيها، وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة، وطلوع ما يقابلها، يكون مطر، فيقولون: مُطرنا بنوء كذا، والنوء: الكوكب الطالع؛ لأنه إذا سقط الساقط بالمغرب، ناء الطالع؛ أي: نهض وطلع بالمشرق. وقيل: النوء: اسم للكوكب الذي يغرب، وقد أشار الحديث الشريف إلى بطلان هذه العقيدة بقوله: "فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، ¬

_ (¬1) سميت ثوابت، وإن كانت متحركة؛ لأنها ثابتة الأبعاد، لا يقرب أحدها من الآخر، ولا يبعد عنه، ولا تتغير عن جهاتها. (¬2) وقيل: النوء: اسم لسقوط النجم في المغرب مع الفجر، وطلوع آخر يقابله من ساعته في المشرق.

المجوسية في العرب

فهو مؤمن بي، كافر بالكواكب". ومما يروى عنهم في هذا الشأن: أنهم كانوا يكرهون نوء السماك، ويقولون: فيه داء الإبل، قال الشاعر: ليت السماك ونوءه لم يخلقا ... ومشى الأفيرق في البلاد سليما * المجوسية في العرب: المجوسية قائمة على اعتقاد أن للعالم أصلين، هما: النور، والظلمة، وأهل هذه النحلة يعظمون النار بزعم أنها من أجناس الآلهة النورية. والمجوس فرق، وأشهر فرقهم: الزرادشتية: أصحاب زرادشت الذي ظهر في عهد كشتاسف، ودعا هذا الملك إلى دينه، فأجابه، وأصل عقيدة هؤلاء: أن النور والظلمة مبدأ العالم، وأن الله خلقهما وأبدعهما، وأن الخير والشر، والصلاح والفساد، حصلت من امتزاج النور بالظلمة، ولزرادشت كتاب يقولون: إنه صنفه، أو أنزل عليه، وهو "زندستا". ومن أشهر فرقهم: "الثنوية"، وهم أصحاب القول بأن النور والظلمة اللذين هما مبدأ العالم في زعمهم أزليان قديمان. ومنها: "المانوية" وهم أصحاب ماني بن فاتك الذي ظهر في عهد شابور بن أزدشير، وقتله البهرام بن هرمز، وقتل الرؤساء من أصحابه (¬1). ¬

_ (¬1) في أيام ماني ظهر اسم الزندقة، ذلك أن الفرس حين أتاهم زرادشت بكتابه المعروف بالنسياه باللغة الأولى من الفارسية، وعمل له التفسير، وهو الزند، وعمل لهذا التفسير شرحاً هو البازند، فكان من عدل إلى التاويل الذي هو الزند، قالوا: هذا زندي، فأضافوه إلى التأويل؛ أي: إنه منحرف عن ظاهر التنزيل، فأخذ العرب هذا اللفظ من الفرس، وعربوه، فقالوا: "زنديق "، والزنادقة هم الثانوية، ثم ألحق بهم في=

ومنها: المزدكية، وهم أصحاب مزدك الذي ظهر أيام قبادو والد أنوشروان، ودعا قبادو إلى مذهبه، فأجابه، ولما تولى أنوشروان، اطلع على كذب مزدك هذا، فقتله. ومن مبادئ هذه النحلة: إباحة النساء والأموال، وجعلها شركة بين الناس. وكانت المجوسية في نفر من تميم، منها: زرارة بن عدي، وابنه حاجب ابن زرارة، والأقرع بن حابس، وأبو الأسود جد وكيع بن حسان. وكانت المجوسية بالبحرين (¬1)، جاء في كتاب المنذر بن ساوى رئيس البحرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود، فأحدث إلي في ذلك أمرك"، فجاءه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه: "من أقام على يهودية أو مجوسية، فعليه الجزية". وكانت المجوسية في نفر من قريش. قال ابن قتيبة في كتاب "المعارف": "وكانت الزندقة في قريش، أخذوها من الحيرة" ومراده من الزندقة: المجوسية، والظاهر: أن العرب المجوس كانوا على مذهب الثانوية؛ لأن الثانوية هي المعروفة باسم الزندقة. ومن أثر المجوسية في العرب: حلفهم بالنار، وتعاقدهم عليها؛ فقد ورد في عاداتهم: أنهم كانوا يوقدون ناراً عند التحالف. ¬

_ = هذا الاسم سائر من اعتقدوا قدم العالم، وأنكروا حدوثه. (¬1) ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر، وهجر: بلد معروف بالبحرين، وأما هجر التي تنسب إليها القلال الهجرية، فهي قرية من قرى المدينة المنورة. "النهاية" لابن الأثير.

قال الجاحظ في كتاب "البيان والتبيين": وكانوا (أي: العرب) يتحالفون على النار، ويتعاقدون، ويأخذون العهد المؤكد، واليمين الغموس. وقال في كتاب "الحيوان": "كانوا لا يعقدون حلفهم إلا عند نار، فيذكرون عند ذلك منافعها، ويدعون الله بالحرمان والمنع من منافعها على الذي ينقض الحلف، ويخيس بالعهد". وجاء في قصيدة الأعشى التي مدح بها المحلق ما يشير إلى أنهم كانوا يتحالفون على الرماد، وهو قوله: رضيعَي لبانِ ثدي أُمِّ تقاسما ... بأسحمَ داجٍ عَوْضُ لا نتفرق (¬1) وأورد صاحب "العقد الفريد" هذا البيت، وقال: قوله "تقاسما بأسحم داج" يقول: تحالفا على الرماد، وهذا شيء تفعله الفرس؛ لئلا يتفرقوا أبداً. ومن أثر المجوسية في العرب: زعمهم أن ابن المجوسي إذا كان من أخته، وخط على النملة (¬2)، تبرأ وتنصلح، قال بعض شعرائهم: ولا عيب فينا غير عرق لمعشر ... كريم وأنا لا نخط على النمل يريد: أنا لسنا بمجوس ننكح الأخوات، وكانوا يكنُّون عن المجوسي ¬

_ (¬1) قبل هذا البيت بيتان هما: لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرّقُ تُشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلّقُ (¬2) هي بثيرة تخرج في الجسد بالتهاب واحتراق، ويرم مكانها يسيراً، ويدب إلى موضع آخر كالنملة، وتطلق على قروح في الجنب كالنمل. "القاموس".

الدهرية في العرب

بقولهم: فلان يخط على النمل. * الدهرية في العرب: قص الله تعالى علينا أن قوماً من كفار العرب يقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]، وهذه الآية تدل على أن هؤلاء القوم ينكرون البعث، ويسندون الإهلاك - أي: الإماتة - إلى الدهر. واختلف الكاتبون في التفسير والتاريخ في أن هؤلاء القوم يقرون بالخالق، أو يجحدون به، فقال بعضهم: إن هؤلاء القوم يعترفون بوجود الله تعالى، فهم غير الدهرية الذين يسندون الحوادث إلى الدهر، ولا يقولون بوجوده تعالى، وجرى على هذا المسعودي في "مروج الذهب"، فقال: ومن العرب من أقر بالخالق، وكذب بالرسل والبعث، ومال إلى قول أهل الدهر، وهؤلاء الذين حكى الله تعالى إلحادهم، وأخبر عن كفرهم بقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. ومن المفسرين من حمل هذه الآية على قوم ينكرون وجود الخالق، وهذا ما سلكه القرطبي في "تفسيره"؛ إذ قال في تفسير هذه الآية: وكان المشركون أصنافاً، منهم هؤلاء، ومنهم من كان يثبت الصانع، وينكر البعث، وجرى على هذا أبو البقاء في "كلياته"، فقال: والدهري - بالفتح - هو: الذي يقول: العالم موجود أزلاً وأبداً، لا صانع له، {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. ومن المفسرين من جعل الآية محتملة لأن تكون في قوم لا يعرفون الله، ولا يقرون به، وهم الدهرية، وأن تكون في قوم يقرون بالخالق، وينكرون البعث، وينسبون الآفات إلى الدهر؛ لجهلهم أنها مقدَّرة من الله. وجرى على

اليهودية في جزيرة العرب

هذا أبو حيان في تفسيره "البحر". وليس في الآية ما يدل على أن هؤلاء القوم يقرون بالإله، أو يجحدون به، فمن ذهب إلى أن موردها قوم لا يقرون بالإله، فلأن إضافة الحوادث إلى الدهر مقترنة بإنكار البعث، شأن الدهريين الذين ينكرون وجود الخالق - جل شأنه -. ومن أثر اعتقادهم أن الحوادث من الدهر: كثرة شكواهم من الدهر، ويظهر هذا كثيراً في أشعارهم، قال أبو عبيد: ومن شأن العرب أن يذموا الدهر عند المصائب والنوائب، حتى ذكروه في أشعارهم، ونسبوا الأحداث إليه، وقد أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع هذا الأثر الناشئ عن أصل عقيدة فاسدة، فقال كما جاء في "صحيح البخاري": "لا يقولون أحدكم: يا خيبة الدهر! فإن الله هو الدهر". * اليهودية في جزيرة العرب: لليهودية في جزيرة العرب على ما يقوله بعض الكاتبين في تاريخها طوران: أولهما: كان لبطون من اليهود نزلوا بلاد العرب، وانتهى هذا الطور في القرن الخامس قبل ميلاد المسيح (¬1). ثانيهما: ابتدأ في القرن الأول والثاني بعد ميلاد المسيح (¬2)؛ ذلك أن جموعاً كثيرة من اليهود هاجروا من فلسطين إلى البلاد العربية، ولهذه ¬

_ (¬1) انقرض اليهود من الجزيرة لذلك العهد، ولم يبق فيما يقال إلا بعض آثار منازلهم. (¬2) انتهى هذا الطور بإجلاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لهم من الجزيرة.

الهجرة أسباب: منها: نمو عدد اليهود في فلسطين حتى ضاقت بهم البلاد. ومنها: أن الدولة الرومانية كانت قد استولت على فلسطين حوالي القرن الأول قبل ميلاد المسيح، وانهالت تضطهد اليهود، وتسومهم الخسف، فلجأ طوائف منهم إلى الهجرة، وقصدوا البلاد العربية؛ مما عرفوه من حياة البداوة العربية من الحرية، فقبلهم العرب، وعاملوهم بإحسان. ومنها: أن بلاد العرب كثيرة الرمال، فيتعسر على الجيوش الرومانية وهي على شيء من النظام أن تقطعها، فنزل اليهود في شمال الحجاز بيثرب (المدينة المنورة)، وأرض خيبر (¬1)، ووادي القرى (¬2)، وتيماء (¬3)، واتخذوا الحصون والآطام (¬4) على رؤوس الجبال. ومن دخل في اليهودية من العرب طوائف من بني كنانة، وبني كندة، وبني نمير، وكانت هذه القبائل مجاورة لمواطن اليهود: يثرب، وأم القرى، وتيماء. ¬

_ (¬1) على ثمانية برد من المدينة لمن يريد الشام، وخيبر بلسان اليهود: الحصن، وقيل: سميت باسم رجل من العماليق، فنزلها، وفتحت سنة 7 للهجرة، وقيل: سنة 8. (¬2) واد بين المدينة والشام، وهو من أعمال المدينة، كثير القرى، فتحها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة 7. ثم صولحوا على الجزية بعد أن فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من خيبر. (¬3) بلد بين الشام ووادي القرى، لما بلغهم فتح أم القرى، بعثوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصالحوه على الجزية، وأقاموا ببلادهم، وبقيت أرضهم بأيديهم. (¬4) جمع أطم: وهو القصر، ويطلق على الحصن المبني بالحجارة، وعلى كل بيت مربع.

وظهرت اليهودية في بلاد اليمن منذ عهد بعيد، ودخل فيها بعض ملوك حمير، فقامت دولة متهودة (¬1)، إلى أن جاء الجيش، فقوضوا أركانها، ولكن بقيت طوائف من اليهود مفرقين في البلاد. وسبق كتاب المنذر أمير البحرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه يقول: "بأرضي مجوس ويهود، فأحدث إلي في ذلك أمراً". وقال الجاحظ: "وجاء الاسلام، وليست اليهودية بغالبة على قبيلة إلا ما كان من ناس من اليمانية، ونبذ يسير من جميع إياد وربيعة، ومعظم اليهودية، إنما كان بيثرب، وحمير، وتيماء، ووادي القرى في ولد هارون، دون العرب" (¬2). وفي أهل نجران الذين أجلاهم عمر بن الخطاب من الجزيرة يهود، ومما يقولونه في سبب ظهور اليهودية في اليمن: أن الدولة الرومانية بالشرق بعد أن انتهت من بسط سلطانها على الممالك المجاورة لجزيرة العرب، وجهوا أنظارهم على الاستيلاء على أطراف الجزيرة العربية، فأرسلوا وفوداً من الرهبان لنشر الديانة المسيحية بالجزيرة؛ تمهيداً لتنفيذ خطتهم السياسية الاستعمارية (¬3)، وتنبه ملوك حمير لهذه الغاية، فدخلوا في اليهودية، ودعوا ¬

_ (¬1) قال بعض المؤرخين من المستشرقين: إن دولة حمير اليهودية لم تظهر إلا في القرن الخامس بعد المسيح، واستشهد على هذا بقول الطبري: إن تبان أسعد ملك حمير وصاحب الدعوة اليهودية، كان في نهاية القرن الخامس. (¬2) "رسالة في الرد على النصارى". (¬3) هذه الحيلة يعمل بها الدول المسيحية اليوم، فيرسلون دعاة النصرانية إلى بلاد الإسلام؛ ليمهدوا لهم السبيل إلى احتلالها، أو ليعينوهم على تثبيت سلطانهم =

أثر اليهودية في العرب

إليها؛ ليدافعوا بها النصرانية. * أثر اليهودية في العرب: روى جماعة من المحدثين؛ كأبي داود، والبيهقي، والحاكم عن ابن عباس: أنه قال: "كان هذا الحي من الأنصار، وهم أهل وثن، مع هذا الحي من اليهود، وهم أهل كتاب، كانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، وكانوا يقتدون بكثير من أفعالهم". ومن أثر اعتقادهم بفضل اليهود في العلم لذلك العهد: أنه كان من نساء الأوس والخزرج من إذا ولدت ولداً، تنذر إن عاش ولدها أن تهوده (¬1). ويروى أن يهود يثرب علَّموا العرب الكتابة العربية (¬2). ويرى أثر اليهودية في شعر العرب؛ كما قال لبيد يصف رجلاً قد غلبه النعاس: يلمس الأحلاس (¬3) في منزله ... بيديه فاليهودي المصل ووجدت للعرب أشياء تقارب بأسمائها وصورها بعض ما عرف لليهود، فعدها بعض الكاتبين من تأثير اليهودية؛ مثل: "النسيء" الذي كان يقوم به ¬

_ = عليها، وليست البهائية والقاديانية إلا فرقتين غير إسلاميتين تعملان تحت اسم الإسلام؛ لتمكين بعض الدول المسيحية من احتلال البلاد الإسلامية، أو مساعدتهم على تثبيت قدم الاحتلال. (¬1) "الر وض الأنف" للسهيلي. (¬2) "فتوح الإسلام" للبلاذري. (¬3) الأحلاس: جمع حلس، وهو الكساء الذي يكون على ظهر البعير تحت البرذعة. ويبسط في البيت تحت حر الثياب.

أفراد اتخذهم العرب رؤساء فيه (¬1)، وهو أنهم إذا فرغوا من الحج، اجتمعوا إلى هذا الرئيس، فحرم الأشهر الحرم: رجباً، وذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، فإذا احتاجوا إلى شن الغارة وطلب الثارات، أخر شهر المحرم إلى صفر، وإن احتاجوا إلى ذلك في صفر، أخروه، وحرموا ربيعاً الأول، وهذا ما نزل فيه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]؛ لأنه تحريم ما أحل الله، {يُحِلُّونَهُ} [التوبة: 37]؛ أي: الشهر المؤخر {عَامًا} [التوبة: 37]، ويحرمون مكانه شهراً آخر، {وَيُحَرِّمُونَهُ} [التوبة: 37]؛ أي: يحافظون على حرمته {عَامًا لِيُوَاطِئُوا} [التوبة: 37]: ليوافقوا [عدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّه} [التوبة: 37] من الأشهر الأربعة (¬2). وقد قال بعض الإفرنج: إن النسيء الذي كان عند العرب في الجاهلية مأخوذ من اليهود، فإن الناسئ في اللغة العبرية معناه: الرئيس الديني، وكذلك كان الرئيس الديني عند اليهود يؤخر ويقدم الشهور، ويعين مواعيد الأعياد والصيام، ويبعث بذلك إلى طوائف اليهود المختلفة. ونحن نستبعد أن يكون النسيء مأخوذاً عن اليهود ما دام لفظه مشتقاً من مادة عربية له تصرفات تدور حول معنى التأخير (¬3). ¬

_ (¬1) آخرهم عوف بن أمية. (¬2) ويقع النسيء على وجه آخر، هو أنهم يؤخرون الحج عن وقته تحرياً منهم للسنة الشمسية، فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يوماً أو أكئر قليلاً، حتى يمر ثلاث وثلاثون سنة، فيعود الحج إلى وقته، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض". فكانت حجة الوداع في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته. (¬3) يقال: نسأه ونسأه إلى آخره. وبعته بنسيئته؛ أي: بآخرة، واستنسأه: سأله أن =

ومما ظنه بعضهم من أثر اليهودية في العرب: كلمة "صوفة"، ذلك أن هذا اللفظ في العبرية معناه: الحادي، والعرب يطلقونه على قوم يندفعون بالناس من عرفة، ويؤمونهم في رمي الجمار، وكان آخرهم عند ظهور الإسلام كرب بن صفوان، والكتب العربية تذكر في تسميتهم صوفة وجوهاً، منها: ما ذكره صاحب "القاموس" من أنه اسم لأبيهم الغوث بن مرة، وقال أبو عبيدة: سموا بذلك؛ لأنهم بمنزلة الصوف: فيهم القصير والطويل، والأسود والأحمر، ليسوا من قبيلة واحدة. وقيل: لأن أم الغوث نذرت لئن عاش، لتعلقن برأسه صوفة، وتجعله خادماً للكعبة. وزعم بعضهم: أن الختان أخذه العرب من اليهود، ونحن نرد هذا بأن الختان من سنة إبراهيم - عليه السلام - كما ورد في "صحيح البخاري": "اختتن إبراهيم - عليه السلام - وهو ابن ثمانين سنة". وزعم أحد دعاة النصرانية (¬1): أن ما عرف عند العرب من أن إسماعيل - عليه السلام - أبو العرب إنما جاءهم من اليهود، قالوا لهم ذلك؛ ليتقربوا إليهم بدعوى أنهم أبناء إسماعيل، وأن اليهود أبناء إسحاق، وجد الجميع إبراهيم - عليه السلام -، وقد أخذ هذا الزعم صاحب كتاب "في الشعر الجاهلي"، وأنكر أن يكون إبراهيم - عليه السلام - دخل بلاد العرب. ونحن نؤمن بما جاء في القرآن الكريم، والحديث الصحيح. وليس في يد ذلك الداعية النصراني، ولا صاحب كتاب "في الشعر الجاهلي" رواية تقف في ¬

_ = يؤخر دَينه، ونسئت المرأة: تأخر حيضها. (¬1) "ذيل مقال في الإسلام" لنصراني سمى نفسه: هاشماً العربي.

النصرانية في العرب

وجه ما ورد في القرآن أو الحديث (¬1). ومن أسباب قلة انتشار اليهودية في العرب: أن "اليهودية هي خلاصة القانون التلمودي (¬2)، وهذا القانون الذي نشأ في بيئة معينة، وفي مدة معينة، والذي استمد مبادئه وتعاليمه من نصوص التوراة، قد أدخلت عليه تغييرات تلائم الأحوال الجديدة التي طرأت على اليهود، وقد نجم عن ذلك: أن الذين أرادوا أن يقبلوا جوهريات صحف التوراة، دون أن يخضعوا للناموس التلمودي، لم يؤذن لهم باعتناق اليهودية" (¬3). ثم قال: "وتأثر كثيرون من العرب بتعاليم اليهودية، وأخذوا يخضعون لبعض الأصول الجوهرية من التوراة، دون أن ينقادوا للبعض الآخر، فلم ترض منهم اليهودية ذلك، ولم تقربهم إلى الله، بل لم تفرق بينهم وبين بقية عبدة الأصنام؛ لأنهم لم يقبلوا التمسك بالسبت، ولم يخضعوا لبقية وصايا التوراة والتلمود". * النصرانية في العرب: كانت النصرانية في غسان، وبعض قضاعة، وأتت هؤلاء النصرانية من جهة الروم؛ فقد كانت منازلهم قريبة منها، وكانت في قبائل بالحيرة، يقال لها: العباد، منها: عدي بن حاتم، وكانت في بني تغلب، ومنازلهم بالعراق، ودخل في النصرانية بعض ملوك الحيرة. قيل: كان تنصرهم في ¬

_ (¬1) انظر: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" للإمام محمد الخضر حسين في الرد على الدكتور طه حسين. (¬2) التلمود: تفسير المشناة، والمشناة تفسير التوراة. والمتمسكون بالتلمود يقال لهم: ربانيون. أما القراءون، فيتمسكون بالتوراة، ولا يأخذون بالتلمود. ويوجد منهم طائفة في الآستانة، وطائفة في مصر. (¬3) "تاريخ اليهود في بلاد العرب" للدكتور إسرائيل ولفنسون.

عهد امرئ القيس الأول في أوائل القرن الرابع بعد المسيح. وقيل: إن أول من تنصر: النعمان بن المنذر على يد عدي بن زيد، وكان النعمان في أواخر القرن السادس بعد ميلاد المسيح. وكان أهل نجران في بلاد اليمن نصارى، وهم: بنو الحارث بن كعب ابن مذحج، وجاءتهم النصرانية من جهة الحبشة، ومن جهة الروم؛ فقد ذكر بعض المؤرخين: أن ملوك الدولة الرومانية لما أرادوا ضم أطراف الجزيرة العربية إلى ممالكهم، أرسلوا وفود الرهبان إلى بلاد اليمن لبث الديانة المسيحية. ومن المعروف في السيرة: أن وفد نجران قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا من نصارى العرب، وهم الذين نزلت فيهم آية المباهلة: قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]. وأبوا أن يباهلو ا، وصالحوا على الجزية، وعادوا إلى بلادهم. قال الجاحظ: "إن العرب كانت النصرانية فيها فاشية، وعليها غالبة، إلا مضر، فلم يغلب عليها يهودية ولا مجوسية، ولم تفش فيها النصرانية، إلا ما كان من قوم منهم نزلوا الحيرة يسمون: العبادة فإنهم نصارى، وهم مغمورون مع نبذ يسير في بعض، ولم تعرف مضر إلا دين العرب، ثم الإسلام". وزعم بعض المسيحيين (¬1): أن الأوس والخزرج كانوا نصارى، واستدل ¬

_ (¬1) لويزشيخو.

بقول حسان: فرحت نصارى يثرب ويهودها ... مما توارى في الضريح الملحد وهذا البيت لا يوجد في قصيدة حسان برواية ابن هشام في "السيرة"، ولا يوجد في "ديوانه" الذي كتب عليه البرقوقي تعليقاً (¬1). ومن المعروف أن ورقة بن نوفل عم خديجة - رضي الله عنها - كان على دين النصرانية، وهو قرشي، وجاء في السيرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي في طريقه إلى الطائف عداساً النصراني، فآمن به (¬2). ووجود فرد أو أفراد معدودين في القبيلة على دين النصرانية لا يدل على انتشار هذا الدين بينهم. وجاء في بعض الآثار: أن صورة عيسى ومريم - عليهما السلام - كانت في جملة صورة الأنبياء بالكعبة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم فتح مكة بمحو جميع الصور، إلا صورة عيسى وأمه (¬3)، واستدل بهذا بعض المسلمين على أن الديانة النصرانية كانت بمكة. ونحن نقول: إن إبقاء النيي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الصورة غير معقول، ولا يظهر له وجه، وفي "صحيح البخاري،: أن رسول الله " أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما من الأزلام، فقال: "قاتلهم الله! لقد علموا ما استقسما بها قط"، فهذا الأثر الذي ورد في "تاريخ الأزرقي" باطل قطعاً؛ فإن بقاء الصورة في المسجد منكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر منكراً. ¬

_ (¬1) نسب هذا البيت لديوان حسان في طبعة ليدن. (¬2) "زاد المعاد". (¬3) "تاريخ مكة" للأزرقي.

ومن أثر النصرانية: ما ظهر في شعر؛ كقول امرئ القيس يصف كلاب الصيد وقد أدركت فرسه: فأدركنه يأخذن بالساق والنسا (¬1) ... كما شبرق (¬2) الولدان ثوب المقدس (¬3) يشير إلى ما كان ولدان النصارى يفعلونه بالراهب الذي يقدم من بيت المقدس؛ إذ يأخذون من مسحه (¬4)، وهو لابسه، خيوطاً للتبرك بها. ومن هذا الباب قول امرئ القيس يصف بقر الوحش: فآنست سرباً من بعيد مكانه ... رواهب عيد في ملاء مهدب (¬5) يشير إلى ما كانت الراهبات يلبسنه في الأعياد من الملاء والأنسجة الطويلة الأذيال. ومما ظهر منه عادة إيقادهم المشاعل في عيد الفصح قول أوس بن حجر: عليه كمصباح العزيز يشبه ... بفصح ويحشوه الذبال المفتلا وصف أوس في هذا البيت رمحه، وشبه سنانه بالمصباح يوقده رئيس النصارى في عيد الفصح (¬6). ¬

_ (¬1) عرق من الورك إلى الكعب. (¬2) شبرق: مزق. (¬3) من قدس الرجل؛ أي: أتى بيت المقدس. (¬4) المسح: ثوب الراهب. (¬5) الملاء - بالضم -: ثياب، واحدة ملاءة. والمهدَّب: ذو أهداب؛ أي: خمل. (¬6) الفصح الكبير للنصارى يزعمون أن المسيح قام فيه بعد الصلب بثلاثة أيام =

الموحدون من العرب

وأشار حسان في قصيدة له في الجاهلية إلى ما كان يصنعه ولائد النصارى من نظم الأكلة في عيد الفصح بقوله: قد دنا الفصح والولائد (¬1) ينظـ .... ـنَ سراعاً أكلَّة (¬2) المرجان * الموحدون من العرب: في العرب أفراد كانوا قبل البعثة على عقيدة التوحيد: منهم: زيد (¬3) بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى، فقد اعتزل الأوثان، واجتنب أكل ما يذبح على الأنصاب. روى البخاري في "الجامع الصحيح": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح (¬4) قبل أن يُنْزَلَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحيُ، فقدمت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سفرة لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه (¬5). ومنهم: أبو قيس صرمة بن أبي أنس صرمة بن مالك من بني النجار، كان ترهب في الجاهلية، ولبس المسوح، وفارق الأوثان، وهمَّ بالنصرانية، ¬

_ = {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]. (¬1) جمع وليدة، وهي الصبية. (¬2) جمع إكليل، وهو عصابة تزين بالجواهر. (¬3) هو ابن عم عمر بن الخطاب بن نفيل، وهو أبو سعيد بن زيد أحد المبشرين بالجنة. (¬4) واد بظاهر مكة في طريق التنعيم. (¬5) لم يرد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من هذه السفرة، وقال الخطابي: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل مما يذبحون على النصب للأصنام. ويأكل ما عدا ذلك، وإن لم يذكر اسم الله؛ لأن الشرع لم يكن نزل بعد.

ثم أمسك عنها، ودخل بيتاً له، فاتخذه مسجداً، وقال: أعبد رب إبراهيم، حتى قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاسلم، وحسن إسلامه (¬1)، أورد له ابن هشام أشعاراً في تعظيم الله تعالى، قالها في عهد الجاهلية. ومنهم: قُس بن ساعدة الإيادي، نجد خبره في بعض كتب التاريخ والأدب. روى بعض المحدثين عن ابن عباس: أنه قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله محك - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أيكم يعرف القس بن ساعدة الإيادي؟ "، فقالوا: كلنا يا رسول الله نعرفه، قال: "ما فعل؟ "، قالوا: هلك، قال: "ما أنساه بعكاظ في الشهر الحرام، وهو على جمل أحمر، وهو يخطب الناس وهو يقول: يا أيها الناس! اجتمعوا واسمعوا، وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبراً، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار تغور. أقسم قس بالله قسماً حقاً، لئن كان في الأرض رضا، ليكونن بعده سخط. إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فاقاموا، أم تركوا فناموا؟ ". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أفيكم من يروي شعره؟ "، فأنشده بعضهم: في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر لا يرجع الماضي إليـ ... ـك ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام"، و"مروج الذهب".

وروى هذا الحديث الطبراني، والبزار، وفي إسناده محمد بن الحجاج اللخمي، وهو ممن لا يوثق بخبره، بل يعده النقاد في جملة الكذابين. وروى هذا الخبر ابن سيد الناس في "سيرت" على وجه يخالف روايته السابقة؛ إذ جاء في روايته: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل أورق، وهو يتكلم بكلام ما أظن أني أحفظه"، فقال أبو بكر: يا رسول الله! فإني أحفظه، كنت حاضراً ذلك اليوم بسوق عكاظ، فقال في خطبته: أيها الناس ... إلخ الخطبة، والأبيات. على أن في سند هذه الرواية من يتهم بوضع الأحاديث؛ كما قال ابن كثير. فخبر قس هذا ورد من طرق كلها ضعيفة، وقصارى ما يؤخذ منها: أن أصل القصة ثابت، وأن قساً كان على شيء من التوحيد. ويذكر المؤرخون من الموحدين: خالد بن سنان العبسي، وقد وردت آثار تتضمن أنه كان نبياً، وأن ابنه أو ابنته جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "ذاك نبي ضيعه أهله". وهذه الروايات كلها ضعيفة، لم تقم على سند يعتد به، ومما يساعد على ردها: قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه سعيد بن جبير مرسلاً: "أنا أولى الناس بعيسى بن مريم، وليس بيني وبينه نبي". وأذكر بهذه المناسبة أن ببلاد الجزائر قبراً عليه بناء يقال: إنه قبر خالد ابن سنان، ويجتمع الناس لزيارته في اليوم السادس والعشرين من شهر رمضان، وشهدت الاجتماع به في بعض السنين، ورأيت هنالك بدعاً تقام حول القبر، وعسى أن يكون أهل العلم قد قاوموها، وليس لهم من أثر على أن هذا قبر خالد بن سنان سوى ما شاع هناك من أن بعض الصالحين أخبر بذلك.

محمد رسول الله وخاتم النبيين

محمد رسول الله وخاتم النبيين (¬1) * حال العرب قبل مبعثه - عليه الصلاة والسلام -: كان العرب قبل البعثة المحمدية في ظلمات من العقائد الزائغة، والمزاعم الساقطة، والعادات المستهجنة، والأعمال المنكرة. أما زيغ العقائد، فقد كانوا على ملل ونحل حائدة عن السبيل - منهم: الدهرية الذين لا يؤمنون بإله يدبر العالم، وينكرون البعث والحساب فما بعدهما. ومنهم "الثنوية": الذين يقولون بإلهية النور والظلمة، ومنهم: عبدة الأصنام، وعباد القمر، وعبّاد الشمس، وعبّاد الكواكب؛ كالثريا، والشعرى، والدبران، وعبّاد النار، وعبّاد الملائكة، وعبّاد الجن، ومنهم: الصابئة، الذين يعظمون الكواكب، ويعتقدون أن لها أثراً في الحوادث الكونية. وكانت اليهودية في قوم، والنصرانية في آخرين، وقد طرأ على هاتين الديانتين تحريف بعد بهما عن الصراط المستقيم. وأما المزاعم الساقطة، فإنهم كانوا يتعلقون بخيالات وآراء مزرية؛ ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية) - الجزآن السابع والثامن من المجلد الثاني والعشرين، رجب وشعبان 1369 - والأجزاء من التاسع إلى الثاني عشر من رمضان إلى ذي الحجة 1369. وطبعت في رسالة مستقلة لأول مرة سنة 1933 م، ثم أعيد طبعها مرات.

نشأته - عليه الصلاة والسلام - وسيرته الطاهرة قبل البعثة

كالاستقسام بالأزلام، والتشاؤم بكثير من الأشياء، وتعليق عظام الموتى على من يريدون وقايتهم من تعرض الأرواح الخبيثة. وأما العادات المستهجنة، والأعمال المنكرة، فكطوافهم بالبيت عراة، ودسهم البنات في التراب وهن أحياء، وتعاطي الميسر والخمور، وارتكاب الفاحشة، وسفك الدماء بغير حق. ولكن كان لهم مع هذا الجهل والضلال مزايا ومفاخر لا يستهان بها؛ كالكرم، والشجاعة، وإباء الضيم، والوفاء بالعهد، والطموح إلى العزة. وإذا أضفت إلى هذا بلاغة القول، وحسن البيان، بدا لك جانب من حكمة اختيار الله تعالى لأن يكون العرب أول من ينهض لنصرة هذا الدين العام، وإبلاغه إلى غيرهم من الأمم. وفي هذه البيئة البعيدة من العلم والرشد ولد سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشب على أكمل خلق، وأقوم سبيل. * نشأته - عليه الصلاة والسلام - وسيرته الطاهرة قبل البعثة: سبق في مشيئة الله تعالى أن يكون رسوله إلى الناس كافة هو سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فتولاه منذ ولد برعايته، وجعل العصمة غدوته وروحته، فكانت صحيفة حياته منذ ولد إلى أن توفي متلألئة تلألؤ القمر الزاهر في سماء مصحية. ولد - صلى الله عليه وسلم - في أشرف بيوت العرب نسباً، وأرفعها حسباً، وهو بيت هاشم ابن عبد مناف. وشبَّ على توحيد الله تعالى، والتحلي بمكارم الأخلاق؛ من نحو: العفاف، والأمانة، والصدق، وكبر الهمة، والصبر على الشدائد، والوفاء بالعهد. وقد وصفته خديجة- رضي الله عنها- حين رجع إليها يرجف

فؤاده مما فاجأه به ملك الوحي لأول مرة، فقالت له: "كلا والله؛ ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وتصدق الحديث". فقد ساقت في هذا الخطاب جملة من الخصال التي كان - صلى الله عليه وسلم - متحليا بها قبل البعثة، فنبهت على أنه كان يحسن إلى الأقارب وغير الأقارب، ويقوم بحق الضيف، ويعين على نوائب الحق، وهذه كلمة جامعة تتناول كل ما تكون به الإعانة على النوائب؛ من نحو: المال والبدن والجاه. وفي قولها: "تصدق الحديث" شاهد على أنه كان يتحرى الصدق في جميع أحواله، وأنه لم يكن ينطق حتى قبل النبوة إلا بما هو حق. وانظروا في حديث هرقل ملك الروم، إذ كان يسال أبا سفيان عن حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو سفيان لم يزل على جاهليته؛ قال هرقل لأبي سفيان: "فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ "، فقال أبو سفيان: "لا". فدل هذا الجواب الصادر من أشد الناس عداوة للرسول - عليه الصلاة والسلام - وقت السؤال على أنه - صلى الله عليه وسلم - معروف عند قومه بصدق اللهجة. وقد أخذ هرقل من هذا الجواب شاهداً على صدقه في دعوى الوحي، وقال: "فقد أعرف أنه لم يكن ليذرَ الكذب على الناس ويكذب على الله" (¬1). وما زال - صلى الله عليه وسلم - محفوفاً بالرعاية والعصمة، حتى رفعه الله تعالى إلى مقام الرسالة العظمى، ونزل عليه الروح الأمين بالقرآن الحكيم. ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري".

دلائل نبوته

* دلائل نبوته: الكلام في دلائل نبوة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - خوض في بحر لا يصل فيه الكاتب إلى شاطئ، فليس في استطاعتي استيعابها، ولا الإلمام بمعظمها. وغاية ما يسعني في هذا المقام: أن أسوق منها طائفة إذا اتصلت بعقول سليمة، لم ياخذها ريب في أنه - عليه الصلاة والسلام - رسول رب العالمين. لدلائل نبوته - عليه الصلاة والسلام - أصول، هي: القرآن الكريم، ثم بشارات الأنبياء والرسل به من قبل ظهوره، ثم سيرته التي لا تقاس بكمال بسيرة، ثم ما جرى في حضرته من المعجزات المحسوسة. * القرآن الكريم: نزل القرآن الكريم على النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل حقائق صادقة، ومعجزة باهرة. أما الحقائق، فهي ما أرشد إليه من العقائد السليمة، والآداب النبيلة، والأحكام العادلة، والموعظة البالغة. وأما المعجزة، فهي ارتفاعه في حكمة المعاني، وسمو المقاصد، وفصاحة الكلم، وجودة النظم، وروعة الأسلوب، إلى مرتبة يقف دونها فطاحل البلغاء بمراحل. ومن المعروف أن معجزات الأنبياء تجيء مناسبة لحال أقوامهم، ففي زمن موسى - عليه السلام - كانت الغلبة للسحر، فكانت معجزته قلب العصا ثعباناً، وذلك ما يعجز عنه كل سحّار عليم، وفي زمن عيسى - عليه السلام - كان التنافس في الطب، فجاء بما لا يصل إليه الأطباء، وهو: إحياء الموتى. وفي زمن خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - كان التفاخر بالبلاغة وحسن البيان، فجاء بما أعجز كل خطيب مصقع، وشاعر مفلق، وهو القرآن الكريم.

والحقيقة أن دلالة القرآن على صدق من جاء به لا تقف في ناحية واحدة، بل القرآن يدل على صحة نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - من وجوه مختلفة، فمن هذه الوجوه: بلوغه في حسن البيان منزلة يحسها البلغاء بعقولهم وأذواقهم، ولا تنالها ألسنتهم ولا أقلامهم. يشهد لك ببلوغه مرتبة الإعجاز: ذوقك السليم، وبصيرتك النقية، ويؤيد هذه الشهادة: أن الله تعالى قد تحدى به العرب على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]،. وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]،. تحداهم بالقرآن، ونادى عليهم بالعجز عن أن يأتوا بسورة من مثله، ولم يستطع أحد منهم، وهم المجلون في حلبة البلاغة، أن يتصدى لمعارضته، ولو بمقدار سورة، بل جنحوا إلى مقابلته بالسخف من القول، ووصفه بأنه أساطير الأولين. ولما عرفوا أنه يمتلك ببلاغته النفوس، ويستولي بحكمته على القلوب، لم يكن منهم إلا أن حاولوا صرف الناس عن سماعه، وكانوا يقولون لأوليائهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. ومن مزايا القرآن: أنه لا يتناول فناً من فنون الكلام إلا أتى باللفظ الرائع، والأسلوب الفائق، وقصارى الواحد من بلغاء البشر أن يبرع في بعض فنون القول، وإذا وجه قريحته إلى فن آخر، أدركه الضعف، ولم يتجاوز فيه المنزلة المتوسطة أو السفلى. وإذا حققت النظر في حال الخطباء والشعراء الذين يصبح كل واحد منهم علماً في الفصاحة والبلاغة يشار إليه بالبنان، لم تجد منزلتهم بعيدة من

منازل البارعين من غيرهم بعداً يبلغ بها حد الإعجاز؛ كالبعد ما بين منزلة القرآن ومنازل غيره من منثور الخطباء، ومنظوم الشعراء. ومن وجوه دلالة القرآن على صدق النبوة المحمدية: أنه أخبر عن أمور من قَبيل الغيب، ووقعت كما أخبر. ومن المعروف في هذا القبيل قوله تعالى: {لم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 1 - 5]. وبيان هذا: أن حرباً كانت قد وقعت بين الفرس والروم، وكانت عاقبة الفوز للفرس، وكان قريش يتشيعون للفرس؛ لأنهم لا يدينون بكتاب، والمسلمون يودون انتصار الروم؛ لأنهم أهل كتاب، فنزلت الآية مخبرة أن الروم سيغلِبون الفرس في بضع سنين، والبضع في لغة العرب يستعمل في التسع فما دون. وقد وقع ما أخبر به القرآن، فعاد الروم والفرس إلى الحرب لسبع سنين من الحرب الأولى، وكان الظفر للروم. ويروى أن انتصار الروم على الفرس في هذه الحرب كان سبباً لإسلام كثير من الناس؛ لوقوعه كما أخبر القرآن. ومن الآيات المنبئة عن أمر مستقبل: قوله تعالى خطاباً لنبيه الكريم: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]؛ فقد كان أعداؤه - صلى الله عليه وسلم - من المشركين وغيرهم حريصين على قتله، وكان - عليه الصلاة والسلام - يخرج لكل من يريد لقاءه، ويجلس مع كل من يبغي الجلوس معه، ولا تنس أن حوله منافقين يحملون له أشد البغضاء، ويتصلون به اتصال الأصحاب والأقرباء، ومع كثرة أعدائه، وتهالكهم على الكيد له، ومع ظهوره للناس في أي وقت شاؤوا، ومشيه

في الطريق والأسواق وحده، أو مع من لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، لم تمتد إليه يد بسوء، ولم يمت إلا على فراشه، وذلك مصداق قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. ومن وجوه دلالة القرآن على صدق الرسول - عليه الصلاة والسلام -: ورود معانيه كلها على الوجوه المعقولة، وعدم مخالفتها للعلوم الصحيحة، وإنما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجتمع بذي علم أو فلسفة، فلو لم يكن القرآن من الله حقاً، لوجد في كثير من آياته ما تنكره العقول السليمة، ووجد في كثير من آياته ما يخالف الآراء المسلَّمة أو الراجحة، شأن ما يتكلم به غيره من البشر، وإن لم يكن أمياً. بل ظهر في كثير من آياته معان لم تنكشف لأهل العلم إلا منذ عهد قريب. فانظر إلى قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 36]؛ العلم الحديث أن في كل نبات ذكراً وأنثى. ثم انظر إلى قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [لحجر: 22]؛ فقد ثبت في علم النبات أن الرياح تنقل اللقاح إلى عضو التأنيث من النبات. واعتبر في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 3 - 4]، فالآية مسوقة للرد على من أنكر جمع العظام بعد بلاها وتفرقها، على معنى إنكار إعادة الشخص بعينه. ووجه تخصيص البنان بالذكر مطابق لما أثبته العلم من أن لبنان كل إنسان هيئة خاصة لا تماثلها هيئة بنان إنسان آخر من كل وجه. ومن نظر إلى أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - نشا في أمية، ثم أمعن النظر في قوة أدلة

بشارات الأنبياء والرسل به قبل مجيئه

القرآن، وقيام حججه على قانون المنطق الصحيح، لم يترتب في أنه تنزيل من حكيم حميد، فانظر إلى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]؛ فإنك ترى في الآية حجة قائمة على أن الله واحد، وأن الإلهية تقتضي الاستقلال بالتصرف في الكون، تغييراً وتبديلاً، وإيجاداً وإعداماً. فجميع حجج القرآن واردة على قانون المنطق السليم. قال بعض فلاسفة الإسلام: "لقد تاملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي غليلاً، ولا تبرئ عليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن". ولتعدد نواحي دلالة القرآن على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تلاوته تجمع بين الدعوى والحجة. وكثير من الداخلين في الإسلام بإخلاص لم يشهدوا من آيات النبوة أكثر من أنهم سمعوا سورة، أو آيات من القرآن، فرأوا الدعوة مقرونة بالحجة، فعرفوا أنه كلام الله الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولامتلاء القرآن بآيات صدق الدعوة المحمدية أنكر الله تعالى على من يقترحون على رسوله الآيات البينات، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]. * بشارات الأنبياء والرسل به قبل مجيئه: إن رسولاً عظيماً كمحمد - صلى الله عليه وسلم - في عموم بعثه، وخلود دينه وشريعته - جدير بأن يعلم الله - سبحانه وتعالى- بمبعثه رسله وأنبياءه - عليهم السلام -, ويصفه لهم ببعض نعوته وعلاماته، ويعهد إليهم بأن يبشروا أقوامهم بظهوره،

ويوصوهم بقبول دعوته وحسن طاعته. وكذلك جاء في القرآن الكريم: أن أهل الكتاب يجدون النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة والإنجيل، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]. فهذه الآية صريحة في أن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مكتوب في التوراة والإنجيل. والمراد بكتابته فيهما: ذكر مبعثه ودعوته وشيء من نعوته، وهذا المعنى موجود في الكتابين يقيناً، فقد نزلت الآية على مسمع من علماء الأمتين: اليهودية والنصرانية، فمنهم من يؤمن به - عليه الصلاة والسلام-، ويخبر بما في كتبهم من ذكره بصفته وعلاماته، ومنهم من لا ينكر أن يكون قد ذكر في الكتابين رسول بهذه النعوت والعلامات، ولكنه يكابر في أن المراد منه المصطفى- صلوات الله عليه-، ويقول: المقصود منه نبي آخر. وفي مثل هؤلاء نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]. وقد تصدى لجمع هذه البشائر من كتابي التوراة والإنجيل طائفة من أهل البحث والعلم، وبينوا وجه انطباقها على حال النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ بحيث لا تأخذ الناظر شبهة في أنه الرسول الذي بشرت الأنبياء بمبعثه وعموم رسالته. ومن هذه البشائر الباقية في التوراة والإنجيل إلى هذا العهد: ما جاء في سفر التثنية من التوراة: "أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به". والنبي المماثل لموسى - عليه السلام - في الرسالة العظيمة والشريعة المستأنفة، هو سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإخوة بني إسرائيل هم العرب؛ لأنهم

سيرته

يجتمعان في إبراهيم - عليه السلام -؛ ولو كان النبي الموعود من بني إسرائيل، لقال: من أنفسهم. وقوله: "وأجعل كلامي في فمه" يوافق حال النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمية وعدم تعاطي الكتابة. هذه بشارة نذكرها على وجه المثل. وإن شئت الزيادة، فارجع إلى الكتب التي عنيت بجلب نصوص تلك البشائر، وبيان أنها لا تنطبق إلا على حال محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ككتاب "هداية الحيارى" لابن القيم، وكتاب "إظهار الحق" للشيخ رحمة الله الهندي. ولشدة موقع هذه البشارات في الدلالة على صدق نبوته - عليه الصلاة والسلام - ذكرها القرآن الكريم في دلائل النبوة، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197]. وإنما كان علم علماء بني إسرائيل من آيات صدقه؛ لأنهم يستندون في هذا العلم إلى ما في التوراة من نعوته وعلاماته، مع القطع بأن هذه النعوت والعلامات مطابقة لحاله - عليه الصلاة والسلام -. * سيرته: من نظر في سيرته - عليه الصلاة والسلام -, وجدها من أعظم الدلائل على أن بين جنبيه نفساً بالغة من الكمال ما لا يبلغه الإنسان الذي يطلب المعالي بنفسه، ولو بلغ من العبقرية ما بلغ، ولقن من الحكمة ما شاء أن يلقن. وأوجز الحديث عنها في هذا الفصل فاقول: طالعْ كتب التاريخ، عربية وغير عربية، وأمعن النظر في أحوال عظماء الرجال من مبدأ الخليقة إلى هذا اليوم، فإنك لا تستطيع أن تضع يدك على اسم رجل من أولئك العظماء، وتقص علينا سيرته ومزاياه، وأعماله الجليلة

المعجزات المحسوسة

حديثاً يضاهي أو يداني ما نحدثك به عن هذا الرسول العظيم. سنحدثك عن خلقه وآدابه، ومثابرته على عبادة الله آناء الليل وأطراف النهار في فصل ياتيك بعد، وضم إلى هذا: أنه قضى نحو عشر سنين في مناهضة خصومه من مشركي قريش وغيرهم، ولم تشغله تلك المناهضة المستمرة وما تستدعيه من تدبير، ولا إقباله على العبادة بمجامع قلبه، أن يتلقى عنه الناس أحكام الوقائع في العبادات والمعاملات والجنايات. وأضف إلى هذا: نظره في طرق سياسة الأقوام الداخلين تحت لوائه، وفي فصل ما ينشب بينهم من خصومات، وضع بجانب هذا: ما كان ينطق به من الحكم الرائعة، والمواعظ البالغة. واعتبر بعد هذا فيما وهبه الله تعالى من بيان يسترعي الأسماع، ويأخذ بالألباب، فإنك إن تدبرت هذا الذي أومأنا إليه، ورجعت في الوقوف على ما يفصله إلى الروايات الصحيحة، لم تتردد في أن تاييد الله تعالى هو الذي رفع صروح هذه السيرة، وجعلها حافلة بتلك المحامد والمفاخر التي تنقطع دونها كل سيرة. * المعجزات المحسوسة: جرت على يده - صلى الله عليه وسلم - خوارق عادات شهدها الناس الذين أدركوا عهد البعثة، ورويت لنا بأسانيد ثابتة تتصل بأمة كبيرة من الصحابة - رضي الله عنهم -، ويرويها عن الصحابة جماعة من أهل العلم والتقوى حتى تصل إلى أئمة أمثال: مالك ابن أنس، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم. ومن هذه المعجزات ما يبلغ في روايته مبلغ التواتر، ومعظمها ورد بطريق خبر الآحاد، ومجموع أحاديثها يفيد العلم القاطع بأن هذا النوع من الآيات قد جرى على يده - عليه الصلاة والسلام -, ولم يعتن الصحابة أو

التابعون بروايتها الاعتناء الذي يرفع كل واحد منها إلى مرتبة التواتر المفيد للقطع؛ لعلمهم أن في القرآن الكريم، وحكمة الشريعة، والسيرة النبوية آياتٍ بينات، ودلائل تكفي الناظر، فلا يحتاج إلى غيرها من الآيات التي كانت قد وقعت وشهدها قوم آخرون. ويدخل في هذا الباب: إخباره - عليه الصلاة والسلام - بأمور غيبية واقعة؛ كنعيه للنجاشي يوم موته، وقوله للصحابة: "مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة (¬1)، وإخباره عن أمور مستقبلة؛ كقوله لعدي بن حاتم: "إن طالت بك الحياة، لترين الظعينة ترحل من الحيرة (¬2) حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله"، وقوله له: "لئن طالت بك حياة، لمفتحن كنوز كسرى"، قال عدي: قلت: كسرى هرمز؟! قال: "كسرى هرمزدا، قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى (¬3). وهذا النوع من المعجزات قد ينفع في هداية الذين يؤخذون بالدلائل المحسوسة أكثر مما يؤخذون بالدلائل المعقولة. وقد يجري بمحضر المؤمنين؛ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، أو يجري حيث يكون في المعجرة دفع حاجة لا تدفع إلا بها؛ كتكثير المال القليل في بعض الغزوات ليكفي حاجات الجماعات الكثيرة. ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري". (¬2) بلد بجنب الكوفة. (¬3) "صحيح الإمام البخاري".

عموم بعثته - عليه الصلاة والسلام -

* عموم بعثته - عليه الصلاة والسلام -: كان العالم قبل البعثة المحمدية في ظلمات من الزيغ عن الحق، والجهل بطريق السعادة، يستوي في هذه الظلمات الأمة العربية وغير العربية. وقد قصصنا عليك من حال الأمة العربية ما قصصناه آنفاً. وأما الأمم غير العربية، فمنها من كانوا على المجوسية , كالفرس، والبربر، ومنها من كانوا على البراهمية، أو البوذية؛ كالهنود والصينيين، ومنها من كانوا على نصرانية خرجوا بها عن وجهها الصحيح؛ كالروم. هذه حال معظم الأمم قبل البعثة، فهي إما مغموسة في الوثنية القذرة، أو منتمية إلى شريعة سماوية محرَّفة، ولا تبنى الأعمال الصالحة والمدنية الفاضلة إلا على أساس العقيدة القيمة: وإذا كان في الأنابيب حيف ... وقع الطيش في صدور الصِّعاد (¬1) وإذا نظرت إلى هذه الأمم من الوجهة الاجتماعية والخلقية، وجدتها في تمزق وفساد، حتى الأمتين اللتين كانتا على أثارة من العلم أو المدنية، وهما: الفرس، والروم. فالأمم إذاً في حاجة شديدة إلى دعوة دينية صحيحة تنقذها مما هي فيه من شقاء، وتهديها الصراط السوي الذي يكفل لها السعادة في الآخرة والأولى، فكان من مقتضى الحكمة دعوة الناس- على اختلاف شعوبهم وقبائلهم- إلى الدخول في دين واحد، والسير على أصول شرع ثابتة، وذلك الدين هو الإسلام، وتلك الأصول هي أصول شريعته المحكمة، فكان من ¬

_ (¬1) الصعاد: الرماح كالأنابيب.

دوام شريعته وختمه للنبوة

مزايا الرسالة المحمدية: أن جاءت لهداية أمم الأرض قاطبة. ولعموم رسالته - صلى الله عليه وسلم - دعا العرب، وبث فيهم هداة، ثم بعث رسلاً من أصحابه إلى ملوك من غير العرب، وكتب معهم كتباً يدعوهم فيها إلى الإسلام، فبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر (ملك الروم)، وبعث عبدالله بن حذافة السهمي إلى كسرى (ملك الفرس)، وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي (¬1) (ملك الحبشة)، وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس (ملك الإسكندرية). ولعموم رسالته - صلى الله عليه وسلم -، وعدم اختصاصها بقوم دون قوم، جاءت شريعته حافظة بنصوصها وأصولها لصالح كل الأوطان، متقاربة أو متباعدة. يعرف هذا حق اليقين من درس الشريعة، وألم بجانب من تاريخ القضاء والفتوى في الإسلام. * دوام شريعته وختمه للنبوة: عرفت أن الإسلام دين عام، لا تختص هدايته بأمة دون أمة. وهو - بعد هذا- دين خالد، لا يخلفه دين، ولا يطرأ على شريعته نسخ. ولخلود هذا الدين، وتوجه دعوته إلى الناس جيلاً بعد جيل، جعل الله فيها آيات صدق المبعوث به آية قائمة ما قامت السماوات والأرض، تعيها الأسماع، وتجول فيها الأنظار، وتستضيء بها الأبصار، وهي: القرآن الحكيم. ولبقاء شريعته إلى يوم البعث كانت نصوصها وأصولها موافقة لما يقتضيه حال كل عصر. وكيف لا تكون كذلك، وهي قائمة على قواعد، منها: ¬

_ (¬1) الصحيح أن النجاشي الذي أرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية غير النجاشي الذي أسلم، وأخبر بوفاته الصحابة، وصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغائب.

خلقه - عليه الصلاة والسلام - وآدابه

"الضرر يزال"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"الأعمال بمقاصدها"؟. وإذا كانت آية صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - باقية، ودينه قيماً، وشريعته كافلة لمصالح العصور ما تجددت، كان ختمه للنبوة على وفق الحكمة البالغة، قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبوة" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي، ولا نبي (¬2) "، إلى غير هذا من الأحاديث البالغة مبلغ التواتر المفيد للقطع. ومن قرأ التاريخ في الزمن البعيد أو القريب، ومرّ فيه على قصص الأشخاص الذين ادعوا النبوة من بعده - عليه الصلاة والسلام -، وجدهم أخف الناس عقولاً، وأسخفهم أقوالاً، وأبعدهم عن الفضل مكاناً، وسرعان ما تنكشف سرائرهم، ويظهر - حتى لغير النبهاء من الناس - زورهم، وتنتهي بالخيبة دعايتهم، ولا يبقى من آثارهم سوى نوادر يتفكه بها السّمار ترويحاً عن خواطرهم. * خلقه - عليه الصلاة والسلام - وآدابه: أدلك على أخلاقه العظيمة، وآدابه السنية بكلمة: هي أن كل خلق عظيم، أو أدب سني ورد في القرآن الحكيم، قد تحلى به الرسول الاكرم، وصار مثاله الأكمل الذي يتأسى به مريدو الفضيلة، وبغاة الأدب النبيل. ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام مسلم ". (¬2) الترمذي.

ولعلك تعلم - كما أعلم - أن الذكر الحكيم لم يغادر خلقاً كريماً، ولا أدباً سامياً، إلا نبه على مكانه، وحث على التجمل به. فإذا قرأت في كتاب الله آية ترشد إلى خلق مثل الصبر، أو الحلم، أو الجود، أو الشجاعة، أو العدل، أو الصدق، أو الحياء، أو الزهد، أو الوفاء بالعهد، فاقطع بأن هذا الخلق قد أخذ من نفس سيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام - المكانة التي لم يأخذها في نفس من سبقه من العظماء، ومن جاء بعده. وإذا قرأت في كتاب الله آية ترشد إلى أدب جميل؛ مثل: استئذان الرجل عند دخول بيت مسكون غير بيته، أو جدال المخالفين بالتي هي أحسن، أو المشي على الأرض هوناً، أو غض الصوت ورفعه عند الخطاب بقدر الحاجة، فتيقن أن هذا الأدب داخل في آداب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي لم تكن تاخذه عنها غفلة. لا أقول هذا مستنداً إلى مجرد أنه المبلِّغ للقرآن، وشان المبلغ للقرآن أن يكون متحلياً بما فيه من مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، بل أستند إلى هذا، وأستند إلى ما يصفه به القرآن من مثل قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. ثم أستند إلى كتب السنة الصحيحة؛ فإنك إذا جئتها، بهرت قلبك بما تقصه عليك من أخلاقه الكريمة، وآدابه الآخذة بالألباب. فتراه - صلى الله عليه وسلم - يلقى الخطوب بعزم لا يهن، ويحتمل البلاء بصير لا يتزلزل. وحسبك شاهداً على هذا: ما كان يلاقيه قبل الهجرة من أذى المشركين، ثم ما كان يلاقيه في بعض غزواته من شدائد، فلا يكون من ذلك الأذى، ولا تلك الشدائد إلا أن تزيد عزمه صرامة، وصبره قوة. وتراه - عليه الصلاة والسلام - متواضعاً في غير تصنع، فحاله مع

المستضعفين يوم كان يدعو الله وحيداً، وسفهاء الأحلام بمكة يسومونه الأذى، هو حاله بعد هجرته، وانتصاره على أعدائه، ودخول الناس في دين القيمة أفواجاً. ومن المعروف في سيرته: أنه كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويعطي كل واحد من جلسائه نصيبه، حتى لا يحسب جليسه أن أحداً كرم عليه منه، ولا يقطع عن أحد حديثه حتى يتجوزه (¬1)، فيقطعه بانتهاء أو قيام. وإذا استقبله الرجل فصافحه، لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرف وجهه. وقال أنس بن مالك: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً، وإن كان ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: "يا أبا عمير! ما فعل النغير (¬2)؟ ". وتراه - صلى الله عليه وسلم - زاهداً في متاع هذه الحياة، غير حافل بزينتها وملاذها. أقبلت عليه الدنيا، ولا سيما بعد فتح مكة، فلم يتحول عن سيرته في المأكل والملبس وأثاث المنزل مثقال ذرة، فهذه عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- تقول: "ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاثة ليال تباعاً حتى قبض (¬3) "، وقالت: "ما أكل آل محمد - صلى الله عليه وسلم - أكلتين في يوم واحد إلا إحداهما تمر (¬4) "، وقالت: "كان فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - من أدم، حشوه ليف". ¬

_ (¬1) يخففه. (¬2) تصغير نغر بضم النون وفتح المعجمة: اسم لنوع من الطير. (¬3) "صحيح الإمام البخاري". (¬4) "صحيح الإمام البخاري".

ويروي لنا الإمام البخاري في "جامعه الصحيح": أن عمر بن الخطاب دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع على رمال (¬1) حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال في جنبه، متكئاً على وسادة من أدم حشوها ليف، ثم قال له عمر: "يا رسول الله! ادع الله لنا فليوسع على أمتك؛ فإن فارس والروم قد وسع عليهم، وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله"، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان متكئاً، فقال: "أو في هذا أنت يا بن الخطاب؟! إن أولئك قوم قد عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا". وتراه يك - صلى الله عليه وسلم - رحيم القلب، محباً للرفق، طلق المحيا. ومن المعروف في سيرته: أنه ما ضرب أحداً قط بيده، ولا امرأة، ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله. وممن روى لنا مثلاً من رحمته: مالك بن الحويرث، قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن شببة (¬2) متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أننا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركناه وراءنا من أهلنا، فاخبرناه- وكان رفيقاً رحيماً -,فقال: "ارجعوا إلى أهليكم، فعلموهم، ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي (¬3) ". فقوله: "وكان رفيقاً رحيماً" كلمة لا يقولها قائلها في مثل هذا المقام إلا بعد أن تقوم له شواهد على رفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورحمته من غير هذه الواقعة. ومن شواهد ملاقاته للناس ببشر وطلاقة محيا: ما نقرؤه في جامع ¬

_ (¬1) منسوج، والمراد: أن سريره كان منسوجاً بما ينسج به الحصير. (¬2) جمع شباب. (¬3) "صحيح البخاري".

الترمذي" من حديث عبدالله بن جزء، إذ قال: "ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وقال جرير بن عبدالله البجلي: "ما حجبني (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت، ولا رآني إلا ابتسم". وكان - صلى الله عليه وسلم - مطبوعاً على خلق الحلم، والعفو مع القدرة على الانتقام. وفي" صحيح الإمام البخاري ": "وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله". والحوادث التي شملها عفوه الكريم، ودلت على حلمه المنقطع المثيل، مبثوثة في كتب الحديث والسيرة. وأسوق لك منها قصة رواها الإمام مسلم وغيره من كبار المحدثين، وهي: أنه هبط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة في السلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غِرَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان إلا أن أُخذوا في الأسر، ثم عفا عنهم. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه القصة بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]. ومن المعروف في السيرة: أنه كان يصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، قال أنس: "كنت أمشي (¬2) مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعليه بُرد نجراني، غليظُ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أثرت فيها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال الأعرابي: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ¬

_ (¬1) ما منعني من الدخول إليه إذا كان في بيته، وأستأذنت عليه. (¬2) "صحيح الإمام البخاري".

ثم أمر له بعطاء". وكانت يداه - صلى الله عليه وسلم - مبسوطتين بالبذل في وجوه الخير، ينفق ما يؤتيه الله من مال في إعلاء كلمة الله، ويؤثر به ذوي الحاجات من الفقراء وأبناء السبيل، قال ابن عباس - رضي الله عنه - "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة" (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - يجمع إلى الجود والسخاء: شجاعة، ورباطة جأش، قال علي- كزم الله وجهه-: "وانا كنا إذا حمي الباس، واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه (¬2). وكذلك الداعي إلى الحق، ولا سيما المعهود إليه بابلاغه وتنفيذه: لابد من أن يكون شجاعاً رابط الجأش، على قدر شدة المدعوين، وصعوبة مراسهم، وعلى قدر عظم الحق ومخالمفته لمللهم وعاداتهم وأهوائهم، فإذا أودع الله تعالى قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - وشجاعة وسكينة في مواضع الخطوب، فلا جرم أن يكون نصيبه من هذه المزية أعظم نصيب؛ إذ لا أشد من مراس الأمة التي ابتدأ بإنذارها، وهي الأمة العربية، وفي دعوة الإسلام قضاء على مللهم، وذم لمعبوداتهم، وإبطال كثير من عاداتهم، وصرف لهم عن أهوائهم. وكان - صلى الله عليه وسلم - مطبوعاً على خلق الحياء الذي علمنا أنه من خلق الإسلام، بقوله: "لكل دين خلق، وخلق الإسلام الحياء" (¬3). ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري". (¬2) النسائي، والإمام أحمد. (¬3) "الموطأ".

اجتهاده - عليه الصلاة والسلام - في عبادة ربه

ومن أثر هذا الخلق الكريم: أنه كان لا يواجه أحداً في وجهه بشيء يكره (¬1)، وإذا بلغه عن أحد شيء يستحق الزجر، لم يذكر اسمه، وإنما يورد الزجر في خطاب عام؛ كما قال: "ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟! ". وكان - صلى الله عليه وسلم - مع تواضعه ورفقه ورحمته وحلمه وحيائه-، يملأ القلوب مهابة وإكباراً، فقد ورد في وصف مجلسه: أنه كان إذا تكلم، أطرق جلساؤه كانما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت، تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلم عنده، أنصتوا له حتى يفرغ حديثه. * اجتهاده - عليه الصلاة والسلام - في عبادة ربه: قد رأيت من الفصل السابق كيف كانت صلته - عليه الصلاة والسلام - بالخليقة، وعرفت أنها كانت عامرة بالرفق والرحمة والإحسان. ونريد أن نحدثك في هذا الفصل عن صلته بربه، وصرفه الجهد في حسن طاعته: تحدثنا الروايات الصحيحة: أنه كان - صلى الله عليه وسلم - مسلِّماً وجهه إلى الله تعالى، مملوء القلب بخشيته، وموصول الهمة بعبادته، فكان - عليه الصلاة والسلام - يقوم بالدعوة، ويضيف إلى هذا العمل العظيم: التقرب إلى الله تعالى بالذكر والصلاة والصيام وتلاوة القرآن. وكان يتهجد بالليل على وفق قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]. روى الإمام البخاري في "جامعه الصحيح" عن المغيرة بن شعبة: أنه ¬

_ (¬1) أبو داود، والنسائي.

أثر دعوته في إصلاح العالم

قال: "أن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقوم ليصلي حتى ترم (¬1) قدماه، فيقال له، فيقول: "أفلا كون عبداً شكوراً؟ ". وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره من الشهور: فيكثر فيه من تلاوة القرآن، والصلاة، والذكر، والاعتكاف. وما كان يخرج عنه شهر حتى يصوم منه، وربما صام أياما متتابعة، حتى يقال: لا يفطر. وكان يواصل (¬2) الصوم في رمضان؛ ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة. وكان ينهى أصحابه عن الوصال، فيقولون له: إنك تواصل، فيقول: "لست كهيئتكم: إني أبيت عند ربي فيطعمني ويسقيني"، والمراد من إطعام الله وسقيه: ما يغذيه به من المعارف، وما يفيضه على قلبه من لذة المناجاة. وورد في السيرة: أنه كان لا يجلس ولا يقوم إلا عن ذكر الله. وكان روح عبادته الإخلاص، يصلي في حجرته نافلة كما يصلي في المسجد، ويذكر الله خاليا كما يذكره في جماعة، ويعمل له في السر كما يعمل في العلانية. وقد اعترف كثير من علماء أوروبا في مؤلفاتهم ببلوغه - عليه الصلاة والسلام - أقصى درجة في الاستقامة وكمال الأخلاق، وعني كثير من الكتاب بنقل هذه الشهادات المملوءة بإكبارهم له - عليه الصلاة والسلام -، وشدة إعجابهم بما أفاضه على العالم من إصلاح. * أثر دعوته في إصلاح العالم: ظهرت دعوة الإسلام في الأمة العربية، فكان لدعوته أثر كبير في تقويم ¬

_ (¬1) تنتفخ. (¬2) يصل الليل بالنهار في الصوم يومين أو أياماً.

عقائدها، وتهذيب أخلاقها، وتوثيق عرا وحدتها، وإصلاح حال اجتماعها، فأصبحت رشيدة بعد غواية، ومتحدة بعد تفرق، وعالمة بعد جهالة، وعاملة بعد بطالة، وعزيزة الجانب بعد أن كان الفرس والروم يسيطرون على بعض أطرافها. رفعت دعوة الإسلام الأمة العربية من حضيض الشقاء إلى أوج السعادة في سنين معدودة، ثم ارتفع صوت هذه الدعوة المباركة حتى وصل إلى أقصى الغرب، ثم إلى أقصى الشرق، وكانت هذه الدعوة تجد أينما جاءت عقائد فاسدة، ومزاعم ملفقة، وعادات ممقوته، وأهواء طاغية، فتزيح كل هذه الأرجاس من طريقها، فإذا القرآن يتلى، والسنّة النبوية تروى، وأولئك الدعاة يقيمون من إيمانهم الصادق، وعملهم الصالح، وخلقهم العظيم، مثلاً كاملة، فلا تلبث تلك الشعوب أن تعمل على طرق الهداية التي قرر أصولها القرآن، وفصلتها السنة النبوية، وسار عليها أولئك الدعاة المصلحون. وإذا كان بعض تلك الشعوب؛ كالفرس والروم على شيء من علم أو مدنية، فإن حالتهم النفسية كانت في هبوط، وشؤونهم الاجتماعية كانت في اختلال، ودعوة الإسلام هي التي سمت بهم كما سمت بغيرهم من الشعوب إلى التوحيد الخالص. وطهرت نفوسهم من المزاعم الملقية في زراية، وجعلتهم يعبدون الله تعالى كما أمر، ويتقربون إليه بما يرضى. ولو عمدنا إلى هذه الشعوب التي صارت إلى الاسلام، وأخذنا نقيس حياتها غير الإسلامية بحياتها الإسلامية، لوجدنا الفرق بين الحياتين كالفرق بين الظلمات والنور، أو الظل والحرور. وإذا شئت أن تقف على شاهد لما استفاده العقل والعلم من دعوة

الإسلام، فانظر إليها كيف رفعت مقام العقل، وحثت على إعماله في النظر والبحث، والوثوق بما يدركه من نتائج، وما يجنيه من ثمرات، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185]. وانظر إلى الدعوة كيف تنوه بشأن العلم، وترشد إلى الاعتماد على آراء العلماء فيما تناله عقولهم، ويدخل في دائرة بحثهم، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. وعدّ علماؤنا فيما يجب أن تقوم به طائفة من الأمة كلَّ علم يتوسل به إلى معرفة حق، أو إقامة مصلحة؛ كالهندسة والحساب، والميقات والجغرافية. نهض الإسلام بالعقول من وهدة الخمول، وأذن لها أن تبحث في كل علم، وتذهب في البحث كل مذهب، فوجدت الأمم من العرب وغير العرب في هذه السماحة ما أثار نشاطهم للبحث في كل ناحية من نواحي العلم، فلم يلبثوا أن جمعوا القرآن الكريم في مصحف، ودونوا الحديث النبوي بعد أن كان محفوظاً في الصدور، وكتبوا في تفسير القرآن، وشرح السنّة النبوية، وحققوا النظر في تقرير أصول الفقه، وحرروا وجوه استنباط الأحكام العملية، ووضعوا إزاءها العلوم العربية؛ من: النحو، والصرف، والبيان، وفقه اللغة. ودرسوا العلوم النظرية المعربة عن الكتب اليونانية وغيرها، فاصبحت بلاد الإسلام- ولاسيما عواصم الممالك؛ كبغداد، وقرطبة، ومصر، ودمشق، وتونس - موارد العلوم الإسلامية والأدبية والكونية. ومن هذه الموراد استمدت الأمم الأوروبية معارفها وفنونها. وقد اعترف بهذا كثير من علماء أوروبا المنصفين، قال الأستاذ (بريفولت الإنجليزي) في

كتابه "تكوين الإنسانية" في القرن التاسع: "تعلم كثير من المسيحيين عند علماء الإسلام". وقال: "إن رئيس دير كلوتي تأسف على أن رأى أثناء إقامته في الأندلس الطلبة من فرنسا وألمانيا وإنكلتر يردون أفواجاً إلى المراكز العلمية العربية". وقال: "فالعلم هبة عظيمة الشأن جادت بها الحضارة العربية على العالم الحاضر". ولم يكن فضل الإسلام على أوروبا من ناحية العلم فقط، بل كان له الفضل في نهضتها المدنية، قال الأستاذ (بريفولت) في الكتاب المذكور: "لم تكن إيطاليا مهداً لحياة أوروبا الجديدة، بل إسبانيا (الأندلس)؛ لأن أوروبا كانت بلغت أشد أعماق الجهل والفساد ظلمة، بينما العالم العربي: بغداد، والقا هرة، وقرطبة، وطليطلة، كانت مراكز الحضارة والنشاط العقلي، ومن ثم ظهرت الحياة الجديدة التي نمت في شكل ارتقاء إنساني جديد". وخلاصة الفصل: أن دعوة خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - قد أتت العالم بضروب خطيرة من الإصلاح لم تأته بها دعوة سبقتها أو تأخرت عنها؛ فما يوجد في العالم من هداية صادقة، أو علوم نافعة، أو مدنية فاضلة، فإنما يرجع الفضل فيه لدعوة هذا الدين القويم. فليرفع الفتى المسلم رأسه معتزاً بدين رفع الإنسانية من حضيض الجهل إلى أوج العلم، وهداها سبل السعادة الباقية، والمدنية المهذبة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

صبر محمد - عليه السلام - ومتانة عزمه

صبر محمد - عليه السّلام - ومتانة عزمه (¬1) نحمدك اللهم على أن هديتنا صراطاً سويا، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد الذي أنزلت عليه قرآنا عربياً، ورفعته في سماء السيادة والعظمة مكاناً عَلِيّا، وعلى آله وصحبه وكل من دعا إلى سبيلك مخلصاً تقياً، أما من زاغ عن الهدى، أو اتخذ من المضلين عضداً، فإليك إيابه، وعليك حسابه. أيها السادة! نحتفل بذكرى مولد أكمل الخليقة، وانما نحتفل بمطلع الهداية التي أخرجت العالم من الظلمات إلى النور، وعلمت البشر من وجوه الحكمة مالم يكونوا يعلمون. وخير الاحتفال بذكرى مولد المصطفى: أن نلقي على حضراتكم كلمات نقتبسها من سيرته السنية، وخلقه العظيم، وقد اخترت أن أجعل تذكرة بسعة صبره، ومتانة عزمه؛ فإنهما من أسمى الخصال التي بلغ بها الغاية من الدعوة، وما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلا إلى سعادةٍ وإصلاحٍ ونظام. أوحى الله إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى، فكان نور اليقين يسعى بين يديه، ويسيربه في سبيل الدعوة، فلا يسأم ولا ييئس، ولا يرهب سطوة غير سطوة ¬

_ (¬1) مجلة"الفتح" - العدد 113 من السنة الثالثة في 29 ربيع الأول 1347 هـ 13 سبتمبر 1928 م القاهرة. محاضرة الإمام في ذكرى مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الخالق، ولا يخشى. يتجلى صبر محمد - صلى الله عليه وسلم - في استقامته كما أمره الله، ومواصلته العبادة آناء الليل وأطراف النهار، فقد كان- صلوات الله عليه- يقوم الليل ناسكاً متهجداً. وكان هذا القيام في حقه أمراً مفترضاً عليه. يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1 - 4]. وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]،. وفي حديث المغيرة المروي في "صحيح البخاري": "إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه، فيقال له، فيقول: أفلا كون عبداً شكوراً؟ ". وسئلت أم المؤمنين عائشة عن عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كان عمله ديمة، وأيكم يطيق ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيق؟. ولو لم يكن محمد - صلوات الله عليه - مخلصاً فيما يفعل، صادقاً فيما يبلغ، لما استطاع أن يملأ الليل والنهار بعبادات يأخذ بها نفسه في الحضر والسفر، ويقوم بها في العلانية كما في حجرته وأهلُ الحجرة نائمون. وقد خطر على أذهان بعض الصحابة أنهم في حاجة إلى أن يُجهدوا أنفسهم في العمل الصالح أكثر مما يجهد رسول الله نفسه؛ بحجة أن الله اصطفاه برسالته، وخلع عليه من حلل رضوانه، فهو مغفور له، ومحمود المقام عند الله على أي حال، ذكروا هذا الخاطر في حضرة الرسول، فقابله بالغضب، وأرشدهم إلى أن العبادة والتقوى على قدر المعرفة بالله، وأنه أتقاهم لله، وأعلمهم به، وفي "صحيح البخاري": "كان إذا أمرهم، أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله؛ إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك

وما تأخر، فيغضب حتى يُعرف الغضب في وجهه، ثم يقول: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا". ولو لم يكن محمد - صلى الله عليه وسلم - مخلصاً فيما يفعل، صادقاً فيما يبلغ، لكان شأنه أن يرتاح لخاطر كهذا، ويتكئ عليه في الإقلال من العبادة، فيخفف عن نفسه شيئاً من حملها الكبير. يُعلِّم محمد - صلى الله عليه وسلم - بسيرته عظماء الرجال: أن القيام على العبادة الخالصة لا يبطئ بالرجل أن يكون فاتحاً مظفراً، أو سياسياً راشداً، أو طامحاً إلى همم تطلع وتغرب من تحتها كواكب الجوزاء، بل إن تقوى الله بحق هي أساس كل عزة وعظمة. يتجلى صبر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشدة عزمه في احتمال ما تجري به صروف الأقدار من الشدائد والخطوب؛ فإنه كان يتلقاها بقلب لا يخضع للنوائب، وعزم تزول الراسيات ولا يزول، وأقرب مثل نسوقه على هذا الخلق الجليل: واقعة أحد التي قضى الله بأن يبلو فيها المسلمين، ويميز بها المنافقين من المؤمنين، فقد لقي فيها رسول الله بأساً شديداً، وكسرت فيها ربَاعيته، وجرحت وجنته وشفته، وجشت ركبته، حتى اضطر أن يؤدي الصلاة في ذلك اليوم جالساً، وقتل عمه حمزة بن عبد المطلب، ومُثل فيه أفظع تمثيل، ولكنه حذر - عليه الصلاة والسلام - أن يظن المشركون به وبأصحابه وهناً، وتدور نشوة الانتصار في رؤوسهم، فيهموا بالعودة إلى المدينة، ويطمعوا في استئصال من فيها من المسلمين، فقصد إلى أن يريهم قوة وعزماً، فبعث في الغد من ينادي في الناس بطلب العدو، ويؤذنهم أن لا يخرج معه إلا من شهد الوقعة بالأمس، فانتدب منهم سبعين رجلاً، فخرج بهم يقفو أثر القوم حتى بلغ القوم

مكاناً يقال له: "حمراء الأسد"، فألقى الله الرعب في قلوب المشركين، فانصرفوا إلى ديارهم، وانقلب رسول الله والذين معه إلى المدينة وقد أمنوا ما كانوا يحذرون. يُعلِّم محمد - صلى الله عليه وسلم - بسيرته المجاهدَ في سبيل الحق أن يثبت في وجه أشياع الباطل ولا يَهن في دفاعهم وتقويم عوجهم، ولا يهوله أن تقبل عليهم الأيام، فيشتد بأسهم، ويجلبوا بخيلهم ورجالهم، فقد يكون للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أما العاقبة، فإنما هي للذين صبروا والذين هم مصلحون. يتجلى صبر محمد - صلى الله عليه وسلم - وقوة عزمه ساعة يعتدي عليه السفهاء من خصوم هدايته، فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - يقابل أذاهم بالتجلد، والمضي في الدعوة كيف يشاء، ولشدَّما لقي من الأذى، فلم يحجم به يوماً عن أن يصدع بما أمره الله، ولم يحجم به يوماً عن أن يضرب بالدعوة في وجوه أولئك الجبابرة، وهذه السيرة تعلِّم الناهضين بالأمم إلى مراقي الفلاح كيف يؤثرون الحق على أنفسهم ومن في الأرض جميعاً. ولا أدل على عظمة الرجل من أن يستبين سبيل الرشد، فيسلكها في سكينة وقرارة جأش، ثم لا يبالي عبث المستهزئين، وما يعترضه من أذى المبطلين. يتجلى صبر محمد - صلى الله عليه وسلم - وقوة عزمه في إقدامه على همم لا تدرك إلا بمعاناة مصاعب واقتحام أخطار. له همم لا منتهى لكبارها ... وهممته الصغرى أجلُّ من الدهر بلغه - صلى الله عليه وسلم - أن الروم ومن يظاهرهم من قبائل العرب المتنصرة أخذوا يتأهبون للزحف عليه بالمدينة، فنادى بالنفير العام، وانبعث في سفر بعيد

الشقة إلى أن وطئ أرض الروم، فخالط قلوبهم رعب، وجنحوا للسلم، فجنح لها، ووادعهم إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. يُعلّم محمد - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذه الغزوة رؤساء الشعوب أن لا يقعد بهم حب الراحة والنعيم العاجل، ويغيبوا عما وراء بلادهم حتى يطل عليهم العدو بخيله ورجله، ويصب عليهم من سيطرته عذاباً مهيناً. يتجلى صبر محمد - صلى الله عليه وسلم - وقوة عزمه في أقوال يتبرأ من أن يصرفه عن الدعوة إلى الدين الحنيف صارف، وهو الذي يقول: "والله! لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته". بمثل هذا الكلم النوابغ يعلم محمد - صلى الله عليه وسلم - دعاة الإصلاح من بعده أن يكونوا من العزم الصامت بحيث يمضون في سبيلهم مضي الشهاب الثاقب، ولا يتردد بهم في هذا السبيل أن يصانعهم الذين لا يحبون الناصحين، ولو ملؤوا ما بين أيديهم لجيناً وعسجداً. وإذا كان الرفق والأناة شعبة من شعب الصبر، فكان محمد - صلوات الله عليه - يقابل الإساءة بالرفق والأناة. نقرأ في "صحيح البخاري": أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه، فأغلظ له في القول، فهّم به أصحابه، فقال: "دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالا". ونقرأ في "صحيح البخاري": أن رهطاً من اليهود دخلوا عليه، وقالوا: " السام عليكم" محرفين كلمة "السلام" إلى "السام"، والسام: الموت، فلم يزد رسول الله على أن قال: "وعليكم"، ولما ردت عليهم أم المؤمنين عائشة بقولها: "وعليكم السام واللعنة"، قال لها: "مهلاً يا عائشة، إن الله يحب

الرفق بالأمر كله". ونقرأ في "صحيح البخاري": أن عائشة بنت الصديق تصف رسول الله، فتقول: "والله! ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم له". ونحن إذا تقصينا سيرته بحثاً وتنقيباً، وجدناها مصدقة لما وصفته به أم المؤمنين من الرفق والحلم، فما عاقب - عليه الصلاة والسلام - أحداً مسه بأذى، ولا اضطغن على أحد أغلظ له في القول، بل كان يلاقي الإساءة بالحسنى، والغلظة بالرفق، إلا أن يتعدى الشر، فيلقي في سبيل الدعوة حجراً، أو يحدث في نظام الأمة خللاً. فلمحمد - صلى الله عليه وسلم - يومئذ شأنه الذي يقول فيه: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها". فهذه السيرة ترشد رئيس القوم إلى أن يوسع صدره لمن يناقشه ويجادله، ولو صاغ أقواله في غلظ وجفاء، فسيرة رسول الله هي التي علمت معاوية ابن أبي سفيان أن يقول: والله! لا أحمل السيف على من لا سيف له، فإن لم يكن من أحدكم سوى حكمة يقولها ليشتفي بها، فإني أجعل له ذلك دُبْرَ أذني، وتحت قدمي. فمحمد - صلى الله عليه وسلم - الذي قرر الحرية في الأموال والأنفس والأعراض، قد قرر الحرية في نقد أعمال الرعاة المسؤولين، فحقيق على عشاق الحرية الفاضلة أن يحتفلوا بذكرى مولد النبي الذي جامل من أغلظ له في القول، وقال لأصحابه: "دعوه؛ فإن لصاحب الحقِّ مقالاً".

الهجرة النبوية

الهجرة النبوية (¬1) تنفس الإسلام في بطاح مكة، فاعتنقه فريق من ذوي العقول السليمة، وما لبث عبّاد الأوثان أن قاموا يؤذونهم في أنفسهم، ويأبون لهم أن يقيموا شعائر دينهم، ولقد كان هؤلاء المسلمون على إيمان أجلى من القمر يتلألأ في سماء صاحية، فاحتملوا ذلك الأذى بصبر وأناة، وكانت مظاهر أولئك الطغاة حقيرة في أعينهم، منبوذة وراء ظهورهم. وكذلك الإيمان تخالط بشاشته القلوب، فيخلق من الضعف عزماً، ومن الخمول نهوضا، ومن الجزع صبراً، ومن الياس أملاً، ومن الجبن شجاعة، ومن الذلة عزّاً. فإذا رأيتم الرجل يتضاءل أمام المترفين صَغاراً، أو يحثو في آذان المضلين إطراء وملقاً، فاعلموا أنه في حاجة إلى الإيمان يطبعه على متانة وصدق ووقار. يجهل الجاحدون على المؤمنين، ويمكرون بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم - ما استطاعوا إلى المكر به سبيلاً، حتى إن قريشاً وبني كنانة اجتمعوا في خَيْف بني كنانة، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثامن من المجلد الأول الصادر في شهر المحرم 1348 هـ.

وتحالفوا على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويرفعوا أيديهم عن جماعته. وهذا ما يشير إليه رسول الله في قوله عند فتح مكة: "غداً منزلنا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر". قضى - عليه الصلاة والسلام - في سبيل الدعوة بمكة ثلاثة عشر حولاً وهو يلاقي نفوساً طاغية، وألسنة ساخرة، وربما لقي أيدياً باطشة، وكان هيناً على الله أن يصرف عنه الأذى جملة، ولكنها سنّة الابتلاء يؤخذ بها الرسول الاكرم؛ ليستبين للناس صبره، ويعظم عند الله أجره، وليتعلم دعاة الإصلاح بحق كيف يقتحمون الشدائد، ويستهينون بما يعترضهم من الأذى، صغيراً كان أم كبيراً. وما كان محمد - صلوات الله عليه - خاملاً، فيطلب بهذه الدعوة نباهة شأن ووجاهة؛ فإن في شرف أسرته وبلاغة منطقه وكرم خلقه ما يكفيه لأن يحرز في قومه الزعامة لو يشاء، وما كان محمد - صلوات الله عليه - مقلاً حريصاً على بسطة العيش، فيبغي بهذه الدعوة ثراء؛ فإن عيشه يوم كان الذهب يُصب في مسجده ركاماً لا يختلف عن عيشه، فيلاقي في سبيل الدعوة أذى كثيراً. وكان من تدبير الله الحكيم أن قدم مكة قوم من الأوس والخزرج، فشرح الله صدورهم للإسلام، وبايعوا الرسول - عليه الصلاة والسلام - على أن يكونوا أنصاره إلى الله؛ كما قال قائلهم: نحن الذين بايعوامحمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا فكفى الله رسولَه والمؤمنين بأس خصومهم الألداء، وهيأ لهم من أمر

لماذا جعلت الهجرة النبوية مبدأ التاريخ في الإسلام؟

الهجرة سبباً. أحسّ زعماء قريش بهذه المبايعة ذات الأثر الخالد العظيم، وانتهى بهم الحال أن ائتمروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعتقلوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه، وقد جاء نبأ هذه المؤامرة في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]. أخرج كل ما في كنانته من رأي، وأجمعوا على أن يطلقوا سيوفهم تخوض في دمه الطاهر انتقاماً لأحجار ينحتونها بأيديهم، ويظلون لها من دون الله عابدين. وأوحى الله إلى رسوله ما أوحى، فبارح مكة من حيث لا تراه أعينهم، وحل بالمدينةِ حلول القمر الزاهر في كبد السماء. حل رسول الله بالمدينة حلول الغيث بالبلد الطيب، فإذا الحكمة تدني قطوفها، وإذا الخطب تأخذ المسامع بروعتها، وإذا صيحة الأذان تشق الجو حتى تبلغ غايتها. وكذلك تكون عاقبة الحق حينما يشتد أعوان الباطل في إطفاء نوره، وقطع سبيله. فإذا كان اليوم الذي خرج فيه رسول الله من مكة يوماً عابساً كثيباً، فإن اليوم الذي قدم فيه المدينة يوم مشرق الطلعة، باسم الثغر، واضح الجبين. * لماذا جعلت الهجرة النبوية مبدأ التاريخ في الإسلام؟ شعر الناس في عهد الفاروق - رضي الله عنه - بالحاجة إلى تأريخ الرسائل وما يكتبون، فاستطلع عمر آراء ذوي الرأي منهم، فأشار بعضهم بأن يقام التاريخ على

عام البعثة؛ لأنه الحين الذي بزغ فيه كوكب الهداية والعلم. وأشار آخرون بأن يكون مبدأ التاريخ (¬1) عام الهجرة، فوقع اختيار عمر على هذا الرأي، وقال: "الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها". اختار الفاروق أن يقام التاريخ على الهجرة الشريفة، وذكر في وجه هذا الاختيار: أنها فرقت بين الحق والباطل، وهذه كلمة تومئ إلى فضل الهجرة، وما كان لها من الأثر في ظهور الإسلام، وإقبال الناس عليه جهرة لا يخشون إلا رب العالمين. كان الحق بمكة مغموراً بشغب الباطل، وكان أهل الحق في بلاء من أهل الباطل شديد، والهجرة هي التي رفعت صوت الحق على صخب الباطل، وخلصت أهل الحق من ذلك البلاء الجائر، وأوردتهم حياة عزيزة ومقاماً كريماً. وإذا كانت البعثة مبدأ الدعوة إلى الحق، فإن الهجرة مبدأ ظهوره، والعمل به في حالتي السر والعلانية، ولا يبلغ قول الحق غايته، ويأتي بفائدته كاملة إلا أن يصبح عملاً قائماً، وسيرة متبعة، انظروا إلى عمر بن الخطاب كيف يقول لأبي موسى الأشعري في رسالة القضاء: "وإذا تبين لك الحق، فانفذ؛ فإنه لاينفع تكلم بحق لا نفاذ له". فالهجرة راشت جناح الإسلام، فذهب يحلِّق في الآفاق ليمحو آية الضلالة، ويجعل آية الهداية مبصرة، اقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ¬

_ (¬1) وهذا رأي علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه - فيما رواه الحاكم عن سعيد بن المسيب.

سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40]. فإنكم تجدون الآية الكريمة تذكر شيئاً من أمر الهجرة النبوية، وتعد في النعم الجليلة المترتبة عليها: جعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا. علت كلمة الله حقاً، وإنما علت على كاهل تلك الدولة التي قامت بين لابتي (¬1) المدينة، وبسطت سلطاناً لا تستطيع يد المخالفين أن تمسه من قريب ولا من بعيد. ومن حسنات الهجرة: تلك الأحكام المدنية، والنظم القضائية، والأصول السياسية؛ فإنها كانت تنزل بالمدينة حيث أصبح المسلمون في كثرة، وصاروا من المنعة بحيث يأخذونها بقوة، ويقومون على إجرائها يوم تنزل والناس يشهدون، ولو كان آخر عهد الوحي يشبه أوله، لم يزد الإسلام على أن يكون دعوة إلى عقائد وأخلاق، وشيء من العبادات. فالهجرة النبوية كانت مبدأ عظمة الإسلام، ومطلع حرية الأمة الإسلامية، فإذا أقمنا لذكرها هذه الحفلة السنية، فإنما نحتفل بذكرى اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل، واليوم الذي استقل فيه المسلمون بأمرهم، ونالوا به الحرية في عبادة ربهم، وسعادة الأمة أن تسلم من كيد خصومها، وتقيم واجبات دينها، ولا تُغلب على حق من حقوقها. ¬

_ (¬1) اللابة: الحَرّة، وهي أرض ذات حجارة نخرة سود - "القاموس".

رفقه وحكمته البالغة في السياسة

رفقه وحكمته البالغة في السياسة (¬1) كان أمراء الإسلام في الأندلس وغيرها من بلاد المغرب يقيمون بليلة الميلاد النبوي احتفالاً باهراً، ونجد في وصف احتفالاتهم: أن طائفة من العلماء الشعراء كانوا يلقون قصائد تحتوي جانباً من مكارم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويسلكون فيها آيات من آيات نبوته الصادقة. ومن هؤلاء الشعراء البلغاء: الوزير لسان الدين بن الخطيب، والوزير أبو عبدالله بن زمرك، والفيلسوف ولي الدين بن خلدون. ومن هذه القصائد: قصيدة لسان الدين بن الخطيب التي يقول في طالعها: ما على القلب بعدكم من جُناح ... أن يُرى طائراً بغير جناح ومنها قصيدة ابن زمرك التي يقول في طالعها: تأملَ أطلال الهوى فتألما ... وسيما الجوى والسقم منها تعلما ومنها قصيدة ابن خلدون التي يقول في طالعها: ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد الأول الصادر في ربيع الثاني سنة 1348. خطبة الإمام في جمعية الهداية الإسلامية يوم السبت 12 ربيع الأول سنة 1348 في ذكرى المولد النبوي.

رفقه بمن يسيئون إليه على جهالة

أسرفن في هجري وفي تعذيبي ... وأطلن موقف عَبرتي ونحيبي وأبينَ يوم البين وقفة ساعة .... لوداع مشغول الفؤاد كئيب وما برح أهل العلم يشهدون هذا الصنيع باستحسان، وينظرون إليه بعين راضية؛ إذ لا يزيد على إسماع الحاضرين كلماً طيباً من سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتذكيرهم بشيء من دلائل نبوته الساطعة. فإذا احتفلنا في هذه الليلة بذكرى المولد النبوي، فإنما نأتي إلى سيرة الرسول الأكرم، ونقدم منها إلى هذه الحفلة مُثلاً عالية. السيرة النبوية بعيدة ما بين البداية والنهاية، فلا نحيط بآثارها ذكراً، ولا نستطيع لمواقع العبرة منها جمعاً، وإنما أقتبس منها كلمة أدلُّ بها على ما كان للمصطفى - صلوات الله عليه - من الرفق بالمستضعفين من الرجال والنساء، وكلمة أخرى أدل بها على ما كان له من الحكمة البالغة في السياسة. * رفقه بمن يسيئون إليه على جهالة: العربي في جاهليته سريع الغضب، حريص على الانتقام ممن يمسه بأذى، وهذه إحدى الخصال التي جعلت العرب قبل أن يستضيئوا بحكمة الإسلام في معزل عن السياسة- كما يقول ابن خلدون-، أما رسول الله، فقد نشا مطبوعاً على فضيلة الحلم والإغضاء، إلا أن تنتهك حرمات الله. نقرأ في الصحيح: أنه لما قفل - عليه الصلاة والسلام - راجعاً من غزوة حنين، جاءه الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى شجرة، فخطفت رداءه، فوقف فقال: "أعطوني ردائي، فلو كان عدد هذه العضاه (¬1) نعماً، لقسمته ¬

_ (¬1) العضاه: جمع العضاهة، وهي أعظم الشجر، أو كل ذات شوك."القاموس".

رفقه بالمرأة

بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً، ولا كذاباً، ولا جباناً". فهذا الأثر يدلنا على أنه - صلوات الله عليه - لم يكن ليقيم أعواناً يمنعون أمثال هؤلاء الأعراب من الوصول إليه، أو يفرقون جمعهم إذا أحاطوا به، وألحفوا في سؤاله، وتدلنا كلمة رسول الله على أنه لا يغضب غضب من تأخذه العزة بالإثم حين يتهافت عليه جماعة من الأعراب حتى يضطروه إلى شجرة تخطف رداءه. ونقرأ في الصحيح: أن أنس بن مالك يقول: "كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه جبذه شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثرت فيها حاشية الرداء، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء". يبتسم لقوة أعرابي بسط يده إليه بجفاء، أما الطغاة أو البلغاء الذين يعثون في الأرض فساداً، فإنه يأخذ فيهم بسنة العزم، ويدع المجاملة والتبسم لهم في ناحية. كان الرئيس العربي يسرف في مصانعة ذوي الزعامة والنفوذ في قومه، ولا يؤاخذهم بما يجرمون؛ مخافة أن يشقوا عصا طاعته، ويزلزلوا أركان رياسته، ثم لا يبالي أن يذيق الضعيف الذي لا يؤبه له عذابا مهيناً. ولكن محمداً - صلوات الله عليه - يضع الأقوياء والضعفاء عند تقاضي الحقوق مكاناً سواء. * رفقه بالمرأة: كان الرجال من قريش يعاشرون أزواجهم في شيء من الغلظة، حتى

إنهم لا يرون للزوجة حقاً في أن تراجع الرجل إذا خاطبها في غيظ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقلب هذه الغلظة إلى رفق، ويفسح للمرأة أن تعمل على إرادتها، وتتمتع بحريتها في دائرة الأدب والصيانة. نقرأ في الصحيح: أن عمر بن الخطاب يقول: "كنا - معشر قريش - نغلب نساعنا، فلما قدمنا الأنصار، إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن بأدب نساء الأنصار، فصخبتُ على امرأتي، فراجعتني، فانكرتُ أن تراجعني، قالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله! إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم إلى الليل". ضرب رسول الله عن عادة قريش جانباً، وكان يتلقى مراجعة الزوجة له بأناة، وهجرَها له اليوم كله باحتمال، يفعل ذلك رفقاً بها، وإرشاداً إلى الأوفق بسنة الاجتماع في معاشرتها، ولتعليم الناس فضيلة العطف على المرأة يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره، واستوصوا بالنساء خيراً؛ فإنهن خلقن من ضلع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه، كسرته، وإن تركته، لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً". وإذا تقصينا أثر ما يقرره الإسلام للمرأة من حقوق، وما ألقاه عليها من احترام، ازددنا علماً بأنه الدين الذي يسير بحال الاجتماع البشري إلى أقصى ما يرام من السعادة. فالنساء شطر البشر، وتأثيرهن على الشطر الآخر من حيث التربية الأولى لا يتنازع فيه اثنان، فالإحسان إليهن، ومسايرتهن فيما لا يخرجن به عن حدود الصيانة والعفاف مما يرفع هممهن، ويرقي آدابهن، فإذا نشأ الولد في حجورهن، خرج للناس رفيع الهمة، راقي الآداب.

حكمته البالغة في السياسة

ونحن إذا قسنا حال المرأة في الجاهلية بحالها بعد نزول الوحي، عرفنا أن ما بيّنه الرسول الأكرم من حقوقها مبدأ من المبادئ التي عني بها الإسلام، وأخرج بها العالم من همجية قاسية إلى مدنية راقية فاضلة. * حكمته البالغة في السياسة: لا يسعني المقام أن أطرق هذا الموضوع بشواهد كثيرة، وإنما أورد واقعة واحدة هي واقعة الحديبية؛ فإن في هذه الواقعة لآية على أن نظر محمد ابن عبد الله في السياسة لم يكن وليد أرض تهامة، إنما هو وليد تعاليم ينزل بها الروح الأمين من فوق سبع سماوات. خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في ألف وثلاث مئة مسلم من المسلمين، قاصداً زيارة البيت الحرام، لا يريد قتالاً، فبلغ المشركين بمكة خبره، فخرجوا ليصدوه عن الزيارة، فنزل بأقصى الحديبية، وسبقه المشركون، فنزلوا بأعداد مياهها (¬1)، ودارت الرسل بينه وبينهم، وانتهى الأمر على عقد صلح تمسكوا فيه بشروط لم يكن من رسول الله إلا أن قبلها. ومن أشد هذه الشروط على المسلمين: أن المشركين أبوا أن يخلُّوا بين النبي وبين البيت في ذلك العام، وإنما رضوا أن يأتيها في العام المقبل، وأخذوا عليه أن من جاءه من المشركين يرده عليهم، وهم إذا جاءهم أحد من المسلمين، لا يردونه عليه. نرى في هذه الواقعة أن المسلمين امتعضوا من عقد هذا الصلح، ورأوا في شروطه ما يمس كرامتهم، ويخدش عزتهم، حتى بلغ بعمر بن الخطاب أن قال لرسول الله: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى": قال: ¬

_ (¬1) الأعداد: جمع عِدّ - بكسر العين -, وهو الماء الذي له مادة لا تنقطع.

فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟! قال له: "إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري"، فزاد عمر أن قال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنّا نأتيه العام؟ "، قال عمر: لا، قال: "فإنك آتيه، ومطوِّف به". رأى المسلمون أن في استطاعتهم حرب المشركين، وفي أملهم أن يكونوا هم الغالبين، ولا سيما بعد أن سمعوا الوعد الصادق بأنهم سيدخلون المسجد الحرام، ويطوفوا بالبيت العتيق، ولكن رسول الله رأى أن احتمال هذه الشروط التي تمسك بها المشركون أخف من أن يناجزهم الحرب وفيهم شيء من القوة، فلا يدخلها إلا بعد أن تراق دماء طاهرة، ودماء يجوز أن تطهر بالإيمان في السنة القابلة. وقد دلت العاقبة على أن المسلمين كانوا ينظرون إلى قريب، وكان الرسول الله ينظر إلى أمد بعيدة إذ كان من عواقب هذا الصلح أن امتد الأمن بين مكة والمدينة، وجرى بين المسلمين والمشركين اتصال، وكثرة ملاقاة، فكان المسلمون يُسمعونهم القرآن، ويناظرونهم على الإسلام علانية، وكانوا قبل هذا الصلح لا يدعون إلى الإسلام بمكة إلا في خفاء، ودخل في الإسلام مدة الصلح كثير ممن كانوا مشركين، أو كن مشركات، فخسر المشركون من حيث أرادوا الفوز، ولم يجئ يوم الفتح الأكبر إلا وهم في ذلة، والمؤمنون في قوة، فدخل رسول الله مكة فاتحاً، وقد ألقوا إليه السلم، بل أقبلوا هم وزعماؤهم يدخلون في دين الله أفواجاً. فإذا وقفنا عند ظاهر أمر رسول الله، نجد في سيرته ما هو سبب نجاحه في الدعوة، وظهوره على أعدائه.

أما نجاحه في الدعوة، فيرجع - بعد بلاغة القول وقوة الحجة - إلى كمال أخلاقه - عليه الصلاة والسلام -، وصدق عزيمته، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]. وأما ظهوره على أعدائه، فيرجع - بعد تأييد الله - إلى حكمة السياسة، والأخذ بسنة الحذر، وإعداد القوة, إذ لا تنجح الدعوة إلى الحق إلا بمتانة الأخلاق، وصدق العزم، ولا تظهر أمة على من يريد بها عسفاً وهواناً إلا بأن تحكم السياسة، وتُعِدَّ له ما استطاعت من قوة. أيها السادة! رغبت إليَّ القريحة أن تشارك حضرات السادة الشعراء في الحديث عن رسول الله بكلام موزون، فسمحت بهذه القطعة من القريض: حييّ ذاك البدر بالزَّهْرِ النظيمْ ... واملأ الجَفْنَ بمرآهُ الوسيم (¬1) ¬

_ (¬1) القصيدة منشورة في آخر - هذا الكتاب مع القصائد النبوية.

نظرة في دلائل النبوة

نظرة في دلائل النبوة (¬1) جرت حكمة الله على أن يبعث في الناس رسلاً يعلمونهم واجبات ألوهيته اعتقاداً وعملاً، ويهدونهم السبيل إلى الفلاح عاجلاً وآجلاً، وقضت حكمته أن تكون دعوة هؤلاء الرسل مقرونة باَيات تشهد بأنهم لم يقولوا على الله إلا حقاً، حتى تقوم الحجة على الجاحد، فإما إيماناً بعد، وإما عناداً. والآيات القائمة على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول الله إلى الخليقة حقاً، تكاد تتجاوز حد ما يُستقصى، وقد تتبعها القاضي أبو بكر بن العربي عَدّاً، وأملى في تفسيره "أثوار الفجر" ألف معجزة، وهي- على كثرتها، واختلاف مظاهرها- ترجع إلى ثلاثة أصول: القرآن الكريم، والسيرة النبوية، والمعجزات المحسوسة التي تنقل إلينا على طرق ثابتة. ولا أقصد في هذا المقام إلى أن أتحدث عن هذه الأصول بتفصيل، بل آتي عليها بالقول الموجز، وأدع بسط القول فيها إلى كتب تأتي - إن شاء الله -. المحاضرة بعد الأخرى. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الرابع من المجلد الثاني الصادر في رمضان 1348، والجزء الخامس من المجلد الثاني الصادر في شوال 1348. محاضرة للإمام في نادي جمعية الهداية الإسلامية في يوم الخميس 9 شعبان سنة 1348.

القرآن الكريم

* القرآن الكريم: نزل القرآن بلسان عربي مبين، وهو يحمل دعوة حكيمة، ومعجزة باهرة: أما الدعوة الحكيمة، فهي ما أرشد إليه من عقائد سليمة، وآداب جليلة، وأحكام عادلة، ونظم عمرانية راقية، وذلك ما يدل عليه قوله تعالى: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. وأما المعجزة، فهي ما يدركه أولو الألباب من بلوغه في حكمة المعاني، وسمو المقاصد، وفصاحة الكلم، وجودة النظم غايةً فوق ما تنتهي إليه طاقة البشر، وذلك ما يدل قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. وكثير من حكماء العرب وبلغائهم يسمعون القرآن، فيدخل الإيمان في قلوبهم من غير حاجة إلى أقيسة منطقية: شرطية أو جملية؛ ذلك أنهم يتلقون الدعوة وهي محفوظة بدلائل الصدق من كل ناحية، وليس بينهم وبين الاهتداء بهذه الدلائل سوى التنبه لوجه دلالتها. ومن شواهد التاريخ على هذا قصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ إذ قرئت عليه سورة "طه"، فانشرح صدره للإسلام، وقال: أين رسول الله؟ فقيل له: في دار أرقم بن أبي الأرقم، فقصد إليه فوراً، وسرعان ما نطق بالشهادة بين يديه. وينبئكم أن القرآن الحجة الناطقة على صدق المبعوث به: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 82 - 83].

بلاغته

فالآية ظاهرة في أن هؤلاء القسيسين والرهبان لم يزيدوا على أن سمعوا قرآناً يتلى، فعرفوا فيه وجه الحق، فقالوا: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83]. وفي قوله تعالى: {وَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] ما هو صريح في أن القرآن آية كافية للدلالة على صدق الدعوة وصحة الرسالة. وانظروا إلى قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ] [التوبة: 6]. فالآية منبهة لما نقول من أن تلاوة القرآن على الضالين تكفي في هدايتهم، وإقامة الحجة عليهم متى كانوا يتدبرون، ومجادلتهم- بعد إسماعهم القرآن- إنما هي لازاحة الشبهة التي تخالظ أوهامهم، أو تكشف عما يلفقونه من زور وبهتان. والحقيقة أن دلالة القرآن على [صدق] محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تنحصر في ناحية واحدة، بل هي ذات وجوه مختلفة، يجتليها كل من يتلوه بيقظة، أو يلقي إليه أذناً واعية. * بلاغته: ومن هذه الوجوه: بلوغه في فصاحة الألفاظ، وبلاغة المعاني، وجودة النظم منزلة تقف دونها فطاحل البلغاء. ذلك أن البلاغة لعهد البعثة المحمدية قد وصلت إلى درجتها العليا، كان العرب يتنافسون في فنونها، ويطلقون الأعنة في مضمارها، حتى أتى محمد - صلوات الله عليه - بما عجز عن أن يأتي بمثله بلغاء العرب قاطبة.

ثم إنك تجد القرآن لا يتناول فناً من فنون الكلام إلا أتى باللفظ الرائع، والأسلوب البديع، وقصارى الواحد من بلغاء البشر أن يبرع في بعض فنون القول، ويضيق باعه في فنونه الأخرى، فلا يدرك فيها سوى المنزلة المتوسطة أو السفلى. وإذا نظرت إلى الأفراد الذين يفوقون أقرانهم فصاحة وبلاغة، ويصبح كل واحد منهم علماً في عصره يشار إليه بالبنان، لم تجد منزلتهم بعيدة من منازل البارعين من غيرهم بعد أن يجعلها خارقة للعادة، كالبعد ما بين منزلة القرآن ومنازل غيره من منظوم الشعراء ومنثور الخطباء. وإذا بدا لنا أن في الإسلاميين أو المحدثين من يفوق بلغاء العرب يوم البعثة، فالفضل في هذا عائد إلى القرآن؛ إذ كانوا يهتمون بنور بيانه، ويجتهدون في أن ينسجوا على منواله، وهم على ما سنه القرآن من طرق الإبدل، وأدناه من قطوف البيان، لَمْ يستطيعوا أن يأتوا بما يداينه، فضلاً عما يقف بجانبه. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب منطقاً، ونجد الفرق بين حديثه والقرآن الكريم جلياً واضحاً، ومن عقد بينهما مقايسه، رأى حق اليقين أن أولئك الذين يقولون: إن القرآن من تاليف محمد، قوم لم يذوقوا للبلاغة طعماً، أو لم يهتدوا للإنصاف سبيلاً. ومن تلك الوجوه: ما احتواه من الأخبار عن أمور من قَبيل الغيب، وظهرت بعدُ كما أخبر. من شواهد هذا الوجه: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. فقد عاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محاط بأعدائه الذين يتمنون له الموت العاجل، ويحرصون أشد الحرص على أن لا يتاخر في الحياة ساعة من زمان،

وهم أصحاب جرأة واغتيال، ولم يكن - عليه الصلاة والسلام - ممن يجعل بينه وبين الناس حجاباً، ولا يهتم بأن يتخذ منهم حراساً، وكان يضع نفسه عندما يحمى وطيس الحرب بالمكانة الأولى، ومع ما لأعدائه من التلهف على قتله، والتهالك على الفتك به، ومع ماله من الانفراد عن أصحابه في كل حين من الأحيان، وظهوره لأعدائه كلما رغبوا في الاجتماع به، وتقدمه لمواقع الجهاد ليس بينه وبينهم حامية، لم يأته أجله إلا وهو على فراشه، وذلك مصداق قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. ومن شواهد هذا: قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 1 - 4]. وقد وقع ما أخبر به القرآن، فعاد الروم بعد غلبهم إلى محاربة الفرس، وظهروا عليهم في السنة السابعة من الهجرة، ويروي أن خبر هذه الواقعة كان السبب في إسلام أناس من الجاحدين غير قليل. ومن تلك الوجوه: قوة أدلته؛ فقد عرفنا أن محمداً - صلوات الله عليه - قد نبت في وادي جاهلية، ونشأ في أمية، ونجد مع هذا حجج القرآن العقلية القائمة نافذة، كقوله في الاستدلال على وجود الخالق: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]. فإن المعنى: أوجدوا من غير موجد، أم هم الذين أوجدوا أنفسهم؟!. وكلا القضيتين غير صحيح، فوجب أن يكونوا صنع قادر حكيم. وكقوله في الاستدلال على وحدته: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].

وقوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]. ففي الآيتين برهان قائم على وجوب وحدة الإله، وأن الألوهية تقضي الاستقلال بالتصرف في السماوات والأرض تغييراً وتبديلاً، إيجاداً وإعداماً. وكقوله يدفع شبهة منكري البعث، ويريهم أنه من قَبيل ما يدخل تحت سلطان قدرته: [قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78 - 79]. وهكذا نجده يأتي على شُبههم بما يزيحها، وينادي على غلطهم في إيرادها؛ كقوله تعالى في الرد على من ألحفوا في أن يكون الرسول مَلَكَاً: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] , يريد: أنهم لا يستطيعون الأخذ من المَلَك وهو في صورته الملكية، ولو بعثه إليهم في صورة بشر، لعادوا إلى هذا اللبس الذي يلبسون، وما كانوا مؤمنين. فجميع حجج القرآن واردة على قانون المنطق الصحيح، ومن لم ينتفع بها، ويستقم على طريقتها، فلأنه استكبر عليها، أو لم يوقع النظر على وجه دلالتها. قال الرازي: "وقد تأملت. الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأحسن الأدلة العقلية: الأدلة التي بينها القرآن، وأرشد إليها الرسول، فينبغي أن يعرف أن أجلَّ الأدلة العقلية وأكملها

وأفضلها مأخوذ عن الرسول". ومن تلك الوجوه: غزارة حِكَمِهِ ونبوغها؛ بحيث جاءت آخذة بأسباب السعادة، آتية على الخصال التي تسمو بها الأفراد والجماعات إلى سماء السيادة، ومن أمثلة هذا قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. فمن الطبائع الغالبة على البشر: التسرع إلى إذاية العدو بما أمكن. ومن مقاصد القرآن: تقويم الطباع التي تنزع إلى الأذى، وتبعث على التقاطع، فجاءت هذه الآية تامر الإنسان بأن يسللك في دفع خصمه الطريقة التي هي أجمل؛ رجاء أن يكون لهذه المجاملة أثر صالح، هو قلب العداوة ألفة وصداقة. ومن أمثلة هذا الوجه: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. أمر بالتثبت فيما ينقله الفاسق؛ حذراً من أن يكون حديثاً مفترى، فيكون العمل عليه على الجهالة، وعاقبة عمل الجاهل ندامة وخسران، وكم من بلاء يلحق الأشخاص أو الجماعات من اندفاعهم إلى العمل على خبر الفاسق قبل أن يتبينوا!. وانظروا إن شسّم إلى قوله تعالى: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8]. فهذه الآية نصيحة للأمة بأن لا ينخدعوا لقول لين، ووعد مؤكد يبذله لهم العدو، فيركنوا إليه بقلوبهم، ولا يأخذوا منه حذرهم، فإذا هو يبسط عليهم

سلطاناً طاغياً، ويريهم أنه ألانَ لهم القول خادعاً، وقطع لهم العهد غادراً، وإن هذه النصيحة لمن أبلغ النصائح التي تقوم عليها حياة الأمة وعظمتها، ولو حفظها المسلمون في سويداء قلوبهم، وجعلوها بمرأى من أبصارهم، لاستقاموا على عزتهم، ولم يفقدوا شيئاً من حريتهم. ويدخل من قبيل حِكَم القرآن ونصائحه: عنايته بمكارم الأخلاق، فهو مملوء بالحثِّ على نحو الصدق، والحلم، والصبر، والسخاء، والشجاعة، والعدل، والوفاء،. تلك الأخلاق التي تقوم عليها قواعد العمران، وتتأكد بها روابط التوادد والاتحاد، وبها تحرز الأمة قوة معنوية، وأخرى مادية، فلا يجد أعداؤها الطريق إلى أن يطؤوا موطئاً يغيظها. عني القرآن بأصول الفضائل التي هي مطلع السعادة، ومن أجلّ هذه الفضائل: ما يسمونه: الشجاعة الأدبية، وهي خلق الصراحة والإقدام على قول الحق؛ فقد جاء القرآن بها على كمل وجه، وفرضها على الناس في أبلغ خطاب، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]. فهذه الأية تأمر الرجل أن يؤثر الحق على الهوى، ولا يبالي عند إقامة الحق ما ينازعه من عاطفة القربى، وإن بلغت أشدها، وكانت عاطفته نحو والديه اللذين ربياه صغيراً. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]. فهذه الآية تذكر الذين يكتمون ما يعرفون من الحق، وتجعل جزاءهم اللعنة من الله، ومن يتأتى منه اللعنُ من الملائكة والمؤمنين، ومَنِ الذي يجهل

المفاسد التي تجري على يد عالم يشتري رضا المخلوق برضا الله، ويتبدل متاع هذه الحياة بما هو خير وأبقى؟!. وكم نتلو في القرآن من أنباء دعاة الإصلاح ما شأنه أن يطبع النفوس على خصلة الجهر بالحق، والدعوة إلى الاصلاح، وإن وجدوا الناس على أهواء غالبة، ولقوا في سبيل الدعوة أذى كثيراً. ومن أوضح الآيات في هذا المعنى: قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71]. فالأمة التي تملك الشجاعة الحربية لا تصل إليها يد العدو بأذى، فإذا ضمَّت إلى ذلك الشجاعة الأدبية، استقامت شؤونها الداخلية، وأمنت من أن يفسد عليها رؤساؤها أمر سياستها، أو يضلوا السبيل، فيهيئوا لأبنائها مستقبلاً منكراً شقياً. ومن تلك الوجوه: ما أتى فيه من كلمات العتاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أشياء فعلها، أو همَّ أن يفعلها، ووجه دلالتها على أن دعوته لله خالصة: ما نراه في طبائع الرجال، ولا سيما ذوي المكانة في قومهم؛ من أنهم يحرصون ما استطاعوا على أن تكون جميع آرائهم في نظر الناس سديدة، وجميع أعمالهم حكيمة ولو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - من أولئك الذين يدعون القرب من الله، والكرامة عنده رياء وخداعاً، وكان هذا القرآن من تأليفه- كما يزعم الجاحدون -, لوجد نفسه في غنى عن هذه الآيات التي تحمل وتدلُّ قراءها على أنه فعل خلاف ما هو الأولى. لو كان القرآن من تأليف محمد - عليه الصلاة والسلام -, وكان محمد

السيرة النبوية

من عظماء الرجال فقط، دون أن يكون مبعوثاً من الله هادياً ونذيراً، لما أودع في الكتاب آية: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 1 - 10]. وقد كان لمحمد - صلوات الله عليه - أن يعتذر لابن أم مكتوم حين انصرف عنه بوجهه بأنه كان يرجو هداية أولئك الغاوين الذين تصدى لدعوتهم، وكل أصحابه يتلقون هذا العذر بقبول، ولكن الله تعالى يريد أن يعلمنا أن للنفوس الزاكية مزيداً وفضلاً على النفوس الطاغية، فليس لأحد أن يعبس في وجه نفس تطلب الخير، ملتفتاً عنها إلى نفس مضروبة في الغواية. * السيرة النبوية: سنَّة الله في الخليقة: أن من تظاهر بغير ما هو واقع، وادعى لنفسه ضرباً من ضروب الكمال زوراً ورياء، فلا بدَّ أن يفتضح أمره، ولو بعد أمد، ثم لا تكون عاقبته إلا خساراً وهواناً، والشأن في فضيحته ووخامة عاقبته أن تكونا على قدر ما يدعيه لنفسه من كمال واصطفاء، ولا كمال ولا عظمة للإنسان فوف مقام الرسالة والنبوة، فمن ادعى هذا المقام، فقد ادعى أقصى ما يمكن للبشر إدراكه، وادعى أنه أقرب الناس، أو من أقربهم إلى رب العالمين. فلو أن محمداً - صلوات الله عليه - ادعى الرسالة بغير صدق، لاستبان لمن اتبعه من ذوي العقول الكبيرة شيء مما ينقض هذه الدعوى، وقد عاش نبي الله بعد دعوى الرسالة نحواً من ثلاث وعشرين سنة، وهي مدة بالغة من الطول ما فيه كفاية لمن أراد أن ينظر في هذه الدعوى من كل ناحية، ويرقب

سيرة صاحبها؛ لعله يقف على أثر يدلّه على أنه يظهر غير ما يبطن، أو أنه يقول على الله ما لا يعلم. ومن شواهد أن سيرته - عليه الصلاة والسلام - كانت نقية من كل ما يخدش في دعوى الرسالة: أن أشد الناس إيماناً به، وأملأهم قلوباً بمحبته وإجلاله، هم أطول الناس صحبة له، ومن لا يكادون يفارقونه إلا قليلاً؛ كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. ليس في سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما يدخل الريب في صحة رسالته، فسيرته من أعظم الدلائل على أنه يحمل نفساً بالغة من العظمة ما لا يبلغه الإنسان الذي يطلب العلا من نفسه، ولو بلغ من العبقرية ما بلغ، ولقن من الحكمة ما شاء أن يلقن. نرى في محمد - صلى الله عليه وسلم - رجلاً نهض بأمة عظيمة في نحو عشرين سنة، كانت متفرقة متشاكسة، فأصبحت متحدة متآلفة. كانت الأمم تنظر إليها بعين الازدراء، فاصبحت معزَّزة الجانب، تفتح البلاد، وتضرب على هذه الأمم بسلطانها الكريم. كانت في ظلمات من الجهل، فأصبحت في نور من العلم دون أن يجلب إليها من بلاد أجنيية، وإنما هو ذلك الرجل الناهض بها يلقي إليها الحكمة بنفسه، ويزكيها بما يتحلى به، أو بما يدعوها إليه من خصال الشرف والحمد. نرى في محمد - صلى الله عليه وسلم - رجلاً أقام بين هذه الأمة شريعة تقرر حقوق الأفراد والجماعات، وتشتمل بتفاصيلها وأصولها على كل ما تحتاج إليه في فصل القضايا من أحكام هي مظهر العدل والمساواة، ولم يعقد لهذه الشريعة لجنة تتألف من أشخاص درسوا قوانين بعض الأمم، وإنما هو ذلك الرجل الناهض بها، يملي عليها أحكام الوقائع، مدنية كانت أو جنائية، يمليها عليها في

الحضر والسفر، يمليها عليها في يوم السلم، أو في مواطن القتال. نرى من محمد - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يستخف بأشياع الباطل، ولا تأخذه الرهبة من كثرة عددهم، ووفر أموالهم، فيلاقيهم بالفئة القليلة، ويفوز عليهم فوزاً عظيماً، ولم يكن بالرئيس الذي يبعث بالجيش إلى مواقع القتال، ويقعد خلافهم حذراً من الموت، بل ترونه يقود الجند، ويدبر أمر القتال بنفسه، ويقابل الأعداء بوجهه، ولا يولّيهم ظهره، وإن تزلزل موقف جنده، وانصرفوا من حوله جميعاً. نرى من محمد - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصرف عنايته في تزكية الأمة، وتدبير شؤونها، والقيام بجهاد عدو هاجم، أو عدو متحفز للهجوم، ولم تشغله هذه الأعمال الخطيرة عن أن يقوم الليل قانتاً لله متهجداً، ثم يملأ جانباً من النهار في عبادة ربه متطوعاً. نرى من محمد - صلى الله عليه وسلم - رجلاً زاهداً في متاع هذه الحياة، ولو كان للشهوات عليه من سبيل، لذهبت به في ابتغاء العيش الناعم مذهبَ أولئك الذين يتظاهرون بالزهد إذا لم يجدوا، حتى إذا ما أيسروا، ورأوا زهرة الحياة الدنيا طوعَ أيمانهم، خلعوا ثوب الزهد، وتحولوا إلى طبيعة الشره كثيراً أو قليلاً. أما تعدد زوجاته - عليه الصلاة والسلام -، فقد كان لمصالح جليلة، ومقاصد نبيلة، ندع تفصيل القول فيها إلى محاضرة أخرى. وهل في ميسور ذلك البائس (¬1) الذي يجحد عظمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يدلنا على رجل ألَّف بين أمة متفرقة، ثم أفاض عليها حكمة بالغة، وأقام فيها ¬

_ (¬1) المقصود: علي عبد الرازق - انظر: الرد على مقالة (العظمة) في هذا الكتاب.

المعجزات المحسوسة

شريعة عادلة، وجعلها - وهي فئة قليلة - تظهر على الأمم الكثيرة، دون أن تكون أكثر منها مالاً، وأجود منها سلاحاً. ثم إذا نظرنا إلى هذا المصلح الكبير، والمشرع الخطير، والمجاهد الظافر، نجده طلق اليد إذا بذل، واسع الحلم إذا أوذي، صادق اللهجة إذا حدّث، وبعبارات أوجز: نجده المثل الأعلى لكل خصلة تطمح إليها الهمم الكبيرة. إن هذا إلاَّ محمد بن عبدالله الذي بعثه الله في الأميين رسولاً. وقد دلَّ أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - على أن خلقه - عليه الصلاة والسلام - بالغ من الكمال غاية تنقطع دونها الآمال، فقال حين تشاغل بحرب أهل الردة، واستبطاته الأنصار: "أما كلفتموني أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوالله! ما ذاك عندي، ولا عند أحد من الناس". * المعجزات المحسوسة: الإسلام دين عام يتوجه الخطاب به إلى كل قبيل، ولا يختص به جيل دون جيل، ومن أجل هذا جعل الله تعالى لصدق المبعوث به دلائل تدرك بالعقل، حتى يمكن للأجيال- على اختلاف أزمنتها- أن تهتدي بها، فيكون إيمانها عن بينة لا عن تقليد، وقد عرفنا أن هذه الدلائل ترجع إلى ما احتواه الكتاب العزيز من حكمة ويلاغة، ثم إلى أخلاق الرسول، وسيرته العملية المنقولة إلينا على طرق صحيحة. وهناك نوع ثالث من أعلام النبوة شهده الناس الذين أدركوا عهد البعثة نسميه: المعجزات المحسوسة، وشأننا في هذا أن نضيفه إلى تلك الدلائل المعقولة متى كان سنده صحيحاً، ووسعته دائرة الإمكان.

ولهذا النوع من المعجرات أثر في زيادة الإيمان، وإن نقل إلينا على طرق الآحادة فإن أخبار الآحاد المستوفية لشروط الصحة يفيد كل واحد منها ظناً قوياً، والدلائل الظنية إذا تعددت، وأخذ بعضها برقاب بعض، أصبحت بجملتها كالخبر المتواتر، لا تقصر عن أن تضع في النفس اعتقاداً جازماً. درسنا هذا النوع من المعجزات، فوجدناه يروى بأسانيد متينة إلى أمة كبيرة من أكابر الصحابة؛ كعبدالله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعدي بن حاتم، وعائشة أم المؤمنين، وعمران بن جصين، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وجماعة من غير هؤلاء، ويرويه عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعات من أهل العلم والتقوى، حتى يتصل بأمثال الإمام مالك بن أنس، والإمامين: البخاري، ومسلم. ومن أمثلة هذا النوع: إخباره - صلى الله عليه وسلم - بغيوب واقعة؛ كنعيه للنجاشي يوم موته، وقوله للصحابة: "مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة"، أو إخباره بغيوب مستقبلة؛ كقوله لعدي بن حاتم: "لئن طالت بك الحياة، لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف الكعبة لا تخاف إلا الله، ولئن طالت بك حياة، لتفتحن كنوز كسرى،. قال عدي بن حاتم: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى. ومن أمثلة هذا النوع: دعاؤه - صلى الله عليه وسلم -، واستجابة الله له في الحال؛ كواقعة استسقائه وهو قائم في خطبة الجمعة، والسماء مصحية، فما انتهى من الخطبة حتى أرسلت السماء مدراراً.

إلى غير هذا مما لا يسع المقام الحديث عنه بتفصيل؛ كوقائع تكثير الماء أو الطعام القليل، وآية انشقاق القمر التي لم تبلغ شُبَهُ منكريها أن تضعف الثقة بصحة روايتها ذاتِ الطرق المتينة المتعددة. وهذا النوع من المعجرات قد يقصد به إقامة الحجة على الجاحدين الذين يؤخذون بالدلائل المحسوسة أكثرَ مما يؤخذون بالدلائل المعقولة، وقد يجري بمحضر المؤمنين؛ لتطئمن قلوبهم، ويزدادوا إيمانا على إيمانهم، ومنها ما يشهده الرسول وحده؛ ليرى من آيات الله ما لم يكن قد رأى؛ كواقعة الإسراء، وعلى هذا يدل قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]. فمن تدبر القرآن الكريم، ودرس السيرة النبوية بعقل سليم، ونظر فيما يرويه أئمة الحديث من المعجرات نظرَ الراسخين في العلم، لم يكن منه إلا أن يكون مسلماً عقيدة قيَّمة، وعملاً صالحاً.

عظمة رسول لله - صلى الله عليه وسلم - وهدايته

عظمة رسول لله - صلى الله عليه وسلم - وهدايته (¬1) أيها السادة! رأت جمعية الهداية الإسلامية أن تحتفل بذكرى مولد الرسول الأعظم محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا معنى لاحتفالها بهذه الذكرى إلا أن تلقي على حضرات المحتفلين كلمات تلتقط من بحر عظمته، أو تقتبس من سني هدايته. جعلت أنظر هذه العظمة؛ لأصف جانباً منها، وأبصر بتلك الهداية؛ لأقبض قبضة من أثرها، فأحجم الفكر روعة، ونكست الخطابة رأسها صاغرة. وذكرت قول الوزير ابن الخطيب: أيروم مخلوق ثناءك بعدما ... أثنى عليك الواحد الخلاقُ؟! فخطر لي أن أستضيء في حديثي عن عظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهدايته بآيات من الكتاب العزيز، وسبق إلي في التلاوة قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فرأيت في الآية مرعى خصيباً، ومجالاً فسيحاً. ننظر في سيرة الرسول الأكرم، فنرى ما يبهر الأبصار وضاءة، ويملأ ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد الثاني الصادر في ربيع الآخر 1349. محاضرة للإمام في احتفال جمعية الهداية الإسلامية بذكرى مولد الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - مساء يوم الخميس 12 ربيع الأول 1349.

القلوب جلالة، فما شئتم من أخلاق عظيمة، وحكم غزيرة، وهمم خطيرة، وأعمال جليلة، فهو الرسول الذي بعثه الله تعالى لإبلاع شريعته المحكمة، وجعله المثل الأعلى لأقصى ما يبلغه البشر في مراقي الكمال والعظمة. ومن أجل هذا عهد الله إلى الناس كافة أن يقتدوا بسنته، ويعملوا للسعادة على سيرته، فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] تتناول الآية الكريمة كل ما يتحلى به - صلى الله عليه وسلم - من محاسن الشيم، أو يصدر منه على أنه شرع سماوي، إلا ما علم أنه مختص به؛ كالوصال الذي هو إلحاق الليل بالنهار في الصيام، أما ما يفعله على وجه العادة أو الجبلة، دون أن يظهر فيه معنى للتشريع؛ كالقيام والقعود في بعض الأمكنة أو الأزمنة، وكتركه كل بعض الأطعمة مع تصريحه بإباحتها، فذلك ما لا يتناوله طلب التاسي به، وإن كان عبدالله بن عمر لا يدع التأسي في مثل هذا ما أمكنه. وقد يختلف أهل العلم في بعض ما يفعله - عليه الصلاة والسلام -، فيذهب قوم إلى أنه فعله على وجه التشريع، ويذهب آخرون إلى أنه وقع على سبيل العادة. ومثال هذا: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل شعر رأسه إلى أذنيه، فقال بعض أهل العلم؛ كأبي بكر بن العربي: إنه من قبيل الهيئات المشروعة، فالحالق لشعر رأسه يعد تاركاً لما هو سنة، وقال كثير منهم: إنه من قبل العادات التي يأخذ فيها كل قوم بما يجري في وطنهم أو زمانهم. ولو تفقهنا في هذه الآية الكريمة، لانكشف عنا ظلام البدع والمحدثات؛ ذلك أننا نتعرف سيرة رسول الله من طرق الروايات الصحيحة، ونتأسى بها في التقرب إلى الله، فلا نتعدى حدودها لإحداث ما لا يصح أن يكون

قربة في حال. أما احتفالنا بذكرى مولده الشريف، فإنا لم نفعل غير ما فعله حسان ابن ثابث - رضي الله عنه - حين كان يجلس إليه الناس، ويُسمعهم مديح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شعر، ولم نفعل غير ما فعل علي بن أبي طالب، أو البراء بن عازب، أو أنس بن مالك - رضي الله عنه - حين يتحدثون عن محاسن رسول الله الخُلُقية في جماعة. ليس في استطاعتي أن أفصل القول في السيرة النبوية التي أرشدت الآية إلى اقتفائها، وإنما أنبه على ناحيتين، ترينا إحداهما: كيف كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يطيع الخالق بإخلاص، وترينا أخراهما: كيف كان يعامل الناس في نصح، ويسوسهم في حكمة ورفق. نقلب الوجه في طريقته المثلى، فنجده قد أسلم وجهه للخالق، واستقام على طاعته آناء الليل وأطراف النهار، فكان يتهجد في حجرته كما يتهجد في المسجد، ويعبد الله خالياً كما يعبده في جماعة، ويبتغي رضوانه في السر كما يبتغيه في العلانية. ونحن نعلم أن من أمهات المؤمنين من كان أبوها من أشد الناس إيماناً به، وإجلالاً لقدره؛ كعائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، ومنهن من كان أبوها من أشد الناس عداوة ومحاربة له؛ كأم حبيبة بنت أبي سفيان، فلو لم يكن يقوم الليل على الدوام كما فرض عليه القرآن، لعلم به المخلصون في صحبته، ودخلهم الريب في صحة دعوته، أو علم به خصومه الألداء فوجدوا في أيديهم ما يطعنون به في صدق نبوته. نحول النظر إلى موققه تجاه الخالق حين تمسه الضراء، فنراه كالعلم

الشامخ تهب عليه عواصف اليلاء، فلا تلقى إلا قلباً صابراً، وقدماً ثابتاً، وحسبكم شاهداً على هذا: ما كان يلاقيه في بعض غزواته من شدائد، فلا يكون من هذه الشدائد إلا أن تؤكد عزمه، وتشد أزره، وتزيد داعية توكله على الله قوة، وكذلك ينبغي للمسلم أن يواجه البأساء في صبر ووقار، ويعمل على كشفها ما استطاع، ويضيف إلى هذا الدواء الناجع الاعتمادَ على من بيده ملكوت كل شيء، فقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. هذا شأنه - صلى الله عليه وسلم - في الخطوب، أما إذا أفاض الله عليه نعمة، فإنها تنزل بأرض طيبة المنبت، فلا تثمر إلا شكراً، ومن شكره للنعمة: أن لا يتعاظم بها، أو يلبس في معاملة الناس حالاً غير ما كان يلبسه قبلها. وقد كان حاله - صلى الله عليه وسلم - في الزهد والتواضع بعد فتح مكة وغيرها من البلاد كحاله يوم كان يدعو إلى الله وحيداً، وسفهاء الأحلام في مكة يسخرون منه ويضحكون. نصوَّب النظر بعد هذا إلى سيرته في الخليقة، فنراهم أمامه أربع طوائف: 1 - طائفة المهتدين: وهؤلاء يلاقيهم في بشر وطلاقة محيا، ويخالطهم في تواضع يعلَّمهم به أدب المساواة بين الرئيس والمرؤوس، ويحمل لهم من الرحمة ما هو أرق من النسيم، وأجود من الغيث العميم. أما البشاشة وطلاقة المحيا، فإنا نقرأ في الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي: أنه قال: "ما حجبني (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم". فالذين يلقون ذوي النفوس الطاهرة في كلوح وانقباض بعلة المحافظة على الوقار، لم يهتدوا إلى السيرة الحميدة سبيلاً. ¬

_ (¬1) ما منعني من الدخول إليه إذا كان في بيته ما استأذنت عليه.

وأما التواضع، فقد قال أنس بن مالك: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خُلُقاً، وإن كان ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: "يا أبا عمير! ما فعل النغير؟ ". فالذين يخرجون للناس في وجوه عليها غبرة الكبرياء إنما يلقون قلوباً نافرةً، وألسنةً ساخرةً، ولقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة لو شاؤوا أن يكونوا أجلاء محترمين. وأما الرحمة، فقد قال تعالى في كتابه الكريم: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وحدثنا عن هذه الرحمة مالك بن الحويرث إذ قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن شَبَبَة (¬1) متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أننا اشتقنا أهلنا، وسألَنا عمن تركنا وراءنا من أهلنا، فأخبرناه، وكان رقيقاً رحيماً، فقال: "ارجعوا إلى أهليكم، فعلموهم، ومروهم، وصلُّوا كما رأيتمُوني أصلي". 2 - طائفة المنافقين: وهؤلاء كان - عليه الصلاة والسلام - يعاملهم بما يشبه معاملة المهتدين من الرفق بهم، والإحسان إليهم، ومقابلة إساءتهم بالعفو. نقرأ في السيرة: أن طائفة منهم هموا بقتله في طريق إيابه من غزوة تبوك، وخاب سعيهم بما أوحى الله إليه من أمرهم، فقال بعض المسلمين: ألا تأمر بهم يا رسول الله فنضرب أعناقهم؟ فكان جوابه أن قال: "أكره إن يقول الناس: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه". 3 - طائفة المخالفين المسالمين: وهؤلاء يلقاهم بالجميل، ويقسط إليهم، ولا يهضم لأحد منهم حقاً، يأخذ فيهم بأدب قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ ¬

_ (¬1) جمع شاب.

يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. ونقرأ في الصحيح: أن غلاماً يهودياً كان يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمرض الغلام، فعاده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاه إلى الإسلام، فأجاب الدعوة، ومات مسلماً. وحسن معاملته - عليه الصلاة والسلام - للمخالفين الذين دخلوا معه في عهده، أو رضوا بأن يعيشوا تحت راية الإسلام، من أوضح الشواهد على سماحة الدين الحنيف، وبنائه على رعاية قاعدتي: الحرية، وتوطيد السلام، فراية الإسلام صالحة لأن تخفق على رؤوس أمم مختلفة في عقائدها، متفاوتة على مرافق حياتها. 4 - طائفة المخالفين المحاربين: وهؤلاء يخرج لهم - عليه الصلاة والسلام - في مظهر الحزم والاحتراس، ويدفعهم بالتي هي أحكم وأعدل، فيرفق بهم إن كان هنا موضع للرفق، ويأخذ فيهم بسنة العزم إن طغى بهم الشر، فلم يكن الرفق ليزيدهم إلا تمرداً. فإذا أذن - صلوات الله عليه - بقتل كعب بن الأشرف، فلأن كعباً هذا كان شاعراأ، وكان يهجو رسول الله، ويحرض عليه كفار قريش، ويفعل بعد هذا شيئاً هو أشد على قلوب العرب من وقع السهام النافذة، وهو أنه كان يشبب بنساء المسلمين، وقد احتمل منه النبي - عليه الصلاة والسلام - هذا الأذى حيناً، ولما أبى كعب أن ينزع عن إثارة هذه الفتن، أذن لأحد الأنصار في قتله؛ ليميط عن سبيل الدعوة إلى الله حية تسعى، ويدفع عن أعراض المسلمين شعراً مقذعاً. قال سخيفٌ معروف في العراق يتزلف لمذهب النصرانية: إن عيسى فدى العالم بنفسه، ومحمداً قاتل أعداءه حرصاً على حياته. ومن ذا يجهل أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد أفاض على العامل حكمة وهداية

وإصلاحاً، وما الحسام الذي يأمر بانتضائه إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط به جسم العليل؛ لينزف دمه الفاسد؛ حرصاً على صحته وسلامته، ومن تقصى السيرة النبوية، وجد فيها ما يصدق قول عائشة- رضي الله عنها-: "ما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله، فينتقم لله". فمحمد - عليه الصلاة والسلام - لم يقاتل الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون حرصاً على حياته، وإنما كان يقاتلهم حرصاً على حياة الفضيلة، وظهور الحق، وإقامة نظم المدنية المهذبة، ولكن الناشئين على اللهو واتباع الشهوات لا يفقهون.

شجاعته - عليه الصلاة والسلام -

شجاعته - عليه الصلاة والسلام - (¬1) نحتفل بذكرى مولد المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وشأننا في مثل هذا الاحتفال أن نورد من سيرته الفاخرة ما فيه أسوة حسنة، أو آية على صدق بينته، وإن سيرة تبهر العيون سناء، وتطرق لها القلوب مهابة، لا يبلغ اللسان من وصفها إلا مقدار ما يبلغه واصف الشمس وهو لا يعرف منها سوى أنها كوكب ينسخ طلوعه سواد الليل. وإذا استدعى هذا الاحتفال أن أصف شيئاً من سيرة صاحب الرسالة العظمى، فإني أخص كلمتي بخصلة خطيرة هي من أول ما يتوقف عليه النجاح في الدعوة، وهي شجاعته - عليه الصلاة والسلام -؛ فقد كان المثل الأعلى في رباطة الجأش، واستقبال الخطوب بجيين طلق، وعزم لا يلتوي. ولاحت نجوم للثريا كأنها ... جبين رسول الله إذ شاهد الزحفا كان - صلى الله عليه وسلم - يتقدم في الحرب حتى يكون موقفه أقرب موقف من العدو، وإذا اتقدت جمرة الحرب، واشتد لهبها، آوى إليه الناس، واحتموا بظله ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الحادي عشر والثاني عشر من المجلد الثالث الصادران في ربيع الثاني وجمادى الأولى 1350. محاضرة الإمام في الاحتفال بذكرى المولد الشريف الذي أقامته جمعية الهداية الإسلامية مساء يوم الاثنين في 12 ربيع الأول 1350.

الشريف، قال الإمام علي - رضي الله عنه -: إنا كنا إذا حمي البأس، واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال: ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أقربنا إلى العدو. ومما قرأنا في غزوة أحد: أن أبا سفيان جمع جيشاً من قريش وأحلافهم، وأقبل بهم إلى حرب رسول الله في المدينة، فاستشار النبي - صلى الله عليه وسلم -أصحابه: أيخرج إليهم، أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه أن يتركهم حتى ينفذوا إلى المدينة، فيقاتلهم المسلمون في أفواه أزقتها، فبادر جماعة من أفاضل الصحابة، وطلبوا الخروج إلى العدو بإلحاح، فنهض - صلى الله عليه وسلم -، ودخل بيته، ولبس لامته. وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك الذين كانوا قد ألحوا عليه في الخروج، وقالوا له: إن أحببت أن تمكث في المدينة، فافعل، فقال: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه". هذه الكلمة لا تصدر إلا من قلب ملؤه الشحاعة، وفيها شاهد على أن اختياره للمقام بالمدينة حتى ينفذ إليهم العدو، لم يشبه خاطر التهيب من لقائهم، وإنما هو الرأي والمكيدة في الحرب. "ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه ويين عدوه". هذه الكلمة لا يقولها إلا من نهض ليقضي حياته في الجهاد، ووجد بين جنبيه شجاعة يصغر أمامها كل عظيم، وكذلك كان المصطفى- صلوات الله عليه-، يحتقر كل ما يسميه الناس خطراً، ويثبت في وجه كل ما تتزلزل له أقدام الأبطال رهباً، وهل يتوارى عن الموت، أو يقطب عند لقائه من يتيقن أن موته إنما هو انتقال من حياة مخلوطة بالمتاعب والمكاره، إلى حياة أصفى لذة، وأهنأ راحة، وأبقى نعيماً؟!.

بُلي المسلمون في تلك الغزوة حتى وَلَّوا المشركين كتافهم، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثبت بمكانه حتى انكفأت عليه كتائب المشركين، وهو في نفر قليل من أصحابه، فهشموا البيضة على رأسه، وجرحوا وجهه الكريم، وكسروا ربَاعيته، ولدينا مشاهد صدق على أنه كان يعظ الناس حين خفوا إلى الهزيمة وعظاً بليغاً. قال تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ)} [آل عمران: 153] , ولما تقطعت من حوله أسباب النصر الظاهرة، ولم يبق من سبب إلا سنة تأييد الله الخفية، أخذ حصيات، ورمى بها في وجوه المشركين، فأدبروا. ومن أقرب الشواهد على أنه يأخذ بوسائل الحذر، ويلاقي الأخطار في سكينة ورباطة جأش: أنه كان يوم هاجر، وآوى إلى غار ثور احتراساً من أن يبصره عيون المشركين، رأى الشيخ الوقور أبا بكر الصديق وقد ساوره حزن، فثبت فؤاده، وقال له: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. والشأن في رئيس القوم الذي يأنس في عدوه قوة تفوق قوته أضعافاً مضاعفة: أن يقف موقف الدفاع؛ لأن الغلبة إلى الدفاع أقرب منها إلى الهجوم، وقلما حدثته نفسه أن يهاجم قوماً هم أكثر منه عدداً، وأوفى عُدداً، أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد بلغه أن الروم وقبائل من العرب يجمعون جموعهم ليزحفوا على المدينة، فنادى بالتهيؤ لغزو الروم، وجدَّ في السير حتى انتهى إلى تبوك، فقذف الله في قلوب أولئك القوم رعباً، فأتاه رؤساؤهم، وطلبوه إلى الصلح، وأعطوه الجزية، ولما أمن مكرهم، قفل إلى المدينة راجعاً. أما إقدامه في الدعوة إلى الحق، وهو ما يسمونه: الشجاعة الأدبية، فأوضح ما يعبر عنه: أنه نشأ بين قوم غلاظ شداد، لا قانون يرهبهم، ولا محاكم

تزجرهم، فقام يطعن في دينهم، ويذم آلهتهم، ويسفه أحلامهم، ويعيب كثيراً من عاداتهم، وطالما آذوه فاحتمل الأذى، وتوعدوه فما وهن لوعيدهم، حتى كأن وعيدهم له حث وإغراء. فحقيق على علماء الإسلام وزعمائه أن يقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أدب الشجاعة التي هي الإقدام في حكمة؛ فقد جرت سنة الله على أن الحق لا يمحق الباطل، والإصلاح لا يدرأ الفساد، إلا أن يقيض الله لهما رجالاً يؤثرون الموت في جهاد على الحياة في غير جهاد.

منقذ العالم من الظلمات

منقذ العالم من الظلمات (¬1) كان العالم يتخبظ في ظلمات بعضها فوق بعض: ظلمة من الجهل، ظلمة من دناسة الأخلاق، ظلمة من منكر الأعمال، فبعث الله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ليخرج الناس من هذه الظلمات إلى نور يسعى بين أيديهم في الحياة الأولى، ويهديهم السبيل إلى السعادة في الحياة الأخرى. طلع محمد - صلوات الله عليه - بكلتاب ممتع بالحكمة، مقوم للأخلاق، مصلح للأعمال، منظم لشؤون الحياة، تدبرته فئة قليلة، واتخذته قائدها المطاع، فكانت خير أمة جاهدت في الله فانتصرت، وغَلبت فرحمت، وحكمت فعدلت، وساست فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت المعارف ينابيع بعد نضوبها، واسألوا التاريخ؛ فإنها قد استودعته من مآثرها الغر ما بصر بضوئه الأعمى، وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء. هذه حقائق لم أنحُ فيها نحو المبالغة، فإن المصطفى- صلوات الله عليه - قد قضى على عبادة الأوثان، والغلو في الخضوع لغير الواحد القهار، وقضى على الإلحاد وإنكار الإله، فأصبح المؤمنون أمما بعد أن كانوا أفراداً، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد الرابع الصادر في ربيع الثاني 1351 هـ. كلمة الأمام في احتفال جمعية الهداية الأسلامية بذكرى مولد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مساء يوم السبت 12 ربيع الأول 1351.

وأنتم تعلمون أن الغلو في تعظيم غير الله رجس من عمل الشيطان، وأن الإلحاد داعية الفسوق والطغيان، فلدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - الفضل الأكبر في رفع النفوس من حضيض الشرك إلى سماء التوحيد الخالص، ولها الفضل في تطهير النفوس من خبث الإلحاد الذي يشوه فطرتها، ويوفر أسباب شقوتها. جاهد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الجهل، وشرّ الجهل عدمُ معرفة مبدع الكائنات بحق، وجاهد الأخلاق الرذيلة، فكرَّه للنفوس الجزع، والجبن، والبخل، والصَّغار، والكِبر، والقسوة، والأثرة. وعلمها الصبر، والشجا عة، والكرم والعزَّة، والتواضع، والرحمة، والإيثار. علّمها الصبر، فهان عليها كل عسير، وعلمها الشجاعة، فحقر أمامها كل خطير، وعلمها الكرم، فجادت في سبيل الخير بكل نفيس، وعلمها العزة، فسمت إلى كل مقام مجيد، وعلمها التواضع، فتألفت كل قلب سليم، وعلمها الرحمة، والرحمةُ رباط التآزر والتعاون على تكاليف الحياة، وعلمها الإيثار، والإيثارُ أقصى ما يبلغه الإنسان من مراتب الكمال. رفع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أعلام العلم، وهدى إلى مكارم الأخلاق، ثم علَّم الإنسان كيف يعمل صالحاً، ويعيش آمناً، وهو الذي أوحي إليه بأصول تجعل المدنية محكمة البناء، وآدابٍ تكسوها رونقاً وبهاء. فإذا احتفلنا بذكرى مولد الرسول الأكرم، فإنما نحتفل بذكرى منقذ العالم من ظلماته الثلاث، وستسمعون من حضرات الخطباء والشعراء شيئاً من تفاصيل هذا الذي لوَّحت إليه بكلمتي الموجزة، والسلام عليكم ورحمة الله.

آداب الدعوة وحكمة أساليبها

آداب الدعوة وحكمة أساليبها (¬1) الإسلام دين يدعو إلى أقوم محجَّة، ويرمي إلى أشرف غاية، وما دعوته إلا هداية الناس إلى سبيل الحق، وتنبيهم إلى مكان الفضيلة، وما غايته إلا أن يحيا الناس حياة طيبة، ويتمتعوا بمدنية فاضلة، ثم يفوزوا في الأخرى بسعادة خالدة. وللحق نور باهر، وللفضيلة جمال ساحر، ولكن النفوس الناشئة في بيئات خاسرة، أو الغارقة في أهواء سافلة، يقف أمامها الحق، فتخاله باطلاً، وتتعرض لها الفضيلة، فتحسبها شيئاً منكراً، فلا يكفي في دعوة الحق أن يطرق الداعي بها المجالس، ويصدع بكلمة الحق والفضيلة من غير أن يشد أزرها بالحجة، ويتخير لها الأسلوب الذي يجعلها مالوفة للعقول، خفيفة الوقع على الأسماع. وفي القرآن الكريم ما يدلكم على أن الدعوة الصادقة يثبت أصلها، وتمتد فروعها، وتؤتي ثمرها، إلا أن يقوم بناؤها على أساس الحجة، ويذهب بها الداعي كل مذهب حكيم، ويأخذ فيها بكل أدب جميل، اقرؤوا في شواهد ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن التاسع والعاشر من المجلد السادس الصادران في ربيع الأول وربيع الثاني 1353. محاضرة الإمام في الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف في دار جمعية الهداية الإسلامية مساء يوم الأحد 12 ربيع الأول سنة 1353.

هذا قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]. وكذلك كانت دعوته - عليه الصلاة والسلام - إلى الإسلام، فإنها كانت محفوفة بما يقرّب العقول إلى قبولها، وتألف النفوس إلى سماعها، فكان - صلى الله عليه وسلم - يراعي في إبلاغها الطرق الكفيلة بنجاحها، فيورد لكل مقام مقالاً يناسبه، ويكسو كل معنى من المعاني ثوباً يليق به، ويخاطب كل طائفة على قدر عقولهم، ويلاقيهم بالسيرة التي هي أدعى إلى إقبالهم، وأسرع أثراً في صرفهم عن غوايتهم. كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الحق، ويتلو الدعوة بالحجة، والقرآن الكريم لم يدَع أصلاً من أصول الدين إلا أقام عليه البرهان الساطع، وأزاح عنه كل شبهة، وكثيراً ما نقرأ في قصص الداخلين في الإسلام قديماً وحديثاً: أنهم دُعوا إلى الإسلام، وقرئ عليهم القرآن، فانقلبوا إلى إيمان لا تحوم عليه شبهة، ولا تزلزله عاصفة فتنة. يدعم - صلى الله عليه وسلم - الدعوة بالحجة، ويدفع ما كان يعرض للناس من شُبه. قال المغيرة بن شُعبة: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى نجران، فقالوا فيما قالوا: أرأيت ما يقرؤه: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28]، وقد كان بين عيسى وموسى ما قد علمتم، قال: فأتيت - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته، قال: "أفلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم، والصالحين الذين كانوا قبلهم؟ ". ومن طرق دعوة الإسلام: التذكير مما يصير إليه المتقون من عزّ وسلامة،

وما يلحق المجرمين من خزي ومهانة، ومن التذكير ما يرجع إلى البشارة بالخير في الدنيا، والحسنى في الآخرة، ومنه ما يرجع إلى الإنذار بسوء المنقلب في هذه الدار، أو عذاب الهون في تلك الدار، وللبشارة والأنذار أثر كبير في حث المؤمنين على الحسنات، وردعهم عن السيئات، وأثر البشارة والأنذار في غير المؤمن: أنهما يدعوانه إلى النظر في الدعوة، وإذا نظر بروية، أدرك أنها حق، فيفتح لها صدره، ويمد إليها عنقه مذعنا. ومن مظاهر دعوته - صلى الله عليه وسلم -: إرسال الحكم البالغة، وكثرة ما في الكتاب العزيز والحديث الشريف من الحكم الرائعة تدل الناظر على أن دعوة الإسلام قول فصل، وما هي بالهزل، ولو كان في المقام سعة، لسقت إلى حضراتكم من تلك الحكم الغالية ما يبلغ عنان السماء، ولو كان في المقام سعة، لأوردت جانباً من الحكم التي يذكرها الناس لشاعر أو خطيب بالإعجاب، وبينت أن معنى تلك الحكمة يقتبس من كتاب الله، أو حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فانظروا مثلاً قول المعري: فلا نزلت بأرضي أو بقومي ... سحائبُ ليس تنتظِمُ البلادا تجدوا روح هذا المعنى في قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وكنت قرأت في بعض كتب الفلسفة: أن الصداقة لا تدوم إلا بين الناس الطيبين، فحضر في ذهني عند قراءة هذا البحث قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]. ظهر الدين الحنيف، وامتدت ظلاله في الآفاق، بما كان معه من آيات بينات، وحِكم بالغات، أما السيف، فإنه يجرد لدفع عدو مهاجم، أو متحفز

للهجوم، وقد تُجرد السيوف من أغمادها؛ لتسير دعوة الحق تحت ظلالها آمنة مطمئنة، فدعوى أن الإسلام انتشر بالسيف يكذبها التاريخ الصحيح، ويطعن فيها أن الدين يكتفي من غير المسلمين بالجزية، ويرضى لهم أن يعيشوا وهم تحت رايته آمنين على أنفسهم وأعراضهم، متمتعين بأموالهم وشعائر دينهم. وإذا تراءى لك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استعان في بث الدعوة بما كان يهبه لأشراف القبائل من المال، قلنا: إن الهدايا تذهب بالأحقاد، وتضع مكان التقاطع ائتلافاً، فغايتها أنها تجعل القلوب متهيئة للنظر في صدق الدعوة، أما العقيدة، فإنما تتصل بالقلوب من ناحية الآيات البينات. وكا - صلى الله عليه وسلم - يؤثر بعض حديثي العهد بالإسلام بجانب من المال؛ للاحتفاظ ببقائهم على الهداية، يفعل ذلك حيث يظهر له أن إيمانهم لم يرسخ في قلوبهم رسوخ ما لا تزلزله الفتن، وإلى أمثال هؤلاء أشار - عليه الصلاة والسلام- بقوله: "إني لأعطي الرجل، وغيرُه أحبُّ إليَّ منه؛ خشية أن يكبه الله في النار". ومن أدب دعوته - عليه الصلاة والسلام -: أخذُه فيها بالصبر والرفق والأناة، فكان يعرضها في لين من القول، ويقابل الجاهل بالإعراض، والمسيء بالعفو أو الإحسان، وإن أذى كثيراً كان يلحقه من مشركي قريش وسفهائهم، فيلقاه بالصبر، ولا ينال من عزمه واسترساله في الدعوة ولو شيئاً قليلاً. وكم من كلمة سيئة يرميه بها بعض المنافقين، أو بعض الجفاة من الأعراب، فيكون جزاؤها الصفح، أو التبسم والإنعام. وكان يأخذ في التأديب والزجر عما لا ينبغي مأخذاً لطيفاً، حتى إنه

لا يوجّه الإنكار إلى الرجل بعينه ما وجد في الموعظة العامة كفاية. قالت عائشة- رضي الله عنها-: صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، فرخص فيه، فتنزَّه عنه قوم، فبلغه ذلك، فخطب، فحمد الله، ثم قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فوالله! إني لأعلمهم بالله، وأشدهم خشية له". ومن حكمته في الدعوة: أنه لا يجعل الوعظ على الناس ركاماً، بل كان يتحرى بالموعظة وقت حاجاتهم إليها، أو وقت نشاطهم لسماعها، قال عبد الله بن مسعود: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا. وكان - صلى الله عليه وسلم - يسلك في رسائله إلى الملوك والطوائف طريق الإيجاز، ويأكل بسط الدعوة وتفصيل الحجة ودفع الشبه إلى من يبعثهم بتلك الرسائل، وفيهم الكفاية لهذا الشأن، كتب إلى أهل نجران كتاباً أرسله مع عمرو بن العاص، وهو: "أما بعد: فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم، فالجزية، فقد آذنتكم بحرب، والسلام". وقصَّ علينا أصحاب السيرة محاورة دينية جرت بينهم وبين عمرو بن العاص بعد أن قرأوا الكتاب. ومن بديع أسلوبه - صلى الله عليه وسلم - في إجابته السائلين: أنه يأتي بالجواب في صورة قاعدة عامة، والسائل يكفيه أن يقال له في الجواب: نعم، أو لا. كان رجل من محارب يؤذيه أيام كان يعرض نفسه على القبائل، ثم جاء ذلك الرجل في وفد محارب مسلماً، وذكَّر رسولَ - صلى الله عليه وسلم - بما كان يلقاه به من الأذى، وقال له: استغفر لي؟ فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "إن الإسلام يجبُّ ما قبله

من الكفر". ولو قال في الجواب: "غفر الله لك"، لبلغ السائل مرامه، ولكنه - عليه الصلاة والسلام - أورد الجواب في صورة يؤخذ منها غفران كل ذنب صدر من السائل قبل الإيمان، ويؤخذ منه أن هذه المغفرة العامة لا تختص به، بل تحصل لكل من ارتكب آثاماً في عهد الكفر، ثم دخل في حظيره الإسلام. ومن أسلوبه في الدعوة: صوغ التشابيه البديعة، وضرب الأمثال الرائعة، وللتشبيه والتمثيل أثر كبير في جعل الحقائق الخفية واضحة، والمعاني الغربية مألوفة، ومن أبدع ما سمعناه في هذا الباب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمَّى". ومن سياسته في الدعوة: أنه كان يخاطب كل قوم بما يفهمون، ويتحامى أن يخاطب أحداً بما لا يحتمله عقله، وأرشد إلى هذا الأدب بقوله: "حدثوا الناس بما يفهمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ ". وربما فعل - صلى الله عليه وسلم - الشيء مسايرة لمن يبتغي فعله، وإنما يأخذ بهذا الأدب فيما يرجع إلى العادات، ولم يكن في فعله ضرر يستدعي تركه. أراد أن يكتب إلى بعض الملوك رسائل يدعوهم فيها إلى الإسلام، فقيل له: إنهم لا يقرأون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة نقشُه: "محمد رسول الله". وقد يترك الأمر الذي لا ضرر في تركه؛ اتقاء للفتنة؛ كما ترك هدم الكعبة وبقاءها على أساس إبراهيم اتقاء لفتنة قوم هم حديثو عهد بجاهلية، وقال لعائشة - رضي الله عنها -: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرت

بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أُخرج منه، وبلغت به أساس إبراهيم". وله - صلى الله عليه وسلم - في الحث على فعل الشيء، أو الزجر عنه طرق حكيمة: منها: إعطاء الوسائل صورة ما تفضي إليه من المصالح أو المفاسد؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "الدال على الخير كفاعله" فقد أراك الدلالة على فعل الخير في صورة فعل الخير نفسه؛ إذ جعلهما بوسيلة التشبيه في منزلة واحدة، وذلك مما يقوي داعية الدلالة على الخير في نفسك، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن من كبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه؟ قيل: يا رسول الله! وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه". فانظر كيف أعطى سب الرجل لأبي الرجل صورة سب الرجل لوالديه، وفي ذلك من تكيد الزجر عن إطلاق اللسان بالسب ما لا تجده في النهي عن سب الناس بطريق غير هذا الطريق. ومنها: إعادة الجملة ثلاثاً؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يؤمن جاره بوائقه". وقال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، حرم الله عليه الجنة، وأوجب عليه النّار". قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: "وإن كان قضيباً من أراك، وإن كان قضيبا من أراك، وإن كان قضيبا من أراك". ومنها: أنه كان يقرن القول ببعض إشارات حسية تناسب المعنى، والإشارة بنحو اليد مضمومة إلى القول يزداد بها المعنى جلاء، ويأخذ بها في النفس صورة غير صورته المجردة عن الإشارة، ومثال هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"، وشبك بين أصابعه. ومنها: افتتاحه الكلام بسؤال المخاطيين عن الشيء الذي يريد تعليمهم

إياه؛ لما في الاستفهام من تهيئة النفوس للإصغاء إلى ما يقوله من بعد، وتشويقها إليه، فيقع منها في قرار مكين. قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: بينما أنا رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل، فقال: "يا معاذ! ". قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك؛ ثم سار ساعة، ثم قال: "يا معاذ بن جبل"، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك؛ قال: "هل تدري ما حق الله على عباده؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حق الله على عباده: أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً". ويشابه هذا أن يأتي بالكلام على وجه الغموض يستدعي طلب البيان، حتى إذا سألوه البيان، كشف الغموض، فيتقرر المعنى في نفوسهم بأشد مما لو أتى به من أول الأمر واضحاً بيناً، ومن هذا الباب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً". فقالوا: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: "تأخذ فوق يده". ومن حكمته في الدعوة: تصريحه، أو إيماؤه إلى علل كثيرة من الأحكام والآداب، وذلك مما يزيد القلوب إيماناً بصدقها، وينادي بأنها دعوة قائمة على رعاية المصالح، وقطع دابر الفساد. سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أأستأذنُ على أمي؟ قال: "نعم"، فقال: إني معها في البيت، قال: "استأذن عليها"، فقال: إني خادمها، قال: "استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟! "، قال: لا، قال: "استأذن عليها"؛ فعلة أدب الاستئذان الخوف من أن يكون صاحب المنزل في حال يكره أن يراه عليها أحد من الناس، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - حالة هي من أشد ما يكره الإنسان أن يشهده عليها أحد، وهي حال تجرده من الثياب؛ ليقنع السائل بوجوب الاستئذان، ويقطعه عن أن يراجع في الأمر مرة أخرى.

رجاحة عقله - صلى الله عليه وسلم - وحكمة رأيه

رجاحة عقله - صلى الله عليه وسلم - وحكمة رأيه (¬1) تقلبوا في أرقى البلاد علماً وحضارة، وابحثوا عن أسلم الأميين بها فطرة، وأذكاهم جَناناً، وأنفذهم بصيرة، وأطولهم تجارب، ثم اجلسوا إلى هذا الأمي ليالي وأياماً، تزنون أقواله بقسطاس الحكمة، وتعرضون آراءه على قانون المنطق الصحيح، ثم انظروا إلى ما سمعتموه من قول صائب، ورأي مقبول، وضعوه بجانب ما تسمعون من أقوال لاغية، وآراء زائفة، لاشك إنْ فعلتم ذلك عرفتم أن لنبوغ الأميين مجالاً ضيقاً، وحداً غير بعيد. بل انظروا في نوابئ الرجال من أهل العلم، فإنكم تجدون الرجل منهم قد وهبه الله تعالى حظاً عظيماً من رجاحة العقل، وحكمة الرأي، ففاق أقرانه، وصار في عصره العلَم المشار إليه بالبنان، حتى إذا انقرض ذلك العصر، وأقبل على الناس عصر آخر، ظهر في هذا العصر نابغة يضاهي نابغة العصر السابق في تصرفه الفكري، وأتى بمثل ما أتى به من ثمر علمي. أما محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكان - مع هذه الأمية، والنشأة البعيدة من مواطن العلوم، ومجالس العلماء - ينظر إلى ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية"- الجزء التاسع من المجلد السابع الصادر في ربيع الأول 1354. محاضرة الإمام في احتفال جمعية الهداية الإسلامية بذكرى ميلاد المصطفى - عليه الصلاة والسلام - في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول سنة 1354.

الحقائق الغامضة، فيصيب كبدها، وينطق، فإذا الحكمة كاشفة النقاب، والبلاغة آخذه بالألباب. وحرامٌ على العصور أن تخرج للناس رجلاً يدانيه في عظمته، أو يقاربه في صدق لهجته، وروعة حكمته، لا تفعل العصور ذلك وإن بلغت في الحضارة أشدها، وأشرقت فيها العلوم على اختلاف موضوعاتها، وتبيان غاياتها. فكمال عقل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من النوع الذي يخص الله تعالى به بعض المصطفين من عباده؛ ليعدَّهم بذلك إلى أشرف مقام، هو مقام النبوة والرسالة. وإذا كان ما ألقي على عاتق هذا الرسول العظيم هي الرسالة العامة الخالدة، فمن المعقول أن يهب الله تعالى له من فضل العقل وسمو الحكمة ما يناسب عموم رسالته، وبقاءها إلى قيام الساعة. وليس ببعيد ما قاله بعض الفقهاء: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد في أحكام بعض الوقائع؛ أي: إنه يقتبسها من أصول الشريعة بروحه المطوي على علم بمقاصد التشريع؛ فإن الأحكام التي يستنبطها عقل خلقه الله تعالى في صفاء وقوة لائقين بمقام رسوله الكريم، جديرة بأن تدخل في سلك الأحكام الثابتة من طريق الوحي الصحيح. فإن حدثناكم عن كمال عقل علَّامة نحرير، أو سياسي كبير، أو فاتح خطير، فإنما نحدثكم عن عقل أتى الزمان بمثله، وفي وسعه أن يأتي بأمثاله، وليس بينك وبين أن تدرك سبب كبر هذا العقل إلا أن تنظر إلى البيئة التي شبَّ فيها، والمعارف التي تلقنها.

وإذا فرضت أن عقلين من هذا النوع قد تماثلا بحسب الفطرة، كان عقل المتأخر أكبر من عقل المتقدم؛ لأن المتأخر يجد من ثمرات العقل السابق ما يساعد على التفكير وسرعة الإنتاج؟ كما انتفع أرسطو من آراء أفلاطون، فكان عقله أكثر إنتاجاً من عقل أفلاطون. أما إذا حدثنكم عن كمال عقل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلا نحدثكم عن عقل يرجع سبب عظمته إلى بيئة أو دراسة، إنما نحدثكم عن عقل أودعه تعالى في كمل خلقه؛ ليفهم به مقاصد الوحي، فيقوم ببيانها، ويدرك أمراض النفوس، فيصف أدواءها، ويتدبر أمور الجماعات، فيحسن سياستها. اقرؤوا سيرته في تلك السنين المعدودة التي قضاها - عليه السلام - في المدينة المنورة، وانظروا ماذا كان يقوم عليه من جلائل الأعمال، ويدعو إليه من وجوه الأصلاح، ويبينه من حلال وحرام؟ يؤم الناس في الصلوات، ويقود الجيوش في الغزوات، ويفتي السائلين في العبادات والمعاملات والجنايات، ويجلس إلى الأفراد والجماعات: يذكر الغافلين، ويرشد الضالين، ويجادل المعاندين، ويبشر المتقين، ويفصِل بين المتخاصمين، وينظر في شؤون منزله، ويسوس آل بيته وخدمه في رفق وعدل. ولا شك أن هذه الأعمال المختلفة النواحي كما رأيتم، لا يكفي في تدبيرها وإقامتها عقل من هذه العقول التي يحدثنا عنها التاريخ، ولو صدقت مبالغاته في إطرائها وإعلاء شأنها. قال القاضي عياض في كتاب "الشفا": "لا مرية أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمل تدبيره أمور بواطن الخلق وظواهرهم، وسياسة العامة والخاصة، مع عجيب شمائله،

وبديع سيره، فضلاً عما أفاضه من العلم، وقرره من الشرع، دون تعلم سبق، ولا ممارسة تقدمت، ولا مطالعة للكتب منه، لم يمترِ في رجحان عقله وثقوب فهمه لأول بديهته". فظهور هذا العقل الكبير في أمي لا يقرأ ولا يكتب، من أظهر الدلائل على أن هذا الأمي صادق في دعوى أنه رسول رب العالمين، فنحن إذا خطبنا في كمال عقل المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، إنما نصف آية تبعث في قلب الجاحد إيماناً، وتزيد قلب المؤمن اطمئناناً. ولعلك تذكر قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، فيختلج في صدرك أن أمره باستشارة أصحابه يقتضي أن آراءهم قد تكون أصوب من رأيه. والجواب: أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يستشير أصحابه في أمر الحروب ونحوها؛ ليقيم قاعدة الشورى بين الناس، وبالشورى تسعد الأمة، ويرتفع شأن الدولة. قال الحسن - رضي الله عنه -: "قد علم الله أنه ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد أن يستنَّ به من بعده". وفي استشارته - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه تطييب لنفوسهم، وزيادة تأليف لقلوبهم؛ إذ كان العرب من أشد الناس كراهة للاستبداد، ونفوراً من الرئيس الذي لا يجعل لهم في تصريف الأمور العامة نصيباً من الرأي. وفي استشارته - صلى الله عليه وسلم - أصحابه إشعار لهم بعلو مكانتهم عنده؛ إذ يدلهم على أنه يراهم مطلع الآراء السديدة، ومواطن الإخلاص، والإخلاصُ رأس كل فضيلة، وأي منزلة أرفع من منزلة قوم يعرض عليهم - صلى الله عليه وسلم - الأمر يستطلع آراءهم فيه، وهو الغني عنهم بما يأتيه من وحي السماء، وبما رزقه الله تعالى

من سمو الفكر، وصفاء البصيرة. وقد نطق القرآن المجيد بوقائع أشار إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جرى فيها على خلاف ما هو الأصلح والأولى. منها: أخذه الفداء عن أسرى بدر، وذلك ما عاتبه الله عليه، فقال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67]. والمفهوم من الآية: أن النبي الذي بُعث ليطهر الأرض من أرجاس الشرك والفسوق، فقام في وجهه أعداء ألداء، يبسطون إليه وإلى أنصاره أيديهم بالأذى، ويصدون الناس عما جاء به من الهدى، ويذهبون في الكيد له إلى أبعد مدى، ينبغي له أن يأخذ في معاملة هؤلاء الأعداء المحاربين بالشدة حتى يكسر شوكتهم، وتعظم مهابته في قلوبهم، والمالُ- وإن كان من وسائل القوة والغلبة - ليست له في جانب المصلحة التي أشارت إليها الآية الكريمة من قيمة. ومنها: إذنهُ لبعض المنافقين حين استأذنوه في التخلف عن غزوة تبوك، وذلك ما عاتبه الله تعالى في قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43] والواقع أن خروج هؤلاء المنافقين للقتال ليس فيه مصلحة للدين، بل أشار القرآن إلى ما في خروجهم إلى الغزو من ضرر، فقال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] فلم يعاتب الله نبيه - عليه الصلاة والسلام - من جهة أنه أذن في التخلف لقوم شأنهم أن يبلوا في الجهاد بلاء حسناً، بل العتاب من جهة أنه أذن لهم

في التخلف، ولم يؤخر الإذن فيه إلى أن يفتضح أمرهم، ويظهر على رؤوس الأشهاد كذبهم، وأنه لا عذر يستدعي تخلفهم، حتى إذا قعدوا عن الغزو، قعدوا متألمين من هذه الفضيحة، متخوفين من سوء عاقبتها. واقعتان، أو ثلاث وقائع، أو أربع، أو خمس يسبق فيها رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خلاف الأولى، فيرشده علَّام الغيوب إلى ما هو الأولى، لا تقف في سبيل ما وصفناه، وأقمنا عليه الحجة من أن كبر عقل محمد - صلوات الله عليه - آية من آيات النبوة. ولعلك تذكر أن طائفة من المشركين بلغت بهم الرقاعة أن وصفوا صاحب هذا العقل العظيم بالجنون؛ كما حكى الله عنهم ذلك في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] ويقدح في خاطرك أن عقلاً تهبط منه الحكم البالغة، وتسطع منه الحجج الدامغة لا يصف صاحبه بالجنون إلا من فقد عقله، وصار يرمي بالألفاظ في غير معنى، فتقول: "كيف يحكي القرآن كلام من فقدوا عقولهم، وأطلقوا في الهذيان ألسنتهم؟ ". والجواب: أن القوم يعلمون أنه ينطق بالحكمة، ويجادل بالحجة، وإنما رموه بالجنون؛ تناهياً في العناد، وقصداً للإساءة بالقول، وحكى الله عنهم ذلك الزعم البين البطلان؛ ليرينا مبلغهم من العناد، وسقوطهم أمام الحجة، وتخبطهم في تطلب وجه يصرفون به الناس عن إجابة دعوته. وأي تخبط بعد تخبط من يأتي إلى أرجح البشر عقلاً، وأسناهم خلقاً، وأحسنهم سمتاً، وأجلّهم وقاراً، فيقول عنه: إنه مجنون؟!. وقد انحدرت من سماء ذلك العقل العظيم حكم أنفسُ من الدرر، وأنفع

من الغيث، وفي وسعي أن أسوق إليكم منها مثلاً، وأنبّه على ما ينطوي تحتها من المعاني السامية، ولكن ضيق الوقت يدعوني إلى أن أقف عند هذا الحد.

هجرة الصحابة إلى الحبشة وأثرها في ظهور الإسلام

هجرة الصحابة إلى الحبشة وأثرها في ظهور الإسلام (¬1) يجري اليوم في الصحف والأندية ذكر الحبشة أكثر مما كان، ويقول بعض الكاتبين: إن بيننا وبين الحبشة صلة الجوار والدين، وربما أشار بعضهم إلى هجرة الصحابة - رضي الله عنهم - إلى الحبشة، وما لا قاهم به النجاشي من سماحة وحسن جوار. أما صلة الجوار: فلأن موقع بلاد الحبشة بمقربة منا، ويحدها من جهة الغرب: السودان المصري. وأما الدين: فلأن عدد المسلمين من سكانها يقارب عدد النصارى، بل يذهب بعضهم إلى أن عدد المسلمين فيها يزيد على عدد غيرهم. وأما هجرة الصحابة إلى النجاشي، فذلك موضوع محاضرتنا في هذه الليلة، فمحاضرتنا من قبيل المحاضرات التي نلقيها على وفق المناسبة، ونرجو أن يعود السامعون منها بفائدة. * سبب الهجرة إلى أرض الحبشة: بُعث محمد كل - صلى الله عليه وسلم - بهذه الدعوة التي تملأ القلوب نوراً، وتشرق بها ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد السابع الصادر في جمادى الأولى 1354. محاضرة الأمام في جمعية الهداية الإسلامية مساء يوم الخميس 8 جمادى الأولى سنة 1354.

العقول رشداً، فسابق إلى قبولها رجال حكماء، ونساء فاضلات، وصبيان لا زالوا على فطرة الله، وبقيت سائرة في شيء من الخفاء، وكفّار قريش لا يلقون لها بالاً، حتى أخذ - صلى الله عليه وسلم - يقرع بها الأسماع في المجامع، ويحذر من عبادة الأصنام، ويسفه أحلام من يعبدونها، فكان ذلك مثيراً لغيظ المشركين، وحافزاً لهم على مناوأة هذه الدعوة، والصدّ عن سبيلها، فوجدوا في أيديهم وسيلة هي أن يفتنوا المؤمنين، ويسومونهم سوء العذاب، حتى يعودوا إلى ظلمات الشرك، وحتى يُرهبوا غيرهم ممن تحدثهم نفوسهم بالدخول في دين القيِّمة. أما المسلمون، فمنهم من كانت له قوة من نحو عشيرة أو حلفاء يكفون عنه كل يد تمتد إليه باذى، ومنهم المستضعفون، وهؤلاء هم الذين وصلت إليهم أيدي المشركين، وبلغوا من تعذيبهم كلَّ مبلغ، ومن هؤلاء من يناله العذاب من أقرب الناس إليه نسباً؛ كخالد بن سعيد بن العاص؛ فإنه لما أظهر إسلامه، ضربه أبوه بمقرعة حتى كسرها على رأسه، وحلف أن لا ينفق عليه، فانقطع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يقاسيه أصحابه من البلاء، وليس في استطاعته يومئذ حمايتهم، أذن لهم في الهجرة إلى الحبشة، وقال: "إن بها ملكاً لا يُظلم الناس عنده، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجاً". ولعلك تنظر في الدول المجاورة للأمة العربية يؤمئذ، فلا تجد فيها من يصلح أن يكون موضع هجرة لأهل دين سماوي جديد كالإسلام، أما الفرس، فدينهم المجوسية، والإسلام يحارب المجوسية كما يحارب عبادة الأوثان في البلاد العربية، وأما الروم، فلم يكن لملكهم يومئذ من ضبط

الهجرة الأولى إلى الحبشة

أمور الرعية، وكف الأيدي العادية ما كان لملك الحبشة. * الهجرة الأولى إلى الحبشة: في شهر رجب من سنة خمس من البعثة، هاجر طائفة من المسلمين إلى الحبشة، ومن هذه الطائفة: عثمان بن عفان، وزوجه رقية بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن مظعون، ثم التحق بهؤلاء المهاجرين جماعات من الرجال والنساء، واجتمعوا بأرض الحبشة آمنين على أنفسهم، منقطعين إلى عبادة ربهم. * كيف سافر المهاجرون الأولون من مكة؟ خرج أولئك المسلمون متسللين في خفية، يقصدون الساحل، فوجدوا - بتوفيق الله- عند انتهائهم إلى مكان يقال له: "الشعيبة" (¬1) سفينتين تجاريتين (¬2)، فركبوهما وراية النجاة تخفق على رؤوسهم. وبلغ خبر سفرهم كفار قريش، فخرجوا في أثرهم حتى بلغوا الساحل، ولم يظفروا منهم بأحد. * اغتباط المسلمين بهجرتهم: أقام المسلمون المهاجرون بأرض الحبشة في حسن حال وراحة بال، ويدرك قيمة هذه النعمة من ابتلي بأيد قاسية، تبسطها حميَّة جاهلة، وأهواء غالبة، فجعل الله له من ذلك الاضطهاد مخرجاً. وقد نظم بعض شعرائهم قصائد يصفون بها حال خلاصهم من قريش، ¬

_ (¬1) مرفأ للسفن من ساحل بحر الحجاز، وكان مرفأ مكة ومرسى سفنها قبل جدة. "معجم يا قوت". (¬2) وروي: أنهم استأجروا سفينة بنصف دينار.

خروج أبي بكر بقصد الهجرة إلى الحبشة

وما لاقوه من الأمن في هجرتهم، وأذكر من هذا قول عبدالله بن الحارث: يا راكباً بلِّغَنْ عني مغلغلة (¬1) ... من كان يرجو بلاغ الله والدين كل امرئ من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور ومفتون إنا وجدنا بلاد الله واسعة ... تنجي من الذل والمخزاة والهون فلاتقيموا على ذلك الحياة وخز ... ي في الممات وعيب غيرمأمون إنا اتَّبعنا رسول الله واطَّرحوا ... قول النبي وغالوا في الموازين * خروج أبي بكر بقصد الهجرة إلى الحبشة: انفتح باب الهجرة إلى الحبشة، فإذا خشي مسلم في مكة أن يناله مكروه، أزمع الهجرة إلى تلك البلاد، ومما نقرؤه في الصحيح: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - خرج ليلحق من سبقه من المهاجرين إلى الحبشة حتى بلغ "بَرْك الغِماد"، فلقيه ابن الدَّغِنة (¬2)، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، وأعبد الله، فقال ابن الدغنة: إن مثلك يا أبا بكر لا يَخرج ولا يُخْرَج، إنك تُكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع أبو بكر في جوار ابن الدغنة، ولم يلبث أن نبذ إليه جواره، واستبدل به جوار الله. وأذكر بهذه المناسبة: أني عندما عزمت على الهجرة من تونس إلى ¬

_ (¬1) مغلغلة: رسالة محمولة من بلد إلى بلد- "القاموس". (¬2) بفتح الدال وكسر الغين وتخفيف النون، وقيل: بضم الدال والغين وتشديد النون، وهو سيد "القارة": قبيلة من بني الهون كانوا حلفاء لبني زهرة من قريش.

سعي قريش في رجوع أولئك المهاجرين

دمشق سنة 1331، وكتب إليَّ أحد الأساتذة في تونس خطاباً يشير عليّ فيه بترك السفر، وساق في الخطاب قصة ابن الدغنة هذه مع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فقلت: قد أبعد الأستاذ القياس، وأقام الشاهد على غير أساس، وحالُ أبي بكر الصديق أرفعُ من أن يضرب مثلاً لحال أفراد إن غابوا، وجد الناس كثيراً من أمثالهم، أو ممن هم خير منهم. * سعي قريش في رجوع أولئك المهاجرين: لما بلغ قريشاً ما لاقاه المسلمون في مهاجرهم من الأمن والسكنية، ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي في ردهم عليهم، فبعثوا إليه عمرو بن العاص، وعبدالله بن أبي ربيعة (¬1)، وزوَّدوهما بهدايا للنجاشي ومَن حوله من البطارقة، فسلما الهدايا، وقالا للنجاشي: أيها الملك! إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم عليهم- وأيدهما في هذا الطلب بعض البطارقة-, فقال النجاشي: لا أسلِّمهم، ولا يُكاد قوم جاوروني حتى أسألهم عما يقول هذان في أمرهم. * دعوة النجاشي الصحابة وسؤالهم: دعا النجاشي الصحابة إلى مجلس حضره البطارقة، وسألهم عن حقيقة دينهم، فتولى جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - إجابته، فقال: أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ¬

_ (¬1) أسلم بعد، وولاه - صلى الله عليه وسلم - الجند ومخاليفها، فلما حوصر عثمان - رضي الله عنه -، جاء لينصره، فوقع عن راحلته قرب مكة، فمات.

نصب عمرو لهم مكيدة عند النجاشي

ونسيئ الجوار، ويأكل القويُ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحزَمنا ما حَرم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا وظلمونا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على مَن سواك، ورجونا أن لا نظلم عندك. فلما انتهى جعفر من هذا الخطاب، قال له النجاشي: هل عندك مما جاء به من الله شيء؟ فقرأعليه جعفر صدراً من سورة {كهيعص} [مريم: 1]، فخشع النجاشي لتلاوة القرآن (¬1)، وقال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرجُ من مشكاة واحدة، ثم أقبل على عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، وقال لهما: لا أسلِّمهم إليكما، ولا يُكادون. وكذلك تكون عاقبة الحق متى وجد عقولاً تتلقاه في أوضح صورة، وألسنة تعرضه في أصدق عبارة. * نصب عمرو لهم مكيدة عند النجاشي: يبذل المبعوث في أمر جهده، وشملك للوصول إليه كل مسلك ممكن ¬

_ (¬1) ذكر السهيلي في "الروض الأنف" قصة تدل على أن النجاشي يعرف اللغة العربية.

متى بلغ في التعلق به مبلغ من بعثوه فيه، وأشرب ما أشربته قلوبهم من الحرص عليه، فليس من الحكمة أن يعهد في إلغاء البغاء إلى من لا يبغض فاحشة البغاء، ولا أن يبعث إلى مؤتمر المسكرات من يعاقر الصهباء، ولا أن يندب للتحدث عن شريعة الإسلام من يجحد كثيراً من حقائقها، ولا أن يتولى الدفاع عن حقوق الوطن من عرف بموالاة غاصبها، وقد كان عمرو بن العاص في ذلك الوقت يشعر بشعور كفار قريش، وينظر بمثل أعينهم، ويحمل في صدره من الحقد على أولئك المهاجرين ما تحمل صدورهم، فلا عجب أن يخيب سعيه من ناحية، فيدبِّر من نفسه كيف يبلغ الغرض من ناحية أخرى. بعد أن صرف النجاشي عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، فكَّر عمرو في مكيدة تثير سخط النجاشي على أولئك المهاجرين، وهو أن جاء من الغد، وقال له: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فاسألهم عما يقولون فيه. فأرسل إليهم النجاشي ليسمع ماذا يقولون، فدخلوا عليه، فقال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم -: هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده، وأخذ عوداً ثم قال: - والله! ما زاد عيسى على هذا، ولا هذا العود. ثم إن النجاشي رد على عمرو بن العاص ومن معه هداياهما، فخرجا يتعثران في أذيال الخيبة، ورجعا إلى كفار قريش بخفي حنين.

رجوع المهاجرين إلى مكة

* رجوع المهاجرين إلى مكة: بلغ أولئك المهاجرين خبر غير صادق، هو أن قريشاً كفوا أذاهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين (¬1)، فسارعوا إلى الرجوع إلى مكة، وعندما دنوا منها، ولم يبن بينهم وبينها إلا ساعة من نهار، عرفوا أن الخبر مفترى، وأن قريشاً في أشد ما يكون من عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والكيد لأصحابه، ويظهر أن شدة شوقهم إلى وطنهم، وإلى صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقاء من تركوهم خلفهم من إخوانهم، هي التي جعلتهم يتعلقون بذلك الخبر المفترى قبل أن يتثبتوا. وعندما عرفوا أن أذى المشركين للمؤمنين ما زال بحاله، بل صار إلى ما هو أشد، انقلب فريق راجعين إلى الحبشة، ودخل آخرون مكة في خفاء، أو معتصمين بجوار (¬2)، وممن دخل مكة في الداخلين بجوار: أبو سلمة (¬3)، وزوجه أم سلمة، ولما اشتد به أذى قريش، وبلغه أن بعض الأنصار قد دخل في الإسلام، هاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر إليها النبي - صلى الله عليه وسلم. ولعلك تدرك الشدة التي وقع فيها من رجعوا على طريقهم ولم يدخلوا مكة؛ فإنهم جاؤوا على أمل أن يدخلوا مكة، ويلاقوا أولياءهم المتقين، ويقيموا في جوار بيت الله الحرام آمنين، فخاب أملهم فجاة، واضطروا بعد فوات هذا الأمل إلى معاناة أتعاب السفر عائدين إلى أرض غربة لا يدرون كم تكون مدة إقامتهم بها. ولكن الإيمان الصحيح يتبعه العزم الصادق، ¬

_ (¬1) وقيل: بلغهم أنهم أسلموا. (¬2) كما دخل عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، ثم نبذ إليه جواره، وقال: أرضى بجوار الله. (¬3) دخل بجوار أبي طالب بن عبد المطلب.

الهجرة الثانية إلى الحبشة

فتصغر أمامه الأخطار، وتصير المخاوف عنده برداً وسلاماً. * الهجرة الثانية إلى الحبشة: اشتد بلاء قريش على من قدموا من مهاجري الحبشة وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فأذن لهم رسول الله طفي الهجرة إلى الحبشة مرة أخرى، فهاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلاً، ومن النساء ثماني عشرة امرأة (¬1)، وممن هاجر في هذه المرة: عبيد الله بن جحش، وزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان. ومن أهل السيرة من ذكر في رجال الهجرة الثانية: عثمان بن عفان - صلى الله عليه وسلم -، فيكون ممن هاجر إلى الحبشة في الأولى والثانية، وقدم فيمن قدم من أولئك المهاجرين على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة قبل واقعة بدر، ويؤيده قول عثمان - رضي الله عنه -: "وهاجرت الهجرتين الأوليين" (¬2). * هجرة الأشعريين إلى الحبشة: خرج أبو موسى الأشعري من اليمن ومعه بضع وخمسون رجلاً قاصدين لقاء النبي - صلى الله عليه وسلم، فألقتهم السفينة إلى النجاشي بالحبشة، فلاقوا جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين، فأقاموا معهم إلى أن قدموا يوم خيبر على ما نقصه عليكم من بعد. * رجوع فريق من مهاجري الحبشة إلى المدينة: لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وبلغ خبره المهاجرين بأرض الحبشة، ¬

_ (¬1) وقيل: تسع عشرة امرأة. (¬2) "صحيح الإمام البخاري".

وفد الحبشة

رأى فريق منهم أن الإذن لهم في الهجرة إلى الحبشة كان للخلاص من أذى المشركين، وقد أصبح رسول الله والمؤمنون بهجرتهم إلى المدينة في مأمن من ذلك الأذى، ورأوا أن التحاقهم بجماعة المسلمين في المدينة خير من إقامتهم في بلاد الحبشة، فرجعوا قاصدين دار الهجرة المباركة (¬1). وبقي فريق من أولئك المهاجرين على رأسهم جعفر بن أبي طالب، ينتظرون إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرجوع. * وفد الحبشة: ورد في بعض كتب السيرة: أن وفدأمن نصارى الحبشة قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة، فجلسوا إليه في الحرم، فدعاهم، وتلا عليهم القرآن، فخشعوا، ثم استجابوا له، وآمنوا به، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتبهم من أمره. وجاء في بعض الروايات: أن طائفة من أصحاب النجاشي قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة، وشهدوا واقعة أحد. وأخرج الطبراني عن ابن عباس: أن آية: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} - إلى قوله- سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ] [القصص 52 - 55] نزلت في هذا الوفد، وهذا أصل قول مقاتل: سورة القصص مكية إلا قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ - إلى قوله - سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي ¬

_ (¬1) قال ابن سعد: لما سمعوا مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً، ومن النساء ثمان نسوة، فمات منهم رجل بمكة وحبس بمكة، سبعة، وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً.

إسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي

الْجَاهِلِينَ] [القصص 52 - 55]؛ فإنها مدنية. * إسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي: كان عمرو بن العاص في جانب المشركين، وبعد تفرق كلمتهم في واقعة الأحزاب، وانصرافهم عن المدينة، اختلى برجال كانوا يرون رأيه، ويسمعون منه، وعرض عليهم الالتحاق بالنجاشي، والإقامة عنده إلى أن تتبين عاقبة هذه الحروب القائمة بين المسلمين والمشركين، فسار عمرو ومن معه إلى النجاشي، وأقام في جواره. ولما قدم عمرو بن أمية الضمري موفداً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأن جعفر ابن أبي طالب ومن معه من بقية المهاجرين، سعى عمرو بن العاص لدى النجاشي ليصل إلى قتل عمرو الضمري، فأبى النجاشي، ودعا عمراً إلى طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - واتباعه، فلم يغادر عمرو مجلس النجاشي حتى سطع في قلبه نور الإيمان، وبايع النجاشي على الإسلام، وفيه يقول بعض المحدثين: أيُّ صحابي أسلم على يد تابعي؟. ثم رحل عمرو قاصداً المدينة وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبايعه على الإسلام. * تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة وهي بأرض الحبشة: كانت أم حبيبة بنت أبي سفيان، هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش الأسدي، فمات عبيد الله هنالك بعد أن تنصَّر فيما يقال، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطبها، فزوجه إياها خالد بن سعيد بن العاص بإذنها، وأصدقها النجاشي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع مئة دينار، وكان هذا الزواج - في أشهر الروايات - سنة سبع من الهجرة، وقيل: سنة ست.

قدوم بقية المهاجرين من الحبشة

* قدوم بقية المهاجرين من الحبشة: أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب ومن معه من بقية المهاجرين، فحملهم النجاشي على سفينتين، وقدموا يوم فتح خيبر (¬1)، ولما قدم جعفر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، تلقاه، وقبَّل ما بين عينيه (¬2)، ويروى أف قال: "ما أدري بايهما أسرّ، أبفتح خيبر، أم بقدوم جعفر؟ "، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفلَّم المسلمين في أن يدخلوا هؤلاء المهاجرين في سهامهم من الغنيمة، ففعلوا. * من ولد من المسلمين بأرض الحبشة؟ هاجر جماعة إلى الحبشة بأزواجهم، وولد لهم هنالك أبناء وبنات، ومن الأبناء: عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وهو أول من ولد بأرض الحبشة من المسلمين، ومنهم: عبدالله بن المطلب، وتوفي أبوه المطلب بأرض الحبشة، وكانوا يقولون: إن عبدالله هذا أول رجل ورث أباه في الإسلام. ومن البنات: أمة بنت خالد بن سعيد بن العاص، وكانت قد تعلمت لسان الحبشة، وكساها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما قدمت وهي صغيرة خميصة (¬3) لها أعلام، وجعل يمسح الأعلام، ويقول: "سناه سناه"؛ أي: حسن حسن، في لغة الحبشة. ¬

_ (¬1) الجمهور على أن فتح خيبر كان في السنة السابعة من الهجرة، وقال مالك، وبه جزم: إنها كانت في السنة السادسة. (¬2) في بعض رجال هذا الحديث ضعيف، وحديث معانقة النبي - صلى الله عليه وسلم - غير ثابت، وسنده مظلم، كما قال الذهبي في "ميزان الاعتدال". (¬3) الخميصة: كساء أسود مربع له علمان.

فضل المهاجرين إلى الحبشة

* فضل المهاجرين إلى الحبشة: كانت أسماء بنت عميس ممن قدموا يوم فتح خيبر، فدخلت على حفصة أم المؤمنين، فدخل عمر بن الخطاب، وقال: من هذه؟ قالوا له: أسماء، فقال لها عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله منكم. فغضبت، وقالت: وايم الله! لا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلتَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، قصَّت عليه قول عمر، فقال: "ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم - أهل السفينة - هجرتان". وكان أبو موسى الأشعري وأصحابه يأتون إلى أسماء أرسالاً يسألونها عن هذا الحديث، وما من شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. لمهاجري الحبشة فضل وأيُّ فضل، ذلك أنهم فارقوا وطنهم مكرهين، ونزلوا في أرض غير أرضهم، وأمة غير أمتهم، ونحن نعلم ما وقع لبعض الصحابة من الحنين إلى مكة بعد الهجرة إلى المدينة، فكان بلال - رضي الله عنه - وقد أصيب بالحمّى يرفع صوته يقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادٍ وحولي إذخر وجليل (¬1) وهل أَرِدَنْ يوماً مياه مَجِنَّة (¬2) ... وهل يبدُوَنْ لي شامة وطفيل (¬3) ¬

_ (¬1) الإذخر والجليل: شجرتان طيبتان تنبتان بأودية مكة. (¬2) موضع قريب من مكة. (¬3) جبلان من جبال مكة.

إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بوفاة النجاشي، وصلاته عليه

فلما أُخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، قال: "اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدَّ". * إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بوفاة النجاشي، وصلاته عليه: في "صحيح البخاري" عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين مات النجاشي: "مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة" (¬1). وعن جابر أيضاً: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - صلّى على النجاشي، فصففنا وراءه، فكنت في الصف الثاني أو الثالث (¬2). وعن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى لهم النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه، وقال: "استغفروا لأخيكم" (¬3). وكانت وفاته سنة تسع عند الأكثر، وقيل: سنة ثمان قبل فتح مكة. ففي هذه الأحاديث آية من آيات صدق رسالته - صلى الله عليه وسلم -، وهو إخباره بأمر غائب انكشف من بعد أنه كما أخبر، وفيها شاهد على أن النجاشي مات مسلمًا، ذلك لأنه وصفه بأنه رجل صالح، وصلَّى عليه صلاة الجنازة، وسمّاه أخًا للصحابة، وأمرهم بالدعاء له بالمغفرة. * دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشي إلى الإسلام: مما لا نشك فيه: أن النجاشي الذي هاجر إليه الصحابة - رضي الله عنهم - أسلم، ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري". (¬2) "صحيح الإمام البخاري". (¬3) "صحيح الامام البخاري".

أثر الهجرة في ظهور الإسلام

ومات على الإسلام، والظاهر أن بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو الضمري في جملة من بعثهم إلى الملوك كان إلى النجاشي الذي تولى الملك بعد النجاشي الذي أخبر - صلى الله عليه وسلم - بوفاته، وصلى عليه، ففي "صحيح مسلم" عن أنس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبّار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). * أثر الهجرة في ظهور الإسلام: رأينا كيف كان المشركون يذيقون المستضعفين من المسلمين عذاباً أليماً، فكان من رحمة الله أن فتح في وجوههم طريق الهجرة إلى الحبشة، فكان هذا الفتح من أسباب ثبات أولئك المستضعفين على إسلامهم، وتمكنهم من عبادة ربهم، فوجد منهم الدين رجالاً طبعت نفوسهم على آدابه، ونشطت أعضاؤهم للقيام بواجباته، وعرفوا عن مشاهدة كيف يحمي الله أولياءه من أعدائه، ويجعل لهم مع العسر يسراً، ومن الضيق مخرجاً. ثم إن وجود موطن لهجرة المؤمنين وخلاصهم من أذى المشركين، يسهل على من تنشرح صدورهم للإيمان ولا يطيقون العذاب، أن ينضموا إلى صفوف المؤمنين، ويصدعوا بإيمانهم ولو كره المشركون، ففي الناس من يعرف الحق، ولا يملك من قوة الصبر على الأذى ما يسهل عليه الشهادة به صراحة، والدخول في زمرة أهله علانية، وقد رأينا في محنة الناس بمسألة خلق القرآن علماء لا يرون رأي المعتزلة من أن القرآن مخلوق، ولم يجهروا بمخالفتهم؛ خوفاً من الضرب بالسياط، وعوتب بعضهم على عدم ¬

_ (¬1) بعث هؤلاء الرسل كان في غزوة تبوك، وهذه الغزوة كانت في رجب سنة تسع.

وقوفه موقف الإمام أحمد بن حنبل في الجهر بالحق، واحتمال الأذى في سبيله، فقال: قَوِيَ أحمد على السياط، وأنا لا أقوى على ذلك. وكان أولئك المهاجرون؛ لاستقامتهم، وكمال آدابهم، وصدق لهجاتهم، يعرضون الإسلام في أقوم مثال، وأجمل صورة، وذلك مما يقرب قلوب الحبشة إلى الإسلام، ويدعوهم إلى النظر في صحته، وقد عرفتم كيف كانت هذه الهجرة سبباً في هداية ملكهم وأمة من قومه، وقد عرفتم أن صحابيًا فاتحًا عظيماً أسلم على يد النجاشي، وهو عمرو بن العاص - رضي الله عنه -. ومما استفاده المسلمون من هذه الهجرة: أن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على ثقة من أن الحبشة أمة مسالمة لدعوة الإسلام، فلم يخشوا أن تشغلهم عن الجهاد في سبيل الدين الحق، وبسط ظلال العدل، كما كانوا يشعرون بعداء غيرها من الدول المجاورة للبلاد العربية؛ كدولتي الروم والفرس.

إبادته للأصنام - صلى الله عليه وسلم -

إبادته للأصنام - صلى الله عليه وسلم - (¬1) كان العرب على ملة إبراهيم - عليه السلام -، ثم دخلهم الشرك، ومن المعروف في التاريخ أن أول من غيَّر دين إبراهيم، وزَّين للعرب عبادة الأصنام عمرو بن لحي بن عامر، وسبب ذلك -فيما يقال-: أنه دخل مدينة البلقاء من أرض الشام، فرأى قوماً يعبدون الأصنام، ويقولون: هذه أرباب نتخذها، نستنصر بها فننصر، ونستسقي بها فنسقى، وكل من سألها يعطى. فطلب صنماً يدعونه: "هبل"، فسار به إلى مكة، ونصبه على الكعبة، ودعا الناس إلى تعظيمه وعبادته، ففعلوا. تفشت في العرب عبادة الأوثان، فأقاموا في جوف الكعبة تماثيل، وكان أعظمها عندهم الصنم المسمى بهبل، ووضعوا حول الكعبة نحو ستين وثلاث مئة نصب (على عدد أيام السنة)، واتخذ أهل كل دار من مكة صنماً يعبدونه في دارهم؛ زيادة على ما يعبدون من التماثيل القائمة في الكعبة، والأنصاب الموضوعة حولها. وللعرب أصنام في غير مكة يبالغون في تعظيمها نحو: "اللات" (¬2)، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" الجزء التاسع من المجلد الثامن - ربيع الأول 1355 هـ. (¬2) صنم لثقيف.

و"العزَّي" (¬1)، و"مناة" (¬2)، و"فلس" (¬3)، و"نهم" (¬4)، و"ذي الخلصة" (¬5)، و"الأقيصر" (¬6)، و"ذي الكفين" (¬7)، و"ذي الشرى" (¬8)، و"رضا" (¬9)، و"عميانس" (¬10). ومن أصنامهم: "ود"، وسواع"، و"يغوث"، و"يعوق"، و"نسر" (¬11). وقد ذكر القرآن الكريم هذه الأصنام في الحديث عن قوم نوح - عليه السلام -. ويروى عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن هذه الأصنام كانت لقوم نوح، ثم انتقلت إلى العرب من بعدهم، ومن المحتمل أن تكون أسماء هذه الأصنام قد بقيت إلى ما بعد نوح، ثم اتخذ العرب أصناماً، وسمّوها بهذه الأسماء. ¬

_ (¬1) سمرة كانت لغطفان. (¬2) كان منصوباً على ساحل البحر بقديد "بين مكة والمدينة"، وأشد تعظيماً له الأوس والخزرج. (¬3) صنم لمزينة. (¬4) بضم النون وسكون الهاء. (¬5) صنم لدوس وخثعم وبجيلة. (¬6) صنم لقضاعة ولخم وأهل الشام. (¬7) كان لأوس أيضاً. (¬8) صنم لدوس أيضاً. (¬9) بيت صنم لربيعة. (¬10) صنم لخولان. (¬11) ود: في قبيلة كلب، وسواع: في قبيلة هذيل، ويغوث: في قبيلة مراد، ويعوق: في قبيلة همدان، ونسر: في قبيلة آل ذي الكلاع.

ومن هذه المعبودات ما يتخذونه من بعض الأحجار النفيسة؛ كهبل؛ فإنه كان من عقيق على صورة إنسان، ويقال: إن قريشاً أدركته مكسور اليد اليمنى، فجعلوا له يداً من ذهب. ومنها ما يتخذ من نحاس، كصنم خزاعة الذي أقاموه فوق الكعبة، ومنها ما يتخذ من حجارة؛ كمناة؛ فإنه كان صخرة مربعة، ونحو ذي الخلصة؛ فإنه كان مروة بيضاء عليها نقش كهيئة التاج، ومنها من خشب؛ كذي الكفين. وقد يعبدون شجرة قائمة كالعزّى، فإنها كانت سمرة، أو ثلاث سمرات. انغمس العرب في عبادة الأوثان، وكانوا يملؤون قلوبهم بتعظيمها، يزورونها، ويطو فون بها، ويسجدون لها، ويتمسَّحون بها، ويتقربون إليها بالذبائح، ولا يتعرضون لمن التجأ إليها، وقد يلبسونها القلائد، ويعلقون عليها بيض النعام؛ كما كانوا يفعلون بذي الخلصة، قال كعب بن مالك - رضي الله عنه -: وننسى اللات والعزّى ووَدّاً ... ونسلبها القلائدَ والشنوفا (¬1) وكانوا يرون أن سبّها يأتي بأمراض معضلة، جاء ضمام بن ثعلبة رئيس قبيلة سعد بن بكر، فأسلم، وعاد إلى قومه داعياً إلى الإسلام، وأول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزّى، فقالوا له: مه يا ضمام، اتق البرص والجنون والجذام. قال: ويلكم! إنهما لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولاً، وأنزل عليكم كتاباً استنقذكم به. ¬

_ (¬1) جمع شنف، وهو القرط.

ويحلفون بأسمائها؛ كما قال عبد العزيز بن وديعة المزني: إني حلفت يمين صدق برة ... بمناة عند محل آل الخزرج ويؤلفون أسماء أبنائهم من أسمائها بقصد التبرك بها؛ نحو: عبد العزّى، وعبد يغوث، وعبد نهم، وعبد مناف، وزيد اللات، وزيد مناة. وقد اشتد تعلق العرب بعبادة الأوثان، وكانوا يحبونها حب المؤمن لله. ومن شواهد إغراقهم في حبها: أن أبا أحيحة بن العاص أدركه مرض الموت، فبكى، فقيل له: أمن الموت تبكي، وهو أمر لا بد منه؟ فقال: لا، ولكني أخاف أن لا تعبد العزّى بعدي. وقد تنبه بعض العرب قبل الإسلام لما في عبادة الأصنام من باطل، وأدركوا أن عقيدة التوحيد حق لا ريب فيه؛ كزيد بن عمرو بن نفيل، ولكنه لم يقم بدعوة تعيد - ولو طائفة من عباد الأصنام - إلى سيرة التوحيد، ذلك لأن عماية الشرك التي استحوذت على القلوب مرض مزمن لا يبرئ منه إلا حكمة يوحي بها رب العالمين إلى رسول أمين ذي خلق عظيم. ظلت الأمة العربية تتخبط في هذه العماية، فخسرت الحياة الطيبة، وضلت سبل السعادة، حتى بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فجاهد في إخراجها من ظلمات الوثنية إلى عقيدة التوحيد الخالصة، فأصبحت أمة راجحة الأحلام، صافية البصائر، شديدة الثقة بالله، حقيقة بأن تحمل الهداية العامة، والإصلاح الإلهي إلى الشرق والغرب. وقد جاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوثنية بوسائل كثيرة، أخذ يدعو إلى الاعتقاد بأن خالق الكون ومدبِّره هو الله الواحد القهار، ويقيم البراهين على أن عبادة الأوثان من انحطاط الفكر، وسفاهة الرأي. يقول هذا ويؤيده بالحجة، ويذكر

بما قصه القرآن من أنباء الأقوام الذين كانوا يعبدون الأوثان، وبما كان يعظهم به رسلهم - عليهم السلام -، وبما نزل بهم من عذاب. وكان قريش لا يزيدون في مبدأ دعوته - عليه الصلاة والسلام - على أن يقابلوها بشيء من الاستهزاء والسخرية، حتى سمعوه يعيب أصنامهم، فثار غضبهم، وتحفزوا لمقاومة الدعوة، وانظر إلى أولئك النفر: أبي جهل، وأبي سفيان، والوليد بن المغيرة، ومن معهم إذ جاؤوا إلى أبي طالب، وقالوا له: "إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلَّل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه". ومشوا إليه مرة ثانية، وقالوا له: "إنا والله! لا نصبر على هذا؛ من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين". كذلك كانت سيرته - صلى الله عليه وسلم - بمكة، يجاهد الوثنية بالدعوة والحجة، ولم يكن قد ملك من القوة ما يمكنه من تحطيم تلك الأصنام تحطيماً يقطع دابرها. ثم هاجر -صلوات الله عليه- إلى المدينة، ولم يكن بها أو من حولها -فيما نعلم- أصناماً ظاهرة تقصد بالعبادة، وكان غزوه - صلى الله عليه وسلم - إما لقريش في غير موضع أصنامهم؛ كغزوتي بدر وأحد، وإما لليهود؛ كغزوتي خيبر وبني قريظة، وليس لليهود أصنام، وإما لقبائل من العرب قد ينتهي غزوهم بالرجوع عنهم حيث يجدهم بحال من لا يخشى شره. فلا عجب أن نرى جهاد رسول الله للأصنام بالكسر والتحطيم قد ظهر عند فتح مكة، وتواصل حيث قويت شوكة الإسلام، وصارت يده فوق تلك الأصنام التي هي مبعث الوثنية في الجزيرة العربية.

ولما فتح - صلى الله عليه وسلم - مكة المكرمة، أبى أن يدخل البيت وفيها تلك الأصنام القائمة، والصور المنقوشة على جدرانها، وأمر عمر بن الخطاب أن يخرج منها كل صنم، ويمحو كل صورة، فأخرجت الأصنام، ومحيت الصور، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - للبيت، وكبّر في نواحيه. وفي إحدى روايات الصحيح: أنه رأى صورة إبراهيم، فدعا بماء، وجعل يمحوها، وتأويل هذه الرواية: أن هذه الصورة خفيت على من أمره بمحو الصور قبل دخوله. ثم طاف رسول الله بالكعبة، وجعل يطعن بقضيب في يده تلك الأصنام الموضوعة حولها، ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد". وأمر بهبل، فكسر وهو واقف، وأمر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يصعد إلى صنم خزاعة، وكان منصوباً فوق الكعبة، فصعد، ورمى به، وكسره. وجاء في بعض الكتب المؤلفة في تاريخ (¬1) مكة: أن صورة عيسى وأمه - عليهما السلام - بقيت في الكعبة إلى أن هدمت في عهد ابن الزبير، والعقل يقف دون قبول هذا الخبر، ولا يجد له مساغًا، وكيف يبقي النبي - صلى الله عليه وسلم - صورة عيسى ومريم في الكعبة، وهو الذي ألح في محو صورة إبراهيم -عليه السلام -؟ ثم كيف يبقي هذه الصورة في بيت يستقبله المسلمون في اليوم خمس مرات، وهو الذي يشتد غضبه إذا رأى ستراً قائماً في بيته، وفيه صورة؟ وإذا نظرنا إلى أن عيسى ومريم -عليهما السلام - ممن بالغ بعض ¬

_ (¬1) "تاريخ الأزرقي"، و"تاريخ عمر بن شبه".

الطوائف في تعظيمها إلى حدّ العبادة، ظهر لنا أن بقاء صورتيهما في الكعبة بعيد من سيرة الرسول الذي قطع كل وسيلة إلى عبادة الأوثان. ثم بعث - صلى الله عليه وسلم - إلى الأصنام القائمة في بلاد العرب من يكسرها، ويهدم بيوتها، فبعث خالد بن الوليد إلى هدم العزّى، فهدمها، وقال: يا عزّ كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك وبعث المغيرة بن شعبة إلى اللات، فهدمها، وحرقها بالنار، فقال شداد ابن عارض الجشمي ينهى ثقيفاً عن العود إليها، والغضب لها: لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... وكيف نصركم من ليس ينتصر إن التي حرقت بالنار فاشتعلت ... ولم تقاتل لدى أحجارها هدر إن الرسول متى ينزل بساحتكم ... يضعن وليس بها من أهلها بشر وبعث الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين، فجعل يحثو النار في وجهه، ويحرقه ويقول: يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا إني حثوت النار في أحشائكا وبعث علي بن أبي طالب لهدم فلس، وبعث سعيد بن عبيد الأشهلي لهدم مناة، وبعث عمرو بن العاص لهدم سواع، وبعث جرير بن عبد الله البجلي لهدم ذي الخلصة. ومن الأصنام ما يتلفه أصحابه عندما يدخل الإيمان في قلوبهم، قدم جرير بن عبد الله البجلي المدينة، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حال من وراءه، فقال: قد أظهر الله الإسلام، وهدمت القبائل أصنامها التي كانت تعبد.

وقدم وفد خولان المدينة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما فعل صنم خولان الذي كانوا يعبدونه؟ "، قالوا: بدلنا الله به ما جئت به، إلا أن عجوزاً وشيخاً كبيراً كانا يتمسكان به، وإن قدمنا عليه، هدمناه - إن شاء الله تعالى -، ولما رجعوا إلى قومهم، بادروا إلى هدمه، وهذا الصنم هو الذي يسمى: عميانس. تختلف العقول في التنبه لباطل الأصنام، والمبادرة إلى البراءة منها، فهذا سادن "نُهْم" بلغه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما فعل بالأصنام، فقام إلى ذلك الصنم، فكسره، وقال: ذهبت إلى نهم لأذبح عنده ... عقيرة نسك كالذي كنت أفعل فقلت لنفسي حين راجعت عقلها ... أهذا إله أبكم ليس يعقل ولحق بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ودخل في الإسلام. وذلك عمرو بن الجموح: كان قد اتخذ صنماً من خشب، فلما أسلم فتيان من قومه، أخذوا الصنم، وربطوا به كلبا ميتاً، وألقوه في بئر، فخرج عمرو يبحث عن معبوده، حتى وجده في البئر مقروناً بالكلب، فقال: والله لو كنت إلهاً لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن وأسلم كما أسلم الفتيان. وقد عرفتم كيف كسر إبراهيم - عليه السلام - أصنام قومه، وجعلها جذاذاً؛ ليدلهم على ضعفها، وعجزها عن دفع الأذى والمهانة عن نفسها، فزادهم ذلك طغيانًا، وأسرعوا إلى عقاب إبراهيم، وقالوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68].

وكذلك كان جهاده - صلى الله عليه وسلم - في هدم الأصنام، ومحو أثرها على الفور، ويأبى أن يبقي مظهراً من مظاهر الشرك بين قوم مسلمين، وهم قادرون على تحطيمه. قدم عليه وفد ثقيف، وشرح الله صدورهم للإسلام، ولكن سألوه أن يدع لهم صنم اللات مقدار ثلاث سنين؛ مخافة أن يغضب لهدمه سفهاؤهم وبعض نسائهم، فأبى عليهم ذلك، وأرسل المغيرة بن شعبة لهدمه؛ كما ذكرنا آنفاً. وقال راشد بن عبد الله السلمي يذكر ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه بالأصنام: قالت هلمَّ إلى الحديث فقلت لا ... يأبى الإله عليك والإسلام أو ما رأيت محمداً وقبيله ... بالفتح حين يكسر الأصنام ورأيت نور الله أضحى ساطعاً ... والشرك يغشى وجهه الإظلام طهر محمد - صلى الله عليه وسلم - جزيرة العرب من عبادة الأوثان، وجرى أصحابه - صلى الله عليه وسلم - على هذه الطريقة في كل وطن نسجت فيه عناكب الشرك، فأبادوا الأصنام، وما يشبه الأصنام؛ كمعابد النار، وتفقهوا في الدين، فأخذوا في إبعاد الناس عن عقيدة الشرك بطريق الحزم، وسد الذرائع التي قد تفضي إليه، وشاهد هذا: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بلغه أن قوماً يأتون الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان، فيصلون عندها، فتوعدهم، ثم أمر بقطعها، فقطعت. وإنما قطع عمر هذه الشجرة؛ خشية أن يصير الأمر إلى الجهلة، فيبالغوا في تعظيمها إلى حد الاعتقاد بأنها تنفع أو تضر، خصوصاً أن العهد بعبادة

الأشجار لا يزال قريباً. وختام هذه الكلمة: أن الدعوة إلى التوحيد الخالص أساس كل إصلاح، فمن واجب دعاة الإصلاح أن يجاهدوا في تقويم العقائدث فإن العقائد السليمة مصدر كل خير، والعقائد الزائغة منشا كل فساد. وإذا كان في الأنابيب حيفٌ ... وقع الطيش في صدور الصِّعاد * * *

حياة الدعوة الإسلامية كجزيرة العرب

حياة الدعوة الإِسلامية كجزيرة العرب (¬1) * حكمة ظهورها في العرب: الإِسلام دين عام، لا يختص بأمة دون أخرى، فهو في حاجة إلى دعاة يذهيون به إلى الأمم شرقاً وغرباً، والدعوة إلى الحق والإصلاح تنجح في سرعة، ويعظم أثرها في القلوب، بمقدار ما يكون للداعي من براعة في فنون البيان. ومن المعروف أن العرب قبضوا على زمام البلاغة، وحسن التصرف في القول ما لم تيلغه أمة متن الأمم في عهدهم. وهذه المزية التي عرفت للعرب تستدعي أن يكونوا أول من يظهر الدين العام في ديارهم، حتى يجد رجالاً تحقق قيهم أهم شرط متن شروط القيام بالدعوة الموجهة إلى أمم مختلفة، وطبقات متفاوتة، وهو فصاحة اللسان، وحكمة البيان. ثم إن الإِسلام دين لا يقتصر على مجرد الدعوى والإرشاد، بل يقصد إلى أن تكون أوامره نافذة، وأحكامه بين الأمم جارية، وأن تزاح كل عقبة ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد التاسع الصادر في جمادى الأولى 1356 - يولية 1937.

حياتها بمكة

تقف في سبيل دعوته، وإنفاذ أوامره، فمن مقاصده: إقامة دولة اسلامية تجري في سياستها على شريعته ونظمه. وهذه المزية تستدعي أن يكون أول القائمين بالدعوة إليه، والجهاد في إنقاذ ما جاء من إصلاح، ذوي أخلاق عظيمة، من نحو: الشجاعة، والصبر على المشاق، وقلة التعلق بالترف وزخارف الحياة. وإذانظرنا إلى الأمة العربية من الوجهة النفسية، نجدها امتازت بأخلاق سامية فاقت فيها غيرها من الأمم؛ فقد كان العرب في الشجاعة والاستهانة بالموت في أقصى ذروة. تشهد بهذا أشعارهم في الفخر بالأقدام والبسالة، ثم تاريخهم المملوء بوقائع الحروب، وحديث الأبطال الذين يؤثرون الموت في عزّ على الحياة في هون، ويتصل بالشجاعة: ما كانوا عليه من إباء الضيم، وعزة النفس، ومن يأبى الضيم، ويحمل في نفسه عزة، يقف في الدفاع عما يراه حقاً أو إصلاحا موقف الطود الراسخ، لا يخضع له عنق، ولا يتزلزل له قدم. * حياتها بمكة: عندما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1 - 3]، شمر عن ساق الجد في الدعوة، وأخذ يدعو إلى الحق، وأول من آمن به: خديجة - رضي الله عنها -؛ إذ علمت حين أخبرها بما تلقَّى من ملك الوحي: أن أعماله الصالحة، وخصاله الشريفة، لا يناسبها إلا كرامة الله تعالى، وإتمام النعمة عليه. وفي أول المؤمنين به: علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وزيد ابن حارثة - رضي الله عنهم -، وأخذ الناس بعد هذا يدخلون في الدين واحداً بعد واحد،

وبقي - صلى الله عليه وسلم - نحو ثلاث سنين يدعو خُفية حتى نزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]، فصار يدعو إلى الله في علانية، ونادى قريشاً بعيب آلهتهم، وتسفيه أحلامهم، في عبادة ما لا ينفع ولا يضر، فناصبوه العداوة، وأرادوا به وباتباعه الأذى، وكان لأبي طالب يد في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين، وأما أصحابه، فمن كان له عشيرة، أو دخل في جوار ذي سطوة، هابوا جانبه، ومن لم يجد حامياً، أطلقوا أيديهم في أذيته، ولما اشتد النبلاء على المؤمنين، أذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة إلى الحبشة. وكان لإسلام عمر بن الخطاب أثر كبير في إظهار الدعوة؛ حيث صار المسلمون يصلّون في الحرم، وكانوا إذا أرادوا الصلاة، خرجوا إلى الشعاب حيث لا يراهم المشركون. قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله تعالى بين كفار قريش، وأعظم طرق الدعوة أثرًا: تلاوة القرآن الحكيم؛ إذ نرى كثيراً من المسلمين أعلنوا إسلامهم عقب سماعهم للقرآن؛ كما أسلم عمر بن الخطاب عقب سماعه سورة منه، ويضاف إلى هذا: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحلى به من فصاحة المنطق، وبلاغة القول، واستقامة السيرة، وسماحهَ الأخلاق، وسمو الآداب، من نحو: الصبر، والرفق، وعدم مقابلة السيئة بمثلها. وكان - صلى الله عليه وسلم - مجداً في الدعوة، حىَ إنه ذهب إلى الطائف من أجلها ماشياً، وكان يعرض نفسه على القبائل في كل موسم، ويدعوهم إلى الإِسلام، ويتلو عليهم القرآن، ويكلم كل شريف قوم (¬1). ¬

_ (¬1) ممن ذكرت أسماؤهم من القبائل التي دعاها في المواسم، وعرض عليهم نفسه: بنو عامر بن صعصعة، وفزارة، وغسان، ومرة، وبنو حنيفة، وسليم، وعبس, =

وكان أصحابه - صلى الله عليه وسلم - يؤازرونه في الدعوة، كما دعا أبو بكر الصديق عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، فدخلوا الإِسلام بدعوته، وكان علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق يخرجان معه عندما يخرج إلى دعوة القبائل في المواسم. أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - داعياً إلى الحق بين كفار قريش ثلاث عشرة سنة، وسبب بطء ظهور الإِسلام بمكة بالنسبة إلى ظهوره بالمدينة: أن كفار قريش كانوا يقاومون الدعوة بأشد ما يملكون من القوة، ويصدون عن سبيلها بألسنتهم وأيديهم. فمن مقاومتهم لها: أنهم كانوا يكثرون من التهكم والاستهزاء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كقولهم له عندما يقرأ عليهم القرآن: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5]. وقولهم عندما يرونه: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41]، وكان كبار المستهزئين نفراً من ذوي الوجاهة في قومهم؛ مثل: الأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وفي هؤلاء وأمثالهم نزل قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]. وكانوا يتعرضون له بالشتم والهجاء؛ كقولهم: إنه ساحر، أو مجنون، ويصفون القرآن بأنه أساطير الأولين. ومن مقاومتهم له: أنهم كانوا يتبعون أثره، ويصدون عن قبول دعوته؛ كما كان أبو لهب يتتبعه عندما يقوم بدعوة القبائل في المواسم، ويقول لهم: إن هذا يدعوكم أن تخلعوا اللات والعرى من أعناقكم، إلى ما جاء به ¬

_ = وبنو النضر، وكندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة. ولم يستجب له من هؤلاء أحد، ومنهم من كان يرد عليه أقبح رد.

من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه. ومن مقاومتهم له: تعنتهم في اقتراح المعجزات. قال الله تعالى فيما قصه عنهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 90 - 93] (¬1). ومما قاوموا به الدعوة: تعاقدهم علي بني هاشم، وبني عبد المطلب، وبني عبد مناف: أن لا يبايعوهم، ولا ينكحوهم، ولا يكلِّموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكتبوا بذلك صحيفة علَّقوها في سقف الكعبة، واستمروا على هذه المقاطعة نحو ثلاث سنين، حتى رجع بعضهم عن هذا التعاقد، فعادوا إلى نقضه (¬2). ومن أشد ما قاوموا به الدعوة: بسط أيديهم إلى المستضعفين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسومونهم العذاب، مثل: عمار بن ياسر، وأُمه، وبلال بن رباح، بل وصلت أذيتهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضعوا على ظهره سَلَى جزور (¬3) وهو يصلي عند البيت، حتى جاءت فاطمة - رضي الله عنها -، فطرحته عنه، وبلغ من أذية أهل الطائف له عندما ذهب إلى دعوتهم: أن ¬

_ (¬1) والرسول لا يأتي قومه إلا بما يظهره الله على يده حسبما تقتضيه الحكمة. (¬2) بعد نقض الصحيفة ببضعة أشهر توفي أبو طالب. وتوفيت خديجة - رضي الله عنها - بعده في تلك السنة. (¬3) السلى: جلدة فيها الولد من الناس والمواشي. الجزور: البعير - "القاموس".

حياتها بالمدينة

أغروا به سفهاءهم يسبونه، ويرمونه بالحجارة. وكانوا - مع هذا - يوردون على الرسالة شبهاً؛ كقولهم فيما قصه الله عنهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] (¬1)، وقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] (¬2). وما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلاقي أذاهم بالصبر، ويدفع شبههم بالحجة، ويأتيهم بالآيات البينات، وينبههم إلى ما في القرآن من إعجاز، إلى أن أراد الله تعالى إظهار دينه، وإعلاء كلمته، وإتمام نعمته على رسوله، فهيأ له أمر الهجرة إلى المدينة المنورة. * حياتها بالمدينة: لبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشر سنين، يدعو إلى الإسلام، ويخرج إلى القبائل في المواسم، حتى جاء الموسم الذي أراد الله تعالى أن يكون بدء عهد جديد للدعوة، فخرج -صلوات الله عليه- لدعوة القبائل، شأنه في كل موسم، فلقى ستة من الخزرج، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فأجابوه، وقبلوا ما عرضه عليهم، وانصرفوا إلى قومهم، ودعوا إلى الإسلام، وفي العام القابل وافى منهم اثنا عشر رجلاً، فلقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوه على الإسلام، وبعث معهم مصعب بن عمير، وعمرو بن أم مكتوم، يعلمانهم القرآن، ويفقهانهم في ¬

_ (¬1) رد الله عليهم هذه الشبهة بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20]. (¬2) رد الله عليهم هذه الشبهة بقوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].

الدين، فأسلم على أيديهم خلق كثير. ثم عاد مصعب بن عمير في الموسم بعد إلى مكة في جماعة من المسلمين مع حجاج قومهم أهل الشرك، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين، فلقيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -صلوات الله عليه- بالعقبة، وبايعوه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن يقوموا في الله لا تأخدهم لومة لائم، وعلى أن ينصروه إذا قدم عليهم، ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، ولهم الجنة (¬1)، وتلك بيعة العقبة الثانية. وأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالاً يتبع بعضهم بعضاً، ثم لحق بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أول ما فعله من وسائل النهوض بالدعوة: أن بني المسجد الشريف، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وكتب بينه وبين اليهود كتاب موادعة، ونهى عن إقامة المسلم بين المشركين، وجعلت الهجرة من أرض الشرك إلى المدينة فريضة، فكثر عدد المسلمين، وأصبح للدعوة حماة يقومون على نشرها، ويدافعون كل خصم يقف في سبيلها، وناسب وقتئذ أن يأذن الله لهم بجهاد عدوهم، فنزل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]. ثم نزل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]. استقر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وقام بدعوة اليهود، فأسلم بعض أحبارهم؛ مثل: عبد الله بن سلام، وفريق من غير الأحبار؛ مثل: ثعلبة بن سعية، وأسيد ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" (ج 2 ص 51).

ابن سعية؛ ولقي من غير هؤلاء الذين أسلموا أشد العداوة، والتقلب في التعنت والمكر، فاشتدوا في مجادلته، وهو يرد عليهم بالحجة، والقرآن المجيد يؤيده، كما قالوا له في بعض مجادلاتهم: ألست تزعم أنك تؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق؟ قال: "بلى، ولكنكم أحدثتم، وجحدتم ما فيها مما أخذ الله عليكم من الميثاق، وكتمتم ما أمرتم أن تبينوه للناس، فبرئت من إحداثكم"، قالوا: فإنا نأخذ مما في أيدينا فإنا على الهدى والحق، فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68]. وكانوا يقترحون عليه بعض الآيات تعنتاً؛ كما اقترحوا عليه إنزال كتاب من السماء يقرؤونه، وفي هؤلاء نزل قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153]. وكان بعض أحبارهم يوجهون إليه أسئلة بقصد الإعنات؛ كما سألوه عن الروح، فنزل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. واتخذوا في وسائل مقاومة الدعوة هجاء النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كما صنع كعب ابن الأشرف؛ إذ كان يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويشبب بنساء المسلمين، واتصلوا بكفار قريش وغيرهم يحرضونهم على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من يبذل في ذلك أموالاً؛ كأبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق؛ إذ كان يؤدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعان غطفان وغيرهم من مشركي العرب بالمال الكثير على رسول الله - صلوات الله عليه وسلم -.

ولم يستطيعوا أن يكتموا عداوتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويكفّوا أذاهم عنه، فوقعوا في نقض العهد، والجهر بالسوء من القول، وموالاة المحاربين؛ كما يظهر ذلك بالنظر في أسباب واقعة بني قينقاع، وبني قريظة، وبني النضير. وكان للدعوة في المدينة أثر في فريق من اليهود (¬1) وغيرهم آمنوا بحق، وطائفة من اليهود، ومن الأوس والخزرج أسلموا بظاهرهم، وبقيت قلوبهم على الكفر، وهم المنافقون، وكان في اكتفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء المنافقين بالإِسلام الظاهر، مع معرفته لحال كثير منهم، حكم بالغة، منها: أن اتصالهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وسيلة لاطلاعهم على سيرته وسيرة أصحابه، ومشاهدتهم من آيات الرسالة ما لم يشهده غيرهم من المخالفين، فيكون ذلك من أسباب انتقالهم من النفاق إلى الإيمان، وكذلك يكون حال أبنائهم الذين ينشؤون مع المؤمنين، ويقومون بشعائر الإسلام، ويأخذون بآدابه. ومن حكمة الداعي - صلوات الله عليه - في قبول صنف المنافقين، ومعاملتهم بمقتضى ظاهر حالهم: فتح الطريق لكل من يريد الإسلام، ولو أخرجهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين، أو عاقبهم على ما يعلم من سرهم، لأحجم بعض من تميل نفسه إلى الإسلام مخافة أن يشتبه حاله على المسلمين، ولوجد المخالفون سبيلاً إلى أن يرموا المسلمين بالقسوة، وعدم رعاية العهد، ¬

_ (¬1) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو آمن بي عشرة من اليهود، لآمن بي اليهود" المراد من العشرة: رؤساؤهم؛ مثل: كعب بن الأشرف، ورفاعة بن زيد، وعبد الله بن حنيف. وروى البيهقي: أن يهودياً سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ سورة يوسف، فجاء ومعه نفر من اليهود، فأسلموا.

انتشار الإسلام بالجزيرة

وإن كانوا يعلمون حال أولئك المنافقين. * انتشار الإسلام بالجزيرة: ما زال الناس يدخلون في الإسلام فرادى، أو جماعات قليلة ممن يشهدون مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقوم لهم من محادثاته، أو سماع القرآن آيات على صدق نبوته، إلى أن فتحت مكة، ودانت له قريش، وأسلمت ثقيف، فانتشر الإسلام في بلاد العرب انتشارًا شاملًا سريعاً، فأقبلت وفود العرب تضرب إلى رسول الله - صلوات الله عليه - من كل ناحية، وذلك ما أشار إليه القرآن المجيد بقوله تعالى في سورة النصر: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2]. أقبلت الوفود، فمنهم من يفدون وهم مسلمون؛ كوفد مراد، ووفد بني عبس، ووفد صداء، ووفد محارب، ووفد خولان، ووفد بني أسد، ووفد فزارة، ووفد نجيب، ووفد بني سعد، ووفد كندة، ومنهم من يدخلون في الإسلام عند ملاقاتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ كوفد عبد القيس، ووفد بني حنيفة، ووفد طي، ووفد بني زبيد، ووفد الأزد. وكان لإسلام رؤساء هذه القبائل أثر كبير في إسلام من عداهم من العامة، ففي السيرة: أن ضمام بن ثعلبة قدم موفدًا من بني سعد بن بكر، فأسلم، وعاد إلى قومه، ودعاهم إلى الإسلام، فما بقي في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امراة إلا مسلماً. كان هؤلاء الوفود يدينون بالإسلام، ويعودون إلى قومهم، وهم من أشد الدعاة إليه. ومن وسائل انتشار الدعوة: أولئك الرجال الذين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يبعثهم إلى القبائل للدعوة إلى الدين الحق؛ مثل: خالد بن الوليد، وممن أسلم على يده: بنو الحارث بن كعب، ومثل علي بن أبي طالب، وممن أسلم على يده: همدان. وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتباً مع رسل إلى ملوك العرب، فبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعبد الله ملكي عمان؛ وبعث سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي ملك اليمامة، والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، والمهاجر بن أمية إلى الحارث بن عبد كلال ملك اليمن، وشجاع بن وهب إلى الحارث بن شمر الغساني ملك تخوم الشام، وأسلم من هؤلاء في ذلك العهد ملك البحرين، وملك عمان. انتشر الإسلام في الجزيرة، فلم ينتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن دخل عبدة الأوثان من العرب في الإسلام، وأقر اليهود والنصارى والمجوس حين رضوا بإعطاء الجزية. انتشر الإسلام في الجزيرة، وظهر على الأديان كلها، ولكنه لم يكن قد دخل في قلوب كل من قالوا: إنَّا مسلمون، بل منهم من دخلوا في الإسلام لباعث غير الإيمان، فلما ذاع نبأ وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أنحاء الجزيرة العربية، رفع المضللون رؤوسهم، ونشطوا لإلقاء الوساوس في قلوب السذج من الإعراب، وأخذ الذين دخلوا في الإسلام بدائع غير الإيمان يعودون إلى جاهليتهم، وأصبح العرب ثلاث طوائف: طائفة استمرت على إسلامها الخالص، وهم الجمهور. وطائفة بقيت على إسلامها كذلك، إلا أنها جحدت الزكاة على زعم أنها خاصة بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهؤلاء كثير، ولكنهم أقل من الطائفة الأولى عددًا. وثالثة الطوائف خرجت عن الإسلام، وجاهرت بالردة، وهي قليلة

بالنسبة إلى جاحدي الزكاة. وقد قام أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بقتال المرتدين وجاحدي فريضة الزكاة، فلم يحل الحول إلا والجميع قد راجعوا دين الإسلام، وامتدت ظلال الأمن والهداية في اليمين والشمال.

قضاء البعثة المحمدية على المزاعم الباطلة

قضاء البعثة المحمدية على المزاعم الباطلة (¬1) بُعث الرسول الأعظم - صلوات الله عليه - بالدعوة إلى الإصلاح الذي تصل به الأفراد والأمم إلى الحياة الطيبة في الدنيا، والسعادة العظمى في الأخرى، ونواحي هذا الإصلاح ترجع إلى العقائد والأخلاق، والعبادات المقربة إلى الله - جلّ جلاله -، والمعاملات الجارية بين الناس. وهناك ناحية أخرى هي: تنقية النفوس من المزاعم الباطلة، والتعلق بالعادات المستهجنة، قد اتجهت إليها دعوة الرسول الذي نحتفل بذكرى ميلاده في هذه الليلة المباركة، وهذه الناحية هي التي نقصد أن نلقي فيها كلمتنا الموجزة: بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجد العرب في ظلمات من الجهالة، ومن هذه الظلمات: ظلمة التخيلات الزرية، والعادات الممقوتة، فأقبل ينبه على بطلان هذه التخيلات، وقبح ما ابتني عليها من العادات، حتى نبذها المسلمون بحق، وبمثل هذا كانوا خير أمة أخرجت للناس. وبسط الحديث عن هذه المزاعم والعادات يستدعي مقاماً أوسع من ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" -الجزء العاشر من المجلد العاشر الصادر في ربيع الثاني 1357 - 1938. محاضرة الإمام في احتفال جمعية "الهداية الإسلامية" بذكرى المولد النبوي المجيد في مساء يوم الخميس الثاني عشر من ربيع الأول 1357.

هذا المقام، فنكتفي بأن نسوق إلى حضراتكم طائفة منها على سبيل التمثيل، وندع استيفاء البحث عنها إلى فرصة أخرى. وإذا تحدثت في هذه الكلمة عن العرب، فلأنهم أول أمة تلقت هذه الدعوة الإصلاحية الشاملة، ووقعت منها موقع الدواء الناجع من العلل المزمنة. ومن حديثي عن العرب، يعرف أثر دعوته -عليه الصلاة والسلام - في تخليص سائر البشر من التخيلات الضارة، والسمو بها إلى المنزلة العليا في البحث والتفكير؛ فإن الأمم غير العربية لم تكن في تعلقها بالأوهام وانحطاطها في العادات بأقل ولا أحقر من الأمة العربية قبل الإسلام، كما أنها كانت تضاهيها في بطلان عقائدها، واعوجاج سيرتها. ولعلك لا تجد زعماً باطلاً في العرب إلا وجدته بنفسه، أو وجدت ما يضاهيه في غير العرب، وإذا حط الشرك والاعتقاد بإلهية المخلوق رحاله في قوم، فهنالك ترى البصائر في ظلمة، وهنالك يبيض التخيل ويفرخ، وهنالك تسمع وترى من الأباطيل والخرافات ما يدلك على أن أشخاصاً أو جماعات يعدون في الناس، وهم لا يشبهون الناس إلا بأن أصواتهم تشتمل على حروف متمايزة. كان العرب يتشاءمون بكثير من الأشياء؛ نحو: الغراب، والبومة، أو مرور الطير من ناحية الشمال، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التشاؤم بإطلاق، فقال: "لا طيرة"، ونبه على أن وجوه الخير والشر إنما تعرف من طريق الشرع أو العقل. ومن سوء عواقب التشاؤم بهذه المخلوقات أنها قد تصد الرجل عن وجهة لو مضى فيها، لنال خيراً كثيراً أو قليلاً.

ومن المحزن أن ينهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن التشاؤم، ويزيحه من طريق العاملين المجدين، ويضع عقيدة التوكل على الخالق مكانه، ثم لا يلبث وباؤه الخبيث أن يعود، ويتفشى في نفوس كثير من جماعات المسلمين، فهذا يتشاءم بمن يعوده وهو مريض في يوم الأربعاء، وذاك يتشاءم بتناول سكتتين أو مقراض من يد صديق له، بل لا يزال كثير من الناس يتشاءمون بما كان الجاهلية يتشاءمون به من نحو: رؤية البوم والغراب. والبصائر المشرقة بنور الحكمة لا يحوم عليها التطير في حال. وكان العرب في جاهليتهم يستقسمون بالأزلام؛ ذلك أنهم كانوا يتخذون ثلاثة أقداح يكتبون على واحد منها: (افعل)، وعلى الثاني: (لا تفعل)، ويتركون الثالث غُفلًا، فإذا أراد أحدهم أمرًا يهمه؛ من نحو سفر، أو نكاح، أو تجارة، أجال هذه الأقداح، فإن خرج له قدح الأمر، فعل، وإن خرج له قدح النهي، ترك، وإن خرج له القدح الغفل، أجال الأقداح مرة ثانية. ومن أثر هذا التخيل الفاسد: أن الرجل قد يترك العمل وفيه خير كثير، أو يقدم على عمل وفيه شر عظيم. وكان هذا التخيل مما تناولته الدعوة المحمدية، وجاء النهي عنه في القرآن المجيد، ووضعت السنة الغراء مكانه الاستخارة الشرعية والاستشارة. وإبطال الشريعة للأزلام يجري حكمه في كل ما يتخذ وسيلة للاطلاع على عواقب الأمور من غير طرقه الشرعية أو العلمية؛ مثل: الاستخارة بالمصحف، أو السبحة، ونحوها، فكل هذا ما عدا الاستخارة الشرعية بدعة لا يجوز التعلق بها. وكان للعرب غلو في الاعتقاد بتصرف الجن في نفع الناس وضرهم،

وتعرضهم في الفلوات لمن يمر بها، ومن هنا جاء اسم الغول والسعلاة، وذهب بهم هذا الغلو إلى مزاعم باطلة، وعادات منبوذة؛ كزعمهم في بعض الحيوان أنها نوع من الجن، أو من مراكب الجن، مثل: القنفذ، والأرنب، والظبي، والنعام، وزعموا أن الجن قالوا في أشعارهم: وكل المطايا قد ركبن فلم نجد ... ألذ وأشهى من ركوب الأرانب وللعرب في الجاهلية رقية يعالجون بها من اعتقدوا أن به مساً من الجن، تسمى: "النشرة"، وقد سئل عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "هي من عمل الشيطان". وكذلك ترى القرآن والسنة يحاربان إسراف العرب في الاعتقاد بالجن، وينبهان على ما نشأ عن هذا الإسراف من المزاعم الباطلة؛ كما قال تعالى في نفي أن يكون الجن يعلمون الغيب: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14]. وقال - صلى الله عليه وسلم - في إبطال ما يتخيلونه من الغول: "لا صفر، ولا غول". ومما يؤسف له أشد الأسف: أن تعود الجماعات غير المهذبة إلى الاكثار من الحديث عن تصرفات الجن، ويتخذوا لمعالجتها أمثال ما كان في عهد الجاهلية؛ كهذا الصنيع الذي يسمونه: "الزّار". وما كنا لنجد سلفنا الذين تهذبت نفوسهم ببعثة الرسول الأكرم - صلوات الله عليه - ما نجده في أزمنة متأخرة من المزاعم المتعلقة بالجن؛ كزعم اتخاذ زوجات منهم، أو رواية أحاديث نبوية عن بعضهم. ومن مزاعمهم الفاسدة: أنهم كانوا إذا أجدبوا، وحبس عنهم المطر، عمدوا إلى نوعين من الشجر يقال لهما: السلع والعشر، فحزموهما، وعقدوهما في أذناب البقر، وأضرموا فيها النار، وأصعدوها في جبل وعر يستشفعون

بها، وإلى هذا يشير الشاعر بقوله: أجاعل أنت بيقوراً مسلعة ... دريعة لك بين الله والمطر وقد أبطلت الدعوة المحمدية هذه العادة المنكرة، ووضعت مكانها صلاة الاستسقاء التي هي عبادة لله خالصة. ومن البلاء: أن ترى أقواماً من العامة في بعض البلاد يتخذون للاستسقاء وسائل تشبه ما يفعله الجاهلية؛ كالخروج ببعض الأناشيد وآلات الطرب، ونحو ذلك من البدع التي لم يضعها الشارع الحكيم وسائل للاستقاء. ولنسق إلى حضراتكم مثلاً آخر من المزاعم التي حاربها الرسول - عليه الصلاة والسلام -، هو: اعتقادهم بنفع خرزات أو أحجار أو أعضاء بعض الحيوان، فكانوا يعلقونها على أنفسهم لأغراض مختلفة؛ مثل: اجتلاب المحبة، أو المنع من الحمل، أو السلو عن الحب، أو الحفظ من مس الجن. وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تعليق ما يماثل هذا من التمائم، فقال: "من يعلق تميمة، فلا أتم الله له"، وامتنع - عليه الصلاة والسلام - من مبايعة شخص كانت عليه تميمة، فأدخل الرجل يده فقطعها، فبايعه عند ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "من علق تميمة، فقد أشرك"، وقال: "من علق شيئاً، وكل إليه". وهذه الأحاديث - وإن وردت في تمائم الجاهلية -، فإن السلف الصالح لم يعرفوا بتعليق التمائم، وإنما كانوا يستشفون بالقرآن الكريم على وجه الرقية كما ثبت في السنة. وإذا نظرتم إلى هذه المزاعم والعادات التي أبطلتها الدعوة المحمدية، وجدتم بعضها أثراً من آثار عقيدة الشرك، وبعضها إنما هو أثر الجهل

وضعف الفكر. فمن مزاعمهم التي هي وليدة الشرك: أخذ الغلام لسنه إذا سقطت، ورميها في وجه الشمس عندما تطلع، وقوله: يا شمس! أبدلينا سناً أحسن منها. وهذا أثر من آثار الاعتقاد بإلهية الشمس. ومن المحزن أنا نرى هذه العادة الوثنية بعد أن طردها التوحيد، ونفاها من الأرض، ترجع وتنتشر بين الجماعات الجاهلة ككثير من مزاعم الجاهلية وعاداتهم. ومن المزاعم الناشئة عن الجهل وضعف الفكر: أن الواحد منهم إذا أراد السفر، عقد خيطًا بشجرة على اعتقاد أنه متى أحدثت امرأته بعده أمرًا منكرًا، انحل ذلك الخيط. وفي هذا الزعم الساقط ضرر كبير على صلة الزوجية، وعلى عرض المرأة؛ فإن الخيوط التي تعقد في الأشجار، معرضة للحل أو الانحلال في كل وقت. فالحق أن من وقف على هذه الأوهام والخرافات التي كان العرب وغير العرب منغمسين في أرجاسها، ازداد علماً بعظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفضل بعثته في إصلاح العقول، وتهيئة الأفكار للبحث في العلوم، والسير بها إلى غايات سامية.

البلاغة النبوية

البلاغة النبوية (¬1) يقصد كل خطيب أو شاعر ناحية من نواحي كمال الرسول الأعظم - صلوات الله عليه -، فيصفها، ويذكِّر الناس بها؛ ليزدادوا إيمانًا بأنه - عليه الصلاة والسلام - قد بلغ الغاية التي لا تدرك إلا بعناية إلهية خاصة، وليتخذها طلاب السيادة في الدنيا، والسعادة في الآخرة، المثل الأعلى يتأسون به، ويسيرون في ضوئه. ومن أعظم ما يبهر العقول من خصال كماله - صلى الله عليه وسلم -: خصلة فصاحته وبلاغته. لا يدعو رسول الله إلا إلى حق، ولا ينطق إلا بحكمة، وأعطي مع هذه العصمة أسمى ما يمكن أن يصل إليه البشر من فصاحة وحسن بيان؛ فإن الحكمة التي تلقى في أسلوب بليغ، تنفذ إلى القلوب قبل أن تنفذ إليها الحكمة التي تلقى في عبارة غير بليغة، وإن الحق ليعتمد على الحجة، ولكن حسن البيان يسعد الحجة في جعل الحق أقرب إلى النفوس، وأنفذ في القلوب، وقد طلب موسى - عليه السلام - من الله تعالى أن يرسل معه ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء العاشر من المجلد الحادي عشر الصادر في ربيع الثاني سنة 1358 - مايو 1939. محاضرة الإمام في احتفال جمعية الهداية الإسلامية بذكرى المولد النبوي الشريف.

أخاه هارون؛ ليشد أزره بفصاحة لسانه، وحسن بيانه، فقال: وأرسل معي أخي هارون {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص: 34]. لفصاحة رسول الله وحسن بيانه بعد الفيض الإلهي أسباب، منها: أنه قرشي، وقريش أفصح العرب لساناً، وأبرعها بيانًا، وأنه نشأ في بني سعد؛ حيث استرضع فيهم، وبنو سعد من أرقى قبائل العرب فصاحة، وبذلك جمع الرسول الأكرم بين جزالة كلام البادية، ورونق كلام الحاضرة. ولنزول القرآن الكريم عليه، وهو البالغ مرتبة الإعجاز، أثر كبير في سمو فصاحته، رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحابة في يوم دجن، فقال لمن كان في الحضرة: "كيف ترون بواسقها؟ " (¬1)، قالوا: ما أحسنها وأشد تراكمها! قال: "كيف ترون قواعدها؟ " (¬2)، قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها! قال: "كيف ترون رحاها؟ " (¬3)، قالوا: ما أحسنها وأشد استدارتها! قال: "كيف ترون جونها؟ " (¬4)، قالوا: ما أحسنه وأشد سواده! قال: "كيف ترون بريقها، أخفياً أو وميضاً، أم يشق شقًا؟ "، قالوا: بل يشق شقاً، فقال: "الحيا" (¬5). فقال رجل: يا رسول الله! ما أفصحك! ما رأينا الذي هو أعرب منك، قال: "حق لي؛ فإنما أُنزل القرآن على بلسان عربي مبين". ولسعة العلم بلهجات العرب دخل كبير في إحراز المرتبة العليا في ¬

_ (¬1) بواسقها: ما استطال من فروعها. (¬2) ما اعترض من السحاب وسفل. (¬3) رحاها: وسطها. (¬4) الجون: الأسود. (¬5) الحيا: المطر.

الفصاحة، وقد أطلع الله الرسول الأكمل على لهجات العرب، فكانت موضوعة أمامه يتناول منها ما يشاء، ومن الوارد في كتب الحديث والسيرة بروايات ثابتة متعددة: أنه كان يخاطب الوفود، ويراسل القبائل بلهجاتهم، حتى كان بعض الصحابة يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه، وتفسير قوله (¬1). وقد جمع الرواة من هذا الباب شواهد كثيرة. ومن ينظر فيما روي عنه من الخطب والرسائل والمحاورات والفتاوى، وما يلقيه في أثنائها من الحكم، وما يورده فيها من الأمثال والاستعارات، يرى في ذلك من وجوه البلاغة وحسن البيان ما لم يره، ولن يرأه قد تأتى لأحد البلغاء من غيره. ووصف الجاحظ فصاحة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلاغته في فصل ممتع، ثم قال: "ولعل بعض من يتسع في العلم، ولم يعرف مقادير الكلام، يظن أنا تكلفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلغه قدره، كلا، والذي حرم التزيد على العلماء، وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء! لا يظن هذا إلا من ضل سعيه، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم". والحق أن فصاحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروعة بيانه لا يدركها إلا من تردد بنظره على الحديث الشريف، ودخل في كل باب من أبوابه؛ إذ يرى الكلام الذي يصدر عفوًا دون أن يكون للتصنع فيه أثر، ويمر فيما يقرأ على جمل تهتز لروعتها القلوب، ومن لم يسعده الحال أن يطالع كتب الحديث، فلينظر في كتب غريب الحديث، فإنه يطلع في أقرب وقت على جانب عظيم من ¬

_ (¬1) "الشفاء" للقاضي عياض.

الألفاظ النبوية البالغة منتهى الفصاحة وحكمة الأسلوب. وفي الناس من تسمو حكمته في بعض نواحي الحياة، وتقتصر في بعض، أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيلقي الحكمة في النواحي المختلفة من شؤون الحياة الفردية أو الاجتماعية، فترد في أعلى طبقة من سمو اللفظ وحسن التصوير، فهو الذي يتكلم في الحقوق مثلاً، فيقول: "ولا يجني على المرء إلا يده". ويتكلم في سياسة الحرب، فيقول: "الحرب خدعة". ويحذر من الخروج عن جماعة المسلمين فيقول: "من خالف الجماعة، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه". ومن الظلم فيقول: "الظلم ظلمات يوم القيامة". ويشير إلى أن شأن المؤمن أن يكون نبيهاً حازماً، فيقول: "لا يلدغ المؤمن من جُحر مرتين". لبلاغته - صلى الله عليه وسلم - مظاهر شتى، ومن أوضح مظاهرها: الأمثال التي يضربها لإخراج المعاني في صورة المحسوسات، أو إخراج المحسوسات الخفية في صورة المحسوسات الجلية. انظروا إلى قوله في موقع بعثته من بعثات الأنبياء قبله: "إنما مثلي ومثل الأنبياء قبلي مثل رجل بني داراً، فأكملها وأحسنها إلا موضعَ لبنة، فجعل الناس يدخلونها، ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع تلك اللبنة، فكنت أنا موضع تلك اللبنة". وإلى قوله في محو الصلوات للآثام: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم، يغتسل منه خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ ". وإلى قوله فيما ينبغي أن يكون عليه المسلمون من الإخاء والتراحم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى عضو منه، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

وهكذا نرى في تشابيهه واستعاراته سهولة مأخذ، وبعداً عن التصنع، وإبداعاً في إعطاء المعنى صورة تجعله أوضح ما تكون، أو تزيد النفوس ترغيباً فيه، أو تنفيرًا منه، فانظروا إلى قوله يصف الشريعة الغراء: "قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك". وقوله يدل على شدة عزمه وثباته على الدعوة: "والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر، ما تركته". وفي الناس من إذا خطب في الجمهور، رأيته في درجة عالية من حسن البيان، فإن عرض له حديث مع بعض الأفراد، أو حديث في معان قريبة التناول، رأيته قد انحط إلى درجة دون الدرجة الأولى، أما حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الأفراد، أو في المعاني السهلة الفهم، فإنه لا ينزل عن مرتبة بلاغته العليا. يقول - صلى الله عليه وسلم - في بعض خطبه: "من كان همه الآخرة، جمع الله شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كان همه الدنيا، فرق الله أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له". وهذا طرز فصاحته في المعاني التي تجري على الألسنة كثيراً؛ كقوله في الاستعداد للسفر: "إني على جناح سفر"، وقوله في معنى الموت على الفراش: "من مات حتف أنفه (¬1) في سبيل الله، فهو شهيد"، وهذه الكلمة من الكلمات التي لم تعرف في حديث قبل حديث رسول الله (¬2)، وقد عقد ¬

_ (¬1) أي: مات على فراشه من غير قتل ولا غرق ولا حرق. (¬2) البيت المعروف: وما مات منا سيد في فراشه ... ولا طُلَّ منا حيث كان قتيل =

ابن دريد في كتاب "المجتبى" باباً للألفاظ التي سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم تسمع من أحد قبله. وبالنظر في أحاديثه - عليه الصلاة والسلام - تجده ينحو في كلامه وخطبه ومراسلاته نحو الإيجاز، فهو الغالب في أقواله، وربما خطب فأطنب. قال أبو سعيد الخدري: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر خطبة قال فيها: "ألا إن الدنيا خضرة حلوة، ألا وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون" قال: ولم يزل يخطب حتى لم يبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف (¬1). ومن متعمات الفصاحة: أن لا يعجل الرجل بالكلام، بل يلقي الكلمات مفصلة حتى تقع في الذهن كأنها عقد جيد تنسيقه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يلقي الكلام مفصلاً، قالت عائشة - رضي الله عنها -: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسرد سردكم هذا، ولكن كان إذا تكلم بكلام، بيَّنه، فيحفظه من يجلس إليه. وقالت أم معبد تصف حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حلو المنطق؛ كأن منطقه خرزات نُظِمن. سمت بلاغة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الذروة، ولكنها لم تبلغ حد الإعجاز الذي هو خاص بالقرآن المجيد، والفرق بين بلاغة الحديث وبلاغة القرآن لا يخفى على ذوي الفطر السليمة، لا سيما الذين دربوا فنون البلاغة، ¬

_ = وقد روي: "وما مات منا سيد حتف أنفه". وإنما تصح هذه الرواية إذا قلنا: إن القصيدة لعبد الملك بن عبد الرحمن الحارثي، وهو شاعر إسلامي، لا للسموأل الذي هو شاعر جاهلي. (¬1) السعف: جمع سَعَفة - بفتحتين -، وهو غصون النخل.

وقلبوا أنظارهم في أساليبها المختلفة، وعرفوا كيف يضعون كل كلام بليغ في مرتبته. وهذا التفاوت الواضح بين القرآن والحديث من أصدق الشواهد على أن القرآن الكريم كتاب نزل من السماء، لا أنه من صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يزعم من يجحدون بآيات الله. وقد أجاز كثير من المحدثين رواية الحديث النبوي بالمعنى، ولو التزم جميع الرواة نقل الأحاديث باللفظ كما نطق بها - صلى الله عليه وسلم -، لعرفنا من فصاحته، وبراعة بيانه أكثر مما عرفنا. وهذه الخصلة من خصال كماله - صلى الله عليه وسلم -، وهي الفصاحة، وحسن البيان، تدخل فيما يطلب الاقتداء به فيها؛ فإن دراسة علوم البلاغة، ومطالعة منشآت البلغاء، والتمرين على الخطابة والتحري، كل ذلك مما ينهض بالناشئين إلى أن يكونوا فصحاء بلغاء، حتى إذا تصدوا لبيان حق، أو دعوة إلى خير، استطاعوا أن يسترعوا الأسماع، ويأخذوا بالقلوب.

الاحتفال بذكرى الهجرة النبوية

الاحتفال بذكرى الهجرة النبوية (¬1) أيها السادة! نحتفل الليلة بذكرى قصة خطيرة، كان لها أثر عظيم في إصلاح العالم، وإخراجه من ظلمات الجهالة إلى نور العلم، ومن الهمجية القاتمة إلى المدنية الزاهرة، وهذه القصة هي هجرة الرسول الأعظم - صلوات الله عليه - من مكة المكرمة إلى طيبة الغراء. بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين مشركي قريش، وقد ملئت صدورهم غواية، ولبسوا من تقليد آبائهم الضالين سرابيل غليظة خشنة، فقام يدعو إلى نبذ عبادة الأوثان، والعود إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي التوحيد الخالص، ويهديهم سبيل العمل الصالح. فقاموا في وجه هذه الدعوة الصادقة يصدون عن سبيلها، ويبالغون في إيذاء من يتقبلها، فكانت مناوأتهم لها، وبذل الجهد في صرف الناس عن قبولها، من أسباب قلة انتشار الإسلام وظهوره أيام مقامه - صلى الله عليه وسلم - بأرض مكة، والآذان التي تألف دعوة الحق لأول ما تطرقها، أو الفطر السليمة التي تعرف من لهجة صاحبها أنه محق، ليس بكثير. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثامن من المجلد الثاني عشر الصادر في شهر صفر 1359 - مارس 1940.

وما زال المشركون يحاولون أن يطفئوا نور هذه الدعوة النبوية، ويبسطون ألسنتهم وأيديهم في إيذاء معتنقها، أو المتقبل لها، حتى وفق الله تعالى وفوداً من الأوس والخزرج لقبولها، ومبايعة النبي - عليه الصلاة والسلام - على أن يكونوا أنصاره إلى الله، وعند هذا أذن الله لنبيه الكريم وأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة. لم يرض النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهاجر قبل أصحابه، ويدعهم يقاسون عذاب المشركين ألواناً، بل أمرهم بالهجرة قبله، فهاجروا فرادى وأرسالًا، ونبهت لهجرتهم المشركون لما ينويه النبي الأعظم من التحول إلى المدينة، وخافوا أن يعظم هنالك أمره، وتسري دعوته في القبائل، ويقضي على وثنيتهم، فائتمر المشركون به ذلك الائتمار المشار إليه بقوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، واستقر رأيهم على قتله، فما كان إلا أن تخلص - عليه الصلاة والسلام - من مكة مهاجراً، ودخل المدينة آمناً. ويين خروجه من مكة، ودخوله المدينة، فروق واضحة: خرج - عليه الصلاة والسلام - من مكة في سواد الليل مختفياً، ودخل المدينة في بياض النهار متجلياً، وخرج من مكة وأهلها يحملون له العدواة والبغضاء، ودخل المدينة وقد استقبله المهاجرون والأنصار بقلوب ملئت سروراً بمقدمه، وابتهاجًا بلقائه، وخرج من مكة ومَنْ حوله يفكرون كيف يصلون إلى قتله، والقضاء على دعوته، ودخل المدينة ومَنْ حوله يتنافسون في الاحتفاء به، والقرب من مجلسه، وقد هيؤوا أنفسهم لفدائه بكل ما يعز عليهم. أما فضل هذه الهجرة المباركة، فإنها آتت ثمراً طيباً، وأفاضت على

العالم خيرات تنفد الأيام ولا ينفد الحديث عنها. فالهجرة هيأت للإسلام أن تكون له حكومة ذات سلطان غالب، وكلمة فوق كل كلمة. والهجرة مكنت الحكومة الإسلامية أن تقضي بشرع الله الحكيم، ويالسلطان الغالب يقهر الأعداء، ويالشرع الحكيم يعيش الناس في أمن وسعادة، وكذلك كان شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة؛ فقد كان من القوة وتأييد الله تعالى له أن أصبحت الجزيرة العربية في بضع سنين طوع يمينه، وموضع نفاذ أمره، وأصبحت الأمة بما شرعه الله من أحكام المعاملات والجنايات، وبما أنار به النفوس من الحكم السامية، تتمتع بسياسة عادلة، وحياة زاهرة. وإذا شئتم مثلاً واضحاً لما جاءت به الهجرة من الخير العظيم، فانظروا كيف خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة مهاجرًا، وكيف دخلها فاتحًا، فما ذلك الفتح المبين إلا وليد الهجرة التي نحتفل بذكراها هذه الليلة، وبفتح مكة انكسرت شوكة خصوم الإسلام في الجزيرة، وأقبل العرب على الدخول في الدين أفواجًا، حتى تألفت أمة مسلمة رفعت راية سيادة في أقصى الشرق، وأخرى في أقصى الغرب. وانظروا إلى القرآن المجيد إذ أشار إلى ما أنعم الله به على نبيه الكريم من النصر والتأييد، تجدوه ابتدأ بنصره وقت الهجرة، وعطف على ذلك ما اتصل بالهجرة من ظهوره على أعدائه، وبلوغ رسالته غايتها؛ من اعتلاء ذكر الحق، وانحطاط الباطل، فقال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ

تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40]. وما أصدق نظرَ عمر بن الخطاب إذ جعل سنة الهجرة مبدأ التاريخ في الإسلام، وقال: "الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها". فإذا احتفلنا بذكرى الهجرة النبوية المباركة، فإنما نحتفل بذكرى الأساس الذي قامت عليه عزّة الإسلام وسيادته، بل نحتفل بذكرى اليوم الذي خرج فيه كوكب الإصلاح من سراره، وألقى أشعته على العالم شرقاً وغرباً، والسلام عليكم ورحمة الله.

لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة

لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (¬1) هذه الآية الكريمة من جوامع الكلم التي تحمل تحت ألفاظها القليلة معاني جميلة غزيرة؛ فقد أرشدت إلى الاقتداء برسول الله - صلوات الله وسلامه عليه -، وأومات إلى أنه أقوم الخليفة منهجاً، وأشرفهم حالاً، وأطيبهم كلماً، وأفضلهم أعمالاً. وإذا نظرنا إلى ما كان عليه من صفات الشرف وأفعال الحمد، وجدناها على قسمين: قسم لا يدخل في الأمر بالاقتداء به فيه، إما لكونه غير داخل في اختيار الإنسان، وإنما هو موهبة من الخالق -جلَّ شأنه-؛ كجمال طلعته، وشرف نسبه، ويراعة بيانه، وإما لكونه معدوداً في خصائصه؛ كجمعه بين تسع زوجات، وإما لكونه عائداً إلى أمر الجبلَّة أو العادة، ولم يظهر فيه معنى التشريع؛ نحو: جلوسه، أو وقوفه في بعض الأمكنة، وتناوله لبعض المطعومات، وامتناعه من تناول بعضها؛ كما امتنع من أكل الضب، وقال: "ليس بحرام، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه". ففعْله - عليه الصلاة والسلام - لما كان من هذا القبيل - وإن دل على الإباحة - لا يدخل فيما يطلب التأسي فيه، ولا يتناوله قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثالث عشر. الصادر في رجب 1359 هـ أغسطس 1940 م.

رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].فالمقصود في الآية: التأسي به - صلى الله عليه وسلم - في الأحوال والأفعال الاختيارية غير الجبلية والعادية، وغير ما قام الدليل الواضح على أنه من خصائصه. نتأسى به - عليه الصلاة والسلام - فيما كان يتقرب به إلى الخالق من العبادات، وهذا يقتضي البحث عن العبادات التي كان يؤديها تقرباً إلى الخالق تعالى؛ مثل: الصلوات، والصيام، والحج، والأذكار؛ حتى نتبين كيفيتها، وأوقاتها، ومبلغ اجتهاده في القيام بها، وبهذا يسلم الرجل من أن ينحدر في البدع، أو يضع العبادة في غير وقتها، أو يقع في حرج التنطع (¬1) في الدين. فالبدع إنما دخلت في الدين على أيدي قوم لم يدرسوا سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - دراسة تكسبهم تمييز فاسد العبادات من صحيحها. ويتأسى به - صلوات الله وسلامه عليه - في احتماله لما كان يصيبه من صروف الأقدار، وتلقيه لها بصبر تتزلزل الجبال الرواسي ولا يتزلزل، وقد اقتدى به المستقيمون من المؤمنين في هذا الخلق العظيم، فيتلقون الخطوب من نحو: فَقْد المال، أو موت الولد بمتانة عزم، ورسوخ في الصبر، وقد عرفت أستاذاً في تونس يقال له: الشيخ محمد بن عيسى، توفي له ولده الوحيد البالغ سن العشرين، فتركه مسجًّى في المنزل، وجاء على عادته لإقراء درس في الأصول بين المغرب والعشاء (¬2)، وبعد أن أتم الدرس، قال للطلاب: إن أخاكم فلاناً قد توفي، وغداً صباحاً تشيع جنازته. ¬

_ (¬1) التشدد. (¬2) في جامع الزيتونة.

ويتأسى به - عليه الصلاة والسلام - في احتماله لما كان يلاقيه في سبيل الدعوة إلى الحق من العناء والمكاره؛ كما لاقى من المشركين في مكة أذى كثيراً، ولم يفلَّ ذلك من عزمه فتيلًا. وانظر ماذا ناله في واقعة أحد؛ من شج وجهه، وكسر رباعيته، وجرح شفته السفلى، حتى صلّى الظهر من الجراح التي أصابته قاعداً، ومن الغد نادى بطلب العدو، وقال: "لا يخرج معنا إلا أحد حضر بالأمس". ودرسُ هذه الناحية من سيرته السنية، يرفع همم علماء الدين ودعاة الإصلاح عن التملق لأولي الأمر، ومجاراة أهوائهم الجامحة عن قصد السبيل؛ إذ يجعل رضا الله، وظهور الحق والفضيلة، هما الغاية التي يعملون لها في حياتهم، فلا ييالون سوء العذاب، أو العزل من المناصب الذي ينذرهم به المستبدون الظالمون. غضب أحد أمراء تونس على أحد علمائها، فقال له: عزلتك من الإمامة والفتوى والتدريس، فقال له العالم: بقيت لي وظيفة لا تستطيع أن تعزلني منها أنت ولا غيرك، هي مكانتي العلمية، وهذه المكانة أعزّ لدي من كل وظيفة. وظهر لرئيس محكمة أهلية في عهد وزارة (نوبار باشا) الأرمني كشفُ وجه امرأة من المخدَّرات، فامتنعت عن الإسفار؛ محتجة بعدم إباحته في الشريعة الغراء، واستفتى الشيخ محمد العباسي المهدي شيخ الأزهر والمفتي الأكبر لذلك العهد، فأفتى بعدم الجواز، وشدد في المسألة، فسعى (نوبار باشا) في عزل الشيخ المهدي قائلاً: إن الشيخ أصبح عقبة أمام القضاة معارضاً لأحكام القضاء، ولما فهم الشيخ المهدي أن مساعي (نوبار باشا) قد أصبح لها أثر، استقال من مشيخة الأزهر والفتوى في مجلس واحد

غير آسف عليهما (¬1). ويتأسى به - عليه الصلاة والسلام - في صلته بالأفراد والجماعات، ومعاملته لهم؛ من نحو: الرفق بهم، والإحسان إليهم، ودعوتهم إلى الحق، وإرشادهم إلى وجوه الخير، وسبل السعادة، ومعاقبة الجناة على قدر جناياتهم، ودرس هذه الناحية من سيرته الطاهرة يفتح أمام الناظر الطريق التي يتوسل بها إلى امتلاك قلوب فضلاء الناس على اختلاف طبقاتهم، وتباين مواطنهم، بل يفتح أمامه الطرق التي تعرف بها كيف يسوس النفوس الواقعة في أسر الشهوات، ويعيدها إلى سيرة الطهر والعفاف؛ إذ يجد الناظر في حكمة أساليب دعوته، وحسن معاملته حتى لخصوم دينه، معالم لا ينجح صاحب دعوة صادقة إلا أن يهتدي بها. ويتأسى به - صلوات الله عليه - في احتماله الأذى من الناس، ومقابلته بالعفو، وهو قادر على مقابلته بالانتقام. ومن درس هذه الناحية في السيرة، عرف أن لحلمه وعفوه - عليه الصلاة والسلام - مواضع، ولأخذه بالحزم مواضع. وقد أشارت عائشة - رضي الله عنها - إلى ذلك بقولها: "وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله -عزَّ وجلَّ-" وفي. رواية: "إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله -عَزَّ وَجَلَّ- ". وصفوة المقال: أن هذه الآية أرشدت إلى التأسي بأفضل الخليقة - صلوات الله وسلامه عليه-، وهذا يقتضي البحث عن سيرته، وفي البحث عن سيرته مرقاة إلى معرفة خصال الشرف الإنساني، وصالح الأعمال التي يعرج بها الإنسان إلى الحياة الطيبة في الأولى والآخرة. ¬

_ (¬1) كتاب "تراجم أعيان القرن الثالث" للمرحوم أحمد تيمور باشا (ص 75).

الهجرة مبدأ التأريخ العام في الإسلام

الهجرة مبدأ التأريخ العام في الإسلام (¬1) كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتاباً يقول فيه: "إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ". فجمع عمر الناس يستطلع رأيهم فيما يكون به التأريخ" فقال بعضهم: أَرَّخ بالمبعث، وقال بعضهم: أرخ بالهجرة، فقال عمر: "الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرّخوا بها". يقول عمر بن الخطاب: "الهجرة فرقت بين الحق والباطل"، وهذا إشارة منه إلى المزية التي استحقت بها الهجرة أن تكون مبدأ التأريخ العام في الإسلام، فإن الدعوة إلى الإسلام كانت تلاقي في مكة معارضة، وعقبات توضع في سبيلها، وأخذت بعد الهجرة حريتها كاملة، ولم يستطع أحد أو جماعة الوقوف في طريقها، وكانت الدعوة بمكة تسير في طريق النجاح رويداً رويداً، وأخذت بعد الهجرة تنتشر بسرعة، فلم يمض عليها عشر سنين حتى عمت الجزيرة، وانضوى إلى الإسلام ملوكها ورؤساؤها وقبائلها فوجاً عقب فوج، وكان المشركون يبسطون ألسنتهم وأيديهم إلى المسلمين بالأذى، بالهجرة تخلصوا من ذلك الأذى، وأصبحوا في أمن ليس لذي قوة عليهم من سبيل. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن السابع والثامن من المجلد الرابع عشر الصادران في المحرم وصفر 1361 هـ.

وكانت الدعوة في مكة تتدرَّع بالصبر واحتمال المكروه من أولئك الطغاة، أما بعد الهجرة، فقد رفعت الدعوة رأسها، وأذن للقائمين بها أن يجردوا الحسام في وجه كل من يناوئها ويروم إطفاء نورها. فبالهجرة ظهر الإسلام في ثوب عزته الضافية، وتمكن من أن يفيض على العالم هداية ورحمة. ومن مآخذ العبرة في قصة الهجرة: أن الداعي إلى الاصلاح متى أوتي حكمة بالغة، وإخلاصاً نقياً، وعزماً صارماً، هيأ الله لدعوته بيئة طيبة فتتقبلها، وزينها في قلوب قوم لم يلبثوا أن يسيروا بها في البلاد، ويطرقوا بها الآذان، فتسيغها الفطر السليمة، والعقول التي تقدر الحجج حق قدرها.

المعجزات الكونية

المعجزات الكونية (¬1) نحتفل بذكرى مولد أفضل الخليفة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد جرت عادة المحتفلين بهذه الذكرى الطيبة أن يتحدثوا عن سيرته الزاهرة، أو دلائل صدق رسالته الشاملة الخالدة، أو عما أفاضته على العالم من هداية وإصلاح، ولو كان في وقت سعة، لأرسلنا القول في كل ناحية من هذه النواحي الثلاث، فنزداد يقينًا بأن سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل من كل سيرة، وأن دلائل نبوته أوفر من دلائل كل نبوة، وأن آثار دعوته أوسع مدى من آثار كل دعوة، فأكتفي بكلمة موجزة أخص بها ناحية من نواحي دلائل رسالته، وهي آيات نبوته الكونية، فأقول: ترجع دلائل رسالة المصطفى - صلوات الله عليه - إلى أربعة وجوه: القرآن المجيد - وبشارة الرسل والأنبياء من قبله ببعثته - وسيرته البالغة في الكمال حداً تقف دونه سيرة كل عظيم - وخوارق عادات هي من جنس المعجزات على صدق الرسالة من وجوه كثيرة. ومن هذه الوجوه: ما يوجد في بعض آياته؛ كإخباره عن أمور مستقبلة، ووقوعه على نحو ما أخبر به. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن العاشر والحادي عشر من المجلد الخامس عشر والصادران في ربيع الثاني وجمادى الأولى 1362 هـ.

ومنها: ما يوجد في كل سورة، أو ما يكون بمقدار سورة، وهو بيانه البديع، وأسلوبه الرائع، ونظمه الحكيم. وأما بشارات الأنبياء، فقد أخبرت التوراة والإنجيل بمجيء رسول عظيم، ووصفت هذا الرسول العظيم بصفات لا تنطبق إلا على حال محمد - صلوات الله عليه -، ونبه لهذا قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]. وأما سيرته، فقد بلغت من الكمال حداً لا تبلغه سيرة من يطلب الكمال بنفسه، ولو فاق الناس عبقرية، وقضى في تلقي الحكمة العشرات من السنين، وإلى هذا يشير حسان - رضي الله عنه - بقوله: لو لم تكن فيه آيات مبينةٌ ... كانت بديهته تأتيك بالخبر وأما دلائل نبوته من خوارق العادات، فقد ورد منها في الأحاديث الصحيحة وقائع كثيرة؛ كنبع الماء من بين أصابعه الشريفة، وتكثير الطعام القليل، وإشباعه نحواً من سبعين أو ثمانين رجلاً. وانشقاق القمر حتى رآه المشركون بمكة رأي العين، وحنين الجذع الذي كان يخطب عليه عندما اتخذه - عليه الصلاة والسلام - منبراً. وقد ظهر في هذا العصر إنكار هذا النوع من دلائل النبوة، وممن سبق إلى إنكاره طائفة القاديانية اللاهورية؛ فإنا نرى زعيمهم محمد علي الذي ألَّف ترجمة القرآن إلى اللغة الإنكليزية، يأتي إلى كل معجزة يقصها الله تعالى في أنباء الرسل - عليهم السلام - ويعلق عليها بآخر الصحيفة متأولاً لها على وجه يخرجها عن أن تكون معجزة. ونحا بعض الكاتبين في مصر

هذا النحو من تأويل آيات المعجزات، وخف على آخرين أن يتكلموا في الدين بآراء لا تمت إلى أصوله الصحيحة بصلة، فأنكروا الأحاديث المتضمنة لبعض خوارق من عادات جرت على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن ينقدوها بقوانين علم الحديث، أو قوانين المنطق السليم. ولمنكري المعجزات وخوارق العادات شبهتان: إحداهما: أن الله تعالى وضع هذا الكون على سنن لا تتبدل، وربط أسبابه بمسبباته ربطاً لا يتغير، وربما استشهدوا على هذا بقوله تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62]. ويرد هذا: بأن الذي خلق الأسباب والمسببات، وعقد بينهما رابطة السببية والمسببية، هو الفعال لما يريد - سبحانه وتعالى - فله أن ينزع من بعض الأسباب وجه سببيتها؛ كأن ينزع من النار حرارتها التي كانت سبباً في الإحراق، وله أن يخلق سبباً آخر يخفى عن أعين الناس، ويظهر له مثل أثر السبب المعروف في العادة؛ كأن يخلق في العصا ما يكون سبباً لانقلابها ثعباناً، كما خلق في ماء الرجل ما يكون سبباً لتحول ذلك الماء حيواناً. وإذا لم ير الفيلسوف سبباً تخلف عن سببه، أو لم ير سبباً لم يترتب عليه مسببه، فعدم رؤيته لذلك لا يدل على عدم إمكانه، فتخلف المسببات عن أسبابها الظاهرة، أو وجود المسببات مع فقدان أسبابها، هو في مرتبة الإمكان لا محالة، وإذا كان ممكناً في نفسه، وورد الخبر الصادق بوقوعه، أصبح الاعتقاد به ضربة لازب، ولم يكن لمنكره من الأدلة النظرية ولي ولا نصير. وأما قوله تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}، فحق لا غبار عليه،

وسنن الله منها ما عرفه الناس، ومنها ما لم يعرفوه، وإذا وقعت واقعة غريبة عند تحدي النبي لقومه، فهي جارية على سنة، ولكنها سنة خفية لا يعلمها البشر، ولا يستطيعون أن يأتوا بمثلها، ومن هنا كانت هذه الواقعة الغريبة علامة على أن هذا الداعي مبلغ عن الله. وأخرى الشبهتين: أن العلوم في هذا العهد قد كشفت عن أسرار أمور كانت تُظن من خوارق العادات، فلو بلغ العلم بصاحبه أن يأتي بأشياء هي من أمثال ما كان يعد خارقًا للعادة، لم يبق ذلك الذي صدر على وجه التحدي معجزة. وتدفع هذه الشبهة: بأن من معجزات الرسل - عليهم السلام - ما لم يصل إليه العلم، ولن يصل؛ كإحياء الموتى وإبراء الأكمه، ونبع الماء الحقيقي من بين أصابم الإنسان، وإذا وجد من المعجزات التي جرت على أيدي الرسل ما يمكن الوصول إلى مثله من طريق الفن؛ كما يدعى من الإخبار عن بعض الأشياء الغائبة، وكما ظهر من قطع المسافة البعيدة في وقت قريب، فإن أمثال هذه الأشياء نجدها قد صدرت عن الرسول مضمومة إلى معجزة أخرى لا يصل إليها العلم. ثم إن الفرق بين ما وقع عند التحدي، وما وقع من طريق الفن: أن الأول وقع بإذن الله من غير أن يكون للرسول فيه عمل، أما الثاني، فإنما يقع بعد اتخاذ الوسائل الفنية. هذا هو الفرق بين ما كان معجزة، وما كان أثر حركة فنية، فما يذكره الله تعالى في كتابه الحكيم من هذا النوع من المعجزات إنما هو أمر واقع بإذنه تعالى من غير أن يكون للرسول فيه أثر؛ كما قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12].

وأذكر أني كنت في الآستانة سنة 1231 نازلاً بدار المرحوم خالي الشيخ محمد المكي بن عزوز أستاذ علم الحديث بدار الفنون، فعاد من الدرس يوماً، وأخبرني أنه كان مع طائفة من المدرسين في غرفة ناظر المدرسة، فجرى ذكر هذه الآية الكريمة، فنسب بعض الحاضرين إلى سليمان - عليه السلام - العلم بفن الطيران، فقال له الناظر - وكان من الأتراك المؤمنين المستنيرين بهدى الله -: "تلك معجزة". أما الذين أنكروا أن يكون للنبي- صلى الله عليه وسلم - معجزة غير القرآن، فشبهتهم قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50 - 51]. وليس في هاتين الآيتين ما يثير إشكالاً؛ فإن كفار قريش كانوا يقترحون على النبي - صلى الله عليه وسلم - آيات يصفونها، وإنما يقترحونها على وجه التعنت؛ مثل: الآيات التي حكاها الله عنهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 90 - 93]. وذكر تعالى في جوابهم: أنه لا يرسل هذه الآيات التي اقترحوها تعنتاً؛ حيث علم أنهم سيلاقونها بالتكذيب، ودل على هذا: بأن قوماً يماثلونهم في طبائعهم النفسية قد أرسلت لهم آيات من جنس الآيات التي يقترحها

المشركون، وكانوا مطبوعين على التعنت، فتلقوها بالتكذيب، فقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]. فهذه الآية تفهم على معنى أن الأولين قد كذبوا بآيات من جنس الآيات التي اقترحها هؤلاء الآخرون، فكان تكذيبهم كأنموذج لتكذيب أمثالهم المتعنتين من كفار قريش للآيات التي اقترحوها لو وقعت. وأما الآية الثانية، فإن كفار قريش قالوا على وجه التعنت أيضاً: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [يونس: 20]. ولما كان المقصود من إنزال الآيات: توجيه النفوس إلى الإيمان بصدق الرسول من طريق الاستدلال، كان الأمر في اختيار الآيات يرجع إلى مشيئته تعالى؛ إذ هو العالم بما يوافق حكمة الدعوة، ويكفي في دلالة النفوس غير المتعنتة على أن دعوة الرسول حق، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [العنكبوت: 50]. وقد أراهم آيات كافية في الدلالة على أن محمداً رسول حق، فلو كان قصدهم الوصول إلى الحق، لاكتفوا بها، ولما كان القرآن الحكيم أعظم هذه الآيات وأوضحها دلالة، وأبقاها نصب أعينهم، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51]. وخلاصة هذه الكلمة: أن من دلائل النبوة خوارقَ عادات جرت على يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد اشتملت كتب السنة الصحيحة على نصيب منها، ولو سلمنا أن حديث كل واحد منها لم يبلغ حد التواتر، فإن مجموعها قد بلغ هذا الحد بلا ريب.

من آداب خطب النبي - عليه الصلاة والسلام -

من آداب خطب النبي - عليه الصلاة والسلام - (¬1) للدعوة إلى الإصلاح طرق، ومن أقرب هذه الطرق نجاحاً، وأبلغها أثرًا: الخطابة، ولهذا شرعت في يوم الجمعة من كل أسبوع، وفي يومي عيد الفطر وعيد الأضحى من كل سنة، بل في كل وقت يقتضي الحال فيه تذكير الناس بحكمة، أو أمرهم بمعروف، أو نهيهم عن منكر، وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - ينهض للخطابة عند كل أمر هام، وكتبُ الحديث والسيرة عامرة بأنباء وقائع يقوم فيها خطيبًا، فيأمر أو ينهى، أو يزيح أوهاماً علقت ببعض الأذهان. ولقد كانت خطبه - عليه الصلاة والسلام - مُثلاً عليا، يحق على كل داع إلى الإصلاح أن يقتدي بها، ويقتبس من آدابها، ويسوس النفوس بمثل أساليبها. يحرص - عليه الصلاة والسلام - أن تطرق مواعظه آذان المستمعين متمايزة الحروف، مفصلة الكلمات، فكان يلقي الخطبة قائماً، رافعًا بها صوته، وإنما يخطب على مكان مرتفع، ولذلك اتخذ المنبر في مسجده بالمدينة. ويحرص على أن تقع الموعظة في قرارات النفوس، فكان يلقي الخطبة ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزآن الحادي عشر والثاني عشر من المجلد السادس عشر. جمادى الأولى وجمادى الثانية 1363 هـ.

بألفاظ مأنوسة، وتأليف محكم، ومعان بارزة في صور بارعة، فانظروا إلى قوله في بعض خطبه: "من كان همه الآخرة، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كان همه الدنيا، فرق الله أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له"، وهكذا ترون خطبه مصوغة بألفاظ مألوفة، ومعان قريبة المأخذ، وهي - مع سهولة ألفاظها، وقرب معانيها من أذهان الجمهور - قد حازت في مراقي البلاغة الأمد الأسمى. وربما أعاد الجملة، فنطق في ثلاث مرات، يدل على أنها موضع اهتمام، ويخشى أن تمر على أذهان المستمعين دون أن تستقر في نفوسهم، كما قال في خطبة التشريق: "ألا لا تظالموا"، وكررها مرتين بعد الأولى. ولم يكن - عليه الصلاة والسلام - يلتزم السجع في خطبه، وإنما يأخذ فيها بطريقة الترسل، إلا أن يجيء السجع عفوًا، وذلك أن السجع الملتزم لا يخلو من تكلف تفقد به صور المعاني جانبًا من الوضوح، وإن شئت مثلاً يشهد بأن خطبه لم تنسج على منوال السجع، فإليك قوله في إحدى خطبه: "فليأخذ العبد عن نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت". وقد أولع أكثر الناس منذ عهد بعيد بتسجيع الخطب، إما لقصر باعهم في البيان، وإما لأنه الأسلوب الذي تلذّه الأذواق لتلك العهود، وقد تحولت الأذواق اليوم - فيما يظهر - إلى استحسان الكلام المرسل، وإيثاره على السجع؛ حيث يبرز المعاني في صور تصل إلى القلوب عندما تصل الكلم إلى الآذان. ولم يكن - عليه الصلاة والسلام - ليطيلَ الخطب، يخشى على الناس الملل، فلا ينتفعون بالموعظة انتفاعهم بها وهم يصغون إليها بإقبال ونشاط،

وكان يقول: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته من فقهه". وكانت خطبه - مع قصرها - ممتعة بالحكمة والموعظة الحسنة، إذ تجيء حافلة بجوامع الكلم، والجمل التي تجري على الألسنة مجرى الأمثال إيجازاً وبلاغة. وقد يطيل الخطبة في غير يوم الجمعة متى اقتضى الحال الإطالة، روى أبو سعيد الخدري: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب بعد العصر، ولم يزل يخطب حتى لم يبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف". وكان يفتتح الخطبة بحمد الله، والثناء عليه، ويصلهما بالتشهد، ويقول: "أما بعد" متنقلًا بها إلى حكمة أو موعظة، وقد يدع الخطبة العامة، ويتجه في أثنائها إلى إرشاد شخص بعينه متى خشي فوات الفرصة. جاء رجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس يوم الجمعة، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "صليت يا فلان؟ "، فقال: لا، فقال: "قم فاركع"، ثم عاد إلى الخطبة. وقد يستعين - عليه الصلاة والسلام - في تثبيت المعنى بالإرشاد بيده إشاره مناسبة للمعنى كما قال في إحدى خطبه: "بعثت أنا والساعة كهاتين"، وقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، وروي أنه كان يشير بأصبعه السبابة عند ذكر الله تعالى ودعائه. فالإشارة باليد لا تنافي وقار الخطيب متى استعملت في أثناء الخطبة استعمالاً مناسباً للمعنى. ومما يجعل للخطبة أثرًا بليغًا في النفوس: أن يكون الخطيب مخلصًا في وعظه، حريصاً على أن يأتي بثمرات طيبة من المسارعة إلى الخير، والإقلاع عن الشر، وقد يظهر لهذا الإخلاص أمارات في وجه الخطيب أو صوته؛ كاشتداد الغضب عند الإنذار، وورد في الصحيح: أنه

- عليه الصلاة والسلام -: "كان إذا خطب، احمرت عيناه، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش بها. والناس يعرفون الغضب المتصنَّع، والبكاء الذي لم تبعثه خشية، فينبغي للخطيب أن يترك نفسه على فطرتها، ولا يهزها إلى مظهر الخشوع والغضب هزًا؛ ليري الناس أنه حريص على إصلاحهم. ومن شواهد الرياء أن يأمرهم بالخير وينسى نفسه. وكان - عليه الصلاة والسلام - ينظر إلى حال القوم يوم الخطبة، فيلقيها على مقتضى حالهم، فيأمر بمعروف أخلُّوا به، أو يحذر من مكروه اقتربوا منه، وجرى على هذا الخلفاء الراشدون، والخطباء المصلحون. وهذا منذر بن سعيد قاضي قرطبة رأى الخليفة عبد الرحمن الناصر قد أسرف في تشييد المباني وزخرفتها؛ كما صنع في بناء "الزهراء"، فاتجه بخطبته إلى هذا الغرض، وأنكر فيها الإسراف في البناء والزخرفة، وإنفاق الأموال في غير مصلحة. وشأن الخطب التي تلقى على طبقات من الناس متفاوتة في العلم والفهم: أن لا يتعرض الخطيب فيها إلى المسائل التي قد يتعثر فهمها على كثير منهم، أو يتناولونها على غير وجهها، وكانت خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - جارية على هذا الشأن؛ بحيث يستوي في فهمها الطبقات المختلفة دون أن يجدوا فيها ما ينبو عنه الفكر، أو يحار فيه العقل. وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يراعون هذا الأدب الحكيم، فقد روى البخاري: أن عمر بن الخطاب أراد أن يخطب أيام الحج في أمر عرض له، فقال له عبد الرحمن بن عوف: "لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس يغلبون على مجلسك، فأخاف أن لا ينزلوها على وجهها، فيطيروا بها كل

مطار، فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة، فتخلص بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين والأنصار، فيحفظوا مقالتك، وينزلوها على وجهها". وطالما حاد أكثر الناس بالخطب عن سيرتها في عهد النبوة، فبعد أن كان الخطيب يصور المعاني بفكره، ويكسوها ألفاظاً من عنده، ثم يلقيها مقبلاً على الناس ببصره؛ كما كان يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء من بعده، صار الخطيب يبحث عن خطبة صدرت عن قريحة غير قريحته، وكتبت بقلم غير قلمه، فيقف ممسكاً لها بيده، مقلباً فيها وجهه. ولا مرية أن الخطبة التي تصدر من قلب الخطيب، مصوغة في عبارات من صنعه، هي أجدى نفعاً، وأعظم في النفوس أثراً، من خطبة يستعيرها من غيره.

في الهجرة بركة

في الهجرة بركة (¬1) هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الخيار من مكة إلى المدينة، فظهرت بركة هذه الهجرة من المهاجرين أنفسهم، وفي البلاد التي هاجروا إليها، وفي انتشار الدين الذي هاجروا من أجل التمكن من الدعوة إليه. أما أثر بركة الهجرة في المهاجرين أنفسهم، فلأنهم بعد أن كانوا يلاقون في مكة أذى كثيراً، أصبحوا في أمن وسلامة، ثم إن الهجرة ألبستهم ثوب عزة بعد أن كانوا مستضعفين، ورفعت منازلهم عند الله درجات، وجعلت لهم لسان صدق في الآخرين، وقد سمّى الله تعالى الصحابة الذين فرّوا بدينهم إلى المدينة بالمهاجرين، وصار هذا اللقب أشرف لقب يدعون به بعد الإيمان. وأما أثر بركة الهجرة في البلاد التي هاجروا إليها، فإن فضل مكة كان معروفاً عند العرب من قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجاءها الفضل من جهة أن الله اختارها لأن يقام فيها بيته المحرم، وأمر رسوله إبراهيم - عليه السلام - ببناء ذلك البيت، ودعوة الناس إلى حجّه، والتقرب إلى الله بالطّواف به، وقد ازداد هذا الفضل بميلاد النبي - صلوات الله عليه - ونشأته فيها، ثم نزول ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء السابع من المجلد السابع عشر الصادر في شهر المحرم 1364 هـ.

القرآن في أرجائها. وأما المدينة فلم تكن معروفة قبل الإِسلام بشيء من الفضل على غيرها من البلاد، وإنما أحرزت فضلاً بهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المؤمنين بحق، وبهجرة الوحي معهم إلى ربوعها، حتى أكمل الله الدين وأتم عليهم النعمة. وأما أثر بركة الهجرة في انتشار الإِسلام، وإعلاء كلمته، فلأن الإِسلام كان بمكة في شيء من الخمول، ولم يكن الجهاد قد شرع؛ إذ لم تتهيأ أسبابه، أما بعد الهجرة إلى المدينة، فقد نزلت آيات في القتال؛ كقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190]. فإذا احتفلنا بذكرى الهجرة الشريفة، فإنما نحتفل بذكرى اليوم الذي ابتدأت فيه الهداية تسير سيرها الحثيث في الشرق والغرب، وذهبت فيه العزّة تمد ظلالها على كل جماعة تنادي بأرفع صوت: "حي على الصلاة، حي على الفلاح".

العظمة

العظمة (¬1) نود من صميم أفئدتنا أن نفرغ بأقلامنا ومحاضراتنا للعمل على رقي شعوبنا، وإصلاح شؤوننا، ونود من صميم أفئدتنا أن نقضي صباحنا ومساءنا في البحث عن وسائل خلاصنا من أذى السلطة الغربية عن أوطاننا، ولكن نفرًا جلسوا على رأس الفتنة وهي نائمة، وجلسوا يهمزونها بنزق وغرور، ولو صرفنا النظر عن ناحيتهم، وتركنا حبلهم على غاربهم، لهبطوا بكثير من شبابنا في خسار يهتز له قلب عدوهم شماتاً وفرحاً، والنفوس التي تتزحزح عن الإيمان قيد شعرة تبعد عن مراقي الفلاح سبعين خريفاً. فلا بد إذن من أن نكون على مرقبة من دعايتهم، وننفق ساعات في التنبيه على أغلاطهم؛ لعلهم ينصاعون إلى رشدهم، أو لعل الأمة تحذر عاقبة هذا الذي يبدو على أفواههم. ننسى ولا ننسى كاتباً صنع في العظمة مقالاً لا أصفه في مقامي هذا إلا أنه خواطر لم تبلغ من أدب البحث سؤلها. ¬

_ (¬1) مجلة "الفتح" - العدد 68 من السنة الثانية 1346 هـ - 1927 م. محاضرة الإمام في دار جمعية مكارم الأخلاق الإِسلامية بالقاهرة يوم 12 ربيع الأول 1346 تضمنت الرد على مقالة على عبد الرازق التي كان نشرها في جريدة "السياسة"، ونشرف المحاضرة في رسالة مستقلة.

تحدث الكاتب عن العظمة، وعبادة الناس لها، ورجع يناقش في أن يكون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عظمة، وتعلق في إنكار هذا بعلَّة أن محمداً - صلوات الله عليه - لم يكن ملكاً، ولا غنياً، ولا فيلسوفاً، ولا فاتحاً عظيماً، ولا مخترعاً أو مكتشفاً، ثم قال: من يبتغي عظمة محمد، فإنما هي كلمة واحدة جاء بها، وهي: "لا إله إلا الله". ثم جعل يضع كلمة "لا إله إلا الله" ذات اليمين وذات الشمال، ويضعها على جانب البطلان مرة، وعلى جانب الصحة مرة أخرى، وقال: إن العلم والعقل سيقضيان في شأنها، فإما أن تكون باطلًا، وإما أن تكون حقاً، وأورد خلال هذا وعقبه كلمات مختلفاً ألوانها، وقد اخترنا أن نسوق إليكم قطعًا من هذا المقال، وننقدها بين أيديكم، لعلنا نزيح عن ذوي الفطر النقية سوء أثرها. وحقيق علينا أن نفتح البحث بكلمة في مبنى العظمة حتى ندخل نقد المقال على بينة. تضاف العظمة إلى الإنسان، فيرادفها: التجبر، والخُيلاء، وهذا المعنى لا يحوم على نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقيناً، ولا ينزل بساحته في حال، وقد يراد من العظمة: الجلال الذي هو أثر سمو القدر، وبلوغ المنزلة الكبرى في خصال الشرف، وهذا المعنى يتحقق في أكمل الخليقة، فقد كان جلاله يبهر العيون، ويذيب القلوب. وقد يقصد من العظمة: عِظَم القدر، والتناهي في خصال السؤدد والكمال، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوسع الناس في هذه العظمة مجالاً، وأبعدهم فيها أمداً، وأرسخهم فيها قدماً.

فلا جناح على من ينفي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العظمة قاصداً معنى التجبر والأبهة، أما من ينفي عنه العظمة -يقصد الجلال، ويقصد بلوغه في الكمال الأمد الأقصى-، فقد تنكَّب عن الحقيقة جانباً. ولنأخذ - بعد هذا - في عرض القطع الموعودة على أسماعكم، وانظروا ماذا ترون. قال صاحب المقال: "اليوم يذكر الناس مولد محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يذكر الناس محمداً إلا اتجهوا في البحث عن عظمته، ودرجته بين العظماء". يريد صاحب المقال من الناس "الذين يذكرون محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فيبحثون عن عظمته" القوم المسلمين، فإنه وصل هذه الفقرة بالحديث عن إيمان الناس بالعظمة، وافتتانهم بها، وعبادتهم لها في صور من العبادات، يرمز بهذا إلى حال المسلمين في إيمانهم بعظمته - صلوات الله عليه -، ونظرهم إلى مقامه الكريم بعين التوقير والإجلال. والناس الذين يذكرون محمداً -صلوات الله عليه -، فيتجهون إلى البحث عن عظمته صنفان: مؤمنون برسالته، وغير مؤمنين. فأما الذين أشربوا في قلبهم الإيمان بأنه رسول الله حقاً، فإنهم يرفعون مقامه الأسمى عن أن يعقدوا بينه وبين العظماء -في نظر كاتب المقال- مقارنة ومقايسة، والميزان الذي يحمل في إحدى كفتيه النبوة والرسالة، تبقى كفته الأخرى طائشة إلا أن تحمل فيه سيرة نبي أو رسول. وإنما ينظر المؤمنون في سيرة محمد - صلوات الله عليه -؛ ليزدادوا إيماناً فوق إيمانهم، أو ليكون لهم فيها أسوة حسنة، أو ليلقوا الارتياح الذي تلقاه النفوس الزكية تجتلي شيئاً من مظاهر الكمال والعظمة.

وأما من لم يهتدوا بدلائل، فإنهم يتجهون للبحث عن عظمته ودرجته بين العظماء، ولا نشك في أن الذين يدخلون البحث عن طريقه الحر لا ينصرفون عنه إلا وقد شهدوا من سيرة المصطفى - صلوات الله عليه - عظمة فائقة. قال الفيلسوف (تومس كارليل) في كتاب "الأبطال": "وظنّي أنه لو أتيح للعرب بدل محمد قيصرٌ من القياصرة بتاجه وصولجانه، لما كان مصيبًا من طاعاتهم مقدار ما ناله محمد في ثوبه المرقع بيده، فكذلك تكون العظمة، وكذلك تكون الأبطال". فالصنفان من المؤمنين وغير المؤمنين يبحثان عن عظمة محمد -صلوات الله عليه-، غير أن المؤمنين يبحثون عن وجوه عظمته؛ ليزدادوا إيمانًا، أو ليظفروا بموضع قوة، أو ليسلكوا قلوبهم في لذة، وغير المؤمنين يبحثون عن وجوه عظمته؛ ليتعرفوا عظمته ودرجته بين العظماء. قال صاحب المقال: "ذلك بأن الناس ما برحوا منذ القدم يؤمنون بعظمة العظماء، ويعبدون في صور من العبادات، شتى مظاهر العظمة التي تخيلوها". يؤمن القوم المسلمون بعظمة محمد - صلوات الله عليه -، ولا يكادون يتعدون بإيمانهم مقامه الذي شهدت به آثاره، ورسمت الآيات البيّنات حدوده، فهم ما برحوا يتهجدون بكتاب الله، ويتلون فيما يتهجدون أمثال قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]. قوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]. والسنة الصحيحة مملوءة بالأحاديث التي تعلم المسلمين أن لا يغلوا

في عظمته، وأن لا يبالغوا في تعظيمه ساحة ما يسمى عبادة، فهم يدرسون فيما صحت روايته مثالَ قوله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتحدث عن عثمان بن مظعون -: "أما هو، فقد جاءه اليقين، والله! إني لأرجو له الخير، وما أدري والله وأنا رسول الله ما يُفعل بي". فالناس يتخيلون لمحمد - صلوات الله عليه - عظمة غير العظمة التي يَسَّره الله لها، وخلع عليه رداءها، فذكر العظمة المتخيلة وعبادتها غير لائق بمقام الحديث عن عظمة رسول الله، واتجاه الناس إلى البحث عنها عندما يذكر مولده الكريم. وإن وجد في الناس من يكبو في غلو، أو تصدر عنه كلمات جامعة عن السبيل، فهذا لا يسيغ لكاتب المقال أن يطلق القول في الذين يؤمنون بأن لمحمد - صلوات الله عليه - عظمة؛ فإن السواد الأعظم من المسلمين يشهدون بعظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النحو الذي سنلقي إليكم حديثه بعد قليل، وما كانوا يعبدونه في أي صورة من صور العبادات، ولعل الكاتب اشتهى أن يرمي المسلمين بشأن أهل ملة أخرى، فلم يتحرج من أن يذكر بحث الناس عن عظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويلصق به على وجه التعليل الحديث عن إيمانهم بالعظمة المتخيلة، وعبادتهم لمظاهرها في صور من العبادات. ذكر صاحب المقال أن هذه العبادة المتخيلة على أشكال متباينة، وقال: "فلكلٍّ في فهمها مذهبه، وله ما يهديه إليه الخيال، فللحكم ونفاذ الكلمة عظمةٌ يؤمن بها الملوك والحكام، ويعبدها الأذلاء والطامعون، وللغنى عظمة يؤمن بها الأغنياء، ويعبدها أشياعهم وأتباعهم، وللعلماء عظمة، ولها أيضاً عبادها، وللجمال عظمة يؤمن بها الغواني، وتهوي الجباه لها سجداً، وللصّ

الفاتك عظمة تخشع لجلالتها قلوب الملتفين من حوله، وبقيت بعد ذلك عظمة يؤمن بها أهل النبوغ في كل فن، وفي كل صفة، ولكل منها عبادها". من ينازع المسلمين في أن لمحمد - صلوات الله عليه - عظمة لا سبيل له في البحث إلا أن يستبين المعنى الذي يسميه المسلمون عظمة، ويقيم الدليل على أنه خارج عن حد العظمة الصادقة؟. وهل استبان كاتب المقال المعنى الذي يسميه المسلمون عظمة عندما يُذكر محمد - صلوات الله عليه -، ثم أقام الدليل على أنه ليس بعظمة؟! كاتب المقال سرد أمثلة يتخيلها بعض الناس عظمة؛ كجمال الغواني، واللصوصية، ولم يستبن معنى العظمة في نظر المسلمين حين يضيفونها إلى المصطفى - صلوات الله عليه -. والحقيقة أن الناس الذين يذكرون محمداً - صلى الله عليه وسلم -، إنما يتجهون إلى البحث عن العظمة التي هي فخامة القدر، وبلوغ المنزلة الباهرة في الشرف والكمال. فعدُّ كاتبِ المقال اللصوصية، وجمال الغواني في مظاهر العظمة، وهو يتحدث عن العظمة التي يتجه إليها الناس عندما يذكر المصطفى - صلوات الله عليه - تظاهرٌ بذوق غير مألوف، وغفلة أو تغافل عن معنى العظمة التي تتجه إليها أنظار الباحثين عن سيرة نبي عظيم كسيرة محمد - عليه الصلاة والسلام -. قال صاحب المقال: "لعل أحداً لا يستطيع أن يحدد ذلك المعنى المبهم المضطرب الذي يسميه الناس عظمة، ولكنه -على ذلك- لم يزل منذ القدم فتنة الناس كلهم، يتخذونه غاية يعملون لها، ويحسبونه ميزانًا يزنون به بين الرجال". إذا فسدت أذواق فريق من الناس، فضلُّوا عن حقيقة العظمة الصادقة

حتى أصبحوا يتخيلونها في الخصال الدّنيئة كاللصوصية، فإن الناس الذين يبحثون عن عظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما يذهبون إلى وجوه السيادة والكمال، والفرق بين ما يعدّ كمالًا وشرفًا في الإنسان، وبين ما لا يدخل في هذا القبيل، سهل المأخذ، وما هو من الباحث المنصف ببعيد. توصف الأشياء بالفضل، فيقال: هذا السيف أفضل من ذلك السيف، وهذه اللؤلؤة أفضل من تلك، وهذا الإنسان أفضل من ذلك الإنسان، ووجوه الفضل بين هذه الأنواع الثلاثة مختلفة. والمعروف لدى أهل العلم أن الفضل في كل شيء زيادته فيما هو كمال فيه، وكل شيء يكمل بالوصف الذي يمتاز به، ويراد منه، فكمال السيف في صرامته، وكمال اللؤلؤة في إضاءتها وصفائها، وكمال الإنسان في علمه الصحيح، وعمله الحكيم، ومنطقه البليغ. فالعظمة التي يسمو بها قدر الإنسان بين العقلاء، وتوجُّه الناس إلى البحث عنها عند ذكر محمد - صلوات الله عليه - هي العظمة القائمة على الحكمة، وفصل الخطاب. وإذا التبس الحال على بعض الناس، فحسب شيئاً من الآراء الباطلة علماً صحيحاً، أو تخيل بعض الأعمال المكروهة عملاً مستقيماً. أو عدَّ بعض الهذيان قولًا بليغاً، فقد وضعت النظم المنطقية، وفتحت بعض المناظر لكشف مثل هذا الالتباس. على أن من الخصال والأعمال ما لا يختلف أولو الأحلام في كماله وحكمته، ومن هنالك رأينا كثيراً ممن لم يهتدوا بنبوة محمد - صلوات الله عليه - يشهدون بعلو شأنه، ويذكرون عظمته بمنتهى الإعجاب. جرى ذكر (لوثر) لدى الفيلسوف (فولتير)، فقال: "إنه لا يستحق أن

يكون صانع أحذية عند محمد". وقال الفيلسوف (توماس كارليل) في كتاب "الأبطال": "أتبين في محمد عقلاً راجحاً عظيماً، وعيناً بصيرة، وفؤاداً صادقاً، ورجلاً قوياً عبقرياً". قال صاحب المقال: "لولا أن الناس قد فتنوا بدين العظمة، وعبادة العظماء، لما ساغ إذا ذكرت رسل الله، ومحمد خاصة، أن يبحث باحث في أنهم من العظماء، فذلك بحث ليس له موضع في مقام التحدث عن رجال النبوة والرسالة، والدعوة الخالصة إلى الله". لو أراد صاحب المقال أن يخوض البحث في سيرة أهل العلم، لشرح معنى العظمة، ثم أقبل على الناس يبين لهم كيف لم يتحقق هذا المعنى في رسل الله، أو في محمد خاصة، وقد عرفتموه بأنه لم يزد على أن ذكر أن هناك عظمة متخيلة، وساق عليها أمثلة بعضها يدخل في حد العظمة؛ كالعلم، وبعضها لا يتصل بأسباب العظمة؛ كاللصوصية، ثم قال: إن معنى العظمة مبهم مضطرب، ليس في استطاعة أحد أن يحده، ووثب من هنا إلى دعوى أنه لا يسوغ لباحث أن يبحث في أن رسل الله، ومحمدًا خاصة من العظماء، وزعم أن هذا البحث ليس له موضع في مقام التحدث عن رجال النبوة والرسالة والدعوة إلى الله. لنتساءل عن العظمة التي يحاول كاتب المقال أن ينفيها عن رسل الله، وعن محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة. لا يصح تأويل هذه العظمة بمعنى: التجبر والخيلاء؛ إذ لم يبحث باحث في أن محمداً - صلوات الله عليه - من العظماء، ويعني: العظماء الجبارين المتكبرين، فكاتب المقال ينفي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العظمة التي يتجه

إليها الناس حين يذكرون مولده الكريم، وما كان ليخفى عن كاتب المقال أن العظمة التي يتجه إليها الناس في ذلك الحين إنما هي البلوغ في خصال الكمال وعظم القدر مرتبة قصوى. قال صاحب المقال: "وما أبعدَ رسلَ الله الداعين إليه، وما أبعدَ محمداً خاصة، من أن يبالوا بتلك العظمة التي يعبد الناس، ومن أن يبالوا أكانوا عند الناس في مقام العظماء، أم دون ذلك". لا تبالي رسلُ الله - ومحمد خاصة - بالعظمة التي تُتخيل في نحو اللصوصية، أما العظمة التي تتمثل في خصلة من خصال الشرف؛ كالعلم والشجاعة، فعظمة داخلةٌ في هداية الرسل -عليهم السلام-، وقد سمعتم كاتب المقال يذكر في مظاهر العظمة: العلم، وهذا المظهر مما عني به الإِسلام جهد العناية، فلا يليق برجل فتح بصره في القرآن - ولو قليلاً- أن يزعم أن محمداً - صلوات الله عليه - لا يبالي بعظمة العلم، ففي التنزيل الحكيم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ولتجدن محمداً - صلى الله عليه وسلم - عظيماً في علمه، وما علمه النافع إلا مظهر من مظاهر عظمته البالغ حد الإعجاز. قال صاحب المقال: "ومحمد هو الذي أبى للناس إلا أن يكونوا سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وإلا أن يكونوا على قدم المساواة، فكلهم لآدم، وآدم خلق من تراب، وأبى أن يكون في الناس عظماء وغير عظماء، وسواء فيهم من تزدريه الأعين، ومن يروق مناظره، وسواء فيهم السوقة والملوك". ما كان لكاتب المقال أن يجلس للفصل في العظمة قبل أن يولي وجهه

شطر العظمة، يقول: إن محمداً أبى للناس إلا أن يكونوا سواسية، وإلا أن يكونوا على قدم المساواة، وسواء فيهم السوقة والملوك، وهذا القول لا يتصل بالعظمة التي يتجه الناس إلى البحث عنها عندما يذكر المصطفى -صلوات الله عليه- ولا يقوم دليل أو شبه دليل على أنه - عليه السلام - لا يبالي بالعظمة الداخلة في حدود الشرف والكمال، بل كان - صلوات الله عليه - يجل هذه العظمة، ويدعو إلى التنافس في مثل هذه العظمة، وإنما كان ليمقت العظمة التي هي الزهو والأبهة، وهي التي كان ينهى عنها، وينذر سوء عاقبتها. فمن الافتراءات على الإِسلام: أن يقول قائل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأبى للناس أن يكون فيهم عظماء على معنى: أنه يكره أن تكون فيهم العظمة التي يمتاز بها بعض الرجال، ويسميهم الناس من أجلها عظماء، فصاحب المقال نفسه يذكر في مظاهر العظمة: العلم، والنبوغ في الفنون والصنائع، أفيصح بعد هذا أن يزعم أن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - يأبى للناس أن يكون فيهم عظماء؛ أي: بالغون في العلم مراتب سامية، أو نابغون في بعض الفنون والصنائع؟!. لا يزعم هذا إلا من يجهد فكره بحشر حجج يطمع في أن يغير حقيقة الإِسلام، ويعرضها في صورة خالية من كل حكمة وعظمة. نعم، جاء الإِسلام ليجعل الناس على قدم المساواة، ويجعل الملوك والسوقة في مستوى واحد، ومعنى هذا، أن يتمتع الناس بالحرية في نفوسهم وأموالهم، وأعراضهم وسائر حقوقهم، وأن يكون السوقة والملوك في نظر السلطة القضائية أو التنفيذية على السواء، وليس من المعقول أن تحمل المساواة في الإِسلام على معنى عدم التمايز بالعظمة التي تدرك بنحو العلم

النافع، والعمل الجلل، والخلق الكريم. فالإِسلام ليس هو الدين الذي يرضى لمعتنقه أن يكون كعجوز في محرابها بيدها سبحة، بل هو الدين الذي يسير بأوليائه في سبيل العزة والسيادة والعظمة، وقد جرت سنة الله بأن يكون الناس في هذا السبيل على درجات متفاوتة. يسوق كاتب المقال حديث: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى" مستشهدًا به على أن محمداً - عليه الصلاة والسلام - يأبى أن يكون في الناس عظماء، والحديث إنما ورد في مقام النهي عن العظمة التي هي بمعنى الفخر والكبرياء، وذلك لم يرده كاتب المقال؛ لأنه يجعل مدار حديثه على العظمة التي يبحث عنها الناس عند ذكر محمد - عليه الصلاة والسلام -، لقد عرفتم وجوه هذه العظمة، ومن تفقه في التقوى، عرف أنها الوسيلة الكبرى للعظمة الصادقة؛ فإنها بذل الإنسان جهده وسعيه في طرق الفلاح، ومن تقوى الرجل الذي رزق ألمعية متوقدة، وهمة سامية: أن يقتحم الأخطار، ويقذف بنفسه في معالي الأمور، فإذا هو في جلال وعظمة، وإن لم يجد الزهو والكبر إلى نفسه منفذاً. قال صاحب المقال: "لم يكن محمد بن عبد الله يؤمن بتلك العظمة الأرضية التي يؤمن الناس بها، وهي ذل للنفوس العالية، وشرك بالله رب العالمين". لا نفتأ نذكر أن كاتب المقال يتحدث عن العظمة التي يتجه الناس إلى البحث عنها عندما يذكر محمد - صلوات الله عليه -. والناس لا يتجهون عندما يذكر محمد إلا إلى العظمة القائمة على معالي الأمور، وعظمة هذا شأنها، عظمة يأذن بها الله، ويدعو إليها رسله، وسموها بعد هذا أرضية إن شئتم، أو سماوية،

وليست هذه العظمة ذلاً للنفوس العالية، ولا شركاً بالله رب العالمين، وإنما ذلك شأن العظمة بمعنى: الكبرياء أو الأبهة، وهذا المعنى لا يتجه الناس إلى البحث عنه عندما يذكر المصطفى - صلوات الله عليه -. ولا ننسى أن كاتب المقال قد ذكر في مظاهر العظمة: العلم، والنبوغ في فن أو صناعة، ومن ذا يستطيع أن يقول أو يتصور أن العلم والنبوغ في الفن أو الصناعة ذلّ للنفوس العالية، وشرك بالله رب العالمين؟! كلا، ليس العلم والنبوغ في فن أو صناعة ذلاً للنفوس العالية، وشركاً بالله رب العالمين. وهذا شأن كل عظمة تقوم على شرف وخير. قال صاحب المقال: "من كان يريد من عبَّاد الملْك وعظمته أن يضع محمداً بين عظماء الملوك، فما كان محمد ملكاً، ولا رضي أن يكون ملكاً، فإن أصر العائدون من أشباه العلماء على أن يعدُّوه مع الملوك، فهل يستطيعون أن يعدوا مملكة محمد إلا تلك الجزيرة الصغيرة جزيرة العرب؟ وأين جزيرة العرب من ملك الأقاصرة والأكاسرة؟ وأين ملك تلك الجزيرة بين ملوك الإمبراطوريات العظمى الذين بسطوا أيديهم فوق مشارق الأرض ومغاربها، وبحورها وجزائرها؟! ". الناس في واد، والكاتب في واد، يرى الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بعقائد وآداب وشريعة، وإن هذه العقائد والآداب والشريعة هي سبيل الله الذي قام - عليه الصلاة والسلام - يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة. وكانت بعثته تتناول القيام على هذه الآداب والنظم الاجتماعية، وحمل الناس عليها بالقضاء والتنفيذ، قال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]. وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ

فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]. جاء الرسول - عليه الصلاة والسلام - بآداب ونظم اجتماعية، وكان يسوس الناس بهذه الآداب والنظم، ومن يدبر شؤون أمة، ويجري عليها قانون شريعة، فهو ولي أمرها، وبيده مقاليد سياستها، وهذه حقيقة جلية جلاء الشمس في رونق الضحى، ولكن كاتب المقال يرغب في أن تكون الأذهان خالية من هذه الحقيقة، فما كان إلا أن جاء إلى كلمة عهدها الناس محفوفة بالأبهة والزينة، وهي كلمة (ملك)، وأخذ يدعي أن أشباه العلماء يعدون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملكاً، ونحن لا نعلم في العلماء أو أشباه العلماء من قال: إنه كان ملكاً، أو أطلق عليه اسم ملك. بل كان الناس يتحامون بهذا الاسم خلفاءه الراشدين. وإنما كانوا يذكرون تلك الحقيقة الثابتة بالقرآن والسنة والإجماع، وهي أن محمداً - صلوات الله عليه - مبعوث بشريعته، وأنه كان يقوم على تنفيذ هذه الشريعة. ذهب كاتب المقال ينفي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عظمة الحكم؛ بعلة أنه لم يكن له سلطان إلا على تلك الجزيرة الصغيرة جزيرة العرب. يقول هذا، كأنه لا يدري أن العظمة التي يتجه الناس إلى البحث عنها في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول إنما هي العظمة التي تطمح إليها همم الفضلاء، وتجلها قلوب الحكماء. يعلم الناس أن محمداً - صلوات الله عليه - لم يقم ليشيد ملكاً، ولم

يخطر على باله أن ينافس الملوك في عظمتها الأرضية، ولكن بعثه الله بالدين القيم، والشريعة الوسطى، وجعله القائم على هذه الشريعة لعهد نزول الوحي، وبعد أن تناسق عقدها، وتكاملت نجوم هدايتها، التحق - عليه السلام - بالرفيق الأعلى، وقد أورث القوم المسلمين شريعة قيمة، وسياسة رشيدة، فكانت دولتهم ذات عظمة تتضاءل أمامها كل عظمة. أراد الله تعالى أن تكون حياة رسوله الأكرم بمقدار ما تدرك الهداية غايتها، وتملك الأمة قوة تحمي الدعوة من خصومها، واتفق أن جمعت الهداية أمرها، وبلغت القوة الكافية نصابها، يوم أصبحت راية الإِسلام تخفق على ربوع تلك (الجزيرة العربية) يوم نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وإذا خطر على بال أحد أن يضع بين محمد - صلوات الله عليه -، وبين بعض الملوك مقايسة، فإنه يذهب إليها من طريق العدل والمساواة، وينظر فيها من ناحية إخلاص الرعية، وما تحمله لولي أمرها من حسن الطاعة، مع رعاية بيئة الأمة وطبائعها، وتقدير السبيل الذي سلكها والي الأمر حتى أصبحت مقاليد أمة من الناس في قبضته. فليبحث كاتب المقال هل يجد في تاريخ العالم رجلاً قام في أمة كهذه الأمة العربية في صعوبة مراسها، واختلاف قبائلها، وكثرة زعمائها، قام وليس بيده سلاح يفوق سلاحها، ولا جند أعرف بفن الحرب من رجالها، ولا مال أوفر مما في أيدي زعمائها. فجاهدها، وأخذها من جميع أطرافها في بضع سنين، ثم سار بها في خطة عدل ومساواة تشبه خطة سيدنا محمد الذي يقول:

"وأيْم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها". ثم هو بعد ذلك يملأ العيون جلالًا، وتلقي إليه القلوب بالمودة وحسن الطاعة. إلى مثل هذا ينظر الذين يعدون في وجود عظمة الرسول - عليه الصلاة والسلام - حكمه العادل، وسياسته الحكيمة، وهم أكيس من أن ينظروا إلى سعة المملكة، وكثرة الجنود. قال صاحب المقال: "ومن كان يريد أن يضع محمداً بين عظماء أهل المال والغنى، فما كان فيهم إلا فقيراً مقلاً". إن الذين يتجهون إلى البحث عن عظمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لا يعدون المال في مظاهر العظمة. وليس المال إلا وسيلة، إما إلى خير، وإما إلى شر، ولو أوتي رجل سعة من المال، فركض به في شهواته، ولم ينفقه إلا في لذة أو زينة، لكان البائسُ الفقير الذي يزيد عليه بمثقال من علم أو فضل أقربَ منه إلى العظمة. وإذا لم يكن المصطفى - صلوات الله عليه - في ثروة وأموال تحف به في كل وقت، فإن الحال التي تمر عليه، وهو في كفاف من العيش، لا تختلف عن حاله يوم تنساق إليه الأموال ركامًا، فهو في حالتي كفافه ويساره يمثل الصبر والسكينة، والزهد والسخاء. فالذين يبحثون عن عظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجدونها في حال كفافه بمقدار ما يجدونها في حال يساره، شبرًا بشبر، وذراعاً بذراع. ولا يخدش الفقر والإقلال في عظمة الرجل إذا نهضت به الحكمة والعزم والإخلاص، وأرغم أنوف الطغاة أو الأغنياء الذين يمشون في الأرض مرحاً. قال صاحب المقال: "ومن كان يريد أن يضعه بين القواد الفاتحين،

فإنما بلده مكة، وهي أكبر ما فتح محمد من البلاد". يتجه أولو الأبصار إلى البحث عن عظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يخطر لهم على بال أن يوازنوا بينه وبين الفاتحين في عدد ما فتحوا من المدن أو الممالك، وإذا عدوا فتح مكة من مواقفه الشريفة، ومظاهر عظمته السامية، فلأنه عاقبة جهاد وصبر وثبات، ولأنه الفتح الذي أخذ به الإِسلام مهيباً به، وقطعت به الدعوة إلى الحق شوطاً واسعاً. والذي يفتح مدينة، فيملؤها إيماناً بعد شرك، وعدلاً بعد جور، وإصلاحًا بعد فساد، تكون عظمته في قلوب سراة الناس وحكمائهم فوق عظمة من يفتح المشرق أو المغرب، وهو يحمل في نفسه غطرسة، وفي يده إرهاقاً. قال صاحب المقال: "ومن كان يريد أن يعده من كبار الفلاسفة والمخترعين والمكتشفين، فقد كان محمد أميًا لا يقرأ ولا يكتب، وما كان بمخترع ولا مكتشف". الاختراع والاكتشاف مما يناله الناس بالذكاء والمثابرة على البحث، وإنما جاء محمد - صلوات الله عليه - بحكمة وقفت دونها أنظار الأذكياء، وتخبطت في البحث عنها عقول الفلاسفة، وهي هذه الحقائق والآداب والنظم التي هي قوام الحياة الراقية، وملاك السعادة الخالدة، هذه هي العلوم التي اختار الله لها محمداً، فألقاها على الناس دروساً زكية، وليس من زينتها سيرة غراء، ولا يضره بعد هذا العلم وهذه السيرة أن لا يخترع من الحديد غواصة، أو لا يستكشف أثراً كان تحت الأرض غائباً. وإذا اعترف الناس للفيلسوف الكاشف عن شيء من غوامض الطبائع المادية بالعظمة، فإن عظمة من يكشف عن الحقائق العقلية والفضائل النفسية

والصلات الأدبية والقواعد العمرانية أسنى مطلعاً، وأجلى مظهراً. وتمادى صاحب المقال يخوض في لهو، ويجادل بعنف، ثم عاد فقال: "من كان يبتغي عظمة محمد، فإنما هي كلمة واحدة جاء بها محمد، وفيها كل عظمة يلتمسها الباحثون: لا إله إلا الله". عظمة المصطفى - صلوات الله عليه - في كلمة واحدة جاء بها، وهي لا إله إلا الله!!!. إن صاحب المقال يحاول أن يريكم القمر الزاهر في شكل درهم، فدعوه يتحدث عن كرم الخليقة كيف يشاء، واتجهوا في البحث عن عظمة الرسول الأكرم إلى سيرته المشهودة في القرآن والأخبار الثابتة. من يبتغي عظمة الرجل بحق، فليبحث عنها في ناحية عقله وعلمه، وخلقه وإخلاصه، وعزمه وعمله وحسن بيانه، ولقد كان محمد - صلوات الله عليه- راجح العقل، غزير العلم، عظيم الخلق، خالص الإرادة، صادق العزم، جليل العمل، رائع البيان. أما رجحان عقله، فمن دلائله - بعد اختصاص الله له بالرسالة -: أنه نشأ بين قوم يعبدون الأصنام، يتنافسون في مظاهر الأبهة والخيلاء، ينحطون في شهواتهم إلى المنزلة السفلى، فلم يكن لهذه البيئة المظلمة من أثر في نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - قليل أو كثير، فانتبذ بين هذه الظلمات المتراكمة مكاناً يخلو فيه بنفسه، ويقدح فيه زناد فكره، ويناجي فيه ربه، فإذا نور النبوة يتلألأ بين جنبيه، وحكمة الله تتدفق بين شفتيه. وأما علمه، فهو ما يزكي النفوس، وينقي الأبصار، ويرفع الأمم إلى ذروة العز والشرف، حتى تحرز الحياة الطيبة في الأولى، والسعادة الباقية في

الأخرى. ومن يتدبر القرآن والأحاديث الثابتة حتى يتفقه فيما انطويا عليه من حقائق وحكم وآداب، يلف رأسه حياء من أن ينفي عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عظمة العلم تحت اسم الفلسفة، متكئًا على أنه كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب. وقد خرج من بين يدي محمد - صلى الله عليه وسلم - رجال عظماء، ولم يتلقوا من العلم غير ما كانوا يتلقونه في مجلسه من حكمته، فكانوا منبع علم وأدب، وأدركوا في حصافة الرأي وقوة الحجة الأمد الأقصى. وأما خلقه، فهذه السيرة المستفيضة في القرآن، وعلى ألسنة الرواة وأقلامهم تنطق وتلوح بأنه كان - صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى في كل خلق كريم، وبَسْطُ القول في هذا الصدد لا يغني فيه سفر، فضلاً عن محاضرة. وأما إخلاصه، فقد كان صافي السريرة، لا يبغي إلا هدياً، ولا ينوي إلا إصلاحاً، والإخلاص روح العظمة، وقطب مدارها. وأقرب شاهد على إخلاصه في دعوته: أنه لم يحد عن سبيل الزهد في هذه الحياة قيد أنملة. فعيشه يوم كان يتعبد في غار حراء كعيشه يوم أظلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر من ناحية تبوك. وأما صدق عزيمته، فقد قام - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى العدل ودين الحق، ويلقى من الطغاة والطغام أذى كثيراً، فيضرب عنه صفحًا أو عفواً، ويمضي في سبيل الدعوة، لا يأخذه يأس، ولا يقعد به ملل، ولا يثنيه جزع، وقد ظهر دين الله، وعلت حكمته بهذا العزم الذي تخمد النار ولا يخمد، وينام المشرفي ولا ينام. وأما عمله، فتهجد وصيام، وتشريع وقضاء، ووعظ وإرشاد، وسياسة وجهاد، وهل من سيرة تبتغى لعظمة يرضى عنها الله، ويسعد بها البشر،

غير هذه السيرة؟!. وهل يستطيع كاتب المقال أن يدلنا على رجل كان ناسكا مخلصاً، ومشرعاً حكيماً، وقاضياً عادلاً، ومرشداً ناصحاً، وواعظاً بليغاً، وسياسياً أميناً، ومجاهداً مصلحاً، وفاتحاً ظافراً، وسيداً تذوب في محبته القلوب، غير المصطفى - عليه الصلاة والسلام -؟. وأما حسن بيانه، فقد أحرز - عليه الصلاة والسلام - من خصلتي الفصاحة والبلاغة الغاية التي ليس وراءها لمخلوق غاية، فانظروا إن شئتم إلى مخاطباته وخطبه، وما يضربه من الأمثال، وينطق به من جوامع الكلم، تجدوا جزالة اللفظ، ومتانة التركيب، وسهولة المأخذ، إلى رفعة الأسلوب، إلى حكمة المعنى. عظمة انتظمت من هذه المزايا العالية، فبلغت حد الاعجاز، وكل درة في عقد حياة محمد - عليه الصلاة والسلام - معجزة. وأذكر بهذه المناسبة بيتين ينسبان إلى صاحبنا الأستاذ محمد حبيب العبيدي مفتي الموصل لهذا العهد، وهما: سيد الرسل ومن بعثته ... كست الكون بهاء وفخارا قم إلى النور الذي جئت به ... أفترضى أن يصير النور نارا؟! وكان أحد فضلاء الشام قد اقترح عليَّ تشطيرهما، فكان التشطير: "سيد الرسل ومن بعثته" ... سطعت فانقلب الليل نهارا سُلبت أمتك العز وكم ... "كست الكون بهاء وفخارا" "قم إلى النور الذي جئت به" ... والورى في غسق الجهل حيارى

تلق نار الغيِّ تسطو حوله ... "أفترضى أن يصير النور نارا" هذه منتهى المحاضرة، وندع دفع ما وسوس كاتب المقال في حكمة التوحيد إلى فرصة أخرى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]

الهجرة وشخصيات الرسول - صلى الله عليه وسلم -

الهجرة وشخصيات الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1) وقع في يدي الجزء الصادر في 30 مارس سنة 1942 من مجلة "الرسالة"، فأخذت أقلب صفحاته، حتى أتيت على عنوان كلمة استوقف نظري، والعنوان هو: "التشريع الإِسلامي الدائم والمؤقت"، فقرأت ما كتب تحته، فإذا هو الجمل التالية: "كتب صديقي الأستاذ الجليل الشيخ محمود شلتوت مقالاً في عدد "الرسالة" الممتاز تحت عنوان: "الهجرة وشخصيات الرسول"، وليس المهم في هذا المقال تقسيم شخصيات الرسول، فذلك أمر يعرفه كل العلماء، وإنما المهم والجديد في هذا المقال: ما جاء فيه من توزيع أحكام الشريعة الإِسلامية على تلك الشخصيات، ومن جعل التشريع الدائم والمؤقت تابعاً لهذه الاعتبارات، وهذا أمر جديد لم يظهر إلا في عصرنا، وإذا أمكن الاتفاق عليه بيننا، أمكن حل مشاكلنا التشريعية، وزالت أكبر عقبة في سبيل وضع تشريع إسلامي يفي بحاجات المسلمين في هذا العصر، ولا يمكن أحداً أن يوجه إليه أي طعن. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد الرابع عشر الصادر في جمادى الآخرة سنة 1361، والجزء الأول من المجلد الخامس عشر الصادر في رجب سنة 1361.

اتجاه الوحي بمكة

"وخلاصة ما يرمي إليه المقال (يعني: مقال الشيخ شلتوت): أن الذي يعد شرعاً دائمًا: هو ما يرجع إلى شخصيات الرسول من العقائد، وأصول الأخلاق، والعبادات، وما عدا ذلك مما يرجع إلى شخصية الإمام أو المفتي أو القاضي، فليس بشرع دائم، وإنما هو شرع مؤقت يمكن أن يتأثر بالاجتهاد، وأن يترك العمل به لسبب من الأسباب". والتوقيع "عالم". قرأت هذه الكلمة، فدعتني بإلحاح إلى أن أطلع على مقال الأستاذ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء، ووكيل كلية الشريعة؛ لأتبين أمر هذا الذي يعزوه إليه كاتب تلك الكلمة، فأحضرت ذلك المقال المنشور تحت عنوان: "الهجرة وشخصيات الرسول"، وقرأته قراءة خالي الذهن مما قيل فيه، فما لبثت أن لاقتني جمل صيغت في قالب ذي وجهين، وأطلَّت عليَّ آراء قلت لما لمحتها: أما وجدت هذه الآراء وادياً غير هذا الوادي، أو عهداً غير هذا العهد؟ وأمسكت بالقلم ناقداً لها بعدل، مناقشاً لها بإنصاف. وسأرسلك - بتوفيق الله تعالى - الطريقة التي اخترتها لنفسي في مناقشة ما يبدو لي أنه جدير بالمناقشة، فأنقل عبارات كاتب المقال بأعيانها؛ لأسير أنا والقارئ في النقد جنباً لجنب، ولا أظلم صاحب المقال، ولا أظلم الحق أو العلم. * اتجاه الوحي بمكة: ذكر كاتب المقال: "أن الوحي كان له اتجاهان: اتجاه قبل الهجرة، واتجاه بعدها، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يساير الوحي في هذين الاتجاهين، ويحتفظ بما يؤدي إلى الغاية منهما، وابتدأ بالحديث عن اتجاه الوحي في مكة، ثم

اتجاه النبي - عليه الصلاة والسلام - فيها، فقال: كان الوحي يدور أولاً حول تحديد الدعوة، وبيان الغرض منها، ولفت الأنظار إلى أدلتها، وذكر ما ينفع فيها من قصص الأولين، وعبر الماضين، وتسلية الرسول، وتحري عوامل القوة الروحية في نفسه، وتعويده عدم الاكتراث بما يجابه به من الإيذاء والتكذيب والاضطهاد، وقد اتجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الناحية في تفكيره وأعماله وأقواله وسائر تصرفاته، يبلغ الدعوة، ويعالج الصبر على الإيذاء في سبيلها، ويحاول جمع القلوب حولها، ويرسم للناس دائرتها، ويركز أصولها في النفوس، ويعمل على إيجاد بيئة إسلامية صالحة لما يرد عليها فيما بعد من مبادئ التشريع". تحدث الكاتب عن اتجاه الوحي بمكة، وذكر أنه كان يدور حول تحديد الدعوة، وحدثنا عن اتجاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر أنه كان يرسم دائرة الدعوة، ولم يفصح الكاتب هنا عن وجه تحديدها، أو رسم دائرتها، وستمر بنا جمل من مقاله تلوح إلى حدود وظيفة الرسول السماوية، وتجعلها في دائرة أضيق من دائرتها، وسنناقشها برفق، وندفع شبهتها بحجَّة. قال الكاتب: "إن الوحي في مكة كان يدور حول تحديد الدعوة، وبيان الغرض منها، ولفت الأنظار إلى أدلتها". وهذه الجمل تخيل إلى القارئ أن الوحي في مكة وقف دون شرع الأحكام العملية، وأن مبادئ التشريع إنما تناولها الوحي بالمدينة، والواقع أن الوحي بمكة قد شرع أحكامًا ترجع إلى العبادات، وأخرى إلى العادات أو المعاملات: شرعت هنالك الصلوات الخمس، ونزل الوحي فيما يحل ويحرم من المطعومات، ووردت آيات وأحاديث في الأمر بأعمال صالحة؛ كسد حاجات الفقراء، وأخرى في النهي

عن أعمال خاسرة؛ كالظلم، وقتل النفس، والزنا، وما يشبه الزنا، والسرقة والنهب، ونقص الكيل والميزان، والإسراف في الإنفاق، والتصرف في مال اليتيم بغير حق. وكانت المعاملات من نحو النكاح والعتق والبيع والإجارة والهبة تقع من العرب على وجوه، فإذا صحت الرواية بأن شيئاً منها وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو من غيره من الصحابة بمكة، وهو يعلم، عدَّ الوجه الذي وقعت عليه تقريراً من الشارع، وساغ لمن يبحث في تاريخ التشريع أن بدخله في حساب المشروعات المكية، ونرى علماء الشريعة يستشهدون بأحاديث مكية على طائفة من أحكام المعاملات، كما استشهدوا على صحة عقد نكاح غير البالغة بعقد النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة - رضي الله عنها - وهي بنت ست سنين، واستشهدوا على صحة عمل المسلم لغير المسلم على وجه الإجارة دون أن يتخذه خادماً في منزله الخاص، بصنع خباب الصحابي سيفاً للعاص بن وائل. ونزل الوحي في مكة بأوامر ونواه تم تفصيل ما أمرت به أو نهت عنه في المدينة، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90]، وقولى تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] , وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وقد تنزل آيات في نحو الوعيد أو الوعد أو الامتنان، متضمنة بطريق الاقتضاء أحكاماً شرعية يقصد إليها المجتهدون بالاستنباط، ويذكرونها في

مآخذ الأحكام، وقد اشتمل الوحي بمكة على طائفة من الأحكام الواردة على هذا الوجه من الدلالة؛ كما يستنبط عدم مؤاخذة الرجل بجريرة قريب من نحو والد أو ولد من قوله تعالى فيما نزل بمكة: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. ونبهت الآيات المكية على قواعد يرجع إليها المجتهدون في تقرير أحكام كثير من الوقائع، كقاعدة: سد الذرائع المنبه لها بقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، وقاعدة: العفو عما يقال أو يفعل تحت إكراه، المنبَّه لها بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، وقاعدة: الضرورات تبح المحظورات المنبَّه لها بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]. ولو تمسكنا بكل آية قال فيها طائفة من أهل العلم: إنها نزلت بمكة، وخالفهم فيها آخرون، لجمعنا أحكاماً كثيرة، وأصولاً غير ما ذكرنا. والأئمة الذين يرون أن شرع من قبلنا -الذي يقصه علينا القرآن، أو الحديث الصحيح- شرع لنا، ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه، يجدون في قصص الأنبياء التي نزلت بمكة أحكاماً وأصولاً ترجع طائفة منها إلى المعاملات، وشؤون الاجتماع، وسياسة القضاء. ويستبين من هذا: أن الوحي بمكة لم يمض عهده إلا وقد قطع شوطاً واسعاً فيما جاء له من التعبد والتشريع، فلا يحسن من المتحدث عن ذلك العهد أن يصرف النظر عما بناه الوحي فيه من أحكام وأصول، ولا ينبه له في حديثه عن سيرة الدعوة.

ذكر الكاتب أن للوحي اتجاهاً، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - اتجاهاً، وجعل من آثار اتجاه النبي - عليه الصلاة والسلام - العمل على إيجاد بيئة إسلامية صالحة لما يرد عليها بعد من مبادئ التشريع، والواقع أن للوحي في هذا العمل فضل الآمر به، وهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قد قال: "لما أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى"، وذكر كيف كانوا يأتون مجالس العرب (¬1). وكان - عليه الصلاة والسلام - ينتظر بالهجرة من مكة إلى المدينة إذن الله فيها، ولم يقدم عليها حتى جاءه الوحي، وهذا ابن عباس كانه قد قال: "بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه، ثم أُمر بالهجرة، فهاجر عشر سنين (¬2) ". وهذه عائشة -رضي الله عنها- تقول: "تجهز أبو بكر قِبَلَ المدينة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على رسلك؛ فإني أرجو أن يؤذن لي"، فقال أبو بكر: "وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ " قال: "نعم"، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصحبه، وقالت: "ولما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر في نحر الظهيرة متقنعاً، ودخل عليه، قال له: "فإني قد أُذن لي في الخروج (¬3) "، وقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله أمره بالهجرة إلى المدينة، أو بسكناها إذ قال: "أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون: يثرب، وهي المدينة" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم، وأبو نعيم، والبيهقيُّ في "الدلائل". (¬2) "صحيح البخاري". (¬3) "صحيح البخاري". (¬4) "صحيح البخاري".

اتجاه الوحي بالمدينة

* اتجاه الوحي بالمدينة: قال كاتب المقال: "لما تمت الهجرة، دخلت الدعوة في عهد جديد تكونت به للمسلمين وحدة اقتضت معاملات ونظماً اجتماعية تمتاز بها عن سائر الجماعات". "وبعد ذلك الحين اتجه الوحي إلى جهة أخرى تسير مع مقتضيات الحالة الجديدة، وتلبي مطالب هذه الأمة الناشئة، واتجه النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الاتجاه نفسه، فأضيف بذلك إلى وظيفته في التبليغ وظائف أخرى، فكان إماماً للمسلمين، يسوسهم، ويرعى دولتهم، وينظم شؤونهم، وكان مفتياً يجيبهم عما يسألون، ويعلمهم ما يجهلون، وكان قاضياً يفصل في خصوماتهم، ويقضي بينهم معتمدًا على ما يظهر به الحق من البينات والأدلة". ذكر الكاتب العهد الجديد الذي تكونت به للمسلمين وحدة معاملات، ونظم اجتماعية، ووصف الوحي بأنه اتجه إلى جهة تسير مع مقتضيات هذه الحالة الجديدة، ثم وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه اتجه هذا الاتجاه نفسه، وتخلص من هذا إلى أنه قد أضيف إلى وظيفته في التبليغ وظائف أخرى هي: الإمامة والفتوى والقضاء، وإليك ما نفهمه من تلبية الجهة التي اتجه إليها الوحي لمطالب هذه الأمة الناشئة: أراد الله تعالى أن يهدي الناس - أينما وجدوا ومتى وجدوا - طريق الحق والإصلاح، وأن تكون هدايتهم بطريق رسالة عامة، لباسها الحكمة، وزينتها البلاغة، ونصيرها الحجة، واصطفى لهذه الرسالة محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ يمده بالوحي الفينة بعد الفينة، إلى أن تكامل الدين، وانتظمت الشريعة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]، وكان من حكمة الوحي

أن يلقن الناس أحكام العبادات والمعاملات وشؤون الاجتماع رويداً رويداً؛ ليخف عليهم أمرها، ويسهل عليهم حفظها، فيصلحوا بها سير حياتهم، ويسوسوا بها غيرهم من الجماعات ما استطاعوا السبيل إلى إبلاغها وإنفاذها، وكان من حكمة الوحي: أن اتخذ من حالة الأمة الناشئة لذلك العهد أسباباً لورود الأحكام التي جاء بها؛ لتكون شريعة عامة خالدة، فإذا لبّى الوحي مطالب هذه الأمة الناشئة، فقد لبَّاها بتشريع ذي نصوص وأصول يقصد منها إصلاح حال كل أمة أينما وجدت، ومتى وجدت. ثم إن الكاتب إذ ذكر اتجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - في مقابلة اتجاه الوحي يريد: الاتجاه الذي يصدر عنه "بحق بشريته"، وقد انتقل من ذكره اتجاه النبي - عليه الصلاة والسلام - في المدينة بطريق حرف الترتيب والتعقيب إلى أنه أضيف له وظائف أخرى، ولا ندري: أيريد الكاتب أن هذه الوظائف أضيفت إليه من اتجاهه خاصة، أو يريد: أنها أضيفت إليه من اتجاهه واتجاه الوحي؟ فإنه يقول: "فأضيف بذلك إلى وظيفته في التبليغ وظائف أخرى"، فاسم الإشارة في قوله: "بذلك" ظاهر في عوده إلى اتجاه النبي - عليه الصلاة والسلام - وحده، ومحتمل لأن يعود إلى اتجاهه واتجاه الوحي بحمل ما يشار به إلى المفرد على أنه مشار به إلى اثنين، أما جعل هذه الوظائف صادرة من اتجاهه وحده، فغير معقول، والقرآن شاهد بأنه تولى الإمامة والقضاء بوحي؛ على ما نحدثك به من بعد، وليست الفتوى إلا تعريفًا للحكم الشرعي، فهي ظاهرة في معنى التبليغ المأمور به في مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]. وإذا أراد الكاتب أن هذه الوظائف أضيفت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتجاهه

خاصة، فقد التقى من قريب بمن حاول أن يقصر مهمة الرسول السماوية على البلاإ دون التنفيذ، وقال: "إن عمله السماوي لا يتجاوز حدود البلاع المجرد من كل معاني السلطان" (¬1). ومن الحق أن تكون هذه الوظائف الثلاث موصولة بالاتجاهين على معنى: أن الوحي اتجه إليها اتجاه تشريع، والنبي - صلى الله عليه وسلم - اتجه إليها اتجاه الفاهم لنصوص الوحي ومقاصده، والمنفذ لها بحق. قال كاتب المقال: "وقد صدرت عنه - صلى الله عليه وسلم - في جو هذه الحياة الجديدة أقوال وأفعال وتصرفات مختلفة، عني بها المسلمون عناية فائقة هي مضرب الأمثال في عناية الأمم بتاريخ عظمائها، وتتبع آثارهم، دوَّنوها، وشرحوها، وضبطوا ألفاظها، وألَّفوا المعاجم في شرح غريبها، واهتموا بتفهم أسرارها، وتبين أغراضها، حتى كان من آثار ذلك: أن نشأت علوم خاصة تعرف "بعلوم السنَّة"؛ من رواية ودراية، وتجريح وتعديل، وناسخ ومنسوخ، وغير ذلك". يقول الكاتب: إن المسلمين عنوا بما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في جو تلك الحياة الجديدة، والمعروف أن المسلمين عنوا بما صدر عنه في حياته قبل الهجرة وبعدها، وكتب السنّة عامرة بأقوال وأفعال صدرت منه - عليه الصلاة والسلام - بمكة قبل الهجرة، وهذه الأقوال والأفعال داخلة فيما دوَّنوه، وشرحوه، وضبطوا ألفاظه، واهتموا بتفهم أسراره، وتبين أغراضه، ولا يغيب عن أحد تتبعَ السيرة في مواردها الصحيحة: أن كثيراً من أقواله - عليه الصلاة والسلام -، وأفعاله بمكة كان لها أثر كبير في بناء عظمته، وتثبيت رسالته، ¬

_ (¬1) كتاب "الإِسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق. وللإمام كتاب الرد عليه "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم".

وتأسيس شريعته، فالواقع أن علوم السنة ناشئة عن تدوين ما صدر في حياته بمكة والمدينة. قال كاتب المقال: "يهم الناظر في التشريع الإِسلامي أن يعرف هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يروى عنه من هذه الأقوال وتلك الأفعال والتصرفات مصدرًا عن الوحي، ناطقًا بلسانه، أو كان له - إلى جانب الوحي - فيها تفكير ونظر واجتهاد؟ ذلك ما نريد معالجته في هذا البحث". قد عالج علماء الإِسلام هذه الناحية من السيرة، وأسهبوا فيها القول حتى بلغوا الغاية، ورأيناهم قد قسموا أقواله وأفعاله إلى ما كان صادراً عنه من حيث إنه رسول يوحى إليه، وما كان صادراً عنه من ناحية أنه بشر يفكر ويجتهد، وسنتناول هذه المسألة فيما بعد بتفصيل حتى تستبين وجهة نظر العلماء فيها، ويتضح الفرق بين معالجتهم لها، ومعالجة كاتب المقال. قال كاتب المقال: "يرى بعض العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبلِّغ عن الله فقط، تنحصر مهمته في تبليغ الوحي، وما يتصل به من بيان على الوجه الذي ضمنه الله بقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18، 19]. ويرون أن صفة الرسالة فيه غلبت على صفة البشرية، وأنه -عليه الصلاة والسلام - تمحض في استعداده لحمل الرسالة وتبليغ الأمانة، معتمدين في ذلك على ما فهموا من قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]، بعد قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] ". لا ندري مَن هؤلاء العلماء الذين يرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبلّغ عن الله فقط، وأنه تمحض في استعداده لحمل الرسالة وتبليغ الأمانة؛ فإن علماء الإِسلام مجمعون على أن من أقواله وأفعاله ما لم يصدر عن وحي، وسنقيم على هذا

شواهد من بعد. وهذا الذي نسبه كاتب المقال إلى بعض العلماء، قد نسبه الدكتور زكي مبارك إلى المسلمين، فقال في مقال نشر في مجلة "الرسالة" (¬1): "إن المسلمين يجعلونه رسولاً في جميع الأحوال، فهو لا يتقدم ولا يتأخر إلا بوحي من الله، ولا يأخذ ولا يدع إلا بإشارة من جبريل، ومعنى ذلك: أن شخصية محمد في جميع نواحيها شخصية نبوية لا إنسانية". قال كاتب المقال: "رأوا هذا، ورتبوا عليه أن كل ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شريعة من الله رب العالمين، لها صفة الدوام والبقاء إلى يوم الدين، والناس مخاطبون بها في كل زمان ومكان، لا يجوز لهم أن يحيدوا عنها، قيد شعرة، ومن حاد عنها أو سوغ لنفسه أن يتصرف فيها، فذلك خارج على شريعة الله، مخالف عن أمر الله، غير جدير بأن يكون من المؤمنين". من المحتمل أن توجد طائفة من العلماء يقولون: إن كل ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شريعة من الله رب العالمين، وليس من المحتمل أن توجد طائفة من العلماء يجعلون كل ما أثر عنه - عليه الصلاة والسلام - من قبيل ما لا يجوز للناس أن يحيدوا عنه قيد شعرة، ويحكمون على من حاد عنه بأنه خارج عن شريعة الله، غير جدير بأن يكون من المؤمنين. أفلا يعلم هؤلاء العلماء أن في الشريعة واجبات ومندوبات ومباحات، وأن المندوبات والمباحات لا يصح أن يقال فيمن تركها: إنه خارج على شريعة الله، غير جدير بأن يكون من المؤمنين؟! ¬

_ (¬1) جزء المحرم سنة 1358.

قال كاتب المقال: "يقولون ذلك، ويتشدودن فيه، ولا يفرقون بين أقواله وأفعاله، وأحكامه وأقضيته وسائر تصرفاته في العبادات والمدنيات، والجنايات والطب والسياسة والحروب والعادات، والزي واللباس، وآداب الطعام والشراب، والجلوس والسير في الطريق، وما يكون من الأحوال الشخصية والمسائل الجنسية، وغير ذلك، فكل هذا وحي من الله، بعضه ظاهر، وبعضه باطن، وكله شرع محكم، ودين متبع، لا يجوز الخروج عليه، والتصرف فيه". من ذا يعقل أن طائفة من العلماء يقولون: إن جميع أقواله - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله، وشريعة محكمة، وهم يجدون أمامهم - متى كانوا من العلماء - أحاديث يخبر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء شاهدها بعينه، أو سمعها بأذنه، أو أحسها بوجدانه؛ كالحب والبغض، والسرور والحزن، والعطش والجوع، وأحاديث يوجهها الأشخاص في صيغة استفهام، وأحاديث يقول فيها: أظن كذا، إلى غير ذلك مما لا يقول عالم أو غير عالم: إنه لا يصدر إلا عن وحي. وأما أفعاله - عليه الصلاة والسلام -، فإنا نجد علماء الأصول يفرقون بين ما كان جبلَّة، أو عادة، وبين ما كان فيه معنى القربة، ويقولون: ما كان جبلَّة، فهو غير داخل فيما يطالب الناس بالاقتداء به، ومنهم من يذكر هذا، ولا يحكي فيه خلافاً؛ كما فعل إمام الحرمين في "البرهان" إذ قال: "والأفعال الجبلية؛ كالسكون والحركة، والقيام والقعود، وما ضاهاها من تغاير أطوار الناس، فإذا ظهر ذلك، فلا استمساك بهذا الفن من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، قال هذا، ولم يحك فيه خلافاً، مع عنايته بذكر ما يقع في مسائل الأصول من اختلاف،

ومنهم من يذكر هذا النوع من أفعاله، وينفي أن يكون فيه نزل؛ كما فعل الآمدي، والأسنوي، ومنهم من ينفي أن يكون فيه خلاف؛ كما فعل عبد العزيز البخاري شارح "أصول البزدوي"، ومنهم من يحكي الاتفاق عليه كما فعل صاحب "مسلم الثبوت". وحكى بعض الأصوليين أن فيما ظهر فيه أمر العادة قولاً بأنه مندوب إليه، وهو قول شاذ، ولشذوذه أهمله كثير من الأصوليين، فلم يذكروه في كتبهم، وروي عن ابن عمر: أنه كان يحاكي النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا النوع من العاديات، كما كان يتحرى مواطن وقوفه ومشيه، ويتحرى منازله وطرق سيره في الحج، ولهذه المحاكاة وجه آخر غير الندب، وهو التبرك بالتشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو فيما يفعله على أنه عادة. والراسخون في علم الشريعة يفرقون في أفعاله - عليه الصلاة والسلام - بين ما كان من قبيل الشرعيات، وما كان من قبل الجبلَّةِ أو العادات، ويبنون على هذه التفرقة: المطالبة بالاقتداء، وعدم المطالبة به، وقد تختلف أنظارهم في بعض أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، فيراها بعضهم من قبيل الشرعيات، فتكون موضع القدوة، ويراها آخرون من الجبلَّات أو العادات، فلا تدخل في قبيل ما يقتدى به، وكثيراً ما يجري هذا الاختلاف في أفعال تقترن بعبادات؛ كضجعته - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة الفجر، وركوبه في الوقوف بعرفه، وجلسة الاستراحة بين السجدة والقيام لركعة ثانية أو رابعة. وقد تختلف أنظارهم في فعل من أفعاله لا يتصل بعبادة؛ كإرساله - عليه الصلاة والسلام - شعر رأسه إلى أذنيه، إذ ذهب طائفة إلى أن هذا الفعل من السنَّة، وذهب آخرون إلى أنه من قبيل العادة، وهو الراجح فيما نرى.

وإذا كان العلماء قد فرقوا بين ما يفعله على أنه شرع، وما يفعله على أنه جبلَّة وعادة، فإن التفرقة في أقواله بين ما يصدر على أنه عادة، وما يصدر على أنه شرع، أيسر وأقرب إلى الفهم، والاشتباه فيها أقل من الاشتباه في الأفعال؛ فإن في الأقوال التصريح بحرمة الشيء أو الإذن فيه، وفيها صيغتا الأمر والنهي، وفيها مدح الأفعال أو ذمها، وفيها الوعد بالثواب على الفعل، والوعيد بالعقاب على الترك، وقد يجيء القول في صيغة الخبر، وهو مقترن بلفظ أو حال يصرفه إلى الطلب أو النهي، وهذه طرق معروفة في التشريع، وإنما يجري الخلاف في وجه الطلب: هل هو الإيجاب، أو الندب؟ أو في وجه النهي: هل هو الحرمة، أو الكراهة؟ فإن قال الكاتب: أنكر على هذه الطائفة أن تعمد إلى الأقوال التي تحتمل أن تكون عن اجتهاد، فيجعلوها كلها من قبيل الوحي، قلنا له: المعروف في كتب الأصول: أن طائفة ينكرون أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - متعبداً بالاجتهاد، ويذهبون إلى أنه لا يقول إلا عن وحي، ويستدلون لهذا المذهب بآية: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]، وإيراد الأصوليين كلمة التعبد في طرح المسألة، ظاهر في أن موضع الخلاف هو الاختلاف العائد إلى الأحكام الشرعية دون الأمور الدنيوية، وقد صرح بذلك الإمام الغزالي في كتاب "المستصفى" عند ذى الخلاف في اجتهاده - عليه الصلاة والسلام - وسوقه لأدلة القائلين باجتهاده التي من جملتها: واقعة نزوله دون المياه في غزوة بدر، فقال: "أما المنزل، فذلك اجتهاد في مصالح الدنيا، وذلك جائز بلا خلاف، إنما الخلاف في أمور الدين". وتحدث كاتب المقال عن هذه الطائفة التي تقول: إن كل أفعاله وأقواله

وسائر تصرفاته وحي، ونسب إليها أنها تقول: "كل هذا وحي من الله، بعضه ظاهر، وبعضه باطن". وتقسيم الوحي إلى ظاهر وباطن اصطلاح معروف عند بعض الأصوليين الذين يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد، ويفسرون الوحي الظاهر بما ينزل به المَلَك بلفظه، أو ما يقذفه المَلَك في القلب، وهو المشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن روح القدس نفث في روعي"، أو ما يبدو للقلب بإلهام من الله تعالى؛ ويفسرون الوحي الباطن بما ينال باتجهاد الرأي بالتأمل في الأحكام المنصوصة؛ وإنما جعل اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وحيًا باطنًا؛ لأن إقراره عليه يدل على أن الأحكام الصادرة عنه حق لا مرية فيه؛ كالأحكام الثابتة بطريق من طريق الوحي المشار إليها آنفاً، ومن هؤلاء من يجعل الوحي الباطن: الإلهام والاجتهاد. فتقسيم الوحي إلى ظاهر وباطن صادر ممن يقولون باجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والكاتب ينسبه إلى الطائفة التي تقول: إن كل أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله. قال كاتب المقال: "وقد تجد قوماً منهم يستثنون من ذلك بعض الأشياء التي لا تتصل بالنواحي التشريعية؛ كرأيه - صلى الله عليه وسلم - في تأبير النخل، أو في اختيار مكان ينزلون فيه للحرب، أو نحو ذلك، ولكنهم حين يتحدثون عن هذا الاستثناء يحتاطون في الأمر تمام الاحتياط، فيضيقون دائرته، ولا يتسعون فيه". الذين يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلم إلا عن وحي يجعلون موضوع كلامهم الأحكام الشرعية، ولا ينكرون أن يتكلم - عليه الصلاة والسلام - بما يراه من أمور الدنيا أو أمور الحرب؛ كما نرى هذا في مؤلفات ابن حزم، فهم يستثنون الأشياء التي لا تتصل بالنواحي التشريعية، وقد اختار الكاتب

أن يأتي لاجتهاد النبي - عليه الصلاة والسلام - في غير الشرعيات بمثالين، هما: تأبير النخل، واختيار مكان للنزول في الحرب، والمثالان يساقان على أنه - عليه الصلاة والسلام - قد يعرض لاجتهاده في غير الشرعيات خطأ، ولكن هذا الخطأ لا يستمر، بل ينقطع بتنبيهه له - عليه الصلاة والسلام -، أو بتنبهه له من نفسه. أما واقعة تأبير النخل: فحديثها: أنه - عليه الصلاة والسلام - مر على قوم بالمدينة يلقحون (¬1) نخلًا، فقال: "ما يصنع هؤلاء؟ "، فقالوا: يلقحون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أظن يغني ذلك شيئاً"، فأُخبروا بذلك، فتركوه، فخرجت شِيصًا (¬2)، فذُكر ذلك للنبي- صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك، فليصنعوه؛ فإني إنما ظننت ظنًا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً، فخذوا به". وفي رواية أنه قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم". فالحديث لم يأت فيه أنه نهاهم عن التأبير، وإنما قال: "ما أظن يغني ذلك شيئاً"، وفي رواية: "لعلكم لو لم تفعلوا، كان خيراً". والتعبير بالظن، أو بحرف الترجي المفيد للظن، صريح في أنه لم يكن بصدد تقرير حكم شرعي، وإنما هو إبداء رأي في أمر دنيوي، وعدم موافقة ظنه لما يعرفه أهل فن الفلاحة، لا يمس مقام نبوته الرفيع بشيء؛ إذ ليس من شرط صحة النبوة أو كمالها أن يكون صاحبها عارفًا بالشؤون الدنيوية البحتة، مصيبَ الظن في كل ما يتكلم فيه على وجه الظن. وأما واقعة اختياره مكاناً للنزول في الحرب، فسيأتي بحثها حيث ¬

_ (¬1) يجعلون الذكر في الأنثى، فتلقح. (¬2) الشيص: تمر لم يتم نضجه؛ لسوء تأبيره.

أوردها الكاتب شاهداً على أنه - عليه الصلاة والسلام - نزل على اجتهاد غيره. يقول الكاتب: "ولكنهم حين يتحدثون عن هذا الاستثناء يحتاطون في الأمر تمام الاحتياط، فيضيقون دائرته، ولا يتوسعون فيه". قد رأيت أن هؤلاء القوم ينكرون اجتهاده - عليه الصلاة والسلام - في الأحكام الشرعية، ويقولون: إنه قد يتكلم في أمور الدنيا وأمور الحرب عن رأي، لا عن وحي، ولا ندري ماذا يريد الكاتب منهم إذا أنكر عليهم الاحتياط في أمر هذا الاستثناء، ووصفهم بأنهم ضيقوا دائرته، ولم يتوسعوا فيه؟ قال كاتب المقال: "لقد جاءت الشريعة الإِسلامية بالاجتهاد، وأمر الله عباده أولي الأبصار بأن يعتبروا، وينظروا ويتدبروا كتابه، وقد كان الاجتهاد سنة الأنبياء والمرسلين من قبل، والقرآن يحدثنا بذلك عنهم؛ كما في شأن يحيى إذ آتاه الحكم صبيًا. وكما في قصة داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم، وقد ذكر الله جملة من أنبيائه ورسله، وأثبت لهم جميعاً هذا المعنى بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89]. ثم قال لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في الآيات نفسها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. لما أراد الكاتب أن يتحدث عن اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذكر طائفة وصفها بأنها تقول: إن أفعاله - عليه الصلاة والسلام - وأقواله وسائر تصرفاته وحي، وأطلق لقلمه العنان حتى أظهرها للناس أنها متغالية إلى حد بعيد، ثم ذكر أن قوماً من العلماء يستثنون من ذلك بعض الأشياء التي لا تتصل بالنواحي التشريعية، ثم أخذ في هذه الجمل يتحدث عن اجتهاد النبي حديث من يحاول

أن يكون له فيه رأي، ولم يذكر الكاتب مذهباً مشهوراً في الأصول هو أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قد يجتهد في الأحكام الشرعية، بَلْهَ أمورَ الدنيا وأمور الحرب. ونحن لا نطالب الكاتب في مسألة أن يحكي كل قول جرى فيها، ولا نطالبه في كل رأي أراد إفادته للناس أن ينسبه إلى من سبقه به، ولكنا نؤاخذه بأن يأتي إلى مسألة ذات أقوال، ويعمد إلى القول الذي يراه ضعيفًا، فيخصه بالذكر، ويصب عليه عبارات تزيده ضعفا على ضعفه، ويدع أن يذكر بجانبه القول الذي يرى له وجهًا من الرجحان، ثم يقبل على الناس، ويقرر لهم القول الراجح كأنه ابتكره، أو يقرر لهم رأيًا ابتدعه، على أمل أن يكون لتشويهه الرأي الذي عرضه أولاً أثر في تلقي رأيه بالقبول. أما اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإما أن يكون في مصالح الدنيا، وهذا ما لا نزاع فيه، وإما أن يكون في تقرير حكم شرعي، وهذا ما اختلفت فيه أنظار الأصوليين والفقهاء، فمنعته طائفة، منهم: ابن حزم، وأجازته طائفة، بل قالت بوقوعه، وهو المشهور بين أهل العلم، وتوقفت فيه طائفة، منهم: الإمام الغزالي؛ إذ تشابهت عليهم الأدلة، ولم تسفر مناظرة المانعين والمجيزين - فيما تراءى لهم - عن قول حاسم. ونحن لا نمانع من أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اجتهد في تقرير بعض الأمور الشرعية، وإنما ننازع في أشياء كثيرة يوردها القائلون باجتهاده في أحكام الشريعة مورد الأدلة، ونراها غير جديرة بأن تساق لتثبيت هذا الأصل العظيم. ذكر الكاتب: أن الشريعة الإِسلامية جاءت بالاجتهاد، وأن الاجتهاد كان سنة الأنبياء والمرسلين، ذكر هذا، وجعل من مقتضاه أن يكون النبي

- عليه الصلاة والسلام - ممن يجتهدون. أما أن الشريعة جاءت بالاجتهاد، فهذا مالا شبهة فيه، ولكنه شرع لحاجة الناس إليه حيث ينقطع الوحي، أو حيث يكونون على بعد من مهبطه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في غنى عن الاجتهاد بما يوحي به الله إليه. وأما اجتهاد الأنبياء والمرسلين، فهو موضع اختلاف المختلفين، فمن يمنع اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام الشرعية ينكر أن يكون غيره من الأنبياء قد اجتهدوا في ذلك، وعلى هذا التعميم درج ابن حزم في كتاب "الأحكام"؛ إذ جعل موضوع البحث: هل الأنبياء يجتهدون في أحكام الشريعة، أو لا يجتهدون؟. وأما الآيات التي أوردها الكاتب مستدلاً بها على أن الأنبياء كانوا يجتهدون، فليس فيها ما ينبئ عن الاجتهاد الذي هو موضع الخلاف، فآية: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]، وآية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89]، ليس فيهما سوى أن الله آتى أولئك الأنبياء الحكم، والحكم يراد منه: الحكمة، أو فصل الأمر على وجه الحق، وليس في أحد المعنيين ما يقتضي الاجتهاد في تقرير أمر من أمور الدين. وآية: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] يسهل فهمها على أن داود - عليه السلام - حكم في القضية على نحو ما سمع، وجرى في حكمه على ما يقتضيه ظاهر حال الشهود، وهو مأمور بأن يحكم على هذا الوجه، أما سليمان، فقد أطلعه الله تعالى على ما خفي على داود من باطن أمر القضية حتى عرف صاحب الحق، فداود قضى على نحو ما أمره الله به، وسليمان قضى على نحو ما أطلعه الله عليه، فكل منهما آتاه الله حكماً

وعلماً، ومن أهل العلم من يذهب في تأويل هذه القضية إلى أن داود - عليه السلام - أصاب الحكم، وسليمان - عليه السلام - أشار بالصلح، والصلح بين المتخاصمين متى رضيا به كان أرجح من تطبيق الحكم المقرر للقضية. قال كاتب المقال: "فالنبي إذاً مأمور بالسير على سنة الأنبياء والمرسلين من قبله، مأمور بان يقتدي بهديهم، وهذا أمر تقضي به طبيعة الأشياء؛ لأنه لا يعقل أن يرسل الله رسولاً في وقت نبغت فيه الإنسانية، واشتد ساعد الفكر البشري، ثم يحرمه النظر والتفكير الذي أباحه لإخوانه الأنبياء في طفولة الدهر وشباب الزمان، وأباحه - أيضاً - لمتبعيه الذين يدعوهم إلى دينه، ويامرهم بالعمل بشريعته، كيف يسوغ لأحد أن يقول بحرمان النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاجتهاد، وهو مرتبة علمية من أسمى مراتب الفطنة البشرية، والبصيرة الإنسانية؟ أيمنحها الله لذوي العقول وأرباب البصائر، ثم يحرمها على الإنسان الكامل؟ ". هدى الأنبياء الذي أمر الله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء به ظاهر في معنى ما يكون حقاً وكمالاً مما لا تختلف فيه الشرائع , كأصول الدين، وما يرجع إلى الأخلاق الكاملة، والآداب الرفيعة، من نحو: الصبر والشكر، والحلم والزهد والعزم، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والتضرع إلى الله في كل حال. والاجتهاد في الدين خير من جهة أنه وسيلة لتقرير أحكام شرعية، وكمال من جهة أنه دليل قوة العقل والفهم، ومن قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجتهد في الأحكام الشرعية، إنما يقصدون: أنه في غنى عن هذه الوسيلة بما يسره الله له من الوحي، وإذا نفوا عنه الاجتهاد في الأحكام لا يعنون أنه ليس له قوة التفكير

الكافي لاستنباط الأحكام، بل قصدهم: أن الأصل في الشرائع أن تكون بطريق الوحي، فيحمل الحكم الذي يصدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه ورد من هذا الطريق حتى يقوم الدليل على أنه صدر عن اجتهاد، وليس في التمسك بهذا الأصل حرمان له من مرتبة علمية من أسمى مراتب الفطنة البشرية والبصيرة الإنسانية، ولا تفضيل لمن أذن لهم في الاجتهاد عليه بهذه المرتبة. والفطنة البشرية والبصيرة الإنسانية يظهران في نواح كثيرة من نواحي التفكير غير الاجتهاد في أخذ الأحكام الشرعية من طريق القياس، وقد ظهرت رجاحة عقله - عليه الصلاة والسلام - وذكاء لبه في أساليب دعوته، وسمو حكمته، وحسن تصرفه في سياسة الناس على اختلاف طبقاتهم، وتكاثر مذاهبهم، وتباين مشاربهم، وتفاوت مداركهم، وفي معرفة المنافقين في لحن أقوالهم: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]. ولهجةُ خصوم الحق بين أهل الحق لا يكشف أسرارها، ويتنبه لمراميها إلا ذو بصيرة نافذة. قال كاتب المقال: "كأني بهؤلاء يرون رسالة الرسول أمراً يتعارض مع بشريته، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع رسالته، وقبل رسالته، بشرًا اكتملت فيه جميع معاني البشرية الفاضلة، ولم يشأ الله أن يرسله حتى بلغ أربعين عاماً؛ لتنضج بشريته، وتكمل رجولته، فلا تطغى عليها الرسالة، ولا تسلبها خصائصها، وقد عني القرآن الكريم بأن يؤكد هذا المعنى في كثير من آياته: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93]، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110]. لم يقل المنكرون لاجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه لا يجتهد, لأن الاجتهاد شأن البشر، بل قالوا: إنه في غنى عنه بالوحي، فلو اقتنع هؤلاء بأن الحاجة داعية

إلى أن يجتهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يجدوا في صدورهم حرجاً من أن يقولوا باجتهاده، فرميهم بأنهم يرون رسالة الرسول أمراً يتعارض مع بشريته، لا يصيب غرضاً، ولا يجدي في تحقيق هذا البحث العلمي كثيراً ولا قليلاً. يقول الكاتب: "وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع رسالته، وقبل رسالته بشراً"، وكذلك يقول الدكتور زكى مبارك في مقاله المشار إليه آنفاً: "كان محمد إنساناً قبل أن يكون نبياً"، تواردت خواطر الشيخ الكاتب، والدكتور على حشر هذا المعنى في الكلام عن تفكير النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقوم - كما رأيت - لم يقولوا قولًا يمس بشريته الفاضلة بشيء. يقول كاتب المقال: "ولم يشأ الله أن يرسله حتى بلغ أربعين عاماً؛ لتنضج بشريته، وتكمل رجولته، فلا تطغى عليها الرسالة، ولا تسلبها خصائصها". ونحن يمكننا أن نفهم أن من حكمة إرساله - عليه الصلاة والسلام - في سن الأربعين أن تطول مدة مشاهدة قومه لأحواله قبل الرسالة، حتى إذا عرف بينهم بالصدق والأمانة ونقاء السيرة، كان نظرهم في آيات رسالته أيسر، وقبولهم لدعوته أقرب، وإلى هذا يشير قوله تعالى: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16]. ويمكننا أن نفهم أن من حكمة تأخير إرساله إلى بلوغه هذه السن: كمال استعداده لأداء الرسالة عامة، ففي الأربعين تكون النفوس قد أخذت كمالها الخلقي من أطرافه، وبلغت في قوة إدراك الحقائق غاية قصوى. نستطيع أن نفهم هذا وذاك، ولا نستطيع أن نفهم كيف تطغى الرسالة على البشرية، وتسلبها خصائصها، فهل تطغى الرسالة على البشرية، وتسلبها

الفطنة والألمعية، أو تطغى الرسالة على البشرية، وتسلبها الاستعداد للتخلق بالأخلاق الفاضلة، أو تطغى الرسالة على البشرية وتسلبها العزم والقدرة على القيام بجلائل الأعمال؟!. فهل لحضرة الكاتب أن يقيم لنا شاهداً على أن هذا الطغيان والسلب من طبيعة الرسالة؟! فنحن نذهب إلى أن سن الأربعين تساعد الرسالة على تأدية مهمتها، وكاتب المقال يذهب إلى أن سن الأربعين تكف طغيان الرسالة على البشرية، وتجعل خصائص البشرية في أمن من هذا الطغيان. قال كاتب المقال: "ومن زعم أن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غلبت على بشريته، وقضت على لوازمها السامية، فقد تلاقى في رأيه من قريب أو من بعيد بالذين يقولون: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94]. النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر رسول، وللبشرية الراقية لوازم، وللرسالة لوازم، والمعروف أن لوازم البشرية الراقية لا يقع بينها وبين لوازم الرسالة تعارض، فإذا قيل: هذا الوصف من لوازم الرسالة، لم يكن منافياً للبشرية الراقية قطعاً، وإذا قيل: هو من لوازم البشرية الراقية، لم يكن منافياً للرسالة البتة؛ فإذا رأى طائفة أن هذه الصفة، أو أن هذا الحال لم يوجد في الرسول، نظرنا في هذا الأمر الذي نفوه عن الرسول، فإن كان من مقتضيات البشرية الراقية في كل حال، قلنا لهم: قد زعمتم أن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد طغت على بشريته الراقية، وقفت على لوازمها، وإن كان هذا الذي أبوا أن يثبتوه للرسول لا تقتضيه البشرية الراقية في حال، بل يرجع الأمر فيه إلى اقتضاء المصالح، كان مجال النظر هو أن المصلحة تقتضي أن يكون هذا شأناً من شؤون الرسول، أو لا تقتضي.

والاجتهاد في أحكام الشريعة من هذا القبيل؛ إذ لم يكن من مقتضيات البشرية الراقية في كل حال، وإنما هو تفكير خاص تتوسل به أنظار الفقهاء إلى استخراج الأحكام الشرعية عند الحاجة، وليس للرسول من حاجة إليه؛ حيث يتيسر له الوصول إلى الحكم الشرعي من طريق أسمى منه، وهو الوحي، فشتان بين من يقولون: إن الرسول غني بالوحي عن الاجتهاد في تقرير الأحكام الشرعية، وبين أولئك الذين {قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94]. قال كاتب المقال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر، وفي أسمى مراتب البشرية، وقد اكتسب شخصية الفقيه المجتهد، كما منح شخصية الرسول المبلغ عن الله، وهو أول الفقهاء، كما أنه خاتم الأنبياء، فلينظر إذن فيما ورد منه - صلى الله عليه وسلم - على هذا الأساس الذي يجمع بين الرسول والفقيه". النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسمى مراتب البشرية عقلاً وفطنة، وخلقاً واستقامة، وهذا السمو لا يستلزم أن يكون مجتهداً في أحكام الشريعة؛ فإن الوحي هو الذي شأنه أن يأذن في هذا الاجتهاد، وقد أذن فيه لعلماء الأمة حيث تقوم الحاجة إلى ذلك، ويبقى البحث في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن له في الاجتهاد، أو لم يؤذن، فمن يقول: لم يؤذن له فيه، لا يبني قوله على دعوى أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يستوف وسائل الاجتهاد, من نحو الفهم والعلم، بل يقول: لم يؤذن له فيه؛ لفقدان شرط راعاه الوحي هو: أن تدعو إليه الحاجة، فما كان لمناظر المنكِر أن لاجتهاد الأنبياء في أمور الدين، أن يتحدث في مناظرتهم عن البشرية الراقية، ومراتبها العالية، ولوازمها السامية. قال كاتب المقال: "اقتضت حكمة الله أن يسوس عباده، ويحقق مصالحهم بنوعين من التشريع: نوع يتولاه بنفسه، وينص فيه على ما يريد،

ويرسل به الوحي إلى نبيه، ونوع آخر يسكت عنه، فلا ينص عليه غيرَ نسيان ولا إهمال، ولكنه رحمة بعباده يكله إلى أصحاب الرأي والنظر؛ لاختلاف المصلحة فيه باختلاف الظروف والأحوال". ساس الله عباده بنوعين من التشريع: نوع دلت عليه نصوص الكتاب والسنّة بأحد طرق الدلالات الصحيحة المقررة في الأصول، ونوع آخر لم يظهر في النصوص ما يدل عليه، وهذا ما وكله الله إلى أصحاب الرأي والنظر بعد أن رسم له خططاً، ووضع له أصولاً تتراءى للناظرين في كثير من موارد النصوص، فأصحاب الرأي والنظر الذين وكل الله لهم أن يجتهدوا، هم الذين يستطيعون أن يصوغوا الأحكام في صور يتحرون بها ما أراده الشارع من إصلاح شؤون الأفراد والجماعات. ذكر الكاتب النوع الأول، وهو ما نص عليه الشارع، وأرسل به الوحي، وجعل مقابله ما تختلف فيه المصلحة باختلاف الظروف والأحوال، ومعنى هذا: أن الاجتهاد إنما يجري فيما تختلف فيه المصلحة باختلاف الظروف والأحوال. والواقع أن الاجتهاد قد يجري في هذا النوع , كالاجتهاد في حكم واقعة تندرج تحت قاعدة رعاية العرف، أو قاعدة ارتكاب أخف الضررين، أو قاعدة سد الذرائع؛ فإن العرف قد يتغير، وربَّ شيء يخف ضرره في وقت، ويشتد ضرره في وقت، ومن الأشياء ما يكون ذريعة إلى فساد في وقت، ولا يكون ذريعة إلى فساد في وقت. وقد يجري الاجتهاد فيما لا تتغير فيه المصلحة؛ كقياس واقعة غير منصوص على حكمها على واقعة نص على حكمها، فحيث كان القياس ينبني

على اتحاد الواقعيتين في علة الحكم، كان حكم الواقعة المقيسة تابعاً لحكم الواقعة المقيس عليها، في دوامه بدوام العلة. قال كاتب المقال: "وقد قام محمد النبي بحق رسالته، فبلغ النوع الأول كما أمره بتبليغه، وقام محمد الفقيه الأول بحق بشريته، فرسم طريقة الاجتهاد، وعني بالتطبيق العملي عليها، وبأن يعبرها لمن يجيء من بعده من الخلفاء والقضاة والأئمة". ليست البشرية هي التي أملت على محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يجتهد في أحكام شريعة إلهية، وليست البشرية هي التي أرته كيف يرسم طريقة الاجتهاد في هذه الأحكام المقدسة، وأحكامٌ ينبني على قبولها ورفضها المصيرُ إلى الجنة أو النار، لا تُترك للبشرية تتصرف فيها كما ترى، بل الاجتهاد الفقهي هو وليد الرسالة، فالرسالة هي التي أعدت وسائله العلمية، ومنها عرف النبي - عليه الصلاة والسلام - كيف يرسم طريقته العملية. قال كاتب المقال: (اجتهد، وقاس، وحكم، وأفتى بالحاجة وتقدير المصلحة، وساس الأمة بما أراده الله، كما هو الشأن في المجتهدين والحكام). الذين يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يجتهد في أحكام الشريعة، يفرقون بين اجتهاده، واجتهاد غيره من المجتهدين والحكام؛ بأن غيره يجتهد في تفهم النصوص، ودفع ما. يقع بين الأدلة من التعارض، ويجتهد في قياس بعض الحوادث على أمثالها المنصوص على أحكامها، أما اجتهاد النبي - عليه الصلاة والسلام -، فإنما هو قياس بعض الحوادث على نظائرها، ذلك أن النصوص قد وكِل إليه بيانها، فلا تخفى عليه منها خافية، وتعارضُ الأدلة

إنما يقع في أذهان قد يفوتها فهمُ النصوص حق فهمها، أو يفوتها أن تضع كل دليل موضعه، أو تهتدي إلى معرفة الناسخ من المنسوخ، وذلك ما يصان عنه اجتهاد مَن جعله الله مهبط وحيه، ومطلع شريعته. ويفارق اجتهاده اجتهاد غيره من المجتهدين والحكام: أن اجتهاد غيره محتمل للخطأ، فلمجتهد آخر أن يعيد النظر فيه، ويعمل على ما أداه إليه اجتهاده، أما اجتهاده - عليه الصلاة والسلام -, فهو بمنزلة الوحي يجب الوقوف عنده، والإيمان بأنه حكم مَن لا معقب لحكمه. وهذا ما لا يختلف فيه المسلمون، وإذا قال الفقهاء: لا تجوز مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم أو نائبه، وهم يعنون الإمام أو نائبه البالغَ رتبة الاجتهاد بحق، فإنهم لم يقولوه على معنى أن اجتهاده عين الصواب، وإنما قالوه لمعنى آخر، هو انتظام أمر السياسة، وإبقاء الأمن في قرار، ولو ظهر لأهل العلم أن في اجتهاده خطأ، لكان لهم أن يحاوروه، ويرشدوه إلى ما هو الصواب؛ لعله يأخذ به في إصلاح ما صدر منه، أو يأخذ به فيما يفصل فيه من بعد، فلا نجوز مخالفة اجتهاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال؛ لأن اجتهاده عين الحق، ولا نجوز مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم؛ حفظاً لنظام السياسة، واتقاء للفتنة. قال الإمام الغزالي في "المستصفى": "قام الدليل من الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده - عليه الصلاة والسلام -؛ كما دلّ على تحريم مخالفة الأمة كافة، وكما دلّ على تحريم مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم والحاكم". قال كاتب المقال: "اجتهد في الحروب، وفي الأمور الدنيوية، واجتهد في الأحكام الشرعية". الاجتهاد لغة: استنفاد الجهد في طلب الشيء المرغوب إدراكه، حيث

يرجى وجوده فيه، أو حيث يوقن بوجوده فيه (¬1). وتجري كلمة الاجتهاد على ألسنة الأصوليين، ويقولون: هذا اجتهاد في أمر الحرب، وهذا اجتهاد في أمر دنيوي، وهذا اجتهاد في حكم شرعي. أما الاجتهاد في الحروب، فيراد منه: النظر في نحو منازل الجيوش، أو الطريق التي يسار منها إلى العدو، أو القبيلة التي يبتدأ بقتالها، إلى نحو هذا من التصرفات التي يدرك خيرها وشرها المتدربون على قيادة الجيوش. وأما الاجتهاد في الأمور الدنيوية، فيتعلق بأفعال أذن فيها الشارع على وجه الإباحة، وفوض أمرها إلى الإنسان؛ ليأخذ فيها بما ترجح عنده من صلاحها أو فسادها, كفنون الزراعة والصناعة والتجارة، إلى نحو هذا من الأمور التي تعرف مصالحها ومفاسدها بالمشاهدات والتجارب. وأما الاجتهاد في الأحكام الشرعية، فهو بذل الوسع في تحصيل حكم حادثة تعرض؛ من نحو: الوجوب، أو الحرمة، أو الإباحة، أو الصحة، أو البطلان، والرجوع في تحصيل أحد هذه الأحكام إلى أصول الشريعة، وتحري مقاصدها في الإصلاح. وقد يطلق الاجتهاد على إعمال النظر في تعرف ما ينطبق عليه الحكم الشرير، وهذا ما يسميه الأصوليون: "تحقيق المناط"، ومثاله: أن الشارع قضى بأن على المدعى البينة، وعلى المدعى عليه اليمين، وقد تطرح بين يدي القاضي قضية يشتبه فيها الأمر، فلا يدري لأول ما تطرح: من المدعى، ومن المدعى عليه؛ إذ قد يكون المطلوب هو المدعى، والطالب هو المدعى ¬

_ (¬1) "الأحكام" لابن حزم.

عليه، فيُعمل القاضي فكره في حالهما حتى يدرك أن هذا مدَّعٍ، وهذا مدعى عليه، وإن شئت إيضاح هذا، فالبالغ سنَّ الرشد يرفع شكوى إلى القاضي بأن الوصي لم يدفع إليه ماله، فالوصي هنا هو الذي يدعي أنه دفع المال، فيطالَب بالبينة، والبالغ سن الرشد مدعى عليه بأنه تسلَّم ماله، فهو المطالَب باليمين. واجتهاده - عليه الصلاة والسلام - في أمور الحرب، وأمور الدنيا- با لمعنى الذي بيناه، وسقنا له الأمثال - ليس موضع النزاع بين أهل العلم. وأما اجتهاده في الأحكام الشرعية، فذلك موضع اختلاف الأنظار، وهو الذي يشتد فيه النضال، وتقوم فيه الأدلة وتقعد، ومنشأ هذا الخلاف: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل عند تقرير حكم شرعي: هذا قلته عن وحي، وهذا قلته عن اجتهاد. وكذلك الصحابة - رضي الله عنهم - عندما يروون أحاديث الأحكام لا يقولون: هذا صدر عن وحي، وهذا صدر عن اجتهاد، وإنما وردت آيات فيها عتاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن بعض تصرفاته، وأحاديث فيها أحكام يقرنها - عليه الصلاة والسلام - بضروب من الأقيسة، وأحاديث قد يتبادر إلى بعض الأذهان أنه انتقل فيها من حكم إلى آخر دون أن يكون بين الحكمين مهلة، وأحاديث قال فيها: "إنما قلته عن ظن"، وأذن للناس في عدم العمل بها من بعد. فمن ألقى نظره على ناحية من ظواهر هذه الآيات والأحاديث، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يجتهد في الأحكام الشرعية، ومن رأى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غنى عن الاجتهاد بما يلقيه الله عليه من الوحي قال: إنه لا يجتهد، وأخذ يفسر تلك الآيات والأحاديث على وجوه تخرجها عن أن تكون اجتهاداً في أحكام دينية.

وقد صب كاتب المقال همته في الحديث عن اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأشار إلى جملة من الأحاديث والآيات التي يتشبث بها من يذهبون إلى أنه كان يجتهد، ونحن ننقل عبارات الكاتب، وننظر في وجوه الاستدلال بما استدل به، ونقرر ما ينبذه المنطق مما يتقبله. ابتدأ كاتب المقال بثلاثة أحاديث اشتملت على أحكام مقرونة بضرب من التمثيل، فقال: (فأفتى المرأة التي سألته عن حجِّها لأبيها بقوله: "أرأيتِ لو كان على أبيك دَين، فقضيته، أما كان يقبل منك؟ "، وأفتى السائل عن قُبلة الصائم بقوله: "أرأيت لو تمضمضت بماء، ثم مججته، أكان يضرك؟ "، وأفتى السائل عمن لامسَ امرأته أيكتب له أجر وهو يقضي شهوته؟ فقال: "أرأيت لو وضعها في حرام، أيكتب عليه وزر؟ "). الذي يأتي بهذ 5 الأحاديث مستشهدا يها على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد، يريد: أنه أجاب السائل، وذكر مع الحكم القياس الذي هو أحد الأدلة الشرعية، وهذا شأن المجتهد. ومن يقولون: إن الأحكام الشرعية لا تصدر إلا عن وحي، يذهبون في فهم هذه الأحاديث إلى أن ما ورد فيها من التمثيل إنما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - لتقريب الحكم وتثبيته في النفوس، وتقريب الحكم وتثبيته بهذا الطريق معروف في نصوص الشريعة؛ كلما جاء في قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]، وكما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن رؤية الله يوم القيامة: "هل تضامون في رؤية الشمس صحواً في الظهيرة ليس دونها سحاب؟)، قالوا: لا، فقال: "هل تضامون

في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس دونه سحاب؟ "، قالوا: لا، قال: "فإنكم ترونه كذلك" (¬1). وسألته - عليه الصلاة والسلام - امرأة، فقالت: إن لي ضرة، فهل عليَّ جُناح إن تشبَّعْت من زوجي غيرَ الذي يعطيني؟ فقال: "المتشبع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور". فمن كمال الدعوة وحسن أسلوبها أن تقرَّب فيها الأحكام من النفوس، ويزاح فيها ما يحوم بالقلوب من الشبه، وتمثيلُ المعقول بالمحسوس، والمجهول بالمعلوم كثيراً ما يسلك لهذا الغرض النبيل، وأنظروا إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل: كيف يحشر الكافر على وجهه؟: "أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجليه، قادراً على أن يمشيه في الآخرة على وجهه؟ ". ثم أشار كاتب المقال إلى أربعة أحاديث مستشهداً بها على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل فيها على اجتهاد غيره، فقال: "ونزل على اجتهاد غيره، فاستثنى الإذخر (¬2) في تحريم شجر مكة حين استثناه العباس، ودعا للمقصرين كما دعا للمحلقين، وأذن في غسل القدور التي طبخت فيها لحوم الحمر الأهلية بعد أن أمر بكسرها، ونزل المنزل الذي أشار عليه أصحابه بأن ينزل فيه". نزولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على اجتهاد غيره: أن يجتهد في حكم واقعة، ويقرر حكمها، ثم يجتهد غيره فيها، فيرى - عليه الصلاة والسلام - أن اجتهاده خطأ، وأن اجتهاد غيره هو المصيب، ونحن نحدثك عن هذه الأحاديث التي أومأ إليها الكاتب، ونخرج منها على أن ليس في شيء منها ما ينبئ أنه نزل على ¬

_ (¬1) البخاري ومسلم. (¬2) الإذخر - بكسر همزة الألف -: الحشيش الأخضر، وحشيش طيب الرائحة - "القاموس".

اجتهاد غيره في تقرير حكم شرعي. أما حديث "إلا الإذخر"، فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في شأن البلد الحرام -أعني: مكة-: "لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه"، فقال العباس: إلا الإدخر, فإنه لقَيْنهم وبيوتهم، قال: "إلا الإذخر". وليس من المعقول أن يكون العباس قد فهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتهد، فرأى تحريم شجر البلد الأمين على سبيل العموم الشامل للإذخر، وقرر حكماً على خلاف ما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال مفصحًا عن اجتهاده: "إلا الإذخر"، ويكون النبي - صلوات الله عليه - قد ظهر له بعدُ أن اجتهاد العباس هو الصواب، فنزل عليه. والموافق لحال الصحابة، وإجلالهم لمقام الرسالة: أن يكون العباس قاصدًا بقوله: "إلا الإذخر" تذكيرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه الحاجة إلى الإذخر؛ لعله - عليه الصلاة والسلام - يستثنيه من ذلك العموم على وجه الرخصة، ويسمى مثل هذا التذكير بالتلقين، وتلقين المخاطب الأدنى يأتي لعرضه على المتكلم الأعلى رغبته، أو حاجةَ قومه إلى إعطاء شيء حكم المعطوف عليه إن كان التلقين بالعطف، أو إلى استثناء شيء من حكم المستثنى منه إن كان التلقين بالاستثناء، وقد قرر الأصوليون أن التلقين ورد بالواو وغيرها من الحروف، وبالاستثناء، وساقوا هذا الحديث شاهداً على التلقين بالاستثناء. فتلقين ابن عباس له - عليه الصلاة والسلام - بطريق الاستثناء إنما هو تذكير بوجه الحاجة، راجياً أن تكون هذه الحاجة مقتضية للرخصة، وعرضُ الصحابة أمثالَ هذه الحاجات على النبي - صلى الله عليه وسلم - مبني على أصل عرفوه في أصول

الشريعة، وهو "المشقة تجلب التيسير"، فهم يرجون أن تكون الواقعة ذات الحاجة التي عرضوها على وجه التلقين مما يصح أن تندرج تحت هذا الأصل. ولا يصح أن يعد عرض الحاجات على الشارع رجاء التخفيف اجتهاداً في تقرير حكم شرعي، حتى إذا جاء حكم الشارع على وفق الحاجة، قيل: إن الشارع نزل على اجتهاد من عرض الحاجة عليه، وهذا موسى - عليه السلام - أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء بأن الله فرض على الأمة خمسين صلاة، فقال له: "فارجع إلى ربك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك"، وما زال النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلب من الله التخفيف إلى أن صارت خمساً. وقول العباس: "إلا الإذخر؛ فإنه لقينهم وبيوتهم" كقول موسى -عليه السلام -: "فإن أمتك لا تطيق ذلك"، فلنفهم قصة العباس على الوجه الذي فهمنا عليه قصة موسى - عليه السلام -. وإذا كان العباس قد قال: "إلا الإذخر" على وجه التلقين بالحاجة، ورجاء الرخصة، فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد: "إلا الإذخر" تخصيص للعام في قوله: "ولا يختلى خلاه "، وهو محتمل لأن يكون عن وحي خاص، وليس من شرط الوحي أن يأتي بعد أن تمضي على الطلب مدة، ومحتمل لأن يكون عن اجتهاد بعد أن عرض عليه العباس وجه الحاجة إلى الإذخر. وورود الوحي باستثناء بعض أفراد العام عندما يعرض سبب للاستثناء، له نظير، ففي "صحيح البخاري" قال زيد بن ثابت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أملى عليه: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون"، فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها عليَّ، قال: يا رسول الله! والله! لو أستطيع الجهاد معك، لجاهدت، وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95].

وفي "صحيح البخاري": أنه لما نزل قوله تعالى: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] الآية، قال مشركو أهل مكة: فقد قتلنا النفس التي حرم الله، ودعونا مع الله إلهًا آخر، وقد أتينا الفواحش، فأنزل الله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان: 70] الآية. وأما حديث دعائه للمقصرين، فهو أن الإحلال من الحج يكون بتقصير الشعر، وبالتحليق، ولكن التحليق أفضل، وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - للمحلقين؛ تنبيهًا على أن التحليق أفضل، فقال: "اللهم اغفر للمحفقين"، فقالوا: وللمقصرين، فقال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: وللمقصرين، فقال: "وللمقصرين". وليس في الحديث سوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا للمحلقين بالمغفرة أو الرحمة كما ورد في بعض الروايات، فقيل له: وللمقصرين على وجه التذكير بهم؛ ليطلب لهم المغفرة أو الرحمة كما طلب للمحلقين، فأعاد الدعاء للمحلقين مرتين، ثم قال: "وللمقصرين"، وليس في الحديث ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يقتصر في الدعاء على المحلقين، ويترك المقصرين؛ لأنه لم يرهم يستحقون طلب المغفرة حتى اجتهد هؤلاء الذين قالوا له: "وللمقصرين"، فرأوهم يستحقون طلب المغفرة، فنزل على اجتهادهم، فقال: "وللمقصرين"، فقولهم: "وللمقصرين" لا يتجاوز أن يكون تلقينا بطريق حرف العطف يراد به طلب الدعاء لهم، كما أن قول إبراهيم - عليه السلام -: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] بعد قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] البقرة: 124، لا يتجاوز أن يراد به: دعاء الله بأن يجعل من ذريته أئمة الناس، وكما أنك لا تسمي قوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، نقضاً لاجتهاد إبراهيم - عليه السلام -, فلا تسمي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وللمقصرين" نزولاً على اجتهاد أولئك القوم.

ويدلكم على أن الصحابة إذا استعملوا حرف التلقين بعد نطق النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكم شرعي، فإنما يريدون طلب الرخصة: أنهم يستعملونه بعد نطقه بوعد، إنما يريدون تذكيره بما حرفه التلقين راجين أن يخبرهم بأن له حظًا من ذلك الوعد. روى أبو سعيد: أن النساء قلن للنبي- صلى الله عليه وسلم -: اجعل لنا يوماً، فوعظهن، فقال: "أيّما امراة مات لها ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجابًا من النار". قالت امرأة: واثنان، قال: "واثنان"، وليس لأحد أن يدعي أن المرأة اجتهدت، وقررت أن الاثنين من الولد يكونان حجاباً من النار، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - على اجتهادها، فقال: "واثنان "، وإنما هي المرأة رغبت في أن يكون هذا الوعيد شاملًا لمن مات له والدان، فكان من رحمة الله أن أجاب رغبتها على لسان نبيه، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "واثنان". وأما أحاديث القدور التي طبخت فيها لحوم الحمر الأهلية، فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة خيبر: "أكفئوا القدور، واكسروها"، فقالوا: يا رسول الله! أو نغسلها؟ فقال: "أو ذاك"، فكان حكم الشارع في القدور هو الكسر، ولما أشار القوم بقولهم، أو نغسلها، إلى أنهم في حاجة إلى تلك القدور، وهذه الحاجة بلغت أن اقتضت الرخصة في الاكتفاء بغسلها، أجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أو ذاك". فقول القوم: "أو نغسلها" تذكير منهم بالحاجة إلى تلك القدور, رجاء أن يرخص لهم في غسلها بدل كسرها، وعلى فرض أن يكون كل من الحكمين: حكم العزيمة، وحكم الرخصة، صادراً عن اجتهاد، فإن الصيغة التي صدرت من القوم لا تتجاوز أن تكون تذكيراً بوجه الحاجة، وطلباً للرخصة، والنبي - صلى الله عليه وسلم -

هو الذي وقع منه الاجتهاد في تفصيل الحكم أولاً وآخراً. وللشارع في الأمر بالكسر على وجه العزيمة، ثم الترخيص في الغسل، حِكَم يبدو لنا منها: أن الرخصة مظهر من مظاهر الرحمة، والعزيمة تبقي في النفوس ذكرى اهتمام الشارع باجتناب تلك اللحوم التي أصبحت رجساً، وذلك ما يدعو إلى شدة الابتعاد منها، والمبالغة في غسل ما طبخت فيه من القدور. وهاهنا حكمة عامة في كل رخضة جاءت عزيمة، هي: تأسيس قاعدة عظيمة من أصول التشريع هي: أن المشقة تجلب التيسير، فإن الفقهاء إنما انتزعوها وقرروها من أمثال هذا الحديث. ويدلكم على أن الشارع يراعي حاجات القوم في دائرة الحكمة: أنه قد ينهى القوم عن الشيء، فيعرضون عليه حاجتهم إلى استعمال ما نهى عنه في بعض الأحوال، فيريهم أن ليس هذا موضع الرخصة، ويردهم إلى الحظر بإطلاق، ومن أمثلة هذا: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام "، فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ قال: "لا، هو حرام". وأما حديث نزوله المنزل الذي أشار عليه أصحابه بأن ينزل فيه، فهو ما يروى من أنه - عليه الصلاة والسلام - لما نزل في غزوة بدر بأدنى مياه بدر، قال له الحباب بن المنذر: أهذا منزل أنزلك الله، ليس لنا أن نتقدمه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: "لا، بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فقال: ليس بمنزل، انهض بالناس حتى نأتي أدنى منزل من القوم. هذه القصة حكاها ابن إسحاق في "السيرة" على هذا الوجه، وحكاها

نزول الوحي بخلاف اجتهاده

ابن القيم في "زاد المعاد" على وجه آخر: هو أنه - عليه الصلاة والسلام - سار حتى نزل عشاء أدنى مياه بدر، فقال: "أشيروا علي في المنزل"، فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله! أنا عالم بها وبقُلُبها، إن رأيت أن نسير إلى قُلُب قد عرفناها، فهي كثيرة الماء عذبة، فننزل عليها، ونسبق القوم إليها، ونغوِّر ما سواها من المياه. وروى ابن سعد: أن الوحي نزل على وفق ما أشار به الحباب. فلنصرف النظر عن البحث في سند هذه القصة التي قال ابن إسحاق في سندها: فحدثت عن رجال من بني سلمة: أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر ابن الجموح قال: يا رسول الله! أرأيت هذا المنزل منزلًا أنزلكه الله ... إلخ الرواية" ولنصرف النظر عن الوجه الذي أوردها عليه ابن القيم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أشيروا علي في المنزل"، ولنصرف النظر عن رواية ابن سعد من أن نزول النبي - عليه الصلاة والسلام - بأدنى منازل القوم كان اتباعًا للوحي، ولنأخذ بالوجه الذي أوردها عليه ابن إسحاق من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن نزل بأدنى مياه بدر أشار عليه الحباب بأن النزول بأدنى منازل القوم هو الذي تقتضيه سياسة الحرب، ولكنا نقول: ليس في هذا الوجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل على اجتهاد غيره في تقرير حكم شرعي، وإنما هو أمر اختيار منازل الجيش، وقد أريناك قبل أن هذا من أمور الحرب التي ترجع إلى رئيس الجيش، ومن يشق بآرائهم من أعوانه في الحرب. * نزول الوحي بخلاف اجتهاده: قال كاتب المقال: "وكان يجتهد، ثم ينزل الوحي بخلاف اجتهاده، وقد يسكت عنه، فلا يعرض له بتصويب ولا تخطئه".

يقف القراء أمام هذه العبارة متسائلين؛ لماذا قال الكاتب: "وقد يسكت عنه، فلا يعرض له بتصويب ولا تخطئه" فدل على أن الوحي يسكت عنه في بعض الأوقات، ولم يدل على حال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند هذا السكوت: أهو الإصابة في الاجتهاد أو الخطأ؟. فإن قال الكاتب: أردت أن الوحي يسكت عنه في حال الإصابة، قلنا: حال الإصابة ليست في حاجة إلى أن يقال: إن الوحي يسكت عنها، ثم ما الذي دعا عضو جماعة كبار العلماء، وهو يتكلم باللغة العربية أن يعبر عن سكوت الوحي حال إصابة الاجتهاد بقوله: "وقد يسكت عنه الوحي، فلا يتعرض له بتصويب ولا تخطئة؟ ". وإن قال: أردت أن الوحي قد يسكت عنه في حال الخطأ، قلنا: غير معقول أن يخطئ الرسول - عليه الصلاة والسلام - , ويسكت عنه الوحي، وكيف يسكت عنه، وقد أمر باتباعه؟!. والذين يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يجتهد في الأحكام الشرعية فريقان: فريق يقولون: يجتهد، ولا يخطئ، ولا يكون اجتهاده إلا مصيباً لكبد الحقيقة، وفريق يقولون: يجتهد، وقد يخطئ ولكنه لايقَر على الخطأ، بل ينبهه الله لذلك، ولم يقل أحد: إنه يجتهد، وقد يخطئ، ويسكت عنه الوحي، بل عدم إقراره على الخطأ - لو صدر منه - مجمَع عليه. قال الشهاب الخفاجي في "شرح الشفا" بعد أن حكى مذهب القائلين: إنه قد يخطئ، ولكنه لايقر: "وعدم الإقرار بالاجماع لوجوب اتباعه المقتضي لعصمته". وتعرض ابن حجر لمذهب القائلين باجتهاده، واختلاف هؤلاء في أنه

يجوز عليه الخطأ، أو لا يجوز، ثم قال: "وقد اتفق الفريقان على أنه لو أخطأ في اجتهاده، لم يقر على الخطأ". ثم أشار كاتب المقال إلى ثلاث آيات يستشهد بها على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتهد، ثم ينزل الوحي بخلاف اجتهاده، فقال: "عاتبه الله على الإذن للمنافقين، وعلى أخذ الفداء من أسرى بدر، وعلى إعراضه عن الأعمى، فكان ذلك إيذانًا من الله بتخطئته في اجتهاده". ونحن نحدثك عن هذه الآيات التي أشار إليها الكاتب، والوقائع التي نزلت الآيات في شأنها ليتضح لك أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يجتهد في تقرير حكم شرعي، وجاء الوحي بخلاف اجتهاده، وإنما هي أفعال فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - يظن أنها الأَولى، فجاء الوحي ببيان أنها خلاف الأولى، وفي هذه الوقائع والآيات حكمة أطلعنا الله على شيء منها هو: أن العصمة لله وحده، وأن الأنبياء - عليهم السلام - معصومون من المعاصي كبائرها وصغائرها، وأنهم بالغون في الكمال النفسي والعملي أقصى غاية، ولكنه قد يقع منهم ما شأنه أن يبعد النفوس مما وقعت فيه بعض الطوائف من اعتقاد إلهيتهم، وأنهم مظهر من مظاهر الإله الحق، وما صدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوقائع الثلاث يصح حمله على هذا الوجه من الحكمة، وهو وجه - فيما أحسب - جدير بالقبول، والمجتهد يقرر أصولاً يرجع في تقرير كل أصل منها إلى ماَخذ من الأدلة السمعية؛ نحو: القياس، وسد الذرائع، ومراعاة العرف، ومراعاة المصالح المرسلة، ويستنبط الأحكام من الأصول، وتسمى هذه الأحكام بالفروع، ويطبق الحكم على الحادثة الجزئية حين تعرض. وقد يقع للمجتهد الخطأ في تقرير أصل، أو استنباط حكم، أو تطبيق

حكم على واقعة، والخطأ في تطبيق الحكم على واقعة جزئية أهون وأخف من الخطأ في استنباط حكم أو تقرير أصل، ونبني على هذا: أن الوقائع التي نسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اجتهد فيها وأخطأ، ليس في واحد منها خطأ في تقرير أصل، ولا استنباط حكم عام، إنما هي واقعة تعرض، فيطبق عليها حكم غير الحكم الذي هو أولى بها. أما واقعة إذنه للمنافقين في التخلف، فهو أنه - عليه الصلاة والسلام - أُعطي الخيار في أن يأذن لمن شاء في التخلف، قال تعالى: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62]، ومعنى هذا الخيار: أن يأذن لمن يبدي عذراً صحيحاً، أو يبدو له أن ليس في التحاقه بالجيش مصلحة، ومن هذا القبيل إذنه للمنافقين في التخلف؛ أخذًا بالظاهر من أعذارهم، وقد أشار القرآن الكريم إلى أن خروجهم في جيش المسلمين مفسدة، قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47]، فالله لم يعاتبه على نفس الإذن للمنافقين، وإنما عاتبه على أنه أذن لهم في التخلف عندما اعتذروا، والأَولى تأخير الإذن لهم ريثما يتبين من كان له عذر حقيقي ممن كان اعتذاره غير صادق، ففي ظهور كذبهم في الاعتذار افتضاح أمرهم، وقطع لهم عن أن يتحدثوا فيما بينهم، أو يناجوا شياطينهم بأنهم استطاعوا أن يخادعوا الرسول -عليه الصلاة والسلام-, ويرضوه ببهرج أقوالهم، وقد أومأ إلى موضع العتاب: قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَم الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43]. وأما واقعة بدر، فمحمولة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مخيراً في الأسرى بين الفداء والقتل، فطرح مسكله أسرى بدر على بساط الشورى؛ ليتبين له

من آراء أصحابه ما هو الأقرب إلى مصلحة هذه الحرب: أهو الفداء، أم القتل؟ فرأى بعضهم القتل، وأبدى لرأيه وجهًا، ورأى بعضهم الفداء، وأبدى لرأيه وجهًا، وبدا للنبي- صلى الله عليه وسلم - أن الفداء أرجح، فأقره، وأخذ به، ونزل عقب هذا قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67]. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستشر أصحابه في تقرير حكم شرعي، وإنما يكون استشارهم في تقرير حكم شرعي لو استطلع آراءهم في حكم أسرى الحرب، وهو إنما استشارهم في أسرى هذه الواقعة؛ ليستخلص من بين آرائهم ما هو الأرجح من الأمرين اللذين خيره الله فيهما، وتعيين أحد أمور جائزة له - صلى الله عليه وسلم - لا يعد استنباطاً لحكم شرعي مجهول. فالآية الكريمة وردت للتنبيه على أن الأَولى هو القتل، والعتاب فيها لم يوجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة؛ كما ورد في آية: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُم} [التوبة: 43]، بل ورد في أسلوب خطاب الجمع، فقال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}، وأساليب المخاطبات العربية تسيغ أن تكون هذه الكلمة موجهة إلى طائفة ممن أشاروا بالفداء، وقد خطر في نفوسهم أن ينالهم شيء منه ينتفعون به في شؤونهم الخاصة، وليس من المعقول أن يكون هذا الخاطر قد وقع في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو في نفس مثل أبي بكر - رضي الله عنه -، فالنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أبو بكر إذا رأى أن الفداء أصلح إنما يريد من ذلك الاستعانة به في أمور الدين، ومن البعيد أن يسمى صاحب هذه الإرادة مريداً للدنيا. وقوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، لا يدل على أن أخذهم الفداء مخالفة تستحق العذاب

العظيم، ذلك أن استحقاق العذاب لا يتحقق إلا عند توافر أسبابه، وانتفاء موانعه، وقد دلّ قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] على أن أسبابه لم تتحقق؛ إذ يفسر الكتاب السابق بأنه تعالى لا يعاقب على أمر إلا بعد أن يتقدمه نهي، والقوم لم يتلقوا قبل هذه الواقعة نهيًا، وقصارى ما تدل عليه الآية: أن أخذ الفداء في هذه الواقعة بالغ في مخالفة ما هو الأولى إلى درجة ما لم يمنع من العقوبة عليه إلا عدم تقدم النهي عنه. وأما واقعة عتابه على إعراضه عن الأعمى، فهي المشار إليها بقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1 - 2]. والآية الكريمة تضمنت عتابه - عليه الصلاة والسلام - على إعراضه عن ابن أم مكتوم، ولم تدل قط على أنه أخطا في تقرير حكم شرعي؛ إذ الحكم الشرعي في مثل هذا مقرر من قبل، وهو أن لقاء الناس بطلاقة وجه، والإقبال على من يسائل، موكولان له - عليه الصلاة والسلام -, يأخذ بهما حسب ما تقتضيه الحال، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخاطب وجهاء مشركي قريش، وهو يرجو أن يجيبوا دعوته، وبينما هو مجد في دعوته، أخذ ابن أم مكتوم يجاذبه الحديث، ويسائله التعليم، فكان من رسول ال - صلى الله عليه وسلم - أن أعرض عنه، وكره منه أن يقطع مواصلته الدعوة لأولئك المشركين، حتى بدا أثر الكراهة في وجهه، فعتابه - عليه الصلاة والسلام - كان على أمر فعله ابتغاء الخير، وحرصا على انتشار الدعوة، ولكن الله تعالى أراد أن يريه أن إقباله على نفس مستقيمة على الطريقة، حريصةٍ على أن تتفقه في دين الله، خيرٌ من إقباله على تلك النفوس الطافحة بالشرك، المصرة على باطلها، وأراد الله أن يذكره بهذا العتاب: أن واجبه دعوة أهل الكفر إلى الإِسلام، وليس عليه أن يدخلوا فيه،

رجوعه عن اجتهاد باجتهاد

حتى لا يبلغ في دعوتهم أن يشتغل بها عن مجاملة ضعفاء المسلمين، وحفظ قلوبهم من أن تعبث بها أصابع الشيطان. ومن حكمة هذه الآية: الدلالة على أن الخطأ في الاجتهاد معفو عنه. * رجوعه عن اجتهاد باجتهاد: قال كاتب المقال: (ورجع هو عن اجتهاد باجتهاد بمجرد النظر والتجربة، فقال: "هممت أن أنهى عن الغِيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم شيئاً"، وقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي"). أورد الكاتب حديثين مستشهداً بهما على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرجع عن اجتهاد باجتهاد. أما حديث الغيلة، فقد ورد في الصحيح على نحو ما ذكره الكاتب، غير أنه فسر الغيلة بإرضاع المرأة ولدها وهي حامل، وهو تفسير ابن السِّكيت، أما الإمام مالك، فقد فسرها بوطء المرأة وهي مرضع، وتابع مالكًا على هذا التفسير الأصمعيُّ وغيره من أهل اللغة، ومالك أدرى بتفسير الحديث من ابن السكيت، ولا سيما تفسيراً وافقه عليه علماء اللغة، ويؤيده ما جاء في الصحيح: أن رجلاً قال للنبي- صلى الله عليه وسلم -: إني أعزل عن امرأتي، فقال: "لم تفعل ذلك؟ "، فقال: إني أشفق على ولدها، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "لو كان ذلك ضارًا، ضر فارس والروم (¬1) ". ومما يزيدنا ثقة بضعف حمل الغيلة في هذا الحديث على إرضاع المرأة وهي حامل: أن الأطباء ما زالوا يقولون: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم".

إن لبن المرأة يتغير أيام الحمل تغيراً يؤثر في صحة الرضيع، أما وطء المرأة وهي مرضع، فقد سألنا عنه بعض الأطباء في هذا العصر، فكانوا يجيبون بأنهم لا يعرفون لضرره وجهًا، وحملُ كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معنى لا شبهة فيه، أرجحُ من حمله على معنى تحوم عليه شبهة. عرضت واقعة الغيلة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينزل فيها وحي خاص، ولكن أمامه قواعد شرعية، منها: قاعدة: "الضرر يزال"، والشأن في تقرير حكم هذه الواقعة الرجوع إلى ما يقوله أهل التجارب من نحو الأطباء؛ لأن الضرر في مثلها لا يدرك بقوة الفكر ووفور العقل، وكان شائعًا عند العرب أن في الغيلة ضررا على الرضيع، ولهذا جرت عادة المستطيعين منهم أن يتخذوا لأولادهم مراضع، وسبق إلى ظن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ما شاع عند العرب من ضرر الغيلة قد يكون واقعاً، وبدا له أن ينهى عنها, إشفاقًا على الرضعاء، ثم نظر - عليه الصلاة والسلام - إلى أمتين من غير العرب، وهما الفرس والروم يصنعون الغيلة، ولا تضر أولادهم؛ إذ لو ظهر منها ضرر، لتنبه له أطباؤهم، وعرفه أهل التجارب منهم، وشاع أمره فيما بينهم، وهذا ما عدل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عن النهي عنها إلى العود بها إلى أصل الإباحة، وقد دلّ - عليه الصلاة والسلام - على أنه لم يتكلم في الغيلة عن وحي، وإنما تكلم فيها على رعاية المضار والمصالح التي يؤخذ فيها بأقوال أهل التجارب؛ إذ قال: "ثم ذكرت أو نظرت أن فارس والروم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم شيئاً". وقد أريناك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يفعل شيئاً يظنه الأَولى، ثم يتبين له أنه خلاف الأَولى، وقد يقول قولًا يبنيه على ظن، ثم يتبين له أن الواقع على خلاف ما ظنه، ووقوع أشياء معدودة من هذا النوع لا تمس الرسالة بشيء، فإنها - على

قلتها - معروفة عند علماء الشريعة، ولا يبنون عليها شيئاً أكثر من أنها تزيد الناس تذكرة ببشرية الرسول، وتحميهم من أن يتجاوزوا به مقام الرسالة إلى مقام الربوبية. وإذا استدل بها بعضهم على أنه يجتهد في تقرير الأحكام، فقد أريناك أن القائلين باجتهاده مجمعون على أن اجتهاده هو والوحي على سواء. وأما حديث: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت"، فأصله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بحج، أو بحج وعمرة، وساق الهدي، وأصحابه أحرموا كذلك، ولم يسوقوا هدايا، فلما قدموا مكة، وطافوا بالبيت، وسعوا بين الصفا والمروة، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه الصلاة والسلام - الصحابة أن يحلوا من إحرامهم بعمل العمرة، وقال لهم: أقيموا حلالًا، حتى إذا كان يوم التروية، فأهلّوا بالحج، ولكنه - عليه الصلاة والسلام - بقي محرمًا، وقال لهم: "فلولا أني سقت الهدي، لفعلت مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله". وشق على الصحابة أن يحلوا وهو محرم، وترددوا في الإحلال، فقال - عليه الصلاة والسلام - تطييبًا لخواطرهم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي". أورد كاتب المقال هذا الحديث شاهداً على أنه - عليه الصلاة والسلام - يرجع عن اجتهاده باجتهاد، ولم يبين ما هو الاجتهاد الذي رجع عنه، وليس في الحديث ما يدعو إلى فهمه على هذا المعنى، ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مخيراً بين أن يسوق الهدي، وأن لا يسوق، فسوقه الهدي كان من قبيل الأخذ بأحد أمرين جائزين، واختيار أحد أمرين جائزين لا يعد اجتهاداً في تقرير حكم شرعي، فقد يفعله من لم يبلغ رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية، ولهذا نرى المنكرين

قضاؤه - عليه الصلاة والسلام -

لاجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام الشرعية كابن حزم يسلمون أنه - عليه الصلاة والسلام - قد يختار أحد وجهين أجازهما الشارع، ويقولون: لا مانع من أن يختار غير الأولى منهما، ولكنه لا يقر على ذلك. فإذا كان سوقه للهدي من قبيل اختيار العمل بأحد الجائزين، فإذا عرض حال يستدعي اختيار الجائز الآخر، وهو عدم سوق الهدي، كان له أن يختاره، ولا يعد هذا الاختيار اجتهاداً في تقرير حكم شرعي، فعدم سوقه الهدي حيث ينبني عليه موافقة أصحابه، وانشراح صدورهم لفعل ما يأمرهم به من الإحلال، يصح اختياره بدل سوق الهدي، فمعنى "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي": لو كان هذا الوقت الذي ظهر فيه تحرج أصحابه من اختلاف حالهم عن حاله هو الوقت الذي كان قد أحرم فيه، لاختار عدم سوق الهدي. * قضاؤه - عليه الصلاة والسلام -: ما زال كاتب المقال يتحدث عما قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - بحق بشريته، حتى قال: "وكان يحكم في الحوادث الجزئية التي ترفع إليه، ويعتمد في حكمه على البينات، وحجج الخصوم، ويقول: لعل أحدكم ألحن بحجته، فإنما أنا بشر". جعل الكاتب قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مما قام به بحق بشريته، ونحن نعلم أن الله أمره بأن يحكم في الحوادث التي ترفع إليه، وأمره ان يحكم بين الناس بما أنزله عليه، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]، ولكونه - عليه الصلاة والسلام - يحكم بما أنزله الله وأراه الله، كان عدم الرضا بحكمه خروجاً عن شرع الله، ونكثاً لليد من عروة

الإِسلام، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. فقضاءُ رسول الله - صلوات الله عليه - شطر من المهمة التي أرسل من أجلها، وهو طريق من طرق إبلاغه شريعة الله - جل شأنه -. قال الكاتب: ويقول: "لعل أحدكم ألحن بحجته، فإنما أنا بشر"، وأصل هذا الحديث كما جاء في الصحيح (¬1): "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلى، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذن منه شيئاً، فإنما أقطع له قطعة من نار". ولإيضاح معنى الحديث نقول: إن الله تعالى أرسل محمداً - صلى الله عليه وسلم - لتكون سيرته المثل الأكمل في كل ناحية من نواحي الحياة الفردية أو الاجتماعية أو السياسية، ومما يدخل في ناحية السياسة: القضاء، وقد أمده الله في هذه الناحية- زيادة على ما فطر عليه من رصانة العقل وثقوب الفكر- بالأحكام والآداب التي تجعل قضاءه عادلًا، وموضع قدوة الحكام الراشدين من بعده. ومما أمده الله به: أن جعل قضاءه على نحو ما يسمعه من الخصمين، وما يقيمونه من البينات، وما يلفظون به من أيمان، ولم يأخذ في صحة حكمه أن يكون الإقرار أو البينات أو الأيمان صادقة مطابقة للواقع؛ فإن بناء كل حكم على ما كان مطابقاً للواقع- وإن تيسر للنبي- صلى الله عليه وسلم - لا يتيسر لحكام ليس بينهم وبين الخالق - جل شأنه - صلة الوحي، وذلك معنى قوله -عليه ¬

_ (¬1) "الموطأ" و"صحيح البخاري" و"صحيح مسلم".

الصلاة والسلام -: "فلعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع". والقضاء - على ما يقتضيه الإقرار أو البينات أو الأيمان - حكم مطابق لما أمر الله أن يحكم به، فلو كان الإقرار في باطن الأمر كاذباً، أو البينات مزورة، أو الأيمان حانثة، كان حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - مصيباً ما دامت وسائل القضاء من الإقرار ونحوه قد استوفت شروطها المعتد بها في نظر الشارع. وإنما يظهر خطأ الاجتهاد في تقرير حكم شرعي لم يوح إليه به، أو إجراء حكم على غير الوجه الذي وضعه الشارع الحكيم، وهذا ما اختلف العلماء في وقوعه، وأجمعوا على أنه متى وقع لا يقر عليه. قال كاتب المقال: "وكان يكل الجهاد إلى أمرائه وقضاته دون أن يقيدهم بالرجوع إليه". كان الكاتب يتحدث عن اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويأخذ في حديثه كل مأخذ، ولا ندري ما موقع هذه الجملة التي تتعلّق بحال أصحابه عند غيبتهم وبعدهم عن موطن الوحي! حشرها هاهنا، ثم عاد إلى ما كان بصدده من اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهى إلى الغاية التي وضع من أجلها المقال. يكل الجهاد إلى أمرائه وقضاته دون أن يقيدهم بالرجوع إليه؛ لأنه يكله إلى رجال تفقهوا في الدين بما سمعوا من القرآن الحكيم، وتلقوه من السنَّة المطهرة، وكانوا من مقاصد الشريعة على بصيرة، فهو على ثقة من أن أولئك الرجال سيسيرون في إمارتهم وقضائهم ونورُ علمهم وإيمانهم يسعى بين أيديهم، فإذا عرض لهم أمر لم يكن لديهم فيه كتاب أو سنة، تصرفوا فيه على

مقتضى اجتهادهم، وكثيراً ما كانوا يخبرون النبي - صلى الله عليه وسلم - بما اجتهدوا، فإما أن يراهم مصيبين، فيقرهم، وإما أن يراهم قد أخطؤوا، فينبههم إلى وجه خطئهم، ومن شواهد هذا: قصة خالد بن الوليد إذ بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بني جذيمة، وجعل فريق منهم يقولون: صبأنا صبأنا، فلم يفهم خالد أنهم يريدون الإِسلام، وتعجل فأذن في قتلهم، وخالفه قوم فلم يقتلوا من كان تحت أيديهم من الأسرى، حتى قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكروا له ذلك، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد - مرتين" (¬1). ويدلنا على أنهم كانوا إذا أشكل عليهم أمر، وكان في إمكانهم تأخير الفصل فيه إلى استرشاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعلوا: قصة الصحابة الذي رقوا بسورة الفاتحة سيد حي من أحياء العرب، فشفي، فأتاهم أهل الحي بقطيع من الشاء جُعلًا على الرقية، فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما عادوا، سألوه، فأذن لهم في أخذها (¬2). وكان - صلى الله عليه وسلم - يزود الأمراء أو الوفود بوصايا فقهية، ويوجه إليهم بكتب تشتمل على أحكام شرعية؛ كالكتاب الذي أرسله إلى أمراء اليمن، وهو كتاب يشتمل على أحكام في الزكاة والديات والطلاق والعتاق، وغير ذلك (¬3). قال كاتب المقال: "وكان يسارع أحياناً إلى الجواب عما يسأل عنه من غير أن ينتظر الوحي، وأحيانا ينتظر أمر الله، ويقول: لم ينزل علي فيه شيء؛ كما في حادثه المرأة التي جادلت زوجها، وكما في حادثة الرجل الذي قذف ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري". (¬2) "صحيح البخاري". (¬3) رواه الحاكم في "صحيحه"، والنسائيُّ، وأبو داود.

زوجته، فقد نزل القرآن بتشريع كفارة الظهار، وشهادات اللعان. جاء الكاتب بهذا التقسيم وهو يتحدث عن اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يريد: أن ما أجاب عنه بسرعة يكون صادراً عن اجتهاد، والصواب أن فتاوى النبي - صلى الله عليه وسلم - تروى لنا دون أن ينقل عنه أو عن الصحابي الراوي للفتوى أنها صدرت عن اجتهاد، أو عن وحي، وقد ثبت بالدليل القاطع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يوحى إليه، ولم يقم دليل قاطع على أنه كان يجتهد في تقرير الأحكام الشرعية من نحو الإيجاب والتحليل والتحريم، وشاهد هذا: أن الوحي مجمع عليه، لا ينكره إلا جاحد بآيات الله، وأما اجتهاده - عليه الصلاة والسلام - في تقرير حكم شرعي على النحو الذي وصفنا، فموضع اختلاف بين كبار أهل العلم، وثبت بالبحث أن الأحكام التي وقع في أذهان بعض العلماء أنها صدرت عن اجتهاد ليست بكثير، فإذا أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم -عليه الصلاة السلام - سائلًا عن حكم شرعي، حُمل على أنه كان عن وحي، حتى يقوم الدليل على أنه كان عن اجتهاد. وسرعة الجواب ليست بدليل على أن الفتوى صادرة عن اجتهاد، فقد يسأل - عليه الصلاة والسلام - عن أمر كان قد أبلغه من قبل؛ كما نزلت الصلوات الخمس بمكة مبينة، ثم سأل سائل بالمدينة عن أوقاتها وأوائلها وأواخرها، فأجابه عن ذلك بطريق عملي. وقد يستند في إفتائه إلى النصوص العامة؛ كما سئل عن قتل شخص يتشبه بالنساء، فقال: "إني نهيت عن قتل المصلين"، والاستدلال بالعام على بعض الحوادث من قبيل تطبيق النصوص الشرعية، وليس من الاجتهاد في شيء. ثم إن للوحي طرقاً، منها: أن يقذف الملَك في روعه ما أراد الله إيحاءه إليه، ولا يستطيع الكاتب أن يقدر المدة التي ينزل فيها الوحي، ويبين لنا كيف

تكون أطول من مدة النظر في تحصيل حكم شرعي بطريق الاجتهاد، قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": "ومن ادّعى أن نزول الوحي يحتاج إلى أمد متسع، فقد وَهِم". وكيف تدل سرعة الجواب على أن الفتوى صادرة عن اجتهاد، ونحن نجده - عليه الصلاة والسلام - يجيب عقب السؤال في كثير من المسائل التي شأنها أن تكون عن وحي؛ كالمسائل المتعلقة بأحوال يوم القيامة، أو المقام في الدار الآخرة، وهذه جزئيات لا يجد المجتهدون طريقاً من الطرق التي يألفها الناس موصلاً إليها. قال كاتب المقال: "ولعل الأمر فيما ينزل به الوحي، وفيما لا ينزل، وفيما يجتهد فيه الرسول، وفيما لا يجتهد، راجع إلى الفصل بين الشؤون التي تتعلّق بأساس الدعوة، أو بالجانب الخلقي، أو بالعبادة، وبين ما تختلف فيه المصلحة باختلاف الظروف والأزمنة والأشخاص". ذكر الكاتب فيما سلف أن هناك أموراً ينزل فيها الوحي، وأمورا يجتهد فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقصد في هذه الجمل أن يضع ضابطًا للأمور التي ينزل فيها الوحي، ولا يجتهد فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأمور التي يجتهد فيها، ولا ينزل فيها الوحي، فادعى أن ما ينزل فيه الوحي، ولا يجتهد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: الشؤون المتعلقة بأساس الدعوة، أو بالجانب الخلقي، أو بالعبادة، وما يجتهد فيه الرسول - صلوات الله عليه - ولا ينزل فيه الوحي: ما تختلف فيه المصلحة باختلاف الظروف والأزمنة والأشخاص. أما أن الوحي لا ينزل إلا في أساس الدعوة، والجانب الخلقي، والعبادات، فقد قال الكاتب في صدر مقاله: "فلما تمت الهجرة، دخلت الدعوة في عهد

جديد تكونت به للمسلمين وحدة اقتضت معاملات ونظماً اجتماعية تمتاز بها عن سائر الجماعات، ومنذ ذلك الحين اتجه الوحي إلى جهة أخرى تسير مع مقتضيات الحالة الجديدة، وتلبي مطالب هذه الأمة الناشئة"، وكنا فهمنا من تلك العبارة: أن الكاتب معترف بأن الوحي ينزل في غير أساس الدعوة، والجانب الخلقي والعبادات. أفلا تشعر أيها القارئ بأن ما قاله هنا ينافر ما قاله في صدر المقال، ولا يلتئم به؟ فالأمر إما أن يكون في المقال عبارات لا يأخذ بعضها برقاب بعض، وإما أن يكون فيه رجوع عن رأي برأي. أشار الكاتب هنا إلى أن الوحي لا ينزل فيما تختلف فيه المصلحة باختلاف الظروف والأحوال، ووضْعه لهذا القسم في مقابلة أساس الدعوة والجانب الخلقي والعبادات، ظاهر في أنه أراد منه: المعاملات، وشؤون الاجتماع، ولا ندري ماذا يصنع الكاتب في آيات كثيرة نزلت في المعاملات والجنايات؛ كالرهن، وتحريم الربا، وجلد الزاني والقاذف، وقطع يد السارق، وثبوت الحق بشهادة رجلين، أو رجل وامراتين، ويضاف إلى هذا أحاديث كثيرة وردت في المعاملات وشؤون الاجتماع، وليس في الرواية, "ولا ما يحيط بها ما يدل على أنها صادرة عن اجتهاد. وأشار الكاتب هنا أيضاً إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجتهد إلا فيما تختلف فيه المصلحة باختلاف الظروف والأحوال، ولا يجتهد فيما يرجع إلى أساس الدعوة والجانب الخلقي والعبادات، وقد نسي الكاتب أنه أورد أحاديث في العبادات مستشهدًا بها على اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ مثل: إفتاء المرأة في الحج لأبيها، وإفتائه السائل عن قُبلة الصائم، وإفتائه السائل عن أجر من باشر امرأته.

خص كاتب المقال في الجمل السابقة اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بما تختلف فيه المصلحة باختلاف الأحوال، وخص الوحي بالشؤون المتعلقة بأساس الدعوة والجانب الخلقي والعبادة، ثم قال: "وقد حدد الفقهاء مواضع الاجتهاد، ومواضع النص". إيراد الكاتب لهذه الجملة عقب ذكره لما ينزل به الوحي وما لا ينزل، وما يجتهد فيه النبي -صلوات الله عليه -، وما لا يجتهد، ظاهر في أنه يريد من النص: الوحي، ومعنى هذا: أن الفقهاء حددوا مواضع الوحي، ومواضع الاجتهاد. وهل حدد الفقهاء مواضع الوحي؟ ليس من المعقول أن يحدد الفقهاء وهم يبحثون عن الأحكام الشرعية مواضع الوحي، فهم لا يختلفون في أن الوحي يرد في العقائد، والجانب الخلقي، والعبادات، وفي كل ناحية من نواحي الحياة. وهل حدد الفقهاء مواضع الاجتهاد؟ لا نعرف للاجتهاد في الأحكام الشرعية مواضع محددة سوى ما يذكره علماء الأصول في كتاب القياس من نحو قولهم: إن القياس لا يجري في الأسباب والحدود والكفارات والرخص، على اختلاف بينهم فيما كان من هذا القبيل. وكيفما كان تحديدهم لمواضع الاجتهاد، فإنه لا يجدي الكاتب في هذا المقام نفعاً؛ لأن الذي يهمه أن تكون مواضع الوحي محدودة حتى يمكنه متى وجد حديثاً شرعياً أن يقول: هذا صادر عن اجتهاد؛ لأنه خارج عن المواضع المحدودة للوحي.

شخصياته الأربع

* شخصياته الأربع: قال كاتب المقال: "نستطيع بعد هذا أن نستخلص للنبي - صلى الله عليه وسلم - شخصيات متعددة: شخصية الرسول، وشخصية الإمام العام، وشخصية المفتي، وشخصية القاضي". قال شهاب الدين القرافي في كتاب "الفروق"، وكتاب "الأحكام" في الفرق بين الفتاوى والأحكام: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يتصرف بالتبليغ، وبالفتوى، وبالقضاء، وبالإمامة، وفرق بين الأربعة في التعريف، فقال: الرسالة: أن يوصل إلى الناس ما أمره الله تعالى بإبلاغه، والفتوى: إخباره عن الله تعالى بما يجده في الأدلة من حكم الله تعالى، فهو كالمترجم عن الله -عَزَّ وَجَلَّ-، والقضاء: إلزام من قبله - صلى الله عليه وسلم - بحسب ما نتج من الأسباب والحجاج، والإمامة: ولاية أمر السياسة العامة في الناس، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد. وحقق العلامة ابن الشاط في "حواشيه على الفروق" هذا التقسيم، فقال: إن المتصرف في الحكم الشرعي إما أن يكون تصرفه فيه بتعريفه، وإما أن يكون تصرفه بتنفيذه، فان تصرف فيه بتعريفه، فذلك هو الرسول إن كان هو المبلغ عن الله تعالى، وتصرفه هو الرسالة، وإلا، فهو المفتي، وتصرفه هو الفتوى، وإن كان تصرفه فيه بتنفيذه، فإما أن يكون تنفيذه ذلك بفصل وقضاء، فهو القاضي، وتصرفه هو القضاء، وإن لم يكن بفصل وقضاء، فهو الإمام، وتصرفه الإمامة. وسترى فيما يأتي الفرق بين قصد الكاتب ووجهته من ذكر هذا التقسيم، وقصد هؤلاء العلماء ووجهتهم.

رسالته

* رسالته: قال كاتب المقال: "فهو بشخصية الرسول مبلغ عن الله، لا يخرج فيما أوحى إليه عن حدود ما أمر به، أو نهى عنه، والمسلمون مكلفون به كما تلقوه عنه في عمومه أو خصوصه، وفي دوامه أو توقيته، وهذا يغلب فيما هو من العقائد وأصول الأخلاق والعبادات، ولا يعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقيهاً، وإنما هو أعلى شأناً، وأجل مكانة من الفقيه". ذهب الكاتب في الجمل السابقة إلى أن ما ينزل به الوحي، ولا يجتهد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - راجع إلى الشؤون التي تتعلّق بأساس الدعوة، أو الجانب الخلقي، أو العبادة، وعاد هنا فجعل ما ينزل به الوحى يغلب فيما هو من العقائد، وأصول الأخلاق، والعبادات، فهل يعد مثل هذا تخاذلاً في الإنشاء، أو هو رجوع عن رأي برأي؟ يقول كاتب المقال: إنه - عليه الصلاة والسلام - بشخصيته مبلغاً أعلى شأنًا، وأجل مكانة من الفقيه، ونحن نرى اجتهاده - عليه الصلاة والسلام - في استنباط حكم شرعي متى وقع، فإنما هو مستمد من نصوص الوحي أو أصوله، فهو - عليه الصلاة والسلام - لم ينزل عند اجتهاده عن مرتبة التبليغ، ومن هنا نقول كما قال أهل العلم من قبلنا: إن أوامره تتبع على الوجه الذي وردت فيه من وجوب أو ندب، لا فرق بين ما يكون صادراً عن وحي، وما يكون صادراً عن اجتهاد. * إمامته: قال صاحب المقال: "وهو بشخصيته الإمام الأعظم رئيس المسلمين، وزعيم قوميتهم، يعمل على تركيز أمته، وطبعها بطابع تتميز به عن سائر

الأمم. ويلحق بذلك كل ما ورد عنه مما يتعلق باللباس والأزياء، والتشبه بقوم، ومخالفة اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، وما إلى ذلك مما لا يمس ناحية من العقيدة، ولا يعقل فيه معنى التعبد، وإنما هو في الشؤون الاجتماعية البحتة التي تعرفها الأمم في كل العصور والأجيال، وينزع إليها الزعماء والقادة في القديم والحديث، والأمر فيها راجع إلى ما تراه الأمم، وتقدر فيه قوميتها ومصلحتها وسيادتها". إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - تقررت بالوحي، فالوحي هو الذي أنشاها، واستمر يمدها بأوامر ونواه حتى قامت على قدم راسخ، وأصبحت المثل الأكمل الذي أقامه الله للأئمة من بعده، وأمرهم بأن يكونوا على آثاره مقتدين. وكان الوحي ينزل في كثير من التصرفات العائدة إلى الإمامة؛ كإعداد القوة، وإعلان الحرب، والدعوة إلى الخروج إليها، والإذن في التخلف عنها، وأخذ البيعة على المناصرة فيها، والأخذ فيها بالحذر والحزم، والزجر عن الفرار من مواقعها، ومعاملة الأسرى، وإعطاء الأمان للمحاربين، وتقرير السلم، وعقد المعاهدات، وقسمة الغنائم، وضرب الجزية، وعقاب الذين يقطعون السبيل وشمعون في الأرض فساداً، والأخذ بالشورى. فإمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - وليدة الوحي، وهي - وإن كانت تصرفاً "في الشؤون الاجتماعية التي تعرفها الأمم في كل العصور والأجيال"- قد رسم لها الشارع محجة غير الطرق التي تمشي فيها أمم لا دينية، فيعترضها من الأشواك والعثرات ما يعوقها عن إدارك الغاية المنشودة من الأمن وسعادة الحياة. فإمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافة عن الله فيما اختاره لسياسة الأمم، ومن هنا كان جزاء الذين يخرجون عليها عذاب الهون في الدار الآخرة، ولولا أنهم خرجوا

على سياسة رسم الوحي دائرتها، وفرض على الناس طاعتها، ما كان جزاء من يخالفها إلا جزاء من يخالف سلطانًا تقوم سياسته على آراء لا تتصل بالوحي في أصل ولا فرع، وهو عقوبة السلطان، أما عقوبة الله، فإنما يستحقها من كان لله عليه حجة، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُول} [الإسراء: 15]. وسمَّى كاتب المقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الجمل: رئيس المسلمين، وزعيم قوميتهم؛ ليقرر في نفس القارئ أن ما يصدر عنه بصفة الإمامة لا علاقة له بالرسالة، وإنما هو بمنزلة ما يصدر عن غيره من الزعماء والقادة في القديم والحديث. وقال كاتب المقال في هذه الجمل: "يعمل على تركيز أمته، وطبعها بطابع تتميز به عن سائر الأمم"، وهذا كلام صحيح متى فهمنا أن أمته كل من دخلوا في دينه من العرب والعجم، وأن ما يقوله لتركيزها وطبعها بطابع تتميز به عن غيرها من الأمم، لا يختص بخطابه قوم دون قوم، ولا عنصر دون عنصر، ذلك أن ما يقوله في هذا الصدد إما أن يكون عن وحي، وإما أن يكون عن اجتهاد يتصل بالوحي. وقال الكاتب في هذه الجمل: "ويلحق بذلك كل ما ورد عنه مما يتعلق باللباس والأزياء والتشبه بقوم، ومخالفة اليهود والنصارى والمجوس والمشركين". ترك الشارع أمر اللباس إلى العادات، ولكن التشريع دخل في اللباس من بعض الجهات؛ كان يكون طاهرًا نظيفاً ساترًا لما يجب أو يحسن ستره، ولا أظن أحداً يستطيع أن يقول: إن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير والذهب إنما هو من قبيل ما يصدر عنه بصفته رئيس المسلمين، وزعيم قوميتهم، فقد

قال - عليه الصلاة والسلام -: "حُرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي"، ولا شبهة في أن الذي حرم لباسهما هو الله تعالى، وقال: "ومن لبس الحرير، في الدنيا، فلن يلبسه في الآخرة"، وإن لم يكن مثل هذا الحديث وحياً، فمن أين علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من لبس الحرير في الدنيا لا يلبسه في الآخرة؟ يقول كاتب المقال في هذه الجمل: "إن كل ما ورد عنه مما يتعلق بالتشبه بقوم، ومخالفة اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، صادر عنه - صلى الله عليه وسلم - بصفته رئيس المسلمين، وزعيم قوميتهم". ونقول: وردت أحاديث في النهي عن التشبه بالمخالفين، ويلغت هذه الأحاديث أن تقررت بها قاعدة يرجع إليها الفقهاء في بعض ما يتجدد من الحوادت العائدة إلى هذا القبيل. وكل أحد يتفقه في هذه الأحاديث، ويبحث عن أسرارها، يرى رأي الحق: أن شريعة الإِسلام تكره للمسلمين أن يتشبهوا بغيرهم من أهل الملل والمذاهب الأخرى، ولا يرتاب في أن النهي عن هذا التشبه داخل في دائرة أحكامها. والأحاديث الواردة في كراهة التشبه بالمخالفين نوعان: أولهما: أحاديث وردت في النهي عن أشياء تشتمل على وجوه من الفساد، ويقول فيها - عليه الصلاة والسلام -: هذا من فعل المشركين، أو اليهود - مثلاً -, أو يقول فيها: وخالفوا اليهود أو المجوس. فالمقتضي الأول للنهي عنها: هو ما في الفعل من مفسدة، والإخبار بأنها من أفعال أهل ملة باطلة يراد منه: زيادة التنفير منه، وتكيد كراهة الشارع له، ومثال هذا: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى

الجاهلية"، فالنياحة والندبة عند المصيبة هي المعبر عنها بدعوى الجاهلية. والنياحة والندبة ينهى عنها ولو لم تكن من شأن الجاهلية، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أضافها إلى الجاهلية؛ لزيادة التنفير منها, حيث إن المتقين يتحامون أن يتشبهوا بالضالين والمبتدعين، وقد ورد هذا النوع في كثير من الآيات؛ كقوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]. ثانيهما: أحاديث وردت في النهي عن التشبه بالمشركين، أو غيرهم من أهل الملل الباطلة في أشياء لا يظهر فيها وجه مفسدة، ولا وجه مصلحة، فيكون المقتضي للنهي هو مجرد التشبه، ويساق مثلاً لهذا حديث: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إذا أَتبع جنازة، لم يقعد حتى توضع في اللحد، فتعرض له حبر (¬1)، فقال: هكذا نصنع يا محمد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "خالفوهم (¬2) ". ومن حقق النظر فيما يترتب على نفس التشبه بالمخالفين من آثار، ودخل إلى هذا التحقيق من باب دراسة علم النفس، أدرك وهو على بصيرة أن النهي عنه يقوم على مراعاة مفاسد هي من نوع المفاسد التي تشتد عناية الشارع بإزالتها، ومن ذا الذي يرى شخصا يترك زياً من أزياء إخوانه المسلمين، ويتزيا بزي يهودي أو نصراني، ولا يتبادر إلى ذهنه أنه ضعيف الإيمان, أو منحل العقيدة؟! يقول كاتب المقال في هذه الجمل: "وما إلى ذلك مما لا يمس ناحية العقيدة، ولا يعقل فيه معنى التعبد، وإنما هو في الشؤون الاجتماعية البحتة التي تعرفها الأمم في كل العصور ... إلخ". ¬

_ (¬1) من أحبار اليهود. (¬2) "صحيح البخاري".

تصرفه بالفتوى

إذا ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث يتضمن أمراً أو نهياً، حُمل أمره أو نهيه على أنه شريعة، سواء أكان الأمر أو النهي فيما يعقل فيه معنى التعبد، أم كان في الشؤون الاجتماعية، فإذا ورد حديث يتضمن النهي عن لباس أو زي، أو يتضمن النهي عن التشبه بقوم في زي أو عادة، إلى غير هذا من الشؤون الاجتماعية، عد هذا الأمر أو النهي في الأحكام الشرعية، ولا نبحث عن مصدر هذا الحكم: أهو الوحي، أم الاجتهاد؟. وتصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفة الإمامة لا يخرج عن أنه تصرف يرتبط بالشريعة، فإنه تصرف في شؤون أذن له الشارع في التصرف فيها على حسب المصلحة، فتصرفه مستند إلى إذن من الشارع، ومقيد بالمصلحة الملائمة لمقاصد الشارع في الإصلاح، وهو بعد هذا تحت رعاية منزل الوحي، فإن جاء التصرف على الوجه الأولى، أقره، وإن جاء على غير الوجه الأولى، نبهه لما هو الأولى. أما تصرفات الزعماء والقادة في الشؤون الاجتماعية، فإنما تستند إلى آراء بشرية بحتة، وكثيراً ما تخطئ في تقدير المصلحة، ويبقى خطؤها بلاء على الناس إلى أمد بعيد، فما كان لنا أن نسمي إمامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زعامة، ونلحقها بقبيل زعامات لا تستضيء بحكمة الله، ولا تبالي في سياستها أن تقع فيما لا يوافق هداه. * تصرفه بالفتوى: قال كاتب المقال: "وهو بشخصية المفتي إما مجيب بلسان الوحي، فليس له اجتهاد في ذلك إلا في تطبيق النصوص على جزئيات الحوادث، وإما فقيه يجتهد ويقدر ويلاحظ أحوال السائلين، فيجيبهم بما يراه، كما يفعل سائر المجتهدين، وبالطرق التي يأتيها الناس في استنباط المجهولات، وقد علم له

تصرفه بالقضاء

من هذا النوع كثير". سبق لكاتب المقال أن قال في حديثه عن اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -: وكان يسارع أحياناً إلى الجواب عما يسأل عنه، وأحياناً ينتظر الوحي. وكان قصده هنالك: أن الفتاوى التي تصدر عن سرعة هي من قبيل الاجتهاد، فيكون مراده من تقسيم الفتاوى هنا إلى: ما يجيب عنه بلسان الوحي، وما يجيب عنه باجتهاد: أن ما يجيب عنه بلسان الوحي: ما كان ينتظر فيه الوحي، وما يجيب عنه باجتهاد: ما يجيب عنه بسرعة، وقد نبهنا فيما سبق لعدم دلالة السرعة في الجواب على أن الفتوى كانت عن اجتهاد. وقد علم له - عليه الصلاة والسلام - من نوع الفتاوى في الأحكام الشرعية كثيرة، ولكنا لا نستطيع أن نضع أيدينا على فتوى في حكم شرعي، ونقول ونحن على حجة: هذه فتوى أجاب فيها بما يراه كما يفعل سائر المجتهدين. * تصرفه بالقضاء: قال كاتب المقال: "وهو بشخصية القاضي حكم بين المتخاصمين، يسمع دعاواهم، ويتعرف الحق بما يسمع من شهادة الشهود، وما يرى من وجوه التثبت، ويقدر ظروف القضية وأحوال المتقاضين؛ كما يفعل سائر القضاء، وأحكامه في هذه الدائرة لا عموم لها في الأشخاص ولا في الأحوال، كما يقول علماء الأصول، فليس لها صفة التشريع العام". يتوجه النظر في القضاء إلى ناحيتين: أولاهما: الوسائل التي تتقدم الحكم؛ من نحو: البينات، والأيمان، وتزكية الشهود، والطعن في البينات، وضرب الآجال والأعذار، وبعث الحكمين.

ثانيتهما: الأحكام التي يرجع إليها القاضي في الفصل بين المتخاصمين؛ كاستحقاق الشريك للشفعة، والأم للحضانة، ووجوب نفقة الرجل على أبيه، وبطلان بيع ما فيه غرر، ونكاح الشغار، وصحة البيع بمعاطاة، والنكاح على أن يكون الصداق منافع. أما وسائل الحكم، فمنها ما قرره القرآن الكريم؛ كقبول شهادة عدلين، أو رجل وامرأتين، وعدم قبول الشهادة على الزنا متى كان الشهود أدنى من أربعة، ومنها ما قررته السنة؛ كمطالبة المدعي بالبينة، والمدعى عليه باليمين متى أنكر، وقبول شهادة عدل مع اليمين. وما ثبت بالقرآن أو السنة من أمثال هذه المقدمات التي ينبني عليها القضاء يعد شرعاً دائماً لا يسوغ لأحد من القضاة إهماله إلا إذا فقد الوصف الذي راعاه الشارع عند تقرير الحكم. وأما الأحكام التي يأخذ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في قضائه، فإما مقررة بالقرآن الكريم؛ كجملة من أحكام النكاح والطلاق، والنفقات والوصية والمواريث، أو أحكام الجنايات؛ كحد السارق والقاذف والزاني والقاتل، وأحكام المعاملات؛ كالرهن وإنظار المعسر ورد الربا، وإما مقرر بالسَّنة، وأمثلة هذه الأحكام غير المنصوص عليها في القرآن مبثوثة في كتب السنة. فالأحكام التي يفصل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الخصوم، لا بد أن تكون متلقاة من الشارع، إما على طريق النص بوجه خاص أو عام، وإما على طريق الاجتهاد المستمد من الوحي. فإذا قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نازلة، فالحكم الذي يفصل به القضية شريعة دائمة، إلا أن يكون مربوطاً بسبب أو صفة، فإذا زال السبب، أو فقلت الصفة،

صح للمجتهد أن يرجع بالواقعة المتجددة إلى نصوص أو أصول أخرى، ويقرر لها حكماً يلائم مقاصد الشارع في الإصلاح. فالقاضي يسمع الدعاوى، ويسمع شهادة الشهود، ويتثبت في الدعاوى والشهادات، ويقدر ظروف القضية وأحوال المتقاضين، وله عمل آخر بعد هذا هو تطبيق الحكم الذي قرره الشارع لأمثال هذه القضية، فإذا رفعت إليه قضية ادعى فيها أحد على آخر أنه باع له ثمراً قبل بدو صلاحه، أو باع له ما ليس عنده، سمع القاضي الدعوى، وسمع شهادة الشهود بأنه باع له ثمراً لم يبد صلاحه، أو باع له شيئاً لا يملكه، وتثبت في الدعوى والشهادة، فكان كل منهما مستوفيا لما يشترطه القضاء، ونظر إلى ظروف القضية، وأحوال المتقاضين ما شاء أن ينظر، ولكن هذا كله لا يكفيه في إصدار حكم عادل إلا بعد أن يرجع إلى حكم الشريعة في مثل هذا البيع من صحة أو بطلان، ولا يكون قاضياً عادلاً في نظر الإِسلام إلا أن يجري في فصل القضية على هذا الحكم. أما المسألة الأصولية التي أشار إليها الكاتب مستشهداً بها على أن أحكامه - عليه الصلاة والسلام - في دائرة القضاء غير عامة، فقد سيقت على وجه غير الوجه الذي ينبغي أن تساق عليه. ذلك أن الأصوليين لا يختلفون في أن أحكامه - عليه الصلاة والسلام - ولو كانت على أشخاص معينين، هي عامة؛ أي: يجب اتباعها في كل قضية تشابه القضية التي قضى فيها - عليه الصلاة والسلام -, وإنما الخلاف في طريق عمومها، فقال بعضهم: هي عامة بالصيغة التي صدرت منه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا القول معدود في الأقوال الضعيفة بينهم. وقال آخرون: هي عامة بمعناها لا بصيغتها؛ أي: إن حكمه - صلوات الله عليه - في قضية يكون شرعاً متبعاً في كل قضية

من صنف القضية التي حكم فيها، فلو رفع إليه شريك قضية طالباً الشفعة، فقضى له بها، علمنا أن كل شريك مستحق للشفعة، فمن لم يحكم من القضاة للشريك بالشفعة، كان حاكمًا بغير شريعة الإِسلام، فهؤلاء ينكرون أن يكون الحكم عاماً بالصيغة، ويقولون: إن قضايا الأعيان لا عموم لها في الأشخاص، ولكنهم يتمسكون بأن الحكم عام من جهة ارتباطه بسبب أو وصف، فمتى وجد الوصف أو السبب في أي شخص، أو في أي وقت، لزم الحكم لا محالة. وهذا الذي قرره الراسخون في علم الشريعة يجري في الفتاوى والأقضية على سواء، وإن شئت أن نعرض عليك نصوصاً لبعض هؤلاء المحققين صاغوها في هذا البحث، فإليك بعض نصوصهم: قال إمام الحرمين في كتاب "البرهان": "إذا خصَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحداً من أمته بخطاب، فهذا مما عده الأصوليون من مسائل الخلاف"، وبعد أن حكى الخلاف قال: "والقول هذا عندي مردود إلى كلام وجيز، فإن وقع النظر في مقتضى اللفظ، فلا شك أنه للتخصيص، وإن وقع فيما استمر الشرع عليه، فلا شك أن خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان مختصاً بآحاد الأمة، فإن الكافة يلزمون في مقتضاه ما يلتزمه المخاطب، وكذلك القول فيما خص به أهل عصره، وكون الناس شَرْعا في الشرع، استبانة ذلك من عهد الصحابة ومن بعدهم، لا شك فيه، وكون مقتضى اللفظ مختصًا بالمخاطب من جهة اللسان لا شك فيه، فلا معنى لعد هذه المسألة من المختلفات، والشقان جميعاً متفق عليهما". فانظر كيف جعل الحكم الشرعي الذي يتضمنه خطابه - صلى الله عليه وسلم - لواحد حكماً عاماً باتفاق.

وقال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب "الموافقات": "الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة، بمعنى: أنه لا يختص بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة". وأخذ في الاستدلال على عموم الشريعة حتى قال: "الثالث: إجماع العلماء المتقدمين على ذلك من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولذلك صَيَّروا أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة للجميع في أمثالها، وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة، وليس لها صيغ عامة، أن تجري على العموم، إما بالقياس، أو بالرد إلى الصيغة، أو تجري على العموم المعنوي، أو غير ذلك من المحاولات؛ بحيث لا يكون الحكم على الخصوص في النازلة الأولى مختصًا بها، وقد قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37]، فقرر الحكم في مخصوص، ليكون عاماً في الناس، وتقرير حجة الإجماع لا يحتاج إلى مزيد؛ لوضوحه عند من زاول أحكام الشريعة". فحمل الأحكام في الأحاديث الواردة في قضايا معينة على العموم هو الحق لا شبهة فيه، وهو العقيدة المعروفة عند أهل العلم، حتى من ينكرون القياس منهم، ويبالغون في إنكاره من أهل الظاهر، وهذا ابن حزم، وهو من أشد خصوم القائلين بالقياس، يقول بعموم الحكم في قضايا الأعيان، وإليك بعض ما يقول في كتاب "الأحكام": "فإن اعترضوا (أي: أصحاب القياس) بأحاديث وردت في أناس بأعيانهم، فليس ذلك مما ظنوا، ولكن جميع تلك الأحاديث فيها أحكام وأصول توجب الأخذ بذلك الحكم في أنواع تلك الأحوال اتباعاً للفظ الحكم

المعلق على المعنى المحكوم فيه". ثم قال: "وقد بينا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبعث ليحكم على أهل عصره فقط، لكن على كل من يأتي إلى يوم القيامة". ثم قال: "كل خطاب منه - صلى الله عليه وسلم - لواحد فيما يفتيه فيه، ويعلمه إياه، هو خطاب لجميع الأمة إلى يوم القيامة، وتعليم منه - عليه الصلاة والسلام - لكل من يأتي إلى انقضاء الدنيا". ثم قال: "ومما يبين قولنا قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة في الأضحية بعنَاق جذعة: "تجزئك، ولا تجزئ أحداً بعدك"، فبين - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الحكم خصوصي لأبي بردة، ولو كان فتياه لواحد لا يكون فتيا في نوع تلك الحال، لما احتاج - عليه الصلاة والسلام - إلى بيان تخصيصه، ومثله قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]. ولا فرق في عموم أحكامه - عليه الصلاة والسلام - بين أن يقول الراوي: قضى لفلان على فلان بكذا، وأن يأتي بصيغة عموم نحو: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا يقتل الوالد بولده (¬1) "، و"قضى أن الحامل إذا قتلت عمداً، لم تقتل حتى تضع ما في بطنها، وحتى تكفل ولدها"، و"قضى باليمين مع الشاهد". هذا ما يقرره علماء الإِسلام في قضايا الأعيان من أنها عامة بحكمها، وأدلتهم في هذا قاطعة، ومما يعززها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لا أصافح النساء، وما قولي لامرأة واحدة، إلا قولي لمئة امرأة"، وهذا من الأحاديث التي ألزم ¬

_ (¬1) الترمذي.

ماذا يترتب على الشخصيات الأربع؟

الدارقطني الشيخين بإخراجها؛ لثبوته على شرطهما. وإذا قالوا: إن الحكم في الواقعة جزئي لا يتعدى إلى أمثالها من الوقائع، فللمجتهد أن ينظر في واقعة صدر فيها حكم مجتهد من قبل، فإنما يريدون: حكم من قد يخطئون، ولا ينبهون من قبل الشارع لخطئهم، أما إذا حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في واقعة، فليس لمجتهد بعده أن يعيد النظر في أمثالها إلا من جهة التحقق من الأسباب والشروط التي وقع عليها قضاؤه، وهذا أمر جرى عليه علماء الإِسلام باتفاق، ودليله واضح لا تحوم عليه شبهة، قال ابن حزم في كتاب "الأحكام": "اتفق العلماء على أن القرآن، وما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قاله، أو فعله، أو أقره وقد علمه- مواضع لوجود أحكام النوازل". * ماذا يترتب على الشخصيات الأربع؟ قال كاتب المقال: "هذه شخصيات أربع صارت إليه - صلى الله عليه وسلم - وأثراً من آثار تلك الهجرة الميمونة، وإنا لنلمح هذه الشخصيات في جميع ما أثر عنه، ودوِّن في الكتب، ومنه ما تظهر الشخصية التي صدر عنها دون أن يخالف فيه أحد، ومنه ما تخفى شخصيته خفاء تتفاوت الأنظار، وتختلف الآراء في تقديره". ذكرنا سابقاً أن بعض الأصوليين نبهوا لهذه الجهات الأربع في تصرفه - عليه الصلاة والسلام - ونذكر هنا: أنهم أشاروا إلى أن من تصرفاته -عليه الصلاة والسلام - ما اتفق العلماء على الجهة التي يرجع إليها من الإمامة أو الفتوى أو القضاء، ومنه ما اختلفت فيه الآراء والأنظار. قال الشهاب القرافي: "إن تصرفه - عليه الصلاة والسلام - ينقسم أربعة أقسام: قسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالإمامة؛ كالإقطاع، وإقامة الحدود،

وإرسال الجيوش، ونحوها. وقسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالقضاء؛ كإلزام أداء الدين، وتسليم الودائع، وفسخ الأنكحة، ونحو ذلك. وقسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالفتيا, كإبلاغ الصلاة وإقامتها، وإقامة المناسك، ونحوها. وقسم وقع منه - عليه الصلاة والسلام - متردداً بين هذه الأقسام، فاختلف العلماء فيه على أنحاء". وذكر لهذا القسم المختلف فيه أمثلة، منها: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "من أحيا أرضًا ميتة، فهي له"، وقوله: "من قتل قتيلاً، فله سلبه". فقول الكاتب: ومنه ما تظهر الشخصية التي صدر عنها ... إلخ يشابه هذا التقسيم الذي نقلناه عن القرافي، غير أن القرافي يجعل الفتوى والتبليغ - من جهة ما يترتب عليهما من الآثار - متساويين، ولهذا نراه عندما جعل الأقسام أربعة، اكتفى بذكر الفتوى عن التبليغ، وقد قال في أثناء بحث هذا التقسيم: "وأما تصرفه - عليه الصلاة والسلام - بالفتوى أو الرسالة والتبليغ، فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين". قال كاتب المقال: "ولو أننا تتبعنا المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعطيناه نظرة فاحصة يتميز بها ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات، ولم نخلط بعضه ببعض، ورتبنا على كل منها آثاره، وأعطيناه حقه، لسهل على المسلمين أن يتفاهموا فيما شجر بينهم من خلاف، ولتصافح المتخالفون، ولما رمى أحد سواه بالكفر والزندقة، ولعلم الجميع ما هو شرع دائم عام لا سبيل إلى مخالفته أو الخروج عنه، وما هو تشريع خاص أو مؤقت لهم أن

يتصرفوا فيه بما تقضي به المصلحة، وبما توحي به الظروف والأحوال". يريد الكاتب أن يضع في ذهن القارئ أن علماء الإِسلام لم يتتبعوا المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعطوه نظرة فاحصة يتميز بها ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات، وخلطوا بعضه ببعض، فنقول له: قد قلت في صدر مقالك تذكر عناية المسلمين بأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتصرفاته: "دونوها، وشرحوها، وضبطوا ألفاظها، وألفوا المعاجم في شرح غريبها، واهتموا بتفهم أسرارها، وتبين أغراضها، حتى كان من آثار ذلك أن نشأت علوم خاصة تعرف بعلوم السنة". وكيف يشرحون أقواله وأفعاله وتصرفاته، ويهتمون بتفهم أسرارها وتبين أغراضها، وهم لم يعطوها نظرة فاحصة يتميز بين تلك الشخصيات، ويخلطون بعضها ببعض؟ ينسب الكاتب إلى المسلمين أنهم لم يتتبعوا المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعطوه نظرة فاحصة ... إلخ ما قال، وكذلك قال الدكتور زكي مبارك في مقاله المشار إليه فيما سلف: "إن شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تدرس حق الدراسة إلى اليوم في البيئات الإِسلامية؛ لأن المسلمين يجعلونه رسولاً في جميع الأحوال". والحق أن علماء السلف قد تتبعوا المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأعطوه نظرة فاحصة، وميزوا ما كان صادراً عن تبليغ، وما كان صادراً عن فتوى، وما كان صادراً عن قضاء، وما كان صادراً عن الإمامة، ورتبوا على كل منها آثاره، غير أن آثار الإفتاء هي آثار التبليغ، فما كان صادراً عن إفتاء أو تبليغ، فهو شريعة دائمة، وينفذ على النحو الذي ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،

سواء أكان الإفتاء عن وحي، أم عن اجتهاد. وما كان صادراً عن صفة الإمامة يصير الحق فيه إلى الإمام؛ أي: إن الله تعالى قد جعل ذلك إلى الإمام؛ ليجري فيه على ما تراءى له من المصلحة، فليس لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام؛ كإحياء الموات، وحوز القاتل سلبَ القتيل في الحرب على مذهب من يرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تصرف في ذلك بصفة الإمامة. وما تصرف فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء، فإنما هو تنفيذ لحكم شرعي على وجه الإلزام، وقالوا: ليس لأحد أن يقدم على مثل ما حكم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بحكم حاكم، ومعنى هذا: أنه لا يجوز لأحد يدعي حقاً على شخص أن يقدم على أخذ حقه من ذلك الشخص بقوة، وإن سبق أن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حكم بمثل ذلك الحق لمثله، يقولون هذا وهم لا يريدون أن حق المدعي لا يثبت شرعاً إلا باجتهاد يتجدد من القاضي في الواقعة التي هي من نوع ما حكم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما ينحون نحواً آخر هو: أن إطلاق أيدي مدعي الحقوق ينتزعونها من أيدي المستولين عليها، يفضي إلى فتنة واختلال أمر، ويفتح للبغاة باب انتزاع الأموال من أيدي أربابها بدعوى أنها حقوق لهم. وما أدق عبارة ابن الشاط التي سقناها إليك من قبل؛ إذ جعل القضاء والإمامة من قبيل تنفيذ الحكم الشرعي، والفتوى من قبيل تعريف الحكم الشرعي. يقول الكاتب: "لو أعطينا المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرة فاحصة يتميز بها ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات، لما رمى أحد سواه بالكفر والزندقة". يرى الكاتب أن عدم إعطاء المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرة تتمايز بها

هذه الشخصيات، هو السبب في رمي الأشخاص بالكفر والزندقة، والواقع أن الرمي بالكفر والزندقة قد ينشأ عن الضعف في العلم، وقد ينشأ عن هوى وضغن في النفس، وقد يقضي به الرسوخ في العلم، وقوة البصر بالحد الفاصل بين الإيمان والكفر، فالرمي بالكفر والزندقة قد يكون ظلماً، وقد يكون حقاً، وقد نظر العلماء فيما يسميه الكاتب: "شخصيات الرسول"، وميزوا ما كان صادراً عن كل شخصية منها، وما زال الناس يرمون الأشخاص بالكفر والزندقة، مرة بالحق، ومرة بالباطل، وإذا أراد الكاتب من إلقاء نظرة على المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمييزاً لتلك الشخصيات غير تمييز أهل العلم، وترتيب آثار غير الآثار التي رتبوها عليها، فما يدرينا أن باب الرمي بالكفر والزندقة سيغلق، أو سيفتح بجانبه باب آخر أو أبواب؟. وقال كاتب المقال في هذه الجمل: "لو ميزنا ما كان صادراً عن كل شخصية، لعلم الجميع ما هو شرع دائم عام لا سبيل إلى مخالفته أو الخروج عنه، وما هو تشريع خاص أو مؤقت لهم أن يتصرفوا فيه بما تقضي به المصلحة". لعلك أيها القارئ الكريم تذكر أن الكاتب قال في حديثه عما يصدر عنه - عليه الصلاة والسلام - بشخصية الرسول: "والمسلمون مكلفون به كما تلقوه عنه في عمومه أو خصوصه، وفي دوامه أو توقيته"، ولكنه هنا رتب معرفة ما هو شرع دائم عام، وما هو تشريع خاص أو مؤقت على تمييز ما كان صادراً عن كل شخصية! وظاهر من كلامه هنا أنه يريد بالشرع الدائم: ما كان صادراً عن وحي، ولهذا قال: لا سبيل إلى مخالفته، أو الخروج عنه، ويريد بما هو تشريع خاص أو مؤقت: ما كان صادراً عن الإمامة أو الفتوى أو القضاء؛ لأن

التصرف بالشخصيات الثلاثة في رأيه من قبيل الاجتهاد الذي قام به بحق بشريته، وهو على ما قاله قد يجتهد، ويسكت عنه الوحي فلا يتعرض له بتصويب، ولا تخطئة، فلغيره من الناس أن يتصرفوا فيما اجتهد فيه بما تقضي به المصلحة، وبما توحي به الظروف والأحوال. والصواب ما حررناه فيما سلف من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر بشيء، أو نهى عن شيء، أو قال: هذا حلال، أو هذا حرام، سواء كان هذا القول صادراً على وجه التبليغ أو الفتوى أو القضاء، فهو شرع دائم عام ما دامت أسباب الحكم قائمة، وشروطه متوفرة، فإن فقد السبب أو الشرط الذي ربط به الحكم، صار مناط الحكم واقعة أخرى، فيصبح للمجتهد الراسخ في أصول الشريعة، المتفقه في مقاصدها أن يستنبط للواقعة حكماً يناسبها، وقد حدثناك عن الإمامة، وأريناك وجه ارتباطها بالشريعة، وأن التصرف بها تنفيذ للسياسة التي رسم الوحي حدودها، وأقام قواعدها. ورأى كاتب المقال في هذه الجمل أن إعطاء المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرة فاحصة يتميز بها ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات، يسهل على المسلمين أن يتفاهموا فيما شجر بينهم من خلاف، ثم قال: "لو فعلنا ذلك، لما أبقينا على أسباب هذا الخلاف والتناكر بين أفراد الأمة وطوائفها، ولرجعنا إلى كلمة سواء في العبادات والمعاملات، والآداب والنظم الاجتماعية، وسائر شؤون الحياة، ولانتفع الناس بشرع الله ودينه، ولكنّا كما يريد خير أمة أخرجت للناس". ادعى الكاتب أن التمييز بين الشخصيات الأربع يقضي على أسباب

الخلاف والتناكر بين أفراد الأمة وطوائفها، ويرجع بها إلى كلمة سواء في العبادات وسائر شؤون الحياة، ونحن نقول: قد فعل أهل العلم ذلك، ونظروا في المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وميزوا على ضوء العلم الراسخ ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات، ورتبوا على كل شخصية أثرها، ولم يقضوا بما فعلوا على أسباب الخلاف والتناكر، ولم يرجعوا إلى كلمة سواء في العبادات والمعاملات، ذلك أن أسباب الخلاف في الأصول والفروع لا تنحصر في عدم تمييز نواحي تصرفه - عليه الصلاة والسلام -، وقد بحث الفقهاء عن أسباب الخلاف، وكشفوا عنها الغطاء، فذكروا أشياء غير عدم تمييز ما كان صادراً عن كل شخصية من تلك الشخصيات؛ كالاشتراك الواقع في الألفاظ، واختلاف الرواية, ودعوى النسخ، وتعدد الصفات المحتملة لأن تكون علة مناسبة للحكم. ولو ذكر لنا الكاتب في صراحة وتفصيل وجوه تمييز ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات، لعلنا نرى الرمي بالكفر والزندقة: كيف شمر أذياله، ولاذ بالفرار، ونرى الناس على تفاوت أنظارهم، واختلاف مذاهبهم يتصافحون، ويُجمعون في كل مسألة تعرض لهم على قول واحد. ولكن الذي فعله الكاتب هو أنه أقبل يخوض في اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: إنه اجتهد بحق بشريته، وأخذ يقول: إنه يرجع إلى اجتهاد غيره، وإنه يرجع عن اجتهاد باجتهاد، وإن الوحي يأتي بخلاف اجتهاده، وقد يسكت فلا يعرض له بتخطئة ولا تصويب، وإنه يحكم بين الناس، وقال: "إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم، ... إلخ". جمع هذه الأشياء، وضم بعضها إلى بعض؛ ليؤكد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان

يخطئ في الاجتهاد، ولم يقل للناس عندما تحدث عن خطأ اجتهاده: إنه لا يقر على الخطأ. وبعد أن وضع في أذهان قراء مقاله أن النبي - عليه الصلاة والسلام - يخطئ في الاجتهاد، تخلص إلى أن له أربع شخصيات: الرسالة، والفتوى، والإمامة، والقضاء، وذكر أن إمامته من قبيل رياسة المسلمين، وزعامة قوميتهم، فهو يعمل من ناحية هذه الشخصية لطبع المسلمين بطابع يمتازون به على غيرهم من الأمم كما يفعل سائر الزعماء والقواد، ورأيتم كيف حاول أن يفتح في هذه الناحية بابًا لإخراج جانب كبير من أحكام الشريعة، وذكر أن القضاء وما يجيب عنه بسرعة من الفتاوى إنما هو عن اجتهاد. ثم إن الكاتب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بشخصية الرسول المبلغ عن الله، وقال هنالك: إن المسلمين مكلفون بما بلغه كما تلقوه عنه في عمومه وخصومه، وفي دوامه وتوقيته، ثم ذكره بشخصية الإمام، وشخصية المفتي، وشخصية القاضي، ولم يقل كما قال في شخصية التبليغ: والمسلمون مكلفون بما صدر عنه في حال الإمامة أو الفتوى أو القضاء، بل دلّ على أن هذه الوظائف جاءت من ناحية اجتهاده الذي قام به بحق بشريته، وقد رأيتموه كيف قال عند حديثه عن اجتهاده - عليه الصلاة والسلام -: "كما هو الشأن في المجتهدين والحكام"، وقال عند حديثه عن إمامته: "إنما هو في الشؤون البحتة التي تعرفها الأمم في كل العصور والأجيال، وينزع إليها الزعماء والقادة في القديم والحديث". وقال عند حديثه عن إفتائه - عليه الصلاة والسلام -: "كما يفعل سائر المجتهدين، وبالطرق التي يألفها الناس في استنباط المجهولات"، وقال عند حديثه عن قضائه - عليه الصلاة والسلام -: "كما يفعل سائر القضاة".

فالمسلمون إذاً غير مكلفين بما أفتى به، أو قضى به كما تلقوه عنه، ومن هنا قال صديقه العالم في الكلمة التي صدرنا بها هذا البحث: "وخلاصة ما يرمي إليه المقال (يعني مقال الشيخ محمود شلتوت): أن الذي يعد شرعاً دائمًا هو ما يرجع إلى شخصيات الرسول من العقائد وأصول الأخلاق والعبادات، وما عدا ذلك مما يرجع إلى شخصيات الإمام، أو المفتي، أو القاضي، فليس بشرع دائم، وإنما هو شرع مؤقت يمكن أن يتأثر بالاجتهاد، وأن يترك العمل به لسبب من الأسباب". أحكام الوقائع الواردة في الكتاب والسنة دائمة ما دامت الواقعة على الوصف الذي تعلق به الحكم، أما ما لم يدل عليه لفظ قرآن أو حديث، فذلك موضع الاجتهاد، والرجوع إلى ما تقتضيه أصول الشريعة والقواعد المستمدة من نصوصها. ولم يأت صديق الشيخ شلتوت ولو بشبهة على هذا الغرض الذي كان أصْرح فيه من غيره، وهو أن الشرع الدائم ما يرجع إلى العقائد والأخلاق والعبادات، وما عدا ذلك، فإنما هو شرع مؤقت يمكن ترك العمل به لسبب من الأسباب. وما رأي صديق الشيخ في آيات القرآن المجيد التي نزلت في إقامة الحدود، وأحكام المعاملات؟ أهي من قبيل الشرع الدائم، أو من قبيل الشرع المؤقت؟ فإن قال: هي من قبيل الشرع الدائم، قلنا: لماذا لا تكون أحكام المعاملات التي تجيء في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرعاً دائماً، وقد قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]؟ فإن قال: لأنه يجتهد، قلنا: قد أقمنا الدليل على أنه لا يقرر حكماً شرعياً عن اجتهاد خطأ،

ويقر على هذا الخطأ. وإن قال: إن تلك الآيات من قبيل الشرع المؤقت، قلنا له: لم يقل منزل القرآن، وهو علام الغيوب، أو من وكل إليه بيان القرآن، وهو الرسول الأمين: إنها أحكام مؤقتة، وعموم الشريعة وخلودها يقتضي أنها دائمة، وعلى ذلك انعقد إجماع المسلمين بعد أن فحصوا عن أسرارها، واستبانوا حكمتها. وقد اعترف صديق الشيخ في مقاله بأن تقسيم التشريع إلى دائم ومؤقت "أمر جديد لم يظهر إلا في عصرنا"، وإذا صرفنا النظر عن الأهواء الطائشة، والأذواق السقيمة، والنفوس المتسرعة إلى التقليد في غير رشد، لم يعترضنا في التشريع الإِسلامي مشاكل، ولم تقم أمامنا عقبة كبيرة ولا صغيرة في سبيل العمل لسد حاجات المسلمين في هذا العصر، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.

ملاحظات على مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -

ملاحظات على مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) نشر الأستاذ علي عبد الرازق في جريدة "الأخبار" يوم المولد الشريف مقالاً عنوانه: مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، واطلعت على هذا المقال، ولا حظت فيه أشياء ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإِسلام" - العدد الثامن من السنة الثامنة الصادرة في ربيع الثاني 1374 - ديسمبر 1954. (¬2) كتب علي عبد الرازق رداً على هذه الملاحظات في مجلة "لواء الإِسلام" العدد العاشر من السنة الثامنة. وقد اطلع الإمام محمد الخضر حسين على الرد، فأعقبه بالكلمة التالية: "كتب الأستاذ علي عبد الرازق مقالاً عنوانه: مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونشره في جريدة "الأخبار" يوم المولد، وهو الذي يتذكر فيه المسلمون عظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسيرته المنقطعة النظير، بانياً على ما قاله في كتاب "الإِسلام وأصول الحكم"، وزاد عليه الحديث في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتبنا على المقال ملاحظات كنا نحسب أن الأستاذ يدفع الملاحظات التي أوردناها بنصوص شرعية، أو أصول علمية، فيكفينا الله عاقبة الخلاف، أو يقر ما ذكرناه في الملاحظات، والرجوع إلى الحق فضيلة، أو يسكت، فيكون كل منا أبدى رأيه، والناس ينظرون ماذا يروون. ولكنه كتب مقالاً أظهر به أنه رد الملاحظات التي أوردناها في "لواء الإِسلام"، وخرج فيه إلى أشياء غير علمية، وليس من شأننا أن نخوض فيها مع الخائضين، فيضيع الحق بيننا، والقراء المنتبهون يعرفون الواقع، والتاريخ الصحيح من ورائهم شهيد بذلك". =

أردت أن أنبه القارئ عليها لتتم الفائدة المقصودة من المقال، واخترت أن أنقل العبارة التي أبدي عليها الملاحظة بنصها, ليشاركنا القارئ في النظر فيها، ونكون للأستاذ صاحب المقال من المنصفين. قال الأستاذ في صدر مقاله: "قد يلاحظ بعض الباحثين أن ميلاد محمد - صلى الله عليه وسلم - قد تم على وفق السنن الطبيعية التي بني الله عليها هذا الكون، وأجرى عليها نظام الحياة بين جميع البشر، فلم يقترن ميلاده بالمعجزات الصادعة التي اقترن بها ميلاد عدد من إخوانه السابقين من الرسل، ولا سيما موسى وعيسى - عليهم السلام -". أراد الأستاذ من بعض الملاحظين: نفسَه؛ فإنه حكم في هذه الدعوى الخطيرة في أسلوب جديد, ليقبل الناس على سماعها، وإن لم يعقبها بدليل معقول. حُفّ - صلى الله عليه وسلم - في مولده إلى بعثته بألطاف إلهية، وهذا المظهر المشمول بالعناية كافِ في سماع دعوى الرسالة. على أن المحئثين رووا أحاديث منها ما هو صحيح فيما وقع قبل الرسالة من إرهاصات، وإذا لم تتواتر، فلعدم الحاجة الملحة إلى روايتها بالتواتر. فالمدار على أن يكون دليل صدق الرسالة قاطعا، وهو المعجزة المقارنة للدعوى. ¬

_ = وإن الإطلاع على رد علي عبد الرازق، وما تضمنه من كلمات خارجة عن نطاق البحث العلمي، ورد الشيخ الخضر - رضوان الله عليه - يعطي صورة رائعة للأخلاق النبوية التي يتحلى بها الإمام الشيخ الخضر، ويوضح الفرق الشاسع بين أهل العلم والمعرفة والاتزان، وبين غيرهم. علماً أن هذا البحث للإمام نشر في كتاب (دراسات في الشريعة الإِسلامية) الذي تضمن جميع مقالات الإمام في مجلة "لواء الإِسلام".

قال الأستاذ: "هنالك روايات آحاد تروى عن إرهاصات صحبت مولد محمد - عليه السلام -, وسواء أصحّت هذه الروايات كلها، أو بعضها، أو لم يصح شيء منها، فإنها لم تبلغ من قوة السند، ولا من قوة الإعجاز ما بلغته الروايات عن مولد عيسى وموسى". المدققون في فهم عبارات المؤلفين يرون أن الأستاذ تكلم على الأحاديث التي رويت في إرهاصات مولد محمد - عليه السلام -، وذكر لها ثلاثة احتمالات: إما أن تصح كلها، أو يصح بعضها، أو لم يصح منها شيء، وربط هذه الاحتمالات الثلاثة بأنها لم تبلغ في قوة السند وقوة الإعجاز ما بلغته الروايات عن مولد عيسى وموسى، مع أنه على الاحتمال الثالث، وهو أنه لم يصح منها شيء، لا يقال: إنها لم تبلغ في قوة السند ما بلغته الروايات عن مولد عيسى وموسى. قال الأستاذ: "وإذا نحن جاوزنا فترة الميلاد إلى ما بعدها من أطوار حياة محمد كلها، وجدنا أن حياته كانت أيضاً في هذه الأطوار تسير على وفق السنن الطبيعية التي بني الله عليها هذا الكون، وأجرى عليها نظام الحياة البشرية، فلم تقترن بالمعجزات الصادعة التي اقترنت بها حياة عدد من إخوانه السابقين من الرسل، ولا سيما موسى وعيسى" .. ثم ذكر الأستاذ ما قصه القرآن الكريم من معجزات موسى وعيسى -عليهما السلام -، وقال: "لم يجيء محمد أصحابه بمثل تلك المعجزات الصادعة التي تدهش العقول، وترج القلوب، وتزعج النفوس". ذكر القرآن معجزة انشقاق القمر في قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1 - 2].

فالتعبير بالفعل الماضي في قوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1]، وتعقيبه بقوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2]، دليل على أن المراد: ما روي في الصحيح من انشقاق القمر عندما سأل المشركون النبي - صلى الله عليه وسلم - آية على صدقه في دعوى الرسالة. وقال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء. وقال السبكي: انشقاق القمر متواتر لا يجوز إنكاره .. وذكر القرآن معجزة الإسراء المشار إليها بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]. ومعجزة المعراج الثابتة في الصحيح المشار إليها بقوله تعالى: {كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 11 - 12]، وقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 17 - 18]. وفي الصحيح معجزات وقعت بمحضر الصحابة؛ كتكثير الماء القليل، حتى قال النووي: "وتكثير الماء بلغ مرتبة التواتر"، وتكثير الطعام، وغير ذلك، وعبّر عنها الإمام البخاري بعلامات النبوة، وعبر غيره بآيات النبوة. والمعجزات تثبت بصحة السند، وصلاح القدرة الإلهية لها، ولا يكفي في نفيها استبعاد الذهن لها, إذ هي خارقة للعادة، فلا بد أن يستبعدها الذهن أول بدء، فإذا تأمل في صحة سندها، وصلاح القدرة لها، اعترف بها. قال الأستاذ: "وقد طالبه قومه، وألحوا عليه في الطلب بأن يأتيهم بمثل ما جاء به الرسل من قبله من تلك المعجزات، فكان - عليه السلام - يدفعهم

بالحجة البسيطة الواضحة التي لا تكد العقل، ولا تخفي على أي ناظر". ثم أورد الأستاذ ثلاث آيات: الأولى قوله تعالى: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [العنكبوت: 50]. وقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]. والآية الثالثة قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]. وقد اطلع على هذه الآيات، وتلاها حقَّ تلاوتها المحدثون الذين رووا أحاديث المعجزات؛ كالبخاري، ومسلم، وغيرهما من أصحاب السنن, والأئمة؛ كمالك، وأبي حنيفة، والشافعيُّ، وأحمد بن حنبل، ورأوها لا تنافي إجراء المعجزات على يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقصارى ما تدل عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يملك المعجزات، وأن الله هو الذي يجريها على أيدي الرسل -عليهم السلام - عندما يرى إجراءها مناسبًا لعظمته، وعلم أن الحال يقتضي إجراءها، لا بمجرد اقتراح المشتركين؛ فإن منهم من يقترح المعجزات، وفيه جفاء طبيعة، وعدم استعداد للإيمان بها، قال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2]. ودل بالآية: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} على أنهم يقسمون، ولا يراعون للأيمان عهداً، قال تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]. وقال الأستاذ: "هكذا كان في مولده وفي حياته مستقيماً على قواعد البشرية، منسجماً مع أنظمة الطبيعة، خاضعاً لسنن الكون". كان محمد - صلى الله عليه وسلم - في ميلاده وحياته كلها كما قال الأستاذ، وهذا لا ينافي أن الله يصونه بألطافه، ويكرمه بالمعجزات؛ ليعلم أنه رسول من الله، فيبطل

انحراف الناس عن البشرية إلى جانب البهيمية، وانسجامهم مع دواير الطبيعة غير الفطرية، وخضوعهم لمن لا يتعظ بسنن الله الكونية. قال الأستاذ: "فالصلاة كتاب على المؤمنين موقوت، ولكن ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا". الآية أصلها: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]. فذكر الأستاذ السبب الثاني للقصر من الصلاة، وهو خوف فتنة الذين كفروا، وتركَ السبب الأول لقصرها، وهو الضرب في الأرض؛ أعني: السفر إلى بلد آخر. قال الأستاذ: "والصيام مكتوب على المسلمين، ولكن على الذين يطيقونه فدية طعام مساكين". لا أعلم أحداً من المسلمين يقول: إن يطيقونه بمعنى: يستطيعونه، وتبقى عنده الآية باقية على حكمها. وأكثر العلماء على أن الآية منسوخة بالآية بعدها؛ أعني: قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. كما روى الإمام البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ومن لا يقول بنسخ الآية يفسر يطيقونه على وجه يلتئم بما هو مقرر في الشريعة من أن صيام رمضان فرض على كل مسلم ومسلمة، إلا من استثنتهم الشريعة ناظرة إلى المشقة التي تلحقهم بالصيام. ذكر الأستاذ هنا الصلاة والصيام والحج، ولم يذكر الزكاة؛ لأنه لا يراها من الدين، فقال في كتابه "الإِسلام وأصول الحكم"، وهو يتحدث عن الزكاة والجزية والغنائم: "ولا شك أن تدبير المال عمل ملكي، بل هو أهم مقومات

الحكومة على أنه خارج عن وظيفة الرسالة من حيث هي، وبعيد عن عمل الرسل باعتبارهم رسلاً فحسب". والزكاة وردت في القرآن غالباً مع الصلاة، والفقهاء يجعلون للزكاة بابا مستقلاً، ويذكرون الجزية والغنائم في باب الجهاد. وعلماء الإِسلام المنبثون في الشرق الغرب من عهد النبوة إلى عصرنا هذا المجتهدون يستندون في تقرير الأحكام العملية إلى الكتاب، أو السنّة، أو الأصول المستمدة منهما، والتابعون لمذهب إمام يعرفون أن إمامهم يستند في الأحكام العملية إلى الأصول الثلاثة. فالمجتهدون وتابعوهم يعلمون أن الأحكام تستند إلى الشريعة نصاً، أو استنباطاً، والمرجع في أمور الدين إلى علمائه الذين يدرسونه بحق، ويخلصون لله في دراسته. وليذكر لنا الأستاذ واحداً من العلماء قال: إن الخلافة والقضاء ونحوهما ليست من الدين في شيء. واقتصر الأستاذ في ذكر مطالب الشريعة على الصلاة والصيام والحج، ولم يذكر أحكام المعاملات؛ لأنه أخرج الأحكام العملية من نظر الوحي، فقال في كتابه "الإِسلام وأصول الحكم": "والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا، ولا القضاء، ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها، ولم ينكرها، ولا أمر بها، ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا، نرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة". وقد كتبنا في رد هذا الرأي وما قبله في كتاب "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم".

واستدل الأستاذ بالآيات القرآنية، ولم يذكر أن القرآن معجزة؛ لأنه بسبيل نفي المعجزة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أجمع المسلمون على أنه معجز للخلق كافة، وقد صرح القرآن نفسه بأنه معجز، فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]. وتحدث الأستاذ من المنهج الجديد، وقال: "بطلت الحاجة إلى المعجزات، وقام مقامها حكم العقل، وسلطان العلم والنظر، وبذلك تمت الآية الكبرى لمحمد بن عبد الله". إن الإِسلام انتشر، وقبلته الطبائع البشرية الشافعية، وهم يطالعون في كتب الأئمة المحدثين والفقهاء والمتكلمين معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأحكام التي جاء بها، فلا تزيدهم إلا إيماناً واطمئناناً. وقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، قد يراد بالآيات: الزلازل، والرعد القاصف، والبرق الخاطف؛ لأنه يذكر بحوادث الساعة، وقد يراد بالآيات: المعجزات؛ لأنه ينشأ عن مشاهدتها إنذار بأن عذاب الله في الآخرة لمن لم يذعن بها.

تحية المقام النبوي ومناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

تحية المقام النبوي ومناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1) " من قصيدة ألقاها أمام المقام النبوي سنة 1331 هـ" أُحَيِّيكَ والآماقُ تُرْسِلُ مَدْمَعا ... كأَنّيَ أَخدو بالسَّلامِ مُوَدِّعا (¬2) وما أَذمُعُ البُشْرى تَلوحُ بِوَجْنَةٍ ... سِوى ثَغْرِ صَبًّ بالوِصالِ تَمتَّعا وَقَفْتُ بِمَغنًى كانَ يا أشْرَفَ الوَرى ... لِطَلْعَتِكَ الحُسْنى مَصيفًا ومَرْبَعا (¬3) فَذا مَوْقِفٌ لا مَسْتُ فيهِ بأَخْمُصي ... أَجَلَّ مِنَ الدُّرِّ النَّضيدِ وأرْفَعا (¬4) وذلِكَ مَرْقًى كُنْتَ تَصْدَعُ فَوْقَهُ ... بِما حازَ في أقْصى البَلاغَةِ مَوْقِعا وذاكَ مُصَلًّى طالَما قُمْتَ قانِتًا ... بِهِ، وَيقومُ الصَّحْبُ خَلْفَكَ خُشَّعا (¬5) وذي حُجْرةٌ كانَ الأمينُ يَؤُمُّها ... بِوَحْيٍ فَكانَتْ للشَّريعَةِ مَنْبَعا ¬

_ (¬1) ديوان الإمام محمد الخضر حسين "خواطر الحياة". (¬2) الآماق: جمع المأق: مجرى الدمع من العين. (¬3) المغنى: المنزل. المصيف: المكان يقيمون فيه صيفاً. المربع: الموضع يُقام فيه فصل الربيع. (¬4) الأخمص: القدم، أو ما لا يصيب الأرض من باطن القدم. (¬5) القانت: القائم بالطاعة، الدائم عليها، والمصلي.

وَأرْوَعُ ما شَق الْفُؤادَ بِحَسْرَةٍ ... وَهاجَ بهِ الأشْجانَ حَتى تَقطَّعا تَخاذُلُ حالِ المُسْلِمينَ وما أتى ... مِنَ الخَظْبِ في أرْجائهِمْ وَتَجمَّعا وما شأْنُنا إلَّا كَعِقْدٍ تَناثَرَتْ ... جَواهِرُهُ في سَطْحِ أحدَبَ أَنْزَعا (¬1) فَهذا يُحاذي في قَضاياهُ نزعةً ... تَخُطُّ وَراءَ الحَقِّ للنّاسِ مَرْتَعا (¬2) وهذا يَصوغُ الْقَوْلَ في قالَبٍ يُرى ... بِجانِبِهِ قَوْلُ الشَّريعَةِ أوْسَعا وذاكَ يُنادي بالضَّلالَةِ ما سِحاً ... بِصَبْغَةِ دينٍ كَيْ يَغُرَّ وَيخْدَعا ونِمْنا على الآذانِ نَوْمَةَ جاهِلِ ... بِما يَضَعُ المُسْتَيْقِظونَ لِنُصْرَعا ولَمْ نستَفِقْ للْقَومِ حتّى تَحَفَّزوا ... وأوْجَسَ كُلٌّ بَيْنَ جَنْبَيْهِ مَطْمَعا ولَمْ نستَفِقْ للْقَومِ إذْ كُلٌّ انتضى ... لِيَظْفَرَ باسْتِعْبادِنا السَّيْفَ مَقْرَعا ولَمْ نستَفِقْ للقارِعاتِ وقَدْ دَنَتْ ... إلى مُهْجَةِ الإسْلامِ حتَّى تَصَدَّعا وفي النّاسِ مَنْ حاكَ الأياسُ بصدرهِ ... فَجرَّدَ أفْراسَ الجِهادِ وأقْلَعا ونَدْبٌ دَرى صَرْفَ اللَّيالي وأنَّها ... تُزَلُ بأعْلامِ وتُونِسُ بَلْقَعا (¬3) فَقامَ عَلى جِدٍّ يُهيبُ بِقَوْمِهِ ... لِيَرْفَأ فَتْقاً أوْ يُشيِّدَ مَصْنَعا (¬4) ¬

_ (¬1) الأنزع: الذي انحسر الشعر عن جانبي جبهته، والمقصود: الأملس. (¬2) النزعة: نزع إلى الشيء: ذهب إليه، يقال: له نزعة إلى كذا. المرتع: الموضع الذي يتنعم فيه. (¬3) الندب: السريع إلى الفضائل. تونس: أي: تؤنس، يقال: أنس به: ألفه، وسكن قلبه به. البلقع: الأرض القفر التي لا شيء فيها. (¬4) رفأ: أصلح.

يَقولُ أناسٌ إنَّما الدّينُ عَثْرَة ... بِسابِلَةِ العُمْرانِ تَهْوي بِمَنْ سَعى (¬1) رمَى بِهِمُ التَّقْليدُ في إثْرِ مُلْحِدٍ ... ولم يكْشِفوا عن مِيسَم الحَقِّ بُرْقُعا (¬2) تجَلَّيْتَ في شَعْب جَرى في عُروقِهِ ... دَمُ الكِبْرِ وارْتادَ الغَوايَةَ إمَّعا (¬3) تَجَلَيْتَ والبَغْضاءُ تَشْوي صُدورَهُمْ ... بِنارٍ فَأصْلَتْها قُلوباً وأضْلُعا فَلَقَّنْتَهُمْ كَيْفَ الطُّموحُ إلى العُلا ... إلى أنْ عَلَوا فَوْقَ السِّماكيْنِ مَطْلَعا (¬4) عَلَيْكَ سَلامُ اللهِ ما انْسَجَمَ الحَيا ... وحَيّا صَباحٌ بالضِّياءِ وَوَدَّعا * * * ¬

_ (¬1) السابلة: الطريق المسلوكة. (¬2) الميسم: أثر الجمال، يقال: امرأة ذات مِيْسَم؛ أي: ذات حسن وجمال. البرقع: ما تستر به المرأة وجهها. (¬3) الإفع والإمَّعَة: الرجل يتابع كل أحد على رأيه، ولا يثبت على شيء. (¬4) السماكان: كوكبان نيران يقال لأحدهما: السماك الرامح، والآخر: السماك الأعزل.

ذكرى المولد

ذكرى المولد (¬1) " قيلت في احتفال جمعية الهداية الإِسلامية بذكرى المولد النبوي سنة 1359 هـ " أَمِنْ خَفَقانِ أفْئِدَةٍ رِقاقِ ... تألَّقَتِ المَدامعُ في المَآقي (¬2) إذا أهْدَتْ يَدُ الإقْبالِ بُشْرى ... تَلَقَّتْها الضمائِرُ باخْتفاقِ (¬3) كما اهْتَزَّتْ غُصون لاعَبَتْها ... جَنوبٌ باعْتِناقٍ وانْطِلاقِ (¬4) وأرْشَفَها الرَّبيعُ نَدى فَطابَتْ ... رُباها لاصطِباحٍ واغْتِباقِ (¬5) لِلَيْلَتِنا الفَخارُ إذا اللَّيالي ... تَباهَتْ بالمَحاسِنِ والمَراقي (¬6) أشارَتْ بالمَغيبِ عَلى ذُكاءٍ ... وجاءَتْ بالكَواكِبِ في اتِّساقِ (¬7) ¬

_ (¬1) ديوان الإمام محمد الخضر حسين "خواطر الحياة". (¬2) تألقت: لمعت. المآقي: جمع ماق: مجرى الدمع من العين. (¬3) الضمائر: القلوب والبواطن. اختفاق: خفقان. (¬4) الجنوب: الريح المقابلة للشمال. (¬5) الاصطباح: شرب الصبوح. الاغتباق: شرب الغبوق. (¬6) المراقي: جمع المرقى، والمرقاة: الدرجة. (¬7) ذكاء: الشمس.

ومَدَّتْ في السَّماءِ البدْرَ كَفَّاً ... تُديرُ الأُنْسَ بالكَأْس الدِّهاقِ (¬1) ولَوْ أرْخَتْ ذُؤابَتَها لَقُلْنا ... خُذوا هذا السَّوادَ إلى الحِداقِ (¬2) ذَكَرنْا إذْ تَقَلَّدَتِ المَعالي ... حُسامًا قَدْ تَهَيّأَ لامِتشاقِ (¬3) ذَكَرْنا كَيْفَ لاحَ جَبينُ طه ... وَهَبَّ الفَجْرُ يُؤذِنُ بِانْبِثاقِ كأَنَّ الفَجْرَ والميلادَ جاءا ... لإجْلاءِ الظَّلامِ على اتِّفاقِ ألا مَنْ مُبْلِغٌ قَمَرًا تَوارى ... وَساطِعُ نورِهِ في النّاسِ باقِ سَلامًا كالصَّبا مَرَّتْ بِرَوْضِ ... وَلاقَتْها الكَمائِمُ بانْفِتاقِ (¬4) أرومُ مَديحَهُ وإخالُ أَنِّي ... سَأَحظى مِنْهُ بالسَّيْلِ الدُّفاقِ (¬5) فَيَبْهَرُني عُلاهُ كأَنَّ فِكْري ... تَوَثَّبَ وَهُوَ مَشْدودُ الوَثاقِ تَملَّى نورَهُ صَحْبٌ فأغْنَوْا ... غَناءَ النَّجْمِ في الظُّلَمِ الصِّفاقِ (¬6) نُفوسٌ أَخْصَبَتْ هدْيًا وَأدنَتْ ... إلى الدُّنْيا جَنًى عَذْبَ المذاقِ تَحَلَّتْ بالَمكارِمِ وَهِيَ أَغْلى ... مِنْ الحُلْي المُخَبَّأِ في الحِقاقِ (¬7) ¬

_ (¬1) الكأس الدهاق: الممتلئة. (¬2) الذؤابة: الضفيرة من الشعر. الحداق: جمع حدقة: سواد العين الأعظم. (¬3) الامتشاق: امتشق السيف: استله؛ أي: أخرجه من غمده. (¬4) الصّبا: ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. (¬5) السيل الدفاق: الذي يملأ جنبي الوادي. (¬6) الظُّلم: جمع ظلمة: ذهاب النور. الصفاق: جمع الصفيقة: الكثيفة. (¬7) الحقاق: جمع الحق: الوعاء.

وتُؤْثِرُ غَيْرَها بالزَّادِ زُهْداً ... وتَقْنَعُ في المَعيشَةِ بِالرّماقِ ولا تَرْضى إذا خُطِبَتْ خِصالُ الْـ ... ــــــــــــعُلا إلا بِغالِيَةِ الصَّداقِ سَراةٌ أخكَموا الإصلاحَ عِلْماً ... وَهَبُّوا لِلْجِهادِ على وِفاقِ (¬1) دَعَوْا والحجَّةُ الغَرَّاءُ تَهْدي ... إلى سُبُل الحَقائِقِ مَنْ تُلاقي وناصَبَهُمْ خُصومُ الحَقّ حَرْباً ... فَلاذوا بالمُثَقَّفَةِ الرِّقاقِ (¬2) وَهَلْ يُجْدِي الأصمَّ بَيانُ قُسٍّ ... وَهَل يَشْفي أَخا الأَمْواتِ راقِ (¬3) فَكَمْ شَرَعُوا الأَسِنَّةَ في كِفاحٍ ... وَكَمْ مَلَؤُوا الأعِنَّةَ في سِباقِ (¬4) وإنْ قاموا قُنوتاً لَمْ يُقاسُوا ... بِغَيْرِ مَلائِكِ السَّبع الطِّباقِ هُمُ الأعْلامُ إنْ طَمَحَتْ نُفوسٌ ... إلى عَلْياءَ واسِعَةِ النِّطاقِ ولا أدري أقَوْمِيَ في سُباتٍ ... فاَرْجو صَحْوَهُمْ أمْ في سِياقِ (¬5) فأَشْياعُ الضَّلالِ اليَوْمَ صالوا ... بِألْسِنَةٍ وأقْلامٍ حِماقِ (¬6) ¬

_ (¬1) السراة: سادة القوم ورؤساؤهم، جمع السريّ. (¬2) المثقفة: الرماح. (¬3) قس: (... - نحو 23 ق. هـ) قس بن ساعدة من بني إياد، أحد حكماء العرب، ومن كبار خطبائهم في الجاهلية، يقال: إنه أول عربي خطب متوكئاً على سيف أو عصا، وأول من قال في كلامه: "أما بعد". (¬4) الأعنة: جمع عنان: سير اللجام الذي تُمْسَك به الدابة. (¬5) السبات: النوم. السياق: نزع الروح. (¬6) الأشياع: الأتباع والأنصار. حماق: جمع أحمق.

وَهُمْ ما بَيْنَ إلْحادٍ وَقاحٍ ... وإلْحادٍ تَقَنَّعَ بالنِّفاقِ (¬1) وإنْ شَؤُمَ النُّعاقُ فَما أزاغُوا ... بِهِ الْفَتَياتِ أشْاَمُ مِنْ نُعاقِ (¬2) فَمِنْ قِصَصِ تُعاطي قارئيها ... شَرابا ديفَ بالسُّمِّ الزُّعاقِ (¬3) ومِنْ صُوَرٍ تُثيرُ هَوَى وتحْدو ... نُفوساً كالبُدورِ إلى مُحاقِ (¬4) أما لِشَبابِ أحْمَدَ أنْ يَذودوا ... خُطوباً كالمَطاعِنِ في التَّراقي (¬5) وَيرْموا لِلسِّيادَةِ عَنْ قِسِيِّ ... مِنَ الإيمانِ والتَّقْوى رِشاقِ (¬6) كَفَى ما قَدْ خَسِرْنا مِنْ شَبابِ ... رَأَوْا سُوقَ الخلاعَةِ في نَفاقِ (¬7) فَغادَوْها، وكيف ترى فَراشاً ... تهافَتَ في لَظى النّارِ الحِراقِ (¬8) وما لِلنَّفْسِ إنْ رَكِبَتْ هَواها ... وحَطَّتْ فى المجانِة من خَلاقِ (¬9) هي الشَّكوى يُردّدُها لِسانٌ ... وما بينَ الجوانِحِ في احْتِراقِ ¬

_ (¬1) الوقاح: ذو الوقاحة للذكر والأنثى. (¬2) النعاق: صياح الغراب. أزاغوا الشيء: أمالوه. (¬3) ديف: خُلط. الزّعاق: المر الغليظ. (¬4) المحاق: آخر الشهر القمري، أو ثلاث ليال من آخره. (¬5) التراقي: جمع الترقوة: العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، أو أعلى الصدر. (¬6) القسي: جمع القوس. (¬7) نفاق: يقال: نفقت السلعة: أي: كثر طلبها. (¬8) فغادوها: باكروها. نار حراق: لا تبقي شيئاً. (¬9) المجانة: الهزل. الخلاق: النصيب الوافر من الخير.

ذكرى المولد النبوي

ذكرى المولد النبوي (¬1) " قيلت في الاحتفال بالمولد النبوي سنة 1348 هـ " حَيِّ ذاكَ الْبَدْرَ بالزَّهْرِ النَّظيمِ ... وامْلإِ الجَفْنَ بِمَرْآهُ الوَسيمِ إنَّهُ يَحْكي مُحَّيا المصْطَفَى ... إذْ بَدا بَيْنَ المُصَلَّى والحَطيمِ (¬2) إنْ تَكُنْ يا بَدْر تَزْهو بِسَناً ... يُرْشِدُ السّاريَ في اللَّيْلِ الْبَهيمِ (¬3) فَسَنا أحْمَدَ يَهْدي أُمماً ... وُيريها سَنَنَ العِزِّ المُقيمِ عُجْ بِرَوْضٍ باكَرَ الطَّلُّ بِهِ ... دَوْحَ وَردٍ هَزَّهُ كَفُ النَّسيمِ (¬4) تَلْقَ في الرَّوْضِ شَذاً يُشْبِهُ ما ... لِنَبِيِّ اللهِ مِنْ خُلْقِ كَريمِ إنْ تَكُنْ يا رَوْضُ يَزْهوكَ جَنًى ... هُوَ زَهْوُ الْعَيْنِ أوْ عِطْرُ الشَّميمِ فَلِطَهَ كَلِمٌ يَسْلو بِهِا ... عاشِقُ الحِكْمَةِ عَنْ كُلِّ نَعيمِ ¬

_ (¬1) ديوان الإمام محمد الخضر حسين "خواطر الحياة". (¬2) الحطيم: جدار حِجْر الكعبة. (¬3) الساري: الذي يسير عامة الليل. البهيم: الأسود. (¬4) عجْ: يقال عاج بالمكان: أقام به.

إنْ تَرَ العَضْبَ بِيُمْنى بَطَلٍ ... هَزَّهُ بَيْنَ قَتيلٍ وَكَليمٍ (¬1) فاذْكُرِ العَزْمَ الَّذي لاقى بِهِ ... خاتَمُ الرُّسْلِ أَذى كُلِّ زَنيمِ (¬2) غَيْرَ أنَّ العَضْبَ يَقْضي مُرْغماً ... في الوَغى حاجَةَ جَبَّارٍ نَهيمٍ (¬3) يا خَصيماً لِهُدى أحْمَدَ ما ... لِخَصيمِ الحَقَّ مِنْ قَلْبٍ سَليمِ دُونَكَ التَّاريخُ لا تُبْقي مدىً ... في حَديث إنْ تَشَأْ أوْ في قَديمِ هَلْ رَأى النَّاسُ كِتاباً عَجَباً ... مِثْلَ ما يُتْلى مِنَ الذِّكْرِ الحَكيمِ؟ ويحَ قَوْمٍ سَحَرَتْ أعْيُنَهُمْ ... هذه الدُّنيا بِمَرْعاها الوَخِيمِ (¬4) غَرِقوا في لَهْوِها واتَّخَذوا ... مِنْ مُوالاةِ الهوى أشْقى نَديمِ نكًروا القُرآنَ بالذَّوْقِ الَّذي ... يُؤْثِرُ الذَّرَّ على الدُّرِّ اليَتيمِ (¬5) دَعَوُا الإلْحادَ إصلاحاً وَهَلْ ... يَعْرِفُ الإصْلاحَ ذُو ذَوْقٍ سَقيمِ ورَسولُ اللهِ هادٍ للعُلا ... مُنْذِرٌ عاقِبَةَ الفِعْلِ الذَّميم مَثَلٌ أعْلى لِنَفْسٍ جَمَعَتْ ... سَطْوَةَ العادِلِ في أُنْسِ الحَليمِ عِزَّةٌ قَعْساءُ في أسْنى تُقًى ... هِمَّةٌ شَمَّاء في قَلْبٍ رَحيمِ (¬6) ¬

_ (¬1) العضب: السيف القاطع. الكليم: الجريح. (¬2) الزنيم: الدعي اللئيم. (¬3) النهيم: ذو النهم: وهو إفراط الشهوة في الطعام. (¬4) ويح: كلمة ترحم وتوجع، وقيل: هي بمعنى: ويل. الوخيم: غير موافق. (¬5) الذر: صغار النمل. (¬6) عزة قعساء: أي: ثابتة منيعة.

هُوَ إذْ يُرْهِفُ حَداً لِلَّذي ... عاثَ أوْ يأذَنُ في حَرْبِ الخَصيمِ (¬1) لم يُرِدْ إلَّا سَلاماً سائِدًا ... واعْتزِازاً لِذَوي الدِّينِ القَويمِ إنْ تَكُنْ تَعْجَبُ فاعْجَبْ لِيَدٍ ... لَبسَتْ قُفَّازَ أفَّاكٍ أثيمٍ (¬2) كتَبَتْ تَزْعُمُ مِنْ شَقْوَتها ... أنَّهُ لَمْ يَكُ بالشَخْصِ العَظيمِ عَلِّموها أئهُ أعْظَمُ مَن ... سارَ في النّاسِ على هذا الأديمِ (¬3) صاحبَ الرَّوْضَةِ في طَيْبَةَ نَمْ ... آمِناً طُغْيانَ ذا الخَطْبِ الجَسيمِ (¬4) إنَّ في الشَّرْقِ رِجالاً نهَضوا ... يَقْرَعُونَ الخَطْبَ بالعَزْمِ الصَّميمِ لا يُبالونَ إذا ما جاهَدوا ... غَضَبَ الغاشِمِ أوْ كَيْدَ اللَّئيمِ قَدَّسَ اللهُ ثَرى قَبْرِكَ ما ... نَفَحَ القُرآنُ بِالْهَدْيِ العَميمِ وأقامَ العِلْمُ آياتٍ عَلى ... أنَّهُ تَنْزيلُ خلَّاقٍ حَكيمِ ¬

_ (¬1) عاث في الشيء: أفسده. الخصيم: المخاصم. (¬2) اليد: يريد بذلك ما كتبه علي عبد الرازق في جريدة "السياسة" بالقاهرة يوم 12 ربيع الأول 1346 هـ. وقد رد عليه صاحب الديوان بمحاضرة تحت عنوان: "العظمة". انظر الرد في هذا الكتاب. (¬3) الأديم: الأرض. (¬4) طيبة: اسم المدينة المنورة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام -.

مشاهداتي في الحجاز

مشاهداتي في الحجاز (¬1) ألِمَجدٍ لا يَنالُ الْقاطِنينْ ... وَدَّعَ الصّحْبَ وحَيَّا الظَّاعِنينْ (¬2) شامَ في وِجْهَتِهِ يُمْناً وَلَوْ ... زَجَرَ الطَّيْرَ لَمَرَّتْ باليَمينْ (¬3) لا تَلوما في النَّوى مَنْ هاجَهُ ... لِلنَّوى لا عِجُ شَوْقٍ في الْكَنينْ (¬4) شاقَهُ الْبَيْتُ وَقَبْرُ المصْطَفى ... ورُبوعُ الخُلَفاء الرَّاشِدينْ (¬5) سارَ شَوْطًا وَهْوَ لا يَدْري أفي ... حُلُمٍ أمْ فى زمانٍ لا يخونْ ذَكَرَ "الخِضْرَ" و"موسى" إذْ أتى ... مَجْمَعَ الْبحْرَيْنِ مُرْتادَ السَّفين (¬6) ¬

_ (¬1) ديوان الإمام محمد الخضر حسين "خواطر الحياة". (¬2) الظاعن: السائر. (¬3) شام البرق: نظر إليه أين يقصد، وأين يمطر. اليمن: البركة. زجر الطير: تفاءل به، يقال: فلان يزجر الطير: أي: يعافها، وهي أن يرمي الطائر بحصاة، أو أن يصيح به، فإن ولاه في طيرانه ميامنة، تفاءل به، وإن ولاه مياسرة، تطير منه. والشاعر يقول: لو زجر الطير، فهو لم يزجرها, لأن ذلك ضرب من الطيرة المنهي عنه. (¬4) النوى: البعد. الكنين: المستور، ويراد به: القلب والضمير. (¬5) شاقه الحب: شوقه إليه. البيت: الكعبة المشرفة بيت الله الحرام. (¬6) الخضر: صاحب النبي موسى - عليه =

رَكِبَ "الطائِفَ" يَطْوي الْبحْرَ في ... جَذَلٍ والبَخرُ كالشَّيْخِ الرَّزينْ (¬1) وإذا هَبَّتْ جَنوبٌ طَرَدَتْ ... ما يُلاقيهِ النَّدامى مِنْ شُجونْ (¬2) هُمْ سُكارى ما احْتَسَتْ آذانُهُمْ ... حِكْمَةَ الْقُرآنِ في نظقِ رَصينْ وَدَنَوْا مِنْ "رابِعٍ" فاسْتَبَقوا ... يَذْكُرونَ اللهَ جَهْراً محْرِمينْ (¬3) في بَياضٍ ناصِع تحْسَبُهُمْ ... بادِئَ الرَّأْي زُهوراً في الْغُصونْ رَسَتِ الطَّائِفُ في "جُدَّةَ" لا ... بَرِحت "جُدَّةُ" في حِصْنٍ حَصينْ (¬4) رَحَلوا في جُنْحِ لَيْلٍ وَأتوْا ... مَكَّةَ الْغَرَّاءَ مِنْ نحْوِ الحَجونْ (¬5) في رضا اللهِ خُطاً خاضوا بِها ... في حَصًى يَغْبِطُهُ الدُّرُّ المَصونْ دَخَلوا بَيْتاً حَراماً يَسْتَوي ... فيهِ ذو التاجِ ومُغْبَرُّ الجَبينْ شاهَدوا الكَعْبَةَ وَهْنًا فَجَرَتْ ... عَبَراتُ الْبِشْرِ مِنْ بَعْضِ الجُفونْ (¬6) ¬

_ = السلام -. مجمع البحرين: ملتقى بحري فارس والروم. (¬1) الطائف: اسم الباخرة التي ركبها الإمام من السويس إلى جدة. (¬2) الجنوب: ريح تقابل الشمال، ومنه: "إذا جاءت الجنوب، جاء معها خير وتلقيح". (¬3) رابغ: بلدة على البحر الأحمر في الطريق بين جدة والمدينة المنورة، يحرم منها الحجاج القادمون من الشام ومصر والمغرب. المحرم: أحرم الحاج أو المعتمر: دخل في عمل حرم عليه به ما كان حلالاً. (¬4) جدة: مدينة على البحر الأحمر، وهي ميناء مكة المكرمة، وباب الحجاج إليها بحراً، وقد أسسها سيدنا عثمان بن عفان، وفيها قبر ينسب إلى حواء أم البشر. (¬5) الحجون: جبل بأعلى مكة المكرمة، عليه مدافن أهلها. (¬6) الوهن: نحو نصف الليل، أو بعد ساعة منه.

مُقْلَةُ الدُّنْيا فَإنْ أبْصَرْتَها ... في سَوادٍ فَعُيونُ الْغِيدِ جُونْ (¬1) لَثَموا مِنْ رُكْنِها الأيَمنِ ما ... لَثَمَنْهُ شَفَتا طَهَ الأمينْ (¬2) هِيَ بَيْتُ اللهِ إنْ طافوا بِها ... وَهُمُ أضْيافُ رَبِّ الْعالمَينْ وَرَدوا "زَمْزَمَ" يَشْفونَ بها ... ظَمَأَ الأكْبادِ حينًا بَعْدَ حينْ (¬3) لَوْ شَفى "عَمْرُو بْنُ كُلْثوم" بِها ... غُلَّهُ عافَ خُمورَ الأَنْدَرِينْ (¬4) صَعِدوا "المَرْوَةَ" مِنْ بعْدِ "الصَّفا" ... وَسَعَوْا للهِ سَبْعاً راجِلينْ (¬5) وَقَفوا في "عَرَفاتٍ" مَوْقفاً ... يَطْرَحُ الآثامَ مِنْ ماضي السِّنينْ (¬6) إنَّ دَهْراً طافَ ساقيهِ بِما ... تَشْتَهي أنْفُسُهُمْ غَيْرُ ضَنينْ ¬

_ (¬1) مقلة الدنيا: الكعبة المشرفة وهي مجللة بالسواد، شبهها الإمام بعين الدنيا. الجون: جمع الجوْن: السود. (¬2) الركن الأيمن: الركن اليماني من أركان الكعبة، وهو إلى جهة المغرب. (¬3) زمزم: هي البئر المعروفة داخل الحرم المكي، قيل: سميت بها لكثرة مائها، يقال: ماء زمزم وزمزام، وقيل: هو اسم علم لها. (¬4) عمرو بن كلثوم: (... - نحو 40 ق هـ) شاعر جاهلي، ولد في شمال جزيرة العرب، ومات في الجزيرة الفراتية. وكان عزيز النفس فاتكاً شجاعاً. (¬5) الصفا والمروة: يمتد المسعى بين الصفا والمروة إلى الجهتين الشرقية والغربية من المسجد الحرام، وكل منهما عبارة عن سطح مرتفع يصعد إليه بمدرجات قليلة العدد، وبه الميلان الأخضران. قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]. (¬6) عرفات: مكان اجتماع الحجيج، ويبعد عن مكة المكرمة نحو خمسة وعشرين ميلاً.

هَبَطوا "جَمْعًا" وَقدْ سادَ الدُجى ... وَحَدَوْا مِنْها المَطايا مُصْبحينْ (¬1) هَلْ دَرَى المَشْعَرُ إذْ عاجُوا بِهِ ... أنَّهُمْ جُنْدُ إمامِ المُرْسَلينْ (¬2) نزلوا "خَيْفَ مِنًى" حَيْثُ رَمَوْا ... بالحَصى سَبْعاً عَلى وَجْهِ اللَّعينْ (¬3) وَأتوْا "أُمَّ الْقُرى" فاطَّوَفُوا ... ثُمَ عادوا "لمنًى" في الْعائِدينْ (¬4) رَكَعوا في مَسْجِدِ الخَيْفِ وَهَلْ ... أحْرَزوا فيهِ ثَوابَ الخاشِعينْ (¬5) وَقَضَوْا حَق "مِنىً" وارْتَحَلوا ... بَعْدَ أنْ أذنَ بالعَصْر أَذينْ (¬6) سَلْ "ثَبِيراً" ما لَهُ ظَل بها ... مُلْقِيَ الرَّحْلِ وقْد بانَ القَطينْ (¬7) أفلا يَحْمِلُ ما نحْمِلهُ ... لِرُبى طَيْبَةَ مِنْ شَوْقٍ مَكينْ دع "ثَبيراً" قاسِيَ الْقَلْبِ فَهَلْ ... تَلْفَحُ الأشْواقُ صَخْراً فَيَلينْ هّذِهِ مَكَّةُ ما للِشَّمْسِ في ... صُفْرَةٍ تَحْكي بِها وَجْهَ الحَزينْ ¬

_ (¬1) جمع: هي المزدلفة: وسمي جمعاً؛ لاجتماع الناس فيه. الدجى: الظلمة. (¬2) المشعر: المشعر الحرام، قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]، وقيل: إن المزدلفة كلها المشعر الحرام. ومعنى المشعر: معلم للعبادة. (¬3) خيف مني: سفح الجبل فيها. اللعين: إبليس. (¬4) أم القرى: من أسماء مكة المكرمة. (¬5) مسجد الخيف: مسجد في مني، وفي الحديث الشريف: "صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً، منهم موسى"، وبه المحراب والمنبر الذي خطب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬6) الأذين: المؤذن. (¬7) ثبير: جبل بمكة المكرمة، سمي كذلك باسم رجل من هذيل مات فيه، فعرف به، وكان فيه سوق في الجاهلية كسوق عكاظ. القطين: القاطن.

أتُرينا والنَّوى قَدْ أزِفَت ... كَيْفَ تصْفَرُّ وُجوهُ النَّازحينْ بَلدَةٌ عُظْمى وَفي آثارِها ... أنْفَعُ الذكرى لِقَوْمٍ يَعْقِلونْ شَبَّ في بَطْحائِها خَيْرُ الوَرى ... وشَبا في أُفْقِها أسْمَحُ دينْ (¬1) إنْ عَزَمْنا النَّأيَ عَنْها فالضَّرو ... راتُ قَدْ تُنْئي خَديناً عَنْ خَدينْ (¬2) سائِقَ السَّيَّارَةِ انْهَضْ نَغْتَنِمْ ... فُرْصَةً نَرْقُبُها منْذُ سِنينْ خُضْ بها الْبِيدَ إلى سَلْع فَلي ... حاجَةٌ في أرْضِ سَلْع وشُؤونْ (¬3) بَيْنَ لَيْلٍ مِثْلِ أحْداقِ المَها ... ونَهارٍ مِثْلِ نَوْرِ الياسَمينْ (¬4) أحْمَدُ الإدلاج والتَّأوِيبَ إذ ... أرَياني خيْرَ ما تَهْوى الْعُيونْ (¬5) أمْتَعا طَرْفي بِمَرْأى رَوْضَةٍ ... أوْدَعوا تُرْبَتَها خَيْرَ دَفينْ رَوْضَةٌ يصْبو إلَيْها كُلُّ مَنْ ... عَرَفَ الحَقَّ وبالحَقَّ يَدينْ شادَها الهادي عَلى أُسِّ التُّقى ... وَتَلا القُرآنَ فيها جِبْرَئينْ (¬6) ¬

_ (¬1) بطحاء مكة: ما بين جبليها المسميين بالأخشبين، وهما: أبو قبيس، والأحمر، وذلك صميم مكة، ومن كان يسكن البطحاء هم المحض واللباب من قريش، وكان دونهم من يسكن الظواهر من مكة. شبا: أضاء. أسمح دين: الإِسلام. (¬2) الخدين: الصاحب والصديق. (¬3) سَلْع: جبل في ظاهر المدينة. (¬4) المها: جمع المهاة: البقرة الوحشية. (¬5) الإدلاج: السير أول الليل، وربما استعمل للسير آخر الليل. التأويب: السير جميع النهار. (¬6) جبرئين: جبريل - عليه السلام -.

حَرَمٌ كَمْ سُقِيَتْ حَصْباؤُهُ ... في دُجى اللَّيْلِ دُموعَ القانِتينْ (¬1) فاسْأَلوا المِحْرابَ عَنْ بَدْرِ الهُدى ... إذْ هَوى يَسْجُدُ في ماءٍ وَطين (¬2) مَعْهَدُ الحكْمَةِ لا يَنْبُتُ في ... دَوْحِهِ إلَّا الدَّعاةُ المُصْلِحونْ مِدْرَسٌ لِلْحَرْبِ لَمْ يَرْمِ الْعِدا ... قَطُّ إلَّا بالكُماةِ الْفاتِحينْ (¬3) ثُكْنَةٌ لِلْجُنْدِ والقَضْبِ إذا ... لَم يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الحَرْبِ الزَّبونْ (¬4) حُجُرات مُلِئَتْ طُهْراً أَما ... عَمَّرَتْها أُمَّهاتُ المُؤْمِنينْ لُقِّنَتْ فيها حُقوقٌ أنْقَذَتْ ... رَبَّةَ المَنْزلِ مِنْ أَسْرٍ يَشينْ هأنَذا في مُقامٍ مُؤْنِسٍ ... كَسَنا الْبَدْرِ مَهيبٍ كالعَرينْ (¬5) ¬

_ (¬1) الحرم: الحرم النبوي الشريف، ومعنى الحرم: ما لا يحل انتهاكه. الحصباء: الحصى، والواحد حصبة. القانت: القائم بالطاعة والدائم عليها، والمصلي. (¬2) يسجد في ماء وطين: في هذا البيت يلمح الإمام لما ورد في "صحيح البخاري" عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، قال: اعتكفنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشر الأوسط من رمضان، فخرج صبيحة عشرين، فخطبنا وقال: " ... إني رأيت أني أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فليرجع"، فرجعنا وما في السماء قزعة (قطعة من سحاب) فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) المدرس: الموضع الذي يدرس فيه. الكمأة جمع الكمي: الشجاع. (¬4) القضب: ما قطعت من الأغصان للسهام والقسي، ويقصد بها: السلاح والعتاد الحربي. حرب زبون: يدفع بعضها بعضاً من الكثرة. (¬5) مهيب: يخافه الناس. العرين: مأوى الأسد.

فَسَلامًا في حُضورٍ بَعْدَما ... كادَ يُزْجيهِ على البُعْدِ حَنينْ جِئْتَ يا مُخْتارُ والْعالَمُ في ... لَيْلِ جَهْلٍ وضَلالٍ ومُجونْ (¬1) فَمَحَوْتَ الهزْلَ بالجِدِّ كما ... ذُدْتَ لَيْلَ الْغَيِّ عَنْ صُبْحِ الْيقينْ وَأَقَمْتَ الْعِلْمَ صَرْحاً شامخاً ... وصَرَعْتَ الجَهْلَ طَعْناً في الودينْ (¬2) سُسْتَ أقْوامًا فَساسُوا أَمماً ... بِيَدِ الإنْصافِ في حَزْمٍ وَلِينْ وقَضَوْا فيها بِشَرع قَيِّمٍ ... فأرَوْها كَيْفَ يَقْضي الْعادِلونْ "خاتَمَ الرُّسْلِ" ألم يَأتِكَ ما ... حَلَّ بالأُمَّةِ مِنْ خَطْب مُهينْ وَيْلَها مِنْ مُرْهقٍ في عَلَنٍ ... وَخَؤونٍ في ثِيابِ النَّاصِحينْ (¬3) لَيْتَ قَوْمًا وَرِثوا هدْيَكَ لَمْ ... يُغْمِضوا عَنْ مُوبِقاتِ المْترَفينْ (¬4) لَيْتَ قَوْماً وَرِثوا الرَّايَةَ قَدْ ... فَطِنوا لِلدَّاءِ والدَّاءُ كَمينْ (¬5) دِينُكَ الوَضَّاءُ ثارَتْ حَوْلَهُ ... غُبْرَةٌ من شُبُهاتِ المُبْطِلينْ (¬6) مِنْ يَدٍ تَرْميهِ في رَأْدِ الضُّحَى ... وَيدٍ تَرْميهِ مِنْ خَلْفِ الدُّجونْ (¬7) ¬

_ (¬1) المجون: الهزل، يقال: مجن الرجل مجوناً: كان لا يبالي قولاً وفعلاً. (¬2) الوتين: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه. (¬3) المرهق: الحاكم الظالم الجائر الذي يحمل الأمة ما لا تطيق. الخؤون: الخائن. (¬4) الموبقات: المعاصي. (¬5) الكمين: الداخل في الأمر لا يفطن له. (¬6) الغبرة: الغبار. (¬7) رأد الضحى: وقت ارتفاع الشمس وانبساط الضوء في الخمس الأول، وذلك شباب =

ولَهُمْ في كُل وادٍ قَلَمٌ ... ولِسانٌ لاصطِيادِ الْغافِلينْ كَمْ أزاغوا عَنْ عَفافٍ وهُدًى ... مِنْ بَناتٍ طاهِراتٍ وَبَنينْ لَمْ يَرُعْنا يا أبا القاسِمِ مِنْ ... جَوْلَةِ الغيِّ دَوِىٌّ وَطَنينْ (¬1) إنَّ في الشَّرْقِ شَباباً أيْقَنوا ... أنَّكَ الدَّاعي إلى الحَقِّ المُبينْ إنَّ أَسْنى المَجْدِ في شَعْبٍ إذا ... سامَهُ الخَصْمُ أَذًى لا يَسْتَكينْ وَقَفوا يَرْمونَ أعْداءَ الهُدى ... بِنبالٍ قَوْسُها الْعِلْمُ المَتينْ يَعْشَقونَ الْبَذْلَ في الخَيْرِ إذا ... عَشِقَ المالَ طَغامٌ مُوسِرونْ (¬2) يُؤثِرونَ المَوْتَ في عِزٍّ عَلى ... أنْ يَعيشوا تَحْتَ إرْهاقٍ وهُونْ (¬3) وإلى الحَضْرَةِ ما حمِّلتُهُ ... مِنْ تَحِيَّاتِ شَبابٍ ناهِضينْ أيُّ وِرْدٍ لَم يُكدِّرْ صَفْوَهُ ... صَدَرٌ ما الدهْرُ إلَّا مِنْجَنونْ (¬4) أزمعَ الركبُ رحيلاً لم يكنْ ... منه بُدُّ والضَّرورات فُنونْ فَوَقَفْنا لِوَداعٍ، والأسى ... يَلْذَعُ الآماقَ بالدَّمْعِ السَّخينْ (¬5) ¬

_ = النهار. الدجون: جمع الدجن: إلباس الغيم الأرض وأقطار السماء، ويقصد بذلك: الظلمات. (¬1) أبو القاسم: النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) الطعام: أوغاد الناس، الواحد والجمع فيه سواء. (¬3) الهون: الخزي. (¬4) الورد: الإشراف على الماء، والماء الذي يورد. الصَّدَر: الرجوع عن الماء. المنجنون: الدولاب الذي يستقى عليها، وهي مؤنثة. (¬5) السخين: الحار.

أفَلا نأسى عَلى عَهْدٍ أتى ... وَتَوَلّى وَهْوَ مَقْطوعُ القَرينْ (¬1) نَضِرٌ كالرَّوْضِ حَلَّاهُ النَّدى ... بِجُمانِ صِيغَ مِنْ ماءٍ مَعينْ (¬2) يا حمى وَدَّعْتُهُ والشَّمْسُ قَدْ ... وَدَّعَتْ والْتَحَقَتْ بالرَّاحِلينْ هَلْ لنا عَوْدٌ كَعَودِ الشَّمْسِ مِنْ ... قَبْلِ أنْ يَصْرِفَنا عَنْكَ المَنونْ (¬3) وسَلاماً كُلَّما رَتَّلْتُه ... قالَتِ الدُّنْيا وَمَنْ فيها: أَمينْ (¬4) ¬

_ (¬1) القرين: المقارن. (¬2) الجمان: اللؤلؤ، الواحد جمانة. المعين: الجاري. (¬3) المنون: الموت. (¬4) أمين: اسم فعل معناه: استجب.

5 - تراجم الرجال

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (5) «تَرْاجِمُ الرِّجَالِ» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة " في هذا الأثر الذي سميناه: "تراجم الرجال" ضممنا ما كتبه الإمام الأكبر العلامة محمد الخضر حسين من مقالات عن أعلام الإسلام، ونشر في مجلتي "الهداية الإسلامية"، و"نور الإسلام"، أو ما ألقاه من محاضرات في النوادي الإسلامية. والهدف من هذه التراجم: أن تكون قدوة للحاكم والمواطن المسلم، ومناراً وهدياً لكل من ينشد حياة ملؤها العزة والسعادة. وقد رتبنا الأبحاث في هذا الكتاب وفق التسلسل التاريخي، واعتمدنا في ذلك تواريخ الولادة، دون النظر إلى تاريخ نشر المقال، أو إلقاء المحاضرة. ولابد من التنويه أن ثمة تراجم قيمة للمؤلف نشرت في كتاب "تونس وجامع الزيتونة"، وهي تراجم الأعلام التونسيين، لم نثبتها في هذا الكتاب. وندعو الله - جل جلاله - أن يكون لنا عونًا وسندًا في هذا العمل الذي نقوم به لإحياء التراث الإسلامي للعم. ونشكر سيدي الوالد الشيخ زين العابدين التونسي - رحمه الله - على فضله بالتوجيه السديد، والرأي القيم". علي الرّضا الحسيني

نظرة في ناحية من خلافة عثمان

نظرةٌ في ناحيةٍ من خلافة عثمان (¬1) أريد أن أضع بين أيديكم صحيفة من صحف التاريخ الإسلامي، صحيفة تحكي جانبًا من حديث خلافة عثمان - رضي الله عنه -، وكنت أود أن أعرض على حضراتكم صحيفة تصعدون فيها أنظاركم، وتصوبونها، فلا ترون إلا ما يقرّ أعينكم، ويبهج نفوسكم، ولكن ألسنة لاغيه، وأقلامًا طائشة، خاضت في الحديث عن خلافة عثمان، فشوهت وجه كثير من الحقائق، ووضعت بجانبها كثيراً من الأباطيل، وزعمت أنها تتحدث عنها بعقل وأمانة. اخترت أن أحضركم بهذه الصحيفة على ما فيها من حديث قد يثير في نفوسكم حزناً وأسفاً، ولعلكم تجدون في تمحيص بعض الحقائق، ودفع كثير من شبه الباطل ارتياحاً يخفف شيئا من الحزن والأسف على هذه الذكرى المؤلمة. ولا أريد الحديث عن خلافة عثمان منذ بويع إلى أن لقي ربه شهيداً، وإنما أذكركم بكلمة من فضله وشواهد استقامة على الطريقة، وعلوّ منزلته عند الخالق العظيم ورسوله الكريم. ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام بدار جمعية "الهداية الإسلامية" بالقاهرة في يوم الجمعة 18 من ذي القعدة سنة 1358، ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" الجزأين السادس والسابع من المجلد الثاني عشر.

* نسب عثمان وحاله في الجاهلية: هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، فنسبه يلتقي بنسب النبي - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة، أمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، فجدّته للأم عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان عثمان يتعاطى التجارة في البز (الثياب أو متاع البيوت) وكان ذا ثروة وسخاء، محبباً في قريش، ومعروفاً عندهم بالصدق والأمانة. * دخوله في الإسلام: كان إسلام عثمان بدعوة من أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، دعاه هو والزبير ابن العوام، وطلحة بن عبيد الله، فتقبلوا دعوته، وأسلموا. وكانت منزلة عثمان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سامية، فاختاره صهرًا، وزوجه ابنته السيدة رقية، ولما توفيت، زوجه أختها السيدة أم كلثوم، ولذا سمي: ذا النورين، وتوفيت أم كلثوم في السنة التاسعة من الهجرة، ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أنّ لنا ثالثة، لزوجناك". * فضله في الإسلام: هاجر عثمان في سبيل الله الهجرتين: هجرة الحبشة، وهجرة المدينة، وكان أحد العشرة المبشرين بالجنة، روى أبو موسى الأشعري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل حائطًا، قال: وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن، فقال: "ائذن له وبشره بالجنة"، فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن، فقال: "ائذن له وبشره الجنة"، فإذا عمر، ثم جاء آخر يستأذن، فسكت هنيهة، ثم قال: "ائذن له وبشره بالجنة على بلوى ستصيبه، فإذا عثمان.

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من جهز جيش العسرة، فله الجنة"، فجهزه عثمان، ولما قدم المهاجرون المدينة، استنكروا الماء، وكان لرجل من بني غفار عين يقال لها: "رومة"، وكان يبيع القربة منها بمد من الطعام، فاشتراها عثمان، وجعلها للفقير والغني وابن السبيل. * ولايته الخلافة: لما طعن المجوسي أبو لؤلؤة الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قالوا له: أوص يا أمير المؤمنين: استخلف، فقال: ما أجد أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو عنهم راض، وهم: عثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف. وعهد لهؤلاء الستة أن يجتمعوا بعد موته ليتشاوروا في مبايعة واحد منهم، ولما اجتمعوا، فوضوا في الآخر إلى عبد الرحمن بن العوف أن يعين للخلافة واحدًا منهم، فدار عبد الرحمن ثلاث ليال على الصحابة، ومن وافى المدينة من أشراف الناس، وكان لا يخلو برجل منهم إلا أشار عليه بإمارة عثمان، فبايع عبد الرحمن عثمان، وتوارد الناس بعدُ على مبايعته، ومنهم: علي ابن أبي طالب - كرم الله وجهه -. * أول خطبة خطبها: بيّن عثمان منهج سياسته في أول خطبة خطبها، ومما قال في هذه الخطبة: "أما بعد: فإني حُمِّلت، وقد قبلت، ألا وإني متّبع، ولست بمبتدع، ألا وإن لكم عليّ بعد كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وسنّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً: اتباع من كان قبلي ممن اجتمعتم عليه وسننتم، وسنّ سنّة أهل الخير فيما لم تسنّوا على ملأ، والكف عنكم إلا فيما استوجبتم".

* فتوحاته: فتحت في عهد عثمان أرمينيا، والقوقاز، وكان ابتداء فتحهما في عهد عمر بن الخطاب، وفتحت بلاد المغرب؛ إذ أمر عثمان عبد الله بن أبي سرح بالمسير إليها، وتم في عهد عثمان فتح بلاد الفرس، وفتحت قبرص، وذكر (سيديو) أن معاوية فتح في ذلك العهد كريد، وجزيرة رودس "سنة 29". * كيف نشأت الفتنة؟ قضى عثمان - رضي الله عنه - معظم أيام خلافته والناس مجمعون على حبه، والاغتباط بإمارته؛ لشدة رأفته، وواسع حلمه، ولين جانبه، ولأن أيدي الناس امتلأت في عهده من المغانم، وصاروا يتمتعون بالعيش الطيب كثر مما كانوا يتمتعون. كان بعد هذا أن دخل في الإسلام نفر غير مخلصين في إسلامهم، وإنما يريدون الكيد له، وتفريق كلمة أهله، ومن هؤلاء: عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، وهو من يهود حمير، نزل بالبصرة على حكيم بن جبلة العبدي، وابتدأ يبثّ في السر: أن علياً أحق في الخلافة، ويدعو إلى نزع الخلافة من عثمان، فتعلق بدعوته نفر، وبلغ أمره عبد الله بن عامر عامل البصرة، فطرده، وجاء الكوفة، فأُخرج منها، ثم جاء الشام، فأُخرج منها كذلك، فأتى مصر، واتصل به نفر من أوشاب الناس، منهم: كنانة بن بشر، وخالد بن ملجم، وأخذ يردد عليهم أن علياً وصيُّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وبعث من هؤلاء دعاة في البلاد التي كان قد طرد منها، واتفق أن كان لعثمان عمّال من ذوي قرابته، وهناك أناس قد يلاقون من هؤلاء العمال ما لا يوافق أهواءهم، فيطعنون فيهم، ويتخذون

من قرابتهم لعثمان وسيلة إلى الطعن في عثمان، فوجد فريق يوافقون أصحاب تلك الدعاية السرية في الطعن في عثمان نفسه، وإن كان فريقان يختلفان في الباعث على هذا الطعن، فاصحاب تلك الدعاية السرية يريدون تفريق كلمة المسلمين، أو إفساد دينهم، والفريق الثاني إنما يريد نقل الخلافة من عثمان إلى غيره؛ كراهة لبعض عماله، أو رجاء أن يجد في خلافة غيره ولاية أو غنيمة. وتكوّن من الفريقين جمع يتمضمضون بالطعن في عمال عثمان، ويتعدون بالطعن إلى عثمان نفسه، ينسبون إليه أشياءَ زوراً، ويذكرون بعض أعماله على غير وجهها الصحيح، وكان عثمان يقابل زعماء هذه الدعاية باللين، ولا يزيد على أن يدفعهم بالحجة. كان جماعة من أهل الكوفة قد أظهروا العداء لعثمان، فأبلغ سعيد بن العاص عثمانَ خبرهم، فكتب إليه بإرسالهم إلى معاوية، وكتب إلى معاوية: أن نفراً خلقوا للفتنة، فقم عليهم، وانههم، وإن آنست منهم رشدًا، فاقبل، وإن أعيوك، فارددهم إليّ. فانزلهم معاوية، وأجرى عليهم من الرزق ما كان لهم بالعراق، ولكن معاوية بعد محادثتهم، استصغر عقولهم، واحتقر شأنهم، وكتب إلى عثمان يقول له: إنه قدم عليّ أقوام ليس لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلمون بحجّة، وإنما همهم الفتنة، وليسوا بالذين ينكون أحدًا إلا مع غيرهم، فانه سعيداً عنهم، فإنهم ليسوا كثر من شغب ونكير. ومما جعل عمال عثمان يوسعون صدصرهم لهؤلاء الطاعنين، ولا يبادرون

إلى عقوبتهم الزاجر: أنهم كانوا يتظاهرون في طعنهم بحال من يريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقيام دعوة منظمة، لا تهدأ ليلاً ولا نهاراً، تختلق المعايب، وتلصقها بعثمان وعماله، قد تأخذ بأذهان بعض الغافلين عن سريرة أولئك الدعاة، ويتخيلون أن الدعوة لإصلاح أمر الدولة، فيشارك هؤلاء الغافلون ذينك الفريقين في هذه الدعاية، أو يقفون في الأقل موقف الحيادة، فلا غرابة أن تنقل كلمات في نقد سياسة عثمان عن أناس لا يريدون إفساد حال المسلمين، ولا يبتغون إدراك منفعة خاصة قد فاتتهم، وإنما يقولونها عن تأثر بتلك الدعاية المنظمة الدائبة. وربما ذكر المؤرخون أشخاصاً معدودين من الصحابة مثل: عمّار بن ياسر، وعمرو بن العاص، ويقولون: إنهم كانوا يؤلبون على عثمان، ومتى صحّ أصل الرواية، فمن المحتمل أن يكون الذي صدر منهم لا يزيد على إبداء آراء يخالفون بها رأي عثمان في بعض تصرفات الدولة، أو تولية رجال يرونهم غير ذي كفاية لما تقلدوا من الأعمال، فجاء بعض ذوي الأهواء إلى هذا النقد الذي لا تخلو منه دولة، وإن بلغت من الرشد والعدل غايتهما، وسمّاه تأليباً. وقد بلغ الحال بدعاة الفتنة أن يزوّروا رسائل على أنها صدرت من عائشة، وعلي، وطلحة، والزبير في الدعوة إلى خلع عثمان، وبلغ أمر هذه الرسائل إلى هؤلاء الصحابة الأجلاَّء، وتبرؤوا منها، وأنكروا أن تكون صدرت منهم. وبمثل هذه الرسائل المزوّرة كانوا يخضعون الغافلين الذين لا يتثبتون فيما ينقل إليهم من الأنباء.

والظاهر أن من أسباب سريان هذه الدعاية الخبيثة: كثرة من دخلوا في الإسلام ممن لم تستنر بصائرهم بهداية الدين الحنيف حق الاستنارة، ولم يقدروا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق أقدارهم، يضاف إلى هذا: ما كان عليه عثمان من النبل والحلم والحياء. ثم ما كان يجري عليه عماله من عدم مقابلة الطاعنين فيهم أو في عثمان بالشدة الزاجرة، إما استخفافًا بأمرهم، وإما احتمالًا لهذا المطاعن، ولاسيما مطاعن يتظاهر أصحابها بأنهم يتظلمون، أو يريدون إقامة معروف، أو إزالة منكر. ومن تتبع سيرة الخلفاء الراشدين، أو من جاء بعدهم من الخلفاء العاقلين، وجدهم لا يعاقبون الناس على نقد سياساتهم، وإن ظهر النقد في أقوال جافية، وهذا معاوية يقول: والله! لا أحمل السيف على من لا سيف له، فإن لم يكن من أحدهم إلا كلمة يشتفي بها، جعلت له ذلك دبر أذني. * كيف دبر خلع عثمان أو قتله؟ مما لا نرتاب فيه: أن ليس للصحابة، ولا لأفاضل التابعين سعي في خلع عثمان، ولا دخل في قتله، وإنما المؤتمرون على ذلك هم دعاة الفتنة، واستعانوا بمن تلون بدعايتهم، ونعوّل في هذا على أقوال المحدثين والمحققين من المؤرخين. قال الحافظ أبو بكر العربي في كتاب "القواصم والعواصم": وقد سمّوا من قام على عثمان، فوجدناهم أهل أغراض سوء، حيل بينهم وبينها، وقال: إن أحداً من الصحابة لم يشنع عليه، وقد انتدب المردة الجهلة أن يقولوا: إن كل فاضل من الصحابة كان عليه مشاغباً مؤلباً، وبما جرى عليه

راضياً، واخترعوا كتبًا فيها فصاحة وأمثال، وادعوا أن عثمان كتب بها إلى علي، وذلك كله مصنوع؛ ليوغروا قلوب المسلمين على السلف الماضين، والخلفاء الراشدين. اجتمع بعض رؤوس الفتنة بالكوفة، وأخذوا يزيدون نارها حطباً، فكتب سعيد بن العاص يشكوهم إلى عثمان، فأمره بارسالهم إلى عبد الرحمن ابن خالد عامل حمص، فوبّخهم خالد، وتوعدهم، فهابوا سطوته، وأظهروا التوبة، وأرسل بهم إلى عثمان متظاهرين بالتوبة، فخيرهم عثمان بالبلاد التي يريدون استيطانها، فاختاروا التفرق، وذهب كل إلى البلد الذي اختاره، ولما سار كل إلى ما اختار، عادوا إلى إيقاد الفتنة وتأليب الجماعة، وتكاتبوا من أمصارهم في القدوم على المدينة، حتى جمعوا أمرهم، وعزموا على خلع عثمان أو قتله، وتوجهوا نحو المدينة، متظاهرين بقصد الحج، وكان على أهل البصرة حكيم بن جبلة، وعلى أهل الكوفة الأشتر النخعي، وعلى أهل مصر عبد الرحمن بن عديس البلوي، فدخلوا المدينة في نحو أريعة آلاف شخص، فاطلع عليهم عثمان من حائط داره، ووعظهم، وذكرهم، فاستشاطوا، ولم تنجع فيهم الموعظة، وأراد الصحابة أن يدفعوهم عنه، فأوعز إليهم عثمان أن لا يقاتل أحد بسببه أبدًا، وثبت أن عبد الرحمن بن الزبير قال لعثمان: إن معك في الدار عصابة مستبصرة، ينصر الله بأقل منها، فأذنْ لنا، فقال: أذى الله رجلاً أراق لي دمًا. وقال سليط بن سليط: نهانا عثمان عن قتالهم، ولو أذن لنا، لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارنا. وجاءه زيد بن ثابت، فقال له: إن هؤلاء الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله مرتين، قال: لا حاجة لي في ذلك، كفوا. وروي: أن عبد الله بن عامر قال: كنت مع عثمان في الدار، فقال لي: اعزم على كل من رأى أن عليه سمعاً وطاعة

إلا كف يده وسلاحه. ويحدثنا القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "العارضة"، فيقول: ولقد قتل عثمان، وطالبوه أربعة آلاف، وفي المدينة أربعون ألفاً، كلهم لا يريد قتله، ويريد نصره، ولكنه دفعَ الكلَّ، واستسلم للأمر بالعهد الذي كان عنده، ولم يرض أن يراق بسببه دم، ورضي أن يكون عند الله المظلوم، ولا يكون عند الله الظالم. ولما ضرب أولئك البغاة على عثمان الحصار، كان معه وعلى بابه جماعة من الصحابة وأبناء الصحابة يحرسونه، منهم: زيد بن ثابت، وأبو هريرة، وعبدالله بن عمر، والحسن، والحسين، وعبدالله بن الزبير، ومحمد ابن طلحة، وعبدالله بن عامر، وربما وقعت بينهم وبين الثائرين مدافعة، حتى أصيب الحسن وغيره بجراح. ثم إن هؤلاء الثائرين اقتحموا دار عثمان يريدون قتله. ويذكر المؤرخون في أسماء من باشروا قتله: محمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن أبي بكر لم يكن من الصحابة؛ لأنه ولد سنة حجة الوداع، وهي السنة التي انتقل عقبها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، فكان أيام فتنة عثمان لم يزل في أوائل عهد الشباب. على أن بعض الروايات تقول: إن محمد بن أبي بكر بعد أن دخل على عثمان كلّمه ووعظه، فرجع، ثم دخل سفهاء القوم، فسفكوا دمه الطاهر، وكتاب الله بين يديه، وصعدت روحه الطاهرة إلى مقام كريم. * رد ما ينسب إلى عثمان من الأحداث: يذكر المؤرخون أشياء كان الناقمون على عثمان قد اتخذوها أسباباً

لثورتهم عليه، ومن هذه الأشياء ما هو مفترى على عثمان قطعاً، ومنها ما لو صحّ، لم يكن موضع إنكار، وإنما هو من قبيل ما يرجع إلى اجتهاد الإمام، ويقع مثله من الخلفاء الراشدين، ومنها ما يعد في حسناته وصالح أعماله. وها نحن هؤلاء نعرض على حضراتكم ما قصه المؤرخون وبعض المحدثين من الأمور التي طعن بها الطاعنون في عثمان، وجعلوها أسباب قيامهم عليه: قالوا: ولَّى عمالاً من ذوي قرابته، وزعموا أنهم ليسوا أهلاً للولاية. وذكروا: معاوية بن أبي سفيان، والوليد بن عقبة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، ومروان بن الحكم. ويدفع هذا بأن تعيين الولاة يرجع إلى اجتهاد الإمام، وتقوى عثمان، وإخلاصه في سياسة الرعية يجعلنا على ثقة من أنه ولَّى بعض ذوي قرابته بعد أن عرف كفايتهم للأعمال، والمعيب أن يولي قريباً لا يكون كافياً للعمل، أو يؤثره في الولاية، وهو على علم بن غيره أكفى منه، ثم إن معاوية ولّاه الشام عمر بن الخطاب، ولم يزد عثمان على أن أقرّه على الولاية، وكذلك الوليد بن عقبة كان عاملاً لعمر بن الخطاب على الجزيرة، وكان من عثمان أن ولّاه الكوفة، فقدمها وسار في الناس خمس سنين سيرة حسنة، حتى اتهمه جماعة بشرب الخمر، فاستقدمه عثمان، وأقام عليه الحد، وولّى مكانه سعيد بن العاص، وسعيد بن العاص نشأ يتيماً في حجر عثمان، ثم انتقل إلى الشام، وأقام بها عند معاوية، فذكره عمر بن الخطاب يوماً، واستقدمه إلى المدينة، وأكرمه، وكان شريف النفس، سخي اليد، فصيح

اللسان، لا يختلف اثنان في كفايته للعمل. وأما عبد الله بن عامر بن كريز، فكان ابن خال عثمان، وأمه أمها أم حكيم ابنة عبد المطلب، عمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعبد الله بن عامر هذا نشأ في الإسلام نشأة طيبة، وكان معدودًا من نجباء قريش وكرمائهم، ولّاه عثمان عاملاً بالبصرة عند اختلاف أهلها على أبي موسى الأشعري، وكان سن عبد الله بن عامر يومئذ خمساً وعشرين سنة، فقاد الجيوش، وفتح خراسان وسجستان وكرمان، وما زال يطارد كسرى يزدجرد حتى قتل كسرى، وانقرضت على يده الدولة الساسانية، وكان لكرمه وحسن خلقه يحبه الناس. وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فكان عثمان استعمله على الحرب في مصر، وأبقى عمرو بن العاص على الخراج، ثم وقع خلاف بينهما، فاستقدم عثمان عمرو بن العاص، وصارت إمارتا الخراج والحرب إلى عبد الله بن سعد. وذكر ابن عبد البر في كتاب "الاستيعاب" سبباً لعزل عمرو بن العاص، هو أن الإسكندرية انتقضت سنة 25 هـ فافتتحها عمرو بن العاص، وعاملهم معاملة الناقضين للعهد، ولم يصح عند عثمان نقضهم، فعزله، وولى عبد الله ابن سرح، فاعتزل عمرو إلى ناحية بفلسطين، وكان يزور المدينة أحياناً. ويدلكم على أن ولاية عبد الله بن سعد لم تقع موقع الإنكار من الصحابة: أن عثمان أمره بفتح أفريقية، فسار إليها في جيش مؤلف من كثير من الصحابة وأبناء الصحابة، منهم: عبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر، والحسن، والحسين، وعبد الله ابن عمرو بن العاص.

وقالوا: عبد الله بن سعد هذا كان قد أسلم، ثم ارتد وعاد إلى مكة، فنقول: عاد إلى الإسلام، وظهر إخلاصه، والتوبة تجبّ ما قبلها. قال أبو بكر بن العربي في كتاب "العارضة": ولّى عثمان عبد الله بن أبي سرح؛ لحسن سيرته، وحميد طريقته، ولهذا فتح الفتوح في بحر المغرب وبره، وغزا معه جماعة من الصحابة وأبناء الصحابة، وأطاعوه، ورضوا عنه. وأما مروان بن الحكم: فكان له عندما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمان سنين، وتولى الكتابة لعثمان، وروى الحديث عن عثمان وعلي، والواقع أن مروان قد كثر الطعن فيه، ونرى بعض المحدثين يصفه بما يخفف هذا الطعن، فأبو بكر بن العربي يقول: "فمروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين". وقالوا: رد الحكم إلى المدينة، وقد نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - منها إلى الطائف. ويدفع هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أذن قبل وفاته لعثمان في رده، ولما أبلغ عثمان هذا الإذن أبا بكر وعمر، قالا له: إن كان معك شهيد، رددناه، ولما ولي عثمان الخلافة، عمل على مقتضى علمه بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أذن في رده، وللحاكم أن يعمل على ما يعلم في غير القضاء بين الخصوم. وقالوا: كان عمر يضرب بالدرة، وهو يضرب بالسوط، وضرب عمار ابن ياسر، وابن مسعود، ومنعه عطاءه، وضرب أبا ذر، ونفاه إلى الربذة. وسلك بعض أهل العلم في دفع هذا الإنكار طريقة أن للحاكم أن يؤدب بعض الرعايا بما يراه صلاحاً، ولكن حفاظ الحديث أنكروا هذا الذي يحكيه المؤرخون أشد الإنكار، قال أبو بكر بن العربي في كتاب "العواصم": أما

ضربه لعمار، وابن مسعود، ومنعه لعطاء بن مسعود، فزور وإفك، وقد اعتذر عن ذلك العلماء بوجوه لا ينبغي أن يشتغل بها؛ لأنها مبنية على باطل، ولا يبنى حق على باطل، ولا يذهب الزمان في مماشاة الجهال، فإن ذلك لا آخر له. وأما قصة أبي ذر، فهو أن أبا ذر كان زاهداً، وكان يعظ عمال عثمان في الزهد، ويتلو عليهم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]، وربما أغلظ لهم القول، فشكاه معاوية إلى عثمان، فاستدعاه إلى المدينة، فاجتمع عليه الناس، فكره ذلك، فقال له عثمان: لو اعتزلت! فخرج إلى الربذة زاهداً فاضلاً، ونزل وراء أجله فضلاء. وقالوا: صعد منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلا على الدرجة التي كان يقف عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد انحط عنها أبو بكر وعمر. ويدفع هذا بأن هذه الرواية غير صحيحة، قال أبو بكر بن العربي في "العواصم": ما سمعت هذا ممن فيه تقية، وإنما هي إشاعة منكر، ليروي ويذكر، ليتغير بها قلب من يتغير. وقالوا: لما طُعن عمر - رضي الله عنه -، قتل عبد الله بن عمر الهرمزان بتهمة أن له يداً في قتل عمر، فلم يُقم عثمان على عبد الله بن عمر حدَّ القصاص. ويدفع بن هذه الواقعة جرت بمرأى من الصحابة وهو متوفرون، فكيف تقع في أول عهد عثمان ويسكتون عنها؟ وإذا أردنا أن نرجع إلى قول المؤرخين، فقد قالوا: إن الهرمزان سعى في قتل عمر، وحمل الخنجر، وظهرت تحت ثيابه، وقالوا: أعطى الخنجر لأبي لؤلؤة، وحرضه على عمر

حتى قتله. وكان قتل عبد الله له قبل أن يتولى عثمان، ولعل عثمان كان لا يرى على عبد الله حقاً؛ لما ثبت عنده من حال الهرمزان وفعله. ويروى: أن عمرو بن العاص لما أختلف الصحابة في الاقتصاص من عبد الله بن عمر، قال لعثمان: إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك، قال لعثمان: أنا وليّهم، وقد جعلتها دية، وأحتملتها في مالي، وانتهى الخلاف. وقالوا: ابتدع في جمع المصحف، وحرق المصاحف. ويدفع هذا الطعن بأن الله تعالى وعد بحفظ القرآن، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، فكان هذا الحفظ على يد عثمان، فإن عثمان- كما يقول ابن حزم- جمع القرآن في مصحف تحفظ به القراءات المسموعة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أحرق المصاحف التي تشتمل على شيء يتوهمه واهم، أو يدسه زنديق. وقالوا: خالف سنة القصر في الصلاة، فصلى بالناس في منى أربم ركعات، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يصلونها ركعتين. وجواب هذأ: أن تلك السنة كثر فيها الأعراب، فخشي أن يسبق إلى أذهانهم أن الصلاة أربم، فقصد إلى تعليمهم أنها أربم. وروى البيهقي: أن عثمان نفسه خطب في منى، فقال: إن القصر سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، ولكنه حدث طَغام، فخفت أن يستنوا، ولعل الذي نبه إلى هذا ما روي من أن أعرابياً ناداه في منى: يا أمير المؤمنين! ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين. قال ابن العربي في "العواصم": وأما ترك عثمان للقصر، فاجتهاد؛ إذ سمع أن الناس افتتنوا بالقصر، وفعلوا في منازلهم، فرأى أن السنة ربما

أدت إلى إسقاط الفرض، فتركها خوف الذريعة. ومما أنكره الثائرون على عثمان: حمايته لأرض كانت للناس عامة، فخصها بإبل الصدقة، واجهوه بهذا الإنكار، فقرؤوا عليه الاية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [يونس: 59]، وقالوا له: أرأيت ما حميت من الحمى، آلله أذن لك، أم على الله تفتري؟ فقال: هذه الآية نزلت في كذا وكذا، وأما الحمى، فقد حمى الأئمة قبلي لإبل مصدقة، فلما زادت إبل الصدقة، زدت في الحمى. وثبت في "صحيح البخاري": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمى النقيع، وأن عمر ابن الخطاب حمى السرف، والربذة. وزعموا أنهم لاقوا راكباً خارج المدينة يحمل كتاباً من عثمان إلى عامله بمصر عبد الله بن سعد يأمره فيه بقتل محمد بن أبي بكر، ومن معه من رؤوس هذه الفتنة بعد أن وعظهم وأظهروا التوبة. ويدفع هذا بأنهم ادعوا هذا، وأنكر عثمان أن يكون قد كتب هذا الكتاب، وقال لهم: إما أن تقيموا شاهدين على ذلك، صالا، فيميني أني ما كتبت، ولا أمرت، وقد يكتب على لسان الرجل، ويضرب على خطه، وينقش على خاتمه، فقالوا: تسلم إلينا مروان، فقال: لا أفعل، ولو سلمه، لكان ظالماً، وإنما عليهم أن يطلبوا حقهم عنده على مروان (¬1). وساق الإمام البخاري في "جامعه" قصة تحتوي شيئاً مما يتلمسه الذين يتنقصون عثمان - رضي الله عنه -، قال: جاء رجل من أهل مصر، وحج البيت، فرأى قوماً ¬

_ (¬1) "العواصم" لابن العربي.

جلوساً، فقال: من هؤلاء القوم؟ قال: هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر، قال: يا ابن عمر! إني سائلك عن شيء، فحدثني عنه: هل تعلم أن عثمان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم، فقال: أتعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهدها؟ قال: نعم، قال الرجل: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: الله كبر! قال ابن عمر: تعال أبيّنْ لك: أما فراره يوم أحد، فاشهد أن الله عفا عنه، وغفر له. وأما تغيبه عن بدر، فإنه كان تحته بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت مريضة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمَه". وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان، لبعثه مكانه، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده اليمنى: "هذه يد عثمان"، فضرب بها على يده اليسرى، فقال: "هذه لعثمان". وملخص هذه المحاضرة: أن عثمان - رضي الله عنه - لم يأت حدثاً منكراً، ولم يرتكب ظلماً ولا إثماً، وأن الصحابة جميعاً بريئون من دمه، وإنما حاول خلعه، أو خان الله في سفك دمه، نفر ليسوا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من القوم الذين يريدون الإصلاخ. ولعل محاضرتنا هذه تنبه شبابنا النابتين نباتاً حسناً على أن يتثبتوا فيما يقصه المؤرخون عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا سيما الذين صاحبوه أعواماً، ووردت الأخبار الصحيحة أنه توفي وهو عنهم راض.

موسى بن نصير

موسى بن نُصَير (¬1) هذه صفحة من حياة قائد عظيم كانت له اليد البيضاء في إنشاء دولة إسلامية رفعت لواء الإسلام في غري أوريا، ومدت فيه ظلال العدل، وبسطت أنوار العلم، والمدنية الباهرة، ذلك هو أبو عبد الرحمن موسى بن نصير فاتح الأندلس. يقول بعض المؤرخين: إن موسى بن نصير من قبيلة لخم، أو من قبيلة بكر بن وائل، وهو عربي صريح؛ وأشهر ما قيل فيه أنه كان مولى لعبد العزيز ابن مروان. نشأ موسى بن نصير في وادي القرى بالحجاز، وخدم بني مروان بدمشق، وتنبه شأنه فقلدوه أعمالاً في ممالكهم. ويروى: أن أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان لما ابتنى بها الوليد كانت ترفع عنده مكانه موسى بن نصير حتى بلغ ما سنحدثك عنه بتلخيص وإيجاز: كان موسى بن نصير من التابعين، وولد في خلافة عمر بن الخطاب سنة 19 هـ، وأخذ عن بعض الصحابة؛ كتميم الداري، وكان والده نُصير ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع والثامن من المجلد العشرين.

على حرس معاوية بن أبي سفيان، وله عنده مكانة، ولكنه امتنع من أن يدخل معه في حرب علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -. عهد الوليد بن عبد الملك إلى موسى بن نصير بولاية بلاد المغرب سنة 88 أو 89، فنزل القيروان، وخرج غازياً يقص أثر البربر لا يدافعه أحد حتى بلغ "طنجة"، ودان له سائر البربر بالطاعة، فاستعمل على طنجة وأعمالها طارق بن زياد، وقفل راجعاً إلى القيروان. ولما استتب له الأمر بالمغرب، استأذن الخليفة في غزو الأندلس، فأذن له، وبعث إلى طارق، فامره بغزوها، فعبر طارق البحر، ونزل بالجبل الذي سمي من بعد: "جبل طارق"، وانساب إلى أرض الأندلس بجيش مؤلف من اثني عشر ألف مقاتل، ففتح جانباً عظيماً من البلاد، وأبلغ موسى ما لاقاه، فلم يرتح موسى لإفراد طارق بفضل هذا الفتح الباهر، فحفزته الغيرة إلى أن تكون القيادة العملية بيده، فكتب إلى طارق يأمره بأن لا يتجاوز المكان الذي يصل إليه الكتاب فيه؛ حتى يلحق به، ولكن طارقاً استشار قواد الجيش، فأشاروا بمواصلة الغزو خشية أن يجد جماعات المنهزمين من الأعداء فرصة التجمع والاتحاد ثم الكر على المسلمين، فأخذ طارق برأيهم، ومضى في سبيله، ثم قدم موسى في جيش ضخم سنة 93، واشتد في توبيخ طارق إذ خالف ما أمره به من وقف الجهاد، بل قال بعض المؤرخين: إنه عزله عن قيادة الجيش، واعتقله مع وضوح عذره، ثم اصطلح القائدان، وأقبلا على الجهاد، وأمعنا في الفتح، وكان النصر حليفهما في كل واقعة، فلم يعارضهما أحد إلا بطلب صلح. ولما نجح موسى في غزو الأندلس، طمحت همته إلى مواصلة الغزو

حتى يتوغل في أحشاء أوروبا، وينفذ منها إلى القسطنطينية "الآستانة" حتى يصل إلى الشام. وانتهى خبر هذا إلى الخليفة، فرأى أن ما همّ به موسى غرر بالمسلمين، فبعث ينكر عليه هذا الاتجاه، ويستدعيه وطارقًا إلى دار الخلافة، فأقام موسى ابنه عبد العزيز حكماً بالأندلس، ودخل الشرق سنة 95 يصحبه طارق، فوصلا إلى الشام. وها هنا يذكر المؤرخون: أن الوليد طرأ عليه مرض ثقيل، ولما علم سليمان بن عبد الملك وليُّ عهده بقرب وصول موسى، أراد تأخير الاحتفال بقدوم فاتح الأندلس إلى أول خلافته حتى يكون له فخر هذا الفتح، فكتب إلى موسى يأمره بن يؤخر قدومه إلى دمشق أياماً، ووافاه الكتاب وهو في طبرية فلسطين، فلم يعمل به، ودخل دمشق في حياة الوليد. ولما مات الوليد، نكبه سليمان؛ لمخالفته أمره بالمسارعة في دخول دمشق. ويذكر بعض المؤرخين: أن موسى بن نصير قدم على سليمان حين استخلف، وإنما نكبه؛ لأن طارقاً سبق بالشكاية منه إلى سليمان، ورماه بجولان يده في بعض الغنائم، فوجد سليمان ضغينًا عليه، واستقبله بالتأنيب، وعزله عن جميع أعماله. وها هنا روايات في وصف نكبته لا تخلو من مبالغة فيما يظهر، ومن بين هذه الروايات: رواية قد ياخذ منها أن سليمان لم يتجاوز توبيخه وعزله عن جميع الأعمال، فقد جاء في "تاريخ ابن خلكان" ما يأتي: "ولما وصل موسى إلى الشام، ومات الوليد بن عبد الملك، وقام من بعده سليمان، وحج في سنة 97 للهجرة، حج معه موسى بن نصير، ومات في الطريق بوادي القرى، وقيل: بمر الظهران، على اختلاف فيه".

ثبَّت موسى بن نصير دعائم الإسلام في بلاد المغرب، وكان يقصد من فتوحه نشر الدعوة الإسلامية، لا بسط سلطان الدولة وحده؛ إذ ورد في أعماله الماجدة: أنه كان يخصص رجالًا من العرب متفقهين في الدين لتعليم البربر القرآن وفرائض الصلاة، كما فعل عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - من قبله. وكان موسى بن نصير معروفاً بالحزم واليقظة والدهاء، وقد شهد له بهذا عظيم من عظماء الدولة الأموية، وهو يزيد بن المهلب، يروى في سيرة موسى بن نصير: أنه لما تنكر له سليمان بن عبد الملك، لاذ بيزيد بن المهلب لمكانته من سليمان، وطلب منه أن يكلمه في شأنه، فقال له يزيد: لم أزل أسمع عنك أنك من أعقل الناس، وأعرفهم بمكايد الحروب، ومداراة الدنيا، فكيف حصلت في يد هذا الرجل بعد ما ملكت الأندلس، وألقيت بينك وبين هؤلاء القوم البحر الزخار؟ فقال له موسى: يا ابن الكرام! ليس هذا وقت تعديد. أما سمعت: "إذا جاء الحين، غطى على العين"؟ كان موسى بن نصير ثاقب الفكر في وجوه السياسة الدولية والحربية، ويكفي شاهداً على هذا: أنه ولي أمر ما وراء مصر إلى البحر المحيط، فأحكم تدبير شؤونه، وأخضع قبائل البربر، وفتح معظم بلاد الأندلس، ولم يهزم له جيش قط. وكان - رحمه الله - فصيحاً بليغاً. قال صاحب "نفح الطيب": "أما معارفه الأدبية، فقد جاءت عنه بلاغة في النثر والنظم تدخله مع نزارتها في أصحاب دار الكلام". وكان عامر القلب بإجلال الخالق- جل شأنه -, ما وقع قحط شديد

بالمغرب، فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء، وخطبهم، فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين الوليد؟ فقال: هذا مقام لا يذكر فيه غير الله!. حفظ التاريخ لموسى بن نصير مقابلته لِما قام به طارق من الفتح بشيء من الجفاء، ولكن ما حفظه له من الهمم الشامخة، والأعمال الفاخرة، يغطي على تلك الهفوة، ولا سيما هفوة جاءت في طريق طموحه إلى وضع لبنات جديدة في بناء مجده الأثيل. وإذا كان سليمان بن عبد الملك قابل هذا القائد العظيم بجفاء واضطهاد، فإن قلوب الأمة - على اختلاف طبقاتها - قد امتلأت بإكباره، والبطل الهمام من يرتاح لرضا الأمة أكثر من إقبال الدولة.

علي زين العابدين

علي زين العابدين (¬1) * نسبه: هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -، وأمه سلامة بنت يزدجر آخر ملوك الفرس، ذلك أن سبي فارس لما أتي به إلى المدينة في خلافة عمر - رضي الله عنه -، وكان في هذا السبي ثلاث بنات ليزدجرد، صارت إحداهن إلى عبد اللُّه بن عمر، وهي أم ابنه سالم، وصارت الثانية إلى محمد ابن أبي بكر الصديق، وهي أم ولده القاسم أحد الفقهاء السبعة، وصارت ثالثتهن إلى الحسين بن علي، وهي أم ولده علي زين العابدين - رضي الله عنه - (¬2). * مولده: ولد زين العابدين سنة ثمان أو سبع وثلاثين بالكوفة، فكانت ولادته قبل وفاة علي - كرم الله وجهه - بنحو ثلاث سنين. ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام ألقاها في قبة الغوري بالقاهرة بدعوة من إدارة شركة سيارات (أوتوبيس) الدقهلية والشرقية، ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية". الجزء الرابع من المجلد الخامس عشر. (¬2) الزمخشري في كتاب "ربيع الأبرار"، وغيره، وقال ابن قتيبة في كتاب "المعارف": إن أم علي زين العابدين سندية، يقال لها: سلامة، ويقال لها: غزالة.

* روايته للحديث: روى علي زين العابدين الحديث عن أبيه الحسين، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة، وصفية بنت حمي، وأم سلمة، وغير هؤلاء، وروى عنه طاوس بن كيسان، وهو من أقرانه، والزهري، وغيره، وقال أبو بكر بن شيبة: أصح الأسانيد: الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب. * فقهه: قال الزهري: ما رأيت أحداً أفقه من علي بن الحسين، ولكنه كان قليل الحديث. * تقواه وورعه: قال سعيد بن المسيب: ما رأيت أورع من علي بن الحسين، وقال مالك ابن أنس: لقد أحرم علي بن الحسين، فلما أراد أن يقول: لبيك، قالها، فأغمي عليه حتى سقط من أعلى ناقته. وروي أنه قال: أخشى أن أقول: لبيك، فيقول: لا لبيك. وقال مالك: إنه كان يصلي في كل يوم وليلة مئات الركعات إلى أن مات. وسمي زين العابدين؛ لكثرة عبادته، ولم يكن هذا اللقب من الألقاب التي يعطيها الآباء والأمهات لأبنائهم عند ولادتهم، فيسمونه زين العابدين، فيعيش وهو تارك الصلاة، أو ناصر الدين، وهو كبر معول لتقويض أركانه. * سخاؤه وكرمه: قال علي بن الحسين: إني لأستحي الله أن أرى الأخ من إخواني، فأسأل الله له الجنة، وأبخل عليه بالدنيا. ويروى: أنه قاسم الله ماله مرتين.

* إخفاؤه الصدقات: قال محمد بن إسحاق: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين، فقدوا ما كانوا يؤتون به من الليل. وقال جرير بن المغيرة: كان علي بن الحسين يُبخَّل "ينسب إلى البخل"، فلما مات، وجدوه يعول مئة أهل بيت بالمدينة، وكان - رضي الله عنه - يحمل جراب الخبز على ظهره، فيتصدق به، ويقول: إن صدقة الليل تطفئ غضب الرب. * تعففه وزهده: روى نافع عن علي بن الحسين: أنه قال: ما أكلت بقرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط. وقال جويرة بن أسماء: ما أكل علي بن الحسين بقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - درهمًا قط؛ أي: أنه لا يتوسل إلى التحصيل على مال بقرابته إلى النبي - عليه الصلاة والسلام -. * بره بأمه: قيل لعلي بن الحسين: إنك أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما تسبق إليه عينها، فأكون قد عققتها. وكثير من الناس غافلون عن حقوق الأمهات، وناسون لما كابدته أمهاتهم في حملهم ووضعهم وتربيتهم من المشاق. * إجلاله للشيخين: قال مالك: قال نافع بن جبير بن مطعم لعلي بن الحسين: إنك تجالس أقوامًا، كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فأشار بيده إلى قبريهما، وقال: منزلتهما منه الساعة؛ أي: إن منزلتهما في حياته من القرب

هي منزلتهما منه الآن، وكذلك كان الأئمة من آل البيت يجلون الشيخين، ويقدرونهما قدرهما. * تواضعه: قال مالك: قال نافع بن جبير بن مطعم لعلي بن الحسين: إنك تجالس أقواماً دوناً، فقال: إني أجالس من أنتفع بمجالسته في ديني. * كراهته في المبالغة في الثناء عليه: جاء قوم عليَّ بن الحسين، فأثنوا عليه، فقال: ما أكذبكم وأجرأكم على الله! نحن من صالحي قومنا، وحسبنا أن نكون من صالحي قومنا. وقد شاع بين الناس اليوم الغلو في مديح ذوي الوجاهة أو المال، حتى إن من لم يمدح، أو وقف في مدحه عند الحقيقة، عدّوه جافياً، وغير عارف بآداب مجالسة من يسمونهم: الكبراء من الناس. * حلمه: استطال رجل على زين العابدين، فأغضى عنه، فقال له الرجل: إياك أعني، فقال له زين العابدين: وعنك أغضي. وتكلم فيه رجل افترى عليه، فقال له: إن كنتُ كما قلتَ، فأستغفر الله، وإن لم أكن كما قلتَ، فالله يغفر لك. * نجدته: عندما قام أهل المدينة على يزيد بن معاوية، وأخرجوا من كان في المدينة من بني أمية، وكان من بينهم مروان بن الحكم، طلب مروان من بعض رجال المدينة أن يضموا إليه أهله وثقله، ففعل، ووجههم زين العابدين إلى الطائف، ومعهم ابناه: عبد الله، ومحمد.

* فضله: قال الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل من علي بن الحسين. وقال مالك: لم يكن في أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل علي بن الحسين. وقال علي بن هاشم: ما رأيت هاشمياً أفضل منه. * حكمه ومواعظه: قال زين العابدين لابنه وهو يعظه: يا بني! اصبر على النائبة، ولا تتعرض للحقوق، ولا تجب أخاك إلى شيء ضرره أعظم من منفعته له. وقال: الناس من بين مغمور بالجهل، ومفتون بالعجب، ومعدول بالهوى عن التثبت، ومصروف بسوء العادة عن تفضيل التعلم. وقال: إن لله عباداً عبدوه رهبة، فتلك عبادة العبيد، وآخرين عبدوه رغبة، فتلك عبادة التجار، وآخرين عبدوه شكراً، فتلك عبادة الأحرار. * شعره: يروى أن أخاه الحسن - رضي الله عنه - عاتبه في امرأته، فقال: لعمرك إنني لأحب داراً ... تحل بها سكينة والرباب أحبهما وأبذل كل مالي ... وليس للائمي عندي عتاب ونسب إليه الجاحظ ما يأتي: الموت خير من ركوب العار ... والعار خير من دخول النار والله من هذا وهذا جاري * وفاته - رضي الله عنه -: توفي علي زين العابدين بالمدينة المنورة سنة اثنتين، أو أربع وتسعين،

ودفن بالبقيع في قبر عمه الحسن بن علي في القبة التي بها قبر العباس - رضي الله عنه -، وأولاد علي زين العابدين: عبد الله، ومحمد، وزيد، وليس للحسين عقب إلا من ولده علي زين العابدين. هذه صحيفة من سيرة رجل من عظماء آل البيت نعرضها على حضراتكم، وفي سيرة العظماء عبرة وأسوة لأولي الألباب.

محمد الباقر وزيد

محمد الباقر وزيد (¬1) اقترحت عليَّ لجنة المحاضرات لشركة السيارات الشرقية والدقهلية في هذه السنة إلقاء كلمة في موضوع يتصل بسيدنا الحسين، فبدا لي أن أجعلها في الحديث عن حفيديه: محمد، وزيد ابني اعلي زين العابدين بن الحسين، وفي سيرة العظماء عبرة لمن يريد أن يكون عظيماً في علمه، أو في شرفه وسمو هممه، أو في المسارعة إلى عمل الخير ما استطاع. * محمد الباقر: هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فنسبه من جهتي أبيه وأمه يتصل بعلي بن أبي طالب، وفاطمة الزهراء بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولد محمد في المدينة المنورة في صفر سنة ست أو سبع وخمسين، وتلقى الحديث وعلوم الدين عن أبيه علي زين العابدين، وجديه الحسن والحسين، وعم أبيه محمد بن الحنفية، وروى الحديث عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وأنس، وسعيد بن المسيب. وهو معدود في صفوة المحدثين الصادقين فيما يروون، قال ابن سعد: ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الأول والثاني من المجلد السادس عشر.

كان محمد ثقة كثير الحديث، وقال العجلي: محمد تابعي ثقة. وكان محمد الباقر معدوداً من كبار الفقهاء، قال صاحب "الإرشاد": لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين من علم الدين والسنن، وعلم القرآن، والسير، وفنون الأدب ما ظهر عن أبي جعفر الباقر. وذكره الإمام النسائي في فقهاء أهل المدينة من التابعين. وقال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم علماً عند الباقر. ولقب بالباقر من قولهم: بقر العلم: أوسعه، قال صاحب "القاموس": والباقر محمد بن علي بن الحسين - رضي الله عنه -؛ لتبحره في العلم. وفيه يقول الشاعر: يا باقر العلم لأهل التقى ... وخير من لبى على الأجبل وقال مالك بن أعين الجهني يمدحه: إذا طلبت الناس علم القرآ ... ن كانت قريش عليه عيالا وتلقى عن الباقر الحديث جماعة من كبار أئمة الحديث، مثل: الإمام الزهري، والإمام الأوزاعي، وربيعة، وابن جريج، وعمر بن دينار. وللباقر بعد منزلة الفقه والعلم منزلة فائقة في الفضل والاجتهاد في العبادة، والدعوة إلى الله. قال محمد بن المنكدر: ما رأيت أحداً يفضل علي ابن الحسين، حتى رأيت ابنه محمداً؛ أردت أن أعظه، فوعظني. وللباقر مواعظ بالغة، وحكم رائعة، ومن هذه المواعظ والحكم قوله لابنه: "إياك والكسل والضجرة فإنهما مفتاح كل خبيثة، فإنك إذا كسلت، لم تؤد حقاً، وإن ضجرت، لم تصبر على حق". وقوله: "أشد الإيمان ثلاثة:

ذكر الله على كل حال، وإنصافك من نفسك، ومواساة الأخ في المال". وقوله: "ما دخل قلب عبد شيء من الكبر إلا نقص من جمقله بقدره، أو أكثر منه". وقوله: "ليس الأخ أخًا يرعاك غنياً، ويتركك فقيراً". وقوله: "الغنى والعز يجولان في قلب المؤمن، فإذا وصلا إلى مكان فيه التوكل، أوطناه". ومن حكم الباقر: "اعوف المودة في قلب أخيك مما له في قلبك". وإلى معنى هذه الحكمة يشير قول الشاعر: سلوا عن مودات الرجال قلوبكم ... فتلك شهود لم تكن تقبل الرشا ولا تسألوا عنها العيون فربما ... أقرت بشيء لم يكن داخل الحشا وكان محمد الباقر يحترم الشيخين أبا بكر وعمر، ويعترف بإمامتهما. قال سالم أبو حفصة: سألت أبا جعفر عن أبي بكر وعمر، فقال لي: يا سالم! تولهما، وأبرأ من عدوهما؛ فإنهما كانا إمامي هدى. وروى عنه أنه قال: ما أدركت أحداً من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما. وروى عنه أنه قال: من لم يعرف فضل أبي بكر وعمر، فقد جهل السنة. وتوفى الباقر سنة 113 - رحمه الله - بالحميمة، وهي قرية بصقع الشام في طريق المدينة، ونقل إلى المدينة، ودفنه بالبقيع في القبر الذي دفن فيه أبوه زين العابدين، وعم أبيه الحسن بن علي. ومحمد الباقر هو الإمام الخامس من الأئمة الاثني عشر الذين هم موضع عقيدة الشيعة الإمامية، وبهذا سمو: الاثني عشرية، وهؤلاء الأئمة هم علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، وعلي زين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، ومحمد الجواد، وعلي الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن العسكري،

وهذا الإمام الأخير في مذهب الشيعة هو المهدي المنتظر. وهناك طائفة من الشيعة يقال لهم: الباقرية يقولون: الإمامة انتقلت من علي بن أبي طالب وأولاده إلى محمد الباقر، وانتهت الإمامة عنده، وإنه لم يمت، ولكنه غائب، وهو المهدي المنتظر. وأهل السنة يعتقدون في هؤلاء الأئمة العلم والتقوى، ولكنهم لا يعتقدون كما يعتقد بعض الفرق أنهم معصومون عن جميع الذنوب وسائر النقائص، إلى ما يتبع هذا من الآراء. * زيد بن علي: نسب زيد بن علي من جهة أبيه هو نسب أخيه محمد الباقر، وأما نسبه من جهة الأم، فإن زيدًا أمه كانت أم ولد؛ أي: أمة، ولم يقصر به ذلك عن أن يكون في أعلى مرتبة من الفضل، قال له هشام بن عبد الملك: أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة، وأنت ابن أمة؟! فقال: يا أمير المؤمنين! إن لك جوابًا إن أحببت أجبتك به، وإن أحببت أمسكت عنك، قال: لا، بل أجب، قال: إن الأمهات لا يقنعون بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمة لأم إسحاق، فلم يمنعه ذلك أن ابتعثه الله نبيًا، وجعله للعرب أبًا، وأخرج من صلبه خير البشر محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فتقول لي كذا، وأنا ابن فاطمة، وابن علي!. ولد زيد بالمدينة سنة 75، فيكون أصغر سناً من أخيه الباقر بنحو تسع عشرة سنة، وهنالك نشأ، وكانت المدينة لذلك العهد زاخرة بعلوم الشريعة، وفي ذلك العهد ظهر كثير من أعاظم الفقهاء، مثل: سعيد بن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله بن عمر،

والقاسم بن محمد، وخارجة، وكان هؤلاء الفقهاء من العلماء الواقفين على أسرار الشريعة، لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولم يؤثر عن أحد منهم أن أفتى في شرع الله بما يوافق هوى السياسة؛ رهبة من سطوتها، أو طمعًا في الوجاهة لدى أربابها، فيكون زيد بن علي قد شب في بيئة علمية تغمرها الآداب الرفيعة، وتنبت فيها الأعمال الصالحة نباتًا حسنًا. وكان زيد من كبار المحدثين، فقد روى عن أبيه زين العابدين، وأخيه محمد الباقر، وعن عروة بن الزبير، وعبد الله بن رافع، وغيرهم من أجلة التابعين. وهو معدود في مرتبة المحدثين الصادقين فيما يروون، وقد روى عنه جماعة من أئمة الحديث، مثل: الزهري، وشعبة، والأعمش، وابن أبي الزناد. وكان زيد فقيهاً مجتهداً، ولقيه الإمام أبو حنيفة، وأخذ عنه، وأثنى عليه. وكان زيد يقول الشعر، ومن شعره الأبيات التي أرسلها إلى هشام بن عبد الملك بعد ذلك المجلس الذي قال له فيه: أتترصد للخلافة، وأنت ابن أمة؟! وهي: مهلاً بني عمنا عن نحت أثلتنا ... سيروا رويداً كما كنتم تسيرونا لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا فالله يعلم أنا لا نحبكم ... ولا نلومكم ألا تحبونا وكان زيد - مع رسوخه في علوم الشريعة - تسمو به همته إلى تولي الخلافة؛ إذ كان ينكر على هشام سوء سياسته، ويراها شراً من سياسة يزيد، ويروى أنه - أي: زيداً - دخل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم حار، فرأى سعد

ابن إبراهيم في جماعة من القرشيين، فحادثهم في سياسة هشام، حتى قال لهم: "وأنا أشهد أن يزيد ليس شراً من هشام، فما لكم! "، ولما انصرف، قال سعد لأصحابه: مدة حياة هذا قصيرة. وشعر هشام من زيد هذا الطموح، مضافاً إلى عبقرية زيد، واستجماعه لخصال الفضل، وكان زيد بالكوفة، فأرسل هشام إلى عامله على الكوفة، وهو يوسف بن عمر النقعي، يأمره بن يوجه زيداً إلى الحجاز، فغادر زيد الكوفة إلى الحجاز، ولما بلغ "العزيب" لحقته الشيعة، وأخبروه أن الناس مجمعة عليه، ولم يزالوا يلحفون عليه حتى رجع، وأقام بالكوفة سنة يبايعه الناس على الخلافة خفية، وبايعه جماعة من أعلام الفقهاء، مثل: منصور بن المغنمي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وابن شبرمة، وغيرهم، ويقال: إن أبا حنيفة - رضي الله عنه - أرسل إليه ثلاثين ألف درهم، وحث الناس على مناصرته. وظهر زيد معلناً أمره في محرم سنة إحدى أو اثنتين وعشرين ومئة، ونشبت الحرب بينه وبين يوسف بن عمر عامل هشام على الكوفة، ولم تدم الحرب أكثر من ثلاثة أيام، وأدرك الفشل أتباع زيد، فتفرقوا عنه، وكانت العاقبة أن أصاب زيداً سهم في جبهته، فحمله أصحابه، ومات من هذه الإصابة كريماً شهيداً - تغمده الله برحمته -، وكان يتمثل يوم قتل بقول القائل: أذل الحياة وعز الممات ... وكلاً أراه طعاماً وبيلا فإن كان لا بد من واحد ... فسيروا إلى الموت سيراً جميلا وصُلب زيد بعد موته حيناً، وإليه يشير أبو الحسن محمد بن عمران الأنباري بقوله من القصيدة التي رثى بها الوزير ابن بقية، وقد صلب هذا

الوزير أيضاً بعد قتله: ركبت مطية من قبل زيد ... علاها في السنين الماضيات وتلك فضيلة فيها تأس ... تباعد عنك تعيير العدات ولم أرقبل جذعك قط جذعاً ... تمكن من عناق المكرمات * احترام زيد للشيخين أبي بكر وعمر: لما أخذ الناس يبايعون زيداً بالخلافة، جاءته طائفة يطلبون منه أن يتبرأ من أبي بكر وعمر، فقال: لا، بل أتبرأ ممن تبرأ منهما، فقالوا: إذاً نرفضك، فسموا: رافضة، وسميت شيعته: زيدية. فزيد بن علي هو الذي ينيسب إليه من فرق الشيعة فرقة الزيدية، ومذهبهم قائم على صحة إمامة الشيخين أبي بكر وعمر، واحترامهما، ولكنهم يقولون: إن علي بن أبي طالب أفضل منهما، وأحق بالخلافة، وزعيم الزيدية اليوم هو الإمام يحيى ملك اليمن. ونحن نوافق الزيدية في الاعتقاد بفضل زيد وعلمه وجلالة قدره، ولكننا نعتقد أن أبا بكر وعمر قد توليا الخلافة بحق، كما أن الإمام علي بن أبي طالب قد تولاها بعد عثمان بحق. * مقارنة بين الاخوان: كان كل من حفيدي الحسين عظيماً في علمه، عظيماً في خلقه، عظيماً في تقواه، ولكن محمداً كان يميل إلى السلم، ويصبر نفسه على السكون في ظروف يرى فيها بعض ما يكره، وقد ذكروا في سيرته: أنه كان يعرض عن الجدل والخصومات، فمعظم فضله في الانقطاع للعلم، والتزود من الأعمال الصالحة، أما زيد، فكان - مع علمه وتقواه - يخاطر بنفسه، ويأخذ

بالصراحة في أقواله، ولا يتباطأ عن مناهضة من يراهم على فساد، وقد رأيتم كيف كان يخاطب هشام بن عبد الملك بالكلمات اللاذعة، وكيف كان يطمح إلى أن يكون له سلطان يبتغيه وسيلة إلى إصلاح حال الأمة، وإعادة ما ضاع على أيدي بعض أمراء بني أمية من العدل. فنحن لا نلوم الباقر على عدم تعرضه لأمر السياسة، فقد يكون الباقر قد عرف أنه لا يصل بمناهضتها إلى عاقبة راضية، ولا ننكر على زيد مخاطرته في سبيل الإصلاح إذا أخذ بالعزيمة، وإذا قال بعض الناس: ليس المخاطر بمحمود وإن سلم، وجد من يقول له: ليس المخاطر في سبيل الإصلاح بمذموم وإن لم يسلم.

نظرة في حياة عمر بن عبد العزيز

نظرةٌ في حياة عمر بن عبد العزيز (¬1) إن من الأسباب التي جعلت كثيراً من شبابنا يسرفون في إكبار رجال أوربا، ولا يرفعون رؤوسهم فخراً بعظماء الشرق: أنهم لم يدرسوا تاريخ عظمائنا بعناية وروية وإنصاف. وذلك ما دعا رجال جمعية الهداية الإسلامية إلى أن توجه همتها إلى إلقاء محاضرات في إحياء ذكر رجال نبغوا في العلم، أو برعوا في السياسة، أو كانوا مُثلاً كاملة في الأخلاق والآداب. ومن الرجال الذين لا يسمح بهم الدهر إلا قليلاً: عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، ومحاضرتنا الليلة في مقتبسات من سيرته الغراء. * تمهيد: التحق الرسول الأعظم - صلوات الله عليه - بالرفيق الأعلى وقد بلّغ للناس شريعة سمحة، وأقام للدولة الإسلامية أساساً محكماً، فقام بالأمر بعده الخلفاء الراشدون، فساروا على أثره في الزهد، والعدل في السياسة، وإيثار الحق على الخلق، صاعلاء كلمة الله بكل ما لديهم من قوة، ثم ولي ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام في دار جمعية "الهداية الإسلامية"، ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد السابع.

بعدهم رجال فقدت معهم الخلافة شيئاً مما كانت تعهده في أولئك الخلفاء الراشدين من الزهد في الدنيا، والاستقامة على ما أمر الله في كل حال، وشعر الناس بفرق جليّ بين عهد الخلافة الرشيدة، والخلافة التي أخذت بعض أساليب الملك المكروهة، وما زالت هذه الأساليب الخاطئة تتزايد حتى كادت تذهب بمعظم ما أرشد إليه الإسلام من عدل وحرية ومساواة. وربما وقع في بعض الأوهام أن القسوة وأبهة الملك اللتين ظهر بهما بعض الخلفاء، أو بعض وزرائهم، أو عمالهم أمر يقتضيه حال الناس، وما طرأ على أخلاقهم من فساد، ويسوقون على هذا أنه قيل للحجاج: لم لا تكون كعمر بن الخطاب؟ فقال: تبذَّروا، أتعمّرْ لكم؛ "أي: كونوا كأبي ذر الغفاري، كن لكم كعمر بن الخطاب". وقد أظهر الله في خلال ذلك العهد - الذي صارت فيه الخلافة إلى ملك عضوض - فتى دل بسيرته الماجدة الفاخرة على أن في استطاعة كل أمير نير البصيرة، طيب السريرة أن يقيم الشريعة، ويبسط ظلال العدل، ويرفع راية العلم، ويعمر السبل بالأمن، ويجعل الناس في نعيم من العيش، وإن وجد الأهواء في تشعب، والقلوب في تفرق، والأخلاق في فساد، وذلك الفتى هو عمر بن عبد العزيز. * نسب عمر بن عبد العزيز: هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وفي عبد مناف يلتقي نسبه بنسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجدُّه مروان بن الحكم هو الذي جلس على عرش الخلافة بعد وفاة معاوية بن يزيد ابن معاوية سنة 64، وتوفي سنة 65 بعد أن عهد بالخلافة إلى ابنه عبد الملك.

ووالد عمر، وهو عبد العزلز بن مروان، كان مروان قد استعمله على مصر سنة 65، وبقي في ولايتها إلى أن توفي سنة 85. وأما أمه، فهي أم عاصم ينت عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. * نشأته: ولد عمر بن عبد العزيز سنة 61 هجرية بالمدينة المنورة (¬1)، وشبَّ في نعيم ورفاهية من العيش، فقد كان أبوه عبد العزيز أميراً على مصر، وعمه عبد الملك تخفق راية خلافته في الشرق والغرب. حفظ القرآن الكريم، وتلقى علوم الدين من أفاضل الصحابة، مثل: عبادة بن الصامت، وعم أمه عبد الله بن عمر، ثم عن أفاضل التابعين؛ مثل: سعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وروى عن عبيد الله هذا أكثر مما روى عن غيره من أهل العلم، ومن شعر عبيد الله يخاطب عمر ابن عبد العزيز: أينْ لي، فكن مثلي أو ابتغ صاحباً ... كمثلك إني مبتغ صاحباً مثلي عزيرٌ إخائي، لاينال مودتي ... من القوم إلا مسلم كامل العقل وما يلبث الإخوان أن يتفوقوا ... إذا لم يؤلف زوج شكل إلى شكل وضم إلى علوم الدين علوم اللغة العربية وآدابها، قال - رضي الله عنه -: لقد رأيتني وأنا بالمدينة غلام مع الغلمان، ثم تاقت نفسي إلى العلم، إلى العربية، فالشعر، فأصبت منه حاجتي. وكان لاتصاله بخاله (أي: عم أمه) عبد الله بن عمر أثر في استقامته، ¬

_ (¬1) وقيل: ولد بمصر، وسترى أن والده إنما تولى إمارة مصر سنة 65.

فقد كان يأتي والدته أم عاصم، ويقول لها: يا أمّة! أنا أحب أن أكون مثل خالي، يريد: عبد الله بن عمر، فتقول له على وجه الاستبعاد: أنت تكون مثل خالك؟! ولما تولى أبوه عبد العزيز إمارة مصر، كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه بولدها عمر، فاستأذنت عمها عبد الله بن عمر في الخروج إلى مصر، فقال لها: يا بنية أخي! هو زوجك، فالحقي به، ولما أزمعت السفر، قال لها: اتركي هذا الغلام (يعني: عمر بن عبد العزيز) عندنا؛ فإنه أشبهكم بنا، فامتثلت أمره، وأبقته عنده، وحين وصلت إلى مصر، سألها عبد العزيز عن ابنه عمر، فأخبرته بأنها خلفته بالمدينة إجابة لرغبة خاله عبد الله بن عمر، فسر عبد العزيز بما فعلت، وكتب بذلك إلى أخيه عبد الملك، فأمر عبد الملك بأن يجري لعمر بالمدينة ألف دينار في كل شهر. طلب عمر - رضي الله عنه - العلم حتى بلغ رتبة الاجتهاد، قال ميمون بن مهران: ما كانت العلماء عند عمر إلا تلامذة. * ولايته إمارة المدينة المنورة: تولى عمر - رضي الله عنه - إمارة المدينة في عهد الوليد بن عبد الملك سنة 87، فسار في ولايته بعدل ويقظة، ومن الطرق التي استعان بها على سياسته الرشيدة: أنه دعا عشرة من أفاضل علماء المدينة، وقال لهم: دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، إن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظُلامة، فأحرج بالله على أحد بلغه ذلك إلا أبلغني، فدعوا له، وافترقوا. يدعو عمر بن عبد العزيز العلماء أن يكونوا أنصاره على الحق، وأن

يدلوه على الظالمين من عماله، وهذا من شواهد نصحه فيما تولاه من الإمارة، وكذلك يكون حال من يتقلد الولاية ليعمل صالحًا، أما من يتقلدها للمباهاة، واتباع الشهوات، وطول الباع في اضطهاد الضعفاء، فلا يرتاح له بال إلا أن يضع على أفواه دعاة الإصلاح كمائم، أو ينفيهم من الأرض. * ولايته الخلافة: تولى الخلافة بعهد من سليمان بن عبد الملك، ومبايعة الناس له عند وفاة سليمان سنة 99، وكان يقول للرجل: بايعني بلا عهد ولا ميثاق، تطيعني ما أطعت الله، فإن عصيت الله، فلا طاعة لي عليك، فيبايعه على ذلك. * تخليه عن أبهة الملك: لما ولي الخلافة، قام الناس بين يديه، فنهاهم عن ذلك، وقال: يا معشر الناس! إن تقوموا نقم، وإن نقعدوا تقعد، فإنما يقوم الناس لرب العالمين. وأذن للمظلومين أن يدخلوا عليه بغير إذن، وقال: ألا إنه لا إذن على مظلوم دوني، وأنا معول كل مظلوم. ولما فرغ من دفن سليمان بن عبد الفلك، قدّموا إليه مراكب الخلافة: اليراذين، والخيل، والبغال، فقال: ما هذا؟ قالوا: مراكب الخلافة. فقال: دابتي أوفقُ لي، فركب بغلته، فجاء صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال: تنحَّ عني، مالي ولك! إنما أنا رجل من المسلمين. * عدم حرصه على الخلافة: كان عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك حين توفي سليمان غائباً، وحين علم بوفاته، أخذ البيعة لنفسه، وبلغه بعد ذلك مبايعة الناس لعمر بن عبد العزيز بعهد سليمان، فقدم دمشق، واعتذر لعمر بأنه لم يبلغه أن الخليفة

عهد إلى أحد، فقال له عمر: "والله! لو بويعتَ بالأمر ما نازعتك". وعدم الحرص على الولاية يعين الرجل على السير فيها باستقامة دون أن يخشى سخط شخص أو رهط من الناس، وإن بلغوا منتهى الوجاهة، أو عرفوا من وسائل الكيد ما لم يعرفه أحد من قبل. * عدم اكتراثه بمديح الشعراء: لما تولى الخلافة، حضر الشعراء ببابه؛ ظناً منهم أنه من أولئك الذي تأخذهم النشوة إذا مُدحوا، فيعطوا المادحين من بيت مال المسلمين بغير حساب، فمكثوا أشهراً لا يأذن لأحد منهم بالدخول، ثم أذن لجرير، فأنشد بين يديه قصيدته التي يقول فيها: زرت الخليفة من أرض على قدر ... كما أتى ربه موسى على قدر إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر فقال له عمر: لا أرى لك في شيء من بيت مال المسلمين حقاً، فقال جرير: لقد فرض الله لي فيه حقاً، قال: ويحك! ما حقك؟ قال: ابن سبيل أتاك من شقة بعيدة، فدعا بعشرين ديناراً فضلت من عطائه، فقال: هذه فضلت من عطائي، ولو فضل أكثر من هذا، لأعطيتك، فخذها، فإن شئت فاحمد، وإن شئت فذم، فخرج جرير وهو يقول: رأيت رقى الشيطان لا تستفزُّهُ ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا كان - رحمه الله - عامر القلب بالتقوى، واثقاً من أنه سيسير في طريق العدل ما استطاع، ومن كان هذا شأنه، لم يقم للشعراء وأمثالهم وزناً يبلغ به أن يجازيهم عن المديح، أو يتقي هجاءهم بشيء من أموال المسلمين. وكان يرق للشاعر، ويعطيه متى علم أنه في حاجة وبؤس، دخل عليه نُصَيب

الشاعر، وقال له: يا أمير المؤمنين! كبرت سني، ودق عظمي، وبليت ببنيّات نفضتُ عليهن من لوني، فكسدن عليّ، فرقّ له، ووصله بعطاء. * مبادرته برد المظالم: ما يفعله رجال الحكومات قد يكون على وجه الاجتهاد للمصلحة؛ كالأحكام التي يصدرها القضاة في القضايا الشخصية، فهذه لا يصح لمن أتى بعدهم أن ينقضها، ولو ظهر له أنهم كانوا مخطئين في اجتهادهم، إلا أن يجيء الحكم مخالفاً لصريح الكتاب أو السنة أو القواعد القطعية، فإنه ينقض في كل حال. أما ما يفعلونه استبداداً وعدواناً، فهذا ما يجب على من أتى بعدهم أن ينظر في شأنه، ويرده عليهم بكل قوة، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز، فإنه بعد أن دفن سليمان بن عبد الملك، ذهب يطلب مقيلًا ليستريح من تعب السهر قليلاً، فقال له ابنه عبد الملك: أتقيل ولا ترد المظالم؟ فقال: أي بني! سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر، رددت المظالم، فقال له ابنه: من لك أن تعيش إلى الظهر؟! فخرج ولم يَقِل، وأمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة، فليرفعها. ثم كتب إلى عماله يأمرهم برد المظالم إلى أصحابها من غير تباطؤ في ردّها، أو يراجعه في شأنها. * إجراؤه لقاعدة المساواة: كان الخلفاء قبله يؤثرون بني أمية بكثرة العطاء، ولما تولى عمر، سوّاهم في العطاء بغيرهم، فبعثوا إليه رجلاً ليكلمه في شأنهم، فدخل عليه، وخاطبه في ذلك، فأجابه عمر بجواب دله فيه على أن بني أمية وسائر المسلمين في

نظره سواء، فخرج الرجل إليهم، وقال: يا معشر بني أمية! عمدتم إلى صاحبكم (يعني: عبد العزيز بن مروان)، فزوجتموه بنت ابن عمر (يعني: عاصماً)، فجاءتكم بعمر بن الخطاب ملفوفاً في ثيابه، فلا تلوموا إلا أنفسكم. ويدلكم على رسوخه في فهم ما جاء به الإسلام من المساواة: أن رجلاً دخل على سليمان بن عبد الملك، وشتمه في مجلسه، وكان عمر بن عبد العزيز في المجلس، فقال سليمان لعمر: ماذا ترى عليه يا أبا حفص؟ فقال: أرى عليه أن تشتمه كما شتمك، وتشتم أباه كما شتم أباك. * عدم قبوله للهدية بعد الولاية: لما كان بعض الولاة يتناولون الرشوة باسم الهدية، صرح هذا الخليفة بأن الهدية للوالي رشوة لا محالة؛ حتى يطهر دولته من نجاسة الارتشاء، ويقطع أسبابها. ورد في سيرته: أنه اشتهى مرة تفاحاً، فقال: لو كان لنا شيء من التفاح؛ فإنه طيب الريح، طيب الطعم، فقام رجل من أقاربه، فأهدى إليه تفاحًا، فرده عليه، فقيل له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل الهدية؛ فقال: إن الهدية كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - هدية، وهي لنا رشوة. وإنما كانت الهدية للنبي - صلى الله عليه وسلم - هدية؛ لأنه معصوم من الجور، فلا يعقل أن يكون لها أثر في تصرفاته العامة، أو فيما يفصل فيه من الأحكام. * عدم توليته لمن كان عاملاً لظالم غشوم: لا يخلو من تولى عملاً لظالم غشوم أن يجري على يده شيء قليل أو كثير من الظلم، ومن اعتاد على الظلم، لا يصلح للعمل في دولة العدل،

ولذلك كان عمر - رضي الله عنه - لا يستعمل من كان عاملاً لنحو الحجاج، استعمل مرة عاملاً، فبلغه أنه عمل للحجاج، فعزله، فأتاه يعتذر إليه، وقال: لم أعمل للحجاج إلا قليلاً، فقال له: حسبك من صحبة شر يوم أو بعض يوم. * عنايته بنشر العلم: بصر عمر بمكان علوم الدين من إصلاح الأخلاق، وتطهير السرائر، وتنظيم الاجتماع، بل بصر بمكانها من الفلاح في الدنيا، والسعادة في الأخرى، فعني بنشرها بين أهل الحضر والبدو، فإنا نقرأ في سيرته: أنه أرسل عشرة من فضلاء التابعين؛ ليعلموا البربر بالمغرب القرآن، ويفقهوهم في أمور الدين. ونقرأ في تاريخه: أنه بعث يزيد بن أبي مالك، والحارث بن محمد إلى البادية؛ ليعلما الناس السنّة، وأجرى عليهما رزقًا كافيًا، فقبل يزيد الرزق، ولم يقبل الحارث، وقال: ما كنت لآخذ على علم علمنيه الله أجرًا، فبلغ ذلك عمر، فقال: ما نعلم بما صنع يزيد بأسًا، وأكثر اللهُ فينا من أمثال الحارث. وفي كتاب له إلى أمراء الجند: "ومُرْ أهل العلم والفقه من جندك، فلينشروا ما علمهم الله من ذلك، وليتحدثوا به في مساجدهم". وفي كتاب له إلى والي حمص: انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه، وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا، فأعط كل رجل منهم مئة دينار، يستعينون بها على ما هم عليه من بيت المسلمين، حين يأتيك كتابي هذا، وإن خير الخير أعجله. والسلام. وكذلك يجب على كل حكومة إسلامية أن تعنى بعلوم الدين، وتعطيها

حقها من التعليم، والآباء الذين يستطيعون الوسيلة إلى أن يكون أبناؤهم على تربية دينية صادقة، ولم يفعلوا، إنما يحاربون الله في أرضه، ويكثرون سواد الأرصل الخبيثة، والزائغون عن الحق أشد ضرراً من ذوات السموم القاتلة؛ ذلك لأنهم يفسدون القلوب، وذوات السموم تفسد الأجسام، وفساد القلوب أسوأ عاقبة من فساد الأجسام. * عدله في الرعية: الأمير العادل هو الذي يستوي في نظره القوي والضعيف، والقريب والبعيد، ولا يستقيم أمر أمة حتى يكون القابض على زمامه فعّالاً لما يراه الحق، ولا يكون لأولي القربى أثر في نفسه إلا أن يهيئ لهم عزماً صارماً يكف بأسهم، ويعلمهم كيف يحترمون حقوق غيرهم، وكذلك كان عمر ابن عبد العزيز. وكان - رضي الله عنه - كثيراً ما يركب، فيلقى الركبان، ويسألهم عن أخبار ما وراءهم من البلاد، خرج يوماً هو ومولاه مزاحم، فلقيهما راكب من أهل المدينة، وسألاه عن حال الناس بها، فقال: "إني تركت المدينة والظالم بها مقهور، والمظلوم بها منصور، والغني موفور، والعائل مجبور"، فسر عمر بذلك، وقال: "والله! لأن تكون البلدان كلها على هذه الصفة أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس". بسط ظلال العدل، وأصبح الناس في كثير من النواحي على حال يسر، حتى لا يوجد من بينهم من يقبل الصدقة، قال يحيى بن سعيد: بعثني عمر ابن عبد العزيز على صدقات إفريقية، وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد بها فقيراً، ولم نجد من يأخذها مني، وقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس،

فاشتريت بها رقاباً، فأعتقتهم، وولاؤهم للمسملمين. * احترامه للعلماء المستقيمين: لو فكرت في حال الولاة الذين يسمتخفون بمقامات أهل العلم، لرأيتهم بين ثلاثة رجال: رجل جاهل، والجاهل لا يعوف فضل العلم حتى يجل أهل العلم. ورجل صغير النفس، عظيم في عينه المنصب، وأخذه التعاظم بالإثم؛ فتخيل أنه سيد من في الأرض، وأن مقامه أرفع من كل مقام. ورجل قصير النظر، يحسب أن إجلاله لأحد من مرؤوسيه - وإن كان عزير العلم، رفيع القدر - يذهب بجانب من مهابته. وكان عمر بن عبد العزيز غزير العلم، كبير الهمة، بعيد النظر، فلا جرم أن يقدر العلماء المستقيمين قدرهم، ويعينهم على الاحتفاظ؛ بكرامتهم حتى يكون لتعليمهم وإرشادهم ثمر رطب، ولا تحيا أمة أو ترقى في سماء المجد إلا أن يكون فيها علماء مخلصون محترمون. أرسل عمر بن عبد العزيز أيام ولايته على المدينة إلى سعيد بن المسيب رسولًا يسأله عن مسألة، وكان سعيد لا يأتي أميراً ولا خليفة، فاخطأ الرسول، فقال له: الأمير يدعوك، فقام سعيد بن المسيب طاعة لولي الأمر، فلما دخل على عمر، قال له عمر: عزمت عليك يا أبا محمد إلا رجعت إلى مجلسك حتى يسألك رسولنا عن حاجتنا، فإنا لم نرسله يدعوك، وإنما أرسلناه يسألك، فأخطأ. * قبوله للوعظ والنصيحة: نجد في كتب الأدب والتاريخ مواعظ كثيرة، وخطباً تشتمل على نصائح

ألقيت بين يديه، فتلقاها بارتياح وقبول، بل كان - رضي الله عنه - يدعو أهل العلم والصلاح إلى وعظه وإرشاده إلى ما فيه خير، وتحذيره مما لا خير فيه، ويكفي شاهداً لهذا: أنه قال لمزاحم مولاه: يا مزاحم! إن الولاة جعلوا العيون على العوام، وأنا أجعلك عيناً على نفسي، فإن سمعت مني كلمة تربأ بي عنها، أو فعالاً لا تحبه، فعظني عنده، وانهني عنه. * امتلاؤه بخشية الله وتقواه: عدل لا يشوبه حيف، وحزم لا تحوم عليه غفلة، خصلتان لا يجتمعان لولي الأمر إلا أن يكون قلبه عامرًا بخشية الله وإجلاله، ذلك أن التقوى تنير سبيل العدل، ومن لم يجعل الله له هذا النور، لا يلبث أن تخرج به الأهواء إلى ظلمات الجور، والتقوى تجعل ولي الأمر في يقظة، فلا يدعو الحال إلى مصلحة إلا أقامها، ولا ظهرت مفسدة إلا اقتلعها، وقطع أسبابها، وما تيسر لعمر بن عبد العزيز أن يسير في سياسة الأمة تلك السيرة القيمة إلا لأنه يخاف مقام ربه، ويذكر في كل حال أنه سيسأل عن كل ما قدمت يداه، قالت فاطمة بنت عبد الملك زوجته: "والله! ما رأيت أخوفَ لله من عمر، لقد كان يذكر الله في فراشه، فينتفض انتفاض العصفور من شدة الخوف، حتى نقول: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم". وكثيراً ما كان يخطب، فتنهال عبراته، فيتلقاها بطرف ردائه. * شرط الصحبة عنده: في الرؤساء من لا يرضى عن جليسه إلا أن يتزلف له بمدح مبالَغ فيه، أو ينحدر مع أهوائه أينما انحدرت. أما الرئيس العادل، فأحبُّ جلسائه إليه من يدله على مواطن الإصلاح، ويعينه على عمل الخير، أرشدنا إلى هذا

عمر بن عبد العزيز إذ قال لجلسائه: "من صحبني منكم، فليصحبني على خصال: يدلني من العدل إلى ما لا أهتدي له، ويكون لي على الخير عونأ، ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحداً، ويؤدي الأمانة التي حملها مني ومن الناس، فإذا كان كذلك، فحيّهل به، صالا، فهو خارج من صحبتي، والدخول عليّ". * حزمه: الوقت نفيس، ومن لا يقدر قيمته، فقد يصرف جانباً منه في لهو، أو عمل لا يأتي بثمرة. والرجل الحازم من يحرص على أن لا يذهب شيء من وقته في غير جدوى، ويحرص على أن يقوم بكل عمل في وقته اللائق به، وتأخير بعض الأعمال عن وقتها إيثارًا للراحة، يوقعك في عناء؛ حيث يكون لكل وقت من أوقاتك الآتية عمل يختص به، ولا يسمع ذلك الوقت غيره. ومن حزم عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: أنه كان لا يؤخر عمل يومه إلى غده. قال له بعض إخوانه: يا أمير المؤمنين! لو ركبت فتروحت، قال: فمن يجزي عني عمل هذا اليوم؟ قالوا: تجزيه من الغد، قال: قد فَدَحني (شق عليَّ) عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع عليَّ عمل يومين؟!. * تمسكه بالسنَّة، وكراهته للبدعة: كان - رضي الله عنه - يتحرى السنّة، ويعمل لإحيائها، ويكره البدعة، ويعمل لإماتتها، ويدلكم على شهرة اقتدائه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -: أن أنس بن مالك قدم من العراق إلى المدينة يوم كان عمر أميرها، فكانت تعجبه صلاة عمر، وقال: ما صليت خلف إمام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبهَ صلاةً بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من

إمامكم هذا. ومن شواهد حرصه على إقامة السنن، وقتل البدع: قوله: "لو كان كل بدعة يميتها الله على يدي، وكل سنّة ينعشها الله على يدي، ببضعة من لحمي، حتى يأتي ذلك على آخر نفسي، كان في الله يسيراً". وقال في خطبة خطبها على المنبر يوم الجمعة: "لولا أن أنعش سنَّة، أو أعمل بحق، ما أحببت أن أعيش فُواقًا (¬1) ". * إنكاره الثشاؤم: معروف أن الإسلام أبطل فيما أبطل من مزاعم العرب التشاؤم بنحو النجوم والطيور وغير ذلك، غير أن النفوس الضعيفة لا تئبت أمام خواطر السوء، وإنما يثبت أمامها، بل يسلم من خطراتها من كان إيمانه بأنه كفلق الصبح، وثقته به مالئة قلبه من أسفله إلى أعلاه، ومن هؤلاء المتوكلين على الله في كل ما يفعلون أو يقولون: عمر بن عبد العزيز، خرج عمر في بعض أسفاره من المدينة ومعه مولاه مزاحم، فنظر مزاحم، فإذا القمر في الدبران، قال: فكرهت أن أقول ذلك له، فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة! فنظر عمر إلى القمر، وقال له: كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران! يا مزاحم! إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر، ولكنا نخرج بالله الواحد القهار. * زهده: إن سيرة نقية من كل مغمز كسيرة عمر بن عبد العزيز لا تنتظم إلا لمن ¬

_ (¬1) الفُواق - بالضم -: ما بين الحلبتين من الوقت.

يؤثر الحياة الباقية على الحياة الدنيا، ولم يترك حب العمل الصالح لحب الزينة والملاذ في نفسه موضعاً، يكفي شاهداً على زهده في حطام الدنيا: أنه لم يخلف يوم مات سوى سبعة عشر ديناراً، كفّن منها بخمسة دنانير، واشتري له موضع ليقبر فيه بدينارين، وقسم الباقي على ورثته. وقال له مَسلمة بن عبد الملك عند مرض الموت: قد تركت ولدك عيلة لا شيء لهم، فقال: والله! ما منعتهم حقاً هو لهم، ولم أعطهم ما ليس لهم، ثم قال: بَنيَّ أحد رجلين: إما رجل يتقي الله؛ فسيجعل الله له مخرجًا، وإما رجل مكبّ على المعاصي، فإني لم كن أقويه على معصية الله. ولم يكن - رضي الله عنه - ممن يضع الطعام على مائدته ألواناً، دخل غلام له على مولاته فاطمة بنت عبد الملك، فغدَّته عدساً، فقال الغلام: كل يوم عدس! قالت: يابني! هذا طعام مولاك أمير المؤمنين: وما هي إلا جوعة قد سددتها ... فكل طعام بين جنبيَّ واحد وقومت ثيابه وهو خليفة باثني عشر درهماً، وكانت حلته قبل ذلك بألف درهم. * إيثاره الاجتماع بأهل الفضل على العزلة: قال ميمون بن مهران: وكنت في سمر عمر بن عبد العزيز ذات ليلة، فقلت له: يا أمير المؤمنين! ما بقاؤك على ما أرى؟! أنت بالنهار مشغول في حوائج الناس، وبالليل أنت معنا ها هنا، ثم الله أعلم بما تخلو به. فقال: إليك عني يا ميمون؛ فإني وجدت لقاء الرجال تلقيحًا لألبابهم. * بعد نظره في السياسة: يجمع عمر - رضي الله عنه - إلى الخلق العظيم استقامةً، وإلى الاستقامة حكمة،

وحسنَ نظر في السياسة، قال له ابنه عبد الملك يوماً: ما الذي يمنعك أن تمضي الذي تريده؟ فو الذي نفسي بيده! ما أبالي أن لو غَلَت بي وبك القدور في الحق، فقال: يا بني! إني لو باهت الناس بما تقول، لم آمن أن ينكروها، فإذا أنكروها، لم أجد بدًا من السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف. يا بني! إني أروض الناس رياضة الصعبة، فإن بطأ بي عمر، أرجو أن ينفذ الله مشيئتي، وإن تعدُ عليَّ منيتي، فقد علم الله الذي أريده. * وفاته - رحمه الله -: توفي عمر بدير سمعان من أرض المعرة سنة 101 وله أربعون سنة، وكانت خلافته سنتين وستة أشهر وأياماً، كخلافة أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -. وقال الحسن البصري لما جاءه نعيه: مات خير الناس. أيها السادة! هذه محادثة أخذنا فيها بطرف من سيرة رجل من أعاظم رجال الإسلام، عسى أن تكون موضع قدوة لكل من تولى أمراً من أمور المسلمين، وأراد أن يكون له لسان صدق في الآخرين، والسلام عليكم ورحمة الله.

نظرة في حياة الإمام مالك بن أنس

نظرةٌ في حياة الإمام مالك بن أنس (¬1) أكمل الله الدين بما أودع في الكتاب والسنّة من أصول وأحكام، وفتح للراسخين في العلم باب الاجتهاد؛ لينتزعوا أحكام الوقائع من أصولها، ويقيسوا الأمور بأشباهها، فانتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى وفي أصحابه - رضي الله عنهم - رجال درسوا الشريعة، ووقفوا على أسرارها، وعرفوا مقاصدها في الإصلاح؛ كالخلفاء الراشدين، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم مما لا يسع ذكرهم هذا المقام. حفظ هؤلاء الأعلام الشريعة من جهة الرواية، فبلَّغوها كما سمعوها، ونصحوا لها من جهة الدراية، فكانوا يتحرّون الحق إذا اجتهدوا، وكان مجلس كل واحد منهم كمدرسة يتلقى فيها الناس القرآن والحديث، ويتعلمون كيف يفصلون للحوادث أحكامًا، ويضعون للسياسة نظمًا، وينقضي عهد الصحابة حتى عمرت بلاد الإسلام برجال رفعوا لواء العلم، وكانوا المثل الكاملة للاستقامة، والألسنة الصادقة لبيان الحقائق، والعقول الراجحة لتدبير وسائل السعادة؛ كالقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وأبي ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام بدار جمعية "الهداية الإسلامية" في 11 صفر 1353. ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثامن من المجلد السادس.

بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وسليمان بن يسار، وعبيدالله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد، وعطاء بن أبي رياح، والحسن البصري، وشريح بن الحارث القاضي، وعمر بن عبد العزيز. وفي هذا العصر الزاهر، وفي البلدة الطافحة بعلوم الشريعة أصولاً وفروعاً، وهي المدينة المنورة، ولد مالك بن أنس الذي صار إمام دار الهجرة من بعد. * نسب مالك: يتصل نسبه بذي أصبح أحد ملوك اليمن، فهو مالك بن أنس بن مالك ابن أبي عامر بن غَيمان بن خُثَيل بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح. ومالكٌ جدُّ مالك من كبار التابعين، يروي عن عمر، وطلحة، وعائشة، وأبي هريرة - رضي الله عنهم -، وهو أحد الأربعة الذين حملوا عثمان - رضي الله عنه - ليلاً إلى قبره، وأنس - الذي هو أبو مالك - يروي عن أبيه مالك بن أبي عامر، فهو من أهل الرواية والحديث. * مولد مالك ونشأته: ولد مالك في ربيع الأول سنة ثلاث أو أربع وتسعين من الهجرة، ونشأ بين أبوين صالحين، أما أبوه، فقد عرفتم أنه كان من أهل الحديث، وأما أمه، فيدل على صلاحها: أنه لما بلغ سن التعليم، عمّمته، وقالت له: اذهب فاكتب (تعني: الحديث)، وكانت تقول له: اذهب إلى ربيعة، فتعلم من أدبه قبل علمه، ويدل على عناية والده أنس بالقيام على حسن ترييته وتعليمه: ما حكاه مالك نفسه، فقال: كان لي أخ في سن أبي شهاب، فألقى أبي يوماً علينا مسألة، فأصاب أخي، وأخطأت، فقال لي: ألهتك الحَمام عن طلب

العلم، فغضبت، وانقطعت إلى أبي هرمز سبع سنين لم أخلطه بغيره. وكان مالك شديد الحرص في طلب العلم، تتعرف هذا من انقطاعه لابن هرمز ثمان سنين، وقال: كنت أجعل في كمي قمطراً أناوله صبيانه، وأقول لهم: إن سألكم أحد عن الشيخ (يعني: ابن هرمز)، فقولوا: مشغول، وقال: كنت آتي ابن هرمز بكرة، فما أخرج من بيته حتى الليل. * قوة حافظته: مما ساعد الإمام مالكاً على بلوغه الذروة في العلم: قوة حافظته؛ فقد روي عنه: أنه قال: ما استودعت قلبي شيئاً فنسيته، وقال: كنت آتى ابن المسيب، وعر وة، والقاسم، وأبا سلمة، وحميداً، وسالماً (وعدّ جماعة)، فأدور عليهم أسمع من كل واحد من الخمسين حديثاً إلى المئة، ثم أنصرف وقد حفظته كله من غير أن أخلط حديث هذا بحديث هذا. * ذكاؤه وقوة نظره: جمع مالك إلى قوة الحفظ سعةَ نظر، وغوصاً على حكمة التشريع، ويدلكم على حسن تفقهه فيما يحفظ: أنه كان يحمل النصوص على وجوه تطابق المعروف من قصد الشارع في التعبد أو الإصلاخ، ويأخذ في كثير من الفتاوى بقاعدة رعاية المصالح، وقاعدة سد ذرائع الفساد، وقد كان في عصره من يحفظ حفظه للأحاديث والآثار، وإنما ارتفع ذكر مالك في الأقطار، ورحل إليه طلاب العلم من كل ناحية؛ لجودة نظره في الكتاب والسنة، وكثرة ما يفصله من الأحكام المندرجة تحت الأصول، أو الملوح إليها بالعلل المنصوصة أو المعقولة، وذلك ما لا يحسنه إلا قوي النظر، نافذ البصيرة إلى اللباب، قال ابن وهب: لولا أن الله أنقذني بمالك والليث، لضللت، فقيل

له: كيف ذلك؟ فقال: أكثرت من الحديث، فحيرني، فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان: خذ هذا، ودع هذا. * تحرِّيه في رواية الحديث: من رجال الحديث من يأخذ عن الثقات والضعفاء، ومنهم من لا يروي إلا عن الثقات، ومن هذا القبيل: مالك بن أنس، قال ابن عيينة، كان مالك لا يحدث إلا عن ثقات الناس، وذكر مالك مرة حديثاً، فقيل له: من حدثك بهذا؟ فقال: إنا لم نجالس السفهاء، وكان مالك يقول: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه، لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند هذه الأساطين، (وأشار إلى المسجد)، فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال، لكان أميناً، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن. وقال ابن عيينة: ما رأيت أحداً أجودَ أخذاً للعلم من مالك، وما كان أشدَّ انتقاءه للرجال والعلماء!. * صدقه وإتقانه للرواية: بلغ مالك في الصدق والضبط في الرواية أقصى ما يبلغ الرواة، وروايته بشهادة كثير من الأئمة أصح رواية، قال البخاري: أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر. وقال أبو داود: أصح حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يرويه مالك عن نافع عن ابن عمر، ثم ما يرويه مالك عن الزهري عن سالم بن عمر عن أبيه، ثم ما يرويه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وقال ابن مهدي: ما أُقدم على مالك في صحة الحديث أحداً. وقال ابن مهدي أيضاً: ما بقي على وجه الأرض آمن على حديث

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مالك. * غزارة علمه: حدثناك عن قوة حافظته، وثقوب ذهنه، وحرصه في طلب العلم، ومن جمع هذه الثلاث خصال، ولقي كبار العلماء، فسرعان ما يكون علماً شامخًا، وبحرًا زاخرًا، وقد دل ثناء كبار العلماء على مالك أنه كان إماماً في العلم، بالغاً فيه أسنى منزلة. قال سفيان بن عيينة لما بلغته وفاة مالك: ما ترك على الأرض مثله. وكان الأوزاعي يقول عندما يذكر مالكاً: هو عالم المدينة، وعالم العلماء، ومفتي الحرمين. وقال الشافعي: مالك أستاذي، وعنه أخذت العلم، وما من أحد أمنّ عليّ من مالك، وجعلت مالكًا حجة بيني وبين الله، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب، وقال ابن معين: كان مالك من حجيج الله على خلقه، وقال بشر الحافي: إن من زينة الدنيا أن يقول الرجل حدثنا مالك. ولا نمضي من هذا الفصل حتى نذكر لك حديثاً يرويه الثقات، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك أن يضرب الناس- أكباد الإبل في طلب العلم (¬1)، فلا يجدون أعلم (¬2) من عالم المدينة"، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد، والترمذي وحسَّنه، والنسائي، والحاكم في "المستدرك" وصححه. وقد حمل هذا الحديث بعض السلف عن مالك بن أنس. قال سفيان بن عيينة: ترى أن المراد ¬

_ (¬1) في رواية: يلتمسون العلم. (¬2) في رواية: أفقه.

من الحديث مالك بن أنس؛ لأنه عاش حتى لم يبق له نظير بالمدينة، ويؤيده: أن طلاب العلم لم يضربوا أكباد الإبل من مشارق الأرض ومغاريها، ويرحلوا إلى عالم بالمدينة رحلتهم إلى مالك بن أنس. * تعظيمه لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان مالك إذا أراد أن يحدث، توضأ، وجلس على صدر فراشه، وسرَّح لحيته، وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة، ثم حدَّث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحدث به إلا متمكناً على طهارة. وكان يكره أن يحدث على الطريق، أو قائماً، أو مستعجلاً، ويقول: أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن المبارك: كنت عند مالك وهو يحدثنا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلدغته عقرب مرات، ومالك يتغير لونه ويصفر، ولا يقطع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما فرغ من المجلس، وتفرق الناس، قلت: يا أبا عبد الله! لقد رأيت اليوم منك عجبًا، فقال: نعم، إنما صبرت إجلالًا لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومر مالك على ابن أبي حازم وهو يحدِّث، فتعداه، فقيل له، فقال: لم أجد موضعًا أجلس فيه، فكرهت أن آخذ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا قائم. * كراهته للابتداع في الدين: كان مالك يتحرى السنن، ويحث على اتباعها، ويتجنب الباع، ويحذر من ارتكابها، وكان كثيراً ما ينشد: وخير أمور الدين ما كان سنَةً ... وشر الأمور المحدَثات البدائعُ وسئل مرة عن الداء العضال، فقال: الحدث في الدين. ولقد صدق مالك في تسمية البدعة الداء العضال، فقلما تتفشى البدعة

في قوم، ويشفون منها، فإن كان هناك برء منها، فبتلقي النشء قبحها وسوء عاقبتها قبل أن يشبوا عليها، وصرفِهم عنها قبل أن تتلوث فطرهم بأقذارها. * الرواة عن مالك: بلغ مالك في الفقه والحفظ والتفقه في الدين أقصى ما يمكن أن يبلغه راسخ في العلم، واشتهر بالصدق، واتقان الرواية، فكان فيهما العلمَ الشامخ، والقمر الزاهر، فلا جرم أن يقبل عليه طالبو العلم من كل مكان، وأن يروي عنه أقرانه وشيوخه دون أن يجدوا في صدورهم حرجاً من الرواية عمن هو في طبقتهم، أو من كان يتلقى العلم في مجالسهم. قال جعفر الفريابي: لا أعلم أحداً روى عن الأئمة والجِلّة ممن مات قبله بدهر طويل إلا مالكًا، وقد روى عنه من أقرانه: سفيان الثوري، والليث ابن سعد، والأوزاعي، وسفيان بن عيينة، وروى عنه: الإمام أبو حنيفة، وصاحباه: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن. وروى عنه من شيوخه: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وأيوب السختياني، وربيعة بن عبد الرحمن، ونافع بن أبي نعيم القارئ. وكان مالك من أكثر رجال الحديث رواة، وقد أفرد الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي كتاباً في الرواة عن مالك أورد فيه ألف رجل إلا سبعة، وألّف القاضي عياض كتاباً في ذلك، فذكر نحو ألف اسم وثلاث مئة اسم. * كرم أخلاقه وسمو آدابه: كان مالك على خلق كريم، وأدب نبيل، وقد شهد له بذلك أفاضل الرجال من أهل العلم. قال ابن وهب: الذي تعلمت من أدب مالك أفضل من علمه، كان

يحيى بن يحيى بن بكير أقام عند مالك بعد أن فرغ من سماع الحديث عنه، وقال: إنما أقمت مستفيداً لشمائله، فإنها شمائل الصحابة والتابعين. وكان ربيعة إذا جاء مالك يقول: قد جاء العاقل. وقال زياد بن يونس: كان - والله - مالك أعظم الخلق مروءة، وكثرهم سمتاً، ورأيته كثير الصمت، قليل الكلام، متحفظاً للسانه. وقال ابن المبارك: كان مالك أشد الناس مداراة للناس، وترك ما لا يعنيه. وكان مالك يحافظ على فضيلة الإنصاف، ويقول: ليس في الناس أقل من الإنصاف، فأردت المداومة عليه، وكان- على اعتزازه بمقامه العلمي - شديد التواضع. قال له ابن القاسم: ما أعلم أحداً أعلم بأحكام البيوع من أهل مصر، فقال له: وبم ذلك؟ قال: بك، قال مالك: فأنا لا أعرف البيوع، فكيف يعرفونها بي؟!. ويدلكم على رسوخه في الإنصاف والتواضع، دايثار الحق على حب الانفراد بالإمامة: أن أبا جعفر المنصور قال له: إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها (يعني: الموطأ) فننسخ نسخاً، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، لا يتعدوها إلى غيرها، ويدَعوا ما سوى ذلك من هذا العلم. فقال له مالك: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف الناس: أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وإنَّ ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار كل أهل بلد لأنفسهم.

* وعظه للملوك: لم يكن مالك بالذي يهاب الخلفاء هيبة تمنعه من الجهر بنصيحتهم، أو بالذي يحمله الطمع على تملقهم. دخل يوماً على الرشيد، فحثه على مصالح المسلمين، وقال له: لقد بلغني أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان في فضله وقَدَمه ينفخ لهم عام الرمادة النار تحت القدور حتى يخرج الدخان من تحت لحيته، وقد رضي الناس منكم بدون هذا. ولأنه يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجالس الأمراء لم يبال الدخول عليهم، وروي أنه قيل له: إنك تدخل على السلطان، وهم يظلمون ويجورون! فقال: يرحمك الله، فأين يكون الكلام بالحق؟. وناظره الخليفة أبو جعفر المنصور في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورفع صوته؛ فقال له مالك: يا أمير المؤمنين! لا ترفع صوتك في هذا المسجد؛ فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أدب قوماً فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]، ومدح أقواماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3]. * اعتزازه بمقامه العلمي في مجالسهم: كان مالك متواضعاً، ولكنه يقدر مكانته العلمية، ويصون كرامتها، ويحوطها بالعزة من كل جانب. قدم الخليفة المهديُّ المدينة، فاقبل الناس عليه مسلِّمين، فلما أخذوا مجالسهم، جاء مالك، فقالوا: اليوم يجلس مالك آخر الناس، فلما دنا، ونظر ازدحام الناس، وقف، وقال: يا أمير المؤمنين! أين يجلس شيخك مالك؟

فناداه المهدي: عندي يا أبا عبد الله، فتخطى الناس حتى وصل إليه، فرفع المهدي ركبته اليمنى، وأجلسه بجنبه. وإذا كان يقبل عطايا الملوك، فلأنه يستعين بها في سبيل بث العلم، دون أن يكون لها أثر في تملقهم، أو الإغضاء عن أهوائهم. لما حجَّ هارون الرشيد، وقدم المدينة، بعث إلى مالك بكيس فيه خمس مئة دينار، ورحل إلى مكة لقضاء نسكه، ولما عاد إلى المدينة، بعث إلى مالك يطلب منه الانتقال معه إلى بغداد، فقال مالك للرسول: قل له: إن الكيس بخاتمه، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"، وقال له الرشيد: تأتينا حتى نتعلم عليك، ونسمع منك، فقال له: العلم يُؤتى ولا يأتي، قال: نأتي، وتمنع الناس حتى ننصرف، قال: إذا منع العلم من العامة، لم ينفع الله به الخاصة ولا العامة، فذهب الرشيد إلى منزل مالك، وتعلم منه، وسمع عليه، وكان القارئ له معن بن عيسى القزاز. وسئل عيسى بن عمر المدني: أكان مالك يغشى الأمراء؟ قال: لا، إلا أن يبعثوا إليه فيأتيهم. ودخل مرة على هارون الرشيد، وبين يديه شطرنج منصوب، وهو ينظر فيه، فوقف مالك ولم يجلس، وقال: أحق هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، قال: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! فرفع هارون رقعته، وقال: لا ينصب بين يدي بعدُ. وقال: والله! ما دخلت على أحد منهم - يعني: السلطان - إلا أذهب الله هيبته من قلبي حتى أقول له الحق.

روي أنه كان جالساً مع أبي جعفر، فعطس أبو جعفر، فشمته مالك، فلما خرج، أنكر عليه الحاجب ذلك، وتهدده إن عاد لتشميته، فلما كان بعد ذلك، جلس عنده، فعطس أبو جعفر، فنظر مالك إلى الحاجب، ثم قال للمنصور: أي حكم تريد يا أمير المؤمنين، أحكم الله، أم حكم الشيطان؟ قال: لا، بل حكم الله، قال: "يرحمك الله". * محنته: من المعروف في تاريخ مالك بن أنس أنه ضُرب بالسياط (¬1)، واختلف المؤرخون في الخليفة الذي ضرب في عهده، هل هو المنصور، أو هارون الرشيد؟ والمشهور أنه ضرب في عهد المنصور، والضارب له جعفر بن سليمان ابن علي بن عبد الله بن العباس في ولايته الأولى بالمدينة المنورة. أما سبب ضربه، فأكثر الرواة على أنه سعى به إلى جعفر، وقيل له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم بشيء؛ فإنه يأخذ بحديث قيس بن ثابت بن الأحنف في طلاق المُكْرَه أنه لا يجوز، ويضيفون إلى هذا: أنه ذكر لجعفر أنه - أي: الإمام - أفتى عند قيام محمد بن عبد الله بن حسن العلوي بن بيعة أبي جعفر لا تلزم؛ لأنها على الإكراه (¬2). ولما حج المنصور، أراد إرضاء مالك، فأرسل إليه جعفرَ بن سليمان ليقتص منه، فقال مالك: أعوذ بالله، والله! ما ارتفع منها سوط عن جسمي ¬

_ (¬1) ضرب سنة 146 ست وأربعين ومئة. وقال ابن الجوزي في "شذور العقود" في حوادث سنة 147: وفيها ضرب مالك. (¬2) وخالف هؤلاء الرواة ابن بكير، وقال: ما ضرب مالك إلا في تقديمه عثمان على علي، فسعى به الطالبيون حتى ضرب.

إلا وأنا أجعله في حل من ذلك الوقت؛ لقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وجعفر هذا فاطمي من جهة أمه؛ فإن أمه هي أم الحسن بنت جعفر بن حسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وقال الدراوردي سمعت مالكاً حين ضربه جعفر يقول: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعملون. وازداد قدر مالك بعد هذه المحنة رفعة، وعظَّمه الناس أكثر مما كانوا يعظونه. * اختياره العزلة في آخر حياته: كان مالك يشهد الجنائز، ويعود المرضى، ويجلس في المسجد، ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد، فكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز، فكان يأتي أهلها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله، واحتمل الناس له ذلك حتى مات، وروي أنه خوطب في ذلك، فقال: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره، وروي أنه عندما حضرته الوفاة، سئل عن تخلفه عن المسجد، فقال: سلس بول، فكرهت أن آتي مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غير طهارة، وكرهت أن أذكر علّتي فأشكو. * نعته: كان مالك طويلاً، جسيماً، عظيم الهامة، أعينَ، شديد البياض إلى شقرة، حسن الصورة، أشم، عظيم اللحية تبلغ صدره، ذات سعة وطول. وكان يأخذ أطراف شاربه ولا يحلقه، ولا يحفيه، ويرى حلقه من المُثْلَة، وكان يترك له سَبَلتين (¬1) طويلتين، ويحتج بأن عمر - رضي الله عنه - كان يفتل شاربه ¬

_ (¬1) السبلة: ما على طرف الثياب.

إذا أهمه أمر. والمشهور عنه أنه لا يغير شيبه بالخضاب. وقال مصعب الزبيري: كان مالك من أحسن الناس وجهاً، وأحلاهم عيناً، وأنقاهم بياضاً، وأتمهم طولاً في جودة بدن. * مؤلفاته: من أشهر مؤلفات مالك: "الموطأ" (¬1)، وهو كتاب توخى فيه القويّ من الأحاديث المرفوعة والمرسلة، ومزجه بأقوال الصحابة، وفتاوى التابعين ومن بعدهم، وممن شهد ببلوغه في الصحة الغاية القصوى: الإمام الشافعي بقوله: ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "الموطأ" هو الأصل الأول واللباب، وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب، وعليهما بنى الجميع؛ كمسلم، والترمذي. ومن مؤلفاته: رسالة رد فيها على القدرية، وكتاب في النجوم وحساب مدار الزمان ومنازل القمر، ورسالة في الأقضية، كتب بها إلى بعض القضاة في عشرة أجزاء، ورسالة إلى أبي غسان محمد بن المطرف، وكتاب في التفسير لغريب القرآن، ونسب إليه كتاب يسمى: كتاب السير في رواية ابن القاسم عنه، ورسالته إلى الليث بن سعد في إجماع أهل المدينة، أما رسالته المشهورة إلى هارون الرشيد، فقد أنكرها طائفة من أصحابه، حتى إن أصبغ بن الفرج حلف على أنها ليست من وضع مالك. ¬

_ (¬1) قيل: سمي: "موطأ" لأنه شيء قد صنفه ووطأه للناس، وقيل: لأن مالكاً عرضه على سبعين فقيهاً من فقهاء المدينة، فواطؤوه عليه، فسماه: "الموطأ".

* مقتبسات من حكمه ووصاياه: لمالكٍ حِكَم بالغة، ووصايا نافعة، شأن من درس القرآن والسنة بعقل راجح، وسريرة طا هرة؛. قال مالك: من صدق في حديثه، متع بعقله، ولم يصبه ما يصيب الناس من الهم والخوف. وقال: طلب الرزق في شبهة أحسن من الحاجة إلى الناس. وقال: تعلموا الحلم قبل العلم. وقال: العلم نور يجعله الله حيث يشاء ليس بكثرة الرواية. وقال: نعم الرجل فلان، إلا أنه كان يتكلم كلام شهر في يوم. وقال مطرف: قال لي مالك: ما يقول الناس فيَّ؟ قلت: أما الصديق، فيثني، وأما العدو، فيقع، فقال: ما زال الناس هكذا: لهم صديق وعدو، ولكن نعوذ بالثه من تتابع الألسنة. ودلت الروايات على أن أصحابه كانوا إذا أرادوا وداعه، طلبوا منه أن يزوّدهم بنصائح ينتفعون بها في مستقبل حياتهم، قال يحيى بن يحيى الأندلسي: لما ودعت مالكًا، سألته أن يوصيني، فقال: عليك بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله. وقال الحارث بن أسد من أهل قفصة بإفريقية: دخلت على مالك أنا وابن القاسم وابن وهب، فقال له ابن وهب: أوصني، فقال له: اتق الله، وانظر عمن تنقل. وقال لابن القاسم: اتق الله، وانشر ما سمعت. وقال لي: اتق الله، وعليك بتلاوة القرآن. قال الحارث: لم يرني أهلاً للعلم، فكان يستفتي ولا يفتي، ويقول:

لم يرني مالك أهلاً للعلم. وقال أسد بن الفرات: كنت أنا وصاحباً يلزم مالكاً، فلما أردنا الخروج إلى العراق، أتينا مودّعين، فقلنا له: أوصنا، فالتفت إلى صاحبي، فقال له: أوصيك بالقرآن خيراً، والتفت إليَّ وقال: أوصيك بهذه الأمة خيراً. وقال خالد بن خداش: ودعت مالكًا، فقلت: أوصني، قال: تقوى الله، وطلب الحديث من أهله. * وفاته: مرض مالك نحو اثنين وعشرين يوماً، وتوفي في ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومئة، وكان آخر كلامه أن تشهَّد، وقال: لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ، وصلى عليه أمير المدينة وقتئذ عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس، وشيع جنازته ماشياً، وكان أحد من حملوا نعشه، وقبره معروف اليوم في البقيع، أفاض الله عليه رحمة ونوراً. قضى هذا الإمام الجليل - رحمه الله تعالى - نحو ستين سنة في التفقه في الدين والإفتاء والاجتهاد في طاعة الله، ورجعت نفسه المطمئنة إلى ربها راضية مرضية، وهذه صفحة من حياته نعرضها على حضراتكم، وإن في ذلك لعبرة لأولي الألباب، والسلام عليكم ورحمة الله.

صقر قريش وكيف تأسست الدولة الأموية بالأندلس

صقر قريش وكيف تأسست الدولة الأموية بالأندلس (¬1) الحديث عن عبد الرحمن الداخل مؤسسِ الدولة الأموية في الأندلس، يستدعي كلمة موجزة في الحالة السياسية بتلك البلاد؛ لنعلم كيف تهيأت الأسباب لتبوئه عرش إمارتها. عين الوليد بن عبد الملك موسى بن نصير عاملاً لإفريقية، وكانت عاصمة إفريقية يومئذ القيروان، فسار موسى بن نصير من القيروان، فوطَّد الأمن ببلاد المغرب، واستعمل على "طنجة" وما والاها تابعه طارق بن زياد، ثم قفل راجعاً إلى القيروان. وبعد عودته كتب إلى طارق ياذنه في المسير إلى فتح الأندلس، فجهز طارق جيشًا يقال: عدته اثنا عشر ألفاً، واجتاز البحر إلى إسبانيا، ونزل بمكان يعرف الآن بجبل طارق، وبعد أن تجاوز البحر، أحرق السفن، وقال في خطبة خطبها: "أيها المجاهدون! لقد آن الأوان، فالعدو أمامنا، والبحر خلفنا، ولم يبق إلا الموت، فاختاروا إحدى الموتتين"، فاختار المسلمون الجهاد، فاختار لهم الله النصر، وفتحوا بلاداً كثيرة في مدة قليلة. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع من المجلد الثامن.

ولما بلغ خبر انتصاره موسى بن نصير، كتب إليه أن قف بالمكان الذي انتهيت إليه في الفتح، حتى أقدم إليك، وسرعان ما وصل موسى إلى الأندلس، وامتد في الفتح حتى توغل في البلاد. ولما بلغ خبر هذا الفتح الوليدَ بن عبد الملك، أرسل يستدعي موسى ابن نصير، وطارق بن زباد، فنظم موسى الحكومة بالأندلس، وجعل على رأسها ابنه عبد العزيز، وسار بمغانم كثيرة، وركب هو وتابعه طارق البحر إلى دار الخلافة بدمشق. ولما قارب دمشق، أرسل إليه سليمان أخو الوليد بن الوليد في علة سيموت بها قريبًا، فتمهل حتى يكون دخولك في أيامي، لينسب الفتح إليَّ، فأبى موسى أن يتمهل، وقدم دار الخلافة في أيام مرض الوليد. ولما مات الوليد، انتقم من موسى بن نصير، وجرده من كل شيء، حتى مات موسى في حالة فقر وبؤس، ويقال: إن سليمان هذا لا يعرف له شدة غير ما فعله بموسى بن نصير. ثم إن عبد العزيز بن موسى بن نصير قتل سنة 98، وتولى إمارة الأندلس أيوب بن حبيب اللخمي ابن أخت موسى بن نصير، وتولاها بعده الحر بن عبد الرحمن الثقفي، ثم السمح بن مالك، وكان من المصلحين، ثم عبد الرحمن الغافقي، ثم عنبسة بن سحيم الكلبي، ثم عاد إليها عبد الرحمن الغافقي، وكان عادلاً حليماً، وهو الذي دخل بلاد فرنسا، ورفع لواء الإسلام فوق أسوار "ليون" ثم عبد الملك بن قطن الفهري، وكان ظالماً جائراً، فعزل، ثم عقبة بن الحجاج السلوي، وكان خير مثال للعدل والتقوى، ثم ثعلبة بن سلامة.

ووقع في عهد ثعلبة بن سلامة هذا تنافسٌ بين اليمنيين والمضريين، فانحاز ثعلبة إلى اليمنيين، فهاج عليه المضريون، وجاء أمر الخليفة بتعيين أبي الخطار حسام الكلبي، وهو من اليمنيين، فاستقرت نار الفتنة بين القبيلتين، وانهزم اليمنيون، وقتل أبو الخطار، وتولى الأمر ثوابة بن سلامة، وتوفي، فتولى بعده يوسف بن عبد الرحمن الفهري، فسكنت الأمور، وتراضى الفريقان، وبقي في الأمارة نحو عشر سنين، وقامت في هذه السنين ثورات في نواحي من البلاد متعددة، فأخمد يوسف نارها. لندع الأندلس وهي تحت إمارة يوسف بن عبد الرحمن الفهري، ونرجع إلى الشرق؛ لنعلم كيف خرج عبد الرحمن بن معاوية قاصداً المغرب حتى قبض على زمام الأندلس. معروف أن آخر خلفاء بني أمية في الشرق مروان بن محمد، ففي عهده ظهرت دعوة أبي مسلم إلى العباسيين، وسقطت الدولة الأموية، وقامت مكانها الدولة العباسية. ومن سيرة السفاح، وتابعه عليها المنصور: الفتكُ بالأموميين، ومطاردتهم، وممن خاف من سطوة هذه الدولة: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، فاختفى متنقلًا من بلد إلى آخر قاصداً المغرب حتى وصل إلى "مليلة" (¬1)، ونزل عند شيخ من البربر حيناً، حتى لحق به مولى أبيه (بدر) بأموال أنفذتها إليه أخته من ذهب وجواهر، وكان عبد الرحمن قد جعل مطمح أمله أفريقيا، ثم رأى أمرها عسراً، فوجه نظره إلى الأندلس، وبعث إليها بدراً مولاه ليمهد له السبيل، ويقرب إليه البغية. فاجتمع بموالي المروانيين وأشياعهم، ¬

_ (¬1) مدينة بالمغرب على ساحل البحر.

فبثوا لعبد الرحمن الدعوة، وصادف ما كان بين اليمنية والمضرية من نهل وتقاطع، فأجمعت اليمنية على أمر بيعته، ورجع بدر بالخبر إلى عبد الرحمن، فعبر عبد الرحمن البحر سنة 138، ونزل بساحة المنكبّ (¬1)، فأقبل الناس على مبايعته، وما زال ينتقل في البلاد حتى انتظم له جيش عظيم، فزحف إلى "قرطبة"، ولاقاه يوسف الفهري بظاهرها. ودارت بينهما رحى الحرب، فانهزم يوسف، ودخل عبد الرحمن القصر، وخرجت إلى عبد الرحمن زوج يوسف وابنتاه، فقلن له: يا ابن عمنا! أحسن كما أحسن الله إليك. فقال: أفعل، ودعا بصاحب الصلاة، وكان صاحب الصلاة مولى ليوسف الفهري، وأمره بضم النساء إليه. وخرج عبد الرحمن في ذلك اليوم، فصلى بالناس صلاة الجمعة، ووعدهم في خطبته خيراً. ولما انهزم يوسف الفهري، توجه إلى غرناطة، واستولى عليها، فخرج عبد الرحمن في أثره، وحاصره حتى نزل على أمانه، وجاء به إلى قرطبة، وحجز عنه ولديه: عبد الرحمن، ومحمداً، وأبقاهما عنده كِرهانٍ حتى لا ينقض العهد. ثم إن يوسف الفهري غمر، فخرج هارباً من قرطبة حتى أتى؛ "طليطلة" ليعيد الكرة على عبد الرحمن، فاغتاله أحد أصحابه. وكان من عبد الرحمن أن عاد إلى قرطبة، واشتد في عقوبة ولدي يوسف ¬

_ (¬1) بلد على ساحل جزيرة الأندلس.

الفهري، فقتل عبد الرحمن، وحكم على أخيه محمد بالسجن الدائم. ثم إن محمداً - وكان يكنى: أبا الأسود - اتخذ حيلة تخلص بها من السجن، ولحق بطليطلة، ودعا إلى نفسه، واستمال الناس، ووقعت بينه وبين عبد الرحمن واقعة انتصر فيها عبد الرحمن، وانهزم جيش أبي الأسود، وفر أبو الأسود إلى ناحية بغرب الأندلس، وتوفي هناك. وقام بعد أبي الأسود أخوه قاسم بن يوسف، فخرج إليه عبد الرحمن، فلما دنا منه، سلم إليه نفسه في غير أمان، فتقبله، وأحسن إليه. وفي سنة 146 تجهز العلاء بن مغيث اليحصبي عامل أفريقية لغزو الأندلس، فعبر البحر، ونزل بجيشه في "باجة" داعياً إلى أبي جعفر المنصور. فخرج عبد الرحمن لقتاله، وتلاقيا بظاهر "إشبيلية"، فانهزم جيش ابن مغيث، وقتل ابن مغيث مع كثير من أصحابه، وبعث عبد الرحمن برؤوسهم إلى القيروان، فألقيت في أسواقها سراً. وتفرغ عبد الرحمن بعد هذا لغزو بلاد الإفرنج، وتم له النصر على جميع أعدائه. وتوفي عبد الرحمن على فراشه في قرطبة 173، فكانت ولايته اثنتين وثلاثين سنة، ودفن بجانب من المسجد الجامع الذي بناه. ومن آثاره: بناؤه المسجد الجامع بقرطبة، ولكنه مات قبل إتمامه، ودوّن الدواوين، وزيّن قرطبة بالمباني الضخمة، والحدائق الغناء، وأدار أسوارها. وكان يقعد للعامة، وينظر أمورهم بنفسه، ومن عاداته: أن يتناول معه الطعام كل من أدركه من أصحابه وقت الطعام، وكل من وافق ذلك

من طلاب الحوائج. وكان مديد القامة، نحيف الجسم، وقال ابن الأثير في نعته: "كان فصيحاً لسناً، شاعراً عالماً حليماً حازماً، ولا يكل الأمور إلى غيره، شجاعاً مقداماً، بعيد الغور، شديد الحذر، سخياً جواداً، وكان يقاس بالمنصور في حزمه وشدته وضبط المملكة". ومن بديع شعره قوله متشوقاً إلى وطنه: أيها الراكب الميمِّم أرضي ... أقر مني بعض السلام لبعض إن جسمي كما تراه بأرض ... وفؤادي ومالكيه بأرض قدَّر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضي قد قضى الدهر بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضي وقال في هذا الغرض: تناءت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل فقلت شبيهي في التغرب والنوى ... وطول التنائي عن بنيَّ وعن أهلي نشأت بأرض أنت فيه غريبة ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي وفي أيامه دخل الأندلس عالمان جليلان كانا قد رحلا من الأندلس إلى الشرق بعد دخوله: أحدهما: الغازي بن قيس، دخل الأندلس بموطأ مالك بن أنس، وبقراءة نافع بن أبي نعيم، فكان عبد الرحمن يكرمه، ويواليه بالصلة في منزله. ثانيهما: أبو موسى الهواري، جاء الأندلس، وكان قد جمع العلوم

العربية إلى علوم الدين. وفي أيامه نشأ شاعر الأندلس أبو المخشيّ، ومما جرى لهذا الشاعر: أن مدح سليمان بن عبد الرحمن بشعر، ووقع في وهم بعض الناس أنه عرض بأخيه هشام، فتعصب لهشام أحد مريديه، واعتدى على الشاعر، فأتلف بصره، فقصد الشاعر عبد الرحمن، وأنشد بين يديه أبياتاً يقول فيها: خضعت أم بناتي للعدا ... أن قضى الله قضاء فمضى ورأت أعمى ضريراً إنما ... مشيه في الأرض لمس بالعصا فاستكانت ثم قالت قولة ... وهي حرّى بلغت مني المدى ففؤادي قرح من قولها ... ما من الأدواء داء كالعمى فأعطاه عبد الرحمن ألفي دينار، وضاعف له الدية. وكان نقش خاتمه: "بالله يثق عبد الرحمن، ويه يعتصم". وقد كنت نظمت خلاصة ما تضمنته هذه القصة في موشح تحت عنوان: (صقر قريش)، وإليك هذا الموشح: خلِّ نفسى الحر تصلى النُّوَبا ... لا تبالي ليست الأخطار إلا سببا ... للمعالي * * * يا مكبّاً بين ظبي أدعجا ... ومهاة إنما الهمة في حجر الحجا ... كالنبات أفلا تذبل إذ تقضي الدجى ... في سُبات فإذا بتَّ تجاري الكوكبا ... في مجالِ

كنت كالضرغام يمشي الهيدبى (¬1) ... للنزالِ * * * ما لهذي السمهريات فخار ... في الحرابْ غير عزم هزّه حامي الذمار ... بالتهاب أترى الرامح (¬2) ذا قلب يغار ... فيُهاب جرَّ في الآفاق رمحاً سلهبا (¬3) ... باختيالِ وهو كالأعزل لا يلقى الظُّبا ... والعوالي * * * رُبَّ كِنٍّ لا نسميه عرينا ... في البيان والذي يحميه لا يلوي جبينا ... عن طعان يحطم الطاغي لا يبقى مهينا ... في هوان وهزبر الغاب يعدو خببا ... في الدِّغال عضَّه الجوع فمدَّ المخلبا ... لاغتيال * * * عاشق العلياء خض في لجج ... من رماح وترشف من عصير المهج ... لا جُناح ¬

_ (¬1) الهيدبى: ضرب من مشى الخيل فيه جد. (¬2) الرامح والأعزل: نجمان يسمى أحدهما: السماك الأعزل. (¬3) السلهب: الطويل.

يضحك الملك بثغر بهج ... كالصَّباح إن نكى الخصم فماجوا هرباً ... كالثعالي (¬1) وابتغاء السلم من باني الزُّبى ... كالمحال * * * خاطر اليأس لدى باغي العلا ... غير سائغْ إن توخى عبقريٌّ أملا ... فهو بالغ وحياة الصقر (¬2) سارت مثلا ... للنوابغ إذ بدا في "دير حنا" وشبا (¬3) ... كالهلال وليالي الشام في عهد الصبا ... كاللآلي * * * ذاق في الخامس من صدر سنيه ... مضضا والردى سيف بكفٍّ لا تتيه (¬4) ... ينتضى أرهف الحدَّ وأودى بأبيه ... حَرَضا (¬5) ¬

_ (¬1) جمع ثعالة، وهي أنثى الثعلب. (¬2) الصقر: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك. (¬3) شبا؛ أي؛ نما وترعرع. يقال: شبا الشجر: طال والتف نعمة. (¬4) لا تتيه: لا تتحير ولا تضل. (¬5) أرهف الحد: فاعل أرهف ضمير الروي في البيت قبله. وحرضا: نزل به الهلاك، أو بلغ منه الحزن والهم. وهو حال من "أبيه".

هل زوت زهرته حتى هبا (¬1) ... في كلال إن في نفس تسامت حسبا ... خيرُ وال * * * أبصر الجدُّ به روحَ الهمام ... باديا (¬2) كالشذا ينبئ عن زهر الكِمام ... هاديا وتريك الشمس في قوس الغمام ... ماهيا حفه عطفاً كما تسري الصَّبا ... باعتلالِ ويدٌ ظلَّت تحابي الأنجبا ... لم تغالِ * * * ضرب الخطبُ على الملك الأثيل ... محدقا (¬3) كم دها السفاح من حُرّ نبيل ... مرهقا (¬4) وجرى المنصور في هذا السبيل ... مُوبقا ذهبت عصبته أيدي سبا ... في نكالِ وتداعى عرشه منتحبا ... للزوالِ * * * ¬

_ (¬1) هبا: هلك ومات. (¬2) الجد: هشام بن عبد الملك عاشر خلفاء بني أمية، وقد ترعرع عبد الرحمن في صولته، وتولى في ظل حزمه ونعمته. (¬3) الملك الأثيل: الدولة الأموية. (¬4) هو أبو عبد الله السفاح أول خلفاء الدولة العباسية.

حدق الصقر برأي لا عجل ... لا حَسير وانبرى يطوي الفلا يطوي الأمل ... في الضمير ككَميّ فرَّ من وقع الأمل ... ليُغير عَمِيتْ عنه عيونُ الرُّقبا ... والموالي راح كالشمس تؤمُّ المغربا ... بارتحال * * * جمرةُ الأضغان في ذاك الوطن ... لافحه (¬1) كم قلوب بتباريح الإِحَنْ ... طافحه فرصة ظلت على وجه الزمن ... سانحه إنما الفرصة تدني الأربا ... بارتجالِ والفتى يرقبها محتسبا ... لليالي * * * نفض البرْدَين من نقع السفر ... في "مليله" (¬2) ماله جند سوى الرأي الأغر ... والفضيلة بثَّ لُسناً نفثت نفث السحر ... في الخميلة دعوة حل لها الشعبُ الحُبا ... باحتفالِ ¬

_ (¬1) تلك كانت حال الأندلس لما هبط عبد الرحمن الداخل بلاد المغرب، وهو لا يحمل غير حجاه وعزيمته. (¬2) مليلة: مدينة بالمغرب قريبة؛ من سبتة على ساحل البحر - انظر: "معجم البلدان".

يرتجي عزاً وعدلاً ذهبا ... في ضلالِ * * * آب (بدرٌ) بفؤاد يتألق ... كالجمانِ (¬1) إذ رمى عن قوس داهٍ وتفوَّق ... في الرهان ورأى غصن الأماني كيف أوْرَق ... في تداني آن للصمصام أن ينتصبا ... للصقالِ ولغالي الدم أن ينسكبا ... بابتذالِ * * * نهض الصقر ولا صيد سوى ... تاج مُلكِ يتهادى بعد شجو ونوى ... بين أَيْكِ يسبك السيرة في نهج سُوى ... خيرَ سبك عبر البحر يشق الحببا (¬2) ... في جلالِ أقبل الأبعد يتلو الأقربا ... ويوالي * * * زج بالجند حواليْ "قرطبه" ... في اتّساق ¬

_ (¬1) بدر: مولى عبد الرحمن الداخل، وهو نصيره الوحيد في رحلته من الشام إلى المغرب. (¬2) الحبب: معظم الماء وطرائقه.

وغدا يوسف مما كربه ... في خناق (¬1) هو صبٌّ كيف يلوي الرقبه ... للفراق هاله الخطب غداة اقتربا ... للقتال لاذ بالرأي فأكدى وكبا ... في خبال * * * خال ما نمَّق كيداً يرشقه ... كسهام لا يبيع المجد شهم يعشقه ... بالحطام لا تُسليّه فتاة ترمقه ... بابتسام فأراه الصقر برقاً خلبا ... في المقالِ وأراه الأحوذيَّ القلبَّا ... بالفعالِ * * * هجم الداخل في وجه الزعيم ... كائدا فطوى ما خلفه طيَّ الظليم ... شاردا واقتفى آثاره الجيش النظيم ... صائدا رام "غرناطة" يبغي مركبا ... للنضالِ أمل أبرق حينا وخبا ... كالذُّبالِ * * * ¬

_ (¬1) يوسف: هو ابن عبد الرحمن بن حبيب الفهري، وكان ولي الأمر بالأندلس عند دخول عبد الرحمن.

أغمد السيف ومد العنقا ... للسلامْ (¬1) فأراه الصقر عزماً ذلقا ... لا ينامْ أحرز ابنَيْهِ ليأبى الرهقا ... في الذِّمام (¬2) كان في الناس زعيماً فاحتبى باعتزال لم يطق - كالطفل - صبراً إذ نبا ... عن فصال * * * تبَّ ليل شدَّ فيه المئزرا ... لانتقام (¬3) وامتطى رأيا عقيماً أغبرا ... كالجَهَام ليته ما انسلَّ ليلاً وانبرى ... في احتدام (¬4) في مغاني آل هود وثبا ... للصيالِ هزَّ جِذعَ الأمن ألقى الطُّنبا ... في اختلالِ ¬

_ (¬1) لما حاصر عبد الرحمن مدينة غرناطة، وهي آخر ما التجأ إليه يوسف الفهري، اضطر يوسف إلى الصلح، فصالحه على شروط، منها: وضع ابنيه عند عبد الرحمن رهن إخلاصه الدائم. (¬2) أحرز ابنيه: أي: أخذ عبد الرحمن ابني يوسف رهينتين ليضمن وفاء أبيهما بعهد الصلح، والرهق من معانيه: الظلم والكذب، يريد: الغدر ونقض الميثاق. (¬3) لم تطل ليوسف حياة الراحة، فنقض العهد سنة 141 بعشرين ألفاً من البربر، فالتحق بطليطلة، إلا أن عبد الرحمن قام له حتى جيء إليه برأسه. (¬4) انسلّ: انطلق في الخفاء. والاحتدام: اشتداد الغيظ. يقال: احتدم صدره غيظاً، وتحدم؛ أي: تغيظ.

أرهق ابنيه جفاء وهفا ... للرياسهْ ما تحامى أن يكون هدفا ... للسياسهْ ركبت من قتل هذا سرفا ... في الشراسهْ وطوت هذا ليبقى حقبا ... في اعتقالِ سلْ به إذ فرَّ ماذا ارتكبا ... من محالِ * * * قذفت نار الوغى في (ماردَهْ) ... بالشرار (¬1) أشرع الصقر قناة سائده ... بانتصار أطلق الفهريُّ رِجلًا جاهده ... في الفرار لحق الموت به واعجباً ... للنصالِ تنهض الحتفَ إذا ما نشبا ... في عقالِ * * * بلغ الصقر من العزِّ أشدَّه ... واستوى لبس الحزم لمن صاعر خدَّه ... والتوى هو لولا بأسه يحرس بَنْدَه ... لانطوى سار بالأمة شوطاً عجبا ... في اعتدالِ لا يُرى أسرى بها أو أوَّبا ... في ملالِ * * * ¬

_ (¬1) ماردة: كورة واسعة من نواحي الأندلس من أعمال قرطبة.

بعث العرفان من مرقدهِ ... في رُواء وعلت عنق الهدى في عهدهِ ... كاللولاءِ ردَّتِ الشركَ مواضي جِدِّهِ ... في انزواء نفثت في (شرلمانَ) الرَّهبا ... كالسعالي (¬1) هابها (المنصور) يخشى الغلبا ... في السجالِ * * * لقي العمرانَ مقصوص الجناح ... خاملا راشه فانساب في تلك البطاح ... جائلا يضبط الشكوى كخصر في وشاح ... عادلا يمتطي المنبر يُلقى خُطبا ... ذات بالِ يقدمُ الناسَ إماماً مجتبى ... بابتهالِ * * * رحم الله الفتى أنضى العتاقْ ... في العلا (¬2) وغدا إن عُدَّ فرسانُ السباقْ ... أوّلا شرب الحكمة بالكأس الدِّهاقْ ... عَللا عزمه كالفجر يفري الغيهبا ... في تعالي فهو جنديٌّ سياسيٌّ ربا ... في كمالِ ¬

_ (¬1) السعالي: جمع السعلاة، وهي الخبيثة من الجن. (¬2) العتاق: جمع عتيق، وهر الفرس الكريم. وأنضى العتاق؛ أهزلها بالسير.

أبو داود وكتابه "السنن"

أبو داود وكتابه "السُّنن" (¬1) من أئمة الحديث وأعلامه: سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير الأزدي السجستاني (¬2) المعروف بأبي داود. ولد أبو داود سنة 202 اثنتين ومئتين، وأقبل على علوم الحديث حتى صار من أكابر حفاظه، والراسخين في العلم بمراتب الأحاديث وعللها، وما يستنبط منها من الأحكام والآداب. رحل لطلب العلم، وتجوّل في البلاد، فكتب عن علماء العراق والحجاز والشام ومصر والجزيرة وخراسان. وفي سنة 275 التمس منه أبو أحمد الموفق أخو الخليفة بعد فتنة الزنج أن يقيم بالبصرة؛ ليعمرها بما أوتي من العلم، فأقام بها إلى أن توفي في منتصف شوال سنة 275. كان أبو داود إماماً في الحديث، بالغًا فيه الذروة، قال الحافظ موسى ابن إبراهيم: خلق أبو فيداود الدنيا للحديث، وفي الآخرة للجنة. وقال الحاكم أبو عبد الله: أبو داود إمام أهل الحديث بلا مدافعة. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السادس من المجلد السادس. (¬2) وهي سجستان المعروفة في خراسان، وما ذكره بعضهم من أنه من قرية بالبصرة يقال لها: سجستان، لم يذكره أحد من الحفاظ.

ولم يكن أبو داود محدثاً فحسب، بل كان محدثاً فقيهاً، وقد عده الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "طبقات الفقهاء" من جملة أصحاب الإمام أحمد بن حنبل. وقال ابن حبان: أبو داود أحد أئمة الدنيا فقهاً، وعلماً، وحفظاً، ونسكاً، وورعاً، وإتقاناً. وكان أبو داود يشبه الإمام أحمد بن حنبل في هديه وسمته، وروى عنه أحمد بن حنبل فَرْدَ حديث، فكان أبو داود يفخر بذلك، وكان أبو داود يقول: خير الكلام ما دخل الأذن من غير إذن. ومما يشهد بحلالة قدره في علم الحديث: كتاب "السنن" الذي هو أحد الصحاح الستة، وهو يشتمل على أربعة آلاف وثمان مئة حديث، انتخبها من خمس مئة ألف حديث كتبها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يورد في هذا الكتاب إلا الصحيح، أو ما يقارب الصحيح، وقال في رسالة بعث بها إلى أهل مكة: "وليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء". قصد الإمام البخاري في "جامعه" تخريج الأحاديث الصحيحة المتصلة، وإفادة ما يؤخذ من الأحاديث من الأحكام أو الآداب، أو التفسير أو السيرة، وقصد الإمام مسلم في "جامعه" تدوين الأحاديث الصحيحة من غير تعرض لوجوه الاستنباط. وقصد أبو داود جمع الأحاديث التي استند إليها الفقهاء، وجعلوها مآخذ للأحكام، فجمع في "سننه" الصحيح، والحسن، وإذا أورد هذا حديثاً ضعيفاً، صرح بضعفه. فكتاب "السنن" لأبي داود جمع أحاديث الأحكام، ورتبها أحسن ترتيب، ونظمها أحسن تنظيم، ولما أتم تأليفه، عرضه على الإمام أحمد بن حنبل، فاستجاده، واستحسنه، ولما اطلع عليه إبراهيم الحربي، قال: "ألِين لأبي

داود الحديث، كما ألين لداود الحديد". وقال النووي في قطعة كتبها من شرحه على هذه السنن: ينبغي للمشتغل بالفقه وغيره الاعتناء بسنن أبي داود، وبمعرفته التامة؛ فإن معظم أحاديثه يحتج بها، مع سهولة تناوله، وتلخيص أحاديثه، وبراعة مصنفه، واعتنائه بتهذيبه. وقال ابن الأعرابي: لو أن رجلاً لم يكن عنده من العلم إلا المصحف الذي فيه كتاب الله، ثم هذا الكتاب - يعني: سنن أبي داود -، لم يحتج معها إلى شيء من العلم. وقال أبو سليمان الخطابي في مقدمة شرحه (¬1) لهذه السنن: وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدماً سبقه إليه، ولا متأخراً لحقه فيه. ¬

_ (¬1) يسمى: "معالم السنن"، وقد شرع في طبعه بحلب، وانتهى طبع جزأين منه: الأول والثاني.

صفحة من حياة أبي الحسن الأشعري

صفحة من حياة أبي الحسن الأشعري ّ (¬1) التحق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى وقد أورث الناس ديناً ساطع الحجج، محكم الآيات، فساروا في ضوئه أمة واحدة، لا يختلفون في شيء يرجع إلى العقائد حتى آخر خلافة عثمان - رضي الله عنه -، حيث حميت تلك المناقشات السياسية، واتخذها مرضى القلوب أمثال عبد الله بن سبأ ذريعة إلى فتنة يكيدون بها الإسلام، ففتحوا بابها بقتل الخليفة، ونشأت خلافة علي - كرم الله وجهه -، وغبار الفتنة ثائر، فتولدت تحت مثاره آراء سياسية، ثم جعلت تلك الآراء تتحول إلى مذاهب دينية، ودبّ في النفوس مرض الاختلاف، ومن هذا الاختلاف ما يرجع إلى أصول العقائد، فيحل عروة الإيمان، ومنه ما يرجع إلى فروعها، فلا يزيد على أن يسمى: انحرافاً عن الصواب. كثرت الفرق، وتعددت الألقاب، فوهن حبل الاتحاد الإسلامي، ولولا هذا التفرق، لبلغ الإسلام من القوة فوق ما بلغ، وارتقى في السيادة ذروة فوق التي ارتقى. ومن هذه الفرق: فرقة يغلون في التشيع للإمام علي - كرم الله وجهه -. ومن أبعدهم في هذا الغلو: نزعة السبئية أتباع عبد الله بن سبأ الذي ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء الخامس من المجلد الثالث.

ادعى لعلي - عليه السلام - وصف الإلهية، فنفاه علي إلى المدائن، ويقال: إنه كان يهودياً، فتظاهر بالإسلام ليكيد له بمثل هذه الدعوى. ويقابل هذه الفرقة: فرقة يدينون بكراهة علي - صلى الله عليه وسلم -، وهم الخوارج (¬1)، ونشأ هذا المذهب من جماعة كانوا مع علي في حرب صفّين، ثم خرجوا عليه عقب قضية التحكيم. ومن هذه الفرق: فرقة يبالغون في إثبات الوعد، حتى قال بعضهم: لا يضر مع الإيمان معصية، وهم المرجئة. أما الإرجاء الذي ينسب إلى بعض فضلاء التابعين؛ كالحسن بن محمد بن الحنفية (¬2)، فمعناه: عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين من العلويين والأمويين بكونها مخطئة أو مصيبة، صارجاء أمرهما؛ أي: تأخيره وتفويضه إلى الله تعالى، وهو بهذا المعنى لا يمس جانب الإيمان، ولا يعد صاحبه عند أهل السنّة موضعاً للعيب. ومن هذه الفرق: فرقة يبالغون في إثبات القدرة للإنسان، وينكرون إضافة الخير والشر إلى القدر، وهم القدرية، وأول من تكلم بهذا: معبد بن عبد الله الجهني الذي خرج مع ابن الأشعث، ووقع في يد الحجاج، فقتله سنة 80. ومن هذه الفرق: فرقة لا يثبتون للعبد قدرة. على الفعل، لا مؤثرة، ولا كاسبة، وهم الجبرية، وأول من ظهر بهذا المذهب: جهم بن صفوان ¬

_ (¬1) الصفرية، والأزارقة، والنجدية، والعجاردة. (¬2) توفي سنة 99، أو 100، وعبارته في الكتاب الذي يقال إنه وضعه في الإرجاء: "ونوالي أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - ونجاهد فيهما؛ لأنهما لم تقتتل عليهما الأمة، ولم نشك في أمرهما، ونرجئ من بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله".

الذي خرج مع الحارث بن سريح على بني أمية في أواخر دولتهم، ووقع في قبضتهم بعد انهزام الحارث، وقُتل سنة 128، أو 131. ومن هذه الفرق: فرقة يشبِّهون الله - وهو واجب الوجود - ببعض مخلوقاته، وهم المشبهة، وممن تعزى إليه هذه البدعة: الجعد بن درهم مؤدبُ مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية. ومن غلاة المشبهة: الكرامية أتباع محمد بن كرام (¬1) وهو شيخ نشأ في سجستان، ثم دخل نيسابور، وباح بالتجسيم، فحبسه عبد الله بن طاهر، ثم أطلقه، فتخلص إلى القدس الشريف، وهناك توفى سنة 256. ومن هذه الفرق: فرقة يؤولون القرآن والسنّة على غير ما يراد منهما؛ مكرًا بالدين، وصرفًا للناس عن هدايته، وهم الباطنية. وائتمار مَن أصلهم المجوسية بالكيد للإسلام وقع- على ما يقصه أبو بكر بن العربي (¬2) - في عهد البرامكة، ولكن تأويل الظواهر على وجوه تعطل أحكام الشريعة، وتذهب ببهاء حكمتها، ظهر فيما بعد؛ ومن زعماء هذه النحلة: حمدان قرمط المتوفى سنة 264، ومنه أخذ الباطنية لقب (القرامطة). ومن أذناب هذه الفرقة اليوم: الطائفة المسماة بالبابية أو البهائية، وكانت قبل هذا تعمل في خفاء، فسرى وباؤها في نفوس كثير من المسلمين الغافلين، حتى أخذ بعض زعماء الغرور، فجاهروا بشيء مما يسرون، فانكشفت للناس سريرتها، وافتضح أمرها، فلا تقوم لدعايتها بعد هذا - إن شاء الله - قائمة. ومن هذه الفرق: فرقة المعتزلة، ومن رؤوسها: أبو حذيفة واصل بن ¬

_ (¬1) ضبط بفتح الكاف وتشديد الراء، وضبطه آخرون بكسر الكاف وتخفيف الراء. (¬2) كتاب "القواصم والعواصم".

عطاء الغزال، وصاحبه عمرو بن عبيد، وكانا يجالسان الحسن البصري المتوفى سنة 116، ثم اعتزلاه في نفر كانوا على رأيهما، وظهر بعد هؤلاء طبقة أخرى، من زعمائها: إبراهيم بن سيار النظام المتوفى سنة 221، ومحمد بن الهذيل العلاف المتوفى سنة 235، وأحمد بن أبي داود المتوفى سنة 240، وبشر المريسي المتوفى سنة 218، ثم عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى سنة 250، وظهر بعد هؤلاء طبقة من رجالها: أبو علي محمد الجبائي المتوفى سنة 303، وهو أستاذ أبي الحسن الأشعري، وأبو القاسم عبد الله الكعصي المتوفى سنة 317، وإليه تنسب الفرقة الكعبية، وأبو هاشم عبد السلام بن أبي علي الجبائي المتوفى سنة 321، وإليه تنسب الفرقة البهشمية، فالكعبي وأبو هاشم كانا معاصرين لأبي الحسن الأشعري. وظهر مذهب الاعتزال لذلك العهد؛ إذ كان لكثير من زعمائه البراعة في البيان، والوجاهة عند رجال الدولة، فعمرو بن عبيد كان رفيع المنزلة عند المنصور، وكان المجلس الذي يعقده البرامكة لأصحاب المقالات ينتظم من أبي الهذيل العلاف، وإبراهيم النظام، وبشر بن المعتمر، وجعفر بن حرب، وثمامة بن أشرس، وجعفر بن بشر، وكلهم من زعماء الاعتزال. وأحمد بن أبي دؤاد كان وجيهاً لدى المأمون، وتولى قاضي القضاة في خلافة المعتصم، وهو الذي امتحن الإمام أحمد بن حنبل، وحاول إلزامه القول بخلق القرآن الكريم، وكذلك كان أبو دؤاد في عهد الواثق؛ ولما تقلد المتوكل الخلافة، أصيب ابن أبي دؤاد بفالج، فخلفه في القضاء ابنه محمد بن أحمد، ثم صرفه المتوكل عن القضاء، وولى مكانه يحيى بن أكثم، وكان يقتدي بمذهب أهل السنة. ومن أسباب ظهور الاعتزال: أن بعض زعمائه كانوا يتصدون للرد

على الخارجين عن الملة من نحو الملاحدة والطبعيين، كما ردّ واصل الغزالي على المانوية، ورد أبو هاشم بن أبي علي الجبائي على القائلين بالطباع، ورد أبو الحسين بن أبي عمر الخياط على ابن الراوندي في كتاب "الانتصار"، وكانوا يدرسون الفلسفة، ويتناولون آراء رجالها بالنقض، فلأبي هاشم هذا كتاب "النقض على أرسطاليس في الكون والفساد". ومما نقرؤه في ترجمة النظام: أن جعفر بن يحيى البرامكي ذكر أرسطاليس، فقال النظام: قد نقضت عليه كتابه، فقال جعفر: كيف وأنت لا تحسن أن تقرأه! فقال النظام: أيهما أحب إليك: أن أقرأه من أوله إلى آخره، أم من آخره إلى أوله؟ ثم أخذ يذكره شيئاً فشيئًا، وينقض عليه، فتعجب جعفر منه. ودراسة المعتزلة للفلسفة أفادت في ردهم على بعض الفلاسفة والملاحدة، ولكن انحرفت ببعض آرائهم عن قصد السبيل، فتعسفوا في تأويل نصوص من الكتاب والسنّة؛ ظنًا منهم أن الفلسفة تتعاصى عن قبول ما تدل عليه هذه النصوص، ولم يكن المعتزلة في المسائل التي تعزى إليهم على رأي واحد، بل كانوا يختلفون في بعض الآراء، وقد ينتصب بعضهم لتفنيد آراء بعض، كما ألّف جعفر بن حرب في الرد على أبي الهذيل العلاف كتاباً سماه: "توبيخ أبي الهذيل"، وبالغ في الرد عليه حتى أشار إلى تكفيره. وزاد مذهب الاعتزال في القرن الثاني والثالث رواجاً أن أهل السنّة كانوا لا يعنون بمجادلتهم على طريقة نظرية يرخي فيها الخصم لخصمه العنان، ثم يدفع شبهه شبهة بعد أخرى، وينقض أدلته دليلاً بعد دليل، وكان الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - يكره التصدي لمجادلة المبتدعين، حكى عنه الغزالي

في كتاب "المنقذ": أنه أنكر على الحارث المحاسبي تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: الرد على البدعة فرض، فقال أحمد: نعم، ولكن حكيتَ شبهتهم أولًا، ثم أجبتَ عنها، فلا يؤمن أن يطالع الشبهة من تعلق بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظر إلى الجواب، ولا يفهم كنهه. قال الغزالي: وما ذكره أحمد حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، أما إذا انتشرت، فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب إلا بعد الحكاية. كان أهل السنَّة من ناحية التفقه في الدين وتقرير أصول الأحكام يبسطون القول إلى أبعد غاية، أما موقفهم أمام الفرق التي تتكلم في العقائد، وما يتصل بها، فيشبه موقف من يستخف بقوة خصومه، فلا يعد لهم ما استطاع من قوة، أو لا يعمل في دفاعهم ما لديه من سلاخ، حتى يجوسوا خلال أرضه، وينقصوها من أطرافها. سادت في القرن الثالث الآراء المخالفة لمذهب السلف، حتى ظهر أبو الحسن الأشعري، فأحسن التعبير عن مذهب أهل السنّة، وانقلب علم الكلام إلى هيئة غير هيئته التي خلعها عليه المعتزلة والمرجئة والمشبهة والقدرية، والذي يستطيع أن يجاهد، فيقلب أمماً كثيرة من وجهة إلى أخرى، جدير بأن يعدّ في أعاظم الرجال، فإذا عرضنا عليك صحيفة من حياة أبي الحسن الأشعري، فإنما نعرض عليك شيئاً من سيرة رجل كان له في إصلاح النفوس وتقويم العقول جهاد أي جهاد. * نسب أبي الحسن الأشعري ومولده: هو علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛

والأشعري نسبة إلى أشعر أبي قبيلة باليمن، فنسبه عربي صريح، ومولده بالبصرة سنة 260 ستين ومئتين. * نشأته العلمية: نشأ الأشعري بالبصرة، وهي يومئذ زاهية بالعلوم الدينية والعربية وفن الكلام، فأخذ السنّة عن الحافظ زكريا بن يحيى الساجي، وأبي خليفة الجمحي، وسهل بن نوح، ومحمد بن يعقوب المقري، وعبد الرحمن بن خلف الضبي، وقد أكثر في تفسيره من الرواية عن هؤلاء، ثم رحل إلى بغداد، وأخذ عمن لقيه فيها من علماء الحديث. ودرس علم الكلام على مذهب المعتزلة، فكان يتلقى على طائفة من كبارهم؛ مثل: أبي علي الجبائي، والشحام، والعطوي، وكان متقدمًا في هذا العلم على أقرانه، وسنحدثك قريباً عن براءته من مذهب المعتزلة، ورجوعه إلى مذهب أهل السنة. وإذا لم يُذكر الأشعري في طبقات المحدثين، فلأنّ همته لم تكن مصروفة إلى الإكثار من الرواية، وإنما كان يبذل جهده في تعرف آراء الفرق، والغوص على الحجج التي تنقض شبههم، وتدمغ باطلهم، فلا بأس عليه مما وصفه به بعض الحنابلة من أن خبرته بمقالات أهل الكلام أوسع من خبرته بمذاهب أهل الحديث، وكثير ممن عاصروه، أو تلقوا عنه، قد شهدوا له بغزارة العلم، وحسن التصرف فيما يعلم، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني: كنت في جنب الشيخ أبي الحسن الباهلي كقطرة في جنب البحر، وسمعت الباهليّ يقول: كنت في جنب الأشعري كقطرة في جنب البحر. وهذه الشهادة - وإن كانت صادرة عن تواضع من أبي الحسن الباهلي -

لا تخلو من إيماء إلى عظم منزلة أبي الحسن الأشعري في العلم. * مذهبه في أصول الدين: كان أبو الحسن الأشعري في مبدأ أمره على مذهب الاعتزال، ولزم أبا علي الجبائي سنين كثيرة، ثم اهتدى إلى أن الحق في جانب أهل السنّة، وأراد أن يكون رجوعه عن الاعتزال علانية، فأتى المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة، ورقي كرسياً، ونادى بأعلى صوته قائلاً: من عرفني، فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فانا أعزفه بنفسي: أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا تراه الأبصار (يعني: في الدار الآخرة)، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة. والواقع أنه لم يات بمذهب جديد، وإنما صار إلى مذهب السلف، وما كان عليه الأئمة الراشدون، فقام بتاييده، والنضال عنه، وانما ينسب إليه المتمسكون بمذهب أهل السنّة؛ لأنه زاد المذهب حججًا، وألف فيه كتبًا كثيرة، وقد صرح في كتاب "الاستبانة" بأنه على طرَيقة السلف، فقال: "وديانتنا التي بها ندين: التمسك بكتاب الله، وسنّة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل - نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته - قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون"، وعوده إلى مذهب أهل السنّة بعد الاعتزال شاهد - كما قال القاضي عياض في "المدارك" - على ثبات قدمه، وصحة يقينه في التزام السنّة؛ إذ لم يلزمها لأنه نشأ عليها، ولا اعتقدها تقليداً. * مذهبه في الأحكام العملية: تنازع بعض أصحاب المذهب أبا الحسن الأشعري، كلٌّ ينسبه إلى

مذهبه، ذكره ابن السبكي في "طبقات الشافعية"، وقال؛ (قد زعم بعض الناس أن الشيخ كان مالكي المذهب، وليس بصحيح، وإنما كان شافعياً، تفقه على أبي إسحاق المروزي (¬1)، نص على ذلك الأستاذ أبو بكر بن فورك في "طبقات المتكلمين"، والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني فيما نقله عنه الشيخ أبو محمد الجويني "في شرح الرسالة"). وذكره القاضي عياض في كتاب "المدارك" على أنه من فقهاء المالكية، وقال: ذكر محمد بن موسى بن عمران: أن الأشعري كان مالكياً: وقال: ذكر لي بعض الشافعية: أنه كان شافعيًا حتى لقيت الشيخ الفاضل رافعًا الحمال الشافعي، فذكر لي عن شيوخه: أن أبا الحسن كان مالكياً، وكان مذهب مالك - رحمه الله تعالى - في وقته شائعا في العراق، أيام إسماعيل (¬2) ابن إسحاق. والذي يظهر: أن أبا الحسن الأشعري لم يؤلف كتاباً في الأحكام يستفاد منه أنه مستقل النظر في الأحكام، أو أنه مقتد بأحد الأئمة. * قوته على المناظرة: تمرن الأشعري على المناظرات منذ كان على مذهب الاعتزال، حتى إن أستاذه أبا علي الجبائي كان إذا حضرت مناظرة، قال له: نُبْ عني، وكان الجبائي صاحب قلم، ولم يكن قويًا على المناظرة في المجلس. وكان - رحمه الله تعالى - يقصد إلى مواطن المعتزلة ليناظرهم، فقيل ¬

_ (¬1) هو أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسحاق المروزي، إمام في فقه الشافعية جليل، رحل إلى مصر في أواخر عمره، وتوفي بها سنة 340، ودفن بالقرب من تربة الإمام الشافعي. (¬2) هو القاضي إسماعيل أحد أعلام المالكية المتوفى سنة 282.

له: كيف تخالط أهل البدع، وتقصدهم بنفسك، وقد أمرت بهجرهم؟ فقال: هم أولو رياسة، منهم الوالي والقاضي، ولرياستهم لا ينزلون إليّ، فإذا كانوا هم لا ينزلون إليّ، ولا أسير أنا إليهم، فكيف يظهر الحق، ويعلمون أن لأهل السنّة ناصراً بالحجة؟!. وكان لا يبتدئ مناظرته بالسؤال، بل يقف موقف المجيب المدافع، حضر الأستاذ أبو عبد الله بن خفيف مناظرة بين الأشعري وبعض مخالفيه، فقضى العجب من علمه وفصاحته، وقال له: لم لا تسأل أنت ابتداء؟ فقال الأشعري: أنا لا أكلم هؤلاء ابتداء، ولكن إذا خاضوا في ذكر ما لا يجوز في دين الله، رددنا عليهم بحكم ما فرض الله - سبحانه وتعالى - علينا من الرد على مخالفي الحق. وجرت مناظرات بين أبي الحسن الأشعري والجبائي، منها: مناظرة في قول الجبائي كسائر معتزلة البصرة: إنه يجب على الله تعالى مراعاة الأصلح؛ بمعنى: الأنفع للعبد، فسأل الأشعري أبا علي الجبائي عن ثلاثة إخوة عاش أحدهم في الطاعة، وأحدهم في الكفر والمعصية، والآخر مات صغيرًا. فقال له الجبائي: يثاب الأول، ويعاقب الثاني، ولا يعاقب الثالث ولا يثاب. فقال الأشعري: إن قال الثالث: يا رب! هل عمرتني، فأصلح، فأدخل الجنة كما دخلها أخي المؤمن؟! فأجاب الجبائي بأن الرب يقول: كنت أعلم أنك لو عشت، لفسقت، فدخلت النار. ئم قال الأشعري: فإن قال الثاني: يا رب! لمَ لم تمتني صغيراً حتى لا أعصي، فلا أدخل النار كما أمتَّ الثالث؟! فانقطع الجبائي. فمعتزلة البصرة هم الذين يرون وجواب مراعاة الأصلح بمعنى الأنفع

للعبد، أما معتزلة بغداد، فيذهبون في تفسير الأصلح الذي يجب على الله مراعاته إلى معنى: الأوفق في الحكمة والتدبير، وليس هذا المذهب بموضع المناظرة السالفة؛ لأن الحكمة لا تتبع جلب المنفعة، أو درء المفسدة الشخصية، وإنما تقوم على ما يقتضيه حسن النظام العام للخليقة. * أخلاقه وتقواه: كان في أبي الحسن دعابة، وكان له مع هذه الدعابة غيرة على الحق حامية، وتلك الغيرة هي التي تدفعه إلى مقارعة مخالفيه، غيرَ مبال بما كان لهم من جاه أو رياسة، قال أحد أصحابه: "إنه كان حضر معه مجلسًا في جماعة من المبتدعة، فقام فيه لله مقاماً حسناً، وكسر حجتهم، فلما خرج، قلت له: جازاك الله خيراً، قال: وما ذاك؟ قلت: لمقامك هذا لله تعالى ونصر دينه، فقال: يا أخي! إنا ابتلينا بأمراء سوء أظهروا بدع المخالفين، ونصرها، فوجب علينا القيام لله، والذبِّ عن دينه حسب الطاقة، فمسألة من معرفة ربك، وما تطيعه به، وتتقرب به إليه، أجدى عليك من هذا". وهذه القصة تدلك على أنه كان يؤثر الحق على رضا الأمراء، وأنه كان من التواضع بحال من يذكر أن الازدياد من معرفة الله والإقبال على فعل الطاعات يفضل ما كان يشتغل به من مقارعة الابتداع على طريقة علم الكلام. وفي أبي الحسن خصلة يعز في أهل العلم وجودها، وهي الرجوع عن الرأي عندما يستبين الحق، وشاهد هذا: أنه نفض يده من مذهب الاعتزال علانية عندما استبان أن الحق في جانب أهل السنّة؛ وكان قد صنف في أيام اعتزاله كتاباً كبيراً نصر فيه مذهب المعتزلة، ولما صار إلى مذهب أهل السنّة ألف كتاباً في نقض ذلك الكتاب الذي نصر فيه مذهب الاعتزال؛ وقد يقول

في بعض مؤلفاته: ألفنا كتاباً في مسألة كذا، ورجعنا عنه، ونقضناه، فمن وقع إليه، فلا يعولن عليه. وكان - رحمه الله - متجملاً بالحياء والورع؛ قال أحمد بن علي الفقيه: خدمت الإمام أبا الحسن بالبصرة سنتين، وعاشرته ببغداد إلى أن توفي، فلم أجد أورع منه، ولا أغض طرفاً، ولم أر أحداً أكثر حياء منه في أمور الدنيا، ولا أنشط منه في أمور الآخرة. وكان ينفق من غلة ضيعة جده بلال ابن أبي بردة. * خصومه: خصوم الرجل على قدر عظم شأنه، فكلما ارتفع الرجل درجة، أو ظهرت له مزية، تألم لها من أحسوا أنفسهم العجز عن أن يبلغوا شأوه، فليس من العجيب أن يكون لمثل الأشعري خصوم يناوئونه، ويعزون إليه من المقالات ما لم ينطق به لسانه، ولم يخطر على قلبه، وليس من المعقول أن يقف الأشعري لطوائف مختلفة المذاهب والآراء، وقفة من لا يعرف ذلك الذي يسميه الناس رهبة أو إحجاماً، ويرجو مع هذا أن يمضي في سلامة من أن يتحدثوا عنه في غير أمانة. ألصق به خصومه أقوالاً لم تسمع منه مناظرة، ولا توجد له في كتاب، كما عزوا إليه: أنه قال: إن المعجز هو كلام الله تعالى الذي لم يزل غير مخلوق، ولا نزل إلينا: ولا سمعناه قط، وقد ساق الأستاذ ركن الدين أبو عبد الله محمد الجويني في كتاب "عقيدة الإمام المطلبي" أشياء من هذه الأراجيف، وقال: "وقد تصفحت ما تصفحت من كتبه، وتاملت نصوصه في هذه المسائل، فوجدتها كلها على خلاف ما نسب إليه". ثم قال: "ولا عجب

أن اعترضوا عليه واخترصوا؛ فإنه - رحمه الله تعالى - فاضحُ القدرية وعامة المبتدعة، وكاشفُ عوراتهم، ولا خير فيمن لا يعرف حاسدة". وتحدث القاضي عياض في كتاب "المدارك" عمن يناوئون الأشعري، فنسب طائفة منهم إلى الغلو في ترك التأويل حتى وقعوا في التشبيه، ثم قال: "وأكثر من شنع عليه بالأندلس: ابن حزم؛ فإنه ملأ كتابه عليه وعلى أئمة أصحابه كذبًا وتشانيع باطلة، وذلك في كتابه المسمى: بالنصائح والفضائح". ولأبي العباس أحمد بن محمد بن عبد المنعم القرطبي رسالة ردَّ بها على شخص تورط في هجو الأشعري، تسمى: "ازجر المفتري على أبي الحسن الأشعري"، قال في طالعها: أسير الهوى ضلت خطاك عن القصد ... فها أنت لا تهدى لخير ولا تهدي سللت حساماً من لسانك كاذباً ... على عالم الإسلام والعلم الفرد تمرست في أعراض بيت مقدس ... رمى الله منك الثغر بالحجر الصلد ومما قال في وصف الأشعري: وسلَّ حساماً من بيان فهومه ... فرد سيوف الغي مغلولة الحد وأبدى علوماً ميزت فضل فضله ... كتمييز ذي البردين والغرس الورد

فجاءت مجيء الصبح والصبح واضح ... وسارت مسير الشمس والشمس في السعد سللن سيوف الحق في موطن الهدى ... فغادرن صدعى الملحدين بلا لحد وأيدن دين الله في أفق العلا ... بلا منصل عضب ولا فرس نهَد وأمضين حكم النقل والعقل فاحتوى ... كلام إمام الحق مجداً على مجد * أنصاره: قلنا فيما سلف: إن الأشعري لم يبتدع مذهباً جديداً، وإنما هو مقرر لمذهب السلف المبني على الوقوف عند نصوص الكتاب والسنّة، وترك تأويلها حيث لم يعارضها قاطع من معقول أو محسوس، فمزية الأشعري أنه بسط البحث والمناضلة عنها بالحجج النظرية؛ أي: على طريقة علم الكلام، وهي الطريقة التي مكَّنته من الظهور على من يدرسون أو يدَّعون الفلسفة، ويتعلقون في الجدال عن مذاهبهم بشيء من آرائها، ولأخذه بظاهر الكتاب والسنّة، وتصديه لمدافعة كل فرقة شاذة أو ضالة بمثل سلاحها، فكان لمؤلفاته الوقع الحسن في نفوس أكثر أهل العلم من أتباع الأئمة. قال القاضي عياض في كتاب "المدارك": "فلما كثرت تآليفه، وانتفع بقوله، وظهر لأهل الحديث والفقه ذبه عن السنن والدين، تعلق بكتبه أهل السنّة، وأخذوا عنه، ودرسوا عليه، وتفقهوا في طريقه، وكثر طلبته وأتباعه لتعلم تلك الطرق في الذَّبِّ عن السنّة، وبسط الحجج والأدلة في نصر الملة".

وقد ينساق أبو الحسن الأشعري في مجادلة الخصوم إلى آراء لا تمس أصول العقائد، ولا ترجع إلى صريح القرآن أو السنّة، وأكثرُ ما يخالفه فيه بعض علماء السنّة الذين يجلونه؛ كإمام الحرمين وغيره من الراسخين في العلم، عائد إلى هذا القبيل. أنكر بعض أهل العلم على الإمام الرازي مناقشته للأشعري في بعض مؤلفاته فقال ابن السبكي: والإمام الرازي لا ينكر عظمة الأشعري، كيف وهو على طريقته يمشي، وبقوله يأخذ؟! ولكن لم تبرح الأئمة يعترض متأخرها على متقدمها، ولا يشينه ذلك، بل يزينه. ومن معاصري الأشعري: محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي المتوفى سنة 333، وهو من أئمة أهل الحق، وبينه وبين الأشعري خلاف في مسائل يعذر كل منهما صاحبه في الاجتهاد فيها، ولا يراه حائداً بها عن مذهب أهل السنّة. * مؤلفاته: لأبي الحسن مؤلفات كثيرة، حتى قيل: إنها تزيد على مئتي مصنف، من هذه المؤلفات كتاب "الفصول" في الرد على الخارجين على الملّة من الملحدين والفلاسفة والطبيعيين، والدهريين، وأهل التشبيه والقائلين بقدم الدهر، على اختلاف مقالاتهم وأنواع مذاهبهم، ثم رد على البراهمة، واليهود والنصارى والمجوس، وهو كتاب كبير يشتمل على اثني عشر كتاباً. ومنه كتاب "الموجز"، وهو يشتمل على اثني عشر كتاباً على حسب تنوع مقالات المخالفين من الخارجين عن الملة والداخلين فيها، وآخره كتاب الإمامة.

ومنها تفسيره المسمى بالمختزن، قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "القواصم والعواصم": وانتدب الأضعري إلى كتاب الله، فشرحه في خمس مئة مجلد، وسماه بالمختزن، ومنه أخذ الناس كتبهم، ومنه أخذ عبد الجبار الهمداني كتابه في تفسير القرآن الذي يسمى بالمحيط في مئة سفر، ثم ذكر ابن العربي: أن الصاحب بن عباد بذل عشرة آلاف دينار لخازن الكتب في بغداد، فألقى النار في الخزانة، فاحترقت الكتب، واحترق من بينها "المختزن"، ولم تكن منه إلا نسخة واحدة، فنفدت من أيدي الناس. وكان الصاحب بن عباد على مذهب المعتزلة، ولأبيه عباد بن عباس كتاب في أحكام القرآن ينصر فيه مذهب الاعتزال. وليس بين أيدينا من مؤلفات أبي الحسن غير كتاب "الإبانة"، وهو كتاب قرر فيه عقيدة السلف، ورد على ما يخالفها من آراء اعتزالية، ومنه يقف القارئ على طريقة الشيخ في الرد على مخالفيه، ويعرف كيف كان يجمع في الاستدلال بين السمع والعقل. * وفاته: توفي أبو الحسن - رحمه الله تعالى -، في بغداد سنة أربع وعشرين وثلاث مئة. قال أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي: لما قرب أجل أبي الحسن الأضعري، دعاني، فأتيته، فقال: اشهد على أني لا أكفّر أحداً من أهل هذه القبلة؛ لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف عبارات. ومات في حجر أبي علي هذا، وكانوا يصفونه عند النداء لجنازته بناصر الدين، ودفن في تربة بين الكرخ وباب البصرة.

قال أبو الحسن القابسي: لقد مات الأشعري يوم مات وأهل السنّة باكون عليه، وأهل البدع مستريحون منه. أفاض الله على قبره رحمة ونوراً.

القاضي أبو الحسن الجرجاني

القاضي أبو الحسن الجرجاني (¬1) نعرض على حضرات القراء صفحة من حياة شخص غزير العلم، رائع الأدب، صافي الذوق، كامل الخلق، هو القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، من أعيان القرن الرابع. نشأ أبو الحسن في "جرجان"، وتقلب في البلاد للقاء كبار العلماء والأخذ عنهم، فدخل "نيسابور"، وطاف العراق والشام وغيرها، وأحرز في العلوم والآداب منزلة يشار إليها بالبنان. قال مؤرخوه: "لم يزل أبو الحسن يتقدم حتى ذكر في الدنيا"، ووصفه صاحب "يتيمة الدهر" فقال: "هو فرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم". ويعد أن بلغ الذروة في العلم والآداب، عرج على حضرة الصاحب بن عباد، فعرف قدره، وتمسك بصحبته، وكاد من شدة اختصاصه به لا يستطيع مفارقته، فكان لا يفارقه كما قال الصاحب في بعض رسائله: "مقيماً، وظاعناً، ومسافراً، وقاطناً". وتأخذ هذا من كتاب بعث به الصاحب إلى حسام الدولة العباسي تاشي الحاجب يوصيه فيه بمساعدة القاضي في كل ما يحتاج إليه عندما استأذنه في زيارة "جرجان"، فقد فقال: "فإن رأى الأمير أن يجعل من حظوظي الجسيمة عنده تجهد القاضي أبي الحسن فيما يعجل رده، فإني ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد العشرين.

ما غاب كالمضل الناشد، واذا عاد كالغانم الواجد، فعل إن شاء الله". وكان الصاحب يتلقاه في "جرجان" بإقبال وإكرام أكثر مما يتلقاه به في غيرها من البلاد، قال القاضي: وقد استعفيته يوماً من فرط تحفيه بي، وتواضعه لي، فأنشدني: أكرم أخاك بأرض مولده ... وأمده من فعلك الحسن فالعز مطلوب وملتمس ... وأعزّه ما قيل في الوطن ثم قال له: قد فرغت من هذا المعنى في قصيدتك العينية، فقلت: لعل مولانا يريد قولي: وشيدت مجدي بين قومي فلم أقل ... ألا ليت قومي يعلمون صنيعي فقال: ما أردت غيره. وتولى قضاء "جرجان" على يد الصاحب، ثم تولى قاضي القضاة بالري، واستمر على ذلك إلى أن توفي، وكان حسن السيرة في قضائه. ويصفه المؤرخون، فنرى فيما يصفونه به خصالاً تعد أصولاً في مكارم الأخلاق؛ كصدق اللهجة، وعزة النفس، وشرف الهمة، ومن شواهد هذا: أبياته المنقطعة النظير في تصوير الاعتزاز بالعلم وسمو الهمة، وهي: يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما وما كل برق لاح لي يستفزني ... ولا كل أهل الأرض أرضاه منعما ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمع صيرته لي سُلَّما ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة ... إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما وقد لهج بهذا المعنى في شعره، وقال من أبيات: فإن لم يكن عندالزمان سوى الذي ... أضيق به ذرعاً فعندي له الصبر وقال توصل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أن الخضوع هو الفقر وللقاضي ديوان شعر، وقد يعرج في شعره على الصاحب بن عباد، أو غيره من أقرانه الذين كانوا يمنحونه الوداد، وينظرون إليه بعين الإجلال، فكان يخاطبهم بلسان الشعر كالمجازاة على ما يلاقي من إسعادهم، وصدق مودتهم له، وقد رأيتم كيف كان الصاحب بن عباد يطلق لقلمه أن يثني عليه بأبلغ الثناء، ويسمي صلة الود بينهما إخاء، ولا يأبى أن يثني عليه في شعره. قال القاضي: انصرفت يوماً من دار الصاحب قبيل العيد، فجاءني رسوله بعطر العيد، ومعه رقعة بخطه فيها هذان البيتان: يا أيها القاضي الذي نفسي له ... مع قرب عهد لقائه مشتاقَهْ أهديت عطراً مثل طيب ثنائه ... فكأنما أهدي له أخلاقَهْ ونظر القاضي إلى ما يفضي إليه اقتراض المال وصرفه في شهوات النفس من سوء العواقب، فحاول معالجة هذا المرض بحكمة بالغة، فقال: إذا رمت أن تستقرض المال منفقاً ... على شهوات النفس في زمن العصر فسل نفسك الإنفاق من كنز صبرها ... عليك وإنظاراً إلى ساعة اليسر فإن أسعفت كنت الغني وان أبت ... فكل منوع بعدها واسع العذر ولم يكن القاضي بارعاً في صناعة الشعر فحسب، بل كان مبدعاً في النثر أيضاً، كما وصفه صاحب "يتيمة الدهر"، فقال: يجمع خط ابن مقلة،

إلى نثر الجاحظ، ونظم البحتري. وجمع القاضي الجرجاني إلى غزارة العلم ذوقاً سليماً، ونقداً للشعر عادلًا، وبسلامة الذوق والعدل في النقد استطاع أن يخرج كتابه "الوساطة بين المتنبي وخصومه" في صنع حكيم، ووضع بديع، وكان الصاحب بن عباد ألف رسالة في إظهار مساوئ المتنبي، ولم تمنع القاضي الجرجاني صداقته للصاحب أن يؤلف كتاب "الوساطة"، ويسلك فيه مسلك الإنصاف، فيرد كثيراً مما عده الصاحب وغيره من سقطات المتنبي. ومن قرأ كتاب "الوساطة"، وذكر أن الشيخ عبد القاهر الجرجاني أخذ من القاضي الجرجاني، واغترف من بحره، وكان يفتخر بالانتماء إليه، تنبه لناحية من النواحي التي استمد منها عبد القادر براعته في كتابي "دلائل الإعجاز"، و"أسرار البلاغة". وإذا كان في المنتمين إلى قبيل العلماء من إذا أدرك شهادة أو منصباً أو وجاهة، قلَّ إقباله على العلم، وأصبح يأنس بلقاء الناس، وشمعى إليه ما استطاع، ولا يبالي أن يقضي الساعة أو الساعتين في محادثات تمضي مع الوقت دون أن يكون لهما أثر في نماء علم، أو إتقان عمل، فإن القاضي الجرجاني من الطبقة التي تلذ العلم، وتأنس بالكتاب، وترى في ذلك غنيمة الحياة، فاقرأ إن شئت قوله: ما تطعمت لذة العيش حتى ... صرت للبيت والكتاب جليسا ليس شيء أعز عندي من العلـ ... ـم فلا أبتغي سواه أنيسا ولا يضر أمثال القاضي الجرجاني أن يقلل من لقاء الناس، ويؤثر أن يكون للييت والكتاب جليساً، ما دام يحمل في يمينه قلماً يبث به في القراطيس

ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، فقد حرر بذلك القلم البارع مؤلفات غير كتاب " الوساطة"، منها: "تفسير القرآن المجيد"، وكتاب "تهذيب التاريخ". عاش القاضي الجرجاني في عزة ووجاهة واستقامة، وتوفي سنة 366 هـ، وهو قاضي القضاة بالري، وحمل تابوته إلى "جرجان"، ودفن بها، جازاه الله عن إعزازه للعلم خير الجزاء.

حجة الإسلام الغزالي

حجَّة الإسلام الغزاليّ (¬1) هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي. ولد في "طوس" سنة 445، وتلقى العلم في بداية أمره على الأستاذ أحمد بن محمد الراذكاني، ورحل إلى "جرجان"، فأخذ عن الأستاذ أبي نصر الإسماعيلي، وعاد إلى "طوس"، فمكث بها نحو ثلاث سنين، وسافر إلى "نيسابور"، فاختلف إلى دروس إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك ابن أبي محمد الجويني، وصرف همته في طلب العلم، فظهر نبوغه في أقرب وقت، وصار من الأعلام المشار إليهم بالبنان في حياة أستاذه إمام الحرمين، ولم يزل ملازمًا له إلى أن توفي سنة 478. وخرج أبو حامد من نيسابور إلى "العسكر" حيث يقيم الوزير نظام الملك، فعرف الوزير قدره، وأقبل عليه باحتفاء، وصار فيمن يحضر مجالس الوزير من أفاضل العلماء، وظهر علمه، وعلا ذكره، فولاه التدريس بمدرسته النظامية ببغداد سنة 484، فانتقل إلى بغداد، وأقبل على التدريس، فامتلأت قلوب أهل العراق بالإعجاب به، وسمت عندهم مكانته، وصار بعد إمامة خراسان إمام العراق، ولم يكن منه إلا أن نبذ الدنيا وراء ظهره، ولاذ بالزهد سنة 488، فرحل من بغداد إلى الحجاز، فأدى فريضة الحج، وتوجه إلى ¬

_ (¬1) مقدمة كتاب "إحياء علوم الدين".

الشام، فأقام بدمشق مدة، وانتقل منها إلى بيت المقدس، وبقي في تلك الديار نحو عشر سنين ألف فيها كتبًا قيمة، منها: كتاب "إحياء علوم الدين". ثم قصد مصر، فأقام بالإسكندرية حيناً يقصد - فيما يقال - الركوبَ في البحر إلى بلاد المغرب للاجتماع بأمير المسلمين يوسف بن تاشفين، ولما بلغته وفاته، عدل عن السفر، ورجع إلى بغداد، وألقى بها دروسًا، ثم انتقل إلى خراسان، وتولى التدريس بالمدرسة النظامية في "نيسابور"، وعاد بعدُ إلى بلده "طوس"، واتخذ خانقاه للصوفية، ومدرسة لطلاب العلم، وكان يقضي أوقاته في تلاوة القرآن، ومجالسة أهل التقوى، والجلوس للتدريس، إلى أن توفي سنة 505 خمس وخمس مئة، ودفن بظاهر الطابران (إحدى بلدتي طوس). ولم يسلم الغزالي في حياته مما يبتلى به أكثر الراسخين في العلم من مناوأة جاهل لا يقدر الرسوخ في العلم قدره، وسعاية زائغ عن الرشد يحرق فؤادَه دعوةٌ إلى الحق خالصة القصد، قوية الحجة، مثل دعوة الغزالي. وقد أشار الحافظ ابن عساكر في كتاب "تبيين كذب المفتري" إلى ما كان الغزالي يقاسيه من مناوأة الخصوم، والسعي به إلى الملوك، وأن الله حفظه وصانه عن أن تنوشه أيدي النكبات، أو ينتهك ستر دينه بشيء من الزلات. وقد أطنب الكاتبون في الثناء على أبي حامد، وبسطوا الحديث عن حياته العلمية، وكتفي هنا بثناء أبي بكر بن العربي عليه في كتاب "قانون التأويل" إذ يقول: "ورد علينا- أي: في بغداد - ذانشمند - يعني: الغزالي -، فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية، معرضاً عن الدنيا، مقبلاً على الله تعالى، فمشينا إليه، وعرضنا أمنيتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي كنا

ننشد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن "الخبر على الغائب فوق المشاهدة" ليس على العموم، ولو رآه علي بن العباس لما قال: إذاما مدحت امرأً غائباً ... فلا تغلُ في مدحه واقصد فإنك إن تغلُ، تغل الظنو ... ن فيه إلى الأمد الأبعد فيصغر من حيث عظَّمته ... لفضل المغيب على المشهد وذكر في كتاب "القواسم والعواصم" بعد الحديث عن مسألة كشف الغيوب، فقال: "فاوضت فيها أبا حامد الغزالي حين لقائي له بمدرسة السلام في جمادى الآخرة سنة تسعين وأربع مئة، وقد كان راضَ نفسه بالطريقة الصوفية من سنة ست وثمانين إلى ذلك الوقت نحواً من خمسة أعوام، وتجرد لها، واصطحب مع العزلة، ونبذ كل فرقة، فتفرغ لي بسبب بيناه في ترتيب الرحلة، فقرأت عليه جملة من كتبه، وسمعت كتابه الذي سماه "الأحياء لعلوم الدين"، فسألت سؤال المسترشد في عقيدته، المستكشف عن طريقته، لأقف من سر تلك الرموز التي أومأ إليها في كتبه على موقف تام المعرفة، وطفق يجاوبني مجاوبة الفاهم لطريق التسديد للمريد؛ لعظيم مرتبته، وسمو منزلته، وما ثبت له في النفوس من تكرمة، فقال لي من لفظه، وكتبه لي بخطه: إن القلب إذا تطهر عن علاقة البدن المحسوس، وتجرد للمعقول، انكشفت له الحقائق، وهذه أمور لا تدرك إلا بالتجربة لها عند أربابها؛ بالسكون معهم، والصحبة لهم" إلخ. للغزالي مؤلفات كثيرة، ومن أنفس ما خطته يده كتاب "الإحياء"، وقد ألف الغزالي هذا الكتاب بعد أن درس الفلسفة، واستقصى ما عند أهلها، ويعد

أن أقبل بهمة على طريق الصوفية، فطالع كتبهم؛ مثل: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المنثورة عن الجنيد، والشبلي، وأبي يزيد البسطامي، وظهر عنده أن لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى، وكف النفس عن الهوى، ثم واظب على العزلة والخلوة. فلا عجب أن يبلغ كتاب "الإحياء" في الغوص على أسرار الشريعة، والبحث عن دقائق علم الأخلاق وأحوال النفس، غاية بعيدة، فكتاب "الإحياء" من صنع عقل نشأ في قوة، ورسخ في علوم الشريعة، وخاض في العلوم العقلية، فوقف على كبيرها وصغيرها، وفرق بين سليمها ومعيبها، وخلص بعد هذا من كدور الهوى، وظلمات الحرص على عرض الدنيا. وقد كان الناقدون لكتاب "الإحياء" يعيبونه بما احتواه من بعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، وربما اعتذروا عن مؤلفه بأنه لم يكن طويل الباع في علم الحديث، بل نقلوا عنه أنه كان يقول عن نفسه: "أنا مزجي البضاعة في علم الحديث". وقد قام بإصلاح هذا النقص الحافظ العراقي، زين الدين عبد الرحيم، فألف في تخريج أحاديثه كتاباً في مجلدين، ثم اختصره في مجلد سماه "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار". وإذا وجد العلماء في كتاب "الإحياء" مآخذ معدودة، فإنه من صنع بشر غير معصوم من الزلل، وكفى كتاب "الإحياء" فضلاً وسموَّ منزلة أن تكون درر فوائده فوق ما يتناوله العد، وأن يظفر منه طلاب العلم وعشاق الفضيلة بما لا يظفرون به من كتاب غيره، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].

أبو بكر بن العربي

أبو بكر بن العربي (¬1) أخرجت معاهد العلم في بلاد الشرق رجالاً خدموا الإسلام بصدق روايتهم، واستقلال أنظارهم، وشجاعتهم في الدعوة إلى الحق، وصبرهم على ما يلاقون في سبيل ذلك من الأذى، ورزقوا بعد هذا خلقاً سامياً، وازدراء لكل ما لا يدنيهم من مجادة في الدنيا، أو سعادة في الأخرى. وفي مقدمة هذه الطبقة- فيما أرى- القاضي أبو بكر بن العربي، وهو محمد بن عبد الله بن محمد ابن عبد الله بن أحمد بن العربي الإشبيلي الأندلسي. * مولده ونشأته: ولد صاحب الترجمة بإشبيلية سنة 468، وكان والده عبد الله بن محمد من العلماء الذين أحرزوا في دولة بني عباد حظوة وصدارة، فنشأ أبو بكر في بيئة علم وفضل، وفي بيت يتصل بسياسة الدولة، وذلك مما يهيئ صاحب الفطرة السليمة كأبي بكر بن العربي لأن ينبغ في العلم، ويسبق إلى ذروة المجد. بلغ أبو بكر سنّ التعلم، فأخذ عن أبيه عبد الله، وخاله أبي القاسم الحسن الهوزني، وأبي عبد الله السرقسطي، وقرأ القراءات، وأخذ حظاً عظيماً من علوم ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام في دار جمعية "الهداية الإسلامية" مساء يوم الخميس 22 رجب 1355. ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد التاسع.

العربية وآدابها، ونقل عنه أنه قال: لم أرحل من الأندلس حتى أحكمت كتاب سيبويه. * رحلته إلى الشرق: لما انقرضت دولة بني عباد بإشبيلية، رحل به أبوه إلى الشرق وسنّه يومئذ 17 سنة، ودخل بلاداً كانت مشرقة بنور العلم، فأخذ عن أجلَّة علمائها، مثل "بجاية"، و"المهدية" بإفريقية، ثم الاسكندرية ومصر والشام والعراق والحجاز، وقفل راجعاً إلى وطنه، فلما وصل إلى الإسكندرية، توفي بها أبوه، وعاد إلى وطنه، والناس في أشد الحاجة إليه، وقضى في رحلته ثماني سنين في إحدى الروايات، وعشراً في بعضها. قال القاضي أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد: لما رحلت إلى قرطبة، قرأت على الحافظ أبي بكر، ولزمته، فسمعني ذات يوم أذكر الانصراف إلى وطني بالمرية، فقال لي: ما هذا القلق؟! أقم حتى يكون لك في رحلتك عشرة أعوام كما كان لي. * لقاؤه في رحلته أبا حامد الغزالي: قال ابن العربي في "قانون التأويل": ورد علينا ذانشمند - يعني: أبا حامد الغزالي-، فنزل في رباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية، معرضاً عن الدنيا، مقبلًا على الله تعالى، فمشينا إليه، وعرضنا أمنيتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي كنا ننشد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر على الغائب فوق المشاهدة، ليس على العموم، ولو رآه علي بن العباس لما قال:

إذا مدحت امرأ غائباً ... فلا تغل في مدحه واقصد فإنك إن تغل تغل الظنو ... ن فيه إلى الأمد الأبعد فيصغر من حيث عظَّمْته ... لفضل المغيب على المشهد ولم يمنع أبا بكر إجلالُه للغزالي أن يناقشه في كثير من المسائل، كما أنكر عليه قوله في كتاب "الإحياء": "ما في الإمكان أبدع مما كان (¬1) "، وقال: "ونحن وإن كنا قطرة في بحره، فلا نرد عليه إلا بقوله، فسبحان من كمل شيخنا بفواضل الخلائق، ثم صرف به عن هذه الواضحة في الطرائق". * رجوعه إلى الأندلس: عاد أبو بكر إلى الأندلس والنفوس إليه متطلعة، فوجدوه في العلم بحرًا زاخرًا، وفي الأدب قمراً زاهراً، فلقي منهم إقبالاً، وشملته منهم حظوة، ولسعة علمه، وقوة حفظه لما كان يرويه من الأحاديث والآثار، وقع في وهم بعض من لم يبلغ هذه الدرجة أن أبا بكر قد يروي ما لم يسمع، فقال: يا أهل حمص (¬2) ومن بها أوصيكم ... بالبر والتقوى وصية مشفق فخذوا عن العربي أسمار الدجى ... وخذوا الرواية عن إمام مشفق إن الفتى ذرب اللسان مهذب ... إن لم يجد خبراً صحيحاً يخلق * شدة ارتياحه لرحلته: ذكر أبو بكر مسألة استياك الصائم بعد العصر، وأورد الخلاف الذي ¬

_ (¬1) يعني: أن خَلق هذا العالم لا يمكن أن يكون أحسن من هذه الصفات. ومن أهل العلم من ذهب إلى أن هذه الجملة مدسوسة على أبي حامد، ومن القريب تأويل نفي إمكان الإبداعية من جهة تعلق حكمة الله بخلق العالم على هذا النظام. (¬2) هي إشبيلية.

جرى فيها بين المالكية والشافعية، وما استفاده من بعض علماء بغداد في وجهة نظر المالكية، وقال: لو لم أستفد في رحلتي إلا هذه المسألة، لكفاني. * اتصاله بالسلطان: لازم أبو عبد الله بن المجاهد مجلس أبي بكر نحواً من ثلاثة أشهر، ثم تخلف عنه، فسئل عن سبب تخلفه، فقال: كان - يعني: أبا بكر - يدرس وبغلته عند الباب ينتظر الركوب للسلطان، والواقع أن اتصال العالم المتين في علمه وتقواه بالسلطان لا يأتي إلا بخير، فهنالك تكون النصيحة التي تكف شراً عظيماً، أو تثمر خيراً عاماً. * ولايته قضاء إشبيلية: تقلد منصب قاضي القضاة بإشبيلية، فأقام ميزان العدل، وضبط الأمور بيد الحزم، والتزم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يخاف لومة لائم، وربما صدرت عنه أحكام صارمة، كما روي أنه عاقب زمّاراً بثقب شدقه. قال القاضي عياض يتحدث عن ابن العيي: "واستقضي ببلده، فنفع الله به أهلها؛ لصرامته وشدته ونفوذ أحكامه، وكانت له في الظالمين سورة مرهوبة، وتؤثر عنه في قضائه أحكام غريبة". * محنته: كان قد ألزم الناس بإحضار جلود ضحاياهم لإصلاح جانب من سور إشبيلية قد تهدم، ولم يكن هناك مال، فأحضروها وهم مكرهون، وبلغ من غيظ العامة أن أضمروا له شراً، وهجموا على منزله، ونهبوا أمواله وكتبه، ولولا أنه فرّ من ظهر البيت، لآذوه في نفسه. والعبرة في هذه القصة: أن علماء الإسلام كانوا يوجهون أنظارهم

إلى المصالح العامة، ولاسيما وسائل حماية البلاد من أن تمتد إليها يد عدوّ لا يرعى فيها عهداً، ولا تأخذه بها رأفة، وكم من عالم قد قرأنا في تاريخ حياته أنه مات شهيداً في سبيل الدفاع عن دينه ووطنه!. وتومئ هذه الواقعة إلى أن الناس هم الناس، قد يبخلون بالأمر الحقير عن الأمور الهامة الجليلة، ويبلغ بهم البخل أن يبغضوا الداعي إلى الإصلاح، ويعملوا جهدهم في إيذائه ما استطاعوا. * إقباله على نشر العلم: صرف صاحب الترجمة من القضاء، وانتقل إلى قرطبة، وأقبل على نشر العلم غيرآسف على القضاء، وكان يقول: "إن القاضي إذا ولي القضاء عامين، نسي أكثر مما كان يحفظ، فينبغي له أن يعزل، وأن يتدارك نفسه". وكنت وليت في تونس قضاء "بنزرت" وملحقاتها، فأحسست أن هذه الولاية ستقف بي في العلم عند حد، وصغرت في عيني، فاستقلت منها بعد أن قمت بواجبها نحو سنة وأربعة أشهر، ورجعت إلى الحاضرة، وأقبلت على التدريس بجامع الزيتونة. وكان صاحب الترجمة منقطعاً للبحث والمطالعة، حتى إنه كان يضع الكتب عن يمين الفراش وشماره، ولا يطفئ المصباح، وإذا غلبه النوم، نام، ومهما استيقظ، مد يده إلى كتاب (¬1). وممن أخذ عن ابن العربي، وسمع منه: القاضي عياض، والإمام السهيلي صاحب "الروض الأنف". ¬

_ (¬1) حكى عنه هذا بعض أهل العلم الذين صحبوه أيام كان بقرطبة.

* رسوخه في الأدب: قد عرفنا أن أبا بكر قد درس علم الأدب قبل رحلته، وقرأنا من رحلته: أنه قرأ الأدب على التبريزي، ثم إن من ينظر في الجمل البليغة التي تجيء في مؤلفاته، يدرك أنها صادرة من أديب جال في منظوم البلغاء ومنثورهم جولة واسعة، وله شعر جيد، ولا ينتظر ممن يقضي الوقت في بحث العلوم ودراستها أن يأتي من الشعر بمثل ما يأتي به أبو تمام وابن الرومي. * انتفاعه بالأدب في بعض الشدائد: ذكر ابن العربي في كتاب "قانون التأويل" ركوبه البحر في رحلته من إفريقية، وحكى أن البحر عظم عليهم، وتلاطمت بهم أمواجه، فوقعوا في هول كبير، ولكن الله سلم، فخرجوا منه خروج الميت من القبر، وانتهوا بعد شدة إلى بيوت بني كعب بن سليم، ووقف ابن العربي على باب أميرهم، فوجده يدير أعواد الشاه (الشطرنج)، فدنا منه، وأشار على الأمير بتحريك قطعة، فعارضه صاحبه؛ فأشار عليه بتحريك قطعة أخرى، فهزم الأمير صاحبه (¬1)، وأضاف إلى هذا أحاديث من الأدب الرائق، فعظم في عين الأمير، فأقبل يتعجب منه، ويسأله عن سنه، ويستكشف حاله، فأخبره بما لاقوه من هول البحر، فاستدعى أباه، وبالغ في إكرامهم؛ قال أبو بكر: فانظر إلى هذا العلم - يعني: التلهي بالشطرنج - الذي هو إلى الجهل أقرب، مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذا من العطب. * رأيه في طريقة التعليم: يرى أبو بكر تقديم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم، ثم ينتقل ¬

_ (¬1) قال أبو بكر: كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خلس البطالة.

منه إلى درس الحساب، ثم ينتقل منه إلى درس القرآن، ثم ينظر في أصول الدين، ثم في أصول الفقه، ثم الجدل، ثم الحديث وعلومه. ومن رأيه: أن لا يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلاً لذلك بجودة الفهم والنشاط، وأنكر على علماء بلده الذي يأخذون الصبي في أول أمره بكتاب الله، حيث إنه يقرأ ما لا يفهم. قال ابن خلدون: وهو لعمري مذهب حسن، إلا أن العوائد لا تساعد عليه، ثم قال: ووجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثار للتبرك والثواب، وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم، فيفوته القرآن؛ لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم، فإذا تجاوز البلوغ، وانحل من ريقة القهر، فربما عصفت به رياح الشبيبة، فألقته بساحل البطالة. ولو أعطي جانب من أوقات الطفل إلى تعلم القرآن، وجانب منها إلى أخذ مبادئ من علم الحساب، وعلوم اللغة، ومختارات من الشعر، لكان خيراً. * مؤلفاته: المصنفون كثير، أما الذين يكتبون على بينة مما يكتبون، فيتقنون الرواية إذا رووا، ويراعون قانون أدب البحث إذا استنبطوا، فليسوا بكثير، ومن أهل هذه الطبقة أبو بكر بن العربي، فإنك لا تفتح كتاباً من مؤلفاته إلا وجدت علماً غزيراً، ونقداً عادلاً، وفكراً يتصرف في حرية، وعبارات على إيجازها تجعل ما أشكل من المسائل صبحاً بيناً، ومن مؤلفاته كتاب "أحكام القرآن"، وكتاب "القبس"، وكتاب "ترتيب المسالك" (كلاهما شرح

لموطأ مالك) و"عارضة الأحوذي في شرح متن الترمذي"، و"قانون التأويل" (¬1)، و"أنوار الفجر" (كلاهما تفسير للقرآن المجيد)، وكتاب "النيرين في الصحيحين"، وكتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف"، إلى غير هذا من الكتب القيمة. ولأبي بكر هذا فضل في انصرافي عن دراسة علوم الدين دراسة تقليد ومتابعة، شأن من لا يزيد في التفقه على قراءة مثل "مختصر خليل" وشروحه وحواشيه، ذلك أني اتصلت بمكتبة خالي وأستاذي المرحوم الشيخ سيدي محمد المكي بن عزوز، واستعرت منها كتاب "العارضة"، وكتاب "القبس"، وجزءاً من "ترتيب المسالك" (¬2) ثم اتصلت بمكتبة صديقي العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور شيخ الإسلام المالكي بتونس لهذا العهد، واستعرت منها كتاب "الأحكام"، وكتاب "العواصم من القواصم"، فأعجبت بطريقة المؤلف في التأليف، ووجدتها الطريقة التي تنهض بالفكر حتى يكون مثمراً؛ بل الطريقة التي تحبب إلى ذي الفطرة السليمة دراسة العلوم الدينية، والواقع أن هذه الكتب كانت أول ما أخذني إلى النظر في علوم الشريعة بتلهف، بعد أن كنت قد انقطعت إلى علوم اللغة العربية وآدابها. * أخلاقه: يجمع أبو بكر إلى غزارة العلم: "أدب الأخلاق، وحسن المعاشرة، ولين الكتف، وكثرة الاحتمال، وكرم النفس، وحسن العهد، وثبات الود" (¬3). ¬

_ (¬1) يوجد منه جزء في دار الكتب المصرية. (¬2) وطالعت الجزء الثاني منه في إحدى مكاتب الجزائر. (¬3) "نفح الطيب".

* وفاته: بعد أن استولى الموحدون على مدينة إشبيلية فيما استولوا عليه من بلاد الأندلس، توجه أبو بكر بن العربي مع جماعة من أهل بلده إلى المغرب الأقصى، فأدركته المنية هناك، ودفن بفاس خارج باب المحروق، وقبره معروف، قال المقرري في "أزهار الرياض": وقد زرته مراراً. أفاض الله على قبره رحمة ونوراً.

أحمد تيمور باشا

أحمد تيمور باشا (¬1) أقف موقف التأبين لعظيم من أولئك العظماء الذين لا يسمح بهم الزمان إلا في أوقات نادرة، ليكونوا مُثلاً عالية لكمال الإنسان، حتى إذا قدر النبهاء من الناس أقدارهم، وأخذوا ينحون في بناء الشرف نحوهم، ورحلوا إلى دار السلام عند ربهم وغادروا القلوب تحترق أسفًا، والأكباد تتقطع تلهفاً. لا أستطيع أن أرسم في هذا المقام صورة تمثل أو تكاد تمثل كمال الفقيد من كل ناحية، وإنما هي كلمة أصف بها جانباً من خصاله الحميدة، عسى أن يكون في إلقائها تذكرة لطلاب الفضيلة من أبنائنا الناهضين. في سنة 1340 زرتُ المكتبة الزكية وهي في جناح من دار الكتب المصرية، فلقيت هنالك صاحب السعادة أحمد تيمور باشا، فجرى بيننا تعارف، وسرعان ما انقلب التعارف وداً، وما برح الود ينمو حتى أخصب، وصار الصداقة التي يرتاب في وجودها بعض المتأدبين، ويزعم أنها ثالثة الغول والعنقاء، فإذا تحدثت عن شيء من كمال الفقيد، فإنما أتحدث عما كنت أشهده المرة بعد الأخرى، وأقرؤه في سريرته سافراً لا أجد دون قراءته ساتراً. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد الثاني.

* حياته الخلقية: تلاقي العلامة الكبير أحمد تيمور باشا، فتشهد طلاقة محيا، وابتسامة تملأ ناظريك أنساً، فإذا مد يده إلى مصافحتك، انحنى قليلاً ليخالف عادة المترفين الذين يرفعون رؤوسهم في شيء من التعاظم والخيلاء. وفي الناس من تجلس إليه ساعة من ليل أو نهار، فلا يلبث أن ينطلق في حديثه إلى شيء من الافتخار بما عنده، أما تيمور باشا، فحرام أن تسمع منه كلمة تومئ إلى فخر، ولو من طريق بعيد. عرف الفقيد بالتواضع، وهو الخلق الذي كان يجذب إليه قلوب أهل الفضل لأول ما تقع عليه أبصارهم، وأقول الساعة: إنه كان يتواضع في ألمعية وحكمة، وربما خفض جناح التواضع لذي فطرة سليمة لا يقيم له أولو النعمة وزنًا، أكثر مما يخفضه لذي جاه نافذ أو مقام نبيه، وله مع هذا التواضع مقامات يمثل فيها شمم العلماء، وعزة المؤمنين. يزدري الفقيد مظاهر الأبهة التي تهوي إليها أفئدة كثير ممن هم عن طريق الحمد غافلون، وإذا أصبح يؤثر العزلة إلا قليلاً، فإنه ما برح يخوض غمار الاجتماع بما يقدمه من نتائج عرفانه وجلائل إحسانه. يأخذ الفقيد بسنّة الوصل والقطع في الله، ويسير على هذه السنّة بعزم لا يهن، وقدم لا يتزلزل، وأسوق على هذا: أنه كان قد اشترك في صحيفة من صحف الأقطار البعيدة عن مصر، فجاءته يوماً تحمل مدحاً له وثناء، لكنها سمَّت في مقام آخر الخروج على الإسلام إصلاحاً، والخارجين عليه مصلحين، فما كان منه إلا أن أعادها قاطعاً الاشتراك فيها، وقال: لا حاجة له في مدح صحيفة تطعن في الشريعة الغراء.

عرف الفقيد بالتؤدة والرصانة، ومن أجلى ما يتمثل فيه هذا الخلق العظيم: أنه كان يحتفظ بالآداب القومية، ويأبى أن يستبد بها آداباً غير شرقية، فما كان ليضع في تاريخ الرسائل إلا الشهر العربي، والسنة الهجرية، ولو كانت الرسائل موجهة إلى شركة أجنبية. وهذا مثال صغير ينبئكم عما وراءه من الاعتزاز بالقومية، وهل يحتقر الرجل قوميته بأكثر من أن يولع بتقليد قوم آخرين، ويحاكيهم فيما لا مدخل له في علو شأنهم وقوة سلطانهم؟. ومن الأخلاق الضائعة في الشرق، إلا بين طبقة خاصة من الناس: خصلة القيام على الوعد، وصيانته من الإخلاف، وكان الفقيد يرعى هذه الخصلة حق رعايتها، فإذا قطع وعدًا في أمر جليل أو حقير، وجد في نفسه مذكرًا فطرياً حتى يكون الوعد ناجزاً، ولطول ما صحبناه على هذا الخلق الحازم لم نرتب فيما إذا عين وقتاً للّقاء أن يكون عند الوقت حاضراً. يرعى الفقيد عهد إخوانه، ويبذل ما استطاع في قضاء ما يهمهم، ولا أنسى أن أمراً اقتضى سفري إلى الإسكندرية، وأشفق - رحمه الله - من أن لا أهتدي طريق الوصول إليه، فأزمع السفر، ولا داعي له إلى هذا السفر إلا عاطفة المودة، وأمتعني بمرافقته ذهاباً وإياباً. يزن تيمور باشا الرجال كما يزنهم غيره ليعلم أيهم أرجح في الفضل وزنًا، ولكنه لا يضع في جانب ما يفضل به قدر الرجل شيئاً غير العلم وسلامة العقيدة ومكارم الأخلاق، هذا قانون الفضل في رأي الفقيد، واحترامه القلبي والعملي للأشخاص، وإلقاؤه إليهم بالمودة لا يخرج عن حدود هذا القانون.

ينفق الفقيد في وجوه البر بأريحية وبسط راحة، وإذا لم يظهر من إحسانه إلا ما يهبه لبعض الجمعيات الخيرية أو الأدبية، فإن المتواري منها؛ كالذي يسعف به ذوي الحاجات من الأسر والأفراد شيء كثير، ومن شواهد إخلاصه فيما ينفق: أنه كان يهب لبعض الجمعيات الإصلاحية في المرة الواحدة نحو الخمسين ديناراً، أو المئة دينار، وإذا جاءه من تسلم منه المبلغ بإيصال من الجمعية، أبى أن يقبله، وقال له: مزقه إن شئت، ولا وجه لكتابته، فضلاً عن الاحتفاظ به. في الفقيد صبر جميل، وما هو على الحياة بحريص، كنت أزوره وهو على فراش مرَض خطير، فإذا تجاوزت باب الغرفة مقبلاً، هبّ على وجهه ابتسام يعقبه تحية، فمحادثته خالية من شكوى المرض، أو الضجر من مصابه. يرتاح الفقيد للطرف الأدبية، ويوردها في المجلس حسب اقتضاء المقام، ولكنني لم أره يداعب في محادثته قريباً أو صديقاً، فضلاً عمن يلاقونه في أوقات نادرة، ونظره الصائب في هذه الحياة، ورسوخ طبيعة الجد في نفسه قد جعلاه لا يألف إلا حديثاً في علم أو أدب، أو شأن من شؤون الاجتماع، وهما اللذان جعلاه لا يشغل شيئاً من وقته في لهو، ولم أر قط في منزله نرداً، أو شطرنجاً، أو نحوهما من الملاهي التي تأكل عمر المغرم بها أكل النار للهشيم. يتحدث الفقيد في صوت منخفض هادئ، وهو يملك أن يداري، فيبسط وجهاً رحباً، ولساناً بالتحية أو الحديث رطباً، وليس في استطاعته أن يداهن، فيقول للمسيء: أحسنت، أو للمخطئ: أصبت، وإذا منعه حياؤه

الرقيق من أن يصارح جليسه بالتخطئة في علم أو رأي، فإنه يسلك في تنبيهه على الخطأ طريقة رفيقة بعيدة عن هيئة المعارضة، وليس من شأنها أن تجزَّ إلى مناقشة. * حياته العلمية: إذا كان نبوغ الرجل في العلم على قدر صفاء قريحته، وحرصه على أن يعلم ما لم يعلم، فحظ الفقيد من هاتين المزيتين عظيم. كان - رحمه الله - وضيء الفكر، ذا رغبة متناهية في أن يزداد كل يوم علماً، وقد هيأ الله له أن أنشا تلك المكتبة الحافلة بالكتب القيمة، فلا جرم أن كان العلامة الذي يقف دون شأوه كثير من فرسان البراعة والتحرير. يطلب فريقٌ العلمَ لليسار، والفقيد محفوف باليسار من قبل أن يطلب العلم. ويطلبه فريق للمنصب، والفقيد تصافحه المناصب، فيسل يده من مصافحتها. ويطلبه آخرون للمباهاة، وما بين الفقيد والمباهاة مثل ما بين السماء ذات الرجع والأرض ذات الصاع. إذن لم يطلب تيمور باشا العلم إلا لفضيلته، ومن طلب العلم لفضيلته يريد أن لا يدع ثمرة من ثمره إلا قطفها، ولا زهرة من أزهاره إلا تنسمها. كنت أزوره وهو على فراش مرض أشار عليه الأطباء فيه بإلتزام السكون، وإراحة الفكر من كل عمل، فأرى بجانب قوارير الأدوية كتبا كثيرة، ويقول لي: إني لا أستطيع الانقطاع عن المطالعة، ولكن نظراً لإشارة الطبيب أقتصر

على مطالعة الكتب التي لا تستدعي إجهاد فكر؛ ككتب الأدب والتاريخ. لا يقنع الفقيد في بحث الموضوعات العلمية حتى يبلغ الأمد الأقصى، فيمعن في البحث، ويتقصى أثر الموضوع من الكتب التي شأنها التعرض له حتى يلم به من كل ناحية، وهذه مقالات الآثار النبوية التي حررها في "مجلة الهداية الإسلامية"، وهي آخر موضوع خاض فيه قلمه الأمين، لم يكتف فيها بما استمده من كتب الحديث والسيرة والتاريخ والأدب، فكان يبعث برسائل إلى سورية وفلسطين وتونس وغيرها من البلاد، ويسأل عما يوجد هنالك مما يدَّعى أنه آثار نبوية، وكان ينقد ما يورده في هذا القصد، ويضعه في الدرجة التي يستحقها بحكم آداب البحث. يتلقى الفقيد نقد آرائه بأناة وطمانينة شأن من يخدم العلم بإخلاص، ولا يهمه إلا أن تظهر الحقائق سافرة كما هي، وليس من سمائه ولا أرضه الحرص على أن يعتقد فيه الناس العصمة من الخطأ، وإنما هو دأب المرائي في العلم، ينزعج من نقد آرائه، فيثور للدفاع عنها، وإن استيقنت نفسه أنها الباطل، مكشراً عن أنيابه تحت وضح البرهان. عرف الفقيد بسعة الاطلاع، ودقة البحث، فكان كالوادي الخصب ينتجعه الباحثون في الشرق والغرب، فيجدون عنده ما يكشف الحيرة، ويجعل النفس في قرار من العلم. وله بعد أجوبة المسترشدين مقالات علمية كان ينشرها بالصحف: "المؤيد" و"الهلال"، و"المقتطف"، و"المقتبس" ومجلة "الزهراء"، و"الفتح"، ومجلة "المجمع العلمي"، ومجلة "الهداية الإسلامية". أما مؤلفاته، فهي "ذيل طبقات الأطباء"، و"تاريخ رجال القرن الثالث

عشر والرابع عشر"، و"نظرة تاريخية في انتشار المذاهب الأربعة"، و"تاريخ الطائفة اليزيدية"، و"تاريخ العلم العثماني"، و"نقد القسم التاريخي لدائرة معارف فريد وجدي بك"، و"لُعب العرب"، و"التصوير عند العرب"، و"تراجم المهندسين من العرب"، و"معجم اللغة العامية"، والقصد من هذا التأليف: الرد على من يدعون إلى إقامة العامية مقام العربية الفصحى بدعوى أنه يوجد في العامية من الكلمات ما ليس له في اللغة الفصحى من رديف، و"معجم الفوائد"، وهو كتاب يشتمل على مسائل قيمة من علوم شتى، و"البرقيات"، وهو كتاب يحتوي على الكلمات التي يدل كل مفرد منها على معان متعددة، و"حياة أبي العلاء المعري وعقيدته"، و"مفتاح الخزانة". يغار الفقيد على اللغة العربية، ويحرص على أن تكون نقية من الألفاظ الأجنبية، وكان من أجل هذا يتحامى أن يضع- ولو في رسائله المعتادة- كلمة غير عربية فصيحة، فكان يعبر عن التليفون - مثلاً - بالهاتف، كتب لي من الإسكندرية في الصيف الماضي: "رقم الهاتف (757) البلد"، بل يعبر عن الجنيه بالدينار، كتب لي من هنالك: "سرني إقامة حفلة لمرور سنة على مجلة "الهداية الإسلامية"، وأتبرع لهذه الحفلة بعشرة دنانير"، وكان يعجبه أن يكتب كاتب الجمعية أو اللجنة في التواضع: (كاتم السر) بدل كلمة (السكرتير). للفقيد - رحمه الله - عناية بالآثار العلمية، فاجتمع في مكتبته من المؤلفات والأوراق المشتملة على خطوط العلماء ما لا أحسبه يوجد في مكتبة شرقية غيرها، وأذكر بهذه المناسبة: أني كنت أنهيت "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" بقلم ذي مداد أحمر (كوبية)، ونظمت أبياتاً على لسان

القلم (¬1) وكتبتها بنفس القلم، وأهديته مع الأبيات إلى المكتبة التيمورية، فتلقاها الفقيد بارتياح، ووضعها في معرض الآثار العلمية، وقبل وفاته بيوم زار نادي الجمعية، ومعه الصحيفة المكتوب بها الأبيات، وقد تطاير أكثر حروفها، وأبدى رغبته في أن تعاد بمداد ثابت. درس الفقيد الشريعة الإسلامية على النحو الذي يجعل لها في النفوس مكانة، فأخذ احترامها بمجامع قلبه، وكانت غيرته عليها بالغة، وهذا ما كان يهز أريحيته لمساعدة الجمعيات والصحف التي يقصد بها تقويم المنحرفين عن الدين الحنيف، وما قبل أن يكون عضواً في مجلس إدارة جمعية الهداية الإسلامية إلا ليساعدها برأيه وجاهه، كما كان يساعدها بعلمه ونواله. هذه كلمة تصف شيئاً من كمال المرحوم أحمد تيمور باشا، ألقيها بقلب ملؤه الأسف لفراقه، والإعجاب بسيرته، ونرجو الله تعالى أن لا يبقي النهضة الإصلاحية كطائر هيض جناحه، أو بطل ضاع سلاحه، وأن يمتع الفقيد بواسع رحمته وحمده، ويجعل نجليه الماجدين قرة أعين أهل الفضل من بعده، والسلام عليكم ورحمة الله. ¬

_ (¬1) هذه هي: سفكت دمي في الطرس أنمل كاتب ... وطوتني المبراة إلا ما ترى ناضلت عن حق يحاول ذو هوى ... تصويره للناس شيئاً منكرا لا تضربوا وجه الثرى ببقية ... مني كما ترمى النواة وتزدرى فخزانة الأستاذ تيمور ازدهت ... بحلى من العرفان تبهر منظرا فأنا الشهيد وتلك جنات الهدى ... لا أبتغي بسوى ذراها مظهرا

6 - الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (6) «الشَّريْعَةُ الإسْلاميَّةُ صَالِحَة لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَان» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة " من روائع الفكر المؤمن للإمام العلامة المرحوم محمد الخضر حسين مباحث دينية في أصول الدين، وأصول الفقه، والأحكام العملية، والفتاوى، بعضها ألقيت محاضرات في قسم التخصص بكلية أصول الدين إحدى كليات الجامع الأزهر، أو في نواد وجمعيات إسلامية مختلفة، وبعضها نشرت مقالات في مجلتي "نور الإِسلام" التي كان يرأس تحريرها، ويصدرها الأزهر، و"الهداية الإِسلامية" التي كان يصدرها ويرأس تحريرها. وقد جمعنا كافة هذه المباحث تحت اسم: "الشريعة الإِسلامية صالحة لكل زمان ومكان" وهو البحث الأول في هذا الكتاب، والذي كان يؤلف القسم الأكبر من الجزء الثالث من كتاب "رسائل الإصلاح". ولما كانت غايتنا إحياء التراث العظيم للعم المرحوم محمد الخضر حسين- رضوان الله عليه-, فقد رأينا- تسهيلاً للقارئ- أن يضم كل سفر من الأسفار المواضيع المتجانسة الواحدة، وبالتالي يجد طوع يده كتاباً يطوي بين كنوزه درراً ولآلئ تضيء للفكر سبيل الهداية والعرفان. وهذه الرسائل كما قال الإمام "في حاجة إلى أن تبحث بفكر لا يتعصب لقديم، ولا يفتتن بجديد، يعتمد الرأي حيث يثبته الدليل، ويتقبل الحكم متى لاحت بجانبه حكمة، ويثق بالرواية بعد أن يسلمها النقد إلى صدق".

وشيخنا الجليل لم يطرق باباً من أبواب العلم إلا كان سيداً مهاباً، يجتث بصارم الحق خبائث الضلال، ويمحق الباطل والظلام، فهو الفارس في كل حلبة، والصدر في كل مقام، ولا أدل على ثرائه العلمي من هذا الفيض لرائع قلمه، ونتاج فكره في الأخلاق والاجتماعيات، وأصول الدين والفقه، ومباحث السيرة النبوية، وتراجم الرجال والبحوث التاريخية، ومباحث اللغة وصناعة الأدب. وقد زودني سيدي الوالد الشيخ زين العابدين التونسي - رحمه الله - بالتوجيه القيم في الترتيب والجمع، والله نسأل السداد". على الرّضا الحسينى

الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان

الشريعة الإِسلامية صالحة لكل زمان ومكان * تمهيد: يقع في وهم من لا يدري ما الإِسلام: أن شريعته لا توافق حال العصر الحاضر، ويبني توهمه هذا على أن القوانين إنما تقوم على رعاية المصالح، ومصالح العصور تختلف اختلافًا كثيراً، فالدعوة إلى بقاء أحكامها نافذة هي في نظره دعوة إلى خطة غير صالحة. ذلك ما نقصد في هذا المقال إلى تفنيده، وتفصيل القول في دفع شبهته، حتى يثبت بالدليل المرئي رأي العين أن الشريعة الغرّاء تساير كل عصر، وتحفظ مصالح كل جيل. ولما كان التشريع الإِسلامي يعتمد في معظم أحكامه على الاجتهاد، استدعى البحث أن نصدره بكلمة في الاجتهاد، وفي هذه الكلمة ترى شيئاً من عظمة علماء الشريعة، ولا أخالك أن تقرأ البحث بدقة، فلا تأتي على آخره حتى تشهد بأنهم كانوا هداة مصلحين. ونأخذ بعد بحث الاجتهاد في تقرير الأصول التي جعلت الشريعة تسع مقتضيات العصور على اختلافها، وتقوم بحاجات الشعوب على تباعد ما بينها، ونسوق لك الشواهد على هذا من عمل القضاة ورجال الفتوى،

حتى لا يبقى في صدرك حرج من مزاعم أولئك الذين يكتبون، أو يخطبون فيما لا يعلمون (¬1). * * * ¬

_ (¬1) بحث من عدة حلقات نشره الإمام في مجلة "نور الإِسلام" التي كان يصدرها الأزهر بالقاهرة، ويرأس تحريرها - المجلد الأول عام 1349 هـ.

الاجتهاد في أحكام الشريعة

الاجتهاد في أحكام الشريعة شريعة الإِسلام عامة، فلا يختص بها قبيل من البشر دون قبيل، ودائمة، فلا يختص بها جيل دون جيل، وأفعال البشر - على اختلاف أجناسهم، وتعاقب عصورهم - لا تنتهي إلى حد، ولا تدخل تحت حصر، ومن أجل هذا لم تنزل أحكامها في نسق واحد من التفصيل والبيان، بل أرشدت الشريعة إلى بعضها بدلائل خاصة، وقررت بقيتها في أصول كلية؛ ليستنبطها الذين أوتوا العلم عند الحاجة إليها. يتمكن العالم من استنباط الأحكام بمعرفة أمرين: أحدهما: الأدلة السمعية التي تنتزع منها القواعد والأحكام. ثانيهما: وجود دلالة اللفظ المعتد بها في لسان العرب، واستعمال البلغاء. ويرجع النظر في الأدلة السمعية إلى الكتاب والسنّة والإجماع، ويتصل بهذه الأدلة أصول اختلفت فيها أنظار الأئمة؛ كمذهب الصحابي، وعمل أهل المدينة، وشَرْع من قبلنا الذي لم يرد في شريعتنا ما ينسخه، فإن الأخذ بهذه الأصول يرجع إلى التمسك بدليل منقول لا يدخل فيه العقل إلا على وجه التفهم؛ كما يدخل في غيره من نصوص الكتاب والسنّة. ويرجع النظر في وجوه الدلالات إلى: دلالة بالمنطوق، ودلالة بالمفهوم،

ودلالة بالمعقول. ومن متناول دلالة المعقول: ذلك الأصل الكبير الذي يسمونه: القياس، ويضارع القياس في هذه الدلالة أنواع جرى فيها الخلاف بين أهل العلم؛ مثل: الاستصحاب، والمصالح المرسلة، ومراعاة العرف، وسد الذرائع. ثم إن الأدلة قد تتزاحم في نظر المجتهد، ويراها واردة على قضية واحدة، وكل منها يقتضي من الحكم غير ما يقتضيه الآخر، فيحتاج إلى أن ينقب عن الوجوه التي يترجح بها جانب أحدها, ليعتمد عليه في تقرير الحكم. فدخل في الأركان التي يقوم عليها الاجتهاد: القدرة على الموازنة بين الأدلة، وترجيح أقواها على ما هو دونه عند تعارضها، فمن كان على بصيرة من الأدلة السمعية، ووجوه دلالتها، وطرق الترجيح بين الأدلة عند تعارضها، فقد قبض على زمام الاستنباط، واستعد لأن يجلس على منصة الاجتهاد. فالاجتهاد: بَذْلُ الفقيه الوِسْعَ لاستخراج الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية. * شرائط الاجتهاد: قلنا: إن الاجتهاد يدور على معرفة الأدلة السمعية، ووجوه دلالتها، وطرق الترجيح عند تعارضها. أما معرفة الأدلة السمعية، فتتحقق بمعرفة الكتاب والسنة، والأحكام المشتركة بينهما؛ كالعلم بالناسخ والمنسوخ، والأحكام الخاصة بالكتاب؛ كالعلم بوجوه القراءات، والأحكام الخاصة بالسنة؛ كالعلم بأصول الحديث،

وأحوال الرواة. وأما معرفة وجوه الدلالات، فتتحقق بالفرق بين المنطوق والمفهوم، والمجمَل والمبيَّن، والنص والظاهر، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والحقيقة والمجاز، والمحكم والمتشابه، والصريح والكناية، والمعاني التي يدل عليها الكلام بنفسه، والمعاني التي يراعيها البلغاء ويسميها علماء البيان بمستتبعات التراكيب. فمن شروط الاجتهاد: العلم باللغة والنحو والمعاني والبيان، ومجمل القول: أن يكون عارفاً باللسان العربي، ووجوه تصرفات ألفاظه ومعانيه معرفة ترفعه بين علماء اللغة وبلغائها مكاناً عالياً. أما طرق الترجيح، فمنها ما يعرف بالنظر في علوم الشريعة؛ كتقديم ما يتلى في الكتاب الكريم على ما يروى على أنه حديث، ومنها ما يعرف بالبحث عن حال الرواة؛ كتقديم ما يرويه البخاري على ما يرويه غيره، ومنها ما يعرف بالنظر في علوم اللغة، كتقديم النص على الظاهر، والمنطوق على المفهوم. * الكتاب: ذكرنا في شروط الاجتهاد: العلم بالقرآن الكريم، ولا سيما آيات الأحكام التي قدّرها الغزالي وابن العربي بخمس مئة آية، واقتصرا في تقديرها على هذا العدد؛ لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان، وهو أول من أفرد آيات الأحكام في تصنيف، قد جعلها خمس مئة آية، وقد نازعهم ابن دقيق العيد في هذا التقرير، وقال: مقدارآيات الأحكام لا ينحصر في هذا العدد، بل هو يختلف باختلاف القرائح والأذهان، وما يفتحه الله من وجوه الاستنباط. والراسخ في

علوم الشريعة يعرف أنّ من أصولها أو أحكامها ما يؤخذ من موارد متعددة، حتى الآيات الواردة في القصص والأمثال. وقد عني طائفة من العلماء بآيات الأحكام بعد مقاتل، فألّفوا في تفسيرها خاصة؛ كما فعل منذر بن سعيد البلوطي قاضي قرطبة المتوفى سنة 355، وأبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص المتوفى سنة 370، وأبو بكر بن العربي المتوفى سنة 468، وعبد المنعم بن محمد المعروف بابن الفرس المتوفى سنة 599. * السنّة: أوردنا في شروط الاجتهاد: العلم بسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد اختلف أهل العلم في القدر الذي فيه كفاية، فقال أبو بكر بن العربي في كتاب "المحصول": هي ثلاثة آلاف حديث، ونقل عن أحمد بن حنبل: أن الأصول التي يدور عليها العلم ينبغي أن تكون ألفاً ومئتين، ويذهب ابن القيّم إلى أن الأصول التي تدور عليها الأحكام خمس مئة حديث، وهي مفصلة في نحو أربعة آلاف حديث. والحق في جانب من يقول: إنه لا يحق الاجتهاد إلا لمن كان عالماً بما اشتملت عليه مجاميع السنّة؛ كالأمهات الست، وما يلحق بها من الكتب التي التزم مصنفوها الصحة فيما يروون؛ إذ من المحتمل أن يوجد فيها ما يدل على الحكم صراحة، ويأتي الاستنباط بما يخالفها، وكان أهل العلم فيما سلف إنما يرجعون بالواقعة إلى الاستنباط بعد أن يبحثوا جهد استطاعتهم، فلا يظفروا بآية أو سنّة تنص على حكمها. في كتاب "القضاء" لأبي عبيد: أن أبا بكر الصديق كان إذا ورد عليه

حكم، نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به، قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله، نظر في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن وجد فيها ما يقضي به، قضى به، فإن أعياه ذلك، سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم، فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سنّة سنّها النبي - صلى الله عليه وسلم -، جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء، قضى به؛ وكان عمر يفعل ذلك. والحديث الذي يرويه أحد الأئمة، ويصله بما ينبئ عن صحته، يسوغ للفقيه متى عرف مذهب الراوي في التعديل أن يعتمد على تصحيحه, ومن هذا القبيل ما يرويه البخاري ومسلم في "صحيحيهما". وأما ما يروى في الكتب التي لا تخلو من الضعيف، فلا بد له من النظر في سند الحديث، والبحث عن سيرة من يجهل حاله، حتى يكون على بينة من أمره. * علوم اللغة العربية: أخذنا في شروط المجتهد: أن يكون قائمًا على علوم اللغة العربية، بحيث يبلغ في فهم الكلام العربي مبلغ العرب الناشئين في الجاهلية أو في صدر الإِسلام. قال أبو إسحاق الشاطبي: "لا غنى للمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب؛ بحيث يصير فهم خطابها طبعاً غير متكلف". وقد يقع في خاطرك أن شرط الاجتهاد في اللسان العربي يجعل رتبة الاجتهاد في الشريعة بمنزلة المتعذر, فإنه يقتضي أن يسلك الفقيه في البحث عن معاني الألفاظ وأحكامها ووجوه بلاغتها الطرق التى سلكها أئمة تلك العلوم، ولا يكفيه أن يأخذ من "القاموس": أن النكاح - مثلاً - يطلق

على الوطء، والعقد، ومن "كتاب سيبويه": أن الخفض يكون بالجوار، ومن "دلائل الإعجاز": أن تقديم المعمول، أو تعريف المسند يفيد القصر، حتى يتتبع كلام العرب بنفسه، ويقف على صحة إطلاق النكاح على الوطء والعقد، ويظفر بشواهد كثيرة يحقق بها قاعدة الخفض بالجوار، وشواهد أخرى يعلم بها أن تقديم المعمول، أو تعريف الطرفين يفيد الحصر. وتكليفه بأن يبلغ في علوم اللغة هذه الغاية يشبه التكليف بما لا تسعه الطاقة. وجواب هذا: أن المجتهد في الشريعة لا بدّ له من أن يرسخ في علوم اللغة رسوخ البالغين درجة الاجتهاد، وله أن يرجع في أحكام الألفاظ ومعانيها إلى رواية الثقة، وما يقوله الأئمة، وإذا وقع نزل في معنى أو حكم توقف عليه فهم نص شرعي، تعين عليه حينئذ بذل الوسع في معرفة الحق بين ذلك الاختلاف، ولا يسوغ له أن يعمل على أحد المذاهب النحوية أو البيانية في تقرير حكم إلا أن يستبين له رجحانه بدليل. فالمجتهد في أحكام الشريعة - وإن ساغ له التقليد في العلوم التي هي وسائل الاستنباط - يجب عليه أن يكون في معرفتها بمكانة سامية، حتى إذا جرى اختلاف في رتبة حديث، أو قاعدة عربية احتاج إلى تطبيقها، جرّد نظره لاجتلاء الحقيقة دون أن يقف وقفة الحائر، أو يتمسك بأحد الآراء على غير بينة. * أصول الفقه: مسائل علم الأصول منها ما يستمد من النظر في الكتاب والسنّة، ومنها ما يستمد من النظر في علوم اللغة العربية، فيمكن من تضلَّع من موارد الشريعة،

ورسخ في فهم لسان العرب، أن يدرك هذه الأصول بنفسه؛ كما أدركها الأئمة الذين نهضوا بالاجتهاد قبل أن يدون علم الأصول، ولكن الوصول إلى مسائل الأصول، وهي مدونة، أسهل على الطالب من أن يبذل جهده في استقرائها، ويرسل فكره في اقتناصها، باحثاً عنها في أبواب متفرقة، وموارد متشعبة، وعلى أي حال كان طالب الاجتهاد في الأحكام، لا يستقيم له هذا المنصب إلا أن ينظر في الأصول نظر الباحث المستقل، بحيث لا يبني في الاستنباط على الاستصحاب أو سد الذرائع - مثلاً -, ولا يقرر الحكم اعتماداً على عمل أهل المدينة، أو مذهب الصحابي، متابعة لمن يقول بحجيتها، فالاجتهاد في الأصول بمنزلة الأساس للاجتهاد في الأحكام، فلا يدخل في قبيل المجتهد المطلق من يبني في تقرير الأحكام على أصول قررها إمامه، وتلقاها منه بتقليد. فالحق جمع من لم يرض لمدعي الاجتهاد إلا أن يرسخ في أصول الفقه، ويبحث مسائله بنظر قائم بنفسه، حتى لا يعتمد في الاستنباط إلا على أصل رأى كيف تشهد به البينة، وتقوم عليه الحجَّة. * في الفقه: يظهر في بادئ الرأي أن ليس من شروط الاجتهاد المطلق معرفة الأحكام التي استنبطها الفقهاء من دلائل الشريعة، ذلك لأنها صادرة عن اجتهاد، فيجب أن يكون الاجتهاد متقدماً عليها في الوجود، فهو مستقل عنها، وجائز أن يتحقق بدونها، ولو قدرنا ناشئاً درس علوم اللغة حتى أصبح في ذوقه وفهمه لدقائق العربية كالعربي الخالص، ثم أقبل على التفقه في الكتاب والسنّة حتى عرف مقاصد الشريعة، لأمكنه استنباط الأحكام من دلائلها

كما استنبطها العلماء من قبل أن تدوّن المذاهب والآراء. والتحقيق أن معرفة المذاهب، ودرس أحكام الفقه مربوطة بأصولها مما يخطو بالعالم في سبيل الاجتهاد خطوات سريعة، لولا دراسة الفقه على هذا الوجه؛ لأنفق في بلوغها مجهودًا كبيراً، وزمنًا طويلًا. ثم إنه يأمن العثار والخطأ في الفتوى أكثر مما إذا لم يدرس أقوال الأئمة من قبله، وهذا ما يراه طائفة من الأصوليين؛ كأبي حامد الغزالي إذ قال: "إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسة الفقه، فهو طريق تحصيل الدربة في هذا الزمان". وهذا مجمل ما ينقل عن السلف من حثّ الفقهاء على معرفة اختلاف أهل العلم من قبلهم. قال هشام بن عبد الله الرازي: "من لم يعرف اختلاف الفقهاء، فليس بفقيه". وقال عطاء: "لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالماً باختلاف الناس؛ فإنه إن لم يكن كذلك، رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه". وقال سفيان بن عيينة: "أجرأ الناس على الفتوى: أقلّهم علماً باختلاف العلماء". وقال سعيد بن أبي عروبة: "من لم يسمع الاختلاف، فلا تعدّه عالماً". ولا يقصدون بهذا حفظ مجرد الخلاف، بل القصد أن يعرف أقوال السلف ومداركها. * مواقع الإجماع: يذكر الأصوليون في شرط المجتهد: أن يكون عارفاً بمواقع الإجماع، وهذا في الواقع شرط لصحة الاجتهاد بالفعل، وليس بشرط في بلوغ رتبة

الاجتهاد، وإنما أخذوا هذا شرطاً لصحته؛ لئلا يقرر الفقيه حكماً يخرج به عن الإجماع؛ إذ كل فتوى يخرق بها صاحبها الإجماع هي في نظر أئمة الدين باطلة. وقد خفف الإمام الغزالي في هذا الشرط، فقال: ليس من واجبه أن يحفظ المسائل التي وقع عليها الإجماع، فالواقعة التي علم أنها كانت موضع اختلاف، والحادثة التي يعرف من حالها أنها وليدة عصره، ولم يقع لها مثيل في العصور المتقدمة، له أن يجتهد ويفتي فيهما بما قام الدليل على رجحانه، وإن لم يكن ملماً بالمسائل التي انعقد عليها الإجماع. فإن وقعت الواقعة، ولم يكن قد بلغه أنه قد جرى فيها اختلاف، ولم يشق بأنها وليدة عصره، بحث ما استطاع، فإن لم يقف على أنها مسألة مجمع عليها، تناولها بالاجتهاد، وفصل لها حكماً مطابقاً. * القياس: هل يعد في شروط المجتهد أن يكون ممن يقول بأصل القياس؟ هذا ما يراه أبو إسحاق الإسفراييني، وعزا إلى الجمهور أنهم قالوا: إن نفاة القياس لا يبلغون درجة الاجتهاد، وأخذ به إمام الحرمين، وقال: علماء الشافعية لا يقيمون لأهل الظاهر وزناً. ومن أهل العلم من لم يتمسك بهذا الشرط، وعدَّ الظاهريَّ الذي تحققت فيه الشروط الآنفة في قبيل أهل الاجتهاد، وينبني على هذا: أن يكون خلافهم معتدًا به، فلا إجماع فيما خالفوا فيه من الأحكام. وهذا ما ذكر الأستاذ أبو منصور البغدادي أنه الصحيح من مذهب الشافعية، وقال ابن الصلاح: إنه الذي استقر عليه الأمر.

وسنسوق في مقام آخر الأدلة على أن القياس أصل من أصول الشريعة الغراء. * العدالة والاستقامة: ليست العدالة شرطاً لتحقق وصف الاجتهاد في نفسه، وإنما هي شرط في قبول فتوى المجتهد, إذ الفتوى من قبيل الإخبار، والنفس لا تركن إلى خبر الفاسق، ومن يعمل سوءاً، يسهل عليه أن يقول زوراً، والتقوى هي التي تحمل المجتهد على التروي في تفصيل الحكم، فلا يلفظ بالفتوى إلا بعد النظر في الواقعة، وما يترتب عليها من مصالح أو مفاسد، ثم يعود إلى قواعد الشريعة، فيفصل لها حكماً يطابقها. قال مالك بن أنس: "ربما وردت عليَّ المسألة، فتمنعني من الطعام والشراب والنوم"، فقيل له: يا أبا عبد الله! والله! ما كلامك عند الناس إلا نقر في حجر، ما تقول شيئاً إلا تلقّوه منك. قال: "فمن أحق أن يكون هكذا إلا من كان هكذا؟! ". وقال: "ربما وردت عليَّ المسألة، فأفكر فيها ليالي". وكان إذا سئل عن المسألة يقول للسائل: "انصرف حتى أنظر فيها"، فينصرف السائل، ويجعل مالك يردد النظر في المسألة، فقيل له في ذلك، فقال: "إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأيُّ يوم! " وكذلك كان السلف من الصحابة والتابعين، يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكون غيره قد كفاه أمرها، حتى إذا رآها قد تعينت عليه، بذل جهده في تعرُّف حكمها، ثم أفتى.

بناء الشريعة على حفظ المصالح ودرء المفاسد

بناء الشريعة على حفظ المصالح ودرء المفاسد القوانين العادلة: التي تقوم على رعاية حفظ المصالح، ودرء المفاسد، ولا يختلف علماء الإِسلام في أن أحكام الشريعة قائمة على رعاية هذين الأصلين، وإذا كانت المصالح والمفاسد قد تخفى في بعض ما يشرّع على أنه عبادة، فإن الأحكام المشروعة لغير العبادات؛ من آداب الاجتماع، ونظم المعاملات والجنايات، لا تقصر العقول السليمة عن إدراك أسرارها، ومن الميسور تقريرها على وجه يظهر به فضل الشريعة السماوية على القوانين الوضعية. يقرر الباحثون عن حكمة التشربع من علمائنا أن المصالح أربعة أنواع: اللذات وأسبابها. والأفراح وأسبابها، وأن المفاسد أربعة أنواع: الآلام وأسبابها، والغموم وأسبابها. ويسمون اللذات والأفراح بالمصالح الحقيقية، وأسبابها المصالح المجازية، كما يسمون الآلام والغموم المفاسد الحقيقية، وأسبابها المفاسد المجازية، ويذكرون أن المصالح المحضة كالمفاسد المحضة نادرة الوجود، وأكثر الوقائع ما تجتمع فيه المصلحة والمفسدة، فما كان مصلحة محضة، فحكمه الإذن قطعًا. وما كان مفسدة محضة، فحكمه النهي بلا مراء، فأما

ما يكون مصلحة من ناحية، ومفسدة من ناحية أخرى، فالشارع الحكيم ينظر إلى الأرجح منهما، ويفصل الحكم على قدر الأرجحية، فما رجحت مصلحته على مفسدته، أذن فيه على وجه الإباحة، أو الندب، أو الوجوب. وما رجحت مفسدته على مصلحته، نهى عنه على وجه الكراهة، أو التحريم. * التفقه في الأدلة السمعية: ذكرنا فيما سلف أن من أحكام الشريعة ما يدل عليه آية، أو سنّة صريحة؛ كتحريم الجمع بين الأختين، والقضاء للذكر في الإرث بمثل حظ الأنثيين، والقصاص، وقطع يد السارق والسارقة، وهذا النوع من الأحكام لا يختلف أئمة الدين في أنه شريعة عامة باقية، ولا يجوز لولي الأمر إهماله، ولا أن يستبدل به غيره. وربما دعت الضرورة إلى إرجاء إقامة الحد؛ كما أخّر الإِمام علي -رضي الله عنه - القصاص من قتلة عثمان مرتقبًا وقتًا يتمكن فيه منهم، وهو آمنٌ من عصبيتهم. وفي "سنن أبي داود": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تقطع الأيدي في الغزو. وروي أن عمر بن الخطاب كتب إلى الناس: أن لا يجلدنَّ أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدًا وهو غاز حتى يقطع الدَّرب قافلاً؛ لئلا تلحقه حمية الشيطان، فيلحق بالعدو. وقد تطرأ حال عامة تجعل ولي الأمر في ريب من أن تكون واقعة أخذ المال خفية من قبيل السرقة المفروض فيها حد القطع، فيكف يده عن إجرائه. وقد روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - أسقط قطع يد السارق في عام المجاعة؛ لأن الحاجة كانت غالبة، فمن المحتمل القريب وقتئذ أن يكون الدافع إلى السرقة اضطراره إلى ما يسد رمقه، وينقذه من التهلكة.

ولا يلحق بمثل هذا الحال أن تعتل أذواق قوم، وتساورهم شهوات طائشة، فيقيموا هذه الأذواق مقام العقل، وتلك الشهوات مقام المصلحة، فينكروا ما فرض الإِسلام على الزاني أو شارب الخمر من عقوبة. وعلى حكماء الأمة أن يعالجوا هذه الأذواق حتى تسلم من مرضها، ويقوِّموا تلك الشهوات حتى تعود إلى حال اعتدالها. يدخل الاجتهاد الأدلة السمعية على النحو الذي ذكرنا، ويدخلها من جهة الإطلاق والتقييد. أما الإطلاق، فكما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]. فأطلق الأئمة في تحريم الربا، وعدّوا قوله تعالى: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} من قبيل ما روعي فيه حال ما كانوا يفعلون وقت نزول الآية، ومن أدلة هذا الإطلاق قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279]، فهو صريح في حرمة الربا كثيرِه وقليله. ومن أمثلة هذا: أن الله تعالى حرّم على الرجل نكاح ربيبته، فقال: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، وظاهر الآية: أن المحرّمة بنت الزوجة التي تكون في حجر الزوج، ولكن الأئمة تفقهوا في هذا الوصف، فلم يظهر فيه أثر للتحريم، فأوَّلوه على أنه من قبيل الأوصاف التي ترد في الكلام البليغ من جهة أنها الحال الغالبة في الموصوف، وأفتوا بتحريم الربيبة على زوج أمها، وإن لم تكن في حجره. وأما التقييد، فكحديث النهي عن بيع الماء، فقد خصصه الإِمام مالك بآبار الصحراء التي تتخذ في الأرضين غير المتملكة، فيكون صاحبها الذي حفرها أولى بها، فإذا قضى منها وطره، ورويت ماشيته، ترك الفضل للناس

من غير ثمن، واستند الإِمام في هذا التخصيص، وصرف النهي عن بيع الماء في الأرض المملوكة إلى الأصل الذي ورد به السمع، وانعقد عليه الإجماع، وهو أنه لا يحل مال أحد إلا بطيب نفس منه. ومن أمثلة هذا الباب حديث: "شاهداك أو يمينه". فظاهر الحديث: أن اليمين حق على كل مُنْكِر، ولكن الإِمام مالكًا قيَّده بحال ما إذا كان بين المتقاضيين خلطة، وإنما قيّده بقاعدة درء المفاسد، إذ أخْذُ الحديث على إطلاقه يجرئ السفهاء على أهل الفضل، فيستطيعون أن يوجهوا عليهم متى شاؤوا دعاوى، ويقفوهم للحلف إيلاماً وامتهاناً. يقيَّد المجتهد النصوص، أو يطلقها على ما تقتضيه الأدلة السمعية، والأصول الشرعية، ولا يصرف نظره عن النص جملة إلا أن يثبت لديه أنه منسوخ، أو يعارضه ما هو أقوى سنداً أو دلالة، أو يكون الحكم مربوطاً بشيء على أنه علة مشروعيته، وتزول هذه العلة، فيتبعها الحكم، وتدخل الواقعة في نص آخر، أو تحتاج إلى حكم من المجتهد يطابقها. ومثال هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك صلاة التراويح في جماعة، وقال في وجه تركها: "ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل، فتعجزوا عنها". وقد زالت بوفاته - عليه الصلاة والسلام - الخشية من أن تفرض عليهم، ولهذا أقامها عمر بن الخطاب بعد، وقال: "نعم البدعة هذه". وقَصْرُ الحكم على حال وجود العلة متى كان منصوصاً عليها أمر واضح لا شبهة فيه. وقد يجيء الحكم مجردًا من ذكر العلة، فيقررها المجتهد استنباطاً، ويجعل الحكم مقصوراً على حال هذه العلة المستنبطة، ومن هذا

القبيل: أن المؤلفة قلوبهم قد ذُكروا في آية مصارف الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] الآية. فرأى بعض الأئمة أن علة جعلهم في مصارف الزكاة في بداية الإِسلام إلى تكثير أنصاره، أما حين قويت شوكته، وكثر أتباعه وحُماته، فقد زالت الحاجة إلى تأليف المخالفين، وسقطوا من مصارف الزكاة. ومن أقوال الرسول - عليه الصلاة والسلام - ما يحمله المجتهد على أنه صادر منه بصفة الإمامة، لا أنه حكم عام كسائر أحكام الشريعة التي يراد بها التبليغ، ومثال هذا: قوله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة حنين: "من قتل قتيلاً، فله سَلَبه"؛ فإن من الأئمة من يذهب في هذا إلى أنه تصرف من جهة الإمامة، وأنه منظور فيه إلى ما اقتضته المصلحة في تلك الغزوة، فلقائد الجيوش من بعده أن لا يجعل سَلَب القتيل للقاتل حيث لم تدع إلى ذلك مصلحة. ولهذا النوع من أقواله - عليه الصلاة والسلام - ناحية يرجع بها إلى التشريع، وهي أنه يجوز لولي الأمر أن يجتهد، ويقول: "من قتل قتيلاً، فله سلبه" أسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يرده عن هذا القول أن السلب من الغنيمة، والغنيمة في أصلها ملك للمجاهدين، أو أن هذه المنحة تنقص الإخلاص، وتجعل بعض الجند يقاتل للسلب، لا لإعلاء كلمة الله. هذه من الوجوه التي يدخل فيها الاجتهاد الصحيح عند التفقه في الأدلة السمعية، وها هنا قد تزلُّ أقدام بعض الناظرين في عجل، أو يفتضح بعض من يكيدون للشريعة من طريق التأويل؛ حيث يعمدون إلى بعض النصوص الشرعية، ويذهبون في تفسيرها مذهباً يخرجون به عن مقاصد الشريعة، أو ينقضون به أصلاً من أصولها.

وجمهور أهل العلم على أن الأحكام المقررة بطريق السمع، وليس للمجتهد أن يتعداها هي ما جاء في كتاب أو سنّة أو إجماع، وقول الصحابي فيما لا يقال بالرأي هو من قبيل المرفوع، فهو داخل في السنّة، أما قوله الذي يمكن أن يكون اجتهاداً، فليس بحجة تقطع غيره عن الاجتهاد؛ لأن الصحابي غير معصوم عن الخطأ، ولأن الصحابة كانوا يختلفون فيما بينهم من غير إنكار، وما يقع في "موطأ مالك" من ذكر قول الصحابي في مقام الاحتجاج إنما يأتي به الإِمام في معنى التأييد لاجتهاده، أو للترجيح بين الأخبار عند اختلافها. قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح حديث: "عليكم بسنّتي، وسنّة الخلفاء الراشدين" من "سنن الترمذي ": "أمر بالرجوع إلى سنّة الخلفاء، وهو يكون على أمرين: الأول: التقليد لمن عجز عن النظر، والثاني: الترجيح عند اختلاف الصحابة، فيقدم فيه الخلفاء الأربعة، أو أبو بكر وعمر، وإلى هذه النزعة كان ينزع مالك، ونبّه عليه في الموطأ". واعتماد الإِمام مالك على عمل أهل المدينة فيما لا مجال للرأي فيه، أو فيما كان طريقه النقل المستفيض؛ كالصاع، والمد، والأذان، والإقامة يرجع إلى الاحتجاج بالسنّة، فإن العادة تقتضي أن يكون عملهم هذا من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ لو تغير عما كان عليه زمن الوحي، لعلموه، وإذا قدّم عمل أهل المدينة الذي هو في معنى السنّة على خبر الآحاد، فإنما قدّم على خبر الآحاد سنّة يراها أمتن سنداً وأقوى. وأنكر بعض أصحابه أن يكون قد وقع منه تقديم عمل أهل المدينة على الحديث الصحيح، قال أبو بكر بن العربي في كتاب "العارضة": "ومن

لا تحصيل له من أصحابنا يظن أن مالكاً يقمّ عمل أهل المدينة على الحديث الصحيح، ولم يفعل ذلك قط، ولا ترك مالك قط حديثاً لأجل مخالفة أهل المدينة له بعملهم وفتواهم". لا يدخل الاجتهاد في النصوص المحكمة إلا بنحو الإطلاق أو التقييد على مقتضى الأصول الصادقة، وهذا واضح بنفسه فيما إذا كان النص قرآنًا أو سنّة متواترة، أما خبر الآحاد، فإن لم يره المجتهد معارضًا لأصل آخر، وجب العمل به عند أئمة الدين بلا مراء؛ كما أخذ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سنوا بهم سنّة أهل الكتاب" (¬1). أما إذا ورد خبر الآحاد فيما يظهر معارضاً لقاعدة، أو قياس صحيح، فهذا موضع نظر أهل العلم واختلاف آرائهم، فمنهم من يقدّم الحديث على الأقيسة والقواعد، يظهر هذا من قول الإِمام الشافعي: إذا صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاضربوا بقولي الحائط، وقوله: إذا صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصح الإسناد به، فهو المنتهى، وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: لا قول لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صح الخبر. ونجد آثاراً كثيرة عن الصحابة تدل على أنهم كانوا يتركون القياس لخبر الواحد؛ كما ترك عمر بن الخطاب القياس في الجنين؛ لخبر حمل بن مالك في إيجاب غُرة عبدٍ أو أمة، وقال: لولا هذا، لقضينا فيه برأينا (¬2)، وروي أنه ترك القياس في تفريق دية الأصابع على قدر منافعها حين روى له ¬

_ (¬1) في "صحيح البخاري". (¬2) رواه أبو داود.

حديث: "في كل أصبع عشر من الإبل". ويقول بعض المتمسكين بالحديث في كل حال: إنه لا يوجد حديث ثابت على خلاف القياس الصحيح، وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأصناف بحكم يفارق به نظائره، فلا بد أن يختص ذلك الصنف بوصف يوجب اختصاصه بالحكم، ويمنع مساواته لتلك النظائر، لكن الوصف الذي اختص به الصنف قد يظهر لبعض الناس، ويخفى على بعض، فمن رأى شيئاً من الشريعة مخالفاً للقياس، فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، لا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر، وقد جاء هؤلاء إلى كل ما جاعت به السنة من أحكام؛ كالمساقاة، والمزارعة، وبيع العرايا (¬1)، وبسطوا في بيان الفرق بينها وبين أفراد القياس الذي ادعى أنها جاءت على خلافه. والواقع أن الذين يسمون مثل المساقاة والسلم والمصرّاة (¬2) خارجة عن القياس يعترفون بأنه انضم إلى هذه الأبواب ما جعلها تخالف سائر أفراد القاعدة التي يبدو لأول النظر أنها من مشمولاتها. وهذا عز الدين بن عبد السلام يقول في قواعد المصالح: "أمر الله تعالى لإقامة مصالح متجانسة، وأخرج بعضها عن الأمر، إما لمشقة ملابستها، وإما لمفسدة تعارضها، وزجر عن مفاسد متماثلة، وأخرج بعضها عن الزجر، ¬

_ (¬1) أن يهب الرجل لآخر النخلة، ثم يتأذى بدخوله لها، فيخرص ثمرها، ويشتريه منها بتمر. (¬2) المصراة: هي التي صُرِّي لبنها؛ أي: حبس، وجمع، فلم يحلب أياماً، وقد جاء في الحديث الشريف: أن مشتريها متى احتلبها يكون بخير النظرين: إما أن يمسكها، أو يردها وصاع تمر.

إما لمشقة اجتنابها، وإما لمصلحة تعارضها". ومن أهل العلم من يقدّم القاعدة والقياس الذي تكون مقدماته قاطعة على خبر الواحد، وقد تردد أصحاب الإمام مالك في مذهبه: فروى عنه أصحابه العراقيون تقديم القياس على الخبر، وروى عنه المدنيون والمغارية تقديم الخبر على القياس، والتحقيق: أن للإمام في كل حديث يتعارض مع القياس نظراً خاصًا، فيقدم - مثلاً - الحديث الذي تعضده قاعدة أخرى؛ كحديث العرايا: عارضته قاعدة الربا، وعضدته قاعدة المعروف. فقد أريناك أيها القارئ النبيه كيف كان علماء الإِسلام يرعون عند التفقه في الكتاب والسنّة قاعدة: حفظ المصالح ودرء المفاسد، وأن ما جاء به القرآن والسنة من الأحكام المفصلة كفيل بحفظ مصالح الوقائع، أو درء مفاسدها، وفي استطاعة الراسخين في العلم أن يبينوا ما حفظته من المصالح، أو درأته من المفاسد بياناً كافياً. وإذا كان من لازم الأحكام العادلة حفظ المصالح أو درء المفاسد، فليس من شرط كل حكم أن يتغير باختلاف العصور أو المواطن؛ فإن الواقعة قد تشتمل بطبيعتها على مصلحة، أوعلى مفسدة لا يختلف حالها باختلاف العصور والمواطن، فيكون لها حكم واحد لا يتغير إلا أن يتغير حال الواقعة نفسها. ومن الذي يعقل أن يكون القصاص - مثلاً - زاجراً عن القتل، مقللاً لوقائعه في عصر أو موطن دون آخر؟ والحقيقة أن حكم الواقعة إنما يتجدد عندما تتغير طبيعة الواقعة، وأن الحكم المشروع للواقعة بحق قد يبقى حكمها العادل، ولو مضت عليه أحقاب، حتى يعرض لها من الأحوال ما يستدعي تفصيل حكم غير ما شرع لها أولا؛

ومن تيسر له أن يدرس ما فصلته الشريعة من أحكام محكمة - وهي فيما يرى أقل مما شرعته في ضمن أصول وقواعد- عزّ أن يجد فيها حكماً يتعلق بواقعة يختلف حالها باختلاف الزمان والمكان، وإذا وجد العالم الراسخ في فهم مقاصد الشريعة واقعة علّق عليها الشارع حكماً، ثم تغير حالها إلى حال تقتضي تغير الحكم اقتضاء ظاهراً، كان له أن يرجع بها إلى أصول الشريعة القاطعة، ويقتبس لها من هذه الأصول حكماً يطابقها، ومثال هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن منع النساء من الخروج إلى المساجد، فإذا نظر المجتهد إلى علة النهي عن منعهن، وجدها المحافظة على مصلحة المرأة من سعيها إلى المسجد، وحضورها صلاة الجماعة، وانتفاعها بما تسمع من قرآن أو خطبة، ولم يكن في خروجها لعهده - عليه الصلاة والسلام - مفسدة تستدعي المنع، فإذا جاء عهد يكثر فيه تعرض السفلة من الرجال للنساء، وحدثت وقائع تدل على أن سلطان الدين أصبح ضعيف الأثر في نفوس هؤلاء وهؤلاء، فقد أخذت واقعة خروج المرأة إلى المسجد حالاً غير الحال التي كانت عليه في زمن النبوة، وانضم إلى مصلحة خروجها مفسدة، فللمجتهد أن ينظر في هذه المفسدة، ويقيسها بالمصلحة؛ ليعلم أيهما أرجح وزناً، ثم يرجع بالواقعة إلى أصول الشريعة، ويستنبط لها حكماً يراعي فيه حالتها الطارئة. وربما نظر الفقيه في مثل هذه نظرة مستعجل، فيخطئ المرمى، وهذا ما جرى لمروان بن الحكم حين قدّم خطبة العيد على الصلاة؛ نظراً إلى أن الناس كانوا في عهد النبوة والخلافة الرشيدة يجلسون بعد صلاة العيد لسماع الخطبة، فلم يكن في تقديم الصلاة على الخطبة من بأس، ولكنهم

صاروا بعد ذلك العهد يكتفون بالصلاة، ويدعون سماع الخطبة، كما قال مروان معتذرًا لأبي سعيد الخدري: "إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة". وقد خالفه الصحابة والأئمة من بعدهم في ترك هذه السنّة؛ لأنهم رأوا أن هذا تصرف في أمر من قبيل العبادات التي يجب أن تقام كما وردت عن الشارع، على أن مفسدة خروج الناس قبل سماع الخطبة يمكن درؤها بوعظهم وإرشادهم إلى البقاء بالمسجد حتى انتهائها، وقد حضرت صلاة العيد في السنة الماضية بأحد المساجد الكبيرة في القاهرة، فوقف الإِمام قبل الصلاة، وذكر الحاضرين بعدم الخروج قبل انقضاء الخطبة، فامتثلوا. فالتفقه في الكتاب والسنّة على النحو الذي يحفظ الحقوق، ويسير بالأمة في أهدى سبل المدنية إنما يستطيعه من امتلاً بعلوم القرآن والحديث، وخاض في حكمة التشريع، وعرف مقاصد الشارع، وقدر المصالح والمفاسد بميزانها الصحيح.

الأصول النظرية الشرعية

الأصول النظرية الشرعية لم يختلف المسلمون في أن الشريعة الإِسلامية نزلت لتقرير أحكام الوقائع، فلا واقعة إلا لها مدلول عليه بالنص، أو بأصل من الأصول المستمدة من النصوص. أما الأحكام المستفادة من النصوص، فهي الأحكام المأخوذة من الكتاب والسنّة؛ كتحريم الميسر، ومنع القاضي من أن يقضي وهو غضبان، وجواز الشفعة للشريك. وقد أريناك بوجه عام أن كل ما قرره الشارع من أحكام مفصلة هو دائر بين حفظ المصالح ودرء المفاسد. وسنتناول بإذن الله تعالى القول في هذه الأحكام بتفصيل كما اقتضى المقام بيانها. وأما الأحكام المدلول عليها بأصول عامة، فيستبين أمرها بالنظر في هذه الأصول، وهو ما أزمعنا البحث عنه منذ الآن. وسترى من هذه الأصول كيف تيسر للشريعة أن لا تدع واقعة من غير حكم، وكيف تتحرى بالأمة أرشد طرق المدنية، وأعدل نظم القضاء. واحتواء الشريعة على أصول عامة، وتناول الأصول لما لا يتناهى من الوقائع مما يزيدنا تفقهًا في قوله -عليه الصلاة والسلام -: "بعثت بجوامع الكلم"، ويضع في أيدينا معجزة ما زال كثير من الناس عنها في غطاء، وهي شريعة سمحة حكيمة تتناول كل ما يمكن تصوره من الحوادث على تباعد المواطن واختلاف الأجيال. وما جاءت على هذا

النحو إلا لأن رسالة المبعوث بها عامة؛ كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبا: 28]. ونحن نعلم أن الألفاظ وضعت للدلالة على ما في النفس، فمتى أتى المتكلم بلفظ شأنه أن يدل على ما في نفسه، وششبين منه المخاطبون قصده، وقف عنده، سواء كانت دلالته بالمنطوق، أو المفهوم، أو بمقتضى المعنى، أو بقرينة حال، أو عادة مطردة. ويكفي في الخطاب الموجه إلى الناس كافة أن يفهمه القوم المستنيرون منهم، وهم الذين يبلّغون سائر الطبقات ما فيه من أحكام وحكمة. وإذا كان هذا شأن المتكلم بلغة العرب، بل شأن المتكلمين بألسنة غيرها فيما يظهر، فمن حكمة الشريعة العامة الخالدة أن تسلكه في إرشادها، وفيما تسنّه من أحكام لا تنقضي وقائعها. والأصول التي نريد البحث عنها في هذا المقام هي: القياس، والاستصحاب، ومراعاة العرف، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، والاستحسان: * القياس: حقق علماء الإِسلام أن لكل حكم شرعي حكمة تلائم شرعه، ومرجع الحكمة إلى رعاية المصالح والمفاسد، وقد قرر المحققون؛ كأبي إسحاق الشاطبي، وغيره: أن أحكامه تعالى معللة بمصالح العباد، وهذا معروف باستقراء موارد الشريعة؛ كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]. وقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ

وَطَرًا} [الأحزاب: 37] وقوله - صلى الله عليه وسلم - في وجه طهارة الهرة: "إنها هي من الطوافين عليكم والطوافات"، وقوله في وجه منع بيع الثمرة قبل بدوِّ صلاحها: "أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟! ". وإذا كانت الأحكام المنصوص عليها قائمة على رعاية المصالح، فإذا قرر الشارع للواقعة حكماً، ونبَّه في الآية أوالحديث على وجه المصلحة المناسبة لتقريره، أو كان ذلك الوجه ظاهراً ظهوراً لا تحوم عليه شبهة، صحَّ للمجتهد أن يعمد إلى كل واقعة تحقق فيها ذلك الوجه من المصلحة، ويسوِّي بينها وبين الواقعة المنصوص عليها فيما علّقه عليها الشارع من حكم، وذلك ما نسميه بالقياس. فالقياس: أن يعمد المجتهد إلى حكم أمر معلوم، فيثبته لأمر آخر؛ لاشتراك الأمرين في علة الحكم. ومثال هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يتناجى اثنان دون واحد"، وعلة هذا النهي: أن الاثنين إذا تناجيا دون رفيقهما، قد يقع في نفسه أن حديثهما في شأنه، ويحدث له من الظنون ما يكدر صفو الإخاء بينهم. وللفقيه متى اطمأن إلى هذه العلة أن يقرر حرمة محادثة اثنين بلسان لا يعرفه الثالث متى كانا يحسنان لساناً لا يعرفه رفيقهما؛ لأن علة النهي متحققة في هذه الصورة تحققها في المناجاة. فأي عالم يتلو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِوَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، ولا يفهم أن علة الأمر بترك البيع عند النداء للصلاة كونه شاغلاً عن أدائها؟ وهذه العلة موجودة في غير البيع؛ نحو: الإجارة بلا فارق، فيصح إلحاقها بالبيع في منعها عند النداء لصلاة الجمعة.

وأي عالم يسمع قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا يبيع بعضكم على بيع بعض"، ولا يفهم أن علة النهي: ما يحدثه هذا البيع من التقاطع والعداء، ثم ينتقل بوسيلة العلة إلى حرمة استئجاره على إجارته؟ وإنما جعلنا القياس في صدر البحث من نوع دلالة اللفظ بالمعقول؛ لأن اللفظ إذا دل بمقتضى وضعه على حكم واقعة، وعرفت علة الحكم؛ فإن العقل متى وجد هذه العلة متحققة في واقعة أخرى، أدرك أن حكمها حكم الأولى، نظراً إلى أن الشارع يسوّي بين الواقعتين حيث اشتركتا في الوصف المؤثر في الحكم، وتماثلتا فيه من كل وجه. فالقياس أصل من أصول الشريعة، وبه اتسع نطاقها، وصارت تتناول من الوقائع مالا يتناهى. قال الإمام أحمد بن حنبل: لا يستغني أحد عن القياس. وقال إبراهيم النخعي: ما كل شيء نسأل عنه نحفظه، ولكنَّا نعرف الشيء بالشيء، ونقيس الشيء بالشيء. وقال الشعبيّ: إنا نأخذ في زكاة البقر فيما زاد على الأربعين بالمقاييس. وقال المزني: الفقهاء من عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم، قال: وأجمعوا أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل. وقال ابن عقيل الحنبلي: قد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعمال القياس، وهو قطعي. وحقق أبو إسحاق الشاطبي أن أصل العادات (¬1) الالتفات إلى المعنى؛ ¬

_ (¬1) يعني بالعادات: ما سوى العبادات.

أي: إنها معقولة الحكمة، واستدل على هذا بامرين: أحدهما: الاستقراء، فقال: إنا وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد، والأحكام العادية تدور معها حيثما دارت، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كانت فيه مصلحة جاز. ثانيهما: أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات، وأكثر ما علل بالمناسب الذي إذا عرض على المعقول، تلقته بالقبول، ثم قال: ففهمنا من ذلك: أن الشارع قصد منها اتباع المعاني، لا الوقوف على النصوص. جرى العمل بالقياس لعهد الصحابة - رضي الله عنهم -، ثم التابعين، وظهر العمل عليه في العراق لعهد الإِمام أبي حنيفة وأصحابه أكثر من ظهوره في الحجاز، فاستكثروا منه، وبرعوا فيه، وما زال الناس يأخذون بالقياس إذا لم يجدوا في الواقعة نصاً، حتى جاء إبراهيم بن سيار النظام المتوفى سنة 221، فأحدث القول بإنكار القياس زاعماً الاستغناء عنه بالنظر إلى ما يدعونه من وصف الفعل بالحسن أو القبح الذاتيين. قال أبو القاسم عبيد بن عمر في كتاب "القياس": ما علمت أن أحداً من البصريين ولا غيرهم ممن له نباهة سبق إبراهيم بن سيار النظام إلى القول بنفي القياس والاجتهاد، ولم يلتفت إليه الجمهور، وممن خالفه في ذلك فريق من زعماء المعتزلة؛ كأبي الهذيل، وبشر بن المعتمر، وبشر المريسي. وظهر بعد هذا داود بن علي الأصبهاني المتوفى سنة 270، ونشأ بظهوره مذهب الظاهرية، وروي عنه: أنه كان ينكر القياس، إلا أن يكون جلياً، وهو ما يكون المقيس فيه أولى بالحكم من المقيس عليه؛ كتحريم ضرب الوالدين

قياسًا على التأفيف الثابتة حرمته في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]. أو مساويًا؛ كحرمة إتلاف مال اليتيم باللبس قياسًا على أكله الثابتة حرمته بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]. وهذان النوعان يسميهما الأصوليون: مفهوم الموافقة. وأجاز بعضهم القياس الذي وقع النص على علته خاصة، وأنكروا ما كانت علته مستنبطة. وجاء بعد هؤلاء أبو محمد علي بن حزم الأندلسي المتوفى سنة 456، فوقف في جمود، وأنكر أن تكون أحكام الشريعة معللة، وبنى على هذا الرأي الجامد. إنكار القياس جملة، ولم يفرق بين جليّ وخفيّ، وبين ما كانت علته منصوصة، وما كانت علته مستنبطة، قال في كتابه "الأحكام": ذهب أهل الظاهر إلى إبطال القياس جملة، وهو الذي ندين الله به، والقول بالعلل باطل" وقال: "لا يشرع الله شيئاً من الأحكام لعلة أصلًا، فإذا نص الله تعالى، أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - على أن أمر كذا بسبب كذا، أو من أجل كذا، أو لأنه كان كذا، فعندي أنه جعل ذلك سبباً للشيء في ذلك الموضع خاصة، ولا توجب تلك الأسباب شيئاً من تلك الأحكام في غير تلك المواضع البتة" وأغلظ القول على القائلين بالقياس، وحمل عليهم حملة جافية. والناظر في الشريعة بتدبر، القائم على سير الأئمة المجتهدين بيقظة، يدرك أن ابن حزم سار في غير سبيل، واعتمد على غير دليل. تحدث أبو بكر بن العربي في كتاب "العارضة" عن طائفة الظاهرية، وقال: وغُرّ بهم رجل كان عندنا يقال له: ابن حزم، انتدب لإبطال النظر، وسدِّ سبل العبر، ونسب نفسه إلى الظاهر اقتداءً بداود وأشياعه، واعتمد

الرد على الحق نظمًا ونثراً. ثم أورد القاضي أبو بكر أبياتاً في الرد عليه، ومما يقول في الأبيات: إنَّ الظواهر معدودُ مواقعها ... فكيف تحصي بيانَ الحكم في البشر فالظاهريةُ في بطلانِ قولهم ... كالباطنية غير الفرق في الصور كلاهما هادم للدين من جهة ... والمقطع العدل موقوف على النظر هذي الصحابة تستمري خواطرها ... ولا تخاف عليها غرة الخطر وتعمل الرأي مضبوطاً مآخذه ... وتخرج الحق محفوظاً من الأثر بالغ ابن حزم في إنكار القياس وجحوده أن تكون أحكام الشريعة معللة، وادعى أن نصوص الشريعة وافية بكل ما يحتاج إليه من أحكام، وقد خرج بهذه النزعة عن طريقة السلف، ولم يرتضها منه المحققون من الخلف، وجمهور أهل العلم يتمسكون بأصل القياس، وإن كانوا يختلفون في بعض ضروبه، وهؤلاء اختلفوا في تقدير الأحكام المستفادة من النصوص، فمنهم من يراها قليلة بالنسبة لما يؤخذ من طريق الأقيسة، حتى قال إمام الحرمين: إن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة، وسائرها مأخوذ من طريق القياس. وقال قوم منهم ابن تيمية: إن النصوص وافية بمعظم أحكام العباد، والبقية مشروعة على طريق القياس. وقد يكون اختلافهم في هذا التقرير راجعاً إلى اختلافهم في فهم النصوص، وفيما تتناول من معان، فبعضهم لا يتعدى في تفسير اللفظ صورة واحدة، وغيره يذهب في تأويله إلى معنى واسع، ويجعله شاملاً لصور شتى، فالخمر المحرّمة بالكتاب - مثلاً - يحملها بعضهم على عصير العنب خاصة، وعليه فما لا يكون من عصير العنب من المسكرات، يرجع في حرمته إلى

دليل آخر؛ كالقياس. ويذهب آخرون إلى أن الخمر في القرآن يتناول كل مسكر، واستدلوا على هذا بحديث مسلم: "كل مسكر خمر"، فعلم من الحديث أن لفظ الخمر لم يكن مخصوصًا بعصير العنب، فيكون المسكر من غير عصير العنب محرمًا بنص الآية، سواء أكان، الحديث مبيناً لمعنى الخمر لغة، أم مبيناً له على مقتضى عرف الشارع، فإن الشارع يتصرف اللغة، ومن تصرفاته فيها: أن يستعمل اللفظ فيما هو أعمّ من معناه؛ كما يستعمله فيما هو أخص منه. ونحن لا ننكر أن من أنصار القياس من أوردوا في الاستدلال على صحته ما يقصر عن أن يفيد علماً، أو يكسب ظنًا، كما أن منكري القياس ساقوا آيات واَثارًا تعسفوا في جعلها أدلة على بطلانه، وإنما يقصد بتلك الآيات والآثار: الآراء التي لا تستند إلى علم، والأقيسة التي تتكئ على غير أصل؛ كقياس الذين قالوا: "إنما البيع مثل الربا"، وأما القياس بمعنى: الحكم على الشيء بحكم نظيره الموافق له في المعنى، المقتضي للحكم بدون فارق، فذلك ما لا يختلف أولو الألباب في صحته. قال ابن قيِّم الجوزية: وهل يستريب عاقل في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" إنما كان ذلك لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين إنعام النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد، فمن قصر النهي على الغضب وحده دون الهم المزعج، والخوف المقلق، والجوع، والظمأ الشديد، وشغل القلب

المانع من اللهم، فقد قلَّ فقهه وفهمه. فالقياس أصل في الشريعة أصيل، وإذا تعرض له نفر بعقول غير راجحة، أو بقلوب غير عامرة بالتقوى، فابتغوه وسيلة إلى أحكام تتبرأ منها الشريعة، فقد بليت النصوص - وهي حقائق كالصبح إذا أسفر - بامثال هؤلاء، فخرجوا بها عن مقتضى الحكمة والبلاغة، وجاؤوا في تأويلها بما يشاكل عقولهم، ويرضي شهواتهم. قال الإِمام الشافعي - رضي الله عنه -: "ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالماً بما مضى قبله من السنن, وأقاويل السلف، وإجماع الناس واختلافهم، ولسان العرب، ويكون صحيح العقل، حتى يفرق بين المشتبه، ولا يعجل بالقول، ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه؛ لأن له في ذلك تنبيهاً على غفلة ربما كانت منه، أو تنبيهاً على فضل ما اعتقد من الصواب". * الاستصحاب: يجد الإنسان في نفسه أنه إذا تحقق عدم شيء أو وجوده، كان على ظن من استمرار ذلك الشيء على ما تحقق فيه من عدم أو وجود، ويبني على ذلك الظن أعمالاً ليس من شأنه أن يفعلها في حال ما إذا كان في شك من استمرار الشيء على العلم أو الوجود، فإذا ناقش أحد في مراسلة الشخص ممن عرف وجوده، وزعم أن مثل هذه المراسلة يكفي فيها أن يكون على شك من استمرار وجوده، فإنه لا يستطيع أن يناقش في أن من اشترى حيواناً غائبًا - مثلاً - كان قد رآه من قبل، ودفع ثمنه، أنه اعتمد على ظن استمرار حياته، ولا يستطيع أن يناقش في أن من اقتحم بصبيته مفازة مغبرَّة الأرجاء، دون أن يحمل معه ماءً كافياً، إنما اعتمد على ظنّه بقاء ما عرفه فيها من آبار

نابعة. ولولا ما يغلب على ظن الأب العطوف من حياة ابنه الغائب في سفر، لما كان يبيت إلا في قلق وحيرة. وإنك لتجلس إلى الإنسان العاقل، وتسأله عن شخص عرف أحواله، ثم انقطع عنه شهرًا أو سنة، فيتحدث عنها بكلام من لا يشك في أنها واقعة في الحال، فيقول: هو موسر، أو بائس، له ولد، أو لا ولد له، وبينه وبين فلان عداوة أو صداقة. وظنُّ الإنسان لاستمرار ما تحقق عدمه أو وجوده، منبّه إلى أن الأصل في عدم الشيء أو وجوده الاستمرار حتى يقوم الشاهد على انقطاعه، وهذا الأصل مما نظر إليه الفقهاء عند تقرير الأصل الذي يسمونه: (الاستصحاب). الاستصحاب: أصل من أصول الشريعة التي تجعل العلماء في فسحة، وتخلصهم من مواقف الحيرة، وهو أصل متفق على العمل به في الجملة، وإن اختلفوا في بعض ضروبه. قال القرطبي: "القول باستصحاب لازم لكل أحد؛ لأنه أصل تنبني عليه النبوة والشريعة، فإن لم نقل باستمرار حال تلك الأدلة، لم يحصل العلم بشيء من تلك الأمور". واستمرار حال أدلة النبوة والشريعة من الاستصحاب الذي لا يختلف العقلاء في صحته، ولا يتطرق إليه الريب في حال. ونحن لا نقصد في هذا المقام إلى بسط القول بذكر مذاهب الفقهاء في الاستصحاب، وتقرير أدلتها، فموضع ذلك كتب الأصول، والقصد أن نتحدث عنه بمقدار ما يستبين القارئ حقيقة أصل من الأصول التي جعلت مجال الاجتهاد فسيحًا، وطريق الفتوى ممهدة، ولا تنجلي حقيقته إلا ببيان أقسامه، وضرب المثل لكل قسم منها، وذلك ما نتحرَّاه في هذا المقال:

الاستصحاب: ثبوت أمر في الزمن الحاضر بناء على ثبوته فيما مضى، فالأمر الذي علم وجوده، ثم طرأ الشك في عدمه، فالأصل بقاؤه، والأمر الذي علم عدمه، ثم عرض الشك في وجوده، فالأصل استمراره في حال العلم، فمن تزوج فتاة على أنها بكر، ثم ادعى بعد البناء بها أنه وجدها ثيبًا، لم تقبل دعواه إلَّا ببينة؛ لأن حال البكارة ثابت من حين نشأتها، فيستصحب إلى حين البناء حتى تقوم على عدمه البينة. ومن اشترى طائراً أو كلباً على أنه يحسن الصيادة، وادعى بعدُ أنه وجده غير متعلم لها، سُمعت دعواه هذه، إلا أن تدفع ببينة؛ لأن حال الحيوان في الأصل عدم معرفة الصيادة حتى يعلَّمها، فإذا وقع فيها تردد، استصحب الأصل حتى يقوم الشاهد على ثبوتها. والاستصحاب كسائر الأصول التي يستخلصها المجتهد من استقراء جزئيات كثيرة من موارد الشريعة، ويرجع بمقتضى ما ذكره علماء الأصول إلى أربعة أقسام: أحدها: استصحاب ما هو حكم الأشياء في الأصل حتى يقوم الدليل على ما يخالفه، وبيان هذا: أن كثيراً من أئمة الشريعة ذهبوا إلى أن الأشياء في الأصل خالية من الحكم؛ أي: أنها لا توصف بشيء من الأحكام الشرعية من الوجوب والحرمة، والندب والكراهة والإباحة، ومقتضى هذا: رفع الحرج والإثم عن الفعل والترك، ورجَّح فريق أنها على الإباحة. ومآل القولين واحد، فإن الحرج في الفعل والترك مرفوع على كلا المذهبين، وإنما يمتاز مذهب الإباحة بأنه صريح في التخيير، أما مذهب انتفاء الأحكام، فغايته رفع الحرج، ورفع الحرج لا يستلزم التخيير في الأمر، لاحتمال أن يكون مكروهاً.

ورأى آخرون أنها على المنع. وأدلة هذه المذاهب مبسوطة كما ذكرنا في كتب الأصول. وتظهر فائدة الخلاف في الأشياء التي لا يجد المجتهد على حكمها من دليل. أو الأشياء التي تتعارض عندها الأدلة، ولا يبدو له في جانب أحدها وجه من الترجيح. فهذه الأشياء يرجع بها كل فريق من أصحاب هذه المذاهب إلى استصحاب ما يراه أصلًا للأشياء، فهذا يستصحب فيها انتفاء الحكم، فتلحق بما لا حرج فيه، وذاك يستصحب فيها الإباحة، فتكون من قبيل المخير في فعله وتركه، والآخر يستصحب فيها المنع، فتدخل فيما لا يجوز الإقدام عليه. وقد يسبق إلى ظنك أن القول بانتفاء الأحكام واستصحاب هذا الانتفاء فيما لا يطلع له المجتهد على حكم، يجعل بعض الأفعال خالية من أحكام الشريعة، فيدفع هذا الظن بأن المجتهد يصل به الدليل المعتدّ به في نظر الشارع إلى أن ما لا يجد له حكماً في نص أو قياس، يستصحب الأصل الذي هو انتفاء الأحكام الخمسة المقتضي رفع الحرج، فيرجع إلى أن حكم الشارع فيه رفع الحرج في الفعل والترك. هذا: وقد اختار كثير من المحققين أن الأصل في الأشياء الإباحة، فهي على التخيير حتى ينهض الدليل على ما سواه من كراهة أو حرمة، أو ندب أو وجوب، فإذا عرض لهؤلاء، أو للقائلين بأن الأصل انتفاء الأحكام أمر، اجتهدوا في تعرف حكمه من الأدلة السمعية أو القياس، فإن لم يظفروا

به هنالك، استصحب الأولون فيه الإباحة، واستصحب الآخرون رفع الحرج والإثم. ومقتضى هذا الأصل أن كل ما يوجد في هذا الكون من جماد أو نبات أو حيوان، ولم يرد في الشرع ما يقتضي النهي عن تناوله واستعماله، يكون من قبيل المأذون فيه. ذلك ضرب من الاستصحاب. وهنا ضرب آخر، وهو استصحاب ما دلّ الشرع على ثبوته؛ كملك الأرض أو البضاعة عند تحقق القول المقتضي له، وحلِّ النكاح بعد امتلاك العصمة، وشغل الذمة عند التزام مال أو إتلافه، فإذا عرض شك في الملك، أو حل النكاح، أو شغل الذمة، ألغي الشك، وقضي باستمرار الملك حتى تقوم البينة على نفيه، وببقاء العصمة حتى يعلم انقطاعها، وببقاء الذمة مشغولة بما التزمت، وقيمة ما أتلفت حتى تثبت براءتها بإقرار أو بينة. والقضاء ببقاء الملك أو العصمة أو شغل الذمة، مع عروض الشك فيها، يستند إلى استصحاب ما دلّ الشرع على ثبوته قبل حال الشك، فصار بعد حال الشك بمنزلة المعلوم. ولم يختلف أهل العلم في العمل بهذا الضرب من الاستصحاب إلا أن يقوم تجاهه ما يراه المجتهد أقرب دلالة، وأظهر حكماً. ذانك ضربان من الاستصحاب. وهنا ضرب ثالث، وهو استصحاب العلم الأصلي؛ كأن يدعي الشريك أو المضارب أن المال لم ينتج عنه ربح، فتقبل دعواه استصحابًا للأصل الذي هو عدم الربح، إلا أن يثبت الربح ببينة. ومن مُثله: أن يشتري المضارب صنفًا من البضائع، فيدّعي صاحب المال أنه نهاه عن شراء هذا الصنف،

وينكر المضارب، فالقول للمضارب؛ استصحاباً للأصل الذي هو عدم النهي. وهذا الضرب من الاستصحاب لا يخالف في العمل به أحد من أهل العلم، إلا أن يصرفه عنه دليل أظهر منه وأقوى. تلك ثلاثة أضرب من الاستصحاب. وهنا ضرب رابع منه، وهو أن يعلم ثبوت أمر عقلي أو حسي بإحدى طرق العلم، ثم يقع الشك في زواله، فيستصحب بقاؤه، وتجري الأحكام على هذا الاستصحاب حتى يحصل العلم أو الظن بزواله، ومن أمثلته الدائرة: أن يفقد شخص، فيقوم بعض من شأنه أن يرثه مدعيًا وفاته مطالباً بقسم ما ترك من مال، فترد دعواه بأن حياة ذلك الشخص كانت قبل الفقد معلومة، فتستصحب فيما بعد حتى يقوم الشاهد بوفاته. وهذا الضرب من الاستصحاب يعمل عليه كثير من أئمة الفقه، وخالف في حجيته أئمة آخرون، وذهبوا فيه مذاهب وسعتها كتب الأصول بحثاً واستدلالاً. تلك أربعة أضرب من الاستصحاب. وهنا ضرب خامس يسمى: استصحاب الإجماع، وهو أن يكون الأمر بحالة، ويتفق فيه على حكم، ثم يتغير إلى حالة أخرى، فيستصحب حكم الإجماع في الأمر بعد تغيره حتى يقوم الدليل على أن له حكماً غير ما انعقد عليه الإجماع. والمثال الذي يوضحه: مناظرة جرت بين أبي سعبد البردعي، وداود الظاهري في بيع أم الولد، قال داود الظاهري: قد اتفقنا على جواز بيعها قبل العلوق بالحمل، فمن زعم أن بيعها بعد الولادة لا يجوز، فعليه الدليل.

فقال أبو سعيد: قد اتفقنا على منع بيعها حاملاً، فمن زعم أن بيعها بعد الوضع جائز فعليه الدليل. فسكت داود، ولم يحر جواباً، وهذا النوع من الاستصحاب قبله بعض أهل العلم وردَّ آخرون. ذلك الاستصحاب، وتلك أقسامه، وقد استنبط الفقهاء استصحاباً آخر هو على عكس الأول، ويسمى: الاستصحاب المقلوب. وحقيقته: ثبوت أمر في الزمن السابق بناءً على ثبوته في الزمن الحاضر، وللمالكية فتاوى مبنية على رعايته؛ كمسألة الوقف الذي لا يدرى بعد البحث أصلُ مصرفه، وشرط واقفه، ولكنَّا نجده في الزمن الحاضر يصرف على حالة، إذ قالوا: إن هذه الحالة تستصحب فيما قبله، ويحمل على أن مصرفه في الأصل هكذا، وتكون الحالة التي يصرف عليها صحيحة حتى تقوم البينة على عدم مطابقتها لما صدر من الواقف. وكمسألة الزوج يغيب عن زوجته دون أن يترك لها نفقة، فتطالبه بما أنفقت في غيبته، فيدعي أنه كان في مدة الغيبة معسراً، وتدعي هي أنه كان موسراً، إذ قالوا: إنه ينظر إلى حال قدومه من عسر أو يسر، وتستصحب في زمان الغيبة، فإن قدم موسراً، عدّ في الغيبة ذا يسار، وقضي عليه بما تطلب الزوجة من النفقة. فها هنا ثبت أمر، وهو يسار الزوج في الزمن السابق، أعني: زمن الغيبة، بناء على ثبوته في الزمن الحاضر؛ أي: زمن قدومه، بالاستصحاب. وإنما يعتمد المجتهد على الاستصحاب بجميع أقسامه بعد أن ينظر في الحادثة، ولا يجد لها حكماً في نص أو قياس. قال الخوارزمي في كتاب "الكافي": "الاستصحاب آخر مدار الفتوى؛ فإن المفتي إذا سئل عن حادثة، يطلب حكمها في الكتاب، ثم في السنَّة، ثم

في الإجماع، ثم في القياس، فإن لم يجده، يأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات، فإن كان التردد في زواله، فالأصل بقاؤه، وإن كان التردد في ثبوته، فالأصل عدم ثبوته". هذا صفوة ما يقوله أهل العلم في الاستصحاب، وقد رأيته كيف يفتح للفقهاء طرقًا يصدرون بها الفتوى في يسر، وينفذون منها إلى فصل القضايا في سرعة، علاوة على ما فيه من الدلالة على سماحة الإسلام، وأنه دين الفطرة الذي لا يشعر أولياؤه بحرج فيما شرع من أحكام. * مراعاة العرف: للعادات أثر كبير في شرع النظم والقوانين، فلا غنى للمشرع عن مراعاتها، قليلاً أو كثيراً، ولها قسط وافر من عناية واضعي القوانين في القديم والحديث، فأساس القانون الروماني عادات كانت تجري في مدينة رومة؛ وأساس القانون الإنكليزي عادات السكسون والنورمان الذين فتحوا بلاد إنكلترة. وكذلك الشريعة الإِسلامية لم تقطع النظر عن العرف، وجعلت رعايته أصلاً من أصولها العامة على شروط نذكرها فيما بعد. ومن القواعد التي تدور عليها أحكامها السمحة: "العادة المحكمة". والعرف والعادة: ما يغلب على الناس من قول أو فعل أو ترك. ومثال العرف القولي من باب الوقف: قول الفقهاء في حبس يقول صاحبه: "هو حبس على ولدي": إنَّه يدخل فيه البنات، إذا كان لفظ الولد يطلق على الذكر والأنثى في عرف بلد الواقف، أو لم يكن هناك عرف، أما إذا كان عرفهم إطلاقه على الذكر فقط، فإنه يختص بالذكور، ولا يدخل

فيه الإناث، وإن كان معنى الولد لغة يعم المصنفين. ويراعى العرف القولي، وإن لم يوافق لغة العرب، أو ما جاء في لسان الشارع. وعلى هذا ينبني قول بعض أهل العلم فيمن حلف لا يأكل لحماً، فأكل سمكاً: إنه لا يحنث؛ حيث إن السمك لا يسمّى في العرف لحماً، وإن سمي به في قوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12]. كما أن من حلف لا يجلس على بساط، لا يحنث بجلوسه على الأرض؛ لأنها لا تسمى في العرف بساطًا، وإن كان لفظ البساط يتناولها بمقتضى معناه في لسان العرب، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19]. يعتد بالعرف القولي متى كان عاماً لبلد أو قوم، وتحمل عليه ألفاظ المتكلمين من أهل تلك البلد بإطلاق، سواء في ذلك العقود والالتزامات، والأيمان والنذور، أما إذا كان العرف القولي خاصًا بالمتكلم دون قومه أو أهل بلده، حمل لفظه عند المالكية على عرفه الخاص في الأيمان والنذور والطلاق، أما العقود، فإنما يرجع فيها إلى العرف العام، أو الوضع اللغوي، إن لم يكن هناك عرف عام. ومثال العرف الفعلي: الزوجان يختلفان في المهر بعد البناء، فيدعي الزوج أنه دفعه لها، وتنكر الزوجة ذلك، فقد قال الإِمام مالك: إن القول للزوج؛ لأن العرف بالمدينة كان جارياً بدفع المهر قبل الدخول. وتطَّرِد هذه الفتوى في كل بلد تجري فيه العادة بدفع المهر قبل البناء. ومن هذا القبيل مسألة الحيازة عند المالكية، فمن حاز عقاراً عشر سنين، ثم قام شخص يدعى استحقاق ذلك العقار، ولم يقم عذراً عن سكوته تلك المدة؛ بنحو غيبته عن البلد، أو عدم علمه بحيازة المدعى عليه للعقار، فإنه لا ينتفع بالبينة

التي تثبت له أصل الملك، ذلك لأن العرف جار على أن الرجل لا يشاهد غيره يتصرف في ملكه هذه المدة الطويلة، ويسكت عنه. وكذلك أفتى الإِمام المازري فيما إذا جرت عادة قوم بقدر الصداق، وعرفها المتعاقدان أن هذه العادة بمنزلة التسمية، ويحكم بذلك القدر المتعارف، ولا يكون النكاح من قبيل نكاح التفويض. هذا هو الشأن في العرف الفعلي العام لقوم أو أهل بلد، أما العرف الفعلي الخاص بفرد، فقد حكى شهاب الدين القرافي: الإجماع على عدم الاعتداد به، فلا تخصص به العمومات، ولا تقيد به المطلقات. وأنكر عليه بعض الفقهاء المالكية حكاية الإجماع، وأوردوا مسائل في المذهب تدل على التخصيص بالعوائد الفعلية، وإن كانت خاصة. ومما ساقه بعضهم مثالاً لهذا الضرب من العرف: مسألة الرجل يوكَّل آخر على شراء ثوب، فيشتر له ما لا يناسب عادته أو عادة خدمه، فقد أفتوا بأن ما اشترى غير لازم للموكل، بل هو لازم للوكيل. ومثال العرف الجاري بالترك: تسامح الناس في ثمر الغصن الخارج عن حدود البساتين، فمن وجد شيئاً منه واقعًا على الطريق - مثلاً -, ساغ له الانتفاع به دون توقف على الإذن الصريح من صاحبه؛ لأن أصحاب البساتين يتسامحون في مثله، ولا يتعرضون لمن يلتقطه. والعرف ثلاثة أقسام: أحدها: ما يقوم الدليل الخاص على اعتباره؛ كمراعاة الكفاءة في النكاح. ثانيها: ما يقوم الدليل على نفيه؛ كعادة الجاهلية في التبرج، وطوافهم

بالبيت عراة، ومناصرة الأخ وإن كان ظالماً. ثالثها: ما لم يقم دليل على اعتباره أو نفيه، وهذا موضع نظر المجتهدين، فيذهب كثير منهم إلى مراعاته، ويجعلونه أصلاً من أصول الشريعة يبنون عليه فتاوى وأحكاماً، وأكثر ما تجد هذه الفتاوى في كتب المالكية والحنفية والحنابلة. وصلة العادة بالشريعة على وجهين: أحدهما: أن يغلب على الناس أمر، فيقرره الشارع، ويجعله حكماً يقضي به عند الاختلاف. ومثال هذا من الشريعة الغرّاء: وضع الدية على العاقلة، ومراعاة الكفاءة في النكاح. والتحقيق: أن الشريعة العادلة لا تجعل نفس العادة قانونًا إلا أن تكون العادة معقولة صالحة. ثانيهما: أن يغلب على الناس معنى، فيراعيه في تفصيل حكم الواقعة، حتى إذا تبدلوا بذلك المعنى عرفاً آخر، كان على المفتي إعادة النظر في الواقعة لتقرير حكم يراعى فيه العرف الطارئ، وهكذا يتجدد النظر في الواقعة ما تجددت العادات. ومثال هذا: أن يجري العرف في بضاعة بدفع ثمنها نقدًا، فإذا اشترى أحد شيئاً من هذه البضاعة، ووقع في حيازته، ثم قام البائع يدعي أنه لم يقبض ثمنها، وادعى المشتري أنه سلّم له الثمن حسب العادة الجارية، فأصل مراعاة العرف يقضي بأن يكون القول للمشتري مع اليمين متى عجز الباع عن إقامة البينة. فالحكم الذي بني على العرف في هذا المثال، وهو جعل القول للمشتري حيث صدّقه العرف حتى يكذبه البائع ببينة. ومن أمثلته: أن العادة جارية في كثير من البلاد على أن الرجل يستودع

زوجته المال، فإذا سلم أحد إلى آخر وديعة، فوضعها عند زوجته، فضاعت منه، لا يكون ضامنًا لها، نظراً إلى هذا العرف، وكأن صاحب المال لعلمه بالعرضي إيداع الرجل لمال عند زوجته يعد راضياً بإيداع المال عند الزوجة، وإنما يضمن المودع إذا تصرف في الوديعة على وجه لا يرضى عنه صاحبها. * هل يرعى العرف الفاسد؟ إذا جرى عرف الناس ببعض العقود الفاسدة - مثلاً -، فهل يراعى هذا العرف في بناء الأحكام، أو إنما تبنى الأحكام على العرف البخاري على وجه صحيح؟ ذهب كثير من فقهائنا إلى عدم مراعاة العرف الفاسد، وذهب آخرون إلى مراعاته. ومما ينبني على هذا: أن يجري عرف قوم ببعض العقود الفاسدة شرعاً، ويختلف المتعاملان، فيدعي أحدهما أن العقد وقع على الوجه الفاسد، يروم نقض البيع، ويدعي الآخر أنه وقع على الوجه الصحيح، فالقائلون بصحة مراعاة العرف الفاسد يرون العرف هنا شاهداً بصدق مدعي الفساد، فينقض البيع، إلا أن يقيم الآخر البينة على أن المعاملة جرت على وجهها الصحيح. قال عبد المنعم بن الفرس في كتاب "أحكام القرآن": "وإذا تنازعا في بيع أو إجارة، وادعى أحدهما الصحة، والآخر الفساد، وكان الفساد الذي ادعاه جاريًا بين الناس، فالمشهور أن القول قول مدعي الصحة، ومن أصحاب مالك من يقول: القول عي الفساد، وتفسخ المعاملة". والقائلون بمراعاة العرف الفاسد يثظرون إلى أن المعنى الذي اقتضى

جعل القول لمدعي الصحة فيما إذا جرى العرف على الصحة حاصل في العرف الفاسد، وهو غلبة معنى على الناس يقتضي غلبة الظن بصدق من اقترن هذا المعنى بدعواه. وبمراعاة العرف في كثير من الأحكام صحّ أن تختلف أحكام بعض الوقائع باختلاف المكان والزمان؛ لأن العادة قد تجري في موطن دون آخر، وتطرأ في عصر، وتنقطع في عصر، ولا يعد اختلاف الأحكام باختلاف العادات اختلافاً في أصل خطاب الشارع، بل معنى هذا الاختلاف: أن العادات إذا اختلفت، اقتضت كل عادة حكماً يلائمها، فالواقعة إذا صحبتها عادة، اقتضت حكماً غير الحكم الذي تقتضيه عندما تقترن بغيرها من العادات، فإذا جرت عادة قوم باستقباح كشف الرأس في جماعة، كان للقاضي أن يعزر من استحق التعزير الخفيف بكشف رأسه في ملأ من الناس، فعمل من استحق التعزير قد اقترن بعادة استقباح كشف الرأس، فكان التعزير بكشف الرأس مجزئًا. وإذا لم يكن كشف الرأس في عادة قوم مستقبحاً، امتنع أن يكون طريقاً كافياً للتعزير، ولا بدّ للقاضي من اتخاذ طريق آخر يكون له وقع الألم في نفس المستحق للتعزير. فخطاب الشارع الذي تعلق بالواقعة المقتضية للتعزير حال صحبتها لعادة استقباح كشف الرأس، غيرُ الخطاب الذي يتعلق بواقعة مثلها تصاحب عادة عدم استقباح ذلك. ولاختلاف الأحكام باختلاف العرف ترى فقهاء المذاهب لا يأخذون بفتاوى أئمتهم القائمة على رعاية العرف، متى تحققوا أن العرف قد تغير، وأن الواقعة أصبحت تستحق حكماً آخر غير ما قرره الأئمة من قبل، فلفقهاء المالكية؛ كأبي عبد الله بن عتاب، والقاضي أبي بكر بن العربي، وأبي الوليد

ابن رشد، وأبي الأصبغ بن سهل، والقاضي ابن زرب - فتاوى عدلوا فيها عن المشهور في المذهب، وبنوها على رعاية العرف، وجرى باختيارهم عمل أهل القضاء والفتوى من بعدهم. قال شهاب الدين القرافي في "قواعده": إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك، لا تجره على عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات - أيةً كانت - إضلال الذي الدين، وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضين. وكذلك ترى فقهاء الحنفية يخالفون ما نص عليه أبو حنيفة في مسائل بناها على عرف كان جاريًا في زمنه. وقالوا في وجه هذه المخالفة: إن أبا حنيفة لو كان في زمنهم، لما وسعه إلا أن يفتي بما أفتوا به. ولم يعدّوا التصرف في الأحكام القائمة على العرف خروجاً عن المذهب، وإنما هو الأخذ بأصل إمامهم الذي يقتضي الرجوع إلى العرف في الأحكام. يراعى العرف في القضاء والفتوى، وليس للفقيه أن يفتي أو يقضي بما جرى به العرف المخالف لأصل من أصول الشريعة، إلا أن تدعو إلى ما جرى به العرف ضرورة، فيكون الحكم مبنيًا على مراعاة الضرورة، ويدخل في قبيل الرخصة التي يقررها الفقيه على سبيل الاجتهاد. فشأن الفقيه أن ينظر في المعاملات المخالفة لأصل من أصول الشريعة، فإن وجدها ناشئة عن ضرورة، كان له أن يستثنيها من أصل المنع، ويجعل الضرورة علة استثنائها من ذلك الأصل. فإن كانت ناشئة عن جهالة، أو هوى غالب، فما له إلا أن يفتي بفسادها، ويعلم الناس وجه المعاملة الصحيحة. ولا يصح جعل ما يجري به العرف الفاسد أمراً مشروعاً، ويفتى بصحته دون

أن تدعو إليه ضرورة يحسن العارف بمقاصد الشريعة تقديرها. قال العلامة أبو عبد الله بن شعيب أحد علماء تونس في القرن الثامن: "وغلبة الفساد إنما هي من إهمال حملة الشريعة، ولو أنهم نقضوا عقود الفساد، لم يستمر الناس على الفساد". وقال الأستاذ الشيخ إبراهيم الرياحي التونسي في إحدى فتاويه: "والعرف المعتبر هو ما يخصص العام، ويقيد المطلق، وأما عرف يبطل الواجب، ويبيح الحرام، فلا يقول به أحد من أهل الإِسلام". فإذا أفتى بعض الفقهاء بصحة عقد مخالف لأصل شرعي، وظهر من عبارته أنه استند في إفتائه إلى جريان العرف بهذا العقد، فاعلم أن العبارة لم تفرغ في قالب التحقيق، أو أنه لم يزن الفتوى بقسطاس الشرع المستقيم. وقد يذكر بعض الفقهاء العرف في سياق الاستدلال على جواز أمر، ويريدون ما كان جاريًا في عهد النبوة، أو بين أهل العلم، وليس الدليل في الحقيقة نفس العرف، وإنما هو إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو الإجماع الذي لا ينعقد إلا على دليل. ومثال هذا: أن الإِمام مالكاً خصّ قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] بغير ذوات الأقدار والشرف، وقال: لا يجب على الشريفة إرضاع ولدها؛ لأن العادة جارية بذلك. ولا يريد الإمام: أن مجرد جريان العرف يسوغ هذا التخصص، وإنما أراد: جريان العرف مع عدم إنكار أهل العلم من السلف، فيرجع إلى الاستدلال بالإجماع. وقال بعض أهل العلم: عدم إرضاع الشريفة لولدها عادة عربية، واستمر الأمر فيها بعد الإِسلام إلى زمن مالك - رضي الله عنه -. ومن هذا القبيل: اكتفاؤهم في صحة البيع بالمعاطاة مستندين إلى العادة. وقالوا: إن استمرار هذه العادة،

يشهد بصحة نقلها خلفاً عن السلف. ويغلب على الظن أنها كانت جارية في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقد نبه ابن السبكي على ما قلنا من أن العادة لا تخصص العام بنفسه، فقال في "جمع الجوامع": "والأصح أن العادة بترك بعض الأمور تخصيص إن أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو الإجماع". هذا أصل من الأصول التي يستند إليها المفتي أو القاضي في تفصيل أحكام الحوادث، فتجيء صالحة عادلة. وبمثل هذا الأصل يعلم أن الشريعة الإِسلامية ملائمة لكل زمان ومكان. وليست كما يزعم خالي الذهن من تعاليمها أنها ضيقة المجال، فلا تقي بأحكام الحوادث، أو أنها قديمة العهد، فلا تحفظ مصالح ما تجدد من الأزمان. * سد الذرائع: من أعمال الإنسان أو أقواله ما يشتمل على المفسدة بنفسه؛ كالغصب يحرم الإنسان من الانتفاع بماله، وكالقذف يلوث عرض البريء، ويسقط مكانته من النفوس. ومن الأعمال أو الأقوال ما لا تنشأ عنه المفسدة مباشرة، بل يكون وسيلة إلى عمل أو قول فيه مفسدة؛ كمناولة السكين لمن يسفك بها دمًا معصومًا، فالمناولة في نفسها عارية عن المفسدة، وإنما هي وسيلة إلى ما فيه المفسدة، وهو سفك الدم بغير حق، وكدلالة الظالم على مكان شخص بريء يريد الظالم أن يناله بأذى، فليس في نفس الدلالة مفسدة تقع بوقوعها، وإنما ¬

_ (¬1) البحر "المحيط للزركشي".

المفسدة فيما كانت الدلالة وسيلة إليه، وهو إصابة النفس البريئة بالأذى. ويدلّك على أن مثل مناولة السكين، ودلالة الظالم على مكان البريء لا تحمل في نفسها مفسدة: أنها توجد في بعض الأحيان دون أن ينشأ عنها في الخارج فساد؛ كأن يقوم مانع من استعمال السكين في معصوم الدم، أو ينصرف الظالم عن أذية من دُلَّ على مكانه. وتخلف المفسدة عن الوسيلة لعارض لا يرفع الإثم عن فاعلها؛ لأن الإثم منوط بفعل الوسيلة، مع العلم بما شأنها أن تفضي إليه من فساد. ومن حكمة التشريع الإِسلامي: أنه لم يقصر النظر على ما يحتوى المفسدة بنفسه، بل وجّة نظره إلى وسائل ما فيه المفسدة، فمنعها. والنصوص الواردة في الكتاب والسنّة للنهي عن وسائل ما تقع المفسدة بوقوعه غير قليلة. ومن شواهد هذا: قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)} [النور: 30]، فالأمر بغض البصر من ناحية أن النظر يثير الهوى، والهوى يدفع إلى ارتكاب مفسدة هتك الأعراض، واختلاط الأنساب. ومن هذه الشواهد: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] منع المسلمين من أن يقولوا: {رَاعِنَا}، مع قصدهم إلى طلب الرعاية؛ سدًا لباب كان اليهود يدخلون منه إلى سب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ يستعملون هذه الكلمة، ولا يقصدون منها طلب الرعاية، وإنما يقصدون بها معنى اسم الفاعل المأخوذ من الرعونة. ومن هذا الباب: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]؛ فقد نهى عن سب معبودات المشركين

وهم يسمعون، وأشار إلى أن وجه النهي عن هذا السب: إفضاؤه إلى ما فيه المفسدة، وهو إطلاق ألسنتهم بسب الله تعالى. ويضاهي هذا الشاهد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه"؛ قيل: يا رسول الله! وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه" (¬1)، فجعل الرجل شاتمًا لوالديه، ولم يصدر منه شتمهما، وإنما تعاطى وسيلة هذا الشتم؛ وهو شتمه لأبي الرجل الأجنبي أو أمه، فدل على أن فاعل الوسيلة بمنزلة فاعل ما يتبعها. وفي الشريعة أحكام كثيرة تقوم على إعطاء الوسائل حكم ما من شأنه أن يوجد بعدها من ضروب الفساد، تراها قد منعت نكاح المرأة قبل أن تنقضي عدتها؛ حذرًا من اختلاط الأنساب، ثم منعت خطبة المعتدة باللفظ الصريح؛ لأنها تفضي إلى تسرع المعتدة بالإجابة، وادعاء انقضاء العدة قبل انتهاء أجلها، وقبول الهدية مأذون فيه، ولكنه يحرم على المقرض قبول هدية من المفترض كراهة أن تتخذ الهدية طريقاً للربا. وكذلك القاضي لا يجوز له قبول الهدية؛ حذراً من أن تتخذ وسيلة لموبقة الارتشاء. قال ربيعة: "إياك والهدية؛ فإنها ذريعة الرشوة". وإذا أقبل القاضي على أحد الخصمين دون الآخر، وبشّ في وجهه، انكسر قلب خصمه، وضعف بيانه عن إقامة الحجة، فيضيع حقه. فيحرم هذا الإقبال؛ لأنه وسيلة إلى ضعف البيان الذي هو سبب ضياع كثير من الحقوق. وقد تلقى تبعة الضمان على فاعل الوسيلة إذا أفضت إلى ما فيه المفسدة؛ كربّان السفينة يخرج في تصريفها عن المعتاد، ويسير بها في خطر، وهو قادر ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري".

على اجتنابه، فإنه يضمن ما يضيع بغرقها من الأموال والنفوس، وإن لم يقصد إلى إغراقها. وجاء في فتاوى علمائنا: أن من حفر بئرًا في طريق شخص قاصداً هلاكه، فوقع فمات، كان جزاؤه القصاص. ولا تختص الذرائع التي يجب سدها بالأفعال، بل يعد في قبيلها ترك الأفعال التي تحمى بها نفوس أو أموال. فمن وجد رضيعاً بمكان خال، وتركه بحاله، وهو قادر على إنقاذه، عالم بأن تركه يفضي إلى موته، فمات، عُدّ تركه للطفل في موقع التهلكة جريمة؛ إذ كان من وسائل الفساد التي يجب سدها، ومعاقبة من يرتكبها. وجاء في فتاوى الفقهاء: أن من منع فضل مائه مسافراً، وهو عالم أنه لا يحل له منعه، وأنه يموت إن لم يسقه، فمات، حقت عليه عقوبة القصاص. وكذلك الحارس ينام اختياراً في غير الوقت الذي اعتاد فيه النوم، فيضيع شيء مما أقيم لحراسته، فإنه يضمن ما ضاع، وليس نومه إلا تركاً للحراسة، وكان هذا الترك وسيلة إلى ضياع المال. لم يختلف العلماء في أن سد الذرائع من أصول الشريعة، وإنما يختلفون في بعض الفروع، يذهب بها بعضهم نحو سد الذرائع، ويرجع بها آخرون إلى أصل غير هذا الأصل. قال أبو إسحاق الشاطبي: "إن سد الذرائع أصل شرعي قطعي متفق عليه في الجملة، وإن اختلف العلماء في تفاصيله، وقد عمل به السلف بناء على ما تكرر من التواتر المعنوي في نوازل متعددة دلت على عمومات معنوية، وإن كانت النوازل خاصة، ولكنها كثيرة". يريد الشاطبي: أن السلف جروا في تفصيل بعض الأحكام على أصل سد الذرائع. ومستندهم في تحقيق هذا

الأصل: ما ورد في الكتاب والسنّة من الأحكام- العائدة إلى هذا الأصل، وهذه الأحكام وإن كان كل واحد منها متعلقًا بنازلة خاصة - قد بلغت من الكثرة مبلغ ما يدل على قصد الشارع إلى سد ذرائع الفساد، فتكون هذه الأحكام الكثيرة بمنزلة قول عام يرد في القرآن أو السنّة مصرحاً ببناء الأحكام على سد الذرائع. والذرائع ثلاثة أقسام: أحدها: ما أجمع العلماء على سدِّه، وهي الوسيلة التي تفضي إلى ما فيه مفسدة على وجه القطع، أو الظن القريب منه؛ كإلقاء السموم في الأطعمة، وحفر الآبار في الطرق. فإلقاء السم في الطعام يفضي على وجه القطع أو الظن القريب منه إلى موت من يتناول الطعام، كما أن حفر الآبار في الطرق يفضي إلى وقوع السائرين بها في غفلة أو ظلام. ومن هذا القسم: صنع الخمر، والاتجار بها؛ فإنه يفضي إلى مفسدة تعاطي شربها قطعاً أو ظناً غالباً، ويدلكم على وجوب سد هذه الوسائل: حديث أنس فيما رواه الترمذي: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وواهبها، وآكل ثمنها" وللحاكم المسلم أن يمنع بمقتضى هذا من زرع المخدرات، والاتجار بها ويضع على ذلك عقوبة رادعة. ثانيها: ما أجمعوا على إلغائه، وعدم الالتفات إليه، وهي الوسائل التي يكون إفضاؤها إلى المفسدة نادراً، ومثال هذا: زرع العنب؛ فإنه يكون وسيلة إلى اتخاذ الخمر وتناولها شرباً، ولكن هذه المفسدة نادرة بالنسبة

إلى الانتفاع بالعنب من حيث إنه ثمرة طيبة، فلا تمتد الحرمة من تعاطي الخمر إلى وسيلته التي هي زرع العنب، بل تبقى منوطة بنحو تحويله إلى خمر، أو تعاطي ما أسكر من عصيره. وقد يكون اتخاذ الخمر من العنب في بعض البلاد كثيراً، ولا تقتضي هذه الكثرة المنع من زرع العنب؛ فإن في هذا المنع حرمانًا للناس من منافعه الطيبة، وقد جعل الشارع لموبقة الخمر عقوبة، متى تولى القيام عليها حازم رشيد، طهرت البلاد من خبث المسكرات، وباهت سائر البلاد برجال لا يخالط عقولهم كدر، ولا يمس نشاطهم كسل، ولا يدنو من جِدِّهم هزل. وإذا فرض أن أمة تبلغ في السفاهة أن يكون اتخاذ الخمر هو الغالب على أعنابها؛ بحيث يكون انتفاعها من العنب في غير هذا الوجه نادرًا، كان للعارف بأصول الشريعة وسياستها النظر في هذه الحالة؛ ليقرر لها حكماً مطابقاً لها. وفي صناعة الطب مصلحة الشفاء من أمراض كثيرة، وقد تكون المداواة وسيلة إلى إتلاف بعض النفوس، وهذه الحالة نادرة بالنسبة إلى ما تفضي إليه من الصحة والسلامة، فتلغى الحالة النادرة، وتبقى المداواة مأذوناً فيها بإطلاق، وليس على الطبيب ضمان ما أتلف، إلا أن يتبين تفريطه، وعدم نصحه في العلاج. وفي تسيير السفن في البحر منافع لا تحصى، وقد يفضي تسيير السفينة إلى غرقها، وهلاك ركابها, ولكن الغرق نادر بالنظر إلى السلامة، فتلغى الحالة النادرة، ويبقى تسيير السفن مأذوناً فيه بإطلاق، وليس على ربّان السفينة

متى غرقت من ضمان؛ إلا أن يتصرف فيها على وجه يتبين فيه تفريطه. ويلحق بهذا الضرب اتخاذ السيارات والطيارات والغواصات، فإنه قد ينشأ عن استعمال هذه المخترعات إتلاف بعض النفوس البريئة، ولكن هذا الضرر قليل بالنسبة إلى ما يترتب عليها من نحو مصلحة الدفاع، وقطع المسافات البعيدة في أقرب زمان، فلا تمتد الحرمة من إتلافها لبعض النفوس إلى أصل استعمالها، بل تبقى الحرمة مقصورة على استعمالها بدون روية واحتراس، وهو المفضي إلى نحو إهلاك النفوس أو الأموال. ثالثها: ما يتردد بين أن يكون ذريعة إلى مفسدة، وبين أن لا يكون، وهذا موضع اختلف فيه أهل العلم، فمنهم من قال بالمنع من هذا القسم؛ نظراً إلى ما قد يفضي إليه من المفسدة، ومنهم من ذهب إلى الإغماض عنه، وعدم عدّه في الذرائع التي يجب سدها، ومثال هذا: استناد القاضي في الحكم إلى ما يعلم من حال القضية ترفع إليه، فمن أهل العلم من منعه. وأوجب على القاضي الرجوع إلى البينات، والوقوف عندها؛ مخافة أن يتخذ القضاة الذين لم تشرب قلوبهم التقوى الاستناد إلى العلم ذريعة إلى الجور في القضية، فيفصل فيها اتباعاً للهوى، بزعم أنه يعلم منها ما لم تعلمه البينة. فاستناد القاضي إلى علمه متردد بين أن يكون وسيلة إلى حفظ الحق، وأن يكون ذريعة إلى مفسدة الجور في القضاء. والمحققون على سد الذريعة في مثل هذا الفرع. والقاضي الذي يعلم من القضية خلاف ما قامت عليه البينة، يصرف الحكم فيها إلى غيره، ويشهد لديه بما يعلم، فتجري عليه أحكام الشهادة، فإما أن يقبل، وإما أن يلغي.

ومما يساق في الحديث عن هذا القسم: أن الشريعة تحرم على الإنسان أن يقرض آخر عشرة دنانير - مثلاً - على أن يردها إليه خمسة عشرة دينارًا، فإن هذه العقدة هي الربا بعينه، ولو باع زيد سلعة لعمرو بخمسة عشر مؤجلة، ثم اشتراها منه بعشرة نقداً، لكان مآل هذا البيع والشراء إلى أن زيداً دفع إلى عمرو عشرة نقداً، وأخذ منه بعد أجل مسمّىً خمسة عشر، ومثل هذه الصورة قد يقصد فيها زيد وعمرو إلى البيع والشراء على وجه البت، ثم يبدو لزيد أن يشتري ما باع، فيكون هناك عقدان، كل منهما مستقل عن الآخر، فيفارق هذا البيع والشراء عقدة الربا. فإن قصدا من البيع والشراء إعطاء عشرة ليؤخذ بدلها خمسة عشر عند الأجل، فقد جعلا هذه المعاملة وسيلة إلى ما حرّم من الربا؛ لأنها - وإن جرت بألفاظ البيع والشراء - تشتمل على معنى الربا من جميع أطرافه. ومن كبار الأئمة من يمنع هذه المعاملة حيث يكثر قصد الناس فيها إلى القرض بمنفعة. ويستند في هذا المنع إلى قاعدة سد ذرائع الفساد. وقد بلغ بعض الفقهاء في مراعاة سد الذرائع أنه كره فعل بعض المندوبات إذا كان إظهارها، والمواظبة عليها وسيلة إلى اعتقاد العامة سنيتها أو وجوبها. وكان الإِمام مالك - رضي الله عنه - يكره المجيء إلى بيت المقدس؛ خيفة أن يتخذ الناس ذلك سنّة، وقال سعيد بن حسان: كنت أقرأ على ابن نافع، فلما مررت بحديث التوسعة ليلة عاشوراء، قال لي: حرِّق (¬1) عليه، قلت: ولم ذلك يا أبا محمد؟ قال: خوفاً من أن يتخذ سنّة، وقد ذكرنا فيما سبق أن الإِمام مالكاً كره إتباع رمضان بصوم ستة أيام من شوال؛ مخافة أن يعتقد العامة أنها في حكم صوم ¬

_ (¬1) كذا في "الاعتصام" للشاطبي. ويطلق التحريق بمعنى: الحك، والبرد بالمبرد.

رمضان، ومن لا يجيزون ترك المندوب لخوف اعتقاد وجوبه أو سنيته، ويعتمدون على أن من واجب العلماء تبيين أحكام الشريعة وآدابها للناس، وإزاحة ما يحوم بأذهانهم من الأوهام الباطلة، وهذا هو الوسيلة التي يكفي بها شر اعتقاد العامة لسنية الأمر المندوب أو وجوبه. وكمانظر الشارع إلى وسائل الفساد فسدّها، نظر إلى وسائل ما فيه صلاح، ففتحها بالإذن فيها، والحثّ عليها. ومثال هذا: تسعير ما يباع في الأسواق من نحو الأقوات؛ فإنه ذريعة إلى حماية العامة من أن يغبنوا، ويغلي الباعة عليهم ما يحتاجونه في كل يوم. فالإذن في التسعير فتح ذريعة إلى مصلحة اقتصادية لا يستهان بها. فلوليّ الأمران يجمع وجوه أهل السوق، ويحضر غيرهم استظهاراً على صدقهم، فيسألهم كيف يشترون، وكيف يبيعون، ويضع للحاجيات أثماناً محدودة فيها ربح للباعة، ولا تجحف بالعامة. ونرى الشريعة تأتي إلى الأمر يكون له وجه من الضرر، فتأمر به حيث يكون ذريعة إلى ما فيه مصلحة أكبر من ذلك الضرر، ومن هذا القبيل: بذل المال لفداء الأسرى، فالمال المبذول للعدو يزيده قوة، وحرام على المسلمين أن يمدوا عدوهم، ولو بوزن ذرة من ذهب أو فضة، ولكن هذا البذل ذريعة إلى مصلحة يصغر في جانبها ضرر البذل، والمصلحة هي إنقاذ المسلمين من أيدٍ تسومهم سوء العذاب أو الهوان. وفي حلف الشخص بالله كاذباً إثم كبير، ومقتضى هذا: أنه لا يجوز لصاحب الحق - متى أنكر المدعى عليه - أن يطالبه باليمين؛ لأنه يدفعه إلى ارتكاب الإثم الكبير، ولكن الشارع الحكيم أذن لصاحب الحق في تحليف

المنكر، مع علمه بأنه سيحلف بالله كاذباً؛ إذ كان التحليف ذريعة إلى ظهور الحق في كثير من الأحيان، حيث يحمل المدعى عليه على الإقرار لأول الأمر، أو على الرجوع إليه بعد الإنكار، فهذه المسألة من المواضع التي أغمض فيها الشارع عن وجه الفساد، وفتح بها الذريعة إلى مصلحة ذات شأن خطير. وملخص المقال: أن الشريعة الإِسلامية قد بنت كثيراً من أحكامها المنطوق بها في الكتاب والسنة على رعاية سد الذرائع، وقد استخلص الفقهاء من هذه الأحكام الكثيرة: أن من أصول الشريعة: سد ذرائع الفساد، واستمدوا من هذا الأصل أحكاماً حالوا بها بين الناس وبين ما يفضي إلى كثير من مواقع الفساد، فقاعدة سد الذرائع قاعدة محكمة، وفيها شاهد واضح على أن الشرع الإِسلامي صالح لكل زمان ومكان. * المصالح المرسلة: من اطمأن قلبه إيماناً بأن الشريعة وحي نزل بها الروح الأمين على أفضل الخليقة، لم يرتب في أنها قائمة على حكمة، وأن الخير في الاقتداء بها، والوقوف عند حدودها، يقطع بهذا كل من صادفت فيه دلائل النبوة فطرة سليمة، أو ألمعية ثاقبة، ويزيد المتفقه في الشريعة بعد هذا الاعتقاد الذي اقتضاه أصل الإيمان؛ أنه يرى حق اليقين كيف قامت أصولها، وفصلت أحكامها على رعاية المصالح في الحياتين: العاجلة، والاَجلة، ولم يختلف أهل العلم في أن كل حكم شرعي مربوط بحكمة، وأن الحكمة هي التي دعت إلى تقريره، ومرجع هذه الحكم إلى المصالح والمفاسد، ومن هذا الأصل الذي دلّ على أن الله تعالى قد شرع الأحكام على طريقة جلب المصالح

ودرء المفاسد، نشأت قاعدة: المصالح المرسلة. لا نزاع في بناء الأحكام على المصالح التي قام الدليل الشرعي على رعايتها، ومثال هذا: حفظ العقل الذي دلّ على رعايته تحريم الخمر، وإقامة الحد على شاربها، فإذا عرض للمجتهد مطعوم لا يسمّى خمراً، ولكنه يفعل بالعقل ما تفعله الخمر، لم يتردد في تحريمه؛ أخذاً بالدليل القائم على اعتداد الشارع بمصلحة حفظ العقل، وبنائه بعض الأحكام على رعايتها، وهذا هو أصل القياس في الشريعة، فإنه مبني على التفقه في بعض الأحكام المنصوصة، ومعرفة قصد الشارع فيها إلى مصلحة بعينها، حتى إذا وجدت هذه المصلحة في واقعة أخرى، أخذت حكم الواقعة المصرح بها. ولا نزاع في عدم الاعتداد بالمصالح التي قام الدليل الشرعي على إلغائها، والشارع الحكيم لا يلغي مصلحة إلا إذا عارضتها مصلحة أرجح منها، أو استتبعت مفسدة لا يستخف بأمرها، ومثال هذا: الاستسلام للعدو: قد يبدو أن فيه مصلحة حفظ النفوس من القتل، ولكن الشارع رأى أن هذه المصلحة مغمورة بالمفاسد من كل جانب، فلم يعتدّ بها، وأذن في دفاع العدو؛ نظراً إلى مصلحة أرجح منها، وهي: احتفاظ الأمة بالعزة والكرامة، والتمكن من المسابقة في مضمار الحياة. ومن هذا الباب: تعدد الزوجات: يتبعه من الضرر أن تتألم المرأة من أن تشاركها في صلة الزوجية امرأة أخرى، ففي ترك التعدد مصلحة هي: قطع وسيلة استياء الزوجة، ولكن الشارع ألغى هذه المصلحة مكئفيًا بما اشترطه من العدل بين الزوجات، وأباح التعدد؛ نظراً إلى ما قد يترتب عليه من المصالح؛ كتكثير النسمل، ومساعدة الرجل على تجنب الحرام الذي قد

يقع فيه صاحب الزوجة الواحدة إذا عرض مانع من التمتع بها؛ مثل: المرض، والنفاس. ومما يدخل في هذا السلك: قصة أمير الأندلس عبد الرحمن بن الحكم إذ باشر إحدى نسائه في رمضان، ثم ندم على ما فعل، وجمع الفقهاء، وسألهم عمَّا يكفِّر به، فقال له يحيى بن يحيى الليثي: تكفِّر بصوم شهرين متتابعين، فلما خرجوا، قال له بعض الفقهاء: لم لم تفته بمذهب مالك، وهو التخيير بين العتق والصيام والإطعام؟ فقال: لو فتحنا له هذا الباب، سهل عليه أن يباشر كل يوم، ويعتق رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمور؛ لئلّا يعود. وقد أقيمت هذه الفتوى على رعاية مصلحة لم يعتدّ بها الشارع، ففي حمل الملك على الصوم مصلحة منعه من اتباع الشهوات، ولكن الشارع ألغى هذه المصلحة مكتفياً بالنهي عن الإفطار، وتأثيم من يرتكبه، وجعل الكفارة العتق أو الإطعام أو الصيام من غير فرق بين الملك وغيره. ويبقى النظر في المصالح التي لم يقم دليل على رعايتها أو على إلغائها، وهذه هي التي تسمّى: المصالح المرسلة، وقد اعتدّ بهذه المصالح كثير من الفقهاء، وبنوا بعض الفتاوى على رعايتها، والبخاري على بعض الألسنة والأقلام: أنها أصل من أصول المذهب المالكي، والواقع أن لها يداً في سائر المذاهب المعوَّل عليها, وللمالكية القسط الأوفر في استثمارها. قال ابن دقيق العيد: الذي لا شك فيه: أن لمالك ترجيحاً على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح في استعماله. وقال البغدادي في "جنة الناظر": لا تظهر مخالفة الشافعي لمالك في

المصالح؛ فإن مالكاً يقول: إن المجتهد إذا استقرأ موارد الشرع ومصادره، أفضى نظره إلى العلم برعاية المصالح في جزئياته، وكلياته، وأن لا مصلحة إلا وهي معتبرة في جنسها, لكنه استثنى من هذه القاعدة كل مصلحة صادمها أصل من أصول الشريعة، وما حكاه أصحاب الشافعي عن الشافعي لا يعدو هذه المقالة. ولهذه القاعدة أمثلة مسوقة في كتب الأصول من فتاوى السلف وأقضيتهم، ومن هذه الأمثلة: قضاء الصحابة - رضي الله عنهم - بتضمين الصناع، فالرجل ينصب نفسه لصناعة؛ كالخياطة، أو الصبغ، فيدفع إليه شخص ثوباً ليخيطه أو يصبغه، فيدعي ضياعه، ولم يقم بينة على أنه تلف بغير سبب منه، فيقضى على الصانع بضمان الثوب؛ أخذًا بقاعدة المصالح المرسلة، ووجه المصلحة في هذا المثال: أن الناس في حاجة شديدة إلى الصنّاع، وهم يغيبون بالأمتعة عن أعين أصحابها, وليس من شأنهم الاحتياط في حفظها، فمن المصلحة القضاء بضمانهم حتى لا تضيع أموال كثيرة، وهذا معنى قول علي- كرم الله وجهه -: "لا يصلح الناس إلا ذاك"؛ يعني: تضمين الصنّاع. ومن أمثلته: قتل الجماعة بالواحد؛ فإن القصاص الوارد في النص هو قتل النفس بالنفس، فإذا اشترك جماعة في قتل شخص واحد، فهي قضية لم يوجد لها دليل معين، وقد ذهب الإمامان: مالك، والشافعي إلى قتل الجماعة بالواحد، وهو ما يروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، والمستند في هذا: قاعدة المصالح المرسلة، ووجه المصلحة: أن عدم أخذ الجماعة بالقصاص يذهب بدم القتيل المعصوم هدراً، ويفتح باباً قصد الشارع إلى إغلاقه، وهو باب سفك الدماء البريئة؛ فإن الجماعة متى أمنوا من عقوبة القصاص

حين يشتركون في القتل، سهل على أحقادهم أو شهواتهم أن تسوقهم حتى يمدوا أيديهم إلى إزهاق الأرواح دفعة، ففي قتل الجماعة بالواحد مصلحة حياة نفوس كثيرة، وحفظها من أن يتواطأ على قتلها جماعات ما لها في احترام الأرواح من خلاق. ومما أسندوه إلى هذه القاعدة: أن يتحفز العدو للهجوم على بلاد الإِسلام، ولم يكن في بيت المال ما يقوم بحاجة الجند المهيأ لقتاله، فقد قال طائفة من علماء الأندلس: للامير العادل أن يفرض على الأغنياء ما يراه كافيًا للجند في الحال، ووجه المصلحة: أن هذا الفرض تقوى به شوكة الدولة، وتخلص به البلاد من استيلاء قوم إن ظهروا عليها, لا يرقبوا فيها إلاًّ ولا ذمة. وإلى هذه القاعدة يستند الإمام مالك في إجازته سجن المتهم، فالسجن عذاب، والأصل أن لا يعذب أحد لمجرد الدعوى، ولكن الإِمام - رحمه الله تعالى- نظر إلى أن في سجن المتهم مصلحة الوصول إلى الحق، وليس ببعيد أن يقصد الشارع إلى حفظ هذه المصلحة، ويغضي عما يلحق المتهم من ألم الاعتقال، والمراد من المتهم: من تقوم حوله قرينة تحيك في نفس الحاكم، وتؤثر في قلبه شيئاً من الظن. وليس في الأخذ بالمصالح المرسلة فتحُ طريق يدخل منه العوام إلى التصرف في أحكام الشريعة على ما يلائم آراءهم أو ينافرها - كما ظنه بعض الكاتبين -؛ فإن ما ذكرناه في شرط الأخذ بهذه المصالح؛ من عدم ورود دليل شرعي على رعايتها، أو إلغائها برفعها عن أن تكون في متناول آراء العامة أو أشباه العامة، إذ لا يدري أن هذه المصلحة لم يرد في مراعاتها أو

إهمالها دليل شرعي إلا من كان أهلاً للاستنباط. قال الشيخ عمر الفاسي في رسالة له في الوقف: "وأنى للمقلد أن يدّعي غلبة الظن أن هذه المصلحة فيها تحصيل مقصود الشارع، وأنها لم يرد في الشرع ما يعارضها, ولا ما يشهد بإلغائها، مع أنه لا بحث له في الأدلة، ولانظر له فيها، وهل هذا إلا اجتراء على الدين، وإقدام على حكم شرعي بغير يقين؟ "، فليس كل ما يبدو للعقل أنه مصلحة يدخل في قبيل المصالح المرسلة، وتبنى عليه الأحكام، وإنما هي المصالح التي يتدبرها من هو أهل لتعرف الأحكام من مآخذها حتى يثق بأنه لم يرد في الشريعة شاهد على مراعاتها أو إلغائها. ولا يقف في سبيل المصالح المرسلة ما أورده بعض الكاتبين؛ من أنه يفضي إلى اختلاف الأحكام باختلاف المواطن والعصور؛ فإن هذا الاختلاف معدود في محاسن الشريعة، وهو ناحية من النواحي التي روعيت في جعلها الشريعة العامة الباقية. وليس اختلاف الأحكام الناشئ عن مراعاة المصالح المرسلة اختلافاً في أصل الخطاب، وإنما جاء من جهة تطبيق أصل عام دائم هو: أن المصلحة التي لم يرد دليل على مراعاتها بخصوصها أو إلغائها، يقضي فيها المجتهد على قدر ما يراه فيها من إصلاح. فالأحكام المبنية على رعاية المصالح المرسلة تستند إلى أصل تعرَّفه المجتهدون من موارد الشريعة، فكأن الشارع يقول للذين أوتوا العلم: إذا عرض لكم أمر فيه مصلحة، ولم تجدوا في الأدلة التي بين أيديكم ما يدل على رعايتها بخصوصها أو إلغائها، فزنوا تلك المصلحة بعقولكم الراسخة في فهم المقصود من التشريع، وفصّلوا لها حكماً يطابقها.

وقد ادّعى بعض أهل العلم من غير المالكية: أن الإمام مالكاً أفتى - بانياً على قاعدة المصالح المرسلة - بجواز قتل ثلث العامة لمصلحة الثلثين، والمالكية ينكرون نسبة هذه الفتوى إلى الإمام مالك أشد الإنكار، ويقولون: إنها لم تنقل في كتبهم البتة، وإنما تكلموا كما تكلم غيرهم في مسألة العدو يضع أمامه الأسرى المسلمين يتترس بهم في الحرب، فأفتوا بأنه يجوز دفاع العدو بنحو الرمي متى خيف استئصال الأمة، ولو أفضى الدفاع إلى قتل أولئك الأسرى من المسلمين. ونقرأ في ترجمة الشيخ علاء الدين الجمالي أحد فقهاء الحنفية: أن السلطان سليماً همَّ بقتل جماعة خالفوا أمر السلطان في بيع الحرير، فدخل عليه الشيخ علاء الدين منكراً عليه قتلهم، فقال له السلطان: أما يحل قتل ثلث العالم لنظام الباقي؟ فقال الشيخ علاء الدين: نعم، ولكن إذا أدى الحال إلى خلل عظيم، فعفا السلطان عن الجميع. وقد حقق الباحثون في المصالح المرسلة النظر، وأجروها في أبواب المعاملات، وتجنبوا بها أصول العبادات؛ لأن المتفقه في علم الشريعة يدرك أن أحكام المعاملات مبنية على رعاية المصالح المدنية التي يتيسر للعقول السليمة، متى تلقتها من الشارع؛ وغاصت في تدبرها من كل جانب، أن تقف على أسرارها، وترى خير الحياة في التمسك بها، وأما العبادات، ففيها ما تستبين حكمته، ويبدو القصد من مشروعيته واضحاً، ومنها ما لم تقف العقول على حكمته الخاصة، وحسب العقل في الإيمان بحكمة ما كان من هذا القبيل: أنه صادر ممن قام الدليل القاطع على أنه لا يأمر إلا بخير. ولا يجد في هذا الإيمان حرجاً، ما دامت العبادات - على اختلاف ضروبها -

بريئة مما تنبذه العقول الراجحة. والفرق بين ما لا يقف العقل على مصلحته الخاصة، وما ينبذه لاشتماله على فساد راجح. لا يخفى إلا على ذي نظر سقيم. ولما أكثر في العبادات ما تخفى مصلحته الخاصة، قالوا: إن أصلها التعبد، وقصروا الأمر فيها على ما ورد عن الشارع الحكيم. ثم إن الشارع حذر من الزيادة على ما قرره من العبادات، وسمى ما يخترع بقصد القربة بدعة وضلالة، والتصرف في العبادات من طريق المصالح المرسلة يفتح باب البدع، ويدخل بالناس في ضلال بعيد. فلا نزاع في بطلان اختراع عبادات ذات أوضاع لم يرد بها كتاب أو سنّة، بدعوى أن فيها مصالح توافق قصد الشارع فيما وضع من العبادات. وقد يتصرف الفقهاء في أشياء تتصل بأصل العبادة، وينظرون إليها من ناحية المصالح الملائمة لتلك العبادة، فيصيبون في الحكم، ويخطئون، ومن أمثلة تصرفهم الصحيح: أن أذان الجمعة كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخليفتين بعده واحداً يقام بباب المسجد، ومن الواضح الجلي: أن القصد من الأذان: الإعلام بدخول وقت الصلاة، ولما أكثر الناس، واتسع العمران بالمدينة، أقام عثمان - رضي الله عنه - أذاناً بالزوراء (¬1)، وهذا العمل خارج عن البدعة؛ لأنه تصرف في إحدى وسائل العبادة، لا في أصل العبادة، ولأن القصد من الأذان واضح وضوحًا لا تحوم عليه ريبة، وهو إعلام المصلين بدخول الوقت، وفي الأذان بالزوراء إعلام بدخول الوقت على وجه أكمل، ولم ¬

_ (¬1) موضع بالمدينة قرب المسجد.

يكن الباعث على زيادة هذا الأذان، وهو كثرة الناس، واتساع العمران، متحققاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يقال: إن الشارع لم يعتدّ بهذه المصلحة، وإنها ليست من نوع المصالح التي توافق قصده من التشريع. وقد يتسرع إلى هذه القاعدة من لا يجيد فهمها، فيفتي بغير حق، أو يقضي بغير عدل، وقد رأيت السلطان سليمًا كيف توهم أن في قتل جماعة كثيرة خالفوا أمره في بيع الحرير مصلحة يأذن الشارع بالمحافظة عليها. وظنّ بعض القضاة أن هذه القاعدة تبيح له أن يقطع أنملة شاهد زور ليمنعه من الكتابة، واستشار ابن دقيق العيد في هذه العقوية، فأنكرها أشد الإنكار، وعدّها من المنكرات العظيمة الوقع في الدين، والاسترسال في أذى المسلمين. وخاتمة المقال: أن رعاية المصالح المرسلة من أهم القواعد التي تأتي بثمر طيب متى تناولها الراسخ في علوم الشريعة، البصير بتطبيق أصولها. * الاستحسان: جرى لفظ الاستحسان في عبارات بعض الأئمة على وجه يتوهم منه: أن الاستحسان أصل من الأصول التي يرجع إليها في استنباط الأحكام، وتعرض له علماء الأصول عند بحث الأدلة، ونسبوا الأخذ به إلى بعض الأئمة، ونقلوا إنكاره عن آخرين، واختلفوا في تفسيره، وإليك صفوة ما قيل في هذا الوجه من الاستدلال: روى محمد بن عبد العزيز العتبي في كتاب "المستخرجة" عن أصبغ ابن الفرج عن ابن القاسم: أن مالكاً قال: "تسعة أعشار العلم الاستحسان". وقال مالك في بعض فتاويه: أستحسن في كذا أن يكون الحكم كذا، وقال ابن خويز منداد، وهو من المالكية في كتابه "الجامع لأصول الفقه": "وقد

عوّل مالك على الاستحسان وبنى عليه أبواباً ومسائل من مذهبه". واستند الحنفية إلى الاستحسان في تقرير كثير من الأحكام، ويعارضون به القياس، فيقولون في بعض الأحكام: هذا ما يقتضيه الاستحسان، وذاك ما يقتضيه القياس. وعبر الإمام الشافعي بالاستحسان في أحكام بعض الحوادث، فقال: أستحسن أن تكون المتعة ثلاثين، وقال: أستحسن أن يؤجل الشفيع ثلاثاً. وأنكر قوم أن يكون الاستحسان دليلاً شرعياً، وشنعوا على القائلين به؛ ظنًا منهم أن استحسان هؤلاء الأئمة من قبيل الرجوع إلى الرأي دون رعاية دليل شرعي ثابت. والرجوع إلى الرأي المحض في تقرير الأحكام الشرعية لا يقول به عامي مسلم، فضلاً عن إمام بلغ رتبة الاجتهاد أو الترجيح. ومن هنا تصدى علماء الأصول من المالكية والحنفية لتفسير الاستحسان الوارد في عبارات أئمتهم. وبينوا أنه عائد إلى أدلة متفق عليها، أو أدلة معروفة في مذهب المعبر به. وحملوا قول الإِمام الشافعي: "من استحسن، فقد شرع" على معنى: الاستحسان الذي لا يقوم على رعاية دليل شرعي، وكذلك الأثر الذي يسوقه بعض المحتجين لصحة القول بالاستحسان، وهو: "ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن (¬1) " إنما يحمل على أن المراد بالمسلمين: ذوو الكفاية لاستنباط الأحكام، فيكون دليل الاحتجاج بالإجماع. أما المالكية، فيقول محققوهم؛ كأبي الوليد الباجي: الاستحسان: هو الأخذ بأقوى الدليلين. وكذلك قال ابن خويز منداد: معنى الاستحسان عندنا: القول بأقوى الدليلين. ويضاهي هذا قول الحفيد بن رشد: الاستحسان ¬

_ (¬1) هو من قول عبد الله بن مسعود؛ وليس بحديث.

عند مالك: هو الجمع بين الأدلة المتعارضة. ومعنى هذا: أن الاستحسان في مذهب مالك ليس بدليل مستقل, وإنما هو ترجيح أحد الدليلين على الآخر؛ كأن يتعارض في حادثة جزئية قياسان، أو يعارض أصلاً من الأصول عرف، أو مصلحة مرسلة، أو سد ذريعة، فينظر المجتهد، ويرجح أحد القياسين على الآخر، أو يرجح قاعدة العرف، أو المصالح المرسلة، أو سد الذريعة على ذلك الأصل المعارض. ونكتفي بذكر مثال لما تعارض فيه قياسان، ومن هذا المثال يتبين وجوه الترجيح في الأدلة الباقية: معروف في مذهب مالك: أن المتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن أو المبيع؛ كان يقول البائع: بعتك بعشرة، ويقول المشتري: إنما بعتني بستة، فوجه الحكم أن ينظر فيمن قوله أشبه؛ أي: أقرب إلى الصدق، فيقضي بقوله مع اليمين، فإن كان المبيع يساوي عشرة، ترجح قول البائع، وإن كان يساوي ستة، ترجح قول المشتري. ومعروف في المذهب أيضاً: أن المودع - بكسر الدال -، والمودعَ -بفتحها-، أو المعير والمستعير، إذا اختلفا في الشيء المودعَ أو المعار، كان القول للمودع أو المستعير؛ لأن كلًا منهما أمين على ما تسلمه. وجرت بين الفقهاء حادثة اختلاف المتراهنين؛ كأن يخرج المرتهن رهناً، فيقول الراهن: رهنتك ما هو أفضل منه، ويقول المرتهن: بل هو رهنك، وقد تجاذب هذه الحادثة قياسان: القياس على اختلاف المتبايعين، وهذا يقتضي أن يكون القول قول الراهن إن أشبه؛ أي: صدقه شاهد حال؛ كأن يرهنه رهناً بألف، فيخرج المرتهن رهناً يساوي مئة، وهذا ما ذهب إليه أصبغ

ابن الفرج، والقياس على المودع والمستعير، وهذا يقتضي أن يكون القول للمرتهن، وان لم يخرج إلا ما يساوي درهماً، وهذا ما ذهب إليه أشهب. وقياس اختلاف المتراهنين على اختلاف المعير والمستعير، أو المودع والمودع، أجلى من قياسه على اختلاف المتبايعين؛ لأن المرتهن يشبه المودع أو المستعير في كونه مأمونًا على ما وضع عنده من الرهن، غير أن قياسه على المتبايعين الذي هو أخفى من قياسه على المودع أو المستعير قد تقوى بقلة الأمانة في الناس، وبأن الراهن سلم الرهن إلى المرتهن عن احتياج إلى الدين، أما المودع والمعير، فإنما سلم الوديعة أو العارية عن اختيار محض. فيصح أن يقال: إن قول أشهب مبني على القياس، وقول أصبغ مبني على الاستحسان؛ كما قال ابن رشد في كتاب "البيان": قول أشهب إغراق في القياس، وقول أصبغ استحسان، وهو أظهر. وهذه العبارة من العلامة ابن رشد تريك كيف يطلقون الاستحسان، ويريدون منه: القياس الخفي المعارض للقياس الجلي. وأما الحنفية، فيقولون: الاستحسان: ترك القياس الجلي بدليل أقوى منه، ويريدون من الدليل الأقوى: ما يشمل الحديث، والإجماع، والضرورة، والقياس الخفي. وأمثلة معارضة هذه الأدلة للقياس الجلي مفصلة في كتب أصول الفقه، ونكتفي بذكر الأمثال للأخذ بالقياس الخفي المعارض للقياس الجلي، وهو أنهم قالوا: سؤر (¬1) السباع من الطيور يتبادر إلى الذهن قياسه على سؤر سباع ¬

_ (¬1) السؤر: البقية والفضلة - "القاموس".

البهائم في الحكم بنجاسته؛ لاشتراك سباع الطيور وسباع البهائم في نجاسة اللعاب؛ لتولده من لحم حرام، وهذا هو القياس الجلي، ولكن سباع الطيور تشرب الماء بمنقارها، ومنقارها من عظم جافث طاهر، لا رطوبة فيه، فلا يخشى تنجس الماء بملاقاته، فيصح أن يقاس سؤرها على سؤرِ طاهرِ اللعاب؛ كالاَدمي، وما يؤكل من الأنعام؛ لعدم ملاقاة الماء للرطوبة التي يلاقيها من ألسنة السباع من البهائم، وهذا هو القياس الخفي. وإذا كان الاستحسان ترجيح أحد الدليلين المتعارضين فيما يتراءى للمجتهد أول النظر، لا ينبغي أن يجري في صحته اختلاف بين أهل العلم. وهو بهذا المعنى شاهد على دقة أنظار علماء الشريعة؛ إذ كانوا لا ينساقون في تقرير الأحكام إلى ما يتبادر لهم في الاستدلال إلا بعد النظر في الواقعة من جميع وجوهها. ومن فسَّر الاستحسان بدليل يقذفه الله في قلب المجتهد تقصر عنه عبارته، فقد فسره بما تتضافر أصول الشريعة على إسقاطه وإخراجه من دائرتها. ومن هذا الذي وصل إلى رتبة استنباط الأحكام، ولا يستطيع أن يعرب عمّا في ضميره، ويدل على ما خطر له من المعاني؟! ثم إن قبول مثل هذا الذي ينقدح في النفس، ويعجز اللسان عن بيانه، وعدّه في أدلة الأحكام، يفتح لأصحاب الأهواء باباً يخرجون منه إلى ما يشاؤون من الابتداع في الدين، والعبث بأحكامه.

مدارك الشريعة الإسلامية - وسياستها -

مدارك الشريعة الإِسلامية - وسياستها - (¬1) * حكمة التشريع: تتأثر النفس بما يخالطها من حالتي اللذة والألم، فيلتذ الإنسان بسلامة حواسه، واستقامة فكره، وحسن سيرته، ووفر ماله واتساع سلطته، وسعادة أصفيائه. ويتألم لفقد واحد من هذه المطالب. وقد طبعت النفوس على الميل والانعطاف لما فيه لذة، والكراهة والنفور لما فيه ألم، فكل شخص يسعى بحسب طبيعته لما فيه لذته، ويهرب مما فيه ألمه، بل لا يخلو في سائر أعماله التي يتعمَّدها أن يريد بها إدراك لذة، أو الحذر من ألم، فإذا ضرب صافحاً عن لذة، فليتوصل إلى لذة أوفر نصيباً، أو أطول مدة، وإذا أخذ يقتحم ألماً، فليتخلص من ألم أشد وقعًا، أو أبقى زمناً. وقد تتعارض اللذائذ والآلام، فيكون العمل الواحد محرزاً للذة طائفة، أو كاشفًا لألمهم، ومفوتًا لما فيه لذة قوم آخرين، أو موقعاً لهم فيما فيه ألمهم، فلو انتصب كل أحد ليحكم في استيفاء لذائذه، وإزاحة آلامه، لاستأثر باللذائذ الأقوياء، وثارت من تنازع المتكافئين في القوة فتن، واختلال راحة. ¬

_ (¬1) محاضرة ألقاها الإِمام بنادي جمعية قدماء تلامذة مدرسة الصادقية بتونس يوم السبت 18 جمادى الثانية سنة 1331 هـ. وطبعت في رسالة.

وهذا التعارض في دواعي جلب اللذائذ وإبعاد الآلام، يستدعي لكل هيئة مجتمعة أن يكون لها نظام يوفي للضعيف ما يستحق من اللذة، ويفك الهرج بين القوتين المتكافئتين. فالقصد من وضع قوانين المعاملات والجنايات: تمكين الناس من حقوقهم التي تهوي إليها أفئدتهم، ووقايتهم مما يدخل على قلوبهم بالآثار المؤلمة، وليس كل ما فيه ألم يستحق أن يدفع، ولا كل ما فيه لذة هو أهل لأن يجلب، فقد يتجرّع الشخص مشقة تعود عليه بسعادة، ويلتذ براحة تلقي به في تهلكة؛ كالمريض تلذ له بعض مطعومات تسوق له منيته، ويشمئز ذوقه من بعضها، وفيها غنيمة شفائه. فالمعتبر لواضع الشريعة إنما هو اللذة التي لا يقارنها ألم راجح، ونسميها بالمنفعة أو المصلحة، والألم في لا تصاحبه لذة راجحة، ونعبر عنه بالمضرة أو المفسدة. ثم إن المنافع والمضار تتفاوت، وتفاوتها إما بحسب شدتها وضعفها، أو طول بقائها وقصره، أو تحقق حصولها والارتياب فيه. تتفاوت بحسب عقمها دانتاجها، فمن المنافع أو المضار ما يكون عقيمًا لا يتولد عنه مثله، ومنها ما يتناسب وتتلاحق به نتائج على شاكلته. ومما يلتفت إليه في الترجيح بين المصالح والمفاسد: أهمية ما ترجع إليه من دين، وعقب، وعرض، وبدن، ونسل، ومال. فالشريعة العادلة، هي التي تزن المنافع والمفاسد، وتلاحظ ما يتفرع عنها من النتائج، ثم تفصل لها من الأحكام ما يطابقها. وقد يسام الرجل بأدنى جناية، فتتفطر لها نفسه جزعاً، ويلذ له أن يقابل

الجاني بأقصى عقوبة وأشدها، ثم يشاهد جناية قاسية يبتلى بها من يباغضه، فلا يتألم لقبح موقعها, ولا يرتاح لمجازاتها, ولو بأقل تعزير، فمقرر القانون لا يعتبر بهذه اللذائذ الخاصة والآلام، وإنما يقرره بمقدار الارتياح والألم الذي يشعر به جمهور الأمة وعقلاؤها. فبهذا يتحقق أن الشرع الذي يسنّه العالم بشعور الأمة، المطّلعُ على أحوال ضمائرها، يكون أحكم نظاماً، وأحفظ للمصالح، مما يضعه الذي لا يعرف سوى ظواهرها, ولم يحط خبرًا بعاداتها وأذواقها. ومن خصائص الشريعة المحكمة: أن تكون أحكامها قائمة على أسباب حقيقية، وقد اختل نسيج بعض القوانين الوضعية حيث ذهب مقررُها إلى إقامتها على علل خيالية، ومن أمثلة هذا الصنيع: أن بعض المتشرعين وضعوا قانونًا لمصادرة أموال بعض المجرمين، وعدم إبقائها لورثته، وعللّوه بأنه يعرض للدم فساد في بعض الأوقات، فيقتضي قطع الرحم بين الأقارب. ولقد اشتبه على هذا المعلّل مقام الشرع بمقام الشعر؛ فإن مثل هذه العلّة تحتملها النفس إذا تبرجت في حلل من الشعر، وتنبو عن سماعها إذا طرحت على بساط العلم، ومثل هذا: أنك تقرأ في تأليف بعض النحويين تعليلهم لامتناع دخول (هل) على اسم إذا كان في الجملة فعل؛ بأنّ (هل) إذا رأت الفعل في حيّزها، تذكرت عهوده السالفة، وحنّت إلى وصاله، فلم ترض إلا بمعانقته، فتحسّ بسخافة هذا التعليل وبرودته، ولكنك تتناول بعض مؤلفات في الأدب، فيقع نظرك على قول الشاعر: مليحة عشقت ظبياً حوى حوراً ... فمذ رأته سعت فوراً لخدمته كهل إذا ما رأت فعلاً بحيزها ... حنّت إليه ولاترضى بفرقته

فيهش له ذوقك، وينفتح له خاطرك باستحسان. وفي وضع الشرائع شدة على الطباع، حيث كانت تحصر أعمال الناس في دائرة، ولا تبقيها أمام الإرادات الشخصية تصرفها كيف شاءت، لا سيما إذا صرفت خطابها إلى أمة لا تألف النظام؛ كحال العرب قبل طلوع الإِسلام، فيوشك أن يتملصوا منها, ولا يعدوا أعناقهم لأطواق تكاليفها، فمن حسن تدبير شارعها، وحكمته في تقريرها: أن ياخذهم بها على مهل، وترشح لهم بها أوامره قضية بعد قضية مترقيًا، مما يلائم عوائدهم إلى ما يقاربها حتى تستقر لهم قوانينها كاملة. وعلى مبدأ هذه السياسة جرى التشريع في الإِسلام. * الشرائع سماوية ووضعية: فالسماوية: ما نزل بها الوحي على رسول، والوضعية: ما يضعها البشر من تلقاء عقولهم. وتمتاز السماوية بأن معاملات الناس على طرائقها، وتصرفهم على مقتضى حدودها، من قبيل العمل برضا واجب الوجود واختياره؛ بخلاف القوانين الوضعية؛ فإن الداخل تحت سلطتها إنما يكون سائراً على حسب إرادة بشر يماثله، ولهذا لا يمكنها أن تأخذ من احترامات القلوب الموضع الذي تأخذه الشريعة التي هي تنزيل من حكيم حميد. وتمتاز السماوية بأنها تعزّز قوانينها بسلطة غيبية، فتهدد المخالف بعقوبة آجلة، أو بلاء ينزل به القدر في هذه العاجلة، وتبشر الطائع بنعيم خالد، أو عيش طيب في هذه الحياة، ولا يختص ذلك الانذار والبشارة بما هو حق لله خالصاً كالعبادات، بل ورد أيضاً في الأحكام الموضوعة لمصالح الخلق في الدنيا.

وهذه السلطة المحتجبة هي التي تدعو النفوس الزكية إلى احترام قانونها، ولو في المواضع التي لا تنالها يد السلطة الطاهرة. وتمتاز السماوية بأنها توجب على الفرد إصلاح عمله، وتنهاه عما يضر بشخصه، وإن لم يسر منه الضرر إلى غيره، فحجرت على الإنسان أن يلقي بعضو من جسده في تلف، أو يرمي بقسط من ماله في سرف. والقوانين الوضعية تقول: لا يجب استعمال القانون بين الناس إلا لمنعهم من إيذاء بعضهم لبعض، ولهذا عرفوا القانون بما يوضع للحكم بين الرعايا. والسماوية تكلف الإنسان برفع الضرر عن غيره، وحمايته منه، وقد تلقي عليه التبعة إذا استطاع السبيل إلى خلاصه من أذى، أو وقايته من خطر، فمسك يده عن مساعدته، وأعرض بجانبه متهاوناً. ولم تنظر القوانين الوضعية إلى هذا المطلب باعتبار، وقد أخذ عليها بعض الكاتبين في أصولها ورجي منها حسن الالتفات إليه. * منابع الشريعة الإِسلامية: يتناول اسم الشريعة: ما أرشدت إليه دلائلها من عقائد وأخلاق وأعمال، والعلم الذي يبحث في الأحكام المتعلقة بالأعمال هو الذي نعنيه باسم: الفقه. وقد أفادت الشريعة بعض الأحكام العملية بالدلائل الصريحة، ورسمت لبقيتها مناهج يهتدي بها المجتهد إذا وقعت الواقعة. فكل حكم يعينه أحد علماء الإِسلام بإزاء واقعة، لا بد أن يستند فيه إلى مأخذ ظاهر من دلائل الشريعة حتى تصح إضافته إليها، ومن ثم طرح علماء الأصول الاستحسان الذي يفسره بعضهم: بدليل ينقدح في نفس

المجتهد تقصر العبارة عن بيانه؛ فإن الباني للقضية على مجرد استحسانه وميله، بمنزلة من يدعو الناس ليوافقوا رأيه على شرط أن لا يجاذبوه طرف البحث والمناظرة، كما أسقطوا المرائي المنامية، وما يجول في النفس من الحديث المعبر عنه بالإلهام. ينحصر ما يتمسك به المستدل للحكم في نوعين: أحدهما: ما يدل بنفسه، وهو: القرآن، والحديث، والقياس. ثانيهما: ما يتضمن الدليل ويستلزمه، وهو الإجماع، وإنما كان متضمناً للدليل؛ لأنه لا ينعقد على حكم حادثة إلا إذا قام له دليل ثابت، ومستند صحيح. فالقرآن: كلام الله المنزل على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، المنقول إلينا ما بين دفتي المصحف نقلًا متواترًا. وقد أحصوا آيات الأحكام منه، فبلغت خمسمئة آية، وأفردها بعض العلماء بالنظر، وخصّها بالتفسير، كما صنع أبو بكر الرازي، وأبو بكر بن العربي، وعبد المنعم بن الفرس. والحديث: قول الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وفعله، وتقريره، وهو مستقل بتشريع الأحكام، ومعتبر بمنزلة القرآن في العمل بتحليله وتحريمه؛ لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وما يروى من طريق ثوبان في الأمر بعرض الأحاديث على القرآن حتى لا يقبل منها إلا ما كان بياناً له، فقال يحيى بن معين وغيره من الحفّاظ: إن هذا مما وضعته الزنادقة، وأما قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فيفهم على معنى أنه أرشد إلى جميع ما يحتاج إليه في تحصيل أمر السعادة، إم بنص، أو مقالة عامة، أو الإحالة على من

هو أهل للتعليم. وإذا كان الحديث بمنزلة القرآن في التشريع، فلا يعدل المجتهد عن العمل بحديث إلا إذا ثبت لديه نسخه، أو ظفر بدليل أرجح منه في السند، أو أقوى في وجه الدلالة، ولهذا قال المالكية: إذا عرض للإِمام حديث، ونص على أنه لم يبلغه، ثم صح عند أهل الصناعة، فإنه يجب على مقلدي الإِمام العمل بالحديث. قال ابن عبد السلام: وهذا كحديث ابن عباس في "مسلم"، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب، ويقول: "السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفّان لمن لم يجد النعلين"، مع قول مالك في "الموطأ": لم يبلغني هذا في السراويل. ويعدّ المالكية الذين ينظرون في وجه ارتباط الفروع بالمدارك؛ كابن العربي، وعبد الحميد الصائغ، قد يتمسكون بالحديث الصحيح، ولو روى المذهب على خلافه، حيث لم يطلعوا على أصل ظاهر استند له أهل المذهب في ترك العمل بذلك الحديث، وكأنهم اعتصموا في هذا يقول مالك حسبما نقله الحافظ ابن عبد البر وغيره؛ انظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنّة، فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنّة، فاتركوه. وقد ثبت عن الإِمام أبي حنيفة أيضاً: أنه قال: إذا صحّ الحديث، فهو مذهبي. اشتهر بين الفقهاء أن مالكاً يقدّم إجماع أهل المدينة على الحديث الصحيح، وأنكره أبو بكر بن العربي، فقال في كتاب "العارضة": من لا تحصيل له من أصحابنا يظن أن مالكاً يقدم عمل أهل المدينة على الحديث، ولم

يفعل ذلك قط، ولا ترك مالك حديثاً لأجل مخالفة أهل المدينة له بعملهم وفتواهم. والتحقيق: أن مالكاً إنما يحتج بإجماع أهل المدينة فيما طريقه النقل المستفيض؛ مما تقتضي العادة أنه لو يغيّر عما كان عليه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لعُلِم؛ كالأذان والإقامة، فإن العهد بذلك الزمن ليس ببعيد عن عصر مالك، والفقهاء والمحدّثون بها متوافرون، مع ما عرف من تنافسهم وإقدامهم في الأمر بالمعروف، وأما ما يجمعون عليه من الأحكام المأخوذة بصناعة الاجتهاد، فلا يسعه تقليدهم، بل هم وغيرهم في نظره سواء. ويستثنى من تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - نوعان هما غير داخلين فيما يطلب فيه الاقتداء والتأسي: أحدهما: ما سار فيه على مقتضى العادة أو الجبلّة؛ كما ترك أكل لحم الضب، وقال: "لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه". ثانيهما: ما قام الدليل على اختصاصه به؛ كحرمة أكل ذي الرائحة الكريهة، وطلاق من تكره صحبته. وقد أفرز بعض العلماء أحاديث الأحكام على جانب، وألّفها مستقلة، ومن مؤلفاتها الجامعة كتاب "منتقى الأخبار" للحافظ مجد الدين المعروف بابن تيمية. والإجماع: اتفاق كلمة المجتهدين على حكم شرعي، فإذا انعقد في عصر، لم يسغ لمجتهد حدث خرق سياجه بالخلاف، ومن افتكر في حقيقة المجتهد، وعرف أنه المحيط بمدارك الشريعة، مع وصف العدالة، ثم أخذ من استقراء سيرة المجتهدين أنهم كانوا يترفعون عن المتابعة، ويتحفظون

من القول بغير حجة، أدرك أنهم لا يتواردون على قضية، ويتضافرون على قطع الحكم فيها، إلا بعد النظر الواسع، والاعتماد على دليل واضح. واجتهادات الآحاد وإن كان كل واحد منها بانفراده ليس حجة على غيره؛ لأن احتمال الخطأ فيه ليس ببعيد، فإذا انضم بعضها إلى بعض، وانصبّت على مدرك واحد، بدون أن ينازعها فيه مخالف، بعدت عن احتمال الخطأ، وقويت دلالتها على إصابة الحكم، ومشاكلة الحقيقة. وقصر داود الظاهري الحجة في إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -، ومثله ما قال الإِمام أحمد بن حنبل في رواية أبي داود عنه: الإِجماع: أن يتبع ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن الصحابة، وهو في التابعين مخير. وإذا حققنا أن الإِجماع الذي يسد فم المجتهدين بعده، هو الذي يصرح فيه جميع المجتهدين بالحكم الواحد، ولا يكفي أن يتلفظ بعضهم، ويسكت بعض، ولو واحداً، ظهر أن انعقاده بعد عصر الصحابة، وقد اتسعت ممالك الإسلام، ونشأ العلماء في أقطار متباعدة، مما يعسر إثباته، ولكنه على فرض وقوعه يكون حجة؛ كما هو مذهب جمهور العلماء. وكثير من الفقهاء ينسب الإجماع إلى عدة مسائل، على معنى: أنه لم يعثر فيما طالع من الكتب على ذكر خلاف فيها, لا بمعنى أنه تتبع أقوال المجتهدين بأسرهم، فوجدها متصادفة على رأي واحد. والقياس: أن ينص الشارع على حكم أمر، فنبحث عن علة الحكم، فإذا ظفرنا بمعرفتها، فإنا نلحق بذلك الأمر كل ما شاركه في العلة، ونسوّيه به في حكمه إذناً أو نهياً، ومن الأمثلة التي توضح هذا الطريق المهم في التشريم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"، فنبه في الحديث على أن

الغضب علّة في منع القضاء، ويظهر بالنظر أن الغضب ليس علّة لذاته، بل لما يتضمنه من الدهشة المانعة من استيفاء الفكر، والتروي من حال الواقعة، فيقول المجتهد: "لا يقضي القاضي وهو متألم"، فيقيس المتألم بالغضبان، ويسوّيه به في المنع من القضاء؛ لاشتراكهما في علّته، وهي: قلق الفكر، واضطراب شعوره. واهتدى العلماء للاستدلال بقاعدته؛ حيث فهموا من استقراء مقاصد الشريعة: أن أحكامها مبنية على رعاية مصالح العباد، وخالف في صحة الاحتجاج به الظاهرية؛ بدعوى أن نصوص الشريعة تقي بجميع ما تدعو إليه الحاجة في جميع الحوادث. ومما قال أبو محمد اليزيدي في الحثّ على القياس، والعمل به: ما جهول لعالم بمدانٍ ... لا ولا العيّ كائن كبيان فإذا ما جهلت فاسألْ تخبَّرْ ... إنّ بعض الأخبار مثل العيان ثم قِسْ بعض ماسمعت ببعض ... وائت فيما تقول بالبرهان لاتكن كالحمار يحمل أسفا ... راً كما قد قرأت في القرآن إن هذا القياس في كل أمر ... عند أهل العقول كالميزان لا يجوز القياس في الدين إلاّ ... من فقيه لدينه صوّان إن من يحمل الحديث ولا يعـ ... ـرف فيه التأويل كالصيدلاني حين يلغي لديه كل دواء ... وهو بالطب جاهل غير ران ولنا في النبي صلى عليه اللـ ... ـهُ والراشدون كلَّ أوان أسوة في مقاله لمعاذٍ ... اقض بالرأي إن أتى الخصمان

وكتاب الفاروق يرحمه اللـ ... ـهُ إلى الأشعري في تبيان قس إذا أشكلت عليك أمور ... واقض بالحق في رضا الرحمن لا يستقيم لقانون تفصّل أحكامه أن يطَّرد في جميع العصور، أو ينسحب على سائر الأقطار؛ لأن المصالح والمفاسد التي توضع لها القوانين، لا تلحق كل الأعمال لذاتها، أو لوصف لا ينفك عنها، حتى يكون العمل دائمًا لمصلحة أو مفسدة، بل المصلحة والمفسدة تترتب على الأفعال ترتب المسبّبات العادية على أسبابها، مثلَ ترتب منافع الأدوية ومضارها عليها، فإنها تختلف باختلاف الأحوال والأزمان، فالعمل قد يكون منشأ لمصلحة في حال، أو في زمان، أو في حق أشخاص، فيستدعي الإثبات والإِقبال عليه، وقد ينتقل فعله إلى أن يتصل بمفسدة، فيستحق النفي والبعد عن جانبه. من هنا كان بعض من لا يعرف بطانة الشريعة الإسلامية يتردد ويرتاب في صلاح العمل بها في كل عصر وجيل، ويقول: إن حقيقة القانون لا تنطبق على ما قررته من القضايا؛ لأنه يؤخذ في خصائص القانون أن يتبدل ويتجدد بحسب تغير العصور والأحوال. ولا أرى هؤلاء إلا أنهم اعتقدوا شريعة الإسلام بمثال القوانين الوضعية، فصّلت أحكامًا، أو أعطت قواعد قريبة من التفصيل، ثم قطعت وحيها عن الناس. إن الشريعة ضمت تحت جوانحها حقائق حفظت مصالح كل العصور والأجيال، ومكنت المجتهد في كل عصر أن ينتزع لأي حادثة تعرض حكماً يلائم مصلحتها. فتحت الشريعة باب القياس، وهو - كما قرّرنا - إلحاق الأمور التي لم

نطلع على نص مفصل أو عام يدل على حكمها، بالأمور التي تقررت لها أحكام؛ بجامع العلل التي هي دائرة على اعتبار المصالح والمفاسد، ويسع هذا الباب من الوقائع المتجددة ما لا يحيط به الاستقصاء. أقامت الشريعة دعائم كلية، وينبني على كل دعامة منها أصول وأحكام يستخرجها العارف بطبيعة النوازل، القائم بمقصد الشارع في أمثالها، ومن هذه الدعائم قولهم: "الضرر يزال". ومن مآخذها: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا ضرر ولا ضرار". ومنها: "المشقة تجلب التيسير"، ومن دلائلها: قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. ويدلنا دلالة جلية على اعتبار الشريعة للمصالح: أن المجتهدين الذين هم أعرف الناس بمقاصدها, لا يقفون في بعض الأحيان على ظواهر القرآن والحديث، فيقيدون مطلقاتها، ويخصصون عموماتها بمثل هذه القواعد، ومثال هذا. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه", وهذا مطلق، فقيّده الإِمام مالك بما إذا وقعت بين الخاطب والمخطوبة مراكنة واتفاق على الصداق، وقال في "الموطأ": وليس المراد إذا خطب الرجل المرأة، فلم يوافقها أمره، ولم تركن إليه، أن لا يخطبها أحد، فهذا باب فساد يدخل على الناس. أي: لما فيه من الحرج الذي هو مرفوع من الدين. ويماثل هذا حديث "الصحيحين": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين على المدعى عليه، فحمله الإمام مالك وموافقوه على ما إذا كان بين المدعي والمدعى عليه خلطة؛ حذراً من أن يتجرأ السفهاء على أهل الفضل، ويبتذلوهم بتحليفهم في اليوم الواحد مراراً، فانظروا كيف خصن الحديث بشرط الخلطة؛

لكفّ ما يتوقع من الضرر على أهل الفضل؛ حيث علم: أن من مقاصد الشريعة: سد الأبواب التي يطرق الفساد من ناحيتها. وقد يتوقف الأئمة عن العمل بحديث الآحاد، إذا ورد مناقضاً لقاعدة انتزعوها من موارد لا تحصى حتى قطعوا بصحتها، وقصد الشارع إلى إقامتها؛ كما صنع الإمام مالك وغيره في حديث: "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا"؛ فإنه نظر إلى أن افتراقهما، وانفصال أحدهما عن الآخر ليس له وقت محدود، ولا غاية معينة، إلا أن يقوما، أو يقوم أحدهما، وهذه جهالة يقف عليها انعقاد البيع، فيصير في معنى الصور المقطوع بفسادها؛ كبيع الملامسة والمنابذة؛ بأن يقول له: إذا لمست، أو نبذت الحصاة، وجب البيع، والشأن في الصور المتماثلة، لا سيما في أبواب المعاملات التي هي مبنية على مقاصد عمرانية، وعلل ظاهرة للعقول: أن تكون أحكامها متساوية، فيجب أن يحشر جميعها زمرة واحدة تحت ما هو أقوى دلالة، وأبعد عن مواقع الظنون. ومن شواهد الاعتبار بالمصالح والمفاسد: أن من الأشياء ما يكون في نفسه خاليًا من المفسدة، ولكنه يقرب منها بحيث يجر بطبيعته إلى ما فيه المفسدة، فتعاليم الإِسلام تقتضي المنع منه، كما تأذن في الأعمال التي تكون عارية من المصلحة في ذاتها، إلا أنها تفضي بعادتها إلى الأعمال المقترنة بالمصالح، ولهذه القاعدة المعروفة بسد الذرائع وفتحها فائدة عظيمة، ومدخل في مواقع السياسة بديع. بسط الإسلام في رعاية المصالح المرسلة، وهي مصالح لم يقع التنصيص في الشرع على اعتبارها بخصوصها ولم يرد نص بإلغائها، ومن طرق الاحتجاج عليها: أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يتعلقون بما يرونه مصلحة، ما لم يظهر دليل

خاص على منعه؛ ككتابتهم للمصحف، وولاية العهد من أبي بكر لعمر - رضي الله عنهما -، وتدوين الدواوين، وعمل السكة، واتخاذ السجون، وما شاكل ذلك. ومن وفاء الإِسلام بحق المصالح: أن جعل للعرف والعادة اعتباراً في تفاصيل الأحكام، فإن من الأحكام ما يبنيه الشارع على رعاية حال مستمرة، وسبب لا ينقطع، فيتعين العمل به في كل مكان وزمان؛ كالمنع من الربا، ومطالبة المدعي بالبينة، ومنها ما يبنيه على رعاية أحوال تتغير، وعوائد تتجدد، وهذا النوع من الأحكام لا يلزم طرده في كل عصر، ولا إجراؤه بكل موطن، بل يجري العمل فيه على ما يقتضيه العرف السائد بين الناس. قال شهاب الدين القرافي في "قواعده": إن الأحكام تجري مع العرف والعادة، وينتقل الفقيه بانتقالها، ومن جهل المفتي جمودُه على المنصوب في الكتب غير ملتفت إلى تغير العرف، فإن القاعدة المجمع عليها: أن كل حكم مبني على عادة، إذا تغيرت العادة، تغير الحكم، والقول باختلاف الحكم عند تبدل الأحوال والعادات لا يستلزم القول بتغيره في أصل وضعه، والخطاب به كما توهمه بعضهم، وإنما الأمر تدعو إليه الحاجة عند قوم، أو في عصر، فيكون مصلحة، وتتناوله دلائل الطلب، فإن لم تقتضه عادتهم، ولا تعلقت به مصلحتهم، دخل تحت أصل من أصول الإباحة أو التحريم. وممن حقق أن في أحكام الشريعة ما يجري بحسب اختلاف الزمان: شهاب الدين القرافي؛ حيث قال: إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفاً للشرع، بل تشهد له القواعد، ومن جملتها: أن الفساد قد أكثر وانتشر؛ بخلاف حاله في العصر الأول، ومقتضى ذلك: اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج عن الشرع.

ويوافق هذا قول عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. وقول عز الدين بن عبد السلام: تحدث للناس أحكام بقدر ما يحدثون من السياسات والمعاملات والاحتياطات. أي: يحدثون أسباباً، فتستدعي أحكامًا تنتزع لها من دلائل الشرع، ومن هنا لزم أن يكون المقرر لأحكام السياسة وغيرها، ممن أوتي العلم بقوانين الشريعة، والفهم الراسخ في مداركها، حتى لا يخرج في تقريره عن الرسوم المطابقة لمقاصدها. يتصرف علماء الإِسلام في الأحكام على نهج المصالح، فإذا أدركوا المصلحة في العمل بالقول الضعيف، أخذوا به، وتركوا ما هو المشهور حيث كان مجرداً عنها. قال أبو علي المسناوي: إذا جرى العمل ممن يقتدى به بمخالف المشهور لمصلحة وسبب، فالواقع في كلامهم أنه يعمل بما جرى به العمل، وإن كان مخالفاً للمشهور، وهذا ظاهر إذا تحقق استمرار تلك المصلحة وذلك السبب، وإلا، فالواجب الرجوع إلى المشهور. ويقول بعض الفقهاء في شروط الأخذ بما جرى به العمل: خامسها معرفة الأسباب ... فإنها معينة في الباب وعند جهل بعض هذي الخمس ... ما العمل اليوم كمثل أمس ولم يعدم الإسلام علماء يفقهون أن أحكامه واردة لحفظ المصالح، ودائرة على مقتضى الحاجات، فهذا أحد الفقهاء في قرية من صحراء الجزائر يقال له: خليفة بن حسن، نشأ في المئة الثالثة عشرة، فأفتى بجواز استناد الحاكم إلى آثار الأقدام في نحو السرقة؛ حيث كان لأهل بلاده براعة فائقة في معرفتها،

وأنكر عليه علماء بلد يقال لها: "الخنقة"، فأجابهم بقصيدة ذكر فيها بعض مستنداته في الفتوى، ويقول فيها: إلى السادة الأشراف من أهل "خنقة" ... لهم في ندور الواقعات نقول تمسكتم بالأصل والحق واضح ... ولا ينكر المعلوم إلا جهول ولكن إذا عم السداد بحادث ... تقدم أصلاً والقياس دليل كتضمين سمسار وتغريم صانع ... وما هو إلا مودع ووكيل ومن ذاك ما قد جوّزوا في سفاتج ... إذا عم بالخوف الشديد سبيل وفي كلها خلف الأصول لأنها ... مصالح عمت والصلاح جميل ومن أدب المسؤول قبل جوابه ... إذا وردت يوماً عليه سؤول تعرف عرف السائلين بأرضهم ... ليعلم ما يفتي به ويقول وما أنتم منا بأعلم بالذي ... به الضرّ يكفي عندنا ويزول فلو أهملت آثار سرّاق أرضنا ... لكان فساداً للخراب يؤول وفي الأخذ بالآثار إصلاح أمرنا ... وفي الترك عن قصد السبيل عدول وما الأثر إلا كالخطوط شهادة ... كذا قال قوم في القياس عدول فعرفانك الخط الذي غاب ربه ... لعرفان أثر المستراب عديل وفي ولدي عفراء لما تنازعا ... جهازَ أبي جهل وهو جديل بأثر دم في السيف كان نبينا .... قضى أنه للسيدين قتيل والوجه الذي لاحظه المعترضون لما أفتى به هذا الفقيه: أنّ النظر في المصلحة التي لم يقم على اعتبارها شاهد خاص منوط بوظيفة المجتهد،

ولا يصح ممن لم يبارح منزلة التقليد. وهذا نظير ما اعترض به بعض المغاربة على ابن محسود، حين أفتى بجواز بيع أرض محبسة على مساكين في سنة قاحلة؛ دفعاً لما نزل بهم من الخصاصة. ويوافق الفتوى الأولى: ما نقله الحافظ ابن رجب البغدادي في كتاب "جامع العلوم" عن الإمامين: الشافعي، وأحمد من استحسان قول القافة (¬1) في سرقة الأموال، والأخذ بذلك، وقال الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه: إذا قال صاحب الزرع: أفسدت غنمُك زرعي بالليل، ينظر إلى الأثر، فإن لم يكن أثر غنمه في الزرع، فلا بد أن يجيء بالبينة، وهذا ظاهر في اكتفائها بمعرفة أثر الغنم، وإن البينة إنما تلزم عند عدم رؤية الأثر. ومما يؤكد أن الحكم الشرعي يعتبر في تفصيله طبيعة الواقعة بحسب ما يجري به العرف، ويحف به من مقتضيات الزمان: أن السلف كانوا يكرهون السؤال عن النوازل قبل حدوثها. نقل الحافظ ابن عبد البر: أن عمر كان يلعن من سأل عما لم يكن، وكان زيد بن ثابت - رضي الله عنه - إذا سألة إنسان في نازلة، قال له: الله عليك، هل كان هذا؟ فإن قال: نعم، نظر في الحكم، وإن قال: لا، سكت عنه، ولم يعطه جوابًا. فيمكن أن يعد في أسباب كراهتهم للمسائل المقدرة: حذرهم من أن يفرضوا لصورة النازلة حكماً، فتبرز للخارج، ويقارنها بعض أحوال لو شاهدها المفتي، لغيّر حكمه، وفصله على ما يطابق تلك الأحوال. ومن وجوه هذه الكراهة - كما قال بعض العالمين -: أن الله يمد العلماء، وبؤيدهم بالسداد إذا توجهوا بأنظارهم إلى قضية ألجأتهم إليها ¬

_ (¬1) القافة: جمع القائف: من يعرف الآثار - "القاموس".

الحاجة. ويضاف إلى هذا: أن الناظر في القضية المفروضة لا يجتمع له من الاهتمام بأمرها، وإبعاد النظر في سائر أطرافها، مثلما يتوفر له من العناية والهمّة عند حضورها، والاضطرار إلى العمل بها. هذه مقتبسات من مطالع الشرع الإسلامي، تمثل لنا حقيقته، وترينا رأي الباصرة كيف خلصت من كل كدر، وسلمت من كل خلل، حتى لا يستطيع الناشئ على أدب الإنصاف والاعتدال أن يرمي شيئاً من قوانينها بمخالفة الحكمة الثابتة، أو مناقضة قاعدة من قواعد العمران. ولا أنكر أن بعض من ينتمي إلى الفقهاء، قد صدرت عنه أقوال ساقطة، وأجهز عليها المحققّون بالإبطال والنكير، كما أسقط بعضهم شرط العلم في ولاية القضاء، وجوّز إلقاء هذه الخطة على عنق من لا يعلم، وزعم أن استشارته لغيره تقوم مقام ذلك الشرط العظيم. ووجه سخافة هذا القول، ونزوله عن مقام التحقيق: أن القاضي يؤمر بالاستشارة؛ ليستخلص الحق من بين الآراء المتعددة، وإذا كان في نفسه جاهلًا، فإنه لا يمكنه التمييز بين الآراء الصحيحة وغيرها حتى يتخير أقربها إلى الصواب، ولكن أمثال هذه الهفوة لا تلتصق بجانب الإسلام، وإنما ترسم في صحيفة من عثرت به الغفلة في أذيالها. * اختلاف المذاهب: كره الشارع التفرق في الآراء، وندب الأمة إلى الوفاق بقدر ما يمكنها، ولكنه يعلم أن تماسكهم وسيرهم في جميع الأحكام على مذهب واحد غير ميسر لهم، فأذن لهم بعد بذلهم الوسع في اتفاق الرأي، أن يأخذ كل طائفة بما استقرت عليه أفهامهم، ولا يضرهم متى تمكنوا في صناعة تقرير الأحكام،

واستوفوا شروطها، أن لا يصيبوا وجه الحق في الواقع، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر". وأطلق الشارع للعقود عنانها في الاجتهاد؛ ليفتح لها المجال في النظر، ويربيها على مبدأ الاستقلال بالرأي، حتى لا يستولي عليها التقليد من جميع جهاتها، فيتخللها الجمود، ويصبح الفرق بينها وبين العقول المتصرفة كالفرق بين الماء الراكد في حمأ، والماء المنهمر على الصفا لا يمازجه كدر. ومن شعر بهذه الحكمة، لا يمكنه الغضّ من جانب علماء الإِسلام؛ حيث أفضى بهم الاجتهاد إلى الاختلاف، بل هذا مما يجر إلى الاعتراف بمزيتهم، ويبرهن على أنهم نشؤوا على مبدأ البحث واستقلال الفكر، ولو أنهم كانوا بعقول خامدة، وإرادة ميتة، لاتبعوا ما يفتي به أول فقيه منهم، وتسلّموه بتقليد. لا محيص للمجتهدين من الخلاف لوجوه متعددة: منها: أن غالب الدلائل أقوال نزلت بلسان العرب، وطرق دلالة الألفاظ على المعاني مما يجري فيه الخلاف بين الناظرين في علم العربية، وجريان الخلاف في دلالة مفردات الألفاظ ومركباتها يوجب الاختلاف في الأحكام المأخوذة منها. ومنها: أن غالب الأحاديث يرويها الآحاد من الصحابة والتابعين، وقد يبلغ الحديث مجتهداً، ويصح عنده، فيبني عليه مذهبه، ولا يصل إلى مجتهد آخر، أو لا يثبت عنده، فيؤديه النظر إلى خلاف ما يتضمنه الحديث. ومنها: أن بعض الأحكام تركب على علل لا يصرح بها الشارع، ولا يوميء إليها، ويكلها إلى اجتهادات العقول، فتذهب في الفحص عنها، والتنقيب

من ورائها إلى أن يستقر رأي بعضهم على علة، ويتعين عنده غير علة أخرى، وإذا اختلفت العلل، اختلف ما بسند إليها من الأحكام. ولا ننسى أن فروعاً كثيرة إنما انجرّ إليها الخلاف من تباين العرف، أو عدم اتحاد المصالح؛ لتبدل العصور، أو تباعد المواطن، ومثل هذا لا ينبغي إدراجه في مسائل الخلاف الحقيقي كما أومأنا إليه فيما سلف. ولو أن أهل الإسلام استمروا على تأليف الجمعيات العلمية؛ لتحرير أحكام الحوادث، واستخلاص الحقيقة من الآراء المتلاقية، لالتأمت عدة خلافات حقيقية، وسقطت أقوال كثيرة من حساب مسائل الخلاف. وقد كان للسلف اهتمام بجمع العلماء في المسائل المشكلة، فقد نقل الحافظ ابن عبد البر عن المسيب بن رافع: أنه جاء الشيء من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنّة، رفع إلى الأمراء، فجمعوا له أهل العلم، فما اجتمع عليه رأيهم، فهو الحق. وروي عن علي بن أبي طالب، قال: قلت: يا رسول الله! الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولا سنّة، قال: "اجمعوا له العالمين". وهذا الحديث قدح الحافظ ابن عبد البر في سنده، ولكنه يدل على أن تأليف الجمعيات لتحرير المسائل العلمية مما شعر بفائدته علماء الإسلام في القديم. * انتشار المذاهب: أنبتت العصور الأولى طوائف من المجتهدين، ولم يبق من مذاهبهم التي هي محل للتقليد سوى مذاهب كان لأئمتها أصحاب يتلقونها منهم، فأوسعوها بالتفريع، وحفظوها بالتدوين؛ كمذاهب أبي حنيفة، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل - رضي الله عنهم -.

انتشرت هذه المذاهب في الأقطار الإِسلامية، وتوزع الناس أتباعها، وكانت كل طائفة -مع اعتقاد أن مذهبها أرجح وزنًا- تنظر إلى مذهب غيرها باحترام، ومما يشهد لهذا: أن أبا جعفر المنصور لما حج دعا الإمام مالكاً، ثم قال له: إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها، يعني: "الموطأ"، فننسخ نسخًا، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها, لا يتعدوها إلى غيرها، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملو ابه، ودانوا به، وإن ردّهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار كل بلد لأنفسهم. والسبب في اختصاص كل قطر بمذهب، أو غلبته فيه، يرجع لأمرين: أحدهما: تمسك الدولة به في سياستها؛ فإن الناس مولعة بمحاكاة رجال دولتها، ويزاد على هذا: أن غالب الوظائف والمناصب إنما ينالها من ينتحل المذهب الذي تتصرف به الدولة. ثانيهما: ما يتفق في القطر من كثرة علماء ذلك المذهب وقلتهم؛ كالمذهب المالكي؛ فإنه أخذ به أهل الأندلس والمغرب؛ لأن علماءهم كانوا يرحلون إلى الحجاز، وإمامه يومئذ مالك بن أنس، فيأخذون عنه، ثم يعودون وقد امتلأت حقائبهم من مذهبه، ثم تعلق به أمراء المغرب في سياستهم، فكان ذلك من أسباب استمرارهم على تقليده، مثلما انتشر مذهب الحنفية في بعض الممالك بكثرة ما انحاز إليها من فقهائه، واستدام فيها حيث ربطت به الدولة سياستها.

والعاميّ يتمسك بالمذهب؛ لأنه وجد آباءه أو أهل بلدته يتبعونه، حتى إذا فارق الرجل مذهب عشيرته إلى مذهب آخر، كان مسؤولاً عن وجه هذا التبديل، قال بعضهم لأبي ذر أحمد الهروي: من أين تمذهبت بمذهب مالك، مع أنك هروي؟ فقال: قدمت بغداد، وصحبت القاضي أبا بكر الباقلاني، فتمذهبت بمذهبه. لم تكن العامة في الصدر الأول تلتزم اتباع المجتهد في سائر مذهبه، بل كان الواحد منهم يستفتي العالم في نازلة، فإذا عرضت له مسألة ثانية، ولقي عالماً آخر، عرضها عليه، واتبعه فيها كما اتبع العالم قبله في فتواه الأولى، ولكن القضية التي يأخذ فيها يقول إمام لا يتحول فيها إلى قول إمام آخر بغير وجه يرجحه؛ فإن انسلاله عن الفتوى الأولى، بعد أن اتثق بها شريعة، ورجوعه إلى غيرها بدون أن يترجح عنده دليله، أو تدعوه إليه ضرورة، هو في معنى الاسترسال مع الهوى، والعمل بما يلائم استحسان الطبيعة. ولم يجوزوا للمقلد أن يتخير من كل مذهب ما هو الأهون عليه، والأوفق برغبته؛ لأنه من قبيل التلاعب واتباع الهوى، وربما اتخذه أصحاب النوايا السيئة وسيلة إلى الخروج عن عهدة التكليف، حكى البيهقي عن إسماعيل القاضي، قال: دخلت على المعتضد، فرفع إليّ كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، فقلت: مصنفُ هذا زنديق؛ فإن من أباح النبيذ لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلّا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ به، ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب.

* طبقات الفقهاء: يترتب أصحاب المدارك في الفقه إلى ثلاث طبقات: الأولى: طبقة المجتهدين باطلاق، وهم الذين يؤسسون قواعد الأصول، ثم يستخرجون أحكام الوقاع على طبقها؛ مثل: الأئمة الأربعة. الثانية: طبقة المجتهدين في المذهب، وهم القادرون على أخذ الأحكام من القواعد والأصول التي قررها أستاذهم؛ مثل: ابن القاسم في المالكية، وأبي يوسف في الحنفية، والمزني في الشافعية. الثالثة: طبقة أصحاب الترجيح، وهم الذين يفضلون بعض الروايات أو الأقوال على بعض، بمثل قولهم: هذا أرفق للناس، وهذا أعلق بالمصلحة، ومن هؤلاء: أبو عبد الله بن عرفة في المالكية، وأبو حسن القدودي في الحنفية. وها هنا طبقة رابعة تحفظ ما حرّره أصحاب المدارك، وتعلمه الناس من غير تصرف فيه، ومن هؤلاء من يأخذ مع بعض الأقوال مداركها، وبعضهم يحفظها نصوصاً مجردة، وفي هذه الطائفة يقول منذر بن سعيد البلوطي: عذيري من قوم يقولون كلّما ... طلبت دليلاً: هكذا قال مالك فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهب ... وقد كان لا تخفى عليه المسالك تجد في أهل هذه الطبقة من له اطلاع واسع في الحديث، والتفسير، والقواعد، إلا أنهم لا يفرغون عنايتهم في البحث عن الرابطة بينها وبين الفروع، إلى أن يمكنهم الارتقاء عند استحضار الفروع إلى أصولها، والنزول من ذكر الأصول إلى فروعها؛ بحيث تتواصل الفروع والأصول، وتتعانق بهيئة علم واحد. يتفاضل الفقهاء أيضاً بمقدار حذقهم ومهارتهم في صناعة تطبيق الأحكام

على النوازل في الخارج؛ فقد يكون الرجل قائماً بالأحكام، وتنشر بين يديه النازلة، ويتعذر عليه تمييز الحكم الذي ينطبق عليها من جميع جهاتها. وتنزيل الحكم على قدر الواقعة المعينة هو المسمّى عندهم بعلم القضاء، قال الإمام مالك في "المدونة": ليس علم القضاء كغيره من العلم، ولم يكن بهذا البلد أحد أعلم بالقضاء من أبي بكر بن عبد الرحمن، وكان قد أخذ شيئًاكان علم القضاء من أبان بن عثمان، وأخذ ذلك أبان عن أبيه عثمان، وكان أبو بكر هذا قاضياً لعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. وصف ابن خلدون العلماء بنقيصة الجهل بمناهج السياسة، وادعى أن هذه النقيصة جرّها إليهم وصف العلم بطبيعته، فقال: إن عمارة أفكارهم بالقو اعد، وتعودهم بالقياس الفقهي، يقتضي بطبيعة قصور أمدهم، وبعدهم عن الإصابة لوجه السياسة. والذي نختاره في وجه قصورهم عن مآخذ السياسة، وعدم تمكنهم من منازعها: إنما هو حصر وجهتهم في حفظ العلوم، وقلة الالتفات بها إلى أحوال العمران، أما من أضافوا إلى ما عندهم من العلم بأوضاع الشريعة النظرَ في الشؤون العامة، والكشف عن أسرار الحوادث، وما يعقبها في الخارج، فإنهم يحرزون السباق في نظام الدولة، والمحافظة على مصالح الأمة، كما يرشدنا إليه كمال خبرة المجتهدين والخلفاء الراشدين بمناهج السياسة، وحاجات الأمة، مع أنهم أغزر علماً ممن سمّاهم ابن خلدون بالعلماء. كان علماء الشريعة يفحصون عن أحوال الأمة، ويستطلعون على مجاري أعمالها؛ ليفرغوا عليها من الأحكام ما ينطبق عليها، ثم اتفق لبعض حملة

الفقه أن قطعوا بحثهم عن الشؤون العامة، وألفوا مساكنهم، فإذا قصدهم أحد بمسألة، أعلموه بما يروونه عن سلفهم في حقها، وربما تكون فتوى القدماء مبنية على سبب استنتجوه من مطالعة الحالة الجارية بين الناس، وهذا السبب قد ينقرض، فيتعين استئناف النظر في الفتوى، والالتفات إلى ما بين يت عليه في الواقع. وقد جرت على كثير من الفقهاء الذي يجهرون بشيء من نتائج عقولهم محن واضطهادات، فكانت أحد الأسباب التي رمت الأفكار بالجمود، وجعلتها تدور على محور المنقول؛ مثلما وقع لأبي الوليد الباجي، وابن حزم. أحرق المعتضد بن عباد لابن حزم كتبه في "إشبيلية"، ومما قاله في هذه الواقعة: دعوني من إحراق رَقٍ وكاغدٍ ... وقولوا بعلمي كي يرى الناس من يدري فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري وقد يتفق للفقيه دولة أمير عالم، أو وزير لا تشتبه عليه الحقائق، فيستوقف عنه الفئة المتهافتة في قطع سبيله، مئلما جرى للشيخ بقي بن مخلد؛ فإنه دخل الأندلس بمصنف ابن أبي شيبة، وأقرأه، فأنكر عليه جماعة بثه؛ لما فيه من مسائل الخلاف، وقام عليه جماعة من العامة، ومنعوه عن إقرائه، فاستحضره الأمير محمد، وتصفح الكتاب جزءاً جزءاً، حتى أتى على آخره،

ثم قال لخازن كتبه: هذا كتاب لا تستغني خزانتنا عنه، فانظر لنا في نسخة منه، وقال للشيخ: انشر علمك، وارو ما عندك، ونهاهم أن يتعرضوا له. وكان للشيخ أبي الوليد الباجي علقة بالسلطان، فلامه بعض الفقهاء على هذه المداخلة، فقال لهم: لولا السلطان، لنقلني الذر (¬1) من الظل إلى الشمس. تشعر الأمم الراقية بقيم العقول الكبيرة، فإذا تفرست في بعض الناشئين قرائح جيدة، وأنظارًا ترمي إلى غرض بعيد، ربتهم في مهد عنايتها، وساعدتهم بكل ما يقطع المعذرة في متاركة مداركهم، وإيقافها عند نهاية، وقد تضافرت صحف التاريخ على أن صاحب العقل الراجح لا يملأ يده مما يؤمل، أو يشرب من صفو حياته بكأس راوية، إلا بين رجال استقامت موازينهم، وخلصت هممهم، فبقسطاسهم المستقيم يدركون غاية وزنه، وبخلوص هممهم يخجلون من أن يعترضوا سعيه بعقبات شاخصة. ومن الجليّ لدى كل متبصر: أن لرقي الشعب الذي يعيش فيه الرجل المفكر، وصفاء فطرتهم، تأثيراً شديداً في نماء أفكاره، واتساع مجالها؛ فإن الأمة إذا توجهت إلى ذي فكرة نافذة، ومثلت له في ألسنتها ما تحمله أفئدتها من رقة العواطف، انبعث في همته نشاط، ووصل صباحه بمسائه في استدرار قريحته، واعتصار مهجته؛ لتمحيص الحقائق، واستطلاع المخبآت من مكامنها؛ لينمّي سبيل معارفهم، ويزيد في رنة سمعتهم نغمة لذيذة. فانظروا إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، يوم سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - جمعًا من الصحابة عن الشجرة التي هي مثل المسلم، ووقع في نفس ابنه أنها النخلة، كيف ¬

_ (¬1) الذرّ: صغار النمل - القاموس.

أسف لعدم إسراع ابنه بالجواب قبل أن يصفها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن عمر أحب أن تظهر ألمعية ابنه وجودةُ قريحته في مجلس ينتظم شمله من رجال عظمت مداركهم، ولطف وجدانهم؛ لتنجذب إليه أفئدتهم ويحرز من استطلاعهم على فضيلته حظوة وعناية، ولو كان ابن عمر في مجمع لا يرتفع فيه شأن الأذكياء، لما أسف والده ذلك الأسف البالغ حين فاته أن يجهر بفكر يلوح إلى فطنة متنبهة. * الفقهاء والأمراء: إن للقائم بأمر الدولة ثلاث مقامات: أحدها: تقرير أحكام تتميز بها الحقوق، وترسم للناس نظامات الاجتماع. ثانيها: القضاء بها عند تحقق موجبها. ثالثها: تنفيذها عند إباية المقضى عليه. ولا تتمكن الدولة من الاحتفاظ بهذه المطالب الثلاثة إلا إذا صرفت عنايتها في نشر التعليم؛ لتستخلص رجالاً يقومون بمحكم واجباتها ونظاماتها، وآخرين يجيدون النظر في تطبيقاتها، كما يتعين عليها- لتستكمل قوتها التنفيذية-: أن تساعد الأمة على ترقية الصنائع، وتسهيل وسائل التجارة والفلاحة، وكل ما يعود على الثروة بالتوسعة، فشرف الدولة يرجع إلى أصلين: معنوي، وهو سعة المعارف، وحسن التدبير، وهذا هو السبب الذي يعرج بالأمة الخاملة إلى مطلع الفخر والسيادة. وحسي، وهو القوة والنظام، وهذا إنما تستمده الدولة من سعادة حال الأمة، وانظروا إلى الأمم الراقية فيما يقصه عليكم التاريخ, فإنها لا تكاد تنهض من مرقدها إلا حيث يقبض على زمام سياستها رجال أولو عقول نافذة، وتدبيرات صائبة، ثم تشاهد

الشوكة، وتنسيق المشروعات المدنية لم يتحققا لهم على وجه كامل، إلا عند تقدم الشعب، وبلوغه إلى أن يكون الشرف سائداً في أفراده. ويتجلى من هذا: أن الدولة التي لها صبغة إسلامية، إنما يتحقق لها الشرف المعنوي بالرجال الذين يقومون بأحكام الإِسلام، ولهم المقدرة الطائلة في صناعة تطبيقها. كان الأمراء في الصدر الأول يقومون بمعرفة أحكام الشريعة؛ بحيث يكون الأمير نفسه مرجعًا للعامة في الفتاوى وفصل الخصومات، حتى إن ابن عمر وغيره كانوا يقولون للسائل عن الفتيا: اذهب إلى الأمير الذي تقلد أمور الناس، فضعها في عنقه، وهذا - كما قال الإمام الغزالي - إشارة إلى أن الفتيا في القضاء والأحكام من توابع الولاية والإِمارة. ثم عرض للأمراء ما استلفتهم عن القيام به؛ كاشتغالهم بوقائع الحروب، فصاروا يستعينون على ذلك بالعلماء، فكان الأمير يجلس وحوله بعض العلماء يرجع لهم في القضاء والأحكام، ويأمر أعوانه بتنفيذها. ولما وجب على صاحب الدولة في الإِسلام أن ينظر إلى السياسة بمرآة الشريعة، كانت الرابطة بين الفقهاء والأمراء متحتمة. والفقهاء في حالهم مع الأمراء على أربعة أصناف: الصنف الأول: يتباعد عن ساحة الأمراء، ويضمر في نيته التحاشي عن مشاهدة ما ينكر، أو الترفع عن الوقوف بين يدي ذي نخوة وشفوف، ومن هؤلاء من يقول: إن صحبنا الملوك تاهوا علينا ... واستخفوا كبراً بحق الجليس فلزمنا البيوت نستخرج العلم ... ونملا به بطون الطروس

الصنف الثاني: يغشى منازلهم، ولا يغض طرفه عما يحدق بهم من المساوي، فيأمر بالقسط، ويصدع بالموعظة، ولو لم يأمن أن تقع حياته في خطر. نقل الحافظ ابن عبد البر: أن مالكاً - رضي الله عنه - قيل له: إنك تدخل على السلطان، وهو يظلم ويجور! فقال: يرحمك الله، فأين الكلام في الحق؟. والصنف الثالث: يتقرب منهم، ولا يناديهم بالإرشاد في كل خلل يرتكبونه، وإنما يتعرض بنصيحته في الزلل الذي يعلم منهم التسامح فيه، والإغضاء عمن يعظهم في حقه. والصنف الرابع: يتردد على مجالس الأمراء، ويندمج في طباعهم، وربما بلغ به الإغراق في ملايمتهم وابتغاء مرضاتهم إلى تحريف الفتوى عن مواضع الحق، وفي مثل هؤلاء يقول بعض العلماء: قل للملوك نصيحة ... لا تركنون إلى الفقيه إن الفقيه إذا أتى ... أبوابكم لا خير فيه وهذا الصنف مما زاد الوهن في العلاقة بين الأمراء والفقهاء؛ فإن الأمراء الذين يضطهدون الحقوق، قد تعودوا من هذه الفئة التملق في خطابهم، والتنازل بالفتاوى إلى ما يوافق أهواءهم، فإذانظروا إلى فقيه ينطوي على كبر همة، وتحالف متين مع الحق، حسبوه مناوئاً لهم، غير مسالم لسياستهم. والأمراء باعتبار حالهم مع العلماء الذي يجاهرونهم بالنصيحة على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: تأخذه العزة بالإِثم، فتشمخ بمعطسه الكبرياء، ويقابل الداعي إلى الخير بعقوبة المجرمين.

الصنف الثاني: يجد في صدره الحرج من مشافهته بالوعظ، ولا يقلع عما نكب عليه من الباطل، ولكنه يحترم مكان العالم، فلا يسومه بمهانة، ومثل هذا ما حكي صاحب "نفح الطيب": أن أبا الوليد الباجي لما قدم من المشرق إلى الأندلس، وجد ملوك الطوائف أحزاباً متفرقة، فمشى بينهم في الصلح، وهم يجلُّونه في الظاهر، ويسثقلونه في الباطن، ويستبردون نزعته، حتى خاب فيهم أمله، ولم يقترن سعيه بنجاح. الصنف الثالث: تأخذه رقة الحاشية، وصفاء الفطرة إلى طاعة الحق، وشكر الداعي. طلع عز الدين بن عبد السلام إلى السلطان أيوب نجم الدين مرة، وقال له: ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر، ثم تبيح الخمور؟! فقال: هل جرى هذا؟ فقال: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، فقال: أنا ما علمته، ثم أمر السلطان بإبطال تلك الحانة. وأكثر ما تؤثر الموعظة في قلوب الأمراء إذا برزت في صورة التعريض، أو ألقيت في مظهر الأقوال العامة، ومن مثل هذا: أن الشيخ أبا بكر بن سيد الناس قدم على حاضرة تونس، فاستدعاه المنتصر بالله، فلما دخل عليه، أمره أن يقرأ بين يديه آية من القرآن، فقرأ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]. فاستحسن المنتصر قراءته وقصده، وكان ذلك سبباً في حظوته، ورفعة منزلته عنده.

النسخ في الشريعة الإسلامية

النسخ في الشريعة الإسلامية (¬1) النسخ في اللغة: الإزالة، ويقال نسخت الشمس الظلّ، والنقل والتحويل، ومنه: تناسخ المواريث؛ أي: تحويل الميراث من واحد إلى آخر. أما النسخ في الشريعة، فهو: بيان انتهاء الحكم الشرعي المقدر في أوهام المكلفين دوامه، ويكون بيان انتهاء الحكم بخطاب. فالحكم المشروع ابتداء، وإن بيّن انتهاء حكم البراءة الأصلية، لا يسمَّى نسخًا؛ لأن البراءة الأصلية ليست عندهم بحكم شرعي، ولو كان رفعُ حكم البراءة الأصلية نسخاً، لزم أن يكون كل حكم شرعي ناسخاً؛ لأنه رافع لحكم البراءة الأصلية. وإنما أخذنا في حقيقة النسخ إمّا يكون المبيِّن لانتهاء الحكم خطاب من الشارع؛ لنحترز عن رفع الحكم بالدليل العقلي؛ كأن يكون المكلف نائماً، أو مصاباً بجنون؛ فإن حكم الصلاة - مثلاً - يرتفع عنه، وارتفاعه إنما يكون بدليل عقلي، لا بخطاب شرعي. ولم نقيد المبيّن لانتهاء الحكم بالتراخي كما ورد في بعض تعريفات النسخ؛ لأن التراخي إنما يذكر على أنه شرط، وقد جرى الخلاف في شرطيته. ¬

_ (¬1) محاضرة الإِمام في قسم التخصص بكلية أصول الدين إحدى كليات الأزهر، ونشرت في مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الرابع عشر، شوال 1358 هـ.

وسمي رفع الحكم نسخاً؛ لأن الحكم الرافع قد أزال الحكم السابق. ويظهر من كلام المتقدمين: أن النسخ في عرفهم أهمّ منه في كلام الأصوليين؛ فقد يطلقون النسخ على تخصيص العام، وتقييد المطلق، كما يطلقونه على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي، ومن شواهد هذا التعميم: قول ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] , هو منسوخ بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء: 227]. وجرى الخلاف في جواز النسخ ووقوعه. أما الخلاف في جوازه، فيحكي بعض الأصوليين أن بعض اليهود قد أنكروا النسخ، وقالوا بامتناعه عقلاً؛ بدعوى أنه منافٍ للحكمة؛ لأن النهي يعتمد المفسدة الخالصة أو الراجحة، فلو جاز نسخه بعد ذلك، لزم تجويز أن يأمر الله تعالى ويأذن في فعل المفاسد الخالصة أو الراجحة، وذلك محال على الله تعالى. ثم إن النسخ يتضمن الإذن فيما نهى عنه، أو النهي بما أذن فيه، والفعل إما أن يكون حسناً، أو قبيحاً، فإن كان حسناً، استحال النهي عنه، وإن كان قبيحاً، استحال الإِذن فيه، فالنسخ محال عليه تعالى على كلا التقديرين. وذهب أهل العلم في رفع هذه الشبهة مذهبين: فالذين ينكرون تعليل الأحكام يقولون: إنها مسندة إلى محض إرادة الله تعالى من غير باعث، فالله تعالى هو الحاكم المطلق الفعّال لما يريد، فيجوز في حقه أن يضع حكماً، ويرفع حكماً، لا لغرض، ولا لباعث، ومن هؤلاء: ابن حزم، إذ قال في كتاب "الأحكام": "إن الله تعالى أراد أن يحرّم علينا بعض

ما خلق مدة، ثم أراد تعالى أن يحرمه علينا, ولا علّة لشيء من ذلك". وأما المحققون الذين يقولون: إن أحكام الله تعالى مراعىً فيها مصالح العباد، واللطف بهم، فيجيبون عن هذه الشبهة؛ بأن المصالح تختلف بحسب اختلاف الأوقات، فقد يكون الفعل مفسدة في وقت، ومصلحة في وقت آخر؛ كوجوب وقوف الواحد من المسلمين للعشرة من الكفار حيث اقتضته قلة المسلمين، ورفع هذا الوجوب حيث استغني عنه بكثرتهم. وإذا قالوا: إن النسخ من قبيل البداء، وهو مستحيل عليه تعالى، قلنا: بين النسخ والبداء فرق أجلى من الشمس، والفارق هو أن البداء يكون في الأمر بالشيء مع عدم العلم بما تؤول إليه حاله، وهذا هو المحال عليه تعالى، وأما النسخ (¬1)، فيكون الآمر عند شرعه الحكمَ الأول عالماً بأنه سيرفعه بعد مدة معلومة، وهذا يصح أن يكون من صفاته تعالى. وأما الخلاف في وقوعه: فقد قال أبو مسلم الأصفهاني (¬2) بجوازه عقلاً، وأنكر وقوعه، ونسب أبو بكر الجصّاص في كتاب "الأحكام" إنكار وقوعه في شريعتنا إلى بعض معاصريه، فقال: "وزعم بعض المتأخرين من غير أهل الفقه: أنه لا نسخ في شريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن جميع ما ذكر فيها من النسخ فإنما المراد منه نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين؛ كالسبت، والصلاة إلى المشرق والمغرب". ¬

_ (¬1) وقد أخطأ بعض الشيعة إذ جوزوا على الله البداء، وادعوا أن علياً - رضي الله عنه - كان لا يخبر عن الغيب؛ مخافة أن يبدو لله فيه فيغيره، وزعموا أن محمد بن جعفر قال: ما بدا لله في كل شيء كما بدا له في إسماعيل؛ حيث أمر بذبحه، ثم فداه بذبح عظيم. (¬2) هو محمد بن محمد من شيوخ المعتزلة المتوفى سنة 322.

ثم قال الجصّاص: "وكان هذا الرجل ذا حظ عظيم من البلاغة، وكثير من علم اللغة، غير محظوظ من علم الفقه وأصوله، وكان سليم الاعتقاد، غير مظنون به غير ظاهر أمره، ولكنه بَعُدَ من التوفيق بإظهار هذه المقالة؛ إذ لم يسبقه إليها أحد، بل عقلت الأمة سلفُها وخلفُها من دين الله وشريعته نسخَ كثير من شرائعه، ونقل إلينا ذلك نقلًا لا يرتابون فيه، ولا يجيزون فيه التأويل". ثم قال: "فارتكب هذا الرجل في الآية المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أموراً أخرج بها عن أقاويل الأمة، مع تعسف المعاني واستكراهها، وما أدري ما الذي ألجأه إلى ذلك، وأكثر ظني فيه أنه إنما أتي من قلة علمه بنقل الناقلين لذلك، واستعمال رأيه فيه من غير معرفة منه بما قال السلف فيه، ونقلته الأمة، والله يغفر لنا وله" (¬1). وذهب جمهور أهل العلم ومحققوهم إلى أن النسخ واقع في الشريعة. وشبهة المنكرين لوقوع النسخ: أن اللفظ الدال على الحكم الأول إما أن يدل على الدوام، فإذا جاء الناسخ، كان متناقضاً، وإما أن لا يدل على الدوام، فيكون مطلقاً، ويكفي للعمل به مرة واحدة، وينقضي بذاته، فلا يحتاج إلى النسخ. والجواب عن هذه الشبهة: أنه تعالى يأمرنا بالشيء، ولا ينص على دوام، ولا على عدم الدوام، وإنما يأتي الأمر بصيغة يفهم منها تكرار العمل، فنمتثل مقدرين استمراره، فهذا جاء الناسخ، نعلم أنه تعالى أمرنا بالأمر، وهو يريد العمل به إلى هذا الوقت المعين في علمه، وهذا الوقت لا يلزم ¬

_ (¬1) تفسير آية: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106].

أن يكون معلومًا لنا؛ إذ لا يترتب على هذا العلم فائدة. ولما استدل الجمهور على النسخ بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 156] قال المنكرون للنسخ: إن الآية المراد منها: المعجزة؛ بدليل قوله تعالى بعد: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106]؛ فإن وصف القدرة إنما يناسب الإِتيان بخير من الآية المتلوة، والإتيان بمثلها. ورد هذا؛ بأن الصحابة - رضي الله عنهم - وهم أعرف الناس بفهم القرآن، كانوا يفهمون الآية على نسخ الآيات المتلوة في القرآن، ففي "صحيح البخاري" عن ابن عباس، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: أقرؤنا علي، وأقضانا علي، وإنا لندع من قول أبيّ، وذاك أن أبيًّا يقول: لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله (¬1) - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا}، يريد: أن أبيًّا ربما قرأ ما نسخت تلاوته؛ لكونه لم يبلغه النسخ. وقال المنكرون للنسخ أيضاً: نسلم أن قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} مراد منه: نسخ الآية المتلوة، لا المعجزة، ولكن الآية وردت شرطية، والقضية الشرطية لا تستلزم الوقوع. ويجاب عن هذا: بأن الآية - وإن كانت شرطية - قد وقعت في سياق الامتنان، والشرطية إذا وقعت في سياق الامتنان من الله تعالى، دلّت على وقوع فعل الشرط وجزائه. وقد عمد منكرو النسخ لآيات وأحاديث متعددة ظاهرة في النسخ، ¬

_ (¬1) يريد: أن ما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد علمه من طريق قطعي، وأما ما يخبره به غيره عنه، فلا يقبله، ويترك ما سمعه، إلا إذا بلغ مبلغ القطع.

فتأولوها على وجوه يريدون بها الجمع بين ما قيل فيه: إنه من قبيل الناسخ والمنسوخ. وربما تعسف هؤلاء في التأويل، وأتوا بما لا يقع لدى العارف بحكمة التشريع ويلاغة القرآن موقع القبول. كما أن بعض القائلين بالنسخ قد يتسرعون إلى تخريج آيات وأحاديث على باب النسخ، ويكون وجه إبقائها في الآيات المحكمة قريباً، وقد أسقط أبو بكر بن العربي كثيراً مما عد في الناسخ والمنسوخ بطريقة الجمع بينهما على وجه مقبول. "والنسخ الواقع في الأحاديث الذي أجمعت عليه الأمة لا يبلغ عشرة أحاديث البتة، بل ولا شطرها" (¬1). ولا يكفي في تخريج كلام الشارع على النسخ مجرد التنافي بين ظاهري النصين، بل لا بد من قيام شاهد على النسخ، وأقوى شواهده: نص الشارع على ذلك؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها"، وقوله: "كنت نهيتكم عن ادخار لحم الأضاحي، فادخروها"، وقوله: "كنت نهيتكم عن الانتباذ، فانتبذوا". والنسح يقع في الشريعة لِحِكَم: منها: اختلاف المصلحة باختلاف الزمان؛ كنسخ وجوب وقوف المسلم للعشرة من العدو للقتال بوجوب وقوفه للاثنين منهم. ومنها: أخذ الناس إلى بعض الأحكام على وجه التدريج؛ حتى يسهل عليهم الامتثال؛ كما وقع تحريم الخمر، وتحريم الكلام في الصلاة بعد أن ¬

_ (¬1) "أعلام الموقعين" (ج 3 ص 458).

كان مباحاً. ووقع في شريعة موسى - عليه السلام - نسخ الأخف بما هو أثقل منه؛ عقوبة على بعض المعاصي، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 160 - ا 16]، ولا نعلم مثالاً لهذا في شريعتنا. المعروف أن النسخ ثلاثة أقسام: أولها: ما نسخ حكمه وتلاوته، ويسوقون في أمثلته: نسخ تحريم عشر رضعات بتحريم خمس رضعات، المشار إليه في حديث مسلم عن عائشة -رضي الله عنها -، قالت: "كان فيما نزل من القرآن عشر: رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات (¬1)، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهن فيما يقرأ من القرآن" أي: يقرؤها من لم يبلغه نسخها. ثانيها: ما نسخ حكمه، وبقي لفظه؛ كآية: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65]؛ إذ نسخ حكمها بقوله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]. ثالثها: ما نسخ لفظه، وبقي حكمه، ومثاله: نسخ آية رجم الزاني المحصن مع بقاء الحكم، وشاهدهم على هذا: ما رواه ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن الله قد ¬

_ (¬1) النسخ في الواقع متوجه إلى قصر التحريم على العشر الرضعات، وجعلها أدنى ما يقع به التحريم، وإلا، عشر رضعات لم ينسخ, لأن تحريم الخمس الرضعات يقتضي تحريم العشر الرضعات بالأولى.

بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالحق، وأنزل عليه آية الرجم، قرأناها، ورويناها، ونقلناها، فرجم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ورجمنا بعده". هذه رواية مسلم في "صحيحه"، وروى مالك في "موطئه"، قال: "قدم عمر بن الخطاب المدينة، فخطب الناس، ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم بقول قائل: لا نجد حدّين في كتاب الله، فقد رجم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ورجمتُ، والذي نفسي بيده! لولا أن يقول الناس: زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله (¬1) تعالى، لكتبتها: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، فإنا قد قرأناها". خشي عمر - رضي الله عنه - أن ينكر عليه كتابة آية الرجم في المصحف قوم، ويقولوا: قد زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله، وهؤلاء الذين خشي عمر إنكارهم إما أناس يخالفونه في أن آية الرجم هذه نزلت في القرآن، وإما أناس يقولون إن هذه الآية غير مجمع عليها، وغير منقولة بالتواتر ولا يكتب في المصحف إلا ما نقل بالتواتر على أنه قرآن، وإما أناس يقرون بأنها نزلت قرآناً، ولكنهم يرون أنها نسخت تلاوتها، وبقي حكمها، فلا يجوز إثباتها في المصحف. والظاهر من كلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه يرى أن آية الرجم لم تنسخ تلاوتها؛ إذ لو كان يعلم أنها نسخت تلاوة، لما خطر له أن يكتبها في المصحف، وكان المانع له من كتابتها نسخ تلاوتها, لا الخوف من قول الناس: زاد عمر في كتاب الله. وقد يقال: إن عمر كان عالماً بنسخها, ولم يرد كتابتها في المصحف ¬

_ (¬1) في "سنن أبي داود" "لولا أني أكره أن أزيد في كتاب الله، لكتبته في المصحف".

داخلة بعض سوره، متصلة ببعض آياته، بل أراد بقوله: "لكتبتها": كتابتها في حواشي المصاحف، مع بيان أنها نسخت، حتى يطلع عليها كل من يقرأ المصحف، والذي منعه من كتابتها في المصحف على هذا الوجه؛ مخافة أن ينكر الناس عليه ذلك، ويسموه: زيادة في القرآن. وجاء في رواية أبي داود في "سننه": "ولولا أني كره أن أزيد في كتاب الله، لكتبتبه"، فجعل علة عدم الكتابة كراهته لأن يزيد في كتاب الله؛ أي: إنه كره أن يكتب آية الرجم، ولو في حاشية المصحف؛ لأنها زائدة على القرآن، وقد أمروا بتجريد القرآن عن كل ما ليس بقرآن يتلى؛ حذرًا من أن يتجه الناس - ولو بعد حين - إلى اعتقاد أنه من القرآن المتعبد بتلاوته. وليس فيما روي عن عمر بن الخطاب تصريح بأن ما نزل من الرجم قد نسخ، وإنما فهم النسخ من تسميتها آية، وقوله: قرأناها، مع عدم وجودها مكتوبة بين دفتي المصحف، ومن المحتمل أن يكون ما نزل في الرجم، لم ينزل على أنه قرآن يتعبد بتلاوته، ويأخذ مكاناً في المصحف، وإنما نزل بوحي؛ ليحفظ، ويعمل به. قال ابن حزم في كتاب "الأحكام": "ونحن لا نقطع أنها كانت قرآناً يتلى في الصلوات، ولكن نقول: إنها كانت وحيًا أوحاه الله تعالى إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - مع ما أوحي إليه من القرآن، فقرئ المتلو مثبوتاً في المصاحف والصلوات، وقرئ سائر الوحي منقولاً محفوظاً معمولاً به كسائر كلامه الذي هو وحي فقط". وكان تسميتها آية على هذا الوجه مبنية على تفسير الآية بما نزل بوحي مطلقاً، ولا يختص بما نزل على أنه قرآن يتهجد به، ويتلى في الصلوات،

وأما قوله: "قرأناها"، فغير صريح أيضاً في أنها قرآن؛ إذ القراءة تكون لغير القرآن. ومما يدل على أن آية الرجم كانت تعد من قبيل الأحاديث، لا أنها قرآن: ما رواه الطبراني عن العجماء، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة بما قضياه من اللذة". ورجاله رجال الصحيح (¬1). ¬

_ (¬1) "مجمع الزوائد" (ج 6 ص 26).

صحيح البخاري وأثره في حفظ الشريعة

صحيح البخاري وأثره في حفظ الشريعة (¬1) أنزل الله تعالى القرآن المجيد بدين قيم، وشريعة محكمة، وأمر رسوله الكريم - صلوات الله عليه - أن يبين للناس ما لم تصل إليه أذهانهم من معانيه السامية؛ فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، ثم أمر الله تعالى بطاعة الرسول فيما يأمر به، أو ينهى عنه، وإن لم يرد أمره أو نهيه في صورة أنه بيان للقرآن، فقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. فدّلت الآيتان على أنّا مأمورون باتباع بيان الرسول للقرآن الكريم، واتباع ما يقرره من الأحكام، وإن لم يبد لنا وجه رجوعها إلى نص خاص من نصوص القرآن. فمطلع الدين القيم، والشريعة السمحة: كتاب الله، وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام -، وإكمال الدين الممتن به في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] إنما تحقق بنزول القرآن، وبما ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام في حفلة ذكرى الإمام البخاري التي أقامها نخبة من أبناء تركستان بالقاهرة. مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الثامن عشر، رمضان 1364.

فصّله الرسول - عليه الصلاة والسلام - في أحاديثه من أحكام وآداب. وقد تكفل الله تعالى بحفظ الذكر في قوله العزيز: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، ومن الجليّ أن الحكمة في حفظه إنما هي حفظ أصول الشريعة التي أراد الله تعالى أن تكون الشريعة العامة الخالدة، ومقتضى هذه الحكمة: أن يحفظ الله القرآن، ويحفظ السنّة التي تبين معاني بعض آياته، أو تقرر أحكامًا وأصولاً متممة للشريعة التي جاء لإقامتها. ومن هنا عني الصحابة والتابعون - رضي الله عنهم - بحفظ السنة رواية وكتابة، ومنذ عهد عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أقبل العلماء على جمع الأحاديث، وإخراجها في مؤلفات اختلفت أنظارهم في أساليبها, ولكنهم لم يقصدوا فيها إلى كتاب "الموطأ"، وقصد في تأليفه جمع أحاديث صحيحة مرفوعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأضاف إليها كثيراً من الأحاديث المرسلة أو المنقطعة، وكثيراً من إفراد الأحاديث الصحيحة عن غيرها، حتى جاء الإِمام مالك - رضي الله عنه -، وألّف أقوال الصحابة والتابعين وفتاواهم، وقد تتبع بعض أئمة الحديث تلك الأحاديث المرسلة أو المنقطعة، فوجدوها موصولة في روايات أخرى إلا أربعة أحاديث، ولم يترددوا في أن يقولوا: إن أول من ألف في الصحيح: مالك بن أنس، حتى قال الإِمام الشافعي - رضي الله عنه -: ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك. ثم جاء الإِمام البخاري - رضي الله عنه -، فألف كتابه "الجامع الصحيح"، فكانت أحاديثه المرفوعة المتصلة الإسناد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من أحاديث "الموطأ"، وما أودعه فيه من الأحاديث المرسلة أو المنقطعة، أو آثار الصحابة والتابعين أقلّ مما في كتاب "الموطأ".

* كيف تيسّر للإمام البخاري أن يؤلف هذا الجامع الصحيح: نشأ الإِمام البخاري في عهد كان المقام الأسمى فيه لمن يتفقه في الدين، وكانت أمصار الإِسلام طافحة بأئمة الحديث وحفّاظه، فأقبل على رواية الحديث، وتلقى عن أئمة خراسان، ثم رحل إلى العراق والحجاز والشام ومصر، فلقي أئمتها وحفاظها, ولم يدخر جهداً في استقصاء ما عندهم من العلم، حتى تجمع له من الأحاديث ما لم يتجمع لغيره، وساعده على ذلك: سلامة الفطرة، وقوة الحافظة، وذكروا أنه روى عن أكثر من ألف شيخ، من بينهم: الإمام الحافظ علي بن المديني الذي قال فيه البخاري: "ما استصغرت نفسي إلا بين يدي علي بن المديني". فلقاء البخاري في رحلاته بعدد كبير من حفاظ الحديث، مع صفاء ألمعيته، وقوة حافظته رفعه في علم الحديث والفقه إلى أن قال الإمام أحمد من شيوخه: ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل البخاري فقيه الأمة. * سبب تأليفه: قال البخاري: كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح رسول الله - رضي الله عنه -، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع "الجامع الصحيح"، وابتدأ جمعه في المسجد الحرام، يدل لهذا قوله فيما روي عنه: صنفت كتابي "الجامع الصحيح" في المسجد الحرام، وما أدخلت فيه حديثاً حتى استخرت الله تعالى، وصليت ركعتين، وتيقنت صحته. * حسن أسلوب "الجامع الصحيح"، ووجه تكراره للأحاديث: اختلفت أساليب المصنفين في الحديث، فمنهم من رتبوا الأحاديث بالنظر إلى رواتها، وهي المسماة بالمسانيد؛ كما فعل الإمام أحمد بن حنبل

ومَن بعده، ومنهم من يرتبها على حسب الأماكن التي هي دليل عليها، فيضعون لكل حديث باباً يختص به؛ كباب الصلاة، والزكاة، كما فعل مالك في "الموطأ"، وانتهى الأمر إلى زمن البخاري، فسلك هذه الطريقة، ولكن كثرت الأحاديث المودعة في كتابه، فكان أكثر أبواباً من كتاب "الموطأ". قال ابن خلدون: وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام المحدثين في عصره، فخرج أحاديث السنّة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين، واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، وكرر الأحاديث، يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث، فتكررت لذلك أحاديثه. قالوا: لمسلم فضل، قلت البخاري أعلى ... قالوا: المكرر فيه، قلت المكرر أحلى * جمعة بين الرواية والتفقه في الحديث: لم يقتصر البخاري على رواية الحديث كما يفعل كثير من المؤلفين في الحديث، بل جعل من مقاصد "جامعه": التفقه في أحاديثه، والنزوع إلى استنباط الأحكام والآداب، كما يشير إلى ذلك بالتراجم التي يضعها في صدور الأبواب، وهذا القصد قد سبقه إليه الإِمام مالك في "موطئه"، ولكن البخاري قطع فيه مراحل بعيدة على حسب كثرة ما جاء في "جامعه" من الأحاديث. * استحسان شيوخه وغيرهم له عند عرضه عليهم: لما صنف البخاري هذا الجامع، عرضه على علي بن المديني، وأحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم، فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة إلا

أربعة أحاديث، قال العقيلي: والحق فيه مع البخاري فهي صحيحة. واستحسان شيوخ المؤلف للكتاب، وشهادتهم له بالصحة، وسيلة كبرى لرواج الكتاب، وتنافس الناس في الإقبال عليه. * تضافر العلماء من بعد على صحته، وترجيحه على غيره من كتب الحديث: قال المحدثون: صحيحا البخاري ومسلم أصحّ الكتب بعد كتاب الله، وقالوا: إن كتاب البخاري أصح من كتاب مسلم، وما ينفرد به البخاري أصح مما ينفرد به مسلم. وقال الأصوليون: إذا تعارض حديثان، أحدهما في صحيح البخاري، والآخر في غيره من كتب الحديث، رجّح الحديث المروي في صحيح البخاري. ومما ساعد البخاري على تحري الصحة في جامعه: أنه أخذ عن علي ابن المديني، وقد أجمعوا على أنه أعلم أقرانه بعلل الحديث، وأخذ عن محمد بن يحيى الذهلي، وكان أعلم أهل عصره بعلل الحديث. وقال ابن الصلاح: "وقد أجمعت الأمة على تلقي هذا الكتاب بالتسليم والقبول لصحة جميع ما فيه". وقال بعض أهل العلم: من حلف على صحة جميع ما في البخاري، كان باراً في يمينه. * إقبال الناس على روايته ودراسته: امتياز "الجامع الصحيح" بالصحة والرجحان على غيره، جعل الناس يقبلون على روايته بلهف، فقد ذكر الفربري الذي هو أحد رواة الجامع عن البخاري: أن الجامع سمعه من البخاري تسعون ألفاً، وإذا رأينا أكثر الروايات للجامع الصحيح تنتهي إلى أبي عبد الله محمد بن يوسف الفريري عن البخاري،

فلأن الفريري سمع "الجامع الصحيح" من البخاري مرتين: مرة بفرير ومرة ببخارى، وتعد روايته أضبط الروايات. ولثقة الناس بصحته، وعظم ما يقتبسونه من فوائده، ترى رجالاً يقرؤونه المرة بعد المرة في غير سآمة، فهذا غالب بن عطية الغرناطي يقول: كررت البخاري سبع مئة مرة. وذلك محدث اليمن سليمان بن إبراهيم العلوي يتحدثون عنه أنه أتى على البخاري نحو من مئتي مرة، قراءة وإقراء. وأصحّ نسخة للجامع الصحيح اعتمد عليها المغاربة: نسخة برواية أبي عمران موسى بن سعادة، سمعها على أبي علي الصدفي نحو ستين مرة، وأبو علي الصدفي روى "الجامع الصحيح" عن أبي الوليد الباجي، والباجي رواه من أبي ذر - رضي الله عنه -. * إقبال الناس عليه بالشرح والتعليق: ولبلوغ "الجامع الصحيح" في الصحة الغاية، أقبل العلماء على اختلاف مذاهبهم على شرحه، والتعليق على المواضع المشكلة منه؛ كابن بطّال، وابن المهلب، وابن التين، والكرماني، وابن حجر، والليثي، والقسطلاني، والشيخ زكريا، وغيرهم. ولم يستوف أكثر هؤلاء المصنفين ما يستحقه الكتاب من الشرح؛ إذ يحتاج شارحه- كما قال ابن خلدون- إلى معرفة الفرق المتعددة ورجالها من أهل الحجاز والشام والعراق، ومعرفة أحوالهم، واختلاف الناس فيهم، ولذلك يحتاج إلى إمعان النظر في التفقه في تراجمه؛ لأنه يترجم الترجمة، ويورد فيها الحديث بسند أو طريق، ثم يترجم أخرى، ويورد فيها ذلك الحديث بعينه؛ لما تضمنه من المعنى الذي ترجم به الباب، إلى أن يتكرر

الحديث في أبواب كثيرة بحسب معانيه واختلافها، ثم قال: "ومن شرحه، ولم يستوف هذا فيه، فلم يوف حق الشرح؛ كابن بطال، وابن المهلب، وابن التين، ونحوهم، ولقد سمعت كثيراً من شيوخنا يقولون: شرح كتاب البخاري دين على الأمة، يعنون: أن أحداً من علماء الأمة لم يعرف ما يجب له من الشرح بهذا الاعتبار". وقال بعضهم: "لعل ذلك الدين قُضي بشرحي ابن حجر العسقلاني، والعيني". وأشار الشوكاني إلى أن في شرح ابن حجر المسمّى "فتح الباري" كفاية، فأجاب حين طلبوا منه وضع شرح للبخاري بقوله: "لا هجرة بعد الفتح". * أثره في تثبيت دعائم الإِسلام: للجامع الصحيح أثر كبير في توطيد أركان الشريعة، وحمايتها من أن تعبث بها أصابع الجاحدين، يشهد بهذا وجوه كثيرة. ومن هذه الوجوه: أن الأحاديث الضعيفة لا يعتمد عليها في استنباط الأحكام العملية، وتلقي الأمة للجامع الصحيح بالقبول والتسليم، يجعل أحاديثه كلها صالحة لأن يحتج بها في تقرير الأحكام العملية، فالجامع الصحيح وضع أمام الباحثين عن أحكام الشريعة جانباً عظيماً من الأحاديث التي لا يترددون في صحتها, ولا يشتبه عليهم الحال في عدالة رجالها. ومن هذه الوجوه: أن بقية الكتب الستة التي أصبحت مدار علوم الحديث؛ كصحيح مسلم، وسنن الترمذي إنما ظهرت بعد الجامع الصحيح، وكان له أثر في توجيه مؤلفيها، وإجادة سندهم في تأليفها. قال الدارقطني: لولا البخاري، لما ذهب مسلم ولا جاء.

وقال الحاكم: رحم الله محمد بن إسماعيل الإمام، فإنه الذي ألف الأصول، وبين للناس، وكل من عمل بعده، فإنما أخذ من كتابه. وقال الإسماعيلي في "المدخل" بعد أن مدح البخاري في صنيعه، وذوقه: نحا نحوه في التصنيف جماعة، وذكر منهم: مسلم بن الحجاج، وقال: وكان يقاربه في العصر، فرام مرامه، وكان يأخذ عنه، أو عن كتبه. ومن هذه الوجوه: أن بعض المجتهدين قد يسبق إلى استنباط حكم، ويتخذه مذهبًا، فإذا اطلع أتباعه على حديث في الجامع الصحيح ينافي ذلك الحكم، بينوا أن ذلك الاستنباط غير صائب، وتحولوا إلى الاقتداء بالحديث الصحيح، وكل إمام يقول: "إذا صح هذا الحديث، فهو مذهبي". ومن هذه الوجوه: أن العلماء، بناء على شهرة الجامع الصحيح، وسمو مكانته في الصحة، وجهوا أنظارهم إلى البحث عن مرامي أحاديثه، والكشف عن أسرارها، وإيضاح ما أشكل منها، فجمعوا حول أحاديثه، وما يتصل بها من الآثار علماً غزيرًا، ومن هنا كانت شروحه من أقرب المراجع إلى أيدي الباحثين عن أحكام الشريعة وآدابها، وأفسحها مجالاً لمسائل الخلاف التي منشؤها التفقه في الحديث. ومن هذه الوجوه: أن نفراً من زائغي العقيدة يحاولون اليوم وقبل اليوم أن يطرحوا السنّة النبوية من أصول الشريعة؛ بزعم أن الأحاديث غير ثابتة الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووجود الجامع الصحيح، وهو كتاب عرفه المسلمون بصحة السند، وأجمعوا على تلقيه بالقبول، يدفع هذا الزعم، ويكشف عن جهل صاحبه، أوسوء طويته. وأذكر عقب هذا: أن الجامع الصحيح ساعد على حفظ اللغة العربية،

وإقامة قواعدها من وراء مساعدته على حفظ الشريعة وتأييد دعائمها؛ فإن ما في كتاب البخاري من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقوال الصحابة والتابعين يصح أن يستشهد به في اللغة، على ما بسطناه في رسالة قدمناها إلى المجمع, ونشرت في مجلته (¬1). ¬

_ (¬1) انظر كتاب الإمام: "دراسات في العربية وتاريخها" كما نشر البحث في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة - الجزء الثالث.

السنة والبدعة

السُّنّة والبدعة (¬1) شرع الله الدين الحنيف في سماحة وحكمة، فلم يأت بما فيه حرج، أو بما ينبو العقل السليم عن قبوله، وكانت هذه السماحة والحكمة من أسباب انتشاره في المعمورة، وظهوره على الأديان كلها في أعوام معدودة، وحيث بلي بعض الشرائع من قبل، فدخلها فساد التبديل والتأويل، اشتدت عناية الشارع بتحذير الناس من أن يحدثوا في الإِسلام ما ليس منه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رَدّ" (2) وقال: "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (¬2). ولم يخلص الدين - مع هذه الزواجر - من طوائف يلصقون به ما ينافي سماحته، أو ما يشوّه وجه حكمته، وقد كئرت هذه البدع حتى حجبت جانباً من محاسنه، وكان لها أثر في تنكر بعض القلوب لهدايته، وهذا ما حمل كثيراً من أهل العلم على أن يتناولوا البدع بالتأليف خاصة؛ كما فعل أبو بكر الطرطوشي، وأبو إسحاق الشاطبي، وغيرهما من رجال الدين. وللبحث في البدع مجال واسع، ونحن نلم في هذا المقال بالقدر الكافي لإجابة رسائل اقترح أصحابها على المجلة بيان ما هو سنّة، وما هو بدعة، ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام"- الجزآن الثامن والتاسع من المجلد الثاني، شعبان 1350 هـ. (¬2) "صحيح الإِمام البخاري".

وفي الفرق بين السنّة والبدعة، وتمييز البدعي من السني إصلاح كبير. * السنَّة: معنى السنّة في أصل اللغة: الطريقة، حسنة كانت أم سيئة، وقد تطلق على ما يقابل القرآن، فيراد بها: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعلُه وتقريره، ويطلقها الفقهاء على ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه مما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم- وواظب عليه، وتطلق على ما يقابل البدعة، فيراد بها: ما وافق القرآن، أو حديث النبي - عليه الصلاة والسلام - من قول أو فعل أو تقرير، وسواء كانت دلالة القرآن أوالحديث على طلب الفعل مباشرة، أو بوسيلة القواعد المأخوذة منهما، وينتظم في هذا السلك: عمل الخلفاء الراشدين، والصحابة الأكرمين؛ للثقة بأنهم لا يعملون إلا على بينة من أمر دينهم. قال عمر بن عبد العزيز: "سنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاةُ الأمور بعده سنناً، الأخذُ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها مهتدٍ، ومن خالفها، اتبع غير سبيل المؤمنين". أما دلالة القرآن، أو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن الأمر مشروع، فواضحة، ولا شأن للمجتهد في صيغ الأوامر إلا أن يتفقه فيها حتى يحملها على الوجوب أو الندب، ويتدبر أمرها فيما إذا عارضها دليل آخر؛ ليقضي بترجيح أحدهما على الآخر، أو يفصل في أن هذا ناسخ لذاك، وطرق الترجيح أو الحكم بالنسخ مقررة في كتب الأحكام. والذي يستدعيه البحث في هذا المقال: أن نحدثك عن فعله - عليه الصلاة والسلام - وإقراره، حتى تعلم الضرب الذي كان لنا فيه أسوة حسنة، وسنّة قائمة:

من أفعاله - عليه الصلاة والسلام - ما يصدر عن وجه الجبلّة أو العادة؛ كالقيام والقعود والاضطجاع، والأكل والشرب واللبس، وهذا الضرب غير داخل فيما يطلب فيه التأسي، وغاية ما يفيده فعله - عليه الصلاة والسلام - لمثل هذه الأشياء: الإِباحة، فإذا جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قام في مكان أو زمان، أو ركب نوعاً من الدواب، أو تناول لوناً من الأطعمة، أو لبس صنفًا من الثياب، فلا يقال فيمن لم يفعل شيئاً من ذلك: إنه تارك للسنّة. ومن أفعاله - عليه الصلاة والسلام - ما علم اختصاصه به؛ كالوصال في الصوم، والزيادة في النكاح على أربع، ولا نزاع في أن مثل هذا ليس محلاً للتأسي، وما كان لأحد أن يقتدي به فيما هو من خصائصه. ومنها: ما عرف كونه بياناً للقرآن؛ كقطعه يد السارق من الكوع بياناً لقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وحكم الاقتداء به في هذا حكم المبين من وجوب أو استحباب. ومنها: ما لم يكن جبليّاً, ولا خصوصية، ولا بياناً، وهذا إذا علمت صفته في حقه - عليه الصلاة والسلام - من وجوب أو ندب أو إباحة، فأمته متابعة له في الحكم؛ إذ الأصل تساوي المكلفين في الأحكام. فإن فعل - صلى الله عليه وسلم - أمراً، ولم يقم دليل خاص على أنه فعله على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة، فهذا إما أن يظهر فيه معنى القربة؛ كافتتاحه الرسائل بكلمة: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، فيحمل على أقل مراتب القرب، وهو الندب، وإما أن لا يظهر فيه معنى القربة، فيدل على أنه مأذون فيه، ومن أهل العلم من يذهب به مذهب المندوب إليه؛ نظراً إلى أنه - عليه السلام - مشرعّ، فالأصل في أفعاله التشريع، ومثال هذا: إرساله - عليه الصلاة والسلام -

شعر رأسه الشريف إلى شحمة الأذن، وهو عمل لا يظهر فيه معنى القربة، ولكن بعض أهل العلم؛ كالقاضي أبي بكر بن العربي، وأبي بكر الطرطوشي جعلوه من مواضع الاقتداء، ورأى آخرون أن هذا محمول على العادة، فإذا جرت عادة قوم بنحو الحلق، فلا يوصفون بأنهم تركوا ما هو سنّة. ومما يشبه إرسال الشعر إلى الأذن: إرساله - عليه الصلاة والسلام - ذؤابة من العمامة، وهي المسماة: "العذبة"، وقد ورد في حديث عمرو بن حريث في فتح مكة: "كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه" (¬1)، وحديث ابن عمر: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتم، سدل عمامته بين كتفيه (¬2). وإذا كان إرسال ذؤابة من العمامة مما لا يظهر فيه معنى القربة، يكون موضعًا لاختلاف أهل العلم، فمنهم من يجعله من قبيل ما يتأسى به، وإلى هذا يجنح أبو بكر بن العربي، وقد روى الترمذي عن ابن عمر، وسالم، والقاسم: أنهم كانوا يفعلونه. ومنهم من يراه من قبيل العادة، فلا يعد المتعمِّم من غير عذبة تاركًا لسنّة، وهذه وجهة نظر من لم يكن يرسل العذبة من السلف، قال الإمام مالك: إنه لم ير أحداً يفعله إلا عامر بن عبد الله بن الزبير (¬3). وقد يتقارب الحال في بعض الأفعال، فلا يظهر جلياً أهو عادة، أم شريعة؟ فتتردد فيه أنظار المجتهدين؛ نحو: جلسة الاستراحة عند قيامه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم. (¬2) أخرجه الترمذي، والنسائي. (¬3) باب: العمائم في "فتح الباري".

للثانية أو الرابعة، فذهب بعضهم إلى أنه لم يفعلها على وجه القربة، فلا تدخل في قبيل السنّة، وعدّها طائفة فيما يستحب من أعمال الصلاة. ومما لم يظهر فيه معنى القربة: تقديم اسمه - عليه الصلاة والسلام - في الرسائل على اسم المرسل إليه، ولهذا لم يحافظ عليه بعض السلف محافظتهم على ما يفهمون فيه معنى القربة، فأجازوا تأخير اسم المرسل على اسم المرسل إليه، وسئل الإمام مالك عن ذلك، فقال: لا بأس به، بل روى أن ابن عمر - وهو من أشد الناس محافظة على السنّة - قد كتب إلى معاوية، ثم إلى عبد الملك بن مروان، وقدم اسميهما على اسمه (¬1). * تركه: وكذلك يفصل القول في تركه - عليه الصلاة والسلام - لبعض الأشياء، فما يتركه من أجل كراهته له جبلَّة؛ كما امتنع من أكل الضب، ولما قال له خالد بن الوليد: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه" وليس تركه - صلى الله عليه وسلم - للشيء على هذا الوجه من مواضع التأسي، وشاهده أن خالدًا - رضي الله عنه - سمع هذا الجواب، وما لبث أن جرّ إليه الضب، فأكله. ويجري على هذا النحو ما يتركه - صلى الله عليه وسلم - لتحريم يختص به؛ كتركه أكل الثوم وما شاكله من كل ذي رائحة كريهة، فلغيره من المسلمين تناوله، ولا يكون بتناوله هذا خارجاً عن حدود قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح.

فإن لم يكن تركه - عليه الصلاة والسلام - من ناحية الجبلّة، ولم يثبت أنه كان لمنع يختص به، فإن علم حكم هذا الترك في حقه من حرمة أو كراهة، كانت الحرمة أو الكراهة شاملة لأمته؛ بحجة أن الأصل عدم الخصوصية، فإن ترك - عليه الصلاة والسلام - أمراً، ولم يعلم حكم هذا الترك، دلّ على عدم الإذن: في الفعل. وأقل مراتب عدم الإذن: الكراهة، فيحمل عليها حتى يقوم الليل على ما فوقها، وهو التحريم. وإذا ترك - صلى الله عليه وسلم - الأمر لمانع من الفعل يصرح به، أو يفهمه المجتهد بطريق الاستنباط، ثم يزول هذا المانع، فإنه يصح النظر بعد في أمر المتروك، ويجري حكمه على ما تقتضيه أصول الشريعة؛ كما ترك - صلى الله عليه وسلم - صلاة القيام في رمضان جماعة، وذكر أن المانع من استمراره عليها: خوف افتراضها عليهم، ولما انقطع الوحي بانتقاله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، ارتفع المانع من صلاة التراويح جماعة؛ وهو خوف الافتراض، فلم يبق في تركها موضع للتأسي، ولذلك رجع بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الأصل الذي هو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لها في جماعة. ومن هذا الباب: تركه - صلى الله عليه وسلم - لقتل حاطب بن أبي بلتعة حين اطلع له على كتاب أرسله إلى قريش يخبرهم فيه ببعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال ردًا على عمر بن الخطاب إذ قال له: دعني أضرب عنق هذا المنافق: "إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعلّ الله اطلع على من شهد بدراً، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" (¬1)، ففي ظاهر الحديث تعليل عدم قتله بشهوده واقعة بدر، فمن لم تتحقق فيه هذه المزية ممن يتجسسون على المسلمين، ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري".

ويبلغون أخبارهم للمحاربين، يبقى أمره موكولاً لاجتهاد الإمام؛ ليجازيه بما تقتضيه المصلحة، ولو بالإعدام، وهذا ما يقوله إمام دار الهجرة مالك ابن أنس - رحمه الله -. وإذا ترك - صلى الله عليه وسلم - أمراً لم يظهر في عهده ما يقتضي فعله، ثم طرأ حال يجعل المصلحة في الفعل، ارتفع طلب التأسي في الترك، وأصبح ذلك الأمر مجالاً لنظر المجتهد، حتى يفصل له حكماً على قدر المصلحة الداعية إلى فعله. ومثال هذا: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يجمع القرآن في مصحف؛ إذ لم يظهر في عهده ما يدعو إلى هذا الجمع، ولكن كثرة من قتل في حرب أهل الردة من القرّاء أثارت الخوف على القرآن من الضياع، ورأى الخليفة الأول صحة الجمع لهذا المقتضى الذي لم يكن في عهد الوحي قائماً. ولا يدخل في الترك الذي نتحدث عنه عدم فعله - صلى الله عليه وسلم - لأمور لم تكن وسائلها قد تهيأت، ولا الفنون التي يتوقف عليها إنشاؤها قد ظهرت، فلا يخطر على البال أن نمنع من وضع آلات تعرف بها الأوقات في المساجد، ونستند في هذا المنع إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل هذا في مسجده الشريف. وليس من الفقه أن نرد الخبر بثبوت شهر رمضان يأتي على طريق البرق أو المسرّة (¬1)؛ بدعوى أن الأخذ به مخالف للسنّة؛ إذ لم يأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في إثبات الشهر إلا بشهادة يؤديها من في حضرته. وإنما يعد مثل هذا من قبيل المسكوت عنه، فلأهل العلم أن يتناولوه بالاجتهاد، ويلحقوه بالأصل الذي يصح تطبيقه عليه. ¬

_ (¬1) المسرة: الهاتف.

والترك الذي يدل على عدم الإذن هو ما يروى في لفظ صريح؛ كتركه - عليه الصلاة والسلام - الأذان والإقامة ليوم العيد، وتركه غسل شهداء أحد، والصلاة عليهم. ويلحق بهذا: تركه الذي لم ينقل بلفظ صريح، ولكنه يفهم من عدم نقلهم للفعل الذي شأنه أن تتوفر الدواعي على نقله لو وقع. فيصح لنها أن نقول: من السنّة ترك رفع الأصوات بالذكر أمام الجنازة، ويكفي في الاستشهاد على أن السنّة ترك هذا الرفع: عدم نقلهم لفعله، وهو من الأمور التي لو فعلت، لتوفرت الدواعي على نقلها. وقد وردت أحاديث دلت على أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يتركون الأمر لمجرد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - له؛ كما ورد أنه - عليه الصلاة والسلام - خلع نعله في صلاة، فخلعوا نعالهم حتى أخبرهم بعدُ بأنه عَلِمَ من طريق الوحي أن بالنعل نجاسة (¬1). ومن شواهده: أنه كان - عليه الصلاة والسلام - اتخذ خاتماً من الذهب، فاتخذوا خواتيم من ذهب، ثم نبذه، وقال: "إني لن ألبسه أبدًا" بها، فنبذوا خواتيمهم (¬2). ومن عرف مسابقة الصحابة - رضي الله عنهم - إلى الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى في ترك المكروه، لم يجد في أمثال هذا الحديث دليلاً كافيًا على أن تركه -عليه الصلاة والسلام - للشيء، يحمل على أشد مراتب النهي، وهو التحريم. وحرمة استعمال خاتم الذهب مأخوذة من الأحاديث الدالة على حرمة استعمال الذهب زينة للرجال. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد، وأبو داود. (¬2) صحيح الإمام البخاري.

* تقريره: من مقتضى ما تقرر من عصمته - صلى الله عليه وسلم -، وأمانته في التبليغ: أن لا يقر أحداً على أمر غير مأذون فيه شرعاً، فيكون إقراره للأمر دليلاً على أنه لا حرج في فعله، سواء شاهده بنفسه فسكت، أو بلغه فلم ينكره. وما لا حرج فيه يشمل: الواجب، والمندوب، والمباح، فيحمل على أقل مراتبه، وهو الجواز، حتى يقوم الدليل على الندب أو الوجوب، ولا يدل الإقرار على جواز الفعل في حق من أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده، بل يكون الجواز حكماً شاملاً لجميع المكلفين؛ أخذًا بالأصل الذي هو استواء الناس في أحكام الشريعة. فليس لأحد أن يعد اللعب في المسجد بالسلاح تمرينًا على الحرب أمراً مخالفاً للسنّة، بعد أن ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر الحبشة على اللعب في مسجده بالحراب. وليس لأحد أن ينكر على المعتدة عدة وفاة إذا خرجت للاستفتاء، بعد أن ثبت أن قريعة بنت مالك خرجت بعد وفاة زوجها تستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موضع العدة، فقال لها: "امكثي حتى تنقضي عدتك"، ولم يتعرض لخروجها بإنكار. ويتصل ببحث السنّة مسألتان جرى فيهما اختلاف علماء الشريعة: إحداهما: ما يقوم الدليل على أنه سنّة، ثم يتهاون فيه الناس، ولا يحتفظ به إلا فريق عرفوا باسم المبتدعة من ناحية اعتقاد أو عمل. وقد ذهب بعض الفقهاء إلى ترك هذه السنة احتراساً من التشبه بالمبتدعة. وضرب المثل لهذا بتسطيح القبور، والتختم باليمين، والحق أن محافظة بعض المبتدعة على سنّة حتى تفسير شعاراً لهم لا يخرجها عن حقيقة السنّة، ولا يزال خطاب الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيها متوجهاً إلى أولئك الذين تركوا السنّة حتى يعودوا إليها.

ثانيهما: ما يخشى من فعله اعتقاد العامة لوجوبه؛ فقد راعى بعض الأئمة مفسدة اعتقاد العامة لوجوب ما هو مندوب إليه؛ كما ذهب الإِمام مالك إلى كراهة صوم ستة أيام من شوال، مع صحة الحديث الوارد في فضله؛ خشية أن يعتقد العامة وجوبها. قال أبو إسحاق الشاطبي: والذي خشي منه مالك وقع في المعجم، فصاروا يتركون المسحرين على عادتهم والبواقين. وكذلك قال أبو إسحاق المروزي من أصحاب الإِمام الشافعي: لا أحب أن يداوم الإِمام على مثل أن يقرأ كل يوم جمعة بسورة الجمعة ونحوها؛ لئلا يعتقد العامة وجوبه، والجمهور لا يقيمون للخوف من اعتقاد العامة وزنًا. والتبعة في مثل هذا على أهل العلم؛ إذ هم المطالبون بتعليم الناس آداب دينهم، وهدايتهم إلى سبيل ربهم، وانظروا إلى ما صنع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين قبّل الحجر الأسود، وقال: "إني أعلم أنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبّلك، ما قبّلت" (¬1)؛ فقد جمع بين الأخذ بالسنة، ودفع ما عساه يخطر في أذهان العامة من اعتقاد فاسد. * البدعة: البدعة في اللغة: الأمر المحدث على غير مثال، محموداً كان الأمر أم مذموماً، ووردت البدعة في لسان الشارع، فذهب الفقهاء في الحديث عنها مذهبين: أحدهما: مذهب من يتوسع في معناها، فيحملها على ما أحدث بعد ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري".

عهد النبوة، سواء أكان راجعاً إلى العبادات، أم المعاملات، وسواء أكان حسناً، أم قبيحاً. قال الإِمام الشافعي - رضي الله عنه -: المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أحدث يخالف كتاباً، أو سنّة، أو أثراً، أو إجماعاً، فهذه البدعة الضلالة. والثاني: ما أحدث من الخير، وهذه محدثة غير مذمومة. وعلى هذه الطريقة جرى عز الدين بن عبد السلام؛ إذ قسم البدعة إلى: واجبة؛ كوضع علم العربية وتعليمه، ومندوبة؛ كإقامة المدارس، ومكروهة؛ كتزويق المساجد، ومحرمة؛ كتلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي، ومباحة؛ كوضع الأطعمة على الموائد ألواناً. ثانيهما: مذهب من يفسر البدعة بالطريقة المخترعة على أنها من الدين، وليست من الدين في شيء، فهي مذمومة في كل حال، ولا يدخل في حقيقتها واجب أو مندوب أو مباح، وعلى هذا المعنى ورد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وكل بدعة ضلالة"، وهذا ما يريده الإِمام مالك - رضي الله عنه - في قوله: "من ابتدع في الإِسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ". وأصحاب هذه الطريقة يحملون قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في صلاة التراويح: "نعمت البدعة هذه" على معنى: البدعة في اللغة؛ كما أن أصحاب الطريقة الأولى يذهبون في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" (¬1) إلى أن المراد من المحدثة والبدعة: نوع خاص من المحدثات والبدع، وهو ما كان مخالفاً للكتاب والسنّة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم.

والابتداع إما إحداث أمر في الدين غير مشروع من أصله؛ كصلاة الرغائب في رجب، وصلاة ليلة عاشورإء. وإما زيادة على أمر مشروع؛ كالذكر يقرن بالرقص في حركات متطابقة. وإما نقص من المشروع؛ كالذكر باسم مفرد في رأي من يعده بدعة؛ نظراً إلى أن الوارد إنما هو ذكر الله بلفظ مركب مفيد. وإما تحويل المشروع عن موضعه؛ كتقديم خطبة العيد على صلاته. ويدخل في البدع: كل عمل استند صاحبه في ابتداعه إلى حديث موضوع؛ كالرقص في حال الذكر الذي يروي فيه فاعلوه حديثاً موضوعًا هو: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تواجد، واهتز حتى سقط الرداء عن منكبه"، أما الحديث الضعيف يدل على فضل عمل خاص، فينفي عن العمل اسم البدعة، بشرط أن لا يكون ضعيفاً جداً، وأن يشهد لما رغب فيه من العمل أصل عام من أصول الشريعة. ويدخل في البدعة: ترك المأذون فيه على وجه التدين، وتسمى: البدعة التَّرْكية، وقد سدّت الشريعة الطريق دون هذه البدعة إذ همّ قوم أن يقعوا في خطيئتها، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]، ولم تعدم هذه البدعة بعد نزول الآية أناساً يتعلقون بها، ويحسبون أنهم يتقربون إلى الله بالتزامها، وإنما انحدروا إليها من ناحية الزهد، وللزهد مواطن لا يدخل ترك الطيبات في حدودها. دعي الحسن البصري إلى طعام، ومعه أصحابه، وفرقد السبخي (¬1)، فمَعدوا على المائدة، وعليها ألوان من الدجاج المسمن، والفالوذج، وغير ذلك، فاعتزل فرقد ناحية، فسأل الحسن: أهو صائم؟ قالوا: لا, ولكنه ¬

_ (¬1) السبخة: موضع بالبصرة ينسب إليه فرقد؛ لأنه كان يأوي إليه.

يكره هذه الألوان، فأقبل الحسن عليه، وقال: يا فرقد! أترى لُعاب النحل بلُباب البر بخالِص السمن، يعيبه مسلم؟! ومن البدع التي يلبسها بعض المتصوفة بدعوى الزهد: أثواب ينشئونها من قطع مختلفة، وتسمى: المرقعات. قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "العارضة": إن الثوب إذا خلق منه جزء، كان طرحُ جميعه من الكِبر والمباهاة والتكاثر في الدنيا. وإذا رقعه، كان بعكس ذلك كله، ورقع الخلفاء ثيابهم. والحديث مشهور عن عمر، وذلك شعار الصالحين، وسنة المتقين. حتى اتخذه الصوفية شعاراً، فجعلته في الجديد، وإنشاء مرقعة من أصلها، وهذا ليس سنّة، بل هو بدعة عظيمة، داخل في باب الرياء، وإنما المقصود بالترقيع: الانتفاع بالثوب على هيئة البِلى. ومن أقبح البدع: ما يوضع موضع سنّة؛ كالاستخارة بنحو المصحف والسبحة بدل الاستخارة الواردة في السنّة التي هي صلاة ركعتين بالفاتحة، - وسورتي: الكافرون، والإخلاص، ثم الدعاء "اللهم إني أستخيرك بعلمك إلخ"، ولو قال إنسان لآخر عند الملاقاة: (صباح الخير)، أو (أسعد الله صباحكم) - مثلاً - في موضع: السلام عليكم، لعد صنيعه هذا من قبيل وضع المحدث مكان السنّة. غير أن الفرق بين هذا المثال وما تقدمه: أن الاستخارة بنحو المصحف والسبحة ممنوعة في نفسها. قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام" بعد أن تكلم على التعرض للغيب: فإن قيل: فهل يجوز طلب ذلك في المصحف؟ قلنا: لا يجوز؛ فإنه لم يتبين المصحف ليعلم به الغيب، إنما بينت آياته، ورسمت

كلماته؛ ليمنع عن الغيب، فلا تشتغلوا به، ولا يتعرض أحدكم له. وأما نحو: (أسعد الله صباحكم)، فإنما ينكر حيث يوضع موضع تحية الإِسلام، فلو أضيف إلى التحية الإسلامية، لم يكن إضافته إليها من بأس. ومما يفعله بعض الناس بدل حكايته الأذان والدعاء "اللهم رب هذه الدعوة التامة ... إلخ" الثابتين في الصحيح: أن يقول الشخص: "مرحبا بحبيبي وقرة عيني محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -"، ثم يقبل إبهاميه، ويجعلهما على عينيه، ولا نعلم لهذا الذي يفعلونه من سند يوثق به حتى يصح أن يقام مقام سنّة ثابتة. ولا يدخل في البدعة ما يفتي به البالغ درجة الاجتهاد، وإن خالف الجمهور، وإنما هو رأي مرجوح، وآخر راجح، إلا أن تكون الفتوى مخالفة للنص الجلي من القرآن أو السنّة، أو القواعد القاطعة، أو الإجماع؛ فإن الفتوى تكون حينئذ زلة لا يصح البقاء عليها، أو المتابعة فيها. والشاهد على ما نقول من أن الأعمال التي تستند إلى آراء اجتهادية - ولو كانت مرجوحة - لا تسمى بدعة: أن الأئمة المجتهدين يرون أقوال مخالفيهم بالنسبة إلى أقوالهم مرجوحة، ولا ينسبونهم إلى ضلال، ولا ينكرون على من يقتدي بهم في المذهب. وإجماعهم على أن حكم الحاكم يرفع الخلاف، شاهد على أن المجتهد لا يرى أن العمل يقول مخالفه بدعة، ولو كان في نظره بدعة، لما أفتى بإقراره، وهو يعلم أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فلا نسمّي الصلاة لغير الخسوف والكسوف؛ كالزلزلة، والربح الشديدة بدعة وضلالة، وصاحبها مبتدعاً ضالاً؛ لأنها مشروعة عند بعض الأئمة، وإن كانت أدلتهم فيما نرى، أو يرى الإِمام الذي تفقهنا على مذهبه،

واهية مرجوحة. نقول هذا؛ تحذيراً من قوم لم يدرسوا أصول الدين، ولم يتعرفوا مقاصد الشريعة، ولمجرد ما يتلون آية أو حديثاً، ويبدو لهم - وهم أشباه العامة- أن ما يقوله الإمام فلان، أو الأئمة الأربعة مخالف للآية أو الحديث، يعجلون إلى الإنكار، ولا يبالون أن يسموا العمل على ما ظهر لهم من أنه مخالف لنص الكتاب أو السنّة، بدعة، وصاحبها مبتدعاً. وإذا كان في أشباه العامة من يقرأ الحديث في "صحيح الإمام البخاري"، أو الإمام مسلم - مثلاً -، ولا يحسن أن يتفقه فيه على مقتضى أصول الشريعة، فيخف إلى الطعن في مذاهب الأئمة حتى ينبذها بلقب البدعة، فإن في المستضعفين من أهل العلم من يعمد إلى أعمال يبتدعها العامة مخالفة للنصوص الجلية أو القواعد القطعية، فيتطلب لها مخرجًا يبتغي بها مرضاتهم {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]. ومن أضر البدع: ما يكون إتلافاً للمال، وإنفاقاً له في غير جدوى؛ كإيقاد الشموع على قبور الأولياء بقصد القربة. ومن أجلبها للخسار: ما يعوق عن فعل خير؛ كالاستخارات غير الشرعية، فقد يتفق لفاتح المصحف أن يقع نظره على آية فيها معنى النهي- مثلاً -، فيترك الأمر، ويكون في فعله - لو استشار، أو اعتمد على الاستخارة الشرعية - خير كثير. ومن شرها: ما يفعل بدعوى القربة، ويكون في الواقع مثيراً للأهواء، مبعدًا للنفوس عن التقوى؛ كهذه الأشعار التي توصف فيها الخمور والغواني والغلمان. ولا يتحاشى فيها عن ذكر العشق والهجر والوصال والعيون والثغور والرضاب، ويتغنى بها في المجامع بزعم أنها كنايات، أو إشارات لها تعلق

بالحضرة الإلهية أو النبوية. ومن أسوأ البدع: ما يضاهي به بعض طرق المخالفين؛ كهذا الذي يدعو إليه بعض الزائغين أو المغفلين من إقامة خليفة (روحي) لا جند له ولا سلاح، ولا يملك من تنفيذ الأحكام الشرعية قليلاً ولا كثيراً، يدعو إليه الزائغون؛ لأنهم يريدون اتخاذه رمزاً لفصل الدين عن السياسة، ويدعو إليه بعض المغفلين؛ لأنهم لم ينتبهوا لسريرة الزائغين، أو لما قصد الشارع في إقامة الخليفة من مصلحة اتحاد كلمة المسلمين، وتنفيذ أحكام شريعته الغراء، وإنما يتحد المسلمون تحت راية من يحترمونه؛ لعدله، وجهاده في الحق جهادًا يطمس على أثر الباطل، وإنما يقيم أحكام الشريعة على وجهها من يكون في لسانه حجة، وفي يده قوة. ومن البدع التي جاء الإسلام ليقتلعها من منبتها: أعمال يبنيها أصحابها على زعم أنها تقي من الجن، وليس بينها وبين هذه الوقاية من صلة؛ كذبح حيوان، أو صنع طعام؛ باعتقاد أنه يجلب رضاهم، ويكون سبباً لدفع ضرر يتوهم أنه يجيء من ناحيتهم. ذكر لابن شهاب: أن إبراهيم بن هشام المخزومي أجرى عينًا، فقال له بعض المهندسين عند ظهور الماء: لو أهرقت عليها في دمًا، كان أحرى أن لا تغيض، ولا تفور فتقتل من يعمل فيها، فنحر جزائر (¬1) حتى جرى الماء مختلطًا بالدم، وأمر فصنع له ولأصحابه منه طعام. فقال ابن شهاب: أما بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يذبح للجن؟ وقد عرفت أن ترك السنّة لا يستدعي فعل بدعة، إلا أن تترك السنّة ¬

_ (¬1) جمع جزور، وهي الناقة المجزورة؛ أي: المنحورة.

على اعتقاد أن خير الدين في تركها، فيكون من قبيل البدعة التركية؛ كمن يترك الصلاة في جماعة بدعوى أن صلاته في حال انفراد أجمعُ للقلب، وأدعى للخشوع. أما من ترك السنّة لغرض دنيوي، فلا يسمى لمجرد تركه السنّة مبتدعاً، كما اعتاد الناس ترك تشميت (¬1) الرؤساء مهابة لهم، ولو حمدوا الله تعالى بعد العطاس. عطس المأمون مرة في محضر جماعة، فلم يشمته أحد، فقال لهم: لماذا لم تشمتوني؟ قالوا: هبناك، فقال: لا خير في مهابة تحرمني من رحمة الله. وإنما أمات هذه السنّة في مجالس الرؤساء استنكاف بعضهم من الرد على من يشمتهم، وما كان لهم أن يستنكفوا. وإذا كانت البدع تشوه وجه الدين الحنيف في نظر من يجهلون حقائقه، فضلاً عما تجره من المفاسد العظيمة والمآثم، فمن الواجب على أهل العلم أن يحاربوها بما استطاعوا، وعلى القوة الحاكمة أن تشد أزرهم في تغييرها. وكثير من البدع لا تقتلع عروقها، ويطمس على آثارها إلا أن تتعاضد القوتان العلمية والتنفيذية على إماتتها. قال عز الدين بن عبد السلام في رسالة (¬2) أنكر فيها بدعة صلاة الرغائب: "ولما صح عند الملك الكامل -رحمه الله - أنها من البدع المفتراة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أبطلها من الديار المصرية، فطوبى لمن تولى شيئاً من أمور المسلمين، فاعان على إماتة بدعة، أو إحياء سنّة". ¬

_ (¬1) تشميت العاطس: الدعاء له. (¬2) أوردها ابن السبكي في "طبقات الشافعية" (ج 4 ص 105).

الرؤيا ليست طريقا للأحكام الشرعية

الرؤيا ليست طريقاً للأحكام الشرعية (¬1) كثيرُ من المرائي ينشأ من انطلاق المخيلة، وسيرها في غير نظام حيث تعطل الحواس، ويفقد التنبه، ولا يبقى للإرادة سلطان على تنظيم حركة التفكير. وقد تنشأ عن تعلق النفس بالشيء في حال اليقظة، وكثرة تفكيرها فيه، وربما نشأت عن أمر تنفعل له الأعصاب؛ كأن يقرع صوت الموسيقى أذن النائم، فتضطرب أعصابه، وتجري في مخيلته صور من خواص الموسيقى، فيرى نفسه في مجتمع سرور أو عرس. وجميع هذا من قبيل أضغاث الأحلام، لا يحتفل بتأويله، ولا ينبغي الالتفات إليه. وفي المرائي ما يكون من قبيل الإلهام، فيدل على بعض المعاني دلالة صحيحة، وقد دل على وجود هذا القسم: القرآن، والسنّة الصحيحة والتجارب التي لا تقف عند نهاية، بل دل القرآن على أن صدق الرؤيا قد يتحقق في رؤيا غير المؤمنين، ومن شواهد هذا: رؤيا عزيز مصر التي عبرها يوسف - عليه السلام - ووقعت على نحو ما عبرها. ولما كان في المرائي المنامية ما هو من هذيان المخيلة، سقطت الرؤيا عن درجة الاعتبار، ولم يكن لها في مآخذ الأحكام الشرعية موضع. ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء الثالث من المجلد الثالث، ربيع الأول 1351 هـ.

قرر أبو إسحاق الشاطبي: أن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - طريق من طرق الوحي الصادق، ثم قال: "وأما أمته، فكل واحد منها غير معصوم، بل يجوز عليه الخطأ والغلط والنسيان، ويجوز أن تكون رؤياه حلماً؛ وكشفه غير حقيقي، وإن تبين في الوجود صدقه، واعتيد ذلك فيه، واطرد، فإمكان الخطأ والوهم بأن. وما كان هذا شأنه، لم يصح أن يقطع به حكم". وإنما كانت رؤيا الأنبياء وحياً؛ لأنهم معصومون من أن يتمثل لهم الباطل في صورة الحق، ولم يجعل الله للشيطان أو الخيال عليهم من سبيل. هذه نظرة في أصل الرؤيا، فإن ذكر الرجل أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، وأمره بأمر يخالف ما جاء في شريعته، أو أخبره بشيء يخالف ما يعلمه في اليقظة، فليس له التمسك بهذه الرؤيا، بل يأخذ بما جاء في الشريعة الغراء، ويبني على ما يعلمه في اليقظة. فإن قيل: إن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام حق؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من رآني في المنام، فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتخيل بي"، فيكون ما يأمر به أمراً حقاً، وما يخبر به خبراً صدقاً. قلنا: إن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم قد تكون لمثاله الصادق؛ كرؤيا الصحابي الذي رآه في اليقظة، فانطبع مثاله في نفسه، أو رؤيا من درس صفاته المنقولة في الكتب، فارتسمت منها في نفسه صورة مطابقة، أما رؤياه على غير هذا الوجه، فمحتمل لأن يكون من قبيل تخيل الشيطان، ثم إن رؤيا مثاله الصادق - وإن كانت حقاً - لا يصح الاستناد إليها في حكم شرعي؛ لاحتمال الخطأ والغلط في ضبط المثال في النوم. قال الزركشي في "البحر المحيط": "والصحيح أن المنام لا يثبت حكماً

شرعياً، ولا ينفيه، وإن كانت رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - حقاً، والشيطان لا يتمثل به، ولكن النائم ليس من أهل التحمل والرواية؛ لعدم تحفظه". والخلاصة: أن من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - على صورة غير مطابقة لشمائله الواردة في اللصحيح، فرؤياه هذه ليست هي الرؤيا التي وصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها حق، فضلاً عن أن تكون مأخذ حكم شرعي. فإن كانت مطابقة لما ورد في شمائله، فهي حق، ويؤخذ بها في نحو التحذير من عمل عرف من دلائل الشريعة أنه سيئ، أو الترغيب في عمل قام الدليل في اليقظة على أنه صالح. فالعمل الذي يذكر الإنسان أنه تلقنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، يعرض على دلائل الشريعة، ويوزن بمقاييسها، ويقضى فيه بأصولها؛ ويدخل في هذا الباب: صيغ التسبيح والتهليل؛ فيؤخذ فيها بما يرويه علماء السنّة، وتسعه أدلة الشريعة المتلقاة عنه - عليه الصلاة والسلام - في حال اليقظة. وليس من المقبول أن يكون في بعض صيغ الأذكار المتلقاة في المنام فضل لا يوجد في الصيغ التي تلقاها الصحابة - رضي الله عنهم - في حال اليقظة.

وجوب العمل بالحديث الشريف

وجوب العمل بالحديث الشريف (¬1) كبر على الطائفة التي تظهر الإِسلام، وتخفي الإلحاد، أن يعلنوا إنكار القرآن الكريم، وهو الثابت بالتواتر ثبوتًا لا تحوم حوله شبهة، فذهبوا في تأويله مذهبًا يوافق أهواءهم، ويقضي ماَربهم، ولو خذلتهم قوانين اللغة، وتبرأت منهم أساليب بلاغتها، ثم قصدوا إلى هدم الشريعة من ناحية أخرى، هي: ناحية سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنكروا وجوب العمل بالحديث، ولفّقوا لإِنكارهم شبهاً هي أحقر من لا شيء. قال أبو نصر بن سلام: ليس شيء أثقل على الإلحاد، ولا أبغض إليها من سماع الحديث، وروايته وإسناده. ونحن نقصد في هذه المحاضرة على تفنيد ما يقوله أولئك المخادعون، ونقيم الحجّة على أن إنكار العمل بالأحاديث النبوية الصحيحة إنما نشأ عن زيغ في العقيدة، فنقول: الحديث الوارد في تقرير حكم شرعي يأتي على ثلاثة أوجه: أولاً: ما يكون موافقاً للقرآن من كل وجهة، فيكون توارد القرآن والحديث على الحكم الواحد من قبيل تظافر الأدلة، وهذا الوجه من التأكيد ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الثالث عشر، ذو القعدة 1359.

يدل على شدة عناية الشارع بذلك الحكم. ثانياً: ما يكون بياناً لما جاء مجملاً في القرآن، فيتعين الأخذ بهذا البيان متى ورد في الصحيح؛ إذ لا بيان بعد بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالله تعالى يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. ومثال هذا: الأحاديث المفصلة لأحكام الصلاة أو الزكاة أو الصيام. ثالثاً: ما يوجب حكماً لم يفهم إيجابه من القرآن؛ كحديث رجم الزاني المحصن، أو يحرم حكماً لم يفهم من القرآن تحريمًا؛ كحديث تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في عصمة، وحديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". وهذا النوع من الأحاديث هو الذي نريد بحثه في هذه المحاضرة لوجه خاص. الحديث الشريف إن قرر حكماً سكت عنه القرآن، وجب الأخذ به لأنّ؛ السنّة أصل مستقل بالتشريع، وإن كانت رتبتها دون رتبة القرآن. ولنا على هذا أدلة من القرآن والسنّة، وعمل الخلفاء الراشدين، وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم -. أما القرآن، فقد قال الله تعالى فيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وهذه الآية بأخذ كل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أمر، والبعد عن كل ما نهى عنه، سواء أكان أمره أو نهيه بياناً لمجمل القرآن، أم تقريراً لحكم سكت القرآن عنه. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، والأمر بإطاعته بعد الأمر بإطاعة الله يشمل ما أمر به أو

نهى عنه من أشياء لا يفهم الأمر بها أو النهي عنها من القرآن الكريم. وقال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. توعدّت الآية من يخالفون أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإصابة الفتنة أو العذاب الأليم، فيتناول هذا الوعيد كل من خالف أمره - عليه الصلاة والسلام -، ولا فرق بين أن يكون أمره موافقاً للقرآن، أو مقررًا لحكم لم يدل عليه القرآن، فقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} [النساء: 59]. والظاهر من تفسير الآية: أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إليه في حال حياته، وإلى سنّته بعد مماته. وأما السنّة، فمنها: قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث في "صحيح الإمام البخاري" - رضي الله عنه -: "فإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم". وأما عمل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم -، فقد جرى على الاستدلال بسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أمر لم يخالف فيه أحد منهم، فمحاورة أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - في قتال مانعي الزكاة، إنما كانت تدور على التفقه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها". فعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: أموالهم وأنفسهم معصومة؛ لأنهم يقولون لا إله إلا الله، وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ينظر إلى قوله: "إلا بحقها"، فيقول: لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال. وقد عمل الصحابة برواية أبي بكر لحديث: "نحن معاشر الأنبياء

لا نورث"، وروايته لحديث: "الأنبياء يدفنون حيث يموتون"، وعملوا برواية عبد الرحمن بن عوف بحديث: "أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزية من المجوس". أما قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فالمراد منه: أن القرآن أرشد إلى أحكام كل الوقائع، إما بتفصيل منه مباشرة، وإما بالتنبيه لما يؤخذ منه حكم الواقعة بتفصيل، كما نبّه على أن من مصادر التشريع: سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وقد روى ابن عبد البر في كتاب "جامع بيان العلم وفضله": أن امرأة من بني أسد أتت عبد الله بن مسعود، فقالت له: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، والواشمة والمستوشمة، وإني قرأت بين اللوحين، فلم أجد الذي تقول، فقال لها: -أي: عبد الله بن مسعود-: أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}؟ قالت: بلى، قال: فهو ذاك. وروى ابن عبد البر أيضاً: أن عبد الرحمن بن يزيد رأى محرماً عليه ثياب، فنهاه، فقال المحرم: ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي، فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. ومن أهل العلم من ذهب إلى أن الأحاديث الواردة في أحكام يبدو لنا أن القرآن سكت عنها، إنما هي مبينة لما دل عليه القرآن، غير أن دلالة القرآن على الحكم قد تقصر دونها أفهامنا, ولا يدركها إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورووا عن بعض السلف آثاراً ظاهرة في هذا الوجه الذي اختاروه، كما رووا عن سعيد بن جبيرة أنه قال: ما بلغني حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على

وجهه، إلا وجدت مصداقه في كتاب الله (¬1). وقالت طائفة: إن السنّة لا تستقل بتشريع الأحكام، وإنما يقبل منها ما كان موافقاً للقرآن، ويسوق هؤلاء حديثاً هو: "ما أتاكم عني، فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله، فأنا قلته، وإن خالف، فلم أقله". وهذا الحديث موضوع، قال عبد الرحمن بن المهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا حديث: "ما أتاكم عني، فاعرضوه على كتاب الله ... " وكذلك قال يحيى بن معين: إن هذا الحديث موضوع، وضعه الزنادقة. وقد عارض هذا الحديث قوم، فقالوا: عرضنا هذا الحديث الموضوع على كتاب الله، فخالفه؛ لأنّا وجدنا في كتاب الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وإذا وجد حديث غير ثابت، يتشبث به من يتهالكون على هدم أركان التشريع الإسلامي، فان الأدلة من القرآن والسنّة قد تدفقت تدفق السيل الجرّار على أن ما صح من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب الوقوف عنده، والعمل به على النحو الذي يهدي إليه العلم بمقاصد الشريعة، والإِلمام بوجوه دلالات الألفاظ العربية وأساليب بلاغتها. وقد وجدنا فيما روي من الأحاديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى هذه الطائفة التي تزعم أن التشريع مقصور على القرآن الكريم. وروى الحافظ ابن عبد البر في هذا المعنى أحاديث وصلت أسانيدها بثلاثة من الصحابة: المقدام بن معد يكرب، وجابر بن عبد الله، وأبي رافع. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم.

وحديث المقدام بن معد يكرب: "يوشك رجل منكم متكئاً على أريكته يحدّث بحديث عني، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال، استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام، حرّمناه، ألا وإن الذي حرّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مثلُ الذي حرّم الله" (¬1). وإذا أقمنا هذا الحديث أمام ذلك الحديث الموضوع، ورجعنا إلى الحجج الدالة دلالة قاطعة على أن السنّة أصل يستقل بالتشريع، عرفت أن منكر العمل بالحديث النبوي إنما هو خارج من دائرة الدين، أو ضالّ عن سبيله بجهالة. ¬

_ (¬1) انظر: "جامع بيان فضل العلم وأهله" لابن عبد البر.

أسباب وضع الحديث

أسباب وضع الحديث (¬1) إذا كان في الكذب على عامة الناس قبح شديد، وفساد كبير، فإن الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد قبحًا، وكبر فساداً؛ فإنه ينقص من حكمة الدين، أو يقلب بعض حقائقه، وشر القول ما يفسد على الناس أمر دينهم، ولدرء هذا الفساد على ساحة الشريعة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار"، وقد بلغ هذا الحديث من حيث معناه مبلغ التواتر، حتى قال السيوطي: روى هذا الحديث أكثر من مئة من الصحابة - رضي الله عنهم -. وقد اختلف العلماء في حكم الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذهب الجمهور إلى أنه معصية كبرى، وذهب بعضهم - كأبي محمد الجويني والد إمام الحرمين- إلى أن من تعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكفر كفراً يخرجه عن الملّة. والصواب ما ذهب إليه الجمهور. ومع شدة هذا الوعيد قد دخل الوضع في الأحاديث لأغراض شتى. وضع الزنادقة أحاديث تناقض المحسوس، أو تصادم القواعد العلمية الصحيحة؛ ليدخلوا الريبة في نفوس ضعفاء الأحلام؛ كحديث: "الباذنجان شفاء من كل داء" فقد ذكر مُلاّ علي قاري: أنه من وضع الزنادقة، ومن ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد السادس، رجب 1352 هـ.

هؤلاء الزنادقة: محمد بن سعيد الشامي، ومن موضوعاته: أنه جاء إلى حديث: "أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي" وزاد فيه: "إلا أن يشاء الله". وقد يضع بعضهم أحاديث؛ ليأخذ بها الناس إلى نحلته أو ملته؛ كحديث: "لو أحسن أحدكم ظنّه بحجر، لنفعه"، فقد قال ابن القيم: هو من كلام عباد الأصنام الذين يحسنون ظنهم بالأحجار، وقال ملّا علي قاري: إنه من وضع المشركين عباد الأوثان. وقد يخترع بعض أصحاب الأهواء أحاديث يؤيدون بها مذاهبهم؛ كما قال بعض من كان على مذهب الخوارج، ثم تاب: "إن هذه الأحاديث دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم؛ فإنا كنا إذا هوينا أمراً، صيّرناه حديثاً". ومن أسباب وضع الحديث: قصد التقرب من بعض الرؤساء، مثلما صنع غياث بن إبراهيم حين رأى المهديّ معجبًا بالحَمام، فروى له حديث: "لا سبقَ إلا في خف، أو حافر، أو نصل"، وزاد فيه: "أو جناح"، فأدرك المهدي كذبه، وأمر بذبح الحمام. ودخل الإِمام ابن شهاب الزهريّ على الوليد بن عبد الملك، فسأله عن حديث: "إن الله إذا استرعى عبدًا الخلافة، كتب له الحسنات، ولم يكتب له السيئات"، فقال له: هذا كذب، ثم تلا ابن شهاب قوله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] , فقال الوليد: "إن الناس ليغروننا عن ديننا". ومن أسباب الوضع: الغلو في الحب والتشيّع؛ كالأحاديث الموضوعة في فضل الإمام علي - كرم الله وجهه - أو معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، وغيرهما،

ومن هذا القبيل: الأحاديث الواردة في فضل بعض البلاد؛ كفاس، ومصر، وعسقلان. وربما كان الباعث على الوضع: داعية بغض أو حسد؛ كما وضع سعد بن طريف حديث: "معلمو صبيانكم شراركم" حين رأى ابنه يبكي، وقال له: ضربني المعلم. ومن الدواعي إلى الوضع: ترويج ما يتعاطاه الواضع للحديث من بعض المصنوعات؛ كحديث "أتيت بهريسة فأكلتها، فزادت في قوتي ... إلخ"، فقد وضعه محمد بن الحجّاج اللخمي، وكان صاحب هريسة، وغالب طرق الحديث يدور عليه، ثم سرقه منه كذابون آخرون. وقد يضع الحديث بعض الأغبياء؛ للحث على خير، أو الكف عن شر؛ بزعم أن هذا النوع من الوضع لا يدخل في الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - المتوعَّد عليه بتبوء المقعد في النار؛ كما وضع أبو عصمة المروزي أحاديث في فضائل سور من القرآن، وقال: إني رأيت الناس أعرضوا عن القرآن، فوضعت هذه الأحاديث حسبة. وليس قصد هؤلاء لحمل الناس على عمل الخير بمنجيهم من وعيد الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد بذل علماء الحديث عنايتهم في نقد الأحاديث، وتمييز صحيحها من ضعيفها، وضعيفها من موضوعها، ففتحوا باب الجرح في الرواية"ولم يخشوا أن يكون ذلك من باب الغيبة، أو الطعن في الأعراض. قيل ليحيى بن سعيد القطان: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذي تركت حديثهم خصماء لك عند الله تعالى؟ فقال: لأن يكون هؤلاء خصمائي، أحبُّ إليّ من أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - خصمي، يقول: لم لم تَذُبَّ الكذب عن حديثي.

وقيل لشعبة: هذا الذي تتكلم في الناس، أليس هو غيبة؟ فقال: يا أحمق! هذا دين، وتركه محاباة. وقال محمد بن بندار الجرجاني لأحمد بن حنبل: إنه ليشتد عليّ أن أقول: فلان ضعيف، وفلان كذاب، فقال أحمد: إذا سكتَّ أنت، فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟. والخلاصة: أن علماء الحديث قد نقدوا الأحاديث، ووضعوا كل حديث في مرتبته، وبينوا الرواة الضعفاء الوضّاعين، فما من حديث يعرض لك إلا كان في ميسورك أن ترجع فيه إلى كتبهم، فتعرف هل هو صحيح، أو ضعيف، أو موضوع.

الحديث المتواتر وحكم مما رواه الإمامان البخاري ومسلم

الحديث المتواتر وحكم مما رواه الإمامان البخاري ومسلم (¬1) سؤال (1) - ما هي الأحاديث التي حازت درجة التواتر بالإجماع، أو ما هو أقرب إلى الإجماع؟ جواب: الحديث المتواتر: ما يرويه جمع يحيل العقل- نظراً إلى العادة- تواطؤهم على الكذب، ولا بد من تحقيق هذا الشرط في كل طبقة من ابتداء الرواية إلى من أخبروا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو فعله، أو حال من أحواله، وإذا كان ما يرويه كل واحد من الجمع هو ما يرويه الاخرون بعينه، سمّي: تواتراً لفظياً، وإذا اختلف ما يرويه الجماعة في اللفظ، ولكن أخبارهم تتوارد على معنى مشترك بينها، فهو التواتر المعنوي. وقد نفى بعض أهل العلم أن يكون في السنّة حديث متواتر تواتراً لفظياً. وقال ابن الصلاح: إنه عزيز الوجود، وذكر حديث: "من كذب عليّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار"، وقال: نراه مثالاً للتواتر اللفظي، فإنه نقله من الصحابة العدد الجم، وهو في "الصحيحين" مروي عن جماعة منهم (¬2). ولم يرتض بعض الحفّاظ ما قاله ابن الصلاح، وأورد للتواتر اللفظي ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإِسلام" - الجزء السابع من المجلد الأول، رجب 1349 هـ. (¬2) حكى النووي في "شرح مسلم": أنه ورد عن مئتي صحابي، منهم العشرة.

أحاديث كثيرة: منها: حديث: "نضر الله أمرأً سمع مقالتي فوعاهاها"، وحديث: "نزل القرآن على سبعة أحرف"، وحديث الشفاعة، وحديث الحوض، وحديث رؤية الله في الآخرة. ومما أوردوه مثالاً للتواتر المعنوي: حديث رفع اليدين في الدعاء؛ فقد روح فيه نحو مئة حديث، ولكنها في وقائع مختلفة، فكل واقعة منها لم تتواتر، إلا أن القدر المشترك فيها - وهو الرفع - متواتر بالنظر إلى مجموعة الروايات. ولا يضر أن لا تكثر في الشريعة الأحاديث المتواترة تواتراً لفظياً؛ لأن التواتر المعنوي يكفي في الاحتجاج على ما يرجع إلى العلم والاعتقاد، وخبر الآحاد يكفي في الاستدلال على ما يرجع إلى الأحكام العملية. * * * سؤال (2) - هل يكفر المسلم إذا أنكر حديثاً صحيحاً أو متواتراً؟. جواب: لا يكفر منكر حديث الآحاد، ولو كان صحيحاً، ومتى كان إنكاره للحديث الصحيح عن هوى في النفس، أو تعصب لرأي، فهو فاسق آثم. وأما الحديث المتواتر، فإن جرى الخلاف في تواتره، فلا يكون منكره خارجاً عن حوزة الدين، وهو فاسق؛ كمنكر خبر الآحاد لهوى في نفسه، أو تعصب لرأيه، وإذا وجد حديث انعقد الإجماع على تواتره، وأصبح حكمه في جملة المعروف بين خاصة المسلمين وعامتهم، كان إنكاره كفراً، وهذا الحكم في إنكار كل ما أجمع المسلمون على إسناده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو هيئة، وتناقلوه جيلاً بعد جيل؛

كعدد الصلوات الخمس وركعاتها، ومناسك الحج؛ من نحو: الطواف، والوقوف بعرفة. * * * سؤال (3) - هل يمكن القول: إن كل ما في "الصحيحين"- البخاري ومسلم- من الأحاديث الشريفة على وجه القطع واليقين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. جواب: ذهب ابن الصلاح إلى أن ما رواه الشيخان: البخاري ومسلم، بإسناد متصل، أو رواه أحدهما كذلك، مقطوعُ بصحته؛ لاتفاق الأمة على تلقيهما بالقبول، والأمة لا تتفق على خطأ، وأما ما يروى فيهما معلقاً، وهو ما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر، فلا يبلغ مرتبة القطع عنده؛ كما استثني من المقطوع بصحته ما تكلم فيه من أحاديثهما، وهي مئتان وعشرون حديثاً، وقد أفرد الحافظ العراقي هذه الأحاديث بكتاب تصدى فيه للجواب عنها، وتعرض الحافظ ابن حجر في مقدمة "فتح الباري" لما طعن فيه من أحاديث "الجامع الصحيح" للإمام البخاري، ودفع ما وجه إليها من مأخذ بتفصيل. ونازع الإِمام النووي ابن الصلاح في دعوى أن ما رواه الشيخان إلا ما استثني مقطوع بصحته، وقال: إن المحققين والأكثرين يذهبون إلى أن صحة ما روياه مظنونة، إلا أن يكون متواتراً، وأما تلقي الأمة لهما بالقبول، فلأن ما روياه يفيد ظنًا، والظن كاف في تقرير الأحكام العملية، وقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، محمول على ما يرجع إلى أصول الدين؛ لأنه يقصد منها العلم واليقين، أما الأحكام العملية، فإنما تراد للعمل، فيكفي فيها الاستناد إلى ما يفيد الظن. على أن الشارع إذا جعل ظن الحكم

علامة على تقديره، كان الحكم عند وجود الظن معلوماً قطعاً، وكان العامل على هذا الحكم ممتثلاً للأمر بلا شبهة. ومزية "الصحيحين" على هذا المذهب في أن ما روي فيهما صحيح لا يحتاج إلى النظر والبحث؛ بخلاف ما يروى في غيرهما من كتب الحديث، فإنما يعتمد في الاستدلال بعد النظر في سنده ومعرفة رتبته. والحق أن في الأحاديث التي لا تبلغ مبلغ التواتر ما يأخذ حكم المتواتر في إفادة العلم، وهو ما يكون رواته من الصدق والضبط في مرتبة يطمئن بها السامع إلى روايتهم اطمئنانًا لا يخالجه تردد، فالعلم يحصل من كثرة رواة الخبر تارة، ويحصل من تحقق أمانتهم وضبطهم تارة أخرى، وجمهور ما في البخاري ومسلم من هذا القبيل، وهذا ما يسميه بعض الحفاظ: متواتراً خاصًا؛ نظراً إلى أن أهل الحديث قد يحصل لهم العلم برواية رجلين عرفا بالاستقامة والضبط ما يحصل لغيرهم من رواية جمع كثير يستحيل تواطؤهم على الكذب، ويعتبر في هذا يقول الإمام مالك - رضي الله عنه -: "إذا سمعت الخبر من نافع، لا أبالي أن لا أسمعه من غيره"، ونحن نعلم أن من أئمة الحديث من يأخذون في الرواية بما هو الأحوط، فلا يكتفون بصدق الراوي وتقواه وورعه حتى يعرف بالضبط لما يحفظ، والإتقان لما يروي، قال الإمام مالك: أدركت بالمدينة أقواماً لو استُسقي بهم القطر، لسُقوا، قد سمعوا الحديث كثيراً، وما حدَّثتُ عن واحد منهم شيئاً؛ لأنهم كانوا ألزموا أنفسهم الزهد، وهذا الشأن -يعني الحديث- يحتاج إلى رجل معه تقى وورع وإتقان، وعلم وفهم، فأما رجل بلا إتقان ولا معرفة، فلا ينتفع به، ولا هو حجّة. ونلخص القول: أن ما رواه الشيخان متصل الإسناد من طريقين فأكثر،

وتلقاه نقّاد الحديث بالقبول، يفيد العلم بصحة نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كخبر الآحاد الذي تحتف به قرائن الصدق، فلا تبقي لمتلقيه شيئاً من التردد في صحته.

اجتهاد ابن القاسم

اجتهاد ابن القاسم (¬1) سؤال: نجد في كتب الفقه مسائل يجتمع فيها قول الإِمام مالك، وقول ابن القاسم تلميذِه، فيقولون: قول مالك ضعيف، وقول ابن القاسم هو المعتمد. فهل قول ابن القاسم هذا معدود من أقوال الإِمام، أم لا؟ فإذا كان قوله استنبطه من أقوال إمامه، فكيف يصح العزو إليه، ويجعل مقابلاً لقول الإِمام، ورداً عليه؟ وإذا كان من عند نفسه، فكيف يسوغ لنا أن نترك قول إمام المذهب، وتتبع قول تلميذه؟ وكيف نجترئ ونقول: قول الإمام ضعيف، وقول تلميذه هو المعتمد، ومن اعتمد هذا، وضعف ذاك؟ الجواب: يقسم علماء الشريعة المجتهد إلى: مجتهد مطلق، وهو الذي يرجج في تقرير الحكم إلى الكتاب والسنّة، وما يرجع إليهما من الأقيسة "الصحيحة" والقواعد القاطعة، ومجتهد مذهب، وهو الذي يجري على طريقة إمامه في الاستدلال، فيراعط قواعده، وما يراه شرطاً لصحة الاستنباط. وقد جرى خلاف في ابن القاسم هل هو مجتهد مطلق، أو مقيد بطريقة الإِمام مالك في الاستدلال؟ ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء العاشر من المجلد الثاني، شوال 1350 هـ.

قال المقري: "شهدت مجلس أبي تاشفين صاحب تلمسان، فذكر فيه أبو زيد بن الإِمام: أن ابن القاسم مقلّد لمالك، ونازعه أبو موسى بن عمران، وادعى أنه مطلق الاجتهاد، واحتج بمخالفته لمالك في كثير من المسائل، وذكر منها نظائر". وكذلك استدلّ ابن عبد السلام على أن ابن القاسم مجتهد مطلق بمخالفته للإمام في كثير من الأحكام، وخالفه ابن عرفة، ونفى عنه الاجتهاد المطلق، وقال: إن بضاعة ابن القاسم في الحديث مُزجاة. والظاهر من سيرة ابن القاسم في الفتوى: أنه يجري في اجتهاده على قواعد مذهب الإمام مالك؛ فإنه كان يقول للمستفتي: سمعت مالكاً يقول كذا، أو بلغني عنه كذا، ومسألتك مثلها، وهذه طريقة مجتهد المذهب. ولا يخرجه عن مرتبة الاجتهاد في المذهب أنه يخالف الإمام مالكاً في بعض المسائل؛ كما قال فيما كان من شأن الرجل والمرأة من متاع البيت: إنه يقسم بينهما عند التنازع بعد أيمانهما؛ لاشتراكهما في وضع اليد عليه، ومذهب مالك: أنه للرجل حتى تقيم المرأة البينة؛ لأن البيت بيته. وكما قال فيمن لم يوص به الأب إلى أحد، ولم يقدم عليه الحاكم من ينظر في أمره: إنه ينظر في حاله يوم بيعه وابتياعه، فإن كان رشيداً، جازت أفعاله، وإن كان سفيهاً، لم يجز منها شيء، ومذهب مالك: أن أفعاله كلها بعد البلوغ جائزة نافذة، رشيداً كان أو سفيهاً. وكما قال فيمن قال لعبده: أنت حر، وعليك مئة دينار: هو حر، ولا يتبع بشيء. ومذهب مالك: أن العبد حر، وتبقى المئة في ذمته. فأمثال هذه المخالفة محمولة على أنه رأى ما أفتى به الإمام غير جار

على قواعده، فأفتى بما يراه المطابق لقواعد مذهب الإمام، ومقتضى هذا: أنه يرى الإمام غير مصيب في استنباط هذا الحكم الخاص، وليس في هذا غضاضة على الإمام مالك؛ فإنه لا يدعي لنفسه العصمة، ولا أن أهل العلم من أصحابه يعتقدون فيه أنه لا يخطئ في حال، وقد نقل عنه أنه قال: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيى، فما وافق الكتاب والسنّة، فخذوا به، وما لم يوافق، فاتركوه"، وإذا كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد غفل عن قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] , فأراد تحديد المهور حتى ذكرته بها امرأة، فرجع عن رأيه، فمن المحتمل أن يقع الإِمام مالك أو غيره من الأئمة في خطأ الاجتهاد، ولأصحابه من بعده أن ينقدوا فتواه، حتى إذا وجدوها غير مطابقة لقواعده، ردوها إلى أصلها، وصح من هذا الوجه نسبة الحكم الذي يقرره بعض أصحابه إلى مذهبه. وقد رجع الإمام نفسه في مسائل، فأفتى فيها بغير ما أفتى به أولاً، وهذه المسائل معروفة في كتب الفقه، وربما اعتمد أصحابه القول الذي رجع عنه، حيث يظهر لهم أنه أوضح دليلاً، وأقوم قيلاً. ومن يرى أن الاجتهاد المطلق يتجزأ، على معنى: أن في الفقهاء من يبلغ رتبة الاجتهاد في باب دون باب، وأن له أن يأخذ باجتهاده في الباب الذي استطاع فيه الاجتهاد، قد يحمل مخالفة ابن القاسم للإمام مالك على أنها من قبيل الاجتهاد في أبواب بلغ فيها رتبة الاجتهاد بإطلاق، ثم إن الفقهاء الذين جاؤوا بعد ابن القاسم، ولم يقصروا على درجة الترجيح، قد يرون في قول ابن القاسم رجحانًا، فيأخذون به، ويعدون قول الإمام تجاهه ضعيفاً. والخلاف الذي جرى في اجتهاد ابن القاسم قد جرى في الإمام أشهب،

فذهب بعضهم إلى أنه مجتهد مطلق، واستدل على هذا بمخالفته للإمام مالك في كثير من المسائل، ويروى: أنه سئل عن مسألة من باب العتق، فافتى فيها بما يخالف مذهب الإِمام مالك، ولما ذكر له قول الإمام، قال: "وإن قاله مالك، فلسنا له بمماليك" والظاهر أن أشهب كابن القاسم، يجتهد في بعض المسائل على مقتضى أصول مالك، وإذا خالف الإمام، أو نفى أن يكون مملوكًا له، فلأنه يرى أن الأصول قد تقضي بغير ما أفتى به الإمام، وتمنعه من أن يتبعه في كل ما يفتي به متابعةَ العبد لمالكه، وقد رأينا كثيراً من المالكية؛ كأبي بكر بن العربي، وعبد الحميد الصائغ قد يأخذون بغير مذهب مالك في المسائل التي يظهر لهم أن أدلة غيره فيها أرجح من أدلته وأقوى.

ليلة النصف من شعبان

ليلة النصف من شعبان (¬1) سؤال: (1) لماذا يحتفل المسلمون في المساجد بإحياء ليلة النصف من شعبان من سائر ليالي العام؟ (2) وهل ما يتلى من الدعوات، ويصلى من الركعات بين المغرب والعشاء من هذه الليلة بنية طول العمر، ودفع البلاء، والاستغناء عن الناس، ورد فيه نص شرعي؟ سؤال: ما السبب في إحياء ليلة النصف من شعبان، وصوم يومه، والتهليل فيها بالقراءة والأدعية والذكر، وجعلها في مصاف ليالي العيدين؟ سؤال: ما هي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، ويبرم، هل هي ليلة القدر، أو ليلة النصف من شعبان؟ الجواب: احتفال المسلمين في المساجد بإحياء ليلة النصف من شعبان، لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا في عهد الصحابة - رضي الله عنهم -، والوارد: أن خالد ابن معدان، ومكحولاً الشاميّ من التابعين، كانا يجتهدان ليلة النصف من شعبان في العبادة، ولما اشتهر ذلك عنهما، اختلف الناس في تعظيم هذه الليلة وإحيائها بالعبادة، فمنهم من أقره، ومنهم من أنكره، والمقرّون على ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء السابع من المجلد الثاني، رجب 1350 هـ.

طائفتين: طائفة تذهب إلى استحباب إحيائها جماعة في المسجد، وممن وافق على هذا: إسحاق بن راهويه، وطائفة تكره الاجتماع لها في المسجد، ولا يكرهون للرجل أن يحيى تلك الليلة في الصلاة وحده، وهذا ما اختاره الأوزاعي إمام أهل الشام. والمنكرون لتخصيص هذه الليلة بتعظيم هم طائفة من علماء الحجازة كعطاء بن أبي رباح، وابن أبي مليكة، وفقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم. أما القائلون بإحياء هذه الليلة بالعبادة، فإنهم يستندون إلى أحاديث وردت في فضلهاة كحديث: "إن الله (¬1) -عَزَّ وَجَلَّ- ينزل إلى سماء الدنيا ليلة النصف من شعبان، فيغفر لأكثر من شعر غنم كلب". وحديث: "إن الله (¬2) -عَزَّ وَجَلَّ- يطلع إلى عباده في ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمؤمنين، ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد لحقدهم حتى يدعوه". وهذه الأحاديث قد صرح علماء الحديث بضعفها، فمن يستند إليها في فضل ليلة النصف من شعبان، فلأنه لا يعترف بضعفها، أو لأن الأحاديث الضعيفة تكفي لأن يستند إليها في فضائل الأعمال. ثم إن من أجاز إحياءها جماعة في المساجد يبني على أن لا بأس بصلاة النوافل في جماعة، وقد نص الإِمام الشافعي - رضي الله عنه - في "مختصر البويطي" و"الربيع" على أن لا بأس بالجماعة في النافلة، وقد ورد في هذا أحاديث صحيحة؛ كحديث عتبان بن مالك، وغيره. ¬

_ (¬1) الدارقطني، والإمام أحمد في "مسنديهما". (¬2) رواه الدارقطني في كتاب "السنن".

وأما من أجاز إحياءها للناس فرادى دون اجتماع لها في المساجد، فلعله يرى رأي الإمام مالك - رضي الله عنه - في أن لا تصلى النوافل جماعة حيث تشتهر، أو أن يجمع لها الناس، روى ابن وهب عن مالك: أنه لا بأس بأن يؤم النفر في النافلة، فأما أن يكون مشتهراً، ويجمع له الناس، فلا. قال الحافظ ابن حجر: وهذ بناء منه على قاعدة سد الذرائع؛ كراهة أن يظن من لا علم عنده أن ذلك فريضة، ويستثنى قيام رمضان؛ لاشتهار ذلك من فعل الصحابة. أما المنكرون لأن يكون لهذه الليلة فضل على غيرها، فلأنه لم يثبت عندهم في فضلها حديث. قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام": "وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه، لا في فضلها, ولا في نسخ الآجال فيها، فلا تلتفتوا إليه". وقال في كتاب "العارضة": "وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يساوي سماعه". هذه مذاهب أهل العلم في تعظيم ليلة النصف من شعبان. وأما الصلاة المخصوصة التي يعمد إليها بعض الناس في هذه الليلة، فقد ورد حديثها في "الإحياء" لأبي حامد الغزالي، و"قوت القلوب" لأبي طالب المكي، ولكن جماعة من الحفّاظ صرحوا بأن حديثها موضوع. قال الحافظ ابن الجزري في "الحصين": "وأما صلاة الرغائب أول خميس من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان، وصلاة ليلة القدر من رمضان، فلا تصح، وسندها موضوع باطل".

وقال الإمام النووي في كتاب "المجموع": "الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب، وهي اثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مئة ركعة، وهاتان الصلاتان بدعتان منكرتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب "قوت القلوب"، و"إحياء علوم الدين"، ولا بالحديث المذكور فيهما؛ فإن كل ذلك باطل، ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة، فصنف ورقات في استحبابهما؛ فإنه غالط في ذلك، وقد صنف الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي كتاباً نفيساً في إبطالهما، فأحسن فيه وأجاد". والليلة المباركة الواردة في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3 - 4] هي ليلة القدر، وتفسيرها بليلة النصف من شعبان ينسبه بعض المفسرين إلى عكرمة، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "ومن قال: إنها ليلة النصف من شعبان؛ كما روى عكرمة، فقد أبعد النجعة، فإن نص القرآن في أنها في رمضان". وقال القاضي أبو بكر بن العربي: (وجمهور العلماء على أنها ليلة القدر، ومنهم من قال: إنها ليلة النصف من شعبان، وهو باطل؛ لأن الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] , فنص على أن ميقات نزوله رمضان، ثم عبر عن وقتية الليل هنا، فقال: {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}. ويتلخص الجواب: في أن ليلة النصف من شعبان ليست هي الليلة المرادة بالليلة المباركة الواردة في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}. وأن الصلاة المخصوصة التي يفعلها بعض الناس قد طعن كثير من الحفاظ

في صحة حديثها، وأدخلوها في قبيل البدعة التي هي طريقة في الدين تخترع ليضاهى بها الطريقة الشرعية. أما إحياء الرجل لها بالعبادة في جملة ما يتيسر له إحياؤه من الليالي؛ رجاء أن يكون لها في استجابة الدعاء وقبول العبادة المزية التي وردت في أحاديث فضلها، فليس فيه من بأس، وهذه الأحاديث تكفي داعياً للإقبال فيها على العبادة، وتنفي أن يكون قيام الرجل فيها بشيء من العبادة المطلقة عن التقييد بعدد معين، أو هيئة مخصوصة، بدعة، وإن لم تبلغ هذه الأحاديث درجة الصحيح.

نظرة في أحاديث المهدي

نظرة في أحاديث المهدي (¬1) وردت أحاديث تنبئ بظهور رجل في آخر الزمان يقيم العدل، ويحكم الناس بالشريعة، وسمي في بعض هذه الأحاديث بالمهدي، وكثيراً ما يتشوف الناس إلى أن يقفوا على حقيقة هذه الأحاديث الواردة في شأنه، ويعرفوا موقعها من الصحة، ولا سيما عندما يقوم شخص يدعي المهدوية، أو تحدث حادث غريبة؛ كحادثة هذه الأيام، تدعو الناس إلى أن يجعلوا لها نصيباً من الحديث في مجالسهم. ذلك ما دعاني - بصفة أني كنت مدرساً للحديث وعلوم الحديث في كلية أصول الدين - إلى أن أعرض في هذه المحاضرة ما وصل إليه بحثي، واستقر عليه نظري في هذه القضية مستنداً إلى القواعد الصحيحة التي تضع كل حديث موضعه، غير غافل عما يترتب على بعض الاعتقادات من فساد في العلم، أو يجول في النفس من شبه يثيرها الوهم، فأقول: الأحاديث النبوية منها ما يسمّى بالحديث المتواتر، وهو ما يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب، ومنها خبر الآحاد، وهو ما يرويه الثقة العدل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثاني والعشرين، محرم 1369 هـ.

وما يدعو إليه الدين الحق، إما أن يكون أصلاً من أصول الدين؛ أي: لا تتم حقيقة الإيمان إلا به، وهذا لا يحتج عليه إلا بالحديث المتواتر، وإما أن يكون حكماً عملياً؛ كأن يقال: هذا واجب، أو حرام، أو جائز، وهذا موضع الاحتجاج بخبر الآحاد، ويلحق بالأحكام العملية - في صحة الاحتجاج عليه بخبر الآحاد - أشياء يخبر بها الشارع؛ ليعلمها الناس من غير أن يتوقف صحة إيمانهم على معرفتها، ومن هذا القبيل: حديث المهدي، فإذا ورد حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه سيقع في آخر الزمان كذا، حصل به العلم، ووجب الوقوف عنده من غير حاجة إلى أن يكثر رواة هذا الحديث حتى يبلغ مبلغ التواتر. والأحاديث الواردة في شأن المهدي على وجهين: أحاديث صرح فيها باسم المهدي؛ كحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً". وأحاديث لم يصرح فيها بهذا الاسم، وإنما أشير إليه فيها بصفات خاصة؛ كحديث: "لو لم يبق من الدهر إلا يوم، لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً". ولم يرو في "الجامع الصحيح" للإمام البخاري حديث في شأن المهدي، وإنما ورد في "صحيح مسلم" حديث لم يصرح فيه باسمه، وحمله بعضهم على أن المراد منه: المهدي المصرح به في غيره من كتب السنة، وهو حديث جابر بن عبد الله، إذ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً، لا يعده عدداً"، وفي رواية عن جابر، وأبي سعيد الخدري في "مسلم" أيضاً: "يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال، ولا يعده".

وقد روى أحاديث المهدي المصرَّح فيها باسم المهدي، أو المشار فيها إلى بعض صفاته بقية كتب الحديث، فرواها الإمام أحمد بن حنبل، والحاكم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والطبراني، وأبو نعيم، وابن أبي شيبة، وأبو يعلى، والدارقطني، والبيهقي، ونعيم بن حماد، وغيرهم. وجمعت هذه الأحاديث في رسائل مستقلة؛ مثل: "العرف الوردي في أخبار المهدي" للسيوطي، و"القول المختصر في علامات المهدي المنتظر" لابن حجر الهيثمي، و"البرهان في علامات مهدي آخر الزمان" لابن حسام الدين أحد تلاميذ ابن حجر، و"المورد الوردي في حقيقة المهدي" لملا علي قاري، و"التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح" للشوكاني. وأول من اتجه إلى نقد أحاديث المهدي فيما عرفناه: أبو زيد عبد الرحمن ابن خلدون، فقد ذكر في "مقدمة تاريخه": أن في الناس من أنكروا أحاديث المهدي، وتكلموا فيها، وأورد منها ثمانية وعشرين حديثاً، وقد منعه ما اعتاده من تحقيق البحث في القضايا العلمية أن يحكم عليها كما يفعل غير أهل العلم بأنها غير ثابتة، بل تصدى إلى نقدها بنقل ما قدح به أهل الفن في بعض رواتها، وأورد من بينها حديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض جوراً وظلماً وعدواناً، ثم يخرج من أهل بيتي رجل يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً"، وقال: هذا الحديث رواه الحاكم، وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين - يعني: البخاري ومسلماً -، ولم يخرجاه، وأورد فيها ما رواه الحاكم أيضاً عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "في يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض لباتها، ويعطي المال صحاحاً، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعاً أو ثمانياً؛ يعني: حججاً"، وقال الحاكم

في هذا الحديث: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، يعني: البخاري ومسلماً. ثم اعترف ابن خلدون بعدُ بأن بعض الأحاديث خلص من النقد إذ قال: فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي، وخروجه آخر الزمان كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل، والأقل منه. ونحن نقول: متى ثبت حديث واحد من هذه الأحاديث، وسلم من النقد، كفى في العلم بما تضمنه من ظهور رجل في آخر الزمان يسوس الناس بالشرع، ويحكمهم بالعدل، إذ أريناك أن مسألة المهدي لم تكن من قبيل العقائد التي لا تثبت إلا بالأدلة القاطعة. والصحابة الذين رويت من طرقهم أحاديث المهدي نحو 27 صحابياً - رضي الله عنهم -، منهم: أبو سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأم سلمة، وعبد الله ابن عمرو بن العاص، وعمار بن ياسر، والعباس بن عبد المطلب، وتميم الداري، وابن عباس. والواقع أن أحاديث المهدي بعد تنقيتها من الموضوع، والضعيف القريب منه، فإن الباقي منها لا يستطيع العالم الباحث على بصيرة أن يصرف عنه نظره، كما يصرفه عن الأحاديث الموضوعة. وقد صرح الشوكاني في رسالته المشار إليها آنفاً بأن هذه الأحاديث بلغت مبلغ التواتر، فقال: "والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها، منها خمسون فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك، بل يصدق وصف التوإتر على ما دونها على جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول".

يقول بعض المنكرين لأحاديث المهدي جملة: إن هذه الأحاديث من وضع الشيعة لا محالة. ويرد هذا؛ بأن هذه الأحاديث مروية بأسانيدها، ومنها ما تقصينا رجال سنده، فوجدناهم ممن عرفوا بالعدالة والضبط، ولم يتهمهم أحد من رجال التعديل والتجريح بتشيع، مع شهرة نقدهم للرجال. وقال ابن خلدون: وربما تمسك المنكرون لشأن المهدي بما رواه محمد بن خالد الجندي عن أبان بن صالح عن الحسن البصري، عن أنس ابن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لا مهدي إلا عيسى". وهذا حديث مصنوع، فقد قال نقاد الأسانيد كالحاكم: إن محمد ابن خالد رجل مجهول، وقال ابن عبد البر: إنه متروك، وقال الأزدي: منكر الحديث، وآخذ في مثل هذا بقول ابن حزم: إذا كان في سند الحديث رجل مجروح بكذب، أو غفلة، أو مجهول الحال، لا يحل عندنا القول به، ولا تصديقه، ولا الأخذ بشيء منه. وقد اتخذ مسألة المهدي كثير من القائمين لإنشاء دول وسيلة إلى الوصول إلى غاياتهم، فادعوا المهدوية؛ ليتهافت الناس على الالتفاف حولهم، فالدولة الفاطمية قامت على هذه الدعوة؛ إذ زعم مؤسسها عبيد الله أنه المهدي، ودولة الموحدين جرت على هذه الدعوة؛ فان مؤسسها محمد بن تومرت أقام أمره على هذه الدعوة. وظهر في أيام الدولة المرينية بفاس رجل يدعى: التوزري، واجتمع حوله رؤساء صنهاجة، وقتله المصامدة. وقام رجل اسمه العباس سنّة 690 هـ في نواحي الريف من المغرب،

وزعم أنه المهدي، واتبعه جماعة، وآل أمره إلى أن قتل، وانقطعت دعوته. وبعد ثورة أحمد عرابي بمصر ظهر في السودان رجل يسمى: محمد أحمد ادعى أنه المهدي، واتبعته قبيلة البقارة من جهبنة على أنه هو المهدي سنّة 1300 هـ، وهو الذي خلفه بعد موته التعايشي أحد زعماء قبيلة البقارة. والفرقة الكيسانية يجعلون المهدي محمد بن الحنفية، ويزعمون أنه مختف في جبل رضوى بين المدينة وينبع. والشيعة الإمامية يقولون: إن محمد بن الحسن العسكري هو المهدي المنتظر، ويزعمون أنه اختفى في سرداب بالحلّة من بلاد العراق في أواخر القرن الخامس الهجري. وإذا أساء الناس فهم حديث نبوي، أو لم يحسنوا تطبيقه على وجهه الصحيح، حتى وقعت وراء ذلك مفاسد، فلا ينبغي أن يكون ذلك داعياً إلى الشك في صحة الحديث، أو المبادرة إلى إنكاره؛ فإن النبوة حقيقة واقعة بلا شبهة، وقد ادعاها أناس كذباً وافتراء، وأخلوا بدعواهم كثيراً من الناس؛ مثل ما يفعل طائفة القاديانية اليوم، والإِلهية ثابتة بأوضح من الشمس في كبد السماء، وقد ادعاها قوم لزعمائهم على معنى أن الله - جل شأنه - يحل فيهم؛ مثلما يفعل طائفة البهائية في هذا العهد. فليس من الصواب إنكار الحق من أجل ما ألصق به من الباطل. والخلاصة: أن في أحاديث المهدي ما يعد في الحديث الصحيح، وبما أني درست علم الحديث، ووقفت على ما يميز به الطيب من الخبيث، أراني مُلجأ إلى أن أقول كما قال رجال الحديث من قبلي: إن قضية المهدي ليست بقضية مصطنعة.

ولا أترك مكاني هذا حتى أنبه على أنه لم يرد - ولو في الأحاديث الموضوعة-: أن المهدي يولد من غير أب، وأنبه على أن الحديث الذي ذكره أبو بكر الإسكافي في كتاب "فوائد الأخبار" موضوع، وهو حديث: "من كفر بالمهدي، فقد كفر"، وأبو بكر الإسكافي من المتهمين بوضع الأحاديث. {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32].

لا عدوى ولا طيرة

لا عدوى ولا طيرة (¬1) حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثنا ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، وحمزة: أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا عدوى ولا طيرة". أوتي - صلى الله عليه وسلم - جوامع الكلم، فترى الحديث الواحد ينبّه لأبواب يدخل فيها على الناس فساد كبير، فيعمد إلى هذه الأبواب، وشمدها سدًا محكمًا، حتى انتظمت الشريعة الغرّاء طرق الإصلاح بأكملها. ومن هذا القبيل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا عدوى ولا طِيَرَة". ونحن نبحث في هذه المحاضرة عن حقيقة العدوى والطيرة، وأثرهما في المجتمع، فنقول: العدوى: أن يجاوز المرض صاحبه إلى من يقرب منه، وهذا معروف في بعض الأمراض؛ كالجرب، والجذام، إذن فما معنى نفي العدوى في هذا الحديث؟ ونحن نورد أحاديث تنبئ بأن المرض قد ينتقل من شخص إلى آخر، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع من المجلد الثالث عشر، محرم 1960 هـ.

ونضع كل حديث موضعه؛ حتى يتضح أن لا إشكال في هذه الأحاديث، وأن الشريعة لا تجيء على خلاف الحقائق العلمية في حال: جاء في الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد"، والأمر بالفرار من المجذوم لا وجهة له - فيما يظهر - إلا اجتناب العدوى. وفي الصحيح أيضاً: أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: " لا يورد مُمرِض على مُصِح"؛ أي: لا يورد ذو إبل مريضة على ذي إبل صحيحة. والمعنى: أن لا تورد إبل مريضة على إبل صحيحة. وعلة النهي عن إيراد المريضة على الصحيحة: خوف العدوى. وجاء في الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الوياء: "إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع في أرض، فلا تخرجوا منها". وهذا الحديث ظاهر في أن علة النهي عن الإقدام على أرض الوباء هو الحذر من العدوى. أما النهي عن الخروج من بلد الوياء فراراً منه، فمحمول على الكراهة، فلو خرج إنسان من البلد التي ضرب فيها الطاعون قاصداً الفرار من الإصابة به، لأتى شيئاً مكروهاً. وعلة النهي عن الفرار من الطاعون هي فيما يظهر: أن الإذن في الخروج قد يفتح الباب لأن يخرج الأصحاء، ويترك المرضى به، فلا يجد هؤلاء المرضى من يتعهدهم، ويقوم على أمرهم؛ من نحو: طعام وسقاء وعلاج، وليس من المقبول أن يقول قائل: إن هؤلاء المرضى قد أصيبوا، ووقعوا بمقربة من الموت، فإهمالهم أخفّ شراً من بقاء الأصحاء بموطن فيه المرض

المفضي في غالب أحواله إلى الموت. فيرد هذا: بأن هلاك المرضى بخروج الأصحاء محقق، وإصابة الأصحاء وهلاكهم مظنون، ودرء الضرر المحقق مقدم على درء الضرر المحتمل الوقوع. والإلقاء بالتهلكة الذي نهى عنه الشارع بقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، هو: أن يرمي الإنسان بنفسه في مواقع الهلاك دون أن يدفع بهذا الإلقاء شراً، أو يجلب به خيراً، أما إذا قصد الإنسان إلى دفع شرّ أمرَ الشارع بدفعه، أو جلبِ خير استحبَّ الشارع جلبه، وألقى بنفسه في هذا السبيل، وهو يعلم أنه سيقع في مهلك، فنهي الآية لا يتناوله، بل يعده الشارع من أولي العزم الذين يحظون بالكرامة عنده، ويرتفع ذكرهم بين ذوي الأخلاق السامية. وإذا أتينا البحث من ناحية الأخلاق، قلنا: إن خروج الأصحاء من موطن الطاعون لا لداعٍ غير الخوف من الموت، ينبئ أن نفوسهم خالية من العطف على من أصيبوا بالطاعون، حيث طابت نفوسهم أن يدَعوهم وهم يقاومون الآلام والجوع والظمأ حتى يموتوا في تلك الحالة المحزنة. ثم إن الحديث إنما نهى عن الخروج من بلد الطاعون متى كان القصد الفرار من الموت، أما إذا خرج الشخص من بلد الطاعون بقصد آخر من نحو التجارة أو التداوي، فذلك ما لا حرج فيه، ولا يتناوله النهي الوارد في الحديث؛ لأن الحديث يقول: "وإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه". فيؤخذ من لفظ الحديث وروح التشريع؛ أن خروج الأصحاء بحيث

لا يبقى مع المرضى من يقوم بضرورات حياتهم، حرام، وأن خروج فرد أو جماعة لم يتعين عليهم القيام بشؤون المرضى، مكروه، متى قصدوا الفرار من الموت، فإذا قصدوا غرضاً آخر ذا فائدة، كان الخروج مباحاً. فأنتم ترون أن بين أيدينا أحاديث ثابتة بأن دعوى العدوى صحيحة، إذاً فما معنى العدوى في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عدوى"؟. جواب هذا: أن العرب في الجاهلية كانوا يعتقدون أن بعض الأمراض؛ كالجرب والجذام تسري بطبيعتها من المصاب بها إلى من يقرب منه، دون أن يضيفوا المرض إلى مشيئة الله تعالى، فنفى النبي - صلى الله عليه وسلم - العدوى بهذا المعنى؛ لأن اعتقادهم أن سريان مثل الجذام والجرب أمر طبيعي، دون أن يكون لمشيئة الله تعالى تأثير في ذلك، يخل بعقيدة التوحيد التي جاء الإسلام لبنائها. فلا يراد من الحديث: نفي أن تكون هناك أمراض قد جعل الله قرب الشخص من صاحبها سبباً لانتقالها إليه، بل المراد: نفي العدوى بالمعنى الذي يتصوره الجاهليون، وهو أن الانتقال من طبيعة المرض على أنه لا بد منه. وقد جاء في بعض روايات حديث: "عدوى": أن أعرابياً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت الإبل تكون في الرمال أمثال الظباء، فيخالطها البعير الأجرب، فيجربها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن أعدى الأول؟ ". وهذا الجواب منه - عليه الصلاة والسلام - في غاية الإبداع؛ فإن حال الأعرابي حال من ينفي أن يكون للجرب سبب غير العدوى؛ إذ لو كان يعتقد أن الجرب قد ينشأ عن أمر آخر غير العدوى، لما أورد قصة الجمل

الأجرب، يخالط الإبل "الصحيحة" فإن إيرادها إنما يناسب حصر الإصابة بالجرب في العدوى؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن أعدى الأول؟ " تنبيه على أن الجرب قد وجد في حال لا يمكن فيها ادعاء أنه قد نشأ من العدوى، وهاهنا يرجع الأعرابي إلى النظر في سبب هذا الجرب، فإذا عرف أن هناك سبباً للجرب غير العدوى، صار من الجائز أن يكون هذا السبب هو سبب الجرب الذي أصاب الإبل بعد اختلاطها بالجمل الأجرب، فإذا قيل له: إن السبب الحقيقي في الإصابة بالجرب هي مشيئة الله تعالى، ولكنه قد يربط الإصابة بقرب الصحيح من المرض، وقد يربطها بسبب آخر، سهل انقياده إلى هذه العقيدة، وترك عقيدة أن العدوى تؤثر بطبيعتها. وإذا رأينا كثيراً ممن اتصلوا بذوي الأمراض المعدية، قد أصيبوا بهذه الأمراض، فقد نرى آخرين اقتربوا من أصحاب تلك الأمراض، فلم يصابوا بشيءمنها. وملخص الجواب: أن الحديث ورد في سياق الرد على ما كان لدى الجاهلية من اعتقاد أن العدوى أمر طبيعي، دون أن يضيفوها إلى مشيئة الخالق، والحديث لا ينفي أن الله تعالى قد يشاء، فيجعل مخالطة الصحيح للمصاب بشيء من الأمراض؛ كالجذام والجرب، سبباً لحدوث ذلك المرض في الصحيح. وقوله في بهاِّ: "ولا طيرة" نفي للتشاؤم؛ فإن الطيرة: التشاؤم بالشيء، وأصلها: أن العرب كانوا في الجاهلية يعتمدون في الإقدام على بعض الأعمال؛ كالسفر والزواج، على الطير، فإن مرّ الطير باليمين، تيمّن، وإن مرّ باليسار، تشاءم به، ثم أطلقت الطيرة على التشاؤم، ولو بغير الطيور.

والحديث ينفي على وجه العموم ما كان شائعاً في الجاهلية من التشاؤم بأمور لا دخل لها في نجاح الأعمال، ولا خيبتها؛ كالعطاس، ونعيق الغراب. وفي مثل هذا التشاؤم فساد كبير؛ إذ يمنع الشخص من الإقدام على عمل قد يكون فيه خير كثير، والإِقدام على الأعمال يرجع فيه إلى الرأي السديد، وما يستكشف في تلك الأعمال من جلب مصلحة، أو درء مفسدة، فإن اشتبه الأمر، وخفي على الإنسان عاقبته من خير أو شر، فقد جعل الشارع الحكيم مكان التشاؤم أو التفاؤل: الاستخارة المعروفة في كتب السنّة. ومن الأسف أن ينهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشاؤم، ويبقى متفشيًا في الشعوب الإِسلامية، وقد أحدث الناس أنواعًا من التشاؤم لم تكن معروفة في الجاهلية، فأعرف في تونس أن الناس يتشاءمون بمناولة من يعزّ عليهم فراقه الصابون، أو آلة حادة؛ كالسكين، والمقص. ويدخل في التشاؤم الممقوت: ما أحدثه الناس من الاستخارات غير الشرعية؛ كالاستخارة بالسبحة، والاستخارة المنامية، والاستخارة بالقرآن المجيد. ويدخل في التشاؤم: الأخذ بأقوال الكهان والدجالين، فيمتنع من الشيء بمجرد قولهم له: إنه شر، أو لا خير فيه، فإن تعلّق الإنسان بشيء من ذلك، فقد خالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولا طيرة". ولا يجوز التشاؤم بيوم من الأيام، سئل مالك عن الحجامة يوم السبت، ويوم الأربعاء، فقال: لا بأس بذلك، وليس يوم إلا وقد احتجمت فيه، ولا أكره شيئاً من هذا: حجامة، ولا اطلاء، ولا نكاحاً، ولا سفراً في شيء من الأيام.

فإن قال قائل: حديث: "ولا طيرة" يعارضه ما جاء في الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشؤم في المرأة والدار والفرس"، وإذا كان في هذه الثلاث شؤم، صح أن تكون موضع التشاؤم، فمن تشاءم بشيء منها لم يكن عليه حرج في هذا التشاؤم. وجواب هذا: أن شؤم الشيء في أن يكون فيه وجه من الشر؛ بحيث لو اتصل به شخص، ناله من أجل اتصاله به سوء، وللمرأة وجه من الشر هو سوء خلقها, وللدار وجه من الشر هو ضيقها، أو سوء جارها, وللفرس وجه من الشر هو شموسها، أو بطء سيرها، أو اتخاذها للمباهاة، وعدم استعمالها عندما يحتاج إليها ساعة الدفاع في سبيل الله، فمن المحتمل القريب تفسير الشؤم في الحديث على نحو هذه الوجوه، وقد رويت أحاديث يستأنس بها لهذا التأثير، منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سعادة ابن آدم ثلاثة: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء" (¬1). وفي رواية الحاكم: "ثلاثة من شقاء المرأة: تراها فتسوءك، وتحمل لسانها عليك، والدابة تكون قطوفاً، فإن ضربتها، أتعبتك، وإن تركتها, لم تلحق أصحابك، والدار ضيقة قليلة المرافق". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من شقاء المرء في الدنيا سوء الدار، والمرأة، والدابة"، وفيه: "سوء الدار: ضيق ساحتها، وخبث جيرانها، وسوء الدابة: منعها ظهرها، وسوء طبعها، وسوء المرأة: عقم رحمها، وسوء خلقها" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان، والحاكم. (¬2) رواه الطبراني من حديث أسماء -رضي الله عنها -.

أما تفسير الشؤم في المرأة على ما يفهمه العامة من التشاؤم بكعبها، فقد أنكره تقي الدين السبكي، وقال: هو شيء لم يقل به أحد من العلماء، ومن قال: إنها سبب فيما يحصل من الشر، فهو جاهل. وملخص القول: أن حديث: "ولا طيرة" هو الموافق لما جاءت به الشريعة من أن معرفة حسن عاقبة العمل أو سوئها، إنما يعتمد فيها على الشرع، وفهم ذوي الأنظار السديدة، بل هو الموافق للعقل؛ إذ ليس لنا أن نعتقد تأثير شيء في شيء، إلا أن تدل عليه المشاهدة، أو يظهر له وجه من العقل، أو ينص عليه الشارع، وليس للشؤم بالمعنى الذي يعتقده العامة صلة تجعله من قبيل المعقولات، أو المشاهدات، أو الشرعيات.

باب في حديث السحر

باب في حديث السحر (¬1) باب السحر من كتاب الطب من "الجامع الصحيح" للإمام البخاري - رضي الله عنه -، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا عيسى بن يونس عن هشام، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها-, قالت: سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من بني زريق، يقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم، دعا، ودعا، ثم قال: "يا عائشة! أشعرت أن الله أفتاني فيما إستفتيته فيه؟ أتاني رجلان، فقعد أحدهما على رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب (¬2)، قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، وجفّ (¬3) طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان"، فاتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناس من أصحابه، فجاء فقال: "يا عائشة! كأن ماءها نقاعة (¬4) الحنّاء، وكان رؤوس نخلها رؤوس الشياطين"، قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: "قد عافاني الله، فكرهت أن أثور على ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء العاشر من المجلد الثالث عشر، ربيع الثاني 1360 هـ. (¬2) مسحور. (¬3) وعاء طلع النخل. (¬4) النقاعة: الماء الذي ينقع فيه الحناء.

الناس فيه شراً"، فأمر بها فدفنت. السحر في أصل اللغة: الصرف (¬1)، وشاع استعماله في كل أمر يخفى سببه، ويتخيل على غير حقيقته، وورد في كلام الشارع، فاتفق علماء الإِسلام على أن هناك شيئاً يسمى: سحراً، واختلفوا في تصويره، فذهب جمهور أهل العلم إلى أن للسحر آثاراً حقيقية، وقالوا: هو مزاولة النفوس الخبيثة لأفعال وأحوال يترتب عليها أمور خارقة للعادة. وقالوا: هو خارق للعادة يظهر في نفس شريرة بمباشرة أعمال مخصوصة. والساحر عند هؤلاء قد يبلغ أن يطير في الهواء، ويمشي في الماء. وذهب بعض أهل العلم إلى أن السحر لا يبلغ أن يغير الحقائق في نفسها، وإنما هو تخييل وتمويه، وقالوا: لا يفعل الإنسان في غيره فعلاً من غير مماسة ولا ملامسة. وينسب هذا الرأي إلى المعتزلة، وجرى عليه أبو جعفر الاسترابادي، وأبو بكر الجصّاص. وإذا كان السحر لا يتجاوز التخييل والتمويه، استبان الفرق بينه وبين المعجزة جليًا، فالمعجزات على حقائقها، وبواطنها كظواهرها, ولو اجتهد الخلق كلهم على مضاهاتها ومقابلتها بمثلها, لظهر عجزهم عنها، وأما السحر، فإنما هو ضرب من الحيلة والتلطف لإظهار أمور لا حقيقة لها، ومن شاء أن يتعلم ذلك، بلغ فيه مبلغ غيره. ويتلخص مما سبق: أن السحر نوعان: أولهما: قلب حقيقة شيء إلى حقيقة شيءآخر على وجه خرق العادة ¬

_ (¬1) حكاه الأزهري عن الفرّاء وغيره.

في الواقع؛ كقلب جماد إلى حيوان، أو حيوان إلى جماد. ثانيهما: مزاولة نفس شخص أفعالاً يكون لها أثر في شخص آخر من غير اتصال به، ولا مماسة؛ كأن يزاول فعلاً يكون من أثره تغيير حب شخص لشخص إلى بغضه إيّاه. ونحن لم يقع بأيدينا دليل على أن النوع الأول قد وقع. ولإيضاح الفرق بين المعجزة والسحر فرقاً ذاتياً، نقول: إن الساحر لا يبلغ أن يقلب العصا ثعباناً، ولا أن يفلق البحر فتمر منه الجيوش، ولا أن يبرئ الاكمه، أو يحيى الموتى، ولا يبلغ أن يجعل الماء ينبع من بين الأصابع، فتروى منه العشرات أو المئات من الناس؛ أي: إنه لا يجري على يده من خوارق العادة ما يجري مثله على أيدي الأنبياء - عليهم السلام -. أما النوع الثاني، وهو أن يزاول بعض النفوس الخبيثة أفعالاً يظهر أثرها في شخص آخر من غير اتصال ولا مماسة، فقد دلت ظواهر الشريعة على صحته؛ لقوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]، والنفاثات وصف للنفوس؛ لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة، والأرواح الشريرة، وهذا وجه ذكر الوصف بصيغة التأنيث، وإذا دلت على صحته ظواهر الشريعة، ولم يقم دليل قاطع على نفيه، وكانت قدرة الله صالحة لأن تجعل للنفوس أثراً في شخص آخر من غير مماسة، لم يكن هناك داع إلى تأويل الظواهر. ونتخلص من هذا إلى أن الذين ينكرون السحر بنوعيه: قلب الحقائق، وتأثير النفوس من غير مماسة، ينكرون حديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الحديث

يتضمن أن لبيد بن الأعصم قد فعل فعلاً كان له أثر في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو بعيد عنه. ورأى المنكرون للحديث: أن هناك ما ينفي بوجه خاص أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سحر، وأوردوا ثلاثة وجوه: أحدها: أن الاعتقاد بثبوت سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون تصديقًا لقول الكفّار فيما حكاه الله عنهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47]، وهذا كما قال فرعون لموسى - عليه السلام - فيما قصه الله عنهما: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101]. ثانيها: أن سحر الأنبياء، وتمكّن الساحر من أن يفعل فعلاً يكون له أثر في قوة تفكيرهم يحط من منصب نبوتهم. ثالثها: أن تجويز السحر عليهم يشكك في نبوتهم، ويعدم الثقة بما شرّعوه من الشرائع؛ إذ يكون من المحتمل على هذا التجويز أن يخيل إلى النبي أنه يرى جبريل - عليه السلام -، ولم يكن هناك جبريل، وأنه يوحى إليه بشيء، ولم يوح إليه به. ونحن ننظر في سند الحديث، ثم ننظر فيما استند إليه المنكرون من الوجوه التي رأوها قاضية عليه بالوضع: الطرق التي روي بها هذا الحديث في "الصحيحين" كلها ترجع إلى هشام بن عروة عن عائشة -رضي الله عنها -، وعروة أحد الفقهاء السبعة، لم يطعن فيه أحد بكلمة، ومن رووه عن هشام بن عروة - مع كونهم كثيرين - هم من الرجال الموثوق بروايتهم، فقد رواه عن هشام: عيسى بن يونس، وأبو أسامة حمّاد بن أسامة، وأبو ضمرة أنس بن عياض، وابن جريج، وابن أبي الزناد، وابن نمير.

وبقي هشام بن عروة الذي تدور عليه رواية الحديث في "الصحيحين"، وهو معدود من ثقات الرجال، وأئمة الحديث، وإنما تعرض له أبو الحسن ابن القطان، ومسّه من جهة الضبط، فقال: إنه اختلط في آخر حياته، وتصدى للرد على ابن القطان الحافظ الذهبي في كتاب "الميزان"، واشتد في الإنكار عليه، وقال: إن عروة لم يختلط، وإنما تناقض حفظه في الكبر، فنسي بعض محفوظه، أو وَهِمَ، وقال عبد الرحمن بن خراش: كان مالك لا يرضى هشام ابن عروة، نقم عليه حديثه لأهل العراق، وقدم الكوفة ثلاث مرات: قدمه كان يقول: حدثني أبي، قال: سمعت عائشة، والثانية كان يقول: أخبرني أبي عن عائشة، وقدم الثالثة، فكان يقول: أبي عن عائشة؛ (يعني: أنه كان يرسل عن أبيه). ولو روى هذا الحديث عن عائشة هشام وحده، لحام حوله شيء من الوهن، ولكن رواه البيهقي في "الدلائل" عن عمرة عن عائشة - رضي الله عنها -، ولم تنفرد برواية هذا الحديث عائشة، بل رواه ابن سعد عن ابن عباس، ورواه ابن سعد، وأبو بكر بن شيبة عن زيد بن أرقم، وصححه الحاكم. فرواية الحديث في "الصحيحين"، ثم رواية غير عروة له عن عائشة، ورواية غير عائشة له من الصحابة، يجعله في مأمن من أن يحكم عليه بوضع، أو ضعف من جهة سنده. وننظر بعدُ هذا الحديثَ من جهة المتن؛ لعلّنا نجد في رواياته اضطراباً واختلافاً يقضي بعدم التمسك به: اختلفت الروايات في بعض ألفاظ الحديث اختلافاً لا يزيد على الاختلاف الذي ينشأ من رواية الحديث بالمعنى، كما جاء في بعض الروايات: "جف

طلع نخلة" - بالفاء - وفي بعضها: "جب" - بالباء - وفي بعض الروايات: "ومشاطة" - بالطاء -، وفي بعضها: "ومشاقة"- بالقاف -. واختلفت الروايات من جهة العموم والخصوص، كما جاء في بعض الروايات "يخيل إليه أنه يفعل الشيء، ولا يفعله"، وجاء في رواية أخرى: "يرى أنه يأتي النساء، ولا يأتيهن"، وهذا الاختلاف أيضاً لا يقضي بضعف الحديث أو وضعه، فمن المحتمل أن يكون الراوي قد عبر في الرواية الأولى بلفظ عام، والمراد: ما دلت عليه الرواية الثانية من مباشرة النساء. واختلفت الروايات اختلافاً يجعل بينها - فيما يظهر - تعارضاً؛ كما جاء في بعض الروايات: قلت: يا رسول الله! أفلا استخرجته؟ قال: "قد عافاني الله - صلى الله عليه وسلم -"، وظاهر هذه الرواية: أنه لم يخرج ما وقع به السحر من جف الطلعة، وما حواه الجف، وجاء في رواية أخرى: "فاستخرج"، وهذا ظاهر في أنه أخرج، وهذا الاختلاف لا يبلغ بالحديث حد الوضع أو الضعف؛ إذ شأن المحدثين هنا أن يرجحوا إحدى الروايتين بأحد الوجوه المعروفة من الترجيح، كأن ترجح رواية: "فاستخرج"؛ لأن راويها سفيان بن عيينة، وهو أضبط من عيسى بن يونس، ويجمع بين الروايتين؛ بأن يحمل قولها: "فاستخرج" على معنى إخراجه من بئر ذروان حتى رآه وعلمه، ويحمل قولها: "فهلا استخرجته" على معنى: هلّا أخرجته للناس، وأريته إياهم حتى يعاينوه، فأخبرها بأن الذي منعه من إظهاره للناس هو أن المسلمين إذا رأوه، لا يسكتون، وقد يتعرضون للساحر بالأذى، فيغضب للساحر قومه، فتحدث فتنة، ولا داعي إليها بعد أن حصل الشفاء والعافية، فالاستخراج الذي وقع غير الاستخراج الذي سألته عائشة - رضي الله عنها -.

واختلفت الروايات في شيء آخر قد يلوح أن يجعل بينها تعارضاً: هو أن رواية الحديث الذي سقناه تقول: إنه - صلى الله عليه وسلم - أتى البئر في ناس من أصحابه، ورواية زيد بن أرقم للحديث تقول: إنه أرسل علياً، فاستخرجها، فجاء بها، ورواية ابن عباس عند ابن سعد: فبعث إلى عليّ وعمّار، فأمرهما أن يأتيا البئر، ورواية غيره عن عائشة: فنزل رجل فاستخرجه. والجمع بين هذه الروايات: أنه بعث علياً وعماراً إلى البئر لاستخراج ما فيها، ثم أدركهما في ناس من أصحابه، وقد نزل أحدهما إلى البئر، فاستخرج ما صنعه اليهودي، وكان الذي قدمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. فمتن الحديث سالم من الاضطراب، وعلى فرض أن يعدّ شيء من ذلك الاختلاف اضطرابًا، فقاعدة الأئمة أن يترك ما وقع فيه الاضطراب من ألفاظ الحديث، ويؤخذ بما اتفقت عليه الروايات منه، فإذا عدّ من الاضطراب اختلاف الروايات في تصريح بعضها بأنه - عليه الصلاة والسلام - استخرج ما وقع به السحر، ودلالة أخرى على أنه لم يستخرجه، وفي قول بعضها: إنه ذهب إلى البئر بنفسه، وقول أخرى: إنه أرسل علياً - رضي الله عنه -، صرف النظر عن هذا الذي وقع فيه الاختلاف، وبقي أصل السحر ثابتاً من الروايات التي اتفقت عليه. ولم يرد - فيما رأينا من الروايات - رواية تنسب التخييل إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -، فتقول: يخيل إليه أنه كان يقول الشيء ولم يقله، كما أنا لم نقف على رواية تذكر التخييل الذي أحدثه السحر على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك، وأخبر به، وقد وقع في تفسير أبي بكر الجصّاص - في سياق إنكار الحديث - هذان الزعمان، فقال: وزعموا أنه قال: يخيل إليّ أني أقول الشيء وأفعله،

ولم أقله ولم أفعله. ونوجه النظر بعد هذا إلى ما أورده منكرو الحديث من الوجوه القاضية في رأيهم بوضعه، فنقول: أما ما قالوه من أن الحديث يقتضي تصديق الكفار في قولهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47]، فيرد بأن الكفار لا يريدون من قولهم: {مَسْحُورً}: أن بعض الساحرين زاول فعلاً كان له أثر في اختلال عقله - عليه الصلاة والسلام -, وإنما يريدون: أنه زائل العقل؛ أي: إنه لا يعقل ما يقول؛ كما قص الله تعالى عنهم في آية أخرى أنهم قالوا: {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان: 14]، وقالوا: {يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]، وصح إطلاق المسحور على المجنون؛ لأن السحر عند المعتقدين بحقيقته، قد يقصد به التأثير في الفكر، فيبلغ المسحور حد الجنون. وأما قولهم: إن سحر الأنبياء يحط من مناصبهم، فمسلم متى قيل: إن السحر قد أثر في قوتهم الفكرية، أما إذا قيل: إن السحر كان له أثر في جسده - صلى الله عليه وسلم - دون عقله، وكان هذا الأثر ما عرض له من عدم القدرة على مباشرة أزواجه، فإنه لا يحط شيئاً من منصبه الشريف، ويحمل قول عائشة -رضي الله عنها - في رواية سفيان بن عيينة: "حتى كان يرى أنه يأتي النساء، ولا يأتيهن" (¬1) على معنى: أنه كان يظهر له من نشاطه القدرة على مباشرة نسائه حسب العادة، فإذا دنا منهن، لم يقدر على إتيانهن، ورواية: "يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء ولا يفعله" نرجع بها إلى رواية سفيان: "كان يرى أنه يأتي النساء، ولا يأتيهن"، ونحملها على أنها من تصرف بعض الرواة؛ إذ أتى بدل قولها: "يرى أنه ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" في باب: هل يستخرج السحر؟.

يأتي النساء" بقوله: "كان يفعل الشيء"، وبدل قولها: "ولا يأتيهن" بقوله: "ولا يفعله"، فهذه الرواية عبّر فيها عن إتيان النساء وعدم إتيانهن بلفظ عام هو الفعل وعدم الفعل، وجاءت على خلاف قولها: "كان يرى أنه يأتي النساء"، فجاءت كلمة "كان" بعد كلمة "يخيل"، فقالت: "يخيل إليه أنه كان يفعل". وأما رواية: "يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله" وهي التي تشعر بأن السحر أثر في قوته الفكرية، ومثلها رواية: "يخيل إليه أنه صنع شيئاً، ولم يصنعه"، فنحملها أيضاً على أنها من تصرف الرواة الذي يقع بهم في غلط، وقد ينسب بعض المحققين من أهل العلم الغلط في بعض ألفاظ الحديث الوارد في "الصحيحين" إلى الراوي متى رأوا اللفظ صريحًا في معنى يخالف ما عرف من معقول أو منقول، ويبقى ما عدا اللفظ الذي هو موضع الغلط ثابت الرواية. وملخص ما نرى في هذا الحديث: أن أصله ثابت، ويحمل السحر على أنه أثّر في قوته الجسمية، دون أن يمس قوته العقلية بشيء، ومما يدل له: حديث ابن عباس عند ابن سعد: "مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ عن النساء والطعام والشراب، فهبط عليه ملكان" الحديث، ونجعل قول عائشة -رضي الله عنها - في رواية سفيان بن عيينة: "كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن " هو أصل الرواية, وما عداه من الروايات إما أن نرجع بتأويله إلى هذا الأصل، أو نحمله على أنه جرى على وجه الغلط من تصرف بعض الرواة. وهذا ما نراه في شرح الحديث. وأراني بعد هذا لا أنسب من ينكر

هذا الحديث إلى ضلال، أو سوء قصد؛ لأن الشبه التي أوردها المنكرون ليست بهينة، وقصارى ما أقول فيه: إنه لم ينظر في الحديث نظراً يجمع بين ما تقتضيه قوانين علم الحديث، وما يقتضيه منصب النبوة من سمو مقام النبي من أن يكون للسحر أثر في عقله.

السنن والحكم النبوية

السنن والحكم النّبوية (¬1) عن ابن عباس - رضي الله عنهم -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائمَ أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب". رواه البخاري في "صحيحه". اشتمل هذا الحديث الشريف على ثلاثة أركان من أركان الإِسلام، وهي: كلمة الشهادة، وفريضتا الصلاة والزكاة. ودل بعد هذا على أحكام متعددة، ومواعظ حسنة، فهو معدود من الأحاديث العظيمة الشأن. وقصة إرساله - عليه الصلاة والسلام - معاذاً إلى اليمن مشهورة، أرسله ليدعو إلى الإسلام، ويلي أمر اليمن، ويقضي بين الناس. فكان معاذ داعياً ووالياً وقاضياً. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع المجلد الحادي عشر، محرم 1358 هـ.

أما الدعوة، فيدل لها هذا الحديث؛ فقد قال له: "فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله"، وهذه هي الدعوة، وأمره بأن يأخذ منهم الزكاة، وقال: "فإياك وكرائم أموالهم"، وذلك معنى الولاية. وأما القضاء، فيدل له الحديث الآخر، وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لما بعث معاذًا إلى اليمن، قال له: "كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ "، قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: "فإن لم يكن في كتاب الله؟ "، قال: فبسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فإن لم يكن في سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ "، قال: أجتهد رأي لا آلو؛ أي: لا أقصر (¬1). قال في الحديث: "إنك ستأتي أقواماً من أهل الكتاب": كان في اليمن أهل كتاب من يهود ونصارى، وغير أهل كتاب؛ كعبدة الأوثان، ومعاذ مرسل إلى أهل الكتاب وغيرهم من المشركين، وخص في الحديث أهل الكتاب بالذكر؛ لينبهه على أنه سيأتي قوماً أولي علم في الجملة، فيحتاج إلى عناية ويدل جهد في دعوتهم، وإقامة الحجة عليهم أكثر مما يحتاج إليه في دعوة غيرهم. ودخلت اليهودية اليمن منذ عهد بعيد، حتى دخل فيها بعض ملوك حمير، وقامت هناك دولة متهودة إلى أن جاء الحبش - وهم نصارى - كما فقوضوا أركانها، وبقيت طوائف من اليهود مفرقين في البلاد. وكانت النصرانية في نجران من بلاد اليمن، ومن المعروف في السيرة: أن وفد نجران قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا من نصارى العرب، وهم ¬

_ (¬1) صححه ابن العربي، وابن القيم.

الذين نزلت فيهم آية المباهلة: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]. "فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله": أمره في الحديث بأن يدعو أهل الكتاب إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وظاهر هذا: أنهم غير مؤمنين بأن الله واحد، أما النصارى، فلأنهم يقولون: إن المسيح ابن الله، وانه إله، وهذه العقيدة تخرج بهم عن الإيمان الحق، وتجعلهم في حاجة إلى أن يُدعوا إلى توحيد الله قبل أن يُدعوا إلى الإيمان برسوله الكريم. وأما اليهود، فكانوا يعتقدون في عزير أنه ابن الله هو {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] وقد تبرأ بعض اليهود المتأخرين من هذه العقيدة، وبراءتهم هذه لا تقف في صدق الآية الكريمة، فقد نزلت واليهود بالمدينة، وحول المدينة ولم ينقل عن أحد منهم إنكار هذه العقيدة، فليس من شك في أنها كانت معروفة عندهم، ويكفي في صدق الآية أن تكون عقيدة طائفة منهم. وزِيَد في كلمة الشهادة: التصديق بالرسالة المحمدية؛ لأن حقيقة الإيمان لا تحصل إلا به، فمن لم يشهد برسالة النبي - صلوات الله عليه - فهو كافر. هذا ما اتفق عليه علماء الإِسلام، وأصبح معلوماً من الدين بالضرورة، ومن دلائله قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح: 13].

"فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة": والحديث ظاهر في أن لا صلاة واجبة - أي: يعاقب على تركها - غير الصلوات الخمس، وصلاةُ الوتر في مرتبة السنّة، وقد استدل عبادة بن الصامت على عدم وجوبها بمثل هذا الحديث، روى مالك في "الموطأ": أن عبادة ابن الصامت - رضي الله عنه - سئل عمن قال: إن الوتر واجب، فأنكر عبادة ذلك، وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس صلوات كتبهن الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ على العباد، فمن جاء بهن، لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن، فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة". "فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم": نص في هذا الحديث على من تؤخذ منه الزكاة، وهم الأغنياء، والغني: من يملك نصابًا من الأنصبة المفصلة في أحاديث أخرى، وقوله: "أغنيائهم" جمع مضاف، والجمع المضاف يفيد العموم، ويؤخذ من عمومه: أن الزكاة واجبة في مال الصبي، وبهذا قال مالك، والشافعي، وكثير من الفقهاء، وأضافوا إلى دليل العموم في هذا الحديث: أثرين أوردهما الإمام مالك في "الموطأ": أولهما: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: اتجروا في أموال اليتامى؛ لا تأكلها الزكاة. ثانيهما: أن عائشة - رضي الله عنها - كان في حجرها يتيمان، وكانت

تُخرج من أموالهما الزكاة. وذهب بعض الأئمة إلى عدم وجوب الزكاة في مال الصبي، وقالوا: إن العموم في قوله: "من أغنيائهم" يحمل على المكلفين، والصبي فاقد لأحد شروط التكليف، وهو البلوغ، وأجابوا عن الأثرين - أعني: أثر عمر بن الخطاب، وأثر عائشة -: بأنهما من قبيل الاستدلال بمذهب الصحابي، ومذهب الصحابي لا يمنع المجتهد من أن يبحث عن الحكم في أصول الشريعة بنفسه، ويقرر في الواقعة الحكم الذي يصل إليه من طريق الاجتهاد. ويؤخذ من قوله: "أغنيائهم": أن الزكاة تجب في الحلي الذي تملكه المرأة لتتجمل بلبسه، فإنها تصير به غنية، وهو مذهب جماعة من الصحابة، وبه قال الإمام أبو حنيفة. وذهب جماعة من الصحابة إلى عدم وجوب الزكاة فيه، وبه أخذ الشافعية، والمالكية، وأورد مالك في "الموطأ" على هذا أثرين: أحدهما: أن عائشة -رضي الله عنها - كانت تحلّي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي، فلا تخرج عن حليهن الزكاة. وثانيهما: أن عبد الله بن عمر كان يحلي بناته وجواريه الذهب، ثم لا يخرج من حليهن الزكاة. فإن اتخذ الرجل حلي النساء ليلبسه أهله منهن، وكان عنده من اتخذه من أجلهن من نحو زوج أو بنات، فلا زكاة فيه، فإن اتخذه رجاء أن تكون له أهل يتجملن به، فهذا لا يسقط عنه الزكاة؛ لأنه اتخذ ما لا يباح له لبسه، وليس عنده أهل للتحلي به. ولا زكاة في الحلي المباح يتخذه الرجل للعارية؛ لأنه متخذ للبس

مباح، مع ما اقترن بذلك من قصد القربة. وقوله: "فترد على فقرائهم" يدل على أن الزكاة تصرف للفقراء. واختلفوا في المقدار الذي يملكه الشخص، فينتفي عنه الفقر، وتحرم عليه الصدقة، وهذا الحديث يدل على أن من ملك نصاباً مما تجب فيه الزكاة، فهو غني، فلا حق له في الزكاة، ووجه دلالة هذا الحديث: أنه قال: "تؤخذ من أغنيائهم" فوصف من تؤخذ منه الزكاة بالغنى، ولا تحل الصدقة لغني. وظاهر هذا الحديث: أن الصدقة تصرف للفقير، ولو كان قادراً على الكسب؛ فإنه قال: "فترد على فقرائهم"، فجعل صرفها منوطاً بصفة الفقر. وذهب بعض الأئمة إلى أن الزكاة لا تحل لمن كان قوياً على الكسب، وإن لم يملك شيئاً؛ لأنه بالقدرة على الكسب أصبح في حكم الأغنياء. والمراد بالقوي على الكسب: من يقدر على كسب ما يقوم بضرورات الحياة، فسليم البنية الذي يبذل جهده في الكسب، ولا يصل إلى ما يقوم بالضروري من عيشه، أو عيش من يعولهم، يجوز صرف الزكاة له؛ لأنه لم يقدر على كسب ما يكفي حاجته. ودل قوله: "على فقرائهم" على أن الزكاة إنما تعطى للفقير المسلم، ولا حق فيها للفقير الكافر؛ فإن الضمير في قوله: "فقرائهم" يعود على من أطاعوا بالشهادتين، وصاروا بذلك من القوم المسلمين. ويؤخذ من قوله: "فقرائهم": أن الزكاة تفرق على الفقراء الذين هم بالبلد الذي أخذت منه الزكاة، وهذا هو الوجه، إلا أن تكون حاجة غيرهم أشد، فيجوز لولي الأمران يفرق بعض الصدقة بموضعها، وينقل الباقي

إلى موضع الحاجة. ومن ذهب من الأئمة إلى جواز نقل الزكاة من بلد إلى آخر، يرى أن الضمير في قوله: "فقرائهم" يعود على من يدعوهم معاذ من أهل اليمن بصفتهم مسلمين، فكأنه يقول: يرد على فقراء المسلمين. وظاهر هذا الحديث - حيث اقتصر على الفقراء -: أنه يجوز صرف زكاة أهل البلد إلى صنف من الأصناف الثمانية المشار إليها بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] , وبهذا قال مالك، والقائلون بوجوب توزيعها على الأصناف الثمانية يتاولون هذا الحديث على أن الاقتصار على ذكر الفقراء روعي فيه الغالب؛ لأنهم أغلب جهة تصرف إليها الزكاة. ثم قال: "فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم": الكرائم: جمع كريمة، والمراد: نفائس الأموال من أي صنف كان. نهاه عن أخذ خيار المال؛ لأنه إجحاف بحق أصحاب الأموال، إلا أن يعطوا الخيار من أنفسهم، وفي كتاب "الموطأ": أن عمر بن الخطاب مر بغنم من الصدقة، فرأى فيها شاة حافلاً (¬1) ذات ضرع عظيم، فقال عمر: ما هذه الشاة؟ فقالوا: شاة من الصدقة، فقال عمر: "ما أعطى هذه أهلها وهم طائعون، لا تفتنوا الناس، لا تأخذوا حزرات (¬2) المسلمين". ¬

_ (¬1) الحافل: التي اجتمع اللبن في ضرعها. (¬2) الحزرة من المال: خياره.

لا يجوز للعامل على الزكاة أخذ كرائم الأموال، ولا يجوز له أن يأخذ معايبها، فقد جاء في "صحيح البخاري": "لا يؤخذ في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار"، والعوار: العيب. ويؤخذ من الحديث: أن الحق إذا تعلق بمال تختلف أفراده بالخيار والرداءة، أخذ الحق من الوسط، وذلك ما يقتضيه العدل. وفي قوله: "واتق دعوة المظلوم" تنبيه على أن أخذ أطايب الأموال في الزكاة ظلم، وأخرج النهي في صيغة عامة؛ ليتناول النهي كل نوع من أنواع الظلم. "فإنه ليس بينها وبين الله حجاب": الحجاب في الأصل: الستر الحائل بين الرائي والمرئي. ولما كان الشأن في الساتر المنعَ من الوصول إلى المقصود، عبر بنفيه عن عدم المانع من وصول الدعوة إلى الله، فقوله: "ليس بينها وبين الله حجاب" يرجع إلى معنى: أنها ليس لها صارف يصرفها, ولا مانع يمنعها، ونفي المانع من وصول دعوة المظلوم إلى الله كناية عن قبولها وإجابتها. ودعوة المظلوم مقبولة، وإن كان عاصياً، يدل على هذا حديث أبي هريرة فيما رواه الإمام أحمد بن حنبل: "دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجراً، ففجوره على نفسه". والحديث يدل على قبول خبر الواحد، ووجوب العمل به؛ ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرسل معاذًا إلى اليمن، وأمره أن يبلغهم الدعوة إلى الشهادة؛ والصلاة والزكاة، ولولا أن خبره حجة عليهم، لما اكتفى بإرساله إليهم وحده. وأدلة قبول خبر الواحد فيما يرجع إلى الأحكام العملية قائمة متوفرة،

ويلحق بالأحكام العملية: العمليات التي لا ترجع إلى عقائد الإيمان؛ كالأخبار المتعلقة ببعض الأمور المغيبة مما لا يدخل في حقيقة الإيمان, وأما ما يرجع إلى العقائد، فإنما يتمسك فيه بالأدلة القطعية. واقتصر في الحديث على الصلاة والزكاة، ولم يذكر فيه فريضتي الصوم والحج، مع أن بعث معاذ إلى اليمن كان في سنّة عشر، وهاتان الفريضتان مشروعتان، ووجه ذلك: أن في الصلاة والزكاة مشقة على النفوس أعظم من مشقة الصوم والحج، أما مشقة الصلاة، فلتكررها في كل يوم خمس مرات، وأما مشقة الزكاة، فلغلبة الشح على النفوس؛ فقد يحتمل الإنسان مشاق بدنية دون أن يبذل شيئاً من ماله في وجه لا يراه يعود عليه بفائدة دنيوية عاجلة، ونرى كثيراً ممن لا يحافظون على الصلاة، ولا يؤدون زكاة أموالهم، قد يلتزمون الصوم، ويسافرون لأداء فريضة الحج. فمن أجاب دعوة الصلاة والزكاة، وسهل عليه أداؤهما، أجاب دعوة الصوم والحج عند إلاستطاعة من غير تردد.

شرح مسأله الاقتداء بالمذهب المخالف

شرح مسأله الاقتداء بالمذهب المخالف (¬1) سؤال: يهمني أن تتكرموا بعرض المسألة الآتية على قلم التحرير؛ لتمحيصها وبحثها على مقتضى مذهبي الإمامين: الشافعي، والحنفي؛ لكثرة الجدل حولهما، وعدم الوقوف على حقيقتها، وهي: هل يسوغ لشافعي أو حنفي الاقتداء بمالكي تحقق لهما أنه توضأ بماء مستعمل؟ ثم هل يصح للشافعي أو الحنفي أن يقلّد المالكي في الوضوء بالماء المذكور "المستعمل"، ويصليا على مذهبهما أم لا؟ جواب: اقتداء تابع أحد المذاهب في الصلاة بمخالف له في المذهب من المسائل التي جرى فيها الخلاف بين أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وإليك البيان: مذهب الحنفية: الأصح في مذهب الحنفية: أن الحنفي إذا تحقق من الشافعي - مثلاً - أنه أخلّ بشيء مما يراه الحنفي شرطاً، أو ركنًا في الصلاة، لم يصح اقتداؤه به. قال الشيخ الشرنبلاوي في "حواشيه على الدرر": "وأما الاقتداء ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء السادس من المجلد الأول جمادى الثانية 1349 هـ.

بالمخالف، فإن كان مراعياً للشروط والأركان عندنا، فالاقتداء به صحيح على الأصح، ويكره، وإلا، فلا يصح أصلاً"؛ فالحنفي إذا رأى من الشافعي ما يفسد الصلاة في مذهبه، لم يصح اقتداؤه به. وذهب أبو بكر الرازي من الحنفية إلى جواز الاقتداء بالمخالف في الفروع باطلاق، فقال: "يجوز للحنفي الاقتداء بمن يخالف مذهبنا من المجتهدين، وتقليدهم، وإن رأى فيه ما يبطل الصلاة على رأيه ومذهبه". ونقل ابن الهمام عن شيخه سراج الدين الشهير بقارئ الهداية: أنه كان يعتقد قول الرازي، حتى أنكر مرة أن يكون فساد الصلاة بذلك مروياً عن المتقدمين. وللشيخ محمد عبد العظيم بن فروخ رسالة اعتمد فيها قول الرازي، وبنى رسالته عليه؛ حيث قال: "هذا - يعني: قول الرازي - هو المنصور دراية، وإن اعتمدوا خلافه رواية" وهو الذي أميل إليه، وعليه يتمشى ما ذهبنا إليه في هذه الورقات". فإذا تحقق حنفي من مالكي أنه توضأ بماء مستعمل، لم يصح الاقتداء به في المشهور من مذهب الحنفية، وساغ له الاقتداء به في قول أبي بكر الرازي. مذهب الشافعية: الأصح في مذهب الشافعية، كما في "المجموع" للإمام النووي: أن المأموم إذا تحقق ترك الإِمام لشيء هو في اعتقاد المأموم معتبر في صحة الصلاة، لم يصح اقتداؤه به، وإن لم يحقق إتيانه به، أو شكّ في ذلك، صح الاقتداء. وذهب أبو بكر محمد بن علي القفّال - من أكابر علماء الشافعية - إلى

أن العبرة باعتقاد الإمام، فيصح اقتداء الشافعي بالحنفي أو المالكي إذا أتى الصلاة على الوجه الصحيح في مذهبه، وإن لم تكن صحيحة على مذهب المأموم، وتحقق المأموم ذلك، فلو مس حنفي امرأة، أو ترك الطمأنينة في الصلاة - مثلاً -، لم يصح اقتداء الشافعي به على ما هو الأصح في المذهب، وصح الاقتداء على قول أبي بكر القفال، فاقتداء الشافعي بمالكي تحقق له أنه توضأ بماء مستعمل يمنعه جمهور الشافعية، ويجيزه القفال. مذهب المالكية: المقرر في مذهب المالكية: أن الاقتداء بالمخالف في المذهب صحيح، ولو لم تكن صلاته صحيحة على مذهبهم؛ كأن يترك الدلك، أو مسح الرأس في الوضوء، قال الشيخ خليل في "مختصره": "وجاز اقتداء بمخالف في الفروع الظنية، ولو أتى بمناف لصحة الصلاة؛ كمسح بعض رأسه". مذهب الحنابلة: يجيز الحنابلة الاقتداء بمخالف في الفروع كالمالكية. قال الشيخ ابن تيمية في "فتاويه": "وكان أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الحجامة والرعاف، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم، ولم يتوضأ، أفنصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف سعيد بن المسيب، ومالك؟!. ومعنى هذا الجواب: أنه يصح للحنبلي أن يصلي وراء المخالف في المذهب، وإن تلبس بما ينافي الصلاة في مذهب الإِمام أحمد بن حنبل؛ فإن سعيد بن المسيب، ومالك بن أنس لا يريان الوضوء من خروج الدم، وقد أنكر أحمد بن حنبل على من تردد في الاقتداء بمن يرى رأيهما، وقد خرج منه الدم ولم يتوضأ. وجه صحة الاقتداء: قد عرفت أن المالكية، والحنابلة، وأبا بكر الرازي

من الحنفية، وأبا بكر القفال من الشافعية يجيزون الاقتداء بالمخالف في الفروع الظنية على الإطلاق، ووجه هذا المذهب: أن الأصل صحة اقتداء المسلمين بعضهم ببعض، ومن ذهب إلى عدم الصحة، فعليه إقامة الدليل، ولم نر للقائلين بعدم الصحة إلا دليلاً هو: اعتقاد المأموم أن إمامه على خطأ، وهذا غير كاف في الاستدلال؛ لأن المأموم يعتقد مع ذلك أن عمل الإمام صحيح عند الله؛ إذ كل مجتهد مطالب بأن يعمل على مقتضى اجتهاده، ومن قلده إنما يعمل على مقتضى هذا الاجتهاد، وإذا كان عمل المجتهد، أو من يقلده صحيحاً عند الله، فما المانع من الاقتداء به؟ ثم إن السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين كانوا يختلفون في الفروع، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرّج من الاقتداء بمن يخالفه في اجتهاده. * تقليد الشافعي أو الحنفي للمالكي: يجوز لأحد أتباع الأئمة المجتهدين تقليد مذهب إمام آخر إذا لم يقصد التلاعب، وهذا ما كان في عهد الصحابة - رضي الله عنهم -؛ فإنه لم يرد أنهم أنكروا على العامة تقليد أحدهم في بعض المسائل، وآخر في غيرها، والمدار على أن يكون قاصد الانتقال من مذهبه على بينة من صحة الحكم في المذهب المنتقل إليه؛ كأن يتلقاه من عالم أمين، وصحة الوضوء بالماء المستعمل ثابتة في مذهب مالك، فإذا توضأ الشافعي أو الحنفي بالماء المستعمل مقلداً مذهب الإمام مالك، فصلاته صحيحة. هذا ما يقوله المحققون من علماء الأصول، غير أن منهم من يذكر للانتقال شروطاً، وأهم هذه الشروط: أن لا يحصل بالانتقال صورة يقع الإجماع على

بطلانها؛ كأن يتزوج بغير صداق، ولا ولي، ولا شهود، وأن لا يكون شأنه التقاط رخص المذاهب أينما وجدها. وهذا الحكم واضح فيما إذا لم يعمل في الحادثة بمذهب إمامه قبل الانتقال إلى مذهب غيره، أما الانتقال في حادثة سبق له العمل فيها بمذهب التزم تقليده، فقد حكى فيه ابن الحاجب، والآمدي الاتفاق على المنع، وأنكر أبو عبد الله الزركشي في كتابه "البحر المحيط" هذا الاتفاق، وذكر أن الخلاف جار في الانتقال بعد العمل أيضاً؛ أي: إن من أهل العلم من يجيز للعامي أن ينتقل في الحادثة إلى مذهب آخر، ولو سبق له العمل فيها بمذهب إمامه.

صنع الصّور واقتناؤها (¬1) سؤال: ما حكم الشرع الشريف في التصوير الفوتوغرافي، وهل الصور الفوتوغرافية تمنع دخول الملائكة في المحل الذي توجد فيه؟ وما حكم الشرع الشريف في إقامة تماثيل العظماء، هل يجوّزها، أو يحرّمها؟ سؤال: هل يحرم التصوير الشمسي (الفوتوغرافي)؟ وإذا كان، هل الحرمة مطلقة، أم هناك تفصيل؟ سؤال: هل يجوز حمل الصور والتماثيل، والنظر إليها، واقتناؤها في المكاتب والبيوت؟ وإذا كان ذلك حراماً، فما حكمة التحريم؟ وهل هناك فرق في التحريم بين التصوير الشمسي والرسم باليد (النصفي والكامل)، وصنع التماثيل (النصفية والكاملة)؟ وهل تصوير ما فيه روح وما لا روح فيه سواء، وما رأي "نور الإسلام" في إقامة تماثيل لعظماء الرجال بالميادين الفسيحة، والمنتزهات الكبيرة؟ سؤال: هل يجوز التصوير الشمسي؟ الجواب: يذكر فريق من أهل العلم حكم الصور، وما جرى فيها من ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء العاشر من المجلد الأول، شوال 1349 هـ.

خلاف، غير فارقين بين صنعها واقتنائها. ويرى فريق منهم: أن في الصور التي يحرم صنعها ما لا يحرم اقتناؤه، وطريقة هذا الفريق تدعونا إلى أن نبحث عن صنع الصور، ثم نبحث عن اتخاذها واقتنائها، والله ولي التوفيق. * التصوير: ورد في التصوير أحاديث صحيحة، منها: حديث: "إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون". وحديث: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله" (¬1). ولما كان ظاهر هذين الحديثين يجعل المصور في أشد العذاب الذي هو جزاء الكافرين، وأصول الشريعة تقتضي أن عقوبة فعل المحرم لا تبلغ أشد العذاب، حمل بعض أهل العلم الحديث الأول على من يصور ما يعبد من دون الله، وحملوا الحديث الثاني على من يصور قاصداً أن يضاهي خلق الله، ومن يصنع الصور قاصداً لأن تعبد من دون الله، أو يصنعها قاصداً التشبه في فعله بخلق الله، فقد جاء بما لا يفعله إلا جاحد، فيستحق أن يكون من أشد الناس عذاباً يوم القيامة. ومقتضى فهم الحديثين على هذا الوجه يخرج من وعيدهما من يصور ما لا يعبد، ومن يصور غير قاصد المضاهاة بخلق الله. ووردت أحاديث في وعيد المصورين بالعذاب دون أن تجعلهم في أشد مراتبه؛ كحديث: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم" (1). وحديث: "من صور صورة، كلف يوم القيامة أن ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري".

ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ" (¬1). جاءت هذه الأحاديث، وهي تدل بظاهرها على حرمة التصوير بوجه عام، ولكن العلماء اختلفوا في حكم تصوير الحيوان والإنسان على حسب اختلاف أنظارهم في فهم هذه الأحاديث، والتفقه في علة النهي، واختيار طريق الجمع بين ما يظهر في بعضها من تعارض. فذهب فريق إلى المنع من صنعها بإطلاق، وقالوا: تصوير الحيوان حرام بكل حال، وسواء كان في ثوب، أو بساط، أو دينار، أو درهم، أو فلس، أو إناء، أو حائط، وسواء في هذا كله ما له ظل، وما لا ظل له. واستثنى بعض أهل العلم من منع تصوير ما له ظل: الصور التي تصنع للعب البنات؛ لما ورد فيها من الرخصة، ذكر هذا القرطبي في "تفسيره"، ونقل الماوردي في "الأحكام السلطانية": أن أبا سعيد الإصطخري من أصحاب الإِمام الشافعي تقلد حسبة بغداد في أيام المقتدر، وأقر سوق اللُّعب، ولم يمنع منها، وقال: قد كانت عائشة - رضي الله عثها - تلعب بالبنات بمشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا ينكره عليها (¬2)، ثم قال: وليس ما ذكره من اللُّعب ببعيد من الاجتهاد. وأجاز بعض أهل العلم؛ كأصبغ بن الفرج المالكي صنعَ الصور مما لا يبقى طويلاً؛ كالعجين، ومن هذا ما يصنع في شكل الحيوان من الحلوى، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري". (¬2) في "صحيح الإمام البخاري" عن عائشة -رضي الله عنها -، قالت: كنت ألعب بالبنات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان لي صواحب يلعبن معي.

وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13]: قد استثني من هذا الباب: لعب البنات، وما يصنع من الحلوى أو العجين، ووجه نظر هؤلاء: أن صورة ما يعظم ويعبد من دون الله ليس من شأنها أن تصنع مما لا يبقى زمناً طويلاً. وقيد آخرون منع الصور المجسمة بتمام الأعضاء الظاهرة، أما إذا كانت الصورة ناقصة عضواً لو قطع من الحيوان، فقد معه الحياة؛ كالرأس، والبطن، فصنعها غير محرم عند هؤلاء، ووجه هذا القيد: أن الحديث يقول في وعيد المصورين: "ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم"، ومقتضاه: أن تكون الصورة تامة الأعضاء التي لا حياة لها بدونها, ولا ينقصها إلا نفخ الروح الذي يكون به الإِحياء. ورأى بعض الفقهاء - فيما حكاه أبو محمد الجويني - جواز نسج الصور في الثوب، وأفتى آخرون لإباحة التصوير على الأرض ونحوها، وقال الخطابي: الذي يصور أشكال الحيوان (أي: يصنع صورتها دون أن يكون لها ظل) أرجو ألا يكون داخلاً في هذا الوعيد. ومما يصح أن يكون مستنداً لهؤلاء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، قال: "إلا رقماً في ثوب"، وهذا استثناء - وإن ورد في سياق النهي عن اتخاذ الصور - فهو يؤذن بأن رقم الصور في الثوب غير داخل فيما حرم من التصوير. وذهب بعض الناس في الشذوذ إلى مكان بعيد، فأجازوا تصوير ما له ظل بإطلاق، حكى هذا القول بعض المفسرين عند قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13]. قال ابن عطية: وذلك خطأ، ولا أعلم من أئمة العلم من يجوزه، ولا حجة لهم في هذه الآية على جواز تصوير ما له ظل، ولو سلمنا أن هذه

التماثيل التي كانت تعمل لسليمان - عليه السلام - من قبيل الصور ذات الأجسام التامة الأعضاء، فإن الآية حديث عما يعمله الجن لسليمان - عليه السلام -، وشَرْعُ من قبلنا ليس شرعاً لنا عند كثير من أهل العلم حتى يقوم الدليل على مشروعيته. ومن يذهب إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا، يضع لذلك شرطاً هو: أن لا يرد في الكتاب أو السنّة ما يخالفه، وقد ورد في السنّة الصحيحة أحاديث صريحة في تحريم الصور، وليس وراء الصور ذوات الأجسام ما يصح أن يكون مناط التحريم في هذه الأحاديث. ويبقى النظر بعد هذا في أخذ الصور بالآلة المصورة (الفوتوغرافية) هل يجري في حكمه على ما برقم في الثوب، أو يرسم على الأرض أو الورق من أشكال الحيوان، فيكون من مواضع الخلاف السابق، حراماً عند قوم، جائزاً أو مكروهاً عند آخرين، أو أن لأخذ الصورة بالآلة المصورة نظراً آخر يستدعي من الحكم غير ما يستدعيه التصوير باليد مباشرة، فيكون جائزاً، ولو عند من يقول بحرمة التصوير أشكال الحيوان؟. من الواضح أن المصوِّر بنحو الرقم أو النقش، والمصور بالآلة المصورة يفترقان في وسيلة حصول الصورة. فالأول يمسك القلم أو الريشة بيده، ويأخذ في صنع الصورة جزءاً فجزءاً حتى يستوفي أجزاءها، ويخرجها في شكل ذي روح، فهو صانع الصورة بيده، وهذا ما يمكن أن يقترن بعلة مضاهاة الخالق؛ أعني: العلة الواردة في الحديث. أما حصول الصورة باستعمال الآلة المصورة، فطريقه: أن صاحب الآلة يضع ورق التصوير في مزيج من أملاح الفضة، و (يودور) الفضة، ومادة

أخرى لزجة، بمقدار مناسب، ثم يعرض رق التصوير (الفلم) للضوء، فتنطبع فيه صورة ما يراد أخذ صورته بوسيلة دخول الضوء من عدسة الآلة، ووقوعه على الرق (الفيلم)، ويعالج بعد هذا بمحلول (هيبوسلفات السودة)، فتظهر الصورة بعد أن كانت خافية، وبعد ظهورها تعاد بحمض خاص لتصير ثابتة، غير أن أجزاء الجسم المستنيرة تظهر في الصورة سوداء، وأجزاؤها القاتمة تظهر بيضاء، وهذه هي الصورة المسماة عندهم بالصورة السالبة؛ والذي يصنعه المصور بعد هذا حتى تخرج الصورة موافقة لما في الواقع، هو أن يلصق الصورة السالبة بورقة من الورق الحساس، ويعرضها للضوء، فتنطبع الصورة في الورقة عائداً كل لون منها إلى أصله من بياض أو سواد، وتلك هي المسماة عندهم: الصورة الموجبة. فهذه الوسيلة لأخذ الصورة لم تكن معروفة لعهد الوحي في تصوير ما ليس له ظل، فمن يذهب إلى إباحة رقم الصور في الثوب يجيز التصوير بهذه الآلة من غير تردد؛ إذ لا تزيد على الرقم في الثوب، والنقش على الورق بشيء يقتضي منعها. ومن منع من تصوير ما ليس له ظل، قد يرى أن المنع مقصور على التصوير بالطريقة المعروفة لعهد الوحي؛ لأن التصوير إيجاد الصورة، وهذا المعنى ظاهر فيمن صنع أجزاء الصور بيده، أما الصورة الحادثة بالآلة المصورة، فمرجعها إلى ما أوجده الخالق تعالى في تلك المواد من خواص، ثم دخول الضوء من العدسة، وانطباع الصورة على الرق (الفيلم)، أو الزجاجة، ثم انطباعها على الورق الحساس، فليس من البعيد أن يكون لهذا الفرق أثر في أن يكون الجواز في التصوير الشمسي أظهر منه في رقم

أشكال الحيوان باليد مباشرة، وهذا ما أفتى به حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية سابقاً. * علة تحريم التصوير: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس ينصبون تماثيل يسمونها: آلهة، ويعبدونها من دون الله؛ بزعم أنها تقربهم إلى الله زلفى، فجاء الإسلام منكراً لصنيعهم أشد الإنكار، ومعبراً عن سفه عقولهم بأبلغ بيان. ومن المناهج التي تسلكها الشريعة الحكيمة لظهور الرشد على الغي: أن تجيء إلى ما شأنه أن يكون وسيلة إلى ضلالة، ولا منفعة فيه البتة، أو تكون منفعته أقل من إثم ما يتوسل به إليه من ضلال، فتمنع من إتيانه، وهذه الطريقة تقتضي النهي عن التصوير الذي هو أحد الوسائل إلى عبادة غير الواحد الخلاق، وقد قرر بعض العلماء للمنع من التصوير هذه العلة، وهي كونه ذريعة للغلو في تعظيم غير الله. قال القاضي أبو بكر بن العربي: "والذي أوجب النهي عن التصوير في شرعنا- والله أعلم-: ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصورون ويعبدون، فقطع الله الذريعة، وحمى الباب". وإذا قيل: إن علة المنع من التصوير - فيما يظهر في الأحاديث - هي التشبه بخلق الله، يؤخذ هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله"، فقد نبه على أن علة عذابهم الأشد: تشبههم بخلق الله إلى صنعهم شيئاً يتشبهون فيه بالخالق، ودل على هذا الوجه أيضاً حديث: "ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم"، فقوله: "أحيوا ما خلقتم" مشعر بأن علة الإنكار هي التشبه بالخالق.

إذا قيل هذا، قلنا: هذه العلة المشار إليها في الحديث لا تمنع من أن يكون للمنع من التصوير علتان: إحداهما تجعله مفسدة في نفسه، وهي التشبه بمبدع الخليقة، والأخرى كونه وسيلة إلى ما فيه أكبر مفسدة؛ أعني: الغلو في تعظيم غير الله. قال القاضي أبو بكر بن العربي - بعد أن ذكر علة سد الذريعة إلى عبادة الأصنام-: فإن قيل: فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من صور صورة، عذبه الله بها حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ"، وفي رواية: "يتشبهون بخلق الله"، فعلل بغير ما زعمتم، قلنا: نهى عن الصورة، وذكر علة التشبه بخلق الله، وفيها زيادة على هذا: عبادتها من دون الله، ذنبه على أن نفس عملها معصية، فما ظنّك بعبادتها؟!. وهذا النظر يقتضي أن النهي عن التصوير قائم على هاتين العلتين، ولو كانت العلة سد الذريعة وحده، لكان لأنظار الفقهاء في حال انقطاع الناس عن اتخاذ الصور آلهة مجال، ولكن على المضاهاة بخلق الله تجعل المنع باقياً؛ حيث لم تقيد المضاهاة في الحديث بالقصد إليها، وقد عرفت أن العلماء الذين يذهبون إلى إباحة صنع بعض الصور؛ مثل: ما ليس له ظل، أو كان مجسماً غير تام الأعضاء، أو ما دعت إليه مصلحة التدريب على إدارة المنزل، يستندون فيما أفتوا به إلى أحاديث تجعل النهي مقصورًا على غير ما أفتوا لإباحته. * هل يجوز التصوير لمصالح تقتضيه؟: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التصوير؛ صَرفاً للناس عن حال التشبه بالخالق، وأذن بلعب البنات لمصلحة التمرين على إدارة المنزل، فدل على أن مصلحة هذا

التمرين ترجح على مفسدة التصوير، فهل للفقهاء إذا عرفوا في تصوير شيء من الأشياء مصلحة جلية، أن يفتوا بإباحته على قدر ما تدعو إليه الحاجة؟ لم نجد في كتب الفقه ما يشعر بصحة هذا التصرف إلا كلمة قالها الماوردي في "الأحكام السلطانية" عند الحديث عن لعب البنات، ونصه: "وأما اللعب، فليس يقصد بها المعاصي، وإنما يقصد بها إلف البنات لتربية الأولاد، وفيها وجه من وجوه التدبير تقارنه معصية بتصوير ذوات الأرواح، ومشابهة الأصنام، فللتمكين منها وجه، وللمنع منها وجه، وبحسب ما تقتضيه شواهد الأحوال يكون إنكاره وإقراره". وإذا أراد الماوردي من شواهد الأحوال: الأحوال التي نص فيها الشارع على منع التصوير، أو إباحته، لم يبق بأيدينا نص من الفقهاء في إباحة التصوير عند ما يكون له - فيما يظهر - فائدة. ومن المواضع التي ينتفع فيها بالتصوير لهذا العهد: أن يوجد قتيل في خلاء، ولا يعرف من أي قبيل هو، فتؤخذ صورته لتعرض في الصحف؛ لعل أهله يطلعون عليها، ويترتب على درايتهم بقتله نحو: الإرث، وتنفيذ الوصايا، وفي حضور أهله معونة على تحقيق البحث في الجناية. ويشبه هذا: أن يوجد صبي ضائعاً، فتؤخذ صورته لتعرض في الصحف، حتى إذا رآها وليّه، جاء فتسلمه، ومن هذا القبيل: وضع صورة من مَرَدَ على الجنايات في الصحف، أو في المجتمعات العامة؛ ليحذره الناس، فيسلموا من أذيته، ويضاهي هذا: رسم أشكال الحيوان في كتب علم الحيوان؛ إذ يتوقف عليه الرسوخ في ذلك العلم.

فهذه الأحوال ونحوها - مما يظهر فيه وجه الانتفاع بالتصوير - يصح أن يؤخذ فيها بمذهب من يحيى تصوير ما ليس له ظل، مرفوعاً كان أو ممتهناً، ناقص بعض الأعضاء أو تامها. * اتخاذ الصور: الصور على نوعين: 1 - ما ليس له ظل؛ كالمرقوم في ثوب، أو المرسوم في ورق. 2 - وما له ظل، وهو ما كان ذا جسم قائم بنفسه. أما ما ليس له ظل، ففيه أربعة مذاهب: أحدها: المنع من اتخاذه بإطلاق؛ وقوفاً مع ظاهر الأحاديث الواردة في الوعيد أو النهي غير مصحوبة بقيد. ثانيها: منع ما تكون فيه الصورة متصلة الهيئة، تامة الشكل، وإباحةُ اتخاذ ما كان غير تام الشكل، وما تفرقت أجزاؤه بعد أن كانت ملتئمة، وهذا ما اختاره القاضي أبو بكر بن العربي، ورجحه ابن عبد البر، وهذا المذهب نشأ بالجمع بين حديثين في ظاهرهما تعارض، وهما: حديث هتك النبي - صلى الله عليه وسلم - للستر الذي كان فيه تماثيل، وجعل عائشة -رضي الله عنها - منه وسادتين؛ وحديث قيامه - عليه الصلاة والسلام - بباب الحجرة؛ إذ رأى نُمرقة فيها تصاوير حتى قال منكراً ذلك: "ما هذه النمرقة؟ "، فقالت له عائشة: لتجلس عليها وتوسدها، فلم يقر ذلك، بل قال: "إن أصحاب هذه الصورة يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم"، فالحديث الأول يدل على أن الصورة المنسوجة في نحو الوسادة جائزة، والحديث الثاني يدل على أنها ممنوعة، ومتى قلنا: إن الصورة في الحديث الأول - عندما جعل الستر وسادة -

لم تبق تامة الشكل، بل تفرقت أجزاؤها، فكانت جائزة، والصورة في الحديث الثاني كانت تامة الهيئة، فأنكرها - عليه الصلاة والسلام -، زالت شبهة التعارض بين الحديثين. ثالثها: منع ما يكون معلقاً أو مرفوعاً، وإباحة ما يكون مفروشاً أو ممتهناً بالاستعمال؛ كالصور المرقومة في وسائد، أو زرابي، وهذا هو الذي رواه المزني عن الإمام الشافعي، ورجّحه النووي، وقال: هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين، والفرق بين المعلق والمفروش: أن ما يوطأ ممتهن ومبتذل، والمرفوع يشبه ما نصب من الأصنام، والصور الممتهنة يرجح الإمام النووي جواز استعمالها، ويجزم مع هذا بحرمة صنعها. رابعها: الجواز بإطلاق، وهو ما نقله ابن أبي شيبة عن القاسم بن محمد أحدِ فقهاء المدينة السبعة، ولفظه: "عن أبي عوني، قال: دخلت على القاسم وهو بأعلى مكة في بيته، فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس (¬1) والعنقاء". وهذا المذهب يستند إلى حديث بُسر بن سعيد عن زيد بن خالد، عن أبي طلحة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه الصورة". قال بسر: ثم اشتكى زيد، فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة، فقلت لعبيد الله ربيب ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال: "إلا رقماً في ثوب"؟ وفي كتاب "الموطأ": "أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود دخل ¬

_ (¬1) كلب الماء.

على أبي طلحة الأنصاري يعوده، فوجد عنده سهل بن حنيف، فدعا أبو طلحة إنسانًا، فنزع نمطًا من تحته: فقال سهل بن حنيف: لم تنزعه؟ قال: لأن فيه تصاوير، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد علمتَ، فقال سهل: ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا رقماً ثوب"؟ قال: بلى، ولكنه أطيب لنفسي. وعلى هذا المذهب جرى المتأخرون من فقهاء المالكية، غير أنهم عبروا بالكراهة، وخلاف الأولى. قال الشيخ خليل في كتاب "التوضيح": التمثال إن كان لغير حيوان، جاز، وإن كان لحيوان، ويقيم (أي: يبقى طويلاً)، فهو حرام بإجماع، وكذا إن لم يقم؛ خلافاً لأصبغ، وما ليس له ظل إن كان غير ممتهن، فهو مكروه، وإن كان ممتهنًا، فتركه أولى. ومن أهل العلم من يرى أن النهي عن اتخاذ الصور قد جاء في أول الإِسلام عاماً؛ ليقطع الوسيلة إلى عبادة الأصنام، وبعد أن تقرر هذا الحكم، وعرف الناس شدة مقت الشارع للتغالي في تعظيم غير الله إلى حد العبادة، أذن في اتخاذ ما كان رقمًا في ثوب، فيكون حديث: "إلا رقمًا في ثوب، مرخصاً في بعض ما حرم في أول الأمر من التصاوير. وأما ما له ظل قائم، وكان تام الأعضاء، مصنوعاً مما يبقى زمناً طويلاً، ولم تدع إليه مصلحة التدريب على تدبير المنزل، فيحرم اتخاذه بلا خلاف، والرأي الشاذ الذي حكاه بعض المفسرين في جواز صنعه، ومقتضاه: جواز اقتنائه، لا يستند إلى أصل معقول، أو وجه يتلقاه النظر بالقبول. فإن كان ناقص بعض الأعضاء الظاهرة؛ كالرأس أو البطن، فذلك ما يفتي المتأخرون من فقهاء المالكية بإباحته، وإن كان مصنوعاً مما لا يبقى زمناً طويلاً، فهو ما يقول أصبع بجواز اتخاذه، وإن دعت إليه حاجة التدريب

على إدارة شؤون المنزل، فهو جائز عند بعض الفقهاء، مستنداً إلى ما قدمناه لك من حديث عائشة - رضي الله عنها - في اتخاذها صور بنات تلعب بهن على مرأى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير إنكار. وبهذا التفصيل يعلم حكم إقامة تماثيل للعظماء.

مكافحة الجشع والغش في المعاملات المالية

مكافحة الجشع والغش في المعاملات المالية (¬1) تحيا الأمة في سلامة أو سيادة، متى حظيت بقوتين عظيمتين، هما: القوة النفسية، والقوة العملية. والقوة النفسية: في استنارة عقولها، وسمو أخلاقها، والقوة العملية: في إتقان فن الزراعة، والبراعة في الصناعة، وإحكام أمر التجارة. فالزراعة والصناعة والتجارة هي الأصول التي تقوم عليها المدنية الزاخرة، ويحدث عنها ما يجري بين الأفراد والجماعات من المعاملات المالية. فإذا تحدثنا عن المعاملات المالية، وضربنا الأمثال لما يليق منها، وما لا يليق، فإنا نريد: المبايعات التي تقع بين التاجر أو الزارع أو الصاح، وبين من يأخذ منه حاجته بعوض مسمّى. وقد وجّه الشرع الإسلامي عنايته إلى المعاملات المالية، ووضع لها نظماً تَحفَظُ من أكل أموال الناس بالباطل، وحاط هذه النظم بمواعظ بالغة متى كان في الناس إيمان صادق، وحذرٌ من سوء العواقب. وليس من غرضنا التحدث عن تلك النظم التي يرجع إليها القضاة عند الفصل بين الخصوم؛ فإنها نظم واسعة النطاق، ولها مقامات غير هذا المقام، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن السابع والثامن من المجلد الرابع عشر.

وإنما نريد تذكير الأمة في هذه الأوقات العسيرة بفضيلة العدل، والسماحة في المبايعات، ويما يعودان به على الفرد والجماعة من خيرات شاملة، وعواقب حسنة، ثم تذكيرها بضرر الخروج على نظم الشريعة، والذبذبة في طرق الغش والخداع. وينبغي أن نعلم أن لتعاطي التجارة والزراعة والصناعة ثلاثة أغراض: أولها: أن يقوم الإنسان بما تتطلبه حياته الخاصة؛ من نحو: المطعم والملبس والمسكن؛ ليحتفظ بكرامته، ويعيش في غنى عما في أيدي الناس. ثانيها: أن ييسر للناس أمر معايشهم؛ إذ ليس كل أحد يقدر على أن يزرع أو يصنع، أو يجلب الأقوات أو البضائع من أماكن بعيدة. ثالثها: أن يكون قومه في قوة يستطيعون أن يصدوا بها عدوّهم المهاجم، وقد عرفنا أن هذه الأصول الثلاثة هي قوام القوة العملية التي تجعل الأمة في أمن ومنعة. والناس في المبايعات أصناف: صنف يأخذ بالإنصاف، فيحرص على أن يستوفي حقه، ويأبى أن يتعداه إلى شيء من حقوق غيره، ويسير هذا الصنف في مبايعاته على طريقة المماكسة، وهي المساومة بالزيادة والنقصان. ولا بأس في الأخذ بهذه الطريقة ما دامت المساومة في حدود الاعتدال، وما زال الفضلاء يأخذون في مبايعاتهم بالمماكسة المعقولة. رُئي عبد الله بن جعفر يماكس في درهم، فقيل له: أتماكس في درهم، وأنت تجود من المال بما تجود؟ فقال: ذلك مالي جُدت به، وهذا عقلي بخلت به. ومن الناس من يلوذ بالعفاف، ويأبى أن يصل إلى يده شيء من حقوق

غيره، وتطيب نفسه بأن يترك شيئاً من حقه للمبايع على وجه المكارمة؛ كان يحتمل في مبايعات الفقراء شيئاً من الغبن، أو يعطي المبايع شيئاً أفضل مما وقع عليه العقد. كان لرجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دين، فقضاه بأحسن مما أخذ منه، فقال له الرجل: أوفيتني أوفى الله بك، فقال - صلوات الله عليه -: "إن خياركم أحسنكم قضاء". واستلف عبد الرحمن بن عمر من رجل دراهم، ثم قضاه دراهم خيراً منها، فقال له الرجل: يا أبا عبد الرحمن! هذه خير من دراهمي التي أسلفتك، فقال ابن عمر: قد علمت، ولكن نفسي بذلك طيبة. فلا يمدح الرجل على شرائه الشيء بأكثر من ثمنه، أو بيعه بأقل من ثمنه، وهو يجهل قيمته، وإنما يمدح على مثل هذه المعاملة متى كان يعلم قيمة ما باع أو اشترى. وإنما يتقبل الرجل ما زاد على حقه في المبايعة حيث يثق بأن الزيادة كانت على وجه المكارمة، فإن اشتبه عليه الحال، واحتمل أن تكون الزيادة وقعت على وجه الخطأ، أو الجهل بمقدار الحق، وجب عليه ردها إلى صاحبها، وإن هو لم يفعل، فقد وضع في بطنه أو في بيته جذوة من نار الحريق. اشترى ابن عمر شيئاً، فوضع يده فوق المكيال، وحثا له عليه، فقال له ابن عمر: أرسل يدك، ولا تمسك على رأسه؛ فإن في ما يحمله المكيال. وأذكر أن جرير بن عبد الله - وكان من أفاضل الصحابة - اشترى له غلامه فرسًا بثلاث مئة، فلما رأى جرير الفرس، ذهب إلى صاحبها، وقال له: إن فرسك خير من ثلاث مئة، وما زال يزيده في الثمن حتى أعطاه ثمان مئة.

أما الصنف الثالث من الناس، فهم الذين يستوفون في المبايعات حقوقهم، وترضى لهم نفوسهم أن يبخسوا حق غيرهم، فينالوا منه ما استطاعوا على وجه الغش والخداع، وهذا الضرب من المعاملة إنما توحي به قلوب كالحجارة أو أشد قسوة، بل قلوب لم يدخل فيها الإيمان الحافظ من أكل أموال الناس بالباطل. ولا مرية في أن انسياق الرجل في مبايعاته مع الجشع، وارتكاب طرق الغش، يفسد عليه الأغراض الشريفة التي تقصد من التجارة: يفسد عليه غرض التيسير على قومه، وغرض مؤازرتهم على القوة التي بها سلامتهم وسيادتهم؛ فإن الشرِه والغاش في معاملاته إنما يريد بالقوم عسراً لا يسراً، ولا ينتظم للقوم قوة والقابضون على أصول حياتها شرهون مخادعون. بل الشرَه والغش يفسد على الرجل غرض الاحتفاظ بكرامته؛ إذ لا كرامة لمن تتلوث نفسه بالشره، وتنغمس في رذيلة الغش والخداع. ولفظاعة الجشع والغش في المعاملات، وإخلالهما بنظام الأمن، وتشويههما لوجه المدنية الفاضلة، عُنيت الشريعة الغراء بمكافحتها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى". وقال - عليه الصلاة والسلام -: "من غشّنا، فليس منا". وتحدث- عليه الصلاة والسلام- عن زمان يكثر فيه الشر، ويغلب عليه الفساد، وقال: "فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة". يكون الغش بنقص كيل المبيع أو وزنه، وهو التطفيف المتوعَّد عليه في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ

النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1 - 6]. وفي قوله: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين: 4] إيماء إلى أن عدم إيفاء الكيل والوزن في المبايعات؛ شأن من لا يصدق بأنه سيبعث، ويحاسب على ما قدمت يداه من أمثال هذه الخيانة الدنيئة. وإن شئتم أن تزدادوا علماً بخطر الغش في الكيل والوزن، فاقرؤوا ما قصّه الله تعالى في دعوة شعيب - عليه السلام - لقومه، إذ قال: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84]. فقد قرن شعيب - عليه السلام - النهي عن نقص الكيل والوزن بالنهي عن الشرك بالله، وقرن بين الجريمتين في الوعيد، فدل على أن الغش في الكيل والوزن بالغ في الفساد إلى حال قريبة من الحال الشرك برب العالمين. ويلحق بالكيل والموزون: ما يباع بالذراع، فكل من نقص الكيل والوزن والذرع اعتداء على مال خفية، فعقوبة نقص الذرع هي عقوبة نقص الكيل والوزن، وخساسة ارتكاب هذا هي خساسة ارتكاب ذاك. ويكون الغش بكتم العيب في المبيع أو الثمن، وقد علَّمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لهذا الغش جزاء في الدنيا قبل جزاء الآخرة، هو: زوال البركة من المال، فقد قال - عليه السلام - في المتبايعين: "فإن بَيّنا، وصدقا، بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا، محقت بركة بيعهما ". ومن أسباب ذهاب البركة من المال، وتداعيه إلى نقص أو نفاد: أن الذي يخادع في معاملاته، يُعرف بهذا الخداع بين الناس، فينصرفون عنه

إلى معاملة غيره، فيفوته أرباح كثيرة كانت تنمّي ماله لو جرى في مبايعاته على نصح وأمانة. قيل للزبير - رضي الله عنه -: بلغت من اليسار ما بلغت؟ فقال: "لم أرُدّ ربحاً، ولم أكتم عيباً". ويكون الغش بخلط المبيع بشيء أدنى منه، وبيعه على أنه صاف غير مخلوط؛ كبيع الحلي على أنه ذهب، وهو مخلوط بنحاس أو حديد، أو بيع الطعام على أنه قمح، وهو مخلوط بعدس أو شعير. ومن هذا القبيل: دفع المشتري في ثمن المبيع دراهم زائفة، وإيهام البائع أنها سليمة جيدة، وكان السلف يتعلمون علامات النقود الزائفة حتى لا يقبلوها على جهالة فيغبنوا، أو يسلموها إلى غيرهم في مبايعة، فيكونوا وسيلة إلى الإضرار به وهم لا يشعرون. ويكون الغش بدعوى أن البضاعة من صنف أعلى، وهي من صنف دونه، أو بنسبتها إلى بلد أو معمل عرفت مصنوعاته بالجودة والإتقان، وليست منه، ولكثرة وقوع هذا النوع من الغش في المعاملات قالوا: "من اشترى الأشياء على وصف أهلها، غُبِن". ويكون الغش بدعوى البائع أن هذه البضاعة لا توجد إلا عنده، أو أنه أُعطي بها عشرة أو مئة، وهو لم يعطَ بها هذا الثمن المسمّى، وتكبر الجريمة إذا أكد هذه الدعوى بيمين، فيستحق قسطًا كبيراً من وعيد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77]

ويضاهي هذا الضرب من الغش: أن يعرض التاجر سلعة، ويتفق مع آخر على أن يزيده في ثمنها، وهو لا يريد شراءها، وإنما يفعل هذا؛ ليوهم غيره أنها سلعة مرغوب فيها، فيبذل فيها ثمناً فوق ثمنها، وهذا ما يسمّى في عرف الشارع بالنجش، وهو ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ولا تناجشوا". يلحق الناس ضرر فادح من الغش في المبايعات، ويلحقهم ضرر مثله من أن يعمد متعاطي التجارة إلى الأطعمة والبضاح التي تكثر الحاجة إليها، فيحبسها عنده منتظرًا غلاءها، وذلك ما يسمى بالاحتكار، وقد كافح الإسلام هذا الشر بالزجر والوعيد البالغ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحتكر إلا خاطئ". وقال - عليه الصلاة والسلام -: "من احتكر على المسلمين طعامهم، ضربه الله بالجذام والإفلاس". وقال عمر بن الخطاب: "لا حُكْرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم أذهاب، إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا، فيحتكرونه علينا". ولم يختلف الفقهاء في حرمة الاحتكار في أيام العسرة والضيق، ونصوا على أن حرمة الاحتكار لا تختص بالطعام، بل تجري في كل ما يحتاج إليه الناس. قال مالك بن أنس - رضي الله عنه -: إن الطعام وغيره من الكتان والقطن وجميع ما يحتاج إليه في حرمة احتكارها سواء. يتوسل التجار الجشعون إلى أكل أموال الناس بالغش والخداع، ويرفعون أسعار الحاجيات من أنفسهم ليصلوا إلى أرباح وافرة، وقد أذن الشارع الحكيم في مكافحة هذا الجشع، وإماطة أذاه عن الناس، وأفتى علماؤنا بتحديد أسعار

الحاجيات على وجه يراعى فيه مصالح البائعين والمشترين. قال القاضي أبو بكر بن العربي: "والحق التسعير، وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين". وطريقة التسعير على ما وصفوا: أن يجمع الحاكم وجوه أهل السوق، ويحضر غيرهم من أهل الخبرة، ويتعرف كيف يشتري أهل السوق وكيف يبيعون، ثم يقرر للأشياء أثماناً يجعل فيها للباعة من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف بالناس. وكان التسعير وإنفاذه في بلاد الأندلس يرجع إلى ولاية الحسبة، يقول الكاتبون في تاريخ الأندلس: يمشي المحتسب في الأسواق راكبًا، وأعوانه معه، وميزانه الذي يزن به الخبز في يد أحد الأعوان؛ لأن الخبز عندهم معلوم الأوزان، وكذلك اللحم تكون عليه ورقة بسعره، ولا يجسر الجزّار أن يبيع بأكثر مما حدّه له المحتسب في الورقة، ولا يكاد تخفى خيانته، وإذا وقف لأحد على خيانة، اشتد في عقابه، وإن أكثر ذلك منه، ولم يتب، نفاه من البلد. وقص علينا القاضي أبو بكر بن العربي: أن الخليفة ببغداد كان إذا رفع التجار أسعار الطعام، فتح المخازن، وأذن في بيع ما فيها بأقل مما يبيع التجار، ولا يزال على هذا الحال حتى تعود الأسعار إلى أصلها، أو إلى القدر المناسب، قال: وبهذه الطريقة يغلب المحتكرين والجالبين، ويدفع عن الناس ضرراً عظيماً. وكان العلماء بحق يدركون خطر العبث بالأسعار، والغش في المبايعات، فلا يدخرون وسعاً في وعظ التجار، وتذكيرهم بتقوى علام الغيوب، وتربيتهم

على القناعة بما تيسر من الأرباح. كان ابن عمر - رضي الله عنه - على البائع، فيقول له: اتق الله، وأوف الكيل. وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يطوف سوق الكوفة، ويعظ التجار، ومما يقول في وعظه؛ "معاشر التجار! لا تردوا قليل الربح؛ فتحرموا كثيره". وخلاصة حديثنا هذا: أن قانون العدل وكرم الأخلاق ينادي الإنسان؛ لأن يأخذ نفسه بالأمانة والسماحة في المبايعات، فإن هو لم يفعل، وارتكب طريقة الجشع والغش، فقد انتبذ في النذالة مكاناً بعيداً، وأقام بينه وبين الإنسانية حجاباً غليظًا. فالشره والغش قذارة في النفوس، يجب على دعاة الإصلاح أن يغسلوها بالحكمة والموعظة، وعوجٌ في المجتمع يجب على من بيده الأمر أن يقومه بالعزائم الصادقة، والعقوبات العادلة النافذة.

التصوف

التّصوف (¬1) اختلفوا في أصل كلمة الصوفية، وذهبوا فيه مذاهب أصحُّها: أنها مأخوذة من الصوف؛ لأن الزهَّاد كانوا يعمدون إلى لبس الصوف؛ بعدًا وتجنباً للبس الفاخر من الثياب. وهناك آراء ضعيفة: منها: أن الصوفية نسبة إلى صُفَّة؛ لشبه الزهاد بأهل الصفَّة، وهم جماعة من فقراء الصحابة كانوا يقيمون بمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عابدين متفقهين، لا يفارقونه إلا لجهاد عدو. وهذا الوجه لا يوافق قاعدة النسب في اللغة، فإن القاعدة تقضي أن يقال في النسب إلى صفة: صُفِّيَّة، لا صوفية. ومنها: أن الصوفية نسبة إلى آل صوفة؛ تشبيهاً لهؤلاء الزهاد بآل صوفة، وهم قوم كانوا يخدمون الكعبة في الجاهلية، ويتنسكون، ويبعد هذا الوجه: أن آل صوفة قد ذهبوا بذهاب عصر الجاهلية، وقد تسمَّى هؤلاء العباد والزهاد في الإسلام باسم الصوفية، وقبلوا هذا الاسم، ولا أحسبهم يرضون بنسبتهم - ولو على وجه التشبيه - إلى طائفة كانت في الجاهلية على غير هدى. ومنها: أنها نسبة إلى الصوف على معنى: أنهم آثروا الانكسار، فكانوا ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الرابع والخامس من المجلد الحادي عشر، شوال وذو القعدة - 1357 هـ.

كالصوفة المرمية. وهذا وجه سخيف لا يلتفت إليه. ومنها: أن الصوفية نسبة إلى الصف؛ لأنهم في الصف الأول بين يدي الله تعالى. وقاعدة النسب لا تساعد على هذا الوجه، كما أنها لا تساعد على أن يكون مأخوذاً من الصفاءة لصفاء نفوسهم، وخلوص قلوبهم من شوائب الأهواء، وسيئات الأخلاق. وهذا الاسم حدث بعد عهد السلف. قال السهروردي في كتاب "عوارف المعارف": لم يعرف هذا الاسم إلى المئتين من الهجرة. وذكر ابن تيمية جماعة من الزهاد منهم: الفضيل بن عياض المتوفى سنة 187 هـ، وقال: في عصرهم حدث اسم التصوف. وقال القشيري في "الرسالة": واشتهر هذا الاسم - يعني: التصوف - قبل المئتين من الهجرة. وذكر حسن صديق في كتاب (أبجد العلوم): أن أول من دعي بهذا الاسم: أبو هاشم الصوفي، وقد توفي أبو هاشم هذا سنة 150 هـ. والتصوف رياضة النفس، ومجاهدة الطبع، برده عن الأخلاق الرذيلة، وحمله على الأخلاق الجميلة ابتغاء السعادة وهذه الرياضة والمجاهدة تكون بالعكوف على العبادة والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة مال أو جاه. * التصوف قبل الإسلام: متى أريد من التصوف: الزهد في الدنيا، والانقطاع إلى العبادة، ومجاهدة النفس بكفّها عن الشهوات، صح أن يبحث عن هذا المعنى في الأمم التي

وجدت قبل الإسلام. وإذا بحثنا عن هذا المعنى مع قطع النظر عن اختلاف أوضاع العبادات، أو اختلاف الغرض من تلك المجاهدة، رأينا أن لحكماء اليونان في طلب الحقائق طريقتين: طريقة أرسطاطاليس وأتباعه، وهي طريقة البحث والقياس العقلي أو الاستقراء، وتسمى بالحكمة المشائية (¬1). وطريقة أفلاطون وأتباعه، وهي طريقة المكاشفة، وانقداح الحقائق في النفس، وتسمى: حكمة الإشراق؛ لأنها تعتمد على إشراق العقل بالارتياض والتجرد عن الرذائل. فالإشراقيون من الحكماء الإلهيين يشبهون الصوفية في مسلكهم، إلا ما يخالفون فيه هدي الإسلام. قال السهروردي في "حكمة الإِشراق": "والإشراقيون لا ينتظم أمرهم دون سوانح نورية، حتى إن وقع لهم شك، يزول عنهم بالنفس المنخلعة عن البدن". وفي البوذية ما يشبه الرهبانية؛ فإن مؤسس هذه النحلة دهري، لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر (جوتما (¬2))، ومن مبادئه: أن الشقاوة في الدنيا ناشئة عن الشهوات، فيجب إطفاء هذه الشهوات؛ لينجو الإنسان من الشقاوة. ويرى هؤلاء: أن هناك محرمات على الرهبان والراهبات خاصة، وهي التزين بالزهور، والتطيب بالروائح الذكية، وسماع الغناء، والتفرج على الرقص، والجلوس ¬

_ (¬1) سميت بالمشائية؛ لأن زعيم هذه الطريقة - وهو أرسطو - كان يعلم تلاميذه وهو يمشي معهم. (¬2) توفي سنة 480 قبل المسيح.

على الأسرة العالية، واقتناء الذهب والفضة والجواهر، ويقولون: إن (جوتما) كان من أبناء الملوك، وزهد في الدنيا؛ لما رأى فيها من شقاوة الشيخوخة، والأمراض، والموت، فهجر أهله وولايته، ودخل في جبل الثلج يتقشف ويتفكر. ووجد ما يشبه التصوف - أعني: الزهد والانقطاع إلى العبادة - في الفرس، نرى ذلك منذ عهد زرادشت الذي ظهر في أيام الملك (كيستاسف)، فإن كيستاسف نفسه على ما ورد في التاريخ سار إلى جبل كرمان وسجستان، وانقطع به للعبادة، ودراسة دينهم، وسلم أمر الملك إلى ابنه إسفندار (¬1). وورد في تاريخ الفرس: أن أزدشير بن بابك من أعاظم ملوكهم، تبين أن الدنيا غرّارة ضرّارة قاتلة، ما حلا منها لامرئ جانب، إلا تمرّر منها عليه جانب، فزهد في الدنيا، وآثر التفرد عن المملكة، وتركها والتحق ببيوت النيران للعبادة والأنس بالوحدة (¬2). وفي النصرانية رهبانية تشبه التصوف؛ من حيث قيامها على الزهد، والانقطاع إلى العبادة، قال الله تعالى في شأن النصارى: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27]. ومن المعاني الظاهرة في الآية: أن قوماً من أتباع عيسى ابتدعوا رهبانية يبتغون بها رضوان الله، ولكنهم لم يرعوا هذه الرهبانية حق رعايتها؛ أي: لم يحافظوا عليها حق المحافظة. ¬

_ (¬1) "تاريخ ابن خلدون". (¬2) "مروج الذهب" للمسعودي.

وجاء في بعض الأحاديث المتعلقة بفرق النصارى: "وفرقة لم تكن لهم طاقة بمؤازرة الملوك، ولا بالمقام معهم، فساحوا في الجبال وترهبوا فيها" (¬1). * التصوف بعد الإسلام: عني الإسلام بتصفية النفوس من طبائعها الرديئة، وتخليصها من شهواتها الطاغية، ثم عطف على الأجسام، فخلّى سبيلها لأن تتمتع من نعيم هذه الحياة وزهرتها باعتدال، فبقدر ما يدرك الإنسان من صفاء النفس، وسلامة الضمير، بقدر ما يكون له من السلطان على شهواته، فلا تتعدى حدود الاعتدال، يصعد في مراقي الفلاح، ويدنو من مقام الكرامة والوجاهة عند الله. روي أن فريقاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتمعوا، وقرروا فيما بينهم أن يسردوا الصيام، ويعكفوا على العبادة، ولا يقربوا النساء والطيب، وأن يرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الأرض، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم، فنهاهم في خطبة جامعة، وأنزل الله تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]. كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجدّون في العمل ما استطاعوا، ويزهدون في الدنيا زهد من لا يتناول منها إلاّ حلالاً طيباً، وزهد من لا تلهيه تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وهم في هذا السبيل يتسابقون ويتفاضلون، وقد اشتهر كثير منهم بالجد في العبادة، والبلوغ في الزهد مكانة فضلى. ومن هذه الطائفة: أبو ذرّ الغفاري، وسلمان الفارسي - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"، والحاكم، وصححه.

أما أبو ذر، فكان يحض عمَّال عثمان - رضي الله عنه - حينما يراهم يتسعون في المراكب والملابس، فيتلو عليهم قوله تعالى: " {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]. وكان يملأ آذانهم تقريعاً، ويدعوهم، ويشتد في دعوته إلى أن ينفقوا ما زاد على حاجتهم في سبيل الخير، وهذا أمر يطيقه الخاصة، ولا يحتمله كل إنسان، فأنهى معاوية أمره إلى عثمان، فكتب عثمان يأمر أبا ذرّ بالقدوم إلى المدينة، فقدمها، واجتمع إليه الناس، فجعل يسلك بهم ما كان يسلك في الشام، فقال له عثمان: لو اعتزلت؟. ومعناه: أن من كان مثلك في هذه المكانة من الزهد، فحاله يقتضي أن ينفرد عن الناس، أو يخالطهم في رفق، ويخلي سبيلهم ما قضوا حقوق أموالهم، وأذوا فريضة الزكاة على وجهها. فخرج أبو ذر إلى الربذة زاهداً ورعًا، وترك من ورائه قوماً يضاهونه، أو يقاربونه زهداً وورعاً. وأما سلمان الفارسي، فكان عطاؤه خمسة آلاف، فإذا خرج عطاؤه، تصدق به جميعاً، ولا يقتات إلا بما كسبت يده؛ تمسكاً بمثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه البخاري: "ما كل أحد طعامًا قط خيراً من أن يأكل من عمل يده". ويدلكم على مكانته في الزهد والتقوى: كتابه الذي بعث به من العراق إلى أبي الدرداء، وهو يومئذ القاضي بدمشق، ومما يقول فيه: "أما بعد: فقد كتبت إلي: أن الله رزقك مالاً وولداً، اعلمْ أن الخير ليس في المال والولد، وإنما الخير أن يكثر حلمك، وينفعك علمك، وكتبت إلي: أنك نزلت في الأرض المقدسة، اعلم أن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عمله".

هكذا كانت سيرة الزهاد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا كانت مواعظهم: أعمال مشروعة خالصة، وأقوال رشيدة واضحة. وفي عهد التابعين أقبلت طائفة من فضلائهم يتحدثون في أحوال النفس من حيث صفاؤها وصلتها بالخالق - جل شأنه - , وزهدها في زخرف هذه الحياة، واشتدت عنايتهم بالحديث في هذه الآداب، وكانوا يأخذون بها أنفسهم، ويرشدون إليها غيرهم، ويلقبون في ذلك العهد: الزهاد، والوعاظ. ومن أشهر هذه الطائفة: الحسن البصري، وكان صاحب حديث وفقه، وبيان وعلم بالقرآن، فصحبه طوائف من الناس شتى، فمنهم من صحبه ليأخذ عنه الحديث والأخبار، ومنهم من صحبه ليستفيد منه البلاغة والبيان وعلم القرآن، ومنهم من صحبه ليتلقى عنه الفقه والأحكام، وهو مع هذا يتكلم في محاسبة النفس، والمراقبة والإخلاص، والمحبة واليقين، والشغف بذكر الله، وكان يعقد للحديث في هذا السبيل مجلساً في منزله، لا يشهده إلا طائفة يتوسم فيها الكفاية لأن يفهموا، والقوة لأن يعلموا، وكان لا يتحدث في هذا المجلس إلا في هذا الباب من العلم. قال أبو سعيد بن الأعرابي: لم يبلغنا أن أحداً ممن تكلم في هذه المذاهب (يعني: أحوال النفس)، ودعا إليها، وزاد في بيانها وترتيبها وصفات أهلها؛ مثل: الحسن البصري. كان هؤلاء الفضلاء يصرفون هممهم إلى تزكية النفوس من نقائصها، وإسلام القلوب إلى ربها، يشهد بهذا كلمهم الطيب، ومواعظهم الحسنة. ومن مواعظ الحسن البصري: "حادثوا هذه القلوب بذكر الله؛ فإنها سريعة الدثور. واردعوا هذه النفوس؛ فإنها طلعة تنزع إلى الشر عادة".

وعلى هذا الطراز يقول عامر بن قيس أحد زهاد التابعين: "لقد أحببت الله حباً سهل عليّ كل مصيبة، ورضَّاني بكل قضية، فما أبالي - مع حبي له - ما أصبحت عليه، وما أمسيت". وأخذ بعض الناس في عهد التابعين بنحو نحو الغلو في الزهد. وكان الحسن البصري نفسه ممن يحارب هذا الغلو الذي لا يرتضيه الإسلام. ومما نقرؤه في تاريخ هؤلاء: أن رجلاً قال: أنا لا آكل الخبيص؛ لأني لا أقوم بشكره، فقال الحسن البصري: هذا رجل أحمق، وهل يقوم بشكر الماء البارد؟!. فزهدُ الحسن البصري وأمثاله من فضلاء التابعين لا يحيد عن منهج الشريعة يميناً ويساراً. وتخرّج في مجلس الحسن البصري وغيره طبقة عالمة زاكية، منهم: مالك بن دينار، وحبيب العجمي، وعبد الواحد بن زيد. وبقي هؤلاء الذين يلقبون بالزهاد والوعاظ لا يمتازون عن جمهور الناس إلا بكثرة ما يعملون من صالح، وبشدة ما يحملون من خشية الله، والعزة به، والاعتماد عليه، وبانصراف هممهم عن التعلق بما في هذه الحياة من شهوات أو حطام. وفي خلال القرن الثاني صار الزهاد والوعاظ يسمون بالصوفية حسبما تقدمت الإشارة إليه في صدر البحث. أخذ الزهاد والوعاظ لقب الصوفية، وما برحت طريقتهم قائمة على قواعد الدين ورعاية آدابه، وممن استقاموا من رجال القرن الثاني: الفضيل ابن عياض، وداود الطائي، ومالك بن دينار، وإبراهيم بن أدهم. وظهر في عهد هؤلاء نفر كانوا يتشبَّهون بهم على جهالة، ويظهرون للناس بغير ما كانوا يُسرّون، وهم الذين يقول فيهم الإمام الشافعي:

وَدَعِ الذين إذا أتوكَ تنسَّكوا ... وإذا خَلَوا فَهُم ذئابُ خفافُ وجعل الصوفية يتحدثون عما يرد عليهم من الخواطر، وما يجدونه من الأذواق، ويعبرون عن هذه الخواطر والأذواق بكلمات إما مألوفة، وإما غير مألوفة، حتى أصبح التصوف في القرن الثالث مذهباً ذا قواعد واصطلاحات. يصف لنا التاريخ صوفية القرن الثالث، فنرى كثيراً منهم على طريق سلمان الفارسي، والحسن البصري؛ مثل: أبي القاسم الجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، ويحيى بن معاذ الرازي، وذي النون المصري، وبشر الحافي، وسري السقطي وأبي يزيد البسطامي. ونرى بجانبهم قوماً آخرين خلطوا التصوف بشيء من أصول الفلسفة الإشراقية، وشاع يومئذ الغلو في الزهد، وراج ما توهمه بعضهم من أن التوكل نزع اليد من الأسباب جملة. وأخذ بعض المنتمين إلى التصوف في ذلك العهد ينطقون بعبارات خارجة عن حدود الشريعة، كالكلمات التي هي ظاهرة في معنى الحلول والاتحاد، مثل ما قال الحلاج (¬1): "أنا الحق"، وقال: "ما في الجبِّة إلا الله"، ويعبرون عن مثل هذه الأقوال في اصطلاحهم بالشطحات. ودخل في التصوف من الباطل في ذلك العهد ما يزعمه بعضهم من أن المسالك للطريق تسقط عنه أحكام الشريعة من أوامر ونواه. ومن عبارات هؤلاء: "الاشتغال بالأوراد عن المورود انقطاع عن الغاية". وأنشد أحد شعرائهم: ¬

_ (¬1) الحسين بن منصور الحلاج المقتول سنة 309.

يطالب بالأوراد من كان غافلاً ... فكيف بقلب كل أوقاته وِرْدُ ومنهم من يقول: تسقط الأوامر والنواهي عمن شهد الحقيقة، ووصل إلى مقام الفناء فيها، ويقول قائل من هؤلاء: العارف لا ينكر منكراً؛ لاستبصاره بسر الله في القدر. ويقولون: العارف لا يستقبح قبيحة، ولا يستحسن حسنة. وقد سئل الجنيد - رحمه الله - عن هذه الطائفة، فقال: الذي يسرق ويزني، أحسنُ حالاً ممن يزعم هذا!. قال الغزالي: لو زعم زاعم أن بينه ويين الله حالاً أسقطت عنه الصلاة، وأحلت له شرب الخمر، وأكل مال السلطان؛ كما زعمه بعض من ادعى التصوف، فلا شك في وجوب قتله، وإن كان في خلوده في النار نظر، وقتلُ مثله أفضلُ من قتل مئة كافر؛ لأن ضرره أكثر! (¬1) وشعر يومئذ بعض المستقيمين من الصوفية بنحو هذا الانحراف وما يماثله من الانسلاخ عن عقائد الدين أو أحكامه العملية، فقاوموه بالإنكار، والتنبيه على أنه ضلالة وجهالة. قال الجنيد: مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة. ويقول: الطريق كلها مسدوة على الخلق إلا المقتفين آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال سهل التستري: أصول مذهبنا ثلاثة: أولاً: الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأخلاق والأفعال ثانياً: أكل الحلال. ثالثاً: إخلاص النية في جميع الأعمال. ¬

_ (¬1) "شرح الشيخ عبد القادر بن شقرون للربع الثاني من الأربعين".

وقال أبو عثمان الحيري: أسلم الطرق من الاغترار: طريق السلف، ولزوم الشريعة. وفي ذلك العهد ظهر القول بأن العلوم لا تنال إلا من طريق مجاهدة النفس، وقطع العلائق بينها وبين البدن، والإقبال على الله بالكلية علماً دائماً، وعملاً مستمرًا، حتى تكشف له الغيوب، ويرى الملائكة، ويطلع على أرواح الأنبياء، ويسمع كلامهم، حتى ينتهي إلى مشاهدة الله - جل جلاله -. ونسب أبو بكر بن العربي هذا القول إلى الحارث بن أسد المحاسبي، وإلى طائفة أتت بعده من الصوفية (¬1). والحق أن المكلف لا يحتاج في إيمانه الصادق، ولا في إقامة الأعمال الصالحة إلى أن تنكشف له الغيوب، أو يطلع على العوالم الروحانية، فإن ما في عالم الشهادة، وما هدى إليه القرآن المجيد، كافيان في إشراق القلب بالإيمان الساطع، والسير على المنهج الموصل إلى السعادة في الدارين. وكذلك استمر حال المنتمين إلى مذهب التصوف في القرن الرابع فما بعده، فمنهم المستقيمون على السنّة، ومنهم الظاهرون في ثوب الزهد، وهم يراؤون ويبتدعون. ومما اتصل بالتصوف: مسألة الكرامات؛ فقد ذهب أهل السنّة - كما سبق الحديث عنها - إلى جوازها، بل إثباتها، ولكن الناس بالغوا، أو أكثروا من نسبتها إلى الشيوخ الصوفية، ولعل هذه المبالغة، والإكثار كانا سبب إثارة البحث عنها حوالي آخر القرن الرابع، فنرى أبا إسحاق الإسفراييني (¬2) ¬

_ (¬1) كتاب "العواصم من القواصم". (¬2) توفي سنة 418.

يجعل للكرامة حداً، فيقول: غاية الكرامة: إجابة دعوة، أو شربة ماء في مفازة، أو كسرة في منقطعة. ونرى أحد كبار الصوفية الأستاذ أبا القاسم القشيري (¬1) يقول: الكرامة لا تنتهي إلى وجود ولد من غير أبي، ولا إلى قلب جماد حيواناً. ومن العلماء من يذكر سيرة الصحابة والسلف الصالح - رضي الله عنه -، فإذا تحدث الناس بكرامات لبعض الشيوخ لم يقع مثلها من أولئك الذين هم خير القرون، لم يقبلها لمجرد تناقل بعض الألسنة لها. قيل لأبي حيان: ماذا تقول في الشيخ أبي مدين؟ قال: هو رجل دين، وما كان يطير في الهواء، ولا يصلي الصلوات الخمس في مكة كما يدعي فيه بعض الناس (¬2). * تعاليمه: قد عرفت أن التصوف في الأصل: سلوك طريقة الزهد، والانقطاع إلى العبادة، ومحاسبة النفس على الأفعال والتروك، وليس لهذه المجاهدة في عهد السلف تعاليم خاصة؛ لأنها لا تزيد على العمل بما يرشد إليه الكتاب والسنّة من أحكام، ويدعوان إليه من مكارم الأخلاق، وسنيّ الآداب. ثم إن الصوفية أخذوا يتحدثون بما يعرض لهم في أثناء المجاهدة من أحوال وخواطر، وبما ينتقلون فيه من مقامات، وصاروا يعبرون عن تلك المعاني بالفاظ جرت مجرى المصطلحات العلمية. ¬

_ (¬1) المولود سنة 376. (¬2) "نفح الطيب" ترجمة ابن حيان، الجزء الأول.

ومن هذه الناحية وجد بعض الجاهلين أو المضلّين منفذاً لأن يضيفوا إلى التصوف معاني باطلة، وشروحاً لتلك المصطلحات غير صالحة؛ كالكلمات الظاهرة في الحلول والاتحاد. قال الحافظ ولي الدين أبو زرعة العراقي في كتابه "الأجوبة المرضية في الأسئلة المكية": أما ابن عربي، فلا شك في اشتمال "الفصوص" المشهورة عنه على الكفر الصريح الذي لا شك فيه، وكذا "فتوحاته المكية"، ثم قال: "وينبغي عندي ألا يحكم على ابن العربي بشيء، فإني لست على يقين من صدور هذا الكلام منه، ولا من استمراره عليه إلى وفاته، ولكن نحكم على هذا الكلام أنه كفر" (¬1). وحصل مما يتحدث به الصوفية من إلهام وأحوال ومنازل، معانٍ ومصطلحات مضافة إلى آداب القوم؛ من نحو: الزهد، والورع، والشكر، والذكر، والتوكل، والتواضع، والعزة، وأصبح مجموع ذلك علماً مستقلاً، يسمى: "علم التصوف". * صلة التصوف بالفلسفة: الصوفية المستقيمون الذين لم يدرسوا الفلسفة إنما يتكلمون بما يقتبسونه من حكمة الشريعة، أو بما يجيئهم من طريق الإلهام والوجدان بعد عرضه على أصول الدين، وأما من درسوا الفلسفة، ثم تكلموا بلسان الصوفية، فقد يُدخلون في هذا العلم بعض الآراء الفلسفية؛ كمسألة وحدة الوجود؛ فإنها دخلت في التصوف من ناحية الفلسفة، وقد يُدخل هؤلاء بعض الآراء الفلسفية بحسن نية؛ إذ يبدو لهم أنها من المذاهب التي يتقبلها الدين، ¬

_ (¬1) نقله ابن ذكري في "شرحه للنصيحة".

ولا يأبى اتصالها بهدايته السماوية. قال ابن تيمية في حديث له عن أبي حامد الغزالي: "وأما التي يسميها: علوم المكاشفة، ويرمز إليها في "الأحياء"، وغيرها، ففيها يستمد من كلام المتفلسفة، كما في "مشكاة الأنوار"، و"المضنون به على غير أهله"، وغير ذلك، وبسبب خلطه التصوف بالفلسفة، صار ينسب إلى التصوف من ليس موافقاً للمشايخ المقبولين الذين لهم في الأمة لسان صدق، بل يكون مبايناً لهم في أصول الإيمان؛ كالإيمان بالتوحيد، والرسالة، واليوم الآخر، ويجعلون هذه مذاهب الصوفية". ودخول آراء غير إسلامية في التصوف دفع بعض المؤلفين في اعتقادات الفرق الإسلامية أن يعدوا الصوفية فرقة مستقلة؛ كما صنع الرازي في كتاب "اعتقادات فرق المسلمين والمشركين"؛ إذ قال: " اعلم أن أكثر من حصر فرق الأمة، لم يذكر الصوفية، وذلك خطأ"، ثم ذكر فرق الصوفية حتى ذكر فرقة الحلولية منهم، وقال: "هم قوم ليس لهم من العلوم العقلية نصيب وافر، فيتوهمون أنه قد حصل لهم الحلول والاتحاد، فيدعون دعاوى عظيمة، وأول من أظهر هذه المقالة في الإسلام: الروافض؛ فإنهم ادعوا الحلول في حق أئمتهم. أما التصوف الخالص، فإن السائرين فيه لا يخرجون عن مذهب السنّة قيد أنملة". * أثر التصوف في الحباة الإسلامية: قد أريناك أن التصوف في الأصل: زهد في الدنيا، ومحاسبة للنفس على كل ما تفعل أو تترك، وانقطاع إلى عبادة الله في إخلاص وعفاف وعزة،

واحتفاظ بحقوق العباد، وجهاد في سبيل الحق قدر المستطاع. وهو من هذا الوجه قد أتى بخير كثير، وأنبت رجالاً عرفوا بالتقوى والورع، والدعوة إلى الخير بمواعظهم أو أحوالهم، فكان لهم فضل كبير في هداية كعير من الغافلين، وتقويم كثير من المنحرفين، ولكن آراء وأعمالاً مبتدعة دخلت في التصوف على جهالة، أوسوء قصد، فكان لها في حياة المسلمين أثر سيئ؛ مثل: الغلو في الزهد، وترك الأخذ بالأسباب في طلب الرزق، ومثل: عبارات الحلول التي دسها فيه قوم ظهروا في ثوب التصوف، فأوقعت بعض الناس في فتنة. وكان لإسراف بعض المتصوفة في الحديث عن المكاشفة والاطلاع على ما في العالم الروحاني، والتصرف الخفي في الكون، أثر في غلو بعض الناس في الاعتقاد بعلو منزلة من يعتقدون صلاحه، حتى ترى بعض العامة يمتنعون من أن يحلفوا بالرجل الصالح كذباً، ثم لا يبالون أن يحلفوا بالله، وهم يعلمون أنهم غير صادقين فيما يحلفون، والتوحيد الخالص: أن تكون خشيتك لله فوق كل خشية. ومن أثر التصوف المنحرف عن السبيل: أنه أدخل في العبادات مقصداً يجعلها صوراً من غير روح، ذلك أن بعض الناس يتجردون للعبادة بقصد أن يصلوا بها إلى الاطلاع على عالم الأرواح، وغرائب العلوم، وأن تخرق لهم العادات، وتجري على أيديهم الكرامات. يروى أن بعض الناس لما سمع حديث: "من أخلص لله أربعين صباحاً، ظهرت ينابيع الحكمة، من قلبه على لسانه"، تعرض للعبادة لينال الحكمة فلم يفتح له بابها، فبلغت القصة بعض أولي البصيرة، فقال: هذا أخلص

للحكمة، ولم يخلص لله. وقد عرفت أن العبادة بقصد إنكشاف الحقائق نزعة فلسفية، والعبادة الخالصة: ما يقصد بها امتثال أمر الله، والفوز بالسعادة في دار السلام. وما يزيد على هذا من خيرات شأنها أن تتبع الاستقامة وصفاء السريرة، فلا ينبغي الالتفات إليها عند أداء العبادة من فرائض أو نوافل. وإليك جملة من أسماء أشهر من تدور أسماؤهم في كتب التصوف، سواء أكانوا ممن اتفق الناس على صلاحهم، أم ممن وقع الطعن فيهم، واخترنا أن نوردهم على حسب ترتيب وفياتهم. وإليك أسماءهم، مع التعرض لبعض النواحي من حياتهم، أو شيء من أقوالهم: - أُويس القَرَني: أويس بن عامر القرني: معدود من سادات التابعين، روى له مسلم أشياء من كلامه، وقد شهد صِفّين مع الإمام على، وقتل يومئذ. - أبو مسلم الخراساني: أبو مسلم عبد الله بن ثوب، وقيل: اسمه يعقوب بن عوف، يروي عن عمر بن الخطاب، ومعاذ. قال مالك بن دينار: أبو مسلم حكيم هذه الأمة. توفي سنة 62. - الحسن البصري: الحسن بن أبي الحسن يسار البصري: معدود من سادات التابعين، وهو الذي قال لابن هبيرة- عندما سألة عن الأمر يأتيه من يزيد، أفينفذوه، ويقلده ما تقلده من ذلك؟ -: "يا ابن هبيرة! خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله". ومن

كلامه: "ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبهَ بشك لا يقين فيه إلا الموت" توفي سنة 110 مئة وعشر. - مالك بن دينار: مالك بن دينار: روى عن أنس، وسعيد بن جبير، وعطاء، وكان لا يأكل إلا من كسب يده، يكتب المصاحف بالأجرة. توفي سنة 130. - رابعة العدوية: رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية مولاة آل عتيك: توفيت سنة 135، ومن كلامها: "اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم" (¬1). - إبراهيم بن أدهم: إبراهيم بن أدهم بن منصور: صحب سفيان الثوري، وجمع بين الزهد ورواية الحديث، ويروي عنه: الثوري، والأوزاعي، وكان لا يأكل إلا من عمل يده؛ كالحصاد، وحراسة البساتين. توفي سنة 161. ومن كلامه: "لو علم الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور وقلة التعب، لجالدونا عليه بالسيوف". ومن دعائه: "اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك". - داود الطائي: داود بن نصير أبو سليمان الطائي الكوفي: درس الفقه، وكان يختلف إلى الإمام أبي حنيفة، ثم اختار العزلة، وتخلى للعبادة. توفي سنة 165. ¬

_ (¬1) ترجم لها ابن الجوزي في كتاب "صفوة الصفوة"، وابن خلكان في "تاريخه"، وقبرها بظاهر القدس من شرقيه على رأس جبل يسمى: الطور.

ومن كلامه: "صُمْ عن الدنيا، واجعل إفطارك فيها الموت، وفر من الناس فرارك من السبع، وصاحب أهل التقوى إن صحبت؛ فإنهم أخف مؤونة، وأحسن معونة، ولا تدع الجماعة". - الفضيل بن عياض: الفضيل بن عياض بن مسعود التميمي، ولد بخراسان، وقدم الكوفة، وسمع بها الحديث، ثم انتقل إلى مكة، وجاور بها إلى أن توفي سنة 187. ومن كلامه: "ترك العمل لأجل الناس هو الرياء، والعمل لأجل الناس هو الشرك". وقال: "لو كانت في دعوة مستجابة، لم أجعلها إلا في إمام صالح؛ لأنه إذا صلح الامام، أمن العباد". - معروف الكرخي: معروف بن فيروز الكرخي: كان نصرانيًا، فأسلم على يد علي بن موسى الرضا - رضي الله عنه -، ولهذا عدّ من مواليه، وهو أستاذ السرّي السقطي. توفي سنة 200، أو 201. - أبو سليمان الداراني: عبد الرحمن بن أحمد بن عطية الداراني (¬1)، توفي سنة 205، ومن كلامه: "تقع في نفسي النكتة من نكت القوم أياماً، فلا أقبلها إلّا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنّة". - بشر الحافي: بِشْرُ بن الحارث بن عبد الرحمن المعروف بالحافي. قال الحريري: ¬

_ (¬1) نسبة إلى داريا: قرية من قرى دمشق بالغوطة.

ما أخرجت بغداد أتم عقلاً، ولا أحفظ للسان من بشر. روى بشر عن: مالك، والفضيل بن عياض، وتوفي سنة 227، ومن كلامه: "من طلب الدنيا، فليتهيأ للذل". وكان يقول لأصحاب الحديث: "أدّوا زكاة هذا الحديث، قالوا: وما زكاته؟ قال: اعملوا من كل مئتي حديث بخمسة أحاديث". - المحاسبي: الحارث بن أسد المحاسبي: روى عنه: الإمام الجنيد، وغيره، وله تصانيف في الرد على المعتزلة، والرافضة، وغيرهم. سئل عن العقل: ما هو؟ فقال: نور الغريزة مع التجارب، يزيد ويقوى بالعلم والحلم. توفي سنة 243، ومن كلامه: "فقدنا ثلاثة أشياء: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الأمانة، وحسن الإخاء مع الوفاء". - ذو النون المصري: ثوبان بن إبراهيم، وقيل: الفيض بن إبراهيم المصري المعروف بذي النون: معدود فيمن روى "الموطأ" عن مالك بن أنس، وسعي به لدى المتوكل، فاستحضره من مصر، فلما دخل عليه، وعظه، فَرَقّ لوعظه، وردّه مكرّماً، وعنه أخذ سهل بن عبد الله التستري. توفي سنة 245. - سري السقطي: سرّي بن المغلس السقطي: خال الإمام الجنيد، وأستاذه. توفي سنة 255، ومن كلامه: "المتصوف اسم لثلاث معان: هو الذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات على هتك محارم الله تعالى".

- يحيى بن معاذ: أبو زكرياء يحمص بن معاذ الرازي: توفي بنيسابور سنة 258. ومن كلامه: "من خان الله في السر، هتكه في العلانية" وقال: "عمل كالسراب، وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب؟! هيهات! أنت سكران بغير شراب. ما أكملك لو بادرت أملك! ما أجلّك لو بادرت أَجَلَك! ما أقواك لو خالفت هواك! ". - أبو يزيد البسطامي: طيفور بن عيسى البسطامي: توفي سنة 261، أو 264. ومن كلامه: "لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود والشريعة". - أبو القاسم الجنيد: هو أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد، أصله من نهاوند، مولده ومنشؤه العراق، تفقه على أبي ثور، وقيل: كان فقيهاً على مذهب سفيان الثوري، وصحب خاله السري السقطي، والحارث المحاسبي، وغيرهما. توفي سنة 297. - الدقاق: أبو بكر أحمد بن نصر الدقّاق، من أقران الجنيد، وكابر مشايخ مصر. ومن كلامه: "كل حقيقة لا تتبع الشريعة، فهي كفر" وأراد بالحقيقة: ما يسمّى: "المخاطر". - أبو طالب المكي: أبو طالب محمد بن عطية الحارثي: سكن مكة، فنسب إليها، وقدم

بغداد، فوعظ الناس، ونسبت إليه عبارات ينكرها الشرع، فبدَّعه الناس، وهجروه، وامتنع من الكلام، وهو صاحب كتاب "قوت القلوب ". توفي سنة 386. - أبو القاسم القشيري: أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري: تلقى العلوم عن أبي بكر بن فورك، وأبي إسحاق الإسفرائيني، وأبي علي الدقاق، وهو صاحب "الرسالة القشيرية في رجال الطريق". توفي سنة 465. - ابن الفارض: عمر بن علي بن المرشد الحموي الأصل، المصري المولد والدار، يقول الشعر الظاهر في الغزل، على أنه بنحو به نحو معان صوفية، وديوانه معروف، وقد أنكر عليه جماعة من علماء الشريعة هذا المسلك الذي لا يعرف في عهد السلف، وحكى المقريزي: أن الشيخ محصي الدين بعث إلى ابن الفارض يستأذنه في شرح التائية، فقال له: كتابك المسمى بالفتوحات المكية شرح لها. توفي سنة 632. - محي الدين بن عربي: قرأ القرآن على أبي بكر بن خلف بإشبيلية (من بلاد الأندلس)، وتلقى العلم، ومال إلى الأدب، وتولى الكتابة لبعض ولاة الأندلس، ثم رحل إلى المشرق حاجًا، فأدى الفريضة، ولم يعد إلى الأندلس، وأخذ الحديث عن شيوخ، منهم: أبو طاهر السلفي، وأبو الحسن بن نصر، وممن أجازه: ابن عساكر، وأبو الفرج بن الجوزي، ودخل مصر، وأقام بالحجاز مدة، ودخل بغداد والموصل وبلاد الروم، وصحب جماعة من الصوفية، وتوفي بدمشق

سنة 656، أو سنة 658. وكان الشيخ على مذهب الظاهرية في العبادات، وقد اختلف الناس فيه، فمنهم من يشهد له بالمنزلة الكبرى في الصلاح والولاية، ومنهم من ينسبه إلى الإلحاد، ذلك أن بعض مؤلفاته - كما أشرنا قبل - تشتمل على عبارات إذا عرضت على أصول الشريعة، لم تلتق معها بوجه من وجوه الدلالات المعروفة في العربية، وقد سلك مريدوه بهذه العبارات مسلك التاويل، ولو على وجوه فيها غموض، ولم ير آخرون للشيخ عذراً في هذا المسلك، فحكموا عليه بما يجب أن يحكموا به على غيره ممن لم ينسب إلى صلاح، وقد سقنا إليك آنفاً رأي الإمام العراقي في هذا، وهو أنه لا يحكم على ابن العربي بشيء، ولكنه يضع يده على العبارات المنكرة في "الفصوص"، أو "الفتوحات"، ويقول: هذا كفر. وهؤلاء لا يؤولون المتشابه إلا إذا ورد في كلام الشارع. - أحمد زروق: أحمد بن أحمد بن محمد البرنسي الشهير بزروق: قرأ الفقه قراءة بحث وتحقيق، ودرس الحديث والتوحيد والتصوف، ومن شيوخه: الشيخ عبد الرحمن الثعالبي، والشيخ السنوسي، وله مؤلفات في التصوف، منها: كتاب "القواعد في التصوف"، وهو من رجال التصوف القائم على السنّة، الخالص من البدعة. توفي بتكرين من عمل طرابلس الغرب.

حكم تعدد الزوجات في الإسلام

حكم تعدد الزوجات في الإسلام (¬1) * حكمة شرع الزواج: في الزنا مفاسد كبيرة؛ نحو: هتك العرض، وجعلِه مضغة في الأفواه، وإلباس المرأة خزيًا يحرمها من أن تقترن بذي همة سامية وخلق شريف، ووضع النطفة في موضع تنقلب فيه إلى ولد حقير النفس، تنبذه القلوب، وتزدريه العيون، وإثارة البغضاء بين الأفراد والأسر والعشائر، إلى ما يذكر بجانب هذا من أمراض فتّاكة بالأجسام، قرر الأطباء أنها تنبعث من ارتكاب هذه الفاحشة. فلا جرم أن يعد علم الأخلاق كفّ النفس عن هذه الموبقة فضيلة، ويسميه: عفافًا وحصانة. وإذا شرع الله النكاح، فلأنه يساعد على خلق العفاف؛ فإن الإنسان يدرك به الوطر الذي يقصد من الزنا، وهو قضاء الشهوة، مع خلوّه من تلك المفاسد الخلقية والاجتماعية والصحية، قال - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج". ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام في نادي جمعية "الهداية الإسلامية" بالقاهرة، والمنشورة في المجلد الثامن والجزء العاشر من مجلة "الهداية الإسلامية" لعام 1355 هـ.

وإذا عرفت أن في الذرية الصالحة عوناً على مرافق الحياة، وتوفيراً لهناءة العيش، ولا ذرية إلا بالنكاح، رأيت كيف كان النكاح سبيلاً إلى الحياة الطيبة، والعيشة الراضية. وإن كنت ممن يبحث في أسباب سيادة الأمم، وقوة سلطانها، عرفت أن لكثرة عدد الأمة مدخلًا في عزتها، وأخذها بوسائل الاستقلال والمنعة، وهل من سبيل إلى كثرة عدد الأمة غير الزواج؟ فالزواج وسيلة إلى أن تكون الأمة قوية الجانب، قادرة على أن تدفع عن نفسها شر الأعداء، وإذا أرانا التاريخ أو المشاهدة أن أمة قليلة العدد، قد استعبدت أمة أكثر منها عدداً، فلأن هذه الأمة قد أهملت كثرتها، ولم تعززها بقوتي العلم والسلاح. ثم إن في الزواج عقد صلة بين أسرتك وأسرة كانت منقطعة عنك، وبهذه الصلة يصير كل من الأسرتين بمنزلة الأقارب في التعاطف والتناصر، فيكسب كل من أسرتي الرجل والمرأة قوة لا سبيل إليها غير الزواج. وإذا لاحظت أن في النساء ضعفاً، وأن أعمالاً حيوية كثيرة لا يستطيعها إلا الرجال، رأيت المرأة في حاجة إلى أن تتصل برجل يكفيها مطالب الحياة، والاتصال الذي يحفظ عزتها وكرامتها، ويملأ قلب الرجل بمودتها، إنما هو الزواج. * تعدد الزوجات: قد عرفت أن في الزواج فوائد عظيمة؛ من نحو: الذرية الصالحة، وتكثير عدد الأمة، وربط الصلات بين الأسر، والقيام بشؤون من يتعسر عليهن القيام بتكاليف الحياة، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه المصالح تقتضي أن

يباح للرجل تعدد الزوجات بقدر ما يستطيع القيام بحقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف، وكان العرب لا يقفون في تعدد الزوجات عند حد معين، ودلّ التاريخ على أن الواحد منهم قد يجمع بين عشر نسوة، ولكن الإسلام راعى ما قد يأتي به تعدد الزوجات من مصالح، فأذن فيه، ثم راعى ما قد ينشأ عنه من ضرر، فوقف به عند حد الأربم من النسوة، فصار التزوج بأربم نسوة فما دونها مباحاً؛ نظراً إلى المصلحة الراجحة. أجمع علماء الإسلام على أنه يباح للرجل أن يتزوج اثنتين، أو ثلًاثًا، أو أربعاً، ويحرم عليه أن يزيد على هذا العدد، فإن زاد عليه، فقد خرج من النكاح إلى سفاح، وشذّ بعض المبتدعين الذين لا يعتد بآرائهم، فأباحوا الزيادة على أربع، وارتكبوا في تأويل قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، وجوهًا أقرب إلى الجهل، وأشبه بالعبث، وربّ تأويل للقرآن لا يزيد على إنكار القرآن، إلا أن أصحابه يسمونه: تأويلاً. أما التحديد بأربع نسوة، فلأن المرأة الأولى جاءت على الأصل في إباحة النكاح، ثم أذن الشارع في تزوّج ثلاث بعد ذلك، والثلاث أول مراتب الجمع، وقد اقتصر الشارع على الثلاث في مواطن كثيرة، فأجاز هجرة الأخ ثلاثة أيام، والإحداد على غير الزوج ثلاثة أيام، والخيار في البيع ثلاثة أيام. ورخص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثاً، وأباح للمسافر أن يمسح على خفيه ثلاثاً، وجعل حد الضيافة ثلاثاً. والخلاصة: أن الشارع الحكيم وزن نفس الرجل، وقاس ما تبلغه أخلاقه من كرم وعدل، فوجدها عند حد لا يكفي للقيام بحقوق الزوجات الكثيرات، فشرع حكماً راعى فيه مصلحة تعدد الزوجات، ومفسدة الإكثار منهنَّ، فجعل

أقصى ما يباح للرجل: أن يزيده على المرأة الواحدة ثلاث نسوة، والضرر الذي يحصل من هذا التعدد خفيف بالقياس إلى المصالح التي قد تدعو إليه. وإذا كان للنكاح أغراض غير قضاء الشهوة، فمن الجهالة أن يقول قائل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان شهوانياً، ويستدل على ذلك بتعدد أزواجه إلى تسع. ولتعدد زوجاته - عليه الصلاة والسلام - حكم سامية، غير ما نبّهنا عليه من أغراض النكاح العامة. منها: نقل الأحكام الشرعية، ولاسيما أحكام ما لا يطَّلع عليه الرجال، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا، فقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. ومنها: تشريف بعض الأقوام، أو زيادة تأليفهم بمصاهرته. ومنها: الدلالة على أن باطن حاله كظاهره؛ فإن زوجات الرجل يطلعن على سريرة أمره، فمع كثرة نسائه - عليه الصلاة والسلام - لم يعرف له حالة في الخفاء، تخالف ما يراه الناس فيه؛ من الدعوة إلى الخير، والجد في الطاعة، والإخلاص في العبادة. أباح الإسلام للرجل أن يجمع بين أربع نسوة فما دونهن، وشرط لهذا الجمع العدل بينهن، قال تعالى: " {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، والمعنى: أنه لا يحل للإنسان التزوج بأكثر من واحدة إلا إذا وثق من نفسه بالعدل بينهن، والعدل: التسوية بينهن في المبيت، والنفقة، ولكل واحدة من الزوجين الحق في أن لا تسكن بالمنزل الذي تقيم فيه الأخرى. أنكر تعدد الزوجات طائفة من غير المسلمين، زعموا: أنه يخالف

ما تقتضيه مصلحة الأسرة، وقاموا وقعدوا في التشنيع عليه. وأنكرته طائفة من المنتمين إلى الإسلام اتصلوا بتلك الطائفة غير المسلمة، وتلقوا منها ما تقول بتقليد، فصادف منهم أذهاناً خالية، فلابسها، وجعلها تتعامى أن تقبل ما يقوله علماء الإسلام في حكمة التشريع. وأصر هؤلاء على إنكار تعدد الزوجات، ثم رأوا القرآن صريحاً في إباحته، فحاولوا تأويله، وذهبوا في التأويل مذهباً ينادي ببطلانه الآيات والسنّة، وعمل الصحابة والتابعين. قد عرفنا أن في الزواج فوائد عظيمة متعددة، قد يوجد في الزوجة الواحدة بعضها دون بعض؛ كأن تكون الزوجة عاقراً، أو يعرض لها مرض عضال يجعلها غير مساعدة على الصيانة، وقد يفقد معها كل ما يقصد من الزواج. فإذا كانت الزوجة بهذا الحال، فبماذا تشير هذه الطائفة على الرجل الذي يرغب في أن يكون له ولد، ويقصد أن يتحصن بالزواج حتى لا يقع في جريمة السفاح!؟. فإما أن يشيروا عليه بطلاق هذه الزوجة، واستبدال زوجهّ أخرى بها، فيقال لهم: قد رضيتم للزوجة الأولى بحال قد يكون أشد عليها من حال بقائها مع زوجة أخرى، وأسأتم للرجل الذي يقول: إني أحب أن أبقي زوجتي، وأقوم بحقوقها، وحملتموه على فراق قرينة قضت معه أياماً أو أشهراً أو سنين في ائتلاف، وذلك عمل لا يلائم خلق الوفاء. وإما أن يشيروا عليه بأن يبقيها، ولا يتزوج أخرى، فيقال لهم: ما ذنب هذا الرجل في حرمانه من الفوائد التي شُرع له النكاح؛ كالذرية الصالحة، ثم

ما ذنبه في منعه من الزواج، وهو لا يستطيع العفاف إلا من طريقه؟ فإن أنكروا أن يكون له حق في النسل، قلنا لهم: الذرية الصالحة تعين الوالد على مشاق الحياة، وتكسبه عزة ما بقي، وتحصي ذكره بعد أن يموت، علاوة على ما فيها من تكثير عدد قومه، وكثرة عدد القوم من أسباب عزتهم، ووصولهم إلى أن يسوسوا أنفسهم بآرائهم، ويذودوا عن ساحتهم بأيديهم. وإن أظهروا الاستخفاف بفضيلة العفاف، قلنا لهم: إنما جلسنا لنناقشكم على قواعد علم الخصال الشريفة، فإن بسطتم أيديكم إلى تقويضها، فما نحن بباسطي أيدينا إلّا إلى إقامتها، وتدعيم أساسها. والظاهر أن هؤلاء الذين يعيبون الإسلام بحكم تعدد الزوجات يشيرون على الرجل السليم البنية متى عرض لزوجته مانع من الاستمتاع بها أن يبقيها، ويؤثرون اتخاذه للخدينات، وإتيان الفاحشة على أن يعقد على امرأة أخرى، فيعيش مع الزوجين في طمأنينة، ويتصل بهما في شرف وفضيلة. والدليل على أنهم يستهينون بارتكاب فاحشة الزنا، ولا يعبؤون بما يتبعها من المفاسد: فتحهم الطريق الموصلة إلى البغاء في غير مشقة، ووضعهم النظم المساعدة على إتيانه في غير حياء ولا خشية عقوبة. وإذا نظرت في إحصاء عدد نفوس الأمم، وجدت أن عدد نساء كل أمة يزيد على عدد رجالها، هذا ما لا يختلف فيه العارفون بشؤون الأمم، وإنما تتفاوت نسبة زيادة النساء على الرجال بحسب اختلاف البلاد، وعلى قدر ما تصاب به الأمم من ثورات داخلية، أو حروب خارجية. فلو لم يكن في تعدد الزوجات فسحة، لبقي كثير من النساء محرومات من أزواج يقومون عليهن، ويصونون ماء وجوههن، ويساعدونهن على

طهارة أذيا لهن. فاجتماع زوجين أو ثلاث أو أربع في عصمة رجل يعرف حقوقهنّ، ويقدر على كفاية حاجتهنّ، ويطيع الله في العدل بينهنّ، خير لأولئك الزوجات وللمجتمع من أن يقصر على واحدة، ويبقى من سواها عرضة لبذل ماء الوجه، أو الانحطاط إلى ما يدنس العرض. ثم إن من مقاصد النكاح النسل، وفي تعدد الزوجات كثرة الولد التي ينمو بها عدد الأمة، ونماء عدد الأمة قوة تدرك بها عزتها، وتصل بها إلى أن تدبر أمرها بنفسها، ومن الحزم أن يعمل القوم لتكثير عددهم، ويحتاطوا لما يعرض للأقوام من الحروب الطاحنة، والأمراض العامة الفاتكة. فتعدد الزوجات يتبعه النسل في الغالب، فإذا كان في الزوجة عقم، أو أصيبت بمرض يعوقها عن الحمل، أو بلغت سناً ينقطع به استعدادها للولادة، وجد الرجل من الزوجة الأخرى منبتاً خصباً. يقول هؤلاء: إن في تعدد الزوجات ضرراً على المرأة، وإخلالاً بهناءة عيشها؛ حيث يسيئها أن تشاركها في زوجها قرينة أخرى، وهذا الاستياء مقتضى الغيرة التي تشب في قلب المرأة على قدر تعلّقها بزوجها. فنقول: مُسَلَّم أن المرأة تحب بطبعها أن تنفرد بالزوج، وتكره أن يشاركها فيه امرأة أخرى، فإذا تزوج الرجل بثانية، فقد أتى بما تكرهه زوجه طبعاً، ويبقى معنا أن نعمد إلى هذه الكراهة المحفوفة بحسن معاشرة الرجل، وعدم إجحافه بحق من حقوقها، ونضعها في كفة، ثم نأتي إلى المصالح التي قد تدعو إلى تعدد الزوجات، ونضعها في الكفة الأخرى، فلا شك أننا متى أجرينا هذه الموازنة، ونحن مجردون من كل عاطفة وتقليد، رأينا رأي العين

أن كفة المصالح التي تستدعي إباحة تعدد الزوجات راجحة، وكفة كراهة المرأة لأن يشاركها في الزوج امرأة أخرى خفيفة طائشة، والتشريع الحكيم يقوم على رعاية المصالح الراجحة، ويقطع النظر عما يخالطها ويحدث عقبها من ضرر خفيف. هذا ما نقرره عند النظر في حال الزوج الأولى، أما من تجيء بعدها، فقد عرفت أن للرجل زوجاً غيرها، ورضيت بالمشاركة، فلا وجه للنظر في حال كراهتها. والخلاصة: أنه ليس في تعدد الزوجات ضرر يصح أن يعتد به الشارع الحكيم، أما الزوج الأولى، فإن استياعبها من المشاركة في الزوج يسقط عند النظر في المصالح التي تستدعي فتح باب التعدد على شرط العدل والمعاشرة بالمعروف. وأما الزوج الثانية، فقد عرفتْ أن للرجل زوجًا غيرها، ورغبت في الزواج به من تلقاء نفسها. على أن الإسلام لم يسد على المرأة باب الاقتران بزوج تنفرد بالعيش معه متى شاءت ذلك، فلو أخذت على الرجل عند عقد نكاحها أنه إن تزوج عليها، فأمرُها، أو أمرُ الداخلة عليها يزيدها، كان هذا الشرط نافذاً، ولها إنْ تزوج بعدها، أن تطلّق نفسها، أو تطلَّق الزوج الثانية؛ عملاً بهذا الشرط. ويقول هؤلاء: إن تعدد الزوجات يعود على ذرية الرجل بضرر، وهو ما يكون بين الإخوة الذين لا تلدهم أم واحدة من التجافي والشقاق، فيكون الرجل قد سعى في أن يكون بين أولاده تقاطع، وفي نظام أسرته اختلال. فنقول في دفع هذا: إن الإسلام قد يشرع حكماً لا تتحقق حكمته في الخارج إلا بمراعاة أحكام أخرى ترتبط به ارتباط الأسباب بمسبباتها، فالإسلام

شرع تعدد الزوجات، وشرع مع ذلك العدل بينهنّ، وشرع التسوية بين الأولاد، ونهى الأب عن أن يؤثر أحدهم بشيء يختص به دون سائر إخوته، وأمره بتربية الأولاد تربية صحيحة، فإذا جرى الزوج بين الأزواج وأولادهن على طريقة العدل، وعني بتربية الأولاد على اختلاف أمهاتهم التربية الصالحة، فمن البعيد أن ينشؤوا على تجافٍ يصل إلى شقاق، ولا يضر أن يكون عطف الفتى على أخيه من أمه أكثر من عطفه على أخيه الذي لم تلده أمه. * إرشاد الطائفة المنتمية إلى الإسلام: سرى إلى رهط من المسلمين روح من تلك الطائفة غير المسلمة، فصاروا ينظرون إلى حكم تعدد الزوجات بالعين التي تنظر بها تلك الطائفة المخالفة، وبدلاً من أن يعطي هؤلاء المسلمون الحكم حقه من النظر، ويقفوا وقفة الباحث عن حكمته، ويذهبوا بالفكر فيما يدعو إليه، وما يتصل به من مقتضيات، طووا عقيدتهم على إنكاره، وسارعوا إلى تلمس وجه يجعل القرآن مانعاً من تعدد الزوجات، فقالوا: ورد في القرآن إباحة التزوج بأربع. ولكنها علقت على أمر أخبر القرآن نفسه بأنه غير مستطاع، وهو العدل، إذ قال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]. وما علقت إباحته على غير المستطاع، لا يعد مباحاً، بل يبقى في قبيل المحظورات. ومعنى ما يقول هؤلاء: أن القرآن أراد المنع من تعدد الزوجات في كل حال، ولكنه لم يواجه به الناس في صراحة، ولم يخرجه في صيغة النهي الصريح، بل جعل الناس يفهمونه من تعليق الإباحة على ما لا يستطاع. والحق أن القرآن الكريم أباح تعدد الزوجات، وقيد هذه الإباحة بشرط

العدل، والذي يدفع هذه الشبهة التي يلهج بها هؤلاء الرهط، ويصرفك عن أن تحدث نفسك بمحاكاتهم، هو: أن القرآن الحكيم يقول: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، فأَذِنَ في تعدد المنكوحات، وأتى بالإذن في صيغة الأمر، ثم فصَّل في المأذون في نكاحهن، فجعلهم اثنتين وثلاثًا وأربعًا، وانتهى عند حد الأربع، فيؤخذ من الآية بمقتضى الأسلوب العربي: أنه يباح لكل أحد أن يتزوج ما زاد على واحدة، من اثنتين، أو ثلاث، أو أربع، ويبقى على ما زاد على الأربع في حكم المحظور، ويؤخذ من قصر الرجل على الواحدة عند خوفه من عدم العدل: أن الإذن في تزوج اثنتين أو ثلاث أو أربع مقيد بالعدل بينهن، والمراد من العدل: التسوية بينهن فيما يستطيعه؛ من نحو: النفقة، والمبيت، أما العدل الذي جعل متعذرًا في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]، فهو التسوية بين النساء في كل شيء، حتى الحب والإقبال والمؤانسة، فإن التسوية على هذا الوجه خارجة عن الاستطاعة، فقد تكون إحداهن أبرع جمالاً، وأعذب منطقاً، فتكون أعلق بالقلب، فينجذب إلى جانبها، فيقبل عليها، أو يؤانسها أكثر مما يفعل مع الأخرى، يقع منه ذلك وهو لا يقصد إلى اشارها بهذا الإقبال أو المؤانسة، وإنما هو أمر لا اختيار له فيه، وهو شدة حبها الناشئة عن نحو براعة جمالها، وعذوبة منطقها. وانظر إلى قوله تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]، تجده صريحاً في العفو عن هذا الميل الخفيف الذي يتعذر على الرجل اجتنابه، فلو كان المراد من العدل الذي ذكره في هذه الآية: العدل الذي جعله شرطاً للتعدد، لكان المناسب في النظم أن يأمر بالاقتصار

على واحدة، أو ينهى عن تعدد الزوجات، ولم يقل: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129]؛ فإن النهي عن الميل كل الميل ظاهر في جواز الجمع بين امرأة وأخرى، مع عدم الميل عن إحداهما ميلاً يجعلها كالمعلقة، أي: لا هي زوجة تعاشر بالمعروف، ولا هي مطلقة يمكنها أن تبتغي زوجاً آخر يسكن إليها، وتعيش معه في راحة. ومن تفقه في قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها"، وجدهما ظاهرين في حرمة الجمع بين الأختين، وبين العمة وابنة أخيها، وبين الخالة وابنة أختها، وأدرك أن مناط التحريم: شدة القرابة، لا مجرد الجمع بين امرأتين. وإذا رجعنا إلى الأحاديث الصريحة، وجدنا فيها ما يدل على إباحة تعدد الزوجات: منها: ما ورد في "سنن الترمذي" من قوله - صلى الله عليه وسلم - لمن أسلم وتحته عشر نسوة: "خذ منهن أربعاً، وفارق سائرهن". ومنها: حديث فاطمة بنت أسماء: أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن لي ضرة، فهل علي جناح إن تشبعتُ من زوجي غيرَ الذي يعطيني؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" (¬1)؛ فقد قالت المرأة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن في ضرّة، ولم ينكر أن تكون لها ضرة. ومنها: أن علي بن أبي طالب أراد أن يتزوج ابنة أبي جهل على السيدة ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري".

فاطمة- رضي الله عنها - فقال - صلى الله عليه وسلم -: " وإني لست أحرّم حلالاً، ولا أحلّ حراماً، ولكن والله! لا تجتمع بنت رسول الله، وينت عدو الله في مكان واحد أبداً" (¬1)، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإني لست أحرم حلالاً" دليل على أن تعدد الزوجات مباح، وإنما كره لابنته أن تجتمع مع بنت أيى جهل في عصمة واحدة. ومنها: أن أبا قلابة روى عن أنس: أنه قال: "من السنَّة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب، أقام عندها سبعًا، وقسَم، وإذا تزوج الثيب على البكر، أقام عندها ثلاثاً، ثم قسَم". قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنساً رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). فقوله: "من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب ... إلخ" صريح في إباحة تعدد الزوجات، وأن من العدل القسم بينهن في المبيت. أما عمل الصحابة والتابعين، فإن تزوُّج الواحد منهم بما فوق الواحدة أمر لا ينكره إلا من بلغ به العناد أن ينكر أنهم كانوا يصلون الظهر أربع ركعات، والمغرب ثلاثاً. في "صحيح البخاري": أن الحسن بن الحسين بن علي جمع بين ابنتي عم في ليلة واحدة. وفيه: أن عبد الله بن جعفر جمع بين ابنة علي وامرأة علي، وقال ابن سيرين: لا بأس به، وكرهه الحسن مرة، ثم قال: لا بأس به. وتوفي أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وتحته أسماء بنت عميس، وحبيبة بنت خارجة والدة أم كلثوم التي مات أبو بكر وهي حامل بها. ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري". (¬2) "صحيح الإمام البخاري".

وكان مصعب بن الزبير قد جمع بين السيدة سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة. وهذه أمثلة معدودة سقناها على وجه التنبيه والتذكير، وإلا، فالأمر من قبيل ما يعرفه المسلمون بالضرصرة، وحكم ينص عليه القرآن الكريم والسنَّة الصحيحة، ويجري عليه عمل الصحابة والتابعين، لا ينبغي لمسلم أن ينكره، أو يترك نفسه تتردد في حكمته، ولا يجوز لذي قوة أن يمنع من تعدد الزوجات بإصدار قانون عام، فإن فعل، فهو حاكم بغير ما أنزل الله، ومن لا يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.

الأخذ بالدين

الأخذ بالدَّيْن (¬1) قد يكون للإنسان مال يتسلمه في وقت معلوم، وقد تسبق الحاجة الملحة وقت حصوله على هذا المال، ولا يجد طريقاً لسد هذه الحاجة إلّا الأخذ بالدَّيْنِ، وقد أذن الشارع الحكيم في الاستدانة لسد الحاجة، وجعل الإدانة من قبيل المعروف الذي يلقى صاحبه جزاء وشكوراً. ف الأخذ بالدين قد يكون ضرورة من ضرورات الحياة، والإعطاء بالدين قد يكون باباً من أبواب الخير الذي يكسب به الإنسان حمداً وأجراً، ولكن هذا الضرب من المبايعة قد تلحقه مفاسد مادية، أو خلقية، أو اجتماعية، لهذا نظرت إليه شريعة الإسلام نظرة إصلاح، وأقامته على أسس محكمة، وحاطته بنظم تحفظ مصالحه، وتنقذ الناس من مفاسده. وغرضنا من هذا الحديث: إلقاء نظرة على هذا الضرب من المبايعة، والتنبيه لما يعرض له من أضرارة لعل أمتنا الرشيدة تسير فيه على خطبة سليمة العاقبة. للأخذ بالدين داعية صادقة هي: الحاجة التي لا تطاق، وهناك دواع أخرى ليس من الخير للإنسان أن يجاريها، ويضعف أمامها، فقد تطغى شهوات ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الخامس عشر، ذو القعدة 1361 هـ.

الرجل، وتتطلع نفسه إلى ما يضيق عنه كسبه؛ من نحو: المطاعم، أو الملابس، أو أثاث المنزل، أو غير ذلك من متاع الحياة، ويحاول الوصول إلى هذه الملاذ أو الزينة، ولا يجد طريقاً غير الاستدانة، فيسلكها غافلاً عن سوء عاقبتها، وعلاج هذا: أن يروض الإنسان نفسه على القناعة، ويحملها على الصبر عن تلك الشهوات إلى أن يسعها الرزق الذي يأتيه من كسب طيب. قال بعض الحكماء: إذا رمت أن تستقرض المال من أخٍ ... تعوّدت منه اليُسْرَ في زمنِ العسر فَسَلْ نفسك الإنفاق من كيس صبرها ... عليك وإنظاراً إلى ساعة اليسر فإن أسعفت كنت الغني وإن أبت فكل ... مَنوع بعدها واسع العذر وقد يبدو للرجل أن يظهر بين قومه أو زائريه في مظهر اليسار والرفاهية، وينفق أكثر مما يتحمله كسبه اليومي أو الشهري، متخيلاً أن هذا الإنفاق يرفعه عندهم درجة، ويضع له في قلوبهم إكباراً، ومتى جرى الرجل وراء هذا المظهر المتكلف، وقع في عسرة وفاقة، وبعد أن كان في كفاف من العيش، صار إلى طبقة البائسين، ويضاهي هذا: أن يطمع الرجل في سيادة لا تدرك إلا بالمال؛ كما قال الطغرائي: أريد بسطةَ كفٍ أستعين بها ... على أداء حقوق للعلا قبلي ولكنه يكون قليل المال، ويرى أن قلة ماله تعوقه أن يبلغ تلك السيادة، فيندفع في طريق الاستدانة، ويخبط بها خبط عشواء، فلا يتقدم إلى السيادة خطوة، بل لا يلبث أن يضيع ما كان لديه قبل الاستدانة من فضل. أخذتُ الدَّيْنَ أدفع عن تلادي ... وأخذُ الدين أهلكُ للتلاد

وقد يكون أهل منزل الرجل غافلين عن عاقبة الأخذ بالدين، وتتجه نفوسهم إلى مطالب؛ من نحو: الملابس، وأثاث البيت، يضيق عنها ما يكسبه في يومه أو شهره، ويعتذر لهم، فلا يقبلون له عذراً، فتتغلب عاطفته على حرّمه وإرادته، ويضعف أمام هذه المطالب، فيغمس يده في الدين يبتغي إرضاءهم، ولكن العاطفة الشريفة هي التي تريه أن إطلاق يده في الدين قد ينحدر به وبهم من طبقة اليسار أو الكفاف إلى ضيق في العيش، وربما أفضى ضيق العيش إلى سوء المعاشرة، وإذا ساءت المعاشرة، تباعدت القلوب، وإذا تباعدت القلوب، تباعدت الوجوه لا محالة. وللمعاملة بالدين مضار: منها: ما يعود على المعطي بالدين. ومنها: ما يعود على الآخذ به. أما المعطي بالدين، فقد يدفعه الجشع إلى تسليم ماله إلى الدائن غير باحث عن حاله من طهارة الذمة، أو المقدرة على قضاء الدين عند أجله، فتكون عاقبة ماله التلف والخسران. ومن الناس من يحاول أكل أموال الناس بالباطل من طريق الاستدانة، ويتخذ جشع التاجر وسيلة إلى هذا الاختلاس، فيسوم السلعة بثمن فوق ثمنها كما صنع طريف بن منظور مع التاجر يحيى بن جابرة إذ فخم له في الربح حتى بلغ ما أحب، وقال: أيطمع يحيى في الوفاء وقد عدا ... على مالنا في البيع عدوة فاجر فلا يحسب الكوفيّ أن عقولنا ... هفت عن حساب مثبت في الدفاتر ولكنني أغرقت في الربح وانثنى ... وليس له علم بصفقة خاسر

تدعو مكارم الأخلاق التاجرَ إلى أن يتسامح مع ذي الحاجة، ويعامله بالدين، ومن الحزم أن لا يعامل بالدين إلا من يثق بذمته أو ماله، ويأمن أن تكون عاقبته ضياع المال، أو حدوث عداوة أو خصام. رغب الشارع في إسعاف ذوي الحاجات، ومعاملتهم بالدين، وعدّ هذه المعاملة من قبيل البر، وأرشد - مع هذا - أصحابَ الأموال أن يأخذوا بالحزم، ويقيموا المعاملة على شهادة، أو رهن؛ فإن الشهادة أو الرهان تقطع أسباب العداوة التي قد تنشأ عن الإنكار، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282]، وقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. وأما الضرر العائد على الآخذ بالدين، فأوله: أن المستدين يضع في عنقه منَّة تجعل للدائن عليه فضلاً، وإن في المنن لثقلاً على النفوس التي تطمح إلى العزَّة في كل حال، قال بعض الحكماء: "الصبر على العسرة، أحبُّ إلي من احتمال المنن"، وقال حكيم آخر: ما الذلّ إلا تحملُ المننِ ... فكن عزيزاً إن شئت أو فَهُنِ ولا ينسى الآخذ بالدين أن صروف الزمان قد تأتي بما لم يخطر بالبال، فقد يطرأ على المال الذي اعتمد عليه في قضاء الدين ما يقتضي تأخيره عن وقته المعلوم، فلا يحضر عند استحقاق الدين، فيقع في وعد كاذب، وذلك ما يحترس منه أهل الفضل ما استطاعوا الاحتراس، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو في الصلاة ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم"، فقال قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المغرم! فقال: "إن الرجل إذا غرم، حدّث فكذب، ووعد فأخلف".

وقد يطرأ على المال الذي اعتمد عليه في قضاء الدين ما يذهب به جملة، فتضيق عن هذا المدين المسالك، ويجره الدائن إلى مجلس القضاء، وهنالك تخيِّم الذلّة على وجهه في النهار، وتتوارد الهموم على قلبه بالليل. قال عياض بن عبد الله: "الدَّين راية الله في أرضه، فإذا أراد أن يُذلّ عبداً، جعلها طوقاً في عنقه". أتكسب خمساً وتنفق ستاً ... ضللت لعمري سبيل الأديب هو الدَّيْن إن جئته فترقَّبْ ... نهار الذليل وليلَ الكئيب وطعمُ الهوان وإن لم أذقه ... أمرُّ من الموت قبل المشيب ولا ينسى الآخذ بالدين أنه إذا لم يجد مالاً يقضي به الدين عند استحقاقه، فقد ينشأ بينه وبين الدائن مجافاة أو عداوة، فيكون الدين سبباً لذهاب ألفة تفوت بذهابها فوائد، أو لحدوث عداوة تجر وراءها مصائب، وكرامُ الناس يحرصون على أن لا يحدث بينهم وبين من يعرفون جفاء أو عداوة. وليذكر من يريد الأخذ بالدين: أن من التجار من لا يبيع البضاعة بالدين إلا بربح زائد على الربح المعتاد في بيعها نقداً، فيكون دفع المدين لهذا الربح الزائد، وهو يستطيع تأخير الشراء إلى وقت اليسر، منافياً لقواعد الاقتصاد. وليذكر من يريد الأخذ بالدين: أن الدين قد يحل أجله، ولا يستطيع قضاءه، فيباع عليه بعض ما يملك، أو كل ما يملك بثمن بخس، ولولا الدين، لأمكنه بيع عقاره أو عروضه بثمن لا غبن فيه. وقد يأخذ الإنسان بالدين ممن يتعاطى الربا، حتى إذا حلّ أجلُ الدين، وعجز عن أدائه، مدّ له في الأجل على أن يضيف إلى الدين زيادة المرابين،

وكثيراً ما يزداد المدين بمضاعفة الربا عسراً على عسر، وإن كان يملك عقاراً أو عروضاً، خرج من ملكه بالثمن البخس، وكم من أسرة كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفر عميدها بأنعم الله، وتعاطى الأخذ بالدين، فجر نفسه وأسرته إلى أزمة، ثم إلى فقر! وتلك عقبى الساقط مع شهواته أينما سقطت. يا غامساً يده في الدَّيْنِ إنك قدَّ ... غمستها في صديد خلته عسلا والدَيْنُ للمال سم ناقع فإذا ... ما اندسّ في ثروةٍ أولى بها عجلا والحق: أن لأموال الناس حرمة، فلا يسوغ لأحد أن يأخذها على وجه الدين إلا أن تدفعه إلى ذلك حاجة قاهرة، ويأنس من نفسه القدرة على أداء الدين عند استحقاقه، فالذي يقول: له ألفٌ عليَّ ونصفُ ألفٍ ... ونصفُ الألفِ في صكِّ قديمٍ دراهم ما انتفعت بها ولكن ... وصلت بها شيوخ بني تميم لا يعد في المحسنين صنعاً إلا حيث يكون واثقاً من قدرته على قضاء هذا الدين عند حلول أجله، والذي يقول: يعاتبني في الدِّيْنِ قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا هو أهل لأن يعاتب، إلا حيث يستدين وهو على ثقة من أنه سيؤدي هذه الديون لأربابها عند اقتضائها، وإذا كانت الاستدانة من الأمور التي لا يليق بالإنسان ارتكابها إلا في حالة عسرة لا يجد منها مخرجًا، فمن المستهجن أن يكون المدين قادراً على أداء الدين، ولا يبادر إلى أدائه، وذلك هو المُطْل الذي سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالظلم، فقال: "مُطْل الغني ظلم".

وفي المماطلة مفاسد شتى؛ إذ هي مظهر من مظاهر إخلاف الوعد، وشاهد على أن هذا المدين لا يحيى الذلة التي يوقعه فيها الدين، ومن آثارها السيئة: أنها تحرم الرجل أن يعامله الناس بالدين عند الحاجة. وقف أعرابي على باب قوم يسألهم، فحلفوا له ما عندهم شيء، فقال: استقرضوا لنا شيئاً، فقالوا: ما يقرضنا أحد شيئاً، فقال: ذلك لأنكم تأخذون ولا تقضون. المدين الذي لم يرسخ قدمه في الفضل يماطل بالدين، وفي وسعه أن يؤديه، والمدين الذي أخذ حظه من الفضل كاملاً يذكر أن الدائن قد وثق بذمته، وأسعفه عند الحاجة، فيبادر إلى قضاء الدين ما استطاع، وقد تدعوه سماحة نفسه أن يقضي الدين بأحسن مما أخذ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن خياركم أحسنكم قضاء". ذلك شيء من أدب المدين. ومن أدب الدائن: أن يقول عند طلب الدين قولاً ليناً، ولا يهدم معروفه بالغليظ من القول، وإذا وجد المدينَ مَعسراً، مد له في الأجل ما استطاع، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وإن وجد الدائن في نفسه فضلَ سماحة وغنى، فتنازل للمدين المعسر عن الدين، أو جانب منه، فذلك ما سماه الله خيراً، فقال: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]. وإذا كان من سماحة نفس الدائن أن يأخذ عند اقتضاء الدين طريقة الرفق، ولا يهدم معروفه بالغليظ من القول، فإن سماحة نفس المدين أن يرعى الجميل الذي أسداه إليه الدائن، ويقابل بعض كلماته النابية بشيء

من سعة الصدر. جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلب ديناً له، وأغلظ في القول، فهمّ بعض الحاضرين من الصحابة بإيذائه، فقال لهم - عليه الصلاة والسلام -: "دَعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالاً". ولطهارة الضمير، وحسن النية عند تعاطي الدين أثر في تيسير أدائه، وقد أنبأ بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - صلوات الله عليه -، فقال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها، أتلفه الله"؛ وتأدية الله الدين: أن يوفق الدائن سليمَ القلب، وييسر له أسباب الرزق، ذلك أنه اتّقى الله بقلبه، وطهّره من قصد كل أموال الناس بغير حق، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3].

الفتاوى والأحكام

الفتاوى والأحكام * وجوه صرف الزكاة (¬1): فرضت الشريعة الإسلامية على ذوي الأموال مقادير معينة سمتها: الزكاة، وأرشد القرآن إلى مصرفها بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]. والتعبير بـ "إنما" في لسان العرب يفيد الاختصاص، والمعنى: أن الصدقات - أي: الزكاة - للفقراء، وما عطفت عليهم، دون غيرهم. نظر الإسلام إلى حاجات لو بقيت في الأمة، لاختل أمرها، ولما صفا لها ورد حياتها، ففرض الزكاة؛ لتصرف في سداد هذه الحاجات، وهو - وإن لم يفرض في أموال الأفراد ما يصرف للمصالح العامة غير هذه المقادير المسماة بالزكاة - لم يقطع النظر عما يعرض للأمة من غير هذه الحاجات، بل أمرها أمراً لا هوادة فيه بأن تنفق في كل مشروع لو أهملته، لكان وصمة في مجتمعها، أو عثرة في سبيل عزتها واستقلالها. وهذا ما يسميه أهل العلم بفرض الكفاية؛ وهو ما يتوجه الخطاب به إلى الأمة على أن يقوم به من فيه الكفاية. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السادس من المجلد الثاني.

ولاختصاص الزكاة بالأصناف المذكورة في الآية منع الأئمة من صرفها في مصالح لا تدخل في واحد من هذه الأصناف؛ كما قال مالك: "لا يعطى من الزكاة في كفن ميت، ولا بناء مسجد". وإذا اختلفوا في صرفها في وجه من وجوه الخير، فلاختلاف أنظارهم في التحاقه بأحد الأصناف المقررة في الآية الكريمة. وأكثر ما جاء من ناحيته لاختلاف: الصنف السابع، أعني: قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]؛ فإن اللفظ من حيث مدلوله في لسان العرب شامل لكل وجه من وجوه الخير، ولكن ذكره من بين سبعة وجوه من وجوه الخير يدل على أنه يراد به ناحية خاصة فهمها السلف منذ نزول الآية. وأكثر أهل العلم على أن المراد من قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}: الغزاة، وما يحتاجون إليه في جهادهم من وسائل الدفاع، ومنهم من يجعله متناولاً لفريضة الحج، وهو ما نقل عن الإمام أحمد بن حنبل؛ حيث قال: الحج من سبيل الله، وهو ما يراه الإمام محمد بن الحسن بن الحنفية. وذكر الألوسي: أن بعضهم يفسره بطلبة العلم، ثم قال: "وتوسع بعضهم في تفسيره، فحمله على جميع القُرَب، وقالوا: يدخل فيه كل من سعى في طاعة الله، وسبل الخيرات". ولا نظن هذا الذي يفسر {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} بطلبة العلم، أو بكل من سعى في طاعة يجيز صرف الزكاة لهؤلاء، ولو كانوا أغنياء، وإذا كانوا لا يستحقونها إلا في حال الحاجة، فقد دخلوا في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، فصرف جانب من الزكاة على ذوي الحاجة من طلاب العلم بالمدارس، أو من يلقي بهم المرض على مضاجع المستشفيات،

لا يختلف فيه اثنان. فإذا كان الإنفاق علي بناء المدارس والمستشفيات من أموال يجود بها أهل الخير بداعي كرم النفس، والرغبة في عمل البر، فلا بأس بعد هذا في أن ينال من بهم خصاصة من الطلاب والمرضى جانب من الأموال التي تجمع باسم الزكاة. وخلاصة القول: أن من يمنع صرف الزكاة في وجه من وجوه المصالح العامة لا يقصد إلى عدم المبالاة بذلك الوجه، وإنما ينظر في فتواه إلى أن آية الزكاة لا تتناوله، وما لا تتناوله الآية يبقى في المشروعات المفروضة على الأمة فرض كفاية. والأمة التي تقدر حياة الاستقلال، وتأبى أن تكون في مؤخر الأمم، لا تتباطأ عن أن تبذل في المشروعات الصالحة غير ما يؤخذ منها باسم الزكاة. وليس غلبة الجهل عليها، وقلة شعورها بمقتضيات الحياة الاستقلالية بالعذر الذي يسيغ لنا تأويل {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} على كل مشروع نافع، بل الواجب تعليمها واجبات شريعتها، وإرشادها إلى وسائل الخلاص والقوة حتى تلين قناتها، وتبلغ من استقامة الأخلاق أن تلذّ الإنفاق في سبيل كل مشروع جليل. * المرأة والقضاء (¬1): سؤال: قرأت مقالاً في مساواة المرأة بالرجل في الميراث جاء فيه هذه الجملة: (حتى أجاز "الإسلام" لها "المرأة" أن تتولى القضاء)، فهل هذا الرأي صحيح في ذاته؟ ومن الذي قال به من علماء الإسلام؟ وهل له مستند ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد الثاني.

من الكتاب والسنّة، مع ما في المرأة من عوائق طبيعية واجتماعية؟ جواب: ينسب القول بصحة ولايتها القضاء إلى محمد بن جرير الطبري، ونقل عن الإمام أبي حنيفة: أنها تقضي فيما يصح أن تشهد فيه، وقد حمله بعض أهل العلم على معنى: صحة حكمها في القضية الواحدة ونحوها على سبيل التحكيم أو الاستنابة. قال أبو بكر بن العربي في تفسير قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل: 23] من كتاب "الأحكام": ونقل عن محمد بن جرير الطبري: أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله كما نقل عن أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم، إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك لسبيل التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة". ومن نظر إلى ما يقتضيه فصل القضايا من أن يكون القائم بأعبائه على جانب من الجزالة، وصرامة العزم، وأن يكون مقامه مهيبًا في النفوس، عرف أن المرأة لم تخلق لأن تتولى القضاء المطلق؛ إذ تغلب عليها رقة العاطفة، وهشاشة الطبع، وسرعة التأثر، وليس من شأن الرجال أن يهابوا مكانها الهيبة التي يكون لها الأثر في التحقيق أو التنفيذ. * وسائل منع الحمل (¬1): سؤال: هل يجوز استعمال وسائل لمنع الزوجة من الولادة؟ وإذا كان ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الخامس.

جائزاً، ففي أحوال خاصة، أو هو جائز على الإطلاق؟ جواب: رغب الشارع في النكاح، وأهم مقصد له من هذا الترغيب: تكثير النسل، وإبقاء النوع البشري، وإذا كان أهم ما يقصده الشارع من الزواج تكثير النسل، وعمارة الأرض، كان العمل لمنع الزوجة من الولادة على خلاف قصد الشارع، فهو إما مكروه، وإما حرام. فالعزل - وهو أن يريق الرجل النطفة حال استمتاعه بزوجته، خارجَ موضع الاستمتاع - مكروه، فإن دعت إليه مصلحة؛ كأن يكون الزوجان في دار الحرب، صار مباحاً، ويقاس على العزل: استعمال دواء للمنع من الحمل، فهو مكروه، إلا أن تدعو إليه مصلحة؛ كأن يكون في الحمل ضرر على المرأة، أو على الولد من جهة الصحة، ويعرف هذا الضرر بتقرير عارف أمين، هذا ما يقوله كثير من الفقهاء، ووجه الكراهة ظاهر في نقص عدد الأمة وضعفها. والواقع أن في استعمال الأدوية للمنع من الحمل مفسدةً ظاهرة لا ينبغي الاستهانة بها إلا حيث تدعو الضرورة إلى هذا المنع، ولو تتابع الناس على اتخاذ الوسائل إلى المنع من الولادة، لأدى الحال إلى انقطاع النسل أو قلته، فيتضاءل عدد الأمة، وتذهب قوتها أمام أعدائها، فيصير اتخاذ تلك الوسائل من الإلقاء بالنفوس والأوطان في تهلكة، وهذا مما ينظر إليه المحققون من المالكية حين نصوا على المنع من استعمال ما يبرد الرحم، ويفسد القوة التي يتأتى بها الحبل. أما استخراج ما في الرحم بعد استقراره، فممنوع، ولا سيما بعد أن تنقلب النطفة إلى صورة إنسان، وهذا ما حققه الإمام الغزالي في "الإحياء"،

والقاضي أبو بكر بن العربي في "القبس"، فإذا نفخ فيه الروح، فإسقاطه قتل نفس بلا خلاف. * حكم اختلاط الجنسين في معاهد التعليم (¬1): ادعى بعض الناس في هذا العصر: أن الكتاب والسنة لا يمنعان من اختلاط الفتيان والفتيات في معاهد التعليم، والواقع: أن دلائل أحكام الشريعة وآدابها غير مقصورة على نصوص الكتاب والسنّة، بل للشريعة أصول وقواعد يدركها المجتهدون بالنظر في تلك النصوص، والغوص على مقاصدها، وعلل أحكامها، فيطبقون تلك الأصول والقواعد على الوقائع التي لم يرد فيها نص صريح. ويكون الحكم المستنبط من طريقها في وجوب العمل به بمنزلة الأحكام المصرح بها. ومن هذه الأصول الشاهدة بكمال حكمة التشريع: قاعدة: سد الذرائع المفضية إلى فساد، وليس من شك في أن اختلاط الفتيان والفتيات في الدروس ذريعة إلى عواقب غير محمودة. وقد دلت الروايات الصحيحة على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للنساء في الحضور للصلاة بالمساجد، وكنَّ يصلين في آخر المسجد، وينصرفن قبل أن يقوم الرجال من أماكن الصلاة، في "صحيح البخاري" عن أم سلمة: "أن النساء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنّ إذا سلَّمن من المكتوبة، قمنَ، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله، قام الرجال". وفي الصحيح أيضاً: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم، قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيرًا". نرى - والله أعلم - أن ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع من المجلد التاسع.

ذلك كان لكي ينصرف النساء، قبل أن يدركهن أحد من الرجال. فالرواية الصحيحة دلت على أن النساء كنَّ يصلين في مؤخر المسجد، وينصرفن عقب الصلاة إلى منازلهن، وأن الرجال لا يقومون من مواضع صلاتهم إلا بعد أن ينصرف النساء، وليس لأحد أن يقيس على حضور النساء بالمسجد للصلاة على الوجه الوارد في الصحيح، اختلاطَ الفتيان والفتيات في دروس العلم، ففي حضور الصلاة بالمسجد من دواعي غض البصر عن المحارم، وتعظيم أمر الله ما لا يوجد في حضور الدرس. ونزيد على هذا: أن النساء ما كنّ يحضرن في مجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الرجال، على ما في تلك المجالس من وقار، وما في قلوب أولئك الرجال من تقوى، ونذكر من شواهد هذا: حديث أبي سعيد الخدري المروي في "صحيح البخاري:، وهو: "أن النساء قلن للنبي- صلى الله عليه وسلم -: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن، وأمرهن"، ولو كان النساء يختلطن بالرجال في مجلسه، لما قلن: "غلبنا عليك الرجال"، ولم يحدث بعد عهد النبوة إلى عصرنا هذا ما يدعو إلى اختلاط الفتيان والفتيات في معاهد التعليم، بل الذي حدث: هو أن الخطر الذي بني عليه الشارع المنع من هذا الاختلاط قد اتسعت دائرته إلى حد بعيد، وفائدة الفتيات العلمية غير موقوفة على هذا الاختلاط؛ إذ يمكن الاحتفاظ بها كاملة مع الفصل بينهن وبين الفتيان في معاهد التعليم. * الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان (¬1): سؤال: هل التشريع الإسلامي تراعى فيه ظروف الزمان والمكان، أم ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد السابع عشر.

يجب الوقوف فيه حتماً عند النصوص، وكل ما جاوزها يؤثم عليه، ولا يعتد به شرعاً؟ نرجو الجواب الآن، لشدة الحاجة إليه. جواب: معروف في علم القضاء: أن القوانين إنما تقوم على رعاية المصالح، ومصالح العصور تختلف اختلافاً كثيراً، وعلى هذا الأصل تقوم الشريعة الإسلامية، وبهذا يمكنها أن تساير كل عصر، وتحفظ مصالح كل جيل، ذلك أن الإسلام دلّ على بعض الأحكام في أصول كلية؛ ليستنبط منها المجتهدون أحكام الوقائع على حسب مقتضيات أحوال الأزمنة والمواطن. وقد أجمع علماء الإسلام على أن أحكام الشريعة قائمة على رعاية مصالح العباد، وأنه يرجع في تعرف المصالح إلى أنظار المجتهدين، ومن هنا قرروا أن أصول الشريعة ترجع إلى أربع قواعد: "الضرر يزال"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"العادة محكمة"، و"الأعمال بمقاصدها". وترجع إلى هذه القواعد العليا قواعد تجعل أحكام القضاة المجتهدين أحفظ للمصالح، وأشد مطابقة لمقتضيات العصر، ومن هذه القواعد: قاعدة: رعاية المصالح المرسلة، والمصلحة المرسلة: مصلحة يدركها العقل في حادثة، ولم يقم عليها دليل خاص من الكتاب والسنّة. ومنها: قاعدة: مراعاة العرف، وقاعدة: سد الذرائع، وهي المنع من أشياء شأنها أن تؤدي إلى أمور تشتمل على فساد، ويدلكم على أن الشريعة الإسلامية قائمة على رعاية المصالح: أن المجتهدين من أئمتها قد يحملون بعض النصوص المطلقة على أحوال خاصة إذا اقتضت قاعدة رعاية المصالح المرسلة فهمَ النص على أن المراد: العمل به في هذه الأحوال الخاصة. وصفوة هذه الكلمة الموجزة: أن التشريع الإسلامي يوافق حال كل

عصر، ولو نظر إليه غير المسلمين بالعين التي ينظرون بها إلى القوانين الوضعية، وقارنوا بينه ويين تلك القوانين مقارنة رائدُها البحث عن الحقيقة، لرأوه رأي العين كيف يأخذ بالعدل من أطرافه، ويعطي كل ذي حق حقه. ورجال جمعية الهداية الإسلامية، وفيهم أساتذة ممن درسوا الحقوق دراسة وافية، مستعدون لإقامة الحجة على أن التشريع الإسلامي أرقى تشريع تُصان به الحقوق، وتلقى به الإنسانية أمنها وسعادتها. * إشاعات السوء وموقف الإسلام منها (¬1): إشاعات السوء عن شؤون الأمة، وسير أعمالها، وأهداف إصلاحاتها، ومقاصد رجالها لا تقل ضرراً في كيان الأمة وسلامة الوطن عن التجسس للعدو على دخائلها، ومواطن قوتها وضعفها. فكل ذلك خدمة للعدو، وموالاة له. وقد خاطب الله المسلمين بقوله: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]. بل إن موالاة العدو - في حال عدوانه -، وترويج ما ينفعه في مضرة الإسلام وأهله تخرج الموالين له عن تبعيتهم لأمتهم، وتلحقهم بأمة عدوهم. وفي ذلك يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]. * ترويج إشاعات السوء: ومن أشد ما يوالي به المنافقون من يكيد للأمة من أعدائها: ترويج إشاعات السوء، والإصغاء إليهم، وقد ورد في ذلك قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" - الجزء الثاني من المجلد الخامس والعشرين.

{فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60 - 61] وكان مما كانوا يرجفون به: ما ذكره الله عنهم في قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]. ولهؤلاء المنافقين خلفاء في كل عصر من عصور الإسلام، وفي كل وطن من أوطانه، يخذلون الناس عن أئمتهم وولاة أمرهم، ويشيعون السوء عن برامجهم وخططهم، وهذا مرض في القلوب كما وصفه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وعلى من يصاب بهذا المرض أن يعالج نفسه قبل أن يعالج بأحكام الله. وفي هؤلاء أيضاً ورد قول الله سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83]؛ أي: أفشوه حيث لا يكون من المصلحة العامة إذاعته وإفشاؤه. وقد يكون ما يذيعونه كذباً ومضراً بالمصلحة، فيكون ذلك من الإثم المزدوج الذي طهر الله قلوب المؤمنين منه. واللائق بالمسلمين إذا سمعوا قالة السوء أن يكونوا كما أراد الله للمسلمين في قوله -عزَّ وجلَّ-: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]. إلى أن قال سبحانه: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 15 - 16]. ولما عاد المسلمون من غزوة أحد، كان فيهم من اختلفوا في الحكم على المنافقين والمرجفين، فقال فريق للنبي- صلى الله عليه وسلم -: "اقتلهم"، وقال فريق: "لا تقتلهم"، فنزل في ذلك قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]، وفي ذلك ورد الحديث النبوي: "إنها طيبة - أي: المدينة - تنفي خبثها كما تنفي النار خبث الحديد"، وفي

رواية: "خبث الفضة". وأول فتنة في الإسلام، وهي الجرأة على خليفة رسول الله وصهره سيدنا عثمان، كان منشؤها إشاعات السوء الكاذبة، وتضليل البسطاء وضعاف الأحلام، فجرّ ذلك على الأمة من الضرر ما لم تتوصل إلى مثله الدول المعادية بما لديها من جحافل وقوات حربية. وفي الليلة الأخيرة قبل نشوب حرب الجمل توصّل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفريقين إلى التفاهم على ما يرضي الله -عَزَّ وَجَلَّ- من إقامة الحدود الشرعية على من يثبت عليه أن له يداً في مصرع أمير المؤمنين عثمان، وبات أبناء كل فريق في معسكر الفريق الآخر بأنعم ليلة وأسعدها، وأرضاها لله، فما كان من قَتَلَة عثمان ومن يتبعهم من قبائلهم، إلا أن أنشبوا القتال في الصباح الباكر، وأشاعوا في معسكر من المعسكرين بأن المعسكر الثاني هو المهاجم له، على خلاف ما اتفقوا عليه بالأمس، وبذلك كانت الإشاعات بين الطرفين أفتكَ بهما، وأضرَّ على الإِسلام من أسلحة البغاة الفاتكة. أيها المسلمون! إن إشاعات السوء سلاح العدو، والذي يصغي إليها يمكِّن العدو من الفتك بالأمة والوطن، وتحسبونه هينًا، وهو عند الله عظيم، فاعملوا في ذلك بهداية الله -عَزَّ وَجَلَّ- وإرشاده حين يقول: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]. وعلى ولاة الأمر أن يتصرفوا فيمن يثبت عليهم ذلك وفقاً لحكم الله تعالى حين يقول لنبيه: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60 - 61].

إن الأمة تجتاز اليوم مرحلة من أدق مراحلها في تاريخ نضالها العنيف، هي مرحلة تقرير المصير. وهذه المرحلة - بما لها من الخطر والأثر في مستقبل الأمة وحاضرها - تقتضي منا أن نتيقظ لكل ما يراد بنا، سواء من العدو الغاصب، أو من أعوانه. وأن نحذر دعاة الفتنة، والذين يعملون على إشاعتها بين طبقات الأمة. ولنعلم أن هؤلاء وأولئك يستهدفون غرضاً واحداً. ويعملون لغاية واحدة، هي تمزيق الشمل، وتشتيت الجمع، وتفريق الكلمة، وإشاعة الكراهية بين الحاكم والمحكوم، وإلقاء العداوة بين المؤتمين والمأموم. وهم بهذا يعملون للفتنة ومن أجلها. فإذا ما تحققت غايتهم، فإن الفتنة لا تصيبهم وحدهم، ولا تصيب طائفة دون أخرى، وإنما هي تصيب الأمة بأسرها. وقد حذرنا الله تعالى منهم ومن فتنتهم، فقال - جل شأنه -: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25]، واتقاء الفتنة يكون بدفعها وإدحاضها، وإنزال العقوبة الرادعة على كل من يثبت عليه أنه كان سبباً فيها، أو في عنصر من عناصرها. ويرى علماء الشافعية أن تكون العقوبة هي (الإعدام) لكل من يثبت عليه أنه أحدث بين المسلمين فتنة. وأما علماء المالكية، فإنهم يتركون الحد على هذه الجريمة لاجتهاد الإمام؛ أي: الحاكم، ومن هنا نرى أنه لا سبيل إلى الهوادة أو المهادنة في إقامة الحد على هذه الجريمة النكراء، جريمة إحداث الفتنة بين الصفوف مناصرة لعدو البلاد الأكبر، وهو المستعمر الغاصب. فلنتق الله في أمتنا ووطننا، وتقوى الله تدفع كل شيء، وتحول دون أي مكروه، والله يوفقنا ويسدد خطانا إلى ما فيه النجاح والرشاد.

* هل للمرأة أن تباشر الوظائف العامة (¬1): استهل فضيلته حديثه في هذا الموضوع الخطير بالسؤال عن الغاية التي تهدف إليها المرأة من وراء هذه الدعوى، وقال: هل تريد أن تهجر البيت؛ لتقضي وقتها بين الأندية والمجتمعات والمحافل السياسية في مناقشة القوانين، وفيما يجب أن يفرض من العقوبات، ويرسم من الحدود، وما إلى ذلك من مسائل التشريع والتقنين؟ إن كان هذا مقصدها، فهل لها أن ترشد أهل الصواب والمنطق والحق في أي عصر إسلامي كان هذا؟ وفي أي عهد من العهود التي ازدهرت فيها تعاليم الإسلام وانتشرت أحكامه ومذاهبه تولت المرأة شؤون الولاية العامة!؟ ثم استطرد فضيلته فقال: إن الشريعة الإسلامية تحرم اختلاط المرأة بالرجال. والدعوى بمنح المرأة حقاً سياسيًا إنما هي وسيلة من وسائل الاختلاط تريد المرأة في هذا العصر أن تتذرع بها لتكسو اختلاطها بالرجال ثوب المصلحة العامة، وهذا عمل لا تقره الشريعة الإسلامية، وليس جائزاً في أي مذهب من مذاهبها؛ لأن الشريعة قد فطنت إلى ما ينجم عن اختلاط المرأة بالرجل من مضار اجتماعية وخيمة، ومن شرور لو قلنا إنها محتملة الوقوع، لكان ذلك الاحتمال كافياً لمنعها ودرئها. وإذا كانت المرأة تريد في سبيل تبرير دعوتها أن تلجأ إلى السباب، وإلى الغض من أقدار سلف العلماء، والطعن عليهم، والنيل من كرامتهم، وتحقير شأن من يريد أن يبصرها بالصواب والرأي السديد، فإنما تكون قد أقامت الدليل القاطع على أنها لا تصلح عضواً في معترك الحياة؛ لأن مثل ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" - الجزء الخامس من المجلد الرابع والعشرين.

هذا الطريق لا يلجأ إليه إلا من ضعفت حجته، واختلطت عليه موازين الأشياء ومقاييس الأمور. ولقد سبق أن أفتت لجنة الفتوى في الأزهر فتوى شرعية بينت فيها بمختلف طرق التبيين، على مختلف الآراء الفقهية ما للمرأة من حقوق، وما عليها من واجبات، وفصلت لها نوع الولاية، وعرفتها أن الولاية العامة هي السلطة الملزمة في شأن من شؤون الجماعة؛ كولاية سن القوانين، والفصل في الخصومات، وتنفيذ الأحكام، والهيمنة على القائمين بذلك، وقالت: إن الشريعة الإسلامية قد قصرتها على الرجال إذا توافرت فيهم شروط معينة، وزادت على ذلك في مقام التبيين: أنه لم يثبت أن شيئاً من هذه الولاية العامة قد أسند إلى المرأة، لا مستقلة، ولا مع غيرها من الرجال؛ وقد كان في نساء الصدر الأول مثقفات فضليات، وفيهن من تفضل كثيراً من الرجال، كأمهات المؤمنين، وساقت قصة سقيفة بني ساعدة في اختيار الخليفة الأول بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إذ بويع أبو بكر البيعة العامة في المسجد، ولم تشترك امرأة مع الرجال في مداولة الرأي في السقيفة، ولم تُدع لذلك. وقد أفاضت لجنة الفتوى في بيان أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بما يجب أن تمنع منه المرأة من الوظائف العامة، ودعمته بالبراهين القطعية، والأسانيد التاريخية، والأدلة اليقينية. وكان المأمول أن تقف المرأة عند حدودها التي رسمتها لها الشريعة الإسلامية، في بلد إسلامي، ودولة إسلامية، وأن تعمل من جانبها على أن تسترشد بما يراه أهل الرأي من الفقهاء في أمرها، فتلزم بيتها في رعاية زوجها وكنفه، ولكنها عادت مرة ثانية إلى المناداة بوجوب منحها حقوقاً سياسية معينة، ومع أن الشريعة الإسلامية قد أفسحت

لها الطريق في كل ما يتعلق بمسائل الولاية الخاصة، وقد ساوتها بالرجل في هذا النوع من الولايات؛ إذ جعلت لها حق التصرف في أموالها بالبيع والهبة، والرهن والإجارة، وغير ذلك من مختلف ضروب التصرفات، وأجازت لها الوصاية على الصغار، والولاية على المال، والنظارة على الأوقاف، إلا أنها لم تقنع بما رسمته لها الشريعة الإسلامية، وأرادت أن تدفع نفسها بنفسها، وأن ترسم الطريق حسب أهوائها وغاياتها؛ لتتولى وظائف الدولة التي تدخل في نطاق الولاية العامة؛ كسن القوانين، والفصل في الخصومات، وتنفيذ الأحكام ... إلخ. وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد جعلت القوامة على النساء للرجال، وقد قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34]، وجعلت حق طلاق المرأة للرجل وحده، ومنعتها من السفر دون محرم، أو زوج، أو رفقة مأمونة، وجعلت لها حق حضانة الصغار دون الرجل، وأوجبت على الرجل حضور الجمعة والجماعة والجهاد، ولم توجب عليها شيئاً من ذلك، أقول: إذا كانت الشريعة الإسلامية قد رسمت لها حدودها، وبينت لها مهمتها، فما بالها تريد أن تخرج من أحكامها؛ لتزج بنفسها في انتخابات تدافع فيها وتدفع، وتختلط في ميدانها بالجماعات والأفراد من الرجال، وهي بطبيعة أنوثتها غير مأمونة ولا معصومة؟! وما بالها تريد أن تثير حولها الزوابع، وتخوض المعامع، في الوقت الذي كفتها فيه الشريعة مؤونة الكفاح، وجنبتها مواطن الزلل، ورسمت لها من الحدود ما يتكافأ وطبيعتها في ميدان العمل المنتج المفيد لها وللجماعة التي تعيش فيها؟!. وأعتقد أنه من المستحسن أن أسوق بعض ما رأته لجنة الفتوى في

مقام التدليل الفقهي على منع المرأة من الاشتغال بوظائف الولايات العامة، فقد استندت إلى ما رواه البخاري في "صحيحه"، وأخرجه أحمد في "مسنده"، والنسائي في "سننه"، والترمذي في "جامعه". قال البخاري: حدثنا عثمان بن الهيثم، قال: حدثنا عوف عن الحسن البصري، عن أبي بكرة، قال: لقد نفعني الله بكلمتين أيام الجمل: لما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن فارس ملّكت ابنة كسرى، قال: "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة". وقد ذهبت اللجنة في استنتاج المراد من هذا الحديث، وفي استنباط دلالته العامة مذهب صدق، فقالت: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقصد بهذا الحديث مجرد الإخبار عن عدم فلاح القوم الذين يولّون المرأة أمرهم؛ لأن وظيفته - عليه الصلاة والسلام - بيان ما يجوز لأمته أن تفعله حتى تصل إلى الخير والفلاح، وما لا يجوز لها أن تفعله حتى تسلم من الشر والخسار، وإنما يقصد: نهي أمته عن مجاراة الفرس في إسناد شيء من الأمور العامة إلى المرأة، وقد ساق ذلك بأسلوب من شأنه أن يبعث القوم الحريصين على فلاحهم وانتظام شملهم على الامتثال، وهو أسلوب القطع بأن عدم الفلاح ملازم لتولية المرأة أمراً من أمورهم. ولا شك أن النهي المستفاد من الحديث يمنع كل امرأة في أي عصر من العصور أن تتولى أي شيء من الولايات العامة، وهذا العموم تفيده صيغة الحديث وأسلوبه؛ كما يفيده المعنى الذي من أجله كان هذا المنع. وهذا هو ما فهمه أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجميع أئمة السلف، لم يستثنوا من ذلك امرأة، ولا قوماً، ولا شأناً من الشؤون العامة، فهم جميعاً

يستدلون بهذا الحديث على حرمة تولي المرأة الإمامة الكبرى، والقضاء، وقيادة الجيوش، وما إليها من سائر الولايات العامة. هذا الحكم المستفاد من هذا الحديث - وهو منع المرأة من الولاية العامة- ليس حكماً تعبدياً يقصد مجرد امتثاله دون أن تعلم حكمته، وإنما هو من الأحكام المعللة بمعان واعتبارات لا يجهلها الواقفون على الفروق الطبيعية بين نوعي الإنسان: (الرجل والمرأة). ذلك أن هذا الحكم لم ينط بشيء وراء (الأنوثة) التي جاءت كلمة (امرأة) في الحديث عنوانًا لها، وإذاً فالأنوثة وحدها هي العلة فيه. وواضح أن الأنوثة ليس من مقتضاها الطبيعي عدم العلم والمعرفة، ولا عدم الذكاء والفطنة، حتى يكون شيء من ذلك هو العلة؛ لأن الواقع يدل على أن للمرأة علماً وقدرة على أن تعلم كالرجل، وعلى أن لها ذكاء وفطنة كالرجل، بل قد تفوق الرجل في العلم والذكاء والفهم. فلا بد أن يكون الموجب لهذا الحكم شيئاً وراء ذلك كله. إن المرأة بمقتضى الخلق والتكوين مطبوعة على غرائز تناسب المهمة التي خلقت لأجلها، وهي مهمة الأمومة، وحضانة النشء وتربيته، وهذه قد جعلتها ذات تأثر خاص بدواعي العاطفة، وهي -مع هذا - تعرض لها عوارض طبيعية تتكرر عليها في الأشهر والأعوام، من شأنها أن تضعف قوتها المعنوية، وتوهن من عزيمتها في تكوين الرأي، والتمسك به، والقدرة على الكفاح والمقاومة في سبيله، وهذا شأن لا تنكره المرأة من نفسها. ولا تعوزنا الأمثلة الواقعية التي تدل على أن شدة الانفعال، والميل مع العاطفة من خصائص المرأة في جميع أطوارها وعصورها.

فقد دفعت هذه الغرائز المرأة في أسمى بيئة نسوية إلى تغليب العاطفة على مقتضى العقل والحكمة. وآيات من سورة الأحزاب تشير إلى ما كان من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتطلعهن إلى زينة الدنيا ومتعتها، ومطالبتهن الرسول أن يغدق عليهن مما أفاء الله به عليه من الغنائم؛ حتى يعشن كما تعيش زوجات الملوك ورؤساء الأمم، لكن القرآن قد ردهن إلى مقتضى العدل والحكمة، من ذلك: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28 - 29]. وآية أخرى من سورة التحريم تحدث عن غيرة بعض نسائه - عليه الصلاة والسلام -، وما كان لها من الأثر في تغليبهن العاطفة على العقل؛ مما جعلهن يدبرن ما يتظاهرن به على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد ردهن القرآن إلى العبادة: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]. هذه هي المرأة في أسمى البيئات النسوية، لم تسلم من التأثر الشديد بدواعي العاطفة، ولم تنهض قوتها المعنوية على مغالبة نوازع الغيرة، مع كمال إيمانها، ونشأتها في بيت النبوة والوحي، فكيف بامرأة غيرها لم تؤمن إيمانها، ولم تنشأ نشأتها، وليس لها ما تطمع به أن تبلغ شأوها أو تقارب منزلتها؟! فالحق: أن المرأة بأنوثتها عرضة للانحراف عن مقتضى الحكمة والاعتدال في الحكم، وهذا ما عبر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنقصان العقل، ورتب

عليه كما جاء في القرآن الكريم: أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل. ومجمل القول في هذا كله: أن المرأة لا يجوز لها أن تباشر عملاً من أعمال الولاية العامة مطلقاً، ولا يجوز لها كذلك أن تغشى الأندية والمحافل والمجتمعات العامة، مهما كان السبب الذي يدفعها إلى ذلك؛ لأننا أمة إسلامية، والإسلام يلزمها هذه الحدود، ولا يجيز لها أن تتعداها.

7 - محاضرات إسلامية

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (7) «مُحَاضَرَاتٌ إسْلاميَّةٌ» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة " محاضرات إسلامية" لفضيلة الإمام الأكبر المرحوم محمد الخضر حسين - رضوان الله عليه - أثر عظيم يضم فرائد محاضرات قيمة، ألقاها من منابر الخطابة في العديد من الجمعيات الإسلامية، سواء في تونس، أو القاهرة. وهذه المحاضرات منها ما نشر في رسائل صغيرة مطبوعة - وقد نفدت -، ومنها ما نشر في المجلتين الإسلاميتين الكبيرتين، مجلة "نور الإسلام"، والتي تعرف اليوم باسم مجلة "الأزهر"، ومجلة "الهداية الإسلامية" التي كان يصدرها المؤلف في القاهرة. وفاتحة هذه المحاضرات: "الحرية في الإسلام" من أمهات المحاضرات الإسلامية وأوائلها التي ألقاها الإمام الأكبر في مطلع حياته الدينية والسياسية، ألقاها بنادي "جمعية قدماء تلامذة الصادقية" في تونس، وذلك مساء يوم السبت الواقع في 17 ربيع الثاني من عام 1324 هـ. وكان يشغل آنذاك منصب قاضي مدينة "بنزرت"، وقد طبعت هذه المحاضرة عام 1327 هـ برسالة خاصة، وأعيد طبعها مرتين فيما بعد. تعتبر محاضرة: "الحرية في الإسلام" من الوثائق القومية والتاريخية التونسية الهامة، فقد ألقيت في عهد الحماية الفرنسية، وفي أوج غطرستها وشراستها، تلك الحماية الرهبية التي كانت تعتبر تونس قطعة أرض ملحقة

بفرنسا، وتكمم الأفواه عن النطق بالأحاديث المعتادة، فكيف الحال بصوت داوٍ يتحدث عن الحرية في آذان شعب مضطهد؟!. تناقلت الأيدي المحاضرة من بيت إلى بيت، ومن معهد إلى معهد، يهمس بها المواطن التونسي إلى أخيه، فينتشر شعاعها في القلوب المؤمنة بحرية التراب التونسي. وقد حدثني سيدي الوالد الشيخ زين العابدين التونسي -حفظه الله- أن العم الإمام -رحمه الله- عندما ألقى هذه المحاضرة أحدثت أثراً عميقًا في المجتمع التونسي، ما زال يفعل فعله في الأوساط الشعبية كالنار في الهشيم، وكانت صوتًا من أصوات النضال التونسي السائر في الطريق إلى الحرية. مثل تلك المواقف التي وقفها الإمام الأكبر -رحمه الله-، وما كان يبديه من آراء جريئة في المجلة التي كان يصدرها بتونس تحت اسم "السعادة العظمى"، وما يدعو إليه من أفكار إصلاحية حرة لا قبل للاستعمار الفرنسي بها، وما يثيره من حماسة تلامذته في المنتديات وحلقات العلم بالجامع الزيتوني الأعظم، كل ذلك جعله عرضة للملاحقة والتهديد والوعيد، فاكره على مغادرة الوطن الأم تونس إثر حكم بالإعدام صدر عن السلطات الفرنسية الحاكمة، فمضى في الآفاق الإسلامية داعياً إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، صوت حق وهدى. والله نسأل السداد. علي الرّضا الحسيني

الحرية في الإسلام

الحرية في الإِسلام (¬1) سنحت لي من بين الشواغل فرصة فانتهزتها، وأقبلت ببصري على سماء الإسلامية أقلبه في مطالعها يميناً ويساراً، وأطالع من دلائلها الصادقة ¬

_ (¬1) قدم الإمام محاضرته بالكلمة التالية: أيها الفضلاء! إن لكل شيء سبباً، ولكل غرض باعثة، والذي أخذ بيدي إلى هذا المنتدى الأدبي، وبعث عزيمتي إلى تحرير ما سنلقي عليكم بيانه، أنّ صديقنا السيد خير الله رئيس هذه الجمعية "جمعية قدماء تلامذة الصادقية" خيّل له ظنه الجميل: أني صاحب مكانة في انتخاب جواهر الأسمار، وتأليفها على وجه يكون أقرب إلى القبول وأدعى إلى التأثير، فخاطبني على أن أضع مسامرة تنطبق على الخطة التي رسمتها الجمعية لنفسها، وأقدمها هدية إلى مسامعكم الزكية بلسان عربي، وأسلوب حكيم. تلقيت ذلك الخطاب بواسطة صحيفة من صديقي النحرير الشيخ السيد محمد الطاهر بن عاشور رئيس هذه الحفلة الجامعة، أرسل بها إلى حيث طوحت بي طوائح القضاء المحتوم، فاستوقفت له خاطري وقفة المتردد، واستلفتُّ له نظري لفتة المتروي لما يرد على فكري من القضايا التي لم تبق لي مثقال ذرة من الوقت شاغرًا، والشواغل التي من شأنها إذا لبست فكرة، ذهبت بها في جانب يبعد عن ناحية هذا الغرض بمراحل واسعة، فمتى قلبته في هذا الميدان، أخشى أن تقيده حبسة أو يثنيه جماح، ولا سيما حين يلجّ به الغوص في بعض المواضيع التي يبعد شأوها، ويعلو مرتقاها. =

ظواهر وأسراراً، حتى استضاء لي من نجومها هدى، وتنفس لي من مشارقها صباح مبين، ثم قصدت إلى سيرة الخلفاء الراشدين، وقبضت من أثرها قبضة أضفت إليها قوادح أنظار هي في الحقيقة خادمة لها، ومساعدة على إبرازها في هيئة تشملها نظرة واحدة، وإليكم مساق حديثها: لا يمتري أحد فيما تناجيه به حاسة وجدانه من الميل إلى هذه الحياة، والحرص على استطالة أمدها، ومن ها هنا اشتدت به الحاجة إلى السعي في مطالبها، والتعلق بأسبابها؛ من الغذاء والكساء والمسكن وما شاكلها، فيقتحم الإنسان المصاعب، ويعاني الشدائد في طلبها، ولا يثبطه عنها ما هو موضوع في طبيعته من الميل إلى الكسل والراحة. وقد يجري على مخيلته اشتباه: هل الولوع بالحياة الدنيا يكون لذاتها وطبيعتها، أو للغايات التي يحرزها في مضمارها، والمآرب التي يتصيدها بحبالتها؟ فيدعوه هذا الالتباس إلى حركة فكرية، يستنتج من وراء تدافعها أن النفوس الناطقة إنما أولعت بحب هذه الحياة، وشغفت بلذة عيشها من ¬

_ = لبثت في هذا التردد أمداً غير بعيد، فإذا أمنية تنازعني في نفسي، ولطالما نظرت إليها بعين المشوق المستهام، إن هي إلا ابتغاء الدخول في صف فتية من إخواني الأدباء، كنت أسايرهم إذا أعنقوا في الآداب، وأشد كفي بعرا مرافقهم التي ألفتها قديمًا، ولبثت فيها من عمري سنين، فأكره شديداً أن أسل يدي من رابطتهم، وأحجم عن مجاراتهم ما اهتديت لذلك سبيلاً. تحركت هذه الأمنية، وقويت داعيتها، فأرتني الأمر قريب المأخذ، سهل التناول، حتى تخيلته موضوعاً على طرف الثمام، فانقلب ذلك التردد من حينه حاديَ سمع ومطاوعة، وعند التفاهم مع الرئيس في موضوع المسامرة وقع الاختيار على مبحث: الحرية في الإسلام.

جهة اعتبارها مسرحاً للأماني، وموطنًا للمساعي التي تجتني من غايتها ثمراً لذيذاً، لا بالنظر لحقيقتها التي تشاركها فيها سائر الحيوانات، وهي الصفة التي تقتضي الحس والحركة. ولا تظهر صحة هذا الاستنتاج جلياً إلا بمشاهدة آثار النفوس العالية، ووضعها على محك النظر والاعتبار؛ فإن مدافعتها في صيانة أعراضها، وحماية أموالها، أو القانون الكافل بحقوقها لا تقصر عن درجة الدفاع للفوز بحياتها، وما ذاك إلا لما ينطوي في عقيدتها من أن كل هذه الحقائق سلاح تجاهد به في سبيل ترقياتها المدنية، وسعادتها الخالصة. وقد يجادل الرجل عن ناموس دينه وعرضه وماله بالتي هي أبلغ وأشدة نظراً إلى أن فناءه والتحاقه بالتراب أكمل حالاً من بقائه أعزلَ من الوسائل التي يدرك بها مقامًا محموداً، وشرفاً مؤثلاً، وكثيراً ما يستوحش من عصر شبابه إذا حبط سعيه سدى، وفاجأه الحرمان من اجتناء فائدة علق عليها أملاً حريصاً. وربما آثر انصرام أجله إذا حاق به بلاءً زرَّر عليه الفضاء، أو اشتدت به أزمة يبيت من أجلها متوسدًا لذراع الهم والمتربة، وقد يلذ له كأس المنون إذا أرهقته علة فاقرة خدّرت إحساسه، واستحال لها الماء الفرات في ذوقه ملحًا أجاجًا، إنما استلذ مرارة حتفه مكان الأياس الذي ربط على قلبه، وكسر من جناحي رجائه دون البلوغ إلى الغاية، كما يسأم من حياته إذا دبّ في ساعده الفشل، وخالط عظامه الوهن عن القيام بواجباتها، ومن تأمل قول الشاعر: سئمت تكاليف الحياة ومن يعشْ ... ثمانين حولاً لا أبا لك يسأمِ

على مثل هذا الوجه لم يكن مخطئاً، فالرغبة في الحياة تضاهي كراهتها في رجوعها إلى أمر خارج عن حقيقتها، ولكنه يرد من ناحيتها، وينال بواسطتها. وإذا علمت نفس طاب عنصرها، وشرف وجدانها: أن مطمح الهمم إنما هي غاية وحياة وراء حياتها الطبيعية، لم تقف بسعيها عند حد غذاء يقوتها، وكساء يسترها، ومسكن تأوي إليه، بل لا تستفيق جهدها، ويطمئن بها قرارها، إلا إذا بلغت مجداً شامخاً يصعد بها إلى أن تختلط بكواكب الجوزاء. قال امرؤ القيس: ولو أنما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثلٍ ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي فقوله: ولم أطلب، جملة اعترض بها بين الفعل وفاعله، وفائدتها: تحقير شأن المعيشة، وتبرئة سعيه من أن يفضيَ الطلب إلى ما هو أدنى، فإنها مما يحصل بغير طلب ولا عناء، وإنما الذي يحتاج إلى الطلب: هو المجد المؤثل، ولا يدركه إلا العظماء من الناس. وقد يسلب من الساعي اختياره، وينزع عزيمته عن العمل سلطة قاهرة، تسند هذه السلطة تارة إلى القدر المحتوم، والبحث عنها في هذا المقام لا يلتئم بالغرض الذي نرمي إليه، وتسند آونة إلى أفراد لم تصبغ أخلاقهم بتربية صحيحة، شأن الأمم المتوحشة، يستهوي بها حب الاستئثار بالمنافع، والنفيس من الفوائد، إلى أن ينسل أولو القوة منها نحو أموال الذين استضعفوا، ويصولوا عليها صيال الوحوش الضارية، ثم ينصرفوا بها إلى مساكنهم غير متحرّجين من أوزارها، كأنما انصرفوا بتراث آبائهم وأمهاتهم، أو خصّهم الله بما خلق

في الأرض جميعاً. كانت الفوضى بين الأمة العربية سائدة، والأمن في بلادهم قبل الإسلام مختلًا، إذا استشاط أشدّاؤها غيظاً، ونفخت في صدورهم البغضاء والشحناء، لا يطفئونها إلا بدم مهراق، ولا يهاب الرجل منهم أن يقذف آخر بمسبَّه مسمومة السهام، أو يغمد سيفه - مثلاً - في عنق رجل عظيم، اعتدى على ناقة نزيل عنده، أو حليف له احتمى بجواره، الفرد يفرغ جهده في الفرد، والجماعة تضع كلاكلها على الجماعة، ويعدّون ذلك كله أثر نخوة أصابوا به المحزَّ من معنى الحرية. أرأيت كيف قال شاعرهم يفتخر بما يأخذه من حمية الجاهلية؟: إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالمٌ ... على القوم لم أنصر أخي حين يُظلم أما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، فغير مراد منه المعنى الذي قصده الشاعر من الاعتصاب مطلقاً، حقاً أو باطلًا، ولقد كشف - عليه الصلاة والسلام - عن حقيقة مراده بنفسه، حين قالوا له: هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ فقال: "تأخذ فوق يده"، والمعنى: تحجزه، وتقيم صدره عن الظلم؛ لأنك إذا أبقيته مكباً على ظلمه واعتدائه، ولم تقبض على يده، أفضى به الأمر إلى أن يعاقب بمثل ما اعتدى، فإذا منعته من الظلم، وثنيت عِطفه عن البغي، فقد استنقذته من عقوبة القصاص، ولا جرم أن وقايته من العقويات نوع من النصر والإعانة. ثم إن هذه الجملة: "انصر أخاك ظالماً أو مظلومًا" أول من تكلم بها جندب بن العنبر، وأراد بها: ما اعتادوه من الحمية حمية الجاهلية، فأقرها - عليه الصلاة والسلام -، ولكن نقلها عن موردها الأول، وحملها على معنى يطابق بها الحكمة الصحيحة، ويحشرها

في زمرة الإرشادات الإسلامية. وقد امتد بالعرب في الجاهلية حب الاستقلال الشخصي، والتجرد عن كل ما فيه ضغط وحجر، إلى إبايتهم وتعاصيهم عن الدخول تحت نظام ملكي يرد شكيمتهم، ويكبح من جماحهم، قال عمرو بن كلثوم: إذا ما الملك سام الناس خسفاً ... أبينا أن نقرَّ الذلَّ فينا ومن أجل ذلك كانوا لا يألفون الحواضر، ويفرُّون من الإقامة داخلها فرارَ الصحيح من المجذوم، ويوجسون في أنفسهم أنها ذريعة للمسكنة، وسبيل للرغم من أنف العزة والعظمة، وجرى على هذا أبو العلاء المعري حين قال: الموقدون بنجدٍ نار بادية ... لا يحضرون وفَقْدُ العزِّ في الحضرِ وقال ابن الرومي: هذا أبو الصقر فرداً في محاسنه ... من نسل شيبان بين الضال والسَّلَمِ والضال والسلم شجرتان بالبادية، وكنَّى بذلك عن إقامتهم بالبادية، وعدم نزولهم عنها إلى السكن بالحاضرة؛ لينتقل من هذا إلى العلم بأنهم لم ينسلخوا من ثوب عزهم، ويدخلوا تحت سيطرة الأحكام الملكية. وما مثل العرب في حال عتوِّهم أزمنة الجاهلية إلا كمثل شجر أضغاث نشأ بمفازة مجهولة من الأرض، فاستغلظ، والتوى قويه على ضعيفه، يقطعه من أطرافه، ويقتل ما فيه من القوى النامية، ولولا الحكمة البالغة، والأسلوب اللطيف الذي ساسهم به الإسلام إلى شريعته، مع ما أودعه الله في طباعهم من سلامة الذوق ورقة الشعور، ما كادوا يدخلون في دينه أفواجاً، ويتقلَّدون

الحرية

عقائده وتكاليفه برغبة حريصة، واختيار من تلقاء أنفسهم. وأحياناً تستند تلك السلطة إلى هيئة حكومة، كما مرَّ في الأزمنة الغابرة على أقوام مثل الجرمان، وهم على حالة قبائل بدوية، وحكومة كل منهم في قبضة رئيس يدير شؤونهم كيف يريد، ويسخّرهم كما تسخَّر الأنعام إلى حيث تشاء أغراضه الذاتية، ولما امتدت ولاية الرومانيين على كثير من أوروبا، ضمت تحت جوانحها أولئك الطوائف، فازداد خناق الاستعباد في أعناقهم ضيقاً وارتباطاً، ومن أثر ذلك: أن الحكومة لم تساو بينهم وبين أبناء جنسها فيما تمنحهم من الحقوق والامتيازات، إلى أن عانقوا الديانة المسيحية بواسطة انتشارها بين الرومانيين. فالأمة التي بليت بأفراد متوحشة تجوس خلالها، أو حكومة جائرة تسوقها بسوط الاستبداد، وهي الأمة التي نصفها بصفة الاستعباد، وننفي عنها لقب الحرية. * الحرية: تنبئ هذه الكلمة بسائر تصاريفها في اللسان العربي على معان فاضلة ترجع إلى معنى الخلوص، يقال: حرَّ يَحَرُّ، كظلَّ يظل، حَراراً - بالفتح - بمعنى: عتق، والاسم: الحرية، والحرّ: خلاف العبد، والخيار من كل شيء، والفرس العتيق، والفعل الحسن، والحر من الطين والرمل: الطيب، والحُرّة ضد الأمة، والحرة من السحاب: الكثيرة المطر، وتطلق على الكريمة من النساء، ووردت صفة للنفس في كثير من أشعارهم. قال سحيم عبد بني الحسحاس: إن كنتُ عبداً فنفسي حرةٌ كرماً ... أو أسودَ اللون إني أبيض الخُلُق

وجاء لمعنى استقلال الإرادة، وعدم الخضوع لسلطان الهوى: وترانا يوم الكريهة أحرا ... راً وفي السلم للغواني عبيدا وعليه بني الصوفية اصطلاحهم في إطلاق اسم الحر على من خلع عن نفسه إمارة الشهوات، ومرق سلطتها بسيوف المخالفة كل ممزق. قال الإمام الجنيد فيما روي عنه: لو صحت الصلاة بغير القرآن، لصحت بقول الشاعر: أتمنَّى على الزمان محالاً ... أن ترى مقلتاي طلعة حرِّ وقد دارت هذه الكلمة، كلمة الحرية، على أفواه الخطباء، ولهجت بها أقلام الكاتبين، ينشدون ضالتها عند أبواب الحكومات، ويقفون للبحث عن مكانها، وتمكين الراحة من مصافحتها، وقوفَ شحيح ضاع في الترب خاتمه. ينصرف هذا اللقب الشريف في مجاري خطابنا اليوم إلى معنى يقارب معنى استقلال الإرادة، ويشابه معنى العتق الذي هو فكُّ الرقبة من الاسترقاق، وهو أن تعيش الأمة عيشة راضية تحت ظل ثابت من الأمن وعلى قرار مكين من الاطمئنان، ومن لوازم ذلك: أن يعين لكل واحد من أفرادها حد لا يتجاوزه، وتقرر له حقوق لا تعوقه عن استيفائها يد غالبة؛ فإنّ في تعدي الإنسان الحدَّ الذي قضت عليه أصول الاجتماع بالوقوف عنده ضرباً من الإفراط، ويقابله في الطرف الآخر حرمانه من التمتع بحقوقه؛ ليستأثر غيره بمنفعتها، وكلا الطرفين شعبة من شعب الرذائل، والحرية وسط بينهما على ما هي العادة في سائر الفضائل، ومن كشف عن حقيقتها المفصلة ستار الإجمال، أشرف على أربع خصال مندمجة في ضمنها:

أحدها: معرفة الإنسان ما له وما عليه؛ فإن الشخص الذي يجهل حقوق الهيئة الاجتماعية ونواميسها، لا يبرح في مضيق الحجر مقيدَ السواعد عن التصرف حسب إرادته واختياره، حتى يستضيء بها خبرة، ويقتلها علماً؛ إذ لا يأمن أن تطيش أفعاله عن رسوم الحكمة والسداد، فيقع في خطيئة تحدث في نظام تلك الهيئة علة وفساداً، ولا يخالط الضمائر من هذا أن الحرية مقصورة على علماء الأمة العارفين بواجباتها؛ إذ للأمييّن منها مخلص فسيح، وهو باب الاستفتاء والاسترشاد. قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. ثانيها: شرف نفس يزكي طويتها، ويطهر نواياها من قصد الاعتداء على ما ليس بحق لها، فلا ترمي بهمتها إلا في موضع تشير إليه العفة ببنانها. ثالثها: إذعانٌ يدخل به تحت نظر القوانين المقامة على قواعد الإنصاف، ويستنزله ريثما تحرر ذمته من المطالب التي توجه إليها باستحقاق. رابعها: عزة جانب، وشهامة خاطر يشق بها عصا الطاعة للباطل، ويدمغ بها في قوة من يسوم عنقه بسوء الضيم والاضطهاد: ولا يقيم على ضيمٍ يراد به ... إلا الأذلّان عَيْرُ الحي والوَتِدُ نستنتج من هذا البيان: أن الأساس الذي ترفع عليه الحرية قواعدها ليس سوى التربية والتعليم، فيتأكد على الحكومة التي تنظر إلى فضيلة الحرية بعين الاحترام، أن تسعى جهدها في تهذيب أخلاق الأمة، وتنوير عقولهم بالتعليمات الصحيحة قبل كل حساب، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ

وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. يخال بعض الناشئة أن الحرية حق يبيح لصاحبه أن يجهر بكل ما يقدح في فكره من الآراء، وينشر في مقاله كل ما يؤلفه من الهجاء والأوصاف الشائنة كما يفعل الشاعر الحطيئة، وهذا المعنى بضعة من الحرية، ولكن بعد سبكه وإفراغه في قالب أصل من الأصول التي سنتلوها عليكم في مبحث: الحرية في الأعراض. وتطرّف فريق من الناس، ففسروا الحرية بأسوأ تفسير، وتأولوها على معنى: امتثال داعية الهوى بإطلاق وتنفيذ الإرادة، وإن مسَّ غيره بأذى، أو حجره عن حق ثابت لا يعترضه فيه نزاع، وترى كثيراً منهم لا يتصور لها معنى سوى حمل السلاح تحت لواء القوة، وإعماله في سبيل الاغتصاب. ولا يصح في نظر أي عقل كان أن يعنون على أثر من آثار سوء الضمير ودناءة الطمع، باسم فضيلة يدرك بها المحكوم شأو الحاكم، ويترشح بها لمشاركته في اللقب كما شاركه في استقلال الإرادة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]. فتسمية بني إسرائيل جميعهم في ذلك العهد ملوكاً، انجرَّ لهم من الحرية التي نالوها بعد مغادرة أوطان الذلة، والتملص من سوء العذاب والاستعباد الذي سامهم به آل فرعون، ووضعوه في أعناقهم سلاسلاً وأغلالاً. يقوم فسطاط الحرية على قاعدتين عظيمتين هما: المشورة، والمساواة. بالمشورة تتميز الحقوق، وبالمساواة ينتظم إجراؤها، ويطَّرد نفاذها، وكل واحدة من هاتين القاعدتين رفع الإسلام سمكها وسوّاها.

المشورة

* المشورة: قضت سنة الله في خلقه أن سلطة شرع الأحكام، وتصريف الأوامر والزواجر لا تستقل وحدها بردع الخليقة، وقيادتهم إلى سابلة العدالة، فكثير من الناس من يجري مع أهوائه بغير عنان، ولا يدخل بأعماله الاختيارية تحت مراقبة العقل على الدوام، ألا ترى إلى جملة من أحكام الشريعة كيف بنيت على رعاية الوازع الطبيعي، وتغلبه على الوازع الشرعي؛ كردِّ شهادة العدو على عدوه، وعدم قبول شهادة الرجل لابنه أو لأبيه، وإقراره في حال مرضه لصديق ملاطف، أو وارث قريب؟. فلا بدَّ إذاّ من سلطة أخرى لتنفيذ تلك الأحكام المشروعة بالوسائل المؤثرة، وإن كره المبطلون، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في رسالة القضاء لأبي موسى الأشعري: (وانفذ إذا تبين لك؛ فإنَه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له). وتسمّى هذه السلطة بالسلطة القضائية. وكان زمامها في عهد نزول الوحي بيد النبي - صلى الله عليه وسلم -، يتولى الحكومة على الجاني، ويباشر فصل النوازل بنفسه من غير أن يدور في حسبان مسلم مطالبته بإعادة النظر في القضية، أو استئنافها لدى غيره، وما كانوا يرون قضاءه إلا حكماً مسمطاً يتلقونه بأذن واعية، وصدر رحيب؛ لعلمهم يقينًا كعمود الصبح: أنه حكمُ الله الذي لا يقابَل بغير التسليم، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]

وإن تعجب، فلا عجيب لهذا؛ فإن الوازع الشرعي قد يتمكن من النفوس الفاضلة إلى أن يصير بمنزلة الطبيعي، أو أقوى داعياً، وسهَّل انقياد العرب، على ما كانوا عليه من الأنفة، وصعوبة المراس، وانصاعوا إلى قانون الشريعة مجملًا ومفصلًا من جهة أن الدين معدود من وجدانات القلوب، فالانقياد لأحكامه من قبيل الانقياد إلى ما يدعو إليه الوجدان، وليست الشراع الوضعية بهذه الدرجة؛ فإن الناس إنما يساقون إليها بسوط القهر والغلبة، ويحترمونها اتقاء للأدب والعقوبة، ولا يتلقونها بداعية من أنفسهم إلا إذا أدركوا منها وجه المصلحة على التفصيل. وإنما ورد من فصل قضائه - صلى الله عليه وسلم - قدر يسير بالنسبة إلى مدة حياته؛ لما كانت عليه حالة المسلمين يومئذ من الاستقامة، والتئام العواطف القاضية بأن تكون معاملاتهم خالية من الدسائس، خالصة من المشاكل، وهكذا ما ساد الأدب، وانتشرت الفضيلة بين أمة، إلا اتبعوا شرعة الإنصاف من عند أنفسهم، والتحفوا برداء الصدق والأمانة بمجرد بث النصيحة والموعظة الحسنة، فيخفت ضجيج الضارعين، وصخب المبطلين، ولا تكاد تسمع لهما في أجواف المحاكم حسيساً. وضم - صلى الله عليه وسلم - إلى السلطة القضائية فيما يخص الحق المدني سلطةَ التنفيذ فيما يختص بحقوق الأمم؛ كإشهار الحرب، وإبرام الصلح، وتلافي أمر الهجوم، ولم يكن - مع يقينه باستماتة أصحابه في طاعته، وتفاني مهجهم في محبته - لينفرد عنهم بتدابير هذه السلطة، بل يطرحها على بساط المحاورة، ويجاذبهم أطرافها على وجه الاستشارة؛ عملاً بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]. وقد يترجح بعض الآراء بوحي سماوي؛ كما نزل قوله

تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] مؤيداً لرأي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في أسارى بدر. أُذن له - صلى الله عليه وسلم - بالاستشارة، وهو غني عنها بما يأتيه من وحي السماء؛ تطييبًا لنفوس أصحابه، وتقريرًا لسنَّة المشاورة للأمة من بعده. أخرج البيهقي في "الشعب" بسند حسن عن ابن عباس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما إن الله ورسوله لغنيان عنها - أي: المشورة -، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن استشار منهم، لم يعدم رشدًا، ومن تركها، لم يعدم غَيّاً". وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - من العلم بقوانين الشريعة، والخبرة بوجوه السياسة في منزلة لا يطاولها سماء، ومع هذا، لا يبرم حكماً في حادثة إلا بعد أن تتداولها آراء جماعة من الصحابة، وإذا نقل له أحدهم نصًا صريحاً ينطبق على الحادثة، قال: "الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا". وعهد بأمر الخلافة إلى عمر بن الخطاب بعد استشارة جماعة من المهاجرين والأنصار؛ مثل: عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وأسيد ابن حضير، وسعيد بن زيد، وغيرهم، وإنما لم يبق الأمر شورى بينهم؛ كما صنع الخليفة الثاني، أو يتركه لآراء المسلمين عامة؛ كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ اعتماداً على ما تفرسه في عمر من الكفاءة والمقدرة، وحذراً من أن تتنازعها ذوو الأهلية، فتثور ثائرة الفتنة، ويرتخي حبل الأخوة في أيدي المسلمين. ونحا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هذه العبادة شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، قال من خطبة أرسلها في هذا الغرض: "كذلك يحق على المسلمين أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم وبين ذوي الرأي منهم". ثم قال: "ومن قام بهذا الأمر، فإنه تبع لأولي رأيهم ما رأوا لهم، ورضوا به لهم". وهذا إيماء إلى الحكم

النيابي، ويدل له من كتاب الله: قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. وضع الإسلام أساسه، وبنى عليه الخلفاء سياستهم، ثم انتقض بناؤه في دولهُ بني مروان، ومذ شعرت الأمم الآخذة بمذاهب الحرية بأنه الضربة القاضية على السلطة الشخصية، طفقوا يهرعون إلى إقامة حكوماتهم على قاعدته المتينة. وأخذ عمر بقاعدة الشورى في أمر الخلافة من بعده، ففوض أمرها إلى ستة من كبراء الصحابة ليختاروا رجلاً منهم، وقال لهم: ويحضركم عبد الله ابن عمر مشيراً، وليس له من الأمر شيء، وضمُّه عبد الله بن عمر إلى الستة، وتشريكه لهم في الرأي، وارد على ما ينبغي في مجالس الشورى من جعل نظامها مؤلفًا من العدد الفرد؛ ليمكنهم ترجيح جانب الأكثر عند الاختلاف، ويلوح إلى هذا بطرف خفي قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة: 7]. فذكر العدد الفرد صراحة، والاقتصار عليه دون الزوج في ضمنه إشارة إلى ما ينبغي مراعاته في المجالس المؤلفة للمناجاة. هذا هو الأصل في الشورى، وقد تؤلف من عدد زوج، ويعتبر أحد أفراد اللجنة بمنزلة رجلين اثنين، ويسمى رئيساً لها، فيرجح به الجانب الذي ينحاز إليه عند التساوي، والدليل على صحته شرعاً: قول عمر بن الخطاب لأبي طلحة الأنصاري: إن الله قد أعزّ الأنصار، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار، وكن مع هؤلاء حتى يختاروا رجلاً منهم. ثم قال له: وإن رضي ثلاثة رجلاً، وثلاثة رجلاً، فحكّموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا بعبد الله، فكونوا مع

الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. والمشورة سنة متبعة عند بعض الأمم من قديم الزمان، وردت في قصة بلقيس حين دعاها وقومها رسولُ الله سليمان - عليه السلام - أن لا يعلوا عليه، ويأتوه مسلمين، قال الله تعالى: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 32 - 34]. ووردت الشورى في قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه، قال الله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: 109 - 111]. وكأن قاعدة الشورى بين فرعون وملئه لم تطرد على أساس صحيح؛ بدليل ما سام به بني إسرائيل من العذاب المبين. وقطع مجلس الشورى عند فرعون رأيه، وأبرم في النازلة حكمه؛ لأنه فوض إليهم ذلك بقوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}؟ وليس له من الأمر شيء سوى تنفيذ أعمالهم، والعمل بما يشيرون؛ بخلاف مجلس الشورى عند ملكة سبأ، فلم يزيدوا على أن عرضوا عليها رأيهم بطريق التلويح حين قالوا: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ}. يشيرون إلى اختيار الحرب، ثم أوكلوا الأمر إليها بقولهم: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}؛ لأنها لم تفوض إليهم الحكم في القضية، وإنما طلبت منهم أن يصرحوا بآرائهم، ويبوحوا بأفكارهم فقط، بدليل قولها: {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}؛ أي: إلا بمحضركم، وقولها: {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي}؛ أي: اذكروا ما تستصوبون فيه، ولأنها زيفت رأيهم، وأشعرتهم

بأنها ترى الصلح؛ مخافة أن يتخطى سليمان - عليه السلام - حدودهم، فيسرع إلى إفساد ما يصادفه من أموالهم وعماراتهم، فقالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34]. لا تكون قاعدة الشورى من نواصر الحرية وأعوانها إلا إذا وضع حجرها الأول على قصد الحنان والرأفة بالرعية، وأما المشاركة في الرأي وحدها، ولا سيما رأي من لا يطاع، فلا تكفي في قطع دابر الاستبداد. وأهم فوائد المشورة: تخليص الحق من احتمالات الآراء، وذهب الحكماء من الأدباء في تصوير هذا المغزى، وتمثيله في النفوس إلى مذاهب شتى، قال بعضهم: إذا عنَّ أمر فاستشر فيه صاحباً ... وإن كنت ذا رأي تشير على الصحب فإني رأيت العين تجهل نفسها ... وتدرك ما قد حلّ في موضع الشهب وقال غيره: اقرن برأيك رأيَ غيرك واستشر ... فالحق لا يخفى على الاثنين والمرء مرآة تريه وجهه ... ويرى قفاه بجمع مرآتين وقال آخر: الرأي كالليل مسودٌّ جوانبه ... والليل لا ينجلي إلا بمصباح فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى ... مصباح رأيك تزددْ ضوء مصباح ولا يدخل في وهم امرئ سمع قولهم: "إنما العاجز من لا يستبد": أن اقتداءه بسنة الشورى يشعر الناس بعجزه، وحاجته إليهم، فتسقط جلالته من أعينهم، ويفوته الفخر بالاستغناء عنهم، فان الناصح الأمين لا تجده

المساواة

يجعل الفخار محوراً يدير عليه سياسته، فيلقي له بالاً، وإنما يبني أعماله على مصالح يجلبها، أو مفاسد يدرؤها، ومن كان يريد التمجيد والثناء، فنعته بعدم الانفراد بالرأي أفخر لذكره، وأشرف لسياسته من وصفه بصفة الاستبداد، قال تعالى في الثناء على الأنصار: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]؛ أي: لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه، وروي أن هذا دأبهم من قبل الإِسلام، ولعله هذا هو الوجه في مخالفة أسلوب الوصف به لما قبله وما بعده؛ حيث أورد في جملة اسمية؛ للدلالة على الثبوت والاستمرار. ومن فوائدها: استطلاع أفكار الرجال، ومعرفة مقاديرها؛ فإن الرأي يمثل لك عقل صاحبه كما تمثل لك المرآة صورة شخصه إذا استقبلها. * المساواة: خلق الله الناس بحسب فطرتهم متماثلين، وكذلك ولدتهم أمهاتهم أحراراً متكافئين، ولكن دخولهم في ملاحم الحياة الاجتماعية ينزع عنهم لباس التماثل والتساوي، ويرفع بعضهم فوق بعض درجات، وقد جمع هذه الأطوار الثلاثة قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. فقوله: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} رمز إلى فطرتهم الأولى، وقوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} إيماء إلى نشأتهم الاجتماعية، وقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} تلويح إلى طور التمايز والتفاضل، وإيذان منه تعالى بالوسيلة التي نبتغيها إلى مقام الكرامة عنده، وهي التقوى. وقد روعي في الإسلامية فطرة الله التي فطر الناس عليها، فوضعت

تكاليفها على شكل التكافؤ، وأديرت سياستها على قطب المساواة، فلا فضل فيها لشريف على وضيع، ولا امتياز لملك على سوقيّ، والعقوبة الموضوعة على صعلوك الأمة هي المحمولة على سيدها بدون فارقة، فلو ادعى أبو بكر الصديق، أو عمر بن الخطاب على أدنى الناس وأفسقهم درهماً واحداً، لم يقض له باستحقاقه إلا بشهادة عادلة، وهذا المعنى عام في جملة الشريعة وتفاصيلها، ولا يبعد استفادته من الآية التي كنا بصددها؛ فإن قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وضع جميع الامتيازات وطرحها عن محل العناية والاعتبار ما عدا التقوى، والتقوى نفسها لم يجعل الشارع لها أثراً في تغيير الحدود، أو الاختصاص بحظ زائد من الحقوق ضرورة، إن التقوى عبارة عن العمل طبق أحكام الشريعة بنية وإخلاص، فالشريعة سابقة على العمل، والعمل تابع لها، ولم يخرج عن هذا الأصل إلا بضعة أحكام خصّ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أفراداً من الصحابة بأعيانهم؛ كجعل شهادة خزيمة بشهادتين؛ فإنه أسرعَ دون من حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه قد بايع الأعرابي، واستند في شهادته إلى البراهين الدالة على وجوب تصدبقه - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يخبر به، لا فرق بين ما يخبر به عن الله، وبين ما يخبر به عن غيره، فتفطنه لأخذ حكم هذه القضية من الأدلة العامة مزيةٌ استحق بها هذه الخصوصية. ونظراً إلى قاعدة المساواة، قال علماء الأصول: خطاب الشارع لواحد - إن لم يدل الدليل على اختصاصه بالحكم - يعم جميع الأمة. ولكن تنازعوا في طريق العموم، قالت الحنابلة: يتناولها بنفس الصيغة، وقال غيرهم: يتناولها بالدليل المرشد إلى تساوي الأمة واشتراكها في الأحكام.

ومن أدله المساواة: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. أخذت هذه الآية بعضد المستضعفين من الناس، وأوقفتهم في مرتقى أولي القوة جنبًا لجنب؛ إذ المعروف في الإخوة: اتحادهم في النسب، وهو يقتضي عدم تفاضلهم وتمايزهم في الحقوق، فالآية - وإن دلت على التوادد والتراحم من جهة - لا تخلو من الدلالة على المساواة من جهة ثانية. وسار أبو بكر الصديق بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بسيرة القرآن، فلم تشغله مقاليد الخلافة في يده أن يقوم خطيبًا على ملأ من المسلمين بقول: "أيها الناس! قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق -إن شاء الله تعالى". ثم قال: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم". فعين بهاته الخطبة للحكومة الإسلامية مركزاً ثابتاً تدير عليه أمور سلطتها، وذلك قوله: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم". وفتح في وجوه الرعية فُرَجاً يرددون منها أنفاس الحرية مع أولي الأمر، وأمر بالإنكار والمعارضة عندما تنحرف تلك السلطة عن مركزها يمينًا أو شمالًا، وذلك قوله: "وإن أسأت، فقوموني"، وجعل بيدهم عقدة عزل الأمير وتركه غير مأسوف عليه، إن لم يقوّم اعوجاجه، ويرجع بسلطته إلى دائرتها المرسومة لها شرعاً، وذلك قوله: "فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم"، وقوله: "والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق" من دلائل المساواة. وانظر إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كيف يخاطب رعيته بقوله في بعض

الحرية في الأموال

خطبه: "إن كان بيني وبين من هو منكم شيء من أحكامكم، أن أمشي معه إلى من أحبَّه منكم، فينظر فيما بيني وبينه"، وهذا نهاية ما يحتج به للمساواة؛ لما فيه من التصريح بأن كل واحد من الرعية محكوم من وجه، حاكم من وجه آخر، فلا يسوغ للحاكم أن يقضي لنفسه، كما لا يجوز له القضاء بشهادته لغيره، بل يرفع الخصومة إلى غيره من الحكام، وإن لم يكن معه حاكم، رفع ذلك إلى رجل من رعيته؛ كما فعل عمر وهو خليفة، حين قاضى رجلاً إلى أبيّ ابن كعب، وأبيّ بن كعب ليس بذي سلطان. وكتب عمر في رسالته إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: "وآس بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك، حتى لا ييئس الضعيف من عدلك، ولا يطمع الشريف في حيفك"، ولم يقتصر على التعاليم القولية حتى عززها وشد نطاقها بمثلها من الأعمال المطابقة؛ كقصته مع جبلة بن الأيهم ملك غسان، وما شاكلها. * الحرية في الأموال: هي إطلاق التصرف لأصحابها يذهبون في اكتسابها، والتمتع بها على الطريق الوسط، دون أن تلم بها فاجعة اغتصاب، أو تتخطفها خائنة كيد واحتيال، فاقتضى هذا البيان إجراء البحث في أربعة مطالب: اكتساب الأموال - طريقها الوسط - التمتع بها - الاعتداء عليها: - اكتسابها: لما كان المال معونة على الدين، ومادة لنشأة الحياة الطبيعية، حتمت الإسلامية السعي خلف اكتسابه، وأذنت في الاسترزاق بكل عمل لا يتبع صاحبه بأذى، ولا يلحق بغيره ضرراً، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي

الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، وقال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]، إلى غير ذلك من الآيات، وإنما لم يؤكد الطلب في هذا الموضع، ولا أُجري مجرى الواجبات، وكثيرٍ من المطالب في اقترانها بمؤكد الترغيب والترهيب؛ اكتفاء وحوالة على ما طبعت عليه نفوس البشر من الحرص في جمع الأموال، وقوة الرغبة في اكتسابها؛ لما فيها من الحظ العاجل، واللذة الحاضرة، بل غالب ما سيق في هذا الغرض جاء على صورة الإباحة ونفي الحرج؛ كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]. فلا حرج في جمع الدنيا من الوجوه المباحة، ما لم يكن صاحبها عن الواجبات في شغل شاغل، وقد ذكر الله تعالى التجارة في معرض الحط من شأنها حيث شغلت عن طاعة في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11]. ولما رجعوا عن صنيعهم، وأخذوا بأدب الشريعة في إيثار الواجبات الدينية، وعدم الانقطاع عنها إلى الاشتغال بالتجارة ونحوها، ذكرها، ولم يهضم من حقها شيئاً، فقال تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]. فأثبت لهؤلاء الكفيل أنهم تجار وباعة، ولكنهم لم يشتغلوا بضروب منافع التجارة عن فرائض الله، وهذا قول المحققين في الآية، أما ما يقوله بعضهم؛ من أنه نفي كونهم تجاراً وباعة، فخلاف ظاهر الآية، والسر في اختصاص الرجال بالذكر هنا: أن النساء لسن من أهل التجارات والجماعات، وما ينبغي لهن ذلك، كما أن تخصيص التجارة من بين سائر أسباب الملك؛ لكونها أغلب وقوعاً، وأوفق لذوي المروءات.

الطريق الوسط

وعدّ المحققون في العلم الحرف والصناعات وما به قوام المعاش؛ كالبيع والشراء والحراثة، وسائر ما تمس الحاجة إليه، حتى الحجامة والكنس، من فروض الكفاية، يجب أن يقوم بكل صنف منها طائفة، وإلا، أثمت الأمة تمامًا، وبذلك فسّر حديث: "اختلاف أمتي رحمة" على فرض صحته، فالأمة لا تنهض من وهدة ضعفها إلى مستوى قوتها، إلا بتحمل كل طائفة منها حظاً عظيماً من وسائل حياتها، ولوازمها البدنية والعقلية، وسد كل خلة من الحاجات ما تزايدت. وينقسم الناس في ذلك إلى أربع طبقات: الأولى: طائفة تدبر أمور الرعية، الثانية: طائفة تتميز بنشر المعارف، سواء في ذلك علم الحلال والحرام ووسائله؛ كعلوم العربية والحساب والهندسة، أو العلوم التي تعود بتحسين حال الثروة؛ كمعرفة الصنائع. الثالثة: طائفة تمسك بزمام التجارة أخذًا وعطاء. الرابعة: طائفة عظيمة تقبل على الاشتغال بالصنائع، ومن جملتها: الفلاحة التي هي أقدمها وأجداها نفعاً. بيد أن الشريعة أمرت العامل بأن يكون قلبه حال عمله مطوياً على سراج من التوكل والتفويض؛ فإن اعتماد القلب على قدرة الله وكرمه يستأصل جراثيم اليأس ومنابت الكسل، ويشد ظهر الأمل الذي يلج به الساعي أغوار البحار العميقة، ويقارع به السباع الضارية في فلواتها. - الطريق الوسط: لم تغادر هذه الشريعة صغيرة ولا كبيرة من وجوه التصرفات في الأموال إلا أحصتها، وعلقت عليها حكماً عادلاً، وتألفت أحكام هذه الوجوه في سلك المناسبة مرتبة على أبواب:

المملوكات إما أعيان، أو منافع، ويدور الكلام فيها على ثلاثة أنظار: النظر الأول: يتعلق بها من جهة انتقالها، أما الأعيان، فانتقالها على خمسة أقسام: أحدها: ما ينتقل من مالك إلى مالك بعوض، والعقد في ذلك إما أن يكون على عين بعين، فهو البيع، أو على عين بشيء في الذمة، فإن تماثل العوضان، فقرض، وإلا فسَلَم، أو على ذمة بذمة، فإن كانت إحدى الذمتين من غير المتعاملين، فحوالة، وإلا، فمقاصة. الثاني: ما ينتقل من مالك إلى مالك بغير عوض، وهي الهبات والوصايا والمواريث. الثالث: ما ينتقل من مالك إلى غير مالك بالعوض، وهي الكتابة. الرابع: ما ينتقل من مالك إلى غير مالك بغير عوض، وهو العتق والتدبير. الخامس: ما ينتقل من مالك إلى غير مالك، وهو تملك المباح من الموات. وأما المنافع، فالعقد فيها على ضربين: -منه ما هو بغير عوض، كالوقف، ومنه ما هو بعوض، وهذا إما أن يكون العوض معلوماً، فينظر في العمل المقصود، فإن كان معلوماً، فهي الإجارة، وإن كان العمل مجهولاً، فهي الجعالة، وإما أن يكون العوض مجهولاً، ولكنه في حكم المعلوم، فهو القراض والمساقاة والمزارعة. النظر الثاني: يتعلق بالأموال من جهة وضع يد الغير عليها، وهو على نوعين: أحدهما: ما يكون بالرضا والإذن من صاحبه، وهذا إن قصد التوثق

التمتع بها

به في دين، فهو الرهن، وإن قصد الانتفاع به، ثم إعادته إلى ربه، فهي العارية، وإن قصد حفظه لربه، فهي الوديعة. ثانيهما: ما كان بدون إذنه ورضاه، وهذا إن كان المالك مجهولاً، وكان المملوك معرضاً للضياع، فهو اللقطة، وإن علم صاحبه، وقصد التصرف فيه، والانتفاع به، فهو الغصب، ثم ينجر النظر إلى قيام ربها بمطالبتها، والعمل في إعادتها إليه، فينتظم في سلكها باب الاستحقاق. النظر الثالث: أن المال الواحد قد يدخل في ملك متعدد، فإذا توجه النظر إلى حال دخوله في ذلك الملك المتعدد، وبقائه عليه، فهي الشركة، وإذا تعلق بتوحيد الملك، ورفع تعدده، فإما بانفراد كل من الشريكين بنصيبه، وهي القسمة، أو بانفراد أحد الشريكين بالجملة، وهي الشفعة. فإذا أنت تدبرت هذه الأبواب المدونة، ودققت النظر في أحكامها المفصلة؛ لتعلم أين مكانها من الإصلاح والنظام، ظفرت فيها بنظامات محكمة، وأصول عمرانية، لا تصل الناس إلى السعادة الاجتماعية، والمعاملة بشرف وفضيلة إلا من طريقتها الوسطى. - التمتع بها: كما أذن الإسلام في اكتساب الأموال، واستئمار أرباحها من وجوهها المعتدلة، أذن في الاستمتاع بها، وترويح الخاطر بنعيمها على شريطة الاقتصاد، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. وقال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ

{وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14]. وقال تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. فذكرُ هذه الأشياء في معرض الامتنان والإذنِ في الانتفاع بها، دليلٌ واضح على دخولها في قسم المباحات، لا حرج في تناولها، ولا يعد الإعراض عنها طاعة يرجى ثوابها كما تقتضيه حقيقة الإباحة. لما فتح أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - أنطاكية، عزم على الرحيل منها، وعدم الإقامة بعسكره فيها؛ مخافة أن يألفوا جودة هوائها، ويأنسوا بطيب نسيمها، فيخلدوا إلى الراحة والدعة، وأرسل بهذه النية إلى الخليفة عمر ابن الخطاب، فكان من جواب عمر: "أما قولك: إنك لم تقم بأنطاكية لطيب هوائها، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- لم يحرم الطيبات على المتقين الذين يعملون الصالحات. فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]. وكان يجب عليك أن تريح المسلمين من تعبهم، أو تدعهم يرغدون في مطعمهم ... إلخ". وأما الآيات الواردة في سياق التزهيد، والحط من متاع الحياة الدنيا، فلا يقصد منها ترغيب الإنسان ليعيش مجانباً للزينة، ميتَ الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق، وإنما يقصد منها-فيما نفهمه- حكم أخرى؛ كتسلية الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، ومن قصرت أيديهم عن تناولها؛ كي لا تضيق صدورهم على آثارها أسفاً، ومنها: تعديل الأنفس الشاردة، وانتزاع ما في طبيعتها من الشره والطمع؛ كيلا يخرجا بها عن قصد السبيل،

ويتطوحا بها في الاكتساب إلى طرق غير لائقة. فاستصغار متاع الدنيا، وتحقير لذائذها في نفوس الناس، يرفعهم عن الاستغراق فيها، ويكبر بهممهم عن جعلها قبلة يولون وجوههم شطرها حيثما كانوا، وقد بيّن لنا العيان أن الإنسان متى عكف على ملاذ الحياة، ولم يصح فؤاده عن اللهو بزخرفها، ماتت عواطفه، ونسي أو تناسى من أين تؤتى المكارم والمروءة، ودخل مع الأنعام في حياتهم السافلة. وأما ما ثبت عن بعض السلف من نبذ الزينة، والإعراض عن العيش الناعم عند القدرة عليه، أو في حال وجوده، فلا يريدونه قربة بنفسه، ولكن يبتغون به الوسيلة إلى رياضة النفس وتدريبها على مخالفة الشهوات؛ لتستقر تحت طوع العقل بسهولة، وتتمكن من طرح أهوائها الزائغة بدون كلفة، فلو وثق الإنسان من نفسه بحسن الطاعة، لم تكن في مجانبته للطيبات مزية ولا مؤاخذة. ولما كان السرف في صرف الأموال، وبسط الراحة بإنفاقها، يفضي إلى نفاذها، والتشوف إلى ما في أيدي الناس، أو يؤدي-في الأقل- إلى قلتها، وعيش صاحبها كاسفاً على ما فاته من السعة ورفاهية الحال، أمر الشارع بالاقتصاد في الاستمتاع بها، ولم يرسم لذلك حداً فاصلاً، بل أوكله إلى اجتهاد المكلف، وما يعلم من وسعه، فقال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]. وقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]. وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. وقال: {إِنَّ

الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]. ولما كان الشأن في الحرير، والنقدين - الذهب والفضة - غلاءُ الثمن؛ لنفاستها، وندرتها، منع من استعمالها على التعيين، وميّز النساء في حكمها على الرجال، فأباحها لهن لباساً؛ لاحتياجهن إلى الزينة والتحسين أكثر ما يحتاج الرجال، فالنهي عن استعمال الذهب والفضة ولبس الحرير مبني على رعاية حفظ المال عن التبذير والإنفاق لغير مصلحة، ويحسب كثير من الناس أنها لم تحرم إلا لقهر النفوس، وقطع أعناقها عن الفخر والتباهي، وليس بصحيح، وإلى هذه القاعدة - قاعدة الاقتصاد - ترجع أحكام الحجر على الصبي، ومن لا يحسن التصرف في ماله. وحرمت الإسلامية من المطاعم ما كان رجساً يعافه الطبع، ويتقذره الذوق؛ كالميتة وما ألحق بها، أو موبقاً للبدن؛ كالسموم وما شاكلها، أو مؤثراً على العقل؛ كالمسكرات، ولا ينازع في قبيح مفسدتها إلا من غرق في سكرة من الجهل والغواية. يقول أبناء الحانات في إطرائها: تغرس الشجاعة في النفوس، قلنا: في إرغام وجوههم، أما بعد مفارقتها صحواً، فإنكم تعودون إلى سجيتكم الأولى من الخور والجبن، وأما حال استيلائها على عقولكم، فلا حكمة ولا تدبير ولا شجاعة إلا بها. قالوا: تسلي الهموم، قلنا: وتحل عقدة اللسان، فينثر ما في كنانات القلوب من أسرار تخشون إذاعتها، وتسلية الهموم تثقف العزائم عن مقاومة أسبابها الجالبة لها إن استطاع إليها حيلة، وإلا، فالعقل الصحيح أكبر مجلبة للسلوان، وأعز مدافع لها عند الهجوم.

قالوا: تبعث في الفؤاد سروراً، قلنا: تبعث في هيئة حركاتهم كياسة تسر الناظرين، أما ما زعمتموه من مسرتكم، فضرب من التوسع في الخيال؛ إذ السراء التي يتطلبها الخاطر، ويهنأ لها ارتياحاً: ما كانت ناشئة عن موجب يشمله الوجود. ولا ننسى أن كثيراً من الشعراء قد طغى بهم الإبداع في المقال إلى أن نسقوا في مديح الخمر صفات الجمال، وضربوا للتنويه بشأنها الأمثال، فاستهووا لمعاقرتها عبيد الخيال، والشعراء يتبعهم الغاوون. فالإسلام وإن عُني بتزكية الأرواح، وترقيتها في مراقي الفلاح، لم يبخس الحواس حقها، وقضى للأجسام لبانتها من الزينة واللذة بالقسطاس المستقيم. روي أن عبد الله بن أبي السمط أنشد بين يدي المأمون أبياتاً يمتدحه بها، فلما انتهى عند قوله: أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلاً ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيلُ قال له المأمون: ما زدت على أن جعلتني عجوزاً في محراب، وبيدها سبحة، أعجزت أن تقول كما قال جرير في عمر بن عبد العزيز؟: فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغلُه وقد كان المتعبّدون من قبل يترهبون بالتخلي عن أشغال الدنيا، وترك ملاذها، والعزلة عن أهلها، وتعمد مشاقها، فنفاها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونهى المسلمين عنها، فقال: "لا رهبانية في الإسلام". وتدبَّر إن شئت قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف 31]؛ فقد تبين بهذه الآية أن الزينة من علائق العبادة، غير منافية لها، وأن العبادة

الاعتداء عليها

لا تستدعي الإعراض عن اللذات الحسية المعتدلة. - الاعتداء عليها: من الطبائع المركبة في نفوس البشر: داعية حب الأموال، والحرص في مكتسبها واقتنائها، قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20]. وقال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 6 - 8]. هذا الباعث يقذفه الله في نفوس قوم، فيدعوهم إلى تسوية طرائق العمران، وتشييد أركانه، ويسلكه في قلوب آخرين، فيترامى بهم إلى بث الفساد على وجه البسيطة، وإثارة غبار التوحش في أرجائها، القوي بسطوته، والضعيف باحتياله ومكيدته، واعتبرْ في هذا برجل فاضت خزائنه ذهباً، وقد بلغ من الكبر عتياً، ولم يهب الله له في ورثته ولياً، وتجده قائماً على ساق الجد في العمل المستمر، يبني بكل ريع آية، ويشق الأرض بأدوات الفلاحة شقاً، ماذا حمله على ذلك الحرص الأكيد والأمل الواسع، وقد تقوس ظهره، وانكمش جلده؟! حب المال. حب المال هو الذي ينزع من فؤاد الرجل الرأفة، ويجعل مكانها القسوة والفظاظة، حتى إذا أظلم الأفق، واسودّ جناح الليل، تأبط خنجراً، أو تقلد سيفاً، وذهب يخطو في بنيات الطريق خطاً خفافاً؛ ليأتي البيوت من ظهورها، ويمد بسبب إلى أمتعتها، فإذا دافعه صاحبها، أذاقه طعم المنون، وانصرف ثملاً بلذة الانتصار، ولهذا افتقرت داعية حب المال إلى وازع يسدد طيشها، ويكسر من كعوبها إلى أن تستقيم قناتها، والوازع ما ورد في مجمل الشريعة ومفصّلها من الأصول القابضة على أيدي الهداجين حول

اختلاسها، والعاملين على اغتصابها، أو التصرف فيها بغير ما يأذن صاحبها. قال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من ظلم قيد شبر من أرض، طوّقه من سبع أرضين". وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]. وقد تضمنت هذه الآية الإشارة إلى حكم الارتشاء، وقال في شأنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله الراشي"، وهو دافع الرشوة، "والمرتشي"، وهو قابضها، "والرائش"، وهو المتوسط بينهما. الرشوة أخت السرقة، وابنة عم الاغتصاب، وإن شئت فقل: تزوج الاغتصاب بالسرقة، فتولدت بينهما الرشوة؛ لأنها عبارة عن أخذ مال معصوم خفية، ولكنه بسلطة على حين علم من صاحبه. وكان الذين اجترحوا سيئتها قصدوا بها معارضة قاعدة الزكاة في وضعها وحكمتها. أما وضعها، فالزكاة مال أوجبه الله على الأغنياء؛ لتسد منه خلة الفقير والمسكين، والرشوة مال يدلي به الفقراء والأرامل والأيتام إلى الغني، ومن ولي الأحكام؛ لينصفهم في الجكومة، ولا يخذلهم في مجلس قضائه. وأما حكمتها، فالزكاة شرعت لتطهر نفوس الأغنياء من رذيلة الشح، وتجعل بدلها الكرم والسماح، وتنزع الغل والحسد من قلوب الفقراء، وتنشر في مكانها المودة والرحمة لأهل اليسار، والرشوة تزيد الغني لهفة وحرصاً في جمع الأموال، وتفتح في صدره أبواباً من المطامع بقدر ما له سعة التصرف، وقوة النفوذ، ثم توقد له في قلب الراشي ضغينة وحقداً، وتطلق لسانه بخزيه وهوانه، وإن لم يكن بقضائه شقياً.

ولما كانت الرشوة عقبة كؤوداً في سبيل الحرية، أخذت الشريعة في تحريمها بالتي هي أحوط. فلا يسوغ للقاضي قبول الهدية إلا من خواص قرابته؛ كيلا تزل به مدرجتها إلى أكل الرشوة، أو يتخذ اسم الهدية غطاء للرشوة يسترها به عن أعين المراقبين لأحواله السرية، وردّ عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - الهدية، فقيل له: كان النبي - رضي الله عنه - يقبلها، فقال: كانت له هدية، ولنا رشوة؛ لأنه كان يتقرب إليه لنبوته، لا لولايته، ونحن يتقرب بها إلينا لولايتنا. ولم يكتف الشارع الحكيم في النهي عن اغتصاب الأموال واختلاسها بما قرع به الأسماع من الزواجر الكلية، فأردفها بتعليمات عمرانية في مواضيع غامضة تقصر عقول البشر عن إداركها بدون توقيف وتعليم؛ مثل: المعاملة بالربا، فقد يتوهم سلامتها من أكل المال باطلاً، وهي معدودة في قبيله، غير خارجة عن معناه. يوافق الربا الاغتصاب في أن الزائد على رأس المال أُخذ بغير عوض يقابله، ولم تطب له نفس الدافع، ولا سمح به خاطره، ولكن الحاجة هنا ألجأت إلى إعطائه كما تلجئ سلطة الغاصب إلى تسليم المال في الغصب الصريح، وهو بهذا الاعتبار ذريعة لاستيلاء الموسرين على تراث أهل الخصاصة، وامتصاص أموالهم التي هي بمنزلة الدم لحياتهم شيئاً فشيئاً، ويقطع سبباً وثيقاً ترتبط به القلوب رحمة وإخاء، وهو السلف مثلاً بمثل، فضلاً عما يبذره في نفوس أهل الثروة من ألفة البطالة، والتقاعد عن الصنائع والمعاملات التجارية، ولم تتقدم الأمم المستحلة للربا في حياتها المدنية بارتكاب مطيته العشواء أخذاً وإعطاء، وإنما منبع ثروتها ورفاهية حالها عقد المبادلات التجارية، والإقبال على الفلاحة والصنائع واستنزاف المعادن، والمعاملة بالربا

عندهم أمر يسير، لا يكاد يظهر بالنسبة إلى مشروعاتهم الواسعة، وأعمالهم المتواصلة. وأما العقوبات المتعلقة بالجناية على الأموال، فأربعة أنواع: أحدها: عقوبة السارق، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]. من تحقق في النظر إلى جناية السرقة، وجدها مفسدة يعسر تلافيها؛ إذ لا يمكن للناس أن يحرزوا أمتعتهم، ويصونوها عن التلف والضياع بأكثر من وضعها في دور قائمة جدرانها، موصدة أبوابها، مزرّرة أقفالها، ويتعذر على صاحب المتاع المواظبة على حراسة متاعه بنفسه صباحاً ومساء، ولا يتيسر لكل أحد أن يتخذ حراساً يكفونه شر أهل الخيانات، أو يجعل دون ماله سداً لا يستطيعون أن يظهروه، ولا يستطيعون به نقباً، والسارق يترصد أوقات الخلوة بالأمتعة، فيذهب إليها في حال تنكر واختفاء، ويخرق الدار، ويتسور جدارها، ويقلع الأبواب، أو يكسر أقفالها، ثم يملأ حقيبته منها، وينصرف آمناً مطمئناً من افتكاك ما أخذ منه، أو إقامة البينة عليه، بخلاف الغاصب أو المنتهب؛ فإنه يأخذ المال مجاهرة، فيمكن استرجاعه منه بالقوة، أو بالإشهاد عليه، ولهذا كانت السرقة أكثر وقوعاً، وأجلب للخلل في النظام، فاستحق صاحبها تشديد العقوبة عليه؛ لقطع جرثومة فسادها عن الناس. وأليقُ العقوبات به: قطع الجارحة التي يتوسل بها إلى الإذاية، ويباشر بها الجناية على الأموال المعصومة. وهل أتاك حديث من ينظر ببصيرة عشواء، فأورد على ما قررته الشريعة من قطع يد السارق في ربم دينار، وجعل ديتها خمس مئة دينار إذا جنى عليها

غيره فقطعها، فقال: يدٌ بخمس مئين عسجداً فديت ... ما بالها قطعت في ربع دينارِ وقال بعضهم في جوابه: حماية الدم أغلاها وأرخصها ... صيانة المال فانظر حكمة الباري وأجاب الإمام الشافعي فيما روي عنه: هناك مظلومة غالت بقيمتها ... وهاهنا ظلمت هانت على الباري ثم إن قطع اليد في ربع دينار - مثلاً - فيه حكمة الزجر للسارق نفسه عن معاودة السرقة، وردع أمثاله عن الإقدام عليها، وفي هذا عصمة لأموال كثيرة، وسد لمنفذ تتفشى منه المفسدة بطريق العدوى، والله لا يحب المفسدين. ثانيها: عقوبة من يحيف السبيل، ويشهر السلاح لأخذ المال باطلاً، وهو المحارب، قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]. شرع الله في عقاب المحارب أربعة أنواع أو كل أمرها إلى خيرة الإمام، فإما أن يقتل بدون صلب، وإما أن يصلب حياً، ثم يقتل ويراق دمه على الخشبة التي صلب فيها، أو تقطع يده ورجله من خلاف، أو ينفى من الأرض؛ أي: يبعث من بلده إلى بلد آخر، ويودع في السجن إلى أن ينتفي خبثه، وتظهر توبته، وليس معنى نفيه إبعاده إلى بلد آخر، مع تركه خالع العنان يمشي في مناكبها، ويجتني بها قطوف لذاتها، فإن هذا لا يمحق كيده، ولا يقطع ذيل فساده، فلا نأمن أن يسحبه مرة أخرى، ويلوث به بقاعاً كانت آمنة مطمئنة. وأضيف التغريب في هذه

العقوبة إلى السجن زيادة في الخزي والنكال؛ فإن من يبارح وطنه، ويغادر مسقط رأسه يجد في نفسه حرجاً، وفي خاطره ضجراً؛ لانقطاعه عن أهل تربى في حجورهم وليداً، وحنوا عليه بعواطفهم حقبة، ثم مفارقته لعشيرة شب على أخلاقهم وعوائدهم، واشتمل برداء عزهم من قبل أن يكبر عن الطوق، ومن ثم نبعت الغيرة على الوطن في صدور الطوائف، وأصبحوا يجلونه أعظم إجلال، فلو هاجر قومه الوطن الأول، وانتبذوا بدله مكاناً قصياً، لتحولت غيرته معهم، وخص بها المنزل الحديث كما يخصه بالتشوق والحنين، وعلى هذا المعنى يحمل حديث: "حب الوطن من الإيمان" على فرض ثبوته، فحب الوطن على هذا الوجه يدل على حسن العهد، ويدعو إلى التعاضد على البر والتقوى. وقد يألف الإنسان بعض البقاع، فيجد في إحساسه ميلاً نحوها زائداً عما تقتضيه قيمتها في نفسها، ويأبى أن يستبدلها بالذي هو خير، ولكن هذا الميل، بعد أن نسلم أنه أثر طبيعي غير خيالي، فلا يعد من العواطف المعتبرة في نظر الشريعة، ومجاري عادات العقلاء حتى يستحق من أجلها صفة تمجيد. فمن تحيز عن أمته، وطفق يرمي في وجوههم بعبارات الازدراء، وينفث في كأس حياتهم سماً ناقعاً، لا نصفه بصفة الغيرة الوطنية، وإن شغف بحب ديارهم، وقبّلها جداراً بعد جدار. ولا يراد بالتخيير هنا إلقاء العقوبة بيد الإمام يحد الجاني بأي نوع اتفق، أو تعلقت به مشيئته؛ كالتخيير في خصال الكفارة، وإنما المراد: فتح مجال الاجتهاد في هذه الأنواع من غير أن يخرج عن دائرتها، فيجب عليه النظر أولاً، وبذل الوسع فيما هو الكافي لحسم هذا الفساد من أصله، وبعد

تعديل الرأي وتنقيحه يتعين العمل بما هو أصلح في الردع، وأنفى لوباء الفتنة. فمن المحاربين من لا يقاتل بنفسه، ولكن له دهاء ومهارة في المكر والتدبير؛ بحيث يستطيع حيلة أن يؤلف الجموع، ويثير غبار الفتنة، فهذا يجب قتله، فإن كان للمبالغة في إشهار العقوبة وإيقاعها بمكان تشخص فيه الأبصار تأثير نافع في ردع العابثين وإرهابهم، جمع بين صلبه وقتله. ومنهم من لا رأي له ولا تدبير، وإنما يقطع السبيل بقوة بدنه، وشدة بطشه، فهذا يقطع من خلاف؛ ليكف شرّ يده التي يبطش بها، ورجله التي يفتن عليها. وأما من يعلم حاله العفاف، وإنما صدر منه ذلك على وجه الفلتة، والمساعدة لغيره، مع توقع الندم منه، فهذا حكمه النفي، ولا يسوغ قتله ولا قطعه. وإنما كانت عقوبة المحارب أشد من عقوبة السارق؛ لأن الحرب أعظم مفسدة، وأوسع خرقاً في النظام؛ لإفضائها إلى انتهاب الأموال، وسفك الدماء عند المدافعة عنها؛ إذ يسوغ لصاحب المال المدافعة عن ماله بما يملك من الاستطاعة، كثيراً كان المال أو يسيراً، وله أن يقاتل بعد الإنذار والموعظة إذا لم يجد للدفاع طريقاً سوى القتال. وجعل الإمام الشافعي - رضي الله عنه - أنواع العقاب المقررة في الآية مرتبة على حسب حال اختلاف المحاربين بالنظر إلى ما صنعوه، فقال إذا قَتَلَ المحارب، ولم يأخذ مالاً، قُتل، وإن أخذ المال، وقتلَ، وجب قتله وصلبه، وإن أخذ المال، ولم يقتل، قطع من خلاف، والنفي والحبس فيمن لم يبلغ جرمه إلى

الحرية في الأعراض

أن يستحق أكثر منهما. ثالثها: عقوبة المتعدي بغير السرقة والحرابة؛ كالغاصب، وأمر تشخيصها وتحديدها موكول إلى ذكاء القاضي وعدالته، يجتهد فيها رأيه، ويقدّرها على حسب الجناية. رابعها: عقوبة المتلف لمال غيره، وهي تغريمه المثل أو القيمة، والعقوبة بالمال في غير هذه الجناية وقع النزاع في حكمها بين علماء تونس في سنة 828 هـ، فأفتوا بالمنع، وانفرد عنهم الشيخ البرزلي، فأفتى في ذلك بالجواز، وجعلها من قبيل المصالح المرسلة، وقال: إذا لم يمكن ردع الجناة إلا بالمال، ردعوا بالمال، وألّف في ذلك تأليفاً فيه نحو أربعة أوراق، وخالفه جميع من حضر في ذلك الوقت، وألزموه محالفة الإجماع. وروي أن مروان بن عبد الحكم أخذ رجلاً راود امرأة على نفسها، وقبّلها، وكشفها، فسجنه ولم يطلقه إلا بعد أن فداه أبوه بألف، فأنكر الإمام مالك على مروان فعله؛ لأنه لا يرى القضاء بالعقوبة بالمال، وهذه مسألة عظيمة تستدعي بسطاً واستدلالاً لا يسعها هذا المقام. * الحرية في الأعراض: يريد كل امرئ أومضت فيه بارقة من العقل أن يكون عرضه محل الثناء والتمجيد، وحرماً مصوناً لا يرتع حوله اللامزون، وهاته الإرادة هي التي تبعثه على أن يبدد فريقاً من ماله في حل عقال ألسنة لتكسوه من نسج آدابها حلة المديح، أو يسد به أفواهاً يخشى أن تصب عليه من مرائر أحدوثتها علقماً، قال بعضهم: أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال

وقد تتقوى هذه الداعية، فتبلغ به إلى أن يخاطر بحياته، وينصب جنبه لسهام الرزايا عندما يرجم بشتيمة تلوث وجه كرامته، ويتجهم بها منظر حياته، قال أبو الطيب المتنبي: يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول ولا يتفاضل الناس في الشرف والمجادة، أو تتسفل هممهم إلى هاوية الرذالة، إلا بمقدار ما تجد بينهم من التفاوت في عقدة هذه الإرادة قوة وانحلالاً، فبقوة هذه الإرادة يتجلى لنا في مظاهر الإنسانية مطبوعاً على أجمل صورة من الكمال، وبسبب ضعفها تنزل به شهواته من سماء الإنسانية إلى أن يكون حيواناً مهملاً، وأعظم مثال يكشف لك عن فنائها، وسكون نبضها، رجل يأتي الفاحشة، ويعانق الرذيلة غير مستور عن أعين الشاهدين، ويرى أثرها بمثابة وسام افتخار في صدر رجل من مشاهير الأمة، فحال هذا الرجل مستثناة من عموم النصوص الواردة في حفظ عرض الإنسان في غيبته؛ إذ يعد اختياره لجلسته بقارعة الطريق، وهتكه لستر كرامته بنواجذه دليلاً واضحاً على عدم تحرجه ومبالاته بذلك، فينزل منزلة الإذن الصريح لغيره أن ينشر عوراته التي خرقها هو بنفسه علانية. ونستفيد من هذا: أنه لا يحق للطاعن أن يتخطى المعائب التي يجهر بها صاحبها إلى النقائص التي يحرزها بغطاء الستر والكتمان؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]. وقوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]. وفي هذا التشبيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه، وهو من باب القياس الظاهر؛ لأن عرض المرء أشرف من بدنه، فإذا قبح من العاقل أكل لحوم

الناس، لم يحسن منه قرض أعراضهم بالطريق الأولى، فالمذام التي تلتصق بالشخص خفية لا يسوغ لآخر تكشّف عليها أن يحرك بها لسانه، ويتمضمض بإذاعتها في المجامع، إلا في مواضع يدور حكم الاستباحة فيها على درء مفسدة تنشأ عن عدم التعريف بها، كإبدائها على وجه النصيحة الخالصة لمن عزم على ربط العلاقة مع صاحبها بمصاهرة، أو معاملة مالية - مثلاً -، وكإنهائها إلى من له طاقة على إقلاعه عنها، وانتزاعها منه؛ مثل الأمير الأعلى، والمعلم المطاع. وما يسلكه أهل الصحافة في أرباب الولايات من تتبع مناكرهم، وعرض مظالمهم على أنظار الحكومة لا يخرج عن هذا القبيل، ولكن على شريطة التجرد عن الأغراض الشخصية، والتحقق من صحة ذلك بإسناده إلى حجة قوية، مع اللطف في العبارة، وصنيعهم على هذا الشرط يد شاملة يطوقون بها جيد الأمة، ويدينون بها الحكومة العادلة. ومثل هذا في الإباحة للضرورة: تمكين الخصوم من إثبات الجرحة في الشهودة فإن الحاكم لا يقضي بشهادة امرئ إلا إذا صحت عدالته، وقد يرمي أحد الخصمين الشاهد بريبة تقتضي بطلان شهادته عليه، ويستند في ذلك إلى بينة تصدق دعواه، فلا غنى للحاكم هنا عن فتح السبيل للقدح في عدالة الشاهد، وذكره بما يسوء عرضه في مجلس القضاء؛ كيلا تضيع الحقوق بشهادة السفهاء من الناس. ولما تجاسر كثير من أهل الأهواء على اختلاق أحاديث يفترونها كذباً، ويسندونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليؤيدوا بها مزاعمهم، أو يقضوا بها حاجة في نفوسهم، قام العلماء بحق الوراثة المنوطة بعهدتهم من قبل صاحب الشريعة،

وأخذوا في نقد ما يروى من الأحاديث حتى يتميز الخبيث من الطيب، والصحيح من غير الصحيح، فاحتاجوا إلى التعرض لحالة الرواة، وإذا علموا من أحد سوءاً، بادروا إلى الجهر به، وتعيين اسمه؛ ليحذره الناس، ولا يتلقون روايته بالقبول، وهكذا الحكم في كل طائفة تحملت في عهدتهم أمراً يشترط فيه الثقة والأمانة؛ كالقضاء والفتوى، ولهذا لا نرى أهل الورع من العلماء يهملون في كتب التراجم ذكر من تصدروا للأحكام أو الفتوى، والتصريح بما يقع في سيرتهم، أو ينطوي في سريرتهم من الأحوال المانعة من الاقتداء بهم، والأخذ بمذاهبهم، وربما استطردوا بيانها في أثناء تحاريرهم العلمية. ونضرب لك في صحة هذا مثلاً: يقول المالكية: لا حكم ولا إفتاء إلا بما جرى به العمل، ويقررون في شروطه: أن يكون الذي أجرى العمل أهلاً للاقتداء به قولاً وعملاً؛ إذ كثيراً ما هزلت المناصب حتى سامها كل مفلس من العلم، فقير من التقوى، ولولا ما تسطره أقلام الكرام الكاتبين، وتنطق به الثقات رواية، ما اهتدينا إلى معرفة من يجب الاقتداء بأحكامه وفتاويه، ومن يجب الإعراض عن الاقتداء به صفحاً. الجناية على الأعراض غير منضبطة، بل تختلف آحادها اختلافاً كثيراً، فربَّ صفة ينعت بها رجل، فلا تحط من شأنه، وتعلق على آخر، فتنقلب سباباً، ومن أجل اختلافها في التأثير على حال المجني عليهم، لم تضع الإسلامية بإزائها عقوبة محدودة، وفوضت تعيينها وتقديرها إلى اجتهاد الحاكم، فإذا وقعت الواقعة، تلقاها بمزيد الضبط، ثم اجتهد في عقاب الجاني رأيه، ما عدا حد القذف بالزنا؛ فقد قررت له جزاء مفروضاً هو الجلد ثمانين سوطاً. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ

جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]. ووجب هذا الحد في القذف بالزنا، ولم يجب على من يرمي غيره بالكفر الذي هو أكبر جريمة وأعظم إثماً؛ لأن فاحشة الزنا يأتيها الشخص خفية، ويبالغ في سترها ما استطاع، فإذا رمى بها أحد إنساناً، يحتمل أن يكون صادقاً، ولا سبيل للعلم بكذبه، وأما إذا رماه بالشرك، فإن تلبسه بشعار الإسلام والناس ينظرون يكفي شاهداً على كذب من رماه، ثم إن العار الذي يلحق من قذف بالزنا أعلق من العار الذي ينجر إلى من رمي بالكفر وأبقى؛ فإن التوبة من الكفر - على صدق القاذف - تذهب رجسه شرعاً، وتغسل عاره عادة، ولا تبقى له في قلوب الناس حطة تنزل به رتبة أمثاله ممن ولدوا في الإسلام، بخلاف الزنا؛ فإن التوبة من ارتكاب فاحشته - طهرت صاحبها تطهيراً، ورفعت عنه المؤاخذة بها في الآخرة- يبقى لها أثر في النفوس ينقص بقدره عن منزلة أمثاله ممن ثبت لهم العفاف من أول نشأتهم، وانظر إلى المرأة ينسب إليها الزنا كيف يتجنب الأزواج نكاحها - وإن ظهرت توبتها - مراعاة للوصمة التي ألصقت بعرضها سالفاً، ويرغبون أن ينكحوا المشركة إذا أسلمت، رغبتهم في نكاح الناشئة في الإسلام. وخفف الله عن الرجل القاذف لزوجته، وشرع له مخلصاً عن الحد باللعان؛ لاحتياجه إلى دفع ولد الزنا عنه، وقطع نسبه الفاسد منه، ولأن الغالب من حال الرجل مع امرأته أنه لا يقذفها إلا عن حقيقة، إلا أن شهادة الحال وحدها لا تكفي في صحة ما يدعيه عليها، فأضيف إليها ما يقويها من الأيمان. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ

الحرية في الدماء

إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 6 - 7]. ولما كان الشاهد بالزنا يلتبس أمره بالقاذف التباساً شديداً، فربما ينوي الرجل قذف آخر، فيرميه بالزنا في صورة الشهادة عليه، والذي هو شاهد حقيقة قد يدفعه المشهود عن نفسه، ويزعم أنه قاذف يستحق العقوبة، أقام الشارع فرقاً فاصلاً بينهما، فاشترط في صحة الشهادة على الزنا أربعة عدول، فإن القاذف يتميز عن الشاهد بوصفين: التهاون بأمر الدين، والغل الواغر في صدره بالنسبة للمقذوف، ومن البعيد اتفاق هذين الوصفين في جماعة من المسلمين عرفوا بالعدالة، فإذا لم يتم نصاب الشهادة، التحق الشاهد بالقاذف، وأجري الحد عليه. وكثير من أحكام الشريعة ما هو مبني على مبدأ صيانة الأعراض؛ كرعاية الكفاءة في الأزواج؛ فإن اقتران المرأة بمن هو أدنى منها حسباً، وأخفض منها حالاً لا يخلو عن حطة في العادة يشملها عارها، ثم يمتد إلى وليها وذوي قرابتها، ويعرض بولدها لأن يلاقي من عشيرته مقتاً وهواناً. قال الشاعر العربي: وإن ابن أخت القوم مصغى إناؤه ... إذا لم يزاحم خاله بأب جلد ويؤثر عدم الكفاءة في المعاشرة بين الزوجين شغباً واضطراباً بسبب فخار المرأة وتطاولها، وربما نزع من يد الزوج سلطته التي يحوط بها عفتها، ويصون بها كرامتها؛ لإباية النفوس طبيعة من الطاعة لمن هو دونها مدنية وآداباً. * الحرية في الدماء: ينظر العمرانيون إلى الأمة التي تجمعها رابطة، فيشاهدونها في صورة جسم واحد، وأفرادها هي أعضاؤه المتلاصقة، وليس سفك دم الفرد منهم

إلا كالفصد لعرق من عروقها، واستفراغ دمه الذي هو بضعة من حياتها، والقصاص من القاتل - وإن كان فصداً لعرق ثان من ذلك الجسم العظيم - إلا أنه بمبضع طبيب عارف يخشى أن يسري دمه الفاسد إلى غيره من الأعضاء، فيحدث فيها مرضاً عضالاً. قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]؛ لأن القصاص يكف يد العالم به عن إراقة الدماء، ونهب الأعمار؛ موافقة لداعية الهوى، والضغائن الواغرة في الصدور، فيكون سبباً لحياة نفسين في هذه الناشئة، ولأن العرب كانوا يقتلون غير القاتل أحياناً، فإذا قتل عبد أو امرأة من قبيلة، وكانت القبيلة ذات شوكة وحمية، لا ترضى إلا أن تقتل في مقابلة العبد حراً، والمرأة رجلاً، وربما قتلوا جماعة بواحد، فتهيج الفتنة، وتشتعل بينهم حرب البسوس، فإذا كان القصاص مقصوراً على القاتل، فاز الباقون بالحرية في حياتهم، واطمأنوا بها. والقصاص كما يقع عند الفتك بالأرواح، يجري في الجراحات، والجناية على الأطراف. قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]. وهذه الآية يشملنا حكمها، وإن نزلت تبياناً لما كتب على الأمة الإسرائيلية؛ لأن ما يقصه الله علينا من شرائع الأمم المتقدمة، ولم يرد في الشريعة الإسلامية ما يخالفه، أخذنا به أسوة، وكان العمل بموجبه ضربه لازب. ولمكان العناية بحفظ الدماء بنيت أحكامها على أساس الاحتياط؛ حتى لا يجد الأشقياء ذريعة إلى إهدارها، ومن هذا اتفق الصحابة - رضي الله عنهم - على قتل الجماعة الكثيرة بالواحد، وإن كان القصاص يقتضي المساواة، وقتل عمر

ابن الخطاب سبعة من أهل صنعاء، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء، لقتلتهم به، ويقتص ممن قتل في حال سكر، وإن لم يكن متعمداً؛ لئلا يتخذ السكر وسيلة إلى أنهار الدماء في سبيل الأغراض. وشرع الإسلام الدية على القاتل تخفيفاً ورحمة، وأقامها مقام القصاص إذا رضي بها أولياء القتيل، وآثروها على الأخذ بالثأر؛ فقد تكون الدية أصلح لهم من القصاص، وأجدى نفعاً، وزيادة عما فيها من إبقاء نفس مسلمة تتناسل ذريتها في الإسلام. هذا حكم القاتل عمداً، تؤخذ الدية من ماله، ويجلد مئة، ويسجن سنة كاملة؛ مزجرة له عن إتلاف النفس بغير حق، وأما إذا قتل خطأ، فتفرض على العاقلة من قرابته، وليست الدية في قتل الخطأ من قبيل العقوبة على الذنب حتى يشكل علينا وضعها على العاقلة؛ بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، ونحوه من النصوص الدالة على أن الإنسان لا يؤخذ بزلة غيره، ولكنها فرضت للأخذ بخاطر المصابين، وتخفيفاً لوقع المصيبة عليهم، وإن كانت لا تخلو من حكمة التضييق على الجاني؛ ليأخذ حذره، ولا يتساهل في إهدار الدماء المعصومة، وإيجابها في ذمة القاتل وحده، وهي مقدار جسيم من المال، يضرّ به كثيراً، إذ لا يؤمن أن يتكرر خطؤه، فتأتي على جميع ماله، وعدم قصده للجناية عذر يقتضي التخفيف عنه، والرفق به، فناسب إيجابها على من عادتهم القيام بنصرته عند الشدائد، وهم عاقلته، ففرضت في أموالهم على وجه المساعدة والصلة الواجبة بحق القرابة؛ كما وجبت النفقات على بعض الأقارب، وكما يجب فكاك الأسير من بلد العدو. لا يحل دم امرئ إلا لأسباب تكون الفتنة فيها أشد من القتل؛ مثل:

الزنا من المحصن؛ فإن الزاني يبذر نطفته على وجه تجعل النسمة المخلقة منها مقطوعة عن النسب إلى الآباء، والنسب معدود من الروابط الداعية إلى التعاون والتعاضد، فكان السِّفاح سبباً لوجود الولد عارياً من العواطف التي تربطه بأولي قربى، يأخذون بساعده إذا زلت به نعله، ويتقوى به اعتصابهم عند الحاجة إليه، وفيه جناية عليه، وتعريض به لأن يعيش وضيعاً بين الأمة، مدحوراً من كل جانب؛ فإن الناس يستخفون بولد الزنا، وتنكره طبائعهم، ولا يرون له في الهيئة الاجتماعية اعتباراً، ثم إن الغيرة التي طبعت في الإنسان على محارمه، والحرج الذي يملأ صدره عند مزاحمته على موطوءته، مظنة لوقوع المقاتلات، وانتشار المحاربات؛ لما يجلبه هتك الحرمة للزوج وذوي القرابة من العار الفظيع، والفضيحة الكبرى، فاقتضى هذا الفساد الناقض لقاعدة العمران: أن يفرض له حد وجيع، هو الرجم إن كان ثيباً، وهذا من الحدود المتوارثة في الشرائع السماوية؛ كالقصاص، والقطع في السرقة، وأما إن كان بكراً، فيجلد مئة، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور: 2]. واكتفى بإيلام بدنه بالجلد، ولم يعاقب بالقتل؛ لأنه لم يتقدم له نكاح كالثيب عرف به طريق العفاف، وشاهد منه كيف يقع الاستغناء عن الفروج المحرمة، وهذا شيء من العذر فارق به الثيب، وأوجب له عصمة دمه. * الحرية في الدين: قرر الإسلام في معاملة الأمم التي يضمها تحت حمايته حقوقاً تضمن لهم الحرية في ديانتهم، والفسحة في إجراء أحكامها بينهم، وإقامة شعائرها بإرادة مستقلة، فلا سبيل لأولي الأمر على تعطيل شعيرة من شعائرهم،

ولا مدخل للسلطة القضائية في فصل نوازلهم الخاصة إلا أن يتراضوا عن المحاكمة أمامها، فتحكم بينهم على قانون العدل والتسوية، قال تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]. وإبقاء المحكومين على شرائعهم وعوائدهم، منظر من مناظر السياسة العالية، وباب من أبواب العدالة يدخلون من قبله إلى أكناف الحرية، وتذكروا إن شئتم قوله تعالى: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 74 - 75]. فجزاء السرقة في دين يوسف - عليه السلام - هو مضاعفة الغرم على السارق كما روي الكلبي، وفي رواية: ويضرب، وجزاؤه في شريعة يعقوب- عليه السلام - أخذُ السارق، واسترقاقه سنة، وسؤال أصحاب يوسف - عليه السلام - إخوته عن جزاء من يوجد عنده الصواع ليعاقب به، وعدم إجراء حكم دين الملك عليه، مبني على رعاية معاملة المحكومين بشرائعهم. الإسلام يحل للمسلم أن يتزوج المرأة من أهل الكتاب، مع استمرارها على دينها، والتمسك بعقائدها، ولا يسمح له بهضيمتها في أمر تستدين به، أو انتقاصها حقاً من حقوق الزوجية، بل تقاسم فيها امرأته المسلمة قسمة عادلة. الإسلام يمنح المسلم أن يعطي لغير المسلم عهداً بتأمينه، ولا مساغ لأحد بعد ذلك في نقض ميثاقه، أو تبديل شرطه، بل يحتم السعي في تأكيده ورعايته، وفي الحديث الشريف: "إن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم". تنظر إلى أبواب الشريعة، فتبصر في جملتها أحكاماً كثيرة مبنية على التسامح مع غير المحاربين، تطالع أبواب الهبة والوقف والوصية، فتستفيد

من أحكامها أن الإسلام لم يقتصر على إباحة معاملتهم بمعاوضة، بل أجاز للمسلم أن يهب جانباً من ماله، أو يوقفه، أو يوصي به لبعض أهل الذمة، ويجب تنفيذه، والقضاء بصحته، وأحل لنا طعام الذين أوتوا الكتاب، وأن نطعمهم. قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. وأمر بالإحسان إليهم، والرفق بضعفهم، وسد خلة فقرهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف والرحمة، واحتمال إذايتهم في الجوار، وعلى وجه الكرم والحلم، وحرّم الاعتداء عليهم، ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم. وحكى ابن حزم في "مراتب الإجماع": أن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صوناً لهم. فمن نظر في طبيعة الإسلام جيداً، تحقق صفاء سريرته من مقاصد تضرم في أحشاء أهله جمرة التعصب الباطل ضد ديانة أخرى؛ كما يزعم بعض من لم يسمعوا دعوته إلا من وراء حجاب. وشدد الإسلام العقوية على من ارتد عن الدين بعد أن لبس هديه القويم، فأمر بدعوته إلى الإنابة والتوبة، فإن رجع، وإلا، ضرب بالسيف على عنقه، وإنما جبر المرتد على البقاء في الإسلام؛ حذراً من تفرق الوحدة، واختلال النظام، فلو خلي السبيل للذين ينبذون الدين جهرة، ونحن لا نعلم مقدار من يريد الله أن يضله، نخشى من انحلال الجامعة، وضعف الحامية، وأهل الردة - وإن أصبحوا كاليد الشلاء لا تعمل في الجامعة خيراً - لا يخلو بقاؤهم في شمل المسلمين، وهم في صورة أعضاء صحيحة، من إرهاب يلقيه كثرة

السواد في قلوب المحاربين، ثم إن لكل أمة سرائر من حيث الدولة لا ينبغي لها أن تطلع عليها غير أوليائها، ومن كان متلبساً بصفة الإسلام شأنه الخبرة بأحوال المسلمين، والمعرفة بدواخلهم، فإذا خلع ربقة الدين، وقد كان بطانة لأهله يلقون إليه سرائرهم، اتخذه المحاربون أكبر مساعد، وأطولَ يد يمدونها لنيل أغراضهم من المؤمنين، هذا تأثير أهل الردة على الإسلام من جهة الدولة والسياسة، وأما تأثيرهم عليه من جهة ديناً قيماً، فإن المرتد يحمله المقلّدون من المخالفين على معرفته بحال الدين، والخبرة بحقيقته تفصيلاً، فيتلقون منه كل ما ينسبه إليه من خرافات وضيعة، أو عقائد سخيفة، يختلقها عليه بقصد إطفاء نوره، وتنفير القلوب منه، ولما كان عثرة في سبيل انتشار الدين، وجبت إماطته كما يماط الأذى عن الطريق. وفي جعل عقوبة المرتد إباحة دمه زاجرٌ للأمم الأخرى عن الدخول في الدين مشايعة للدولة، ونفاقاً لأهله، وباعث لهم على التثبت في أمرهم، فلا يتقلدونه إلا على بصيرة وسلطان مبين؛ إذ الداخل في الدين مداجاة ومشايعة يتعسر عليه الاستمرار على الإسلام وإقامة شعائره. وأنت إذا جئت تبحث عن حال من ارتدوا بعد الإسلام، لا تجد سوى طائفتين: منهم من عانق الدين منافقاً، فإذا قضى وطره، أو انقطع أمله، انقلب على وجهه خاسراً، وبعضهم ربي في حجور المسلمين، ولكنه لم يدرس حقائق الدين، ولم يتلق عقائده ببراهين تربط على قلبه ليكون من الموقنين، فمتى سنحت له شبهة من الباطل، تزلزت عقيدته، وأصبح في ريبه متردداً، وارجع بصرك إلى التاريخ كرتين، فإنك لا تعثر على خبر ارتداد مسلم نبت في بلد طيب نباتاً حسناً.

الحرية في خطاب الأمراء

* الحرية في خطاب الأمراء: لا يخفى على متشرع بصير أن الملك والدين أخوان يشد كل منهما بعضد الآخر، بل الدين رائد للملك، والملك تابع للدين، خادم له، وإن شئت فقل: هما كمثل إنسان، الدين عقله المدبر، والملك جسمه المسخر له، وذلك الإنسان هو ما نسميه الآن بالإسلام، فبمقدار ما ترتبط الإدارة السياسية بالإدارة الدينية، يكمل شبابه، وتجري روح الاستقامة في أعضائه، فتصدر أعماله قرينة الحكمة، سالمة من العيوب، ومتى انفكت أولاهما عن أخراهما، انحلت حياته، وتتاثرت أجزاؤه تناثرَ خرز مكورة على سطح محدب، فمن صعد نظره في عصر الخلفاء الراشدين، يجد السبب الذي ارتقى بالإسلام، وانسجم به في سبيل المدنية، هو ما انعقد بين الدين والخلافة من الاتحاد والوفاق. ومن ضرب بنظره فيما يشاء من الدول التي حمي فيها وطيس الاستبداد، يجد المحرك لتلك الريح السموم، والعثير المشوم، ما اعترض بين هاتين السلطتين من الاختلاف. كان موضع العناية ومحل القصد من الإمارة في نظر أولئك الخلفاء، ومن حذا حذوهم، كعمر بن عبد العزيز، هو: خدمة الدين، الذي هو خادم للعدالة، التي هي خادمة لصلاح العالم. قال الشيخ قبادو التونسي: وما الجاه إلا خادم الملك لائذاً ... وما الملك إلا خادم الشرع حزمُه وما الشرع إلا خادم الحق مرشداً ... وبالحق قام الكون وانزاح ظلمُه ولما انطوت أحشاؤهم على هذا المقصد الجميل، أطلقوا سراح الرعية في أمرهم بالمعروف، وإحضارهم النصيحة، مثل ما سبق في خطبة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وكقول عمر بن الخطاب: "أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف،

وإحضاري النصيحة، وأعينوني على أنفسكم بالطاعة". وكانوا يوسعون صدورهم للمقالات التي توجه إليهم على وجه النصيحة، والتعريض بخطأ الاجتهاد، وإن كانت حادة اللهجة، قارصة العبارة. عزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد - رضي الله عنهما -، وكان أميراً على "قنسرين"، ولم يجد عمر بداً من الاعتذار عن ذلك بمحضر ملأ من المسلمين؛ حذراً مما عسى أن يقدح في بعض الظنون، فقام وخطب خطبة في شأن العطاء، وألقى في آخرها بالمعذرة، فقال: "وإني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد؛ فإني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان، فنزعته منه، وأمّرت أبا عبيدة بن الجراح". فقام أبو عمر ابن حفص، وكان ابن عم لخالد، فقال: والله! ما اعتذرت يا عمر، ولقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى أن قال: وقطعت رحماً، وحسدت ابن العم. فقال عمر: "إنك قريب القرابة، حديث السن، مغضب في ابن عمك". ولم يزد على أن التمس لمناقشته وجهاً، وردّها ردّاً ليناً، وأخيراً قدم خالد بن الوليد إلى عمر، وحصحص الحق أنه نقي الراحة، بريء العهدة مما ظن به، وبذلك كتب عمر إلى الأمصار. ثم خلف من بعد أولئك خلف، عرفوا أن فطرة الدين وطبيعته لا تتحمل شهواتهم العريضة، وألفوا بلاط الملك فسيح الأرجاء، بعيدَ ما بين المناكب، ولكنه لا يساعفهم على أغراضهم وتتبع خطواتهم ما دامت أوصاله ملتحمة بالإدارة الدينية، ولم يهتدوا حيلة إلى فارق بينهما سوى أن يسدوا منافس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون دعاة الإصلاح، وابتكروا ضروباً من الخسف وأفانين من الإرهاق كانوا يهجمون بها على الناس هجوم الليل إذا يغشى،

آثار الاستبداد

وإذا سمعوا منادياً ينادي؛ ليحق الحق، ويبطل الباطل، كلّموه بألسنة السيوف. ولما أبق الملك من حضانة الدين، وخفقت عليه راية الاستبداد، خالط الأفئدة رعب وأوجال كأنما مزجت بطينتها، فبعد أن كان راعي الغنم يفد من البادية، وعصاه على عاتقه، فيخاطب أمير المؤمنين بـ: يا أبا بكر، ويا عمر، ويا عثمان! ويتصرف معه في أساليب الخطاب بقرارة جأش، وطلاقة لسان، وسكينة في الأعضاء، أصبح سيد قومه يقف بين يدي أحد الكبراء في دولة الحجاج، فينتفض فؤاده رعباً، ويتلجلج لسانه رهبة، وترتعد فريصته وجلاً، يخشى أن يكون فريسة لبوادر الاستبداد. ولا نجهل أن القرون السالفة تمخضت فولدت رجالاً تمتلئ أفئدتهم غيرة على الحق والعدالة، فصغرت في أعينهم أبهة الملك، وازدروا بما يكتنفها من أدوات الاستبداد، فجاهروا بالنصيحة المرّة، وخففوا من ويلات المنكر نصيباً وافراً؛ كالقاضي أبي الحسن منذر بن سعيد البلوطي المتوفى سنة 355 هـ، وكنت تعرضت إلى نبذة من سيرته في مجلة "السعادة" (¬1) عدد 17، ومثل القاضي أبي بكر الطرطوشي صاحب كتاب "الحوادث والبدع"، ولكن هؤلاء الرجال لم يبلغوا النصاب الكافي لإصلاح شأن أمة عظيمة، وما كانوا إلا أمثلة نادرة يضربها الله لدعاة الإصلاح لعلهم يتذكرون. * آثار الاستبداد: إذا أنشبت الدولة برعاياها مخالب الاستبداد، نزلت عن شامخ عزها لا محالة، وأشرفت على حضيض التلاشي والفناء؛ إذ لا غنى للحكومة عن ¬

_ (¬1) انظر كتاب: "السعادة العظمى" للإمام.

رجال تستضيء بآرائهم في مشكلاتها، وآخرين تثق بكفاءتهم وعدالتهم، إذا فوضت إلى عهدتهم بعض مهماتها، والأرض التي اندرست فيها أطلال الحرية إنما تأوي الضعفاء والسفلة، ولا تنبت العظماء من الرجال إلا في القليل. قال صاحب لامية العرب: ولكن نفساً حرة لا تقيم بي ... على الضيم إلا ريثما أتحوَّلُ فلا جرم أن تتألف أعضاء الحكومة وأعوانها من أناس يخادعونها، ولا يبذلون لها النصيحة في أعمالهم، وآخرين مقرنين في أصفاد الجهالة، يدبرون أمورها على حد ما تدركه أبصارهم، وهذا هو السبب الوحيد لسقوط الأمة، فلا تلبث أن تلتهمها دولة أخرى، وتجعلها في قبضة قهرها، وذلك جزاء الظالمين، ثم إن الاستبداد مما يطبع نفوس الرعية على الرهبة والجبن، ويميت ما في قوتها من البأس والبسالة: فمن في كفه منهم قناةٌ ... كمن في كفه منهم خضابُ فإذا اتخذت الدولة منهم حامية، أو ألفت منهم كتيبة، عجزوا عن سد ثغورها، وشلت أيديهم من قبل أن يشدوا بعضدها. وإن أردت مثلاً يثب فؤادك، ويؤيد شهادة العيان، فاعتبر بما قصه الله تعالى عن قوم موسى - عليه السلام - لما أمرهم بالدخول للأرض المقدسة وملكها، كيف قعد بهم الخوف عن الطاعة والامتثال، وقالوا: إن فيها قوماً جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فمتى جئت تسأل عن الأمر الذي طبع في قلوبهم الجبن، وتطوح بهم في العصيان والمنازعة إلى قولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، وجدته خلق الانقياد المتمكن في نفوسهم، من يوم كانت الأقباط ماسكة بنواصيهم، وتذيقهم

من سوء الاستعباد عذاباً أليماً. والأمة مفتقرة إلى الكاتب والشاعر والخطيب، والاستبداد يعقد ألسنتهم على ما في طيها من الفصاحة، وينفث فيها لكنة وعِيّاً، فتلحق لغتهم بأصوات الحيوانات، ولا يكادون يفقهون قولاً. وإذا أضاءت على الأمة شموس الحرية، وضربت بأشعتها في كل واد، اتسعت آمالهم، وكبرت هممهم، وتربَّت في نفوسهم ملكة الاقتدار على الأعمال الجليلة، ومن لوازمها: اتساع دائرة المعارف بينهم، فتتفتق القرائح فهماً، وترتوي العقول علماً، وتأخذ الأنظار فسحة ترمي فيها إلى غايات بعيدة، فتصير دوائر الحكومة مشحونة برجال يعرفون وجوه مصالحها الحقيقية، ولا يتحرفون عن طرق سياستها العادلة. والحرية تؤسس في النفوس مبادئ العزة والشهامة، فإذا نظمت الحكومة منهم جنداً، استماتوا تحت رايتها مدافعة، ولا يرون القتل سُبَّه إذا ما رآه الناكسو رؤوسهم تحت راية الاستبداد. ثم إن الحرية تعلّم اللسان بياناً، وتمد اليراعة بالبراعة، فتزدحم الناس على طريق الأدب الرفيع، وتتنور المجامع بفنون الفصاحة، وآيات البلاغة، هذا خطيب يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك شاعر يستعين بأفكاره الخيالية في نصرة الحقيقة، ويحرك العواطف، ويستنهض الهمم لنشر الفضيلة، وآخر كاتب، وعلى صناعة الكتابة مدار سياسة الدولة. ولم تكن ينابيع الشعر في عهد الخلفاء الراشدين فاغرة أفواهها بفن المديح والإطراء، وإنما ترشح به رشحاً، وتمسح به مسحاً لا يضطهد من

فضيلة الحرية فتيلاً، وما انفلت وكاؤها (¬1)، وتدفقت بالمدائح المتغالية إلا في الأعصر العريقة في الاستبداد. ولما وقر في صدر عمر بن عبد العزيز من تنظيم أمر الخلافة على هيئته الأولى، لم يواجه الشعراء بحفاوة وترحاب، وقال: مالي وللشعراء؟ وقال مرة: إني عن الشعر لفي شغل. انتجعه جرير بأبيات، فأذن له بإنشادها. وقال له: اتق الله يا جرير، ولا تقل إلا حقاً، وعندما استوفاها، واصله بشيء من حُرِّ ماله، فخرج جرير وهو يقول: خرجت من عند أمير يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض، ثم يقول: رأيت رقى الشيطان لا تستفزُّهُ ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا ومن مآثر الاستعباد: ما تتجشأ به اللها، وتسيل به الأقلام من صديد الكلمات التي يفتضح لك من طلاوتها أنها صدرت من دواخل قلب استشعر ذلة، وتدثر صغاراً، نحو: "مقبل أعتابكم"، "المتشرف بخدمتكم"، "عبد نعمتكم"، ولا أخال أحداً يصغي إلى قول أحد كبراء الشعراء: وما أنا إلا عبد نعمتك التي ... نسبت إليها دون أهلي ومعشري إلا ويمثل في مرآة فكره شخصاً ضئيلاً، يحمل في صدره قلباً يوشك أن ينوء بما فيه من الطمع والمسكنة. ومن سوء عاقبة الخضوع في المقال: أن يوسم الرجل بلقب وضيع ينحته له الناس من بعض أقوال له أفرغ فيها كثبة من التذلل وبذل الهمة؛ كما سموا رجلاً باسم: "عائد الكلب"؛ لقوله: ¬

_ (¬1) الوكاء: ما يشد به رأس القربة - "المعجم المدرسي - لزين العابدين بن الحسين".

إني مرضت فلم يعدني واحدٌ ... منكم ويمرض كلبكم فأعود ولا نجهل أن بعض من سلك هذا المسلك من التملق والمديح اتخذه سلّماً؛ ليظفر بحق ثابت، ولكنه لا ينافي الغرض الذي نرمي إليه من أن الحقوق في دولة الحرية تؤخذ بصفة الاستحقاق، وفي دولة الاستبداد لا تطالب إلا بصفة الاستعطاف، ذلك الوزر الذي يحبط بفضل العزة التي نبهنا الله عليها، وأرشد من يريدها إلى أنها تطلب بالطاعة من الكَلِم الطيب، والعمل الصالح، فقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] (¬1). ¬

_ (¬1) عندما انتهت المسامرة قام الأستاذ الهمام صاحب التحريرات العالية، فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور وألقى خطاباً فائقاً يقول فيه: "يا أيها الأستاذ النحرير! ويا أيها السادة! يسرني أن أقف موقفي هذا؛ لأمثل على مرأى من السادة الحاضرين مقدار الابتهاج والسرور بمسامرتكم الفائقة، التي سمح بها هذا النادي أو السامر الشريف، فسمعنا منها فلسفة حقيقية لمبدأ عظيم من مبادئ شريعتنا، وشاهدنا مثالاً صحيحاً للفصاحة والبلاغة العربيتين، يحيى من الأمل بحياة اللغة العريية، متى ساعدتها عزيمتكم وعزيمة معضديكم من رجال النشأة العلمية المستنيرين ... إلخ".

علماء الإسلام في الأندلس

علماء الإسلام في الأندلس (¬1) أحدثكم عن أمة من أهل العلم عاشوا في السنين الخالية. ولا أقصد بحديثي عنهم الدعوة إلى أن نأخذ بكل مظهر من مظاهرهم، أو نقتدي على كل أثر من آثارهم؛ فإن لكل جيل شأناً، ولكل دولة لبوساً، وإنما هي نظرة نلقيها على سيرة أولئك العلماء من الناحية التي يتمثل فيها أدب الإسلام، وتتراءى فيها الهمة النبيلة، وهي ناحية لا تختلف باختلاف المواطن، ولا تتبدل ما تبدلت الأجيال. وإذا كانت بلاد الأندلس قد أحيط بها، وتقلصت ظلال الإسلام من أقطارها، وكان على علمائها الذين شهدوا يوم كانت تتقلص نصيب من التبعة غير قليل، فنحن إنما نحدثكم عن العلماء الذين ظهروا أيام شباب الدولة الإسلامية، وكانوا العضد الأقوى في بسط سلطانها، وإقامة معالمها، أو نحدثكم عن أفراد من العلماء نشؤوا أيام هبوط تلك الدولة، وقضوا من واجب العلم والإرشاد ما استطاعوا، ولكنهم وجدوا في الآذان وقراً، وعلى الأبصار غشاوة: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ¬

_ (¬1) محاضرة نشرت في رسالة صغيرة عام 1347 هـ وقد ألقاها الإمام في نادي جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، باسم جمعية الهداية الإسلامية مساء الأربعاء 18 ذي الحجة 1346 هـ.

سبب نهضة العلوم الإسلامية بالأندلس

الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]. * سبب نهضة العلوم الإسلامية بالأندلس: تزهو العلوم بين الأمة، وتضرب أشعتها في طول البلاد وعرضها، متى هيأ الله لها من أمرها سببين اثنين، هما: صحة طرق التعليم، ثم ما تكون عليه الدولة من كياسة وشعور بقيمة العلم ورجاله المصلحين. أما صحة طرق التعليم، فهي التي تنهض بطلاب العلم الأذكياء على أن يرسخوا في فهم أصول الشريعة، وتعرّف مقاصدها في وقت غير بعيد، فيتيسر لطالب هذه العلوم أن يبلغ فيها أشدَّه، وهو لا يزال في عنفوان شبابه، فيتصدى للتدريس أو التأليف أو الدعوة، وعزمه في قوة، وهمته في نشاط، وفؤاده في ذكاء. وأما كياسة الدولة ويقظتها لما في علوم الإسلام من سنن الرقي وسعادة الحياة، فذلك ما يجعلها تعمل على نفاقها، وذلك ما يدعو إلى التنافس في طلبها، فلا يلبث الناس أن يروا لأهل العلم مواقف شريفة، وآثاراً فاخرة، وما هذه المواقف والآثار إلا عصمة للعقول من أن تضل، ووقاية للدولة من أن تستخف بالشرائع، فتمقتها الأمة وتشقى. قد يخرج من بين التعاليم الملتوية، أو يظهر في عهد الدولة الجافية أفرادٌ يسمو بهم صفاء الفطرة أن يكون علمهم غزيراً متناسقاً، وتفكيرهم موزوناً مثمراً، ولكني أتحدث عن الثقافة الفائقة تسود بين طلاب العلم، فهذه لا تظفر بها المعاهد والمدارس الإسلامية إلا أن تستقيم طرق التعليم، ويكون أولو الأمر ممن يرجون لله وقاراً. إذا اجتمع هذان الأمران: سداد نظام التعليم، وسلامة ضمير الدولة،

سعدت هذه المعاهد والمدارس، وأطلعت من أعلام الهداية وحماة الفضيلة خلقاً كثيراً. وقد كان منهج التعليم في بلاد الأندلس جيداً، وكان رجال دولها - في أغلب أحوالهم - ينطوون على ضمائر سليمة، وسرائر مطمئنة بالإيمان. نعني بجودة منهج التعليم: أنهم كانوا يسيرون في دراسة العلم على طريقة البحث في نفس العلم، والغوص على لبابه، ولم تأكل المختصرات المعلقة، والمناقشات اللفظية من مجهوداتهم وأوقاتهم ما هم في حاجة إلى إنفاقه في حقائق العلم، وإنَّ حقائق العلم لشيء كثير. ولا يغيب عنا أنهم ابتلوا في أواخر حياتهم - كما ابتلي غيرهم - بشيء من هذه المختصرات، وأخذت المناقشات في ألفاظ المؤلفين تشغل طرفاً من أوقاتهم، ولكنها لم تشتد كما اشتدت في معاهدنا منذ زمن، وأوشكت أن تصير دون المباحث الأصلية في العلم حجاباً مستوراً. وأما احتفاء أمراء الأندلس بعلوم الإسلام، فإن تاريخهم ينطق بأنهم كانوا يعملون لحياتها ونمائها، ويوجهون عنايتهم على الاستكثار من رجالها، ولهذه العناية مظاهر شتى: من هذه المظاهر: رعايتهم لمقامات العلماء، ونظرهم إليها بعطف واحترام. قال أبو عبد الله المقري في وصف الأندلس: "وإن ملوكها كانوا يتواضعون لعلمائها، ويرفعون أقدارهم". وسنسوق إلى حضراتكم في بعض الفصول الآتية وقائع تشهد بأن أمراء الأندلس كانوا يجلون علماء الشريعة، ويحتملون منهم الأمر بالمعروف،

والنهي عن المنكر، ولو كان غليظاً خشناً؛ لأنهم يحسون منهم الإخلاص حين ينهون، وحين يأمرون، وشأن المخلص في قول الحق أن ترمقه القلوب بمهابة، وإن كانت مطبوعة على قسوة واستبداد. ومن هذه المظاهر: حملهم أهل العلم على التأليف في علوم الدين، وتلقيهم للمؤلفات القيمة بما شأنه أن يبعث الهمم على الإتيان بأمثالها. وأذكر في هذا الباب: أن بعض علماء المالكية بالعراق شرع في تأليف سماه "الاستيعاب"، وقصد فيه إلى جمع أقوال الإمام مالك، لا يشركها بقول أحد من أصحابه، وكتب منه خمسة أجزاء، ثم أدركه الموت وهو لم يتمه بعد، ووقعت هذه الأجزاء إلى الحكم بن عبد الرحمن الناصر، فأعجب بها، واقترح على أبي بكر القرشي، وأبي عمرو الإشبيلي أن يكملا هذا الكتاب، وفتح لهما دار كتبه للبحث والتنقيب، فأكملاه في مئة جزء، ولما قدماه إليه، ابتهج به سروراً، وقلدهما منصب الشورى في مجلس القضاء. على أن أول الأستاذين المؤلفين، وهو أبو بكر القرشي لم يزد عمره يوم وُلِّي هذا المنصب على ثلاثين سنة. ومن هذه المظاهر: أن في الأمراء أنفسهم من كانوا يقبلون على درس علوم الشريعة درساً وافياً؛ كعبد الرحمن الأوسط، والحكم بن عبد الرحمن الناصر، ومجاهد العامري أحد ملوك الطوائف شرقي الأندلس. ومنهم من كانوا يعقدون مجالس يتحاور فيها أهل العلم بحضرتهم، وقد كان للمنصور ابن أبي عامر مجلس في كل أسبوع، يجتمع فيه أهل العلم للمناظرة بحضرته، ولا يدعه إلا حين يخرج مجاهداً في سبيل الله. ومما نهض بالعلوم في الأندلس: إقبال أهل العلم على الرحلة إلى

مكانة علماء الأندلس في العلوم الإسلامية

الشرق، ويقيمون فيه الشهور والسنين، ثم يعودون إلى أوطانهم بما يتجدد من علم نافع، أو رأي راجح، أو استنباط بديع، وقلّما يمر الناظر على حياة عالم كبير من قدمائهم ولا يجد له رحلة. يرحل علماء الأندلس إلى الشرق، وريثما يملأ الرجل حقيبته من العلم، أو يبلغ في الاطلاع على البلاد ما استطاع، ينقلب إلى وطنه ليبث ما استفاد من علم، أو يحدّث بما شاهد من أحوال وآثار. وكان هؤلاء الراحلون يؤثرون العود إلى أوطانهم على الإقامة بالشرق إلا قليلاً، أذكر منهم: ابن مالك، وأبا حيان، وأبا بكر الطرطوشي، وأبا القاسم الشاطبي الإمام في علم القراءات، فإن ابن مالك استوطن دمشق، والثلاثة بعده استوطنوا القاهرة إلى أن استلمتهم يد المنون. وممن وردوا الشرق، فابتسم في وجوههم، ثم أبوا إلا أن يعودوا إلى وطنهم: القاسم بن محمد بن سيار، فقد لقي هذا الأستاذ في مصر حظوة بالغة، ومقاماً كريماً، وعزم-مع هذا- على الإياب إلى بلده بالأندلس، ولما قال له العلامة محمد بن عبد الحكم: أقم عندنا؛ فإنك تعتقد رياسة، ويحتاج الناس إليك، أجابه يقوله: "لابد من الوطن". قال القاسم بن سيار: "لابد من الوطن"، لأن مقاليد الأمور في وطنه بيد دولة وطنية، لا تنظر إلى من يعود إليها من الشرق بعين الريبة، فتعْجَلَ إلى نفيه من الأرض، أو تضرب عليه حصاراً من عيون الرقباء، وآذان المتجسسين. * مكانة علماء الأندلس في العلوم الإسلامية: كانت علوم الشريعة يوم فتحت الأندلس إنما هي القرآن يتلى، والحديث يروى، وبصائر عرفت روح الإسلام، واهتدت طرق الاستنباط، فكان من

الميسور لها أن تفصل لكل واقعة حكماً صالحاً. وكانت الجيوش الفاتحة للأندلس تحمل في أجنحتها رجالاً تفقهوا بين أيدي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ كحسين بن عبدالله الصنعاني، والمغيرة ابن أبي بردة العذري، ومحمد بن أوس الأنصاري، وزيد بن قاصد، وعبد الرحمن الغافقي. ومن المعروف في التاريخ أن عمر بن عبد العزيز أرسل عشرة من علماء التابعين ليفقّهوا أهل إفريقية في الدين، وأن من هؤلاء العلماء من دخلوا الأندلس لأول فتحها؛ مثل: بكر بن سوادة، وحيَّان بن أبي جبلة. وورد الأندلس من غير هؤلاء رجال أوتوا العلم بالقرآن والسنة، فانبثت في تلك البلاد مبادئ الدين الحنيف، ولكن مدافعة الأعداء في الخارج، وثورات الزعماء الطامحين إلى الرياسة في الداخل، جعلت البلاد في حركات حربية عنيفة، وإنما ينهض العلم ويسير في انتظام، حيث يكون الناس في سلم وطمأنينة. جاء صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، وأقام في الأندلس دولة أموية مستوثقة العرا، فإذا طوائف من العلماء يفدون من الشرق ضيوفاً على الغرب، ورجال يرحلون من الغرب، ثم يعودون بعد أن يشربوا من منابع العلم بالكأس الرويَّة، فتدفق سيل العلم بالمدائن والقرى، وأصبحت الأندلس تضاهي العراق بعلومها، وتباهيه بعلمائها. وهذه بقية من مؤلفاتهم تخلصت إلينا من يد الإحراق والإغراق، نشهد فيها العلم الزاخر، والنظر الراجح، والأسلوب الحكيم. ولا يسمح لي وقت هذه المحاضرة أن أبحث عن حالهم في العلوم

تفسير القرآن

بتفصيل، فأكتفي بكلمات موجزة أدل بها على مكانتهم في التفسير والحديث والفقه والكلام، وأصلها بكلمة في موقع علوم الفلسفة من عنايتهم، وأدع الحديث عن تقدمهم في علوم اللغة وآدابها إلى ساعة أخرى. * تفسير القرآن: عني علماء الأندلس بتفسير الكتاب العزيز، وحظهم من الإجادة والتحقيق في هذا العلم كبير، فلعبد الرحمن بقي بن مَخْلد تفسير يقول ابن حزم في وصفه: هو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا أستثني فيه: أنه لم يؤلف في الإسلام مثله، لا تفسير ابن جرير الطبري، ولا غيره. ومن أثر علماء الأندلس في التفسير: أن بعض من دخلوا في الإسلام ث؛ ككعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام كانوا يطارحون الناس قصصاً وأخباراً هي من نوع ما يتحدث به أهل الكتاب قبل الإسلام، ومن أجل أن هذه القصص والأخبار لا تعلق بالشريعة في أصل ولا فرع، لم يبال بعض المفسرين أن يوردوها في تفاسيرهم دون أن يأخذوها بالنقد والتمحيص، ثم ظهر بعد هذا: الحافظ عبد الحق بن عطية الغرناطي، وألف تفسيراً أربى فيه على من تقدم، ومن مزاياه: أنه تحرى فيه من تلك الأخبار ما هو أقرب إلى الصحة، ثم جاء بعده أبو عبد الله محمد بن فرح القرطبي، وألف تفسيراً تحامى فيه القصص والتاريخ، وصرف همته إلى الأحكام، واستنباط الأدلة، بل نجده في بعض المواضع يأتي على شيء من تلك الأخبار، ويدفعها ببيان مخالفتها للمعقول أو المنقول. وتصدى طائفة من علمائهم لتفسير أيات الأحكام خاصة؛ مثل: منذر ابن سعيد البلوطي، وأبي بكر بن العربي، وعبد المنعم بن الفرس. ومنهم من

علم الحديث

يؤلف تفاسير متعددة، فلأبي بكر بن العربي كتاب "الأحكام"، و"قانون التأويل"، و"أنوار الفجر"، وهذا التفسير يبلغ ثمانين مجلداً. فعلماء الأندلس في مقدمة من خلصوا التفسير من أخبار واهية، وروايات مصنوعة، وفي مقدمة من بسطوا القول في استخراج الأصول والأحكام من الآيات البينات، ومن يقلب نظره في مؤلفاتهم يشهد بأنهم في مقدمة من حاربوا الآراء الفاسدة في تأويل القرآن. * علم الحديث: نحن نعلم أن طائفة من علماء التابعين قد دخلوا الأندلس لأول الفتح، وأن طائفة أخرى تعد من حملة الشريعة هبطت الأندلس قبل أن تقوم الدولة الأموية، ولكنا نجد الكاتبين في التعريف بعلمائها يقولون في شأن صعصعة ابن سلام: إنه أول من دخل بالحديث بلاد الأندلس، وصعصعة هذا إنما ورد الأندلس أيام عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية. وكأنهم يريدون بما قالوا: أن صعصعة بن سلام أول من دخل بالحديث بلاد الأندلس بعد أن انتظم أمر الرواية، وصارت الأحاديث تضبط بالكتابة والتدوين. وأصبحت الأندلس في خلال المئة الثالثة دار حديث برجلين من رجالها رحلا إلى الشرق، وعادا إليها بعلم غزير، وهما: بقي بن مخلد، ومحمد ابن وضاح. قال أبو محمد بن حزم: وإذا سمينا بقي بن مخلد، لم نسابق به إلا محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج، وكان محمد بن وضاح يردّ كثيراً مما يروى على أنه حديث نبوي، ويقول: "ليس هذا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء"، ومثل هذا المقال إنما يصدر لذلك العهد من محدِّث واسع الاطلاع.

علم الفقه

ومن محدثيها: ابن عبد البر صاحب كتاب "التمهيد" الذي قال فيه ابن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً، فكيف أحسن منه؟!. ومن دلائل عنايتهم بالحديث: أن حوالي قرطبة لذلك العهد قرى كثيرة، وفي كل قرية منبر وفقيه مقلس، وكان لا يضع على رأسه القالس إلا من حفظ "الموطأ"، وقيل: من حفظ عشرة آلاف حديث، وأضاف إلى ذلك حفظ "المدونة"، هذا حال مفتي القرية! فماذا يكون حال العلماء في مجلس الشورى والقضاء بقرطبة ونحوها من المدن ذات الأرباض الفسيحة، والضواحي العامرة؟!. وقيام علماء الأندلس على منبعي الشريعة: التفسير، والحديث، هو الذي بلغ بهم أن كانوا في طليعة من حاربوا البدع والمحدثات، فقد كتب فيها أبو بكر الطرطوشي، وأثخنها أبو بكر بن العربي في مؤلفاته، وقاتلها أبو إسحاق الشاطبي في كتابي "الموافقات" و"الاعتصام" قتالاً عنيفاً. * علم الفقه: ظهر في الشرق أعلام الاجتهاد والفتوى؛ أمثال الأئمة: أبي حنيفة، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأخذ الناس يتلقون أقوالهم ومذاهبهم بالرواية والتدوين، وكان ممن اختص بالإمام الأوزاعي: صعصعة بن سلام، فقدم الأندلس أيام عبد الرحمن الداخل، وبه انتشر مذهب الأوزاعي هناك، وأصبحت الفتوى تدور على هذا المذهب إلى أيام هشام بن عبد الرحمن. في أيام هشام بن عبد الرحمن رحل فريق من أهل الأندلس إلى الشرق، وجلسوا إلى مالك بالمدينة، وأخذوا عنه، ثم عادوا بكتاب "الموطأ"، ووصفوا من فضل مالك وسعة علمه ما عظم به صيته، فانتشر مذهبه، وبقي العمل في

القضاء والفتوى عليه إلى أن أفلَتْ شمس الإسلام من تلكم الآفاق. وذهب ابن حزم في سبب انتشار مذهب الإمام مالك بالأندلس إلى وجه آخر، فقال: إن يحيى بن يحيى الليثي أحد رواة "الموطأ" عن مالك، كان مكيناً عند السلطان، مقبول القول في القضاة، وكان لا يلي قاض في أقطار الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به، على أن يحيى لم يلِ قضاء قط، ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائداً في جلالته عندهم، وداعياً إلى قبول رأيه لديهم. والتاريخ والمشاهدة يدلان على أن المذهب ينتشر في الناحية حيث يختص أصحابه بمنصب القضاء ونحوه، وينتشر في الناحية حيث يكون كبار علمائها أو معظمهم ممن تفقهوا عليه، وصاروا من أشياعه. ولعل انتشار مذهب مالك بالأندلس يرجع على السببين كليهما. يتفقه أهل الأندلس على مذهب مالك بن أنس، إلا أن كثيراً منهم يأنسون في أنفسهم الكفاية للاجتهاد أو الترجيح، فيأخذون بما يرونه الصواب، وإن خالف مذهب مالك وأصحابه جميعاً. وممن أصبح مستقل النظر في الأحكام: القاسم بن محمد بن سيار الذي قال فيه محمد بن عبد الحكم: "لم يقدم علينا من الأندلس أعلم من القاسم ابن محمد". وقال في شأنه ابن حزم: "وإذا سمينا القاسم بن محمد، لم نباه به إلا القفال، ومحمد بن عقيل الفريابي". كان القاسم بن محمد مستقل النظر، وكان إذا استفتاه الناس، أفتى بمذهب مالك، ولما خاطبه أحمد بن خالد في هذا، وقال له: أراك تفتي

الناس بما لا تعتقد، وهذا لا يحل لك. أجابه بقوله: "إنما يسألونني عن مذهب جرى في البلد، وهم يتقلدونه، فأفتيهم به، ولو سألوني عن مذهبي، لأخبرتهم به". وممن كان لا يأخذ بمذهب مالك: منذر بن سعيد البلوطي؛ فإنه مال إلى مذهب الشافعي، ثم انتقل إلى الأخذ بالظاهر، واطراح القياس، ولغزارة علمه، ورسوخ فضله، قلده عبد الرحمن الناصر القضاء بقرطبة، وأخذ عليه أن لا يقضي إلا بمشهور مذهب مالك، فكان إذا جلس للفصل بين الناس، قضى على مذهب مالك؛ عملاً بما شرط عليه الخليفة. وكذلك كان أبو محمد بن حزم، فإنه مال إلى مذهب الشافعي، ثم انتقل إلى الأخذ بالظاهر، والامتناع من القياس؛ بدعوى أن نصوص الشريعة تتناول كل حادثة إلى أن يأتي أمر الله، وصار لابن حزم هنالك شيعة، ومن مؤلفاته في أحكام الفقه كتاب "المحلى بالآثار" الذي قال في وصفه عز الدين بن عبد السلام: "لم يؤلف مثله في الإسلام". وإنا لنجد الكاتبين في تاريخ الأندلس يقولون في وصف كثير من علمائها: "وكان يميل إلى النظر والحجة"، أو يقولون: "كان يميل في فقهه إلى النظر والأخذ بالحديث". أو يقولون: "له اختيارات في الفتوى والفقه خارجة عن المذهب". أو يقولون: "كانت له مذاهب أخذ بها في خاصة نفسه، وخالف فيها أهل قطره". وهذا يدلنا على أن علماء الأندلس يتفقهون على مذهب مالك، ومنهم من يدرك مرتبة الاجتهاد أو الترجيح، فيرجع إلى الحجة والدليل. هذا شأنهم في الفقه، أما شأنهم في أصول الفقه، فقد وصفهم أبو

علم الكلام

عبد الله المقري بأن مرتبتهم في هذا العلم كانت متوسطة، وكتب ابن حزم رسالة سرد فيها مؤلفات الأندلسيين في علوم مختلفة، ولم يذكر لهم في علم الأصول ولو كتاباً واحداً، ووصل ابن سعيد هذه الرسالة بذيل أودعه مؤلفات زائدة على ما أورده ابن حزم، ولم يأت لهم بمؤلف في علم الأصول سوى "مختصر المستصفى" لابن الوليد بن رشد. وقد وقفنا لبعض علمائهم على أسماء مؤلفات في الأصول؛ ككتاب "المحصول في علم الأصول" لأبي بكر ابن العربي، وكتاب "أحكام الفصول في علم الأصول" لأبي الوليد الباجي، وكتاب "تقريب الوصول إلى علم الأصول" لابن جزي. وبين أيدينا اليوم كتابان من أجلّ ما تجود بهما الأنظار في هذا العلم، هما: كتاب "الأحكام" لأبي محمد بن حزم، وكتاب "الموافقات" لأبي إسحاق الشاطبي. * علم الكلام: كان أهل الأندلس على سنة السلف، حتى اتسع البحث في العقائد، وحدثت فيها مذاهب، فاقتدوا بأصول أبي الحسن الأشعري، وكانوا يدرسون بالطبيعة ما يؤلفه علماء الشرق؛ كأبي بكر الباقلاني، وأبي المعالي، وأبي حامد الغزالي، ولم تكن مؤلفات علماء الأندلس في هذا العلم بمقدار مؤلفاتهم في التفسير والحديث والفقه، وقد اعتذر ابن حزم عن قلة تصرفهم في هذا العلم بأن بلاد الأندلس لم تختلف فيها النِّحَل، ولم تتجاذب فيها الخصوم أطراف الجدال والمناظرة، ثم قال: فهي على كل حال غير عريَّة من هذا العلم. وجد في الأندلس طائفة كانت تذهب مذهب المعتزلة، وتنظر على أصولهم؛ مثل: خليل بن إسحاق، ويحيي بن السمينة، وموسى بن جدير،

علماء الأندلس والفلسفة

وأخوه الوزير أحمد، وكان هذا داعية إلى الاعتزال لا يستتر بذلك، إلا أنهم كانوا فئة قليلة لم يبلغ من شأنهم أن يجعلوا قرطبة كبغداد تعقد فيها مجالس المناظرة بين علماء الكلام على اختلاف مذاهبهم وآرائهم. ومن علماء الأندلس الذين بحثوا في الكلام بنظر مستقل: أبو محمد ابن حزم، وهذا كتابه "الفصل في الملل والنحل" ينحو فيه نحو المجتهد المطلق، فقد يخالف الإمام الأشعري وغيره من أهل السنة، ويرد تارة على المعتزلة، وينقض مرة آراء الفلاسفة. * علماء الأندلس والفلسفة: يتقبل الدين الحنيف علوم الأرض وعلوم السماء، على تباين أسمائها، واختلاف موضوعاتها، فكان علماء الأندلس ممن قدروا علوم الفلسفة، وأضافوها إلى ما عندهم من فقه أو حديث، وقد كان الأمير عبد الرحمن الأوسط يجمع بين علوم الشريعة والفلسفة، وهو أول من درس الفلسفة من أمراء الأندلس، وتظاهر بها. وكان أبو عبيدة بن أحمد - الذي يقولون: إنه أول من اشتهر بعلم الأوائل - صاحب فقه وحديث، وكان أبو الوليد بن هشام من حفاظ الحديث، ويصفه مؤرخو الأندلس بأنه كان أعلم الناس بالهندسة وآراء الحكماء. وما كان أبو بكر بن الطفيل وأبو الوليد بن رشد إلا من رجال الدين، وكان كل منهما يعمل لبيان أن الفلسفة الصادقة لا تناقض الشريعة في حال. وأما ما أصاب الفلسفة وبعض الفلاسفة من مقت أو أذى، فتبعته ترجع إلى استبداد بعض الأمراء، أو جهالة بعض السوقة، أو حماقة بعض المنتمين إلى الفلسفة؛ حيث يطيشون من بعض طرقها المظلمة إلى تخبط

اعتزاز علماء الأندلس بمقاماتهم العلمية

في القول وزندقة، ويحاولون إغواء النفوس الزاكية، وإلقاءها في تهتك وتخاذل وشقاء. الذين يستضيئون بحكمة الإسلام شأنهم أن يبحثوا ما تحتويه علوم الفلسفة، ويزنوه بقانون المنطق الصحيح، فيقرّوا ما قام الدليل على صدقه، ويطرحوا ما كان زعماً باطلاً، أو افتراضاً لا يتكئ على حجة، وفي علماء الأندلس من استضاؤوا بحكمة الإسلام، وخاضوا غمار الفلسفة على بصيرة، فكانوا المثل القيم يشهد بأن الفلسفة التي هي بنت الحجة، لا تتعاصى أن تجتمع مع مبادئ الإسلام في نفس واحدة. * اعتزاز علماء الأندلس بمقاماتهم العلمية: أخرجت معاهد العلم بالأندلس رجالاً كانوا يعتزون بمقاماتهم العلمية، فلا تستخفهم الحظوة عند رئيس أعلى، ولا تتعاظمهم الولايات، وإن كبر سلطانها، وملأت الأبهة ما بين جوانبها، ويتجلى هذا الخُلق العظيم في مظاهر كثيرة، وإليكم طائفة من أمثلتها: من هذه المظاهر: أن فريقاً منهم تقلدوا منصب القضاء في قرطبة وغيرها، فاعتصموا فيه بحبل العدل، وأقاموا المساواة على وجهها، فلا فضل لصاحب الدولة على أدنى الناس منزلة وأقلَّهم ناصراً إلا بتقوى الله. رفع رجل من كورة "جيان" على محمد بن بشير قاضي قرطبة قضية على الحكم بن هشام صاحب الأندلس، ولما استبان القاضي صحة البينة، حكم على الأمير، وآذنه بأنه إذا لم ينقد للحكم، ويذعن لإنفاذه، تخلى عن ولاية القضاء غير حريص عليها، فما وسع الأمير إلا أن يمد عنقه لقضاء محمد بن بشير مرغماً.

فسيرة ابن بشير في نحو هذه الواقعة دليل على خلق اعتزازه بالعلم، وأنه لم يتقبل الولاية إلا ليظهر حقاً، أو يصرع باطلاً. ورفعت إلى محمد بن بشير هذا قضية كان أحد الخصمين فيها سعيد ابن عبد الرحمن الداخل عمّ الحكم، واستشهد سعيد بن عبد الرحمن في القضية بالحكم نفسه، وكان يحسب شهادة أمير البلاد ضربة لازب، وأنها لا تقع في مجلس القاضي إلا موقع الحجة القاطعة للنزاع، فلما نظر ابن بشير في الشهادة، قال لوكيل سعيد بن عبد الرحمن: "هذه شهادة لا تعمل عندي، فجئني بشاهد عدل"، فبهت الوكيل دهشة، وأنهى سعيد الأمر إلى الحكم، وأخذ يغريه بالقاضي، ويحرضه على الإيقاع به، فقال له الحكم: القاضي رجل صالح لا تأخذه في الله لومة لائم، ولست أعارضه فيما احتاط به لنفسه، ولا أخون المسلمين في قبضة يد مثله، ولما خوطب ابن بشير في رد شهادة الحكم، قال: إنه لا بد في الشهادة من الأعذار، ومن الذي يجترئ على الطعن في شهادة أمير المؤمنين لو قبلتها، وإذا لم أعذر، كنت بخست المشهود عليه حقاً. ولمنذر بن سعيد البلوطي في هذا الشأن وقائع يرفع بها العدل رأسه عزيزاً متعاظماً. ومن هذه الوقائع: أن الخليفة عبد الرحمن الناصر دعته الحاجة إلى شراء دار، ووقع اختياره على دار يملكها بعض الأيتام، فأرسل إليها مقوماً، وأرسل من يخاطب ولي الأيتام في بيعها، فذكر له الولي أن بيع الأصول موقوف على رأي القاضي ومشورته، فأرسل الخليفة إلى القاضي منذر بن سعيد ليأذن ببيع الدار، فأجابه منذر بأن ليس للأيتام حاجة إلى بيع هذه الدار، فإن بذلت لهم من الثمن ما تستبين به الغبطة، أذنت الولي ببيعها منك، فسكت

الناصر حيناً، وخشي منذر أن تنبعث منه ثورة يهتضم بها حق الأيتام، فأمر بنقض بناء الدار، وباع أنقاضها، فكانت قيمة الأنقاض فوق ما قومت به للخليفة من قبل، فاتصل الخبر بالناصر، فسأل القاضي عما صنع، فقال له: نعم، وأخذت فيما صنعت بقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]. فصبر الناصر وقال: نحن أول من ينقاد إلى الحق، فجازاك الله تعالى عنا وعن أمانتك خيراً. إن سيرة أمثال محمد بن بشير، ومنذر بن سعيد تنبه الناس إلى أن علوم الإسلام ترفع همة الراسخ في فهمها، وتطبع في نفسه عزة وتقوى يجعلان القضاء في حرية فوق الحرية التي تسنها هذه القوانين الوضعية. ومن مظاهر اعتزازهم بالعلم: أن كثيراً منهم كانوا يزهدون في المناصب، ولا يقيمون لها - وإن عظم سلطانها - وزناً. فهذا أبو محمد بن حزم كان وزيراً لعبد الرحمن بن هشام الأموي، فرأى أن مقام العلم فوق كل مقام، فخلع طوق الوزارة من عنقه اختياراً، وأقبل على البحث والتأليف، فقدم عملاً صالحاً، وأبقى أثراً في العلم نافعاً. وهذا زياد بن عبد الرحمن أحد أصحاب مالك الذين دخلوا بمذهبه بلاد الأندلس، أراده الأمير هشام بن عبد الرحمن على قضاء قرطبة بإلحاف، فأبى قبول هذا المنصب بتصميم، ومما اتخذه وسيلة للتخلص من الولاية: أن قال للوزراء الذين خاطبوه في شأنها، وأبلغوه عزم هشام على توليته إياها: أما إن أكرهتموني على القضاء، فاعلموا أنه إن أتاني مدعٍ في شيء بأيديكم، لا يكون إلا أن أخرجه منكم، ثم أجعلكم مدعين فيه حتى تقيموا عليه البينة. فلما سمعوا منه هذه العزيمة، تيقنوا أنه سيفعل ما يقول، فسعوا

نظر علماء الأندلس في أحوال الأمة، وغيرتهم على مصالحها

لدى هشام في معافاته وصرفِ الولاية إلى غيره. * نظر علماء الأندلس في أحوال الأمة، وغيرتهم على مصالحها: نرى في علماء الأندلس من لا يقصرون أنظارهم على الوجهة العلمية البحتة، بل يمرون بها في كثير من الأوقات على أحوال الجماعة؛ ليعرفوا ما يطرأ عليها من خلل، وما تحتاج إليه من إصلاح. ينبئنا التاريخ: أن كبار العلم في القرى المجاورة لقرطبة يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة في قرطبة، ويطالعونه بأحوال بلدهم. وينبئنا التاريخ: بأن في علماء الأندلس طائفة لا يغضون أبصارهم عما يصنع ولاة الأمور، ثم لا يكتمون النصيحة إذا أبصروا عوجاً في السياسة، أو حيفاً في الحكومة، أو تبذيراً في الإنفاق. عاد أبو الوليد الباجي من الشرق، فوجد ملوك الطوائف بالأندلس أحزاباً متفرقة، فأدرك سوء عاقبة هذا التفرق، ودفعته الغيرة أن قام يسعى بينهم بالصلح، ولكنه نفخ في عظام ناخرة، فكان كلما وفد على ملك منهم، لقيه بالتقريب والترحيب، وهو في الباطن يستجهل نزعته، ويستقل طلعته. فلم يبلغ أن يعقد بين أولئك الأحزاب وفاقاً. ومواقف منذر بن سعيد البلوطي في وجه عبد الرحمن الناصر منكِراً عليه الإسرافَ في تشييد المباني، والغلو في زخرفتها، مبسوطة في كتب التاريخ، دائرة على ألسنة الأدباء. والعلماء الذين ينفقون شيئاً من أوقاتهم في البحث عن أحوال الاجتماع، ومقتضيات السياسة، يتوقفون أكثر من غيرهم على أن يصوغوا فتاويهم على قدر المصالح المعتد بها في نظر الشريعة.

لما أراد سلطان المغرب الأقصى يوسف بن تاشفين إنقاذ الأندلس من مخالب أعدائها المتحفزين للوثوب عليها، استفتى أهل العلم في أخذ معونة من الأمة يستعين بها على دفاع أولئك المتحفزين، فأحجم بعض الفقهاء من غير أهل الأندلس أن يفتيه بجواز ذلك، ولكن قضاة الأندلس وفقهاءها، ومنهم أبو الوليد الباجي، كانوا يحسون العدو على مقربة من ديارهم، ويذوقون مرارة وضعه الضرائب على أمرائهم، وينظرون إلى عاقبة استيلائه على أوطانهم كأنهم يرونها رأي العين، فأفتوه بأخذ المعونة من الأمة زيادة على ما هو المفروض عليها من نحو مقادير الزكاة. وفي علماء الأندلس رجال كانوا يعملون لحماية البلاد بأنفسهم، ولم يودعوا هذه الحياة إلا وهم مرابطون في الثغور، أو تحت ظلال السيوف. كان محمد بن عبد الله الليثي قاضي قرطبة يخرج إلى الثغور، ويباشر إصلاح ما اختل منها، حتى وافاه الموت وهو في بعض الحصون المجاورة لطليطلة. وكان القاضي سليمان بن موسى الكلاعي من أولي البسالة والإقدام، يشهد مواقع القتال بنفسه إلى أن توفي في إحدى الغزوات شهيداً في سبيل الله. ولكثر ما نجد في تراجم علماء الأندلس: أن زيداً استشهد في غزوة كذا، وعمراً مات منصرفاً من غزوة كذا، وبكراً توفي في ثغر كذا، إلى من لا يحصيهم القلم حساباً. هذه صحيفة من تاريخ علماء الأندلس تلوناها كالتذكرة لشبابنا الناهضين، وعسى هذه المعاهد والمدارس الإسلامية أن تخرج لنا رجالاً يبهرون الناس علماً وجلالة، ويذودون عن الشريعة نفراً يتهافتون على إطفاء نورها، والسلام على العلماء المصلحين المجاهدين ورحمة الله.

السعادة عند بعض علماء الإسلام

السعادة عند بَعضِ عُلماء الإسلام (¬1) إذا تناولت في صدر كلمتي بعض آراء فلسفية قديمة، فلأنبّه على صلة الفلسفة العربية بالفلسفة اليونانية، ولنرى فلاسفة العرب كيف أخذوا في شرح السعادة بالتي هي أقوم وأهدى. * الآراء الفلسفية اليونانية: من يقاسي شدائد الفاقة والبؤس، يرى السعادة في الغنى، ومن تتقلب به الأوجاع يميناً وشمالاً، أو يفقد أحد أعضائه، يرى السعادة في صحة البدن، وسلامة الأعضاء، والمستضعف الذي تسلب حقوقه علانية، ولا يستطيع خلاصها، يرى السعادة أن يكون للإنسان سلطان، أو جاه عند ذي سلطان، ومن أشرب في قلبه الفسوق والخلاعة، يرى السعادة أن تحف به الشهوات من كل جانب، فيطلق فيها عنانه كيف يشاء، ومن وجد منفعته الخاصة في يد المستبد الغاشم، رأى السعادة في أن يبقى سلطان ذلك المستبد ويقوى. هذه خواطر عامية لا تبلغ أن تسمى مذاهب في السعادة أوآراء، وإنما نحدثكم في هذا المقام عن المذاهب التي يقررها أصحابها بعد النظر والبحث. وسواء بعد هذا أوصلوا إلى حقيقة، أم وقعوا في خطأ وضلال؟!. ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام في نادي جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، في صفر سنة 1347 هـ. وقد نشرت في رسالة صغيرة عام 1348 هـ بالقاهرة.

والفرق بين الآراء العامية والآراء الفلسفية: أن الآراء العامية تنشأ عن إحساس خاص في أحوال خاصة، فالرجل الذي يبدو له أن السعادة في الغنى، أو في صحة البدن- مثلاً - إنما حدث له هذا الرأي من ألم الفقر، أو شدة المرض، ومن الجائز أن ينتقل إلى يسار أو صحة، فيتغير رأيه في السعادة، ويذهب في تصورها إلى شيء آخر أصبح يحس بشدة حاجته إليه؛ كصلاح حال الولد، أو الزوجة، أو الأصدقاء. أما المذاهب الفلسفية، فإنما تتكئ على النظر والاستدلال، فالذي يقول: إن السعادة في اللذة الحسية، لو صدرت منه هذه المقالة وهو يرتع في الشهوات، ولم يذكر في الاستدلال عليها وجهاً يستوقف النظر، لقلنا: هذه المقالة وليدة الخلاعة، ولما صحّ لنا أن نضعها بجانب الآراء الفلسفية، ولكنها مقالة صدرت من طائفة أوردوا في الاستدلال عليها ما شأنه أن يعلق بكثير من النفوس البائسة، فكان من حقها أن تدخل في قبيل الفلسفة، ولو بوجه كاسف كئيب، وكان من حقنا أن نتعرض لها بالنقد، ونميطها عن الأذهان كما يماط الأذى عن الطريق. فـ (أويدوكس) الفيلسوف اليوناني يعزو إليه أرسطو في كتاب "الأخلاق" ارتياء أن اللذة هي الخير الأعلى، ويذهب في الاستدلال على هذا إلى أنه يرى جميع الكائنات ترغب في اللذة، وتسعى لها، سواء كانت هذه الكائنات عاقلة، أم غير عاقلة، وما كان محط الرغبة من جميع الكائنات يجب أن يكون هو الخير الأعلى. فهذا الاستدلال من (أويدوكس) يكفي لأن يعدّ رأيه في اللذة مذهباً فلسفياً. ولنا بعد هذا أن ننقده، ونستبين ما يحمله من غلط وفساد.

تصدى (أرسطو) لنقض هذا المذهب في بحث اللذة من كتاب "الأخلاق"، ومن ذا يقبل أن تكون اللذة الحسية الخير الأعلى في هذه الحياة، إلا من يريد أن يفرق بين حياة الإنسان وحياة غيره من الحيوان؟ والفرق بين الحياتين قررته الشرائع، وآمنت به الفلسفة، وإذا كنا على يقين من أن الرغبة قد تتوجه إلى الأشياء التي لا يختلف العقلاء في أنها شر، كان من الخطأ أن نجعل توجهها إلى اللذة دليلاً على أنها الخير الأعلى في هذه الحياة. ويقابل مذهب القائلين: إن السعادة في اللذة، مذهب فريق من اليونان أيضاً، يزدرون اللذة أيما ازدراء، ويرون السعادة كلها في قوى النفس التي هي: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة، وقالوا: إن هذه الفضائل كافية في تحقيق السعادة، ولا يحتاج معها إلى ما هو خارج عن النفس من نحو الصحة والثروة والرياسة، ومن أصحاب هذا المذهب: بقراط، وأفلاطون، وفيثاغورس، وسقراط، فالفضيلة والسعادة في رأي هؤلاء مترادفتان، توجد إحداهما أينما وجدت الأخرى. وذهب آخرون في فهم السعادة إلى وجهة ثالثة، فلم يجعلوها اللذة، ولم يقصروها على الفضائل النفسية، بل نظروا إلى الإنسان مركباً من نفس وبدن، فقالوا: إن سعادة النفس لا تكون كاملة حتى تقترن بسعادة البدن؛ كالصحة وسلامة الأعضاء، وبالخيرات الخارجة عن البدن؛ كالثروة والرياسة. وقد نحا (أرسطو) في كتاب "الأخلاق" هذا النحو، فصرح بأن السعادة هي الخير الأعلى، ولم يجعلها - مع هذا - مقصورة على كمال النفس، بل جعلها الفضائل النفسية الركن الأعلى للسعادة، وأضاف إليها أشياء أخرى جعلها من متمماتها؛ كصحة البدن، وسعة الرزق، والنفوذ السياسي، وشرف

المنبت، ووسامة المحيا، وحسن السمعة، وأطال حساب هذه المتممات حتى قال: "وربما لا يستطاع القول على إنسان: إنه سعيد، إذا كان له أولاد أو أصدقاء ذوو أخلاق سيئة، أو إذا فقد من كان له من أولاد أو أصدقاء". وبعد هذه الآراء الثلاثة: رأي الارتيابيين الذين يجعلون السعادة في الخلو من الألم، ويقولون: من يبغي السعادة، يسعى إلى أن يكون هادئ البال، مرتاح الضمير، وهذه الراحة تتحقق- فيما يزعمون- حيث يقف الرجل بين اليقينيين والسفسطائيين، فلا يقطع في الأحكام بإثبات مثلما يفعل اليقينيون، ولا يقطع فيها بنفي مثلما يفعل السفسطائيون، فالذي لا يعتمد في حكمه على سلب أو إيجاب، هو البالغ منتهى السعادة. لم يذهب أحد من فلاسفة العرب أو الإسلام - فيما أعلم - على أن السعادة في اللذة المحسوسة، وليس من المعقول أن يدرس القرآن دارس، ثم ينحط إلى هذا المذهب السخيف، بل يذهب فريق منهم؛ كفخر الدين الرازي إلى نفي أن يكون هناك لذة غير الحكمة، وقالوا: لا لذة إلا في المعارف، وما يسميه الناس لذة حسية؛ كالمأكل والمشرب إنما هو دفع ألم الجوع والعطش، وما يسمونه لذة خيالية؛ كالرياسة إنما هو دفع ألم القهر والغلبة. ومن البديهي أن لا يكون في فلاسفة الإسلام من يذهب إلى أن السعادة في الخلو من الألم، على النحو الذي يصوره الارتيابيون، وإنما تدور آراؤهم في السعادة حول الفضائل النفسية وحدها، أو هذه الفضائل مضافة إليها الخيرات البدنية والخارجية، ونخص بالبحث في هذه الكلمة برأي أبي نصر الفارابي، ورأي أحمد بن مسكويه؛ فإنهما قد خاضا في هذا الموضوع

رأي أبي نصر الفارابي

على طريقة واسعة. * رأي أبي نصر الفارابي: يذهب أبو نصر الفارابي إلى أن السعادة هي غاية ما يتشوقه كل إنسان، وأنها أكمل ما يؤثر ويسعى إليها من الخيرات، وذكر في تفصيل هذا: أن الخيرات التي يؤثرها الناس، ويتوجهون إليها برغباتهم ومساعيهم ثلاثة أنواع: أولها: ما يؤثر لتنال به غاية أخرى؛ كالثروة؛ فإنه يرغب فيها ليتوسل بها إلى مآرب إما محمودة؛ كالإنفاق في وجوه البر، أو غير محمودة؛ كإغراق النفس في ملاذها وشهواتها الطاغية. ثانيها: ما شأنه أن يؤثر لذاته، وقد يقصد منه غاية أخرى، ومثال هذا: الرياسة؛ فإنها مرغوب فيها لذاتها "يا حبذا الإمارة ولو على الإجارة"، وقد يسعى إليها من يبتغيها وسيلة إلى غرض بعدها؛ كجمع مال جم، أو الانتقام من عدو. وهذان النوعان ليسا من السعادة، ولا السعادة منهما. ثالثها: ما شأنه أن يؤثر لذاته، ولا يقصد في وقت من الأوقات لتنال به غاية أخرى، وما هو إلا الخلق الجميل، وقوة الذهن، ثم قال: "وهذا هو أكمل الخيرات، وهذا ما يسمى سعادة". فالخلق الجميل وقوة الذهن عند الفارابي هي المسميان بالسعادة، ولم يلتفت إلى ما زاد عليهما من الخيرات البدنية أو الخارجية، فيجعل له مدخلاً في السعادة؛ كما صنع أرسطو في كتاب "الأخلاق". ويعتمد الفارابي في اختيار هذا المذهب إلى أن سعادة الإنسان يجب أن تكون في مزاياه التي تكسبه الجودة والكمال في أفعاله، والخلق الجميل

رأي ابن مسكويه

وجودة التمييز هما اللذان يكسبان أفعالنا جودة وكمالاً. فأبو نصر الفارابي يوافق أرسطو في أن الخير الأعلى هو السعادة، غير أن الفارابي يجعل الفضائل النفسية والسعادة شيئاً واحداً، فلا حرج عليه في أن يقصر الخير الأعلى على السعادة، وأما أرسطو، فإنه يذهب إلى أن الفضائل النفسية هي الركن الأعظم في تقويم حقيقة السعادة، ويجمعل من متمماتها: الخيرات البدنية والخارجية، وإذا كانت السعادة تتناول الثروة، وصحة البدن، والجمال، فليس من الصواب أن تكون الخير الأعلى؛ إذ مقتضاه: أن من بلغ في الحكمة والخلق الجميل غايتهما، فإنه أن يكون جميل الوجه، أو واسع الرزق، أو صحيح البدن، يعد محروماً من الخير الأعلى؛ لأنه لم يستوف وسائل السعادة، وهذا ما لا تقبله العقول التي قدرت الحكمة والفضيلة النفسية قدرهما: إذا كان الفتى ضخم المعالي ... فليس يضرّه الجسم النحيل * رأي ابن مسكويه: يقول ابن مسكويه في مؤلف له في السعادة: إن الغايات التي يتوجه إليها الناس ترجع إلى قسمين: أولهما: ما يشترك فيه الناس والحيوان؛ كالمأكل والمشرب ونحوهما مما يسميه الناس لذيذاً، وهذا مما يظنه أكثر الناس سعادة، وليس الأمر كما يظنون، فإن ما كان مشتركاً بيننا وبين البهائم ليس من شأنه أن يكون كمالاً لنا من حيث إن أنّا أناس، فلا يدخل في باب سعادتنا. ثمانيهما: ما يختص به الإنسان، ولا يشاركه فيه غيره من الحيوان، وهو الأفعال الفاضلة، والخلق الجميل، وقوة الذهن، ولهذه الأمور الثلاثة

تتحقق السعادة. هذا رأي ابن مسكويه في كتاب "السعادة"، وهو في أصله لا يختلف عن مذهب الفارابي في أن مصدر السعادة الفضائل النفسية، وإذا ذكر ابن مسكويه الأعمال الفاضلة، فهي مقصودة للفارابي وغيره ممن يجعلون السعادة في كمال النفس، وانظروا إلى قول الفارابي: "والخلق الجميل، وجودة التمييز هما اللذان يكسبان أفعالنا جودة وكمالاً". والسعادة عند أبي نصر الفارابي وعند ابن مسكويه مما يدخل في استطاعة الإنسان، أما الأعمال الفاضلة، فإنها تصدر عن الخلق الجميل، وقوة الذهن، وأما الخلق الجميل، فيكتسب بمزاولة علم الأخلاق؛ فإنه يبين فيه الفضائل، والسبيل إلى اقتنائها، والرذائل، والسبيل إلى توقيها، وأما قوة الذهن وجودة التمييز، فتكتسب بدراسة علم المنطق، وهو صناعة إذا أتقنها الإنسان، جاد تمييزه، وعرف مراتب الإقناع وتقرير الآراء على ما ينبغي. ويقرر ابن مسكويه أن للسعادة معنى خاصاً، وهو ما يختص به كل صاحب علم أو صناعة، فسعادة الطبيب في معرفة العلل ومعالجتها بالأدواء النافعة، وسعادة المحامي في تمييز الحقوق والدفاع عنها بحزم وأمانة، وسعادة الصحفي في تحريه الصدق فيما ينشر، وأخذه بالإخلاص فيما يكتب، وسعادة القاضي في فصل القضايا على وجه العدل والإنصاف، وسعادة العضو في مجلس النواب أن يسلك سبيل المصلحة العامة، قاطعاً النظر عن المنافع الشخصية أو الحزبية، وهكذا الشأن في كل صاحب علم أو صناعة، فإن سعادته على قدر إتقانه للعلم أو الصناعة، وإتيانه بالعمل على وجهه الصحيح. ولابن مسكويه في كتاب "الأخلاق" رأي يميل به إلى مذهب أرسطو،

فإنه - بعد أن ذكر آراء الفلاسفة في السعادة - قصد إلى بيان ما يختاره في حقيقتها، فقال: "إن الإنسان ذو فضيلة روحية، وفضيلة جسمية، ومادام الإنسان إنساناً لا تتم له السعادة إلا بتحصيل الفضيلتين كلتيهما، ولا تحصل له الفضيلتان على التمام إلا بالأشياء النافعة في الوصول إلى الحكمة الأبدية". ويريد بالأشياء النافعة: أمثال الرياسة والثروة، وإلى نفع الثروة في الوصول إلى الحكمة يشير الطغرائي بقوله: أريد بسطة مال أستعين بها ... على أداء حقوق للعلا قِبَلي وإذا قصرنا الخير الأعلى على كمال النفس الذي يحتوي معرفة الله، والأعمال الفاضلة، فلا بأس في أن تكون السعادة في هذا الكمال، ثم في الخيرات التي هي بمنزلة الوسائل إلى ما هو الخير الأعلى، ولا بأس في أن يكون الناس في السعادة على مراتب متفاوتة، أو أن يكون الإنسان وافي الحظ في السعادة في حال، قليل الحظ منها في حال، فيستقيم لنا إذاً أن نقول: السعادة حالة الإنسان الموافقة لإرادته وآماله المنبعثة في حدود الفضيلة. * * *

التصوف قي القديم والحديث

التصوف قي القديم والحديث (¬1) كنا أساتذة العالم علماً وسياسة وأدباً، قلمنا يكتب فيطاع، وحسامنا ينتضى فيهاب، ورايتنا تخفق فيجري من تحتها عدل وسلام، أخذتنا بعد تلك اليقظة غفوة، وبعد تلك العظمة خمول، فلم ننتبه إلا والدهر يضربنا بسوط من عذاب الهون، ويبسط علينا أيدياً كالحجارة أو أشد قسوة. لا نيأس من أن نعود كما ولدتنا أمهاتنا أحراراً، ولا نيأس من أن نبني كما بنى أسلافنا مجداً وسيادة، فليست هذه الغاية ببعيدة المنال، وما بيننا وبينها إلا أن نحسن العمل، وإن رحمة الله قريبة من المحسنين. نحن في وقعة نريد أن ننهض من كبوتها، نحن في تباطؤ نريد أن نتبدل به حزماً ونشاطاً، نحن في تقاطع نريد أن نضع مكانه اتحاداً، نحن في لهو نريد أن نستعيض به جِدّاً، نحن في بلاء نريد أن نخرج منه إلى سعادة، نحن في نار حامية نريد أن نطفئها، ونعيش في جنّة من الكرامة عالية. فحقيق علينا أن نقلب أنظارنا في كل ناحية من نواحي حياتنا، وأن نتدبر في كل شأن من شؤوننا، حتى إذا رأينا خللاً، أصلحناه، أو رأينا عوجاً، ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام في نادي جمعية مكارم الأخلاق يوم الجمعة 28 شعبان عام 1347 هـ، ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الأول.

نشأة التصوف

قوّمناه، لا نبتغي بذلك الإصلاح والتقويم إلا أن نكون خير أمة تمثل الشهامة والحكمة والكمال. وعلى هذا القصد أتقدم إلى حضراتكم بكلمة أبحث فيها عن التصوف؛ فإن الطرق المنتمية إلى الصوفية باسطة أجنحتها في الشرق والغرب، وأملنا معقود بأن نرى رجالها يقتدون بسيرة الصدر الأول من الصحابة والتابعين، ذلك العهد الذي ظهر فيه الإسلام بحقائقه النقية، وأصوله المحكمة، والعهد الذي ظهرت به أمة الإسلام في أسنى مظهر من العزة والرحمة والسلطان الكريم. * نشأة التصوف: إن الإسلام دين ينظم شؤون هذه الحياة؛ كما يرشد إلى سبيل السعادة في تلك الحياة، وهو الدين الذي عني بتصفية النفوس من طبائعها الرديئة، وتخليصها من شهواتها الطاغية، ثم عطف على الأجسام، فخلّى سبيلها لأن تتمتع من نعيم هذه الحياة وزهرتها إلا أن تطغى، فبقدر ما يدرك الإنسان من صفاء النفس، وسلامة الضمير، وبقدر ما يكون له من السلطان على شهواته، فلا تتعدى حدود الاعتدال، يصعد في مراقي الفلاح، ويدنو من مقام الكرامة والوجاهة عند الله. يقول الفيلسوف الأندلسي أبو بكر بن الطفيل: يا باكياً فرقة الأحباب عن شحطٍ ... هلاً بكيت فراقَ الروح للبدنِ نور تردد في طين إلى أجل ... فانحاز علواً وخلّى الطين للكفنِ يا شدّ ما افترقا من بعد ما اجتمعا ... أظنها هدنة كانت على دَخَنِ (¬1) إن لم يكن في رضا الله اجتماعهما ... فيا لها صفقةً تمت على غبنِ ¬

_ (¬1) دَخَن: يقال: هدنة على دخن؛ أي: سكون لعلة، لا لصلح - "القاموس".

واجتماع الروح والبدن في رضا الله، هو ما يعمل له أولو الألباب من الناس، وقد رسم الإسلام للعمل في هذا السبيل خططاً، من انحرف عنها، أو تجاوز حدها، كان إلى الخسران أقرب منه إلى النجاح. روي أن فريقاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتمعوا، وقرروا فيما بينهم أن يسردوا (¬1) الصيام، ويعكفوا على العبادة، ولا يقربوا النساء والطيب، وأن يرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الأرض، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم، فنهاهم في خطبة جامعة، وأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]. كان أصحاب رسول الله يجدُّون في العمل الصالح ما استطاعوا، ويزهدون في الدنيا زهْد من لا يتناول منها إلا حلالاً طيباً، وزهْدَ من لا تلهيه تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وزهْدَ من يعاف أن تكون يده السفلى، ويد غيره العليا، وهم في هذا السبيل يتسابقون ويتفاضلون، وقد اشتهر كثير منهم بالجد في العبادة، والبلوغ في الزهد مكانة فضلى، ومن هذه الطائفة: أبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي. أما أبو ذر، فكان يعظ عمّال عثمان - رضي الله عنه - حينما يراهم يتسعون في المراكب والملابس، فيتلو عليهم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]. وكان يملأ آذانهم تقريعاً، ويدعوهم، ويشتد في دعوته إلى أن ينفقوا ما زاد على حاجتهم في سبيل الخير، وهذا أمر يطيقه الخاصة، ولا يحتمله كل إنسان، فأنهى معاوية أمره إلى عثمان، فكتب عثمان يأمر أبا ذر بالقدوم إلى ¬

_ (¬1) يسردوا: يتابعوا.

المدينة، فقدمها، واجتمع إليه الناس، فجعل يسلك بهم ما كان يسلك في الشام، فقال له عثمان: لو اعتزلت، ومعناه: أن من كان مثلك في هذه المكانة من الزهد، فحاله يقتضي أن ينفرد عن الناس، أو يخالطهم في رفق، ويخلي سبيلهم ما قضوا حقوق أموالهم، وأدوا فريضة الزكاة على وجهها، فخرج أبو ذر إلى الربذة (¬1) زاهداً ورعاً، وترك من ورائه قوماً يضاهونه، أو يقاربونه زهداً وورعاً. وأما سلمان الفارسي، فكان عطاؤه خمسة آلاف، فإذا خرج عطاؤه، تصدق به جميعاً، ولا يقتات إلا بما كسبت يده؛ تمسكاً بمثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه البخاري: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده". ويدلكم على مكانته في الزهد والتقوى: كتابه الذي بعث به من العراق إلى أبي الدرداء، وهو يومئذ القاضي بدمشق، ومما يقول فيه: "أما بعد: فقد كتبت إلي أن الله رزقك مالاً وولداً، اعلم أن الخير ليس في المال والولد، وإنما الخير أن يكثر حلمك، وينفعك علمك. وكتبت إليّ: أنك نزلت في الأرض المقدسة، اعلم أن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عمله". هكذا كانت سيرة الزهاد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا مواعظهم: أعمال مشروعة خالصة، وأقوال رشيدة واضحة. ومما حدث في عهدهم: أن أناساً لم يدركوا زمن النبوة يسمع أحدهم الآية، فيخرُّ كأنه مغشي عليه، فكان الصحابة الأكرمون لا يرضون عمن هذا شأنه، ويقابلونه بتعجب وإنكار. مرّ عبد الله بن عمر برجل ساقط، فقال: ما شأنه؟ فقالوا: إذا قرئ عليه ¬

_ (¬1) الربذة: مكان قرب المدينة.

القرآن، يصيبه هذا، فقال: إنا لنخشى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وما نسقط. وقال حصين بن عبد الرحمن: قلت لأسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند قراءة القرآن؟ قالت: كانوا كما ذكرهم الله، تدمع عيونهم، وتقشعر جلودهم، فقلت لها: هاهنا رجال إذا قرئ على أحدهم القرآن، غشي عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: جئت إلى أبي يوماً، فقال: أين كنت؟ فقلت: وجدت أقواماً ما رأيت خيراً منهم، يذكرون الله، فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله، فقعدت معهم. فقال لي: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، وعمر يتلون القرآن، ولا يصيبهم هذا، أفتراهم أخشعَ لله من أبي بكر وعمر؟ قال: فرأيت أن ذلك كذلك، فتركتهم. رحم الله أصحاب رسوله الكريم، لم يعدوا في كمال معرفة الله، أو في كمال خشيته أن يسمع الرجل القرآن، فيقع مغشياً عليه، إنهم كانوا على بصائر مشرقة، وأحلام راجحة، يعرفون كيف يتقربون إلى الله زلفى، وكيف يتدبرون آياته بسكينة وحسن سمت، تمتلئ له أعين الناظرين مهابة وإجلالاً. وفي عهد التابعين أقبلت طائفة من فضلائهم يتحدثون في أحوال النفس؛ من حيث صفاؤها، وصلتها بالخالق، وزهدها في زخرف هذه الحياة، واشتدت عنايتهم بالحديث في هذه الآداب، وكانوا يأخذون بها أنفسهم، ويرشدون إليها غيرهم، ويلقبون لذلك العهد: الزهاد، والوعاظ. ومن أشهر هذه الطائفة: الحسن البصري، وكان صاحب حديث وفقه، وبيان وعلم بالقرآن، فصحبه طوائف من الناس شتى، فمنهم من صحبه ليأخذ

عنه الحديث والأخبار، ومنهم من صحبه ليستفيد منه البلاغة والبيان وعلم القرآن، ومنهم من صحبه ليتلقى عنه الفقه والأحكام، وهو-مع هذا- يتكلم في محاسبة النفس، والمراقبة، والأخلاق، والمحبة، واليقين، والاستهتار بذكر الله، وكان يعقد للحديث في هذا السبيل مجلساً في منزله، لا يشهده إلا طائفة يتوسم فيهم الكفاية لأن يفهموا، والقوة على أن يعملوا، وكان لا يتحدث في هذا المجلس إلا في هذا الباب من العلم. قال أبو سعيد بن الأعرابى: لم يبلغنا أن أحداً ممن تكلم في هذه المذاهب (يعني: أحوال النفس)، ودعا إليها، وزاد في بيانها وترتيبها وصفات أهلها، مثل الحسن بن يسار البصري. كان هؤلاء الفضلاء يصرفون هممهم إلى تزكية النفوس من نقائصها، وإسلام القلوب إلى ربها، يشهد بهذا كلمهم الطيب، ومواعظهم الحسنة. ومن مواعظ الحسن البصري: حادثوا هذه القلوب بذكر الله؛ فإنها سريعة الدثور، واردعوا هذه النفوس؛ فإنها طلعة تنزع إلى الشر عادة. وعلى هذا الطراز يقول عامر بن قيس أحد زهاد التابعين: لقد أحببت الله حباً سهّل علي كل مصيبة، ورضّاني بكل قضية، فما أبالي مع حبي له ما أصبحت عليه، وما أمسيت. وأخذ بعض الناس في عهد التابعين ينحو نحو الغلو في الزهد، وكان الحسن البصري نفسه ممن يحارب هذا الغلو الذي لا يرتضيه الإسلام، ومما نقرؤه في تاريخ هؤلاء: أن رجلاً قال: أنا لا آكل الخبيص (¬1)؛ لأني ¬

_ (¬1) الخبيص: نوع من الحلواء معمول من التمر والسمن.

لا أقوم بشكره، فقال الحسن البصري: هذا رجل أحمق، وهل يقوم بشكر الماء البارد؟!. فزهد الحسن البصري وأمثاله من فضلاء التابعين، لا يحيد عن منهج الشريعة يميناً ولا يساراً. وتخرج في مجالس الحسن البصري وغيره طبقة عالمة زاكية، منهم: مالك بن دينار، وحبيب العجمي، وعبد الواحد بن زيد، وبقي هؤلاء الذين يلقبون الزهاد والوعاظ لا يمتازون عن جمهور الناس إلا بكثرة ما يعملون من صالح، وبشدة ما يحملون من خشية الله، والعزة به، والاعتماد عليه، وبانصراف هممهم عن التعلق بما في هذه الحياة من شهوات أو حطام. وفي خلال النصف الأول من القرن الثاني صار الزهاد والوعاظ يسمّون بالصوفية، وأول من دعي بهذا الاسم: أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة 150 هـ، وقد اختلف الناس في مأخذ هذا اللقب، فزعم بعضهم أنه مأخوذ من الصفّة؛ لشبه هؤلاء الزهاد بأهل الصفَّة، وهم جماعة من فقراء الصحابة كانوا يقيمون بمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عابدين متعففين، لا يفارقونه إلا لجهاد عدو، وهذا الوجه لا يوافق قاعدة النسب في اللغة؛ فإنها تقتضي أن يقال في النسب إلى صفّة: صُفّية، لا صوفية. وذهب ابن الجوزي وآخرون إلى أن الصوفية نسبة إلى صوفة؛ تشبيهاً لهؤلاء الزهاد بآل صوفة، وهم قوم كانوأ يخدمون الكعبة في الجاهلية، ويتنسكون. والأقرب أنهم تسموا بالصوفية لأنهم كانوا يؤثرون لبس الصوف؛ تجنباً للبس الفاخر من الثياب. أخذ الزهاد والوعاظ لقب الصوفية، وما برحت طريقتهم قائمة على

ماذا حدث في التصوف بعد عهد الصحابة والتابعين

قواعد الدين ورعاية آدابه، إلا نفراً كانوا يتشبهون بهم على جهالة، فيغرقون في الزهد، أو يَظهرون للناس بغير ما كانوا يسرون، وهم الذين يقول فيهم الإمام الشافعي: ودع الذين إذا أتوك تنسكوا ... وإذا خلوا فهم ذئاب خفاف وجعل الصوفية يتحدثون عما يرد عليهم من الخواطر، وما يجدونه من الأذواق، ويعبرون عن هذه الخواطر والأذواق بكلمات إما مألوفة، وإما غير مألوفة، حتى أصبح التصوف في القرن الثالث مذهباً ذا قواعد واصطلاحات، وزاد بما دخله من الاصطلاحات على المقدار الذي يستطيع أن يفهمه المفسّرون والمحدّثون من موارد الكتاب والسنة. * ماذا حدث في التصوف بعد عهد الصحابة والتابعين: يصف لنا التاريخ صوفية القرن الثالث، فنرى كثيراً منهم على مثال الحسن البصري، وسلمان الفارسي، منهم: أبو القاسم الجنيد الذي كان يقول: مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة. ونرى بجانبهم قوماً آخرين خلطوا التصوف بشيء من أصول الفلسفة الإشراقية، وكسوه لوناً من الزهد الفارسي، فأخذ هذا التصوف هيئة غير الهيئة التي عرف بها الزهاد والوعاظ في صدور الإسلام، وشاع يومئذ الغلو في الزهد، وراج ما توهموه في معنى التوكل من أنه نزع اليد من الأسباب جملة، ذلك التوهم الذي حاربه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأقواله وأفعاله، قبل أن يحاربه العلماء فيما حاربوا من آراء ساقطة، وأوهام قاتلة. ومما حدث في مذهب الصوفية: الأناشيد التي يسمونها: الزهديات؛ كقول بعضهم: يا غادياً في غفلة ورائحا ... إلى متى تستحسن القبائحا

وكم إلى كم لا تخاف موقفاً ... يستنطق الله به الجوارحا يا عجباً منك وأنت مبصرٌ ... كيف تجنبت الطريق الواضحا قال أبو حامد الخلفاني: قلت لأحمد بن حنبل: يا أبا عبدالله! هذه القصائد الرقائق التي في ذكر الجنة والنار، أي شيء تقول فيها؟ فقال: مثل أي شيء؟ قلت: يقولون: إذاما قال لي ربّي ... أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي ... وبالعصيان تأتيني فقال: أعد، فأعدت عليه، فقام ودخل بيته، ورد الباب، فسمعت نحييه من داخل البيت وهو يقول: إذا ما قال لي ربي ... أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي ... وبالعصيان تأتيني وليس في مثل هذه الأناشيد من بأس، فقد يكون فيها تذكرة لبعض النفوس الغافلة، وإنما تدخل في قبيل اللهو إذا كانت توضع في ألحان الغناء، حتى تكون اللذة في طيب أنغامها، لا فيما احتوته من حكمة أو موعظة. أما السماع الذي تنكره على المتصوفة، فهي الأناشيد التي تحوي من وصف الغزل ما نسمعه في شعر عمر بن أبي ربيعة، أو تحوي من وصف الخمر مثل ما نسمعه في شعر أبي نواس، وحاشا لفضلاء الصوفية أن يكونوا قد شهدوا هذا النوع من السماع، وهم يحسبون أنهم في طاعة. واتصل بالتصوف بعض بدع عملية؛ كالرقص في حال الذكر، وكاستعمال الآلات المطربة في المساجد.

قال أبو حامد الغزالي يصف المتصوفة في عصره: متصوفة أهل هذا الزمان - إلا من عصمه الله - اغتروا بالزي والمنطق والهيئة من السماع والرقص، ولم يتعبوا أنفسهم في المجاهدة والرياضة. وقال القرطبي في "تفسيره" منكراً على أدعياء الصوفية: وما الإسلام إلا كتاب الله، وسنة رسول الله، وأما القضيب، فأول من اتخذه الزنادقة، يشغلون به المسلمين عن كتاب الله، فينبغي للسلطان أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ويعينهم على باطلهم. وأمثال هؤلاء المتصوفة هم الذين أفتى الشيخ أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني بتفسيقهم، وبطلان صلاة من يقتدي بهم. وظهر من ناحية الصوفية تأويل بعض الآيات والأحاديث على وجوه توافق أذواقهم ومواجيدهم، وإذا كان الفضلاء منهم لم يبعدوا في هذا المسلك عما يحتمله اللفظ العربي، فقد تهافت عليه نفر لم يقفوا فيه عند حد، وارتكبوا من التأويل ما يتبرأ منه العقل واللغة، وتنكره الشريعة إنكاراً مغلظاً، ويكفي في عدم صحة هذا النوع من التفسير: أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أو التابعين تفسير للقراَن بما يماثله أو يدانيه. قال الإمام النسفي: النصوص تحمل على ظواهرها، والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاد. وقال ابن الصلاح: صنف السلمي حقائق التفسير، إن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير، فقد كفر. وإذا أساء قوم تأويل القرآن على جهالة، فلا ننسى أن طائفة من الزنادقة

اتخذوا هذا المسلك في التفسير ذريعة إلى قضاء بعض ما في نفوسهم؛ ليحرفوا كلم الله عن مواضعه، ومن المدبرين لهذه المكيدة: الطائفة التي يسمونها: الباطنية (¬1)، وأصل دعوتهم: "أن طائفة من المجوس راموا عند شوكة الإسلام تأويل الشرائع على وجوه تعود إلى قواعد أسلافهم، وذلك أنهم اجتمعوا، فتذاكروا ما كان عليه أسلافهم من الملك، وقالوا: لا سبيل لنا إلى دفع المسلمين بالسيف؛ لغلبتهم، واستيلائهم على الممالك، لكنا نحتال بتأويل شرائعهم إلى ما يعود إلى قواعدنا، ونستدرج الضعفاء منهم؛ فإن ذلك يوجب اختلافهم واضطراب كلمتهم" (¬2). وقبل بعض أهل العلم المعاني التي يذكرها بعض الصوفية للآية أو الحديث، ولا تسعها اللغة، وهي في نفسها صحيحة، وحملها على أنها من باب الإشارة والاعتبار، لا على أنها تفسير يدل عليه اللفظ، بوجه من وجوه دلائله المقررة في علوم العربية، وهذا ما يقوله بعض من يتكلم في الآيات بلسان التصوف، ولهذا كانوا يلقبون أصحاب الإشارات. وقد خالف هؤلاء القوم أبو بكر العربي في كتاب "العواصم من القواصم"، وأنكر أن تكون هذه المعاني مأخوذة من القرآن، ولو بطريق الإشارة؛ بحجة أن في أقوال الشريعة من الحكمة والموعظة ما لا يحتاج معه إلى مثل هذا الضرب من الإشارة والاعتبار. وبلي التصوف في أثناء القرن الثالث بنفر اتخذوه مظهر آراء لا يقبلها الإسلام في حال، فكان من المنتسبين إليه من يذهب إلى القول بوحدة الوجود، ¬

_ (¬1) سمّوا بذلك لأنهم قالوا: إن للقرآن ظاهراً وباطناً، والمراد باطنه. (¬2) المواقف وشرحها للسيد.

ويقول: ما ثمّ وجود قديم خالق، ووجود حادث مخلوق، بل وجود هذا العالم هو عين وجود الله. وحدثت لذلك العهد مقالة الحلول؛ أي: إن الله يحل في بعض مخلوقاته. ومما جرى على هذا: قول أبي الحسين الحلاّج: "ما في الجبّة إلّا الله". ومن أجل هذه المقالة أفتى الفقهاء والصوفية المستقيمون بخروجه عن الإسلام، وقتل في خلافة المقتدر سنة 301 هـ. اتخذ الزنادقة أمثال هذه الآراء الزائغة ذريعة إلى أن يفسدوا على الناس أمر دينهم، ومن أثر هذه الغواية: قول بعضهم زاعماً أن الموحّد والمشرك في العبادة سواء: وإن خرّ للأحجار في البيد عاكفٌ ... فلا تعد بالإنكار بالعصبيةِ وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار من ألف حجتي فما عبدوا غيري وما كان قصدهم ... سواي وإن لم يظهروا عقد نيتي قال السعد التفتزاني: الحلول والاتحاد مستحيلان على الله، والمخالفون في هذا منهم نصارى، ومنهم منتمون إلى الإسلام، ثم قال: ومنهم بعض المتصوفة القائلون بأن السالك إذا أمعن في السلوك، وخاض لجة الوصول، فربما يحل الله تعالى فيه كالنار في الفحم، بحيث لا يتمايز به، ويتحد بحيث لا اثنينية ولا تغاير، وصح أن يقول: هو أنا، وأنا هو، وحينئذ يرتفع الأمر والنهي. ومن أهل العلم من يحسن الظن برجال ينعتون بالصلاح، ويؤثر عنهم مقالات تنطق أو تحوم حول الحلول والاتحاد، فيذهب بها مذهب التأويل، ويخرج بها إلى وجوه تخلصها من ورطة هذه العقيدة المنكرة، ولا أطيل

الحديث عن هذه الوجوه الغامضة، والمعاني غير المألوفة، فإنكم تجدونها مبسوطة في كتب التصوف، وبعض المؤلفات في علم الكلام. وممن ذهب في مثل هذه المقالات مذهباً وسطاً: ولي الدين العراقي؛ حيث قال في كتابه "الأجوبة المرضية": "أما ابن العربي، فلا شك في اشتمال "الفصوص" المشهورة عنه على الكفر الصريح الذي لا شك فيه، وكذلك "فتوحاته المكية"، وينبغي عندي أن لا يحكم على ابن العربي في نفسه بشيء؛ فإني لست على يقين من صدور هذا الكلام منه، ولا من استمراره عليه إلى وفاته، ولكنا نحكم على هذا الكلام بأنه كفر". لبس الزنادقة لباس الزهاد والوعاظ، وحاربوا الإسلام من طريق التأويل، وحاربوه من طريق ما يسميه الصوفية: حالاً وذوقاً، وبالغوا في الاعتماد عليه حتى جعلوه من قبيل دلائل الشريعة، وهذا ما يرده ابن السبكي في قوله: "مسألة الإلهام ليس بحجة". بل طغى بهم العبث أن جعلوا دلالة الذوق فوق دلالة النصوص، وقالوا: إذا تعارض الأمر والذوق، قدمنا الذوق على الأمر، ومما يقوله بعض هؤلاء المضلّين: يا صاحبي أنت تنهاني وتأمرني ... والوجد أصدق نهّاء وأمّارِ فإن أُطعك وأعصي الوجد رحت عم ... عن اليقين إلى أوهام أخبار وبنوا على هذا الزعم: أن الصوفي يتلقى أحكاماً سماوية من غير هذه الشريعة، وقالوا: إن الصوفية أباحت لهم أشياء هي محظورة على غيرهم، وتوسّلوا بهذا إلى أنْ أدخلوا في الإسلام صوراً من الباطل غير قليلة. ويتصل بهذا الذي يصنعه الخاطئون قولهم: إن الولي إذا بلغ في القرب من الله منزلة عليا، سقطت عنه التكاليف جملة، وقالوا: إن التكليف خاص

بالعوام، ساقط عن الخواص، وتوكأ على هذه المقالة المبتدعة كئيرٌ من أولي الأهواء، يقعدون مقاعد الصوفية، ثم لا يبالون أن يضيعوا الصلاة، ويتبعوا الشهوات، على مرأى ومسمع من جماعات يعتقدون إخلاصهم، ومن الكلمات المصنوعة على هذا المنوال قول بعضهم وقد دعي إلى الصلاة: يُطالب بالأوراد من كان غافلاً ... فكيف بقلب كل أوقاته وِرْدُ وقيل لآخر من هذه الفئة: ألا تصلي؟ فقال: "وأنتم مع أورادكم، ونحن مع وارداتنا". وليس بالبعيد أن هذه المقالات الخاطئة يعزوها إلى من عرف بالصلاح بعض أعدائه؛ ليحط من قدره، ويلوث سمعته، أو يضيفها إليه بعض أولي الضلال؛ ليتلقاها العامة بقبول وتقليد، وعلى أي حال كانت، لا تجد منا إلا أن نحذرها، ونغلق باب القبول دونها، ولكن أمر من اصطنعها إلى الجزاء العادل يوم يقوم الناس لرب العالمين. ومما حدث بعد عهد السلف ما يسمونه: تسليط الهمة. قال أبو إسحاق الشاطبي: "تسليط الهمم على الأشياء حتى تنفعل، فذلك غير ثابت النقل، ولا تجد له أصلاً، بل أصل ذلك حال حِكَميّ، وتدبير فلسفي لا شرعي". والذي يوافق عقيدة الإسلام: أن يقلب الرجل الصالح وجهه إلى السماء، فيدعو على من ظلم، فيستجيب الله دعاءه إن شاء. * خلاصة البحث: وخلاصة البحث: أن التصوف نشأ طاهراً نقياً، فلبسه قوم على جهالة، وابتغاه آخرون ليقضوا به مأرباً، أولئك يحدثون فيه بدعاً، وهؤلاء يدسون

الطرق الصوفية في الوقت الحاضر

فيه أقوالاً غاوية، وقد وقف العلماء تجاه هذا كله موقف من لا تأخذه في الله لومة لائم، فكانوا يضعون أقوال الصوفية وأعمالهم على محك النظر، ويزنونها بميزان الشريعة، فيتركون المستقيمين منهم في زهدهم وانقطاعهم إلى عبادة ربهم، ويضربون بما وجدوه من ضلالات أو بدع في وجوه مبتدعيها. وإنما بقي التصوف ملوثاً بما تلوث به من بدع عملية وأخرى اعتقادية، مع مناهضة العلماء لهذه البدع، ومدافعتهم لها بالحجة، وكشفهم عما تحتها من سرائر، بقي كذلك؛ لأن أصحاب هذه البدع كانوا يبثون آراءهم بين أيدي السذج من الناس، والسذج والجهال من الناس ليسوا بقليل. ومما استمدت منه هذه البدع بقاءها: أن بعض المنتمين إلى علوم الشريعة لا يستطيعون أن يفصلوا للوقائع والأقوال أحكاماً موزونة، فكانوا يقفون أمام بدع المتصوفة أو غلطاتهم موقف الحائر في أمرها، أو الجانح إلى مسالمة أهلها. * الطرق الصوفية في الوقت الحاضر: نحن نعرف أن في زعماء هذه الطرق رجال علم وفضل، ولا ننكر ما يقوم به هؤلاء الفضلاء من إرشاد وتعليم، ومعرفتنا لهؤلاء الرجال المستقيمين، لا تمنعنا من أن نلقي على الطرق الصوفية نظرة نبتغي بها أن نكون على بينة من شؤوننا الاجتماعية، وأن تكون هذه الشؤون في نظام وصفاء، ولا سيما شأن يلبس على أنه مظهر من مظاهر الدين الحنيف، فالمسألة خطرة، وتبعة السكوت عنها غير هينة. الحقيقة أنه لا يزال في بعض هذه الطرق بقية من المحدثات التي حشرت في الإسلام على جهالة، ولا يزال كثير من أصحابها يتناقلون عبارات مدسوسة

في التصوف على سوء نية، ولبعض هذه الطرق مظاهر تزدريها العيون، وتمجها الأذواق، وقد يحسبها من لا يعرف الإسلام أن لها صلة بالعبادات المشروعة في الإسلام، بل في رؤساء هذه الطرق من يتخذه الملاحدة دريئة يرمون من ورائها سهاماً مسمومة، لا غرض لها إلا أن تقع في مقاتل الدين الحنيف، وفي رؤساء الطرق من لا يزال يتقرب إلى الظالمين حتى يكون لسانهم الذي ينطق، وسمعهم الذي يسمع، ويصرهم الذي يرى. فنحن نريد من علماء الطرق الصوفية أن ينظروا في هذه الطرق نظر من يعمل ابتغاء مرضاة الله، وينقدوا كل ما تحويه من تقاليد وآداب وأوراد، حتى إذا رأوا فيها ما لم يأذن به الله، طرحوه ناحية، وكان لهم في سيرة السلف من الصحابة والتابعين أسوة حسنة، فإذا لم ينقل عن السلف- مثلاً - أنهم احتفلوا في المساجد بالنفخ في المزامير، والنقر على الدفوف، أو أنهم ساروا في الشوارع يحملون الأعلام لغير جهاد، وإذا لم يرد عن السلف أنهم تحدثوا عن حضرة الخالق بعبارات موضوعة لعشق الحسان، ومعاقرة الخمور، علمنا أن هذا الصنيع كله إما لهو يشغل عن طاعة الله، أو باطل يصرف الوجه عن سبيل الله. وإذا لم يرد في سيرة أحد من الصحابة أو التابعين أنه كان يسمي نفسه، أو يسميه غيره باسم يدل على أنه يتصرف في الكون تصرفاً غيبياً، كان الأحرى بالرئيس لأي طريق كان، أن لا يصف نفسه، ولا يسمح لأحد من أصحابه أن يصفه بما لم يوصف به صحابي جلس بين يدي أكمل الخليفة، وقضى حياته في عبادة خالصة، وسياسة عادلة، وجهاد في سبيل الله. ندعو مشايخ الطرق الذين يؤثرون الحق على الخلق، أن يستضيئوا

بسيرة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وننادي علماء الشريعة أن ينصحوا لكل من يفعل شيئاً على أنه من الدين، وما هو من الدين، وإذا طهر الله ناشئتنا من رجس الإلحاد، وحال بينهم وبين البدع الشائنة، والآراء الهازلة، فذلك اليوم الذي تكون لنا فيه أمة ذات خلق متين، ومظهر عظيم، والأمة التي تتدرع بالأخلاق المتينة، والمظاهر الحكيمة لا بد لها من أن تحيا في عزة وكرامة، ثم لا يجد الظالمون إلى السيطرة عليها من سبيل.

الدهاء في السياسة

الدهاء في السياسة (¬1) بدا لي أن تلقى في هذا الاحتفال كلمة، ولو على وجه الذكرى، وكان على المكتب أمامي أوراق مبعثرة، فمددت إليها يدي؛ لعلي أجد ما لا يكون في إلقائه على مسامعكم الزكية من بأس، فوقعت يدي على كلمة كنت جمعتها في حال اقتضى جمعها، ورأيتها الآن غير نابية عن هذا المقام، فتفضلوا بسماعها (¬2): الدهاء: جودة الرأي التي تمكن السياسي من أن يدير نظاماً، أو يكشف عن وجه قضية بأسلوب لطيف. فغير الداهية ينبذ إلى الباطل على سواء، فتكون الحرب بينهما سجالاً، والداهية ينصب له المكيدة، فيقع كما يقع الأسد في الزبية العميقة، ومن لم يكن داهية، لا يمشي إلى الغرض إلا على ¬

_ (¬1) محاضرة ألقيت في نادي جمعية الهداية الإسلامية، ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية"- الجزء السادس من المجلد الخامس. (¬2) افتتح الإمام محاضرته قائلاً: أيها السادة! كان في الحسبان أن يقوم بمحاضرة هذه الليلة فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحيم ماسونتين مندوب جمعية التقدم الإسلامية الصينية، ووكيل مدرسة المعلمين الإسلامية في "بكين"-كما نشر في الصحف-، ولكن الأستاذ طرأ له عذر، فلم يتمكن من الحضور، وقد أرسل هذه الساعة معتذراً، ولم أستحسن أن ينعقد هذا الاحتفال العظيم، ثم يفترق على غير بحث علمي، أو تواصٍ بالحق.

خط مستقيم، فإذا اعترضته عقبة كؤود، وقف في حيرة، أو رجع على عقبه يائساً، والداهية يسير في خط منحن، أو منكسر، ولا يبالي بطول المسافة في جانب الثقة بإدراك الغاية المطلوبة. يقوم الدهاء على فطرة الذكاء التي هي سرعة تصور المعاني الغامضة، وسهولة نفوذ الفكر إلى المقاصد الخفية، والإفراط فيه - الذي يعد عيباً في صاحب السياسة - إنما هو اختطاف صورة الأمر أو النتيجة من غير تثبيت في مأخذها، أو إحاطة بكنهها؛ إذ الشأن فيمن تضرب أشعة فكره في المعاني البعيدة أول ما يلتفت إليها لا يطيل البحث عن أسرارها، أو يستوفي النظر إلى آثارها. فمن لم ينظر في الشؤون العامة بفكر ثاقب، ضاع من بين يديه كثير من المصالح، ووقع في شراك الخداع والمخاتلة، وكم من أمة قضى عليها بَلَهُ زعمائها أن تعيش في هاوية الذل، ونكدِ الحياة. وإنما استقام ظهر الخلافة لعهد عمر بن الخطاب؛ لأنه كان - مع سلامة ضميره، وصفاء سريرته - نافذ البصيرة في السياسة، بعيد النظر في عواقبها. قال المغيرة بن شعبة: كان عمر أفضل من أن يَخدع، وأعقل من أن يُخدع. السياسة فنون شتى، والبراعة في كل فن تكون على حسب الأخذ بمبادئه، والدربة في مسالكه، فهذا خبير بسياسة الحرب، وبصيرته في السياسة المدنية عشواء، وآخر يدير القضايا، ويجري النظامات بين الأمة في أحكم نسق، فإذا خرجت به ليخوض في صلة أمة بأخرى، ضاقت عليه مسالك الرأي، وتلجلج لسانه في لُكنة، وربما جنح إلى السلم، والحربُ أشرف عاقبة، أو أذن بحرب، والصلحُ أقرب وسيلة إلى سعادة الأمة.

فلا بد للدهاء في فن سياسي من الوقوف على شيء من سننه، إما بتقلب الإنسان في الوقائع بنفسه، ومشاهدته لها عن رؤية عين، وهي التجارب الملوّح إليها بقول أبي تمام: من لم يُقَد ويطير في خيشومه ... رهجُ الخميس فلن يقود خميسا أو بتلقيها على طريق النقل؛ كدراسة فن التاريخ، أو الكتب المؤلفة في ذلك الفن من السياسة خاصة. ولا يملك مزية الدهاء في السياسة، إلا من كان في استطاعته كتم تأثراته النفسية من غضب وسرور، ومودة وبغضاء، ولهذا يقول الأدباء: إنّ أحكم بيت قالته العرب: ولربما ابتسم الكريم من الأذى ... وفؤاده من حرِّه يتأوه فأناة الرئيس ورصانته هي المنبع الذي تسقى منه الأمة حرية الفكر، والسلَّم الذي تعرج منه إلى الأفق الأعلى من الأمن والسعادة. تسمح الحكومات الحرة للكتّاب والخطباء أن يكشفوا عما في ضمائرهم، ويجهروا بآرائهم، وتسير معهم على مبدأ أن الناس أحرار في آرائهم وعواطفهم، فلا يسألون عنها، أو يؤاخذون بها متى كانت مباينة لمقاصد الرئيس، أو معارضة لمذهبه في السياسة، إلا إذا وضعوا أيديهم في إجرائها، واندفعوا إلى العمل على نفاذها. تعد الحرية البالغة هذا الحد في حسنات بعض الحكومات الحاضرة، وقد أدار عليها أمراء الإسلام رحى سياستهم منذ ألف وثلاث مئة سنة، فهذا معاوية بن أبي سفيان يقول: والله! لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يشتفي به القائل بلسانه، فقد جعلت له ذلك دبر أذني،

وتحت قدمي. يتلقى الأمراء نقد سياستهم وآرائهم بصدر رحب، وكثير منهم من إذا أنس في الأمة تهيباً، كره أن ينقلب ذلك التهيب رهبة تجرُّهم إلى إيثار الخَلق على الحق، ويدعوهم إلى ما دعا إليه عمر بن الخطاب في قوله: "أيما رجل عتب علينا في خلق، فليؤذنِّي"؛ أي: فليعلمني. وكان المأمون يقول لأهل ناديه إذا جاروه في كلام: "هلا سألتموني لماذا؟ فإن العلم على المناظرة أثبت منه على المهابة". يطلق الأمراء العادلون للآراء أعنتها لتعرض عليهم في أي صبغة شاءت، ويثقون في هذا التسامح بأن أمامها أفكاراً مستقلة، وعقولاً راجحة، فتقبل منها ما كان حقيقة ناصعة، وترد الزائف على عقبه خائباً. يدور على الألسنة قول ابن خلدون في "مقدمة تاريخه": "إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك"، يلهج بهذه المقالة بعض الأعجمين رامزين إلى أن العرب لا يليق بهم أن يعيشوا كما يعيش الرجل الرشيد يتصرف في بيته، ويدير مصلحته بنفسه، وتبسط طائفة أخرى النكير على هذا الفيلسوف قائلة: كيف يصف الأمة التي شادت تلك الدولة الكبرى بالبعد عن مذاهب السياسة؟. والذي ينظر في الفصل المعقود لهذه المقالة من "المقدمة" يجد ابن خلدون يتكلم على الأمة العربية الطبيعية، حيث ذكر أن العلة في بعدهم عن إجادة السياسة: اعتيادهم على البداوة، ونفورهم من سلطة القوانين، واحتياج رئيسهم إلى الإحسان إليهم، وعدم مراغمتهم، والسياسة تقتضي أن يكون السائس وازعاً بالقهر. ثم صرح ابن خلدون في هذا الفصل نفسه، بأن هذه الأمة بعد ما طلع عليها الإسلام، وفتح أبصارها في مناهج السياسة العادلة،

سارت فيها باستقامة، فعظم ملكها، وقوي سلطانها. ويوافق ما قاله ابن خلدون من أن العربي بعد مطلع الإسلام غير العربي في عصر الجاهلية: أن سعد بن أبي وقاص أرسل نفراً منهم المغيرة بن زرارة إلى (يزدجرد)، فدارت بينه وبينهم محاورة أفصح لهم في آخرها عن تعجبه من ظهورهم في هذا المظهر العظيم، بعد أن كانوا بمكانة من الجهل، فقال له المغيرة: إن ما وصف به العرب من الجهل هو حق، إلا أنه قد كان ذلك قبل الإسلام. وبعد أن انصرفوا قال لقائده رستم: "ما كنت أرى أن في العرب مثل هؤلاء، ما أنتم بأحسن جواباً منهم". ركبت مرة القطار من "برلين" إلى إحدى قراها القريبة منها، وكان في رفقتي أستاذان من المستشرقين، فأخذا يتحاوران باللسان الألماني، ولم أكن أفقه من هذا اللسان يومئذ شيئاً، ثم أقبل علىّ أحدهم، وقال لي: أليس هكذا يقول ابن خلدون: إن العرب لا يعرفون السياسة؟ فقلت له: إنما يصف ابن خلدون العرب في حال جاهليتهم، وقبل أن يهتدوا بهدي الإسلام، ويستنيروا بحكمته، فانقطع، وعاد إلى محاورة صاحبه. ومن نظر إلى العربي في حال جاهليته، رآه مطبوعاً على خصلتين، يطوّح به الغلو فيهما إلى ما ليس وراءه غاية: إحداهما: اندفاعه للانتقام ممن هضم له حقاً، أو مسّ جانبه بأذى، وحسن السياسة يقتضي التأني، والإغضاء عن كثير من الهفوات. ثانيتهما: إطلاقه لأيدي شيعته وعشيرته، وغض الطرف عنهم إذا أخذهم الاعتزاز بجاهه، واضطهدوا حق ضعيف لا ينتمي إليه. والسياسة تنافي الإفراط في معاضدة الأشياع والأحلاف، ولا تستقيم

مع الانتصار وهم مبطلون. وقد قاومت الشريعة الإسلامية هاتين الطبيعتين، وجاهدت فيهما حق جهادها، حتى أعدت لسياسة العالم أساتذة مثل: عمر بن الخطاب الذي كان لا يراعي في إقامة الحق وكبحِ الباطل أشدَّ الناس به صلة، وأمسّهم به رحماً، ومثل معاوية بن أبي سفيان؛ فإنه كان يُرمى بالمطاعن، ويرشق بسهام الإنكار، فيسرها في نفسه، ولا تبدو عليه سورة الغيظ الذي يتخبط كثيراً من المستبدين. ومن دهاء عمر بن عبد العزيز: أنه كان يرى في كثير من الأمور مصالح للرعية، ولكن كان يسلك في إجرائها طريقة التمهل والتدريج؛ حذر أن يثقل عليهم عبؤها، فيطرحوها عن ظهورهم، ويقعوا في عاقبة سيئة. قال له ابنه عبد الملك: "مالك لا تنفذ الأمور؟ "، فقال: "لا تعجل يا بني؛ فإنني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه، وتكون فتنة". فلا يخرج السياسي عن مجرى الاستقامة حيث يرى في سيرة الأمة عوجاً يتعذر عليه تقويمه بالقوة، فيحجم عن مكافحته، ولكن يبذل حكمته في علاج ذلك المبدأ السقيم، حتى يأخذ صحته، ولو بعد أمد طويل. وقد بدأت السياسة في عهد معاوية لا تبالي أن تمر إلى الحق ولو على جسر من الباطل؛ كما قال زياد في بعض خطبه: قد علمنا أنا لا نصل إلى الحق إلا أن نخوض في الباطل خوضاً. ويقول ابن خلدون: "إن العلماء من بين البشر أبعد الناس عن السياسة ومذاهبها". وذكر في توجيه هذه المقالة: أنهم معتادون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية، والأنظار الفكرية، لا يعرفون سواها، والسياسة يحتاج صاحبها إلى

مراعاة ما في الخارج، وما يلحقها من الأحوال، ويتبعها من الآثار. وتحقيق هذا: أن العلم في نفسه لا يعوق صاحبه أن يدرك الغاية القصوى في السياسة، وإنما العلة التي تقعد بالعالم عن البراعة في تدبير الشؤون العامة إنما هي انكبابه وعكوفه على القواعد، وما يتفرع عنها من الأحكام، دون أن يضيف إليها الاطلاع على أحوال أهل العصر، ويفحص عما تقتضيه مصالحهم، وتستدعيه حاجتهم، ويغوص على الوقائع، فيتفقه في نشأتها، وما تصير إليه عاقبتها. فما قاله ابن خلدون إنما ينطبق على حال العلماء الذين أنفقوا أوقاتهم في القضايا النظرية، ولم يضربوا بسهم في معرفة أسباب العمران، وطبائع الاجتماع، وهذه الحالة هي الغالبة على أمرهم في عصر ابن خلدون، وما تقدمه بزمن طويل، ولا سيما بعد أن وقفوا دون مرتبة الاجتهاد، وتهاونوا بالشطر الأهم من وظيفتهم، وهو الدعوة إلى الإصلاح أينما كانوا. وأما الذين يقدرون وظيفتهم حق قدرها، ويقومون بما قلدهم الله من مراقبة سير الأمة، وإرشادها إلى وسائل الفلاح عن فكرة سليمة، وألمعية مهذبة، فإنهم يسبقون - بلا ريب - إلى الغاية السامية في السياسة القيمة، ولا يكون العلم عثرة تهوي بهم في البلَه والجهل بتدبير شؤون الاجتماع؛ كما يدّعي الذين يسمعون، أو يسردون مقالة ابن خلدون على غير تدبر وروية. وكان الوزير التونسي خير الدين باشا يعقد مجالس من علماء جامع الزيتونة، ويلقي على وجه الشورى ما يهمه من المسائل العامة، فيتناوبونها بالبحث والنظر، حتى إذا نطق أحدهم برأي يصيب به المفصل من القضية، اهتز ذلك الوزير ارتياحاً، وضرب يمناه على يسراه قائلاً: لا تتقدم أمة إلا بعلمائها.

الزينة والرفاهية في الإسلام

الزينة والرفاهية في الإسلام (¬1) للناس أمام زينة الحياة وملاذها نزعات، فمنهم من يركض إليهما بغير عِنان، ويملأ يده منهما بغير ميزان، ومنهم من ينصرف عنهما جملة، وينفض منهما يده، ولو انساقتا إليه على وجه النعمة، والفريق الأول عقبة في سبيل الإسلام، والفريق الثاني تارك لجانب عظيم من شكر ذي الجلال والإكرام. أما الإسلام، فقد وزن الزينة والملاذ بالقسطاس المستقيم، فوجد فيهما طيباً وخبيثاً، فأذن فيما كان طيباً، وزجر عما كان خبيثاً، وضع بينهما حدوداً، ونصب لكل منهما أعلاماً. ولما كانت النفوس المسرفة في اتباع الشهوات أكثر من النفوس المبالغة في الانصراف عنها، تجد الشارع قد وجه عنايته للزجر عن الاستكثار منها، أكثرَ من توجيه عنايته إلى إنكار الغلوّ في التجرد منها، وتعمد الإمساك عنها. وإذا نظرنا إلى الزينة والملاذ بنور الدين الحنيف، وجدناهما على ثلاثة أنواع: أحدها: زينة ولذة يأتي من ناحيتها فساد كثير أو قليل، وهذا ما نهى ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام في دار جمعية الهداية الإسلامية يوم الخميس 13 محرم من عام 1353 هـ، ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع من المجلد السادس.

عنه الشارع على وجه التحريم والكراهة، ومن المحرّم: أكل الربا، وشرب الخمر، والاتصال بالأجنبيات من غير طريق مشروع، ولبس الرجال للذهب والحرير. ومن المكروه: تناول ما فيه شبهة؛ كطعام مَن يغلب على ماله الحرام، ومن هذا القبيل: لبس الرجل ثوباً ذا لون يخالف المألوف في أثواب الرجال. ثانيها: زينة أو لذة يكون في إتيانها مصلحة، وهذا ما استحبه الشارع، وندب إليه؛ كالزواج يبتغي به الولد الصالح، أو عصمة النفس من الوقوع في محظور، وكلبس الأثواب الجديدة النظيفة في المجامع اتقاء أن تزدريه العيون، وكاتخاذ الخيل في عداد ما يتخذ لدفع عدو هاجمٍ أو متحفز، أو للمحافظة على الأمن في البلاد. ثالثها: زينة أو لذة لا تتصل بمفسدة، كما أنها لا تأتي بمصلحة؛ كاتخاذ الرجل الملابس والأطعمة الفاخرة من غير إسراف، وهذا ما أذن فيه الشارع، وفوّض فيه الأمر للشخص نفسه، إن شاء فعله، وإن شاء تركه، فلا يلام على فعله، كما لا يمدح على تركه، إلا إذا قصد من تركه غاية محمودة؛ كأن يؤثر به ذا حاجة، أو ينفق ثمنه في وجه من وجوه الخير. وقد يختلف الفقهاء في الأمر تلذه الأنفس، أو يكون مظهراً لزينة، فيلحقه بعضهم بالمكروه أو المحرّم، ويلحقه آخرون بالمأذون فيه، ومثال هذا: ما يذبحه أهل الكتاب لكنائسهم أو أعيادهم، فقد أباح طائفة من أهل العلم أكله؛ تمسكاً بعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]. ومنعه آخرون استناداً إلى ما يذبحونه لكنائسهم أو أعيادهم مما يدخل في قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173].

ويدخل في هذا السلك: اتخاذ الأواني من جواهر نفيسة غيو الذهب والفضة، فقد أفتى بعض أهل العلم بحرمته، وأفتى آخرون بإباحته، وإنما اختلفوا؛ لاختلاف أنظارهم في فهم مقصد الشارع من النهي عن استعمال الآنية من الذهب أو الفضة، فمن فهم أن علّة هذا النهي الإسراف، أو التباهي، وجد العلة متحققة في كل جوهر يساوي الذهب والفضة، أو يفضلهما في نفاستهما وقيمتهما، فأفتى بحرمة استعماله، أما المجيزون، فذهبوا إلى أن علّة تحريم استعمال آنية الذهب والفضة كون الذهب والفضة أثماناً للأشياء، واتخاذ أدوات المنزل منهما يفضي إلى قلتهما بأيدي الناس، وحبسهما عن التصرف الذي يتوقف عليه انتظام المعاملات، وهذه العلة لا توجد في غيرهما من الجواهر النفيسة، فلا حرج في اتخاذها زينة المنازل، واستعمالها فيما يستعمل من الأدوات. نهى الشارع الحكيم عن الإفراط في تعاطي الزينات والملاذ، ووضع للخروج فيهما عن حدود العدل عقوبات محدودة، أو موكولة لاجتهاد القاضي، واتخذ لحماية النفوس من أن تتعبدها الشهوات وسائل بالغة. ومن هذه الوسائل: فريضة الصيام؛ فإن حبس النفس عن بعض ما تلذه من نحو المطعومات شهراً كاملاً في السنة يكسبها قوة على ترك الملاذ متى شعرت بما ينتج عنها من عاقبة سيئة، وكذلك فرضت الزكاة لِحِكَم منها: تربية أصحاب الأموال على أدب العطف والرحمة، وأخذهم إلى إيثار الفضيلة على الشهوة، وما المفطر في نهار رمضان، أو مانع الزكاة إلا رجل يحمل بين جنبيه نفساً غارقة في حب الشهوات، لا تسمع منادياً، فأنّى لها أن تجيب واعظاً؟.

ومن يطلق يده بالإنفاق في الزينة وما تلذه نفسه، وكان يتجاوز بالإنفاق عادة أمثاله، يقلّ نصيبه من البذل في وجوه الخير، ذلك أن القلوب المبتلاة بحب الزينة واللذات الجسيمة، لا تقف فيها عند حد، وكلما أدركت منزلة، تشوقت إلى ما فوقها، قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام البخاري: "وإن هذا المال حلوة، من أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو، وإن أخذه بغير حقه، كان الذي يأكل ولا يشبع". وهذه القلوب المريضة تتسابق إلى الشهوات، وتتباهى بما تناله منها؛ كما تتباهى النفوس الزكية بما تحظى به من خير وكمال، قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام البخاري: "فو الله! ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا؛ كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم". ومن تملكه حب الزينة والملاذ الجسمية، لم يبال أن يأتيها، ولو من طريق يحط من كرامته، ويذهب ببعض عزّته، فالحرص على زهرة الحياة يبسط يد القاضي لتناول الرشوة، ويجعل في أذنه وقراً، فلا يسمع صوت الحق، وهو ينذره المنقلب الذي ينقلب إليه آكلو أموال الناس بالباطل، والحاكمون بغير ما أنزل الله. والحرص على زهرة الحياة قد يلجم العالم عن قول الحق، أو يطلق لسانه بغير الحق، يخاف أن ينقطع عن رفاهية أصبح يتقلب فيها، أو تفوته رفاهية بات يترقبها، قال ابن خزيمة: كنت عند الأمير إسماعيل بن أحمد، فحدّث عن أبيه بحديث غلط في إسناده، فرددته عليه، فلما خرجت من عنده، قال لي فلان القاضي: قد كنا نعرف أن هذا الحديث خطأ منذ عشرين سنة،

الغلو في ترك الزينة والطيب من الرزق

فلم يقدر أحد منا أن يرده عليه، فقلت له: لا يحل لي أن أسمع حديثاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه خطأ أو تحريف فلا أرده. فلعل قلب ذلك القاضي كان متعلقاً بزخرف الحياة حتى أصبح يؤثره على قول الحق، أما ابن خزيمة، فليس لزخرف الحياة وأبهة الإمارة في جانب قول الحق عنده من قيمة. وإذا كان الموسر الذي يسرف في الزيية والملاذ موضع الملامة، فأولى باللوم والموعظة ذلك الذي يتكلف للملابس النفيسة، أو المطاعم الفاخرة، ويأتيها من طريق الاقتراض؛ فإن الهم والذل اللذين يجرهما الدَّين يقلبان كل صفو إلى كدر، وكلَّ لذة إلى مرارة، وقد أصاب الرمية ذلك الشاعر يقول: إذا رمتَ أن تستقرض المالَ من أخٍ ... تعوَّدتَ منه اليسر في زمن العُسرِ فسلْ نفسك الإنفاق من كيس صبرها ... عليك وإنظاراً إلى ساعة اليسر فإن أسعفت كنت الغنيَّ وإن أبتْ ... فكلُّ منوعٍ بعدها واسع العذر وإنما رجل الدنيا وواحدها من تكون همته وإرادته فوق عواطفه وشهواته، فإذا نزعت نفسه إلى زينة أو لذة لا ينالها إلا أن يبذل شيئاً من كرامته، راضها بالحكمة، وأراها أن مثقال ذرَّة من الكرامة يرجح بالقناطير المقنطرة من زينة هذه الحياة وملاذها. * الغلو في ترك الزينة والطيب من الرزق: ومما جاء في كراهة المبالغة في الامتناع من الزينة والطيب من الرزق: قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا

إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]. ففي هاتين الآيتين نهي عن الإفراط في ترك الزينة والطيب من الرزق، لتركها زهداً في الدنيا، وفيهما بيان أن ذلك الترك في نفسه لا يقرب من الله قيد أنملة، فللمؤمن أن يأخذ من الزينة، ويتناول من الطيبات ما شاء، وقوله تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87] إما أن يكون نهياً عن تعدي حدود ما أحل لهم، أو نهياً عن الإسراف في الحلال، وفي الإسراف مفسدة أي مفسدة، قال ابن عباس: كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف، ومخيلة. وكان أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - شديد الزهد، حريصاً على أن يسير الناس سيرة القانع بالكفاف من القوت، فأخذ ينكر عليهم وهو بالشام الاتساعَ في المراكب والملابس، ويدعوهم إلى صرف ما زاد عن حاجتهم إلى وجوه البر، فوقع بينه وبين معاوية - رضي الله عنه - كلام، فخرج إلى المدينة، فاجتمع إليه الناس، وجعل يدعوهم بتلك الدعوة في شدة، فقال له عثمان - رضي الله عنه -: لو اعتزلت! قال أبو بكر بن العربي: "معناه - أي: قول عثمان -: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطاً، وللعزلة مثلها، ومن كان كأبي ذر، فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلّم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربدة زاهداً فاضلاً، وترك جلة فضلاء، وكلٌّ على خير وبركة وفضل". وهذا الحسن البصري، وهو من أفضل التابعين، ينكر على من يعد من الورع ترك بعض الأطعمة اللذيذة، دُعي الحسن مرة، ومعه فرقد السبخي وأصحابه، فقعدوا على المائدة وعليها ألوان من الدجاج المسمّن والفالوذج

وغير ذلك، فاعتزل فرقدٌ ناحية، فسأل الحسن: أهو صائم؟ قالوا: لا، ولكنه يكره هذه الألوان، فأقبل الحسن عليه، وقال: يا فريقد! أترى لُعابَ النحل بلُباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم؟!. وقد أنكر أبو بكر بن العربي ما يفعله بعض المتصوفة من اتخاذه ثوباً يصنعه من رقاع مختلفة، وعدّه من البدع المكروهة في الإسلام. ومما ورد في الحث على التجمل: حديث جابر - رضي الله عنه -، وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى رجل عليه بُردان قد خلقا "بليا"، فقال: "أما له ثوبان غير هذين؟ " فقلت: بلى يا رسول الله، له ثوبان في العيبة كسوته إياهما. قال: "فادعه فمره أن يلبسهما"، قال: فدعوته، فلبسهما. وفي هذا الحديث شاهد على أن الدين يأمر الشخص بالتجمل في الملبس، وينهاه عن الخروج في أثواب تزدريها العيون، وهو يستطيع أن يخرج في أثواب نقية غير بالية، وقال عمر بن الخطاب: إذا أوسع الله عليكم، فأوسعوا على أنفسكم. وحمل هذا الأثر بعضُ أهل العلم على معنى: أن الرجل إذا أوسع الله عليه في ماله، فليوسع على نفسه في ملبسه، فيحمل نفسه على عادة مثله. وسئل مالك عن قول الله تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، فقال: أن يعيش ويأكل ويشرب غير مضيق عليه. وكان أهل الأندلس فيما حكاه صاحب "نفح الطيب": أشد خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون، وما يفرشون، وغير ذلك مما يتعلق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه، فيطويه صائماً، ويبتاع صابوناً يغسل به ثيابه، ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها.

هل يدخل الورع في ترك المباح؟

فإن قال قائل: إن الصحابة - رضي الله عنه - كانوا لا يحتفلون بأمر الملبس والمطعم؛ فقد روي أن عمر بن الخطاب كان وهو خليفة يأكل خبز الشعير، ويلبس الثوب المرقع، فمن حق الولاة والعلماء من بعدهم أن يسلكوا هذه السيرة، وينحوا في الزهد هذا النحو، فإذا خرجوا عنه، كانوا موضع اللوم والإنكار؟ قلنا: لا لوم ولا إنكار، فسماحة الدين تسع المسلم أن يتبسط في ملبسه ومأكله، ومسكنه ومركبه، من غير إسراف، والأمر في هذا يختلف باختلاف البيئات والأزمنة، يدلكم على هذا: أن عمر بن الخطاب قدم الشام، فوجد معاوية بن أبي سفيان قد اتخذ الحجاب، والمراكب النفسية، والثياب الفاخرة، فسأله عن ذلك، فقال: إنا بأرض نحتاج فيها لمثل هذا، فقال: لا أقرك ولا أنهاك ... ومعناه: أن الأمر في هذا يرجع إليك، فإن كانت الحاجة تدعو إليه، فهو حسن، وإن لم تدع إليه حاجة، فهو إنفاق لأموال الأمة في غير حق، وعمر بن الخطاب الذي كان يأكل خبز الشعير بالملح كان يفرض لعامله نصف شاة كل يوم، قال شهاب الدين القرافي: يفعل عمر هذا؛ لعلمه أن الحالة التي هو عليها لو سلكها غيره، لهان في نفوس الناس، ولم يحترموه، وتجاسروا عليه بالمخالفة، فاحتاج عمر إلى أن يضع غيره في مظهر آخر أدعى للاحترام، وأحفظ للنظام. * هل يدخل الورع في ترك المباح؟ وقع في أوائل القرن السابع خلاف بين طائفة من العلماء في المباحات، هل يدخلها الورع؟ فقال الأستاذ الأبياني: ليس في تركها ورع؛ لأن الورع مندوب إليه، وهذه المباحات قد سوّى الله بين فعلها وتركها، والندب مع التسوية لا يستقيم.

قبول عطايا الأمراء الظالمين

وقال الأستاذ بهاء الدين الحموي: قد يكون في تركها ورع؛ فإن السلف كانوا يزهدون في كثير من المباحات، وساق في الاستشهاد على هذا الرأي قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]. والحق أن ترك المباح في نفسه ليس من الورع في شيء، فمن ترك طعاماً لذيذاً، أو ثوباً نفيساً، وهو يستطيعه، قاصداً التقرب إلى الله تعالى بهذا الترك، فقد أخطأ طريق التقوى، أما إذا ترك نوعاً من الزينة أو اللذة لغرض محمود في لسان الشارع؛ كأن يتركه في بعض الأوقات حذراً أن تجر المداومة عليه أو الإكثار منه إلى اعتياده، وصعوية الصبر عليه عند فقده، فذلك مما يصح أن يدخل في باب الورع، وعلى مثل هذا يحمل ما يروى عن بعض السلف من تركهم الزينة أو بعض الملاذ وهم يقدرون عليها. وأما الآية، فإنما وردت فيما يقال للكفار يوم القيامة، وأصلها: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]؛ أي: ليس لكم حظ من الطيبات إلا ما أصبتموه في دنياكم، فلا شاهد في الآية على أنّ تناول المؤمن من الطيبات في الدنيا ينقص نصيبه منها في الآخرة، ولا أن تركه لجانب منها في هذه الحياة يستحق به المثوبة في تلك الحياة. * قبول عطايا الأمراء الظالمين: اختلف الفقهاء في الاستمتاع بالمال يأتي ممن يغلب على ماله الحرام، فاستحلّه قوم، وحرّمه آخرون، واستدل المجيزون بأن جماعة من أئمة السلف أدركوا أيام بعض الأمراء الظالمين، وقبلوا عطاياهم؛ كما قبل أبو هريرة، وأبو سعيد الخدري عطايا يزيد بن عبد الملك، وقبل ابن عمر، وابن عباس عطايا الحجاج، وأخذ مالك من الخلفاء أموالاً جمة، وأخذ الشافعي من هارون الرشيد

ألف دينار في دفعة، وكان أسد بن الفرات يقبل عطايا السلطان، فسئل عن ذلك فقال: هذا بعض حقنا، والله حسيبهم في الباقي. وكثير منهم كانوا يتورعون عن قبول عطايا الظالمين؛ كسعيد بن المسيب؛ فإنه كان يتجر في الزيت، ويقول: إن في هذا لغنى عن هؤلاء السلاطين. والحق أن من يحس في نفسه الضعف، ويخشى أن ينحدر به قبولُ هبات الظالمين إلى التغاضي عن باطلهم، أو مجاراتهم في طغيانهم، فقبض يده عن قبولها، فقد أجاب داعي التقوى. قال أبو ذر للأحنف بن قيس: خذ العطاء ما كان نحلة، فإذا كان أثمان دينكم، فدعوه. وقد حمل بعض أهل العلم ما فعله بعض الأئمة من قبولهم لجوائز أولئك الأمراء، على أنهم يأخذونها لينفقوها على أولي الحاجة، روي عن جابر بن زيد: أنه جاءه مال من السلطان، فتصدق به، وقال: رأيت أن آخذه منه، وأتصدقَ به أحبُّ إليّ من أن أدعه في أيديهم. وروي أن ابن عمر كان يفرق ما يأخذه من الجوائز، حتى إنه استقرض مرة في المجلس الذي فرق فيه ستين ألفاً. والخلاصة: أن الإسلام جرى بالنفوس في الاستمتاع بالزينة والملاذ في طريق وسط، فدلّ على أنه الدين الذي يهدي إلى السعادة في الأخرى، ويرضى لأوليائه أن يعيشوا عيشاً طيباً في الحياة الدنيا.

الصداقة

الصّداقة (¬1) عاطفة سامية القدر، غزيرة الفائدة، تلك هي الصداقة، والشارع رغب في أن تكون المعاملة بين المسلمين معاملة الصديق للصديق، ألا ترونه كيف أمر المسلم بأن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه؟ بل استحب للمسلم أن يؤثر أخاه المسلم، وإن كان به حاجة، وذلك أقصى ما يفعله الصديق مع صديقه. هذا الأدب الإسلامي نبهني لأن أتحدث إليكم في هذه الليلة عن الصداقة: * ما هي الصداقة؟ المحبة إما أن تكون للمنفعة، وإما أن تكون للذَّة، وإما أن تكون للفضيلة، وقد يطلق على كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة اسم الصداقة. * صداقة المنفعة: هي أن يحب الإنسان شخصاً لما يناله منه من منافع، وشأن هذه الصداقة أن تبقى معقودة بين الشخصين ما دامت المنافع جارية، فإن انقطعت المنافع، انقطعت هذه الصداقة. * صداقة اللذة: هي المحبة التي تثيرها الشهوة، وقد تشتد فتسمى عشقاً، وشأن هذه ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام ألقيت في نادي جمعية الهداية الإسلامية، ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزأين الأول والثاني من المجلد الثامن.

صداقة الفضيلة

الصداقة أيضاً أن تنقطع عندما تنصرف النفس عن اللذة التي بعثتها. * صداقة الفضيلة: هي المحبة التي يكون باعثها اعتقاد كل من الشخصين أن صاحبه على جانب من كمال النفس، وهذه هي الصداقة التي يهمنا الحديث عنها في هذا المقام. * الصداقة فضيلة: ليست صداقة المنفعة، ولا صداقة اللذة بمعدودة في خصال الشرف، وإنما الذي يصح أن يعدّ خصلة شريفة: الصداقة التي يبعثها في نفسك مجرد اعتقاد أن صاحبها يتحلى بخلق كريم، وهذه الصداقة تشبه سائر الفضائل في رسوخها في النفس، وايتائها ثمراً طيباً في كل حين، وهي التي توجد من الجبان شجاعة، ومن البخيل سخاء، فالجبان قد تدفعه قوة الصداقة إلى أن يخوض في خطر ليحمي صديقه من نكبة، والبخيل قد تدفعه قوة الصداقة إلى أن يبذل جانباً من ماله لإنقاذ صديقه من شدة، فالصداقة المتينة لا تحل في نفس إلا هذبت أخلاقها الذميمة، فالمتكبر تنزل به الصداقة إلى أن يتواضع لأصدقائه، وسريع الغضب تضع الصداقة في نفسه شيئاً من كظم الغيظ، ويجلس لأصدقائه في حلم وأناة، وربما اعتاد التواضع والحلم، فيصير بعدُ متواضعاً حليماً، والفضل في خروجه من رذيلتي الكبر وطيش الغضب عائد إلى الصداقة. وإن شئت فقل: إن حب الشخص لك لفضيلتك علامة على كمال أصل خلقه؛ فإنك لا ترجو من شخص أن يحبك لفضيلتك إلا أن يكون صاحب فضيلة:

الداعي إلى اتخاذ الأصدقاء

وليس يعرف لي فضلي ولا أدبي ... إلا امرؤ كان ذا فضلٍ وذا أدبِ * الداعي إلى اتخاذ الأصدقاء: في اتخاذ صديق حميم لذةٌ روحية يدركها من يَسَّرَ الله له أن انعقدت بينه وبين رجل من ذوي الأخلاق النبيلة، والآداب العالية مودّةٌ، ولا منشأ لهذه اللذة الروحية إلا الشعور بما بينه وبين ذلك الرجل النبيل المهذب من صداقة. وصديق الفضيلة هو الذي يجد في لقاء صديقه ارتياحاً وابتهاجاً، ويعد الوقت الذي يقضيه في الأنس به من أطيب الأوقات التي لا تسمح بها الأيام إلا قليلاً. ثم إن الصداقة - وإن قامت على أساس الفضيلة، ولم يكن للمنفعة أثر في تكوين رابطتها-تستدعي بطبيعتها جلب المنفعة، أو دفع الضرر، فإنها تبعث الصديق على أن يدفع عن صديقه الأذى بما عنده من قوة، وتهزه لأن يسعده في الشدائد بما أوتي من جاه أو سطوة. ولمثل هذا أوصى بعض الحكماء باتخاذ الأصدقاء، فقال: "أعجز الناس من فرّط في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيعّ من ظفر به منهم". وقال الشاعر الحكيم: لعمرك ما مال الفتى بذخيرة ... ولكنَّ إخوانَ الثقاتِ الذخائرُ * الاستكثار من الأصدقاء: متى حظي الإنسان بأصدقاء كثيرين، فقد ساقت له الأقدار خيراً كثيراً، ففي الصداقة: ابتهاج القلب عند لقاء الصديق، وفيها: لذة روحية، ولو في حال غيبة الصديق، وفيها: عون على تخفيف مصائب الحياة. وكذلك أوصى

علامة الصداقة الفاضلة

بعض الحكماء ابنه، فقال: "يا بني! إذا دخلت المصر، فاستكثر من الصديق، أما العدو، فلا يهمنَّك". وقال بعض الأدباء: ولن تنفك تُحسد أو تعادى ... فأكثرْ ما استطعت من الصديقِ ومبنى هذه النصيحة على أن شأن حساد الرجل وأعدائه: تدبير الوسائل للكيد له، وطَرْقُ كل باب يحتمل أن يكون من ورائه ما يشفي صدورهم، فإذا ساعده القدر على أن يكثر من الأصدقاء، فقد أكثر من الألسنة التي تدحض ما يُرمى به من المزاعم، والأيدي التي تساعده على السلامة من الأذى. * علامة الصداقة الفاضلة: ليس من علامة الصداقة الفاضلة أن يقوم لك الرجل مبتدراً، أو يلاقيك باسماً، أو يثني عليك في وجهك مسهباً ومكرراً، فذلك شيء يفعله كثير من الناس مع من يحملون له أشد العداوة والبغضاء، وأصبح كثير منهم يعدونه من الكياسة، ويخادعون به من إذا أسمعوه مدحاً، فكأنما سقوه خمراً، وربما استثقلوا من لم يسلك هذه الشعبة من النفاق، ونسبوه إلى جفاء الطبع، وقلة التدرب على الآداب الجارية في هذا العصر. وقد ذكر الأدباء للصداقة الخالصة علامات: منها: أن يدفع عنك وأنت غائب عنه، قال العتابي: وليس أخي من ودّني رأي عينه ... ولكن أخي من صدَّقته المغائبُ ومنها: أن تكون مودته في حال استغنائك عنه، واحتياجك إليه سواء، قال الأحنف بن قيس: "خير الإخوان من إن استغنيت عنه، لم يزدك في المودة، وإن احتجت إليه، لم ينقصك منها".

ومنها: أن ينهض لكشف الكربة عنك ما استطاع كشفها، لا يحمله على ذلك إلا الوفاء بعهد الصداقة، قال بعضهم في صديق له: وكنتُ إذا الشدائد أرهقتني ... يقومُ لها وأقعدُ لا أقومُ والألمعي يعرف الصداقة من نظرات العيون، ويحسها في أساليب الخطاب، ويلمحها من وراء أحرف الرسائل: والنفسُ تدرك من عيني محدِّثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها ومن المثل العالية للصداقة المتينة: صداقة الوزير الوليد بن عبد الرحمن ابن غانم للوزير هاشم بن عبد العزيز. نقرأ في تاريخ الأندلس: أن الوزير هاشماً بعثه السلطان محمد بن عبد الرحمن الأموي على رأس جيش، فوقع هذا الوزير أسيراً في يد العدو، وجرى ذكره يوماً في مجلس السلطان محمد ابن عبد الرحمن، فاستقصره السلطان، ونسبه للطيش والعجلة والاستبداد بالرأي، فلم ينطق أحد من الحاضرين في الاعتذار عنه بكلمة، ما عدا صديقه الوليد، فإنه قال: "أصلح الله تعالى الأمير! إنه لم يكن على هاشم التخير في الأمور، ولا الخروج عن المقدور، بل قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حق الإقدام، ولم يكن ملاك النصر بيده، فخذله من وثق به، ونكل عنه من كان معه، فلم يزحزح قدمه عن موطن حفاظه، حتى ملك مقبلاً غير مدبر، ملبياً غير فشل، فجوزي خيراً عن نفسه وسلطانه، فإنه لا طريق للملامة عليه، وليس عليه ما حنته الحرب الغشوم. وأيضاً فإنه ما قصد أن يجود بنفسه إلا رضا للأمير، واجتناباً لسخطه، فإذا كان ما اعتمد فيه الرضا جالب التقصير، فذلك معدود في سوء الحظ". وقع هذا الاعتذار من السلطان موقع الإعجاب، وشكر للوليد وفاءه

الصداقة تقوم على التشابه

لهاشم، وترك تفنيد هاشم، وسعى في تخليصه. ووصل خبر هذا الاعتذار إلى هاشم، فكتب خطاب شكر للوليد، ومما يقول في هذا الخطاب: "الصديق من صدقك في الشدة لا في الرخاء، والأخ من ذبَّ عنك في الغيب لا في المشهد، والوفيُّ من وفى لك إذا خانك زمان". ومما جاء في هذا الخطاب من الشعر: أيا ذاكري بالغيب في محفل به ... تصامت جمعٌ عن جواب به نصري أتتني والبيداء بيني وبينها ... رقى كلمات خلصتني من الأسر لئن قرَّب الله اللقاء فإنني ... سأجزيك ما لا ينقضي غابر الدهر فكتب إليه الوليد جواباً يقول فيه: "وصلني شكرك على أن قلت ما علمت، ولم أخرج عن النصح للسلطان بما ذكرته من ذلك، والله تعالى شاهد على أني أتيت ذلك في مجالس غير المجلس المنقول إلى سيدي، إن خفيت عن المخلوق، فما تخفى عن الخالق، ما أردت بهما إلا أداء بعض ما أعتقده لك، وكم سهرتَ وأنا نائم، وقمتَ في حقي وأنا قاعد! والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً". * الصداقة تقوم على التشابه: لا تنعقد الصداقة الصافية بين شخصين إلا أن يكون بين روحيهما تقارب، وفي آدابهما تشابه، قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: وما يلبث الإخوان أن يتفرقوا ... إذا لم يؤلف روحُ شكل إلى شكلِ فإن وجدت صحبة بين بخيل وكريم، أو جبان وشجاع، أو غبي وذكي، أو مهتد ومبتدع، فاعلم أن الصحبة لم تبلغ أن تكون صداقة بالغة، قال الطائي: عصابة جاورت آدابهم أدبي ... فهم وإن فرقوا في الأرض جيراني

البعد من صداقة غير الفضلاء

أرواحنا في مكان واحد وغدت ... أبداننا بشآم أو خراسان * البعد من صداقة غير الفضلاء: ينبغي للرجل أن يتخير لصداقته الفضلاء من الناس، فهؤلاء هم الذين تجد الصداقة فيهم قلوباً طيبة، فتنبت نباتاً حسناً، وتأتي بثمر لذيذ، قال عبيد الله بن عبدالله بن عتبة: عزيزٌ إخائي لا ينال مودتي ... من القوم إلا مسلم كاملُ العقلِ وقال آخر: وبغضاء التقيِّ أقلُّ ضيراً ... وأسلم من مودة ذي الفسوق وكثيراً ما يقاس الرجل بأصدقائه، فإن رآه الناس يصاحب الفسّاف والمبتدعين، سبق إلى ظنونهم أنه راض عن الابتداع، ولا يتحرج من الفسوق. وقد صرح أحد الشعراء بأنه ترك مودة رجل من أجل أنه يصاحب الأرذال من الناس، فقال: يزهِّدني في ودِّك ابن مساحق ... مودتُك الأرذال دون ذوي الفضل * الاحتراس من الصديق: قد يوصي بعض الأدباء بالاحتراس من الصديق؛ كما قال أحدهم: أما العداة فقد أروك ظنونهم ... واقصد بسوء ظنونك الإخوانا وأتى على هذا المعنى آخر، وأبدى له وجهاً، هو: الخوف من أن ينقلب الصديق إلى عدو، فيكون أدرى بوجه الضرر، فقال: احذرْ عدوك مرةً ... واحذرْ صديقك ألف مرهْ فلربما انقلب الصديقُ ... فكان أعلمَ بالمضرَّهْ

هل الصداقة اختيارية؟

والقول الفاصل في هذا: أن صديق المنفعة متى عرف الإنسان وجه صداقته، كان له أن يحترس منه، ويكون هذا موضع الأشعار التي تنصح بالاحتراس من الأصدقاء، أما من انعقدت بينك وبينه صداقة الفضيلة، وكنت على يقين من أن هذا وجه صداقتكما، فلا موضع للاحتراس منه. فإن اجتهدت أيها الألمعي رأيك في صداقة شخص، وبدا لك أنها صداقةُ فضيلة، ثم رأيت منه ما لم تكن تحتسب، فلا يحملك هذا الخطأ في الاجتهاد على الاحتراس من كل صداقة، فإن ما وقع إنما هو أمر نادر، والأمور النادرة لا تتخذ مقياساً في معاملة الأصدقاء، ولا تستدعي أكثر من أن تستعيذ بالله من شرها، ثم تمضي مع أصدقائك الفضلاء في وداعة خلق، وسماحة نفس. * هل الصداقة اختيارية؟ إذا كانت الصداقة الشريفة ترجع إلى محبة الشخص لفضيلته، كانت غير اختيارية؛ لأنها ترتبط بسبب هو الفضيلة. وقد أشار بعض الأدباء إلى أنه لا منّة له في الصداقة حتى يستحق عليها الحمد، فكتب إلى صديق له: "إني صادفت منك جوهر نفسي، فأنا غير محمود على الانقياد إليك بغير زمام؛ لأن النفس يتبع بعضها بعضاً". والواقع أن الاختيار يرجع إلى فتح الصدر لها، وربط القلب عليها، والسير في الأقوال والأفعال على مقتضى عاطفتها، فإذا حمدت الرجل على صداقته، فإنما تحمده على أن أقرَّها في صدره مغتبطاً بها، ثم جرى على ما تستدعيه من نحو المواصلة والمؤانسة. * دعوى أن الصداقة الخالصة مفقودة: يزعم بعض الأدباء أن الصداقة الخالصة من كل شائبة مفقودة، ومن

هؤلاء من ينفيها من الدنيا بإطلاق، كما قال أبو الجوائز الحسن بن علي: دع الناس طراً واصرف الودَّ عنهم ... إذا كنت في أخلاقهم لا تسامحُ ولا تبغ من دهرٍ تظاهر رنقه (¬1) ... صفاء بنيه والطباع جوامحُ وشيئان معدومان في الأرض: درهمٌ .... حلالٌ، وخلٌّ في الحقيقة ناصحُ وقال آخر: زمانٌ كلُّ حِبٍّ فيه خَبٌّ ... وطعم الخِلِّ خَلٌّ لو يذاقُ له سوقٌ بضاعته نفاقٌ ... فنافقَ فالنفاقُ له نَفاقُ ومنهم من يشكو أهل زمانه، ويخبر بأنه لم يجد من بينهم من يصطفيه للصداقة؛ كما قال بعضهم: خبرت بني الأيام طرّاً فلم أجدْ ... صديقاً صدوقاً مسعداً في النوائبِ وأصفيتهم مني الوداد فقابلوا ... صفاء ودادي بالنوى والشوائبِ وما اخترت منهم صاحباً وارتضيته ... فأحمدته في فعله والعواقبِ وكما قال الطغرائي: فلا صديق إليه مشتكى حزني ... ولا أنيس إليه منتهى جذلي والحق أن صاحب الفضيلة لا يعدم الصديق الفاضل، وتحمل هذه الأشعار وأمثالها على أن أصحابها قد نظموها في أحوال خاصة؛ كأن يروا من بعض من كانوا يعدونهم أصدقاء أموراً يكرهونها، أو يروا منهم سكوناً حيث يجب عليهم أن يتحركوا لإسعادهم. ¬

_ (¬1) رنقه: كدره.

الصديق المخلص عزيز

* الصديق المخلص عزيز: إن كان أصدقاء المنفعة كثيراً، فإن الذي يحبك لفضلك، وتحبه لفضله، حباً يبقى ما بقيت الفضيلة، عزيزُ المنال. قال يونس: اثنان ما في الأرض أقلُّ منهما، ولا يزدادان إلا قلة: درهم يوضع في حق، وأخ يُسكن إليه في الله. وهذا الصديق هو الذي حثك الشاعر على التمسك به، فقال: وإذا صفا لك من زمانك واحدٌ ... فاشدد عليه وعش بذاك الواحدِ وكلما قضى الإنسان مرحلة من عمره في الاعتبار والتجارب، ازداد علماً بأن أصدقاء الفضيلة لا تسمح بهم الأيام إلا قليلاً. وإذا بدا لك أن أصدقاءك في وقت الشباب أكثرُ من أصدقائك وأنت شيخ، فإن الشباب مقبل على الحياة في شيء كبير من النشاط والارتياح، فيكون أسرع إلى اتخاذ الأصدقاء من الشيخ الذي ترك طول السنين في عظامه فتوراً، وأبقت الحوادث في صدره ضيقاً. وإن شئت فقل: إن الشباب لم يزل على الفطرة، فيقيم صداقته على الظاهر، ولا يبالغ في نقد الناس مبالغة الشيخ الذي يحمله طول التجارب على أن يتريث في اختيار الأصدقاء. ويضاف إلى هذا: أن الشيخ لا يبلغ السن الذي يبلغه، حتى يأخذ الموت من أصدقائه فوجاً أو أفواجاً، وفقد الأصدقاء يترك في نفس الرجل وحشة، وربما وقع في ظنه، وجرى على لسانه استبعاد أن يجد بعد أولئك الأصدقاء من يماثلهم في إخلاص المودة والوفاء بالعهد. * الإغماض عن عثرات الأصدقاء: يرى الباحثون في طبائع البشر: أن ليس فيهم من يتخذ صديقاً، ويرجى منه أن يسير على ما يرضى صديقه في كل حال، ودلتهم التجارب على أن

معاملة الأصدقاء بالمثل

الصديق - وان بلغت صداقته المنتهى - قد يظهر لك من أمره ما لا يلائم صلة الصداقة، فلو أخذت تهجر من إخوانك كل من صدرت منه هفوة، لم تلبث أن تفقدهم جميعاً، ولا يبقى لك على ظهر الأرض صديق غير نفسك التي بين جنبيك. عرَّف هذا المعنى الشاعر الذي يقول: ولستَ بمستبقٍ أخاً لا تلمّه ... على شعثٍ أَيُّ الرجال المهذَّبُ؟! والذي يقول: أغمّضُ للصديق عن المساوي ... مخافة أن أعيش بلا صديق والذي يقول: ومن يتتبع جاهداً كلَّ عثرةٍ ... يجدها ولا يسلم له الدهرَ صاحبُ وقد عبر عن هذا المعنى بشار بن برد إذ قال: إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تُعاتِبُهْ فعش واحداً أوصل أخاك فإنه ... مقارف ذنبٍ مرة ومجانبهْ إذا أنت لم تشرب مراراً على القذي ... ظمئت، وأيُّ الناسِ تصفو مشاربُهْ واذا كان الصفح عن الزلات من أفضل خصال الحمد، فأحق الناس بأن تتغاضى عن هفواتهم رجال عرفت منهم المودة، ولم يقم لديك شاهد على أنهم صرفوا قلوبهم عنها. * معاملة الأصدقاء بالمثل: يذهب بعض الناس إلى أن يسيروا مع الأصدقاء على مثل سيرتهم معهم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وأشار إلى هذا المذهب أبو القاسم الحريري في

عتاب الأصدقاء

"مقاماته" بمثل قوله: "بل نتوازن في المقال وزن المثقال، ونتحاذى في الفعال حذو النعال". والقول الفصل في هذا: أن ما يصدر من الصديق، إن كان من قبيل العثرة التي تقع في حال غفلة، أو خطأ في اجتهاد الرأي، فذلك موضع الصفح والتجاوز، ولا ينبغي أن يكون له في نقض الصداقة أثر كثير أو قليل. أما إن كان عن زهد في الصحبة، وانصرافاً عن الصداقة، فلك أن تزهد في صحبته، وتقطع النظر عن صداقته، وهذا موضع الاستشهاد بمثل قول الكميت: وما أنا بالنكس الدنيء ولا الذي ... إذا صدَّ عني ذو المودة يقربُ ولكنه إن دام دمت وإن يكنْ ... له مذهبٌ عني فلي فيه مذهبُ ألا إن خير الودِّ ودٌّ تطوعت ... له النفسُ لا ودٌّ أتى وهو متعبُ والفرق بين عثرة قد تصدر من ذي صداقة، ويين جفاء لا يكون إلا من زاهد في الصداقة، يرجع فيه الرجل إلى الدلائل التي لا يبقى معها ريب، والتفريط في جانب الصديق ليس بالأمر الذي يستهان به، فلا ينبغي الإقدام عليه دون أن تقوم على قصده لقطع المودة بيّنةٌ واضحة. * عتاب الأصدقاء: لا يخلو الرجل، وهو معرَّض للغفلة والضرورة والخطأ في الرأي، أن يُخل بشيء من واجبات الصداقة، فإن كنت على ثقة من صفاء مودة صديقك، أقمت له من نفسك عذراً، وسرت في معاملته على أحسن ما تقتضيه الصداقة. فإن حام في قلبك شبهة أن يكون هذا الإخلال ناشئاً عن التهاون بحق الصداقة، فهذا موضع العتاب، فالعتاب يستدعي جواباً، فإن اشتمل الجواب على عذر، أو اعتراف بالتقصير، فاقبل العذر، وقابل التقصير بصفاء خاطر،

كتم السر عن الأصدقاء

وسماحة نفس. وعلى هذا الوجه يحمل قول الشاعر: أعاتبُ ذا المودة من صديق ... إذا ما سامني منه اغترابُ إذا ذهب العتاب فلا ودادٌ ... ويبقى الودُّ ما بقي العتاب ومما يدلك على أن صداقة صاحبك قد نبتت في صدر سليم: أن يجد في نفسه ما يدعوه إلى عتابك، حتى إذا لقيته بقلبك النقي، وجبينك الطلق، ذهب كل ما في نفسه، ولم يجد للعتاب داعياً. قال أحد الأدباء: أزور محمداً وإذا التقينا ... تكلمت الضمائر في الصدور فأرجع لم ألمه ولم يلمني ... وقد رضي الضمير عن الضمير فإن أكثر صاحبك من الإجحاف بحق الصداقة، ولم تجد له في هذا الإجحاف عذراً يزيل من نفسك الارتياب في صدق مودته، فذلك موضع قول الشاعر: أقللْ عتابَ من استربت بودّه ... ليست تُنال مودةٌ بعتاب * كتم السر عن الأصدقاء: من المعروف أن الإنسان لا يكتم عن أصدقائه سراً يخشى من إفشائه ضرراً، وقد يجد الرجل في نفسه شيئاً متى شعر بأن صديقه قد كتم عنه بعض ما يعلم من الشؤون. وأشار إلى هذا بعضهم فقال: والخِلُّ كالماء يُبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر ومن الأدباء من ذهب في النصح بكتم السر الذي يخشى من إذاعته ضرر إلى حد أن نصحَ بكتمه حتى عن الأصدقاء. ووجه هذا الرأي: إنما هو الخوف من أن يكون لصديقك صديق لا يكتم عنه حديثاً، وإذا انتقل السر إلى صديق

أثر البعد في الصداقة

الصديق، لم يؤمن عليه أن يصبح خبراً مذاعاً، قال محمد بن عبشون: إذا ما كتمت السر عمن أودُّهُ ... توهم أن الودَّ غير حقيقي ولم أخفِ عنه السرِّ من ظِنَّةٍ به ... ولكنني أخشى صديقَ صديقي والقول الفصل في هذا: أن الأمر يرجع إلى قوة ثقتك بصديق الفضيلة، وذكائه، وفهمه قصدك لأن يكون هذا السر في صدره، لا يتجاوز إلى غيره، فإن كان صديقك على هذا المثال، فأطلعه على ما في نفسك، فإنما أنت وهو روح واحدة، ولكنها في بدنين. فإن كان مع صداقته الخالصة لا تأمن أن يجري على لسانه بعض ما أفضيت به إليه، فذلك موضع قول الشاعر: ولكنني أخشى صديق صديقي ومن الأذكياء من يحرص على كتم سر صديقه، فلا يفضي به إلى صديق له آخر، ولا سيما صديقاً ليس بينه وبين الذي أودع عنده السر صلة صداقة، قال مسكين الدارمي: أُواخي رجالاً لست مطلع بعضهم ... على سر بعض غير أني جماعها يظلون شتى في البلاد وسرهم ... إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها * أثر البعد في الصداقة: شأن الصداقة أن تنعقد بين شخصين يقيمان في موطن، وتبقى حافظة المظاهر ما دام الصديقان يتمتعان بأنس القرب والتزاور، فإن فرقت الأيام بين داريهما، وبدلتهما بالقرب بعداً، وبالأنس شوقاً، بقيت الصداقة في قوتها، وإنما يكون للبعد أثر في مظاهرها. وذكر أرسطو أن الغَيبة الطويلة من شأنها أن تنسي الصداقة، وساق على هذا المثل الذي يقوله:

الصداقة صلة بين الشعوب

"كثيراً ما أودى بالصداقة سكوت طويل". ونحن نرى أن صداقة الفضيلة متى بلغت منتهاها، لا تأخذ الغَيبة الطويلة شيئاً أكثر من مظاهرها. وربما انعقدت الصداقة بين شخصين لم يتجاورا، ولم يلتقيا، وإنما عرف كل منهما فضل الآخر على بعد، ولم يكن بينهما اتصال إلا من طريق المراسلة: وإني امرؤ أحببتكم لمكارمٍ ... سمعت بها والأذنُ كالعين تَعشقُ وكثيراً ما تأتي هذه الصداقة بثمار طيبة غزيرة، وإن كان مسلكها في الروح غير مسلك الصداقة الناشئة عن لقاء ومشاهدة. * الصداقة صلة بين الشعوب: لا غنى للشعوب أن ترتبط بصلات تجعلها كأمة واحدة، تسير إلى غاية واحدة، وهذه الرابطة تتحقق بالصداقات التي تستوثق بين علمائها وزعمائها الناصحين. فالصداقة التي تنتظم بين طائفة من علماء الصين، وطائفة من علماء المغرب الأقصى - مثلاً - تجعل القطرين في اتحاد أدبي، وللاتحاد الأدبي غايات سامية لا يستهان بها. واذا دلنا التاريخ أو المشاهدة على صداقة كانت بين علماء متباعدي الأقطار، ولم تعد على تلك الأقطار بفائدة، فإن هذا الزمن يدعونا إلى أن نعمل على تقوية روابط الصداقة بين علماء الشرق والغرب، ونوجه جانباً من هذه الصداقات إلى خدمة المصالح العامة، والتعاون على أسباب السعادة المشتركة في الحياة.

مضار الإسراف

مضارُّ الإسراف (¬1) تعظم الأمة، وترقى في سماء العزة والمنعة بخصال، من أكبرها أثراً: الاقتصاد في الإنفاق، والاقتصاد فضيلة بين رذيلتين، هما: البخل، والإسراف. وتقديره يختلف باختلاف أحوال الأشخاص؛ من اليسار، وقلة ما في اليد، وضابطه: أن لا يتجاوز الإنسان في نحو مطعمه وملبسه ومسكنه وأثاث منزله سيرة من يماثلونه في مقدار ما يملك أو يكسب من المال، وهم يعيشون في مروءة وسلامة من هموم الدَّين. ولما كان الاقتصاد يقوم على عدم الاسراف في الترف، اخترنا أن نجعل حديثنا في الإسراف وما يجرُّ إليه من عواقب وخيمة. الإسراف يفضي إلى الفاقة، ذلك أن المسرف يطلق يده في الإنفاق إرضاء لشهواته حتى يفقده ما عنده، وينزل إلى طبقة المقلّين أو المعدمين، وكم من بيوت أسسها آباء مقتدرون، وعمَّروها بما يليق بها من المرافق والأمتعة، وأقاموا حولها وسائل للثروة؛ من نحو: المزارع أو المصانع أو المتاجر، ثم صارت إلى أبنائهم من بعدهم، وقد غلب عليهم حب الترف، فأطلقوا لشهواتهم العنان حتى أتلفوا وسائل الثروة، وتقوَّض بناء تلك البيوت، ¬

_ (¬1) محاضرة الأمام في دار الإذاعة المصرية بالقاهرة بدعوة من صزارة الشؤون الاجتماعية. ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول والثاني من المجلد الرابع عشر.

والتحق أولئك الخلف بطبقة الذين لا يجدون ما ينفقون. وإذا وقع الرجل في الفقر بعد اليسار، تجرّع مرارة الهوان المصحوب بحسرات، وكذلك الأمة تملك عزتها بقدر عمارة بيت مالها، قال أبو جعفر المنصور في وصيته للمهدي: "فإنك لا تزال عزيزاً ما دام بيت مالك عامراً". ومن ثم كان القاضي منذر بن سعيد البلوطي يواجه الخليفة عبد الرحمن الناصر بالنهي عن الإسراف في المباني وزخرفتها، ويلقي بحضرته الخطب الزاجرة، حتى خاطبه يوماً بقوله: يا باني الزهراء مستغرقاً ... أوقاته فيها أما تمهلُ لله ما أحسنَها رونقاً ... لو لم تكن زهرتها تذبل ثم قال: اللهم اشهد فقد بلّغت. والإسراف في الترف ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة، من نحو: الجبن، والجور، وقلة الأمانة، والإمساك عن البذل في وجوه الخير. أما أن الإسراف في الترف يدعو إلى الجبن، فلأن شدة تعلق النفوس بالزينة واللذائذ من العيش يقوّي حرصها على الحياة، ويحملها هذا الحرصُ على تجنب مواقع الحروب، وإن كانت مواقف شرف وذود عن النفس والعرض والمال. شأن المحفوف بالزينة وملاذ العيش أن تشتد كراهيته للموت، ولا يسابق إلى خوض غمار الحروب، لهذا ترى الرجل الذي يريد أن يجعل لشجاعة ممدوحه مزية زائدة، يحدثك أنه يندفع إلى الحروب غير مبال بما تركه وراءه من لذة وزينة، كما قال الحطيئة العبسي:

إذا همَّ بالأعداء لم يثن عزمَه ... كَعابٌ عليها لؤلؤ وشنوفُ حَصانٌ لها في البيت زيٌّ وبهجة ... ومشيٌ كما تمشي القطاة قطوفُ وإذا كان شأن المترفين الفرار من الموت، فحق الأمة التي تريد النهوض من كبوتها أن تقلع عن الإسراف في الرفاهية، وتضع مكان الإسراف بذلاً في وجوه البر والإصلاح. وأما أن الإسراف في الترف يسهل على النفوس ارتكاب الجور، فلأن المنغمس في الترف يحرص على اكتساب المال ليشبع شهواته، فلا لا يبالي أن يأخذه من طرق غير مشروعة، فيمد يده إلى الاستيلاء على ما في يد غيره من طريق الرشوة، أو من طريق الغصب إن كان ذا سلطان وقوة. دعي العلامة محمد بن بشير إلى ولاية القضاء بقرطبة، فاستشار بعض أصحابه في قبول الولاية، فسأله صاحبه عن أشياء؛ ليعلم مقدار قوته في العدل، ومما قاله له: كيف حبك للأكل الطيب، واللباس اللين، والمركوب الفاره؟ قال: والله! لا أبالي ما رددت به جوعي، وسترت به بدني، وحملت به رحلي، قال: اقبل الولاية، فلا بأس عليك. وأما أن الإسراف في الترف يذهب بالأمانة، فلأن الغريق في الترف إنما همه الوصول إلى الزينة، أو لذة مطعم ونحوه، وكثيراً ما تدفعه هذه الشهوات إلى أن يخون من ائتمنه، فيمد يده إلى المال الذي يؤتمن عليه، وينفقه في شهواته الطاغية. وأما أن الإسراف في الترف يمسك الأيدي عن فعل الخير، فلأن من اعتاد الترف حتى أخذ بمجامع قلبه، كان أعظم قصده من جمع المال: إنفاقه فيما يلذه من مأمول، أو يتزين به من نحو ملبوس أو مفروش.

لذلك كان الغالب على المترفين المسرفين قبض أيديهم حيث يبسط غيرهم يده إسعاداً لذوي الحاجات من الفقراء والمنكوبين، أو إجابة لما تدعو إليه المروءة من مجاملات الإخوان، ومن هنا نستبين أن للإسراف سيئة أخرى، هي قطع صلة التعاطف والتواد بين كثير من أفراد الأمة. وللإسراف في الترف أثر كبير في إهمال النصيحة، والدعوة إلى الحق، ذلك أن من اعتاد التقلب في الزينة، وألفت نفسه العيش الناعم، يغلب عليه الحرص على هذا الحال، فيتجنب المواقف التي يمكن أن تكون سبباً لفوات بعض النعيم؛ كسكوته عن كلمة حق بين يدي ذي جاه أو سلطان يكره أن يسمع صوت الحق، ومن ترك أن يواجه بكلمة حق ذا جاه أو سلطان يخشى أن يحول بينه وبين رفاهيته، سهل عليه أن يترك الدعوة إلى الحق جملة. وللإسراف في الترف أثر في الصحة؛ فقد دلت المشاهدات على أن المسرف في نحو المأكل والمشرب لا يتمتع بالصحة التي بها المقتصدون فيما يأكلون وما يشربون، وقد أورد ابن خلدون في "مقدمته" حديثاً عن الأمراض، ونبّه على أنها تكثر في أهل الحضر والأمصار؛ لخصب عيشهم، وكثرة مآكلهم، وقلة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية، ثم نبه على أن تلك الأمراض تقل في أهل البادية؛ لقلة مأكولاتهم، وبساطة أغذيتهم. وإذا كانت الصحة من متممات البطولة، كان حقاً على الأفراد والجماعات أن يأخذوا في مآكلهم ومشاربهم بحكمة الاقتصاد، فلا فضل للأمة في أن تضع على موائدها ألواناً من الأطعمة مختلفة، وإنما الفضل في أن يكون لها رجال سليمة أبدانهم، قوية عزائمهم، مضيئة بصائرهم. والإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم، ذلك أن النفس المحفوفة

بالرفاهية من كل جانب، يضعف طموحها إلى اللذات العقلية؛ لأنها في لذة قد تشغلها أن تطلب لذة كلذَّة العلوم طلباً يبلغ بها مرتبة العبقرية، ومن الجلي أن مرتبة العبقرية لا تدرَك إلا باحتمال مصاعب، واقتحام أخطار، والمسرف في الترف ضعيف العزيمة، لا يثبت أمام المكاره والشدائد. هذا شأن الإسراف في الترف. ولكن التاريخ قد حدثنا عن أفراد نشؤوا في بيوت توفرت فيها وسائل الرفاهية، ولم يكونوا بحال المترفين المستضعفين، بل نشؤوا وقد عظم في نفوسهم الطموح إلى معالي الأمور، فاحتقروا ما يسمى لذَّات حسيَّة، وإن كانت طوع أيمانهم وشمائلهم، وأقبلوا على العلم، أو على ضرب آخر من ضروب السيادة، فأدركوا فيه غاية قصوى؛ مثل: عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، فقد نشأ في بيت إمارة، وحينما تولى الخلافة، استطاع بما وهبه الله من الحكمة والروية أن لا يقيم للزينة والأطعمة الفاخرة وزناً، فعاش عيشة الكفاف، وخزائنُ الأرض طوع يمينه، وتوفي وقد أبقى سيرة غرًاء، وذكراً أطيب من ريح المسك. ومثل أبي محمد بن حزم الذي نشأ في بيت وزارة بالأندلس، وتولى هو نفسه الوزارة، ثم نفض يده، وانقطع للازدياد من العلم، حتى ارتقى إلى طبقة كبار العلماء بنظر مستقل، وقلم بارع. ونحن إذا حذرنا من الإسراف في الترف، لا نريد من الناس أن يكونوا على سنة واحدة من الإعراض عن الزينة والملاذ، فقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وإنما نريد: الدعوة إلى أخذ النفوس بالاقتصاد، وحمايتها من الحرص على الزينة واللذيذ من العيش، حتى لا تجعلها مظهر الفخار والمباهاة:

يفاخرنا بمأكول ولبس ... وذلك فخر ذي حظ هزيل وقد سلكت هداية القرآن الكريم بالناس هذا الطريق القويم؛ أعني: طريق الاقتصاد، فبعد أن أمر في آيات كثيرة بالإنفاق في وجوه الخير، نهى عن الإسراف نهياً بالغاً، فقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]، وألحق المسرفين بقبيل الشياطين، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الأسراء: 27]، وعدّهم في زمرة من يستحقون بغضه، فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، ونفي محبة الله للطائفة كناية عن بغضه إياهم. وأثنى الله تعالى على المصطفين من عباده بفضيلة الاقتصاد، فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. ونظر الشارع الحكيم إلى أن الإسراف يذهب بسعادة الفرد والأسرة، فشرع إقامة أولياء على أموال من لم يبلغوا سن الرشد، أو من بلغوه وظهر عليهم السفه في تصرفاتهم؛ لينفق الأولياء عليهم باقتصاد، حتى يتبين رشدهم، قال تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. وإذا كان المسرف في إنفاق ماله ملوماً أو مذموماً، فإن الذي يقترض مال غيره لينفقه في الشهوات أحقُّ بالملام أوالمذمة، قال الشاعر الحكيم: إذا رمت أن تستقرض المال من أخ ... تعودت منه اليسر في زمن العسر فسل نفسك الإنفاق من كيس صبرها ... عليك وإنظارها إلى ساعة اليسر فإن أسعفت كنت الغني وإن أبت ... فكل منوع بعدها واسع العذر

وقد نظر بعض الحكماء إلى ما يجره الدين من الذلة والهموم، فكرهه حتى لمن تحدثه نفسه أن يقترض مالاً لينفقه في تثبيت سؤدده، فقال: أخذتُ الدَّين أدفع عن تلادي ... وأخذُ الدين أهلكُ للتلاد ولا حرج في الدين متى دعت إليه حاجة ملحة، وكان المقترض واثقاً بسماحة نفس المقرض، مع العزم على قضاء الدَّين عند حلول أجله. يعيرني بالدين قومي وإنما ... تداينت في أشياء تكسبهم حمدا نحذر من عواقب الإسراف، وندعو إلى الاقتصاد، ولا فضيلة في الاقتصاد إلا بعد أن يؤدي الرجل حق المال؛ من نحو: النفقات الواجبة عليه لأقاريه، والزكوات المفروضة للفقراء والمساكين، وبعد أن يبسط يده بالإعانة على بعض المصالح العامة؛ كإنشاء مساجد، أو مدارس، أو مستشفيات، أو ملاجئ، أو إعداد وسائل الاحتفاظ بسيادة الأمة، والدفاع عن حقوقها. وليس غنى إلا غنى زَيَّن الفتى ... عشية يعرى أو غداة ينيل ورُمي محمد بن عمران بالبخل، فقال: "والله إني لا أجمد في الحق، ولا أذوب في الباطل". ويقولون: "لا تصن كثيراً عن حق، ولا تنفق قليلاً في باطل". وقيل لكريم بذل في وجوه البر مالاً كثيراً: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير. لا يضر أولي اليسار أن يقتصدوا في أطعمتهم وملابسهم متى كانوا يبذلون أموالهم فيما تكمل به المروءة، وتدعو إليه حقوق المجتمع، بل يزيدهم ذلك الاقتصاد مكرمة على مكرمة. قال قتيبة بن مسلم: أرسلني أبي إلى ضرار بن القعقاع، وقال لي: قل

له: في قومك دماء وجراح، وقد أحبوا أن تحضر المسجد فيمن يحضر؛ لتقوم بقسطك من الديات، قال: فأتيته وأبلغته، فقال: يا جارية! هاتِ الغداء، فجاءت بأرغفة خُشن، ففتتهن في نقيع من التمر، ثم صب عليهن زيتاً، فأكل، وقال: الحمد لله، حنطة الأهواز، وتمر الفرات، وزيت الشام. ثم انطلق إلى المسجد، فصلى ركعتين، واجتمع من قومه الطالبون للديات والمطلوبون، فأكثروا الكلام، فقال ضرار: إلى ما صار أمركم؟ قالوا: إلى كذا وكذا من الإبل، فقال: هي عليَّ كلها، ثم قام وانصرف إلى منزله. فلو كان ضرار بن القعقاع من المسرفين في الترف، لما تبرع بجميع ما لزم القوم من الديات، ولم يزد على أن تحمل قسطاً ضئيلاً من نحو ما يتحمله المسرفون في الترف وهم كارهون. نشكو إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى، ومن أمثلة هذا الإسراف الممقوت: مظاهر الأفراح والمآتم؛ فإنها تقام عندنا على غير حكمة وحسن تقدير، وتأكل من الأموال ما لا يجر إلى صاحبها حمداً، بل شأنه أن يسوق إليه ذماً أو إثماً. وإذا كان الإسراف يوقع الأفراد والجماعات في مضار كثيرة، كان واجباً على أولياء الأمور ودعاة الإصلاح أن يتعاونوا على الجهاد في هذا السبيل، حتى يبتعد الناس عن الإسراف في مآكلهم ومشاريهم، وملابسهم ومراكبهم، ومساكنهم وأمتعة بيوتهم، ويتحروا في جميع ذلك الطريقة المثلى. قال ابن الخطيب في مقالته السياسية: "رعيتك ودائع الله عندك"، ثم قال: "ورِضْهم على الإنفاق بقدر الحال".

تعاون العقل والعاطفة على الخير

تعاون العقل والعاطفة على الخير (¬1) في النفس قوة النظر والفكر، وذلك ما نسميه بالعقل، وفي النفس قوة الميل إلى الشيء والرغبة فيه، وذلك ما نسميه بالعاطفة. فالعقل يدرك حسن الشيء أو قبحه، والعاطفة تجعل النفس محبة له راغبة فيه. وإذا حدثنكم عن العقل، فإنما نريد: العقل السليم؛ فإن هذا هو العقل الذي يدرك في أغلب أحواله الخير أو الشر على ما هو عليه. ولا أسلم من عقل تربّى في أحضان الدين الحق، وتغذّى بلبان حكمته الغراء. أما العاطفة، فقد تتجه إلى ما يألفه العقل، وتسير مع العقل جنباً لجنب، وهي العاطفة الشريفة المحمودة. وقد تتجه إلى ما ينكره العقل، ويكون العقل في وادٍ وهي في وادٍ، وهي العواطف التي نسميها: أهواء وشهوات جامحة. * اختلاف العقل والعاطفة: يدرك العقل الخير والشر، ولا سيما عقلاً يزنهما بقسطاس الشريعة العادلة، ولكن العاطفة قد تنصرف عن الخير، وتأخذ بزمام النفس إلى ما هو شر، فتعد مناوئة للعقل، خارجة عن سلطانه، وقد نبّه القرآن المجيد لهذا النزاع، وحذّر من الانحطاط مع العواطف، فقال تعالى: {وَعَسَى أَنْ ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الثالث والرابع من المجلد الرابع عشر.

تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. فالنفوس قد تحب الشيء، وحقُّها أن تكرهه؛ لأنه شر، وقد تنفر منه، وحقُّها أن ترغب فيه؛ لأنه خير. وينبني على هذا التنبيه: أن الإنسان لا ينبذ الشيء لأول ما تنقبض منه العاطفة، ولا يمد إليه يده لأول ما يحس تعلق العاطفة به، بل يرسل فكره في طلب الاستدلال على أنه خير حتى يتعاطاه، أو أنه شر حتى يتحاماه. يختلف العقل والعاطفة، وإذا تعلقت العاطفة بما أنكره العقل، كانت العاطفة هي الخاطئة، ومن جرى في عمله على إرضائها، فقد ازدرى العقل، وضلَّ سواء السبيل، وليس من الممكن أن يدرك العقل الناشئ في مهد العلم الصحيح شيئاً، ويذعن له، ثم تخالفه العاطفة، فتميل إلى غير ما أذعن له العقل، ويكون كل منهما على هدى، وقد زعمت طائفة من المناوئين للدين الحق أن قضايا الدين تتقلبها العواطف، وقضايا العلوم تتقبلها العقول، وأن العواطف قد تتقبل أشياء لا تسلمها العقول، ولم يكبر عليهم أن يقولوا: إن قبول العاطفة للقضية الدينية وإنكار العقل لها لا يتنافيان. قالوا هذا حين قصدوا لصرف الناس عن وجهة الدين من طريق المداجاة والمخاتلة، فتسمعهم يقولون لمن أرادوا إغواءه: إن الدين لا يلزم أن يكون مطابقاً للعلم؛ لأن العلم يجيء من ناحية العقل، فنقبله على أنه ثمرة الفكر، وإن الدين نتقبله بقلوبنا وعواطفنا، ولا يضره عدم تسليم العقل. وقد يأتي أولئك المخادعون إلى أشياء قررها الدين، وهي في زعمهم مخالفة للعلم، ويتظاهرون بأنهم يؤمنون بما جاء به الدين، فيقولون: هذا

قرره العلم، فنتقبله بعقولنا، وهذا قرره الدين، فنتقبله بعواطفنا. ونحن نفهم أن الدين الحق قد يقرر شيئاً من الأحكام يقصر العقل عن فهم حكمتها؛ ككون صلاة المغرب ثلاث ركعات، أو يخبر بشيء يعجز العقل أن يقيم الدليل على إثباته؛ كبعض الأخبار الواردة في الجنة أو النار، ولكنا ننفي نفياً قاطعاً أن يقرر الدين شيئاً، فينكره العقل؛ أي: إن العقل يستطيع أن يقيم الدليل المقبول على انتفائه. الحقيقة التي نصدع بها موقنين، ونخرج من مقام الدفاع عنها ظافرين، هي أن كل ما يقرره الدين لا تجرؤ العقول على إنكاره، إلا عقولاً لا ترجع في إنكارها إلى منطق صحيح. والذين يريدون استهواء أفراد أو جماعات إلى مذهب زائغ، أوعمل فاسد، يتجنبون أن يأتوهم من ناحية العقل والمنطق؛ لعلمهم أن العقل والمنطق إنما يقفان بجانب الحق والفضيلة، فتجدونهم يلجؤون إلى أن يأتوهم من ناحية العواطف، حتى إذا وجدوها مستعدة لأن تنحدر في طريق غير طريق العقل، أخذوا يجاذبونها، ويغذونها بما يزيد في عوجها، حتى تخرج عن سلطان الحكمة، وهذا مايفعله الدعاة إلى غير هداية؛ من نحو: إعداد مستشفيات أو ملاجئ ينصبونها حبائل لاصطياد الغافلين من المسلمين. وكذلك يفعل الملاحدة والإباحيون؛ إذ يتخذون في وسائل إغواء فتياننا وفتياتنا، وإبعادهم عن حظيرة الدين، فتح باب الشهوات في وجوههم؛ من نحو: استحسان التبرج، واختلاط الجنسين، حتى يبلغ بعضهم أن يقول في غير استحياء: إن الدين لا يمنع من اختلاط الفتيان بالفتيات. وقد حذر بعض الحكماء من الطائفة التي تأتي الناس من ناحية أهوائهم،

فقال: أخوك من صدقك، وأتاك من ناحية عقلك، لا من ناحية هواك. والظالمون المستبدون يعملون على هذه الشاكلة، حيث لا يجدون من ذوي العقول الراجحة أولياء، فيفتشون عمن ينقادون إلى عواطفهم- أي: أهوائهم - دون عقولهم، فيتخذون منهم أعواناً، ويشبعون أطماعهم بالأموال والمناصب وغيرها من الملاذّ المادية. ولو رجعنا إلى التاريخ، لوجدنا أكثر أعوان الظالمين هم من ذوي النفوس التي تجري مع العواطف السافلة، ولا تقيم لنصائح العقول وزناً. وقد جاء القرآن الكريم إلى عواطف شأنها أن تجمح بالإنسان إلى حيف، أو تصده عن القيام بواجبه، فحذر من الإفراط في مسايرتها؛ مثل: الأبوة والبنوة، والزوجية والصداقة، قال تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]. ونظر شارع الإسلام إلى عواطف يغلب عليها الخروج عن حد الاعتدال، وبنى الحكم على ما هو الغالب عليها من الإفراط والغلو، كما جعل الأبوة والبنوة والزوجية من وجوه الطعن في الشهادة، فلا تقبل شهادة الابن لأبيه، ولا شهادة الأب لابنه، وإن كانا معروفين بالعدالة، ذلك أن عاطفة الأبوة أو البنوة قد تطغى، فتقع بصاحبها في شهادة غير صادقة. وقد يتنازع العقل والعاطفة إرادةَ الشخص إلى أن يتغلب سلطان أحدهما على سلطان آخر، وكثيراً ما تحذر الشريعة السمحة من الانقياد إلى العاطفة التي

تثور على سلطان العقل؛ كما قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور: 2]. فالعقل يتجه إلى ما يوجهه إليه الدين من إنكار السفاح، واستحسان إقامة الحد على مرتكبه، ولكن عاطفة الشفقة قد تهز في القلب، فتجعله ينفر من إجراء العقوبة على الزاني، وهذا ما يحذر منه كتاب الله بقوله: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}. والذين ينكرون بعض ما شرع الله من الحدود؛ كقطع يد السارق، وجلد القاذف، ورجم الزاني المحصن، لا يرجعون في إنكارهم إلى رويَّة ونظرات في المصالح والمفاسد صحيحة، وإنما أخذوا إلى ما يقولون بعاطفة عمياء، أو ذوق غير سليم. تقوى العواطف وتضعف، والتغلب على العاطفة القوية دليل قوة البصيرة، وإيثار الفضيلة على الرذيلة، فمن يخرج للحرب - مثلاً -، وقد ترك وراءه رزقاً واسعاً، وأهلاً يعزّ عليه فراقهم، يفضُل من خرج إلى الحرب، ولم يترك من ورائه شيئاً يأسف عليه. وأراد جرير أن يبالغ في مدح قوم بطموحهم إلى أقصى مراقي المجادة، فنبه على أن العواطف التي شأنها أن تصرفهم عن هذه الوجهة، لا تنال من عزائمهم شيئاً، حيث قال: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار ونبه آخر على أن عاطفة المحبة لا تشغله عن واجب الدفاع، فقال: وترانا يوم الكريهة أحرا ... راً وفي السلم للغواني عبيدا وإذا كانت الشجاعة درجات، فإن هذه الدرجات ترتفع على قدر

ما يقاوم الإنسان من العواطف الشخصية، ويرمي بها وراء ظهره. قال عبد الملك بن مروان لجلسائه: من أشجع الناس؟ فأكثروا من ذكر الأبطال، فقال لهم: أشجع الناس مصعب بن الزبير: جمع بين عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين، وأمة الحميد بنت عبد الله بن عباس، وولي العراقين، ثم زحف إلى الحرب، فبذلتُ له الأمان والمال والولاية، فأبى أن يقبل ذلك، واطّرح كل مشغوف به في ماله وأهله وراء ظهره، وأقبل بسيفه قَرْماً، يقاتل ما بقي سبعة نفر، حتى قتل كريماً. وعلى هذا المنوال يجري كثير من خصال الحمد؛ كالكرم، والإنصاف، قال المتنبي: لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يُعْدِم والإقدام قتّالُ والمشقة التي تعرض لطالب السيادة هي التعب الذي يلاقيه في مخالفة ميول نفسه، من نحو حب الحياة، والحرص على الاستئثار بالمال، والتوسع في الاستمتاع به. وشأن الإنسان حب الانتقام ممن ألحق به أذى، فإذا كان للأذى الذي لحقه وجه من الحق، وكان الذي ألحق به الأذى على جانب من الفضل، كان مدحه له بدل هجائه تقديماً لداعي العقل على العاطفة الجامحة، وذلك هو الإنصاف. كان سعيد بن الجودي عاقب المقدام بن المعافى، وكان شاعراً، وشأن هذا العقاب أن يهيج في نفس المقدام بغض سعيد، وحب الانتقام منه بما يقدر عليه من الهجاء، ولكن المقدام رثى سعيداً بعد موته، فقيل له: أترثيه، وقد أصابك بالضرب؟! فقال: والله! إنه نفعني حتى بذنوبه، ولقد نهاني ذلك الأدب

توافق العقل والعاطفة

عن مضار جمة كنت أقع فيها على رأسي، أفلا أرعى له ذلك؟ والله! ما ضربني إلا وأنا ظالم له، أفأبقى على ظلمي بعد موته؟!. * توافق العقل والعاطفة: يدرك العقل حسن الشيء وصلاحه، وتُسايره العاطفة. والأمر الذي يستحسنه العقل، وتتجه إليه العاطفة، تقبل عليه النفس بعزم صارم، وتعسى له بكل ما أوتيت من استطاعة، وذلك معنى تعاون العقل والعاطفة على الخير. اتجاه العاطفة إلى ما يتجه إليه العقل، يجعل الأمر الصعب سهلاً، والغاية البعيدة قريبة، والطريق الوعر معبداً، لهذا نرى القرآن الكريم بعد أن يدعو الناس إلى ما فيه خيرهم، قد يأتي النفوس من ناحية العواطف؛ إذ يعقب الأمر بما شأنه أن يثير حماستها، وخذوا مثلاً لهذا: أمره بدفاع العدو في قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190]، فشأن المسلم أن يتلقى أمر الله بالامتثال؛ لقيام الدليل القاطع على أنه لا يأمر إلا بخير، ولكن الأهواء قد تستولي على القلوب، وتعوقها على امتثال أمر القتال، فأخذ القرآن يهز العواطف حتى تتضافر هي والعقل على العزم والثبات في مواقف الدفاع؛ إذ قال تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8]، فذكّرهم فرض القتال بأنهم إذا تهاونوا بأمر الدفاع عن أوطانهم، بسط العدو عليهم سلطانه، واستبد فيهم لا يرعى لهم عهداً ولا ذمة، وليس من شك في أن التذكير بهذه العاقبة المشؤومة، يثير في نفوس الأمة رغبة شديدة في الاحتفاظ باستقلالها إن كانت مستقلة، أو في الأخذ بأسبابه إن كانت مستعبدة. وإن شئتم أن تزدادوا خبرة بأثر العاطفة من الإقدام على العمل الصالح

بقوة، فانظروا إلى رجلين اتحدا في مقدار ما تلقياه من العلوم الدينية، وأحدهما متقد حماسة، مجدّ في الدعوة إلى سبيل الله، متفانٍ في الذود عن حياض الشريعة، والآخر منهما خِلْو من هذه الحماسة، فلا يؤلمه أن يرى حرمة الدين منتهَكة، وكلمته غير نافذة، ونفوس الناشئين عنه منصرفة، ذلك أن الأول متفقه في الدين، وتربّت له مع هذا التفقه عاطفة نحوه، أما الآخر، فتلّقى علوم الدين، وإنما صارت لمسائلة صور قائمة في ذهنه، دون أن تكون بجانبها عاطفة. والعلماء الذين كانوا يواجهون ذوي السلطان بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يبالون بما يلاقونه في سبيل الدعوة من الأذى؛ مثل: سعيد بن المسيب، وعز الدين بن عبد السلام، ومنذر بن سعيد البلوطي، إنما امتازوا عن غيرهم من أهل العلم بشدة العاطفة الدينية المتدفقة غيرةً وحماسة. وقد تتعارض العاطفة الدينية والعاطفة الشخصية، والكيّس من يقدم العاطفة الدينية، ويرمي بالعاطفة الشخصية إلى وراء، وأسوق إلى حضراتكم مثلاً لهذا، هو: أن الخليفة هارون الرشيد كان جالساً بجانب القاضي أبي يوسف، فدخل يهودي رافعاً إلى القاضي دعوى على الخليفة، ومراعاةً للتسوية بين الخصمين في مجلس الحكم، قام أبو يوسف من مكانه، وأشار إلى اليهودي بأن يجلس به حتى يكون بجانب خصمه الذي هو الخليفة، وقضى لليهودي على الخليفة، ولكن أبا يوسف ذكر أن قلبه كان يميل إلى أن يكون الخليفة هو المحق، واليهودي مبطلاً، وكان يتألم من هذا الميل القلبي، ويستغفر الله منه. فانظر كيف كان في نفس أبي يوسف عاطفة شخصية نحو هارون الرشيد جعلته يحب انتصاره على اليهودي، وكان في نفسه عاطفة دينية تدعوه إلى أن يصدر الحكم على نحو ما أمر به الدين من العدل، فأجاب -رحمه الله-

كيف تربى عاطفة الخير؟

داعي العاطفة الدينية، فأصدر حكمه في القضية على ما أذن به الدين، وأعرض عن داعي العاطفة الشخصية جانباً. وقد يتجاذب العاطفةَ الشخصية - كعاطفة الصداقة - ناحيتان، تقتضي إحداهما مسلكاً، وتقتضي الأخرى مسلكاً غيره، والكيّس يزن الناحيتين، ويقدم الناحية التي ينصح بها الدين، ويرتضيها العقل. قال السلطان صلاح الدين الأيوبي يوماً للقاضي الفاضل: لنا مدة لم نر فيها العماد الكاتب، فلعله مريض، امض إليه، وتفقد أحواله. فلما دخل القاضي الفاضل دار العماد، وجد أشياء أنكرها في نفسه؛ مثل: آثار مجالس الخمر وآلات الطرب، فخاطبه منشداً: ما ناصحتك خبايا الودِّ من رجل ... ما لم ينلك بمكروه من العذلِ محبتي فيك تأبى أن تسامحني ... بأن أراك على شيء من الخللِ فلما قام من عنده، أقلع العماد عما كان فيه، ولم يعد إليه. فعاطفة المودة قد تدعو إلى الإغضاء عن معايب الصديق؛ لأن تنبيهه إلى العيب قد يؤلمه، وربما أحدث جفاء بين الصديقين، وقد تدعو إلى تنبيهه لبعض ما يأخذه عليه الناس متى أبصروه، وهذا ما يدعو إليه الدين، وتنادي به الفضيلة. وكان ابن هبيرة يقول: اللهم إني أعوذ بك من صحبة مَن غايته خاصة نفسه، والانحطاط في هوى مستشيره، ومن لا يتلمس خالص مودة أصدقائه إلا بالتأتي لموافقة شهواتهم. * كيف تربى عاطفة الخير؟ عواطف الخير كثيرة، وتربى العاطفة الشريفة ببيان ما يترتب على العمل

من فوائد عامة أو خاصة، فقد يعتقد الإنسان بصلاح عمل من جهة ثقته بحكمة من يأمره به، أو لأنه اطلع على فائدة من فوائده، فيجد داعية على إجابة الأمر، ولكن هذه الداعية قد تبدو ضعيفة حيث لم يكن بجانبها عاطفة قوية تسهل عندها الصعاب، وتتضاءل أمامها العقبات. وتقوى العاطفة نحو الشيء يقدر ما تعرف النفس من فضله وحسن عواقبه، فصدور الأمر بالشيء من الشارع الحكيم- مثلاً - هو كاف لقبول الإنسان له، واعتقاده بصلاحه، ولكنه ينهض للعمل بنشاط أوفى، وعزم أمضى، متى ازداد علماً بما يترتب عليه من الآثار الحميدة. وتربى العاطفة الشريفة بالأساليب البارعة؛ من نحو: التشابيه والاستعارات وضرب الأمثال؛ حيث يُعرض الشيء المطلوب فعله في صورة شيء تألفه النفوس، وترغب فيه؛ فقد تدرك النفس حسن الشيء المطلوب فعله، ولكن عرضه في صورة ما ألفته واتجهت إليه من قبل، يجعلها تزداد ارتياحاً له، ورغبة فيه، ومن هنا كان الشعر مثيراً للعواطف، وصح أن يستعان به في توجيه النفوس إلى كثير من أعمال الخير. وقد سلك القرآن الكريم في تربيته العواطف هذا المسلك البديع، وكان لضربه الأمثال أثر عظيم في تثبيت حكمه البالغة في النفوس، وتنمية العواطف الدافعة إلى عظائم الأمور. وخلاصة البحث: أن أطيب الناس حياة، وأرفعهَم في المجد مقاماً، وأوفرَهم من خصال الحمد ثروة، ذلك الرجل الذي رزق عقلاً سليماً، وديناً قيماً، ورزق بجانب ذلك عواطف شريفة تتوجه حيثما توجه العقل، ولا تنساق إلا إلى ما يرتضيه الدين الحق.

حقوق الفقراء على الأغنياء في الإسلام

حقوق الفقراء على الأغنياء في الإسلام (¬1) نظّم الإسلام صلة المخلوق بالخالق - جل شأنه -، فأرشد إلى الإيمان الخالص، ودل على مظاهر العبادات الصحيحة، ولم يقتصر على هذه الصلة المقدسة، بل نظر إلى الناس وهم مدنيون بطبعهم، وعمد إلى ما يربطهم من صلات، فعدلها، وأخرجها لهم في أصفى لون، وأحسن وضع. عرفنا كيف تكون الصلة بين الإنسان ومن تصله بهم قرابة أو زوجية أو تعاون على القيام بما تستدعيه الحياة المنزلية، فكان نظام الأسرة والمنزل محفوفاً بالطمأنينة والهناءة. ثم عرفنا كيف تكون المعاملات القائمة على تبادل المنافع من نحو البيع والإجارة، فأرانا السبيل إلى أن نتعامل ونتفارق على وفاق وائتلاف. ثم نظر الإسلام نظرة بعيدة المدى إلى الفريق الذين يقعون في ضيق من العيش، ولا يستطيعون حيلة إلى ما يسد حاجتهم الحيوية، فأبت حكمته أن يظل هؤلاء البائسون بين ذوي اليسار يقاسون آلام الضراء، ويبيتون هم وأفلاذ أكبادهم في كرب من الجوع والبرد، فوضع بين فريقي البائسين والموسرين صلة أحكم ربطها، وحاطها بسياج من العدل. ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام في دار الإذاعة المصرية بدعوة من وزارة الشؤون الاجتماعية. ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس والسادس من المجلد الرابع عشر.

وموضوع حديثنا الليلة: هو النظر في هذه الصلة، وذكر مالها من حقوق، والتنبيه لما تأتي به رعايتها والاحتفاظ بحقوقها من ثمرات طيبة. بنى الإسلام أحكامه وآدابه على أساس العزة والكرامة، فكره للرجل أن يخلد إلى البطالة، ويتعرض للصدقات، وهو قادر على أن يضع يده في عمل يكسب به قوته أو قوت من يعول، قال - صلوات الله عليه -: "والذي نفسي بيده! لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره، خير من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله، فيسأله أعطاه أو منعه". وقد مر بنا قول المتنبي في مدح محمد بن عبد الله الخصيبي قاضي أنطاكية: أخلت مواهبك الأسواق من صنع ... أغنى يداك عن الأعمال والمهن فنعده من الشعر المنحو به نحو الغلو في الإطراء، ولكنّا نود من المتنبي أن يجعل أثر المواهب قطع دابر الفقر، كما قال ابن المولى في يزيد بن حاتم: لو كان مثلك آخَرٌ ... ما كان في الدنيا فقير لا أن يجعل أثر المواهب استغناء الناس عن الأعمال والمهن؛ إذ لا يليق بإنسان أن يترك عملاً، أو يقاطع مهنة؛ اتكالاً على مواهب قاض أو وزير أو أمير. وكره الإسلام لمن ابتلوا بقلة ذات اليد أن يسارعوا إلى الاستجداء ولهم في التجمل متسع، فانظروا كيف نبّه القرآن الكريم على فضل قوم ضاقت أيديهم عن الكسب، فلاذوا بالتعفف، وارتدوا بالتجمل، فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273].

وبعد هذا التعفف في مفاخر الجماعة، قال جزء بن ضرار يصف قومه: فقيرهم مبدي الغنى وغنيهم ... له ورق في السائلين رطيب كافح الإسلام البطالة، ونصح لمن وقع في فاقة بأن يحتفظ بماء وجهه، ويترفع عن التكفف ما وجد للصبر على العسرة موضعاً، ثم أقبل على أولي اليسار يربي فيهم عاطفة الإحسان، ويقيمها على قواعد حكيمة رشيدة. نراه قد عني بالإحسان إلى طوائف خاصة ممن يحتاجون إلى أن يعانوا على نوائب الزمان، فأمر بالإحسان إلى ذوي القربى، والآيات والأحاديث الواردة في فضل صلة الرحم، وماتأتي به من خيري الدنيا والآخرة، لا يسع المقام إيرادها، ويكفي شاهداً على ما نقول: أنه حثّ الرجل على أن يحسن إلى أقارب من كان صديقاً لأبيه، قال - صلوات الله عليه -: "إن من أبرّ البرّ صلة الرجل أهل ودِّ أبيه بعد أن يولي". وأمر بالإحسان إلى اليتامى، ذلك أنهم فقدوا أحضان من كان يرعاهم، ويكفيهم أمر عيشهم، وهم لضعفهم عاجزون عن أن يصلوا إلى قوتهم بأيديهم. وأمر الرجل بالإحسان إلى الجيران، ولو لم تربطهم به رابطة قرابة، قال - صلوات الله عليه -: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره". وأمر بالإحسان إلى أبناء السبيل، ذلك أنهم يقدمون البلد، وهم يجهلون موارد الرزق منه، أولا تصل أيديهم إلى كسب القوت بسهوله، وقد جمع القرآن الكريم هذه الطوائف، وأمر بالإحسان إليها في آية واحدة، قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [النساء: 36]. حرض الإسلام على الإحسان إلى ذوي القربى واليتامى والجيران وأبناء

السبيل، وأقبل يدعو إلى بذل المعروف على وجه عام، ويهزّ عواطف الموسرين إلى البر بكل فقير هزاً رفيقاً، فنجده يعد على الصدقات بالوقاية من النار، ويعد عليها بنعيم الجنة، ويدفع ظن من يقع في نفسه أن الصدقات نقص في الأموال، فيعد المتصدقين بتعويض ما أنفقوه في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، فهذه الآية دلت على أن الصدقات من أسباب سعة الرزق، ومن أصدقُ من الله قيلاً؟ ونجد القرآن الكريم يثني على المصطفين من الناس، فيذكر في خصالهم الحميدة: رحمتهم بالفقراء، وصرفهم جانباً من أموالهم في إغاثتهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24 - 25] وأي مديح يسمو بصاحبه دون أن تذكر فيه خصلة السخاء وإغاثة الملهوفين؟!. ولا ننسى أن من حكمة فرض الصيام أن يذوق الأغنياء مرارة الجوع الشديد، فيذكروا ما يقاسيه الفقراء من أمثال هذا الجوع المؤلم، فيدعوهم إلى أن يبسطوا إلى الفقراء أيديهم بالإحسان ما استطاعوا. كانت أم حاتم تكثر من الإحسان، وتقول: والله! لقد مسني الجوع ما آليت معه أن لا أمنع سائلاً شيئاً. أراد الشارع أن لا يفوت أحداً من الناس فضل التصدق، فرَغَّب في الصدقة، واعتدَّ بالقليل أو الحقير مما يتصدق به، فقال- صلوات الله عليه -: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم يكن، فبكلمة طيبة"، وقال: "لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق". وإذا ضم القليل إلى القليل، والحقير إلى الحقير، عادت القلة كثرة، والحقارة عظماً، ومن هنا يتيسر للإنسان أن يدخل في قبيل المحسنين، وإن لم يكن في سعة من الرزق،

قال الشاعر: وليس الفتى المعطي على اليسر وحده ... ولكنه المعطي على اليسر والعسر ومن عناية الشارع بإغاثة الملهوفين: أناّ نجده يحثُّ من ليس بيده مال على أن يعمل ليدرك فضل التصدق. قال- صلوات الله عليه -: "على كل مسلم صدقة"، قالوا: فمن لم يجد؟ قال: "يعمل بيديه، فينفع نفسه، ويتصدق". عملُ الرجل بيده ليتصدق على الفقراء شاهدُ صدق على بلوغ النفس في الكرم ورقة العطف غاية سامية، ومن أصدق الشواهد على رسوخ النفس في الرأفة والسخاء: أن يؤثر الرجل مسكيناً ذا متربة بنحو مطعوم أو ملبوس، وإن كان هو في حاجة إليه، وإلى هذا الصنف من المحسنين يشير القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. ولا تعجبوا للرجل يعمل بيده ليغيث الملهوفين، أو يؤثر بالشيء وهو في حاجة إليه، فإنه يجد في الإحسان والإيثار لذة تجعل ما أحسن أو آثر به في نظره شيئاً حقيراً. ولم أر كالمعروف أما مذاقُه ... فحلوٌ وأما وجهه فجميلُ يريد الشارع من المتصدق أن يكون سمح النفس، فأرشده إلى أن ينفق من طيب ما عنده، ولا يزدري الفقير، فيقصد إلى الرديء من نحو طعام أو ثياب، فيتصدق به، وهو قادر على أن يتصدق بما هو خير منه، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]. حث الإسلام على الصدقات، وحاطها بآداب تجعلها لدى المتصدَّق

عليه سائغة هنيئة، ندب إلى أن تعطى الصدقات في خفاء، ذلك أن إعطاءها صاحب الحاجة في علن، يكسر خاطره، وقد يأبى قبولها، حيث يكون ممن يتجملون ويكرهون أن يطلع الناس على أنهم في فاقة، وأشار إلى هذا الأدب رسول الله- صلوات الله عليه - حين ذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة، فقال: "ورجل تصدق بصدقة وأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه". وأذكر أني كنت قد عرفت جمعية خيرية في بعض المدن الكبرى تبحث عن الفقراء من طرق سرية، وتبعث إلى من تحققت فقرَهم بمبالغ من المال على طريق البريد، دون أن يعلموا الجهة التي أرسلتها إليهم. ونبّه الشارع الحكيم على أن فضل الصدقات في أن يبذلها الإنسان إجابة لداعي الرحمة، ولا ينتظر ممن يبذلها لهم أن يقابلوها بجزاء أو شكر، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8 - 9]. ومن أجمل آداب الإحسان: أن يبذله الرجل بوجه طلق؛ فإن طلاقة الوجه تنبئ بأن الإحسان صادر عن نفس عريقة في الكرم، شاعرة بأن ما تتصدق به إنما هو رزق للفقير أجراه الله على طريقها. قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]. وقال بعض الكرام: لم لا أحبُّ الضيفَ أو ... أرتاح من طرب إليه والضيف يأكل رزقه ... عندي ويحمدني عليه وأصدق شاهد على سماحة الرجل ورقة عاطفته: أن يواصل بالإحسان، ولا يقطعه عن ذي الحاجة، ولو كان يمسه بأذى. وقد نبّه القرآن الكريم لهذا

الأدب العظيم، فقال تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]. يشعر رقيق العاطفة بحاجة الفقير، فيصله بالإحسان دون أن يضطره إلى بذل ماء وجهه بالسؤال، قال معاوية لبعض جلسائه: ما الجود؟ قال: التبرع بالمال، والجود قبل السؤال. قال الأعشى: وما ذاك إلا أن كفيك بالندى ... يجودان بالمعروف قبل سؤالكا وقال مروان بن أبي حفصة يرثي معن بن زائدة: مضى من كان يحمل كلَّ ثقلٍ ... ويسبق فضلُ نائله السؤالا ومن أدب الإحسان: أن يتجنب الرجل المنّ بما أعطى، وإنما يعقب المنُّ عطاء لم يكن ناشئاً عن فضيلة، ولا عن عاطفة نبيلة، وقد جعل الشارع المنَّ ماحقاً للصدقة، فلا يقام لها وزن، ولا ترجى لها مثوبة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]. ولإخلال المن بمزية الكرم نرى الشعراء حين يمدحون شخصاً بسعة النوال ينبهون على أنه لا يتبع عطاءه بالمن، كما قال المتنبي في مدح كافور: إلى الذي تهب الدولاتِ راحتُه ... ولا يمنُّ على آثار موهوب لا يليق بالمحسن أن يمن على الفقير بما أعطى، ولا أن يتبع إحسانه بأذى، ولا يليق بمن تلقى الإحسان أن يقابله بالكفران، وكفرانُ النعمة قد يكون سبباً لقطعها، والذين يواصلون الإحسان - ولو مع مقابلته بالكفران - ليسوا بكثير. والأصيل في الكرم يبادر إلى الإحسان ما استطاع، ومن لم ترسخ قدمه

في المكارم قد يصرف ذوي الحاجات بالوعد، وهو قادر على أن يسعفهم بحاجاتهم حال تعرضهم لمعروفه، ولعله يفعل هذا لينظر: أينجز الوعد، أم يخلفه؟ ومن هنا نرى الشعراء يمدحون كرام الناس بأنهم يجودون دون أن تسبق عطاياهم وعود، فلا يقال في حقهم: أنجزوا وعودهم، أم ماطلوا بها؟ قال المتنبي يمدح شجاع بن محمد: وحالت عطايا كفه دون وعده ... فليس له إنجاز وعد ولا مطلُ ولا يكلف الإنسان بأن يتداين ويتصدق، وفي كرام الناس من يلذ الإحسان، أو يقدر حسن عاقبة الإحسان، فيتحمل ثقل الدين ليغيث به ملهوفاً. وكان سعيد بن العاص يأتيه الرجل، فيسأله، فلا يكون له مال حال السؤال، فيقول للسائل: ما عندي شيء، ولكن اكتب عليّ به، فيكتب عليه كتاباً، ولا يكون من سعيد إلا أن يقضي الدين الذي أذن بأن يكتب عليه. أمر الشارع بإغاثة الفقراء على وجه عام دون أن يعين وقتاً للتصدق، أو مقداراً لما يتصدق به، بل وكل ذلك إلى استطاعة الرجل، وسماحة نفسه، وشعوره بحاجات البائسين، وجعل هذا مضماراً يتنافس فيه عشاق مكارم الأخلاق، ويتفاضلون فيه درجات. وأمر الشارع بعد هذا بصدقات تؤدى في أوقات معلومة، كما شرع زكاة الفطر عند قضاء شهر رمضان، وأمر بصرف قسط من لحوم الأضاحي إلى الفقراء. وفرض الشارع كفارات على بعض ما يرتكب من المخالفات، ونظر في تقرير هذه الكفارات إلى حاجة الفقراء، فجعل من أصنافها: إطعام المساكين، كما جعل من أصناف كفارة اليمين: إطعام عشرة مساكين، وأصناف كفارة

الإفطار في رمضان عمداً إطعام ستين مسكيناً، وكذلك جعل إطعام المساكين للإخلال ببعض واجبات الحج. علم الشارع وهو علّام الغيوب أن في الناس شحاً، وأن في الناس أهواء طاغية، فلم يكتف بما دعا إليه على وجه التذكير بمكارم الأخلاق من إغاثة الملهوفين، فآذن الأغنياء بأن في الأموال التي تحت أيديهم حقوقاً للفقراء يجب أن يسلموها لهم طائعين أو مكرهين، وقدّر هذه الحقوق بحكمة، وعين لها أوقاتاً، وتلك فريضة الزكاة. فرضت الزكاة على الأغنياء، والغني في نظر الشارع من يملك عشرين ديناراً فما فوقها، كما فرضت الزكاة فيما يملكه الناس من الأنعام، أو تخرجه المزارع أو الأشجار من الحبوب والثمار. وأحكام الزكاة مفصلة في كتب الشريعة، وإنما نريد التنبيه لعظم فائدتها في إصلاح الأخلاق وحال الاجتماع، حتى استحقت أن تعد في أركان الإسلام الأربعة بعد الشهادتين. يقع الفقراء العاجزون عن اكتساب أقواتهم في كثير من البلايا: تعتل أجسامهم لقلة الغذاء الكافي لحفظ صحتهم، وتغتم قلوبهم خوفاً على حياتهم أو حياة من يعز عليهم من أبنائهم وأزواجهم، وقد يحملون في أنفسهم عداء لذوي الأموال؛ إذ يسبق إلى أذهانهم أن الموسرين شاعرون بما هم فيه من البأساء والضراء، ولم يكترثوا بهم. وحيث كان من مقاصد الإسلام تكوين أمة قوية الأجسام، مطمئنة القلب، متماسكة برباط الوداد والاتحاد، متمتعة بأمن شامل، بادر إلى علاج مرض البؤس والفاقة، ففرض الزكاة على وجه يجعل الفقراء العاجزين عن الكسب في كفاف.

فإذا قلنا: إن الشارع جعل شطراً من الزكاة يصرف إلى الفقراء والمساكين، وشطراً منها يصرف في الاستعداد للدفاع، فكأنما قلنا: إن الشارع قد فرض الزكاة لتكون وسيلة القوة المادية والقوة النفسية، وبالقوتين تبلغ الأمة أقصى ما تروم من العزة والمنعة. ندب الإسلام إلى الصدقات، وفرض الزكاة فقدّرها أحسن تقدير، وأوجب على الناس أن يطعموا المسكين متى كان في مخمصة- ولو كانوا أدوا زكاة أموالهم-، وقد توعد على ترك هذا الواجب الإنساني الأليم، اقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 38 - 44]. يجازى بعذاب الحريق من منع المساكين حقوقهم من الزكاة، ومن أبصر مسكيناً في مجاعة فلم يغثه، وقد دل القرآن الكريم على أن قسطاً من هذه العقوبة يستحقه من لا يحضّ الموسرين على إطعام المساكين، يدل على هذا قوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 30 - 34]. هذه كلمتنا في حقوق الفقراء على الأغنياء، ولو تعاونت الأمة والدولة على مكافحة البطالة، ثم عملوا بالتي هي أقوم على أن يؤدي الأغنياء هذه الحقوق، فتصل إلى أربابها على وجه منظم، لأصبحنا في مقدمة الأمم القوية في أخلاقها، المطمئنة في عيشها، وإذا ظفرت الأمة بقوة الأخلاق وطمأنينة العيش، فهناك تظهر طبقاتها متماسكة ما بين الثروة والكفاف، وهنالك تكون العزة والسعادة.

السمو الخلقي في الإسلام

السمو الخلقي في الإسلام (¬1) جاء الإسلام ليحرز به الناس في الدنيا مدنية فاضلة، ويغنموا به في الآخرة سعادة خالصة، وكان من مقتضيات هذا المقصد الأسمى أن تشتمل تعاليمه على نظم لصلة المخلوقين بالخالق- جل شأنه - وهي أحكام العبادات، ونظم لصلة الإنسان، بأخيه الإنسان، وهي أحكام المعاملات، ونريد من المعاملات: ما يشمل القضاء، وتدبير السياسة. وحيث كانت العبادات والمعاملات لا تجري على وجه صحيح منتظم، إلا أن تصدر عن آداب نفسية نبيلة راسخة، كان من حكمة الدعوة أن تعنى بتهذيب الأخلاق، ولا تكتفي بتقرير أحكام الأفعال التي هي مناط التكليف. ويهذا أخذ النظر في الأخلاق والآداب النفسية من علوم الشريعة مكاناً واسعاً. وإذا نظرنا إلى الأخلاق التي تساعد على القيام بالواجبات العملية، وجدناها ترجع إلى الحلم، والسخاء، والشجاعة، والحياء، وصدق اللهجة، والصبر، وعزة النفس، والتواضع، وكبر الهمة، والوفاء بالعهد، والزهد، والعدل، والأمانة. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن السادس والثامن من المجلد السابع عشر.

وليس من غرضنا الليلة أن نتحدث عن هذه الخصال مثلما يتحدث عنها علماء النفس بتفصيل؛ إذ يتعرضون للبحث عن حقائقها، ويقسمونها إلى أصول وفروع، ويذكرون ما بين فروعها من مناسبات أو فروق، ويدلون على الآثار المترتبة عليها، ويصلون حديثهم بالبحث عن كيفية تربية النشء عليها، كان هذا التفصيل يستدعي تخصيص كل خصلة منها بمحاضرة على أقل تقدير. والذي أستطيعه في هذا المقام إنما هو إلقاء نظرة على هذه الآداب، أقصر فيها القول على ناحية ارتباط الهداية الإسلامية بها، وتنبيهها على سمو مكانتها، وحثها الناس على التجمل بحليتها؛ حتى يزداد شبابنا علماً بأن الدين الحنيف قد أتى إلى الأخلاق، وهي الأساس الذي تقوم عليه سعادة الأمم، فهذبها، وأرشد إليها على طريقة أقرب إلى العقول، وأدعى إلى العمل عليها من الطرق التي سلكها الفلاسفة. أما الحلم، الذي هو ضبط النفس عن أن يهيجها الغضب بسهولة وسرعة، فقد ذكره القرآن المجيد في صفات المؤمنين بحق، فقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134]، فإن عقب هذه الطمأنينة ترك المؤاخذة على الإساءة، فذلك العفو المشار إليه بقوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134]. فطمأنينة النفس عند الإساءة بحيث لا يحركها الغضب بسهولة، كمالٌ في نفسها، فإن انضم إليها ارتياح النفس لعدم المؤاخذة على الذنب، كان الكمال مضاعفاً. ووجه ارتباط خلق العفو بما دعا إليه الإسلام، هو أن من مقاصد الدعوة تكوين أمة مؤتلفة القلوب، متعاونة على البر والتقوى، ولا يمكن تحقيق

هذا القصد إلا أن تنتفي أسباب التجافي والتقاطع، وحيث كانت الجماعات الكبيرة لا تخلو من أن يتعرض طائفة لطائفة بمكروه من قول أو فعل، كان من الآداب التي عنيت بها دعوة الإسلام: الإغضاء عن أمثال هذه الهفوات، وشمولها بالعفو. وللحلم - بمعنى عدم إظهار الغضب - أثر عظيم في نجاح السياسة: ولربما ابتسم الكريم من الأذى ... وفؤاده من حرِّه يتأوه وقد عدّ الحلم - بمعنى الإغضاء عن بعض الزلات - في مقتضيات السياسة الرشيدة، قال الشاعر في وصف سياسة أميره: أناة فإن لم تغن عقّب بعدها ... وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمه وفي عهد ذوي الحلم والأناة من رجال الدولة يجد المصلحون مجال الدعوة أمامهم فسيحاً، فيعملون في طمأنينة وثقة من إدراك أسمى المقاصد، وأحمد العواقب. وأما السخاء: فإن من مقاصد الشريعة سد حاجات الفقراء، وإعانتهم على القيام بتكاليف الحياة، ومن أجل هذا فرضت الزكاة، وندبت إلى الصدقات، وقررت بعد هذا على الرجل حقوقاً مالية؛ كالإنفاق على الزوجات والأبناء وبعض ذوي القربى، فلا جرم أن يعنى الإسلام بتطهير النفوس من رذيلة الشح، وتحليتها بفضيلة السخاء، حتى إذا ورد الأمر بالإنفاق في وجه من الوجوه، سارعت إلى امتثاله عن طيب خاطر، وجاءته كأنما تنحط من صَبَب. ولا كون مخطئاً إذا قلت: إنّ من أسباب العاقبة السيئة التي سار إليها كثير من الشعوب الإسلامية؛ انقباض الأيدي عن البذل في سبيل الله.

لم يكتف الشرع الحكيم من المسلم أن ينفق من فضل ماله، بل مدحه بأعلى مراتب السخاء، وهو أن يؤثر غيره بالنوال وهو في حاجة إليه، فقال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. وأما الشجاعة، فنوعان: شجاعة حربية: وهي بذل النفس في سبيل الدين أو العرض أو المال. وشجاعة أدبية: وهي إقدام الرجل على إسماع ذي سلطان كلمة الحق؛ من أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، من غير مبالاة بما يلحقه من أذى السلطان، وكلتا الشجاعتين شملها الإسلام بعناية كبيرة. أما الشجاعة الحربية: فقد أمر الرجل الواحد من المسلمين بأن يقف في مشاهد القتال لرجلين اثنين من المخالفين المهاجمين، وجعل الفرار من الزحف كبيرة موجبة لغضب الله تعالى، وانما جزاؤها يوم القيامة الحرق بالنار. وأما الشجاعة الأدبية: فقد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الإيمان، ولا يختص هذا الواجب بعلماء الدين الرسميين، ولا بالعلماء المتميزين بزي خاص، بل هو فريضة في عنق كل مسلم، تُرك أمامه معروف، وهو يعلم أنه معروف، أو فُعل أمامه منكر، وهو يعلم أنه منكر. وقد تكلم الفقهاء المحققون عن هذه الفريضة بما يشفي غليل الباحث، وأذكر هنا: أن الإمام ابن عرفة أفتى بأن خوف العزل من الوظيفة ليس بعذر يجيز ترك النهي عن المنكرات. فكل مسلم مطالب بأن يكون جامعاً للفضيلتين: الشجاعة الحربية، والشجاعة الأدبية ما استطاع. ومن عرف أن الأمة لا تقع تحت سلطان أجنبي غاشم إلا بفقدها للشجاعة الحربية، وأن الفسوق والبغي لا ينتشران بين بيوتها إلا بفقدها للشجاعة الأدبية،

أدرك سر عناية الشرع الحكيم بهاتين الفضيلتين. وأما الحياء: وهو انفعال في النفس يمنع من ارتكاب ما لا يليق، فقد كانت عناية الدين به شديدة، حتى جعله - عليه الصلاة والسلام - شعار الإسلام، فقال كما ورد في الصحيح: "لكل دين خلق، وخلق الإسلام الحياء"، وفضلُه في أن يكون معتدلاً، واعتدالُه في أن يمنع من ارتكاب ما لا يليق، ولا يتجاوز إلى الإحجام عما يكون بعيداً. وقد نبّه - عليه الصلاة والسلام - إلى أن النفس التي تفقد هذا الخلق لا يؤمل منها أن تكون على رشد أو عفاف، فقال: "إذا لم تستح، فاصنع ما شئت". ولعلكم شعرتم - كما شعرت -: أن كلمة الحرية على ألسنة أشخاص لا يدركون كنهها، ولا يضعونها موضعها، قد أنقصت جانباً من الحياء في نفوس بعض أبنائها، فنجد في شبابنا من لا يبالي أن يقول أو يفعل بحضرة والديه أو المتقدمين في السن من أقاربه أو غيرهم ما لا يقبله الذوق الأدبي، بزعم أنه من مقتضيات الحرية في هذا العصر. والواقع أن الحياء حلية يزداد بها الشيخ وقاراً، والشاب كياسة، وإني لممن يرى للأب أن يفسح المجال لابنه في أن يتكلم بحضرته في شؤون دنيوية، أو مسائل علمية، حتى يتمرن تحت إشرافه على إبدائه الآراء الصائبة ومناقشتها، وله متى رآه قد حاد عن أدب الحياء بكلمة أو حركة أن ينبهه برفق، ويعظه بحكمة. وأما صدق اللهجة، فله أثر كبير في شرف النفس، وانتظام الشؤون المدنية؛ فإن من جرب عليه الكذب يكون محتقراً بين الناس، مزدرى به

في مجالسهم، ولا يمكنه أن يدرك بينهم ولو أدنى مرتبة من مراتب السيادة، ثم أن ظهور هذا الخلق عليه يفسد عليه أمر المعاملات، ويجعل رواياته وشهاداته مطروحة إلى وراء. فلا جرم أن يعنى الدين الذي جاء لإصلاح حال الأفراد والجماعات بفضيلة الصدق، ويحرّم الكذب تحريماً لا هوادة فيه، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعل الكذب في الدرك الأسفل من الرذائل، ونبّه على أنه لا يجتمع مع الإيمان الصحيح في نفس واحدة. روى مالك في كتاب "الموطأ": أنه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال: "لا". وأما الصبر، فيراد به: طمأنينة النفس، والتزامها السكينة عند حصول مكروه؛ من نحو: ضياع مال، أو فقد عزيز، ويراد منه: الثبات في طلب الأمر المحمود، واحتمال المشاق التي تعترض في سبيله، ومنه: الصبر على الطاعات، ويراد منه: كف النفس عن اتباع الشهوات، وارتكاب المحظورات، ومنه: الصبر عن المعصية. وكل هذه المعاني الثلاثة مبني على فضل وافر وعقل رصين؛ إذ لا يصبر عند مفاجأة المصيبة، أو عند السعي إلى غاية حميدة، أو عند طغيان الشهوات، إلا الراسخون في العلم بمصادر الأمور وعواقبها، ومن هنا كان الصبر بمعانيه الثلاثة في مقدمة الأخلاق التي شملها الإسلام برعايته. ومن مزايا الصبر: أن يساعد الإنسان على الاقتصاد في معيشته، ويحميه من أن يقع في غمِّ الدين ومذلَّته. وأما العزة، وهي أن يعرف الإنسان قدر نفسه، ولا يرضى لها أن تُمس

بإهانة، فإن من مقاصد الشريعة: أن تتمتع الأمة بحياة طيبة، ولا حياة طيبة مع احتمال الذلة، ومن مقاصدها: أن تكون للأمة دولة قوية السلطان، مهيبة الجانب، وخلقُ العزة هو الذي يمنعها من أن تخفض جناحها لمن يريد أن يسومها ضيماً، وخلقُ العزة يدعو الإنسان إلى تجنب كل ما قد يجره إلى مهانة، فقد ينبه الموظف لأن يقوم بالمهمة التي تناط به كراهة أن يسمع عتاباً جافياً من رئيسه المسؤول عنه، وخلق العزة يتجه بالإنسان القادر على العمل إلى أن يعمل ويصرفه عن التشوف إلى ما في أيدي الناس. وأما التواضع، فهو أن يكون الإنسان عارفاً بقيمة نفسه في فضل أو علم، ويسير مع الناس سيرة نقية من الكبر والإعجاب بالنفس، وبمثل هذا تتأكد روابط الألفة بينه وبين الطبقات الكثيرة من الناس، والقرآن الكريم يسمي التواضع بخفض الجناح، قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء: 215]، وقال في التواضع للوالدين: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]. وإنما يتواضع الإنسان لمن يقدره قدره، ويعد خفض جناحه له من سماحة نفسه: تواضعْ لمن إن تواضعت له ... يرى ذاك للفضل لا للبلَهْ وجانب صداقة من لا يزال ... على الأصدقاء يرى الفضل لَهْ وأشار أحد الشعراء إلى أن في الناس من يخطئ في فهم بعض ما يتحلى به أهل الفضل من التواضع؛ كما يخطئون في فهم بعض ما يتجملون به من العزة، فقال: وفي الناس من عدَّ التواضع ذلَّة ... وعدّ اعتزاز النفس من جهله كبرا

وأما كبر الهمة، فهو الخلق الذي يطمح به الإنسان إلى أغراض بعيدة المرمى، فيكون اتجاهه دائماً إلى أشرف الأعمال، وأرفع المنازل، ولا يرضى صاحبه بأدنى الأعمال أو المراتب وهو قادر على ما فوقها: وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم وقال آخر: له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجلُّ من الدهر والإسلام يحث على هذا الخلق النبيل؛ فإن الفتوحات العظيمة، والمشروعات الجليلة، والعبقرية والعلوم إنما هي آثار الهمم الكبيرة، فابن حزم عندما ترك الوزارة حتى ينقطع للازدياد من العلم، إنما فعل ما فعل منساقاً بكبر همته. وأما الوفاء بالعهد، فمن أعز الأخلاق التي رفع الإسلام شأنها، وشدّد الوعيد على الإخلال بها، فأوجبه على الأفراد لتهذيب نفوسهم، وإصلاح معاملاتهم، وأوجبه على رجال الدولة لتثق الدول بمعاهداتهم، ويستقيم أمر سياستهم، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]، وقال تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4]. وقد نهى الدين المسلمَ أن يقول قولاً، ثم لا يعقبه بالنفاذ، وعدّ هذا من موجبات المقت عند الله، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]. ويدخل في الوفاء بالعهد: الوفاء بالوعد مع القدرة على الوفاء، وهذه الآية الكريمة شاهدة على وجوب الوفاء بالوعد؛ إذ أصبح الموعود به من الخير حقاً من حقوق الموعود، وإخلافه كأنه اعتداء عليه.

ويتصل بالوفاء أدب آخر يسمَّى: حسن العهد، وهو أن يرعى الإنسان حقوق الصداقة والعشرة، فيحافظ عليها، وإن حصلت بينه وبين صديقه فرقة، أو تغيرت حاله من يسر إلى عسر. إنَّ الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في الموضع الخشنِ وروي في الصحيح: أن النبى - صلى الله عليه وسلم - دخلت عليه امرأة، فهشّ إليها، وأحسن السؤال عنها، ولما خرجت، قال: "إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان". وأما الزهد، فمعدود في آداب النفس التي استحبتها الشريعة، وأثنت على المتجملين بها، وهو استصغار شأن المال والملاذّ والزينة، وعدم تعلق القلب بها تعلقاً يتساهل معه الإنسان في أن يصل إليها ولو من طريق غير مشروعة، وهو بهذا المعنى يساعد على خلق العزة، وخلق السخاء، وخلق العفاف. وقد أساء بعض الناس فهم الزهد الذي هو أدب رفيع، ووصفوا به الشخص الذي يترك العمل لكسب الرزق وهو قادر عليه، ويرضى أن يكون في زمرة الفقراء الذين يتناولون أقواتهم من أيدي الأغنياء. وأما العدل، فهو خلق يدعو الإنسان إلى أن يعطي كل ذي حق حقه، وأكثر ما يظهر فضله في القضاء بين المتنازعين، وهو خلق لا يحكمه إلا من جمع فضائل شتى؛ من نحو: الشجاعة الأدبية، وعزة النفس، وقلة الحرص على المنافع المادية، وقد ورد الأمر بالعدل في آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، وعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - أصناف الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة، وذكر في صدرهم: الإمام العادل.

وأما الأمانة، وهي الخلق الذي يرعى به الإنسان ما يؤتمن عليه من مال أو عمل، فقد حفتها الشريعة بعناية بالغة، وحرمت على الإنسان أن يتصرف فيما يوضع تحت يده على وجه الوديعة أو العارية أو الإجارة إلا بالمقدار الذي يسمح به مالكه، كما أمرته بحفظ ما يناط بعهدته من عمل، ويدخل في هذا: إتقان الصناعة، وحسن تدبير السياسة، والنصح في التعليم، فمن غش في صنع شيء لحريفه، ومن لم يحسن تدبير السياسة، فهو خائن لأمته، ومن لم يسر في التعليم على أقرب المناهج وأغزرها فائدة، فهو خائن لتلاميذه.

المعتزلة

المعتزلة وأهل السنة (¬1) * المعتزلة: أصل هذا المذهب: أن واصل بن عطاء الغزال كان يحضر مجلس الحسن البصري في زمن فتنة الأزارقة، وكان الناس يخوضون في حكم أصحاب الذنوب من أهل القِبلة، فخرج واصل بمذهب هو: أن مرتكب الكبيرة ليس بمسلم ولا كافر، بل هو بمنزلة بين المنزلتين، وهو مخلد في النار، وانضم إليه عمرو بن عبيد، قال الناس: اعتزلا قول الأمة، فسمِّي أتباعهما من ذلك الحين: معتزلة (¬2). وقيل إن الحسن قال: قد اعتزلنا واصل، فلذلك سمّي هو وأصحابه معتزلة (¬3). ومقتضى عبارة "القاموس" أنهم سموا أنفسهم المعتزلة، قال: والمعتزلة من القدرية، زعموا أنهم اعتزلوا فئتي الضلالة عندهم: أهل السنة، والخوارج. ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام في نادي جمعية الهداية الإسلامية بالقاهرة، ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الأجزاء الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن من المجلد الثامن عشر. (¬2) "الفَرْق بين الفِرق". (¬3) كتاب "المواقف".

وقال ابن تيمية: كانت الخوارج قد تكلموا في تكفير أهل الذنوب من أهل القبلة، وقالوا: إنهم كفار مخلدون في النار، فخاض الناس في ذلك، وخاض في ذلك القدرية بعد موت الحسن البصري، فقال عمرو بن عبيد وأصحابه: "لا هم مسلمون، ولا كفار"، بل لهم منزلة بين المنزلتين، وهم مخلدون في النار. فوافقوا الخوارج على أنهم مخلدون، وعلى أنه ليس معهم من الإيمان والإسلام شيء، ولكن لم يسموهم كفاراً، واعتزلوا حلقة أصحاب الحسن البصري، مثل: قتادة، وأيوب السختياني، وأمثالهما، فسموا معتزلة من ذلك الوقت بعد موت الحسن، وقيل: إن قتادة كان يقول: أولئك المعتزلة (¬1). ومقتضى هذا النقل: أن الاعتزال ولقب المعتزلة إنما ظهرا بعد وفاة الحسن البصري (¬2). فالأصل الذي قام عليه الاعتزال هو القول بمنزلة بين المنزلتين. ويجمع المعتزلة على اختلاف طوائفهم - على ما ذكره بعض المؤلفين في المقالات؛ كعبد القاهر البغدادي - خمسة أصول: أولها: قولهم: إن الفاسق بمنزلة بين المنزلتين: الإيمان والكفر، وإنه مخلد في النار. ثانيها: إنكار القدر، وقولهم: إن العبد يخلق أفعاله. ¬

_ (¬1) "رسالة الفرقان". (¬2) ونقل عن ابن الحسن الطرائفي الشافعي أنه قال في كتاب "الرد على أهل الأهواء والبدع": عندما بايع الحسن بن علي - عليه السلام - معاوية، وسلم إليه الأمر، اعتزلوا الحسن، ومعاوية، وجميع الناس، وكانوا من أصحاب علي، ولزموا منازلهم ومساجدهم، وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة، فسمّوا بذلك معتزلة.

ثالثها: قولهم باستحالة رؤية الله بالأبصار. رابعها: نفيهم عن الله تعالى صفاته الأزلية. خامسها: قولهم: إن كلام الله حادث. وتختص بعد هذا كل فرقة من فرقهم بآراء يخالفها فيها فرق أخرى منهم، وربما حكم بعضهم بتكفير بعض. ومن المعروف أن إنكار القدر سبقهم به معبد بن خالد الجهني، وأن نفي الصفات، والقول بأن القرآن مخلوق سبقهم به جهم بن صفوان، والمعتزلة الذين كانوا في زمن عمرو بن عبيد وأمثاله إنما يتكلمون في الوعد والوعيد، وإنكار القدر، وحدث فيهم نفي الصفات بعد ذلك العهد، وذكر أحمد بن حنبل في رده على الجهمية مذهب جهم في نفي الصفات، وقال: فاتبعه قوم من أصحاب عمرو بن عبيد وغيره، واشتهر هذا القول عن أبي الهذيل العلاف والنظام وأشباههم من أهل الكلام (¬1). وذكر المعتزلة أن مذهبهم قائم على أصول خمسة أشار إليها أبو الحسن الخياط من أصحابهم في كتاب "الانتصار"، فقال: "وليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد، والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وأهل السنة يرونهم مخطئين في بعض ما بنوه على هذه الأصول، كما جعلوا من مقتضى توحيد الله نفي صفاته الأزلية، وإنكار رؤيته بالأبصار، وكما جعلوا من مقتضى عدله أنه لم يخلق أفعال العباد، إلى نحو هذا مما هو مفصل في كتب علم الكلام. ¬

_ (¬1) "مقالات الإسلاميين".

انتشار الاعتزال في صدر الدولة العباسية وأسبابه

ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يخالف فيه أحد من المسلمين، ولكن المعتزلة يقولون بوجوب الأمر والنهي بالسيف قولاً أشد من قول غيرهم، حتى إنهم قالوا: "إذا كنا جماعة، وكان الغالب عندنا أننا نكفي مخالفينا، عقدنا للإمام، ونهضنا، فقتلنا السلطان وأزلناه، وأخذنا الناس بالانقياد لقولنا، فإن دخلوا في قولنا الذي هو التوحيد، وفي قولنا في القدر، وإلا قتلناهم (¬1). وكان المعتزلة فريقين: فريق بالبصرة، وفريق ببغداد، فمن معتزلة البصرة: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبو الهذيل العلاف، وإبراهيم النظام، وأبو علي الأسواري، وأبو يعقوب الشحام، وهشام الفوطي، وأبو بكر الأصم، ومعمر بن عباد، والجاحظ، وأبو علي الجبائي، وأبو الحسين محمد بن علي البصري. ومن معتزلة بغداد: بشر بن المعتمر، أبو موسى المزدار (¬2)، وأحمد بن أبي دؤاد، وثمامة بن الأشرس، وجعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، وأوب جعفر الإسكافي، وأبو الحسين الخياط، وبشر المريسي (¬3). * انتشار الاعتزال في صدر الدولة العباسية وأسبابه: كان الأمويون يقاومون بعض من يظهر برأي في العقائد غيرِ معروف، ¬

_ (¬1) قد يقول بعض علماء الكلام عند حكاية الآراء: هذا مذهب البصريين أو البغداديين من المعتزلة. (¬2) هذا لقبه، وهو من لقب الافتعال من الزيارة "السيد-شرح المواقف". (¬3) نسبة إلى (درب المريس) ببغداد، والمريس عندهم هو الخبز الرقيق يمرس بالتمر والسمن، وكان بشر مقيماً في هذا الدرب، وتوفي ببغداد سنة 118 هـ، وكان معدوداً من المرجئة.

وقد يقابلون هذه الآراء بعقوبة القتل؛ كما قتل عبد الملك بن مروان معبداً الجهني، وهو أول من ظهر بإنكار القدر، وبعث هشام بن عبد الملك إلى نصر بن سيار كتاباً يأمره فيه بقتل جهم بن صفوان إن ظفر به (¬1)، وكذلك قتلُ خالد القسري للجعد بن درهم كان في عهد هشام، والاعتزال ظهر في عهد الدولة الأموية، ولكن الأمر الذي ظهر به واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد؛ كنفي الإيمان عن صاحب الكبيرة، أو الطعن في بعض الصحابة، فقد قال مثله فرق من قبلهم، ولم يتعرض لهم الأمويون بأذى، إلا أن ينزعوا إلى الخروج على الخلافة. وعندما جاءت الدولة العباسية، كان بعض المعتزلة مقرباً عند بعض الخلفاء؛ مثل: عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة؛ فإنه كان صديقاً لأبي جعفر المنصور قبل الخلافة. ولما ولي أبو جعفر الخلافة، قرّبه، ولكن عمرو بن عبيد كان آخذاً بمذهب الزهد، ومجاهرة الأمراء بإنكار الظلم، وإسداء النصيحة من غير أن ينزع إلى الخروج عليهم. ثم إن البرامكة في عهد الرشيد كانوا يعقدون مجالس للمناظرة، واختاروا له طائفة من المعتزلة، منهم: أبو الهذيل العلاف، وإبراهيم بن سيار، والنظام، وبشر بن المعتمر، وجعفر بن حرب، وثمامة بن الأشرس (¬2). واتصل المعتزلة بالخلفاء؛ كالمأمون، والمعتصم، والواثق، فكان من أسباب انتشار الاعتزال: اتصال رؤسائه برجال الدولة، وسمو مكانتهم عندهم، ¬

_ (¬1) وقال صالح بن أحمد بن حنبل: قرأت هذا في دواوين هشام بن عبد الملك إلى نصر بن سيار عامل خراسان، ولكن جهماً قتل بعد عهد هشام كما سلف. (¬2) "القواصم والعواصم" لابن العربي.

وتمسك أولئك الخلفاء بمذهبهم، وأخبار هؤلاء الخلفاء الثلاثة في دعوة الناس إلى القول بخلق القرآن، وامتحان المعتصم والواثق لعلماء السنة بهذه المسألة معروفة عند كل طالب علم (¬1). وهناك سبب آخر هو: أن رجالاً من هذه الفرقة درسوا الفلسفة، وألّفوا في الرد على الدهريين والملاحدة والثنوية على طريقة النقد الفلسفي، ومثل هذا العمل قد يحمل كثيراً من الناس على حسن الظن بهم، والثقة بآرائهم، ولم يقم بهذا العمل - أعني: الرد على المخالفين من طريق البحث الفلسفي - غيرُهم من الفرق، وإنما ظهر عندما نشأ الأشعري نشأتهم، وأخذ يرد مذاهبهم ومذاهب غيرهم من الفرق على طريقة الجدل المعروفة عندهم بعد التمسك بالدليل السمعي من كتاب أو سنة. وكان للمعتزلة نشاط في الدعوة إلى مذهبهم، شأن أصحاب كل مذهب أو نحلة جديدة، خصوصاً صاحب مذهب يرى أنه ملكَ من قوة الجدل والبراعة في صناعة الكلام ما لم يملكه غيره، ويكفيك شاهداً على قوة اهتماهم بنشر مذهبهم: أنهم لم يكتفوا بالدعوة إليه على طريق الجدل، بل سعوا لدى الخلفاء ليحملوا الناس على آرائهم بالقوة. ونرى في التارلخ: أن مذهب الوصيلة من المعتزلة ظهر بالمغرب الأقصى، وأن فريقاً منهم كانوا بنواحي "تاهرت" لايقلون عن ثلاثين، وقيل: أربعين ألف مقاتل، ودارت بينهم وبين عبد الوهاب بن عبد الرحمن الرستمي المتوفى ¬

_ (¬1) امتحان أحمد بن حنبل كان في أيام المعتصم، وامتحان البويطي صاحب الشافعي في أيام الواثق حتى مات في أقياده محبوساً ثابتاً صابراً.

أثر المعتزلة في الحياة العقلية

سنة 190 حروب (¬1). * أثر المعتزلة في الحياة العقلية: كان علماء الشريعة يتفقهون في الكتاب والسنة، ويطلقون أنظارهم في تقرير أصول الدين، واستنباط الأحكام على قدر ما يسعه دائرة ألفاظها العربية، وإذا تراءى لهم أن تعارضاً حصل بين ظاهري نصين من الكتاب والسنة، نظروا في الوجوه التي يترجح بها أحد الظاهرين على الآخر، فأخذوا بالراجح، وأوّلو االمرجوح على وجه يزول به التعارض، وكانت هذه الدائرة من النظر كافية في رد المتشابه إلى المحكم، ومعرفة الحق من العقائد، وتمييز صحيح الاستنباط من سقيمه، وكافية في وصول الناظر إلى قرار من العلم لا تلابسه فيه شبهة، ولا يزحزحه عنه مجادل. وكان كثير من العلماء الذين عرفوا أصول الدين حق اليقين، وأحكموا صناعة الاجتهاد في الأحكام لا يعنون بمناظرة أولي الآراء المبتدعة، بل لم يأذنوا في رد شبه المبطلين بالطرق التي لم ترد منها، قيل لمالك: الرجل له علم بالسنة، أيجادل عنها؟ قال: لا، ولكن ليخبر بالسنة، فإن قبل منه، وإلا، سكت. وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول إذا جاءه أحد من الأهواء: أما أنا، فعلى بينة من ربي، وأما أنت، فشاكّ، فاذهب إلى شاكّ مثلك فخاصمه. وجاءه رجل من أهل المغرب، فقال: إن الأهواء كثرت ببلادنا، فجعلت على نفسي إن أنا رأيتك أن آخذ بما تأمرني به، فوصف له مالك شرائع الإسلام، ¬

_ (¬1) انظر: "معجم البلدان" لياقوت في مادة "تاهرت"، وكتاب "الأزهار الرياضية" (ص 116) في أئمة وملوك الأباضية.

ثم قال: خذ بهذا، ولا تخاصم أحداً. وهذه سيرة أكثر العلماء في الصدر الأول مع أصحاب الآراء الذين ينتمون إلى الإسلام، ويرجعون في الجدال إلى قرآن أو سنة، فلا يزيد هؤلاء العلماء على أن يذكروا لهم المحكم من قرآن أو سنة، ويدلوهم على الوجه الذي يحمل عليه المتشابه منهما. وظهر بعد هذا آراء فاسدة، ومذاهب باطلة لأقوام لا ينتمون إلى الإسلام، وجاءت هذه اللآراء والمذاهب مقرونة بشُبه، ومعبراً عنها بألسنة تحاول ترويجها بما يشبه الأقيسة المنطقية، فاشتدت الحاجة إلى مكافحة هذه اللآراء، ودفع ما يقارنها من الشبه، وتزييف ما زعموا أنه أدلة عقلية. وكان مع هذا أن طائفة من المعتزلة أقبلوا على دراسة الفلسفة، وخاضوا في مباحثها، وعرفوا الطرق التي يسلكها الفلاسفة في الاستدلال على آرائهم، وكان من أثر هذه الدراسة: أن قصدوا للرد على بعض الفرق الضالة؛ كالدهرية، والثنوية على طريقة البحث الفلسفي، وسلكوا هذه الطريقة في رد آراء تصدر من بعض أصحابهم، كما سلكوها في مناظرات تقع بينهم وبين من لا يرى رأيهم. ظهر المعتزلة بآراء لم تكن معروفة من قبل، وعقدوا المناظرات في مسائل لم تكن موضع الجدل في عهد السلف، وفتحوا للبحث طرقًا بعيدة المدى، فكان لهذه الحركة أثر في انطلاق الفكر في مسالك النظر، وإحرازه قوة في الكشف عن وجوه الباطل، والرمي بالحجة في وجه كل مرتاب أو منكر للحق، وستعلم كيف استفاد الأشعري من الخوض في غمار الاعتزال، واستطاع بذلك الدفاع عن مذهب أهل السنة دفاعاً وقف به الاعتزال في حد.

أهل السنة

* أهل السنة: يطلق هذا الاسم، ويراد منه: الأشعرية، والماتريدية، وأهل الحديث، وتجتمع هذه الفرق في أصول من العقائد هي: أن العالم حادث، وأنه لا خالق سوى الله، وأن الله قديم متصف بالعلم والقدرة، وسائر صفات الجلال، لا شبيه له (¬1)، ولا يحل في شيء، وأنه خالق أفعال العباد، وأنه مريد لجميع الكائنات، ومرئي للمؤمنين في الآخرة بلا انطباع ولا شعاع، ولا يجب عليه شيء، إن أثاب، فبفضله، وإن عاقب، فبعدله، وله الزيادة والنقصان في مخلوقاته (¬2)، وأن المعاد الجسماني حق، والصراط والميزان حق، والشفاعة لأهل الكبائر حق، وخلود أهل الجنة في الجنة كخلود الكفار في النار حق (¬3)، ¬

_ (¬1) في ذاته ولا في صفاته، والمخالف في هذا طائفتان: طائفة شبهوا ذاته بذات غيره، ومن أصحاب هذا المذهب: هشام بن الحكم، ويقال: إنه أول من قال: إن الله جسم، ومقاتل بن سليمان، فقد كان ينشر التجسيم في خراسان، ومحمد بن كرام، فإنه باح بالتجسيم، وقال: إن الله جسم له حد ونهاية. والطائفة الثانية شبهت صفاته تعالى بصفات المخلوقين، كما زعمت الزرارية أتباع زرارة بن أعين الرافضي: أن جميع صفات الله حادثة، وأنها من جنس صفاتنا. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. (¬2) المخالف في هذا: النظام، يقول: إن الله لا يقدر أن يزيد في الآخرة أو ينقص من ثواب أو عقاب لأهل الجنة والنار، وتوهم أن غاية تنزيهه تعالى عن الشرور والقبائح لا تكون إلا بسلب قدرته عليها. (¬3) وردت نصوص في خلود السعداء في الجنة، والأشقياء في النار خلودًا مع تأبيد، وهذه النصوص محكمة، وأما الاستثناء في قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 106، 107]، أو قوله تعالى: {فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 108]، =

الأشعرية

وبعثة الرسل بالمعجزات حق، وأهل بيعة الرضوان وأهل بدر في الجنة، وأنه يجب نصب الإمام، وأن الخلفاء الأربعة: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً أئمة هدى، وأن المؤمن لا يكفر بمجرد الذنب، وإنما يكفر بما فيه نفي للصانع الحكيم، أو شرك، أو إنكار للنبوة، أو ما علم مجيئه - عليه السلام - به ضرورة. وقد يجري بين هذه الفرق خلاف في بعض المسائل، ويعذر كل منها مخالفه في الاجتهاد، ولا يعده برأيه المخالفِ مبتدعاً، إلا أفراد يسرفون في القول، فيطلقون لفظ مبتدع على كل من خالف مسلكهم في علم الكلام، ولو في مسائل ليست من صلب الدين، ولم تكن من النوع الذي وردت فيه نصوص صريحة أو ظاهرة ظهوراً لا يصح العدول عنه. * الأشعرية: منسوبون إلى أبي الحسن علي (¬1) بن إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل ابن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري. ¬

_ = فلا ينافي ما دلت عليه تلك النصوص من الخلود والتأبيد. ومن الوجوه التي يحمل عليها هذا الاستثناء: أن المراد من قوله: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود: 107]: مدة هذا العالم، وإلا في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 108]، بمعنى: سوى، والمعنى: أنهم خالدون فيها مدة دوام السموات والأرض إلا ما شاء الله أن يزيدهم إياه على مدة العالم، وهذا المزيد هو الخلود المؤبد الذي دلت عليه تلك النصوص المحكمة، ويروى في انتهاء عذاب أهل النار آثار منها ما هو موضوع. ومنها ما يكون تأويله إلى ما يوافق النصوص المحكمة أقرب وأيسر من تأويل تلك النصوص نفسها. (¬1) ولد أبو الحسن سنة 260، وتوفي سنة 324. للإمام بحث مستفيض عن حياة أبي الحسن الأشعري في كتاب "تراجم الرجال".

كان أبو الحسن على مذهب الاعتزال، ولزم أبا علي الجبائي نحو أربعين سنة، ثم أعلن رجوعه عن الاعتزال في مسجد البصرة، وكان يقصد إلى مواطن المعتزلة ليناظرهم، ويقول: هم أولو رياسة، منهم الوالي والقاضي، ولرياستهم لا ينزلون إلي، فإذا لم أسر أنا إليهم، فكيف يظهر الحق، ويعلمون أن لأهل السنة ناصراً بالحجة؟ ومذهبه قائم على ما كان عليه السلف، وصرَّح في كتاب "الإبانة" بأنه على طريقة السلف، فقال: "وديانتنا التي بها ندين: التمسك بكتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، ويما كان عليه أحمد بن حنبل- نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته - قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون". وأخذ الأشعري السنة عن زكريا بن يحيى الساجي (¬1) وغيره من أهل الحديث الذين هم على طريقة أحمد بن حنبل. وللأشعري في بعض المسائل آراء تتصل بأصول العقائد، وليست من الأصول، وهذه هي التي يجري فيها الخلاف بينه وبين بعض أهل السنة، كما قال: إن معرفة الله واجبة بالشرع، وقال الماتريدية: واجبة بالعقل، وكما قال: إن صفات التكوين؛ كالخلق والرزق، والإحياء والإماتة، حادثة، وقال الماتريدية: هي قديمة، وقد نرى بعض الأشاعرة يخالفون الأشعري في مثل هذه المسائل؛ كالباقلاني، والرازي. قال ابن السبكي: "والإمام الرازي لا ينكر عظمة الأشعري، كيف وهو ¬

_ (¬1) البصري الحافظ، يروي عنه: ابن عدي، والإسماعيلي، وخلق، وثقه قوم، وضعفه آخرون، توفي سنة 307.

على طريقته يمشي، وبقوله يأخذ، ولكن لم تبرح الأئمة يعترض متأخرها على متقدمها، ولا يشينه ذلك، بل يزينه" (¬1). وقال القاضي أبو بكر بن العربي في مناظرة جرت بينه وبين زعماء الشيعة: "إنك إذا سمعت أني أشعري، كيف حكمت عليّ بأني مقلد للأشعري في جميع قوله؟ وهل أنا إلا ناظر من النظّار، أدين بالاختيار، وأتصرف في الأصول بمقتضى الدليل؟ ". ولإمام الحرمين كلام عرض فيه نموذجاً من مذهب الأشعري في العقائد، فيذكر المذاهب الواقعة في جانب الإفراط أو التفريط، ويريك كيف سلك الأشعري بينها مذهباً وسطاً، وإليك ملخص ذلك المقال: إن لله علماً لا كالعلوم، وقدرة لا كالقدرة، وسمعاً لا كالأسماع، وبصراً لا كالأبصار، وإن العبد لا يقدر على الأحداث، ويقدر على الكسب، وإن الله يرى من غير حلول ولا حدود ولا تكيف، وإنه لا يحتاج إلى مكان، وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه، وإن النزول صفة من صفاته، والاستواء صفة من صفاته، وفعل فعله في العرش، وإن القرآن كلام الله قديم غير مغير ولا مخلوق ولا حادث ولا مبتدع، فأما الحروف المقطعة والأجسام والألوان والأصوات، وكل ما في العالم من المكيفات، مخلوق مبتدع مخترع، وإن المؤمن الموحد الفاسق هو في مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، ثم أدخله الجنة، أما عقوبة متصلة مؤبدة، فلا يجازي بها كبيرة منفصلة منقطعة، ¬

_ (¬1) ومن هذا القبيل قول أبي الحسن الأشعري: إن البقاء صفة زائدة على الوجود، وقول القاضي أبي بكر وامام الحرمين والرازي: هو نفس الوجود في الزمان الثاني، لا أمر زائد عليه.

الماتريدية

وإن للرسول شفاعة مقبولة في المؤمنين المستحقين للعقوبة، وإن الخلفاء الأربعة، ومعاوية، وطلحة، والزبير، وأم المؤمنين عائشة على هدى، وإنهم لم يختلفوا في الأصول، وإنما اختلفوا في الفروع، فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى شيء. والمعروف أن المالكية والشافعية على مذهب الأشعري في العقائد، ذكر هذا ابن السبكي في "طبقات الشافعية"، فقال: لا يرى مالكي إلا أشعرياً، وقال: إن غالب الشافعية أشاعرة، لا يستثنى إلا من لحق منهم بتجسيم أو اعتزال ممن لا يعبأ الله بهم. * الماتريدية: منسوبون إلى أبي منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي (¬1)، وهو من أصحاب الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه -، ومن المعروف أن أبا حنيفة تكلم في أصول الدين، وكان يسميه: الفقه الأكبر، وله فيها الكتاب المسمى: " الفقه الأكبر"، ولأبي منصور الماتريدي شرح على هذا الكتاب. فمذهب الماتريدية قائم على الأصول التي قررها الإمام أبو حنيفة. وبين الماتريدية والأشاعرة خلاف في مسائل معدودة لا تتجاوز ثلاث عشرة مسألة، منها: اختلافهم في السعادة والشقاوة، فهما عند الأشعري مقدرتان في الأزل لا يتغيران ولا يتبدلان؛ لأن السعادة هي الموت على الإسلام، والشقاوة الموت على الكفر، وقال الماتريدية: إن السعادة هي ¬

_ (¬1) نسبة إلى "ما تريد" محلة بسمر قند، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة 333، ومن مؤلفاته كتاب "التوحيد"، وكتاب "رد أوائل الأدلة" للكعبي، وكتاب "بيان وهم المعتزلة"، ورد كتاب "وعيد الفساق" للكعبي.

الإسلام في الحال، والشقاوة هي الكفر كذلك، فإذا مات المسلم على الكفر، فقد انقلب شقياً، وإذا مات الكافر على الإسلام، فقد انقلب سعيدًا. ومثل هذا الخلاف يرجع إلى الخلاف في المراد من لفظ سعادة وشقاوة، مع الاتفاق في حكم الكافر إذا أسلم، والمسلم إذا ارتد. ومما اختلف فيه الفريقان اختلافاً يرجع إلى المعنى: عذاب المطيع، أجازه الأشعري عقلاً، وقال الماتريدية: ممنوع عقلاً، وهذا الاختلاف وإن رجع إلى المعنى، فأمره هين ما دام الفريقان متفقين على أن عذاب المطيع غير جائز شرعاً (¬1). ومن المعروف أن الحنفية يتبعون في العقائد مذهب أبي منصور الماتريدي، وقليل من الحنفية من انتسب في العقائد إلى الأشعري، حتى قيل: من المستظرف أن يكون حنفي أشعرياً (¬2). وقال ابن السبكي في "طبقات الشافعية": إن الحنفية أكثرهم أشاعرة، وذكر أنه تأمل عقيدة الطحاوي التي ذكر منها ما كان عليه الإمام أبو حنيفة وصاحباه، فلم يجد فيها إلا ثلاث مسائل خالف فيها الأشعرية، ثم نظر في كتب الحنفية، فوجد المسائل التي يخالفون فيها الأشعرية في العقائد ثلاث عشرة مسألة، وقد عرفت أن الاختلاف في هذه المسائل من نوع الاختلاف الذي يجري بين الأشاعرة أنفسهم. ¬

_ (¬1) انظر: "الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية" بدار الكتب، فقد ذكر المسائل التي اختلف فيها الفريقان بتفصيل. (¬2) "الفوائد البهية".

أهل الحديث

* أهل الحديث: طريقة أهل الحديث أن يتلقوا العقائد من الكتاب والسنة مؤيدة بما أورده الشارع، أو نته له من الأدلة القريبة المأخذ من العقل، ويتمسكون من العقائد بما كان صريحاً، فإن عرضت لهم آية أو حديث يخالف بظاهره العقائد الصريحة؛ كالآيات والأحاديث التي توهم بحسب ما يظهر من لفظها التشبيه في الذات أو الصفات، اكتفوا بمعرفة أن ظاهره غير مراد، وتركوا الخوض في معناه، ولم يتعرضوا لتأويله. ولا يتجاوزون في العقائد ما جاء في الكتاب والسنة، فيمسكون عن الخوض في كيفيات تعلقات صفات الله تعالى، وعن تعددها واتحادها في نفسها. وهل هي الذات أو غيرها؟ وفي الكلام هل هو متحد أو منقسم؟ وإذا كان منقسماً، فهل ينقسم بالنوع أو الوصف؟ وكيف تعلق في الأزل بالمأمور مع كونه حادثاً؟ ثم إذا انعدم المأمور هل يفي التعلق به؟ إلى غير ذلك من المباحث التي سكت عنها الصحابة ومن سلك سبيلهم، بل نهوا عن الخوض فيها؛ لعلمهم بأنه بحث عن كيفية من لم تعلم كيفيته بالعقل؛ لكون العقول لها حد تقف عنده، ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات وكيفية الصفات. يكره أهل الحديث الخوض في علم الكلام، والمناظرة في العقائد، ولا سيما مناظرة تقوم على الطرق المحضة، وكذلك نرى أحمد بن حنبل لم يقعد لمناظرة المعتزلة في مسألة خلق القرآن، وكان لا يزيد على أن يقول: القرآن كلام الله، ويمتنع من أن يقول: القرآن مخلوق. وقال ابن وهب: سمعت مالك بن أنس يقول إذا جاء أحد من أهل الأهواء: أما أنا، فعلى بينة من ربي، وأما أنت، فشاكّ، فاذكره ب إلى شاكّ

مثلك فخاصمه. فمن المسائل التي تعرض لها الأشاعرة والماتريدية بالبحث، وقرروا فيها آراء: مسائل لا يتعرض لها أهل الحديث؛ كمسألة التكليف بما لا يطاق، هل يجوز عقلاً، أو لا يجوز؟ وقد يجري الخلاف بين أهل الحديث وغيرهم من أهل السنة؛ كما اختلفوا في الأعمال، فقال أهل الحديث: هي جزء كمالي للإيمان، وقالله غيرهم كالأشاعرة: الإيمان: التصديق با لقلب، وأعمال الجوارح واجبات زائدة على الإيمان.

اختلاط الجنسين في نظر الإسلام

اختلاط الجنسين في نظر الإسلام (¬1) ألقى أحد الأساتذة محاضرة تعرض فيها لاختلاط الفتيان والفتيات في الجامعة، وأبدى استحسانه لهذا الاختلاط، ووقف موقف الدفاع عنه. وما كنا ننتظر من الأستاذ المحاضر وقد قضى سنين غير قليلة وشؤون المجتمع تمر عليه بمقدماتها، وبما ينتج عنها من خير وشر، أن يقول ما قاله في تلك المحاضرة، بل كنا ننتظر منه أن يملي على أبنائنا وبناتنا كلمات يتلقونها على أنها آراء أحكمتها التجارب، فيستنيرون بها في حياتهم المحفوفة بالأخطار من كل جانب. ولكن الأستاذ لم يشأ إلا أن يتناول في محاضرته مسألة اختلاط الفتيان والفتيات، ويرضى عن ذلك الاختلاط، صارفاً النظر عما يجر إليه من الانحلال في الأخلاق، وغمز في الأغراض. وغرضنا من هذه المحاضرة نقدُ كلمات وردت في محاضرة الأستاذ، وإنما ننقدها على طريقة آداب البحث، وما تقتضيه قوانين المنطق، ثم انظروا ماذا ترون. وما كان في ولا للأستاذ - وقد أخذنا نبحث في شأن اجتماعي- أن ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الاسلامية" - الجزء السادس من المجلد الثالث عشر.

نهمل وجهة الدين الإسلامي في هذه المسألة الهامة، فإذا نحن حققنا النظر فيها من حيث اتجاه الدين الإسلامي، وأعقبناه بالنظر في حكمة هذا الاتجاه، استطعنا أن نحكم على ما يقال في اختلاط الفتيان والفتيات بين جدران الجامعة أو حول جدرانها، ونحن على بينة من أمر هذا الحكم. قال الأستاذ في محاضرته: "ويتصل بخطأ الجمهور في فهم رسالة الجامعة: مسألة قبول الفتيات المصريات طالبات في الجامعة". يعد الأستاذ فيما أخطأ الجمهور في فهمه من رسالة الجامعة: مسألة قبول الفتيات المصريات طالبات في الجامعة، ويريد بخطأ الجمهور: إنكارهم لما صنعته الجامعة من قبولهن، وخلطهن بالفتيان في حجرات التدريس. والوقع أن الجمهور لم يخطئ، وأن الجامعة هي التي أخطأت في هذا الخلط، ذلك أن جمهور الأمة المصرية يستضيء في حياته بدين قامت لديه الأدلة القاطعة على أنه وحي سماوي، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإذا عرضت له مسألة اجتماعية؛ كالجمع بين الفتيان والفتيات على الوجه الذي يقع في الجامعة، أقبل يستفتي دينه الحق، فإن وجده قد أذن في ذلك، سكت عنه، ورضي به، وإن وجده قد نهى عنه، بادر إلى إنكاره. وتحريم الدين لاختلاط الجنسين على النحو الذي يقع في الجامعة معروف لدى عامة المسلمين، كما عرفه الخاصة من علمائهم، وأدلة المنع واردة في الكتاب والسنة، وسيرة السلف الذين عرفوا لباب الدين، وكانوا على بصيرة من حكمته السامية. يقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، ويقول: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ

فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31]. ومعنى غضّ البصر: صرفه عن النظر الذي هو وسيلة الفتنة، والوقوع في فساد، ومن ذا الذي يجمع الفتيان والفتيات في غرفة، وينتظر من هؤلاء وهؤلاء أن يصرفوا أبصارهم عن النظر، ولا يتبعوا النظرة بأخواتها؟ وهل يستطيع أحد صادق أن يقول: إن أولئك المؤمنين والمؤمنات يحتفظون بأدب غض أبصارهم من حين الالتقاء بين جدران الجامعة إلى أن ينفضوا من حولها، والشريعة التي تأمر بغض النظر عن النظر إلى السافرات، تنهى أولي الأمر عن تصرف شأنه أن يدفع الفتيان والفتيات إلى عواقب وخيمة؟ ويقول الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]. والزينة: ما يتزين به؟ من نحو: القرط والقلادة، والخاتم والوشاح والشعر، والأصباغ؟ من نحو: الكحل والخضاب، والملابس الأنيقة، وما ظهر من الزينة: هو الثوب الذي يستر الجسد حتى لا يظهر ما تحته من حلي وشعر ونحوه. ثم إن القرآن قد استثنى طائفة من الناس تكثر مداخلاتهم للمرأة، فيكون في التزامها التستر - الذي تلتزمه مع الأجنبي - مشقة عليها، فأذن لها في عدم زينتها منهم، ثم إن توقع الفساد منهم شأنه أن يكون مفقوداً أو نادراً، إما لشدة القرابة؛ كالأب والابن، والأخ والخال، والعم وابن الأخ

وابن الأخت، وإما لأن شأنهم الغيرة على حفظ عرض المرأة؛ كأبي الزوج وابنه؛ فإن أبا الزوج أو ابنه تدعوه الغيرة على أن يحافظ على عرض المرأة؛ لأن في حفظ عرضها حفظاً لعرض ابنه إن كان أباً، أو لعرض أبيه إن كان ابناً. وهؤلاء - وإن اشتركوا في جواز رؤية الزينة الباطنة - لا يتساوون فيما يصح أن يطلع عليه، فالزوج يحل له النظر إلى ما شاء، وأما الابن والأخ والجد، وكل ذي محرم، فلا يجب على المرأة أن تستر منهم الشعر والنحر والساقين والذرل، وأما غير أولي الإربة من الرجال، وهم الذين عرف منهم التعفف، وكانوا على حالة من لا يقدر على مباشرة النساء؛ كالطاعنين في السن الذين عرفوا بالصلاح، وعدمِ الحاجة إلى النساء، فإنما يحل للمرأة أن تظهر أمامهم في ثياب صفيقة، وإن لم تكن عليها ملحفة. وليس من شك في أن طالبات الجامعة لا يضربن بخمرهن على جيوبهن، وقد يأتين في أجمل ثيابهن، ويختلطن بفتيان ليس بينهم وبينهن صلة من الصلات المشار إليها في الآية الكريمة. ويقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59] الجلباب: الثوب الذي يستر المرأة من فوق إلى أسفل، أو كل ثوب تلبسه المرأة فوف ثيابها، وإدناؤه عليهن: إرخاؤه عليهن، قال ابن عباس وجماعة من السلف: أن تلوي الجلباب فوق الجبين، وتشده، ثم تعطفه على الأنف، فتستر الصدر ومعظم الوجه إلا عينيها، ثم ذكر حكمة هذا الستر، وهي أن التستر يدل على العفاف والصيانة، إذ من كانت في هذا الحال من

التستر لا يطمع الفساق في أن ينالوا من عرضها، فلا تلقى من الفساق تعرضاً يؤذيها مثلما تلقى المتبرجات بزينتهن، وذلك معنى قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]. والأحاديث الصحيحة الواردة في النهي عن اختلاط المرأة بغير محرم لها، تدل بكثرتها على أن مقت الشريعة الغرّاء لهذا الاختلاط شديد، وأن عنايتها بأمر صيانة المرأة بالغة، وأذكر منها ما رواه البخاري في "صحيحبه" عن أبي سعيد الخدري: "قالت النساء للنبي - صلى الله عليه وسلم -: غلبنا عليك الرجالُ، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن، وأمرهن". ولو كان اختلاط الطلاب بالطالبات مما يأذن به الدين، لكان للنساء أن يجلسن مع الرجال في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما قلن له: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، ولما وعدهن يوماً لقيهن فيه وحدهن. وأذكر منها: ما رواه الإمام البخاري في "صحيحه" عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: "لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الفجر، فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات في مروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد". ولو كان اختلاط الرجال بالنساء مأذوناً فيه، لما احتاج المؤمنات إلى أن يتلفعن بمروطهن، ويرجعن إلى بيوتهن، دون أن يعرفهن أحد. وأذكر منها: ما رواه البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم "، قال رجل: يا رسول الله! إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج، فقال: "اخرج معها". ولو كان اختلاط النساء والأجانب مأذوناً فيه، لما حرّمت الشريعة على المرأة أن تسافر لأداء فريضة

الحج إلا أن يكون معها محرم، ولما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن يدخل رجل على امرأة إلا ومعها محرم. وأذكر منها: ما رواه البخاري في "صحيحه " عن أم سلمة - رضي الله عنها-، قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلّم، قام النساء حينما يقضي تسليمه، وهو يمكث في مقامه يسيرًا قبل أن يقوم، قالت: نرى- والله أعلم-: أن ذلك لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال"، فقيام النساء وانصرافهن عقب تسليمه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه مأذون لهن في الصلاة دون البقاء في المسجد لغير صلاة، وقد أشارت رواية الحديث إلى أن مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - في مقامه عقب الصلاة من أجل تمكين النساء من الانصراف؛ لأن الرجال لا يقومون من موضع الصلاة إلا إذا قام - عليه الصلاة والسلام -، وفي هذا شاهد على كراهة الشارع لاختلاط الرجال الأجانب بالنساء، ثم إن سنة النساء في صلاة الجماعة أن يصلين خلف صفوف الرجال، روى البخاري في "صحيحه " عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أنه قال: "صلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أم سليم، فقمت ويتيم خلفه، وأم سليم خلفه". ويدلكم على أن النهي عن اختلاط الرجال بالنساء كان معروفاً بين الصحابة - رضي الله عنه -، حتى أصبحت قاعدة يذكرونها عندما يشتبه عليهم الأمر في بعض الآثار أو الأحاديث: ما رواه الإمام البخاري في "صحيحه" عن ابن جريج، قال: "أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، قال: كيف يمنعهن، وقد طاف نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الرجال؟! قلت: أبعدَ الحجاب أو قبل؟ قال: أي لعمري! لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطهن، كانت عائشة - رضي الله عنها- تطوف في حجرة من

الرجال لا تخالطهم. والحجرة: الناحية المنفردة، تقول: رأيت رجلاً يسير من القوم حجرة؛ أي: ناحية منفردة. فانظر كيف بدا لابن هشام أن يمنع النساء الطواف مع الرجال؛ أخذاً بالقاعدة المعروفة في الشريعة من منع اختلاط النساء بالرجال، ولما أنكر عليه عطاء، لم يقل له: إن اختلاط النساء بالرجال لا حرج فيه، ولكنه استدل بحديث: أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يطفن مع الرجال، ولما بدا لابن جريج أن طوافهن مع الرجال يقتضي الاختلاط بهم، والاختلاط محظور في الشريعة، قال مستشكلًا الإذن لهن في الطواف مع الرجال: كيف يخالطهن الرجال؟ فلم يقل له ابن جريح: وأي مانع من هذا الاختلاط؟ بل بيّن أنهن يطفن مع الرجال دون أن يخالطنهم. وليست نصوص الدين وحدها هي التي تسوق الجمهور إلى إنكار اختلاط الطلاب والطالبات، بل المشاهدات والتجارب قد دلتا على أن في هذا الاختلاط فساداً لا يستهان به، ومن أنكر أن يكون لهذا الاختلاط آثار مقبوحة، فإما أن يكون غائبًا عن شؤون المجتمع، لا يرقبها من قريب ولا من بعيد، وإما أن يكون قد نظر إلى هذا الاختلاط وآثاره بعين لم تنبه إلى وجهة استقباحه، ووجوب العمل على قطع دابره. ومن عمد إلى البلاد التي يباح فيها اختلاط الجنسين، ونظر إلى ما يقع فيها من فساد الأعراض، وقاسه بالفساد الذي يقع في البلاد التي يغلب على رجالها ونسائها أن لا يجتمعوا إلا على وجه مشروع، وجد التفاوت بين الفسادين كبيراً. بل لا نحتاج في معرفة هذا التفاوت إلى إحصاء مفاسد هذه وتلك؛

فإن المعروف بالبداهة أن الاختلاط يحدث في القلوب فتنة، ولا تلبث الفتنة أن تجرّ إلى فساد، فعلى قدر كثرة الاختلاط يكثر ابتذال الأعراض. قال الأستاذ: "وهي مسألة كانت قليلة الأنصار في الرأي العام"، يريد: أن قبول الطالبات في الجامعة لم يرض عنه فيما مضى إلا قليل من الناس، والواقع أن الذين يرضون عن هذا الاختلاط لا يزال عددهم قليلاً إذا نظر إليهم إزاء من ينكرونه، ويشكون من سوء مغبته، ولو استفتيت الأمة استفتاء صحيحاً، لظهر أن أنصاره لا يزالون في قلة، على أن المسائل الاجتماعية إنما يرجع الحكم فيها إلى الأدلة القائمة على رعاية ما يترتب عليها من مصالح أو مفاسد، أما كثرة الأنصار، فلا تجدي أمام النصوص الشرعية، والأدلة المؤيدة بالتجارب، ولو مثقال ذرة. قال الأستاذ: "بعد عشر سنوات من قبول هؤلاء الطالبات، قامت ضجة تنكر علينا هذا الاختلاط، فلم نأبه له؛ لأن التطور الاجتماعي معنا، والتطور لا غالب له ". ليس هناك تطور يعرض للاجتماع في نفسه، وإنما تطور الاجتماع أثر أفكار وأذواق وميول نفسية، ورقي هذا التطور أو انحطاطه يرجع إلى حال تلك الأفكار والأذواق والميول، فإن غلب على الناس جودة الفكر، وسلامة الذوق، وطهارة ميولهم النفسية، كان التطور الاجتماعي راقياً، وهذا هو الذي لا تنبغي معارضته، ويصح أن يقال فيه: إنه تطور لا غالب له، أما إذا غلب على الناس انحراف الأفكار في تصور الشؤون الاجتماعية، أو تغلبت أهواؤهم على عقولهم، كان التطور الاجتماعي في انحطاط، وهذا هو الذي تجب معارضته، وأقل دعوة تقوم لإصلاحه يمكنها أن تقوّم عوجه، وترد جماحه.

وإذا كان اختلاط الجنسين من قبيل التطور الاجتماعي، فهو من نوع ما ينشأ عن تغلب الأهواء، وتقليد الغربيين في غير مصلحة، فيتعين على دعاة الإصلاح أن يجهروا بإنكاره، ويعملوا على تنقية المجتمع من أقذائه، ومتى قويت عزائمهم، وجاهدوه من طرقه الحكيمة، أماطوا أذاه، وغلبوه على أمره. وما كانت حالة العرب في الجاهلية إلا تطوراً اجتماعياً، وقد قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يحارب هذا التطور، فقضى عليه في أعوام غير كثيرة. ولو عرض حال فرنسا قبل الحرب، ونظرنا إلى ما كان فيها من تهتك، وحاول بعض عقلائهم التخفيف من شر ذلك الاستهتار، لوجد من يقول له: هذا التهتك تطور اجتماعي، والتطور الاجتماعي لا غالب له. فهل يرضى الأستاذ المحاضر أن يسكت دعاة الإصلاح عما يغلب في الناس من الفساد، وييئسوا من إصلاحه بدعوة أنه تطور اجتماعي، والتطور الاجتماعي لا غالب له؟!. والذي نرى أن الإصلاح يسود بالدعاية الحكيمة، وقد يسود بقوة السلطان العادل متى كانت الأمة في عماية عن طريق الرشد، وصمم من مواعظ الحكماء، أما الباطل، فإنما يسود بوجاهة أشياعه، أو قوة سلطانهم، وإذا تغلب باطل بالدعاية الماكرة، فلأن أنصار الحق كانوا غارقين في نوم ثقيل، ولا يرفع الباطل صوته إلا في بيئة غاب عنها الدعاة المصلحون. وقد حسبنا عندما سقطت فرنسا في هذه الحرب تلك السقطة المزرية، أن يأخذ منها رجالنا عبرة بالغة، فيعود الذين كانوا يحبذون السفور واختلاط الجنسين دعاة إلى الإسلام من تستر المرأة بثياب العزة، وصيانتها عن مواقف

الابتذال ومواطن الاختلاط. ومن دواعي الأسف أن يتنبه رجال فرنسا قبل أن يتنبه كثير من رجالنا، ويأخذ من سقوط دولتهم عبرة، هي أن سبب ضعف فرنسا، وانهيار بنائها، هو انحلال أخلاق شبابها، وإغراقهم في الملاذ والشهوات، ولا إغراق في الشهوات أكثر من تخلية السبيل للنساء يخالطن الرجال، ويبدين لهن ما بطن من زينتهن، دون أن تلتهب في نفس أبيها أو أخيها أو زوجها غيرة حامية. وقال الأستاذ المحاضر: "ومعنا العدل الذي يسوّي بين الأخ وأخته في أن يحصل كل منهما أسباب كماله الخاص". لا يتنازع أحد في العدل بين الأخ والأخت، ولا يماح من التسوية بينهما في تحصيل كل منهما أسباب كماله الخاص، لا يستدعي اختلاطها بالفتيان، بل يعد هذا الاختلاط عائقًا لها عن الوصول إلى كمالها الخاص؛ فإنه يذهب بجانب كبير من الحشمة وهدوء النفس، ويهيئها لأن تنحدر في حفرة من سوء السمعة، ولو كان ولي أمرها الناصح في تربيتها، ينظر إلى هذه العاقبة بعين تدرك حقيقتها، لحال بينها وبين هذا الاختلاط بكل ما يملك من قوة. ونحن لا نعارض في تعليم المرأة، ولا في استمرارها على التعليم إلى أبعد مدى، ولكنا نريد الاحتفاظ بأساس كمالها، وهو الصيانة ونقاء العرض، ولا شك في أن اختلاطها بالفتيان وسيلة قريبة إلى هدم ذلك الأساس، فالذين ينكرون اختلاط الطلاب بالطالبات هم الذين يناصرهم العدل الذي يسوّي بين الأخ وأخته في أن يحصل كل منهما أسباب كماله الخاص. فللمرأة أن تطلب من العلوم ما وسعها أن تطلبه، ولكن على أساس الصيانة، فإن كان طلبها لبعض العلوم يعرض هذا الأساس للانتقاص، فلتكتف

بما وصلت إليه يدها من علم، وفي الرجال كفاية للقضاء والمحاماة وعضوية مجلس النواب، إلى ما يشابه هذا من الأعمال التي لو تولتها المرأة، لانجرت بطبيعة العمل إلى عاقبة سيئة هي الاختلاط بالرجال. قال الأستاذ المحاضر: "ومعنا فوق ذلك منفعة الأمة من تمهيد الأسباب لتكوين العائلة المصرية على وجه يأتلف مع أطماعنا في الارتقاء القومي ". إذا كنا لا نستسلم لتقليد أوريا في كل شأن من شؤون الاجتماع، وترفَّعنا عن أن نجعل حال الأوربيين المثال الكامل للارتقاء القومي، قلنا: إن أساس ارتقائنا القومي هو الاحتفاظ بآداب ديننا، وأن يكون في فتياتنا علم واسع، وعزم صارم، وإرادة ماضية، وصبر على تحمل المشاق، وأن يكون في فتياتنا حشمة وصيانة، وعلم يساعدهن على تأدية واجباتهن في الحياة؛ من نحو: تدبير المنزل، والقيام على تربية الولد، وقد دل النبي - صلى الله عليه وسلم - على هاتين المهمتين بقوله: "خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده". وأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مهمة تدبير المنزل بقوله: "والمرأة راعية على بيت زوجها". فمن أطماعنا أن تكون المرأة على خلق عظيم من الحشمة، بعيدة من مواطن الفتنة والريبة، فرغبتنا في تكوين العائلة المصرية على وجه يأتلف مع أطماعنا، تدعونا وتلح في دعوتنا إلى أن نجعل بين الفتيات والفتيان فارقاً يقطع الفتنة، وتسلم به النفوس من خواطر السوء التي قد تنقلب إلى عزم، ثم إلى مقدرة. وإذا كان النظر إلى زينة المرأة، والتأمل في محاسن وجهها وسيلةَ تعلقِ القلب بها، وتعلقُ القلب مدرجة الفتنة، فالاختلاط الذي يستدعي تكرار

النظر، ويجر إلى الأخذ بأطراف الحديث، يكون بلا ريب أمراً منكراً؛ إذ هو الوسيلة المباشرة لزلزلة نفوس الفتيان والفتيات بعد سكونها زلزلة قد تذهب بأعراض كانت مصونة، وإذا دخل ابتذال العرض في الأسرة، فمن أين لنا أن نكوّنها على وجه يأتلف مع أطماعنا في الارتقاء القومي؟!. وليس فىِ حماية الفتاة من الاختلاط بغير محارمها تضييق لدائرة الحياة في وجهها، وإنما هو احتفاظ بكرامتها، وتوفير لهناءتها؛ إذ بصيانتها عن الاختلاط تعيش بقلب طاهر، ونفس مطمئنة، وبهذه الصيانة تزيد الصلة بينها وبين زوجها وأولي الفضل من أقاربها متانة وصفاء. وأنا لا أستبعد صحة ما أسمعه كثيراً من أن النزاع بين الرجال وزوجاتهم أصبح أكثر مما كان، وأن منشأ هذا الخصام تهافتُ النساء على التبرج الممقوت، وتساهلهن في الاجتماع بغير محارمهن. والواقع أن أنصار اختلاط الجنسين لا يؤيدهم تطور اجتماع صحيح، ولا يناصرهم العدل بين الأخ وأخته في تحصيل كل منهما أسباب كماله الخاص، ولا تقف بجانبهم مصلحة الأمة في حال، وليس معهم إلا أنهم فعلوا ذلك، ففتحوا أبواب الجامعة للطالبات، وكان منكرو هذا الاختلاط على كثرتهم في تفرق، فلم يصدعوا بإنكارهم، واقتصروا على أن يرددوا هذا الإنكار في مجالسهم، وربما كتب أحدهم مقالة في صحيفة، أو قال كلمة في محاضرة. ولو عقد دعاة الإصلاح مؤتمراً أخلاقياً، ونظروا في شأن اختلاط الجنسين نظراً خالياً من كل هوى، وبسطوا القول في وجوه مفاسدة، لكان لقرارهم شأن، وكان لرجال السياسة الرشيدة في أمر الفتيات رأي يجمع بين إعطائهن حظهن من التعليم، وصيانتهن من مواضع الفتنة والابتذال.

نقد آراء الأستاذ فريد وجدي من الناحية الدينية والاجتماعية

نقد آراء الأستاذ فريد وجدي من الناحية الدينية والاجتماعية * المحاضرة الأولى (¬1): كنا نقرأ للأستاذ فريد وجدي بعض مؤلفات، فنرى فيها جملاً يحيد بها عن السبيل، ولكنا نزنها بما كان يكتبه في تأييد الإسلام، فيبدو لنا أن صوابه أكثر من خطئه، ونحمل ذلك الخطأ على أنه وليد نظرة متسرعة، أو نلتمس له العذر من ناحية أنه لم يدرس علوم الدين وتاريخ الإسلام دراسة تحميه من أن يشذ عن الجادة إلى مكان بعيد. وللأستاذ المرحوم أحمد تيمور باشا تأليف في بيان ما اشتملت عليه "دائرة معارف" الأستاذ فريد وجدي من الخطأ الفاحش في التاريخ. ما زلنا نعتقد أن الأستاذ في صفوف الدعاة إلى الحق والإصلاح، على الرغم مما كان يظهر في بعض منشآته من شذوذ، حتى قرأنا له منذ ثلاث سنين مقالاً في مجلة تصدر في حلب يقال لها: "الحديث"، فأحسسنا في هذا المقال روحاً تخذل الروح الذي كان يتردد فيما ألفه من قبل، ولبثنا غير بعيد، فإذا نحن نقرأ للأستاذ ثلاث مقالات نشرها في جريدة "الأهرام" تحت عنوان: ¬

_ (¬1) المحاضرة الأولى من المحاضرات التي ألقاها الإمام بدار جمعية الهداية الإسلامية بالقاهرة، مساء الخميس 25 شوال سنة 1350 هـ - ونشرت في الجزء الأول من المجلد العاشر لمجلة "نور الإسلام".

نقد مقاله المدرج بمجلة "الحديث"

(الدعوة إلى التجديد)، فتزحزح فيها عن سيرته الأولى أكثر مما تزحزح، وجعل ناقدي مقالاته يحسبون قلمه في الأقلام التي تستخف بأمر الدين في غير رصانة، وأتبع هذه المقالات بمقالة جعل عنوانها: (سطوة الإلحاد على الأديان) وأكبرَ في هذا المقال حركة الإلحاد، وادّعى أن رجال الدين ليس بيدهم سلاح يقاوم سلاح الملحدين. كنا نقرأ هذه المقالات، ونصرف عنها النظرة رجاء أن يجد الأستاذ من نفسه واعظاً، أو من كتاب الله الذي اقتحم تفسيره منبهاً، حتى نشر الأستاذ الشيخ محمد التفتزاني في جريدة "الأهرام" مقالاً نقد فيه ما وقع في بعض بلاد الإسلام من ترجمة القرآن إلى غير العربية لتقوم الترجمة مقام الأصل، فكان من الأستاذ فريد وجدي أن جرد قلمه، وانهال يحبذ ذلك العمل، ويطري من ارتكبوه في إغراق، واستبان من لهجته أنه انقلب إلى دعاية لو أساغتها العقول، وأسلمت إليها النفوس، لقوضت باسم التجديد ما تعبت يد الإصلاح في بنائه. ذلك ما دعاني إلى أن أنقل من تلك المقالات قطعاً متجافية عن الحقيقة، حتى إذا شئت أيها الناشئ أن تقرأ شيئاً مما يخطه قلمه، قرأته وأنت على بينة من أنه لا يملك لعواطفه مردّاً. * نقد مقاله المدرج بمجلة "الحديث" (¬1): اندفع الأستاذ في هذا المقال اندفاع من تسحرهم المدنية الأوربية، فينظرون إلى كل ما تقع عليه أبصارهم من شؤون أوربا وعاداتها باستحسان ¬

_ (¬1) في شهر كانون سنة 1929 تحت عنوان: "روح العصر الحاضر نفحة إلهية".

بالغ وإعجاب، فأسرف في إطرائها، وطاش قلمه في تفضيلها، ولو أراد الأستاذ أن يصف روح العصر الحاضر كما يصفه الناقد الرصين، لما أحس في نفسه الحاجة إلى أن يمهد لمديحه بلمز العصور الإسلامية حتى عهد الخلفاء الراشدين، ولكنه استحب أن يرسل قلمه في المديح مخلوعَ العذار، وأن يخيل إلى الناس صحة ما يدعيه من أن "روح العصر الحاضر نفحة إلهية"، فذهب يفتش في تاريخ صدر الإسلام، ويلتقط ما حدث فيه من فتن ومنازعات، ولم يجد في صدره حرجًا أن يتعرض لعهد الخلفاء الراشدين، وهو يخاطب شبانًا يحتاجون إلى ما يذكرهم بعظمة أسلافهم، ولا خير لهم في أن يرسم لماضي أمتهم صورة مشوهة، ثم يضع لحاضر أوربا صورة يدعي لها من الكمال ما لا تعرفه أوربا نفسها. ولو سلك الأستاذ في إغمازه وإطرائه طريق الإنصاف، لوجد من لدناّ عذراً، ولكنه يعتسف الحديث اعتسافاً. نبش الأستاذ تاريخ صدر الإسلام منقباً عما حدث فيه من فتن، ثم قال: "فإن العناصر الأدبية التي تتألف منها الروح العصرية أرقى بما لا يقدر من كل ما سبقه من العصور الخالية". ذكر الأستاذ في جملة ما أغمز فيه من العصور الخالية عصرَ الخلفاء الراشدين، ثم حكم بأن العصر الحاضر أرقى أدبًا من كل ما سبقه من العصور الماضية، فهو لا يبالي أن يجعل العصر الحاضر أفضل من ذلك العصر الذهبي، وأرجح وزناً. ولو كان الأستاذ يتحدث عن العلوم الكونية، والفنون والصنائع، والبراعة في الاختيل، لما وجد منازعاً في أن نصيب العصر الحاضر من هذه العلوم والفنون أوفر من أنصباء ما سبقه من العصور الخالية، ولكنه يتحدث عن أدب النفس، وكل إنسان يدرس علم أحوال النفس بألمعية ثاقبة، ونظر

مطمئن، ثم يقيس حال الناس اليوم بحال الناس في صدر الإسلام، ينكر على الأستاذ هذا التفضيل، ويراه مرتكباً في حكمه شططاً. وإذا أخذ علم الأخلاق في هذا العصر بحثاً أوسع، وظهر في أسلوب أبدع، فإن كفة عصر الخلفاء الراشدين من جهة العمل بما تقتضيه أصول الأخلاق الكريمة لا تزال راجحة. وقال الأستاذ في ذلك المقال: "كان الناس في الأزمان السالفة يعتبرون الحق للقوة، فكان القوي يتحكم في الضعيف، فيسخره لمنفعته، أو يبيده، لا ينازعه في ذلك منازع، وكانت الشعوب الضعيفة تفنى في الشعوب القوية تحت تأثير الأسر المكتسب بحق الفتح، وليس في العالم من يقول بهذا المذهب، وأشد الناس إنكاراً له الأقوياء أنفسهم ". إن كان الأستاذ يتحدث عن قوانين يشرعها بعض الدول، فالإسلام قد سبق إلى قاعدة المساواة في الحقوق، وحارب ما عساه أن يخالط. النفوس العاتية من أن الحق للقوة، وإن كان يتحدث عن آراء يقررها بعض الكتاب أو الخطباء، فلحكماء الصدر الأول أقوال بالغة غاية العدل والعطف على الإنسانية؛ وإن قصد من ذلك الإطراء السيرة العملية، فدولة الخلفاء الراشدين ومن نحا نحوهاة كدولة عمر بن عبد العزيز إنما قامت على قاعدة العدل والمساواة، وغلّ أيدي الأقوياء أن تمس الضعفاء بسوء. وإذا كان في دول الإسلام أفراد من الأقوياء يسخِّرون بعض الضعفاء في منافعهم، فلهم في هذا العصر الذي سماه: "نفحة إلهية" أشباه ليسوا بأقل منهم عدداً، ولا أخف على الأعناق وطأة. ولو ضرب الأستاذ في الأرض، أو صرف شيئاً من وقته في استكشاف أحوال الجماعات لأبصر كيف يعيش الضعفاء تحت سلطان

الاستعمار الغاشم، ولأحجم عن أن يقول: ليس في العالم من يقول بمذهب تحكّم القوي في الضعيف، وتسخيره لمنفعته وإبادته، وأشد الناس اتقاء له الأقوياء أنفسهم. وهل عرف الأستاذ كما عرفنا حق اليقين أن القوي في كثير من البلاد (وهو الأوربي) يقتل الضعيف - أعني: المسلم - رمياً بالرصاص، ولم نسمع قط أن محكمة حكمت على هذا الصنف من الأقوياء بالسجن، فضلاً عن القصاص. ولو كانت محاضرتنا هذه سياسية، لملأنا النادي شواهد على أن الأقوياء في هذا العصر لا يألون جهداً في إبادة الضعفاء، وتسخيرهم لمنافعهم ما لم يجدوا نارًا أحز من نارهم، أو حديداً أصلب من حديدهم، وإن في قضية تنصير البربر، وحوادث طرابلس الغرب لعبرة لأولي الأبصار. قال الأستاذ: "كان الناس لا يأتون الفضائل، ولا يتجنبون الرذائل إلا خوفاً من عقاب، أو طمعاً في ثواب، واليوم يطلبون الفضيلة باعتبار أنها أجدر بكرامة الإنسانية، ويكرهون الرذيلة باعتبارها أنها من الصفات البهيمية". أدرك الناس في صدر الإسلام الفضيلة فالتزموها، وعرفوا الرذيلة فتجنبوها، ومن درس التاريخ مجرداً من كل عاطفة، يشهد أن الفضيلة كانت سائدة في ذلك العهد أكثر مما هي سائدة اليوم، ومن أين أتى للأستاذ أن أهل ذلك العهد لا يأتون الفضيلة باعتبار أنها أجدر بكرامة الإنسانية، ولا يتجنبون الرذيلة باعتبار أنها من الصفات البهيمية؟ فإن قال: إنهم يعتقدون أنهم يثابون على الفضيلة، ويعاقبون على الرذيلة، قلنا له: هذا الاعتقاد لا يمنع من أن يدخل في قصدهم إلى الفضيلة التحلي بما هو كمال إنساني، ويدخل في قصدهم إلى تجنب الرذيلة الترفع عما هو من صفات البهيمية.

وإذا وجد في هذا العصر طلب الفضيلة لمجرد أنها أجدر بالكرامة الإنسانية، فإنه لا يزيد عن أن يكون في أفراد أنبتت العصور السالفة أمثالهم، فمن المبالغة غير المقبولة أن يذكر هذا على أنه عنصر من العناصر التي امتاز به العصر الحاضر عن كل ما تقدمه من العصور. قال الأستاذ: "كان الناس في الأيام الخالية يعتبرون عبيداً لحكوماتهم، واليوم تعتبر الحكومات خادمة للناس". ما كان للأستاذ أن يطلق في دعوى أن الناس في الأيام الخالية يعتبرون عبيداً لحكوماتهم، فإن دولة الخلفاء الراشدين إنما قامت على أساس أن تكون خادمة للناس، وأن يبقى الناس كما ولدتهم أمهاتهم أحراراً، وقد كان هذا المعنى متمثلاً في ذلك العهد بأجلى مظهر وأكمل صورة، ولو ضرب الأستاذ في الأرض جنوبًا، أو شرقاً وغرباً، لترفق في هذا الحكم المطلق، وصاغ عبارته في غير هذا الأسلوب. قال الأستاذ: "لا يزال للضعفاء وللشعوب المقهورة ما يشكون منه، ولكنهم فيما يشكون يعتبرون مطالبين بحقوق طبيعية، وتعطى لهم الحرية العامة للدفاع عنها بكل وسيلة مشروعة، ولهم أن يعمدوا إلى التحكيم، وأن يرفعوا ظلاماتهم للمحاكم الدولية ضد غرمائهم الأقوياء، وأن يعقدوا المؤتمرات للبحث في شؤونهم العامة، وبون بعيد بين هذه الحالات والحالات التي سبقتها في القرون الماضية". كان المظلومون في عهد الخلفاء الراشدين ومن نحا نحوهم في العدل يعتبرون مطالبين بحقوق طبيعية، وتعطى لهم الحرية التامة للدفاع عنها بكل وسيلة مشروعة، ويجدون من اليد المستأصلة للظلم ما لا يجده كثير من

المظلومين في هذا العصر، ولو درس الأستاذ أحوال شعوب كثيرة تصلى نار الاحتلال الأجنبي بكرة وعشيًا، لما قال: "ولهم أن يعمدوا إلى التحكيم، وأن يرفعوا ظلاماتهم للمحكم الدولية ضد غرمائهم"، وها هي تلك الحكومات القاسية لا تسمح لشعب وضعت عليه يدها أن بحاكمها في شيء، ومن يحرك لسانه بطلب محاكمتها، سامته الخسف وعذاب الهوان، ولو انفلت طائفة من يدها، وتصدوا إلى محاكمتها، لما وجدوا محاكم دولية تسمع نداءهم، أو تخفف شيئاً من ويلاتهم، والحكومة التي ترى من يتحدث بمحاكمتها، فتكتم غيظها، إنما تعتمد على أن ليس هناك محاكم دولية تقصد أو تستطيع أن تخلص المظلوم من أسرها. يبالغ الأستاذ في تفضيل العصر الحاضر على كل ما سبقه من العصور، حتى نسب إليه ما ليس من روحه في شيء. وإن تعجب، فعجب قوله: "كان الناس لا ينفقون أموالهم لتخفيف الويلات إلا طمعاً في أن تضاعف لهم في الدنيا وفي الآخرة، واليوم يبذلون باعتبار أن الإنفاق في هذا السبيل واجب لا يصح التخلف عنه، غير منتظرين من ورائه جزاء ولا شكوراً". في المنفقين من يبذل المال للسمعة، وفيهم من يبذل المال ابتغاء رضوان الله، أو رجاء ثوابه في الآخرة، أو ازدياد نعمه عليه في الدنيا، وعلى هذا تدور مقاصد الإلهيين من الإنفاق القديم والحديث، وإذا استطعت أن تصدق أن ملحداً ينفق شيئاً من ماله خفية، فإنما هو منقاد بالعاطفة إلى ناحية يشعر بأن في الإنفاق فيها ما يعود عليه بمنفعة، فعلى فرض أن يوجد في الملاحدة من يبذل المال لإصلاح عشيرته أو أمته، لا يراعي جزاء منها ولا شكوراً، نقول: إنه مدفوع إلى الإنفاق بعاطفته نحوها، مراعياً أن سلامتها وصلاح شأنها

يعود عليه بخير، وأن ضعفها وانحطاطها قد يمسه بسوء. ماذا يريد الأستاذ بقوله: "واليوم يبذلونها باعتبار أن الإنفاق في هذا السبيل واجب"؟ إن أراد أنهم يبذلونها ابتغاء مرضاة الله، فليس هذا القصد من خصائص العصر الحاضر، بل كان الناس في صدر الإسلام يبتغون وجه الله أكثر مما يبتغيه الناس اليوم، وإن أراد الإنفاق لمجرد العاطفة، فقد أريناه أنها لا تخلو من القصد إلى منفعة، وليس الباذل إجابة للعاطفة وحدها بأفضل من الباذل رجاء ثواب الله في الآخرة، على أن الإنفاق بدون قصد ثواب الله، ولا ابتغاء وجه الناس متى وجد، لا يكون إلا من النادر الذي لا يستقيم للأستاذ أن يذكره في الحديث عن روح العصر الحاضر، ليكثر به سواد أدلته على أنه نفحة إلهية. وهذه بدعة (يا نصيب) التي يرتكب موبقتها الناس، حتى بعض الجمعيات الخيرية، ليست إلا نداء على فساد الأخلاق في هذا العصر، ولو شاء أحد أن يقيمها حجة على أن أهل هذا العصر لا يبذلون درهماً إلا طمعاً في أن ينالوا بدله في الدنيا أضعافاً مضاعفة، لم يعدم سامعاً. وخشي الأستاذ أن يملأ الناس سمعه بتعداد الرذائل التي فشت في هذا العصر أكثر من فشوها في العصور الماضية؛ كتهتك النساء، وإباحة الخمور والميسر، وتحليل الربا، فحاول الدفاع عن أن تكون هذه الرذائل من روح العصر الحاضر، فما استطاع أن يعتذر عنها بأكثر من أن القوم ينكرونها، أو يقبحون أمرها، وأعقب هذا بأنها من بقايا ضعف الطبيعة البشرية. وهل وجود رجال ينكرون الرذائل الطاغية في عصر يكفي عذراً لعدم

نقد مقالات الدعوة إلى التجديد

عدها من روح هذا العصر؟! وهل ادعاء أنها من بقايا ضعف الطبيعة البشرية يقلل من قذارتها المالئة وجه الأرض، ولا سيما رذائل وجدت ما لم تجده في العصور الماضية من أقلام تلقبها بألقاب لم توضع لها، وتسول للنفوس العمل على شاكلتها؟!. * نقد مقالات الدعوة إلى التجديد: تحدث الأستاذ فيما كتبه في جريدة "الأهرام" (¬1) تحت عنوان: "الدعوة إلى التجديد" عن الثورات العامة، وما تفعله في الأمم، ثم قال: "وينهار كل ما ورثته من صروح العقائد والتقاليد، وما أقامته على أصولها من النظم والعادات، ولكنها وهي تحت تاثير هذه الحالة الشاذة تندفع في الوقت عينه بمثل هذه الروح الثوربة إلى البناء والتشييد مدفوعة بحب البقاء، فلا تهدم حجراً حتى تضع حجرًا، ولا تحطم ركنًا حتى تقيم بدله ركنًا، وتتيقظ فيها أعلى فضائل الاجتماع من التعاون والإيثار ونكران الذات، فتعمل في سنين معدودة ما لا يمكن عمله إلا في أجيال". ثم ضرب المثل بثورة وقعت في بعض البلاد الإسلامية. يعترف الأستاذ بأن تلك الثورة انهارت فيها صروح العقائد والتقاليد، ويريد أن يدفع عنها لومة اللائمين، بدعوى أنهم لم يهدموا حجراً إلا وضعوا مكانه حجراً، ولم يحطموا ركنًا إلا أقاموا مكانه ركناً، ولم ينه الأستاذ قلمه عن الهوى، فيمنعه من أن يسمي انهيار صروح العقائد بين قوم مسلمين، ووضع أشياء أخرى موضعها: تيقظاً لأعلى فضائل الاجتماع. ¬

_ (¬1) 18 رمضان سنة 1348 (17 فبراير سنة 1930).

ليس في عقائد الإسلام، ولا في التقاليد القائمة على هذه العقائد ما يعدّ هدمه إصلاحاً، وتعاليم الإسلام هي التي توقظ أعلى فضائل الاجتماع، ولكن القلم الذي يستحب الوقوف في جانب الثورة على الهدى، لا يستطيع أن يخطو خطوة إلا بعد أن يضرب بقانون المنطق إلى وراء. وقال الأستاذ: "ولكننا في ثورتنا العامة التي نتخبط فيها اليوم، نعمل على تحطيم كل ما كان لآبائنا من عقائد وتقاليد، دون أن نسارع إلى إقامة سواها". لا ينكر الأستاذ من دعاة التجديد في مصر أن يحاربوا عقائد الدين، وما يقوم عليها من تقاليد، وإنما يثكر عليهم أنهم لم يسارعوا إلى إقامة غيرها بمكانها كما وقع في بعض البلاد الشرقية، فهو يدلنا فيما يكتب على أنه راض عن نزعة من يحطمون العقائد والتقاليد، ثم يتبعون التحطيم بالبناء. ونحن نذكره بأن هادم العقائد والآداب الإسلامية ناكث يده من عروة الدين، فلا يرتاح لصنيعه من يستيقن أن الدين هداية خالصة، وشريعة عامة باقية. تحدث الأستاذ عن دعاة التجديد في مصر، وذكر أن لهم عاملين في الهدم، وهما: التشكيك، وتحقير كل ما له بقية من الاحترام في النفوس، ثم قال: "وهم يعذرون؛ لأنهم مخلصون في محاولاتهم، ولكنهم من طبقة الذين يصلحون للهدم، ولا يصلحون للبناء والتجديد". ثم أشار عليهم مفسر القرآن بأن يقتدوا بالطبيعة في إتباع الهدم بالبناء، فهو لا يلوم دعاة التجديد في إثارة الشكوك، وتحقير كل ماله احترام في النفوس، فقد وصفهم بالإخلاص والصلاح للهدم، وإنما يلومهم في عدم وضعهم بدل ما يهدمونه بالتشكيك أو التحقير شيئاً جديداً.

قال الأستاذ في مقاله الثاني (¬1): "وبما أننا نتكلم عن مصر، فإن حركة التجديد فيها وقفت منذ فقد المصريون الملكة الحربية بعد عهد رمسيس الثاني في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ومنذ أصيب كهنتهم بحب المال والسلطة، وطمع الجنود المسترزقة فيها أيضاً، وتوالت غارات الأمم على البلاد، وما تلا هذا كله من الأحداث التي كانت نتائجها ضروباً شتى من الأحوال إلى عهد مؤسس الأسرة المالكة محمد علي باشا - رحمه الله - ". تحدث الأستاذ في هذه الجمل بلسان يضاهي لسان من يجحد فضل الإسلام والعرب، فجعل الفتح الإسلامي غارة من غارات الأمم التي لم تبث في مصر شيئاً من الحياة، ولم تحدث فيها شيئاً من التجدد، وأشعة العلم والأدب والقوة التي ضربت في مصر بعد الفتح الإسلامي لا تعد في نظر الأستاذ من أثر الحياة ولا التجدد النافع في شيء. فإذا كانت تلك الحياة السامية التي أفاضها الإسلام وأولياؤه على مصر قد يدركها في بعض الأحيان ضعف، فليس للأستاذ أن يطرحها من الحساب، ولا يزيد على أن يسميها غارة من غارات الأمم، أفلا يعلم أن للتاريخ عيناً باصرة، وأن حسابه على من يباهته غير يسير؟! ذكر الأستاذ أن الجامعة المصرية لما تأسست لأول عهدها، وتخرج فيها بعض الشبان، تمثلت لهم الحاجة إلى التجديد بكل شدتها، فنادوا بوجوبه، وكتبوا في ذلك مقالات تفيض بالملاحظات الحقة، والنظرات الصادقة، وكان من رأيهم: الإسراع إلى تقمص العقلية الأوربية، والتأدي إلى ما أدت أهلها إليه في جميع ضروب المحاولات الأدبية والمادية. ثم ذكر ثورة بعض الشعوب ¬

_ (¬1) "الأهرام" 20 رمضان سنة 1348 (19 فبراير سنة 1930).

الشرقية، وقال: "فكانت مثالاً حياً ماضياً في قطع أمة برمتها صلاتها بالتقاليد والموروثات القديمة، وفي اقتباس أصول المدنية الغربية على ما هي عليه بدون قيد ولا شرط ". في مصر رجال لم يخرجوا في الجامعة، وقد تمثلت لهم الحاجة إلى التجديد بكل شدتها، ولكنهم ملكوا رشدهم، فلم ينادوا بتقليد أوربا في كل شيء، بل أخذوا يتأملون مظاهر أوربا الأدبية، ووسائل رقيها المادية، ويعرضونها على أصول الاجتماع ومقتضيات الحياة الماجدة، ويستعينون في نقدها بالتاريخ الذي دلّ على أن الأمم لا تخلو من نقائص، ولو بلغت من السطو والغلبة غاية قصوى، فكانوا موفقين في دعايتهم إلى التجديد النافع، مؤيدين في تقويم أولئك الذين يحاولون قطع الأمة عن كل ما له احترام في نفوسها. وليست الثورة التي وصفها بمثال حي أو ميت في قطع أمة برمتها صلاتها بالتقاليد والموروثات القديمة، فإن الأمة التي يتحدث عنها مسلمة، ولها حرص على التمسك بتقاليد دينها، وفيها زعماء يدعون إلى التجديد النافع الذي نسميه بالإصلاح، أما قطع صلاتها بالتقاليد جملة، وإجراء أصول المدنية الغربية عليها بدون قيد ولا شرط، فإنما ينزع إليه منها، ومن الإساءة للتاريخ أن يعمد الكاتب إلى ما يأتيه بعض الأفراد من محظور، فينسبه إلى الأمة بأسرها. تحدث الأستاذ بمقاله الثالث (¬1) عن حال حكومة نزعت إلى الانقطاع عن الشرق جملة، حتى قال: "فلما دخلت في دور الثورة التي لا تزال فيه ¬

_ (¬1) "الأهرام" 22 رمضان سنة 1248 (21 فبراير سنة 1930).

اليوم، ونادت تحت تأثيره إلى تحطيم كل قديم، وأخذت الجرائد تنقل آراء الغلاة منهم والمعتدلين في وجوب إزالة كل حائل بين الأمة والترقي، مهما كانت درجة قدسيته في نظر الجماهير، صادف ذلك عندنا هوى في أفئدة الذين أساؤوا منهم التجديد، فتوهموه إباحة، فاندفعوا تحت قيادة فئات من المسترزقة الذين ذكرناهم يطلبون استكمال لذاتهم وشهواتهم، متوهمين أن الحياة الجديدة تقتضي ذلك ". ثم قال: "ومتخيلين أنهم على الطريق التي عليها ذلك الشعب الشرقي، بل التي عليها العالم أجمع اليوم". يريد الأستاذ أن يقيم فارقًا بين دعاة التجديد في تلك البلاد، ودعاة التجديد في مصر، فيبرئ الدعاة الأولين، ويمجد خطتهم، ويعيب الدعاة الآخرين، ويسفه أحلامهم. ونحن نلقن الأستاذ أن في مصر دعاة تجديد يسيرون في في عايتهم على نور من الحكمة، وفيها دعاية إلى تقليد الغربيين، ولو فيما يحرمه الدين تحريمًا مغلظًا، وهذه الدعاية هي التي يقوم بها الإباحيون والملاحدة في كل قطر، ولا نظن الإباحة والتهتك في دعاية تلك البلاد أضيق دائرة منها في دعاية مصر، فلم يتحر الأستاذ طريق الإنصاف حين سمّى الدعاية هنالك: دعاية إلى أعلى فضائل الاجتماع، والدعاية في مصر: دعاية لاستكمال اللذات والشهوات. ذكر الأستاذ في ذلك المقال أن قادة الانقلاب في تلك البلاد بيدهم زمام الحكم، وقال: "فهم يوجهون التيار إلى حيث يريدون، بالإقناع أولاً، فإن لم يفد، فبالقوة، وهم يتعهدون ثمرات أعمالهم بكل دقة، ويستطيعون إصلاح ما فسد منها، مثال ذلك: أنهم أباحوا السفور للنساء، والرقص مع الرجال على النحو الذي عليه الأوربيون، ولكنهم لما أنسوا أن هذه الإباحة

دفعت الصغار إلى غشيان دور الرقص، وأدركوا أن في ذلك مضيعة لأوقاتهم، سنّوا قانوناً ألزموا فيه أصحاب تلك الدور بعدم قبول الفتيان قبل أن يستكملوا الثامنة عشرة من أعمارهم". يفرق الأستاذ بين المجددين في البلاد التي امتلكت عاطفته، والمجددين في مصر؛ بأن يزيد طائفة المجددين هنالك قوة على التنفيذ، وليس يزيد طائفة المجددين في مصر قوة منفذة. ومعنى هذا: أن من بيدهم القوة في مصر ليسوا من المجددين، أو ليسوا من أولي العزم على تنفيذ ما يرونه من التجديد. نعم، في تلك البلاد جراءة متناهية على تنفيذ ما يراه المجددون تخلصاً من العقائد والتقاليد، وجراعة متناهية في الأخذ بتقاليد أوربا، وإن كانت منكرة في نظر الدين، قبيحة في رأي العقل السليم. فإن أراد الأستاذ أن يجعل هذه الجراءة المتناهية مما يرجح بها وزن دعاة التجديد هنالك، فقد أخطأ فيما أراد؛ فإن استخفاف ذي القوة بدين الأمة وتقاليدها القائمة على أصوله، غير محمود الأثر، ولا مأمون العاقبة، وبالأحرى: إذا غلا في الثورة عليه. وإن أراد إغراء أولي القوة في مصر على أن يسلكوا في الجراءة على نبذ التقاليد وما له احترام في النفوس مسلك المتجبّرين، فقد اكتسب إثمًا حيث وضع أصبعه في العمل للثورة على دين الله. وإذا لم يجرؤ أولو القوة في مصر ما جرؤ عليه غيرهم من محاربة العقائد والتقاليد بدون قيد ولا شرط، فلأن في مصر قوة علمية دينية، ولأن الجالس على عرش مصر يقدر الدين الحنيف قدره، ويثق بأن الفلاح وحسن العاقبة في المحافظة على آدابه

السامية، إذا اجتمع في الرئيسس الأعلى بصيرة نافذة وعزم فاصل، لم يستطع الملحدون والإباحيون إلى القضاء على العقائد الصحيحة والتقاليد القائمة عليها سبيلًا. وقد رأيتم الأستاذ كيف اعترف بأن أولئك القوم أباحوا رقص النساء مع الرجال، ثم ذكر أنهم أصلحوا ما جاء فاسداً من هذه الإباحة، فقصروا الإباحة على من استكملوا ثماني عشرة سنة، وحجروها على من لم يبلغوا هذه السن. فرقص الفتى مع الفتاة وقد بلغا ثماني عشرة سنة - على النحو الذي عليه الأورييون - يعد في نظر الأستاذ من التجديد المقبول، وليس هو من الإباحة التي يطلب بها استكمال اللذات والشهوات، فعلى الأستاذ أن يسوق لنا مثلاً من التجديد الذي أنكره على المجددين في مصر، وقال: إنهم يطلبون به استكمال لذاتهم وشهواتهم، ويكون هذا المثل أدخل في التهتك، وأجمع للذة والشهوة من رقص الفتيان مع الفتيات على النحو الذي عليه الأوربيون اليوم. وقد ذكرت بهذا أن أحد القائمين بمثل الدعاية التي يقوم بها الأستاذ كتب مذكرة يصف بها حال المسلمين في "فنلندا"، ومما جاء في هذه المذكرة: "إن الرجال والنساء يدخلون الحمامات عارين وعاريات، والأبصار مغضوضة، والفروج محفوظة". فلعل الأستاذ يدِّعي للراقصين مع الفتيات هذا العفاف الذي ادعاه صاحب المذكرة للعارين والعاريات من الفنلنديين، فإن ادعى هذا، قلنا له ولصاحب المذكرة: لأن تقولا: إن العفاف ليس بفضيلة، أيسرُ عليكما من أن تلبِسا على الناس معنى العفاف، وتعدّا الخلاعة عملاً سائغاً!.

المحاضرة الثانية

نقد آراء الأستاذ فريد وجدي من الناحية الدينية والاجتماعية * المحاضرة الثانية (¬1): لا نود التعرض لما تكتبه أقلام ليس علينا من حسابها من شيء، ولكنَّ قلمًا كان قد وقف في جانب الإسلام حينًا، ثم تزحزح عن موقفه متحيزًا إلى ناحية أخرى، نخشى أن يتمادى هذا التحيز، فيغير ما في النفوس من رشد، ذلك قلم الأستاذ فريد وجدي، وقد أوردنا في المحاضرة الأولى قِطَعاً من مقالات حاد فيها عن السبيل، واليوم ننقل لحضراتكم من تلك المقالات قطعاً أخرى؛ لتزدادوا خبرة بأن الأستاذ قد خلط بعض الآراء المنبوذة بشيء من الحقائق المألوفة؛ لتسيغها الأسماع، وتتقبلها القلوب وهي في غفلة عن سوء مغبتها. قال الأستاذ في المقال الثالث المنشور تحت عنوان: "الدعوة إلى التجديد": "الانقلاب التركي متهم بمجافاته للدين، ولكنه من هذه الناحية على منهاج كل انقلاب حدث في العالم، ومن يدرس تاريخ الانقلابات الإنكليزية والفرنسية والروسية، يجد ذلك مائلاً أمام عينيه، وسبب هذه المجافاة: أن ¬

_ (¬1) المحاضرة الثانية للإمام في نادي جمعية الهداية الإسلامية بالقاهرة، ونشرت في الجزء التاسع من المجلد الرابع لمجلة "الهداية الاسلامية".

المجددين يتطلبون جواً حراً خالصاً من كل تحكم، فيحدث بطبيعة الحال خلاف بينهم وبين رجال الدين، حتى يتولد العهد الجديد، ويألفه الناس، فيعرف كل قبيل حده الطبيعي، ويقف عنده". ذكر الأستاذ وصف الناس للانقلاب التركي بالمجافاة للدين، وسمّاه اتهامًا، وقد ظننا أنه سينفي عنهم هذه المجافاة، ولكنه اعترف بها، وحاول الاعتذار عنها بأنها جاءت على منهاج كل انقلاب حدث في العالم، وادعى أن لها سبباً يدفع الإنكار، هو: تطلب المجددين لجو حرٌّ خالص من كل تحكم. ونحن نقول: ليس التجافي عن الدين من طبيعة كل انقلاب اجتماعي إلا أن يكون زعماء الانقلاب منصرفين عن الدين انصراف من لا يفقهون حكمته، ومتى كانت نفوس زعماء الانقلاب عامرة بشيء من احترامه، لم يكن منهم إلا أن يوجهوا قوتهم إلى التجديد المعقول، محافظين - في الأقل - على ما أجمع الناس على أنه أصل من أصول الدين الصحيحة، والقوة التي تسطو على الدين، وترهق أولياءه عسفاً، تستطيع أن تتوجه إلى الخير، وتقيم الإصلاح في جو هادئ كيف تشاء، وتجد من الأعوان أكثر مما تجد يوم تتجافى عن الدين، وتتولاها الإباحية الخرقاء، وها هو ذا الانقلاب الأفغاني الأخير لم يجد زعماؤه أنفسهم في حاجة إلى العثور على الدين، بل اتخذوه أساس نهضتهم المباركة، متى استمر زعماؤه على هذه السيرة، دخلوا في حياة راضية، وبلغوا من المدنية الطاهرة ما لا يبلغون منها لو كانوا قوماً يجحدون. فإن قال الأستاذ - ولا أخاله يقول -: لا أسمي نهضة الأفغان الأخيرة انقلاباً اجتماعياً؛ لأنهم لم يثوروا على الدين، ولم يبيحوا رقص الفتيان مع

الفتيات، ولم ينقلوا قانوناً من بلاد أوربية ليتبدلوه بالشريعة الإسلامية، طوينا بساط البحث معه، وقلنا له: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]. زعم الأستاذ أن الأتراك مضطرون إلى مجافاة الدين بحكم الانقلاب، والتفت يرائي جماعة المسلمين، ويهدئ من روعهم، فزعم أن الخلاف الذي يحدث بين المجددين ورجال الدين سيولد عهدًا يألفه الناس، فيعرف كل من الفريقين حده الطبيعي، فيقف عنده. وهذه المراءاة والتهدئة قد قرأناها لأحد زعماء الزيغ منذ ثلاث سنين، فإن كان الأستاذ قد استمدها منه، أو من المنبع الذي استمد منه ذلك الزعيم، فقد راجت في ذهنه كلمة اخترعت لإرضاء الناقمين على من يحارب الدين بقوة، أما المسلمون، فإنهم ينظرون بنور الله، ويميزون بين الكلمة التي تصدر عن نصيحة، والكلمة التي تلقى إليهم على وجه الاحتيال. قال الأستاذ: "ولكنا نحن من أمر الدين في حال لم يعهد له في تاريخ الأمم شبيه، فإن حركة التجديد عندنا، حتى على ما آلت إليه من تسلط المسترزقة عليها، لم تصطدم بمقاومة من رجال الدين". ثم قال: "فثورة مجددينا على الدين ليس لها معنى ما دامت المقاومة معدومة كما رأيت، فحركة التجديد عندنا - والحال كما ترى - لم تستكمل عناصرها المقومة لها، فسهل على دعاة الشهوات من المسترزقة أن يدفعوها في طريق الإباحة البحتة". لا يتحامى الأستاذ أن يسلك إلى الغاية التي يرمي إليها مسالك تزلزل مكانه العلمي زلزالًا عنيفًا، فقد قال في مجددي تركيا: إنهم ثاروا على الدين ليقيموا الإصلاح في جو حر، ولقن قراء مقالاته: أن حركة التجديد هنالك

صودمت بمقاومة من رجال الدين، فكانت هذه المقاومة الداعي إلى الثورة على الدين، ثم انتقل إلى الحديث عن حركة التجديد في مصر، فذكر أنها لم تصطدم بمقاومة من رجال الدين، وأقبل على المجددين يعظهم بأن لا معنى للثورة على الدين ما دام رجال الدين لا يعارضونكم في حركة التجديد، ونبه على أنه يريد بهذه الموعظة القدح في رجال الدين في مصرة إذ جعل مقاومة رجال الدين في تركيا عنصرًا من العناصر المقومة للتجديد، وانتهى إلى أن حركة التجديد عندنا ينقصها عنصر هو مقاومة رجال الدين التي تمنعها من الاندفاع في طريق الإباحة. وملخص حديث الأستاذ: أن المجددين في تركيا خير من المجددين في مصرة لأن أولئك يهدمون العقائد والتقاليد، ويضعون بدل الهدم بناء، وهؤلاء يهدمون الأركان أو الأحجار، ولا يضعون بعد الهدم ركنًا ولا حجرًا، ولأن مجددي الأتراك ثاروا على الدين من أجل مقاومة رجال الدين لحركة تجديدهم، ومجددي مصر ثاروا على الدين من غير سبب؛ لأن رجال الدين في مصر يلقون حبل حركة التجديد على غاربها. ونحن نعود فنذكر الأستاذ بأن ثورة من ثار على الدين في تلك البلاد، لا يصح أن يذكر في أسبابها مقاومة رجال الدين لحركة التجديد، فرجال الدين في تركيا كرجال الدين في مصر، قد ينكرون بعض المحدثات، ولا يزيدون على أن يعبروا عن هذا الإنكار بأقلامهم أو ألسنتهم، وقد أقمنا بمرأى ومسمع من رجال الدين في تركيا سنين غير قليلة، فلم نرهم يقاومون التجديد بأشد مما يقاومه رجال الدين في مصر، فدعوى أن علة ثورة المجددين في تركيا على الدين هي مقاومة رجال الدين لحركة التجديد غير معقولة.

وما ذكره الأستاذ من عدم مقاومة رجال الدين في مصر لحركة التجديد أقل ما يقال فيه: إنه كلام غير مستبين، فإن كان الأستاذ يريد التجديد الخارج عن الكياسة، والذي هو شقيق الإباحية، فما قعد رجال الدين عن مقاومته، وما زالوا يكتبون ويخطبون في تفنيد آراء الفئة التي تدعو إلى تقليد أوربا فيما لا خير فيه، ولعل الأستاذ لم يتيسر له أن يقرأ في أيام عزلته أو سكوته إلا بعض الصحف أو المؤلفات التي تدعو إلى الإباحة أو الجحود، ولو كان يقرأ ما يكتبه أهل العلم في تقويم عوجها، وكشف الغطاء عن سوء سريرتها، لعرف أن العلماء يقاومون حركة التجديد الأرعن، وأقام لثورة المجددين على الدين في مصر من هذه المقاومة عذراً. فإن أراد الأستاذ: أن رجال الدين في مصر لا يقاومون حركة التجديد الصالح- ولا أخاله يريد هذا -, قلنا له: إن رجال الدين في مقدمة الداعين إلى التجديد النافع؛ ففي مصر وغيرها من بلاد الإسلام رجال وصلوا في علم الدين إلى اللباب، وعرفوا ما تقتضيه المدنية من إصلاح، وماذا يجري في الشرق والغرب من أطوار، ولجهاد هؤلاء أثر في بعث الشرق من خموله يفوق كل أثر. ولا يسع المقام لأن أسوق المشاهد على أن لعلماء الإسلام أكبر يد في نهضة الشرق، فاكتفي بأن أورد شاهداً من تلك الشواهد المفحمة، هو أثر من آثار المفتي بتونس الشيخ محمود قبادو (¬1) المتوفى سنة 1288، فقد قام يدعو إلى الإصلاح ومجاراة أوربا في العلوم والفنون والصنائع في قصائد مختلفة، وأذكر من قصيدة له تلاها على الوزير خزندار الأبيات الآتية: ¬

_ (¬1) انظر كتاب: "تراجم الرجال" للإمام.

وما خسر الإنسانُ وجهَ سعادة ... إذا من فنون العلم وفِّر سهمُه فما الجسم إلا خادمُ المالِ ساعيًا ... وما المال إلا خادم الجاه لمّه وما الجاه إلا خادم الملك لائذاً ... وما الملك إلا خادم الشرع حزمُه وما الشرع إلا خادم الحق مرشداً .... وبالحق قام الكون وانزاح ظلمُه ثم قال: فمن علم الأشياء وفى حقوقها ... ودان له فيما يحاول خصمه وكل فنون العلم للملك نافع ... ولا سيما ما ساير الملك حكمه أرى الملك مثل الفلك تحت رئيسه ... عويزًا إلى الأعوان فيما يؤمه فذلك نوتيٌّ يعين بفعله ... وآخر خِرّيت قصاراه علمه ومقصده جري السفين وحفظها ... ليسلم كلٌّ أو ليعظم غنمه أيركب هوله البحر دون مقاوم ... وفي طيه حرب كما يؤذن اسمه لذاك ترى ملك الفرنج مؤثلاً ... بعلم على الأيام يمتد يمه ومملكة الإسلام يقلص ظلها ... وينقص من أطرافها ما تضمه على أنها أجدى وأبسط رقعة ... وأوسط إقليماً من الطبع عظمه وأعرق في منمى الحضارة موقعًا ... وأطول باعاً يفلق الهام دمه وقدمًا تناهت في الفنون توغلاً ... وجمع طم الصنع فيها ورمه ثم قال: فمن لم يجس خبر أوربا وملكها ... ولم يتغلغل في المصانع فهمه فذلك في بن البلاهة داجن ... وفي مضجع العادات يلهيه حلمه

نقد مقالة: سطوة الإلحاد على الأديان

ومن لزم الأوطان أصبح كالكلا ... بمنبته منماه ثمة حطمه هم غرسوا دوح التمدن فرعه الـ ... ـرياضي والعلم الطبيعي جذمه فكان لهم في ظله متقيلٌ ... من الصول يحمي بالمكائد أطمه أيجمل يا أهل الحفيظة أنهم ... يبزوننا علماً لنا كل فخمه لقد فاتنا في بادئ الرأي صوبنا ... وأشفى لعمري أن يفوت ختمه تباعد شوطاً مقدم ومقهقر ... إذا لم يحن منه التفاف يزمه لعمري ليس الميت من أودع الثرى ... ولكن مطيق للغنى بأن عدمه * نقد مقالة: سطوة الإلحاد على الأديان: حكى الأستاذ في هذا المقال أن الإلحاد بدأ في القرن السابع قبل الميلاد على يد الفيلسوف اليوناني "طاليس"، وتقبل رأيه طائفة من فلاسفة اليونان، وكان مرماهم جميعاً التدليل على قيام الوجود بنفسه مستغنياً عن مدبر حكيم، فلم تقم لرأيهم قائمة بسبب شدة تمسك الناس بأديانهم، وقال من بعد: "ثم تطورت الآراء حتى جاء زمان أصبح الدليل فيه حاجة من حاجات العقول، فوجد الإلحاد مجالاً للظهور باعتبار أنه رأي علمي حق المثول بين الآراء المتباينة، ولم يكد يعطى هذا الحق، حتى نزع إلى الإعلان عن نفسه بأنه الرأي الوحيد الذي يوفي بحاجات العقول؛ إذ يستند إلى العلوم اليقينية القائمة على المشاهدة والتجربة، وأما ما عداه، فأساسه الهوى والخيال، وما قام الدليل المحسوس على منافاته للبداهات العقلية المقررة". لا نناقش الأستاذ فيما تحدث به من بداية الإلحاد، ولا في إخفاقه حين قام يسعى بين المتمسكين بأديانهم، ولا في تطور الآراء حتى أصبح الدليل

حاجة من حاجات العقول، وللأستاذ أن يصف الإلحاد بأنه رأي علمي له حق المثول بين الآراء المتباينة، ولنا أن نقول: للإلحاد أن يمثل بين الآراء المتباينة، ريثما تتناوله العقول بالنقد، فإذا وضع على محك النظر، استبان أنه رأي زائف، منشؤه قلة الروية، والوقوف في البحث عند غاية تتجاوزها العقول وهي مهتدية بنور العلم، معتصمة بقانون المنطق، وإذا أعلن الإلحاد عن نفسه بأنه يفي بحاجات العقول، نادته العقول أنفسها أن ليس في إنكار مدبر حكيم ما يقضي لها حاجة واحدة، فضلاً عن أن يفي بحاجاتها، وما جاء في وصف الإلحاد من أنه يستند إلى العلوم اليقينية القائمة على المشاهدة والتجربة، وأن ما عدا الإلحاد قائم على أساس الهوى والخيال، مدفوع بأن ليس في العلوم اليقينية القائمة على المشاهدة والتجربة ما يصح أن يكون مستنداً للإلحاد، وليس فيها ما يعترض الدين في سبيل، فإن ادعى الإلحاد أنه يستند إلى العلوم اليقينية، فقد افترى على هذه العلوم كذباً. ثم قال الأستاذ: "فنشبت بين الإلحاد والدين من ذلك العين - القرن السادس عشر - معركة فاصلة لا تزال رحاها دائرة، استخدم فيها رجال الدين في أول عهدهم بها ما كان لهم من سلطان على الحكومات والعامة، فأسرفوا في البطش بخصومهم، لا بقوة الدليل، ولكن بقوة الحديد والنار". يذكر الأستاذ في حديثه رجال الدين باطلاق، ثم يقابلهم بالإلحاد، ويعبر في بعض الجمل برجال الأديان، فإذا ناقشناه، فمن ناحية تحقيق البحث بالنظر إلى رجال الدين الإسلامي. إذا تتبعنا تاريخ رجال الدين في الإسلام، نجدهم يرجعون في مقاومة الالحاد إلى الحجة، وما قامت طائفة الملاحدة بدعاية ظاهرة أو خفية،

فيخشى أولو الأمر من أن يتفشى وجاء الإلحاد في الناس، فيفسد النفوس، ويفتك بالأخلاق الفاضلة، فيقضي عليهم النصح للأمة، والعمل لسعادتها أن يقطعوا شر الإلحاد عن العامة والأحداث، ولو بالقوة. وقد دلت المشاهدة على أن من دعاة الإلحاد من لا ينقطعون عن دعايتهم، ولو أقمت لهم على ضلالهم ألف دليل، وإذا كان لأحدهم سبيل على طائفة من نشئنا، أخذ ينفخ فيهم روح الإلحاد على طريقة مبيتة، ومتى كان في الرئيس الأعلى غفلة وقلة صفاء، وجد أولئك الدعاة تحت رعايته المجال واسعًا، فعاثوا في الفطر السليمة فساداً، فلا يمضي حين حتى يتولد حولهم جماعات مطويات على ما تنطوي عليه الأراقم من سموم قاتلة، فإن كان الرئيس على بصيرة، أشفق على تلك الفطر أن تشوَّه، ووقاها من كل دعاية خرقاء، والرئيس الحازم لا يفوته أن لحرية الفكر حدوداً إذا تجاوزتها، كان إثمها أكبر من نفعها، ولا يدخل في حدودها الطعن في الدين، أو الجهر بآراء تنتزع النفوس من العفاف، وتقودها إلى الإباحية العمياء. ومن مثار العجب أن يشكو دعاة الإلحاد حزم الرئيس المصلح واحتراسه من مكرهم، ويسمونه، اعتداء على حرية الفكر، حتى إذا ملك أحدهم قوة، أرهق بها فضلاء الناس خسفاً، ولا يكون من أولئك الذين كانوا يندبون حرية الفكر إلا أن يتغنوا بمديحه في الصحف، ويسمون إرهاقه الغاشم إصلاحاً. قال الأستاذ: "ثم تقدم الزمان، وأفلتت الحكومات من سلطان رجال الدين، فاقتصر سلاح الدين على ما كان لديه من قوة الإقناع، في هذه الأثناء كان العلم الطبيعي يؤتي ثمراته من استكشاف المجهولات، وتخفيف الويلات، وتوقية الصناعات، وابتكار الأدوات والآلات، ويعمل على تجديد الحياة

البشرية تجديداً رفعها عن المستوى، فشعر الناس بفارق جسيم بين ما انتهوا إليه في عهد الحياة الحرة، وتحت سلطان العلوم المادية، وبين ما كانوا عليه أيام خضوعهم لحفظة العقائد، فانتهز الإلحاد فرصة هذا الشعور الجديد، وازداد كليًا على مهاجمة الدين، واستهتر في مطامعه، فرمى إلى القضاء عليه القضاء الأخير". عبّر الأستاذ بخروج الحكومات من سلطان رجال الدين، وهو يريد خروجها من سلطان الدين نفسه، وذكر أن عهد خروجها من سلطان الدين أرقى من عهد خضوعها له، وسمَّى الأول: عهد الحياة الحرة، والثاني: عهد الخضوع لحفظة العقائد. والواقع أن في كل عصر من العصور الماضية طائفة يدرسون مع العلوم الدينية العلوم النظرية، والفنون الأدبية، وفي كل عصر علماء لا يغفلون في تقرير الأحكام الدينية عن المصالح الاجتماعية، فمن الإنصاف أن نقول: أشد الناس صداقة للعلوم والتجديد الصالح علماء الإسلام. وشاهد هذا: أنه حين تيقظ بعض رجال الدولة الإسلامية لمقتضيات المدنية، وجدوا من الرجال الراسخين في العلم مساعدة على كل ما أرادوا القيام به من إصلاح، يعرف هذا من اطلع على تاريخ النهضة الإسلامية في مثل مصر وتونس، ولكن الذي يزعم أن علماء الدين كانوا عقبة في سبيل الرقي، إما أنه ينظر إلى بعض من ينتمون إلى الدين وهم لا يفقهون من روحه شيئاً، فيرسل حكمه على علماء الدين مطلقاً، وإما أن يعد إنكارهم للفسوق والخلاعة والطعن في الدين معارضة للحرية، ووقوفاً في سبيل التجديد، وهم لم يريدوا إلا حماية الفضيلة، وسد ذرائع الفساد.

فلا عذر للحكومات التي تفلت من سلطان الدين ما دامت تجد في رجاله الراسخين من يهديها السبيل المستبين، ويريها أن الدين يفسح للناس المجال حتى ينتهوا إلى الحياة الحرة، ويخوضوا في العلوم المادية إلى أبعد مدى. ويخيل الأستاذ لقراء مقاله أن الحياة الحرة في إفلات الحكومات من سلطان الدين، وقد دلنا التاريخ، بل العصر الحاضر أن من الحكومات التي تفلت من سلطان الدين، وتنكث يدها منه جملة، تطلق للناس مجال الطعن في الدين، وتناوئ كل من يعظها في منكر، وترميه بعدم الإخلاص أو الطاعة، فأين الحياة الحرة عند إفلات الحكومات من سلطان الدين؟!. وليست الحياة الحرة هي التي تجعل الإلحاد يطمع في أن يقضي على الدين القضاء الأخير كما يقول الأستاذ، وإنما يطمع الإلحاد في القضاء على الدين متى رأى أميراً أو وزيراً أو رئيس معهد علمي يحمل في صدره الإنكار والفسوق، ويرفع الملحدين على المتدينين درجات. قال الأستاذ: "فلو كان خطأ رجال الدين وقف عند هذا الحد - يعني: إسرافهم في البطش بخصومهم الملاحدة -، لكان- مع الاعتراف بأنه حوب كبير- من الأمور التي وقعت فيها الطوائف، قديماً وحديثًا في الاجتماع والسياسة معاً، ولكنهم يشتركون في أمر ليس له ضريب في تاريخ الطوائف، وهو إجماعهم في كل مكان على إحباط ما جدَّ في العالم العلمي من المباحث التي ترمي إلى الوقوف على حدود العالم الروحاني على أسلوب العلم الطبيعي نفسه من المشاهدة والتجربة، واعتبار القائمين بها من عليه العلماء، وجلة الفلاسفة والمفكرين، فضوليين يشتغلون بما ليس من اختصاصهم من أمور

الروح والروحانيات التي يحسبون أنفسهم من محتكريها دون غيرهم". يريد الأستاذ بما جدّ في العالم الروحي: ما كان من قبيل التنويم المغناطيسي، واستحضار الأرواح، ويتهم رجال الدين بإحباط مساعي الباحثين في حدود العالم الروحاني، بدعوى أنهم يريدون احتكارها لأنفسهم دون غيرهم، ولو لم يقل الأستاذ: "في كل مكان"، لقلنا: يقصد طائفة خاصة من رجال الدين، ولكنه جرى على عادته في التعميم، فجرته المبالغة إلى الإخبار بما لا يعرفه الناس واقعاً. والمشاهد أن من علماء الدين من يتلقى أحاديث هذه المباحث بقبول، فيثق بما يورده الكاتبون في شأنها، ويسبوقه تأييدًا لما قرره الدين من أن وراء هذه المادة عالماً روحانيًا، ومنهم من لا يبادر هذه الأحاديث بالإنكار، ولكنه يتحامى أن يعتمد عليها في بحثه العلمي؛ لأنه لم يدرس تلك المباحث بنفسه درس مشاهدة أو تجربة، وها نحن أولاء نخالط رجال الدين في العشي والإبكار، وكثيراً ما ينساق الحديث إلى هذا الذي جدَّ في العالم الروحي، فلم نشعر بهذا الذي يتهمهم به الأستاذ؛ أعني: اعتبارهم للقائمين بالمباحث الروحية فضوليين يشتغلون بما ليس من اختصاصهم. قال الأستاذ: "فإلى أي حد ينتهي عجب القارئ إذا علم أن علوم الطبيعة والكيمياء والجغرافيا والفلك، وتاريخ الأديان، والتاريخ العام، والفلسفة إلخ لم تدع في الأديان مذهباً مقرراً، ولا أصلاً مدعماً إلا أوسعته نقداً على أسلوبها، ونقضته وقوفًا مع مقرراتها الرسمية". لا تنال هذه العلوم من حقائق الدين كثيراً أو قليلاً، وقد رأينا فيمن قتلوها علماً من يستنيرون بإيمان لا يحوم عليه ريب، والذين يحاربون الدين،

ويزعمون أنهم يستندون إليها، لم يستطيعوا أن يقيموا من مقرراتها الصحيحة شاهداً على أن فيها ما ينقض أصلاً من أصول الدين مدعمًا، وإذا زاغ فريق من أصحاب هذه العلوم، فإنما جاءهم الزيغ من الناحية التي يجيء منها إلى فريق لم يعرفوا لهذه العلوم إلا أسماء، وقد حاول بعض الملحدين أن يتخذ من هذه العلوم مستنداً، فلم يزد على أن دل الناس على أنه لم يفهم ما يقرره الدين، أو أنه لا يعرف قانون المنطق والشروط التي لا يستقيم الاستدلال إلا بمراعاتها. قال الأستاذ: "قلنا: إلى أي حد ينتهي عجب القارى" إذا علم أن حفظة العقائد في كل مكان، أجمعوا أمرهم على محاربة هذه الفتوحات العلمية التي إذا ثبت في يوم من الأيام أنها ضلالة، فقدت أخص العقائد في الأديان كل أساس علمي، وأصبحت جميع مقرراتها مما لا يمكن الدفاع عنه بأية وسيلة من الوسائل". قد أريناكم أن من حفظة العقائد من يتقبل هذا الذي يسميه الأستاذ: فتوحات علمية، ويورده تأييدًا لما عنده من أدلة على وجود عالم وراء المادة، ومنهم من وقف منها موقف المنتظر حتى يتسنى له أن يعلمها على طريق المشاهدة والتجربة، فدعوى الأستاذ إجماعَ حفطة العقائد في كل مكان على محاربة هذه الفتوحات، من قبيل المبالغات التي تقتحمها أقلام تسعى للتنفير من الدين على طريق الحط من شأن علماء الدين. ثم ماذا يريد الأستاذ بدعوى أن المباحث الروحية التي يقوم بها بعض الأوروبيين متى ظهر بطلانها، فقدت العقائد في الأديان كل أساس علمي، وأصبحت جميع مقرراتها لا يمكن الدفاع عنها بأية وسيلة من الوسائل؟.

يريد: أنه إذا ثبت أن تلك المباحث غير صحيحة على معنى: أن أولئك الباحثين غير صادقين في دعواهم أنهم استندوا فيها إلى المشاهدة والتجربة، انتقضت العقائد الدينية من أساسها، وهذا مردود بأن العقائد الدينية تقوم على أساس من الأدلة العلمية متين، فلا يضرها أن يفشل أولئك الباحثون، فلا يصلوا إلى إدراك ما وراء الطبيعة على طريق المشاهدة أو التجربة. قال الأستاذ: "إن كان الدينيون يعلمون من أين أتى مقرراتهم الوهن، وتطرق إلى أصولهم الانحلال، لتطلبوا الوسائل لتقوية معاقلهم الدفاعية، واتخذوا من الأسلحة ما يمكنهم من الوقوف أمام هجمات العلم المتوالية". يرى الأستاذ أن الوهن والانحلال قد دخلا على مقررات الدين وأصوله، وأسباب الوهن والانحلال في زعمه هي هجمات العلم المتوالية، والواقع أن مقررات الدين لم يأتها وهن، وأصوله لم يتطرقها الانحلال، فإن أراد من العلم: النظريات التي استقرت على وجهها الصحيح، ورفع العلماء أيديهم من بحثها، فهذه لا تهاجم الدين في حال، وإن أراد من العلم: النظريات التي لم تتعد مراتب الظنون، فهذا الصنف قد يوجد فيه ما يخالف الدين، ولكنه لا يزلزل أصلاً قائماً على أساس من الدين، فضلاً عن أن ينقضه نقضًا، ومع هذا، فإننا ممن يحث المتدينين على أن يطلقوا أعنتهم في المباحث العلمية، مادية أو روحية؛ لأنها تزيد معاقلهم الدفاعية قوة على قوتها. قال الأستاذ: "وهم - يعني: رجال الدين - يرون أن العلم والفلسفة ينقصان من أطرافهم كل يوم، وأن الناس يتسللون عنهم زرافات، حتى لم يبق سواهم في المجال الذي هم فيه، فابتنى على ذلك: أن الفلسفة المادية التهمت الطبقات المتعلمة، وأصبحت عنصراً من عناصر روح العصر الحاضر،

تنتزل منها العادات والآداب والأخلاق، بل والأنظمة والقوانين والمثل العليا". لا ينقص العلم والفلسفة المعقولة من أطراف المتدينين ذرة، وإذا نقصت الفلسفة الزائفة من أطراف المتدينين نفراً، فلأنها وجدت نفوسًا لم تتلقن تعاليم الدين على طريقة الاستدلال الصحيح. وقد بالغ الأستاذ في دعواه أن الناس تسللوا عن المتدينين حتى لم يبق في المجال الذي هم فيه غيرهم. ولا أخال نظر الأستاذ إلا أنه قد سبق إلى بيئة يتجول فيها الزيغ في صلابة جبين، فقاس عليها البيئات التي لم يطأ أرضها، ولم يجس نبضها، ولو كان ممن يزنون القول وزناً، لما تطوح في المبالغة إلى هذا المكان البعيد. فالفلسفة المادية لا تلتهم الطبقات المتعلمة، وإنما تلتهمهم سموم ينفثها فيهم بعض من يتولى تعليمهم من الزائغين وهم على فطرتهم الأولى. وقد دلنا تتبع حركة الإلحاد: أن في دعاة الإلحاد من لم يدرس الفلسفة المادية قط، أو لم يعرف منها إلا مبادئ يسيرة، ولكنه ينال مظهراً وجيهًا، فيفسد طائفة من النفوس، ويربيها على الجمود والإباحة تربية لا تمت للفلسفة المادية بصلة. قال الأستاذ: "الذي يلوح في أن هذا الإلحاد سيبلغ أقصى مداه في الشرق والغرب معًا، وسيدفع في تياره الناس كافة، إلا أفرادًا تابعوا العلم في تطوره، وتطوحوا معه إلى أبعد مغامراته". يحدثنا الأستاذ أن الإلحاد يستند إلى العلم والفلسفة المادية، وأن الناس يتسللون عن المتدينين أفواجًا أفواجًا، وزعم أن الإلحاد سيبلغ أقصى مداه في الشرق والغرب معًا، وسيأخذ في تياره الناس كافة، ما عدا أفراداً تابعوا العلم في تطوره، وأراد بهؤلاء الأفراد: من يشتغلون بالمباحث الروحية

على طريق المشاهدة والتجربة، فقد قال في هذا المقال: "وإن المبحث الوحيد الذي يصلح لأن يصد هذا التيار الجارف، هو ما ثبت بجهاد أولئك الكملة من وجود عالم أرقى من عالم المادة، هو المؤثر فيها، والمصرف لقواها". ثم خطر على بال الأستاذ سؤال هو: أن يقول قائل: ما بال أولئك الكملة من أصحاب المباحث الروحية لا يتكلمون فينقذون العالم من تيار الإلحاد؟ فقال: "وهؤلاء لا يقوون على صد العالم أجمع محفوزاً بعوامل لا تغالب من مقررات الفلسفة المادية صاحبة السلطان اليوم". يدعي الأستاذ أن الإلحاد - الذي هو أبو الإباحية - سائد في هذا العصر، ولا مخلص للعالم من سلطانه، بانياً هذه الدعوى على أن رجال الدين لا يملكون لمقاومة الإلحاد سلاحًا، وأصحاب المباحث الروحية لا يجدون أذنًا واعية، فعلى رجال الدين إذن أن لا يقفوا في وجه الإلحاد؛ فإن الأعزل لا يقف في وجه شاكي السلاح، وعلى أصحاب المباحث الروحية أن يسالموا الإلحاد؛ لأنه استولى على كل سمع، واحتل كل نفس، وفي يده من الفلسفة المادية سلاح لا يغالب، فكان الأستاذ يتيسر على علماء الدين أن يقلعوا عن دعايتهم، ويقبلوا على شأنهم، ولكن هؤلاء العلماء يشعرون بأن لديهم أسلحة تصرع الإلحاد على فيه، ويثقون بأن النفوس التي يسبق إليها تعليم ديني حكيم تصبح في حصانة من أن يمسها الإلحاد، ولو خاضت غمار الفلسفة المادية، وأمعنت في كل باب من أبوابها. زعم الأستاذ أن لا غالب للإلحاد في هذا العصر؛ لأنه عصر الفلسفة المادية، وتخبط في حديثه تخبط من لا يقدر الدعوة إلى الهداية قدرها، وكأنه

خشي أن يكون في صدور المتدينين من هذه الاراء الجافية حرج، فعاد إلى أن قال: إذا تم الظفر للإلحاد، وبشمت النفوس من الرتوع في حمأة الإباحية، وغرقت المواهب الإنسانية في قذر الحياة الحيوانية، عادت الفطرة الإنسانية، فحولت قوى الإنسان المعنوية إلى عادة النظر في موقفها، فوجدت ذخرًا من العلم الصحيح عن الروح وعالمها، فأصابت ما يقيمها على الصراط السوي في حياتيها معاً. كذلك الذي لا يثبت في حياته الأدبية على خطبة صريحة خالصة، فإنه يريد أن يرضي عواطفه إرضاء بالغًا، ولا يغضب قراء ما يكتبه إغضابًا شديداً، فلا مفر له من أن يقع إما في رياء، وإما في تناقض. يذهب الأستاذ إلى أن الإلحاد يستند إلى الفلسفة المادية، وأن الفلسفة المادية هي عنصر من عناصر العصر الحاضر، ويصرح بأن تيار الإلحاد قد جرف الناس في هذا العصر، ويعترف بأن الإلحاد مدعاة إلى الرتوع في حمأة الإباحة، والغرق في قذر الحيوانية، ويقول مع هذا كله: إن العصر الحاضر نفحة إلهية. فالأستاذ إما أن يكون معتقداً أن العصر الحاضر نفحة إلهية، ويعد الإلحاد السائد فيه من جملة العناصر الأدبية التي فضل بها كل ما تقدمه من العصور، وتكون هذه الكلمات التي عاب بها الإلحاد قد صدرت عن غير عقيدة، وإما أن يكون معترفًا بأن الإلحاد منشأ كل شر، فيضطر إلى الاعتراف بأن العصر الذي يسود فيه الإلحاد، وتتفشى فيه الإباحة، لا تكون عناصره الأدبية أرقى من كل ما سبقها في العصور الماضية. فلنعتمد في تأويل هذه الكمات على أن الأستاذ قد نقض قوله: "إن

العصر الحاضر نفحة إلهية"، ويبقى لنا أن نرد عليه زعمه أن الإلحاد سيشمل من في الأرض جميعاً، إنما يتخلص منه من بعد على يد تلك المباحث الروحية، ونقول له: في كل سكينة وطمأنينة: إن تلك المباحث الروحية لا تقوى على مكافحة الإلحاد، وإنقاذ الناس من قذر الشهوات الحيوانية، والنفوس التي لا تهتدي بالحجج الساطعة، والحكم البالغة، لا يخرجها من ظلمات الإلحاد أن تستكشف بالمشاهدة أو التجربة شيئاً من وراء هذه المادة يسمى: "روحاً". وها نحن أولاء نلقى في كل يوم من يحدثنا عن هذه المباحث الروحية حديث المستيقن بصحتها، ثم لا يتحاشى أن يبسط لسانه، أو يطلق قلمه بتحبيذ الإلحاد، والدعوة إلى الإباحية باسم التجديد، فإن كان لا يشعر بأنه يشد أزر الإلحاد، ويغري الإباحية على أن تنتشر في الأرض، فإن في هداية القرآن ما يفرق بين الإلحاد والإيمان، ويفصل الإباحية عن العدل والعفاف، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]

8 - رسائل الإصلاح

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (8) «رسَائِلُ الإِصْلاحِ» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة ثمرة من ثمرات الجهاد العلمي الطويل والشاق كان هذا الكتاب "رسائل الإصلاح". بذل فيه الإمام محمد الخضر حسين الكثير من الوقت والعمل، وخطّه بحسن أسلوبه، وغزارة مادته، ودقة تحقيقه، وسعة اطلاعه، وسلاسة عبارته، وبلاغة بيانه وتبيانه، حتى كأن كل مقال فيه كتاب قائم بذاته، صيغ بموجز من الكلمات في صفحات، ومثله كمصباح يستضاء به في ظلمات الحياة. لهذا الأثر القيّم مكانة خاصة وشهرة لدى الفقهاء والأدباء ورجال الثقافة وأصحاب القلم، وكثيراً ما يشار إليه في المصادر والمراجع على أنه من أهم الكتب التي تضمنت مقالات الإمام الشرعية والأحوال الاجتماعية. صدر الكتاب في حياته المباركة في ثلاثة أجزاء متوسطة الحجم. ومنذ أن باشرت - بنعمة من الله وعونه وهداه - في جمع ونشر كتب الإمام التي افتقرت إليها المكتبة الإسلامية، وجدت أنه من الأرجح في الفائدة العلمية للكتاب وحدة مواضيعه؛ تسهيلاً للقارئ، وخدمة للعلم، وإن الحاجة آنذاك التي دفعت الناشر لجميع المقالات في مختلف المواضيع في كتاب واحد ظناً منه أنه ربما كان الكتاب الواحد الذي يصدر حاضناً ما كتبه الإمام في المجلات الدينية التي كان يرعاها، هذه الحاجة اختلفت الآن بعد أن أنعم الله علينا بجمع

كافة المقالات وتقديمها في العديد من الكتب. والأمانة في العلم ونقله توجب علينا تبيان ذلك، وما هي المقالات التي نقلت إلى الكتب الأخرى (¬1). ¬

_ (¬1) الجزء الأول: - التعليم الديني في مدارس الحكومة - إلى كتاب "الدعوة إلى الإصلاح". - التعاون في الاسلام - إلى كتاب "هدى ونور". - الحلم وأثره في سعادة الحياة - إلى كتاب "الهداية الإسلامية". الجزء الثاني: - التصوف - إلى كتاب "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان". - العلماء وأولو الأمر - انتشار الإسلام في العالم وعوامل ذلك - إلى كتاب "الدعوة إلى الإصلاح". - أديان العرب قبل الاسلام - قضاء البعثة المحمدية على المزاعم الباطلة - إلى كتاب "محمد رسول الله وخاتم النبيين". - الصداقة - إلى كتاب "محاضرات إسلامية". - قوة التخيل - إلى كتاب "الخيال في الشعر العربي". - الاستشهاد بالحديث في اللغة - إلى كتاب "دراسات في اللغة". - أثر الرحلة في الحياة العلمية والأدبية - إلى كتاب "الرحلات". الجزء الثالث: - مقاصد الإسلام في إصلاح العالم - انتشار الاسلام في العالم - إلى كتاب "الدعوة إلى الإصلاح". - الدين والفلسفة والمعجزات - إلى كتاب "الهداية الاسلامية". =

والحمد لله على ما هدى، والحمد لله على نعمة الإسلام. علي الرّضا الحسيني ¬

_ = - كتاب يلحد في آيات الله - كتاب يهذي في تأويل القرآن المجيد - إلى كتاب "بلاغة القرآن". - البابية أو البهائية - طائفة القاديانية - كتاب مستقل بعنوان "القاديانية والبهائية". - كافة مواضيع الجزء الثالث الباقية إلى كتاب "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان".

مقدمة الإمام محمد الخضر حسين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين نحمَدك اللهم على أن هيأت لنا من أمرنا رشَداً، وأبيْتَ لنا أن نتخذ من المضلّين عَضُداً، ونصلّي ونسلّم على سيدنا محمد الذي أرسلته بشيراً ونذيراً، وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في الحق، ولم يتخذوا من دونك ولياً ولا نصيراً. أمّا بعد: فقد جرى القلم بتحرير مقالات في أغراض شتى، فاقترح عليّ بعض أهل العلم أن أجمعها في سِفْرٍ أو أسفار، حتى يَسْهُلَ تناولها، وتكون طوع يد من يريد مطالعتها، فحلَّ هذا الاقتراح من النفس محل القبول، وأخذت أجمعها، وأعيد النظر في بعض عباراتها، ووضعت لها اسماً هو: "رسائل الإصلاح". وسيرى القارئ الألمعي أني قد طرقت في هذه الرسائل نواحي هي في حاجة إلى أن تُبْحثَ بفكر لا يتعصب لقديم، ولا يفتتن بجديد، يعتمد الرأي حيث يثبته الدليل، ويتقبل الحكم متى لاحت بجانبه حكمة، ويثق بالرواية بعد أن يُسْلِمَها النقدُ إلى صِدْقٍ. وقد بذلت جهدي في أن أسلك بالبحث هذا السبيل، ولعلّي سرت فيه شوطاً غير قصير، فإن لم أبلغ فيه غاية بعيدة، فحسبي أني كنت قد تَبَيَّنْتُ

رشدَه، ووَلَّيْتُ وجهي شطرَه، وآنست في أقلام إخواني الذين يجاهدون في الإصلاح أثَرَهُ. وكأني بالناشئ الذي سَلِمَتْ فطرته، واتّقدتْ قريحته، يهبُ هذه الرسائل قسطاً من وقته، ويلقي عليها أشعة من ثاقب فكره، فإذا هو ينظر إلى قلم أمين، يطارحه الحديث في أسلوب حكيم. وإذا نفقت كتب تمكُرُ بالحق، أو تسمي المجون أدباً، ووجدتْ نفوساً كثيرة تتهافت عليها تهافت الفراش على النار، فحسب "رسائل الإصلاح" أن تحظى عند قوم يبحثون عن الرشد بحثَ الخبير بقيمته، ويتعشَّقون الأدب النزيه كأنما صُوِّرَتْ نفوسهم من طينته. ولو سبق لبعض الناشئين أن نظروا في تلك الكتب المنطوية على زْيغ أو مجون، ولم يتنبهوا لما دُسَّ في عباراتها من سموم، ثم أقبلوا على هذه الرسائل، نابذين تقليدَهم القديم، صارفين قلوبَهم عن إكبار أولئك الزائغين أو الماجنين، لما كان بعيداً أن يعودوا إلى إيمان نقيّ، وأدب سَنيّ، فينفعوا الأمة بجدهم وكمال رجولتهم، ويتمتعوا بالحياة الطيبة في أُولاهم وآخرتهم. محمّد الخضر حسين القاهرة 1358 هـ - 1939 م

المروءة ومظاهرها الصادقة

المروءة ومظاهرها الصّادقة (¬1) خصلةٌ رفيعة القدرِ، تجري في منشآت الأدباء، ويُتحدَّث عن معناها في علوم اللغة والشريعة والأدب والأخلاق، تلك الفضيلة هي: المروءة. ننظر في منشآت الأدباء من منظوم ومتثور، فنجد لفظ المروءة وارداً في مقامات المدح؛ كما قال زياد الأعجم يمدح عبد الله بن الحشرج: إنّ السَّماحةَ والمروءةَ والنَّدى ... في قُبَّةٍ ضُرِبَتْ على ابْنِ الحَشْرَجِ وقالوا في الذمّ: فلان زَمِنُ المروءة: أي: أن مروءته دارسة بالية. أو الفخر؛ كما قال أحد شعراء الحماسة: عادوا مروءَتَنا فَضُلِّلَ سَعْيُهُمْ ... ولكُلِّ بَيْتِ مُروءَةٍ أَعْداءُ وننظر في كتاب اللغة، فنجدها تقول: المروءة: الإنسانية، أو كمال الرجولية، أو الرجولية الكاملة، وكمال الرجولية ينتظم من الأخلاق الحميدة، والآداب السامية. فالمروءة إذاً هي جماع مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، فمن يفوته جانب من هذه المكارم أو المحاسن، يفوته جانب من العناصر التي تتكون منها المروءة. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السادس من المجلد الحادي عشر، الصادر في شهر ذي الحجة 1357 هـ.

ولاشتمال المروءة على جملة الفضائل، يقتصر بعض الأدباء عليها في مقام إيجاز المديح؛ كما قال سعيد بن حميد يعاتب صديقاً له: ولئن سبقتَ لتبكِينَّ بحسرَةٍ ... وليكثُرَنَّ عليَّ منك عويلُ ولئن سبقت ولا سبقت ليمضين ... من لا يشاكله لديَّ خليلُ وليذهَبنَّ بهاءُ كُلِّ مُروءَةٍ ... وليفقدَنَّ جمالُها المأهولُ وننظر في كتب الشريعة، فنجد المروءة واردة فيما يروى من الأحاديث النبوية، ونجد الفقهاء يذكرونها في بعض أبواب الفقه؛ كباب: القضاء، وياب: الشهادة، ويقولون: المروءة: صيانة النفس عن كل خلق رديء، والسمت الحسن، وحفظ اللسان، وتجنب المجون. وقال آخرون منهم: المروءة: أن لا يأتي الإنسان ما يعتذر منه مما يحط مرتبته عند أهل الفضل، قال ابن سعيد يوصي ابنه: وكلُّ ما يُفْضي لِعُذْرٍ فلا ... تجعَلْهُ في الغُرْبَةِ مِنْ إرْبَتِك (¬1) وما يقوله علماء الشريعة غير بعيد مما يقوله علماء اللغة من أن المروءة: كمال الرجولية. وننظر في كتب الأدب، فنجدها تسوق لبعض بلغاء الرجال وحكمائهم عبارات تشير إلى بعض الواجبات والآداب التي تقوم عليها المروءة؛ كما قال الأحنف بن قيس: المروءة: العفة والحرفة. وقال ميمون بن ميمون: أول المروءة: طلاقة الوجه، والثاني: التودد، والثالث: قضاء الحوائج. ¬

_ (¬1) الإربة: البغية.

وقال مسلم بن قتيبة: المروءة: الصبر على الرجال، أي: الصبر على المكاره في معاشرتهم وقضاء مآربهم. وقال ابن هبيرة: المروءة: إصلاح المال، والرزانة في المجلس، والغداء والعشاء في الفناء. ويريد من إصلاح المال: تنميته، والتصرف فيه على وجه الصلاح، وكنّى بالغداء والعشاء في الفناء، عن: الكرم والسخاء. وقال معاوية: المروءة: ترك اللذة. واللذات التي يعد تركها مروءة هي اللذات المحظورة على الإطلاق، واللذات الملهية عن الازدياد من الحمد، وإن لم تكن من المحظورات. نَوْمُ الغَداةِ وشُرْبٌ بالعشيّات ... موكَّلانِ بتهديمِ المروءاتِ وعبارات هؤلاء البلغاء والحكماء لا تخالف قول اللغويين: المروءة: كمال الرجولية؛ لأن البلغاء قد يتسامحون في بيان معاني الألفاظ، فيقتصر الواحد منهم على بعض المعنى؛ اهتماماً بشأنه، وحرصاً على أن يضعه نصب عين السائل؛ ليكون ذلك أدعى إلى عنايته به، ومحافظته عليه. وننظر في كتب الأخلاق، فنرى بعضها يفسر المروءة بعِظَم النفس، ووجه هذا التفسير: أن عظم النفس هو المنمِّي لمكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، وعلى هذه المكارم والمحاسن يقوم كمال الرجولية. ولا خلاف بين من تحدثوا عن المروءة أن هناك آداباً لا يعلو مقام الرجل في المروءة إلا بالمحافظة عليها. وبين أيدينا منابع للمروءة عذبة صافية هي الكتاب الحكيم، وسيرة النبي الكريم - صلوات الله عليه -. وإن في آثار العظماء من السلف بعد ذلك لعبرة. وها أنا أسوق إلى حضراتكم جملة من تلكم الآداب كأمثلة يزداد بها

معنى المروءة وضوحاً، فأقول: من أدب صاحب المروءة: أن يكون ذا أناة وتؤدة، فلا يبدو في حركاته اضطراب أو عجلة؛ كأن يكثر الالتفات في الطريق، ويعجِّلَ في مشية العجلة الخارجة عن حد الاعتدال، وأما السرعة بمعنى: عدم التباطؤ والتثاقل، فدليل الحزم، والحزم من مقوِّمات المروءة. ويتصل بهذا الأدب: أن يكون الرجل متئداً في كلامه، يرسل كلماته مفصلة، ولا يخطف حروفها خطفاً حتى يكاد بعضها يدخل في بعض. وحيث كان لحسن البيان دخل في كمال الرجولية، صحَّ أن يعد في مظاهر المروءة. وينبّهُ لهذا قول عمر بن الخطاب: تعلموا العربية، فإنها تزيد في المروءة. ومن أدب صاحب المروءة: أن يضبط نفسه عن هيجان الغضب، أو دهشة الفرح، ويقف موقف الاعتدال في حالي الضرّاء والسرّاء. ولسْتُ بِمفْراحٍ إذا الدهرُ سرَّني ... ولا جازع مِنْ صرْفِه المتقلِّبِ ومن هنا نرى ذا المروءة لا تطيش به الولاية في زهو، ولا ينزل به العزل في حسرة. عدل معاوية عن تولية الأحنف بن قيس ثغر الهند، فقال له زياد: إن الأحنف بلغ من الشرف والحلم والسؤدد ما لا تنفعه الولاية، ولا يضره العزل. وقال قاضي قرطبة محمد بن بشير: والله! لا أبالي في الحق من مدحني أو ذمّني، وما أُسرُّ للولاية، ولا أستوحش من العزل. ومن أدب صاحب المروءة: الصراحة والترفع عن المواربة والنفاق، فلا يبدي لشخص الصداقة، وهو يحمل له العداوة، أو يشهد له باستقامة

السيرة، وهو يراه منحرفاً عن السبيل. فَسِرّي كإعْلاني وتلكَ خَليقَتي (¬1) ... وظُلْمَةُ لَيْلي مِثْلُ ضَوْءِ نَهاري والمراد: أن صاحب المروءة لا يتخذ الظهور بخلاف ما يضمر عادة مثلما يفعل قوم لا تشمئز نفوسهم من الملق والرياء، أما إذا اقتضت الحكمة إخفاء بعض ما يضمر من نحو العداوة والصداقة، فإن اتباع ما تقتضيه الحكمة من مكملات المروءة. ويتصل بهذا الأدب أدب آخر، وهو: أن لا يفعل الرجل في الخفاء ما لو ظهر للناس لعدّوه من سقطاته. وقد رفع محمد بن عمران التيمسي شأن هذا الأدب حتى جعله هو المروءة، فقال لما سئل عن المروءة: أن لا تعمل في السر ما تستحي منه في العلانية. وعمل القبيح في السر يدل على أن تجنبه في العلانية تصنّع ورياء. والمروءة أن يجتنب الرجل القبائح لقبحها، ووخامة عاقبتها. وإذا وجد في الناس من فيه استعداد لأن يعاشر من يحملون له في أنفسهم عداء واستهانة بشأنه، ولا يبالي أن يلاقيهم صباحاً ومساء لغير ضرورة، فإن صاحب المروءة يستطيع أن يلاقي الناس بطلاقة وجه، ولسان رطب، غير باحث عما تكنّه صدورهم من مودة أو بغضاء، ولكنه لا يستطيع أن يرافق ويعاشر إلا ودوداً مخلصاً. وعِشْ إمّا قَرينَ أخٍ وَفِىٍّ ... أمينَ الغَيْبِ أوْ عَيْشَ الوِحادِ ويطلق خفيف الوزن لسانه في أعراض الناس يلتقط معايبهم، أو يختلق ¬

_ (¬1) الخليقة: الطبيعة التي يخلق المرء بها.

لهم معايب، متخيلاً أنه يحظى باسم المروءة من إلصاق العيب بغيره، والعرب تقول: "فلان يتمرَّأ بنا"؛ أي: يطلب المروءة بنقصنا وعيبنا. أما صاحب المروءة الصادقة، فيبخل بوقته عن هذه الطريقة الحقيرة، ولا يرضى إلا أن يشغله بما تتقاضاه المروءة من حقوق. قال رجل لخالد بن صفوان: كان عبدة بن الطيب لا يحسن يهجو، فقال له: لا تقل ذلك، فوالله! ما تركه من عِيّ، ولكنه كان يترفع عن الهجاء، ويراهُ ضَعَة، كما يرى تركه مروءة وشرفاً، وأنشد قول أبي الهيذام: وأجْرَأُ مَنْ رأيتُ بظَهْرِ غَيْبٍ ... على عَيْبِ الرّجالِ ذوُو العُيوبِ وربما اضطر ذو المروءة أن يدافع شر خصومه الكاشحين بذكر شيء من سقطاتهم، ولكن المروءة تأبى له أن يختلق لهم عيباً يقذفهم به وهم برآء؛ فإن الإخبار بغير الواقع يقوِّضُ صرح المروءة، ولا يبقي لها عيناً ولا أثراً. قال الأحنف: لا مروءة لكذوب، ولا سؤدد لبخيل. ويتصل بهذا الأدب: أن المروءة تحفظ لسان صاحبها أن يلفظ مثلما يلفظ أهل الخلاعة من سفه القول: وحَذارِ مِنْ سَفَهٍ يَشينُكَ وصْفُهُ ... إنَّ السَّفاهَ بِذي المروءةِ زَاري ومن الاحتفاظ بالمروءة: أن يتجنب الرجل تكليف زائريه، ولو بعمل خفيف؛ كان يكون بالقرب من الزائر كتابٌ، فيطلب منه مناولته إياه، أو يكون بجانبه الزر الكهربائي، فيشير إليه بالضغط عليه لإنارة المنزل، أو استدعاء الخادم. قال عمر بن عبد العزيز: "ليس من المروءة استخدام الضيف". والمروءة تنادي صاحبها أن يسود في مجلسه الجد والحكمة، وأن لا يلم

في حديثه بالمزاح إلا إلماماً مؤنساً في أحوال نادرة. قال الأحنف بن قيس: "كثرة المزاح تُذهب المروءة"، ووجه ذلك: أن الذي يسرف في المزاح يكثر منه الوقوع في لغوالحديث، ولا يخلو من أن تصدر منه كلمات تؤذي بعض جلسائه، وكمال الإنسانية لا يلتقي بلغو الحديث، أو إيذاء بعض الإخوان في مجلس. ومن أدب المروءة: حسن إصغاء الرجل لمن يحدثه من الإخوان؛ فإن إقباله على محدثه بالإصغاء إليه يدل على ارتياحه لمجالسته، وأنسه بحديثه، وجاء في الحديث الشريف: "من المروءة أن ينصت الأخ لأخيه إذا حدَّثه". وإلى هذا الأدب الجميل يشير أبو تمام بقوله: مَنْ لي بإنْسانٍ إذا أَغْضَبْتُهُ ... ورَضيتُ كانَ الحِلْمُ رَدَّ جوابِهِ وتَراهُ يُصْغي للحديثِ بِقَلْبِهِ ... وَبِسَمْعِهِ ولعلَّهُ أَدْرى بِهِ وشأن ذي المروءة أن يحتمل ضيق العيش، ولا يبذل ماء حياته وكرامته في السعي لما يجعل عيشه في سعة، أو يديه في ثراء، قال مهيار: ونَفْسٌ حرَّةٌ لا يزْدَهيها ... حُلى الدُّنيا وزخرُفُها المُعارُ يَبيتُ الحَقُّ أصدَقَ حاجَتَيْها ... وكَسْبُ العِزِّ أطْيَبُ ما يُمارُ وذو المروءة لا يظهر الشكوى من حوادث الدهر إلا أن يتقاضى حقاً: لا يفرحونَ إذا ما الدهرُ طاوَعَهُمْ ... يوماً بِيُسْرٍ ولا يشكون إن نُكِبُوا وقال عبد الله بن الزبير الأسدي في عمر بن عثمان بن عفان: فَتىً غَيْرُ محجوبِ الغِنى عن صديقِهِ ... ولا مظهر الشكوى إذا النَّعْلُ زَلَّتِ

ويعد في مروءة الرجل: أن يكون حافظاً لما يؤتمن عليه من أسرار. قال المتنبي من أبيات جعلها خطاباً لمن أودعه سراً، وخشي من إذاعته: كَفَتْكَ المروءةُ ما تَتَّقي ... وأمَّنَكَ الوِدُّ ما تَحْذَرُ يريد: أنه ذو مروءة، وذو المروءة لا يفشي سراً ائتمن عليه. وذو المروءة يحذر أن يؤذي شخصاً، وأشد ما يحذر أن يؤذي ذا مروءة مثله: وأستحي المروءةَ أنْ تَراني ... قتَلْتُ مُناسبي جَلَداً وقَهْرا * في المروءة راحة ولذة: إذا كانت المروءة تقتضي الإعراض عن كثير من اللذات، فإن في المروءة نفسها لذة تفوق كل نعيم في هذه الحياة، وإذا كان في حفظ المروءة ملاقاة كثير من المشاقّ، فإن راحة الضمير التي يجدها الرجل عندما يبلغ في المروءة غاية سامية تنسبه كل مشقة، ولا يبقى معها للتعب باقية. قال المتنبي: تَلَذُّ له المروءةُ وهي تُؤْذي ... ومَنْ يَعْشَقْ يَلَذُّ له الغرامُ ولذة المروءة في شعور النفس ببلوغها كمال الرجولية، أو قربها منها، وإذايتها لصاحبها بما أشرنا إليه من أن للمروعة تكاليف باهظة لا ينهض بها إلا ذو صبر متين، حتى قال أبو عبد الله الكاتب: "الصبر على حقوق المروءة أشد من الصبر على ألم الحاجة". * ذو المروءة حقيق بالإجلال: إذا نظرنا في تفاصيل الأخلاق والآداب التي تقوم المروءة على رعايتها،

وجدناها تبعث على إجلال صاحبها، وامتلاء الأعين بمهابته. ومن الحكم السائرة: "ذو المروءة يُكرم وإن كان معدماً، كالأسد يُهاب وإن كان رابضاً، ومن لا مروءة له، يُهان وإن كان موسراً؛ كالكلب يُهان وإن طُوِّق وحُلِّي بالذهب". * الغرض من هذا الحديث: قد رأينا كيف انتظمت المروءة أخلاقاً سنية، وآداباً مضيئة، وعرفنا أن رسوخ هذه الأخلاق والآداب في النفس يحتاج إلى صبر ومجاهدة، ودقة ملاحظة، وسلامة ذوق، فحقيق بنا أن نربي أبناءنا على رعايتها منذ عهد التمييز، حتى لا تسبق إليهم أخلاق غير نقية، وعادات غير رضية، فتحول بينهم وبين الفضائل، فلا تجد المروءة إلى نفوسهم مدخلاً. إذا المرءُ أَعْيَتْهُ المروءةُ ناشئاً ... فَمَطْلَبُها كَهْلاً عليه عَسِيرُ نربّي أبناءنا على ما يثبت قواعد المروءة، ويرفع بنائها؛ ليحمدوا أبوتنا، ويكونوا قرَّة أعينٍ لنا، وأسوةً حسنة لأحفادنا، وزينةً لأوطاننا، وليفوزوا بالعزة في الدنيا، والسعادة في الآخرة.

الإلحاد أسبابه، طبائعه، مفاسده، أسباب ظهوره، علاجه

الإلحاد أسبابه، طبائعه، مفاسده، أسباب ظهوره، علاجه (¬1) في الناس من يضع إلحاده على طرف لسانه، أو على ظاهر يده، فيريك ما في صدره، وهذا قد جعلك في حِلٍّ من أن تسميه ملحداً، ولم يحوجك إلى أن تنبه الناس لضلاله، أو تنصحَ لهم بالاحتراس من أقواله، إلا أن تعمد إلى ما يطعن به في الدين، فتكشف عن وجوه فساده، وتدفعه بالحجّة. وفي الناس من يحمل في نفسه إلحاداً في الدين، ويُغضاً للشريعة، وإذا جلس إلى المؤمنين، حاول أن يضع بينهم وبين ما في نفسه حجاباً مستوراً، وإنما ينطلق بآرائه الزائغة حين يخلو بنفوس تَلَذُّ ما تَلَذُّ نفسُه من الطعن في وجود الإله الحق، أو في صدق النبوة وحكمة التشريع. * أسباب الإلحاد: للإلحاد مهيئات: منها: أن ينشأ الشخص في بيت خالٍ من آداب الإسلام، ومبادئ هدايته، فلا يرى فيمن يقوم على أمر تربيته - من نحو والد أو أم أو أخ - استقامة، ولا يتلقى عنه ما يطبعه على حب الدين، ويجعله على بصيرة من حكمته، فأقلُّ شُبه تَمَسُّ ذهن هذا الناشئ تنحدر به في هاوية الضلال. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد الحادي عشر، الصادر في شهر شعبان 1357.

ومن أسباب الإلحاد: أن يتصل الفتى الضعيف النفس بملحد يكون أقوى منه نفساً، وأبرع لساناً، فيأخذه ببراعته إلى سوء العقيدة، ويفسد عليه أمر دينه، ومن هنا نرى الآباء - الذين يعنون بتربية أبنائهم تربية الناصح الأمين - يحولون بينهم وبين مخالطة فاسدي العقيدة، يخشون أن تسري إليهم العدوى من تلك النفوس الخبيثة، فتخبث عقائدهم وأخلاقهم. ومن أسباب الإلحاد: أن يقرأ الناشئ مؤلفات الملحدين، وقد دسوا فيها سموماً من الشُبه تحت ألفاظ منمقة، فتضعف نفسه أمام هذه الألفاظ المنمقة، والشُّبه المبهرجة، فلا يلبث أن يدخل في زمرة الملاحدة الألداء. ومن أسباب الألحاد: أن تغلب الشهوات على نفس الرجل، فتريه أن المصلحة في إباحتها، وأن تحريم الشارع لها خالٍ من كل حكمة، فيخرج من هذا الباب إلى إباحية وجحود. * طبائع الإلحاد: ساقتني صروف الليالي إلى ملاقاة طائفة من الملاحدة في تونس، وفي الآستانة، وفي الشام، وفي ألمانيا، وفي مصر، فرأيت هذه الطوائف تتشابه في أمور يبعد أن يكون تواردهم عليها من قبيل المصادفة، وإنما هي طباخ لما تواطأت عليه قلوبهم من جحود لآيات الله، وإنكار لدينه الحنيف، وهأنذا أتحدث عن شيء من هذه الطباخ التي لا تجتمع في شخص إلا أن يكون قلبه مصاباً بعلة الجحود. * فرحهم بتهمة عالم كبير بالإلحاد: يفرح الملحدون بإشاعة الإلحاد عن بعض العلماء المفكرين، والمثير لهذا الفرح: حرصهم على أن لا ينسب إلى الدين من ظهرت له أثارة

من علم أو فكر. * استهزاؤهم بالدين: يستهزئون في مجالسهم بالدين، وربما رشحت ألسنتهم بهذا العبث في حضرة بعض المؤمنين؛ بزعم أنهم مازحون غير جادّين، كذلك كانت مجالس الزنادقة في القديم؛ أمثال: مطيع بن إياس، ويحيى بن زياد، وحمَّاد عجرد، وأصحابهم، وهكذا حال ملاحدة هذا العصر. * انهماكهم في الفسوق: ولا ينتظر ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر أن يترك شيئاً من شهواته إلا أن يخشى الناس، والتاريخ يحدثنا عمن كانوا يتهمون بالزندقة، فيرينا كيف كانت مجالسهم قائمة على شرب الخمور وما يتبعها من الخبائث، وكذلك كانت مجالس أولئك النفر المعروفين بالإلحاد في عهد الدولة العباسية. قال بعض الرواة: إن حمّاد عجرد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد نزلوا بالقرب منّا، فكانوا لا يُطاقون خبثاً ومجانة، وهكذا حال ملاحدة هذا العصر إذا خلوا في مجلس؛ فإنهم يرتكبون ما تترفع عنه مجالس الفضلاء، ومن تظاهر منهم بالرزانة وحسن السمت، فبمقدار، وإلى وقت. * تناقضهم في الأقوال: أشد النفوس طوعاً إلى الأهواء نفس لا تثق بأن لهذا العالَم مبدعاً حكيماً، أو لا تثق بأن وراء هذه الحياة دار جزاء، والنفوس المنقادة إلى الأهواء، قد تألف الشيء في وقت، وتنفر منه في وقت آخر، فتمدحه مرة، وتذمه أخرى، وقد تستقبح الأمر، وتستحسن ما يضاهيه من كل وجه، وربما استقبحت الشيء، واستحسنت ما هو أقبح وأشد مفسدة منه.

وانظروا ما يكتبه بعض الملاحدة في الاجتماع أو السياسة، تجدوه متخاذلاً يلعن بعضه بعضاً. * إنكارهم المعجزات الكونية: يرى الملاحدة أن المعجزة أساس للنبوة والرسالة، فيتوجهون إلى هدم هذا الأساس، فينكرونه، ويلقون حوله الشبه، ويقولون: إن حكمة الدعوة كافية في الدلالة على نبوة صاحبها. وقد قال هذا البهائية، والقاديانية، وأشخاص في قلوبهم مرض. وتراهم يعمدون إلى ما قصه القرآن الكريم من معجزات الأنبياء، فيخرجونه بالتأويل غير المعقول إلى معان مصنوعة، مثال ذلك: القادياني الذي ترجم القرآن إلى اللغة الإنكليزية، فإنه لا يمر بآية فيها معجزة صريحة إلا كتب معلقاً عليها هذياناً يخرجها من وجه دلالتها العربية. وتبعه على ذلك أحد الجاهلين الضالين في أوراق سماها: تفسيراً، ومن قرأ هذه الأوراق، رآها بالغة الغاية في الزندقة. * دسُّهم في الشريعة ما ينافي حكمتها: يعمل الملاحدة لتنفير النفوس من الدين. ومن الطرق التي يسلكونها للتنفير: إلصاقهم بالدين أشياء لا تطابق الحكمة، وقد وضع الزنادقة أحاديث كئيرة نسبوها إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، كما وضعوا حديث "الباذنجان لما أُكل له". وقد كشف علماء الحديث عن الأحاديث الموضوعة، وبيّنوها للناس، ومن جملتها هذه الأحاديث التي وضعها الزنادقة. * إنكارهم العمل بالحديث: لا يزال السلف الصالح من الصحابة والتابعين يجعلون الأحاديث أصلاً

من أصول الدين، يقفون عندها إذا وجدوها، ولا يتجاوزونها، حتى أخذت الزندقة تعبث من وراء ستار، فكان من مكايدها: أن أجرت على ألسنة شياطينها: أن مأخذ الدين هو القرآن وحده، وأن السنّة لا تستقل بإنشاء الأحكام، يقولون هذا؛ ليسقطوا جانباً كبيراً من أحكام الإسلام. * تأويلهم القرآن على حسب أهوائهم: يعمل الملاحدة لطرح السنَّة من أصول الدين، ثم يعمدون إلى القرآن المجيد، فيحرفون الآيات الحكيمة عن معانيها، ويفسرونها كما يشتهون؛ ليتم لهم بهذا التأويل تعطيل أوامر الدين ونواهيه، وذلك ما فعله الباطنية من قبل، وجرى فيه على آثارهم باطنية أهل هذا العصر؛ مثل: البهائية، والقاديانية، وأشخاص يطوون صدورهم على جحود غير قليل. * صداقتهم للمجاهرين بالجحود: من يشرح الله صدره للإيمان، لا ترتاح نفسه لصحبة الجاحدين، ولا يجد ودادهم إلى داخل نفسه سبيلاً، وقد يضطر المؤمن أن يلاقيهم ويشاركهم في بعض الأمور الحيوية أو الاجتماعية، فليكن اتصاله بهم على قدر الضرورة. فإن رأيتَ شخصاً يصاحب جاحداً بآيات الله، وأحسست من لحن خطابه أن الصداقة بينهما محكمة، سبق إلى ذهنك أن منشأ هذه الصداقة التشابه في زيغ العقيدة {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]. * إلحاحُهم في الدعوة إلى حرية الرأي في الدين: غاية الملحد أن يطعن في الدين، ويصد عن سبيله بقلمه أو لسانه، وقد

يرى أن الحال لا يسعه لأن يطعن في الدين، أو يصد عنه في علانية، فتجده يحتال لأن يذهب إلى غرضه من طريق البحث وإبداء الرأي، فيبالغ في الدعوة إلى حرية الرأي في الدين؛ ليكون مطلق العنان، يقول ويكتب ما يشاء من آراء يقوض بها صرح الدين من أساسه. يدعون إلى حرية الرأي في الدين؛ لتجد دعوتهم المعادية للدين سعة، ومن ملك من هؤلاء قوة، استعملها في اضطهاد رجال الدين المستقيمين، وسدَّ باب الحرية في وجوههم، فإن لم يفعل ذلك على طريقة مكشوفة، فعله من طرق ملتوية. * بَسْطُ ألسنتهم في رجال الدين: من طبائع الملحدين الحطُّ من شأن علماء الدين المستقيمين؛ باعتقاد أن هدم من يتمثل فيهم الدين القويم هدم للدين نفسه، فإذا بلغوا أن جعلوا الناس يزدرون برجال الدين، ويصرفون أسماعهم عما يدعونهم إليه من حق، فقد بلغوا أمنيتهم من تعطيل أوامر الدين، وإهمال آدابه، وإطفاء نور حكمته. * دعوتهم إلى الإلحاد: في الملاحدة من يعجز أن يكون داعية إلى الإلحاد، فيكتفي بأن يطلق لنفسه العنان في الإباحية، ومنهم من يدفعه بغض الدين إلى أن يعمل بلسانه أو بقلمه لهدم أصوله، والصدّ عن سبيله، ولهؤلاء طرق يأتمرون لتدبيرها، وهي شبيهة بطريق إخوانهم الباطنية، وذلك أنهم يبتدئون من يريدون إغواعه بعرض شيء من الشبه في صورة السائل، أو الحائر في دفعها، ثم ينظرون إليه ماذا يكون حاله من الاستخفاف بتلك الشبه، أو التأثر بها، فإن رأوه قد ضعف أمام هذه الشبه، أكثروا من إلقاء أمثالها عليه حتى يقع في حيرة، ويستبينوا منه

أن إيمانه قد تزلزل، وعند ذلك يوحون إليه بما شاؤوا من الغمز في الدين، حتى يجردوه من عقيدة الحق، ويتخذوه عضواً في مجامعهم. * مفاسد الإلحاد الاجتماعية: عرفنا أن من طباع الإلحاد: اتباع الشهوات، والانطلاق في الإباحية، فالملحد لا يحافظ على عِرْضِ أحد، ولا على ماله، ولا على حرمه، إلا أن يعجز عن الوصول إلى شيء من ذلك، ومتى ساعدته الفرصة، وظن أنه بمأمن من العقوبة، عاث في الأعراض والأموال غير متحرج من انتهاك حرماتها، وقد يقع انتهاك الأعراض ونحوها من غير الملحد بدافع الشهوة، أما الملحد، فإنه يأتيها مستبيحاً لها، وضرر الطائفة التي ترتكب الفسوق مستبيحة له أشد من ضرر من يفعله معتقداً أنه يأتي أمراً محرماً. ولنتخيَّل أمة مؤلفة من الملاحدة، أو كانت الأغلبية فيها للملاحدة، وننظر كيف تكون سيرتها، وماذا تكون عاقبتها في هذه الحياة؟. لا شك أنها تسير في غير طريق، وتكون عاقبتها السقوط إلى الحضيض؛ إذ أن الملاحدة يبيحون موبقة الزنى وما يضاهيها من الفواحش، ويبيحون الخمور، ولا يتحرجون أن يضموا إليهم أموال غيرهم بغير حق، وإذا وجدت في أهل الدين من لا يفعل فاحشة، أو لا يعتدي على حق، ولو أمن من أن يطلع عليه مخلوق، فإن الملحد لا يكف نفسه عن الهوى، إلا أن يخاف ألماً يأتيه من الناس أكبر من ذلك الهوى. وإذا وجدت في زائغي العقيدة من يتحدث عن الأخلاق، ويوهم الناس أن الأخلاق تكفي في استقامة السيرة والاحتفاظ بالعفاف، فإن ذلك كله رياء ونفاق. نَعَمْ، للأخلاق أثر في تقليل الشر، ولكنها لا تأتي بأثر عظيم في

انتظام حال الاجتماع، إلا حينما تسير تحت مراقبة عقيدة دينية ثابتة. * أسباب ظهور الإلحاد: لا سعادة للأمة إلا بالوحدة، ولا وحدة للأمة إلا أن تكون سليمة العقيدة، سنية الأخلاق والآداب، فمن الحكمة: أن يراعى الإسلام هذه الوحدة التي هي وسيلة، ويأخذ في المحافظة عليها بالتي هي أحزم، فكان من أحكامه: منع الناس من أن يركبوا الطيش، ويعلنوا إلحادهم تحت رايته، فلم يكن الملاحدة قبل اليوم يعلنون إلحادهم، وما كانوا يدعون إليه إلا من وراء ستار، فكان الإلحاد في العصور الماضية لا يتجاوز نفراً قليلاً يعرفهم الناس في لحن أقوالهم، وبانهماكهم في الفجور، وقضاء أوقاتهم في المجون. أما اليوم، فقد ظهر الإلحاد، ورفع رأسه، وتجاوز المجالس الخاصة إلى الصحف والمؤلفات، ولهذا - فيما أرى - أربعة أسباب: أحدها: أن بعض الحكومات صارت تضع قوانينها الدستورية في عبارات لا يرى فيها الملحد قيداً يكفه عن إعلان إلحاده، أو الدعوة إليه كما يشاء. ثانيها: أن كثيراً من المنتمين إلى علوم الشريعة، فرَّطوا في جانب الغيرة على الحق، فتراهم يوادّون من يصفهم الناس بالإلحاد، ويتملقونهم بالإطراء، ويشهدون لهم بالإخلاص للدين، يفعلون هذا رجاء متاع الحياة الدنيا، وهم يعلمون أنهم إنما يمدحون طائفة تفسد على الأمة أمر دينها وأخلاقها. ثالثها: أن بعض الحكومات الإسلامية ترفع إلى مناصبها العالية من لم يتلقوا من علوم الدين ما يميزون به المفسد من المصلح، فيجد الجاحدون لديهم حظوة، ولو مع إعلانهم الإلحاد، وجراءتهم على الطعن في الشريعة الغراء، وإقبال كبراء الدولة على الملحد وتمكينه من المناصب التي يتخذها

وسيلة لنفث سموم إلحاده، قد يكون مشجعاً لغيره من زائغي العقيدة على أن يجهروا بزيغهم، ويدعوا إليه وهم آمنون. رابعها: أن بعض الملاحدة دخلوا في الحركات الوطنية، وتظاهروا بالغيرة على الوطن، فانخدع بهم الناس حتى خلعوا عليهم بلقب الزعامة، فأخذ هؤلاء الزعماء الملاحدة يعملون لنشر الإلحاد بين من يتصل بهم من الشبان. * كيف يعالج الإلحاد؟ متى قيَّضَ الله للحكومات الإسلامية رجالاً يقدّرون فضل الدين في إصلاح حال الأفراد والجماعات، وفضله في إخراج رجال يطمحون إلى العزة، ويقتحمون كل ما يعترضهم في سبيلها من عقبات، وفضله في بسط الأمن في البلاد، متى قدر أولو الأمر فضل الدين، ومتى تضافر علماء الشريعة على الدعوة إلى الحق بحكمة، وعلى مكافحة الزائغين بالحجة، طهرت الأمة من خبث الإلحاد، وبلغت أقصى غايات المجد والفلاح.

في مفاسد البغاء

في مفاسد البغاء (¬1) في البغاء فساد كبير، وشر مستطير: يفتك بالفضيلة، يدنس الأعراض، يعكر صفو الأمن، يفصم رابطة الوفاق، يبعث الأمراض القاتلة في الأجسام، وأي حياة لجماعة تضيع أخلاقها، وتتسخ أعراضها، ويختل أمنها، وتدب البغضاء في نفوسها، وتنهك العلل أجسامها؟!. أما فتكه بالفضيلة، فإنه يقتلع الحياء من منابته، فلا يبقي في نفس صاحبه ذرة من الحياء، ويلبس وجهه رقعة من الصفاقة، ومن لم يستح، هان عليه ارتكاب ما لا يليق بالإنسانية أن ترتكبه. ومن يرتكب فاحشة الزنى، ينادي على نفسه بأنه محروم من أدب سام أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه". ذلك أن كل إنسان يحب لمن تنتمي إليه من بنت أو أخت أو زوجة العفاف، ويجاهد في صيانتهن إلى آخر نفس من حياته، ومن ثمرات إيمانك الصادق، وخلقك المهذب: أن تحب لمحارم غيرك من العفاف والطهارة ما تحب لمحارمك. ومما يغلب على الزاني: أن تكون غيرته على محارمه ضعيفة جداً، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السادس والسابع من المجلد السابع الصادران في عدد واحد عن شهري ذي الحجة 1353 والمحرم 1354 هـ.

أو مفقودة، وشعور محارمه بتعاطيه هذه الفاحشة يسقط جانباً من مهابتهن له، ويسهل عليهن بذل أعراضهن إن لم يكن ثوب عفافهن منسوجاً من تربية دينية صادقة، وهذا بخلاف حال من ينكر موبقة الزنى في ذاتها، ويستهجنها إلى حد أن يتجنبها بنفسه، ثم لا يرضاها لغيره، ولا سيما ممن ينتمون إليه بنسب أو صهرة فإن هذه السيرة تكسبه مهابة في قلويهن، وتساعد على أن يكون بيته بيت طهر وصيانة. ومصداق هذه النظرية الأثر المشهور: "عفّوا، تعفّ نساؤكم". ولا أرى الذين يذهبون إلى إبقاء بيوت الدعارة مفتوحة في البلاد إلا نفراً يخونون أوطانهم بعد أن خانوا الفضيلة، وما بيت الدعارة إلا ماوى نفوس أُشربت حب الشهوات الممقوتة، واستغلظت فيها الأخلاق الدنيئة. والوطنية الصادقة: أن تحرص على أن يكون وطنك طاهر الموارد، طيب السمعة، فإن رضيت عن تلك البيوت القذرة، وحاربت من يسعى لتطهير وطنك منها، فقد خنت الفضيلة، وكنت في دعوى إخلاصك للوطن مفترياً أثيماً. وأما تدنيسه الأعراض، فإنه يذهب بكرامة الفتاة، ويكسوها عاراً لا يقف عندها، بل يتعداها إلى أسرتها، غير أن أنصباءهم من هذا العار على قدر قرابتهم منها، وكثيراً ما يدع الرجل الفاضل الاقتران بفتاة لا بأس عليها سوى أن الألسنة قذفت بعض من نبت في منبتها. وينبني على ما يجرّه البغاء إلى أقارب المرأة من الخزي والمهانة: أن تثور بينهم وبين الزاني وأسرته العداوة، فيهيجوا إلى الانتقام منه، وقد تبلغ الفتنة إلى القتل، وذلك مَثَلٌ من مُثُلِ إخلاله بالأمن، وفصمه لرابطة الوفاق. وأما ضرره العائد إلى الصحة، فقد قرر كثير من الأطباء أن الزنى منشأ

أمراض يعسر علاجها، وناع تفصيل هذا الضرر إلى طبيب ماهر في صناعته صادق في شهادته، مخلص لدينه ووطنه. ومن مفاسد البغاء: أن أصحابه يُلقون نطَفَهم في حرام، فيتولد منها مخلوقات ربما اعتدي عليها بالقتل وهي أجنّة، أو قريبة عهد بالوضع؛ خشية الفضيحة، فتستتبع فاحشة الزنى جناية قتل النفس بغير حق، وإن سلم ولد الزنى من القتل، عاش محتقر الجانب، مقطوع النسب، فلا يجد ما يجده أبناء النكاح من عطف أولي القربى، والسلامة من القذف بأقبح الألقاب. ولما يحتوي عليه الزنى من المفاسد الكبيرة، حذَّر الدين الحنيف من القرب منه، وسلك في التحذير منه طرقا حكيمة، فحزَم أموراً شأنها أن تكون ذريعة إليه؛ كالاختلاء بالأجنبية، أو النظر إليها نظر شهوة، ووضع له عقوبة رادعة في الدنيا، وتوعَّدَ فاعله بعذاب الهون في الأخرى. فمن كان صادق الإيمان، فهذا الدين يحرِّمُ الزنى تحريماً مغلظاً. ومن كان من عشاق الفضيلة، فالزنى فاحشة تتمثل فيها الرذيلة من رأسها إلى عقبها. ومن كان حريصاً على إعلاء شأن قومه، فالزنى ينقلب بالأمم إلى وراء. ومن كان يحزن لحرمان أمته من نعمة الصحة، فالزنى يبعث فيها أمراضاً يتعذر على الأطباء علاجها. ونحن ننصح لمن يملكون إلغاء البغاء بقوة، أن يصرفوا أنظارهم عن تقليد الشعوب الغارقة في أرجاسه، وإن كانت ذات قوة مادية وبسطة في الاستعمار، ويجيبوا داعي الفضيلة، ونظم الإصلاح المعقولة، وُيرضوا أمة تعرف أن دين حكومتها الرسمي هو الإسلام.

كلمة في المسكرات

كلمة في المسكرات (¬1) يُفضَّل الإنسان على سائر الحيوان بمزية العقل، وتفاضل الناس في مراقي الكمال على قدر تفاوتهم في هذه المزية، وكل شيء يضعف القوة العاقلة، أو يعوقها عما خلقت له من تدبر الآيات، واستكشاف الحقائق، فهو عدو الإنسانية، تجب مدافعته بقدر المستطاع، وتجنبه الليل والنهار. فالنوم يعطِّل هذه القوة، ويلحق الإنسان بالخشب المسندة، وهو أمر غالب ما له من مرد، ولكن أولي الحكمة لا يخضعون لسلطانه إلا حيث يغلب على أمرهم، ولا يعطونه من الوقت إلا أقل ما تفرضه عليهم البشرية، يبتغون بذلك أن تبقى عقولهم في حركات تثمر علماً نافعاً، أو عملاً صالحاً. إذا ما مضى يَوْمٌ ولَمْ أصْطَنِعْ يَداً ... ولَمْ أَكْتَسِبْ عِلْماً فما ذاكَ مِنْ عُمْري وإذا كان من حزم الرجل وحكمته أن يغالب النوم، ولا يأخذ منه إلا بمقدار الحاجة؛ حرصاً على وقته، وتوفيراً لثمرات فكره، فإن الخمر يأتي إلى تلك القوة التي هي أكبر مزية للإنسان، فيعبث بها عبث الريح العاصفة بالغصون الناعمة، ولا تسأل عما ينشأ عن هذا العبث من فساد. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد السابع الصادر في شهر ذي القعدة 1353 هـ.

للفساد الذي ينشأ من تناول المسكرات ضروب متفرقة، وألوان مختلفة؛ لا يسع المقام تفصيلها، فأكتفي بوصف جانب منها، وفيه كفاية لمن يبغي حياة طيبة في الدنيا، وسعادة وحياة خالصة في الأخرى. تذهب المسكرات بعقل من يتناولها، ولو أنه يبقى كالجماد لا ينطق ولا يتحرك، لكان البلاء مقصوراً عليه، ولكن السفاهة تخلف التعقل، والحماقة تظهر في مكان الكياسة، فلا تسمع إلا أقوالاً لاغية أو منكرة، ولا ترى إلا حركات مزرية به، أو مسيئة إلى من يقرب منه. قيل لعدي بن حاتم: ما لك لا تشرب الخمر؟ قال: معاذ الله أن أصبح حليم قومي، وأمسي سفيههم!. تجيء السفاهة في القول من جهة أن الخمر تعطل القوة العاقلة، وتترك الخيال يلقي على الألسنة ما شاء، وشأن الخيال الذي لا يعمل تحت سلطان العقل أن يصور المعاني في غير انتظام، ويمليها على اللسان كما صوّرها، فإذا هي أقوال تلبس صاحبها ثوب المهانة، أو تضعه موضع من يسخر به، أو يثير عليه غضباً. دعا بعض الأمراء نُصيب بن رباح إلى تناول الخمر، فقال نصيب: أصلح الله الأمير! الشعر مفلفل، واللون مرمد، ولم أقعد إليه بكرم عنصر، ولا بحسن منظر، وإنما هو عقلي ولساني، فإن رأيت أن لا تفرق بينهما، فافعل!. ويكفي متعاطي الخمور من الحقارة، أن يضرب به المثل عندما يتكلم أحد بما يشبه الهذيان. وتجيء السفاهة في الحركات، من جهة أن الخمر تعزل العقل إلى جانب،

وتبقي النفوس تحت تصرف الخيال، فتنبعث إرادتها عن غير تعقل، وتصدر أفعالها في غير حكمة. ومن المعروف في المسكر: أنه يحسِّنُ القبيح، ويقبِّح الحسن، قال أحد الشعراء المبتلين به: إسْقِني حتّى ترَاني ... حَسَناً عندي القَبِيح فقولوا لمتعاطي المسكرات، إذا طمع من الناس أن يلاقوه باحترام: إن من يعلم أن تلك حالات تخرج بها عن الإنسانية إلى حيوانية تصير بها هزأة، أو حيوانية تنفث سمها في غير عدو، لا تراك عينه إلا ازدرتك، ولا خطرتَ على قلبه إلا احتقرَك. ومن مفاسد المسكرات: أنها تندفع بالشهوات إلى الفسوق، وهل في إمكانك أن تجد مولعاً بالخمور يحفظ فرجه عن موبقة الزنا، أو ما يشبه الزنا؟. سقى قوم أعرابية شراباً مسكراً، فقالت: أيشرب نساؤكم هذا الشراب؟ قالوا: نعم، قالت: فما يدري أحدكم من أبوه. وقد عرفتَ أنّ السكران يقول ما يثير غضب نديمه، أو من يلقاه في طريقه، وأنت تعلم ما وراء ثورة الغضب من سوء، وعرفتَ أن السكران قد ينقلب إلى حيوانية متحفزة للشر، فلا يبالي أن يبسط يده للاعتداء على الأنفس، فيصيب ضعيفاً، أو يصيبه قوي، وكم من مشاجرات تعالت فيها أصوات، وأُصيبت فيها جسوم، وما هي إلا أثر من آثار تعاطي المسكرات!. ولا تزال المسكرات تنقص من عقل المولع بها شيئاً فشيئاً، حتى يقع في خبال، أو ما يقرب من الخبال، ودلّت التجارب على أن متعاطي المسكرات

يكون ضعيف الفكر، خفيف العقل، ولا يصل - ولو بعد صحوه - إلى ما يصل إليه أقرانه الأذكياء؛ من آراء سامية، ونتائج صادقة. قيل لعثمان بن عفان - رضي الله عنه -: ما منعك أن تشرب الخمر في الجاهلية، ولا حرج عليك؟ قال: رأيتها تذهب بالعقل جملة، وما رأيت شيئاً يذهب جملة ويعود جملة. ولا يليق بك أن تتخذ ممن يتعاطون المسكرات أصحاباً أو أعواناً تفضي إليهم بشيء من أسرار عملك؛ فإن الأسرار المودعة في النفوس إنما تحرسها العقول، وعقول المولعين بالمسكرات تفارقهم في كثير من الأحيان، فلا تلبث تلك الأسرار أن تخرج من أفواههم وهم لا يشعرون. وفي المسكرات - فوق هذه المفاسد -: إنفاق المال في غير فائدة، بل إنفاقه فيما يعود بخسران. وفيها: صرف القلوب عن القيام بكثير من حقائق الخالق - جلّ شأنه -، ولا يجتمع الولوع باحتساء أمِّ الخبائث، وتعظيم أمر الله في نفس واحدة.

الشجاعة

الشجاعة (¬1) لا تحوز الأمة مكانة يهابها خصومها، وتقرُّ بها عين حلفائها، إلا أن تكون عزيزة الجانب، صلبة القناة. وعزة الجانب وصلابة القناة لا ينزلان إلا حيث تكون قوة الجأش، والاستهانة بملاقاة المكاره، وذلك ما نسميه: شجاعة. والشجاعة صنفان: أحدهما: الإقدام على مواقع القتال، والثبات على مكافحة الأبطال، وهي الشجاعة الحربية. وثانيهما: الإقدام على قول الحق، وإبداء النصيحة، ولو لذي جاه أو سلطان يكره أن يُؤْمر بمعروف، أو يُنْهى عن منكر، وهذا ما نسمّيه: شجاعة أدبية. ولما كان الإسلام ديناً وسياسة، وكان من مقاصده العالية: إقامة دولة تسير بالناس على ما أمر الله، عني بتربية النفوس على كلتا الشجاعتين. فبالشجاعة الحربية تحمى الأوطان من مهاجمة الأعداء، ويسود الأمن في البلاد. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد السابع الصادر في شهر شعبان 1353 هـ.

ويالشجاعة الأدبية يكون الناس على بصيرة من الحق والباطل، والصواب والخطأ، فيقيمون الحق، ويرجعون إلى الصواب. ومن الآيات الواردة في تربية الشجاعة الحربية قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104]. ذكَّر المسلمين في هذه الآية بأن ما عسى أن يلاقوه من آلام الحروب، يلاقي خصومهم مثلها، فكأنه يقول لهم: لا ينبغي أن يكون خصومكم، وهم أشياع الباطل، أصبر على الآلام، وأثبت في مواقف الأخطار منكم، وأنتم حماة الحق، والدعاة إلى الخير، ولا سيما حماة ودعاة يرجون من نصر الله وجزيل مثوبته ما لا يرجوه أعداؤهم الغاوون المفسدون. ربّى الإسلام بهذه الآية خلق الشجاعة في النفوس، فأخرج أمة لا تهاب الخطوب، وترى الموت في سبيل إعلاء كلمة الحق، أو الاحتفاظ بالكرامة، خيراً من ألف حياة يقضيها صاحبها في هون، أو في مشاهدة الباطل يمشي في الأرض مرحأ، وكان أولئك الذين ربّاهم الإسلام، وبثَّ فيهم روح البطولة، يتشوقون إلى الإقدام، وينطقون في هذا الشأن بحكمة بالغة. انظروا إلى قول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في وصيته لخالد بن الوليد: "احْرِصْ على الموتِ توهَبْ لك الحياة" يريد بهذا: حثّه على اقتحام مواقع القتال، والخوض في غمراتها خوضَ من ينشد الموت. والحياة العزيزة والفزع من الموت لا يلتقيان بأرض حتى يلتقي البصر والعمى في عين واحدة. ومما ينظر إلى معنى حكمة الصديق: قول الحصين بن الحمام: تأخَّرْتُ أسْتَبْقي الحياةَ فلَمْ أَجِدْ ... لنفسي حياةً مِثْلَ أنْ أتقدَّما

ولا يُعَدُّ الاستخقاف بالموت شجاعة في كل حال، بل الشجاعة: رباطة الجأش، والثبات في سبيل الدفاع عن حق، أو كرامة، فالمنتحر لحرمانه من شهوة، أو لوقوعه في بلاء، لا يسمّى شجاعاً، بل هو جدير - كما قال أرسطو - بأن يسمى: جباناً، بل أقول: إن انتحاره نشأ من ناحية استعظام فوات تلك الشهوة، أو حصول ذلك البلاء، حتى تخيله أشد ألماً من الموت. فالانتحار في الحقيقة أثرُ فَقْد الرجل لفضيلة الصبر على الشدائد، وما ينشأ عن فَقْدِ فضيلة لا يصح أن يسمى فضيلة أخرى. وما زال الحكماء ينصحون الناس أن لا يقدموا على موقع خطر، إلا أن تكون فائدة الإقدام أكبر من خسارته، قال أبو الطيب المتنبي: الرأيُ قبل شَجاعةِ الشُّجْعانِ ... هُوَ أوّلٌ وهي المَحَلُّ الثّاني وإذا هُما اجْتَمعا لنَفْسٍ حُرَّةٍ ... حازَتْ من العَلْياءِ كُلَّ مكانِ في الشباب شجاعة، وفي الشيوخ تجارب، فإذا صدرت شجاعة شباب الأمة عن آراء شيوخها الحكماء، فلا جَرَمَ أن يكون لها الموقف الحميد، والأثر المجيد. يظهر أثر الشجاعة الأدبية في: إقامة شعائر الدين، وتقويم الأخلاق، وإصلاح السياسة، وانتظام المعاملات بين الناس. فالشجاعة الأدبية هي التي تطلق لسان العالِم الأمين بوعظ جاهل غليظ القلب، أو مترف متشعب الأهواء، أو صاحب سلطان لا يحب الناصحين، يعظه ليؤدي طاعة يثقل عليه أداؤها، أو ليتعلق بفضيلة كان منقطعاً عنها، أو ليستقيم في سياسة انحرف عن رشدها، أو يعدل في قضايا جار في أحكامها، أو يحترم في معاملته حقوقاً أجحف بها.

والشجاعة الأدبية تدعو الرجل إلى أن يؤدي الشهادة على نحو ما علم، دون أن يهاب عند أدائها ذا جاه أو سطوة. ولولا الشجاعة الأدبية يضعفها الله في قلوب كثير من الشهداء، لحرم كثيراً من الضعفاء حقوقاً يستولي عليها الأقوياء، ولا سبيل لخلاصها منهم غير القضاء العادل، قال تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]. ولا ينتظم العدل لقاضٍ، إلا أن تكون فيه شجاعة أدبية؛ إذ هي التي تساعده على أن يقضي للضعيف على القوي، كما فعل كثير من القضاة في قضايا كان المدعي فيها رجلاً من السوقة، والمدعى عليه أميراً، أو خليفة، فحكموا للسوقي على ذلك الأمير أو الخليفة، لا يخافون في الحق لومة اللائمين، أو عقوبة المستبدين. ومما حدثنا به التاريخ: أن ابن بشير قاضي قرطبة نظر في قضية رفعها بعض التجار على الخليفة عبد الرحمن الناصر، فقضى للتاجر على الخليفة، وذهب إلى الخليفة يخبره بالحكم، ويهدده بالاستقالة من القضاء إن لم يقرن الحكم بالتنفيذ، قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]. والشجاعة الأدبية تقف بالرجل في حدود ما يعلم، فيصدر فتواه في صراحة، لا يقول غير ما يعلم، ولا يرتكب طريق المواربة إرضاء لذي وجاهة أو سلطان. يحدثنا التاريخ أن المأمون فتن الناس بمسألة: (خلق القرآن)، وأن الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - كان المثال الكامل للشجاعة الأدبية، فلم يجبن

كما جبن غيره أمام السلطان، ولم يسلك كما سلك غيره طريق الإبهام في الجواب، بل قال: إن القرآن كلام الله قديم، واحتمل في سبيل ذلك السجن والضرب بالسياط. وفي القديم وقف بعض رجال الدين في بعض الفتاوى موقف الرهبة من السلطان، وجاروه على الباطل بعلة اتقاء عقابه، فتجافاهم الناس، حتى زهد بعض طلاب العلم في الأخذ عنه، كما ترك أبو زرعة وأحمد بن حنبل الرواية عن أحد كبار الشيوخ إذ أجاب في فتنة خلق القرآن إلى ما دعي إليه من أن القرآن مخلوق، واعتذر عندما عاتبه أهل العلم على ذلك بأنه قال ما قال اتقاء عقوبة بدنية لايحتملها. وأكبر ما يقوي الشجاعة الأدبية في النفوس: تعظيم أمر الله تعالى، وشدة الثقة بما وعد به أنصار الحق من العزة في الدنيا، والسعادة في الأخرى. ومن قرأ التاريخ، وقف على أسماء رجال كثير لم ينالوا رفعة في حياتهم، وذكراً جميلاً بعد مماتهم، إلا لأنهم كانوا يجهرون بكلمة الحق في وجوه الوجهاء أو الرؤساء، لا يصدهم عن الجهر بها خوف من مكرهم، ولا طمع فيما بأيديهم.

المساواة في الإسلام

المساواة في الإسلام (¬1) يتفاضل الناس بحسب جودة أفكارهم، وصفاء بصائرهم، وسعة معارفهم، وسماحة أخلاقهم، وسمو هممهم، وصحة عزائمهم، وصلاح أعمالهم، وبلاغة أقوالهم، درجات، وقد تجري المعاملات بينهم على حسب تفاضلهم في هذه الخصال والشؤون، وليس على الناس من حرج من رعاية هذه المزايا، وربط صداقاتهم ومعاملتهم الخاصة بها. أما المساواة بينهم التي يلهج بها أنصار الحرية، ويتوقف عليها انتظام السياسة، ويها يستتب الأمن في البلاد، فهي أن يكون الناس في عصمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وفي التمتع بكل ما هو حق لهم، على سواء. والسياسة لا تجري في مأمن إلا أن تكون قائمة على رعاية المساواة في التشريع والقضاء والتنفيذ، ومعنى هذا: أن يكون الناس في نظر واضع القانون، والقاضي به، والمنفذ له في منزلة واحدة. أما المساواة في التشريع، فإن الشرع الإسلامي قد راعى في تقرير الحقوق المصالح العامة من غير نظر إلى أحوال الطوائف والطبقات، ومن هنا كانت الأحكام الواردة في صيغ خاصة محمولة على العموم؛ كالأحكام ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الأول من السنة الأولى، الصادر في أول ذي القعدة 1366 هـ - 16 سبتمبر 1947 م.

الواردة في خطاب الرجال تتعداهم إلى النساء، والأحكام الواردة في خطاب أشخاص بأعيانهم تتعداهم إلى سائر من هو أهل للتكليف، كما هو في علم أصول الفقه، فكل خطاب منه - صلى الله عليه وسلم - لواحد فيما يفتيه به، ويعلمه إياه، هو خطاب لجميع أمته إلى يوم القيامة (¬1). وهناك نظم توضع لضبط الأعمال في نحو الدوائر الحكومية، والمؤسسات العلمية، أو الخيرية، وهذه هي التي قد يستخف فيها بقاعدة المساواة، ويراعى في وضعها منافع بعض الطوائف أو الأشخاص، فتجد غير المخلص فيما ألقي إليه من إدارة بعض الشؤون العامة، يتصرف في تلك النظم على حسب ما يوافق هواه، ويرضي أشياعه. وأما المساواة في القضاء، فهي أن يتجه القاضي إلى القضية في نفسها قاصراً النظر على تفهم البيانات، وتعرف حكم الشارع الذي ينطبق عليها، دون أن يكون لشخصية المتخاصمين من أثر في مقطع الحكم؛ كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في رسالة القضاء إلى أبي موسى الأشعري: "وآسِ بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك". لطم جبلة بن الأيهم رجلاً من بني فزارة وَطِئَ إزارَه وهو يطوف، فهشم أنفه، فاستعدى الفزاري عليه عمر بن الخطاب، فقال لجبلة: إِما أن ترضي الرجل، وإما أن أقتص له منك، فقال جبلة: كيف وهو من السوقة وأنا ملك؟! فقال: إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقى والعافية! ففَرَّ جبلة ليلاً، وعاد إلى نصرانيته. سمعتُ بعض من يتحدث في السياسة ينقد فعل عمر هذا، ويَعُدُّهُ مخالفاً ¬

_ (¬1) كتاب "الأحكام" لابن حزم.

لما تقتضيه السياسة من تأليف رؤساء الأقوام للإسلام، فقلت: هذه نظرة عجلى، وإخلاص عمر للشرع الحكيم، وحرصه على تقرير الأمن في البلاد، هما اللذان أمليا عليه أن يحكم بما حكم، وأن يعزم على تنفيذ حكمه لو بقي جبلة تحت سطوته، وماذا يكون موقف عمر لو هدم قاعدة المساواة في هذه القضية، وكسر قلوب الضعفاء، وأيأسهم من أن يجدوا في عدله ناصراً على الأقوياء؟!. وكذلك كانت سيرة القضاة العادلين؛ فقد حكم أبو يوسف ليهودي في قضية رفعها على الخليفة هارون الرشيد، وحكم ابن بشير قاضي قرطبة لتاجر خامل في قضية رفعها على الخليفة عبد الرحمن الناصر. وأما المساواة في التنفيذ، فقد عني الإسلام برعايتها، ودلَّ على أن التعامي عنها من أسباب سقوط الأمم وهلاكها، ويكفي شاهداً على هذا قوله - عليه الصلاة والسلام - كما روي في الصحيح: "فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف، تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها" (¬1). والواقع أن عدم المساواة في التنفيذ جناية على التشريع والقضاء؛ حيث يجعلهما عملاً بلا ثمر، وحبراً على ورق، وماذا ينفع تشريع أو قضاء لا نفاذ له؟. قال عمر بن الخطاب في رسالة القضاء: "وإذا تبين لك الحق، فأنفذ؛ فإنه لاينفع تكلم بحق لا نفاذ له". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم ".

يتساوى الناس في التمتع بحقوقهم، ويتساوون فيما تقتضيه المصلحة العامة من أعمال، أو أداء أموال، فإذا اقتضى الحال محاربة عدو - مثلاً -، كان مناط الدعوة إليها من فيهم الكفاية لها، وإذا دعا الحال إلى الإنفاق في الذود عن الحوزة، أو إقامة منشآت عامة، كان مناط الدعوة إليه ذوي اليسار، فلا يعفى من الحرب أو الإنفاق وجيه لوجاهته، أو صديق لصداقته، أو قريب لقرابته. ونحن نعلم أن عبد الله وعبيد الله ابني الخليفة عمر بن الخطاب كانا يخرجان في الجيوش التي توجه إلى الجهاد في عهد عمر كجنديين، لا يختلفان عن سائر الجنود في شيء. ولا يظفر القابضون على زمام الأمور من شعوبهم بمثل حسن الطاعة، ولا طريق إلى حسن طاعة الشعوب إلا المساواة بينهم في الحقوق والواجبات. ومن شواهد هذا: أن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - خصَّه أبوه بشير بهبة، وجاء إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ليشهده على ذلك، فقال له: "أكُلُّ ولدِك نحلته مثل هذا؟ " قال: لا، قال: "أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ "، قال: نعم، قال: "اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم في العطية". والشعوب للقائمين على تدبير شؤونهم بمنزلة الأبناء للآباء، فمن أحب أن يكونوا له في حسن الطاعة سواء، فليسلك بسياستهم طريق المساواة في الحقوق والواجبات. هذه المساواة من أكبر الدعائم التي تقوم عليها السياسة العادلة، ولكنها تُبتلى في كثير من العصور أو المواطن بآفة تزلزل أساسها، وتقوّض بناءها، وهي المحسوبية، وما أفتك هذه الآفة بوحدة الأمة! وما أسرعها بإنزال الدولة عن المكانة المحفوفة بالمهابة إلى درك منظور إليه باستهانة!.

إباءة الضيم وأثرها في سيادة الأمم

إباءة الضيم (¬1) وأثرها في سيادة الأمم الضَّيْم: الظلم والاضطهاد، وإباءته: كراهته والنفور منه. والنفور الصادق من الضيم يستلزم الغضب عند وقوعه؛ كما قال مهيار الديلمي يمدح أبا سعيد بن عبد الرحيم: نفى الضيمَ عنه أنْفُ غَضبانَ ثائرٍ ... يَخِفُّ وقِسْطُ الحادِثاتِ ثَقيلُ وإذا غضب الرجل من الضيم غضبة ملتهبة، بذل وسعه في التخلص منه، أو في التوقّي منه قبل وقوعه، فمن لم يغضب لوقوع الضيم، أو لم يبذل وسعه في التخلص أو الحذر منه، فهو محروم من هذا الخلق المجيد. ولهذا الخلق صلة محكمة بخلقين عظيمين: عزّة النفس، والبطولة، فمن لم يكن عزيز النفس، لم يتألم من أن يضام، ومن لم يكن بطلاً، احتمل الضيم رهبة أو حرصاً على الحياة. ومن طالع تاريخ العرب في عهد جاهليتهم، عرف أنهم كانوا يأبون الضيم في حماسة وصلابة، ويعدّونه في أول ما يفتخرون به من مكارم الأخلاق، وقد أخذ هذا الخلق في أشعارهم ومفاخراتهم مكاناً واسعاً، فنبهوا على أن ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد الثاني والعشرين الصادر في شهر صفر 1369 هـ.

احتمال الضيم عجز، والعاجز لا يرجى لدفع ملمّة، ولا للنهوض بمهمّة. قال المتلمّس: ولا تَقْبَلَنْ ضَيْماً مخافَةَ مِيتَةٍ ... وموتَنْ بها حُرّاً وجِلْدُك أَمْلَسُ وضربوا لاحتمال الضيم أبشع الأمثال، وأشدها تنفيراً منه، فقال المتلمس أيضاً: ولا يُقيمُ على ضَيْمٍ يُرادُ بهِ ... إلاَّ الأذلّانِ عَيْرُ الحيِّ والوَتَدُ هذا على الخَسْفِ مَرْبوطٌ بِرُمَّتِهِ ... وذا يُشَجُّ فلا يَرْثي لَهُ أحَدُ ونبهوا على أن حرية النفس والإقامة على ضيم لا يجتمعان أبداً، فقال الشنفرى: ولكنَّ نفساً حُرَّةً لا تُقيمُ بي ... على الضَّيْمِ إلّا رَيْثما أتحوَّلُ وأشاروا في حكمهم إلى أن ذوي النفوس الزكية يتجافون عن مواطن الضيم، وينأون عنها، ولو إلى مواقع الخطوب الدامية، قال معن بن أوس: إذا أنْتَ لَمْ تُنْصِفْ أخاكَ وجَدْتَهُ ... عَلى طَرَفِ الهجران إنْ كانَ يَعْقِلُ ويرْكَبُ حدَّ السَّيْفِ مِنْ أنْ تُضيمَهُ ... إذا لم يَكُنْ عن شَفْرَة السَّيفِ مَزْحَلُ وإباءة العرب للضيم أيام جاهليتهم ملأت أعين الدول المجاورة لهم مهابة، فعاشوا ولم يكن لواحدة من تلك الدول عليهم من سبيل. قال النعمان بن المنذر يصف العرب في محادثة له مع كسرى: "وأما عزّها ومنعتها (يعني: العرب)، فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوّخوا البلاد، ووطدوا الملك، ولم يطمع فيهم (أي: العرب) طامع، ولم ينلهم نائل".

جاء الإسلام، فوجد العرب قد يتجاوزون في هذه الخصلة حد الاعتدال، فهذّبها، وأحاطها بحكمة حققت فيها معنى ابتغاء العزّة، وهيأتها لأن تلتقي بالعدل، وترافق الحلم، وتساير السياسة الرشيدة أينما سارت. وأضربُ المثلَ لتجاوزهم بإباء الضيم حد الاعتدال: أن القبيلة كانت عندما تقتل القبيلة واحداً منها، قامت تدفع هذا الضيم عن ساحتها، ولا ترضى إلا أن تقتل بالواحد جماعة، وربما قامت من أجل قتل نفس واحدة حرب شعواء بين قبيلتين، تستمر أعواماً طوالاً، ولا تضع أوزارها حتى تسيل فيها أنهر من الدماء؛ كحرب البسوس المعروفة في تاريخهم، وقد قوَّمَ القرآن الكريم هذا العوج، فقال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]. وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 179]. وكانوا لا يبالون عند الانتقام من ظالم أن يقابلوه بأكثر أو أشد من مثل ما اعتدى به عليهم، فقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]. فأنتم ترون أن القرآن الكريم قد نبه على أن الضيم الذي يحصل للقبيلة بقتل واحد منها يرتفع بالقصاص الذي هو قتل القاتل وحده، وأن الاعتداء الذي يقع على الفرد أو الجماعة يكفي في جزائه مقابلته بالمثل، فالقبيلة إذا اكتفت بقتل القاتل وحده، والمعتدى عليه إذا اقتصر في جزاء المعتدي بمثل ما اعتدى به، فقد أعطى كل منهما إباءة الضيم حقها، وليس لأحد أن يعيره بسبة احتمال الضيم إلا أن يكون خادماً للشيطان، أو جاهلاً بمواقع العدل،

غير بصير بمكارم الأخلاق. هذَّب الإسلام إباءة الضيم، وجعلها من الخصال التي يقتضيها الإيمان الصادق، فأصبحت خلقاً إسلامياً، أينما وجد الإيمان الصادق، وجدت إباءة الضيم بجانبه، ألا تقرؤون فيما تقرؤون من الكتاب المجيد قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنانقون: 8]، ولا عزة لمن يسومه عدوه ضيماً، فيطأطئ له رأسه خاضعاً، وإنما قتل في نفسه الشعور بالمهانة الحرصُ على الحياة، أو على شيء من متاعها، وكل متاعها في جانب العزة حقير. يأبى الرجل الراسخ في مكارم الأخلاق أن يلحقه الضيم في نفسه، ويأبى بعد هذا أن يضام من يمتُّ إليه بصلة قرابة أو جوار أو استجارة؛ إذ اضطهاد أحد من أمثال هؤلاء يجر إليه عاراً، ويلبسه صغاراً. ورجل الأخلاق يغضب لأن يضام المنتمي إليه بصلة قرابة، وإذا كان هذا القريب ممن يناوئه، ويضمر له سوءاً، قال المغيرة بن حنباء: وأغْضَبُ للمَوْلى فأمنَعُ ضَيْمَهُ ... وإنْ كان غِشّاً ما تَجِنُّ (¬1) ضمائِرُهْ يغار الرجل على ذوي القرابة والصداقة والجوار، ويبذل في إِنقاذهم من الضيم دمه، أو ماله، أو جاهه، فيعظم بهذه المزية في أعين من يُقدرون المكارم قدرها. وأكبر أباة الضيم همة، وأرقاهم في سماء السيادة مقاماً، من يغار على الأمة التي يجمع بينه وبينها دين أو وطن، ويأبى أن تمسها لفحة من ضيم، ¬

_ (¬1) تجِنُّ: تخفي.

فيجاهد في سبيل سلامتها من أن يهضم حق من حقوقها، أو يغتصب شبر من أوطانها. ويصور لك إباءة الرجل لأن يضام قومُه قولُ عتبان الشيباني حين نزلت ثقيف متغلبة على أرض قومه: فلا صُلْحَ ما دامَتْ منابِرُ أرْضِنا ... يقومُ عَلَيْهَا مِنْ ثَقيفَ خَطيبُ ودفع الضيم عن الأمة حق على كل من يستطيع الاشتراك فيه بنفس، أو مال، أو تدبير، أو تحريض. وقد نصَّ علماء الشريعة على أن العدو إذا أقبل مهاجماً، كان فرضاً على كل شخص، حتى النساء أن يخرجوا لدفاعه بما استطاعوا. ووقاية الأمة من مهانة الضيم تستدعي العمل لأن تكون للأمة قوتان: مادية، ومعنوية. أما المادية، فبإعداد ما يتطلبه الدفاع من وسائل الانتصار على العدو، وهذا ما أشار إليه القرآن المجيد بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. وأما المعنوية، فبتربية النشء على خلق الشجاعة، وصرامة العزم، والاستهانة بالموت. فالأمة التي تأبى الضيم بحق، هي الأمة التي تلد أبطالاً، وتبذل كل مجهود في إعداد وسائل الدفاع، لا يقعد بها بخل، ولا يلهيها ترف، وتفاضل الأمم في التمتع بالحرية والسلامة من أرجاس الضيم، على قدر ما تلد من أبطال، وما تعدّه من أدوات الرمي والطعان: متى تَجْمَعِ القَلْبَ الذَكِيَّ وصارِماً ... وأَنْفاً حَمِيّاً تَجْتَنِبْكَ المَظَالِمُ

إباءة الضيم خلق محمود أينما حل، وأهم موقع له نفوس الرجال الموكول إليهم تدبير شؤون الأمة، وتنفيذ ما يحقق آمالها، وإنما تسقط الأمة في هاوية الاحتلال الأجنبي، إذا وقع زمام أمرها في يد من صغرت همته، فلا يغضب للضيم الذي يلقى على عنقه، ويسوق الأمة بعصاه إلى جهل وفقر وشقاق. وأذكر أن أحد قواد الأسبان وقع أسيراً مع ابنته في يد أمير أندلسي، فأخذت ابنته الفتاة تظهر التودد للأمير الأندلسي، ولكن حزمه أبى له أن ينحدر مع شهوته، ويقرِّبها إليه حتى فُتِّشَتْ، فوُجد معها منديل صغير مُشَرِّبٌ بِسُمّ، وكان قد أرادت أن تغتال به الأمير عند اتصاله بها، فابتعد منها، وقال: لو كان قلب هذه الفتاة في صدر أبيها، ما تغلبنا عليه، ولا وقع في أسرنا!. والضيم من أي معتدٍ صدر، شديدُ الوقع، خبيث الطعم، ولكن الضيم الذي يلحق الإنسان من وضيع مَلَك قوة، أو اعتز بذي قوة، يكون وقعه في نفسه أشد إيلاماً من ضيم يلحقه من عظيم في قومه. وقد أشار إلى هذا حاتم الطائي حين لطمته جارية وهو أسير في بعض أحياء العرب، فقال: "لو ذات سوار لطمتني! ". وأذكر بهذا: أن من أشد النكبات تمزيقاً للقلوب مدّ اليهود الصهاينة أيديهم إلى بلاد عربية إسلامية ليضعوها تحت سيطرتهم الغاشمة. ولنطوِ الحديث عنهم وعن الدول التي انحازت إلى جانبهم، وظلت تنحط في أهوائهم، وتسارع إلى العمل لتثبيت أقدامهم، فستقدر هذه الدول يقظة الشرق قدرها، وتعرف أن السلام العام الذي تزعم أنها تنشده لا يتيسر، وللصهيونيين طمع في أن يقيموا في قلب الأمة العربية الإسلامية دولة.

ومن الحكمة أن يعمل الإنسان للتخلص من الضيم، بعد شيء من التدبر وإحكام الرأي، حتى لا تفضي به مكافحة الضيم الصغير إلى ضيم أفظع منه، أو تفوت على الجماعة مصلحة أو مصالح كبيرة، لا يُعَدُّ ذلك الضيم في جانبها شيئاً مذكوراً، وأورد في بيان هذا مثلين: أحدهما: من السيرة النبوية، وثانيهما: من التاريخ الصحيح. أما السيرة، فقد جاء في قضية الحديبية: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - عقد مع المشركين صلحاً، قد يبدو في أول النظر أن فيه إجحافاً بحقوق المسلمين، حتى إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جاء إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: "بلى". قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! قال: "أنا عبد الله ورسولُه، لن أخالف أمره، ولن يضيعني". ومن نظر في الفوائد التي ترتبت على هذا الصلح، وجدها من العظم بحيث لا يعد الصلح وقبولُ ما تمسك به المشركون من الشروط إلا شيئاً لا يقام له وزن، وعرف أن السياسة التي سار عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقومُ سبيلاً مما بدا لعمر بن الخطاب في نظرته الأولى. وأما التاريخ: فإن الإسبان لما طغوا على ملوك الطوائف بالأندلس، وشعر هؤلاء الملوك بضعفهم عن مقاومتهم، ظهر للمعتمد بن عباد ملكِ إشبيلية أن يستعين في دفاعهم بسلطان المغرب يوسف بن تاشفين، فقال له بعض أولئك الملوك: نخشى أن يدخلَ بلاد الأندلس، ويردَّ العدو، ثم يبسط سلطانه علينا، فقال المعتمد تلك المقالة الخالدة: "لأن أرعى الجمال خير من أن أرعى الخنازير! ".

عظم الهمة

عِظَمُ الهمّة (¬1) شؤون الأمم شتى، وأعزُّ شؤونها مكارم الأخلاق. وحقوق الأمم على علمائها وزعمائها كثيرة، وأهمُّ حقوقها القيام على هذه المكارم؛ فالجماعة التي تعمل على تقويم الأخلاق، وترقية الآداب، هي التي تحمل من أعباء حقوق الأمة ما كان أرجح وزناً، وأكبر نفعاً. إذاً رجال "جمعية مكارم الأخلاق" يعنون بأعز شؤون الأمة، ويقومون على أهم وسيلة من وسائل سعادتها، فجمعية المكارم جديرة بالمؤازرة، خليقة بأن يكون أصلها ثابتاً، وفرعها في السماء. شدَّة أثر الأخلاق السامية في تقدم الشعوب وتفوقها، وقيام جمعية المكارم على بثّ الفضيلة، وإعلاء كلمتها، هما اللذان يَسَّرا عليَّ أن أتقدم إلى هذا المجمع الكريم، وألقي فيه كلمة صغيرة، أصف بها خُلقاً من أجَلِّ الأخلاق، وهو عِظَمُ الهمّة. * ما هو عِظَمُ الهمة؟ أحكم علماء الأخلاق بيان هذا الخلق، فقالوا: "هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور". ¬

_ (¬1) مجلة "الفتح" - العدد (75) من السنة الثانية لعام 1364 هـ - 1927 م - القاهرة - محاضرة الإمام في جمعية "مكارم الأخلاق الإسلامية" بالقاهرة.

فعظيم الهمة يستخف بالمرتبة السفلى، أو المرتبة المتوسطة من معالي الأمور، ولا تهدأ نفسه إلا حين يضع نفسه في أسمى منزلة، وأقصى غاية، ويعبِّرُ عن هذا المعنى النّابغة الجَعْدي بقوله: بلَغْنا السّماءَ مَجْدُنا وجدودُنا ... وإنّا لنَبْغي فوقَ ذلكَ مَظْهَرا وإذا كان هذا الخلق لا يقع إلا على معالي الأمور، فلا عظمة لهمم قوم يبتغون النهاية في زينة هذه الحياة، ويغرقون في التمتع بلذاتها المادية؛ كهؤلاء الذين يسرفون في الملابس المنمقة، والمطعومات الفاخرة، والمباني الشاهقة؛ فإن الزينة واللذائذ المادية لا تعد فيما تتسابق فيه الهمم من معالي الأمور: إذا كان في لُبْسِ الفتى شَرَفٌ لَهُ ... فما السيف إلا غِمْدُهُ والحمائِلُ والشاعر الذي يقول: هِمَمُ الملوكِ إذا أرادوا ذِكْرَها ... مِنْ بَعْدِهِمْ فَبِأَلْسُنِ البُنْيَانِ لم يقل صواباً، ولم ينطق بحكمة، إلا أن يريد من البنيان: ما أقاموه لمصالح عامة؛ كان يكون مدارس، أو مستشفيات، أو دوراً للكتب، أو مساجد يذكر فيها اسم الله، أو ملاجئ تأوي إليها اليتامى أو المساكين وابن السبيل. يستصغر عظيم الهمة ما دون النهاية من معالي الأمور، وإذا رأى الوسائل في الخارج تخونه، وتأبى أن تساعده على إدراك النهاية، فإنه يمضي في عزمه، ويرضى بمبلغ جهده، وإن كان دون المرتبة العليا. ومن الخطل في الرأي أن ينزع الرجل إلى خصلة شريفة، حتى إذا شعر بالعجز عن بلوغ غايتها البعيدة، انصرف عنها جملة، والتحق بالطائفة التي ليس لها في هذه الخصلة من نصيب. والذي يوافق الحكمة، ويقتضيه حق

التعاون في سعادة الجماعة، أن يذهب الرجل في همه إلى الغايات البعيدة، ثم يسعى لها سعياً، ولا يقف دون النهاية إلا حين ينفد جهده، ولا يهتدي للمزيد على ما فعل سبيلاً. والناس في الحقيقة أصناف: رجل يشعر بأن فيه الكفاية لعظائم الأمور، ويجعل هذه العظائم همته، وهذا من يسمى: "عظيم الهمة"، أو "عظيم النفس". ورجل فيه الكفاية لعظائم الأمور، ولكنه يبخس نفسه، فيضع همه في سفساف الأمور وصغائرها، وهذا من يسمى: "صغير الهمة"، أو "صغير النفس". ورجل لا يكفي لعظائم الأمور، ويحس بأنه لا يستطيعها، وأنه لم يخلق لأمثالها، فيجعل همته وسعيه على قدر استعداده، وهذا الرجل بصير بنفسه، متواضع في سيرته. هؤلاء ثلاثة، ورابعهم لا يكفي للعظائم، ولكنه يتظاهر بأنه قوي عليها، مخلوق لأن يحمل أثقالها، وهذا من يسمونه: "فخوراً"، وإن شئت فسَمِّهِ: "متعظِّماً". * من أين ينشأ عِظَم الهمة: يتربى عظم الهمة عن طريق الاقتداء؛ كأن ينشأ الفتى تحت رعاية ولي، أو أستاذ يطمح إلى النهايات من معالي الأمور، أو من طريق تلقين الحكمة، وبيان فضل عظم الهمة، وما يكسب صاحبه من سؤدد وكمال، أو من طريق درس التاريخ، والنظر في سير أعاظم الرجال، فإنّا لو أخذنا نبحث عن مفاخر أولئك الذين يلهج التاريخ بأسمائهم، لوجدنا معظم مفاخرهم قائمة على

هذا الخلق الذي نسميه: "عظم الهمة". والقرآن يملأ النفوس بعظم الهمة، وهذا العِظَمُ هو الذي قذف بأوليائه ذات اليمين وذات الشمال، فأتوا على عروش كانت ظالمة، ونسفوها من وجه البسيطة نسفاً، ثم رفعوا لواء العدل والحرية والمساواة، وفجّروا أنهار العلوم تفجيراً. وإذا رأينا من بعض قرّائه همماً ضئيلة، ونفوساً خاملة، فلأنهم لم يتدبّروا آياته، ولم يتفقهوا في حكمه. * فضل عظم الهمة: يسمو هذا الخُلُق بصاحبه، فيتوجه به إلى النهايات من معالي الأمور، فهو الذي ينهض بالضعيف يُضطهد أو يُزدرى، فإذ هو عزيز كريم. وهو الذي يرفع القوم من سقوط، ويبدلهم بالخمول نباهة، وبالاضطهاد حرية، وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية. هذا الخلق هو الذي يحمي الجماعة من أن تتملق خصمها، وتسل يدَها من أسباب نجاتها ومنعتها. أما صغير الهمة، فإنه يبصر بخصومه في قوة وسطوة، فيذوب أمامهم رهبة، ويُطرق إليهم رأسه حِطّة، ثم لا يلبث أن يسير في ريحهم، ويسابق إلى حيث تنحط أهواؤهم. نعم، يورِد هذا الخلق صاحبه موارد التعب والعناء، ولكن التعب في سبيل الوصول إلى النهاية من معالي الأمور يشبه الدواء المرّ، فيسيغه المريض كما يسيغ الشراب عذباً بارداً، وعظيم الهمة قد يشتد حرصه على الشرف، حتى لا يكاد يشعر بما يلاقيه في سبيله من أنكاد وأكدار. وربما كان الشرف الذي يركب له الأخطار والشدائد أعزّ وقعاً وأدلّ

على عظم همته من الشرف الذي يناله في يسر وسهولة. أراد أبو الوليد الباجي - حين كان يناظر أبا محمد بن حزم - أن يثبت لهمته فضلاً على همة ابن حزم، فقال له: أنا أعظم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبتَهُ وأنتَ تُعان عليه، تَسهر بمشكاة الذهب، وطلبْتُهُ وأنا أسهر بقنديلٍ بائر السوق. وأجابه ابن حزم قائلاً: أنتَ طلبتَ العلم في حال فاقة رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبتُه في حين ما تعلمه وما ذكرته، لا أرجو إلا علوَّ القدر العلمي في الدنيا والآخرة. فضّل أبو الوليد الباجي همته على همة ابن حزم بما كان يلاقيه في سبيل طلب العلم من شدة وعناء، وفضّل ابن حزم همته على همة أبي الوليد الباجي بأنه كان يطلب العلم لفضيلته. ولو صح قول ابن حزم، وثبت ما اتهمَ به أبا الوليد من أنه كان يطلب العلم لليسار والرفاهية، لكان أعظم همة ممن يريد اتخاذ العلم وسيلة إلى منصب، أو وجاهة، أو مال. يتعلق عظم الهمة بكل شأن رفيع، ومقام محمود، ولا تسع هذه الكلمة إلا أن نعرج فيها على عِظم الهمة في العلم، وعِظم الهمة في النصح والإرشاد. * عظم الهمة في العلم: تتفاضل العلوم بغاياتها، وبقدر ما يكون لها من الاتصال بسعادة الإنسان. وتتفاضل همم الطلاّب بالنظر إلى هذه العلوم المتفاضلة في نفسها. فلكلٍّ من علم الأخلاق وعلم العروض - مثلاً - أثر في الحياة الأدبية، ولكن علم الأخلاق أقرب إلى السعادة منزلة، وأوسع فيما ينفع الناس جولة. فمن يُعنى بالأخلاق ليتحلى بمكارمها، يكون أرفع همة ممن يُعنى بالعَروض ليعرف أوزان الشعر

وما يلحقها من زخارف أو علّة. وأعظم من هاتين الهمتين همة من جمع بين درس الأخلاق والعروض. أخذ بعض أهل العلم يدرس العروض بعد أن بلغ من الكبر عتياً، ولما لامه بعض أصحابه على اشتغاله بهذا العلم الصغير، وهو شيخ كبير، قال له: شهدت مجلس قوم كانوا يتحاورون في هذا العلم، ولم أكن على معرفة به، وكان نصيبي بينهم السكوت، فأخذتني ذِلّة. فمن درس علماً فأتقنه، ثم بسط نظره في علوم أخرى، كان أعظم همة ممن درس علماً، ثم قعد لا يلقي لغيره من العلوم بالاً، ولا يعرف لثمرها اللذيذ طعماً. كان لطلاب العلم في الشرق حرص على أن يستكثروا من العلم، ويضعوا أيديهم في فنون شتى، وما كانت رغبة الواحد منهم في الاطلاع على العلوم والفنون بعائقة له عن أن يرسل نظره في بعضها حتى يرسخ فيها فهماً، ويأخذ بأطرافه علماً، ويرقى إلى المنزلة التي تسمى: "تخصّصاً". فشيخ الإسلام ابن تيمية كان طوداً راسخاً في علوم الشريعة، وأضاف إلى رسوخه في هذه العلوم أن بلغ في علوم اللغة مرتبة تخوله أن يخطئ سيبويه في نحو أربع عشرة مسألة في علم النحو. وهذا حجة الإسلام الغزالي كان متضلعاً من علوم الشريعة ووسائلها، وجمع إلى تضلعه في هذه العلوم أن كان يهاجم الفلاسفة في كثير من آرائهم، ويناقشها بمنطق وروية. وهذا القاضي عبد الوهاب بن نصر كان فقيهاً نحريراً، وأديباً فائقاً، وهو الذي يقول فيه أبو العلاء المعري:

والمالِكيُّ ابنُ نَصْرٍ زارَ في سَفَرٍ ... بلادَنا فحمِدْنا النَّأْيَ والسَّفَرا إذا تفقَّهَ أحيا مالِكاً جَدَلاً ... وينشُرُ المَلِكَ الضّلِّيلَ إنْ شَعَرا فعظم الهمة يدعو طلاب علوم الشريعة الإسلامية أن يمدوا أنظارهم إلى هذه العلوم الحديثة؛ ليكونوا منها على بصيرة، وليزدادوا بها بينة على بيناتهم المفحمة لهذه الفئة التي تزعم أن بين الدين والعلم خلافاً، وأن من العلم ما لا يستقر مع حقائق الدين في نفس واحدة. ومن عظم همة القائم على بعض هذه العلوم الحديثة: أن يأخذ نفسه بالاطلاع على حقائق الإسلام وآدابه؛ ليحرز بها الكمال والسعادة، وليتعالى عن أن يمشي وراء نفر يجتمعون على أن يحاربوا ما في هذا الدين القيّم من حكمة وفضيلة. تتفاوت الهمم في العلم الواحد من ناحية الاطلاع على مسائله، ثم من ناحية التصرف في هذه المسائل بتحقيق النظر، وإجادة البحث. فطالب العلم الذي لا يدع باباً من أبوابه إلا ولجه، ولا يغادر بحثاً من مباحثه المهمة إلا ألمَّ به، يكون أعظم همة ممن لا يطرق منه كل باب، أو لم يعرج فيه على كل مسألة قيمة. وطالبُ العلم الذي يخوضه بنظر حر، ويتناول مباحثه بنقد وبصيرة، يكون أعظم همة ممن يجمع مسائله حفظاً، ويتلقاها كما يتلقاها "حاكي الصّدى"، لا يكلفك غير إملائها عليه. وطالب العلم الذي يتحرى لبابه، ويجول في أصوله، يكون أعظم همة ممن يقضي الزمن في قشوره، ويحبس النظر في دائرةٍ ضيقة من فروعه. وكذلك ترى الأستاذ النحرير يبخل بأوقاته النفيسة عن أن ينفقها في

مناقشات واهية، وإنما يندفع إلى الخوض في حقائق العلم، والغوص على أسراره، وإذا توجهت إلى نقد عبارة مؤلف، فإنما يمس الخلل الذي يشوه صورة المسألة التي هي موضع البحث. هذا والأمل معقود على أن هذه المعاهد والمدارس، تُنبت لنا رجالاً تعظم هممهم، فيجمعون من العلوم ما يجعل الشرق بحراً زاخراً، ويسيرون في كل علم سيرة الباحث الذي يفتح فيه طرقا قيمة، ويجعل نتائجه في تجدد ونماء. * عظم الهمة في النصح والإرشاد: في سبيل الدفاع عن الحق، أو الدعوة إلى الإصلاح عقبة لا يقتحمها إلا ذوو الهمم الكبيرة؛ فإن في طوائف المبطلين أو المفسدين نفوساً طاغية، وأحلاماً طائشة، وألسنة مقذعة، وربما كانت فيهم أَيدٍ باطشة، وأرجلٌ في غير الخير ساعية. فأنصار الحقيقة ينصبون أنفسهم أمام هذه الشرور كلها، وإنما تعظم هممهم على قدر ما يتوقعونه من فقد محبوب، أو لقاء مكروه، فالذي ينكر على الحكام خرقاً في السياسة، أو حيفاً في القضاء، يكون أعظم همة ممن لا يحمي الحقيقة إلا إذا عبثت بها أيدي الضعفاء، والذين لا يجدون ما ينفقون. يتمثل لكم عظم الهمة في منذر بن سعيد قاضي قرطبة، حين قام في خطبة الجمعة ينكر على الخليفة عبد الرحمن الناصر إسرافه في الإنفاق على تشييد المباني وزخرفتها، وأخذ يلقي الخطبة في كلام جزل افتتحه بقوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 128 - 130]، وسلك ذلك الكلام الجزل،

وهو على علم بأن الخليفة حاضر مستمع إليه، ولكن الخليفة انصرف بعد أن قضيت الصلاة، ولم يزد على أن صار يصلي في جامع لا يخطب فيه منذر ابن سعيد. يشهد العالِمان الرجلَ من ذوي الشأن يعمل عملاً غير صالح، وأعظمُهما همة هو الذي يسبق إلى إنكار عمله، وتذكيره بسوء عاقبته. دخل عثمان بن إدريس، ومننر بن سعيد البلوطي على الخليفة الناصر وهو في الزهراء، فأنشد أبو عثمان أبياتاً أطرى بها الخليفة على هذا البناء، فابتهج الناصر، واهتز لهذا الإطراء، أما منذر بن سعيد، فإنه أطرق رأسه ساعة، ثم رفع رأسه وقال: يا بانيَ الزَّهْراءِ مُسْتَغْرِقاً ... أوقاتَهُ فيها أما تُمْهِلُ للهِ ما أحسنَها رَوْنَقاً ... لَوْ لَمْ تكُنْ زهْرَتُها تَذْبُلُ فقال الناصر: إذا هبَّ عليها نسيم التذكار، وسقتها مدامع الخشوع، لا تذبل إن شاء الله. فقال منذر: اللهم اشهد، فإني قد بثثت ما عندي، ولم آلُ نصحاً. وأصاب منذر فيما قال، فقد ذبلت زهرة الزهراء، وتهدمت قصورها يوم قام محمد بن هشام على بني عامر، وانتزع الملك من أيديهم، واستولى على قرطبة سنة تسع وتسعين وثلاث مئة. وإذا كانت الدعوة من معالي الأمور، فنهايتها التي يبلغها الداعي المصلح أن يرشد إلى ما يراه حقاً، وبحذر مما يراه منكراً، غير حافل بما يحفل به ضعيف الإيمان، أو قليل الإخلاص من رضا الملأ الذين استكبروا. رفع القرآن مكان الدعوة، ثم جعل الدعاةَ إلى حق أو إصلاح خير أمة

أخرجت للناس. وقد خرج بفضل القرآن رجال عظمت هممهم، فكانوا يؤثرون الحق والنظام على منافعهم الخاصة، ويحتملون في سبيل النصح والإرشاد ما تدعوهم الحكمة إلى احتماله من فقد السرَّاء، أو لقاء الضرَّاء. وسنرى - بتوفيق الله تعالى - من هذه المعاهد والمدارس رجالاً كثيراً يقدرون عظم الهمة في النصح للأمة، وينهضون بهذا الواجب ضاربين بمنافعهم الخاصة إلى وراء. وإذا فاتهم أن يروا ثمرة جهادهم بأعينهم، ففي شرف الجهاد وإنارة السبيل للأجيال القابلة كفاية.

الإسلام والمدنية الحديثة

الإسلام والمدنية الحديثة (¬1) قد تدرك العقول بنفسها حسن الأفعال أو قبحها لأول نظرة، أو بعد تأمل صروية، وتتفاوت العقول في إدراك حسن الأفعال وقبحها، حتى إن الفعل الواحد قد يبدو لعقل حسناً، ولعقل آخر قبيحاً، وقد يكون في بعض الأفعال وجه من الحسن أو القبح لا تجتليه العقول، فتقف تجاهه غافلة عنه، أو مشتبهة في أمره. ولاختلاف العقول في إدراك حسن الأشياء وقبحها، اختلفت المذاهب، وتعددت الفرق: إلى عبّاد النار، وعبّاد الكواكب، وعبّاد الأحجار، وعبّاد بعض الحيوان، واختلفت الآراء في مظاهر العبادات، وفي القوانين التي تساس بها الرعايا، وفي العادات، هذا يستحسن أمراً، وهذا يستهجنه. وعلى فرض أن تكون العقول متفقة أو متقاربة في إدراك الحقائق والمصالح، فهناك قوة في النفس قد تعارض العقل، وتشق عصا طاعته في كثير من الأحيان، وهي الإرادة، فقد يدرك الإنسان حسن شيء، وتأبى إرادته أن تتجه إليه، أو يدرك قبح شيء، وتنصب عليه إرادته، فإن الإرادة؛ قد تنبعث عن علم صحيح، وقد تسوقها أهواء طاغية، أو عادات مستحكمة. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني من السنة الأولى، الصادر في أول شوال 1366 هـ - 17 أغسطس 1947 م - القاهرة.

فالناس في حاجة إلى قوة تفيض أشعتها على العقول، فتتقارب في إدراك الحقائق والمصالح، وتوجه الإرادة إلى ما أدرك العقل حسنه، أو تصرفها عما أدرك العقل قُبْحه، وليست هذه القوة سوى: الدين الحق. فالدين يهدي العقول إلى ما تغفل عنه، أو تقصر عن إدراكه من وجوه الإصلاح، ويروّض الإرادة حتى تساير العقل في اتجاهه السديد. وللدين مزية أخرى في إصلاح المجتمع، هي أن البراهين القائمة على أنه وضع إلهي، تكسو أوامره مهابة، فتتلقى بالطاعة في السر والعلانية. ومن مزايا الدين في الإصلاح: أن المؤتمِرَ بأوامره يشعر بأنه يعمل ابتغاء رضا الخالق - جلّ شأنه -، فهو يرجو الجزاء الأكبر في حياته الأخرى، زيادة على أن عمله الصالح كلبنة في رقي أمته، أو حلقة في نظام حياتها المطمئنة، وذلك الشعور يزيد عزمه على القيام بالأعمال الجليلة شدة، وبحثه على أن يتحرى بأعماله غاية ما يستطيع من الإتقان. وإذا رأينا في بعض من ينتمون إلى الدين الحق وهناً في العزم، أو صغراً في الهمة، أو ضيقاً في العمل، فالدين بريء من تبعة هذه النقائص، وإنما تبعتها على أصحابها خاصة إن كانوا يعلمون، أو على من يوكل إليهم أمر التعليم، حيث لم يقوموا عليه بكفاية وأمانة. ومن هنا كان تعرُّفُ حقائق الأديان من أحوال المنتمين إليها خطأً مبيناً، وإنما تعرف حقائق الدين من كتابه السماوي، أو حديث المبعوث به، حيث لم يطرأ عليه تغيير أو تحريف. فما وعد الله به أهل الدين من عزة في الدنيا، أو فوز على الأعداء، إنما هو وعد لمن تلقوا ذلك الدين بإيمان يحملهم على أن يمتثلوا أوامره، ويجتنبوا

نواهيه ما استطاعوا، فلا يخالجك ريب في صدق الوعود التي وعد الله بها الموقنين من العزة والسيادة إذا رأيت جماعة أو أمة تنتمي إليه وهي تحت سلطان عدو يذيقها عذاب الهون صباحاً ومساءً، ذلك أن وعد الله حق، وهو موجه إلى من يجيبون داعيه بامتثال أمره في نحو قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]، وباجتناب نهيه في مثل قوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، وقوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]. وإذا كان الدين الحق هو المنظّم لشؤون الأفراد والجماعات على وجه تقصر عنه النظم البشرية، فمن واجب الحكومات الإسلامية متى أرادت الخير لشعوبها، واستتباب الأمن في أوطانها، والمباهاة بعدل محاكمها، وبطولة جنودها، أن تبذل ما لديها من عناية في نشر تعاليم الإسلام بين سائر الطبقات، وأن تستمد قوانيها من تشريعه الواسع النطاق.

صدق اللهجة

صدق اللهجة (¬1) في كل خصلة فاضلة شرف وخير، ولكل خصلة فاضلة أثر في سعادة الجماعة، وقد تتفاوت هذه الخصال بكثرة الحاجة إليها، ومن الخصال التي تكثر مواضع الاحتياج إليها: صدق اللهجة، فلا غنى للجماعة عن أن يكون فيها صدق وحلم، والأحوال التي يحتاج فيها إلى الصدق أكثر من الأحوال التي يحتاج فيها إلى الحلم، ونحن لا نشعر بالحاجة إلى شجاعة السيدات والأطفال، وكل منا يشعر بالحاجة إلى صدق الطفل الآخذ في التردد على المدرسة، وصدق الصانع في مصنعه، والأمير على كرسيه. فالكلمة التي نلقيها في هذه الليلة إنما نصف بها فضيلة شأنها رفيع، وأثرها في الاجتماع كبير، وهي صدق اللهجة. ولا تثريب علينا إذا تناولنا في أثناء بحث هذه الفضيلة نبذة في الحديث عن ضدها، وهو الكذب؛ فإن حقائق الفضائل تتجلى بمعرفة أضدادها. * ما هو الصدق؟ الصدق في لغة العرب: إلقاء الكلام على وجه يطابق الواقع والاعتقاد، ومقتضى هذا الشرح: أن الكلام الذي يخالف الواقع والاعتقاد معاً، أو يخالف ¬

_ (¬1) مجلة "الفتح" - العددان (64 و 65) من السنة الثانية 1346 هـ. 1927 م - القاهرة. محاضرة الإمام في جمعية "مكارم الأخلاق الإسلامية" بالقاهرة.

أحدهما، لا يدخل في حقيقة الصدق، بل يندرج تحت اسم الكذب، والكذب ذو ضروب وألوان. للصدق صورة واحدة، وهي أن تصوغ القول على نحو ما تعتقد، ويكون اعتقادك مطابقاً للواقع؛ كأن تقول وأنت الناصح الغيور: سلطة العدو أمَرُّ من الصبر، وأشد مضاضة من وقع الحسام. وللكذب ثلاث صور: إحداها: ما يخالف الواقع والاعتقاد؛ كمن يتملّق فاسقاً أو باغياً، فيصفه بالاستقامة، وهو على بينة من سيرته المغضوب عليها. ثانيتها: ما يخالف الاعتقاد، ويطابق الواقع؛ كالزائغ المنافق ينطق على نحو ما ينطق به أولو الحكمة والهداية. ثالتتها: ما يخالف الواقع، ويطابق الاعتقاد؛ كالغبي يعتقد صلاح بعض الفجّار؛ فيصفه بالولاية أو التقوى. هذه صورة الكذب في مجاري كلام العرب، وقد رأيتموها ممثلة في المتملق والمنافق والغبي. والذي يرجع عيبه إلى الأخلاق العملية من هذه الصور ما جاء الحديث فيه مخالفاً للاعتقاد، وسواء بعد هذه أخالف الواقع أيضاً، وهي الصورة الأولى، أم كان مطابقاً للواقع، وهي الصورة الثانية. وبيان هذا: أن الباحث في الأخلاق العملية، يوجِّه عنايته إلى نفس المتكلم حين إلقائه الحديث، وينظر إلى اعتقاده وما بينه وبين الحديث من مطابقة أو مخالفة، فإن وجد الرجل يسوق الحديث على غير ما يعتقد، وضع عليه اسم الكذب، وعدّه في جملة هذه الرذيلة الساقطة، ولو اتفق لحديثه أن كان مطابقاً للواقع، وان وجده يلقي الحديث على نحو ما يعتقد، لا يعده في

أصحاب رذيلة الكذب، وإن لم يجئ حديثه موافقاً للواقع. وهذا الذي تحدث عن اعتقاد، وجاء حديثه مخالفاً للواقع، لا يرميه الباحثون في الأخلاق بسبّة الكذب، وقد يؤاخذ من جهة أخرى، وهي انقياده إلى الظنون الواهية، وحديثه عن الأمر قبل التثبت من أنه حقيقة واقعة. فالكذب في إطلاق علماء الأخلاق ينصرف إلى من يحدثك بالأمر، وهو يعتقد أنه غير واقع، ومعظم ما ورد في الشريعة من ذم الكذب محمول على أولئك الذين تنطق عليك ألسنتهم بأشياء يزعمون أنها واقعة، وقلوبهم تنكرها. * الاحتراس في صدق اللهجة: يحدثك الرجل عن أشياء يحس بها في نفسه؛ كالحب والبغض، والعطش والري، ويحدّثك عن أمور يدركها بمحسّاته الخمس: البصر والسمع وغيرهما. وهو فيما يدركه بإحساسه الباطن، أو إحساسه الظاهر يستطيع ألا يحدثك إلا بما يطابق الواقع والاعتقاد، فالرجل الصادق لا يقول: "أحببت" وهو يبغض، ولا يقول: "سمعت"، أو "رأيت" إلا إذا سمع أو رأى. وقد يحدثك عن حادثة تلقّى خبرها عن طريق الرواية، أو يحدثك عن أمر أدركه على وجه النظر والاستدلال، وهذان الصنفان هما يعثران به في مخالفة الواقع أحياناً، وينزلان به إلى أن تحوم حوله الظنون. فعلى صادق اللهجة أن يحترس فيما يتحدث به عن رواية، أو يتحدث به عن ظنٍّ واستنباط. والاحتراس في الأخبار التي تجيء من طريق الرواية: أن لا يحدث بها قبل أن ينقدها نقداً بالغاً، وإن بدا له أن يخبر بها على نحو ما سمعها، فليذكر أسماء رواتها حتى يبرأ من عهدتها.

والاحتراس في الحديث الذي يستند فيه إلى ظن وأمارة: أن لا يطرحه إلى الناس في صورة المقطوع به، بل ينبه على أنه تحدث به على وجه الظن؛ كما يصنع كثير من الملأ الذين يعافون الكذب، ويريدون أن يجعلوا بينه وبين ألسنتهم حجاباً مستوراً. فسياج صدق اللهجة: الاحتراس في الحديث المستند إلى رواية أو ظن، ومن حدثك بما علم، واحترس فيما روى أو ظن، فقد قضى حق فضيلة الصدق ووفى. * صدق اللهجة والمجاز: لا يخرج عن حدود الصدق ما يجري على ألسنة البلغاء من ضروب الكناية وفنون المجاز؛ كأن تقول لشخص: جئتك ألف مرة، تكنى بالألْف عن كثرة التردد، ولا تريد بها عدد المرات. وكأن تقول: رأيت أسداً مخلبه الحسام، وأنت تريد بطلاً لا يلوي جبينه من منازلة الأقران. وقد جاء في كتب الأصول: أن قوماً منعوا أن يكون في القرآن مجاز، وهم الظاهرية، ولا شبهة لهؤلاء إلا زعمهم أن المجاز من قبيل الكذب، والقرآن قول فصل وما هو بالهزل. وهذه الشبهة مدفوعة بقيام القرينة الدالة على أن المتكلم لا يقصد سوى معنى المجاز، وإذا كان قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]. يحتوي قرينة تنفي أن يكون المراد من الظلمات: سواد الليل، ومن النور: بياض الشمس والقمر والسراج، لم يكن هناك إخبار بما يخالف الواقع أو الاعتقاد، حتى يتناوله اسم الكذب الذي لا يحوم على كتاب الله في حال، وإنما الكذب ذلك الإغراق أو الغلو الذي يضعه الشاعر خيالأ بحتاً؛ كقول بعضهم:

ليْسَ ذا الدَّمْعِ دَمْعَ عَيْني ولكِنْ ... هِيَ نَفْسي تُذيبُها أَنْفاسي وقول الآخر: وأخَفْتَ أهْلَ الشِّرْكِ حتّى إِنَّهُ ... لتَخافُكَ النُّطَفُ الّتي لم تُخْلَقِ * صدق اللهجة والقصص الخيالية: القصص الخيالية ضروب: أحدها: ما يحكى على ألسنة الجماد أو الحيوان، كقصة كليلة ودمنة. ثانيها: ما يحكى على ألسنة ذوي نفوس ناطقة، ويدل المتكلم بالقرينة أو بالصريح من القول على أنه اخترعها لتكون مأخذ عبرة أو أدب لغة؛ كما صنع أبو القاسم الحريري في "مقاماته". وهذا الضربان من قبيل الإخبار بما يخالف الواقع والاعتقاد، والذي يستر عيب الكذب هنا: أن المتكلم لم يوقع المخاطب في غلط وسوء تصور، وإنما يعرض عليه حكمة، أو أدب لغة في أسلوب طريف. ثالثها: ما يحكيه الرجل على ألسنة ذوي نفوس ناطقة، ويدل ولا ينبه على أن القصة غير واقعة، وهذه أيضاً خارجة عن حد الصدق إلى مكان بعيد، ولو كان الداعي إلى وضعها ما تحتويه من عبرة أو أدب لغة. فالذين يزعمون أن في القرآن قصصاً غير واقعة، وأنها سيقت لما تحتويه من موعظة، لا يريدون إلا أن يطعنوا في القرآن، ويخادعون المؤمنين، والمؤمنون لا يخدعون. * صدق اللهجة وإخلاف الوعد: الوعد: إخبار عما ستفعله في المستقبل من إحسان، والصدق والكذب

يجريان في الأخبار المستقبلة كما يجريان في الأخبار الماضية، وقد وصف الله تعالى إسماعيل - عليه السلام - بصدق الوعد؛ لوفائه بما يعد، فقال: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 54]، وإذا كان الوفاء بالوعد يجعله صادقاً، فإخلافه يجعله كاذباً لا محالة. وقد اختلف أهل العلم - بعد هذا - في لزوم الوفاء بالعهد، فذهبت طائفة إلى أن من وعد شخصاً بإحسان، وجب عليه إنجاز ما وعد، وقضي عليه بأدائه، وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ورجّحه أبو بكر بن العربي في "عارضة الأحوذي"، فقال: "والصحيح: لزوم الوعد، وخلفه كذب ونفاق". وذهبت طائفة أخرى إلى أن الوفاء بالوعد من مكارم الأخلاق، وأن صاحبه يملك الرجوع عنه، وإذا بدا له أن يرجع، فليس للقاضي عليه من سبيل. وذهب جماعة من فقهاء المالكية إلى تفصيل، وهو أن الوعد المطلق غير لازم، وأما الوعد المنوط بسبب، فإنه يصير بمنزلة الدَّيْن الذي لا مناص له من قضائه، ومثال هذا: أن تقول لشخص: تزوَّجْ وأنا أدفع المهر، فإذا تزوج، كان للحاكم أن يقضي عليك بدفع المهر قضاء نافذاً. * صدق اللهجة وإخلاف الوعيد: الوعيد: إخبار عما ستفعله من شر، فإخلافه يجعله كالوعد المخلَف قولاً كاذباً. والرجل الذي يوعِدُ آخر، ثم يضرب عنه عفواً، إنما يمدح من جهة أن مصلحة إخلاف الوعيد أرجح من مصلحة إنفاذه، ففضيلة العفو تغمر عيب الكذب، وتجعله في نظر الأخلاق شيئاً منسياً. ولتضاؤل نقص

الكذب تحت عظيم فضيلة العفو، ساغ للإنسان أن يمتدح بإخلاف الوعيد الذي يقول: وإنّيَ إنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لأُخْلِفُ إيعادي وأُنْجِزُ مَوْعِدي ولا شك أنّ من يقرن الوعيد بنحو المشيئة، يحميه أن يجعل إخلافه كذباً، ولكن الوعيد شأنه أن يصدر في حال غضب لا يملك صاحبه النظر إلى العواقب، فهو لا يكاد يلفظ به إلا بعد عزم وتصميم. * صدق اللهجة والمعاريض: في هذه الحياة بلاء، وأشد بلالها ما يمنعك من أن تقضي حق فضيلة. فقد يلاقي الإنسان حالاً ترغمه على أن ينطق بما يكره، ويسلك في القول ما لم يألف. ولو وقف علم الأخلاق أمام هذه الأحوال المرغمة صلباً جامداً، لضاقت سبيله، ووجد بعض النفوس للخروج على أمره عذراً بينّاً، وقد وجدنا علم مكارم الأخلاق - الذي رفع الإسلام قواعده - فسيح الصدر بمقدار ما يسع مقتضيات الحياة الفاضلة. فصدق اللهجة يعدّ من الفضائل؛ نظراً إلى ما هو شأنه من حفظ المصالح، ودرء المفاسد، ولو عُرضت على وجه الندرة حال يكون حديث الرجل فيها على نحو ما يعلم جالباً عليه أو على غيره ضرراً فاحشاً، لوجد في قانون الأخلاق مرونة تسمح له بأن يصوغ حديثه في أسلوب لا يجلب ضرراً. فإذا وقع الإنسان في حال لا يليق معه التصريح بأمر واقع، ولم يكن بد من أن يقول في شأنه شيئاً، فهاهنا يفسح له - بمقتضى قانون الأخلاق الذي أتقن الإسلام صنعه - أن يأخذ بالمعاريض، وهي ألفاظ محتملة لمعنيين، يفهم السامع منها معنى، ويريد المتكلم منها معنى آخر، وإن شئت فقل: هي

ألفاظ ذات وجهين: أحدهما: غير حقيقة، وهو ما يسبق إلى فهم المخاطب. وثانيهما: حقيقة، وهو ما يقصده المتكلم، ويحق لك أن تسمي اللفظ من أجله حديثاً صادقاً، وهذا ما يفعله الذين أشربوا صدق اللهجة متى عرفوا أن في القول الصريح حرجاً أو خطراً. وما يساق مثلاً لهذا: أن أبا بكر الصديق كان يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريق هجرتهما من مكة إلى المدينة، وهو يريد كتم أمره، فيقول: هذا يهديني السبيل. يريد أبو بكر من السبيل: سبيل الخير والسعادة، ويحملها السائل على الطريق التي يسلكها المسافرون. وما كانوا يرضون عن الحديث ذي الوجهين، إذا عمد إليه الرجل لغرض غير صالح. قال عبد الله بن عقبة: دخلت مع أبي على عمر بن عبد العزيز، فخرجت وعليّ ثوب، فجعل الناس يقولون: هذا كساكَهُ أمير المؤمنين؟ فكنت أقول: جزى الله أمير المؤمنين خيراً، فقال لي أبي: يا بني! اتق الكذب وما أشبهه. نهاه عقبة عن إجابة السائلين بقوله: جزى الله أمير المؤمنين خيراً؛ لأنه يلقي في أذهانهم أن الخليفة هو الذي خلع عليه هذا الثوب، ولا داعي له إلى أن يجيبهم بهذه الجملة التي يتبادر منها غير الواقع سوى قصد الفخر، والفخر بإصابة حظوة عند الأمراء - ولو كان مثل عمر بن عبد العزيز - لا يحسب في الأغراض المحمودة، حتى يحل للرجل أن يرتكب له حديثاً ذا وجهين. عني الإسلام بصدق اللهجة جهد العناية، ويريد مع هذا للأمة إخاء وائتلافاً، يجعلها كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ويريد لجيشها الفوز على أعداء

يهاجمون أن يتحفزون، ويرغب في أن يكون الزوجان على وفاق، وحياتهما في نظام، لهذا خفّف المصطفى - صلوات الله عليه - في الكلمة يقولها الرجل ليطفئ عداوة استعرت بين طائفتين، أو يقولها في حرب؛ ليكفي قومه قارعة تسلط الأعداء، أو ليسكت غضب زوجته الصالحة. وقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في تأويل الحديث إلى أنه أذن في المعاريض، فذكر هذا الحديث الذي يروى في استثناء الحرب والإصلاح وإسكات غضب الزوجة، ثم قال: "ولكن ذلك بالمعاريض، وهي الألفاظ التي يفهم منها السامع خلاف ما يريد القائل، فهذا هو المأذون فيه". * أثر صدق اللهجة في سعادة الفرد: يتحلّى الإنسان بأدب الصّدق، فيشرف قدره، وتطيب حياته، ويصفو باله. أما الشرف، فلأن الصدق يدل على نقاء السريرة، وسمو الهمة، ورجحان العقل، كما أن الكذب عنوان سفَهِ العقل، وسقوط الهمة، وخبث الطوية. وقد جاء في حديث أكمل الخليقة ما يرشد إلى أن الصدق حسنة تنساق بصاحبها إلى حسنات، وأن الكذب سيئة تنجَرُّ به إلى سيئات، قال المصطفى - صلوات الله عليه - فيما رواه الإمام البخاري: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة. وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً". ولا يستقيم لأحد سؤدد، أو يحرز في قلوب الناس مكانة، إلا حيث يهبه الله لساناً صادقاً. وإذا ابتغى الكذب منزلة، فإنما يتبوؤها بين طائفة ضُربت

على أدمغتهم الغباوة، أو طائفة تؤثر اللهو على الجد، ويشغلها الخداع عن النصيحة. وأما طيب العيش، فإن الناس لا يطمئنون إلا إلى معاملة الصادق الأمين، وشأنهم الانصراف عمن ألفوه يضع الكلمة في غير واقع. وقد يحرص التاجر أو الصانع على درهم أو دينار يقتنصه بكلمة غير صادقة، فإذا هو يضيع سمعة طيبة، وربحاً وافراً. ومن الشاهد: أن الصدق يكسب الرجل وقاراً، ويلقي له المودة في عشيرته والناس أجمعين. واحترام الناس للرجل مما يدعوهم إلى النصح في صحبته، وإذا وضع بين أيديهم شأناً من شؤونه الحيوية، قاموا عليه بإخلاص. وأما صفاء البال فمن ناحيتين: أولاهما: أن مرتكب الرذيلة لا بد أن يحس بوخز في ضميره، ويسمّى: توييخ الضمير، والكذب من أفظع الرذائل، فوخزه في الضمير غير يسير، ومتى سار الإنسان في طريق الصدق، وأقام بينه وبين الكذب حصناً مانعاً، عاش في صفاء خاطر، وراحة ضمير، ولم يكن لهذا الوخز النفسي عليه من سبيل. أخراهما: أن من يلطخ لسانه برجس الكذب، لا بد من أن تبدو سريرته، ويجر عليه شؤم هذه الرذيلة شقوة، فلا يلاقي من الناس إلا ازدراء، وربما رموه بالتوبيخ في وجهه. أما صادق القول، فإنه يظل ضافي الكرامة، آمناً من مثل هذا الخطاب المشين. * أثر صدق اللهجة في سعادة الجماعة: تسعد الجماعة وتنتظم شؤونها على قدر احتفاظها بفضيلة الصدق،

فالمعاملات؛ كالبيع، والإجارة، والقرض، والشركة لا يتسع مجالها ويستقيم سيرها إلا أن تديرها لهجة صادقة، والأمة التي تسود فيها فضيلة صدق اللهجة، حتى يكون القائم بأي عمل موضع ثقة الجمهور، تتقدم حالتها الاقتصادية، ولا يجد عدوها الوسيلة إلى مزاحمتها في نحو التجارة والصناعة. والصداقات التي تجعل أفراد الأمة كالجسد الواحد، إنما يشتد رباطها على قدر ما يكون لهؤلاء الأفراد من الاحتفاظ بصدق اللهجة. وقد يكون للكاذب صديق من صنف أصدقاء المنفعة، ولكنه لا يستطيع أن يتخذ من إخوان الفضيلة صديقاً حميماً. فالذي يستهين بالكلمة الكاذبة يطلق بها لسانه، يؤذي نفسه، ويرهق المجتمع خللاً وفساداً، فالكاذب لا يعد عضواً أشل فقط، وإنما هو عضو يحمل دماً مسموماً لا يلبث أن يسري إلى الأعضاء المتصلة به فيؤذيها. * أثر صدق اللهجة في العلم: يمرق الرجل من فضيلة الصدق على طرق شتى، وأبعد هذه الطرق ضلالاً: أن يتحدث في العلم بما ليس من العلم، أو يضيف إلى أحد قولاً لم يصدر عنه، يفعل هذا من يرغب في التفوق على قرين ينافسه، أو يرغب في أن تطير له سمعة أعلى من منزلته، ومن يحاول التفوق على قرينه بزخرف من الباطل، فهو أخو الساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى. ومن رضي بأن تكون سمعته فوق منزلته، فإن وراء السمعة عقولاً تزن الرجال بالآثار، فلا يدعون السمعة تغلو في طيرانها، بل يأخذون بناصيتها، ويهبطون بها إلى أن تكون مع منزلة صاحبها على سواء. ولو أيقن أولئك الذين يدسون ما ليس من العلم: أن من حولهم

بصائر نافذة، وأقلاماً ناقدة، لما انسلخوا من لباس الصدق، ولكنهم قوم لا يوقنون. يتحدث العالِمُ في غير صدق، فتذهب الثقة به من القلوب، ويذهب معها شطر علمه، وهو ما يرجع إلى النقل والرواية. وكم من منتمٍ إلى العلم اطلعوا له على اصطناعه خبراً، فطرحوه من حساب الموثوق بنقلهم! وكذلك الرجل يخرج عن أدب الصدق مرة، فيتعدى شؤمُ الكذب إلى سائر أقواله، فتوشك أن تذهب كما يذهب هذيان المبرسمين هزؤاً. كذَبْتَ ومَنْ يَكْذِبْ فإنّ جَزاءَهُ ... إذا ما أتى بالصَّدْقِ أنْ لا يُصَدَّقا * علل التهاون بصدق اللهجة: ينحرف الرجل في حديثه عن قصد السبيل لدول مقبوحة، ومآرب دنيئة. وليس في وسعنا ذكر هذه الدواعي والمآرب، وإنما نسوق منها أمثلة تريكم أن من لا يقدر قيمة الصدق قد يبيعه بثمن بخس، وكل ما يرضى به ثمناً للصدق فهو بخس، ولو حثوا له من هذه الصفراء والبيضاء ما لا يأتي عليه حساب. ينحرف الرجل عن الصدق ليتملق ذا مقام وجيه، وليتزلف إلى ذوي المقامات الوجيهة بقول الزور، إلا من صغرت نفسه، وضاق عليه مجال القول الصائب الحكيم. نحن نعلم أن بعض ذوي المناصب قد مسخت فطرهم، فلا يرضون عمن يجلس إليهم إلا أن يدخل عليهم من باب التملق والنفاق، ونعلم - مع هذا - أن كرم الأخلاق يدعوك إلى أن ترعى حرية ضميرك، وتحافظ على صدق لهجتك، فأجب داعيه، وذر الذين يحبون أن تشيع فاحشة الملق في

الأمة؛ فإنهم قوم لا يفقهون. ينحرف الرجل عن الصدق ليُغرِب على الناس، ويريَهم أنه صاحب سمر؛ حتى يخف عليهم ظله، ويرغبوا في منادمته، وإنما يفعل هذا من يحرص على أن يغشى كل منزل، وتتم به حلقة كل مجتمع. أما من يبتغي الحياة الزاهرة الشريفة، فيتقلد فضيلة الصدق في كل حال، ثم لا يوالي إلا أولي الجد، ولا يبذل خطواته إلا حيث تحترم الحقيقة والفضيلة. وقد ينطوي بعض الناس على عداوة لشخص، فيرميه بمساوئ ليصرف عنه القلوب، ويسقط مهابته من العيون، ولا أشأم على الرجل من أن يناضل عدوه بالبهتان. ومن كانت له حاجة في أن يؤلم أعداءه، فإنه لا يؤلمهم بأشد من احتفاظه بمكارم الأخلاق، ومن أعزّ هذه المكارم: أن يكون حر الضمير، عفيف اللسان. ومن الناس من إذا أخذ يحدثك في شأنه، أو شأن سلفه، أذِنَ لقريحته، فيخترع، وأطلق لسانه، فيرتع في غير واقع، والألمعية تشهد بأن الرجل لا يستطيع أن ينال بمثل هذا الحديث ذرَّة من فخر أو حمد، وربما قام حديثه هذا شاهداً على أنه لم ينشأ في أدب متين، فيطرح نفسه في زراية من حيث يريد أن يرفعها إلى فخار. ومن لا يؤمن بأن خالق الكون يجازي هذه الألسنة على ما تصنع من تحريف أو تزوير، لا يبالي أن يلبس الحقيقة بالباطل، ويصوّر بلسانه أشياء ليس لها في الواقع من مثال. ولا يكاد الملحد يحتفظ بصدق القول إلا حين يريد أن يتشبه بذوي المروءة، وحين يخشى افتضاح زوره، ويخشى من افتضاحه ضرراً.

وانظر في قصة أبي سفيان حين استدعاه هرقل في ركب من قريش، وأخذ يسأله في شأن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنكم تجدون أبا سفيان، وهو زعيم قريش يومئذٍ يقول: "فو الله! لولا الحياء من أن يرثوا عني كذباً، لكذبت عليه"، قال أبو سفيان هذا أيام جاهليته، وهو سيد قومه. أما صدق اللهجة القائم على الإيمان الساطع، فلا يختل نظمه، ولا يختلف غيب صاحبه عن حال علانيته. فمن تصدى لإصلاح جماعة، وعني بأن يجعلهم المثل الأعلى لفضيلة الصدق، فليسعَ لأن يكون إيمانهم بالله راسخاً، والإيمان الراسخ مطلع كل فضيلة.

فضيلة الإخلاص

فضيلة الإخلاص (¬1) خُلق الإنسان ليعرف مبدعه الحكيم، ويعمل في حياته على صراط مستقيم، والعمل القيّم ما كان موافقاً لما رسمه الشارع، وصحبته نية طيبة، فإن كان العمل غير موافق لما ورد عن الشارع، فهو عمل باطل، وإن قصد به صاحبه التقرب إلى الله، وذلك هو البدعة التي سماها النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ضلالة، وإن كان العمل على نحو ما رسمه الشارع، ولكن صاحبه لم يقصد به امتثال أمر الله، فهو مردود على صاحبه؛ لأنه فقد الروح الذي يعطيه حياة وبهجة، وهو الإخلاص. ومدار الإخلاص على أن يكون الباعث على العمل أولاً امتثال أمر الله، ولا حرج على من يطمح بعد هذا إلى شيء آخر، بنعيم الآخرة، أو النجاة من أليم عذابها، بل لا يذهب بالإخلاص - بعد ابتغاء وجه الله - أن يخطر في باله أن للعمل الصالح آثاراً في هذه الحياة؛ كطمأنينة النفس، وأمنها من المخاوف، وصيانتها من مواقف الهون، إلى غير هذا من الخيرات التي تعقب العمل الصالح، ويزداد به إقبال النفوس على الطاعات قوة على قوة. ومن المعروف عند أهل العلم: أن قصد المصلحة الدنيوية من عمل ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الثامن الصادر في شهر رمضان 1354 هـ، والجزء الرابع من المجلد الثامن الصادر في شهر شوال 1354 هـ.

الخير - بعد تحقق قصد الامتثال لأمر الله - لا ينزل عن درجة القبول؛ كأن يقصد من رحلته التجارة مع قصد أداء فريضة الحج، أو يقصد التبرُّدَ بعد قصد التطهُّرِ بالماء لأداء فريضة الصلاة، أو يقصد التلذذ بالعلم بعد أن يقصد الوجه الذي اقتضى أمر الشارع بدراسته، فمن يطلب علوم الدين؛ ليصلح نفسه، ويرشد غيره، أو يدرس فنون الحرب؛ ليدافع عن شريعته، ويحمي ذمار أمته، فلا جناح عليه بعد هذا أن يذكر ما في العلم من لذة، فيزداد ارتياحه، ويقوي نشاطه. حضر الشريف التلمساني وهو صبي درس الأستاذ أبي زيد بن الإمام، فذكر أبو زيد نعيم الجنة، فقال له الشريف: هل يقرأ في الجنة العلم؟ فقال أبو زيد: نعم، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فقال الشريف: لو قلت: لا، لقلت: لا لذّة فيها. فعجب منه الشيخ، ودعا له. والإخلاص يرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقي للفلاح، وهو الذي يحمل الإنسان على مواصلة عمل الخير، فمن يصلي رياء، أو حياء من الناس، لا بد أن تمر عليه أوقات لا ينهض فيها إلى صلاة، ومن يحكم بالعدل ابتغاء السمعة، أو خوف العزل من المنصب، قد تعرض له منفعة يراها ألذ من السمعة، أو يصادفه عهد حكومة يأمن فيه من العزل، فلا يبالي أن يدع العدل جانباً، ومن يدعو إلى الإصلاح ابتغاء الجاه، قد ينزل بين قوم لا يحظى بينهم إلا من ينحط في أهوائهم، فينقلب داعياً إلى الأهواء. وقد أرتنا الأيام أشخاصاً كانوا يظهرون في اعتدال وغيرة على الحق، ثم اتصلوا بنفر من أهل الدنيا يناوئون هداية الله، فلم يكن منهم إلا أن طرحوا ثوب الاعتدال، وصاروا ينطقون بلهجة أولئك النفر في شيء من التورية. ومن يفعل المعروف؛ لتردد ذكره الألسنة في المجالس أو الصحف،

قد يرى بعينه سبيلاً من سبل الخير في حاجة إلى مؤازرة، ولكنه لا يرى بجانبه لساناً أو قلماً شأنه إطراء المؤازرين، فيصرف عنه وجهه، وهو يستطيع أن يمد إليه يده، ويسد حاجته. والإخلاص هو الذي يجعل في عزم الرجل متانة، ويربط على قلبه، فيمضي في عمله إلى أن يبلغ الغاية، وكثير من العقبات التي تقوم دون بعض المشروعات لا يساعدك على العمل لتذليلها إلا الإخلاص، ولولا الإخلاص يضعه الله في نفوس زاكيات؛ لحرم الناس من خيرات كثيرة تقف دونها عقبات. قد يخلص الرجل في بعض الأعمال، ويتغلب عليه الهوى في بعض؛ فيأتي بالعمل صورة خالية من الإخلاص، والذي يرفع الشخص إلى أقصى درجات الفضل والمجد، إنما هو الإخلاص الذي يجعله الإنسان حليف سيرته، فلا يقدم على عمل إلا وهو مستمسك بعروته الوثقى. ولا كون مبالغاً إذا قلت: إن النفس التي تتحرر من رق الأهواء، ولا تسير إلا على ما يمليه عليها الإخلاص، هي النفس المطمئنة بالإيمان، المؤدبة بحكمة الدين ومواعظه الحسنة. فالإخلاص الذي يقوم على الإيمان الصادق، والتهذيب الديني، هو الذي يسمو سلطانه على كل سلطان، ويبلغ أن يكون مبدأً راسخاً تصدر عنه الأعمال الصالحة بانتظام، وهو الذي يجد له صاحبه حلاوة، فيسهل عليه أن يكون أحد السبعة المشار إليهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سَبعة يظلهم الله في ظِلّه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ" إلى أن قال: "ورجل تصدَّقَ بصدقةٍ، فأخْفاها حتى لا تعلم شِماله ما تنفق يمينُه".

وحكى أشعب بن جبير: أنه كان في بعض سكك المدينة، فلقيه رجل وقال له: كم عيالك؟ قال: فأخبرته، فقال لي: قد أُمرت أن أجري عليك وعلى عيالك ما كنتَ حياً، فقلت: من أمرك؟ قال: لا أخبرك، قلت: إن هذا معروف يشكر، قال: الذي أمرني لم يُرِدْ شكرَك. قال: فكنت آخذ ذلك إلى أن توفي خالد بن عبد الله بن عمر بن عثمان، فحفل، له الناس، فشهدته، فلقيني ذلك الرجل فقال: يا أشعب! هذا والله! صاحبك الذي كان يجري عليك ما كنت أعطيك!. هذا فاعل للخير من وراء حجاب، وأين هو من أشخاص لا يتورعون أن يلبسوا الحق بشيء من الباطل، ويزيدون على هذا أن يزعموا أن هذا اللبس إصلاح، ويعلنون بأجهر صوت أنهم مخلصون فيما يقولون أو يفعلون؟!. ولعلك لا تجد أحداً يتصدّى لعمل إلا وهو يدّعي الإخلاص فيما يعمل، ذلك لأن الإخلاص موطنه القلب، والقلوب محجوبة عن الأبصار، واذا وصفت أحداً بالإخلاص، أو عدم الإخلاص، فإنما ترجع في وصفك إلى أمارات تبدو لك من أحواله الظاهرة. ومن هذه الأحوال ما يدلك على سريرة الرجل دلالة قاطعة، ومنها ما لا يتجاوز بك حد الظن، وهذا موضع التثبت والاحتراس، ففي وصف المخادع بالإخلاص، ووصف المخلص بالخدل، ضرر اجتماعي كبير، فإن وثقت بمجرد الظن، لم تأمن أن تقضي على فاسد الضمير بالإخلاص، فيتخذه الناس موضع قدوة، فيستدرجهم إلى فساد صغير، حتى إذا ألفوه، نقلهم إلى فساد كبير، وربما قضيت على طاهر القلب بعدم الإخلاص، فكنت كمن يسعى لإطفاء سراج، والناس في حاجة إلى سُرج تنير لهم السبيل.

والإخلاص الذي يخالط النفوس حتى يكون القابض على عنانها هو في نفسه فضيلة؛ وهو لا ينزل إلا حيث تنزل فضائل كثيرة، فالإخلاص يمد جأش صاحبه بقوة، فلا يتباطأ أن ينهض للدفاع عن الحق، ولا يبالي ما يلاقي في دفاعه عنه من أذى. والإخلاص يشرح صدر صاحبه للإنفاق في بعض وجوه البر، فتراه يؤثرها بجانب من ماله، وإن كان به خصاصة. الإخلاص يعلّم صاحبه الزهد في عَرَض الدنيا، فلا يخشى منه أن يناوئ الحق، أو يلبسه بشيء من الباطل، ولو أمطر عليه أشياع الباطل فضة أو ذهباً. والإخلاص يحمل القاضي على تحقيق النظر في القضايا، فلا يفصل في قضية إلا بعد أن يتبين له الحق. والإخلاص يوحي إلى الأستاذ أن يبذل جهده في إيضاح المسائل، وأن لا يبخل على الطلاب بما تسعه أفهامهم من المباحث المفيدة، وأن يسلك في التدريس الأساليب التي تجدد نشاطهم للتلقي عنه. والإخلاص يصون التاجر عن أن يخون الذي يأتمنه في صنف البضاعة أو قيمتها؛ ويحمل الصانع على إتقان عمله حسب الطاقة. والإخلاص يردع قلم الكاتب عن أن يقلب بعض الحقائق، أو يكسوها لوناً غير لونها؛ إرضاء لشخص أو طائفة. وإذا كان للإخلاص هذه المآثر العظيمة، فحقيق علينا أن نربّي الناشئين على أن يكونوا مخلصين في كل ما يقولون أو يفعلون، ونلقِّنَهم ماذا يناله المخلص من حمد وكرامة وحسن عاقبة؛ لكي تُخرِّجَ لنا معاهدُ الدين والعلم رجالاً يقوم كل منهم بالعمل الذي يتولاه بحزم وإتقان.

الأمانة في العلم

الأمانة في العلم (¬1) فلاح الأمة في صلاح أعمالها، وصلاح أعمالها في صحة علومها، وصحة علومها أن يكون رجالها أمناء فيما يروون أو يصفون، فمن تحدث في العلم بغير أمانة، فقد مسّ العلم بقرحة، ووضع في سبيل فلاح الأمة حجر عثرة. لا تخلو الطوائف المنتمية إلى العلوم من أشخاص لا يطلبون العلم ليتحلوا بأسنى فضيلة، أو لينفعوا الناس بما عرفوا من حكمة، وأمثال هؤلاء لا تجد الأمانة في نفوسهم مستقرًا، فلا يتحرجون أن يرووا ما لم يسمعوا، أو يصفوا ما لم يعلموا، وهذا ما كان يدعو جهابذة أهل العلم إلى نقد الرجال، وتمييز من يسرف في القول ممن يصوغه على قدر ما يعلم، حتى أصبح طلاب العلم على بصيرة من قيمة ما يقرؤونه، فلا تخفى عليهم منزلته، من القطْعِ بصدقه أو كذبه، أو رجحان أحدهما على الآخر، أو احتمالهما على سواء. قيض الله للسنّة النبوية رجالاً أُشربوا في قلوبهم التقوى، فنهجوا في روايتها نهج أصحاب رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلا يروون إلا ما وثقوا من صحته، وهم بعد هذا الاحتراس البالغ على فريقين: ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - العدد الرابع من المجلد الثاني، الصادر في ربيع الثاني 1350 هـ - القاهرة.

فريق يحافظون في الرواية على الألفاظ، لا يغيرون منها حرفاً، ومن أصحاب هذه الطريقة: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، ورجاء بن حيوة، ومحمد بن سيرين. وفريق من أولئك الراشدين يحافظون فيما يروون من الحديث على المعنى، ولم يروا بأساً في التعبير عنه بلفظ غير لفظ الرواية، على شرط أن يؤدي المعنى كما هو، ومن أصحاب هذه الطريقة: الحسن البصري، والشعبي، وإبراهيم النخعي. اندسَّ بين هؤلاء الأمناء أشخاص يتشابهون في الاستخفاف بصدق اللهجة، ويختلفون في الأغراض التي دعتهم إلى هذا الاستخفاف. فمنهم: الجاهل الذي يحسب أن من طرق الإحسان إلى الدين وضعَ أحاديث للترغيب في بعض ما ندب إليه من أعمال صالحة، كما وضع نوح ابن أبي مريم أحاديث في فضل سور القرآن، وقال: رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق، فوضعت هذه الأحاديث حسبة. ومنهم: المغلوب على رشده، يضع الحديث لنحو تأييد مذهب، أو إصابة عَرَض زائل؛ كأن يصنع حديثاً فيما يوافق هوى ذي سلطان؛ ليزداد عنده حظوة؛ مثل: غياث بن إبراهيم؛ رأى المهدي يلعب بالحَمام، فتصرّف في حديث: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر"، فزاد فيه: "أو جناح". وقد شاء الله تعالى أن يتنبه المهدي لهذه الخيانة، فأنث غياثاً، وترك الحَمام، وأمر بذبحها. ومنهم: الزنديق: يضع أحاديث ليفسد القلوب، ويزعزع الإيمان؛ كما

وضع بعض عباد الأوثان حديث: "لو أحسن أحدكم ظنّه بحجر لنفعه". ونهض باللغة العربية وآدابها رجال طُبعوا على الأمانة، مثل: أبي عمرو ابن العلاء، والمفضّل الضبّي، والخليل بن أحمد، وسيبويه، والأصمعي، وابن الأعرابي، وأبي عمرو الشيباني، ومحمد بن مسلم الدينوري. ولم تخلص اللغة وآدابها من أن ينتمي إليها نفر لا يتحاشون أن يدخلوا فيها ما ليس من حقائقها؛ كقطرب (¬1)، وحمّاد الراوية، ولولا العلماء الذين ينقدون ما يرويه أمثال هؤلاء، لأصيبت اللغة بفساد كبير. وللتاريخ القسط الأوفر من اختلاق الرواة، وتزوير الكتّاب، فكم من حقائق شاخصة حاولوا أن يذهبوا بها هباء! وكم من سِيَرٍ نقية أخرجوها في صورة ما يستحق هجاء! وسِيَرٍ مدنسّةٍ ألبسوها ثوب ما يستأهل ثناء! ومن ناحية المحرومين من نعمة الأمانة في العلم، صدرت كتب مثل كتاب: "الإمامة والسياسة" - المنسوب لابن قتيبة - وصفَتْ كثيراً من أفاضل السلف في غير إنصاف، وولغت في أعراض الصحابة، وهم خير أمة أخرجت للناس، وقد حذّر أهل العلم من التسرع إلى تسليم ما يكتبه المؤرخون في شأنهم، وإنما يعوَّلُ في أخبارهم على الروايات الموثوق بها؛ كالأخبار الواردة على طريق علماء الحديث. وكذلك ترى في غير الحديث واللغة والتاريخ من العلوم رهطاً يمسونها بأيد غير مؤتمنة، ويحشرون فيها ما لا يصح رواية، أو لا يقبل دراية، فيتناولها الجهابذة بالنقد، فينفون خَبَثَها كما تنفي النار خبث الحديد. ¬

_ (¬1) كان متهماً في رأيه وروايته عن العرب "مقدمة التهذيب" لأبي منصور الأزهري.

فالأمانة زينة العلم وروحه الذي يجعله زاكي الثمر، لذيذ المطعم. وإذا قلبت النظر في تراجم رجال العلم، رأيت بين العالم الأمين وقرينه غير الأمين بونًا شاسعًا، ترى الأول في مكانة محفوفة بالوقار، وانتفاع الناس منه في ازدياد، وترى الثاني في منزلة صاغرة، ونفوس طلاب العلم منصرفة عن الأخذ عنه، أو متباطئة. وقد تقرأ كتاباً، فتراه حافلاً بالمسائل النادرة، فيكبر صاحبه في عينك، ومتى عرفت أنه من المطعون في أمانتهم، شعرت بأن شطرًا من ذلك الإكبار قد ذهب، وخالطك الريب في صحة ما أعجبت به من المسائل الراجعة إلى الرواية. كيف تكون منزلة الجاحظ عندك، لو درست حياته، فخرجت مالئاً يدك بالثقة من أنه راوية أمين؟ لا شك في أن الأمانة إذا انحازت إلى مثل ذكاء الجاحظ، وسعة اطلاعه، بلغ صاحبها في الشرف والسؤدد المكانة القصوى، ولكنك تقرأ ما شهد به بعض (¬1) ناقدي علماء العربية من أن الجاحظ غير مأمون فيما يروي، فلا يبقى في نفسك من احترامه إلا ما جاءها من ناحية سعة علمه، وبراعة بيانه. ولا أظنك بعد أن تعلم أن أبا الفرج الأصفهاني صاحب كتاب "الأغاني" غير معدود فيمن يطمأن إلى روايته (¬2)، إلا أن تقرأ كتاب "الأغاني" على أنه كتاب أدب يجمع بين الصحيح والسقيم، حتى إذا أردت تحقيق موضوع تاريخي، لم تعول على ما ينفرد بروايته، فتورده كما تورد ما يرويه ابن جرير ¬

_ (¬1) أبو منصور الأزهري في مقدمة كتاب "التهذيب". (¬2) انظر: "عيون التواريخ" لابن شاكر.

الطبري - مثلاً -، وأنت مطمئن إليه، ولو كنت إذ درست حياة أبي الفرج، وجدتها خالصة مما يخدش في أمانته، لأخذ في نفسك مكانة فوق المكانة التي حازها من جهة سعة اطلاعه، وإتقانه لصناعة التأليف. فالرجل الذي يكون على جانب من العلم، ولا يتصرف فيه بأمانة حصينة، يرمقه الناس بازدراء، وتذهب ثقتهم به، فلا يكادون ينتفعون بما يمكنهم أن ينتفعوا به من معلوماته الصحيحة. وهذا صاعد بن الحسين البغدادي دخل قرطبة أيام المنصور بن أبي عامر، وكان عالماً باللغة والأدب والأخبار، ولكن أهل العلم اختبروه، فوجدوه يتنفّق بالكذب، فأعرضوا عنه، ولم يأخذوا منه شيئاً، وألف كتاباً سماه: "الفصوص" نحا فيه نحو: "الأمالي" لأبي علي القالي، فغلب شؤم ما فيه من كذب على ما فيه من صدق، وكان شكرهم لهذا الكتاب أن طرحوه في النهر. قد يقع الرجل في حال يرى أن الاعتراف فيه بالجهل يذهب بشيء من احترام سائليه له، فيقف بين داعيين: فضيلة الأمانة تدعوه إلى أن يقول: "لا أدري"، وحرصه على أن يبقى احترامه في نفوس سائليه غير منقوص يدعوه إلى أن يستمد من غير الحقيقة جوابًا، وفي مثل هذا الحال يظهر مقدار صلة العالم بمزية الأمانة، فإن كان راسخًا فيها رسوخ الجبل تشتد به العواصف، فلا تزحزحه قيد شعرة، أجاب داعيها، واستيقن أن الاحترام الحق في الوقوف عند حدودها، وإن كانت الأمانة كلمة يقولها بفمه، ويسمعها بأذنه، دون أن تتخلل مسلك الروح منه، آثر لذة الاحترام في ذلك المشهد، وأجاب بما ليس له به علم.

حضر بعض أدباء المغرب مجلس السلطان إسماعيل، أو ابنه محمد، وقرأ هذا الأديب بين يديه صحيفة، فجاءت كلمة: "الوخيد" (¬1)، فقرأها: "الوخيذ"- بالذال المعجمة-، فأرجعه السلطان، فقال ذلك الأديب: إنه - بالمعجمة والمهملة -، فطلب منه شاهداً على ذلك، فارتجل: أقولُ لصاحبي لما ارْتَحَلْنا ... وأشْرَعْنا النَّجائِبَ في الوخيذِ تمتَّعْ من لذيذِ كلامِ حورا ... فما بعدَ العَشِيَّةِ من لَذيذِ وإذا كان هذا الأديب قد خرج من مجلس السلطان في ستر، فقد لقي ما يلقاه المستخفّ بحق الأمانة في العلم، فافتضح أمره، ووعت صحف التاريخ حديثه، فأزرى بقدره. وإذا أبديت في العلم رأياً، ثم أراك الدليل القاطع أو الراجح أن الحق في غير ما أبديت، فمقتضى الأمانة أن تصدع بما استبان لك أنه الحق، ولا يمنعك من الجهر به أن تنسب إلى سوء النظر فيما رأيته سالفًا، فما أنت إلا بشر؛ وما كان لبشر أن يبرئ نفسه من الخطأ، ويدعي أنه لم يقل ولن يقول في حياته إلا صواباً. والأمانة هي التي كانت تحمل كبار أهل العلم على أن يعلنوا في الناس رجوعهم عن كثير من آراء علمية، أو اجتهادات دينية، تبينوا أنهم لم يقولوا فيها قولاً سديداً. تجد هذه الفضيلة في الأئمة المقتدى بهم؛ كمالك بن أنس، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل؛ والفتاوى التي رجع عنها أمثال هؤلاء ¬

_ (¬1) الوخيد للإبل: الإسراع.

العظام منبه عليها في كتب الأحكام، ولا يعد شيء منها فيما يصح الاقتداء به إلا أن يراه بعض المجتهدين صحيح الاستنباط، ثابت الأصل، فحكمه العمل على ما رأى. يُسأَلُ العالم ذو الخلق العظيم عما لا يعلم؛ فلا يجد في صدره حرجاً أن يقول: "لا أعلم". وهذه سيرة علمائنا الأجلاء، يُلقى على الواحد منهم السؤال في العلم الذي علا فيه كعبه، فإذا لم يحضره الجواب، أطلق لسانه بكلمة: "لا أدري" غير مستنكف ولا مبال بما يكون لها من الأثر في نفوس السائلين، وإذا فاته أن يجيب طالب العلم عما سأل، لم يفُته أن يعلمه خلقاً شريفاً هو أن لا يتحدث في العلم إلا على بصيرة، فيحفظ مقامه من أن يرمى بضعف الرأي إن كانت المسألة من قبيل الدراية، أو بقلة الأمانة إن كانت عائدة إلى الرواية، ولأن يقال: سئل فقال: لا أدري، خير من أن يقال: سئل، فقال خطلاً، أو روى ما لم يكن واقعاً. قال ابن هرمز: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول: "لا أدري". والمسائل التي قال فيها كبار العلماء: "لا أدري" بالغة من الكثرة ما لا يحيط به حساب. سأل رجل مالك بن أنس عن مسألة، وذكر أنه أُرسل فيها من مسيرة أشهر من المغرب، فقال له: أخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بها، قال: ومن يعلمها؟ قال: من علم الله. وسأله آخر عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب، فقال: "ما أدري ما هي"، فقال الرجل: يا أبا عبد الله! تركت خلفي من يقول: ليس على وجه

الأرض أعلم منك، فقال مالك غير مستوحش: إذا رجعت، فأخبرهم أني لا أحسن. وقال الكاتبون في سيرته: لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك: "لا أدري"، لفعل. ونقرأ في سيرة الشعبي: أنه سئل عن مسألة، فقال: "لا أدري"، فقال له السائل: فبأي شيء تأخذون رزق السلطان؟ فقال: لأقول فيما لا أدري: "لا أدري". ومن شواهد أمانة محمد بن الأعرابي: أن محمد بن حبيب سأله في مجلس واحد عن بضع عشرة مسألة من شعر الطَّرِمّاح، فكان يقول: لا أدري، ولم أسمع، أفأحدس لك برأي؟!. وقد تخون الرجل ذاكرته، أو تأخذه غفلة، فيقع لسانه في خطأ، وينبه بعد، أو يتنبه من نفسه إلى هفوته، فإن كان على حظ عظيم من الأمانة، بادر إلى إصلاخ خطئه بنفسه، غير مستنكف من الاعتراف بما أخذه من ذهول قلب، أو غلط لسان. حضر أبو بكر بن العربي (¬1) مجلس أبي الفضل النحوي، فسمعه يقول: طلّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآلى، وظاهَرَ، فلما انصرف، قصده إلى منزله، وقال له: أصلحك الله! قلت: إنه - صلى الله عليه وسلم - طلّق وآلى وظاهر، وإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يظاهر؛ فإن الله جعل الظهار منكراً من القول وزوراً، فكان من أبي الفضل أن شكره، ومن ¬

_ (¬1) هكذا وردت هذه القصة في كتاب "الفائق" لابن راشد القفصي، وأوردها أبو بكر ابن العربي في كتاب "الأحكام" على أنها وقعت لمحمد بن قاسم العثماني حين حضر لمجلس أبي الفضل الجوهري.

الغد قال أبو الفضل لأهل مجلسه، بعد أن قرَّب ابن العربي إليه: إني قد قلت لكم بالأمس: إن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طلّق وآلى وظاهر، وإن هذا أرشدني إلى أنه لم يظاهر، وهو كما قال، وإنه شيخي في هذه المسألة. من الأمانة: الرجوع إلى الحق، وهو كمال لا تحرص عليه إلا نفوس ذللت لها سبل المكارم تذليلاً. ومن الأمانة: أن تنقد الآراء، ولا تغمض فيما تراه باطلاً، وإن كان بينك وبين صاحبها صلة الصداقة أو القربى. قدّم أبو جعفر أحمد بن يوسف الفهري للملك المستنصر في تونس كتاباً في النحو، فدفعه المستنصر للأستاذ أبي الحسن حازم، فزار أبو جعفر حازمًا يوماً، فرأى الكتاب بين يديه، فقال: يا أبا الحسن! "وعين الرضا عن كل عيب كليلة"، فقال له حازم: أنت سيدي وأخي، والعلم لا يحتمل المداهنة، فقال له أبو جعفر: فأخبرني بما عثرت عليه، فاراه مواضع، فسلَّمها، وأصلَحها بخطه. ومن أمانة العالِم: أن لا يفتي أو يقضي بما يراه باطلاً، فحرام عليه أن يفتي أو يقضي برأي غيره، وهو لا يتردد في بطلانه، ويبقي النظر في المسائل التي تعود إلى الاجتهاد، ولا يتعدى حكمها مراتب الظنون، وهذا ما يمكن أن يكون موضع اختلاف الفقهاء في قضاء العالِم أو إفتائه بغير مذهبه؛ كأن يقضي بين خصمين من أتباع بعض المذاهب على مقتضى المذهب الذي تقلداه. كان العالم الجليل قاسم بن محمد بن سيّار يفتي في الأندلس بمذهب مالك، وهو يخالفه في كثير من المسائل، فقال له أحمد بن خالد: أراك تفتي

الناس بما لا تعتقد، وهذا لا يحل لك، فقال: إنما يسألونني عن مذهب جرى في البلد فعرف، فأفتيهم به، ولو سألوني عن مذهبي، لأخبرتهم به. وشمهل على العالِم السبيل لإفتاء القوم بمذهب إمام تقلدوه: أن المجتهد - وإن خالف غيره من المجتهدين في بعض الأحكام المستنبطة- يرى أن عادات كل مجتهد ومن يقلدون في مذهبه صحيحة؛ لأنها قائمة على الاجتهاد الذي هو أقصى ما كلفهم الله بالعمل عليه، وليس عليهم أن يكون اجتهادهم مطابقاً لما هو الصواب عند الله. وممن لا يجيز للعالِم أن يحكم بمذهب غير راجح في نظره: أبو بكر الطرطوشي؛ فإنه كان ينكر ما يفعله ولاة قرطبة من أنهم إذا ولوا أحداً القضاء، شرطوا عليه أن لا يخرج عن قول ابن القاسم، وقال: هذا جهل عظيم. والحق أن ولاية القضاة المتبعين لمذهب بعض الأئمة المقتدى بهم - عند فَقْد المجتهدين- صحيحة، ولوَليِّ الأمر أن يشترط عليهم الحكم بالمشهور، أو الراجح في مذهب بعينه عند الولاية؛ ضبطاً للأحكام، وسداً لأبواب اتباع الأهواء، ولا حرج في قضائهم على هذا الشرط، وان حكموا بما لا تطمئن إليه نفوسهم؛ فإن آراء من لم يبلغ رتبة الاجتهاد المطلق أو المقيد تسقط أمام آراء المجتهدين، وليس لها في نظر الشارع من قيمة، أما بالغُ رتبة الاجتهاد، فليس له أن يحكم بغير ما قامت الأدلة القاطعة أو الراجحة على أنه حكم الله الذي شرع لعباده. وإذا كانت الأمانة في العلم منبع حياة الأمم، وأساس عظمتها، زيادة على أنها الخصلة التي تكسب صاحبها وقارًا وجلالة، كان حقاً علينا أن نعطف على نشئنا من طلّاب العلم، ونتخذ كل وسيلة إلى أن نخرجهم أمناء فيما

يروون أو يصفون، ذلك بأن نتحرى في دروسنا الأمانة فيما نروي، ولا نجيب سؤالهم إلا بما ندري، أو بقولنا: "لا ندري". وإذا أوردنا رأيًا استبنّا بعدُ أنه مأخوذ من غير أصل، قلنا لهم في صراحة: قد أخطأنا في الفهم، أو خرجنا على ما تقتضيه أصول العلم. ومن أساليب تلقينهم الأمانة في العلم: أن نتلقى مناقشاتهم بصدر رحب، ولا نقتل آراءهم بالكلمات الجارحة، أو نتعسف في ردها، فندافعها بما نعتقد في أنفسنا أنه غير كاف لدفاعها. وعلى الأستاذ - بعد أن يقوم بحق الأمانة -: ملاحظة سير الطلاب، حتى إذا وقع أحدهم فيما يدل على أنه غافل عن رفعة شأنها، وغزارة فوائدها، أرشده إلى أن العلم بغير أمانة شر من الجهل، وأن ذكاء لا يصاحبه صدق اللهجة نكبة على العقل؛ {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

القضاء العادل في الإسلام

القضاء العادل في الإسلام (¬1) أحاط الإسلام بضروب السعادة هداية وتعليماً، فدلّ على ضرب منها دلالة تقوم بها الحجة، وتقطع عن الناس عذر الجهل به، وله في هدايته درجات؛ فقد يرشد إلى الشيء دون أن يلهج به، أو يلحف في الترغيب فيه؛ حيث يكون سهل المأخذ على النفس، أو يكون في طبيعة البشر ما يسوق إليهح كإحسان الوالد لولده، والسعي في الأرض لابتغاء الرزق. وقد يكون في الأمر ثقل على النفس، وصرف لها عن بعض شهواتها، فلا تكاد تقبل عليه إلا بعزم صميم، ونظر في العواقب بعيدة كإقامة الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وهذا ما يامر به المرة بعد الأخرى، ويسلك في الدعوة إليه أساليب شتى، حتى يأخذ إليه النفوس على تفاوت هممها، واختلاف رغائبها. وكذلك ترى مسلكه في الدعوة إلى العدل في القضاء. يتقدم الخصمان إلى القاضي، وكثيراً ما يجد في نفسه ميلاً - شديداً أو ضعيفاً - إلى أحدهما، يميل إليه لنحو قرابة أو صداقة، أو وجاهة أو غنىً، أو يميل إليه لأنه فقير أو ضعيف، أو خصم لمن يناوئه، وقلّما استطاع القاضي ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - العدد الأول من المجلد الثاني، الصادر في شهر المحرم 1350 هـ - القاهرة.

في هذه الأحوال أن يضع الخصمين من نفسه في درجة واحدة إلى أن يفصل في القضية بما أراه الله من الحق. تلك العواطف التي تثور في القاضي حال النظر في القضية، هي في حكم المعفو عنه، إلا أن يكون لها في رجحان أحد الخصمين على الآخر أثر غير ما تقتضيه البينة وأصول الحكم. شأن تلك العواطف أن تجاذب القاضي، وتناجيه أن ينحو بالحكم نحو منفعة المعطوف عليه، وعلى قدر العطف تكون هذه المجاذبة والمناجاة، ومتى قويتا في نفس لا تخاف مقام ربِّها، ولم تكن على بصيرة مما في لباس العدل من زينة وفخار، نبذت الحق وراء ظهرها، وانحدرت مع عاطفتها إلى هاوية الظلم، وما هاوية الظلم إلا حفرة من النار. هذه العواطف التي تجاذب القاضي وتناجيه أن يرضي خصمًا بعينه، تجعل العدل في القضاء من قبيل ما يثقل على النفس، ويجمح عنه الطبع، فكان من حكمة الدعوة الإسلامية أن تعنى به عناية ضافية، وتدخل إلى الترغيب فيه من أبواب متعددة. عنيت الشريعة بالعدل في القضاء بكل ما هو دعامة لسعادة الحياة، فأتت فيه بالعظات البالغات، تبشر من أقامه بعلو المنزلة، وحسن العاقبة، وتنذر من انحرف عنه بسوء المنقلب، وعذاب الهون. فمن الآيات المنبهة لما في العدل من فضل وكرامة: قوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]، فقد أمر بالعدل، ونبّه على أن خيراً عظيماً ينال الحاكم بالقسط: هو محبة الله له، وما بعد محبة الله إلا الحياة الطيبة في الدنيا، والعيشة الراضية في الأخرى.

ومن الأحاديث الدالة على ما يورثه العدل من شرف المنزلة عند الله تعالى: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن -عَزَّ وَجَلَّ--، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" (¬1)، وهذا كناية عن شدة قربهم من رب العالمين، وفوزهم برضوانه، وفي ذكر: "الرحمن" تربية للرجاء والثقة بأن الحاكم العادل يجد من النعيم ما تشتهيه نفسه، وتلذه عينه، شأن من يكون قريب المنزلة من ذي رحمة وسعت كل شيء. وإن شئت مثلاً من آيات الوعيد، فانظر في قوله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]، تجد الآية تنادى ي بن الفصل في القضايا جريًا مع الأهواء ضلال عن سبيل الله، والضلال عن سبيل الله ملقٍ في شديد من العذاب. ومن ذا الذي يستخف بعذاب وصفه الكبير المتعال بالشدة، ويشتريه بمتاع من هذه الحياة إلا من سفه نفسه، ولم ينفذ الإيمان إلى سويداء قلبه؟. فلهذه الآية أثر بليغ في النفوس المطمئنة بالإيمان. كان أحمد بن سهل جاراً لقاضي مصر بكار بن قتيبة؛ فحدث أنه مر على بيت بكار في أول الليل، فسمعه يقرأ هذه الآية، قال: ثم قمت في السحر، فسمعته يقرؤها ويرددها. فلا عجب أن يكون بكار هذا من أعدل القضاة حكماً، وأشرفهم أمام أولي الأمر موقفاً. ومن الأحاديث الواردة في الوعيد على الجور في القضاء: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام مسلم".

"من ولي القضاء، فقد ذبح بغير سكين" (¬1)، ففي هذا الحديث تمثيل القاضي - إذ يلاقي جزاءه في الآخرة - بأشد الناس عذاباً في هذه الحياة، وهو المذبوح بغير سكين، وهذا حال من يكون حظه من علم القضاء بخسًا، أو يكون خلق العفاف في نفسه واهياً. ويصحُّ حملُ الحديث على معنى الإشارة إلى صعوبة القضاء، حتى كأن القاضي من أجل ما يلاقيه - من تعرف الحق وتنفيذه - من مكاره، ومجاهدة للأهواء، مذبوح بغير سكين، وهو بعد هذا مشعر بسمو منزلة القضاء؛ إذ كان القاضي العادل يضاهي القتيل في سبيل الله؛ بما انقطع عنه من شهوات، وقاساه من آلام، يبتغي أجر الله، والله عنده أجر عظيم. ومما جمع بين الوعد والوعيد: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار، ورجل عرف الحق، وجار في الحكم، فهو في النار" (¬2). وصف هذا الحديث عاقبة من يقضي بالحق على بينة منه، وهي المصير إلى الجنة، وآذن بعاقبة من يقضي على جهل أو جور، وهي المصير إلى النار. ولا يتناول هذا الوعيد العالم بأصول الشريعة يجتهد رأيه، فلا يصيب الحق، ويقضي بما رأى، قرأ الحسن البصري قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79]، وقال: لولا ما ذكر الله ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، والترمذي، وحسَّنَه، وابن ماجه، والحاكم، وصححه. (¬2) رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم.

من أمر هذين، لرأيت أن القضاة هلكوا، فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده. وصف الإسلام ما في العدل من فوز، وأعلن بما في الحيف من شقاء، وكان قضاؤه - صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى لصيانة الحقوق، والتسوية بين الخصوم، ويكفي شاهداً على هذا: أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد إقامة الحد على امرأة مخزومية سرقت، فخاطب قريش أسامة؛ ليكلم رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في إسقاط الحد عنها، فقال- صلوات الله عليه-: "أتشفع في حد من حدود الله؟! " ثم قام فخطب، قال: "يا أيها الناس! إنما ضل من قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف، تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها". رسم - عليه الصلاة والسلام - طريق العدل في القضاء قيّمة غيرَ ذات عوج، وزادها بسيرته العملية وضوحًا واستنارة، فاستبانت لأصحابه في أجلى مظهر، فاقتدوا بهديها الحكيم، وأروا الناس القضاء الذي يزن بالقسطاس المستقيم. انظر إلى قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في رسالته إلى أي موسى الأشعري: "آسِ (¬1) بين الناس في مجلسك، وفي وجهك، وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييئس ضعيف من عدلك". كان للإسلام وسيرة الذين أوتوا العلم من رجاله أثر في إصلاح القضاء كبير، ولا تشرق المحاكم بنور العدل إلا أن يمسك زمامها رشيدُ العقل، راسخ الإيمان بيوم الفصل. ¬

_ (¬1) آسِ؛ سوِّ بينهم، واجعل كل واحد أسوة خصمه.

فتقوى الله تحمل القاضي على تحقيق النظر في كل واقعة حتى يتعرف الحق، ولا يأخذ بأول ما يلوح له من الفهم، وإن تيقن أن قضاءه نافذ، وما له في الرؤساء من معقب. ومن أمراء الأندلس من كان يعزل القاضي متى رأى منه السرعة في فصل القضايا التي تستدير بطبيعتها شيئاً من التروي؛ إذ يفهم من هذه السرعة عدم تحرجه من إثم الخطأ في الحكم. وتقوى الله هي التي تقف القاضي في حدود العقل، لا يخرج عنها قيد أنملة في حال. قيل للقاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي: ألا تؤلف كتاباً في أدب القضاء؟ فقال: "اعدِلْ ومدَّ رجليك في مجلس القضاء، وهل للقاضي أدب غير الإسلام؟! ". وفي سيرة أبي عبد الله محمد بن عيسى أحد قضاة قرطبة: أنه "التزم الصرامة في تنفيذ الحقوق، والحزامة في إقامة الحدود، والكشف عن البيان في السر، والصدع بالحق في الجهر، ولم يهب ذا حرمة، ولا داهن ذا مرتبة، ولا أغضى لأحد من أرباب السلطان وأهله، حتى تحاموا حدة جانبه، فلم يجسر أحد منهم عليه". ونقرأ في وصف إبراهيم بن أبي بكر الأجنادي أحدِ قضاة مصر: أنه "كان لا يقبل رسالة ولا شفاعة، بل يصدع بالحق، ولا يولي إلا مستحقاً". وامتحن عبد الله بن طالب - أحد قضاة القيروان -، فكان يقول في سجوده وهو في السجن: "اللهم إنك تعلم أني ما حكمت بجور، ولا آثرت عليك أحداً من خلقك، ولا خفت فيك لومة لائم".

ووصف المؤرخون محمد بن عبد الله بن يحيى - أحد قضاة قرطبة - بأنه "لم يداهن ذا قدرة، ولا أغضى لأحد من أصحاب السلطان، ولم يطمع شريف في حَيْفه، ولم ييئس وضيع من عدله، ولم يكن الضعفاء قط أقوى قلوباً ولا ألسنة منهم في أيامه". ومن القضاة العادلين من تطرح بين يديه قضية يدلي فيها أحد الخصمين بشهادة الخليفة نفسه، فيرد الشهادة في غير مبالاة. شهد السلطان بايزيد عند شمس الدين محمد بن حمزة الفناري قاضي الآستانة في خصومة رفعت إليه، فرد القاضي الشهادة، ولما سأله السلطان عن وجه ردها، قال له: إنك تارك للجماعة! فبنى السلطان أمام قصره جامعًا، وعين لنفسه فيه موضعاً، ولم يترك الجماعة بعد ذلك. ورفعت قضية إلى محمد بن بشير قاضي قرطبة، أحدُ الخصمين فيها سعيد الخير عم الخليفة عبد الرحمن الناصر، وأقام سعيد بيّنةً أحدُ شهودها الخليفة نفسه، ولما قدم كتاب شهادة الخليفة إلى القاضي، نظر فيه، ثم قال لوكيل سعيد: هذه شهادة لا تعمل عندي، فجئني بشاهد عدل، فمضى سعيد إلى الخليفة؛ وجعل يغريه على عزل القاضي، فقال الخليفة: القاضي رجل صالح، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولست والله! أعارضه فيما احتاط به لنفسه، ولا أخون المسلمين في قبض مثله! ولما سئل ابن بشير عن رد شهادة الخليفة، قال: إنه لا بد من الإعذار في الشهادة، ومن الذي يجترئ على القدح في شهادة الأمير إذا قبلت؟! ولو لم أعذر، لبخست المشهود عليه حقه. فالإسلام يلقن القاضي أنه مستقل، ليس لأحد عليه من سبيل؛ وقد قصّ

علينا التاريخ: أن كثيراً من القضاة العادلين كانوا لا يتباطؤون أن يحكموا على الرئيس الذي أجلسهم على منصة القضاء حكمَهم على أقصر الناس يداً، وأدناهم منزلة. قال ابن عبد السلام يصف القضاة العادلين: "وربما كان بعضهم يحكم على من ولّاه، ولا يقبله إن شهد عنده". وقال المقري يصف القضاء في الأندلس: "أما خطة القضاء بالأندلس، فهي أعظم الخطط عند الخاصة والعامة؛ لتعلقها بأمور السلطان، وكون السلطان لو توجه عليه حكم، حضر بين يدي القاضي". وحكم ابن بشير قاضي قرطبة على الخليفة عبد الرحمن الناصر في قضية رفعها عليه أحد المستضعفين من الرعية، وأُبلغ الخليفةُ الحكمَ مقروناً بالتهديد بالاستقالة من القضاء إذا لم يسلم الحكم، ويبادر إلى تنفيذه. ومن القضاة العادلين من يرمي بالمنصب في وجه الدولة إذا أخذ بعض رجاله يتدخل فيما يرفع إليه من الخصومات. فعل هذا إبراهيم بن إسحاق قاضي مصر حين تخاصم إليه رجلان، وأمر بكتابة الحكم على أحدهما، فتشفع المحكوم عليه إلى الأمير، فأرسل إليه يأمره بالتوقف عن الحكم إلى أن يصطلحا، فترك القضاء، وأقام في منزله، فأرسل إليه الأمير يسأله الرجوع، فقال: لا أعود إلى ذلك أبداً، ليس في الحكم شفاعة. وفعل هذا برهان الدين بن الخطيب بن جماعة أحدُ قضاة مصر، عارضه محب الدين ناظرُ الجيش في قضية، فقال: لا أرضى أن أكون تحت الحجر. وصرف أتباعه، وصرح بعزل نفسه، وأغلق بابه، فبلغ أمره الملك الأشرف،

فانزعج، وما زال يسترضيه حتى قبل، واشترط عليه أشياء تلقاها منه بالإجابة. والرئيس الناصح يُكبر القاضي الذي يأنس منه استقامة، ويعمل لإرضائه حتى يصرفه عن الاستقالة. أرسل أبو عبيد قاضي مصر أبا بكر بن الحداد إلى بغداد ليستعفي له عن القضاء، فأبى الوزير علي بن عيسى بن الجراح أن يعفيه، وقال: ما أظنه إلا أنه كره مراقبة هلال بن بدر؛ لأنه شاب غرّ لا يعرف قدره، فانا أصرف هلالًا، وأولي فلاناً، وهو شيخ عاقل يعرف قدر القاضي. والرئيس العادل يُعجَب بالعالِم الذي دلته التجربة على استقامته عند الحكم، وتجرده من كل داعية غير داعية ظهور الحق، ويدعوه هذا الإعجاب إلى إقامته قاضياً بين الناس. أخذ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فرسًا من رجل على سوم، فحمل عليه، فعطب، فخاصمه الرجل، فقال عمر: اجعل بيني وبينَك رجلاً، فقال الرجل: إني أرضى بشريح العراقي. فقال شريح: أخذته صحيحاً سليماً، فأنت ضامن له حتى ترده صحيحاً سليماً، قال الشعبي - وهو راوي القصة -: فكأنه أعجبه، فبعثه قاضياً. ولصعوبة القضاء من ناحية التثبت من الحق أولاً، والقدرة على تنفيذه ثانياً، أبى كثير من العلماء الأتقياء أن يقبلوا ولايته، ورفضوها بتصميم، يخشون أن يعترضهم في التنفيذ ما لا طاقة لهم بدفعه، أو يخشون الزلل عند النظر في بعض النوازل وتعرّف أحكامها؛ فإن إدراج الوقائع الجزئية تحت الأصول الكلية عسير المدخل؛ لكثرة ما يحوم حوله من الاشتباه، فكثير من الجزئيات تحتوي أوصافاً مختلفة، وكل وصف ينزع إِلى أصل، وقد يكون في

الأصل الذي هو أمسّ بالواقعة خفاء لا ينكشف إلا أن يردد القاضي الألمعي نظره، ويجهد في استكشافه روبته. عرض هارون الرشيد على المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث قضاء المدينة المنورة بجائزة قدرها أربعة آلاف دينار، فأبى، وقال: لأن يخنقني السلطان أحبُّ إليَّ من القضاء. ومن العلماء من يأبى قبولها، ويكون الأمير ممن يقدر قدره، ويراه أقدر أهل العلم على القيام بها، فيهدده بالعقاب، أو يسومه العذاب؛ ليكرهه على قبولها، ومنهم من يقبلها بعد التهديد البالغ، مثل: عيسى بن مسكين أحد الفقهاء بالقيروان، عرف الأمير إبراهيم بن أحمد بن الأغلب من زهده في المناصب أنه يأبى ولاية القضاء، فأحضره، وقال له: ما تقول في رجل جمع خلال الخير أردت أن أوليه القضاء، وألمّ به شعث هذه الأمة، فامتنع؟ قال له عيسى بن مسكين: يلزمه أن يلي، قال: تمنّع، قال: تجبره على ذلك بجلد، قال: قمْ فانت هو، قال: ما أنا بالذي وصفت، وتمنّع حتى أخذوا بمجامع ثيابه، وقرّبوا السيف من نحره، فتقدم لها بعد أمر خطير. ولارتباط سعادة الأمة باستقامة القضاء، جاز للرئيس الأعلى - متى رأى في أهل العلم من هو أدرى بمسالكه، وأقدر على القيام بأعبائه - أن يكرهه على ولايته بالوسائل الكافية. قيل للإمام مالك: هل يجبر الرجل على ولاية القضاء؟ قال: لا، إلا أن لا يوجد منه عوض، فيجبر عليه، قيل له: أيجبر بالضرب والسجن؟ قال: نعم. وطلب ابن الأغلب أمير القيروان الإمام سحنون لولاية القضاء، فامتنع،

وبقي نحو سنة يطلبه لها وهو يمتنع، حتى قال له حالفاً: لئن لم تتقدم لها، لأقدّمن على الناس رجلاً من غير أهل السنّة، فاضطره هذا الحلف إلى قبولها. ومن العلماء من يُطلب للقضاء، فلا يجيب إلا على شرط يصعب على رجال الدولة قبوله، ولا يسعهم إلا أن يتركوه. طلبوا أبا محمد بن أبي زيد لقضاء القيروان، وقطعوا دون قبوله كل عذر، فشرط عليهم أن يجعلوا لمن بين يديه من الأعوان ما يقوم بكفايتهم من بيت المال؛ بحجة أن من واجب السلطان أن يوصل لكل ذي حق حقه، وليس على صاحب الحق أن يعطي من حقه شيئاً (¬1)، فاستكثروا ما ينفق في هذا السبيل، وتركوه. وإن شئت مثلاً يريك الاعتزاز بالعلم والزهد في المناصب إلا أن يتيقن السير بها في استقامة، فإليك قصة زياد بن عبد الرحمن: دعاه هشام عندما تولى الخلافة بالأندلس إلى القضاء، فأبى، وبعث إليه الوزراء، فلم يتخلص منهم حتى قال لهم: عليّ المشي إلى مكة إن ولّيتموني القضاء، وجاء أحد يشتكي بكم، لآخذن ما بأيديكم، وأدفعه إليه، وكلفكم البينة؛ لما أعرفه من ظلمكم! فعرفوا أنه سيفعل ما يقول، فتركوه. وعناية الإسلام بالقضاء رفعته إلى درجة أفضل الطاعات، فمن سار على بينة وهدى، كانت الأوقات التي يشغلها بالنظر في النوازل داعداد الوسائل لساعة الفصل أوقاتاً معمورة بالعمل الصالح، كافلة لصاحبها الكرامة في الدنيا، والفوز في الأخرى، ولهذا ترى بعض العلماء يتقلدون القضاء، ويأبون أن ¬

_ (¬1) نص على هذا ابن رشد في كتاب "البيان". وعمل القضاة جار على غير هذا، وهو أن أجرة العون على طالب الحق.

يأخذوا عليه رزقاً. ومن هؤلاء العلماء الزاهدين: أبو القاسم حماس بن مروان، ولّاه زيادة الله بن الأغلب قضاء أفريقية، فتولاه، وأبى أن يأخذ عليه أجراً، و"كانت أيامه أيام حق ظاهر، وسنّة فاشية، وعدل قائم". وكان سحنون قاضي أفريقية "لا يأخذ لنفسه رزقاً ولا صلة من السلطان، وإنما يأخذ لأعوانه وكتّابه من جزية أهل الكتاب". ومن أبى أخذ الأجر على القضاء، فليدخر ثوابه كاملاً عند الله، أو لأنه كان في غنى، وليس في أهل العلم من يكفي كفايته، فتكون ولايته من قبيل القيام بفرض عين، ومن تعين عليه القضاء وهو في بسطة من المال، فهو الذي لا يجيز له الفقهاء أن يأخذ على ولايته عوضاً. حقيقة إن الإسلام بنى القضاء على أسس محكمة، ونظم صالحة، وأخرج للناس قضاة سلكوا إلى العدل في الحكم، والحزم في التنفيذ، مسلكاً هو أقصى ما يستطيعه البشر، وأرقى ما يجده الباحث في القديم والجديد، فإذا توفقت الدول الإسلامية لأن تربّي رجالاً مثل من وصَفْنا علماً وجلالة، أمكنها أن تحتفظ بروح العدل الذي لا يجري إلا على يد من تفقه في كتاب الله، وسنّة رسوله، واهتدى بحكمتهما إلى أن الدنيا متاع، وأن الآخرة هي دار القرار.

الإنصاف الأدبي

الإنصاف الأدبي (¬1) لا أريد أن أبحث تحت هذا العنوان عن الإنصاف الذي يفسر بالعدل، ويوصف به من ينتصب للحكم بين المتخاصمين، فقد سبق لنا أن تعرضنا لهذا الموضوع في مقال: "القضاء العادل في الإسلام". كما أني لا أريد البحث عن الإنصاف الذي هو خلق يحمل صاحبه على أن يعطي الحقوق المادية من نفسه؛ كأن يعرف الرجل أن هذا المال أو المتاع حق لفلان، فيكفّ يده، أو يرفعها عنه من تلقاء نفسه، لا يخشى سطوة حاكم، أو لومة لائم. فللحديث عن الإنصاف الذي هو تبرئة الذمة من الحقوق المادية مقام غير هذا المقام، وإنما الغرض: البحث عن ضرب خاص من ضروب الإنصاف، وهو أن يقول الرجل صوابًا، فتعترف بأنه محق، أو يحرز خصلة حمد، فتقرّ بها، ولا تنازع من يصفه بها، ولا أجد مانعاً من أن أسمّي هذا النوع من الإنصاف: "الإنصاف الأدبي"، ويقابله من الأخلاق المذمومة: "العناد"، وهو جحود الحق، وردّه مع العلم بأنه حق. والإنصاف الأدبي من الخصال التي لا ترسخ إلا في نفس نبتت في بيئة صالحة، وارتضعت من ثدي التربية الصحيحة لبناً خالصاً، والجماعة ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - العدد الثالث من المجلد الرابع، الصادر في شهر ربيع الأول 1352 هـ - القاهرة.

التي تفقد هذا الخلق تفقد جانباً عظيماً من أسباب السعادة، ويدخلها الوهن بعد الوهن، حتى تتفرق أيدي سبأ، وعليك الإنصات، وعلينا البيان: بين الأخلاق روابط، وكثيراً ما يكون بعضها وليد بعض؛ كالعدل قد يكون وليد القناعة، وكالشجاعة قد تكون وليدة عزَّة النفس، وكالجبن قد يكون وليد الطمع، وكذلك خلق العناد وعدم الإذعان للحق قد يكون وليد الحسد، وقد ينشأ عن طبيعة الغلوِّ في حبّ الذات، وللغلو في حب الذات فرعان: حب الانفراد بالفخر، دايثار النفس على كل شيء حتى الحق، فالحاسد، أو الحريص على الانفراد بالفخر، هو الذي يسمع الرجل يقول صواباً، فيقول له: أخطأت، أو يسمع الثناء عليه ببعض ما أحرز من خصال، فيقول للمثنى عليه: كذبت. وإيثار النفس على النفس هو الذي يحمل الرجل على التعصب لرأيه، والدفاع عنه وهو يعلم أنه في خطأ مبين. فمن أراد أن يطبع ناشئاً على خلق الإنصاف، نقّب على علتي: الحسد، والغلو في حب الذات، فإن وجد لهما في نفس الناشئ أثراً، راوضه بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى يتهيأ الناشئ لأن يكون على هذا الخلق العظيم؛ أعني: خلق الإنصاف. وإذا كان منشأ الحسد قلة ملاحظة أن النعمة تصل إلى صاحبها من علاّم الغيوب، وهو لا يرسلها إلا لحكمة، فإن من وسائل علاج هذا الداء: تلقين الناشئ أن النعم - مادية أو أدبية - إنما ينالها بمشيئة العليم الحكيم. وإذا كان منشأ الحرص على الانفراد بالفخر هو الغلو في حب الذات، كان على المربي تهذيب عاطفة حب الذات في نفس الناشئ حتى تكون عاطفة معتدلة: تجلب له الخير، وتأبى له أن ينال غيره بمكروه.

وإذا شفي الناشئ من مرض الحسد، وخلص من لوثة الغلو في حب الذات، لم يبق بينه وبين فضيلة الإنصاف إلا أن تعرض عليه شيئاً من آثارها الطيبة، وتذكره بما يدرك المحرومين منها، والمستخفّين بها من خسار وهوان. وقلة الإنصاف تبعد ما بين الأقارب أو الأصدقاء، وكم من تجافٍ نشأ بين أخوين أو صديقين، وإنما نشأ من جحود أحدهما بعض ما يتحلى به الآخر من فضل، أو من ردّه عليه لرأياً أو رواية، وهو يعلم أنه مصيب فيما رأى، أو صادقاً فيما روى. قال الحكيم العربي: ولم تَزَلْ قِلّةُ الإنصافِ قاطعةً ... بينَ الرّجالِ وإنْ كانوا ذَوي رَحِمِ ومتى شعر الرجل من آخر وإنكار شيء من فضله، أو بتعسفه في معارضه رأيه، رآه غير موضع للصحبة والمعاشرة، وربما وقع في ظنه أن الراحة في عدم لقائه. قلة الإنصاف تجر إلى التقاطع، والإنصاف يدعو إلى الالفة، ويؤكد صلة الصداقة، فإذا كنت في مجلس، فقرر الرجل رأيًا واضح الحجة، فغلبك ما في نفسك، وحاولت أن تصوره للناس خطأ، فقد ألقيت بينك وبينه عداوة، فإن خضعت لحجته، وأعربت له عن استحسان رأيه، فقد مددتَ بينك وبينه سبباً من أسباب الألفة؛ إذ يشعر من إنصافك أنك لا تحمل له ضغناً، ولا تكره له أن ينال حمداً؛ فإن سبق هذا الإنصاف خصومة، شعر بأنك خصم شريف، فيسعى لأن تنقلب الخصومة سلماً، ويتبدل التقاطع ولاء. وقلة الإنصاف تسقط احترامك من العيون؛ فإن من يراك تهاجم الآراء

المؤيدة بالحجة، قد يحمل هذا الهجوم على قصر نظرك، وعجزك عن تمييز الباطل من الحق، فإن حمله على أنك تهاجمها كراهة أن تكسب صاحبها حمدًا، وقع في نفسه أنك تتمنى لغيرك زوال النعمة، أو أنك حريص على الانفراد بخصال الحمد، فإن ذهب في تأويل إبايتك لقبول الحق إلى أنك تموّه على الناس؛ حتى لا ينسبوا إليك نقيصة الخطأ، علم ما لم يكن يعلم من إيثارك النفس على الحق، ولا احترام لمن لا يدرك الآراء المؤيدة بالحجة، أو يتألم من أن يرى غيره في نعمة، أو من يعمل للانفراد بالحمد من طريق التعسف والعناد، أو يدافع عن نفسه نقص الخطأ بمحاولة قتل الحق. قلة الإنصاف تسقط احترامك من القلوب؛ والإنصاف يزيد احترامك في القلوب مكانة؛ ذلك لأن إنصافك للرجال يدل على صفاء سريرتك ونقائها من أن تكون قد حملت شيئاً من دنس الحسد، أو حام بها الغلو في حب الذات. نقرأ في كتب الأدب: أن منذر بن سعيد البلوطي دخل مصر، وحضر مجلس أبي جعفر النحاس وهو يملي أخبار الشعراء، فأنشد أبو جعفر أبيات مجنون ليلى هكذا: خليليَّ هلْ بالشّامِ عيْنٌ حزينةٌ ... تُبكّي على نَجْدٍ لعلّي أُعِينها قد اسلَمها الباكون إلا حمامةً ... مطوّقةً باتَتْ وباتَ قرينُها تجاوِبُها أخْرى على خَيْزُرانَةٍ ... يكادُ يدنيّها من الأرضِ لينُها فأراد منذر أن ينبهه على أن قراءة: "باتت وبات" من عجز البيت الثاني بالتاء المثناة خطأ، فقال: يا أبا جعفر! ماذا- أعزك الله- باتا يصنعان؟ فقال أبو جعفر: كيف تقول أنت يا أندلسي؟ قال منذر: "بانت وبان قرينها".

كيف يكون مقام أبي جعفر في نفسك لو قصَّ عليك التاريخ أنه تلقى تصحيح منذر بن سعيد بالارتياح، وقال له: أنا أخطأتُ، وأنت أصبتَ؟ لا شك أنك تحمل له من الاحترام فوق ما كنت تحمل، ولكن منذر بن سعيد يقول: إن ابن النحاس سكت، وما زال يستثقلني، ثم عاد بعد حين إلى ما كنت أعرفه منه؛ يعني: من الإقبال والحفاوة. وقلة الإنصاف تحول بين الرجل وبين أن يزداد علماً؛ فمن لم تنصفه من أهل العلم، وجد في نفسه مثبطًا عن أن يسرع إلى إفادتك أو يقيض القول في مذاكرتك، فيفوتك حظّ من العلم لولا عدم إنصافك، لازددت به قوة في الفهم، وسعة في العلم، وقد يكون من أثر جحودك لفضل الرجل أن تقل رغبتك في ملاقاته، والتزود من آرائه أو رواياته، وكم وصل الرجل بإنصافه إلى علم وأدب جم! قال أبو إسحاق الزجّاج: لما قدم المبرِّد بغداد، أتيته لأناظره؛ وكنت أقرأ على أبي العباس ثعلب، وأميل إلى قول الكوفيين، فعزمت على إعنات المبرِّد، فلما فاتحني، ألجمني بالحجة، وطالبني بالعلة؛ وألزمني إلزامات لم أهتد إليها، فتبينت فضله، واسترجحت عقله، وجددت في ملازمته. فلو كان أبو إسحاق من أولئك الذين يجمح بهم التعصب للأشياع أو المذهب، حتى ينبذوا الانصاف ناحية، لما اعترف بفضل المبرد، وقد فاتحه بالمناظرة عازمًا إعناته، ولفاته العلم الذي غنمه بالجد في ملازمته. وقلة الإنصاف تحدِث في العلم فساداً كبيراً؛ ذلك لأن من لا يقدر الإنصاف قدره، قد يرى بعض الآراء العلمية الصحيحة قد صدرت من شخص لا يرتاح هو لأن تكون قد صدرت منه، فيقابلها بالرد والأنكار، وقد تكون

له براعة بيان، فيصرفها في تشويه وجه الحق، وهو يعلم أنه حق، فيظهر الجهل على العلم، ولو في فئة قليلة، أو دائرة صغيرة. قلة الإنصاف تخذل العلم، وتطمس شيئاً من معالمه، والإنصاف يؤيد العلم، ويجعل موارده صافية سائغة. ولو أخذ الإنصاف حظه من نفوس جميع الباحثين عن الحقائق، لقلَّت مسائل الخلف في كل علم، فيكون حفظ العلوم أيسر، ومدة دراستها والرسوخ فيها أقصر. نقرأ في تاريخ العلامة محمد بن عبد السلام: أن ابن الصبّاغ اعترض عليه في أربع عشرة مسألة، فلم يدافع عن واحدة منها، بل أقرّ بالخطأ في جميعها. ومن النواحي التي غفل فيها بعض الناس عن فضيلة الإنصاف، فكانت منبت فساد غير قليل: ناحية التعصب للمذهب تعصبَ من لا يسمع ولا يرى، ولصاحب المذهب أو المقتدى به أن يبسط القول في تقرير أصوله، وإيراد حججه، وله أن يناقش أقوال مخالفيه، وأدلتهم، فيردها، ويصفها بالخطأ إذا شاء، ومن الإنصاف أن يناقشها استبانة للحق، ولا يصفها بالخطأ إلا بعد أن تأذن له الحجة في وصفها، والعالِم الذي يطول نظره في أقوال الأئمة، يشهدهم كيف يرمون إلى غرض واحد هو الحكم المطابق للحق، فيمتلئ قلبه باحترامهم، ويقف في حدود الإنصاف عند درسه لمسألة من المسائل التي جرى فيها اختلافهم. قال الإمام الشافعي: الظرف في الوقوف عند الحق كما وقف. لا يصعب على النفوس - التي فيها بقية من خير - أن تنصف الرجل يبتكر رأياً، أو ينهض لعمل، فتعترف لرأيه بالإصابة، أو لعمله بالإجادة.

والإنصاف الذي قد تجمح عنه نفسك كثيراً أو قليلاً: أن تقول قولاً تظنّه صوابًا، أو تعمل عملاً تحسبه حسناً، فينقده آخر بميزان العلم الصحيح، ويريك أنك قد قلت خطأ، أو عملت سيئاً، ففي مثل هذا المقام قد تجد في نفسك كراهة للاعتراف بالخطأ في القول، أو الإساءة في العمل، فإن كنتَ على ذكر من فضيلة الإنصاف، وما تؤتيه من ثمار طيبة، لم تلبث أن تكظم هذه الكراهة، ولا تجد في نفسك حرجاً من أن تقول للناس: إني قد أخطأت في قولي، أو أسأت في عملي. وتاريخ الإسلام مملوء بقصص الذين رجعوا عن آرائهم بعد محاورات أو مناظرات ظهر لهم منها أن الحق في جانب من دارت بينهم ويينه المحاورة أو المناظرة. ومما يروى في هذا الصدد: أن مناظرة جرت بين الإمامين: مالك بن أنس، وأبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة في مقدار الصاع الذي تؤدى به زكاة الفطر، فقال مالك: هو خمسة أرطال وثلث، وكان أبو يوسف يذهب إلى أنها ثمانية أرطال، فاحتج عليه مالك بالصيعان الموجودة لذلك العهد عند أبناء المهاجرين والأنصار بالمدينة، فرجع الإمام أبو يوسف إلى ما قاله الإمام مالك. لا يصعب على الرجل أن ينصف قريباً أو صديقاً، بل لا يصعب عليه أن ينصف من لا تربطه به قرابة أو صداقة، ولا تبعده منه عداوة. والإنصاف الذي قد يحتاج فيه إلى مراوضة النفس كثيراً أو قليلاً: أن يبدي بعض أعدائه رأياً سديدًا، أو يناقشه في رأي مناقشة صائبة، فهذا موطن تذكير النفس بأدب الإنصاف، وإنذارها ما يترتب على العناد من إثم وفساد.

ومن الإنصاف الذي يدل على الرسوخ في الفضيلة: أن يتحدث الرجل عن خصمه، فينسب إليه ما يعرفه له من فضل. أنشد في مجلس الإمام علي بن أبي طالب قول الشاعر: فتىً كان يدنيه الغِنى من صديقِهِ ... إذا ما هو اسْتَغْنى ويبعدُه الفَقْرُ كأنّ الثُّرَيّا عُلِّقَتْ بجبييهِ ... وفي خدِّهِ الشَّعرى وفي الآخَرِ البَدْرُ فلما سمعها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: هذا طلحة بن عبيد الله، وكان السيف ليلتئذ مجرداً بينهما. يسهل على الرجل أن ينصف من هو أكبر منه سناً، أكثَر مما يسهل عليه أن ينصف قرينه؛ ذلك لأن أكبر عائق عن الإنصاف التحاسد، وحسد الإنسان لأقرانه أكبر وأشد من حسده للمتقدمين عليه في السن، وشمهل عليه أن ينصف أقرانه أكثر مما يسهل عليه أن ينصف من هو أحدث سناً منه، إذ يسبق إلى ظنه أن ظهور مزية لمن هو أحدث عهدًا منه قد تقتضي إلى أن يكون ذكره أرفع، وفضل القرين على بعض أقرانه شائع أكثر من فضل المتأخر على المتقدم، وشيوع الشيء يجعله أهون على النفس مما هو أقل شيوعاً منه. فينبغي للإنسان أن يتيقظ للأحوال التي تتقوى فيها داعية العناد، ويعدّ للوقوف عند حدود الإنصاف، ومقاومة تلك الداعية ما استطاع من قوة. ويقص علينا التاريخ: أن في الأساتذة من يحرص على أن يرتقي تلاميذه في العلم إلى الذروة، ولا يجد في نفسه حرجاً من أن يظهر عليه أحدُهم في بحث أو محاورة. يذكرون: أن العلامة عبد الله الشريف التلمساني كان يحمل كلام الطلبة على أحسن وجوهه، ويبرزه في أحسن صورة، ويروى أن أبا عبد الله هذا كان

قد تجاذب مع أستاذه أبي زيد بن الإمام الكلام في مسألة، وطال البحث اعتراضاً وجواباً حتى ظهر أبو عبد الله على أستاذه أبي زيد، فاعترف له الأستاذ بالإصابة، وأنشد مداعباً: أُعَلِّمُه الرِّمايةَ كُلَّ يَوْمٍ ... فَلَمَّا اشْتَدَّ ساعِدُه رَماني ومن نظر بروية إلى أن فضل العلم من جهة أنه وسيلة إلى إصلاح العمل وإسعاد البشر، وكان مع هذا النظر ناصحًا لأمته، وقف عند حد الإنصاف، ولم ينحرف عنه إجابةً لداعي الحسد، أو انسياقًا مع حب العلو في الأرض ولو بغير حق. أخذ رجال بأدب الإسلام، فرسخوا في فضيلة الإنصاف على قدر صفاء سرائرهم، واحترامهم لأصول الدين وأحكامه؛ وقد مثّل الصحابة - رضي الله عنهم - الانصاف في أكمل صورة. بدا لعمر بن الخطاب مرة أن يضع للمهور حداً، فخطب قائلاً: "لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، فمن زاد، ألقيت زيادته في بيت المال"، فقامت امرأة من صفّ النساء، فقالت: ما ذاك لك، قال: ولم؟ قالت: لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، فقال عمر: "امرأة أصابت، ورجلٌ أخطأ". ولو كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من أولئك الذين يألمون من أن ينسب إليهم نقص أكثر من ألمهم لتحريف آية عن موضعها، أو استبدال خاطر بشري بحكم إلهي، لما عدم وجهاً من أمثال تلك الوجوه التي يصورها المخادعون أو ضعفاء الإيمان تعصباً لآرائهم المخالفة للقرآن. اختلف ابن عباس، وزيد بن حارثة - رضي الله عنهما - في مسألة من باب الحيض، فقرر

ابن عباس حكماً، وخالفه زيد، فرأى فيها رأياً آخر، فقال له ابن عباس: سَل نسيّاتك: أم سليمان وصويحباتها، فذهب زيد فسألهن، ثم جاء وهو يضحك، فقال لابن عباس: القول ما قلتَ. وموضع العبرة من هذه القصة: أن زيداً تمسك برأيه في مخالفة ابن عباس حتى استبان له أن الحق مع ابن عباس، فلم يجد في نفسه حرجًا من أن يرجع إليه ضاحكًا، ويقول له: القول ما قلت. ويروى: أن الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - تكلم في مسألة، فقال له أحد الحاضرين: ليس الأمر كذلك يا أمير المؤمنين، ولكنه كذا وكذا، فقال عليّ: أصبتَ وأخطأتُ، وفوق كل ذي علم عليم. وعشاق الأخلاق الكريمة يجلون الإمام عليّاً لهذا الإنصاف إجلالهم له عندما يفتي فيصيب الحق، أو يعظ فينطق بالحكمة. وقد اقتدى بالصحابة في هذا الخلق الكريم من جاء بعدهم من كبار العلماء، وهذا الإمام الشافعي - رضي الله عنه - يقول: "ما ناظرت أحداَّ عَلى الغلبة، ووددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الحق على يديه". والراسخون في فضيلة الإنصاف لا يبالون أن يكون رجوعهم عن الخطأ أمام من خالفهم وحده، أو بمحضر جمع كبير لم يشعروا بالخلاف، ولا بخطأ المخطئ، أو إصابة المصيب. وها هو ذا التاريخ يحدثنا عن رجال من علماء الإسلام بلغوا هذه الغاية من الإنصاف. قال عبد الرحمن بن مهدي: ذاكرت القاضي عبيد الله بن الحسين في حديث، وهو يومئذٍ قاض، فخالفني فيه، فدخلت عليه بعد، وعنده الناس سماطين (¬1)، فقال لي: ذلك الحديث كما قلتَ أنتَ، وأرجع أنا صاغراً. ¬

_ (¬1) سماط القوم،: صفّهم، يقال؛ قام القوم حوله سماطين؛ أي: صفين.

فعبيد الله قد أحسن إلى نفسه إذ أخذها بفضيلة الإنصاف، وأحسن إلى الناس إذ علّمهم كيف يعترفون بالخطأ إذا أخطؤوا؛ ولا يتلبثون في الرجوع إلى الحق ولو عظمت مناصبهم، وعلت أقدارهم. العناد قبيح، ويشتد هذا القبح بمقدار ظهور الحجة على الرأي الذي تحاول رده على صاحبه، فمتى كانت الحجة أظهر، كان العناد أقبح. والإنصاف جميل، ويكون جماله أوضح وأجلى حيث يكون في حجة الرأي الصائب شيء من الخفاء، وحيث يمكنك أن تتحيز لرأيك، وتهيئ كثيراً من الأذهان لقبوله. وقد ينقل التاريخ شذرات من حوادث المنصفين لمن خالفهم في أمر، أو المعترفين لبعض خصومهم بفضيلة، فتهتز في نفوس قرائها عاطفة احترام لمن أقر بالخطأ، أو اعترف لخصمه بخصلة حمد، وربما كان إكبارهم لمن أقر بالخطأ فوق إكبارهم لمن خالفه في الرأي فأصاب، وربما كان إكبارهم لمن شهد لخصمه بمكرمة فوق إكبارهم للشخص المشهود له بتلك المكرمة، وسبب هذا الإكبار: عظمةُ الإنصاف، وعزّة من يأخذ نفسه بها في كل حال. قال ابن وهب: سمعت مالك بن أنس يقول: ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف. وإذا لم ينصفك الرجل، فردَّ عليك الحق بالشمال واليمين، أو جحد جانباً من فضلك وهو يراه رأي العين، فلا تكن قلة إنصافه حاملة لك على أن تقابله بالعناد، فتردّ عليه حقاً، أو تجحد له فضلاً، واحترس من أن تسري لك من خصومك عدوى هذا الخلق الممقوت، فيلج في نفسك، وينشط له لسانك

أو قلمك، وأنت تحسبه من محاربة الخصوم بمثل سلاحهم، كلا، لا يحارب الرجل خصومه المبطلين بمثل الاعتصام بالفضيلة، ولا سيما فضيلة كفضيلة الإنصاف تدل على نفس مطمئنة، ونظر في العواقب بعيد. ومن وجد في خصمه فضائل، حصر محاربته في الأمر الذي هو منشأ للخصومة؛ وترك تلك الفضائل قارَّةً في مكانها، بادية لمن أراد أن يقتدي بها. وإذا كان الإنصاف فضيلة ترتفع بها أقدار الرجال، وتتسع بها دوائر العلوم، وتصفو بها موارد الآداب، ويشتد بها حبل الاتحاد، وينتظم بها شأن الاجتماع، كان من واجب أولياء الأطفال، وأساتذة الأخلاق، ودعاة الإصلاح، أن يجعلوا له من تربيتهم وتعليمهم ودعوتهم نصيباً يكفي لأن نرى أنديتنا ومؤلفاتنا وصحفنا نقية من إنكار الحق، بريئة من جحود الفضل.

العلماء والإصلاح

العلماء والإصلاح (¬1) نود من صميم قلوبنا أن تكون نهضتنا المدنية راسخة البناء، رائعة الطلاء، محمودة العاقبة. ولا يرسخ بناؤها، ويروع طلاؤها، وتحمد عاقبتها، إلا أن تكون موصولة بنُظم الدين، مصبوغة بآدابه، والوسيلة إلى أن يجري فيها روح من الدين يجعلها رشيدة في وجهتها، بالغة غايتها: أن يزداد الذين درسوا علوم الشريعة عناية بالقيام على ما استحفظوا من هداية، فلا يذروا شيئاً يشعرون بأنه موكول إلى أمانتهم إلا أحسنوا أداءه. ينظر أهل العلم في حال الناس من جهة ما يتقربون به إلى الخالق، ويزنون أعمالهم ليميزوا البدعة من السنّة، ويرشدوهم إلى أن يعملوا صالحًا. ومن الذي لا يدرك أن البدع تقف كقطع من الليل المظلم، فتغطي جانباً من محاسن الشريعة الغرّاء، وهي - بعد هذا - ضلالات تهوي بأصحابها في ندامة وخسران؟. ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يدور بينهم من المزاعم الباطلة، والأحاديث المصنوعة، وينفون خبثها نفي النار لخبث الحديد، يفعلون هذا ليكون الناشئ المسلم نقي الفكر، صافي البصيرة، لا يحمل في نفسه إلا ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد الثاني - الصادر في شهر ربيع الآخر 1349 هـ.

عقائد خالصة، وحقائق ناصعة. ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يجري بينهم من المعاملات، فيصلحون ما كان فاسداً، ويصلون ما كان متقطعاً، وما شاعت المعاملات التي نهى عنها الدين في غير هوادة؛ كالربا، والميسر، إلا حيث قلّ من يعظ الناس في ارتكابها، ويبسط القول في شؤم عاقبتها. ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يمسهم من السرّاء والضرّاء، ويسعون ما استطاعوا في كشف الضر عنهم، ولو بعرض حالهم على أولي الشأن، وإثارة دواعيهم إلى أن يعالجوا العسر حتى ينقلب بفضل تدبيرهم يسراً. يحدثنا الكاتبون في تاريخ الأندلس: أن العلماء المقيمين في ضواحي قرطبة، كانوا يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة، ويطالعونه بأحوال بلدهم، وقال أحد علمائهم: وأتعبُ إنْ لم يُمْنَحِ الناسُ راحةً ... وغيري إن لم يُتْعِبِ النّاسَ يَتْعَبُ ينظر أهل العلم بعين الاحتراس إلى كل من يدعو إلى مذهب باسم الدين، ويتخذون الوسائل إلى الاطلاع على حقيقة قصده. ومن أسباب وهن حبل الإسلام، وتقطع أوصاله: مذاهب يبتدعها ملاحدة يمكرون، أو جهال لا يفقهون. أفلم يكن المذهب البهائي يعمل لهدم قواعد الإسلام، واستهواء أبنائه من خلف ستار؟! وقد أحس بعض أتباعه اليوم بقوة، فصاروا يخطبون على منابر النوادي، ويجهرون بشيء من مزاعمه، وعرف بعض خصوم الإسلام قصدهم، فقاموا يشدون أزرهم، ويرددون الثناء على مذهبهم. نحن نعلم أن في كل أمة فئة يفتحون صدورهم لقبول كل دعوة توافق

أهواءهم، أو تأتيهم في طلاء يلائم أذواقهم، ولكن نهوض العلماء بعزم وحكمة، إن لم يسحق آراء هذه الفئة سحقًا، فإنه يكشف عما فيها من سوء، فلا يسكن إليها إلا من هم إلى الحيوان الأعجم أقرب منهم إلى الإنسان. يرقب أهل العلم كل حركة تقوم بها جماعة من الأمة، فينقدونها بالنظر الخالص، ويصدعون فيها بآرائهم مدعومة بالأدلة المقنعة، ولا تعد هذه المراقبة وهذا النقد خارجين عن خطة العالِم الإسلامي، بل هما واجبان في عنقه، كواجب التعليم والإفتاء. وإذا قصَّ علينا التاريخ أن فريقاً من أهل العلم قضوا حياتهم في بحث المسائل العلمية البحتة، فقد قص علينا أن أمة من عظمائهم كانوا ينظرون في الشؤون العامة، ويمثلون السيرة التي تكسو صاحبها جلالة، وترفع له بين الخلائق ذكراً. كان أهل العلم يوجهون هممهم إلى الوسائل التي تقي الأمة ممن يبغونها الأذى، فهذا أبو بكر بن العربي قاضي أشبيلية رأى ناحية من سور أشبيلية محتاجة إلى إصلاح، ولم يكن في الخزانة مال موفر يقوم بسدادها، ففرض على الناس جلود ضحاياهم، وكان ذلك في عيد الأضحى، فأحضروها، وصرفت أثمانها في إصلاح تلك الناحية المتهدمة. وكان محمد بن عبد الله بن يحيى الليثي قاضي قرطبة كثيراً ما كان يخرج إلى الثغور، ويتصرف في إصلاح ما وَهى منها، حتى مات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة. وظهور العلماء في أمثال هذه المواقف يغرس لهم في نفوس الأمة وداً واحتراماً، ويورثهم في رأي أولي الأمر مقاماً كريماً، أفلا نذكر أيام كان أمراء

الإسلام يعرفون في طائفة من العلماء رجاحة الرأي، وصراحة العزم، وخلوص السريرة، فيلقون إليهم بقيادة الجيوش، فيكُفُّون بأس أعدائهم الأشداء؟ وما كان أسد بن الفرات قائد الجيش الذي فتح صقلية إلا أحد الفقهاء الذين أخذوا عن مالك بالمدينة، ومحمد بن الحسن في بغداد، وعبد الرحمن بن القاسم في القاهرة. ينظر أهل العلم إلى ما غرق فيه بعض شبابنا من التشبه بالمخالفين، وتقليدهم في عادات لا تغني من الرقي شيئاً، وقد يرى بعضهم انحطاط كثير من أبنائنا في هذا التشبه والتقليد، فيعده قضاء مبرماً، ويملكه خاطر اليأس، حتى ينتكث من التعرض للشؤون العامة ومعالجتها، ولكن الذي يعرف علة هذا التسرع، ويكون قد قرأ التاريخ ليعتبر، يرى الأمر أهون من أن يصل بالنفوس إلى التردد في نجاح الدعوة، بَلْهَ اليأسَ من نجاحها. وأذكر بهذا: أن كاتباً كتب في إحدى المجلات مقالاً تحت عنوان: "وحدة العالم" يدعو فيه إلى مسايرة أوربا في السفور ونحوه، وقال في علة الدعوة إلى هذه المسايرة: ليخرج الشرق والغرب في مدنية واحدة، وأشار على دعاة الإصلاح في الشرق بأن لا يقفوا في سبيل هذه المدنية، زاعماً أنهم لا يستطيعون مقاومتها، ولا يزيدون على أن يجعلوا سيرها بطيئاً، ورغب إليهم أن يحثّوا الناس على المسارعة إلى قبولها. والذين ينظرون إلى مدنية أوربا باعتبار، يبصرون فيها على البداهة ما لا يرتضيه العقل، ولا يقبله الشرع. واختلاف الأمم بالحق خير من اتحادها على باطل، ولا يفوت الحكمة أن تجد نفوساً مهذبة، وعقولاً سليمة فتقبلها. فحقيق على العلماء أن يبتسموا

لهذا الرأي تبسم الازدراء، ولا يقيموا لمثله وزناً إلا أن يكشفوا سريرته، ويعرضوا على الأنظار سوء مغبته. والعالِم بحق من يتدرَّعُ بالإيمان البالغ، والثقة بما وعد الله به الداعي إلى الحق من الظهور على أشياع الباطل، وإن أوتوا زخرفاً من القول، وسعة من المال، وكانوا أكثر قبيلاً. لا ينبغي لأهل العلم أن يغفلوا عن سير أرباب المناصب والولايات، فمن واجبهم أن يكونوا على بينة من أمرهم، حتى إذا أبصروا عوجًا، نصحوا لهم بأَنَّ يستقيموا، أو رأوا حقاً مهملاً، لفتوا إليه أنظارهم، وأعانوهم على إقامته. أمر السلطان سليم بقتل مئة وخمسين رجلاً من حفاظ الخزائن، فبلغ هذا النبا الأستاذ علاء الدين الجمالي، وكان متوليًا أمر الفتوى، فذهب إلى السلطان وقال له: وظيفة أرياب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وهؤلاء الرجال لا يجوز قتلهم شرعاً، فعليك بالعفو عنهم. فغضب السلطان سليم، وقال له: إنك تتعرض لأمر السلطنة، وليس ذلك من وظيفتك، فقال الأستاذ علاء الدين: لا، بل أتعرض لأمر آخرتك، وإنه من وظيفتي، فإن عفوت، فلك النجاة، وإلا، فعليك عقاب عظيم، فانكسرت سورة غضب السلطان، وعفا عن الجميع. ومتى كان في ولاة الأمور شيء من العدل، وكان في الداعي إلى الإصلاح حكمة وإخلاص، نجحت الدعوة في سعيها، وبلغت بتأييد الله مأربها. يكون العالِم رفيقاً في خطابه، ليناً في إرشاده، أما إذا أراده ذو قوة على أن يقول ما ليس بحق، أو يأتي ما ليس بمصلحة، أخذ بالتي هي أرضى للخالق، وكان مثالاً للاستقامة صالحاً.

أذكر أن أحمد بن طولون دعا القاضي بكار بن قتيبة إلى خلع الموفق من ولاية العهد، فأبى، فحبسه، وكرر عليه القول، فأصر على الإباءة، وبقي في السجن حتى ثقل ابن طولون في مرض الوفاة، فبعث إلى القاضي بكار يقول له: أردك إلى منزلتك، أو أحسن منها، فقال بكار للرسول: قل له: شيخ فان، والملتقى قريب، والقاضي الله -عَزَّ وَجَلَّ-. فأبلغ الرسول ابن طولون ذلك، فأطرق ساعة ثم قال: شيخ فان، والملتقى قريب، والقاضي الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأمر بنقله من السجن إلى دار اكْتُرِيَتْ له. وإنما يقوم العالِم بإسداء النصيحة إلى ذي قوة، أو لا يوافقه فيما يخدش أمانته وتقواه، متى قدر مقامه العلمي قدره، وكان شأن العلم أسمى في نظره من كل شأن، وهذا الشعور هو الذي يهيئه - بعد داعية الغيرة - لأن يجاهد في سبيل الحق مستهيناً بكل ما يعترضه من أذى. ومن أدب العلماء: أن ينصحوا للأمة فيما يقولون أو يفعلون، ويحتملوا ما ينالهم في سبيل النصيحة من مكروه، وكم من عالِم قام في وجه الباطل، فأوذي فتجلد للأذى، وأجاب داعي التقوى متأسياً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون". وممن جرى على هذا الخلق المتين: أبو بكر بن العربي يوم كان قاضياً بأشبيلية، قال في كتاب "القواصم والعواصم": حكمت بين الناس، فألزمتهم الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لم يك يرى في الأرض منكر، واشتد الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب، فتألبوا وألّبوا، وثاروا عليّ، فاستسلمت لأمر الله، وأمرت كل من حولي ألا يدفعوا عن داري، وخرجت على السطوح بنفسي، فعاثوا عليّ حتى أمسيت سليب

الدار، ولولا ما سبق من حسن الأقدار، لكنت قتيل الدار، يعني بقتيل الدار: عثمان - رضي الله عنه -. ولا يستحق لقب عالم أو مصلح ذلك الذي يدعو الناس إلى العمل الصالح، ويقبض عنه يده، أو ينهاهم عن العمل السيئ، ولا يصرف عنه وجهه، فمن أدب العلماء: أن يسابقوا الأمة إلى اجتناب ما يُؤاخَذُ به، وعمل ما يحمد عليه؛ كأن ينفقوا في وجوه البر والمشروعات الصالحات ما ينفقه أمثالهم من المكثرين أو المقلين؛ فإن ذلك أدل على إخلاصهم، وأدعى إلى توقيرهم وقبول نصائحهم. وإذا كان العدد القليل فيما سلف يكفي لحراسة الدين، وإرشاد من ينحرف عنه حتى يعود إليه، فلأن سلطان الإسلام يومئذ، وصوتَ غالب الجهل عليه خافت، أما اليوم، فالحال ما ترون وما تسمعون، فلا يمكن للدعوة أن تأتي بفائدتها إلا أن تضم المعاهد الإسلامية بين جدرانها طوائف كثيرة من أولي الغيرة والعزم، يصرفون جهدهم في الدفاع عن الدين، والدعوة إلى الخير، ويعيدون الدعوة مرة بعد أخرى. وستُنبت المعاهد الإسلامية - إن شاء الله - كثيراً من العلماء القوّامين على نحو ما وصفناه، ولا سيما حين يأخذ التعليم بالأزهر الشريف نظامه الأسمى، ويجري مثل هذا النظام في غيره من المعاهد الإسلامية؛ كجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في فاس، ويقوى الأمل، ويقوي الأمل في أن تؤتي هذه المعاهد الثمرة الغزيرة الطيبة، متى نظر إليها أولو الأمر برعاية، وعاملوا النشء المتخرجين منها بما يدل على أنهم يحترمون الشريعة، ويقدرون ما تثبته في الأمة من رشد وإصلاح.

المدنية الفاضلة في الإسلام

المدنيَّة الفاضلة في الإسلام (¬1) أخذ نبهاء الأمم الخاملة أو مهضومة الجانب يسعون إلى أن تكون أممهم في رقي وسعادة، وخطَوا في هذا السبيل خطوات قصيرة أو واسعة، ووضعوا أسسًا متينة أو واهية، والذي يعنينا في هذا المقام أن نقول كلمة في وسائل نهوض الشعوب الإسلامية إن كانت خاملة، أو ظفرها بالحرية الصادقة إن كانت محرومة من التمتع بحقوقها التي أوصى دينها الحنيف. لا نفتأ نذكر ذلك السلطان الكريم الذي بسطه خلفاء الإسلام الراشدون على المعمورة، فعَلَّم الناس كيف يعيشون أحرارًا، والملوك كيف يقيمون عروشهم على قواعد العدل والمساواة، ورجال الدين كيف يدعون إلى الحقيقة والفضيلة في سماحة ووقار. ولا نجحد مع هذه الذكرى أن الشعوب الإسلامية قد وقعت منذ عهد بعيد في وهدة من الخمول، وانقطعت الصلة بينها وبين الأمم، فلم تدر ماذا يصنعون، حتى تراءى لها ما نبهها من غفوتها، وحثّها أن تنهض من كبوتها، فمسك بقيادتها فريق كانوا على بصيرة من هداية الإسلام، وإن شئت فقل: تقدم لقيادتها رجال مستنيرون من أبناء المعاهد الإسلامية، وآخرون مهتدون من القائمين على جانب من العلوم الكونية. فمن يتحدث ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد الثاني- الصادر في شهر جمادى الأولى 1349 هـ.

عن النهضة المصرية - مثلاً - لا يحيد عن ذكر رجال استنارت عقولهم بين جدران الجامعة الأزهرية، ومن يتحدث عن النهضة التونسية ذكر في مقدمة رجالها فريقاً تلقوا معارفهم بين جدران الجامعة الزيتونية. ولو استمر العمل لرقينا المدني بأيدي طوائف تجمع بين رجال الدين المصلحين، ورجال العلم الحديث المهتدين، لقطعنا في سبيل السعادة شوطاً أبعد مما قطعنا، ولكُنّا أثبت موقفاً وأقرب إلى أن يهابنا الذين يعملون لشقائنا، ولكن حركة تقدمنا لم تستمر على ما وصفنا، ومسها مرض إذا لم نبادر إلى إنقاذها منه، كان شرها أكبر من خيرها، وخيبتنا أقرب إلينا من نجاحها. بليت نهضتنا المدنية بعلتين: أولاهما: أن بعض نشئنا المتخرجين من مدارس غير إسلامية قد وقفوا موقف الدعوة إلى الإصلاح، ولم يصبروا أنفسهم على تعرف آداب الدين، فحادوا عن طريق الإصلاح النقية، ولم يبالوا أن يجهلوا على الدين، ويجحدوا أن يكون له في الحياة المدنية سلطان كبير أو صغير. ثانيتهما: أن كثيراً ممن درسوا العلوم الإسلامية، تقاعدوا عن أن يخوضوا في شؤون الحياة المدنية، فكان انزواؤهم وزهدهم في منصب الإرشاد العام فرصة لظهور الدعايات المنحرفة عن الطريق المستقيم. إن الأمة التي تأخذ بنصائح الدين، وتقتدي بآدابه في السر والعلانية، لهي الأمة التي يمكنها أن تتحد وتتآزر في صفاء، وهي التي تستطيع أن تبني عظمة، وتحوط كنافها بمنعة، فلا تجد الأيدي العادية إلى هضم حق من حقوقها منفذاً. سنواصل - بتوفيق الله - القول في نصائح الدين التي تأخذ بيد الجماعة

إلى هضبة الشرف القصوى، ونقفّي على أثر النصيحة بأخرى، حتى يستبين لك أن الإسلام صُنع الله الذي أتقن كل شيء. وإنما أذكر في هذا المقام خصالاً كالدعائم يقوم عليها صرح الحياة المدنية بهيّ المنظر، شامخ البناء. وما هذه الدعائم إلا العلم الصحيح، والعمل النافع، والخلق الرفيع. أما العلم، فقد عُني به الدين فيما عُني، ونوه بذكره فيما نوه، فقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. ومن دلائل أن الإسلام ينظر إلى العلم بإقبال، ويعده في أكبر النعم التي يتقلب فيها الإنسان: أنك ترى في أول ما نزل به الروح الأمين قوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 3 - 5] .. وقد اندفع المسلمون إلى اقتناء ما لغيرهم من العلوم برغبة حريصة، وهمم كبيرة، وتناولوا بحثها بعقول راجحة، علاوة على العلوم التي استمدوها من الكتاب والسنّة؛ كأحكام الفقه وأصوله، أو العلوم اللغوية؛ كالنحو والبيان. فالإسلام ينصح لأوليائه أن يبتغوا العلوم أينما كانت، ويحضهم على أن ينظموا شؤونهم الحيوية على مقتضى ما علموا، ولم يجئ الإسلام في عقائده أو أخباره بما يخالف العلم الصحيح، ولم يجئ في نصائحه بما ينقص الرغبة في العلم على اختلاف فنونه، فشأن الأمة التي تبتغيه ديناً أن تكون أصفى الأمم بصائر، وأغزرها معارف، وأبعدها في البحث نظراً. وإذا أضاف أحد على جهالة أو سوء قصد إلى الدين شيئاً لا يقبله العلم، فالإسلام كله حقائق، وهو من تبعة ما يلصقه به الجاهلون أو المفسدون براء. واذا صدر من بعض المنتمين إلى الدين كلمة تصرف الناس عن علم مادي أو أدبي، فأقصى مصدر هذه الكلمة ذهن صاحبها، وليس بينها وبين الدين من

صلة، بل شأن الدين أن لا يكون عنها راضياً. ولم يبق اليوم بعد أن ظهر من نتائج العلوم الكونية من أمثال هذه الغواصات والطائرات والمقذوفات ووسائل المخابرات من لا يرجع إلى قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، ويتفقه فيها أكثر مما كان يتفقه، ويشهد بن العلوم التي يسمونها: الطبيعيات والرياضيات هي من فروض الكفايات التي يجب أن تقوم عليها طائفة من الأمة، فإن الله لا يرضى لها إلا حياة العزة والكرامة، وهي لا تحيا هذه الحياة إلا أن تكون على بينة مما يعلم أو يصنع خصومها. وأما الأخلاق الشريفة، فإن الإسلام لم يدع مكرمة إلا نبه على مكانها، وندب على التجمل بحليتها، وقد عُني بمزايا هي أساس رقي الأمة وانتظام حياتها الاجتماعية؛ كالصدق والأمانة، والعفاف، والحلم، والعفو، والتراحم، والعدل، وعزة النفس والشجاعة، وحرية الضمير والإقدام على قول الحق وبذل المال في وجوه البر، وسنبحث في هذه المزايا ببسط القول، وإقامة الشواهد في مقام آخر - إن شاء الله -. وأما العمل النافع، فإن الدين يحث على العمل لهذه الحياة كما يحث على العمل للحياة الأخرى، وجعل لعمل الشخص في هذه الحياة نصيباً من ثواب الآخرة - فوق ما يناله من منفعة عاجلة - متى كان قصده من العمل خالصاً. ولما نسميه أعمالاً أخروية - وهي العبادات - الأثرُ الطيب في الحياة الدنيا قبل الحياة الآخرة، أليست الصلاة المقرونة بحضور القلب وعمارته بجلال الله تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتكف يد صاحبها عن أن يعمل سوءاً.

فتحميه من جرائم شأنها أن تجره إلى عقويات بدنية أو مالية، وفيها - بعد هذا - غنى عن طائفة من الشرط والسجون ينفق عليها أولو الأمر أموالاً طائلة؟!. أو ليس في الصيام رياضة النفوس، وتدريبها على احتمال المكاره، والصبر عن الشهوات حتى لا تكون أسيرة في ملاذها؟! وفي النفوس التي اعتادت الصبر عما تشتهي- وهو حاضر لديها- قوة وجلادة لا تجدها في النفوس التي لا تكف عن المشتهيات إلا عند فقدانها، فالصيام بحق يشفي النفوس من علّة الانحطاط في الشهوات كلما عرضت، ويسبكها في صورة النفوس القوية التي يسهل عليها أن تنصرف عن ملاذها ساعة ترى الخير في الانصراف عنها. أو ليس في الحج فوائد اقتصادية واجتماعية، لو وجه إليها زعماء الحجيج عنايتهم، لعادوا إلى أوطانهم بما ينفعهم في الأولى، بعد أن قدموا للآخرة من العمل الصالح ذخراً باقياً؟!. ولا أرى حاجة إلى أن أذكر في هذا النسق فريضة الزكاة؛ فإن أثرها في سد حاجات كبيرة من حاجات الأمة ظاهر ظهور الشمس في كبد السماء. ولم يشرع الدين من العبادات ما يضيق به وقت العمل للحياة مقدار أنملة، فنحن نرى الذين هم عن الآخرة غافلون، يشغلون جانباً من أوقاتهم في راحة ولهو، أفلا يحق للمؤمن أن يقضي جزءاً من وقت راحته في الوقوف بين يدي الخالق ابتغاء رضوانه، وهذا الجزء لا يزيد على ساعة في اليوم والليلة إذا شاء؟! ليفعل هذا، وليقس حياته بحياة من يصرف أوقاته في جمع المال، وإذا انتقل عنه، فإلى راحة ولهو، فإنه يجد من طمأنينة القلب وارتياح النفس ما يجعل عيشه أهنأ، وحياته أطيب، مصداق قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا

مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. لا أدري كيف حدث خاطر: أن قلة إقبال المسلمين على العمل لجمع المال، وتفشي الفقر في شعوبهم آتيان من ناحية دينهم؟! وهؤلاء علماؤنا يقررون أن كل صنعة تحتاج إليها الأمة فرض كفاية، لا تخلص الأمة من واجبها حتى تقوم بها طائفة منهم، وقالوا: إن نحو التجارة هي مباحة بالنسبة للأفراد؛ أي: يجوز للرجل أن يتخذها حرفة يستمر عليها، وله أن يختار غيرها في بعض الأحيان، ولو تركها الناس جميعاً، لأثموا بتركهم لما هو من الضروريات المأمور بها (¬1). وهذا الزركشي يقول في بحث: فروض الكفاية من "قواعده": "الدنيوي: كالحرف، والصنائع، وما به قوام المعاش؛ كالبيع، والشراء، والحراثة، وما لا بد منه، حتى الحجامة والكنس"، ثم قال: "ولو فرض امتناع الخلق منها، أثموا". والتوكل في لسان الدين إنما يراد به: توجه القلب إلى الخالق حال العمل، واستمداد المعونة منه، فلم يكن داعية إلى البطالة والإقلال من العمل البتّة، بل كان للتوكل الأثر العظيم في إقدام عظماء الرجال على الأعمال الجليلة التي يسبق إلى ظنونهم أن استطاعتهم وما لديهم من الأسباب الحاضرة يقصران عن إدراكها، وإذا فسرته فئة غير عالمة بقبض اليد عن العمل، وطرح الأسباب جملة، فذلك تفسير لا يقزه الدين الذي يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ ¬

_ (¬1) انظر بحث: المباح بالجزء المطلوب بالكل من "موافقات" الشاطبي.

لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]، ويقول: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102]. فالشريعة الإسلامية تأمر بالعمل لهذه الحياة، وتجعل السعي على العيال، والعمل للتعفف عما في أيدي الناس، أو للإنفاق في سبيل الخير، من قبيل العمل الذي يستحق صاحبه ثواب الله في الأخرى، وتكره للرجل أن يوصي بما فوق الثلث، وتقول له: "إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم". إن شريعة هذا شأنها، لشريعة مدنية تجمع إلى تهذيب النفوس - الذي هو القوة المعنوية - أسباب البسطة في المال- الذي هو القوة المادية -، وإذا جمع قوم بين القوتين، فقد أحرزوا الكفاية لأن يعيشوا كما ولدتهم أمهاتهم أحراراً. فالإسلام ينادي أممه إلى أن يتعلقوا من العلم بكل فن، وينوه بشأن الأخلاق أبلغ تنويه، ويجعل كل ما تدعو إليه حاجة الجماعة من العمل النافع أمراً واجبًا، فما من أمة تريد أن تصعد إلى أفق السيادة الأعلى إلا وجدت في مبادئه أجنحة تطير بها إلى حيث تطمح همتها، وعلى قدر ما تنفق من عزمها. وكذلك قصّ علينا التاريخ الصادق أن الإسلام أخرج للناس أمة بهرت العالم بعلومها الزاخرة، وأعمالها الفاخرة. وإذا شاءت الشعوب الإسلامية أن تكون المثل الأعلى للمدنية الفاضلة، ففي استطاعتها أن تتحرى نصائح الدين الحنيف، وفي احترام رؤسائها وزعمائها لأحكام الدين ونصائحه أخْذ بالسياسة الرشيدة، وهي التصرف في شؤون الأمة على مقتضى إرادتها.

أصول سعادة الأمة

أصول سعادة الأمة (¬1) سعادة الأمة: أن تستنير عقولها، وتسمو أخلاقها، وتغتبط بالنظم التي تساس بها، وترضى عن طريق تطبيقها، وترتاح إلى تنفيذها، وتأمن أن تمتد يد غريبة إلى حق من حقوقها. أما استنارة عقولها، فبإقامة معاهد كافية للتعليم؛ فإن الأمة التي تتألف من متعلمين وغير متعلمين، يصعب على قادتها، متى أرادوا توجيهها نحو الحياة الصالحة، أن يجدوها لينة القياد، خفيفة الخطأ، والتعليم الصحيح: ما يؤخذ فيه بأرقى النظم وأحكم الأساليب. وتلقِّي العلوم بأساليب غير مهذبة هو العلة في تباطؤ النهضة العلمية، وعدم انتظام طرق البحث والتفكير. ولا سبيل إلى أن يغبط الشعب بنهضته العلمية، حتى يتربى نشؤه على أن يطلبوا العلم بداعي اجتلاء الحقائق، والحرص على أسمى الفضائل. ومما يقعد بهم عن مرتبة النبوغ والابتكار في العلوم: أن يجعلوا لطلب العلم غاية مادية، حتى إذا أدركوها، انقطعوا. والتعليم الذي تؤمن عاقبته، وتزكو ثمرته: ما اهتدى فيه الطلاب إلى طريقة نقد الآراء وتمحيصها، حتى لا يقبلوا رأياً إلا أن يستبينوا رجحانه بدليل، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثالث، الصادر في شهر جمادى الآخرة 1349 هـ.

وقد رأينا رأي العين أن طائفة من أبنائنا قد انحرفوا عن طريق الرشد، ولو كانوا ممن يرد الآراء إلى قوانين البحث المعقولة، لاستقاموا على هدى الله، وما كانوا من المفتونين. وأما سمو أخلاقها، فلتستقيم أعمالها، وتنتظم المعاملات بينها، والأعمال الخطيرة إنما تقوم على نحو الصبر والعزم والكرم والإقدام، والمعاملات الرابحة لا تدوم في تماسك وصفاء، إلا أن تكون محفوظة بنحو الصدق والأمانة والحلم، وسماحة النفس ورقة العاطفة، وهذا الوجه من وجوه السعادة ملقى في عهدة من يتولى أمر التربية؛ كالأمهات والآباء ورجال التعليم، ولا يكون في الأمهات والآباء والمعلمين كفاية لأن يخرج الطفل أو الفتى من بين أيديهم طاهر السريرة، مستقيم السيرة، حتى يكون التعليم الديني ضارباً بأشعته في جميع مدارسنا، أولية كانت أو عليا، واذا وصلت التربية الدينية إلى النفوس من طريقها الصحيح، فلا ترى منها إلا حياء وعفافاً، وصدقاً وأمانة، واستصغاراً للعظائم، وغيرة على الحقائق والمصالح، وما شئت بعد من عزة النفس وكبر الهمة. تلك خصال لا تثبت أصولها وتعلو فروعها إلا أن يتفيأ عليها ظلال الهداية ذات اليمين وذات الشمال. وأما توافر وسائل الثروة، فلتكون مرافق الحياة بين يديها، والعيش ميسوراً لكل فرد من أفرادها، وما أبعد الأمة عن سعادة الحياة إذا أكثر فيها أولئك الذين يتكففون الناس في أيديهم، وأولئك الذين يترددون على المقاهي والنوادي في الصباح، كما يترددون عليها في المساء!. من حقوق الأمة أن يهيئ لها ولاة أمورها الوسائل للأعمال العامة، وينظروا في ترقية الصناعة والزراعة والتجارة، وتوسيع دائرتها، يعنون بها من

الوجهة العلمية: بفتح مدارس لتلقي ما له اختصاص بهذه الأصول الاقتصادية من علوم وفنون، ويعنون بها من الوجهة العملية: لإنشاء مصانع، وتشجيع الزرل، وتدبير الوسائل لرواج البضائع الوطنية ما استطاعوا، وبمثل هذه المساعي تجد الأيدي العاطلة مجالاً للعمل، ولا تخرج أثمان ملابسنا وأمتعة منازلنا وسائر مرافق حياتنا عن حدود أوطاننا. وليست تَبِعَةُ الحالة الاقتصادية ملقاة على عاتق أولي الأمر وحدهم، بل على الموسرين حظ من هذه التبعة عظيم؛ إذ في ميسورهم تأليف شركات تراعي في نظمها أصول الدين الحنيف، فتفيض بربح مبارك غزير، ويعيش من العمل بها خلق كثير. أقمت في عاصمة ألمانيا وبعض مدنها وقراها زمناً غير قصير، فلم أر قط سائلًا سليم البنية، بل لم أر في تلك المدة متكففًا غير نفر قليل هم ما بين رجل مقطوع اليد أو الزجْل، أو عجوز بلغت من الكبر ما فتّ في عضدها، لم أر سليم البدن يتكفف؛ إذ لا يعدم سليم البدن أن يجد هنالك عملاً حيوياً إذا شاء، والتعليم - وهو هناك إلزامي - يقبح لصاحبه أن يقف موقف الاستجداء. وكثير من أمراء الإسلام كانوا ينظرون الأمة برأفة، ويجتهدون في أن يخففوا عنها متاعب الحياة ما قدروا. وهذا طاهر بن الحسين يقول في كتابه الذي بعث به إلى ابنه عبد الله حين ولاه المامون مصر والرقة وما بينهما: "وتعاهد ذوي الباساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقاً من بيت المال، وانصب لمرضى المسلمين دورًا تؤويهم، وقوّاماً يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد

ذلك إلى سرف في بيت المال". وفي فتح طرق العمل للمستطيعين، وإقامة مستشفيات وملاجئ للمرضى والعاجزين، إنقاذ للأمة من أن تقود الحاجة طائفة من أبنائها إلى نواد أو مستشفيات يفتحها من يقصد إلى إفساد عقائدها الدينية، أو إطفاء غيرتها الوطنية. وأما الاغتباط بالنظم المدنية، فذلك ما يدعوها إلى أن تحترمها من صميم أفئدتها، فتراعيها في السرة كما تتقيها في العلانية، فيكتفي الناس في أكثر الخصومات بمعرفة الحق من طريق الاستفتاء. وأولو الأمر هم الذين يقررون النظم المدنية، ويقومون على تطبيقها، فأولو الأمر - على اختلاف طبقاتهم، وتفاوت مقاماتهم - طائفة من الأمة تولوا النظر في شؤونها العامة، فيجب أن يتجلى فيهم روح النيابة عنها، ولا يتجلى هذا الروح إلا أن يعملوا على ما يكفل مصالحها، ومقتضى هذا أن تساس بنظم تراها أحكم وضعاً، وأرعى للمصالح. والأمة الإسلامية إنما تشهد للنظم بالحكمة ورعاية المصالح، متى وافقت أصول شريعتها، ولم ينتهك بها شيء من حرمتها. وأما الرضا عن حال التطبيق، فلأن صحة النظم إنما يظهر أثرها على أيدي من يوكل إليهم أمر تطبيقها. وما مزية القانون العادل إذا وكل العمل به إلى من لم تحسن المدرسة أدبه؟ فتطبيق القوانين على الحوادث، يرجع إلى أدب الحاكم، ومبلغه من العلم والفهم. فمن حق الأمة أن لا يتولى الحكم فيما شجر بينها إلا ذو ثقافة يجيد بها عمل التطبيق، واستقامة يقف أمامها القوي والضعيف على سواء، وهذا ما يدور عليه فضيلة العدل المأمور به في قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45].

وأما الارتياح لطرق التنفيذ، فيعود إلى السلطة الإجرائية؛ كإدارة الشرطة. وحق الشعب على هؤلاء أن تأخذهم به الرحمة، ويشعروا بأنه جسدهم بعض أعضائه. أقمت في بعض البلاد الشرقية، فكنت أرى بين رجال القوة المسلحة وسائر الوطنيين جفاء يتطاير شرره لأدنى مخاطبة تدور بينهما، ثم رحلت إلى عاصمة أوربية، وطفت في بعض المدن والقرى، فكنت أرى تعطفاً وائتلافاً بين الجند والشرطة وبقية الشعب، ولا يكاد الناظر يفرق بينهما إلا بما يحمله الأولون من هيئة رسمية أو سلاح، كنت أشاهد سائق العجلة يجادل الشرطي مدة غير قصيرة، وأصواتهما في ارتفاع متساوية، ولا يكون بعد هذا إلا أن يقنع أحدهما الآخر ويفترقا. نحن نعلم أن انتشار التعليم في الشعب يساعد رجال الأمن وغيرهم على تنفيذ النظم العامة بكلمة ينبهون بها من يروم مخالفتها، ولكن المحروم من التعليم هو في حاجة إلى أن ينظر إليه بشفقة، ويعالج إليه بشيء من الرفق، إلا أن يخرق النظام متمرداً. قال معاوية بن أبي سفيان: "لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني". وتطبيق النظم على الواقع، وتنفيذها بعدل، حق من حقوق الأمة على ولاة أمورها، وإذا توقف على شيء يرجع الخطاب فيه إلى بعض أفراد الأمة؛ كأداء الشهادة على وجهها، كانت تبعته على أولئك الذين يستطيعون أن يشهدوا بحق، ويكتمون الشهادة وهم يعلمون. وأما أمن الأمة من أن تسطو يد غريبة على حق من حقوقها، فلتطمئن

على عزتها وكرامتها، ولتشعر بأن من تلدهم سيعيشون كما تعيش الأمم ذات الشوكة أحرارًا، ولا تأمن بأس خصومها، ولا تنظر إلى مستقبل أبنائها، فتراه أغرّ محجّلًا، إلا أن يكون ما بينهما وبين رعاتها عامرًا بالنصح من ناحية، وبحسن الطاعة من ناحية أخرى، فبالنصح ترقى معاهد التعليم، فتستغني بعلم أبنائها وكفايتهم للعمل عن أن تستمد وسائل الدفاع والمنعة من وطن غير وطنها، وبحسن الطاعة ينتظم أمر الجند، وتبلغ القوة المالية غايتها. وقد عني الإسلام - فيما عني - بهاتين الخصلتين العظيمتين: إخلاص ولاة الأمور للأمة، وطاعة الأمة لولاة أمورها، فأوجب على الولاة أن يقيموا سياستهم على رعاية الحقوق والمصالح، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يحطها بنصحه، إِلا لم يجد ريح الجنة" (¬1). ثم التفت إلى الرعية، فأمرهم بحسن الطاعة. ومن شواهد هذا: قوله- عليه الصلاة والسلام-: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة" (¬2). فالحق أن سعادة الأمة في أيدي رؤسائها، فإذا استقاموا على الطريقة، وساسوها برفق وحرص على مصالحها وكرامتها، سرت بجانبهم مستقيمة، فلا تلبث أن تنجح في سيرتها، وتظفر ببغيتها؛ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 64]. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري". (¬2) "صحيح البخاري".

صدق العزيمة أو قوة الإرادة

صدق العزيمة أو قوة الإرادة (¬1) يخطُر في النفس أمر، فتثق بأنه حق أو نافع، فتحرص على حصوله، فإذا أضافت إلى هذا الحرص النظر في وسيلة بلوغها إياه؛ وبدا لها أنه في حدود استطاعتها، فسرعان ما تقبل عليه، وتبذل سعيها للوصول إليه، وذلك ما نسميه: بالعزم، أو الإرادة. فما يخطر في النفس مما تعتقد حقيقته أو نفعه، وتود أن يكون حاصلًا لديها، ثم لا تسعى له سعيه، ولا تضع لبلوغه خطة، فإنما هو التمني الذي لا يفرق بين المحال والمستطاع، والذي يخطر في نفوس القاعدين؛ كما يخطر في نفوس المجاهدين، وما مثله إلا كمثل الشرر الذي يلمع حول النار، ثم يتصاعد هباء. وإذا تحدثنا في هذا المقال عن قوة الإرادة، وذهبنا في حديثها مذهب خصال الحمد، فإنما نعني: الإرادة المتوجهة إلى ما هو خير. ومن أفضل ما يمدح به الرجل: أن يتوجه بعزمه القاطع إلى إظهار حق، أو إقامة مصلحة. تنشأ قوة الإرادة من التجارب، فمن تعلق همه بأمر، كان قد عرف بطريق التجربة أنه ميسور، وأن عاقبته سلامة ونجاح، انقلب همه في الحال ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد الثالث، الصادر في شهر رجب 1349 هـ.

عزماً صادقاً، أما من لم تسبق له تجربة، فقد يتخيل الأمر بمكان لا تناله يده، أو يخشى من أن يلاقي وراء السعي إليه خيبة، فيقف في تردد وإحجام، فذو العمر الطويل من أولي الألباب، قد يكون أسرع إلى بعض الأمور، وأشد عزماً عليها من حديث السن؛ لما تفيده التجارب من إمكانها، ونجاح السعي لها. وتنشأ قوة الإرادة من درس التاريخ، فالذي يخطر في باله أمر، قرأ في سيرة شخص أنه كان قد هم بمثله، وعمل لحصوله، فنجح عمله، وصلحت عاقبته، شأنه أن يعزم على ذلك الخاطر، ويجعله بعد العزم عملاً نافذاً، فمن يخطر في باله أن يدعو الحاكم الجائر بالموعظة الحسنة، وقد قرأ سير العلماء الذين كانوا يأمرون بعض الجبارين بالمعروف فيأتمرون، أو يكظمون في الأقل غيظهم ولا يبطشون، يكون أقوى عزمأ على الدعوة ممن لم يقرأ في هذا الشأن خبراً، لما عرفه من أن للحق الذي يخرج في أسلويه الحكيم سطوة على النفوس، وإن كانت طاغية، فيقدم على وعظه في رفق، وحسن خطاب، فإن لم يهده سبيل الرشد، قضى حق النصيحة له، وما على الذين أوتوا الحكمة إلا البلاغ. وتنشأ قوة الإرادة من أدلة خاصة تجعل الرجل على يقين من نجاح العمل وحسن العاقبة، واعتبروا في هذا بتصميم أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - على قتال أهل الردة ومانعي الزكاة، فإنه كان عالماً بأنه على حق من قتالهم، وكان على ثقة من أنه سينتصر بفئته القليلة على جموعهم الكثيرة، ومما دله على أنه الظافر، وأن المرتدين عن الدين لا يفلحون، قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9]. ولو تقاعد أبو

بكر عن جهاد تلك القبائل، وخلّى الردة تتفشى في جزيرة العرب وباء فاتكًا، لانفصمت عرا الوحدة العربية الإسلامية، ولم يستقم أمر تلك الفتوح التي كانت عاقبتها ظهور دين الحق على سائر الأديان. وتنشأ قوة الإرادة من كمال بعض السجايا الأخرى، وبلوغها غاية قصوى؛ كسجية إباءة الضيم تهز الضعيف، وتثير في نفسه العزم على أن يدافع القوي عن حقوقه ما استطاع دفاعه، وكذلك خُلُق الشجاعة يجعل الرجل أمضى عزماً، وأسبق إلى الحروب من الجبان الذي يتمثل له الموت في كل سبيل. ومما يساعد الرجل على صدق العزيمة خُلُقُ التعفف وشرف الهمة، فلتجدنَّ أنزه القوم نفسًا، وأبعدهم عن الطمع وجهة، أشدَّهم عزماً على أن يقول حقاً، أو يعمل صالحاً، وإن لم يرض عن قوله الحق، أو عملِه الصالح ذو مال أو سلطان. تتفاوت الإرادة في القوة، وتفاوتها على قدر قوة شعور الرجل بما للشيء من حقيقة أو نفع، وعلى قدر ثقته من تيسره وإمكان حصوله، فالذي أتقن علماً، فأحاط بأصوله، وغاص على أسراره، يكون عزمه في الدعاية إلى الأعمال المرتبطة به أقوى من عزم ذلك الذي وقف في دراسته عند حد لا يجعله من أعلامه، والرئيس العادل يكون أقوى عزماً على حرب أعدائه من الرئيس الجائر؛ لأن العادل يثق من قومه بحسن الطاعة أكثر مما يثق الجائر، ومن ظفر من قومه بحسن الطاعة، فقد ظفر باكبر أسباب الفوز والانتصار. نقرأ في التاريخ: أن المنصور بن أبي عامر الذي جذب عنان الملك من يد هشام بن الحكم في قرطبة، قد غزا ستًا وخمسين غزوة دون أن تنتكس له راية، أو يتخاذل له جيش، أو يصاب له بعث، أو تهلك له سرية، ومن درس

سيرته، لم يعجب لهذا الانتصار المطرد؛ إذ يجد فيها عدلاً ومساواة يأخذان النفوس إلى أن تلقي إليه بالمودة والامتثال، ومن الأخبار الشاهدة بما وصفنا: أن رجلاً من العامة وقف بمجلسه، وقال له: إن لي مظلمة عند ذلك الوصيف الذي على رأسك، وأشار إلى الفتى صاحب الدرقة (¬1)، وكان للفتى فضل محل عنده، فقال المنصور: ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية! ثم نظر إلى الفتى، وقال له: ادفع الدرقة إلى فلان، وانزل صاغراً، وساو خصمك في مقامه، حتى يرفعك الحق أو يضعك، ثم قال لصاحب شرطته الخاص به: خذ بيد هذا الفاسق الظالم، وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره، وبعد أن جازاه القضاء بما يستحق، أبعده المنصور عن خدمته، وصاحبُ مثل هذه السيرة حقيق بأن يكون له، متى هم بالحرب، عزم لا يختلج بتردد. فمن وضع أمامه غاية شريفة، ورام من قومه العمل لها بعزم لا يخالطه فتور، فما عليه إلا أن يريهم بالأسلوب السائغ والدليل المقنع وجه شرف تلك الغاية، ثم يصف لهم طريقها الناجح، فلا يكون منهم إلا أن يتسابقوا إليها، ويقتحموا كل عقبة تلاقيهم في سبيلها. فإذا رأيت قوماً يذكرون في صباحهم ومسائهم شيئاً من معالي الأمور، ولم ترهم يسعون له سعيه، ولا يتقدمون إليه بخطوة، فاعلم أن العزم لم يأخذ من قلوبهم مأخذه، فهم إما أن يكونوا عن حقيقته وشرف غايته غائبين، وإما أنهم ضلّوا طريقه وما كانوا مهتدين. ¬

_ (¬1) الدرقة: الترس.

وإذا ذكرنا العزم النافذ في خصال الشرف، فإنما نريد: الإقدام على الأمر بعد استبانة عاقبته، ولو على وجه الظن الغالب، وذلك ما يعنيه عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - في قوله: "ولكن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المَكيث"، والمكيث: من لا يخف إلى الهجوم إلا بعد روية وتدبر. ولا يعد في قلة العزم أن يستبين الرجل الحق أو المصلحة، ويقف دون عزمه مانع؛ كأن يعلم أن عقول الجمهور لا تتسع لقبوله، ويخشى الفتنة، فيرجئه ريثما يمهد له بما يجعله مقبولاً سائغاً. قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه عمر: يا أبت! ما لك لا تنفذ الأمور؟ فو الله! لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور، فقال له عمر: لا تعجل يا بني، إن الله تعالى ذمّ الخمر مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه، وتكون فتنة. ولا يُعَدُّ في قلة العزم أن يرى الرجل رأياً، ويعقد النية على إنقاذه، ثم يبدو له على طريق الحجة أنه غير صالح، فينصرف عنه. وقويُّ العزيمة هو الذي تكون إرادته تحت سلطان عقله، فيقبل بها على ما يراه صواباً، ويدبر بها عما يراه فساداً. وإذا قال الشاعر مادحاً: إذا همَّ ألقى بين عينيه عَزْمَهُ ... ونكَّبَ عن ذِكْرِ العواقِبِ جانِبا فإنما يريد: الهمّ الناشئ عن رجاحة رأي. وقويُّ العزم متى بصر بالأمر، ووثق بأنه سداد، قطع نظره عن العواقب، ونهض له في قوة، أما ضعيف العزم، فإنه يترك نفسه مجالاً للخواطر وذكر العواقب، هذه تغريه على العمل، وهذه تصده عنه، حتى تفوت الفرصة، ويذهب وقت العمل ضائعاً.

ومن صرامة العزم: أن تفرغ فؤادك من كل داعية شأنها أن تلحق بعزمك وهنًا، أو تصرف وجهك عنه صفحًا. وتتمثل هذه الصرامة في عبد الرحمن الداخل "صقر قريش (¬1) "؛ إذ خرج من البحر أول قدومه على الأندلس، وأُهْدِيت له جارية بارعة الجمال، فنظر إليها وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا شغلت عنها بما أهم به، ظلمتُها، وإن أنا اشتغلت بها عما أهم به، ظلمت همتي، فلا حاجة لي بها الآن. وردّها على صاحبها. وكثيراً ما يجيء التردد في أمر من ناحية الشهوات والعواطف؛ كالذي يثق بما في طلب العلم من خير وشرف، ويقعده عنه حب الراحة، وإيثار ما تنزع إليه النفس من اللذات الحاضرة، والذي يقول: إذا كنتَ ذا رأي فكُنْ ذا عزيمةٍ ... فإنَّ فسادَ الرأي أنْ تَتردَّدا إنما ينبه على التردد الناشئ عن نحو الشهوات والعواطف، فذلك هو التردد المفسد للرأي، والموقعُ في خسر. لقوة الإرادة أثر في انقلاب حال الأفراد والجماعات عظيم، فكم من فتى يساويه في نباهة الذهن وسائر وسائل السؤدد فتيان كثيرون، ولكنه يجد من قوة الإرادة ما لا يجدون، فيكون له شأن غير شأنهم، ويبلغ في المحامد شأوًا أبعد من شأوهم، ولو نظرت إلى كثير ممن ظهروا أكثر مما ظهر غيرهم، ¬

_ (¬1) قال أبو جعفر المنصور لأصحابه يوماً: أخبروني عن صقر قريش، فذكروا له طائفة من الخلفاء، وهو يقول: "لا"، فقالوا: من يا أمير المؤمنين؟ فقال: عبد الرحمن ابن معاوية الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميًا مفردًا، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودوّن الدواوين، وأقام ملكاً بعد انقطاعه؛ لحسن تدبيره، وشدة شكيمته.

وأقمت موازنة بينهم وبين كثير من لِداتهم، لم تجد في أولئك الظاهرين مزية يرجح بها وزنهم غير أنه يهمون بالأمر، فيعملون. وإذا جعلت تتقصى أثر دولة الموحِّدين التي وضعت قدمها في فاس، وبسطَت أجنحتها على الأندلس والجزائر وتونس، وجدت أقصى هذه الدولة همة طفحت بها نفس محمد بن تومرت بعد انصرافه عن مجالس أبي حامد الغزالي، وأبي بكر الطرطوشي، وغيرهما، عائداً إلى بلده بالمغرب الأقصى. وكم من أمة أو دولة لم ينقذها ممن يبتغي بها سوءاً سوى قوة الإرادة!. وقد يكون فيما صنع هارون الرشيد بالبرامكة غلو في الانتقام، وسرف في القتل، ولكن تنقية مناصب الدولة لم تكن إلا بنت اليقظة والإرادة التي لا يأخذها التردد في قطع المكر السيئ من جذوره. وإذا صح ما يصفهم به بعض أهل (¬1) العلم من أنهم كانوا يكيدون للإسلام كيد الباطنية، كان لهارون الرشيد موقف المنتقم لملكه، أو ملك أسرته من بعده. فإذا كان صدق العزيمة من أفضل خصال الشرف، وأجلها في الإصلاح أثراً، فجدير بأساتيذ التربية أن يعطوه من عنايتهم نصيباً وافرًا، وحقيق بالرجال القوّامين على الشؤون العامة أن يأخذوا به أنفسهم، ويقيموه شاهداً على كفايتهم؛ فإن ما بيننا وبين المدنية الفاضلة والحياة الآمنة مسافة طويلة المدى، صعبة المرتقى، إذا لم نقطعها بالعزم الصارم والعمل المتواصل، ظلمنا أنفسنا، ولم نقض حق الأجيال بعدنا، فمن واجبهم علينا أن نبني لهم صروحاً من العز شامخة، فإن لم نستطع، هيأنا لهم أسسًا ليرفعوا عليها قواعد الشرف والمنعة، فإذا هم أحرار في أوطانهم حقاً، مكرمون لنزلائهم طوعاً. ¬

_ (¬1) هذا ما قرره القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "القواصم والعواصم".

وما اقترن العزم الصحيح بأدب التوكل على من بيده ملكوت كل شيء إلا كانت عاقبته نجاحاً ورشداً؛ {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

الغيرة على الحقائق والمصالح

الغيرة على الحقائق والمصالح (¬1) متى نظر الإنسان، أو تدبر أمراً، ووثق بأنه حقيقة أو مصلحة، وجد في نفسه ارتياحًا عندما يلاقي شخصًا يشاركه في الشعور به، ويكون ارتياحه أشد حيث يراه يعمل على مقتضى هذا الشعور، كما أنه يتألم حينما يشاهد امرأً ينكر تلك الحقيقة أو المصلحة، ويكون تألمه أشد حيث يراه مجداً في مناوأتها، سالكاً غير سبيلها، وهذا التألم الذي يشتد، فيدفعك إلى أن تسهب في إيضاح وجه الحقيقة أو المصلحة، أو تعمل على أن تكف من يبغي عليها ما أمكنك، هو ما نعنيه بالغيرة. فإذا حدثك الرجل في أمر، وأراك أنه مطمئن إلى أنه حق، ثم لا تلبث أن تراه متحيزًا إلى من يكيد له، ويدعو إلى من ينقضه، فاعلم أنه خالي القلب من الاطمئنان إليه، وإنما أراك ظاهرًا يخالف ما يكنه صدره، وتطمئن إليه نفسه. والعقل السليم لا يستطيع أن يفهم كيف يجتمع الإيمان بالحق مع موالاة من يحاربه في السر أو العلانية، فالغيرة على الحق من مقتضيات الإيمان به، تقوى بقوته، وتضعف بضعفه، وتفقد حيث لا يكون القلب مؤمناً. وفي الناس من يلهج بكلمة: "التسامح" يملأ بها فمه، حتى لا تنكر ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الثالث الصادر في شهر شعبان 1349 هـ.

عليه حين تراه قد اتخذ من المضلين أو المفسدين في الأرض أولياء يطيل التردد على أعتابهم، ويغمس لسانه أينما جلس في إطرائهم، ويجهد نفسه في تمويه باطلهم. والتسامح المعقول: أن لا تؤذي من خالفك في العقيدة، فتنسب إليه زوراً، أو تنفي عنه مكرمةً، أو تهضم له حقاً، أو تنكث له عهداً، أو تخلف له وعداً. ومن التسامح المقبول: أن تبرّه، وتقسط إليه، وتمد إليه يد التعاون على المصالح المشتركة، وقد حرَّمت الشريعة الإسلامية الإساءة إلى المخالفين الذين لم يخرجونا من ديارنا، ولم يطعنوا في ديننا، ولم يوقدوا نارًا لحربنا، ووردت أحاديث تنهى عن مس الناس بشيء من الأذى، فحمل الفقهاء النهي فيها على وجه يعم المخالفين المقيمين في ظل الإسلام، كما قالوا في حديث: "لا يبعْ بعضكم على بيع أخيه": إن النهي شامل لبيع المسلم على بيع غير المسلم؛ لما ينشأ عن صرف المشتري عنه من تقاطع وشحناء، وأذنت في أن نبرّهم، ونقسط إليهم، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. وقد علّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نداري من ينتمون إلى الإسلام، ونعاشرهم بالمعروف، وإن عرفنا في لحن أقوالهم أو غيره من الدلائل الخفية أنهم من طائفة المنافقين. أما الرجل يملك قلماً أو لساناً أو حساماً أو جاهاً، فيصرفه في نقض أساس ما هو دين حق، أو شريعة صالحة، فذلك ما لا يتولاه إلا غبي لا يفرق بين الأعمى والبصير. أو زائغ عن سبيل الرشد فما له من نور. وقد أنكر الله على من يتزلف لأشياع الغي، فقال: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ

جَمِيعًا} [النساء: 139]، وفي الآية شاهد صدق على أن العزة بيد الله يخلعها على من يغار على الحقائق غير مكترث بمن يناوئونها، وإن كانوا أولي جاه أو سلطان. فمن الغيرة على الحق: أن تقاوم المبطلين أو المفسدين قاطعًا النظر عن كل صلة وعاطفة، ومن التسامح المقبول: أن تدفعهم بالتي هي أحسن، حتى كأنك لا تعرف شيئاً من شؤونهم غير ما تصديت لمناقشتهم فيه، وذلك ما يستبين به الناس أنك لا تقصد إلا أن تكف بأسهم، وتحمي النفوس من وباء دعايتهم. تتفاضل الحقائق والمصالح من ناحية ما يتصل بها من خير، فوجود الخالق، أو صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - في رسالته - مثلاً - يقوم على الإيمان به من سعادة الأفراد والأقوام أكثر مما يقوم على الإيمان بعدل أبي بكر، وعمر بن الخطاب؛ وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يترتب عليها من الفلاح فوق ما يترتب على زيارة أخ، أو عيادة مريض. وكذلك الغيرة على الحقائق تكون على قدر تفاضلها فيما يترتب عليها من العواقب، فالغيرة الصادقة: أن يتألم الرجل من الجهل على مقام الإلهية، أو الرسالة العظمى أشد مما يتألم للطعن في نفسه، أو في أخ له، أو صديق، ويتألم مسجد، أو إلغاء مدرسة أشد مما يتألم لهدم بيت، أو إهمال حديقة. بعيد من الغيرة عن الحقائق ذلك الذي يسمع سوء القول في الله أو في رسوله، فلا يجد في نفسه لسماع هذا السفه أثراً، وإذا مُسَّ جانب من يتصل به نسبًا، أو يمد له من متاع هذه الحياة سبباً، هاج غضبه، وارتعدت فرائصه.

بعيد من الغيرة على المصالح ذلك الذي يكون تحت يده مال، فيبخل به على بناء مدرسة يستنير فيها الناشئون، أو إقامة ملجأ يأوي إليه البائسون، ويبسط به يده في إنشاء مرقص، أو ملهى يتخذ فيه الفتيان والفتيات نصاباً يسفكون عليها دم الفضيلة. ضعف الغيرة على الحق، أو فقدُها، نقيصة تنزل بصاحبها إلى الحضيض، وكذلك ينبغي للإنسان أن يملك الغيرة عند ثورتها، فلا يخرج في معاملة المنتهك لحرمة الحق عن حدود العدل، فالذي يغار على أمر جعل الشارع لمنتهِكِه حدًّا مفروضًا، لا يحلُّ له أن يتجاوز ما حدَّه الشارع استرسالاً مع طغيانها، فإن كان الجزاء موكولًا لاجتهاد القاضي، اجتزأ (¬1) القاضي بالمقدار الذي يكفي للردع، وليس من الغيرة المحمودة أن يتعدى في جزاء السيئة ما يكفي للزجر عن اقترافها. والغيرة الصادقة: هي التي تنهض بصاحبها إلى مكافحة المبطل أو المفسد، وتقويم عوجه في تثبت وحزم. الغيرة تبعث الرجل على الجهاد في الحق بأي وسيلة استطاعها، فالرئيس الغيور يذود عن الحق بما في يده من قوة، متى كان الهاجم عليه في غشاوة تمنعه من أن يفقه الحجة. والعالم الغيور لا يفتأ يذب عن الحق بلسانه أو قلمه، ولا يسوقه طمع أو رهبة إلى الخمول أو الصمت، وما خمول العالم وصمته سوى قلة الثقة بما وعد الله به أنصار الحق من فوز وحياة طيبة. والموسر الغيور ينفق في سبيل الإصلاخ باليمين واليسار، ومن كان ¬

_ (¬1) اجتزأ: اكتفى.

صافي البصيرة يرتاح لظهور الحق وقيامِ المصلحة العامة أكثر مما يرتاح لأن يكنز ذهباً، أو تكون له قصور فيحاء، وحدائق غناء. وإذا أردت أن تميز فاقد الغيرة على المصالح ممن يغارون عليها، فهو الذي يجري وراء منافعه الخاصة أينما رآها أو تخيلها، يراها بجانب مصلحة عامة، فيظهر في زي الداعي إلى هذه المصلحة، ويملأ الجو نداء للتعاون عليها، حتى إذا تراءت له منفعة، لا يصل إليها إلا أن يقضي على ما ينفع الناس جميعاً، داسه بكلتا قدميه، وذهب إلى منفعته تواً لا يلوي على شيء. قد يسلك الرجل طريق العدل محافظة على المنصب، أو رغبة في حسن الأحدوثة، ولكن الغيرة على الحق هي التي تجعل الحكم عادلاً في كل قضية، فالغيرة على الحق هي التي تقف بالقاضي في حدود الإنصاف حين ترفع إليه خصومة بين ذي سلطان وأشعث أغبر ذي طمرين، فلا يبالي أن ينصف ذا الطمرين (¬1)، ويقضي على ذي السلطان، وكذلك يفعل القضاة العادلون. دُعي العلامة محمد بن بشير إلى قضاء قرطبة، فاستشار صديقًا له في قبول الولاية، فقال له: كيف حبك لمدح الناس لك وثنائهم عليك؟ وكيف حبك للولاية وكراهيتك للعزل؟ قال: والله! ما أُبالي من مَدَحني أو ذمَّني، وما أُسَرُّ للولاية ولا أستوحش للعزل! فقال: اقبل الولاية، ولا بأس عليك. وفي سيرة ابن بشير هذا ما يشهد بصدق غيرته على الحق، ويحقق ما وصف به نفسه من أنه لا يسر للولاية، ولا يستوحش من العزل. ومن الخطر على الحقوق والمصالح: أن يتولى أمرها محروم من الغيرة عليها، وكم من حق أهمل، ومصلحة أُميتت، والسبب في إهمال ذاك، ¬

_ (¬1) الطمر: الثوب الخلق.

وإماتة هذا: أن ألقي أمرهما إلى من لم يذق للغيرة عليهما طمعاً. ماذا يكون العمل في قضية الاعتداء على هتك عرض الفتاة إذا أسندت إلى من تقلب في بيئة لا تعرف للعفاف سبيلاً؟ وماذا يكون العمل في قضية الاعتداء على الدين، إذا وضعت بين يدي من لا يرى له حرمة، ولا يرعى للأمة التي تعتصم به ذمة؟ وكيف تدار مدرسة ترجع نظم التعليم فيها إلى من يؤثر اللهو على الجد، ويفتنه زخرف الحياة عن طرق الرشد التي تخرج رجالاً يعملون صالحاً، ويبتكرون عظيماً؟ ونحن نرى في الشعوب من حيل بينها وبين واجبات دينها، وأكرهت على التعامل بغير ما لم تأذن به شريعتها، واستبد عليها في طريقة تعليم أبنائها، ذلك لأنها وقعت تحت ذي قوة استضعفها، ولم يكن له نصيب من الغيرة على شريعتها!. إن أمة لها دين قيم، وشرع حكيم، ومجد لم يصف التاريخ له من نظير، لا يستقيم أمرها إلا لمن يغار على شرعها، أو يتودد لها باحترامه، والمحافظة على أصوله. وإذا حكى لنا التاريخ أن ذا سلطان آذى أُمة إسلامية في دينها، أو قهرها بالسيف، أو بوسيلة التعليم على أن تنسلخ من هداية ربها، فلأنه إنما وضع سلطانه على رؤوس جماعات متفرقة غافلة، أما الأمم المتيقظة التي تقدر الحق قدره، فليس من السهل على ذي القوة أن يؤذيها في دينها، ويستخف بالحقوق التي قررها شرعها، إلا أن يكون جهولاً بالعواقب، أو غير راغب في أن يكون سلطانه ثابت القواعد. الغيرة على الحق تتمثل فيمن ينظر إلى الدليل، ويصدع بما أراه الله،

وإن كره السائلون. حضر لدى ابن هبيرة الحسن البصري، فاستفتاه ابن هبيرة في كتب تأتيه من عند يزيد بن عبد الملك، وفيها من الأمر بما لم يأذن به الله، وقال: "إن أنفذتها، وافقت سخط الله، صان لم أنفذها، خشيت على دمي! "، فقال الحسن: "يا ابن هبيرة! خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، يا ابن هبيرة! إن الله مانعك من يزيد، صان يزيد لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة! لا طاعة لمخلوق في معصية الله، فانظر ما كتب إليك فيه يزيد، فاعرضه على كتاب الله تعالى، فما وافق كتاب الله تعالى، فأنفذه، وما خالف كتاب الله، فلا تنفذه، فإن الله أولى بك من يزيد، وكتاب الله أولى بك من كتابه"، فضرب ابن هبيرة على كتف الحسن، وقال: "هذا الشيخ صدقني وربِّ الكعبة! ". وتتمثل الغيرة على الحق فيمن يفسح له بعض الوجهاء في الإكرام مكانة، ولا يمنعه ذلك من أن ينظر إلى ما أكرمه الله به من عقل، ورَفَعه به من علم، فلا يسكت لذلك الوجيه عما يأتي من منكر، ويذهب في تقويمه كل مذهب ممكن. وأضرب المثل لهذا بإبراهيم بن محمد بن طلحة، إذ قرّبه الحجاج، وعظَّم منزلته، وقدم به على عبد الملك بن مروان، وقال له: قدمت عليك برجل الحجاز، لم أدع له بها نظيراً في الفضل والأدب والمروءة، وهو إبراهيم ابن محمد بن طلحة، ولكن إبراهيم بن طلحة قال لعبد الملك: عندي نصيحة لا أجد بداً من ذكرها، ولا أقدر على ذلك إلا وأنا خالي، فصرف عبدُ الملك الحجَّاج من المجلس، وقال لابن طلحة: قل نصيحتك، فقال: "تالله يا أمير المؤمنين! لقد عمدتَ إلى الحجاج في تغطرسه وتعجرفه، وبعدِه عن الحق،

وقربِه من الباطل، فوليته الحرمين، وهما ما هما، وبهما من بهما من المهاجرين والأنصار، والموالي والأخيار، يسومهم الخسف، ويحكم فيهم بغير السنّة بعد الذي كان من سفك دمائهم، وما انتهك من حرمهم! "، ولم يخبر عبد الملك الحجاج بما قال ابن طلحة، ولكنه عزله عن الحرمين، وولاه العراقين، واعتذر لابن طلحة عن توليته العراقيين بأن فيهما من الأمور ما لا يدحضها إلا مثله. وفصل القول في هذا: أن الغيرة على الحق والمصلحة ما غلبت على نفوس الأمة إلا استقامت سيرتها، وعلت في الأمم سمعتها، وحسنت في كلتا الحياتين عاقبتها، ولا حق أجلى مما يدعو إليه الخلاّق العليم، ولا مصلحة أعظم مما تهدي إليه أصول شرعه الحكيم، فإذا لم نرسم في نفوس نشئنا الغيرة على حقائق الدين، وما أرشد إليه من مصالح، وما سنّه من آداب، ضلوا عن أسمى الحقائق، وأضاعوا أكبر المصالح، وتجردوا من أسنى الآداب، وهل غير هذه العاقبة من خسران مبين؟!. فمن أهم واجباتنا: أن نربي نشأنا على الشعور بعظمة الله، ثم لا نفتأ نذكر لهم آيات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى يطمئنوا إلى صحتها، ولا ندع أن نقرر لهم أصول الشريعة على وجه يجعلهم على بصيرة من حكمتها، وهذا ما يربي فيهم الغيرة المهذبة، ويعدّهم لأن يكونوا للحقائق والمصالح أنصاراً.

الشجاعة وأثرها في عظمة الأمم

الشجاعة وأثرها في عظمة الأمم (¬1) في الدنيا لذة وخير، وفي الدنيا ألم وشر، وفي النفوس طبيعة الارتياح والرغبة فيما فيه لذة أو خير، وطبيعة النفور والخوف مما فيه ألم أو شر، وعلى حال الرغبة والرهبة تقوم فضيلة الشجاعة، ورذيلة الجبن. ذلك أن الإنسان يخاف أن يقع في ألم، أو يرغب في إدراك لذة، فيبتغي الوسيلة إلى التخلص من الألم، أو الوصول إلى اللذة. فالشجاع يخاف من العار الذي يلحقه من احتمال الضيم، أو يرغب في أن يدرك مجداً شامخاً، أو ثناء فاخرًا، فيلقي بنفسه في مواقع الدفاع، لا يلوي جبينه عن طعان أو نضال. ويخاف الجبان الموت، أو يرغب في نعيم عاجل، أو زينة، فيقعد مع القواعد، ولا يهمه أن تزدريه كل عين، أو يذمه كل لسان. إذا ما الفتى لم يبغ إلا لباسَه ... ومطعَمَهُ فالخَيْرُ مِنْهُ بعيدُ وليس كل إقدام على الموت شجاعة، وإنما الشجاعة: الإقدام في المواطن التي ينبغي فيها الإقدام؛ كمواقف الدفاع عن النفس، أو العرض، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد العاشر، الصادر في شهر جمادى الأولى 1357 هـ.

أو الدين، أو المستضعفين من الناس، فليس بالشجاع ذلك الذي يحمل السلاح، ويلبس ظلام الليل؛ ليسفك دماً معصوماً، أو ينهب مالاً بغير حق، وإنما هو سفه الرأي، وقسوة القلب، يلتقيان، فيلدان بغياً وفساداً في الأرض. وعلماء الأخلاق يسمون مثل هذا الإقدام: جراءة وتهوراً. وليس بالشجاعة ذلك الذي يفاجئه مكروه من نحو مرض أو خيبة أمل، فيسودّ في عينه وجه الحياة، ويرتكب جريمة الانتحار؛ فإن إِقدام المنتحر على الموت إنما هو أثر ضعف النفس، وفقد العزم الذي يُعِدُّه عظماء الرجال لما يعرض لهم من الشدائد. ومن هنا قال أرسطو في كتاب "الأخلاق": إن الإقدام على الانتحار خليق بأن يسمى: جبناً، دون أن يسمى: شجاعة. وإذا كان الإقدام على الموت ونحوه قد يسمى: تهوراً، وقد يسمى: جبناً، فالشجاعة إنما هي الإقدام الصادر عن روية وحكمة. ينظر حكيم الرأي إلى ما قد يلحقه في مواطن الدفاع من نحو مصيبة الموت، ويزنه بما يلحقه عند الإحجام من نحو الذل والهوان، فيبدو له أن الإحجام لا يمنع من الموت. ومَنْ لم يَمُتْ بالسَّيْفِ ماتَ بغيره ... تنوَّعَتِ الأسبابُ والمَوْتُ واحِدُ وان العار والهوان يمكن اتقاؤهما بالإقدام والثبات، فيكون الإقدام في نظره أرجح من الإحجام، قال قطري بن الفجاءة: وما للمرءِ خيرُ في حياةٍ ... إذا ما عُد من سَقَطِ المتاعِ وقد يعتدي على الرجل طائفة من عشيرته أو قومه، فينظر إلى اللذة التي قد يدركها بالانتقام منها، ويقيسها بالضرر الذي يلحقه من هذا الانتقام، فيبدو له أن لذة الانتقام عرض زائل، وأن في الإقدام على حربهم توسيعاً

لثلمة العداوة، وتقليلاً لعدد أنصاره، داضاعة لخصلة من أعظم خصال الشرف، وهي الحلم، فيؤثر هنا الإحجام على الإقدام. قومي هُمُ قَتلوا أمَيْمَ أخي ... فإذا رَميْتُ يُصيبني سَهْمي وليس من شرط الشجاعة أن لا يجد الرجل في نفسه الخوف من الهلاك جملة، بل يكفي في شجاعة الرجل أن لا يعظم في نفسه الخوف حتى يمنعه من الإقدام، أو يرجع به إلى انهزام. قال هشام بن عبد الملك لمسلمة: يا أبا سعيد! هل دخَلك ذعر قط لحرب أو عدوّ؟ قال مسلمة: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه على حيلة، ولم يغشني فيها ذكر سلبني رأي، قال هشام: هذه هي البسالة!. وقد يتوهم متوهِّم أن الجبان يحب نفسه أكثر مما يحب الشجاع نفسه، والواقع أن الشجاع شديد الحب لنفسه، وشدة الحب لنفسه هي التي تحمله على أن يركب الأخطار، ويخوض غمرات الحروب؛ ليكسبها الشرف أو السعادة، قال ابن الحسين: وحبُّ الجبانِ النفْسَ أورَثه التُّقى ... وحبُّ الشجاعِ النَّفْسَ أَوْرَثَهُ الحَرْبا يحرص الجبان على الحياة؛ ليتمتع بما يصل إليه من مطعوم أو زينة، ويحرص الشجاع على الحياة؛ ليتمتع بما يكسب من شرف وعزة، وهذه الحياة هي التي توهب للشجاع عندما يخوض غمار الحرب بثبات وعزم، كما قال الصدّيق لخالد بن الوليد: "احرص على الموت، توهب لك الحياة". وهذه الحياة هي التي وجدها الحصين بن الحمام في الإقدام، فقال: تأخَّرْتُ أسْتبقي الحياةَ فلَمْ أَجِدْ ... لنَفْسي حياةً مِثْلَ أنْ أتقدَّما

يتفاضل الناس في الشجاعة، فمنهم من يقدم على مواقع الخطر، ويخوض عبابها ثابتَ الجنان، حتى يفوز بالظفر، أو يلاقي مصرعه. قال السريّ الرفاء في سيف الدولة: وأغرَّ يأنفُ أن يَصُدَّ عن الوَغى ... حتّى يُذِلَّ معاطِساً وأُنوفا وقال المعتمد بن عباد: ما سِرْتُ قَطُّ إلى القتا ... لِ وكان من أملي الرجوع وقال أبو تمام في مدح محمد بن حميد: فأثْبتَ في مُستَنقَعِ الموتِ رِجْلَهُ ... وقال لها مِنْ تحتِ أخْمُصِكِ الحَشْرُ وهذا المصنف من الأبطال هم الذين يفخرون، أو يمدحون بأن الطعن لا يقع في ظهورهم قط، وإذا طُعنوا، ففي وجوههم، أو صدورهم، قال الحصين بن الحمام: ولسْنا على الأعقابِ تدمى كُلومُنا ... ولكنْ على أقدامِنا تُقْطَرُ الدِّما ومن أهل هذه الطبقة: أولئك الذين يصفونهم في مواقع الخطوب بطلاقة المحيا، أو ابتسام الثغر، أو ابتهاج القلب، قال ابن الحسين: تمر بك الأبطالُ كَلْمى هزيمةً ... ووجْهُكَ وَضَّاحٌ وثغرُك باسمُ وقال ابن هانح: كأنَّ لواءَ الشَّمْسِ جعفَرٍ ... رأى القِرْنَ فازدادَتْ طلاقتُه ضِعفا وقد يحدثونك عن قوة شجاعة القوم، فيصفونهم بأنهم يلذَّون ذكر المنايا، ويطربون لأحاديث الحروب:

يثْني حديثُ الوغى أعطافَهم طَرَباً ... كان ذِكْرَ المنايا بينَهم غَزَلُ ومن ثقة الرجل بشجاعته: أن يقارع خصومه مجابهة، ويأنف أن يقارعهم على وجه المخاتلة، قال بعض مادحي سيف الدولة: إذا حاول الأقرانُ في الرَّوعِ خَتْلَهُ ... أبرَّ عليهم مُقدِماً لا مُخاتِلا خَتْلَهُ ويبالغ بعض الأبطال في عدم المبالاة بالموت، فيدخل مواقع القتال دون أن يقي بدنه بنحو درعِ أو مِغْفَرِ (¬1)، وهو قادر على وقايته؛ كما قال المعتمد بن عباد: قد رمتُ يومَ نزالِهم ... أن لا تحصِّنَني الدروعُ وبرزت ليس سوى القميـ ... ـصِ على الحشا شيءٌ دفوعُ ويعدّون من تناهي القوم في الشجاعة: أن يدعوهم إلى الحرب داع، فينهضوا لها من غير أن يسألوا داعيهم عن وجهة الحرب، ولا عن الباعث عليها، قال وداك بن نمير المازني: إذا استُنْجِدوا لم يَسْألوا من دَعاهُمُ ... لأيةِ حَرْبٍ أَمْ بأَيِّ مكانِ وتعد هذه الطاعة البالغة من قبيل الشجاعة المحمودة، متى كانت إجابةً لدل عرفوه بصدق اللهجة، وحكمة الرأي. وليس من لباب الشجاعة، ولا من قشورها: أن يسرع الرجل إلى مواقع الخطوب جاهلاً بما يلاقيه عندها من شدائد، حتى إذا شاهد طرفاً من أهوالها، أو وقعت عليه شرارة من نارها، لاذ بالفرار، ورجع إلى أهله بغير قلب. ¬

_ (¬1) المغفر: زرد ينسج من الدروع قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.

ومن ظنَّ ممن يلاقي الحروبَ ... بأنْ لا يُصابَ فقَدْ ظَنَّ عَجْزا ولا ينقص من قدر الشجاع أن يقتل وهو يخوض في غمار الحروب. قال أبو تمام في رثاء محمد بن حميد: فتىً ماتَ بين الطَّعْنِ والضَّرْبِ ميتةً ... تقومُ مَقامَ النَّصْرِ إنْ فاتَه النَّصْرُ ولا ينقص من قدره أن يثبت في موقف الدفاع حتى يقع في أسر. وقع هشام بن عبد العزيز قائد جيش السلطان محمد بن عبد الرحمن الأندلسي أسيراً في يد العدو، فاستقصره السلطان، ونسبه إلى الطيش، فاعتذر عنه الوليد بن عبد الرحمن بن غانم، ومما قال في الاعتذار عنه: إن هاشماً قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حق الإقدام، حتى مُلك مقبلًا غير مدبر، مُبليًا غير فشل، فجوزي خيراً عن نفسه وسلطانه!. والشأن فيمن يعيش في نعيم وزينة أن يكون أشد الناس كراهة للحروب، فإذا أنبتت بيئات الترف فتى يزدري النعيم والزينة، ويطمح بهمته إلى الشرف الصميم، كان فضله في الشجاعة أظهر، وإقدامه أدعى إلى الإعجاب به، ولذلك ترى الأدباء إذا أرادوا أن يجعلوا إعجابك بشجاعة الممدوح أبلغ، أشاروا إلى أن النعمة والزينة لا تذهب برجوليته، ولا تقعد به عن حماية الشرف والكرامة، قال الحطيئة: إذا همَّ بالأعداءِ لم يَثْنِ عزمَهُ ... كعابٌ عليها لؤلؤٌ وشُنوفُ حَصانٌ لها في البيتِ زيٌّ وبهجةٌ ... ومشيٌ كما تمشي القَطاةُ قَطوفُ وقال كثير في عبد الملك بن مروان: إذا ما أرادَ الغزوَ لم يثْنِ عَزْمَهُ ... حَصانٌ عليها نَظْمُ درٍّ يَزينُها

نهتْه فلمّا لم ترَ النهيَ عاقَه ... بكتْ فبكى مما شجاها قَطينُها قد يعرف الجبان فضل الشجاعة، ولكن الشجاع أعرف بقدرها، وأدرى بقيمة قِرْنه المطبوع عليها، وربما طاعنه مضطرًا إلى طعانه، والأسف يملأ ما بين جوانحه، قال بشر في القصيدة التي وصف فيها مقاتلته للأسد: وقلتُ له يَعزُّعليَّ أَنّي ... قتلتُ مُناسِبي جَلداً وقَهْرا ولكن رمتُ أمْراً لم يَرُمْهُ ... سِواكَ فلمْ أَطِقْ يا ليثُ صَبْرا ويعجبني من تشطير الأستاذ محمود قبادو التونسي لهذه القصيدة قوله: (وقلتُ له يعزُّ عليَّ أَنِّي) ... أراك معفَّرًا شَطْرًا فَشَطْرا وأستحيي المروءة أن تَراني ... (قتلتُ مُناسبي جَلداً وقَهْرا) وللشجاعة الفضل الأكبر في حماية شرف الفرد أو الجماعة، قال عمر ابن براقة الهمداني: متى تجمعِ القلبَ الذَّكيَّ وصارِماً ... وأَنفاً حمياً تجتنِبْكَ المظالمُ وقال حسان بن ثابت يصف قوماً حرموا فضيلة الشجاعة، فوقعوا في ذلٍّ وصَغار: كرِهوا الموتَ فاستبيحَ حِماهُم ... وأقاموا فِعْلَ اللئيمِ الذّليلِ وكم من شرف قوم سقط إلى الثرى، وإنما سقط على أيدي أناس خالط قلوبهم الجبن، واشتد بهم الحرص على متاع هذه الحياة، حتى خيل إليهم أن قعودهم عن الدفاع حزم وروية، قال ابن الحسن: يرى الجبناءُ أن الجبنَ حَزْمٌ ... وتلك خديعةُ الطَّبْعِ اللئيمِ

وللقرآن الكريم أبلغ الكلم في تصوير حال الجبناء، فانظروا إليه إذ يصفهم ويريكم كيف يذوقون موتات الفزع المرة بعد الأخرى، فيقول: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4]، ويريكم كيف يظهر أثر الجبن في أبصارهم إذ يقلبونها وهم في ذهول من أدركه الموت، فيقول: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: 19]. ومن أبدع ما ورد عن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في تمجيد الأبطال الذين يركبون البحر للدفاع عن الحق: أن شبههم بالملوك على الأسرّة. ولفضل الشجاعة في الذود عن الشرف والكرامة، جاء الفخر بالموت في مواقف الدفاع دون الموت على الفراش، قال عبد الله بن الزبير في خطبة تأبينه لأخيه مصعب: "إنا والله لا نموت إلا قتلاً: قَعْصاً بالرماح، وتحت ظلال السيوف". وخلاصة الحديث: أن الأمة لا تحتفظ بعظمتها إلا أن تسود فيها الشجاعة، وأن عظمتها على قدر من تخفق عليهم رايتها من ذوي البطولة، فكان حقاً علينا أن نعنى في تربية أبنائنا بخلق الشجاعة الموصولة بالحكمة، حتى يروا العظائم صغائر، ويقتحموا الخطوب بعزائم لا يعرف التردد ولا الوهن طريقها.

كبر الهمة في العلم

كبر الهمّة في العلم (¬1) الحديث عن فضل العلم وما يناله طالبه من مجد وكرامة حديث لا يكشف عن غامض، ولا يطرق السمع بجديد، فأقصد إلى شيء غير هذا، هو: لفت أنظار نشئنا إلى ناحية تجعل المعارف لدينا غزيرة، والمباحث محررة، والآراء مبتكرة، وهي الوسيلة التي صعدت بعلمائنا الذين خدموا الدين والعلم والمدنية، فكانت لهم المكانة التي يصفها التاريخ بإجلال وإعجاب، ونعني بهذه الوسيلة: كِبَر الهمّة في العلم. ل كبر الهمة في العلم مظاهر، هي: أن تقضي الوقت في درس أو مطالعة أو تحرير، وأن تقتحم في سبيل ذلك المصاعب، وتدافع ما يعترضك من العوائق، وأن تبسط النظر في كل مسألة تصديت لبحثها حتى تنفذ إلى لبابها، وأن تضع يدك في كل علم استطعت إليه طريقاً، ثم تحط رحلك في علم تكون فيه النجم الذي يهتدي به المدلجون، والغيث الذي ينتجعه الظامئون، وكبر همتك في العلم يأبى إلا أن يكون للعلم مظهر، هو: العمل به، والسير على ما يرسمه من الخطط الصالحة في هذه الحياة. أما صرف الوقت في ابتغاء العلم، فإن للعمر أجلاً إذا جاء لا يستأخر، ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - العدد الثامن من المجلد الأول، الصادر في شهر شعبان 1349 هـ.

وللعلم بحراً طافحاً ليس له من آخر، فكل ساعة قابلة لأن تضع فيها حجراً يزداد به صرح مجدك ارتفاعاً، ويقطع به قومك في السعادة باعاً أو ذراعاً، فإن كنت حريصاً على أن يكون لك المجد الأسمى، ولقومك السعادة العظمى، فدَعِ الراحة جانباً، واجعل بينك وبين اللهو حاجباً. وإذا رجعنا البصر في تاريخ النوافي الذين رفعوا للحكمة لواء، وجدناهم يبخلون بأوقاتهم أن يصرفوا شيئاً منها في غير درس أو بحث أو تحرير. قدم الحافظ ابن أبي حاتم صاحب كتاب "علل الحديث" القاهرة؛ ليتلَقّى عن شيوخها مالم يكن يعلم، فقضى في مصرسبعة أشهر لم يجد هو وأصحابه من الوقت ما يهيئون فيه لطعامهم مَرَقأ، وكانوا بالنهار يطوفون على الشيوخ، وبالليل ينسخون ويقابلون. ونقرأ في حياة الفيلسوف أبي علي ابن سينا أنه لم ينم مدة اشتغاله بالعلم ليلة كاملة، ولم يشتغل بالنهار بسوى المطالعة. ونجد في التاريخ: أن الفيلسوف ابن رشد لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله. لم يقض حقَّ العلم، بل لم يدرِ ما شرف العلم، ذلك الذي يطلبه لينال به رزقاً، أو ينافس فيه قريناً، حتى إذا أدرك وظيفة، أو أَنِسَ من نفسه الفوز على القرين، أمسك عنانه ثانياً، وتنحى عن الطلب جانباً. وإنما ترفع الأوطان رأسها، وتبرز في مظاهر عزتها، بهمم أولئك الذين يقبلون على العلم بجد وثبات، ولا ينقطعون إلا أن ينقطعوا عن الحياة. وأما اقتحام المصاعب في الطلب، فإن معالي الأمور وعرة المسالك، محفوفة بالمكاره، والعلم أرفع مقام تطمح إليه الهمم، وأشرف غاية تتسابق

إليها الأمم، فلا يخلص إليه الطالب دون أن يقاسي شدائد، ويحتمل متاعب، ولا يستهين بالشدائد إلا كبير الهمة، ماضي العزيمة. كان سعيد بن المسيب يسير الليالي في طلب الحديث الواحد. ورحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى عقبة بن نافع وهو في مصر ليروي عنه حديثاً، فقدم مصر، ونزل عن راحلته، ولم يحل رحلها، فسمع منه الحديث، وركب راحلته، وقفل إلى المدينة راجعاً. ولم ينتشر العلم في بلاد المغرب أو الأندلس إلا برجال رحلوا إلى الشرق، ولاقوا في رحلاتهم عناء ونصبأ، مثل: أسد بن الفرات، وأبي الوليد الباجي، وأبي بكر بن العربي. يتجرع كبير الهمة مرارةً حين تقف بينه وبين جانب من العلم عقبة، فإذا وجد مرعى العلم خصبًا، فعناؤه فيما يدعونه: راحة، وانقباضه فيما يسمونه: لهوًا، وألمه في ساعة ينقطع فيها عن العلم يساوي ألم المستهتر في الشهوات حين يقضي يومه في غير شهوة. وقد يحسب من لم تصفُ بصيرته حتى يرى الحكمة في أسنى مظاهرها أن الذي يقول: سَهَرِي لتَنقيحِ العلومِ ألذُّ لي ... من وصْلِ غانية وطيبِ عِناقِ إنما هو شاعر لا يبالي أن يفضل الشيء على ما هو أكمل في وجه الشبه وأقوى، ويبعد في نظره أن يبلغ ابتهاج النفس عند تحقيق بحث علمي مبلغ ابتهاجها بلقاء الغانيات، ولكن الذي يقدر الحكمة، يرى أن ناظم البيت لم يجد شيئاً يحاكي به اللذة التي يجدها عندما يطلق فكره وراء شوارد العلوم، فيظفر بها، فجاء إلى هذا الذي اشتهر بين الناس أنه لذيذ بالغ، ووصف لذة

الحكمة بأنها فوق لذته، فصاحب البيت لم يتجاوز في تصوير ارتياحه لتنقيح العلوم حد الحقيقة. وأما نفوذ النظر في لباب المسائل، فلأن وقوف طالب العلم عند ظواهرها، واكتفاءه بالمقدار الذي يقصر به عن حسن بيانها، وإجادة العلم بها، لا يبعدان به عن منزلة خالي الذهن منها؛ فإنما وضعت العلوم لتهدي إلى العمل النافع، ولا شرف لها في نفسها، وإنما شرفها بما يترتب عليها من عمل صالح، أو كلم طيب، فمن يقضي زمناً في طلب علم، ثم ينفصل عنه وهو لا يستطيع أن يدفع عن أصوله شبهاً، أو يضرب له من العمل مثلاً، ذهب وقته ضائعاً، وبقي اسم الجهل عليه واقعاً. فالفقيه بحق من تعرض لواقعة لم يفصل لها الشارع حكماً، ولم يتناولها السَّلَف باجتهاد، فيرجع إلى الأصول الثابتة، والقواعد المقررة، ويقتبس لها حكماً موافقاً. ولا نكتفي ممن يدرس البلاغة أن يتصور قوانينها، ويعرف أمثلتها إلا أن يبصر بها كيف تسري في كتاب الله سريان الماء في الأزهار الناضرة، وحتى يستطيع أن يخطب أو يكتب على وفق ما درس من مناهجها الواضحة، وأساليبها الساحرة. ولا يحق لنا أن نفتخر بفتيان درسوا الطبيعة والكيمياء، إلا أن يعودوا وفي قدرتهم أن يستقلوا بإدارة مصاح للدفاع، ومعامل لمرافق الحياة، فإنا نريد أن نعود كما كنا أساتذة في العلوم، نقلية أو عقلية، نظرية أو مادية. ومما رمى الأفكار في خمول، ووقف بها حقبة عن الخوض في عباب العلوم إلى أمد بعيد، هذه المختصرات التي يقضي الطالب في فتح مغلقها،

وحل عقدها قطعة من حياته، جديرة بأن تصرف في اكتساب مسائل هي من صميم العلم، والملكات تقوى بالبحث في لباب العلم أكثر مما تقوى بالمناقشة في ألفاظ المؤلفين. وممن نبه على أن الاختصار عائق عن التحقيق في العلم: أحد علماء القرن الثامن العلامة محمد المعروف (¬1) بالأيلي إذ قال: "كل أهل هذه المئة على حال من قبلهم من حفظ المختصرات، فاقتصروا على حفظ ما قلّ لفظه، ونزرَ حظُّه. وأفنوا أعمارهم في حل لغوزه، وفهم رموزه، ولم يصلوا إلى ردّما فيه إلى أصوله بالتصحيح، فضلاً عن معرفة الضعيف والصحيح". فمن أسباب الرسوخ في العلم، وطموح الهمم إلى التوسع في البحث، وعدم الرضا بما دون الذروة: قراعة الكتب التي تنسج على طريقة الاستدلال والغوص على أسرار المسائل، وهي طريقة المتقدمين من علمائنا. وأما بسط النظر في علوم متعددة، فلارتباط العلوم بعضها ببعض، وكلما كان الاطلاع على العلوم أوسع، كان البحث في المسائل أجود، والخطأ في تقريرها أقل، والاحتجاج عليها أسلم، فلا يجيد دراسة التفسير أو الحديث من لم يكن ضليعاً في العربية، ولا يحكم الاستدلال على العقائد، ويدفع ما يحوم عليها من شُبه، إلا من كان عارفاً بالتفسير والحديث، والقوانين المنطقية، والمذاهب والآراء الفلسفية، ولا يقوم على دراسة الفقه أو أصوله من لم يملأ يده من الحديث والتفسير والعلوم العربية. واطّلاع الرجل على علوم كثيرة يعرف موضوع بحثها، ويقف على جانب عظيم من مبادئها، لا يمنعه من الإقبال على علم يجعل له من الدرس والمطالعة ¬

_ (¬1) من أساتذة ابن خلدون.

ما يرفعه إلى مرتبة أئمته الذين يكتبون فيه فيحققون، ويسألون عن أخفى مسائله فيجيبون، والذي يضع يده في علوم شتى، يمكنه أن يجاري طوائف العلماء في المباحث المختلفة، وعلى قدر ما يكون للرجل من خبرة بالعلوم، يبعد عن مواقع الذِّلَّة، ويزداد في أعين الناس تَجِلَّة. عكف أبو صالح أيوب بن سليمان على كتاب "العروض" حتى حفظه، فسأله بعضهم عن إقباله على هذا العلم بعد الكبر، فقال: حضرت قوماً يتكلمون فيه، فأخذني ذل في نفسي أن يكون باب من العلم لا أتكلم فيه. تقضي الحياة الراقية أن يقوم بكل علم طائفة يكونون السند الذي يرجع إليه، وكذلك كان علماؤنا فيما سلف: يُقْبل كل طائفة منهم على علم يقومون عليه دراية، ويقتلونه بحثًا. وبهذا اتَّسَعت دائرة المعارف، وظهرت المؤلفات الفائقة. وتراهم قد عرفوا من قبل أن نجاح قصر الطالب على الرسوخ في علم، يرجع إلى ترك الطالب وما تميل إليه نفسه من العلوم. ومما نقرأ في ترجمة أبي عبد الله محمد الشريف التلمساني - وكان راسخاً في المنقول والمعقول -: أنه كان "يترك كل أحد من الطلبة وما يميل إليه من العلوم، ويرى أن كل ذلك من أبواب السعادة". ومن لطف مبدع الكون أن جعل النفوس تختلف في استعدادها للعلوم والفنون والصنائع؛ لينتظم شأن الحياة، وتتوافر وسائل السعادة. وربما نشأ أفراد في مهد واحد، واختلف ميلهم إلى العلوم، فبرز كل في العلم الذي وافق رغبته، ووجه إليه همته؛ كأبناء الأثير الثلاثة: علي (¬1) الملقب بعز الدين: إمام ¬

_ (¬1) صاحب كتاب "الكامل" المعروف بتاريخ ابن الأثير.

في التاريخ، ومحمد (¬1) الملقب بمجد الدين: نحرير في الحديث والأدب، ونصر الله (¬2) الملقب بضياء الدين: بارع في الأدب وتحرير الرسائل، وكثير من علمائنا كانوا يدرسون علومًا مختلفة يبلغون في بعضها الذروة، ويكتفون في بعضها بالمقدرة على تدريسها، أو تحقيق مباحثها عند الحاجة. فهذا أبو إسحاق الشاطبي تقرأ له كتاب "الموافقات"، فتحس أنك تتلقى الشريعة من إمام أحكم أصولها خبرة، وأشرب مقاصدها دراية، ثم تقرأ " شرحه على الخلاصة" في النحو، فتشعر بأنك بين يدي رجل هو من أغزر النحاة علماً، وأوسعهم نظراً، وأقواهم في الاستدلال حجة. والقاضي إسماعيل من فقهاء المالكية البالغين درجة الاجتهاد في الفقه، قد سمت منزلته في العربية، حتى تحاكم إليه عَلَمان من أعلامها في مسألة، وهما: المبرّد، وثعلب. وكبير الهمة في العلم يريد أن يكون النفع بعلمه أشمل، ومما يدرك به هذا الغرض: احترامه لآراء أهل العلم، ولا نعني باحترامها: أخذها بالقبول والتسليم على أي حال، وإنما نريد: نقدها بتئبت، وعرضها على قانون البحث، ثم الفصل فيها من غير تطاول عليها، ولا انحراف عن سبيل الأدب في تفنيدها. والفطر السليمة، والنفوس الزاكية، لا تجد من الأقبال على حديث من يستخفه الغرور بما عنده مثلما تجد من الإقبال على حديث من أحسن ¬

_ (¬1) صاحب كتاب "النهاية في غريب الحديث"، و"جامع الأصول في أحاديث الرسول". (¬2) صاحب كتاب "المثل السائر".

الدرسُ أدبَه، وهذَّب الأدبُ منطقَه. وإذا كان الأستاذ كمدرسة يتخرج في مجالس درسه خلق كثير، فحقيق عليه أن يكون المثال الذي يشهد فيه الطلاب كيف تناقش آراء العلماء مع صيانة اللسان من هجر القول الذي هو أثر الإعجاب بالنفس، والإعجاب بالنفس أثر ضعف لم تتناوله التربية بتهذيب. كبير الهمة يستبين خطأ في رأي عالم، أو عبارةِ كاتب، فيكتفي بعرض ما استبان من خطأ على طلاب العلم ليفقهوه، ويأبى له أدبه أن ينزل إلى سقط الكلام، أو يخف إلى التبجح بما عنده. وقد حدثنا التاريخ عن رجال كانوا أذكياء، ولكنهم ابتلوا بشيء من هذا الخلق المكروه، فكان عوجًا في سيرهم، ولطخاً في صحفهم، ولو تحاموه، لكان ذكرهم أعلى، ومقامهم في النفوس أسمى، ومنزلتهم عند الله أرقى. وخلاصة المقال: تذكير النبهاء من نشئنا بأن يُقْبلوا على العلم بهمم كبيرة؛ صيانة للوقت من أن ينفق في غير فائدة، وعزم يَبلى الجديدان (¬1) وهو صارم صقيل، وحرص لا يشفى غليله إلا أن يغترف من موارد العلوم بأكواب طافحة، وغوص في البحث لا تحول بينه وبين نفائس العلوم وعورة المسلك، ولا طول مسافة الطريق، وألسنة مهذبة لا تقع في لغو أو مهاترة. ذلك عنوان أكبر الهمة في العلم، وذلك ما يجعل أوطاننا منبت عبقرية فائقة، ومطلع حياة علمية رائعة، وما نبتت العبقرية في وطن نباتاً حسناً، إلا كانت أرضه كرامة، وسماؤه عزة، وجوانبه حصانة ومنعة. ¬

_ (¬1) الليل والنهار.

الدهاء والاستقامة

الدهاء والاستقامة (¬1) خصلتان يبلغ بهما الرجل أن يكون عظيماً، وحقَّ لمن استولى على الأمد الأقصى منهما أن يكون زعيماً، هما: بعد النظر في استكشاف غوامض الأمور، وذلك ما نسميه: الدهاء، أو الكياسة، والسير في سبيل الرشد بقلب سليم، وذلك ما نسمّيه: الاستقامة، أو التقوى. ولا نقصد في هذا المقام إلى الحديث عن بعد النظر في إدراك العويص من مباحث العلوم، وإنما نقصد إلى الحديث عن الدهاء من ناحية تقدير وسائل النفع والضرر، أو من حيث شعور صاحبه بما يحمل له من ضغن، أو ينصب له من كيد. يقارن الدهاء الاستقامة، فيصرف في تدبير الوسائل التي تكفي شراً مقبلًا، أو تجلب خيراً معسراً، ويقارن زيغ العقيدة، أو لؤم الطبيعة، فيندفع بصاحبه في شعاب الباطل، ويكون نصيبه من الإفساد في الأرض فوق نصيب الغباوة؛ إذ يزيد عليها: أن يبتكر للشر فنوناً غير معروفة، ويلبس الباطل ثوب الحق، ويخرج المفسدة في لون المصلحة، فإذا لم تجد الحقائق أو المصالح دهاء يمحق دهاء المبطلين أو المفسدين، عمي على العامة أمرها، وظهرت ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - العدد التاسع من المجلد الأول - الصادر في شهر رمضان 1349 هـ - القاهرة.

الضلالة والسفاهة مكانها. ولكثرة ما يصاحب الدهاء من المكر، والنزوع إلى الشر، توهم بعض العامة أنه لا يجتمع مع سلامة الضمير، والحرصِ على فعل الخير، فتراهم يعدون غفلة الرجل عما ينطوي عليه الحديث من مغامز، وما يراد به من مكايد، أثرَ صلاحه وطيبِ سريرته، وكاد بعض الكاتبين على حديث: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" يحوم حول هذا الوهم؛ إذ حمل الحديث على عدم الانخدل في الدين؛ بأن يصدق الكاذب الذي ظهر له كذبه مرة ثانية، ثم قال: "وأما الانخدل في أمور الدنيا بناء على قلة التفاته إليها، وعدم اهتمامه بها، فهو ممدوح مطلوب". والحق أن الغفلة عن نواحي الشر، دينية أو دنيوية، لا تدخل في سلك الكمال، ولا تستدعي مدحًا، وانما الكمال في اليقظة والكياسة. والقصد من الحديث الشريف: تحذير المؤمن من أن يكون مغفّلاً، وإرشاده إلى استعمال الفطنة في شؤونه، دينية أو دنيوية. وإذا كان الحديث مسوقاً للإخبار عن حال المؤمن، فإنما يريد: المؤمن الكامل، وهو الذي يستنير بالحكمة، ويعتبر بالحوادث، فتصفو بصيرته، ويهتدي إلى غوامض الأمور، حتى يكون حذراً مما سيقع، وإذا أخذته الغفلة مرة، فنكب من ناحية، كانت نكبته من هذه الناحية هي الأولى، وهي الآخرة. ويوافق هذا قول عمر بن الخطاب: "لست بخبٍّ، والخبُّ لا يخدعني"، وأما المؤمن الذي يكون حظه من الحكمة والاعتبار بخسًا، فقد يلدغ من الجحر الواحد مرتين أو مراراً. ولا يعارض هذا حديث: "المؤمن غرّ كريم، والفاجر خب لئيم"؛ فقد تكلم الحفّاظ في سنده، حتى ذهب بعضهم إلى أنه موضوع، وهو بقطع النظر

عن سنده، قد وقع لفظ الغز فيه مقابلاً للفظ الخب الذي هو الجُرْبُز؛ أي: الخدّاع، فيكون المراد من الغرارة: غفلته عن الشر؛ فإن كريم الأخلاق طيّب السريرة، لا يبحث عن الشر بحثَ من يريد التوغل في طرقه، والخوض في غماره، وهو مع كونه لا يبحث عن هذه الطرق بحثَ المولع بها، يأخذ بسنّة الاحتراس، فلا ينخدع لخب يزخرف له القول مداهنة، أو ينصب في طريقة حباله، فغفلة الرجل عن وسائل الشر لانصرافه إلى الخير بشراشر (¬1) لا تنقص من كياسته في تدبير وسائل الخير، أو الاحتراز عما يهيأ له أو لقومه من الشر، فلا يصح أن يكون الإيمان - الذي هو أساس استنارة الفكر - سببَ الانخداع لتمويه مبطل، أو مخاتلة ذي مأرب. نجد في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يرشدنا إلى أن السياسة الإسلامية لا ينهض بها المستقيم إلا أن يكون أريباً، ولا الأريب إلا أن يكون مستقيماً. فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما كان محفوفًا به من رعاية الله وتأييده - لم يترك أمر السياسة الحربية أو المدنية دون أن يجريه على سنّة التدبير والاحتراس من أمور يتبعها في العادة عواقبُ سيئة، فما نقرؤه في سيرته الزاهرة: أنه كان إذا قصد السفر لحرب قوم، أخذ يسأل عن ناحية قوم آخرين، حتى يظن السامع أنه ينوي السفر إلى الناحية التي يسأل عنها. ونقرأ فيها: أنه كتب لأمير سرية كتاباً وقال له: "لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا"، فلما بلغ ذلك المكان، قرأه على الناس، وفيه ذكر الناحية التي أمرهم بالتوجه إليها. ومن مثل هذا أخذ يحيى بن أكثم قوله في حديث مع المأمون: "لا يستقيم كتمان شيء إلا بإذاعة غيره". ¬

_ (¬1) الشراشر: النفس.

ومن بديع سياسته - عليه الصلاة والسلام -: صلحُ الحديبية؛ فقد خفي على بعض كبار الصحابة حكمته، فلم يرتح له، ولكنه أتى بخير كثيرة إذ كان توطئة لفتح مكة دون أن تراق فيه دماء طاهرة، أو تقصم فيه ظهور انحنت بعد الفتح راكعة لله، وخرج منها رجال جاهدوا في الحق بحماسة وإخلاص. وكان - صلوات الله عليه - مع ما يجده في الناس من حسن الطاعة والتسليم، قد يستحسن الأمر، ويدعيه. حذراً من أن يلاقيه بعضهم بإنكار. فانظروا إلى ما جاء في الصحيح من أنه - عليه الصلاة والسلام - استحسن نقض البيت وبناءه على أساس إبراهيم، وإنما تركه مخافة أن تنكره قلوب من كانوا حديثي عهد بالجاهلية من قريش، وإنما يراعي - عليه الصلاة والسلام - إنكار الناس فيما لم ينزل به وحي، ولم تقتض حاله أن يكون شرعه نافذاً. وإذا قال ابن خلدون في الحديث عن العرب: "إنهم أبعد الأمم عن السياسة"، فإنما يريد: العربَ قبل أن يستضيئوا بحكمة الإسلام، أما بعد أن نزل القرآن، وشاهدوا سيرة أحكم الخليقة - صلوات الله عليه -، فقد كان نصيبهم من البراعة في السياسة فوق كل نصيب. نقرأ في تاريخ فتح الفرس: أن سعد بن أبي وقاص أرسل المغيرة بن شعبة إلى رستم القائد الفارسي، فأقبل حتى جلس معه على سريره، فوثب إليه أتباع رستم، وأنزلوه من السرير، فقال المغيرة: "إنا - معشر العرب - لا يستعبد بعضنا بعضاً، فظننت أنكم تتواسون كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم: أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، اليوم علمت أنكم مغلوبون، وأن ملكاً لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول". قصد المغيرة بما صنع وما قال: تعليمَ القوم المساواة التي جاء بها

الإسلام؛ ليألفوه، وإشعارَهم بأنهم يعيشون تحت راية تلك الدولة عيش المستعبدين؛ ليجني من وراء هذا سقوط مكانتها من أنفسهم، فلا يدافعوا عنها من صميم أفئدتهم. لا يستغني رؤساء الشعوب عن الدهاء في السياسة، وأشدُّهم حاجة إلى تدابيره الغامضة: رئيسٌ قبض على زمام طوائف اختلفت أهواؤهم سبلاً، وتفرقت آراؤهم مذاهب، فإذا رأينا السياسة في عهد أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - تسير على مناهج من العدل واضحة، فلأن الرئيس عادل، ومعظم الأمة على سبيل من الهداية لا تختلف. وما استقام الأمر لمعاوية - مع ما خالط الأمة يومئذ من التفرق في الآراء - إلا لأنه كان يسلك في السياسة مسالك خفية، ويركب لها من الطرق الوعرة ما لم يركبه الخلفاء من قبله، ومعاوية هو الذي يقول: "لو أن بيني ويين الناس شعرة، ما انقطعت"، فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: "كنت إذا مدّوها، أرخيتها، وإذا أرخوها، مددتها". ومن أساليب الدهاة في إضعاف الجماعة التي تناوئ سلطانهم: أن يغروا بين كبرائها العداوة، فتنفصم رابطتهم، وتشتد الخصومة فيما بينهم، وهو مسلك قد يضطر إليه المصلحون في تفريق الجماعة التي تتحالف على ما لا خير منه، ومن هذا القبيل ما فعله نعيم بن مسعود - رضي الله عنه - حين تحالفت قريش وغطفان وبنو قريظة على حرب النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في واقعة الأحزاب؛ إذ ألقى بينهم ما تقطع به حبل اجتماعهم على الباطل، فانصرفوا خائبين. وقد يعمل الطامع في الأمة على هذا المسلك؛ حذراً من أن يتنبه شعورها، فتجمع أمرها، وتوجه إليه قوتها، فمن واجب الأمة التي يربطها دين، أو مصالح

وطنية: أن تؤكد أواصر الإخاء بينها، وتجعل المصلحة العامة نصب أعينها، وتوجه ما تستطيع من قوة إلى من يريد القضاء على دينها، أو الاستئثار بمنافع بلادها. لما تحفز الملك "الأذفونش" للهجوم على بلاد الأندلس، عقد كبراؤها مؤتمرًا للنظر في دفاعه، وقرروا الاستنجاد بسلطان مراكش "يوسف بن تاشفين"، ولما أبدى بعضهم التخوّف من أن ينقذ هذا السلطان البلاد من "الأذفونش"، ثم يضع عليها يده، قال له المعتمد بن عباد: "لأن يرعى أبناؤنا الجمال خيرٌ من أن يرعوا الخنازير". ومن أساليب الدهاة في القديم: أن يسوسوا الجماعة الناشزة بأيدي رجال منهم، قال عباد بن زياد يصف زيادًا لعبد الملك بن مروان: "قدم العراق، وهي جمرة تشتعل، فسلَّ أحقادهم، وداوى أدواءهم، وضبط أهل العراق بأهل العراق". وهو أسلوب بعيد الشأو، ظاهر الأثر، قد يأخذ به ذو السياسة الرشيدة لزيادة تأليف القوم، وتأكيد الإخلاص في نفوسهم. دلت السيرة النبوية على هذا الضرب من السياسة، ومن شواهده: ترتيبه - عليه الصلاة والسلام - الجيش يوم فتح مكة؛ إذ نظمه على حسب القبائل، وجعل على رأس كل قبيلة واحداً من سراتها. وعلامة كون السياسة رشيدة: أن يوضع أمر القوم في يد من ينصح لهم، ويرعى مصالحهم، ويعمل لسعادتهم. ومما يتخذه الدهاة في وسائل أخذ القوم إلى جانبهم: بذل شيء من المال إلى ذوي النفوذ من رجالهم، وهذا أحد الوسائل التي استطاع بها معاوية - رضي الله عنه - أن يقف تجاه عليّ - كرم الله وجهه -، ويأخذ منه شطر الخلافة،

على ما كان لعليّ من المكانة في العلم والبيان، والقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبذل النفس في الجهاد، وبلوغه في تقوى القلب أبعد غاية. هذه الوسيلة قررها الإسلام في سياسة الدعوة إليه، فأذن في صرف جانب من الزكاة لأناس قالوا: أسلمنا؛ تأليفًا لقلوبهم، واستدعاء لاطمئنان عقيدتهم؛ كما قال تعالى في آية مصارف الزكاة: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60]. لا يعتمد رئيس القوم على القوة يستطيع أن يخمد بها كل فتنة، ويرى أنه في غير حاجة إلى أن ينظر في منابت الفتن بدهاء، فللدهاء مواضع يظهر فيها فضله على القوة. منها: دفع الخطر الذي يتراءى شبحه من بعيدة بحيث لا يشعر به إلا البصير بما وراء الخير من شرور؛ فقد يكون استعمال القوة في الشر المتواري موضع إنكار، أو مثار فتنة، أما الدهاء، فيرده، والنفوس مطمئنة، والفتن نائمة. ويحتاج الحكم إلى الدهاء في استبانة الحقوق؛ حيث ترفع إليه الدعاوى مجردة من كل بينة، وفي مثل هذه الدعاوى يظهر مبلغ ذكاء القاضي؛ كما يظهر فضله في نقد البينات، وتمييز زائفها من صحيحها. ومن دهاء المنصور بن أبي عامر: أن أحد التجار قدم قرطبة، ومعه كيس ياقوت نفيس، فتجرد ليسبح في البحر، وترك الكيس على ثيابه، وكان أحمر، فاختطفته حدأة في مخالبها، وتغلغلت به في البساتين، فأبلغ أمره إلى ابن أبي عامر، فجعل يستدعي أصحاب البساتين، ويسأل العاملين فيها عمن ظهر عليه تغيير حال من بؤس إلى سعة، حتى ذكر له شخص ظهر عليه من اليسر ما لم يعرف به من قبل، فاستدعاه، وفاجأه بقوله: أحضر الكيس الأحمر! فَتَمَلَّكه الرعب، وجاء به وقد نقص منه ما عفا له عنه صاحبه.

يحتاج الولاة إلى الدهاء في سياسة الجماعات واستبانة الحقوق، ويحتاج إليه العلماء في الدعوة إلى الخير، فقد تكون مواجهة الرجل بالأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر لا تأتي بفائدة، فيعدل الداعي إلى طريق يكون له الأثر المقصود من الدعوة، وهو السمع والامتثال. عزم المعتصم على قتل محمد بن الجهم البرمكي؛ لجولان يده في مال الدولة، فرأى القاضي أحمد بن داود هذا التصميم، وعرف أن الموعظة أو الشفاعة لا تحول دون هذا القتل، فسلك لإنقاذ محمد بن الجهم طريقاً آخر، هو أن قال للمعتصم: وكيف تأخذ ماله إذا قتلته؟ قال: ومن يحول بيني وبينه! قال: يأبى الله تعالى ذلك، ويأباه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويأباه عدل أمير المؤمنين، فإن المال للوارث إذا قتلته حتى تقيم البينة على ما فعله، وأمرُه باستخراج ما اختانه وهو حي أقربُ عليك، فرجع المعتصم عن عزمه، وخلص محمد بن الجهم من القتل. وينتفع الرجل من دهائه عند لقاء الطبقات المختلفة، يزن عقول من يلاقونه، ويحسُّ ما تكن صدورهم، وتنزع إليه نفُوسهم، فيصاحب الناس، ويشهد مجالسهم وهو على بصيرة مما وراء ألسنتهم من عقول وسرائر وعواطف، فيتيسر له أن يسايرهم، إلا أن ينحرفوا عن الرشد، ويتحامى ما يؤلمهم إلا أن يتألموا من صوت الحق. ومراعاة عقول الناس وطباعهم ونزعاتهم فيما لا يقعد حقاً، ولا يقيم باطلاً، مظهر من مظاهر الإنسانية المهذبة، ومتى كان الدهاء - أعني: جودة النظر في سياسة الأمور، وتقدير وسائل الخير - عائداً إلى الألمعية، وهي في أصلها موهبة إلهية، فإن التدبير في سير أعاظم الرجال، والنظرَ في مجاري

الحوادث باعتبار، مما تقوى بهما خصلة الدهاء، فمن حق الملقى إليهم بتربية النشء من أوليائهم ومعلميهم: أن يصرفوا العناية إلى تغذيتهم بالحديث عن دهاة الرجال، وتنبيههم لما دبروه من وسائل يبتغون بها إصلاحاً أو شرفاً، ومن حقهم: أن يلاحظوا الحوادث التي تظهر من ناحية عرفت بالدهاء، فيكشفوا غطاءها، ويقفوا على بطائنها؛ ذلك لأننا نريد أن نعد للمستقبل ناشئة تستقيم على هدى الله، وتخوض لجج الحياة بكياسة تبصر بها مواقع الشر والخير، فتسعى إلى أن يكون الشر بعيداً منها، والخير طوع أيديها، وعلى قدر ما يكون في دعاة الشعب وقادته من دهاء وتقوى، يبعد في سبيل الشرف شاوه، وتثبت في مواقف الجهاد قدمُه، ويرقى في السماء ذكره، والذكر الذي تحوطه التقوى، ويحرسه الدهاء، لا يخفت صوته إن شاء الله.

الانحراف عن الدين علله، آثاره، دواؤه

الانحراف عن الدين علله، آثاره، دواؤه (¬1) بين أيدينا حِكَم رائعات، وعِظاتٌ بالغات، وتاريخ عظمائنا مملوء بالهمم الكبيرة، والمساعي الخطيرة، وقد أتى علينا مع هذا النور الساطع والتاريخ المجيد حين من الدهر، ونحن عن طريق السعادة والمنعة غافلون، وعن العمل للحياة الصالحة نائمون، جهلٌ بعد علم، تقاطعٌ بعد ائتلاف، بطالةٌ بعد نشاط، صَغائرٌ بعد شمم، خمولٌ بعد نباهة شأن. كذلك كنّا، حتى جاءنا من صروف الليالي ما نبهنا من سباتنا، فنهضنا نبحث عن وسائل تقدمنا، ونجاري الأمم العاملة والأمل يملأ ما بين جوانحنا، نهضة مباركة، ولكن نفوسنا خالطها من الانحراف عن سبيل الرشد ما خالطها، فأصبحنا في حاجة إلى أن نشغل جانباً من أوقاتنا في تقويمها. حقّ علينا أن نبحث عن علل انحراف هذه النفوس حتى نعرف طريق علاجنا، فنزيح أو نخفف مرضًا لو خلينا سبيله، لسرى إلى نفوس كثيرة، وعاقنا أن نسير إلى السعادة كيف نشاء. * علل الانحراف: النواحي التي يأتي من قبلها هذا الانحراف كثيرة، وجماعها: الجهل، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء العاشر من المجلد الثاني- الصادر عن شهر ربيع الأول 1349 هـ.

والدعايات الباطلة. وإليك البيان: ينحرف الناشئ عن الدين متى شبَّ على الجهل بحقائقه. وفريق من أبنائنا غير قليل لا يتعرفون الإسلام من وجهه الصحيح، وإنما ينتزعون صورته من مظاهر يرون عليها طوائف من المسلمين، ولم تكن هذه المظاهر من الإسلام في كثير ولا قليل، فليس بعيداً أن يشهد الشاب شيئاً من البدع المزرية؛ كضرب الدفوف في المساجد، أو تحت رايات يحملها أحداث باسم الدين لهوًا ولعبًا، فيخالها من تعاليم الإسلام، ويسوء اعتقاده في هدايته. ونحن نعلم أن بعض البلاد الداخلة تحت سلطان غير إسلامي، قد تقام فيه حفلات مشهودة، يكلف فيها بعض الجهلة من المنتمين إلى طرق المتصوفة أن يحضروها بأزيائهم الخاصة، وتقوم كل طائفة بأعمال يمتازون بها عَمَّنْ سواهم، وقد يكون في هذه الأزياء والأعمال ما لا صلة له بالدين، ولا بما ترضى عنه العقول السليمة، فتتناولهم من أجل هذه المظاهر الألسنُ بالازدراء، ولا شك أن شبابنا كبعض المخالفين الذين يشهدون هذه الحفلات، قد يسبق إلى أذهانهم أن نسبة ما يعمل باسم الدين إلى الدين صحيحة، فيتجافون عنه، وهو منه براء. فمظاهر البِدَع والمحدَثات من وسائل إضعاف العقيدة في نفوس أبنائنا، ومن أصعب العقبات التي تحول بين المخالفين وبين قبولهم للدين الحق بسهولة. وإذا كان في المتجافين عن الدين من قرؤوا جانباً من الكتب المعزوة إليه، فعلة انحرافهم فيما يظهر أنهم لم يدرسوا تعاليمه خالصة مما أضيف

إليها من مزاعم وآراء، ولم يبلغوا من قوة العلم أن يفرقوا بين الشرع الخالص، وما يوضع بجانبه من أشياء لا تدخل في الصميم. ونحن نعلم أن في كثير من المؤلفات أحاديث موضوعة، وقصصًا مزعومة، وآراء لا تستند إلى أصول معقولة، ومن الذي ينكر أن في بعض الكتب أحاديث مصنوعة، وقصصاً مختلفة، وأن في مؤلفات بعض أصحاب الأهواء والمستضعفين في العلم آراء سقيمة، وأقيسة عقيمة؟. كان لهذه الكتب أثر سيء في نفوس بعض نشئنا، وقد اتخذ بعض من خفَّ في العلم وزنهم من هذه الكتب وسيلة إلى الطعن في علماء الإسلام، فذهبوا يلتقطون هذه الآراء السخيفة، ولا يتقون الله في نسبتها إلى علماء الشريعة ليضعوا من شأنهم، مع أن أهل العلم من قبلهم، قد نقدوها بأنظار راجحة، وطرحوها من حساب الشريعة بالحجة الساطعة، وجعلوا تبعتها على أصحابها وحدهم، وأي طائفة من طوائف أهل العلم لا يوجد بينهم ذو رأي ضعيف، أو ذوق عليل؟! بل العالِم الراسخ قد تصدر عنه آراء تدفعها أصول العلم الذي رسخت فيه قدمه، ويردها عليه من هو أقل منه نباهة، وأدنى في العلم منزلة. أما الفريق الذين ينكرون أشياء من صميم الدين، فلم يجئهم الجحود من ناحية البحث الدقيق، والنظر القائم على قوانين المنطق الصحيح، وإنما سبقت إليهم في التعليم، أو في الجلوس ببعض الأندية آراء، فتقبلوها، وتراءت لهم شبه، فاعتنقوها. والآراء الفاسدة والشبه المغوية تربي في النفوس الضعيفة أذواقًا سقيمة، ويكون لهذه الأذواق الحكم العاجل، حتى إذا أنكرت حقاً، خيّل إلى أصحابها أن إنكارهم صادف محزاً، وظلوا في جهالتهم يتخبطون.

فقطع يد السارق أو السارقة - مثلاً - قد تُنازع في حكمته بعض الأذواق الخاصة. ولكن الأحكام إنما يراعى فيه المصالح العامة، وفي قطع يد هذا الصنف من المجرمين مصلحة سنأتي على بيانها في مقام غير هذا. ولا ننسى بعد هذا أن ما بلغه الغربيون من التقدم في العلوم والفنون، قد جعل لهم في القلوب إكباراً، وبلغ هذا الإكبار في بعض النفوس الصغيرة أن يفوه أحد الغربيين بكلمة يطعن بها في حقيقة من حقائق الإسلام، فيتلقوها منه بمتابعة، ويحسبوها طعنا صائباً، ولا سيما الكلمات التي تصدر من طائفة يخرجون في زي الكتاب أو الفلاسفة؛ إذ يقع في أوهام الغافلين أنه نتيجة نظر لا يعرف غير البحث والدليل، ويفوتهم أن في هؤلاء الكتاب من لا يزال في أسر تقاليده وعواطفه، وفيهم من يكون بارعاً في ناحية من العلم، قاصرَ النظر في ناحية أخرى، وها نحن أولاء نقرأ نتائج أبحاثهم في موضوعات إلهية، أو تاريخية، أو اجتماعية، أو لغوية، فنرى فيهم من يتبع الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، وكان على نشئنا أن يعتبروا بالمناقشات التي تدور بين علمائهم أنفسهم؛ فإنها شاهد صدق على أن من علمائهم أو فلاسفتهم من يعتمد الرأي لمجرد الشبهة، ولا يبالي أن يسميه علماً، وهو لا يرتبط بعد بالحجة، أو ما يشبه أن يكون حجة. ومن الطرق المضلّة عن السبيل: أن بعض الداعين إلى غير الإسلام، قد وجدوا من موسريهم خزائن مفتحة الأبواب، وأيدياً تفيض عليهم الأموال بغير حساب، ومن الميسور أن يتصل هؤلاء الدعاة ببعض البائسين من نشئنا الذين لم ينفذ الإيمان إلى سويداء قلوبهم، فيشتروا ضمائرهم أو ألسنتهم بشيء من حطام هذه الحياة، وربما أتوهم من ناحية الشهوات، ففتحوا لهم

أبواباً، وجعلوا ثمن تمكينهم منها الانسلاخ عن الدين، فلا يبالون أن ينسلخوا منه؛ إذ لم يدخل بعد في قلوبهم، حتى يكون أعزّ عليهم من كل ما تهوى أنفسهم. ومن الذي لا يعلم أن معاهد تقام في أوطاننا باسم العلم، أو العطف على الإنسانية، والغايةُ منها: صدفُ النفوس عن صراط الله السوي؟ دل على هذا كتب يدرسونها في هذه المعاهد، وهي كما قرأنا نبذًا منها محشوة بالطعن في الإسلام، والحط من شأن الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم -. وهذا القس "زويمر" نفسه ينبهنا على أن المدارس التي يقوم بها جماعات التبشير إنما تجعل وسيلة إلى تحويل المسلمين عن دينهم القويم، فقال في مقال تحت عنوان: (حركة التبشير في العالم الإسلامي) بعد أن ذكر ما يعترضهم من المصاعب في داخل أفريقية: "ومن استطاع التغلب على هذه الصعوبة بالالتجاء إلى الوسائل المعروفة؛ كالمتاجرة مع الأهالي، وفتح المدارس لأبنائهم، وما مائل ذلك". وقد رأينا لهذه المدارس التي تفتح في سورية ومصر وغيرها من البلاد آثاراً محزنة. فكم من فتى مسلم بعث به إليها، فتخرج منها وهو يحمل من التنكر لقومه وشريعتهم مثل ما يحمله خصومهم المحاربون. ثم إن بعض الناشئين في مهد إسلامي قد أصيبوا بما يشوّه فطرهم، وأرادوا ألا يكون هذا التشويه مقصورًا على أنفسهم، فاجتهدوا في أن ينقلب الناس منقلبهم، ويعملوا على شاكلتهم، فكان لهم في الاستخفاف بالعقائد الصحيحة والشريعة الحكيمة حركات طائشة، ولولا هداية القرآن، ووقوف

فريق من أهل العلم في وجوههم، لاستدرجوا خلقاً كثيراً. نذكر بمنتهى الأسف: أن من هذا الصنف من يقضي نصيباً من حياته في الدفاع عن الإسلام حتى يتبوأ مقعد الدعاة المصلحين، ثم لا يلبث أن يرى بضاعة الازدراء بالدين نافقة، فيثور عليها مع الثائرين، ويسرع إلى لمز الرجال الذين رفعوا لواءه، وقد كان يطنب في تمجيدهم. وفي أمثال من يكون على هذا النعت خطر على النشء كبير؛ إذ الثقة التي أحرزها من قبل قد تجعلهم يسيغون أقواله بما تحمل من أقذاء وسموم، فيبلغ مأربه دون أن يفقد مكانته. ثم إن انحرافه عن الدين بعد أن كان من أنصاره قد يلقي في نفوس المستضعفين أن هذا الذي قضى زمناً في مظاهرة الدين لم يتجاف عنه إلا بعد أن بَصُرَ بالحجة، واستبان له أنه كان على غير هدى، وصغار العقول لا يشعرون بأن في الناس من يطوي في نفسه حاجة يستطيع أن يلبس لها ثوب الرياء أمدًا غير قصير، حتى إذا رأى قضاءها في ذم ما كان يَحْمَد، ومحاربة ما كان يَنْصُرُ، وجد في استعداده ما يساعده على أن يظهر في أي لباس شاء. * آثار الانحراف: دلّت المشاهدة على أن الناشئ الذي يصاب بمرض الريْب أو الجحود، لا يمكث أن ينحط في المآثم، وينبذ الأدب الرفيع والعمل الرشيد وراء ظهره، وإذا رأيناه يتجنب إثمًا، فبالمقدار الذي يتقي به لومة لائم، أو طائلة قانون، وإذا عمل حسناً، فلينال مدحاً وإطراء، أو ليصل إلى عاجل من المنافع المادية أكبر، وإن ناشئاً يعتقد أنه متى استتر عن أعين الناس، لم يبق له فيما يفعل من رقيب، ولا يناله على ما يأتي من جزاء، لا يتحامى في غالب أمره أن يعتدي على نفس أو عرض، أو نسب أو مال الاعتداءَ الذي يشين وجه المدنية، ويحدث

في نظام الجماعة وهناً. ودلت التجارب على أن زائغ العقيدة، متى ملك جاهاً أو سلطة، فتن الأمة في دينها، وانتهك حرمات شريعتها، ولم يخلص النظر في إصلاح أمرها، ولاقى منه المؤمنون اضطهاداً، والجاحدون وأصحاب الأهواء مناصرة وإقبالاً، فيكون داعياً عمليًا إلى الخروج على الدين، فتموت الفضيلة والغيرة على الحقوق العامة، وينقطع حبل اتحاد الأمة إرباً. * دواء الانحراف: حَتمٌ علينا أن نسعى إلى أن يكون التعليم المديني شاملاً، فما من ناشئ إلا يتلقى منه مقدارًا يكفي لإنارة عقله وطمأنينة نفسه، ونقبل بعد هذا على كتب الدراسة، فنتخير منها ما هو حسن الوضع، نقي من كل ما ليس بشرع، وبهذا نأمن من أن يكون في نشئنا من ينحرف عن الدين جهلاً بحقائقه. وإذا نحن سرنا في تقرير أصول الدين وأحكامه على طريقة إقامة الحجة، وبيان الحكمة، خففنا شر الصنف الذي ينكر أموراً من الدين بعلة أنها لا توافق المعقول، أو لا تتحقق بها المصلحة. وإنما يستعان على جعل التعليم عاماً بعناية أولي الأمر ونصحهم في تدبير شؤون الأمة؛ حيث يقررونه في سائر المدارس، ويقومون عليه كما يقومون في سائر العلوم، ومما يسر الأمة أن ترى من ولاة أمورها بتعليم الدين الذي هو ملاك سعادة أبنائها في الدنيا قبل الآخرة. ومن واجب أهل العلم - بعد هذا -: أن يرقبوا حركة الثائرين على الدين، ويكونوا على بصيرة مما يكتبونه في الصحف، أو يحضرون به في النوادي؛ ليقَوِّموا أوده، وينبهوا على خطره، حتى يستبين أمره، وتتضح أمام الناشئين

طريقة قرع الشبهة بالحجة، وصرع الباطل بقوة الحق، وكذلك يفعل العلماء الراسخون، والكتاب المخلصون. وحقَّ على من يبغي السعادة لابنه، أو لقريب وكّلَ إليه أمره، ألا يُلْقي به إلا حيث يأمن على إيمانه وطهارة نفسه، ولا يذهب به الطمع في متاع الدنيا إلى الاستهانة بأمر العقيدة؛ فإنها الأساس الذي تقوم عليه الحياة الطيبة، والشرف الأصيل. فإذا اشتدت عناية أولي الأمر بالتعليم المديني في المدارس على اختلاف أقسامها وفنونها، وأرهف أهل العلم أقلامهم في حماية الشريعة ممن يتساقطون على الطعن فيها، أو المكر في تأويلها، وأخذ الآباء بهدي الله، فصانوا أبناءهم عن المدارس المنشأة للصدِّ عن السبيل، خسرت تجارة الرهط الذين يجهلون على الحق والفضيلة، وتهيأت لنا أسباب نهضة علمية اجتماعية نجني ثمراً لذيذاً من نتائجها، وتحمد الأجيال القابلة عاقبتها.

ضلالة فصل الدين عن السياسة

ضلالة فصل الدّين عن السّياسة (¬1) ما زال الرسل - عليهم السلام - يرمون في الدعوة إلى أصول الإيمان بالله عن قوس واحدة، ولكل رسول -بعد هذا- شريعة يُراعَى في أمرها ونهيها من يرسل إليهم خاصة، حتى حضر الوقت الذي تهيأ فيه البشر من اختلاف بيئاتهم للانتظام في شريعة واحدة، فبعث الله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بالحنيفية السمحة، وجعله خاتم النبيين، وقضى بأن تكون شريعته خاتمة الشرائع، ولعموم رسالته، سواء الشاهد فيها والغائب، والعربي والعجمي، أقام على صدقه آيات باقيات ما نظرَ فيها ذو فطرة صافية، أو بصيرة نافذة، إلا أسلم وجهه لله قانتًا {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، ولخلود شريعته جعلها أبلغ الشرائع حكمة، وأوفاها أصولاً، وأوسعها للمصالح رعاية. ثلاث حقائق كل واحدة منها شطر من الإسلام: عموم رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، واشتمال شريعته بنصوصها وأصولها على أحكام ما لا يتناهى من الوقائع، وكون هذه الشريعة أحكم ما تساس به الأمم، وأصلح ما يقضى به عند التباس المصالح، أو التنازع في الحقوق. أجمع علماء المسلمين على هذه الحقائق، وعرفها عامتهم، فمن ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع من المجلد الحادي عشر - الصادر في شهر المحرم 1358 هـ - القاهرة. كما نشر البحث في مجلة "نور الإسلام".

أنكر واحدة منها، فقد ابتغى في غير هداية الإسلام سبيلاً، ومَثَلُ من يماري في شيء منها، ثم يدعي أنه لا يزال مخلصًا للإسلام، مثل من يضرب بمعوله في أساس صرح شامخ، ثم يزعم أنه حريص على سلامته، عاملٌ على رفع قواعده. فتنت مدنية الشهوات أشخاصاً ينتمون إلى الإسلام، فانحرفت بهم عن المحجة، وأدركوا أن مجاهرتهم بإنكار رسالة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تسقطهم من حساب المسلمين دفعة، فلا يبلغون من فتنة الأمة مأربًا، فبيتوا أن يبقوا ثوب الإسلام على أكتافهم، ويحركوا بمدحه في بعض المجالس ألسنتهم، أو في بعض الصحف أقلامهم؛ لكي يركن الغافلون من المسلمين إلى أقوالهم، فيقذفوا من وراء ريائهم، وثقةِ بعض الناس بهم ما شاؤوا من آراء خاسرة، ويزعموا أن هذه الآراء من هداية الإسلام، أو أن الإسلام لا ينكرها. والواقع أن هذا الصنف من المنحرفين قد أحدث في بعض البلاد الإسلامية آثار فساد، لم يُحدث معشارها النابذون إلى الدين على سواء، وكم أرتنا الأيام في هذا الصنف من عجائب دلتنا على أن هناك مغارات يأتمرون بالدين بين حيطانها، ولغةً إذا حضرهم بعض المسلمين، يجنحون إلى التخاطب بها، وضروباً من الإغواء يجهدون أنفسهم في تمويهها. منذ عهد قريب أخذ بعض الكاتبين يتشبهون بمن يؤلف على طريق البحث العلمي، فقالوا ما شاؤوا أن يقولوا، وخرجوا بغير مناسبة منطقية إلى إنكار أن يكون للإسلام مدخل في الشؤون القضائية، والمعاملات المدنية. جال هذا الصوت جولة الباطل، ثم ذهب كصيحة في واد، ولم يبق له صدى إلا في آذان رهط لا يسمعون رشداً، ولا يفقهون حجة، وإن شئت

فقل: صادف ذلك الصوت أفئدة هواء، فجعلوا يحاكونه في بعض ما يكتبون، ويوقظون فتناً لو أقبل كل على ما يحسن أن يتحدث فيه، لكانوا عنها في شغل. ما كدنا ننتهي من إماطة أذى ذلك الذي ادعى أنه يفسر القرآن بالقرآن (¬1)، حتى خرجت إحدى المجلات تحمل مقالاً تحت عنوان: "داء الشرق ودواؤه"، وفي هذا المقال دعاية إلى فصل الدين عن السياسة، وبلغ بكاتبه الحال أن زعم أن سبب تأخر المسلمين عدم فصلهم الدين عن السياسة. ونحن نودّ - والله يعلم - أن يقبل كل من بيده قلم على ما فيه خير الناس، والموضوعات العلمية والأدبية والسياسية مترامية الأطراف، وانصراف نفس الكاتب عن البحث في أمثال هذه الموضوعات ليس بعذر يبيح له أن يخوض بقلمه في الحديث عن الدين خوضَ من يقولون ما لا يتدبرون. ونود - والله يعلم - أن نقبل على شأننا، ونمضي في سبيلنا، وليس في فطرتنا الولوع بأن نفند لكاتب رأياً، أو نبطل لباحث قولاً، ولكن القوم أصبحوا يتساقطون على طمس معالم الحقيقة والفضيلة تساقطَ الفراش على السراج، والسكوت عنهم تفريط في جنب الله، ومن فرط في جنب الله، خسر الدنيا قبل الآخرة. قال صاحب المقال في ذكر أهم النقط الجوهرية التي ترجع إليها أسباب ¬

_ (¬1) إشارة إلى كتاب: "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن" تأليف محمد أبو زيد الدمنهوري. وردَّ عليه الإمام محمد الخضر حسين -انظر كتابه: "بلاغة القرآن". ومجلة "نور الإسلام" - العدد الثاني من المجلد الثاني الصادر في صفر 1350 هـ.

ضعف الشرق: "الثانية: عدم التفريق بنظام قاض بين السلطتين الدينية والدنيوية، فكان هذا من جملة المسببات لتأخر المسلمين؛ إذ أن جمع السلطتين في شخص واحد، بدون تحديد لهما، كان من أبعد (¬1) الأمور إلى اختلاف النظام، وإذا كان هذا أفاد المسلمين في صدر التاريخ الإسلامي، وأمر العالم لهم كما قدمنا، إلا أنه كان بلاء بعد انقسام المسلمين إلى ممالك وفرق، وشيع ومذاهب وأحزاب، ووجود دول أخرى تنازعهم السيادة على العالم، وقد عاد اجتماع هاتين السلطتين بلاء عليهم إذ أصبحت الرياسة الدينية والدنيوية في الواقع في قبضة تلك الدول التي نازعتهم كما هو مشاهد الآن". نعرف من قبل أن يظهر هذا المقال: أن الذين يدعون إلى فصل الدين عن السياسة فريقان: فريق يعترفون بأن للدين أحكاماً وأصولاً تتصل بالقضاء والسياسة، ولكنهم يفكرون أن تكون هذه الأحكام والأصول كافلة بالمصالح، آخذة بالسياسة إلى أحسن العواقب، ولم يبال هؤلاء أن يجهروا بالطعن في أحكام الدين وأصوله، وقبلوا أن يسميهم المسلمون: ملاحدة؛ لأنهم مقرّون بأنهم لا يؤمنون بالقرآن، ولا بمن نزل عليه القرآن. ورأى فريق: أن الاعتراف بأن في الدين أصولاً قضائية وأخرى سياسية، ثم الطعن في صلاحها، إيذانٌ بالانفصال عن الدين، وإذا دعا المنفصل عن الدين إلى فصل الدين عن السياسة، كان قصده مفضوحاً، وسعيه خائباً، فاخترع هؤلاء طريقا حسبوه أقرب إلى نجاحهم، وهو أن يدّعوا أن الإسلام ¬

_ (¬1) كذا في الأصل ولعلها محرفة عن كلمة (أدعى).

توحيد وعبادات، ويجحدوا أن يكون في حقائقه ما له مدخل في القضاء والسياسة، وجمعوا على هذا ما استطاعوا من الشبه؛ لعلهم يجدون في الناس جهالة أو غباوة، فيتم لهم ما بيتوا. هذان مسلكان لمن ينادي بفصل الدين عن السياسة، وكلاهما يبغي من أصحاب السلطان أن يضعوا للأمة الإسلامية قوانين تناقض شريعتها، ويسلكوا بها مذاهب لا توافق ما ارتضاه الله في إصلاحها، وكلا المسلكين وليد الافتتان بسياسة الشهوات، وقصور النظر عما لشريعة الإسلام من حكم بالغات. أما أن الإسلام قد جاء بأحكام وأصول قضائية، ووضع في فم السياسة لجاماً من الحكمة، فإنما ينكره من تجاهل القرآن والسنّة، ولم يحفل بسيرة الخلفاء الراشدين؛ إذ كانوا يزنون الحوادث بقسطاس الشريعة، ويرجعون عند الاختلاف إلى كتاب الله، أو سنّة رسول الله. في القرآن شواهد كثيرة على أن دعوته تدخل في المعاملات المدنية، وتتولى إرشاد السلطة السياسية، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، وكل حكم يخالف شرع الله، فهو من فصيلة أحكام الجاهلية، وفي قوله تعالى: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} إيماء إلى أن غير الموقنين قد ينازعون في حسن أحكام ربّ البرية، وتهوى أنفسهم تبدُّلها بمثل أحكام الجاهلية، ذلك لأنهم في غطاء من تقليد قوم كبروا في أعينهم، ولم يستطيعوا أن يميزوا سيئاتهم من حسناتهم، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]، فرض في هذه الآية أن يكون فصل القضايا على مقتضى كتاب الله، ونبّه على أن من

لم يدخل الإيمان في قلوبهم يبتغون من الحاكم أن يخلق أحكامه من طينة ما يوافق أهواءهم، وأردف هذا بتحذير الحاكم من أن يفتنه أسرى الشهوات عن بعض ما أنزل الله، وفتنتهم له في أن يسمع لقولهم، ويضع مكان حكم الله حكماً يلائم بغيتهم، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وفي آية: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، وفي آية ثالثة: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. وفي القرآن أحكام كثيرة ليست من التوحيد، ولا من العبادات؛ كأحكام البيع والربا، والرهن والدَّين والإشهاد، وأحكام النكاح والطلاق واللعان والولاء والظهار، والحجْر على الأيتام، والوصايا والمواريث، وأحكام القصاص والديّة، وقطع يد السارق، وجلد الزاني وقاذف المحصنات، وجزاء الساعي في الأرض فساداً، بل في القرآن آيات حربية فيها ما يرشد إلى وسائل الانتصار؛ كقوله مرشداً إلى القوة المادية: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، وقوله تعالى مرشداً إلى القوة المعنوية: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، وقوله تعالى منبهاً على خطة هي من أنفع الخطط الحربية: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]، والكفار هنا المحاربون، ففي الآية إرشاد إلى أن يكون ما بينهم ويين ديارهم أمنًا، ولا يدعوا من ورائهم من يخشون منه أن ينهض إلى أموالهم وأهليهم من بعدهم، أو يجلب عليهم بخيله ورجله ليطعن في ظهورهم، وقد أقبلوا على العدو الذي تجاوزوا إليه بوجوههم. وفي الآيات الحربية ما يتعلق بالصلح؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، وقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ

صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وفيها ما يتعلق بالمعاهدات؛ كقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]. وفي السنّة الصحيحة أحكام مفصلة في أبواب من المعاملات والجنايات إلى نحو هذا مما يدلك على أن من يدعو إلى فصل الدين عن السياسة، إنما تصور ديناً آخر، وسمّاه: الإسلام. وفي سيرة أصحاب رسول الله وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة - ما يدل دلالة قاطعة على أن للدين سلطانًا على السياسة؛ فإنهم كانوا يأخذون على الخليفة عند مبايعته شرط العمل بكتاب الله، وسنّة رسول الله. ولولا علمهم بأن السياسة لا تنفصل عن الدين، لبايعوه على أن يسوسهم بما يراه، أو يراه مجلس شوراه مصلحة، وفي "صحيح البخاري": "كانت الأئمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة؛ ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنّة، لم يتعدوه إلى غيره؛ اقتداء بالنَّبي - صلى الله عليه وسلم -". من شواهد هذا: محاورة أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب في قتال مانعي الزكاة؛ فإنها كانت تدور على التفقه في حديث "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"، فعمر بن الخطاب يستدل على عدم قتالهم بقوله في الحديث: "فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم"، وأبو بكر الصديق يحتج بقوله في الحديث: "إلا بحقها"، ويقول: الزكاة من حق الأموال. ولو لم يكونوا على يقين من أن السياسة لا يسوغ لها أن تخطو خطوة إلا أن يأذن لها الدين بأن تخطوها، ما أورد عمر بن الخطاب هذا الحديث، أو لوجد أبو بكر عندما احتج عمر بالحديث فسحة في أن يقول له: ذلك

حديث رسول الله، وقتال مانعي الزكاة من شؤون السياسة. ومن شواهد أن ربط السياسة بالدين أمر عرفه خاصة الصحابة وعامتهم: قصة عمر بن الخطاب إذ بدا له أن يضع لمهور النساء حداً، فتلت عليه امرأة قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، فما زاد على أن قال: رجل أخطأ، وامرأة أصابت، ونبذ رأيه وراء ظهره، ولم يقل لها: ذلك دين، وهذه سياسة. وكتبُ السنّة والآثار مملوءة بأمثال هذه الشواهد، ولم يوجد - حتى في الأمراء المعروفين بالفجور - من حاول أن يمس اتصال السياسة بالدين من الوجهة العلمية، وإن جروا في كثير من تصرفاتهم على غير ما يأذن به الله، جهالة منهم أو طغياناً. وأراد الحجّاج أن يأخذ رجلاً بجريمة بعض أقاربه، فذكّره الرجل بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، فتركه، ولم يخطر على باله وهو ذلك الطاغية أن يقول له: ما تلوته دين، وما سأفعله سياسة. وأما قيام أحكام الشريعة على أساس العدل، ورسمها للسياسة خططاً محكمة الوضع، فسيحة ما بين الجوانب، فذلك ما لا أستطيع تفصيل الحديث عنه في هذا المقال، وفيما كتبناه ونكتبه -إن شاء الله- تحت عنوان: "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان" (¬1) ما يساعد عل الإلمام بأصول الشريعة، ومعرفة اتساعها لكل ما يحدث من الوقائع، والذي نقوله في هذا المقام: إن السياسة لا تجد في الدين ما يقف دون مصلحة، ولا تجد منه ما يحمل على إتيان مفسدة، لا تجد فيه هذا ولا ذاك متى وزنت المصالح والمفاسد ¬

_ (¬1) كتاب للإمام مطبوع.

بميزان العقل الراجح، وكان القابضون على زمامها من حصافة الرأي في منعة من أن يطيش بهم التقليد، أو إرضاء طائفة خاصة إلى أن يروا الفساد صلاحاً، فيشرعوه، أو يروا الصلاح في لون الفساد، فينصرفوا عنه، وليس من شأن الدين أن يراعي فيما يشرع الأهواء الجامحة، وإن كانت أهواء الملأ الذين استكبروا، أو أهواء من في الأرض جميعاً. والرؤساء الذين لم يحافظوا في سياسة شعوبهم الإسلامية على أحكام الشريعة وآدابها، فوضعوا لهم قوانين جائرة، وأذنوا بمظاهر غير صالحة، إنما أتوا من ناحية جهلهم بسماحة شرع الإسلام، وسعة قواعده وسمو مقاصده، وإذا كان على غير الرؤساء تبعة، فعلى أولي الحل والعقد من فضلاء الأمة وعلمائها إذا أهملوا علاجهم، ولم يبذلوا في دعوتهم إلى الاستقامة جهدهم. أما الأحداث وأشباه الأحداث الذين لا يهدأ لهم بال ما داموا يسمعون اسم الدين يجري في لسان بعض الدول باحترام، فإن من نشأ في غير جد، وأسرف في حب اللهو، لا يألف شريعة تأمر بالعدل، وتضع دون الأهواء الجامحة حاجزًا، فلا عجيب أن يتآمروا بها، ويشيروا على السياسة بأن تبتعد منها، وإذا بلغ هؤلاء مأريهم في سياسة وقع زمامها في يد زائغ عن سبيل الرشد، فستذهب آمالهم خائبة في كل قطر يسوسه رئيس يقدر الإسلام قدره، ويجد من حوله علماء درسوا الشريعة بنباهة، ولا يخفى عليهم قصد من يتغنون بمدح الإسلام، وقبل أن تستريح حناجرهم يطعنونه في الصميم. يقول الكاتب: "إن جمع السلطتين في شخص واحد بدون تحديد لهما كان من أدعى الأمور إلى اختلال النظام". ليس في الإسلام سلطة دينية إلا على معنى أن الأمير ينفذ أحكام الشريعة

المفصلة في الكتاب والسنّة، أو المندرجة في الأصول المأخوذة منهما. وقاعدة الشورى التي قررها القرآن الكريم، وجرى عليها الخلفاء الراشدون كافلةٌ بصحة الاجتهاد في الأحكام المستنبطة من الأصول، أما النظم التي تقوم بها الشورى على وجهها الصحيح، فموكولة إلى الآراء الراجحة، وما تقتضيه مصالح الأمم أو العصور، فالإسلام لم يترك السلطة التي وضعها في أيدي الأمراء مطلقة عن التقيد، وإذا استهان بعض الأمراء بقاعدة الشورى، فإن التشريع تام، والوِزْر على من لم يأخذ نفسه بما قرره الشرع العزيز. وإذا كان بعض الأمراء هم الذين خرجوا عما حده الإسلام لسلطتهم الدينية، فحكمة الكاتب متى كان مسلمًا أن يقرر الحد الذي رسمه الإسلام، ويبين للناس كيف تعداه أولو الأمر؛ ليطالبوهم بالوقوف عنده، لا أن يقول كلاماً مبهماً، ويبني عليه المناداة إلى شهوة هي فصل الدين عن السياسة. ويقول صاحب المقال: "وقد عاد اجتماع السلطتين بلاءً عليهم؛ إذ أصبحت الرياسة الدينية والدنيوية في الواقع في قبضة تلك الدول التي نازعتهم، كما هو مشاهد الآن". لسقوط الشعوب الإسلامية في قبضة تلك الدول التي نازعتهم أسباب ليس الجمع بين السلطتين منها في شيء، ومن طبيعة سيطرة تلك الدول عليهم أن تتصرف في شؤونهم على طرق لا تحفظ حقوقهم، ولا تراعي فيها مصالحهم، وهل ينقص هذا البلاء لو أن المسلمين أعلنوا فصل سياستهم عن الدين قبل أن يسقطوا في أيدي هذه الدول المنازعة لهم؟!. حِرْص الكاتب على شهوة فصل الدين عن السياسة جعله يورد في معرض التسويق إليها ما ليس بحق، ولا يشبه أن يكون حقاً، بأي طريق عرف

الكاتب أن تلك الدول إذا وجدت السياسة في يد، والدين في يد أخرى، سلبت ما في اليد الأولى من سياسة، وتركت اليد الأخرى تعمل في حدود سلطتها بحرية؟!. ويقول الكاتب: "وإذا كان هذا أفاد المسلمين في صدر التاريخ الإسلامي، وأمر العالم لهم كما قدمنا، إلا أنه كان بلاء بعد انقسام المسلمين إلى ممالك وفرق، وشيع ومذاهب وأحزاب، ووجود دول أخرى تنازعهم السيادة على العالم". قد عرفتَ أن الأمير ليس عنده في الواقع سوى سلطة واحدة هي: تدبير شؤون الأمة على مقتضى القوانين الشرعية، والنظم التي لا تخالف شيئاً من أصولها، فتجريد الأمير من السلطة الدينية هو عزل له عن الإمارة في نظر المسلمين، فالمسلمون لا يستطيعون أن يتصوروا أميراً مجرداً عن السلطة الدينية، فضلاً عن أن يجردوه منها بالفعل، ويرضوا بعد تجريده منها بالاستماع إليه، والطاعة له. ولم تكن السلطة الدينية بيد الأمراء في يوم من الأيام بلاء على المسلمين، وإنما بلاء المسلمين في عدم قيام بعض أمرائهم بما توجبه هذه السلطة من نحو العدل والشورى والمساواة، وإعداد القوة لتقرير الأمن وكفّ العدو الذي يبسط إليهم يده بالسوء. قال صاحب المقال: "فكل مملكة احتضنت مذهباً في العقائد والفروع لتبقى وحدها منفصلة عن الممالك الأخرى، فبعد الانقسام أصبح كل أمير إمامًا دينيًا، وحاكمًا سياسيًا لقطره، فكانت النتيجة من هذا الجمع الإخلال بالنظام العام، وزالت الوحدة المقصودة من روح التشريع الإسلامي، فتعددت الخلافة، واختلت أحكامها، بعكس الأمم الأخرى التي تنبهت إلى حكمة الفصل

بين السلطتين، فصار ذلك الفصل مصدراً لفائدة الأمة، وحمايتها من التلاشي والانهيار، فلم يضرها اختلاف الدول فيها لوجود الرياسة الدينية قائمة في حدود سلطتها وتخصصها. ولذلك بقيت وحدتها خالدة في عصمة من الانشقاق والتدهور الذين أصابا الوحدة الإسلامية". وقع تفرّقٌ في الممالك الإسلامية، وأصبح كل أمير مستقلاً بالنظر في أمور قطره، فكانت النتيجة من استقلال كل أمير بملكه، مع تقاطع هذه الممالك وتدابرها: انحلال الرابطة الإسلامية، وزوال الوحدة المقصودة من التشريع الإسلامي. فسبب إخلال النظام العام، أو أحكام الخلافة: انقسام الأمة الإسلامية إلى دول انقسامًا غير مصحوب بشيء من التحالف والتعاطف، أما إن كل أمير يرجع إليه النظر في شؤون رعيته الدينية، فذلك من لوازم الإمارة في الإسلام، فلم يكن لعدِّ الأمير المستقل نفسه حارساً للدين في مملكته الخاصة دخل في اختلال النظام، فوهْنُ المسلمين جاء من جهة استقلال كل أمير بطائفة من المسلمين استقلالًا يقطع بينها وبين الدولة العظمى صلة التناصر والتعاون، لا من جهة أن رعاية الدين داخلة في سياسة كل دولة. ويقول الكاتب: "بعكس الأمم الأخرى التي تنبهت إلى حكمة الفصل بين السلطتين، فصار ذلك الفصل مصدراً لفائدة الأمة، أو حمايتها ... إلخ". وهذا صريح في أن الكاتب يريد من الدول الإسلامية أن تفعل ما فعلته الدول الغربية من تجريد السياسة من الدين، وهو رأي لا يصدر إلا ممن يكنّ في صدره أن ليس للدين من سلطان على السياسة، وهذا ما بيتّه فئة يريدون أن ينقصوا حقيقة الإسلام من أطرافها حتى تكون بمقدار الديانة المسيحية، ثم

يصبغوا هذا المقدار من بعد بأي صبغة أرادوا، فيذهب الإسلام، فلا القرآن نزل، ولا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعث، ولا الخلفاء الراشدون جاهدوا في الله حق جهاده، ولا الراسخون في العلم سهروا في تعرف الأصول من مواردها، وانتزاع الأحكام من أصولها. يضرب الكاتب المثل بالأمم الأخرى، ويزعم أن فصلها الدين عن السياسة كان مصدر فائدة الأمة، وحمايتها من التلاشي والانهيار، ومن أجل فصلها الدين عن السياسة، ووجود الرياسة الدينية قائمة في حدود سلطتها، لم يضرها اختلاف الدول فيها. وضربُ المثل على هذا الوجه أثرُ نظرة متسرعة؛ إذ ليس للرياسة الدينية في الإسلام حد تنتهي إليه، ثم يكون للأفراد أو الجماعات أن تفعل بعده ما تشاء، ولو كان في دين تلك الدول قوانين مدنية، ونظم سياسية، وقامت كل دولة على تنفيذ تلك القوانين والنظم داخل حدودها، أفيكون مجرد رعايتها لما جاء به دينها سبباً لانتشارمرض التقاطع بينها؟!. ليس في طبيعة ربط السياسة بالدين التقهقر والتنازع إلا أن يكون في تعاليم الدين ما يسير بالناس إلى وراء، أو ما يغري بينهم العداوة والبغضاء، وليس في دين الإسلام إلا ما يصعد بالأمم متى شاءت الصعود إلى السماء، وليس فيه إلا ما يدعو إلى الائتلاف والتعاون على أن تكون كلمة الحق هي العليا. قال صاحب المقال: "ولنضرب لذلك مثلاً: وحدة الكنيسة الكاثوليكية؛ فإنها على الرغم من اختلاف الدول الكاثوليكية بقيت لها زعامتها وشعورها بقوة فكرتها، وقد رأينا أثرها في الحروب الصليبية المستمرة، بل وفي كل

الحوادث التي تلتها، والتي تألبت فيها أوربا على الأمم الإسلامية، فإن للكنيسة والجمعيات الدينية المختلفة التي تستمد سلطتها منها أثرها الفعال في بقاء وانتشار المسيحية، وتأثيرها في سياسة العالم". ليس في الإسلام سلطة دينية تشبه السلطة الكاثوليكية، والسلطة الدينية في الإسلام لكتاب الله، وسنّة رسول الله؛ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. وعلى العلماء البيان، وعلى الأمراء التنفيذ، فإن أراد الكاتب من السلطة: البيان، فالبيان حق لكل عالم تفقه في أصول الشريعة ومقاصدها، فلا يختص به عالم دون آخر، ولا يعد بيان العالم الذي تعينه الأمة للبيان أرجح من بيان غيره، إلا أن تكون حجته أقوى، وإذا كان الأمر للحجة، فما معنى تعيين شخص ليكون مصدر البيان في كل حال؟ فإن أراد من السلطة: التنفيذ، فليس له معنى سوى أن تأكل الأمة إلى شخص القيامَ بتنفيذ أحكام الدين على أن تكون هي يده التي ينفذ بها، وسلاحه الذي يدافع به من يعارض في التنفيذ، وذلك معنى الخلافة المعروفة في الإسلام. قال صاحب المقال: "ولو رزق المسلمون رجالاً ينظرون بعين الناقد البصير - من قبل قرنين -، وفصلوا الدين عن السياسة، لكان للإسلام اليوم من الشأن والسيادة في الممالك التي اغتصبتها الدول الأوربية ما لا يقل عما للفاتيكان، وما كان خطر الاستيلاء الأجنبي عليهم عظيماً". كلام يروج، ولكن في غير هذا الوادي، ويُتقبل، ولكن بعقول لم تستنر بهداية، يأسف صاحب المقال على الشأن والسيادة اللذين فاتا للمسلمين لعدم فصلهم الدين عن السياسة من قبل قرنين، ويرى أن إبقاءهم الدين في جانب

السياسة كان سبباً في أن صار خطر الأجنبي عليهم عظيماً. فصل الدين عن السياسة هدم لمعظم حقائق الدين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين، وليست هذه الجناية بأقل مما يعتدي به الأجنبي على الدين إذا جاس خلال الديار، وقد رأينا الذين فصلوا الدين عن السياسة علنًا كيف صاروا أشد الناس عداوة لهداية القرآن، ورأينا كيف كان بعض المبتلين بالاستعمار الأجنبي أقرب إلى الحرية في الدين ممن أصيبوا بسلطانهم، ونحن على ثقة من أن الفئة التي ترتاح لمثل مقال الكاتب، لو ملكت القوة، لألغت محاكم يُقضى فيها بأصول الإسلام، وقلبت معاهد تُدرس فيها علوم شريعته الغراء إلى معاهد لهو ومجون، بل لم يجدوا في أنفسهم ما يتباطأ بهم عن التصرف في مساجد يذكر فيها اسم الله تصرّفَ من لا يرجو لله وقاراً. يقول الكاتب: لو فصلوا الدين عن السياسة، ما كان خطر الاستيلاء الأجنبي عليهم عظيماً، يقول هذا كأنه لا يدري أن السياسة الطاغية لا تهاب إلا حديداً أشد بأساً من حديدها، وناراً أشد حراً من نارها، فليس من المعقول أن تردّها عن قصدها سلطة دينية ليس في كنانتها سهم، ولا في كفّها حسام، أما قياسه حال السلطة الدينية الإِسلامية - على فرض صحة إقامتها - بحال السلطة الكاثوليكية في احترام مؤسساتها، وإطلاق يدها في عمل يرفع أهل ملتها، فمغالطة أو غفلة عن الفرق بين سلطة دينية يجد فيها الاستعمار مؤازرة أو موافقة على أي حال، وسلطة دينية قد يكون في بعض أصولها ما لا يلائم طبيعة الاستعمار. ولو ربط المسلمون سياستهم بالدين من قبل قرنين ربطاً محكماً، لم

تجد يدُ الغاصب للعبث بحقوقهم مدخلاً، ولو أعلنوا فصل الدين عن السياسة، لظلوا بغير دين، ولوجدَ فيهم الغاصب من الفشل أكثر مما وجد، فليس مصيبة المسلمين في تركهم السياسة مربوطة بالدين كما زعم الكاتب، وإنما هي ذهولهم عن تعاليم دين لم يدع وسيلة من وسائل النجاة إلا وصفها، ولا قاعدة من قواعد العدل إلا رفعها. قال صاحب المقال: "فإن أعظم ما أصاب المسلمين من المصائب: إنما هو فقد الرياسة الدينية بعد أن فقد منهم الاستقلال وحرمانهم من بقائها درعا حامياً وسداً منيعاً من تسرب المستعمرين باسم السياسة إلى السيطرة على شعور وضمائر الأمم الإِسلامية، حتى كاد يختل بناء الدين، ويتنكر المسلمون تعاليمه الحقة". حقيقة فقد الرياسة الدينية من أعظم ما أصاب المسلمين، وهي الرياسة التي في إحدى يديها هداية، وفي أخراهما قوة، أما الرياسة التي لا يتعدى صاحبها أن يكون واعظًا عاماً، يدعو الناس إلى الصلاة والصيام والحج إن استطاعوا إليه سبيلاً، فلم تفقد بعد، ولم يحرم المسلمون منها، ولا تزال باقية، ولكن في أشخاص متفرقين في البلاد، لا في شخص واحد كما يرغب صاحب المقال، ولم نذكر الزكاة من قبيل ما يدخل في الوعظ؛ مخافة أن يكون الكاتب قد انتزعها من أحضان الدين، وجعلها في قسمة السياسة. يربط الكاتب الوقائع، ولكن بغير أسبابها، ويصل النتائج، ولكن بغير مقدماتا، النفرض أن المسلمين اتفقوا على ضلالة فصل الدين عن السياسة، وأقاموا رياسة دينية لا جند لها ولا سلاح، أمن العقول أن تكون هذه الرياسة درعًا حاميًا، وسدًا يمنع تسرب المستعمرين إلى السيطرة على شعور الأمم

الإِسلامية وضمائرها؟!. إذا سيطر المستعمر على الشعور والضمائر، فإن أكبر مساعد له على هذه السيطرة: قبضه على زمام التعليم العام؛ حيث يسير به على منهج يخرج به الناشئ مزلزل العقيدة، غائبًا من سماحة الدين وحكمة التشريع، ومعظم النشء مأخوذون بحاجات أول دواع إلى أن يترددوا على مدارس الحكومة. فإن أراد الكاتب أن يكون لتلك السلطة الدينية فضل إقامة مؤسسات تغني عن مدارس التبشير ومستشفياتهم التي يتخذونها وسائل للسيطرة على شعور المسلمين وضمائرهم، قلنا: في يد المسلمين أن يقيموا مؤسسات تحاكي تلك المؤسسات، فينقذوا أبناءهم من شر مؤسسات الأجنبي، ولا شيء يضطرهم إلى موبقة فصل الدين عن السياسة، وابتداع رياسة دينية لم ينزل الله بها من سلطان. بسط صاحب المقال لسانه في "الفقهاء المسلمين" كما يبسطه فيهم من لم يطالع كتبهم، فغلا في وصفهم بالجمود، حتى زعم أنهم "لم يقولوا لنا كيف يجتهد الفقيه"، وتمادى في هذه المزاعم إلى أن قال: "ووجد من الفقهاء المزيفين من جوَّز إمامة المغتصب الذي يتولى ولاية الأمة بغير رغبتها وإرادتها". يقول الفقهاء: تنعقد الإمامة ببيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس، وهذا هو الأصل الذي ينبغي أن تكون عليه الإمامة في كل حال، وأجازوا للإمام متى خشي التنازع في الإمامة من بعده، ورأى في أحد رجاله الكفاية، أن يعهد إليه بها قطعاً للفتنة، ولم يجيزوا لأحد أن يتولى أمرها دون أن يبايعه أهل الحل والعقد، أو يعهد إليه بها الإمام، وإن قام مسلم

ذو قوة، فتولاها بالقهر والغلبة، فإن كان جامعاً لشروط الولاية؛ من نحو العلم والعدل والاستقامة، كان إقراره أسلم عاقبة من منازعته، وليس في إقراره من بأس ما تحققت فيه شروط الولاية، فالفقهاء يجيزون ولاية المتغلب على معنى أنه بعد القهر والغلبة يعد إماماً لتحقق شروط الإمامة فيه، ولأن منازعته تفضي إلى فتنة ليسوا في حاجة إلى إثارتها. فإن فقد منه بعض شروط الولاية، منتخباً كان، أو معهوداً إليه، أو متغلباً، فمن الشروط ما يكون فقده مسقطًا للولاية بنفسه؛ كالارتداد عن الدين، واختلال العقل، ومنها ما يستحق به العزل لإجماع؛ كالفسق، ومن الفقهاء غير المزيفين من يعد الفسق في الشروط التي تسقط ولايته بنفسها، ولا تحتاج إلى إعلان أهل الحل والعقد بخلعه، أما القيام على الفاسق، وإبعاده من مقر الولاية باليد، فموكول إلى اجتهاد أهل الحل والعقد، وهم الذين يسلكون ما تقتضيه الحكمة، وتستدعيه مصلحة الأمة. هذا ما يقوله الفقهاء أخذاً من أصول الشريعة، ورعاية لمقاصدها في الاستنباط، وليس فيه تفريط في المصلحة العامة، ولا ما يمس مقام الولاية العظمى بسوء.

سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين

سماحة الإِسلام في معاملة غير المسلمين (¬1) من يدرس أصول الإِسلام بجِدّ، ويذهب في تعرف روح تشريعه مذاهب بعيدة المدى، يدرك دون أن يأخذه ريب: أنه دين نزل من السماء؛ ليضرب بهدايته في أرجاء المعمورة، ويعلّم الأمم أرقى نظُم الاجتماع، وقد ارتفعت في الشرق والغرب رايته، يوم تولى أمره زعماء لبسوا من آدابه برودًا سنيَّة، وتحروا في الدعوة إليه سبلاً سويَّة، ولا أستطيع أن أُلمّ في هذا المقال بما احتوته شريعته من النظم المدنية، والقواعد التي تشهد بأنه تشريع لم يكن للعواطف البشرية والعادات القومية عليه سلطان، فأكتفي بأن أصف لك ناحية يتمثل فيها عدل قضائه، ورفق سياسته، وسمو آدابه، تلك الناحية هي: أصوله الخاصة في معاملة غير المسلمين. المخالفون في نظر الإِسلام: محاربون، أو معاهدون، أو أهل ذمة، والمراد: ذمة الله؛ أي: عهده، فهذا الاسم يشعر بأن من مسهم بأذى، فقد خان عهد الله، وعهد دينه الحنيف. أما المحاربون، فهم الذين يهاجمون أمة إسلامية، أو يتحفزون للهجوم عليها، أو يمدون أيديهم إلى حق من حقوقها، وحكم الإِسلام في هؤلاء: أن ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإِسلام" -العدد العاشر من المجلد الثاني، الصادر في شهر شوال 1350 هـ - القاهرة.

يُدفعوا إذا هاجموا، ويُبادرَوا بما يكف بأسهم إذا تحفزوا، وُيقوّموا إذا اعتدوا على الحق حتى ينصفوا، يأذن الإِسلام في دفع المهاجم، أو كف المناوئ، مع رعاية جانب الرفق والأخذ بالعرف. ومن الرفق الذي أقام عليه سياسته الحربية: أنه منع من التعرض بالأذى لمن لم ينصبوا أنفسهم للقتال؛ كالرهبان، والفلاحين، والنساء، والأطفال، والشيخ الهرم، والأجير، والمعتوه، والأعمى، والزَّمِن، ومن الفقهاء من لا يجيز قتل الأعمى والزَّمن، ولو كانا ذوي رأي في الحرب وتدبير. ولا يجوز قتل النساء، وإن استُعملن لحراسة الحصون، أو رَمين بنحو الحجارة، ودليل هذا قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190]، فجعل القتال في مقابلة القتال. ونبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن من لا يقاتل لا يُقتل، حين وجد امرأة في بعض الغزوات قتيلة، فأنكر ذلك وقال: "ما كانت هذه لتقاتل" (¬1). وإذا وضع المحاربون الأطفال والنساء أمامهم، وجب الكف عن قتالهم، إلا أن يتخذوا ذلك ذريعة للفوز علينا، ونخشى أن تكون دائرة السوء على جندنا. ولا يجيز الإِسلام التمثيل بالمحارب، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً" (¬2)، ويمنع من حمل رؤوسهم من بلد إلى بلد، أو حملها إلى الولاة، وقد أنكر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - هذا، وقال: هو فعل الأعاجم. ولم يشرّع الإِسلام للأسير حكماً واحداً، بل جعل أمره موكولاً إلى ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام مسلم". (¬2) رواه مسلم.

الأمير الذي يقدر مصلحة الحرب، وله أن يخلي سبيله بفداء، أو بغير فداء. ولا يرغم الإِسلام المحارب على الدخول في ملته، بل يعرض عليه أن يقيم تحت سلطانه آمناً على نفسه وماله وعرضه ودينه، ويساوي في هذا الحكم أصحاب الأديان السماوية، وغيرهم، قال الإمام مالك، وصاحبه ابن القاسم: تقبل الجزية من كل من دان بغير الإِسلام. وأما المعاهدون، وهم الذين انعقد بيننا وبينهم عهد على السلم، فيجب علينا الوفاء بعهدهم، وأن نستقيم لهم ما استقاموا لنا، وإذا كان في بعض ذوي القوة من يحسّ من خصمه المعاهد تحفزًا إلى الخيانة، فيسبقه إليها، فإن الإِسلام يوجب في حال الخوف من خيانة المعاهدين أن ننبذ لهم العهد علنًا، وفي القرآن الكريم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]. ولم يخص الإِسلام تأمين المحارب بصاحب الدولة، بل هو حق لكل مسلم ومسلمة، فإذا أمّن رجلاً وامرأة من المسلمين محارباً، كان تأمينه نافذاً، واعتصم بهذا التأمين من أن يناله أحد بسوء حتى يبلغ مأمنه. وليس من شرط التأمين البلوغ، ولا الإِسلام، فلو أمن صبي يعلم ما يقول، أو أحد من أهل الذمة بعض المحاربين، كان هذا التأمين عقداً محترماً. بلغ الدين في رعاية عهد الأمان أقصى غاية، فلو أشار المسلم إلى الحربي إشارة يريد بها عدم التأمين، ففهمها الحربي على التأمين، وجب له الأمان على حسب ما فهم من تلك الإشارة. وهذا حكم التأمين في حال الحرب، أما تأمين المحارب ليدخل البلاد بقصد التجارة، وظن المحارب أن هذا التأمين نافذ، وجب الوفاء له على حسب

ظنه، وليس لولي الأمر إن لم يرض عن هذا التأمين إلا أن يرد المحارب إلى مأمنه. وإذا أخذ المحارب أماناً لينظر في الدين، ولم ينشرح صدره للإسلام، فما لنا إلا أن نرده إلى داره آمنًا، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]. ولو ظفر المسلمون بمحارب جاء مقبلاً من بلد عدو، فقال: جئت لأطلب الأمان، لم يجز التعرض له بمكروه، وإذا لم يروا المصلحة في تأمينه، ردّوه إلى مأمنه. ولو وجد المسلمون طائفة من المحاربين في أطراف بلاد الإِسلام، فقالوا: جئنا تجاراً، وظننا أنكم لا تتعرضون لمن جاء تاجرًا، فليس لنا إلا أن ندعهم وشأن تجارتهم، أو نردهم إلى مأمنهم، إلا أن تقوم الشواهد على أنهم يقصدون من الشر ما لا يقولون. ومن رعاية الإِسلام لعهد التأمين: أن أكد في احترام أموال المعاهدين، حتى إذا رجع المعاهد إلى بلده، وترك في دار الإِسلام وديعة، أو ديناً، وجب إرسالها إليه، فإن مات، بُعث بها إلى ورثته إن عُرفوا، فإن لم يعرفوا، أرسل بها إلى رئيس قومه. ويدلك على ما لعهد التأمين في دين الإِسلام من حرمة: قول عمر بن الخطاب: "إنه بلغني أن رجالاً منكم يطلبون العلج، حتى إذا أسند إلى الجبل، وامتنع، قال رجل: "مَتَرْس" (¬1)، يقول: لا تخف، حتى إذا أدركه، قتله، وإني ¬

_ (¬1) كلمة فارسية معناها: لا تخف.

والذي نفسي بيده! لا أعلم مكان واحد فعل ذلك إلا ضربت عنقه" (¬1). وأما من رضوا بالإقامة تحت راية الدولة الإِسلامية، فقد قرر لهم الدين من الحقوق ما يكفل لهم حريتهم، ويجعلهم أعضاء حية مرتبطة بسائر أعضاء الأمة المسلمة ارتباطَ ألفة وعطف وتعاون. توجد هذه الروابط في القرآن والحديث، وآثار الصحابة، وأقوال أهل العلم من بعدهم. يقتضي العهد الذي يعقد لأهل الذمّة: أن يقيموا تحت راياتنا متمتعين بحقوقهم الدينية، آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وإليك نص عهد عمر بن الخطاب لأهل إيليا: "أَعطاهم الأمان لأنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وسائر ملتهم، لا تُسكن كنائسهم، ولا يُنقص منها، ولا من خيرها، ولا من صُلُبهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم". إن القرآن كقانون أساسي لدولة الإِسلام، فلم يترك ناحية من نواحي الاجتماع أو السياسة إلا وضع لها أصلاً يهتدى به في تفاصيل أحكامها، وانظر إليه ماذا صنع في ناحية هي من أكبر النواحي الاجتماعية أو السياسية، وهي معاملة الطوائف غير المسلمين إذا اختاروا الإقامة في جوارنا، ولم ينزعوا إلى مناوأتنا، اقرا إن شئت قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، فالآية تحثّ على رعاية قانون العدل في معاملتهم، وتدل - بعد هذا - على فضيلة البرّ بهم، وإذا عبرت عن هذا المعنى بعدم النهي عنه، فلأنها قصدت الردّ على ما يسبق إلى الذهن من أن مخالفتهم للدين تمنع من برهم، وتسهل الاستهانة بحقوقهم. وقد جرى أمراء الإِسلام العادلون على سيرة هذه الآية، فكانوا ينصحون ¬

_ (¬1) "الموطأ".

لنوابهم بالعدل، ويخصون أهل الذمة في نصيحتهم بالذّكر، وأحسن مثل نسوقه على هذا: كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى عمرو بن العاص، وهو يومئذ الوالي على مصر، ومما جاء في هذا الكتاب: "وإن معك أهل ذمة وعهد، وقد وصّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم". ومنه: "وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من ظلم معاهداً، أو كلّفه فوق طاقته، فأنا خصمه يوم القيامة"، احذر يا عمرو أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك خصماً، فإنه من خاصمه، خصمه" (¬1). ومن الأحاديث الثابتة في هذا الصدد: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قذف ذمياً، حُدَّ له يوم القيامة بسياط من نار". فانظروا إلى مكانة العهد في الإِسلام، وزنوها بمعاهدات يأخذ فيها بعض الأقوياء على أنفسهم احترامَ حقوق شعب إسلامي، حتى إذا أمسكوا بناصيته، لم يستحيوا أن يعبثوا بالأرواح، وتجول أيديهم في الأموال، ويعملوا جهدهم على أن يقلبوهم إلى جحود بعد إيمان، ويحنقون بعد هذا كله على من يسميهم: أعداء الإنسانية، وقابضي روح الحرية. أدرك الفقهاء رعاية شارع الإِسلام لأهل الذمة، وحرصَه على احترام حقوقهم، فاستنبطوا من أصوله أحكاماً جعلوا المسلم وغير المسلم فيها على سواء، وأذكر من هذه الأحكام: أنهم أجازوا للمسلم أن يوصي أو يقف شيئاً من ماله لغير المسلمين من أهل الذمة، وتكون هذه الوصية أو الوقف أمراً نافذاً، ولما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه" (¬2)، ¬

_ (¬1) روى الخطيب في "تاريخه" عن ابن مسعود: "من آذى ذمياً، فأنا خصمه، ومن كنت خصمه، خصمته يوم القيامة". (¬2) "صحيح الإمام مسلم".

قالوا: البيع على غير المسلم الداخل في ذمة الإِسلام كالبيع على بيع المسلم، والخطبة على خطبته كالخطبة على خطبة المسلم، كلاهما حرام. وإذا ذكر فقهاؤنا آداب المعاشرة، نبهوا على حقوق أهل الذمة، وندبوا إلى الرفق بهم، واحتمال الأذى في جوارهم، وحفظ غيبتهم، ودفع من يعرض لأذيتهم. قال شهاب الدين القرافي في كتاب "الفروق": "إن عقد الذمة يوجب حقوقًا علينا؛ لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا، وذمة الله تعالى، وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ودين الإِسلام، فمن اعتدى عليهم، ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو أي نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيَّع ذمة الله تعالى، وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذمة دين الإِسلام". وقال ابن حزم في "مراتب الإجماع": "إن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمّة الله تعالى، وذمة رسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة". وجعل الإِسلام أحكام رؤسائهم فيما بينهم نافذة، فلهم أن يتحاكموا أمام رؤساء مللهم فيما يعرض لهم من القضايا، وإنما اختلف علماؤنا فيما إذا رفع الخصمان منهم القضية إلى الحاكم المسلم، فقال المالكية: إن كان ما رفعوه ظلماً لا تختلف الشرائع في تحريمه؛ كالغصب، والقتل، وجب على المسلم أن يفصل فيه على وجه العدل، فإن كان مما تختلف فيه الشرائع، كان له الخيار في الفصل بينهم بشريعة الإِسلام، أو صرفهم إلى رئيس طائفتهم. وحملوا على هذا الوجه قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ

بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]. وقال الإمام أبو حنيفة: على الحاكم المسلم متى ارتفع إليه الخصمان من أهل الكتاب أن يفصل في قضيتهم، وليس له الإعراض عنهم، وأخذ في وجوب الفصل بينهم بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]، وقال: إن الأمر القاطع في هذه الآية ناسخ للتخيير في آية: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]. هذا أصل البحث في هذه المسألة، أما تفصيل المذاهب، وبسط أدلتها، فموضعه كتب الفقه، وأحكام القرآن. وأباح للمسلم أن يتزوج تحت سلطان الإِسلام بيهودية أو نصرانية، وجعل لها من الحقوق ما لزوجته المسلمة، وفي الزواج صلة الصهر، وتتبعها صلة النسب، وفي هذا شاهد على أن الدين الحنيف ليس بالدين الذي يدعو إلى التقاطع المانع من المعاشرة بالمعروف، والتعاون على مرافق الحياة. وكره الإِسلام أن يجري المسلم في مخاطبة المسلمين مجرى أولئك الذين يتعصبون لمعتقداتهم بغير الحق، فيطلقون ألسنتهم بإذاية من يجادل في صحتها، فقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]. وخاتمة المقال: أن المسلمين قد استناروا بسماحة دينهم، وتعلموا من آدابه أن يحسنوا معاشرة أصحاب الأديان الأخرى، ممن لا يكيدون لهم

كيداً، ولا يظاهرون عليهم عدواً، ويمكنهم أن يعيشوا معهم في صفاء وتعاون على المصالح الوطنية. وكثيراً ما نقرأ أنباء من يشرح الله صدورهم للإسلام، فنجدهم حيث يذكرون دواعي اهتدائهم، يصرحون بأن من هذه الدواعي: ما يرونه في هذا الدين من سعة الصدر، والأمر بالرفق والإحسان في معاملة المخالفين، وبأن لا يزاد عند جدالهم على دفع الشبهة بالحجّة.

العزة والتواضع

العزّة والتواضع (¬1) سهْلٌ على الإنسان أن يدرك معنى الفضيلة في صورة مجملة، بل عليه أن يتعرف ما هي الفضائل بتفصيل، وإنما العسر في أخذ النفس بها، والسير في معاملة الناس على قانونها، وعُسْر العمل على الفضيلة مع تصور مفهومها، والشعور بحسن أثرها يجيء من ناحية الشهوات التي قد تطغى، فتطمس على البصائر، وتكاد تحوّل معرفتها لخير إلى جهالة عمياء. وقد يؤخذ الدارس للأخلاق من ناحية ضعْفه في تطبيق الأعمال على ما تقتضيه أصول المكارم، ذلك لأن علم الأخلاق يشرح الفضيلة، ويبين ما بينها وبين الأخلاق الأخرى من صلة، وينبه على ما لها من آثار حميدة، ولا يتعرض لمظاهر الفضيلة مظهراً فمظهرًا، ولا لمواضع الأخذ بها موضعًا فموضعًا، بل يكِلُ ذلك إلى اجتهاد الشخص ونباهته. وحدود الفضائل تقع بمقربة من أخلاق مكروهة، وهذه الحدود في نفسها واضحة جلية، إلا أن تمييز ما يدخل فيها ما هو خارج عنها، يحتاج إلى صفاء فطرة، أو تربية تُساس بها النفس شيئاً فشيئاً. وكثيراً ما يتشابه على الرجل لأول النظر أمورٌ، فلا يدري أهي داخلة ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإِسلام" - العدد السابع من المجلد الثاني، الصادر في شهر رجب 1350 هـ - القاهرة.

في الفضيلة، أم هي خارجة عن حدودها؟ وربما سبق ظنّه إلى غير صواب، فيخال ما هو من قبيل الفضيلة مكروهاً، فيدعه، أو يعيب غيره به، أو يخال ما هو من قبيل المكروه فضيلة، فيرتكبه، أو يمدح غيره عليه. وهذا الشأن يجري في خلقي العزّة والتواضع. فعزة النفس تمتاز في الأذهان عن الكبرياء امتياز الصبح من الدجى؛ إذ العزة: ارتفاع النفس عن مواضع المهانة، والكبرياء: استنكاف النفس أن تأتي صالحاً، بتخيل أن ذلك العمل لا يليق بمنزلتها، أو تعظمها عن أن تجامل ذا نفس زاكية بزعم أنه غير كفء لها. ويقابل العزَّةَ: الضِّعةُ، وهي انحدار النفس في هوة المهانة، ويقابل الكبرياء: التواضع، وهو إذعانها للحق، ونظرها إلى ذي النفس الزاكية، أو المستعدة لأن تكون زاكية، نظرَ احترام، أو عطف وإشفاق. والفرق بين حقائق هذه الأخلاق سهل المأخذ، ولا يكاد يَخْفَى أمره على عامة الناس، فضلاً عن خواصهم، ولكن أحوالاً تعرض للرجل، فيخفي فيها الوجه الذي يدعو إلى مظهر التواضع، فيعد صاغراً. وفي الناس مَنْ عَدَّ التواضُعَ ذِلَّةً ... وعَدَّ اعْتزازَ النفس من جَهْله كِبْرا وقال رجل للحسين بن علي: إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً، فقال: ليس بتيه، ولكنه عزّة، وتلا قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]. وقال عبد الرحمن الناصر الخليفة الأموي بالأندلس لابنه المنذر: "إن لهذا السلطان رونقاً يُريقه التبدُّل، وعلوًا يُخفِّضه الانبساط، ولا يصونه إلا التيه والانقباض"، ثم ذكر أناساً يعدون تواضع الرجل صغراً، وتخفّضه خِسَّة،

فقال له عبد الرحمن: ابق وما رأيت. فوزْن المعاملات الخاصة، وإلحاقُها بإحدى خصلتي العزة أو التواضع، أو طرحُها إلى الكبرياء أو المهانة، يرجع إلى اجتهاد الشخص نفسه، وهذا لا يمنع غيره الذي عرف من سر المعاملة ما عرف من علانيتها، أن ينقدَها، ويصفَ صاحبها بأنه عزيز النفس، أو متواضع، أو يحكم عليه بأنه متكبر أو متصاغر. في عزة النفس فوائد تعود على الشخص نفسه، منها: ارتياح ضميره، وسلامته من ألم الهوان الذي يلاقيه من لا يحتفظ بكرامته، ثم ما يلقيه هذا الخلق على صاحبه من مهابة ووقار، وإحراز مكانة احترام في النفوس مما تنشرح له صدور العظماء، وإنما عيب الرجل في أن يجعل هذه المكانة غايته المنشودة، أو يتخذها حِبالَة لاصطياد مآرب لا يتعداه نفعها. ولهذه الخصلة آثار صالحة في الاجتماع؛ فإن الأمة التي تُشرَّب في نفوسها العزة يشتد فيها الحرص على أن تكون مستقلة بشؤونها، غنية عن أمم من غيرها، وتبالغ في الحذر من أن تقع في يد من يطعن في نحو كرامتها، ولا يستحي الإنسانية أن تراه مهتضماً لحقوقها. ومن عناية الإِسلام بأدب العزة: أنه بني كثيراً من أحكامه العملية على رعايتها، كما منع القادر على الكسب من بسط كله للاستجداء؛ إذ كان في استجدائه إراقة لماء وجهه بين يدي من تكون يده هي العليا، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره، خير من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله، فيسأله أعطاه، أو منعه". وسنَّ الهجرة من بلد لا يرفع فيها الإِسلام لواءه إلى بلد تخفق عليه

رايته، وتقام فيه أحكام شريعته، قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]. وشرَّع الذود عن الأوطان، وحمايتها من أن يكون للخصوم عليها سيطرة؛ إذ لا نصيب لجماعة المسلمين من سيطرة غير المسلم إلا العسف والإرهاق. ومن الأحكام القائمة على رعاية العزة: أن التبرعات لا تتقرر إلا بقبول المتبرع له، فلو وهب شخص لآخر مالاً، لم تنعقد الهبة إلا أن يقبلها الموهوب له؛ إذ قد يربأ به خُلُق العزّة عن قبولها؛ كراهة احتمال مِنّتها، والمنّة تصدع قناةَ العزة، فلا يحتملها ذوو المروءات إلا في حال ضرورة، ولا سيما مِنة تجيء من غير ذي طبع كريم، أو قدر رفيع. والعلماء الذين كانوا لا يقبلون عطايا ولاة الأمور، يريدون الاحتفاظ بكامل عزتهم، حتى يكون موقفهم في وعظ أولئك إذا حادوا عن الرشد موقفَ الناصح الأمين. ومن هذه الأحكام: شرط الكفاءة في النكاح؛ ذلك لأن في تزوج الرفيعة بمن هو دونها امتهاناً لقدرها، وغضًا من كرامة أوليائها، فجعل للمرأة وأوليائها الحق في الممانعة من تزوجها بمن لا يكافئها، وإنما اختلف الفقهاء في تحديد الكفاءة، كما هو مقرر في كتب الأحكام. وقد عرف الفقهاء: أن الشريعة تراعي في أحكامها حق العزة، فقالوا: إن المسافر يقبل هبة الماء للوضوء، ولا يتيمم؛ إذ لا يمتن بمقدار ما يتوضأ به من الماء عادة، ولم يلزموه قبول هبة ثمن الماء، وأجازوا له التيمم، إذا كان في هبة الثمن مِنَّة، والمنة تورث شيئاً من الذلة. وعلى هذا النحو جرى

الإمام الغزالي؛ إذ جعل خشية الإهانة مُسْقطة لوجوب النهي عن المنكر. وموضع هذا: أن يعرف العالِم أن نهيه لا يجدي نفعًا، ويزيد على عدم جدواه بأن يسومه أولئك المبطلون أو الفاسقون خسفًا، أما إذا كان يرجو مما يقوله أو يكتبه فائدة، فاحتمال الأذى في سبيل العمل الصالح عزة لا تطاولها عزة. ومدحُ الإنسان نفسَه رعونة، فإذا مسه أحد بازدراء، فإن علم الأخلاق يسمح له بأن يذود عن عزته، ويقول كلمة ينبه بها على مكانته. وفد أبو الفضل بن شرف إلى المعتصم أحد أمراء الأندلس في زي تظهر عليه البداوة، وأنشده قصيدته التي يقول في طالعها: مُطِلَ الليلُ بوعْدِ الفَلَقِ ... وتَشَكَّى النجمُ طولَ الأرقِ فاهتز المعتصم لسماعها طرباً، فحسد أبا الفضل من الحاضرين ابنُ أخت غانم، وقال له: من أي البوادي أنت؟ فقال أبو الفضل: أنا من الشرف في الدرجة العالية، وإن كانت البادية عليّ بادية، ولا أنكر خالي، ولا أعرف بحالي. فانقبض ابن أخت غانم خجلاً. وأما التواضع، وهو بذل الاحترام، أو العطف والمجاملة لمن يستحقه، فهو خلق يكسب صاحبه رضا أهل الفضل من الناس ومودتهم، وهو الطريق الذي يدخل بالشخص في المجتمع، ويكون به عضواً ملتئماً مع سائر الأعضاء التي يتألف منها جسد نسميه: الأمة، فالتواضع أنجح وسيلة إلى الائتلاف والاتحاد، اللذين هما أساس التعاون على مرافق الحياة وجلائل الأعمال، قال الله تعالى يدعو رسوله الكريم إلى هذا الخلق العظيم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 88 - 89]، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ

نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]. يستكبر الأغبياء ظناً منهم أن في الاستكبار رِفعة، والحقيقة أن ابتغاء الرفعة من طريق التواضع أنجحُ من التوصل إليها بطريق التجبُّر والغطرسة، فالتواضع الحكيم يورث المودة، ومن عَمَر فؤاده بمودتك، امتلأت عينه بمهابتك. وأحسنُ مقرونين في عينِ ناظرٍ ... جلالةُ قَدرٍ في خُمولِ تواضُعٍ قد يراك الرجل وأنت تؤدي حق الاحترام إلى رجل عرفتَ من كماله ما لم يعرفه، فيعدُّ عملك تصاغرًا، ويرمي أمامك أو وراءك بسهم الإنكار، ولو اطلع على ما بطن من هذه المعاملة كما اطلع على ما ظهر منها، لأقام لك بدل الإنكار عذراً. قدّم أبو الفضل بن العميد لأبي بكر بن الخياط نعله، فعده بعض الحاضرين إفراطاً في التنازل، فقال أبو الفضل: أأُلام على تعظيم رجل ما قرأتُ عليه شيئاً من الطباع للجاحظ، إلا عرف ديوانه، وقرأ القصيدة من أولها إلى آخرها حتى ينتهي إليه؟!. وكان أبو العباس المبرِّد عندما يرى أبا بكر الأبهري مقبلاً، ينهض قائماً حفاوة وإجلالاً، فخطر على بال بعض أصحابه أنه تجاوز حد التواضع، وأن أبا بكر لا يستحق هذا القدر من الإجلال، وشافَهَ المبرد بهذا الخاطر، فقال المبرد: إذا ما رأيناهُ مقْتبِلاً ... حَلَلْنا الحبا وابتدَرْنا القِياما فلا تُنْكِرنَّ قيامي له ... فإنَّ الكريمَ يُجِلُّ الكِراما

يتواضع الرجل لأقرانه، فلا يُصاعِر لهم خداً، وإن أبى الدهر إسعافهم، ولا يخرج في معاملتهم عن حدود المساواة، وإن رزق من المال أو الجاه ما لم يرزقوا، قال البحتري: وإذا ما الشريفُ لَمْ يتواضعْ ... للأَخِلّاءِ فهو عينُ الوَضيعِ ويتواضع الرجل لمن هو دونه في ظاهر هذه الحياة، أو فيما يجري به عُرف الناس؛ كالأستاذ يجامل طالب العلم، والرئيس يجامل المرؤوس. وفي سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقوال الذين أوتوا الحكمة، وسيرة الذين استقاموا على الفضيلة، ما فيه عظة حسنة، وقدوة صالحة. أما الأستاذ لا يتعاظم على طالب العلم، فمن مظاهره: الإصغاء إليه عند المناقشة، وإجابته عما سأل في رفق، وتلقي ما يبديه من الفهم لإنصاف، فإنْ أخطأ، نبّهه لوجه الخطأ، وإن قال صواباً، تقبله منه بارتياح، وارتياح الأستاذ لآثار نجابة الطلاب مما يريدهم جدًّا في الطلب، ويشعرهم باستعدادهم لأن يكونوا في النوابغ، وإنما ينبغ الناشئ في العلم متى سطع في نفسه مثل هذا الشعور. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "تعلموا العلم، وعلّموه الناس، وتعلّموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه، ولمن علمتموه". ومن حكم الإمام علي -كرم الله وجهه-: "وتواضعوا لمن تتعلّمون منه، ولمن تعلّمونه، ولا تكونوا جبابرة العلماء". وأما الرئيس لا يتعظم على المرؤوس، فمن مظاهره: لين القول في مخاطبته، والعناية بقضاء ما يستطيع من حاجته، والسعي في دفع الأذى عن جانبه. والرئيس المتواضع يتحامى أن تشهد منه أثراً يدل على أن نفسه تحدثه

بأنه أفضل منك، إلا مظاهر يسيغها عرف أصبح مألوفاً بين الناس. روى الإمام مالك: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - "كان في فضله وقدمه ينفخ عام الرمادة (¬1) النار تحت القدور، حتى يخرج الدخان من تحت لحيته"، ذكر هذا مالك لهارون الرشيد، وقال له: إن الناس يرضون منكم ما دون هذا. ونقرأ في سيرة مظفر الدين صاحب أربل: أنه بني أربعة ملاجع للزمنى والعميان، وقرر لهم ما يحتاجون إليه في كل يوم، وكان يأتيهم بنفسه في عصر كل اثنين وخميس، ويدخل إلى كل واحد في نزله، ويسأله عن حاجته. فإحسان مظفر الدين إلى هؤلاء رحمة، ودخوله على كل واحد في نزله، وسؤاله عن حاله، تواضع. وصفوة المقال: أن العزة ترجع إلى أن يقدر الإنسان قيمة نفسه، فلا يوردها إلا الموارد التي تليق بها. والكبر يرجع إلى أن يرى نفسه في منزلة فوق منزلتها، فيتراءى في مظاهر يعدها العارفون بكنه حاله اغترارًا وإسرافًا في التقدير. والضعة ترجع إلى أن يغمط نفسه حقها، ويضعها في مواضع أدنى مما تستحق أن يضعها. والمتواضع من يعرف قدره، ولا يأبى أن يرسل نفسه في وجوه الخير وما يقتضيه حسن المعاشرة. وإذا كان من يحتفظ بالعزة، ولا يصرف وجهه عن التواضع، هو الرجل الذي يرجى لنفع الأمة، ويستطيع أن يخوض في كل مجتمع، ضافي الكرامة، أنيس الملتقى، شديد الثقة بنفسه، كان حقا على من يتولى تربية الناشئ أن ¬

_ (¬1) الرمادة: الهلكة، سمي به عام جدب وقحط وقع في زمن ابن الخطاب؛ لهلاك الناس فيه والأموال.

يتفقده في كل طور، حتى إذا رأى فيه خمولاً وقلة احتراس من مواقع المهانة، أيقظ فيه الشعور بالعزة، والطموح إلى المقامات العلا. وإذا رأى فيه كبراً عاتياً، وتيهاً مسرفاً، خفف من غلوائه، وساسه بالحكمة، حتى يتعلم أن المجد الموثل لا يقوم إلا على دعائم العزة والتواضع.

المداراة والمداهنة

المداراة والمداهنة (¬1) خُلِقَ الناس للاجتماع لا للعزلة، وللتعارف لا للتناكر، وللتعاون لا لينفرد كل واحد بمرافق حياته. وللإنسان عوارض نفسية؛ كالحب والبغض، والرضا والغضب، والاستحسان والاستهجان، فلو سار على أن يكاشف الناس بكل ما يَعْرض له من هذه الشؤون في كل وقت، وعلى أي حال، لاختلَّ الاجتماع، ولم يخلص التعارف، وانقبضت الأيدي عن التعاون، فكان من حكمة الله في خلقه أن هيأ الإنسان لأدب يتحامى به ما يُحدث تقاطعاً، أو يدعو إلى تخاذل، ذلك الأدب هو: المداراة. فالمداراة ترجع إلى حسن اللقاء، ولين الكلام، وتجنب ما يشعر ببغض أو غضب أو استنكار، إلا في أحوال يكون الإشعار به خيراً من كتمانه. فمن المداراة: أن يجمعك بالرجل يضمر لك العداوة مجلس، فتقابله بوجه طلق، وتقضيه حق التحية، وترفق به في الخطاب. قال سحنون في وصيته لابنه محمد: "وسلِّمْ على عدوك وداره؛ فإن رأس الإيمان بالله مداراة الناس". ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإِسلام" - العدد الثالث من المجلد الثاني، الصادر في شهر ربيع الأول 1350 هـ - القاهرة.

وقال أحد الحكماء من بني أسد: وأَمْنَحُه مالي ووُدِّي ونُصرَتي ... وإن كان مَحنِيَّ الضُّلوعِ على بُغْضي ونقرأ في سيرة الأستاذ محمد بن يوسف السنوسي صاحب المؤلفات المعروفة في علم الكلام وغيره: أنه "كان يفاتح من تكلم في عرضه بكلام طيب وإعظام، حتى يُعتقد أنه صديقه". ونقرا في سيرة القاضي يحيى بن أكثم: أنه "كان يداعب خصمه وعدوّه". وقد تبلغ المداراة إلى إطفاء العداوة وقلبها صداقة. قال محمد بن أبي الفضل الهاشمي: قلت لأبي: لِمَ تجلس إلى فلان، وقد عرفت عداوته؟ قال: أُخْبي ناراً، وأقْدحُ وداً. وقد يقصد المداري إلى علاج جرح العداوة، ومنعه من أن يتسع. قال عقال بن شبة: كنت رديف أبي، فلقيه جرير على بغل، فحياه أبي وألطفه، فلما مضى، قلت: أَبَعْدَ ما قال لنا ما قال؟! قال: يا بني! أفأوسع جرحي؟!. ومن المداراة: أن يلاقيك ذو لسان أو قلم عُرف بنهش الأعراض، ولمز الأبرياء، فتطلق له جبينك، وتحييه في حفاوة؛ لعلك تحمي جانبك من قذفه، أو تجعل لدغاته خفيفة الوقع على عرضك. نقرأ في الصحيح عن عروة بن الزبير: أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته: أنه استأذن على النَّبي - صلى الله عليه وسلم - رجل، فقال: "ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة" أو "بئس أخو العشيرة"، فلما دخل، ألان له الكلام، وفي رواية: فلما جلس، تطلق النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه، وانبسط إليه، فقلت: يا رسول الله! قلْتَ ما قلت، ثم ألَنْتَ له القول؟! فقال: "أي عائشة! إن شر الناس منزلة عند الله من تركه - أو: ودعه -

الناس اتقاء فُحْشه" (¬1). فلقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا الرجل المعروف بالبذاء، من قبيل المداراة؛ لأنه لم يزد على أن لاقاه بوجه طلق، أو رفق به في الخطاب، وقد سبق إلى ذهن عائشة - رضي الله عنها -: أن الذي بلغ أن يقال فيه: "بئس ابن العشيرة" لا يستحق هذا اللقاء، ويجب أن يكون نصيبه قسوة الخطاب، وعبوسة الجبين، ولكن نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبعد مدى، وأناته أطول أمدًا، فهو يريد تعليم الناس كيف يملكون ما في أنفسهم، فلا يظهر أثره إلا في مكان أو زمان يليق فيه إظهاره، ويريد تعليمهم أدبا من آداب الاجتماع هو رفق الإنسان بمن يقصد زيارته في منزله، ولو كان شره في الناس فاشياً. على أن إطلاق جبينك لمثل هذا الزائر لا يمنعك من أن تشعره بطريق سائغ أنك غير راض عما يشيعه في الناس من أذى، ولا يعوقك عن أن تعالجه بالموعظة الحسنة، إلا أن يكون شيطاناً مارداً. ومن المداراة: أن تلقى ذا يد تبطش، فتمنحه جبيناً طلقاً، وتتجنب في حديثك ما لا يكون له أثر في نفسه، إلا أنه يثير فيها القصد إلى أذيتك، وهذا مجمل قول أبي الدرداء - رضي الله عنه -: "إنا لنكشر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لَتَلْعنهم"، وفي رواية: "لتقليهم" (¬2)، والكشر: التبسم. وفي هذا الأثر شاهد على أن التبسم في وجه الظالم اتقاء بأسه ضرب من المداراة، ولا يتعداها إلى أن يكون مداهنة. ومن المداراة: أن يكون الرجل على حال تقتضي صرفه عن بغية، أو ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري". (¬2) تبغضهم.

عمل، وتعرف أن في الاعتذار له بهذا الحال ما يثير في نفسه ألماً، فتعرض عن ذكر ما يؤلم، وتذكر له وجهًا غيره مما هو واقع، حتى لا تجمع له بين الحرمان من بغيته، وإيلامه بما لا يجب أن يعتذر له به. أصاب الكسائي وَضَح (برص)، وهو مؤدبُ أبناء هارون الرشيد، فكره الرشيد ملازمته لأولاده، فقال له: كبرتَ في السن، ولسنا نقطع راتبك، وأمره أن يختار لهم من ينوب عنه ممن يرضاه، فاختار لهم علي بن الحسن المعروف بالأحمر. ولا ريب أن اعتذار هارون الرشيد للكسائي بكبر السنن أخف على نفسه من أن يقول له: أُصِبْت بوضَحٍ، ولسنا نقطع راتبك. فالنفوس المطبوعة على المداراة، نفوس أدركت أن الناس خلقوا ليكونوا في الائتلاف كجسد واحد، وشأن الأعضاء السليمة أن تكون ملتئمة متماسكة على قدر ما فيها من حياة، ولا تنكر عضوًا ركب معها في جسد، إلا أن يصاب بعلة يعجز الأطباء أن يَصِفوا له بعدُ دواء. فالمداراة يُبتغى بها رضا الناس، وتكليفهم في حدود ما ينبغي أن يكون، فلا يُبعدك عنها قضاء بالقسط، أو إلقاء النصيحة في رفق، فلم يخرج عن المداراة أبو حازم حين دخل على سليمان بن عبد الملك، وقال له: "إنما أنت سوق، فما نفق عندك، حمل إليك؛ من خير أو شر، فاختر أيهما شئت". ترجع المداراة إلى ذكاء الشخص نفسه؛ فهو الذي يراعي في مقدارها وطريقتها ما ينبغي أن يكون، ولأسباب العداوة مدخل في تفاوت مقادير المداراة، واختلاف طرقها، فإذا ساغ لك أن تبالغ في مداراة من ينحرف عنك لخطأ في ظنٍّ يظنُّه بك، أو لعدم ارتياحه لنعمة يسوقها الله إليك، فلمداراة من يحارب الحق والفضيلة إن صادفك واقتضى الحال مداراته، حد قريب، ومسحة من

التلطف خفيفة، وينبغي أن تكون مداراتك لمن ترجو منه العود إلى الرشد، وتأنس في فطرته شيئاً من الطيب، فوق مداراتك لمن شابَ على عِوَج العقل، ولؤم الخلُق، حتى انقطع أَمَلُك من أن يصير ذا عقل سليم، أو خلق كريم، ولك مع من فيه بقية من العقل ضرْب من المداراة لا تسلكه مع من يعد مداراتك له أثر الخوف من سلاطة لسانه، فيزداد فُحشًا؛ ليزداد الناس رهبة، فيزيدوه خضوعاً. المداراة خصلة كريمة، يحكمها الأذكياء، ولا يتعدى حدودها الفضلاء. أما المداهنة، فهي إظهار الرضا بما يصدر من الظالم أو الفاسق من قول باطل، أو عمل مكروه، وأصلها الدِّهان، وهو: الذي يظهر على الشيء، ويستر باطنه. تضم المداهنة تحت جناحيها: الكذب، وإخلاف الوعد. أما الكذب، فلأن المداهن يقصد إلى إرضاء صاحبه في الحال، فلا يبالي أن يعده بشيء، وهو عازم على أن لا يصدق في وعده، وليس من الصعب على المداهن - وقد مرَد (¬1) على الكذب - أن يخلف الوعد، ويختلق لإخلافه عذراً، وهذا الاختلاق لا يرتكبه الراسخ في كرم الأخلاق، وإن كلفه الوفاء بالوعد أمراً جللاً. فالمداهن لا يتريث في أن يَعِدَ؛ لأنه لا يتألم من أن يخلف، ولا يصعب عليه أن يصور من غير الواقع عذراً، والراسخ في الفضل لا يعد إلا عند العزم على أن يصدق فيما وعد، فإن وقف أمامه عائق، كشف لك عن وجهه الحق، ¬

_ (¬1) مرد: أقدم. "القاموس".

فإذا لم يساعده الحال على إنجاز الوعد، لم يفُتْه الصدق فيما يلقيه إليك من عذر. ومن المداهنة: أن تثني على الرجل في وجهه، فإذا انصرفْتَ عنه، أطلقتَ لسانك في ذمّه. قيل لابن عمر - رضي الله عنه -: "إنا ندخل على أمرائنا، فنقول القول، فإذا خرجنا، قلنا غيره"، فقال: "كنا نَعُدُّ ذلك نفاقاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وقد قرر أهل العلم أن الرجل إن كان مستغنياً عن الدخول على من يضطره الحال إلى الثناء عليه، فدخل، وأثنى بغير ما يعلم، كان نفاقاً؛ أما إن اضطر إلى الدخول على ذي قوة لا يخلص من بأسه إلا أن يُسمعه شيئاً من الإطراء، فهو في سعة من أن يُطريه بمقدار ما يخلص من بأسه، ولا تُلْحِقه هذه الحالة الشاذة بزمرة المداهنين. انهزم جيش السلطان فرج بن برقوق أمام جيش الطاغية تيمورلنك، ووقع طائفة من العلماء في أسر الطاغية، ومن هذه الطائفة: الفيلسوف ابن خلدون، فكان من هذا الفيلسوف أن تقدم إلى تيمورلنك، وقال له فيما حادثه به: "إني ألفت كتاباً في تاريخ العالم، وحلَّيته بذكرك، وما أسفي إلا على هذا الكتاب الذي أنفقت فيه عمري، وقد تركته بمصر، وإن عمري الماضي ذهب ضياعًا حيث لم يكن في خدمتك، وتحت ظل دولتك، والآن أذهب، فآتي بهذا الكتاب، وأرجع سريعًا حتى أموت في خدمتك"، فأطلق سبيله، فقدم مصر، ولم يعد إليه. ومن أسوأ ما يفعل المداهن: أن يلاقي رجلين بينهما عداوة، فيظهر لكل واحد الرضا عن معاداته لصاحبه، ويوافقه على دعوى أنه المحق، وصاحبه

هو المبطل، وفي مثل هذا ورد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه" (¬1). وقال حكيم من بني أسد: ولستُ بذي وَجْهينِ فيمَنْ عرفْتُه ... ولا البخُلُ فاعلم من سمائي ولا أرضي يتخذ الرجل وجهين متى كان يطمح إلى ما في أيدي الناس من متاع، أو كان يطمع في إرضاء طوائف على تباعد ما بينهم من نزعات، وعلى شدة ما بينهم من اختلاف، والعبور إلى النفع على جسر من المداهنة يحرم صاحبه من أعز متاع هو الصدق، بعد أن يحرمه من أطيب لذة هي ارتياح الضمير. ومن كان حريصاً على أن يكون صديق الطوائف المتباينة، فإن الطيّب منهم يأبى أن يلوث صدره بصداقة من يتملق الخبيث. المداهنون يجعلون ألسنتهم طوع بغية الوجيه، ويعجّلون إلى قول ما يشتهي أن يقولوا، فيمدحون ما يراه حسناً، ويذمون ما يعده سيئاً، أما الذين يعرفون ما في المداهنة من شر، ويحزنهم أن يظهر الشر على يد من في استطاعته الخير، فيربؤون بألسنتهم أن تساير في غير حق، ويؤثرون نُصْحَ الوجيه على أن يزينوا له ما ليس بزين. ابتنى الخليفة عبد الرحمن الناصر "القبيبة" بقصر الزهراء، واتخذ لسطحها قراميد من ذهب وفضّة، وجلس فيها إثر إتمامها، وقال لمن حضر مفتخرًا: "هل رأيتم أو سمعتم من فعلَ هذا من قبلي؟ "، فقالوا: إنك لأوحد في شأنك ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري".

كله، ولكن القاضي منذر بن سعيد وعظه وعظاً بليغاً، وتلا عليه قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]، فأطرق الناصر مليًا، ثم أقبل على منذر، وقال له: جازاك الله يا قاضي عنا وعن نفسك خيراً، وعن الدين والمسلمين أجل جزائه، فالذي قلت هو الحق، وقام من مجلسه، ونقض سقف "القبيبة"، وأعاد قرمدها تراباً. والوجيه الحازم يكره المداهنة، ويملأ عينه باحترام من يوقظه لوجه الخير إذا كان في غفلة منه، ولوجه الشر إذا اشتبه عليه. قال الطاهر بن الحسين في الكتاب الذي بعث به لابنه عبد الله بن طاهر: "وليكن كرم دخلائك وخاصتك عليك: من إذا رأى عيباً، لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في ستر، وإعلامك بما فيه من النقص؛ فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك لك". وقع الوزير هاشم بن عبد العزيز في يد العدو أسيراً، وذكره الأمير محمد ابن عبد الرحمن الأموي في جماعة من رجال دولته مستقصراً له، ناسباً له إلى الطيش والعجلة والاستبداد برأيه، فلم ينطق أحد ممن كان في المجلس بالاعتذار عنهما عدا الوزير الوليد بن عبد الرحمن بن غانم، فإنه اعتذر عن الوزير هاشم، ورد على السلطان في مسلك سائغ، ومما قال في الاعتذار عن هاشم: "قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حق الإقدام، ولم يك ملاك النصر بيده، فخذَله من وثق به، ونَكَلَ عنه من كان معه"، ثم قال: "فإنه لا طريق للملام عليه، وليس عليه ما جنته الحرب الغشوم، وأيضًا فإنه ما قصد أن يجود بنفسه إلا رضا للأمير، واجتناباً لسخطه، فإذا كان ما اعتمد فيه الرضا

جالباً التقصير، فذلك معدود في سوء الحظ". فأعجب الأمير بكلامه، وأقصر بعد عن تفنيد هاشم، وسعى في تخليصه من الأسر. ومن عظماء الرجال من يبغض المداهنة، ولا يقبل من جليس مبالغة في مدح أو مسايرة. ومن المُثل الكاملة لهؤلاء العظماء: عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -؛ فإنا نقرأ في سيرته: أنه قال لجرير حين دخل عليه بقصيدة يهنئه فيها بالخلافة: "اتَّقِ الله يا جرير، ولا تقل إلا حقاً". وقال له رجل مرة: "طاعتكم مفروضة"، فقال له: "كذبت! لا طاعة لنا عليكم إلا في طاعة الله". والأجلّاء من علماء الدين الذين كانوا يداخلون رجال السياسة، فينعقد بينهما التئام أو صداقة، كانوا يأخذون بسنّة المداراة، ولم يكونوا - فيما نقرأ من سيرتهم - يتلطخون برِجْسِ المداهنة. فهذا أبو الوليد الباجي كان يصاحب رجال السياسة، ويختارونه للسفارة بينهم، وهو الذي قال لمن ذكره بمداخلة السلطان: لولا السلطان، لنقلني الذرُّ (¬1) من الظلِّ إلى الشمس. وتاريخه يشهد بأن قوة إيمانه كانت تحرسه من أن يقع في حمأ المداهنة. كان مرة في انتظار أحمد بن هود صاحب "سرقسطة" بالأندلس، فجالسه ابنه الملقب بالمؤتمن، وأخذ المؤتمن يجاذب الباجي الحديث في كتب الفلسفة حتى قال له: "هل قرأت أدب النفس لأفلاطون؟ "، فقال له ¬

_ (¬1) الذرّ: صغار النمل.

الباجي: "قرأت أدب النفس لمحمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -"؛ يعني: شريعته من قرآن وسنّة. والباجي هو الذي رجع من الشرق إلى الأندلس، فوجد أمراءها في تقاطع، والعدو يتحفز لوضع يده على رقابهم، فقام يتردد على مجالسهم، ويطرق بالنصيحة آذانهم، ويسعى لجمع كلمتهم، فكانوا يجلونه في الظاهر، ويستبردون نزعته في الباطن، وأقل ما يجتنيه الداعي إلى الإصلاح براءة ذمته، وأنه عند الوقوف بين يدي ربّه. فالنفوس التي تنحط في المداهنة انحطاطَ الماء من صَبَب، نفوس لم تشبّ في مهد الأدب السنيّ، ولم تهدها المدرسة إلى الصراط السويّ، وما شاعت المداهنة في جماعة، إلا تقلصت الكرامة من ديارهم، وكانت الاستكانة شعارهم، ومن ضاعت كرامتهم، وداخلت الاستكانة نفوسهم، جالت أيدي البغاة في حقوقهم، وكان الموت أقرب إليهم من حبال أوردتهم. فمن واجب أساتذة التربية ودعاة الإصلاح: أن يُعنوا بجهاد هذا الخلق المشؤوم حتى ينفوه من أرضنا، وتكون أوطاننا ومدارسنا منابت نشء يميزون المداهنة من المداراة، فيخاطبون الناس في رقة أدب وشجاعة، ويحترمون من لا يلوث أسماعهم بالملق، ولا يكتمهم الحقائق متى اتسع المقام لأن يحدثهم في صراحة.

الرفق بالحيوان

الرفق بالحيوان (¬1) أقام الإِسلام هدايته على أساس الرحمة المحفوفة بالحكمة، والرحمةُ تبعث النفوس مبعث الرفق والإحسان، والحكمةُ تقف بالرحمة عند حدود لو تجاوزتها، انقلبت إلى ضعف ورعونة، وعلى هذا الطريق الوسط جاءت الأحكام والآداب الخاصة بالتصرف في الحيوان. أذِنَ الإِسلام في أكل الطيّب من الحيوان، ونبَّه بهذا الإذن على خطأ أولئك الذين يقبضون أيديهم عن تذكيته، أو أكله بدعوى الرأفة أو الزهد، وأباح استعماله في نحو الركوب والحراثة وحمل الأثقال. وقد امتنَّ القرآن الكريم بهذه الضروب من الاستمتاع المألوف بين العقلاء، فقال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 5 - 6]، وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] امتن الله تعالى في كتابه العزيز بما يتخذ من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها وجلودها من الملابس والفرش، والبيوت، وبما يتغذى به من ألبانها ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإِسلام" - العدد الثاني من المجلد الثالث، الصادر في شهر صفر 1351 هـ - القاهرة.

ولحومها، وبما هُيئت له من حمل الأثقال، وهذه المنافع من أهم ما تنتظم به حياة الإنسان. وقال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، فذكر في هذه الآية أهم ما خلقت له الخيل والبغال والحمير من المنافع، وهو الركوب، وفي الركوب راحة البدن، وسرعة الانتقال من مكان إلى مكان، والراحة من متممات الصحة، وسرعة الانتقال حفظ للوقت من أن يذهب في غير جدوى. امتنَّ الله تعالى بالأنعام والخيل وما عطف عليها، ونبه على ما فيها من جَمال وزينة، وفي هذا ما يرشد إلى أن يكون الاستمتاع بها في رفق ورعاية؛ فإن إرهاقها، أو قلة القيام على ما تستمد منه حياتها، يجعل نفعها ضئيلًا، ويذهب بما فيها من جَمال وزينة. كان للعرب قبل الإِسلام عادات تحرمهم من الانتفاع ببعض أفراد الحيوان، وفيها قوة على أن ينتفعوا بها، ومن هذا القبيل: الناقة المسماة بالسائبة، وهي الناقة التي يقول فيها الرجل: إذا قدمت من سفري، أو برئت من مرضي، فهي سائبة، ويحرم ركوبها ودرّها؛ والوصيلة: وهي أن تلد الشاة ذكراً وأنثى، فيقولون: وصلت أخاها، فلا يذبح من أجلها الذكر؛ والجمل المسمى بالحام: وهو الفحل الذي ينتج من صلبه عشرة أبطن، فكانوا يقولون: قد حمى ظهره، ويمتنعون من ركوبه والحمل عليه، والبَحيرة: وهي الناقة التي تنتج خمسة أبطن آخرها ذكر؛ فإنهم كانوا يبحرون أذنها؛ أي: يشقونها، ثم يحرمون ركوبها ودرّها. ثم جاء الإِسلام، فلم ير من الحكمة تعطيل الحيوان وهو صالح لأن

يُنتفع منه، فنهى عن هذا التعطيل الناشئ عن سفاهة الرأي، فقال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]. وكان للعرب عادات يسومون فيها الحيوان سوء العذاب، ومن هذه العادات: ما يفعلونه لموت كريم القوم، إذ يعقلون ناقته أو بعيره عند القبر، ويتركونها في حفرة لا تطعم ولا تسقى حتى تموت. ومن هذا الباب: شقّهم لآذان الأنعام كما قصصنا عليك عادتهم في البحيرة، وهو ما أشار القرآن إلى قبحه؛ إذ جعله مما يأمر به الشيطان، فقال تعالى: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 118 - 119]. ما زال الحيوان كسائر الأمتعة تحت يد مالكه يفعل فيه كيف يشاء، وإذا ناله رفق، فمن ناحية عاطفة الإنسان على ما يملك؛ لتطول مدة انتفاعه به، ولكن الإِسلام أرشد إلى أن الحيوان في نفسه حقيق باللطف، فغرس له في القلوب عطفًا عاماً، واستدعى له الرحمة حتى من قوم لا ينتفعون، أو لا يرجون أن ينتفعوا به في حال. وجعل الرفق به من قبيل الحسنات التي تذهب السيئات، وتنال بها المثوبة عند الله. أذِنَ الإِسلام في قتل الحيوان المؤذي؛ كالكلب العقور، والفأرة، وأمر بالإحسان في القتل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم، فأحسنوا القتلة". وأذن في ذبح الحيوان للاستمتاع بالطيب من لحومه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".

قد يخطر على البال: أنه متى أذِنَ في قتل الحيوان أو ذبحه، فللإنسان أن يتخذ لإزهاق روحه ما يشاء من الطرق أو الوسائل، فقصد الشارع الحكيم إلى دفع هذا الخاطر، وإرشاد الناس إلى اتخاذ أحسن الطرق في القتل أو الذبح، فلا يجوز إحراق ما أُذِنَ في قتله، أو التمثيلُ به، ويجب إرهاف آلة الذبح حتى لا يلاقي الحيوان قبل إزهاق روحه آلاماً. وقد ذكر أهل العلم آداباً اقتبسوها مما جاءت به الشريعة من أصول الرفق بالحيوان، فقال عمر - رضي الله عنه -: "من الإحسان للذبيحة: أن لا تجر الذبيحة إلى من يذبحها". وقال ربيعة: "من الإحسان: أن لا تذبح ذبيحة وأخرى تنظر إليها". وقالوا: يستحب للذابح أن لا يحد شفرته بحضرة الذبيحة، وأن لا يصرعها بعنف. أباحت الشريعة صيد الحيوان بنحو الجوارح والنبال والشباك؛ لينتفع منه الإنسان بما يحل الانتفاع به، ومنعت من أن يُنصَب الحيوان غرضاً ليرمى بنحو النبال. ومما نقرؤه في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قوله: "لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غَرَضاً" (¬1). وفي "صحيح الإمام مسلم": "مرّ ابن عمر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر، تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً". ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام مسلم".

ووردت أحاديث عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل سقي الحيوان وإطعامه، وعدِّهما من عمل الخير الذي تنال به الزلفى عند الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة" (¬1). وفي الصحيح: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكره الله، فغفر له"، قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ " فقال: "في كل ذات كبد رطبة أجر" (¬2). وانظر إلى قولهم: "وإن لنا في البهائم أجراً"، تَرَهم كيف كانوا يستهينون بأمر الحيوان، ولا يعتقدون أن الإحسان إليه يبلغ مبلغ الإحسان إلى الإنسان، فيستحقون عليه أجراً، وكيف يكون حال حيوان وقع تحت يد من لا يعتقد أنه سينال بالإحسان إليه ثوابًا، ويلقى من أجل القسوة عليه عذاباً؟!. وفي الصحيح: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عذبت امرأة في هرّة لم تطعمها، ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض" (¬3). والوعيد بعقوبة النار على الأمر يدل على أنه من المحظور حظرًا لا هوادة فيه، ومن ذا يخطر على باله قبل هذا أن يكون لحيوان كالهرة حرمة تبلغ في الخطر أن يعاقب من ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري". (¬2) "صحيح البخاري". (¬3) البخاري ومسلم.

ينتهكها بعذاب النار؟!. وقرر الفقهاء وجوب القيام على سقي الدابة وإطعامها؛ بأن يعلفها، أو يرعاها بنفسه، أو يَكِلَ لغيره رعْيها، ولو بأجر، ولم يختلفوا في وجوب ذلك عليه، وصرح طائفة منهم بأنه يجبر عليه قضاءً، فإن لم يفعل، بيعت الدابة، ولا تترك تحت يده تقاسي عذاب الجوع. ومما نقرؤه في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه، فقال: "اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة (¬1)، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة" (¬2). وتحرم الشريعة الإساءة إلى الحيوان بتحميله من الأثقال ما لا يطيق، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يعرفون أن من حمّل دابة ما لا تطيق، حوسب عليه يوم القيامة. يروى عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: أنه قال لبعير له عند الموت: يا أيها البعير! لا تخاصمني إلى ربك؛ فإني لم أكن أحمّلك فوق طاقتك. وقال الغزالي في الحديث عن الرفق بالدابة، وعدم تحميلها ما لا تطيق: "والمحمل (¬3) خارج عن حد طاقتها، والنوم عليها يؤذيها، ويثقل عليها"، وقال: "كان أهل الورع لا ينامون على الدواب إلا غفوة عن قعود". وإنما يجوز الحمل على ما يطيق الحمل؛ كالإبل والبغال والحمير، ¬

_ (¬1) التي لا تقدر على النطق. (¬2) "سنن أبي داود". (¬3) المحمل: شقان على البعير يحمل فيهما العديلان. ويقال: أول من اتخذه الحجاج ابن يوسف الثقفي.

ولا يجوزالحمل على ما لم يخلق للحمل؛ كالبقر. قال ابن العربي: لا خلاف في البقر أنه لا يجوز أن يحمل عليها. وذهب كثير من أهل العلم إلى المنع من ركوبها؛ نظراً إلى أنها لا تقوى على الركوب، وإنما ينتفع بها فيما تطيقه من نحو إثارة الأرض، وسقي الحرث. ومن الرفق بالدابة: أن لا يركبها ثلاثة أشخاص يكون عبؤهم عليها ثقيلاً. أخرج ابن أبي شيبة عن زاذان: أنه رأى ثلاثة على بغل، فقال: لينزل أحدُكم؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن الثالث. وأخرج الطبري عن علي - رضي الله عنه -: أنه قال: "إذا رأيتم ثلاثة على دابة، فارجموهم حتى ينزل أحدهم". ومحمل هذه الآثار على حال ما إذا كان ركوب الثلاثة يرهق الدابة، فإن كانت تطيق ذلك؛ كالناقة أو البغلة يركبها رجل وصبيّان - مثلاً -، فليس به من بأس، ولا سيما ركوبها في مسافة قصيرة، وهذا ما كان من النَّبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة راكباً على بغلته، فاستقبله أغيلمة من بني عبد المطلب، فحمل واحداً بين يديه، والآخر خلفه. ومن الرفق بالحيوان: تجنب أذيته في بدنه بنحو الضرب الأليم، والإشعار الوارد في بُدن الهدي ليس إلا جرحًا في سنام البعير بنحو المبضع؛ ليكون علامة أنها هَدْي، وأما طعن البدنة بنحو السنان حتى يتجاوز الجلد إلى اللحم، فإنما يرتكبه الجهال، ولا يختلف العلماء في تحريمه. وورد النهي عن خصاء البهائم كما جاء من حديث ابن عمر: "أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يخصى الإبل والبقر والغنم والخيل" (¬1). وبهذا احتج فريق من أهل العلم على أنه لا يحل خصاء شيء من الفحول، وأفتى فريق بجوازه متى دعت إليه مصلحة؛ كان يخاف عضاضه، وإذا وجد طريق لمثل هذه المصلحة من غير الخصاء، لم يبق موضع للخلاف؛ لأنه تعذيب، وقد نهى الشارع عن تعذيب الحيوان. ومن الرفق بالدابة: أن لا يتابع السير عليها متابعة ترهقها تعبًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سافرتم في الخصب، فأعطوا الإبل حظًا من الأرض" (¬2)، وفي رواية: "ولا تعدو المنازل". وورد في الصحيح: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة (¬3) إلا قطعت"، فذهب بعض أهل العلم في فهم الحديث مذهب الرحمة بالحيوان، وقال: إنما أمر بقطع القلائد من أعناق الإبل؛ مخافة اختناق الدابة بها عند شده الركض، ولأنها تضيق عليها نفسها ورعيها، وكراهة أن تتعلّق بشجرة، فتخنقها، أو تعوقها عن المضي في سيرها. ومن المحظور: وقوف الراكب على الدابة وقوفاً يؤلمها، وقد ورد في النهي عن هذا الصنيع حديث: "إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر؛ فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس" (¬4). وذكر الغزالي أن أهل الورع من السلف كانوا لا يقفون على الدواب ¬

_ (¬1) "شرح معاني الآثار" للطحاوي. (¬2) مسلم، وأبو داود. (¬3) أمر بقطع ما تقلد به من وتر القوس، ثم أمر بقطع كل قلادة من أي صنف كانت. (¬4) رواه أبو داود.

الوقوف الطويل. ومن الفنون التي يسلكها قساة القلوب في تعذيب الحيوان: تهييج بعض الحيوان على بعض؛ كما يفعل بين الكباش والديوك وغيرها، وهو من اللهو الذي حرمته الشريعة؛ لما فيه من إيلام الحيوان، وإتعابه في غير فائدة، وفي "سنن أبي داود"، والترمذي: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التحريش بين البهائم "، والتحريش بينها: إغراء بعضها على بعض. وان شئت أن تزيد يقيناً بما جاء به الإِسلام من الرأفة بالحيوان، فانظر إلى ما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه إذ قال: كنّا مع النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمّرة (¬1) معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تعرش (¬2)، فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها"، ورأى قرية نمل قد أحرقناها، فقال: "من أحرق هذه؟ "، قلنا: نحن، قال: "إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار" (¬3). وقد نص علماؤنا على حرمة تمكين الصبي من التلهي بالطير على وجه فيه إيلام له، وأمّا ما ورد في الحديث من أن ابناً فطيماً لأم سليم كان يلعب بنُغَر (¬4)، فمحمول على أن ذلك التلهي لم يكن بحال تعذيب؛ كأن يكون الطير في قفص أو نحوه، أو يكون التلهي بمحضر أحد أبويه، وهما يعلمان ¬

_ (¬1) ضرب من الطير، وقيل: الحمرة: القبرة. (¬2) ترتفع وتطل بجناحيها. (¬3) أبو داود. (¬4) اسم لنوع من الطير. وقد بلغ هذا الخبر النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقل إنكاره له.

ما جاءت به الشريعة من النهي عن تعذيب الحيوان. ونهى الشارع عن إيذاء الحيوان في وجهه نهياً خاصاً. روى أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى حماراً موسوماً على وجهه، فقال: "لعن الله من فعل هذا" (¬1). وقال المقداد بن معد يكرب: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن لطم خدود الدواب". أما شتم الحيوان ولعنه، فأدنى ما يقال فيه: أنه لغو من القول، لا يصدر إلا ممن شأنه الرمي بألفاظ الشتم واللعن دون تدبر في معناها، ولا قصد إلى موضعها، بل وردت الأحاديث في الزجر عن لعن الحيوان بطريقة بالغة، فإنا نقرأ في "صحيح مسلم": أن امرأة كانت على ناقة، فضجرت منها، فلعنتها، فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فقال: "خذوا ما عليها، وأعروها؛ فإنها ملعونة". وإنما أمر بإعراء الناقة مما عليها، وإرسالها، عقوبةً لصاحبتها، وفي رواية "لا تصحبنا ناقة عليها لعنة". وفي هذا الأسلوب من النهي مبالغة في الزجر عن لعن الحيوان، وكذلك كان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يعمد إلى الشيء الذي يظنه الناس هينًا، فيزجر عنه بطريق أشد؛ حتى ينصرفوا عنه جملة. ومن فوائد النهي عن لعن الحيوان: تطهير الألسنة من التعود على قول السوء، ومتى ارتدعت النفوس عن لعن ما لا يفهم للّعن معنى، كان ارتداعها عن لعن من تثور ثائرة غضبه، أو غضبِ بعض أوليائه إذا لعن، أقرب وأولى. هذه شذرات مما أوصى به الإِسلام من الرفق بالحيوان، وإن شئت ¬

_ (¬1) "تهذيب الأسماء" للنووي.

أن تعلم كيف كان أثرها في نفوس من يقتدون بآدابه في كل حال، فإليك مثلاً من آداب عديّ بن حاتم أحد أفاضل الصحابة، هو: أنه كان يفتّ الخبز للنمل، ويقول: إنهن جارات، ولهن حق (¬1). ومن أدب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي: أنه كان يمشي في طريق يرافقه فيه بعض أصحابه، فعرض لهما كلب، فزجره رفيق الأستاذ، فنهاه الأستاذ، وقال له: أما علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك؟!. فقد رأيت كيف حاربت الشريعة السمحة طبيعة القسوة على الحيوان، وقررت للتصرف فيه أحكاماً مبنية على قاعدة الرفق بكل ذي كبد رطبة، ولعلك تنتبه مما تلوناه عليك أن الإِسلام قد وضع لجمعيات الرفق بالحيوان أساسًا يقيمون عليه دعوتهم، وما من نفس أو جمعية تدعو إلى ناحية من الخير إلا وجدت في هذه الشريعة ما يؤيد دعوتها، ويهديها سبيل الرشد إذا تشابهت السبل عليها. ومما تضطرم له القلوب أسفاً: أن تؤسس جمعيات الرفق بالحيوان في بلاد أوربة منذ نحو مئة سنة، ويرتفع صوت الدعوة إلى الرحمة بالحيوان أكثر مما يرتفع في بلاد الإِسلام، حتى ظن كثير من الأحداث والعامة الذين يقيسون الأديان بسير المنتمين إليها: أن الإِسلام لم يوجه عنايته إلى واجب الشفقة على الحيوان، وأن أوربا هي صاحبة الفضل في الدعوة إلى هذه الشفقة!. أنشئت في إنكلترة جمعية الرفق بالحيوان الملكية (سنة 1824 م)، ومما يثير الخجل أن يكون لتلك الجمعية فرع في بلد إسلامي كالقاهرة، ولا يقوم ¬

_ (¬1) رواه الطبراني والبزار.

بمثل عملها جماعة من المسلمين، وقد أيقظ الدين الحنيف في قلوب أسلافهم عاطفة الرحمة بالحيوان منذ (1350 سنة). وإذا احتاج الإنسان إلى حُماة، وهو يملك من البيان ما يعبر به عن حاجته، ويدافع به عن حقه، كان الحيوان الأعجم أشد احتياجًا إلى من يستجدي له الرحمة، ويدافع عنه البلاء بيده إن استطاع، أو بلسانه. هذا والأمل معقود على أن تؤلف في أوطاننا جمعيات لمراقبة تصرف الناس في الحيوان، حتى إذا رأت صاحب الحيوان يرهقه يحمل الأثقال، أو يناله بأذى، سعت بما تستطيع من طرق النهي عن المنكر إلى إزالة ما تشهده من الإرهاق أو الأذى، فيكون لها حمد الناس في الدنيا، وثواب الله في الآخرة.

محاكاة المسلمين للأجانب

محاكاة المسلمين للأجانب (¬1) قد يوجد في أفراد البشر من يولد في بيئة عفاف وحكمة، وتتولاه يد التربية الحازمة بالتنبيه لمواقع الهَنات، فتكون سيرته كالسبيكة الخالصة لا يجد فيها الناقد مغمزاً. وليس على وجه المعمورة اليوم أمة استوفت خصال الكمال، وبلغت في رقيها المدني أن يفتح الناقد الألمعي فيها عينه، فلا يرى إلا أعمالاً مرضية، أو عادات مقبولة، فإذا وجد في الأفراد من يُفَضَّل ببراءته من العيوب جملة، فإن الأمم تُفَضَّل بغلبة خيرها على شرها، ورجحان محامدها على مذامها، وإذا وجد في الأفراد من يأذن لك أساتذة التربية في أن تقتدي بسيرته على الإطلاق، فليس في الأمم أمة يقول الرجل الحكيم لشعبه الناهض: خض خوضها في كل واد، وشابهها مشابهةَ الغراب للغراب. هذه حقيقة قد تغيب عن أذهان فئة من الشعوب الآخذة في النهوض، فإذا رأوا أمة ذات معارف وسطوة، تهافتوا على محاكاتها في غير تدبر واحتراس، وربما سبقوا إلى ما يعدّ من سقط متاعها، ومستهجن عاداتها، فصبّوا هممهم في تقليدها فيه، فزادوا شعبهم وهناً على وهن، وكانوا كالعثرات تعترضه، فتعوقه عن السير، أو تجعل سيره في الأقل بطيئاً. ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإِسلام" - العدد السادس من المجلد الثالث، الصادر في شهر جمادى الثانية 1351 هـ - القاهرة.

ومتى أكثر في الشعب أمثال هؤلاء الذين لا يميزون في محاكاتهم السيئة من الحسنة، فقد الشعب هدايته الدينية، وتجردَ من مميزاته القومية، ولا يفلح شعب نكث يده من الدين الحق، ولا يعتز شعب نظر إلى قوميته بازدراء. وقد تعرض ابن خلدون في "مقدمته" لهذه المحاكاة من حيث إنها طبيعة اجتماعية، فقال: "إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه، ونحلته، وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك: أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها، وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب"، ثم قال: "ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه، في اتخاذها، وأشكالها، بل هو في سائر أحواله"، ثم قال: "وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زيُّ الحامية وجندِ السلطان في الأكثر؛ لأنهم الغالبون لهم، حتى إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغالب عليها، يسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير؛ كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم، والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، والأمر لله". وهذا الذي قرره ابن خلدون طبيعة من طبائع الأمم الضعيفة حيث توجد بجوار أمة قوية، ولكنها طبيعة عرفت علتها، فيمكن لزعماء الأمة الضعيفة أن يعالجوا العلة، فتسْلم الأمة من هذه الطبيعة، ويمكنها أن تتحفظ من الاقتداء بالغالب، إلا فيما كان من وسائل الرقي والسيادة.

يذكر ابن خلدون: أن العلة في هذا التقليد إمّا ما وقر في صدر الأمة من تعظيم الغالب، وإما ما تغالط به من أن غلب الغالب ليس بعصبية، ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحله من المذاهب والعوائد، وكلتا العلتين إنما تتفشى في الأمة الملقى حبلُها على عاتقها، تمشي على غير بصيرة، ولا تقصد إلى غاية نبيلة. فإذا قيض الله للأمة المغلوبة رجالاً يعالجون ما عساه أن يطغى في صدرها من تعظيم شأن الغالب، أو يوقظونها إلى ما تغالط به من أن غلب الغالب بما انتحله من المذاهب والعوائد، أنقذوها من عماية التقليد الذي تتجرد به من الآداب الدينية، والمميزات القومية. والناشئ الذي يدرس تاريخ الإِسلام، وما كان لرجاله من مجد شامخ، وسلطان كريم، لا يكبر في عينه سلطان الغالب إلى أن ينحدر في التشبه به في كل حال. يذكر الكتّاب والخطباء تقليد المسلمين للأجانب، ومنهم المسرفون في الدعوة إلى التقليد، ومنهم الراشد. وإليك كلمة تعرض عليك الرأي الذي يقف عند حدود الدين، ويرعى حق القومية، ويقدر المصالح، ويحرص على أن لا يفوت الأمة منها مثقال ذرة. * محاكاة المسلمين للأجانب تظهر في خمسة وجوه: أحدها: محاكاتهم فيما يشتمل على مصلحة دنيوية، ولا يخالف حكماً شرعياً، أو أدباً دينياً، وهذا مما تأذن الشريعة في الأخذ به، ويتأكد العمل به على قدر ما فيه من مصلحة، وليس من المعقول أن تنهى الشريعة عما فيه خير لمجرد أن قوماً من غير المسلمين سبقوا إليه. ويدخل في هذا: مجاراتهم في العلوم والصنائع، ووسائل الدفاع، والمرافق التي يخف بها جانب عظيم من عناء

هذه الحياة. ومن شواهد هذا: ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من حفر الخندق حول المدينة المنورة، وقد أشار به سلمان الفارسي، وهو من مكايد الفرس في حروبها. وفي أوربا اليوم نظم إدارية نزنها بقاعدة: رعاية المصالح، فنرى إجراءها في بلادنا من قبيل إصلاح الإدارة. كنت أرسلت من "برلين" برقية لصديق لي في "جنيف"، فجاءني خطاب من إدارة البرقيات يقول لي: لم نهتد إلى معرفة المبعوث إليه بالبرقية، وبعد ساعات وصلتني برقية من تلك الإدارة تقول فيه: اهتدينا إلى معرفة صاحبك بعد، وأبلغناه البرقية. فمن ذا ينكر فائدة مجاراة الأجانب في مثل هذه النظم المريحة للنفوس؟! وأذكر من أبيات للأستاذ محمد بن عبد الكريم المقيلي في الرد على من أنكر تعلم علم المنطق قوله: دليلاً على شيء بمذهبِ أهلِهِ ... خُذِ العلم حتى من كَفُورٍ ولا تُقِمْ ولا أسوق في هذا الوجه محكاتهم في بعض أخلاق انتظمت بها مدنيتهم، وارتفعت بها على كثير من البلاد درايتهم؛ كالصبر على المكاره، والإقدام على العظائم، وقوة رابطة الاتحاد والتعاون بين أفرادهم وجماعاتهم؛ فإن الإِسلام قد أرشد إلى جميع الأخلاق التي تزدهر بها المدنية، وتستحكم بها عرا السيادة، فإذا ظهر المسلمون بخلق عظيم، فإنما يقتبسونه من حكمة دينهم، وسيرة عظمائهم. ثانيها: محاكاتهم في شيء من شعائر دينهم، وهذه المحاكاة إن كانت عن رضا، دلت على نبذ الإِسلام، ولا سيما محاكاة تقع منه مرة بعد أخرى، فإن

قامت قرينة على أنه يقصد الاستهزاء بمن يقلدهم، فهي سفاهة وعصيان، فالذين يرسلون أبناءهم لمدارس أجنبية تحتم على كل تلميذ الاشتراك في القيام بشعائرها الدينية، إنما يلقون بأفلاذ أكبادهم في حفرة من النار. وقد وصل ببعضهم الشغف بالانحطاط في هوى الأجانب، والانغماس في التشبه بهم: أن اقترح - في غير خجل - قلبَ هيئة المساجد إلى هيئة كنائس، وتغيير الصلوات ذات القيام والركوع والسجود إلى حال الصلوات التي تؤدَّى في الكنائس، وهذا الاقتراح شاهد على أن في الناس من يحمل تحت ناصيته جبينًا هو في حاجة إلى أن توضع فيه قطرة من الحياء. ثالثها: محاكاتهم في شيء لم يكن من شعائر دينهم، ولكنه مما نهى عنه الإِسلام على وجه الحرمة؛ كتقليدهم في اختلاط الرجال بالنساء، ورقص الفتيان مع الفتيات، أو نهى عنه على وجه الكراهة؛ كتقليدهم في تناول الطعام باليد الشمال (¬1)، أو إطالة بعض الأظفار، والمحاكاةُ التي توقع في محرم، فسوقٌ عن أمر الله، والتي توقع في مكروه يخسر بها صاحبها قسطاً من ثواب الله. هذا إذا كانت المحاكاة عن مجرد هوى، فإن كانت عن اعتقادِ أن ما يفعله الأجنبي أحكم وأليق، زلزلت أصل الإيمان، والتحقت بمحاكاته فيما هو من شعائر ملته، وعلى هذا الوجه يجري حكم استبدال قوانينهم الوضعية بأحكام الشريعة الغرّاء؛ نحو: القوانين المبيحة لما حرم الله من الربا. ومن الأمراض التي سرت إلى المسلمين على طريق التقليد للأجانب: ¬

_ (¬1) ليس من الصعب على من يريد المحافظة على أدب إسلامي أن يعوّد يسراه قطع اللحم ونحوه بالسكين، ويعوّد يمناه تناوله بالشوكة، وقد عزم على هذا قوم يعز عليهم أن يستخفوا بأدب ديني، فوجدوه أمراً ميسوراً.

موبقة الانتحار، فقد يتخيل صغير العقل حيث يقع في بلاد أن الانتحار طريق يصح أن يسلك للتخلص من البلاء، متكئًا في هذا الخيال على أن كثيراً من رجال الدول أم الأمم الغالبة يرتكبونه وسيلة إلى الخلاص من مكاره تصيبهم، أو مكاره يخشون إصابتها. ومن هذا الباب: محاكاتهم في إغلاق محالّ التجارة في يوم الأحد أو السبت، فقد ثبت أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قصد إلى صوم يوم السبت والأحد؛ ليخالف أهل الكتاب في جعلهما يومي عيد؛ لأن صوم اليوم يبعده من أن يكون عيداً. نقرأ في "سنن أبي داود": أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم السبت والأحد، يتحرى ذلك، ويقول: "إنهما يوما عيد الكفار، وأنا أحب أن أخالفهم". وأخرج الإمام أحمد، والنسائيُّ: "أنه ما مات - صلى الله عليه وسلم - حتى كان أكثر صيامه السبت والأحد". فإغلاق المسلم لمحل تجارته يوم الأحد أو السبت يناقض قصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى صوم هذين اليومين؛ لأن إغلاق محلّ التجارة أو الصناعة في يوم معين لا يلتزمه إلا مَن شأنُه أن يعتقد أن ذلك اليوم حقيق بأن يتخذ عيداً. ومن محكاتهم فيما يحرمه الشرع، وينبذه العقل: إنشاء مكتب يستأذنه فاسدات الأخلاق في التجارة بأعراضهن، فلا يجد في صدره حرجًا أن يأذن لهن، وقد تيقظ كثير من رجال دولتنا الرشيدة إلى ما في هذه المحاكاة من شر مستطير، فأخذوا يجاهدون في تطهير البلاد من الخبائث، وسيلقون على هذا الجهاد شكراً صادقاً، وذكراً طيباً، وما عند الله خير وأبقى.

رابعها: محاكاتهم فيما لم يتعرض له الدين بنهي خاص، ولكن رعاية جلب المصالح، أو درء المفاسد تقضي بترك هذه المحاكاة، والمصالح كالمفاسد تتفاوت في شدتها، فيفصل الحكم على حسب هذه التفاوت. ومن أمثلة هذا النوع: اتخاذ بعض الأزياء الظاهرة في الاختصاص بهم؛ كالقبعة؛ فإنَّ وضعَ المسلم لها على رأسه بين قوم مسلمين يدل على ميله، وترجيحه لجانب من اختصوا بلبسها، ويوقع في اعتقاد الناظرين إليه أنه من طائفة المخالفين، والمسلم المطمئن لدينه يتحامى ما يدل على أنه يميل إلى غير أمته أكثر مما يميل إلى أمته، ويتألم من أن يصفه أحد بأنه من قوم غير مسلمين. وقد حاول بعض المفتونين بتقليد الغالب فيما لا أثر له في قوة سلطانه أن يحملوا أبناء المسلمين في مصر على لبسها، فخاب سعيهم، ولم يكن جند صلاح الدين الأيوبي الذي انتصر على جيوش الأوربيين في حطين حيث كانت الواقعة الفاصلة، يرضى بأن يتخذ في شعاره القبعات، ولم ينفع أعداءه المنهزمين أن كان على رأس كل واحد منهم قبعة!. ويدخل في هذا القبيل: اتخاذ نحو الملابس وأثاث البيوت من مصنوعاتهم، وفي المصنوعات القومية ما يغني غناءها، وفي الإقبال على المصنوعات القومية فتح باب عظيم من أبواب الثروة العامة؛ وارتقاءُ الشعوب على قدر يسارها. ومما يثير الأسف البالغ: أن يقتصر المسلم في رسائله، أو عند ذكر الحوادث على ما يؤرخ به المسيحيون، وهو التاريخ القائم على ميلاد المسيح - عليه السلام - وقد فشت هذه المحاكاة حتى أصابت أقلاماً شأنها أن تنهى عن مثل هذا التشبيه. وفي الاعتماد على التاريخ الهجري محافظة على ذكرى مبدأ

علو الإِسلام وظهوره على الدين كله. وكان صاحبنا العلامة أحمد تيمور باشا -رحمه الله تعالى- يقتصر في مراسلاته على التاريخ الهجري معتمداً هذا الاقتصار، حتى في مخاطبة الجمعيات أو الشركات الأجنبية. خامسها: محاكاتهم في أمور لم يَرِدْ فيها عن الشارع نهي خاص، ولم تكن في نفس موافقتهم فيها مصلحة أو مفسدة، ولا تلقي على صاحبها شبهة الانتماء إلى ملتهم. ولا حرج في هذه المحاكاة إلا من جهة الاحتفاظ بالتقاليد القومية، فصغار النفوس أو العقول يسارعون إلى التخلي عن المعروف بين قومهم، ويستبدلون به المعروف بين الأمم الأجنبية، ولا داعي لهم إلى هذه المحاكاة إلا الافتتان بكل شأن من شؤون أولي الشوكة والسلطان. أما أولو الأحلام الراجحة، فلا ينتقلون عن المعهود في بيئتهم إلا إلى ما هو أفضل، ولا يفضل عرف على عرف لمجرد أنه يجري بين قوم لهم القوة والغلبة. ومن أمثلة هذا: محاكاتهم في لون خاص يلتزمونه في حفلات خاصة، فليس للّون الخاص في الحفلات مصلحة أو مدخل في نهوض القوم، وإنما هي عادة جرت بينهم، وألفتها أذواقهم، فماذا لم يعتد قوم مسلمون التزام في مثل تلك الحفلات، وأبوا تقليد الأجانب في هذا العرف، دلوا بهذه الإباية على الاعتزاز بقوميتهم، ونبهوا على أنهم لا يريدون أن يكونوا أتباعاً حتى فيما لا يقدمهم خطوة، ولا يسد من حاجاتهم خلّة. فإن خطر على بال أحد أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسدل شعر رأسه موافقة لأهل الكتاب، قلنا: كان - عليه الصلاة والسلام - بين فريقين: عبّاد الأوثان، وأهل الكتاب، وأهل الكتاب أقربُ إلى الدين الحنيف من عباد الأوثان، فهم بالموافقة يومئذٍ أحق من عباد الأوثان، ولكن بعد أن دخل عباد الأوثان في الإِسلام،

وأصبح فرق الشعر شعار فريق كبير من المسلمين، عاد - صلى الله عليه وسلم - ففرق شعر رأسه، وكان الفرق آخر حالتيه. وإن تعجب، فعجب لذلك الذي وضعت صولة الغالب على بصيرته غشاوة، فقام يدعو المسلمين إلى تقليد الأجانب بدون قيد ولا استثناء، وذهب يذكر في وجه هذا التقليد المطلق غاية هي العمل لاتحاد العالم. ولا نطيل في وصف انحراف هذا الرأي، فإن العالم في حاجة إلى الاتحاد في معرفة واجبات الإنسانية، وفي احترام الأقوياء لحقوق الضعفاء، ومتى ظفر بهذا الاتحاد، لم يضره اختلاف شعوبه في بعض مظاهر الحياة. ثم ما بال هذا الكاتب يسعى لاتحاد العالم من ناحية دعوة المسلمين إلى موافقة الغربيين في كل شيء، ولم ينظر نظر المتدبر الرصين فيدعو الغربيين إلى موافقة المسلمين في آداب هي أشد انطباقاً على ما تقتضيه الإنسانية، وترتضيه الأذواق السليمة؟!. هذه كلمة نوجهها إلى الذين يستمعون القول، فيتبعون أحسنه؛ لعلهم يجدون فيها تحقيق الفرق بين محاكاة الأجنبي المحمودة، ومحاكاته المنبوذة، فيسلكوا طريقاً وسطاً يكفل لهم سعادتي الأولى والآخرة، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].

الاجتماع والعزلة

الاجتماع والعزلة (¬1) خُلق البشر لحكمة سامية، هي: عبادة مبدع الكائنات وحده، والعبادات: عقلية؛ كالإيمان بالخالق، وبدنية؛ كالصلاة، ومالية؛ كالزكاة، ومركبة من ماليّ وبدنيّ؛ كالحج والجهاد، فالعبادات لا تقام على وجهها إلا بوسائل هي: صحة الفكر، وسلامة البدن، وذات اليد، ولهذه الوسائل وسائل تسبقها؛ كالزراعة، والصناعة، والتفقه في الدين، وبعض العلوم النظرية؛ كالمنطق، أو الكونية؛ كالطب، وليس في استطاعة الفرد أو الرهط من الناس الاستقلال بهذه الوسائل، فاحتاج الناس بمقتضى فطرتهم وما خلقوا من أجله إلى التعارف والتعاون، ولا تعارف ولا تعاون إلا بالاجتماع. فالاجتماع هو الذي تقتضيه الفطرة، وبه تنتظم العلوم، وتبلغ المدنية الفاضلة أشدها، فيتهيأ للناس أن يعبدوا الله على بصيرة، ويتقربوا إليه بضروب من الأعمال الصالحة لا تحصى. يظهر إيثار الإِسلام للاجتماع على العزلة في كثير من الأحكام والآداب، فانظروا إلى ما دعا إليه على وجه التوكيد من إقامة الصلوات الخمس في جماعة، ثم ما فرضه من الاجتماع لصلاة يوم في الأسبوع، وهي صلاة الجمعة، وعين ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإِسلام" - العدد العاشر من المجلد الثالث، الصادر في شهر شوال 1351 هـ القاهرة.

للحج وقتاً في السنة، فكان من حكمة هذا التعيين التقاء أمم من بلاد وأقطار مختلفة على صعيد واحد، وشرع ليوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى صلاة تؤدى في جماعة، وتوصل بوعظ وإرشاد. وشرع إقامة الولائم في مثل عقد النكاح، ويوم سابع الولادة، وحثّ على إجابة الدعوة، حتى إن عبد الله بن عمر كان يجيب الدعوة في العرس وغيره وهو صائم. دعا إلى الاجتماع في أوقات السرور؛ كأيام الأعياد، ودعا إلى الاجتماع في أوقات المكاره والشدائد؛ كالاجتماع لصلاة الكسوف، والاجتماع للصلاة على الميت، وتشييع جنازته، حتى يكون الاجتماع مالئاً لمواطن السرور والحزن، ولا يبقى للعزلة الجافية مظهر في حال. ومما يومئ إلى اختيار الاجتماع: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]؛ فإن من مقتضى الأخوة الائتلاف والاجتماع في أوقات كثيرة، وقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وكيف يتسنى للمبتعد عن الجماعة في ناحية أن يعرض عليهم آراءه، أو يستطلع منهم أمثالها، فضلاً عما تقتضيه الشورى من مناقشة الآراء؟. وقال تعالى في وصف ما يدعو به المؤمنون الفائزون: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، وكيف يصلح المفارق للجماعة أن يكون مثلاً كاملاً للهداية، يشهد الناس سيرته فيما يفعل أو يذر، فيسيرون على أثره مقتدين؟. ومما يومئ إلى اختيار الاجتماع من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قوله: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" (¬1). وليس المعتزل من الناس ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري".

باللبنة المرصوفة في الجدار تمسك لبنة، وتمسكها لبنة، وما مثله إلا لبنة تخرج عن الصف المستقيم في البناء، ولا يزال اتصالها بالبناء يضعف حتى تهوي ساقطة إلى الأرض. دعا الإِسلام إلى الاجتماع، وشرع للاجتماع أحكاماً عادلة، وآداباً فاضلة؛ كالحثّ على القرض، والمهاداة، وقضاء الحاجات، والإحسان لأولي القربى، واليتامى والمساكين وابن السبيل، وتحريم الربا والميسر، ووضع عقوبات للاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض، إلى ما يشاكل هذا من الأحكام القضائية والنظم السياسية، والآداب التي تحمي الاجتماع من كل نقيصة، وتجعله مصدر خير وسعادة. فشريعة الإِسلام مشرَّبة روح الاجتماع، ومن ثم ترى علماءها يخوضون في المجامع يقولون طيباً، ويعملون صالحاً، وهذا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: "خالط الناس ودينك لا تكْلمنّه". وإذا نُقل عن بعض من عرفوا بالتدبر في القرآن والسنّة آثار تدل على إيثارهم العزلة على الاجتماع، فإنما هي حال خاصة تعرض للشخص، فتجعل الاعتزال في رأيه أرجح من الاجتماع، ولا يصح حملها على أنهم يقصدون إلى جعل العزلة مذهباً يسع كل الناس. وانظر إلى ما يحكى عن الإمام مالك من أنه كان يشهد الجنائز، ويعطي الإخوان حقوقهم، ثم ترك ذلك في آخر حياته، وإنما ترك مالك هذا النوع من الاجتماع لحالة خاصة عرضت له؛ ويدلّك على أنه رأى العذر في ترك تلك الحقوق قائماً، وقوله حين سئل عن ذلك: لا يتهيأ للمرء أن يخبر بكل عذر له. فانظر كيف جعل العزلة من الشؤون التي لا يجنح لها الإنسان إلا لعذر، ولكنه كره ذكر العذر الذي حمله عليها؛ وإذا ثبتت استقامة رجل كالإمام

مالك، وعرف بالمحافظة على آداب الشريعة، ثم روي عنه ترك شيء من هذه الآداب الثابتة، حمل تركه لها على قيام عذر، ولا يكون هذا الترك موضعًا للاقتداء، وكيف يرى مالك للرجل - ولا سيما العالم - أن يخلد إلى العزلة، وهو الذي يقول: "حق على كل مسلم أو رجل جعل الله في صدره شيئاً من العلم أن يدخل على كل ذي سلطان، يأمره الخير، وينهاه عن الشر، حتى يتبين دخول العالم على غيره". في الاجتماع مزايا دينية ومدنية لا يدركها المعتزلون، فالمعتزل للناس يفوته العلم إن كان في حاجة إلى أن يتعلم، ويفوته فضل التعليم إن كان فيه كفاية لأن يعلّم غيره من الجاهلين، والمعتزل يفوته ما يقف عليه المشاهد لأحوال الناس من التجارب التي يبلغ بها العقل أشده، ويفوته كسب المال أو نماؤه، والمال وسيلة العفاف وصيانة ماء الوجه، وهو المرقاة التي تصل بها الأمة إلى قمة المنعة والعزة والسيادة. وفي الاجتماع لذة روحية هي: الاستئناس لمحادثات المصطفين من العلماء والأدباء، وإلى هذا الاستئناس يشير القائل: وما بقيتْ من اللّذاتِ إلّا ... مجالسةُ الأديبِ إلى الأديبِ ثم إن معظم خصال الشرف والحمد التي يفضل بها الإنسان على سائر الحيوان، إنما تبلغ كمالها، ويعظم أثرها فيمن سيرته الاجتماع. فسيرة الاجتماع هي التي يتجلى فيها خلق السخاء؛ إذ يشهد صاحبها حاجات الأفراد أو الجماعة، فتثور في نفسه الشفقة أو الإشفاق، فيبسط يده إلى سدها جهد المستطاع. وسيرة الاجتماع هي التي يظهر بها خلق الحلم والأناة؛ حيث يصادف

صاحبها طبقات من غير أولي الكياسة، فيقابل خشونة ألسنتهم باللين، وغلظة قلوبهم بالرفق. وسيرة الاجتماع هي التي يستبين بها فضل الشجاعة الأدبية، وهي خلق يهوّن عليك أن تقول للمخطئ: إن الصواب في غير ما نطقت، أو تقول للمبطل: إن الحق في غير ما رأيت، أو تقول للمفسد: إن الخير في غير ما أتيت. وسيرة الاجتماع هي التي يتبين بها الناس كيف تحدِّث فتصدُق، أو كيف تعِدُ فلا تخلف، أو كيف تؤتمن فلا تخون. قد يخطر بالبال أن في العزلة تخلصاً من نحو القدح في الأعراض، والسعي بالنميمة، والتنابز بالألقاب، ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة، والواقع أن الذي يعلم عاقبة وزر الغيبة والنميمة وما يشاكلها من الأوزار التي قد يسوق إليها الاجتماع، يجد في نفسه زاجراً عن ارتكاب شيء منها، وفي يده أن يسدي النصيحة لمن يحوم بها، أو يلوث صحيفته بلطخ من أقذارها، فإن لم يجد للنصيحة في مجلس سامعًا، تركه إلى مجلس أبعد من اللغو، وأبرأ من الإثم، وأما مسارقة الطبع، فمن الاجتماع ما يقتبس منه الطبع آداباً سامية. ومن الاجتماع ما يمكنك أن تفيض عليه من حكمتك نوراً، ومن إرشادك ماء طهوراً، فينقلب ليله صبحاً، ورجسه طهراً. ومن ذا يرضى لك وأنت سليم القلب، نقى العرض، أن تتردد على مجامع بضاعتها أقوال لا خير في سماعها، أو تكثر من لقاء وجوه لا يغبطك أهل الفضل على لقائها، ومن ذا يجهل أن الوقت ذهبٌ، فيزيِّن لك أن تبذلة في غير حق، أو تشتري به ما ليس بحمد؟.

وإذا قلنا: إن الاجتماع خير من العزلة، لا نقصد إلى أن يصرف الإنسان أوقاته في التردد على البيوت، وغشيان المجالس، والتعرض للقاء كل من يجري اسمه على الألسنة، كما يفعل بعض من لم يقدروا الوقت حق قدره، فيبذّرونه تبذيرًا، فإنه لا بد للإنسان من أوقات يخلو فيها بنفسه، ليؤدي واجباً، أو يتقرب إلى الله بنفل، أو يحفظ علماً، أو يحقق مسألة، وذلك معنى قول عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -: "خذوا حظكم من العزلة". ونقرأ في تراجم كثير من أهل العلم: أنهم كانوا يجعلون من اليوم والليلة نصيباً للتقرب من الخالق بصلوات، أو ذكر، أو تلاوة قرآن، ويقبلون في جانب عظيم منها على العلم تأليفاً ودراسة، ويصرفون طائفة من الوقت في قضاء حقوق اجتماعية. فإن قال الراغب في العزلة: أريد أن أقضي أوقاتي في عبادة، قلنا: في حضور مجالس العلم أو مستفيدًا عبادةٌ، وفي عيادة المريض وفي زيارة الإخوان تأكيداً لمودتهم، أو تهنئة بنعمة، أو تعزية على مصيبة عبادة، وفي إرشاد الناس إلى الخير عبادة، وفي مدّ يد المعونة على ما يسد حاجتهم، أو تقوى به شوكتهم عبادة. وليس ببعيد أن يكون ما يُعزى إلى بعض أهل العلم من إيثار العزلة مراداً به صرف معظم الوقت في علم أو عبادة خالصة، حتى إذا أحس واجباً يدعوه إلى الاجتماع، أجاب داعيه في نشاط، ووضع يده في أيدي العاملين بإخلاص. وقد يخطر بالبال: أن الشر في هذا العصر أصبح مستطيراً، وأن للضلال والفساد دعاة لا يملّون، وجنوداً لا يتقهقرون، فمن فئة غلبت عليهم أهواؤهم، فاتخذوا اسم الدين وسيلة إلى ما تهوى أنفسهم، ومن قوم نبذوا الدين، وخرجوا

يدعون إلى الإباحية والإلحاد علانية، ومن جماعات يُرسَلون إلى بلادنا، ويقيمون معاهد ليتصلوا فيها بأبنائنا، ويحاولوا صرفهم إلى ملة غير ملتنا، ومن طوائف ابتدعوا نحلات خاسرة، انتموا بأفواههم إلى الإِسلام، وقلوبُهم تجحده، ولا شأن لهم إلا اصطياد الغافلين، ومن لم تسبق له تربية رشيدة؛ كما يصنع الفرقتان المدفوعتان إلى تقويض أركان الإِسلام، واستدراج شعوبه إلى احتمال الذلة والهوان، وهما: البهائية، والقاديانية، ومن فِرَق لا شأن لها سوى أن تضع أمام عين الشبان مناظر اللهو والخلاعة، فتصرفهم عن الطريق السويّ، وتمشي بهم في عوج، فلا يدركوا ما يدركه أولو الجد والعفاف والشهامة من مجد وكرامة. قد يخطر كل هذا ببال الرجل، فينحدر في غم، ويضل سُبل التفكير، فلا يرى طريقاً للخلاص من هذا الغم سوى البعد عن المجتمع، والعيش في عزلة لا يَسمع فيها صوت الباطل، ولا يبصر فيها منظراً من مناظر الإباحية المنتهكة. ربما نسمع مثل هذا الخاطر من بعض من نشؤوا في رشد وصلاح، وقد يكون هذا الخاطر وليد سريرة طيبة، ولكن العمل عليه يزيد الضلالة صولة، والفساد جولة، ويجعل المجتمع الذي تستمد منه الأمة حياتها ظلاما لا يخلفه ضياء، ودنساً لا يغسله ماء. أما أصحاب الأهواء والدعايات الزائغة، ففي أيدينا مقاومتهم بالحجج التي تكشف عن تمويههم، وتنقذ الناس من مصارع باطلهم. وأما المحترفون بترويج الخلاعة، فمتى قامت التربية على دعائم الحكمة والحزم، خملت سوقهم، وكسدت بضاعتهم. ومن أبقى يده في أيدي الجماعة، قام بنصيبه من الجهاد في هذا السبيل، ومن خطر على باله العيش في عزلة،

فليستعذ بالله من اليأس، ويدع العزلة إلى اليوم الذي يلتحق فيه بأصحاب القبور. وإذا هان اعتزال من لا يرجوه الناس لعلم أو رأي أو معونة على عمل اجتماعي، فإن عزلة العالم أو المجرب للأمور أو المستطيع لأن يعمل مع الجماعة خيراً، ذاتُ خطر كبير، وبالأحرى حيث تظهر المنكرات، أو تكون الأمة غارقة في جهالة، أو تُبتلى بملمات اجتماعية. واعتزال العالِم للجماعة قد يكون له أثر في قلة إصابته فيما يتعرض له من الفتاوى؛ فإن للنظر في الوقائع من ناحية ما يترتب عليها من خير أو شر دخلاً في إصابة الحق. ولا يستقيم النظر في الوقائع من تلك الناحية إلا لمن يتصل بالناس، ويرسخ في معرفة أحوال المجتمع، وكيف يدري هذه الأحوال من هو غائب عنها، بعيد من مصادرها ومواردها؟. وإذا انصرف بعض أهل العلم أو الرأي عن الاتصال بالجمهور أيام كانت راية الإِسلام تخفق في الشرق والغرب، وكانت النفوس في اطمئنان سائد، فإن الحال في هذه العصور يدعو إلى بذل كل عناية في التعارف والبحث عن علل ضعفنا، ثم عن الدواء القاطع لهذه العلل، وماذا ينفع البحث عن العلل وأدويتها، إذا لم ننهض إلى تركيب الأدوية، ونتعاطاها على الوجه الذي يُوفّر نشاطنا، وتشتد به سواعدنا، ويجري به دم الحياة أو الحماسة في صغارنا وكبارنا؟. لا يليق بالفرد أن يعتزل الجماعة، ولا يليق بالجماعة أن ترى نفسها في غنى عن الاتصال بباقي جماعات الأمة، وإذا كان اتصال أفراد الجماعة

باللقاء والتعاون على حاجات بلدهم، فاتصال الجماعات المتباعدة الأوطان يكون بوسيلة أفراد يرحلون فيدلّون على مبلغ ثقافتها، ويستطيعون أن يصفوا كمالها أو حاجاتها، وهؤلاء هم الذين يصلحون لأن يؤكدوا الروابط بين الجماعات حتى تكون كالبنيان يشد بعضه بعضاً.

علة إعراض الشبان عن الزواج

علّة إعراض الشبّان عن الزواج (¬1) في الشعوب من يهضم حقوق الزوجة، ويقسو في عشرتها، وفيهم من تكون إرادته متابعة لإرادتها، ورأيه ملغي أمام رأيها. وقلّما أخلصت المرأة لمن يهضم حقوقها، ويسيء عشرتها، وقلما طاب للرجل عيش مع زوجة تكون كلمتها فوق كلمته، وقلما اغتبط بولد تضعه من لا تحترمه في حضوره فضلاً عن غيبته. أما الإِسلام، فكان بين ذلك قوامًا: أنقذ المرأة من أيدي الفريق الذين يزدرون مكانها، وتأخذهم الجفوة في معاشرتها، فقرر لها من الحقوق ما يكفل راحتها، وينبّه على رفعة منزلتها، ثم جعل للرجل حق رعايتها، وإقامة سياج بينها وبين ما يخدش كرامتها. ومن الشاهد على هذا: قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]. فجعلت الآية للمرأة من الحقوق مثل الرجل. وإذا كان أمر الأسرة لا يستقيم إلا برئيس يدبره، فأحقهم بالرياسة هو الرجل، الذي شأنه الإنفاق عليها، والقدرة على دفاع الأذى عن ساحتها، وهذا ما استحق به الدرجة المومأ إليها في قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}. ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإِسلام" - العدد الخامس من المجلد الرابع، الصادر في شهر جمادى الأولى 1352 هـ - القاهرة.

فالإِسلام أصلحَ الصلة بين الرجل والمرأة، وجعلها بمأمن من أن يلحقها وهن، أو يعلق بها كدر. وبعد أن أحكم صلة الزواج، وهذّب حواشيها، حثّ على الزواج، وجعله من سننه التي يعدّ تاركها من غير عذر مستخفًا بما أمر الله. وإذا نظرت إلى أن حكمة الله تعالى قد اقتضت بقاء النسل؛ لإقامة الشرائع، وعمران الكون، وإصلاح الأرض، وأن النسل الصالح لا يبقى إلا بالزواج، رأيت كيف كان الزوج وسيلة إلى تحقيق أمور عظيمة أحبّ الله أن تكون، وحبب للناس القيام عليها. وإن كنتَ من علماء الأخلاق، ونظرت إلى أن هناك فضيلة يقال لها: العفاف، وعرفت أن الزواج مما يعين على التحلي بهذه الفضيلة، ظهر لك أن الزواج وسيلة من وسائل الفضائل، وكثيراً ما تأخذ الوسائل حكم المقاصد في نظر الشارع، وفي عرف الناس. وإذا نظرت إلى الناس "الجنس اللطيف"، وما فطرن عليه من الضعف، وعدم إطاقة الأعمال الشاقة، شهدت فيهن العجز عن أن يهيئن لأنفسهن مرافق الحياة، ويعشن في شيء من الراحة. والزواج يصل ضعفهن بقوة، ويسوق إليهن جانباً من الهناءة. ولو قصد الرجل بالزواج كفاية المرأة ما يعنيها من مطالب الحياة، لقصَد لعمل يكسبه شكوراً، وتزداد به صحيفة حياته نوراً. أوليس الزواج يكسب الرجل رفيقة تخلص له ودّها، وتشمل منزله برعايتها؟ ومثل هذه الرفيقة التي تحمل حبه الطاهر، وتعمل لتدبير منزله في غير مَنّ ولا تباطؤ، ولا تتمثل إلا فيمن تربطه بها صلة الزواج. وليس الزواج صلة مقصورة على الزوجين فحسب، بل تمتد هذه الصلة من الزوجين إلى أسرتيهما، فتكون حلقة واسعة في سلسلة اتحاد الأمة،

وللصلات الخاصة؛ كالقرابة والصهر أثر في التناصر كبير. والزواج يكسب الرجل ولداً إن يحسن تربيته، كان له قرة عين في حياته، وذكراً طيباً بعد وفاته. ومن ذا ينكر أن الولد المهذب من أجلّ النعم في هذه الحياة؟. فللزواج مصالح تكثر بكثرته، وتقلّ بقلته، وتفقد بفقده. وقد عرفت قيمة هذه المصالح، ومكأنها في إعلاء الدين، وبسطِ أجنحة العمران، وتخفيف متاعب الحياة. ويكفي الإعراض عن الزواج شراً: أنه علة خراب الديار، واليد القابضة لروح العفاف، والوسيلة إلى ابتذال فتياتنا، وعيشهن في تعب، أو في غير صيانة. فمن واجب من يغارون على الفضيلة، أو على عمارة الأوطان، أو على الفتيات المصونات: أن يعملوا للتعاون على مكافحة هذا الوباء المتفشي في البلاد، وهو انصراف شباننا عن الزواج. الزواج صلة بين الرجل والمرأة، تسوق إليه الفطرة السليمة، وتدعو إليه الشراع الحكيمة. وما زالت نفوس البشر تنساق فيه مع الفطرة، وتجيب به داعي الحكمة، إلا نفوساً لم تسلم فطرتها، أو عميت عن حكمة خالقها. وقد كانت هذه النفوس المعرضة عن الزواج؛ لعدم سلامة الفطرة، أو لجهلها بما في الزواج من حكمة، مغمورة بالنفوس الآخذة بسنته، العاملة على تحقيق حكمته، فلم يشعر الناس بالنقص أو الفساد الذي دخل في المجتمع من ناحية أولئك المعرضين عن الزواج.

أما اليوم، فقد أصبح انصراف شبابنا عن الزواج في ازدياد، حتى ظهر في مظهر ينذرنا سوء المنقلب، وما بعد هذا المنقلب إلا الانقراض، فحرام علينا أن نقف أمام هذا الخطر الداهم صامتين، وحقيق علينا أن نبحث عن العلل التي أصبحت بها قلة الزواج ظاهرة ظهور المرئي بالعين الباصرة. وعلينا - بعد البحث عن هذه العلل - النظرُ في طريق معالجتها؛ لعلّنا نقطعها من منبتها، وننقذ فتياتنا، ونحفظ أمتنا، ونطهر أوطاننا من خبائث لا تظهر إلا من إعراض الفتيان عن الزواج. وإذا بحثنا عما يصح أن يكون سبباً لهذه الأزمة الاجتماعية، وجدناه يرجع إلى علل مختلفة. وأظهر هذه العلل: تبرُّج كثير من الفتيات تبرج من استولى عليهن الهوى، ونضب من وجوههن ماء الحياء، حتى استوى في هذا التبرج الممقوت بعض الناشئات في بيوت غير فاضلة، وبعض المترددات على مدارس لا تعنى بتلقين الفضيلة، ولا يؤلمها أن تذهب الفتاة في الخلاعة إلى غاية قصوى. وهذا المظهر الذي ظهر به كثير من فتياتنا اليوم، قد جعل الشاب يحجم عن الزواج؛ مخافة أن يساق إلى قرينة تستخفّ بجانب الصيانة، كما تستخف به هؤلاء السافرات المتهتكات. وليس هذا الخوف بحق، فإن البيوت المحتفظة بالحشمة، الآخذة بأدب الصيانة، غير قليلة، يهتدي إليها كل من يبتغي الحياة الطاهرة، ولا سيما فتى لا يعنيه من الفتاة إلا أن يرتاح قلبه إذا نظر إليها، ويأمن على عرضه إن غاب عنها. وإذا أردنا معالجة هذا التبرج الذي أوجس منه الشبان خيفة، فإن تبعته

تعود إلى أولياء المتبرجات؛ إذ لم يأخذوا في تربيتهن بالحزم، ولا في الرقابة عليهن باليقظة. فمن طرق مكافحة الإعراض عن الزواج: مقاومة هذا السفور القاضي على كرامة فتياتنا، وإرشادهُن إلى أن الصيانة خير من الابتذال، والحياء أجمل من الصفاقة، وأي صفاقة أكثر من أن تقلّب الفتاة وجهها في وجوه الرجال!. ومن علل قلة الزواج: ضعف العقيدة الدينية؛ فإن الإيمان بما ينال الفاسق من الخزي والشقاء، يقر النفس على العفاف، ويقطع تطلعها إلى ما ليس بحلال، فلا يبقى له إلا الاستمتاع بالزواج المباح. أما مزلزل العقيدة، فلا يجد في نفسه حرجًا من أن يطلق لشهواته العنان، ويتقلب بها في بيوت الدعارة، وذلك ما يصرف قصده عن الزواج وهو يستطيع الزواج. وإذا أردنا أن نعالج هذه العلة، فإن أكبر جانب من تبعة ضعف العقيدة يقع على المتولين لتربية النشء؛ حيث لم يعملوا لتلقينهم العقائد الصحيحة تلقينًا يجعلها راسخة رسوخ الشجرة الطيبة: أصلها ثابت، وفرعها في السماء. فعلاج هذه العلة: أن نسعى لأن يكون نشؤنا على تربية دينية صحيحة، والدين هو الذي يزكي النفوس، فلا ترى القبيح حسناً، ولا الخبيث طيباً. ومن علل قلة الزواج: تشوّف كثير من الشبان للاقتران بذات ثروة، وذواتُ الثروة اللاتي يقبلن على التزوج بالشبان المقلّين غير كثير. فهل لأساتيذ التربية وخطباء المنابر، أن يلقوا للنشء نصائح في الزواج، ويوجهوا نفوسهم إلى الناحية التي تجيء منها راحة البال، وانتظام الحياة، ودوام العشرة، وهي طيب منبت الزوجة، وسماحة أخلاقها، وسمو آدابها؟ " وأريد بطيب المنبت: أن تنشأ في بيت يرعاه ذو غيرة وحزم، وإن كان قوت أهله كفافاً، قال - صلى الله عليه وسلم -:

"الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" (¬2)!. وانظروا كيف عنيت الشريعة الإِسلامية بوصف الكفاءة بين الرجل والمرأة، ومن وجوه الكفاءة: أن يكون حال الرجل من جهة المال والحسب مناسبًا لحال المرأة من هذه الجهة، وإنما عنيت بالكفاءة بين الزوجين، وجعلت المال من مقوماتها؛ لأن أمر الزواج لا ينتظم في غالب الأحوال إلا أن يكون الرجل محترمًا في عين المرأة، وشأن المرأة أن لا تحترم من يكون أقل منها مالاً أو حسبًا، فلا يجد منها المعاشرة التي يودّ دوامها، ولا يطمع أن تطيعه بالمعروف، فيكون مرتاح القلب للاقتران بمثلها. وقد يكون سبب الإعراض عن الزواج: اتساع رغبات النساء في صنوف الملابس والمآكل والفرش، ونحوها من أمتعة البيوت ووسائل الرفاهية، حتى صارت كل طبقة تنظر إلى ما فوقها من الطبقات ثروة، وتجتهد أن تحاكيها في الترف ومظاهر الأبهة. فإن صمّمت الفتاة على محاكاة الأسر التي هي أوسع غنى، وأنمى ثراء من أسرة زوجها، فإما أن تجد من الزوج غفلة، أو ضعف إرادة، فترهقه بما تقترحه من النفقات إرهاقًا، ومصير من ينفق من غير سعة الفاقةُ والإفلاس، وإما أن يقابل مقترحاتها الخارجة عن مستطاعه بشيء الحزم والنظر في العواقب، فينفق بمقدار ما يسعه كسبه، وهي بعد هذا إما أن تجنح إلى الفراق، وإما أن تبقى مع زوجها الحازم في حالة من ترى أنها مبتلاة بهذا الزوج الذي لا يفي بجميع رغائبها. وماذا ترى في عيشة صاحبين يعتقد أحدهما ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام مسلم". (¬2) رواه الإمامان: البخاري، ومسلم.

أن صحبته للآخر قد جرّت عليه شقاء، وإلى عيشه كدراً؟ فهل يقطعان مسافة الحياة في شيء من الراحة والصفاء؟!. أما التي تعود إلى رشدها، وتقنع بالرزق الذي يسوقه الله تعالى إلى زوجها، فأمثالها في هذا العصر، ولا سيما الناشئات في المدن، غير كثير. قد يكون هذا المرض الخلقي المتفشي في فتياتنا أحد الأسباب التي صرفت الشبان عن الزواج؛ لأن الشباب يخشى أن يبتلى بزوجة تتعدى بمطالبها وما تشتهيه نفسها حدود المعروف؛ فإما أن ترهقه عسراً، وإما أن تسلّ ثوبها من ثوبه جانحة للفراق، وإما أن تبقى معه على غير مودة خالصة. وإذا لم تخلص المودة بين الصاحبين، فلا تسلْ عن كثرة ما يدور من مناقشات ومنغّصات. ونحن لا ننازع في أن اتساع رغبات النساء في شؤون الحياة قد تجاوز حد المستطاع، ولكنا لا نسلم أنه نزعة عامة، وطبيعة لا تتحول حتى نتخذ منه للشبان الذين لا يقبلون على الزواج معذرة، بل نرى أن اتساع الرغبات إلى الحد الذي يثبّط عن الزواج إنما هو شائع في طبقات الناشئات في ترف، أو من يتصلن بهن، ولم تسبق لهن تربية نافعة. أما الأسر التي تعيش في حالة اقتصاد، وفيها أثارة من تهذيب، فإن فتاتهم تقنع بما يسره الله لزوجها من رزق، وتغتبط بحسن خلقه ومودته، وبذله الوسع في إنعام بالها، غير ناظرة إلى ما تقصر عنه يده من الأشياء الزائدة على الضروريات والحاجيات. وليست هذه الأسر المهذبات بقليل، فلو وجه للفتيان هممهم إلى لذة الحكمة والعلم، وعرفوا أنهم يجدون مع الفتاة المهذبة من راحة الضمير، والتفرغ لاكتساب المجد ما لا يجدونه مع الفتاة الواسعة الرغبات، لكان لهم في مصاهرة تلك الأسر الفاضلة ما يجعل ضمائرهم في راحة، وعيشهم في هناء.

فمن يُبلِّغ شبابنا هذه الحقائق؛ ليعلموا أن إعراضهم عن الزواج قتل لفضيلة العفاف، وحرمان للأوطان من نسل طيب، وإطفاء لمصابيح الحياة الاجتماعية الراقية؟ ولا أراهم بعد أن يعلموا هذه الحقائق، وهم عشاق الفضيلة، والغيورون على المصالح العامة، والعاملون لحياة الأمة ورقيها، إلا أن يطهروا نفوسهم من محكاة الإباحيين في الإعراض عن الزواج وهم يستطيعونه، فيكونوا -بتوفيق الله تعالى- أيديًا بانية لا هادمة، ومصلحة لا مفسدة: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

النبوغ في العلوم والفنون

النبوغ في العلوم والفنون (¬1) في الناس من يجمع علماً غزيراً، أو يروي أدباً واسعاً، وقد يؤلف فتعد مؤلفاته بالمئات أو الآلاف من الصفحات، ولكن لا نجد فيما ألف من مئات الصفحات وآلافها شيئاً زائداً عما كتبه الناس من قبله، ويسوغ لنا أن نسمي هذا العالم أو الأديب: "حافظاً"، أو "ناقلاً". أما العالِم أو الأديب الذي يدرّس، فنسمع منه ما لم نكن قد سمعنا، ويؤلّف، فنقرأ له ما لم نكن قد قرأنا، فذلك ما يحق لنا أن نسميه: نابغة، أو عبقرياً. فالنابغة أو العبقري هو الذي يحدث علماً أو فناً من فنون الأدب لم يكن شيئاً مذكورًا؛ كما صنع الخليل بن أحمد في علم مقاييس الشعر، أو ينقله من قلة إلى كثرة؛ كما صنع عبد القاهر الجرجاني في علم البلاغة، ودون هذه الدرجة درجات، وسموّ كعب العالم أو الأديب في العبقرية على قدر ما يأتي به من أفكار مبتكرة، أو ما يستطيعه من حل المسائل المعضلة. أما ابتداع الرجل للعلم أساليب تجعل مأخذه أقرب، وتناوله أيسر، فليس بنبوغ في نفس العلم، وإنما هو نبوغ في صناعة التأليف فيه. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الحادي عشر، الصادر في شهر رمضان 1357 هـ.

وإذا كانت العصور قد تبسط يدها بالعلماء الناقلين كل البسط، فإنها لا تسمح بالعبقري إلا قليلاً: فِتْيةٌ لَمْ تلِدْ سِواها المعالي ... والمعالي قَليلَةُ الأَوْلادِ تقوم العبقرية على الذكاء والجدّ في طلب العلم، ثم على أكبر الهمة، فمن لم يكن ذكيًا، لم يكن حظّه من العلم إلا أن يحفظ ما أنتجته قرائح العلماء من قبله، ومن لم يجدّ في طلب العلم، ولم يُغذّى ذكاءه بثمرات القرائح المبدعة، بقي ذكاؤه مقصوراً في دائرة ضيقة، فلا يقوى على أن يحلق في سماء العلوم ليبلغ الغاية السامية، وماذا تصنع المرأة الكيسة في بيت لا مؤونة فيه ولا متاع؟!. يقولون: إن ابن سينا لم ينم مدةَ اشتغاله بالعلم ليلة واحدة كاملة، ولا اشتغل في النهار بسوى المطالعة. وقالوا: لم يترك ابن رشد النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، أو ليلة بنائه على أهله. ومن لم تكن همته في العلم كبيرة، لم يكفه ذكاؤه ولا جدّه في الطلب لأن يكون عبقرياً؛ فقد يكون الرجل ذكياً مُجداً في التحصيل، وصغر همته يحجم به أن يوجه ذكاءه إلى نقد آراء قديمة، أو ابتكار آراء جديدة حميدة: إذا غامرتَ في شَرَفٍ مَرومِ ... فلا تقْنَعْ بما دون النُّجومِ والعبقري يلذُّ العلم أكثر مما يلذه الناقلون، وإنا لنرى الرجل يرتاح للعلم ينحدر من سماء فكره أكثر مما يرتاح للعلم الذي ينساق إليه من فكر غيره، ولا يزيد هو على أن يودعه حافظته. قال تقي الدين السبكي في أبيات أجاب فيها عن سؤال يتعلق بآية من

الكتاب المجيد: لأسْرارِ آياتِ الكتابِ مَعانِ ... تدق فلا تبدو لكلٍ معانِ إذا بارقٌ قد لاحَ منها لخاطِري ... هممتُ قريرَ العَيْنِ بالطيرانِ ولشدة ارتياح النابغة لاستخراج المعاني من معادنها، وتخليص الآراء الراجحة من بين الآراء الواهية، نجده أحرص الناس على العلم، وأشدهم أنسًا به، وأثبتهم على الانقطاع له. * مهيئات النبوغ: للنبوغ مهيئات: منها: أن ينشأ الذكي في درس أستاذ يطلق له العنان في البحث، ويردّه إلى الصواب برفق، ويثني عليه إن ناقش فأصاب المرمى. نقرأ في ترجمة العلامة إبراهيم بن فتوح الأندلسي: أنه كان يفسح لصاحب البحث مجالاً رحبًا، بل يطلب من التلاميذ أن يناقشوه فيما يقرر، ويحثّهم على ذلك، ويختار طريق التعليم به، وشأن العالم العبقري أن يقبل على التلميذ المتقد ذكاء، ويأخذ بيده في طريق التحصيل حتى يعرف كيف يكون عبقرياً. ومن مهيئات النبوغ: أن يشبّ الألمعي بين قوم يقدرون النوابغ قدرهم، فإن نظر القوم إلى النابغة بعين التجلة، وإقبالهم عليه باحتفاء، مما يزيد الناشئين الأذكياء قوة على الجد في الطلب، والسعي إلى أقصى درجات الكمال. ولا عجب أن يظهر النابغون في العلم والأدب ببلاد الأندلس؛ فقد كان أهلها كما قال صاحب "نفح الطيب": "يعظمون من عَظّمه علمه، ويرفعون من رفعه أدبه، وكذلك سيرتهم في رجال الحرب: يقدّمون من قدمته شجاعته، وعظمت في الحروب مكايده".

وظهر في عالم الإِسلام خلفاء وملوك ووزراء، كانوا يقدرون النوابغ، ويحتفون بهم لنبوغهم؛ مثل: المأمون العباسي، وعبد الله بن طاهر، وسيف الدولة، والصاحب بن عباد في الشرق، وعبد الرحمن الناصر، والمنصور بن أبي عامر، والمعتمد بن عباد في الأندلس. وأسوق مثلاً لهذا التقدير: أن القاسم بن سلام عرض على عبد الله بن طاهر تأليفه في غريب الحديث، فقال عبد الله: إن عقلاً بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب، حقيق بأن لا يحوج إلى طلب المعاش، وأجرى عليه عشرة آلاف درهم في الشهر. وقد يهيئ الناشئَ للنبوغ أن يسبقه أب أو جد بالنبوغ؛ فإن كثرة تردد اسم سلفه العبقري على سمعه، ومطالعته لبعض آثار عبقريته يثيران همته، ويرهفان عزمه لأن يظفر بما ظفر به سلفه من منزلة شامخة، وذكر مجيد. وإذا رأينا كثيراً من أبناء فطاحل العلماء، لم يتجاوزوا مرتبة العلماء الناقلين، فلنقصٍ في ذكائهم الفطري، أو لعلل نفسية صرفتهم إلى نواح غير ناحية العبقرية. ومن مهيئات النبوغ: نشأة الذكي في حاضرة زاخرة بالعلوم والآداب؛ إذ في الحواضر يلاقي الناشئ جهابذة العلماء، وأعلام الأدباء، وفي الحواضر يشتد التنافس في العلوم والفنون، ويتسع مجال المحاورات والمناظرات. ومن مهيئات النبوغ: قراءة مؤلفات النابغين في العلم بعد الاطلاع على دراسة الكتب التي تسوق المسائل مجردة من أدلتها، غير معنية بالغوص على أسرارها، وإنما يرجى منه النبوغ متى وضعت تحت نظره كتب يرى مؤلفيها كيف يستمدون آراءهم من الأصول العالية، ولا يوردون مسألة إلا بعد

أن يعزّزوها بالدليل. ومن مهيئات النبوغ: مطالعة تراجم النابغين المحررة بأقلام تشرح نواحي نبوغهم، وتصف آثاره؛ نحو: مؤلفاتهم المنقطعة النظير، ثم ما يخصه بهم عظماء الرجال من تقدير وتمجيد. ومن مهيئات النبوغ: الرحلة، والتقلب في كثير من البلاد، ولا سيما بلادًا تختلف بعاداتها وأساليب تربيتها ومناهج حياتها العلمية والسياسية، ولعل نبوغ ابن خلدون في شؤون الاجتماع ذلك النبوغ الرائع؛ إنما جاءه من نشأته في تونس، ثم سياحته في بلاد الجزائر والمغرب الأقصى والأندلس ومصر سياحةَ اعتبار، سياحة اتصل فيها برؤساء حكوماتها، وأكابر علمائها، بل سياحة كان يقبض فيها -أحياناً- على طرف من سياسة تلك البلاد. * تقدير النبوغ: يعرف الناس أن زيداً عالم أو أديب، أما بلوغه مرتبة النبوغ في علم أو فن من فنون الأدب، فإنما يعرفه من درسوا ذلك العلم أو الفن دراسة تمكنهم من الحكم بأن ما يثمره فكر هذا العالم أو الأديب جديد بديع. فمن لم يدرس علم الطب - مثلاً - لا يستطيع أن يصف أحداً بالنبوغ فيه إلا أن يقلد في وصفه بعض كبار الأطباء، ومن لم يدرس علوم اللغة ليس من شأنه أن يشهد لأحد بالنبوغ في هذه العلوم إلا أن يتلقى تلك الشهادة من أفواه أساتذة اللغة وآدابها. وأعدُّ مِنْ تعقُّلِ ابن حزم: أنه كتب رسالة بيَّن فيها كيف أبدع أهل الأندلس فيما ألّفوه في العلوم والفنون، ولما وصل إلى علم الحساب والهندسة، قال: "وأما العدد (الحساب) والهندسة، فلم يقسم لنا في هذا العلم نفاذ،

ولا تحققنا به، فلسنا نثق بأنفسنا في تمييز المحسن من المقصر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا". وإذا انتشر العلم والأدب في بلد أو قطر، كان أهله أعرف بأقدار النبغاء، وربما عاش العبقري في بلد، ويكون ذكره في بلد آخر أذيعَ، وشأنه فيه أعلى. نشأ العلامة أبو عبد الله التلمساني في تلمسان، وعاش بها، ويقول الكاتبون في التعريف به: "وكان علماء الأندلس أعرف الناس بقدره، وأكثرهم تعظيماً له". وأشار إلى هذا المعنى بعض من نشأ أو أقام بين قوم لم يقدروا فضل براعته، فقال: وما أنا إلا المِسْكُ في غَيْرِ أَرْضِكُمْ ... يَضوعُ وأمَّا عندَكم فيَضيعُ * أثر النبوغ في العلم: عرفنا أن العلماء الناقلين مزيتهم في حفظ أقوال من تقدمهم، وليس من شأنهم أن يتقدموا بالعلوم ولو خطوة، وإنما الذي يبتكر العلوم، أو تكون له يد في تلاحق مسائلها قليلاً أو كثيراً، هو العبقري. ولا يستغني علم من العلوم عن عبقري يضيف إليه مسائل، أو يحل منه مشاكل، أو يجيد تطبيق أصوله العالية على فروعها. فعبقرية الأئمة المجتهدين أورثتنا هذه الثروة العظيمة من أصول الشريعة وأحكامها العائدة إلى حفظ الدين والأنفس والأعراض والأموال، وعبقرية علماء الكلام دخلت في تفاصيل الإلهيات والنبوات، فخلصت الحقائق من الأوهام، وحفظت أصول الدين من أن تزلزلها عواصف الشبهات. وعبقرية

المناطقة استنبطت هذه القوانين التي تساعد العقل السليم على أن تكون آراؤه صائبة، وحججه ساطعة. وعبقرية علماء العربية جعلت مقاييس اللغة ومحاسن بيانها في متناول نشئنا يجرون عليها في خطبهم وأشعارهم، فيسترعون الأسماع، ويأخذون بالألباب. وهكذا ننظر إلى كل فن من الفنون التي تقوم عليها المدنية الفاضلة الرائعة، فنجده وليد العبقرية التي تخرق القشر، وتنفذ إلى اللباب. فحاجة العلم إلى العبقرية لا يقضيها الجماعات التي تقنع بالحفظ وإن كثروا، ومما ينبه لهذا المعنى قول محمد بن عيسى القوصي يرثي العلامة ابن دقيق العيد: لو كانَ يقبَلُ فيك حتْفُكَ فِديَةً ... لَفُديتَ من عُلمائنا بألوفِ * أثر النبوغ في شرف الأمة: للنبوغ في عظمة الأمة حظ كبير، لذلك نرى الشعوب والقبائل يباهي بعضها بعضاً بالنابغين في علم أو أدب أو سياسة، وانظروا إلى رسالة كتبها أبو الوليد الشقندي في فضل الأندلس على بر العدوة، وقد ملأها بقوله يخاطب أهل العدوة: هل لكم في علم كذا مثل فلان وفلان؟ وذكر البارعين في الفقه والنحو والأدب والشعر والتاريخ والهندسة. ولابن حزم رسالة نوّه فيها بفضل الأندلس، فذكر طائفة من جهابذة تلك البلاد: يقيسهم ببعض علماء الشرق وأدبائه، فيقول مثلاً: فلان نباهي به جريرًا أو الفرزدق، وفلان نسابق به محمد بن إسماعيل البخاري، وفلان نناطح به محمد بن الحكم، وفلان وفلان لم يقصرا عن أكابر أصحاب محمد ابن يزيد المبرّد.

* أثر النبوغ في علو الهمة: أشرنا إلى أن النبوغ يقوم على أكبر الهمة في العلم، ونقول الآن: إن النبوغ ينحو بصاحبه نحو عزّة النفس، ويرفع همته عن أن تسلك طريق الملق والخضوع لإدراك نحو منصب أو مال؛ فإن شعور العبقري برفعة منزلته العلمية، يريه أن كل ما عدا هذه المنزلة أهونُ من أن تطمح إليه النفوس، أو تحرص عليه، وقد نال ابن حزم الوزارة، ولما رأى العلم فوق كل مرتبة، انصرفت نفسه عنها، وطلّقها بتاتاً من تلقاء نفسه، وانقطع للبحث والتحرير. * كيف نصعد بأبنائنا في مراقي النبوغ؟ تختلف نفوس الناشئين في الميل إلى العلوم، كل نفس تميل إلى ما يوافق طبعها، فنرى نفسًا تختار علماً، ونفساً تختار علماً غيره، ولندع الفلسفة تبحث عن سر موافقة هذا العلم لطبع هذه النفس، ونكتفي بأن نعلم أن هذه النفس تميل إلى هذا العلم. لنتوجه بها إلى التخصص به، فتطلبه برغبة زائدة عن رغبتها فيه من حيث إنه علم، وقد أدرك هذا علماؤنا من قبل، فنقرأ في التعريف بحياة العلامة أبي عبد الله التلمساني: أنه كان يترك كل طالب يتخصص بالعلم الذي تميل إليه نفسه. ومناهج التعليم اليوم تقتضي تخصص كل طائفة بقسم من العلوم، ولا يكفي توجه الطالب إلى التخصص بقسم من العلوم لأن يكون نابغًا فيه، وما فتح أبواب التخصص إلا أحد المهيئات للنبوغ، وقد تفوت الطالب القريحة الوقادة، والألميعة المهذبة، أو تفوته الهمة التي تطمح به إلى بلوغ الذروة في العلم، فعلى القائمين على شؤون التعليم العام أن لا يكتفوا بأن تخرج أقسام التخصص في كل عام فرقًا يؤدون الامتحان، ويحرزون شهادات تخوِّلهم ولاية

بعض المناصب، بل واجبهم أن يوجهوا عنايتهم إلى ذوي الذكاء المتقد، وإن كانوا من أبناء البيوت الخاملة، ويربون فيهم الهمة الطامحة إلى أسمى الغايات، ويقوون عزائمهم بكل وسيلة ممكنة، حتى يسيروا في طريق العبقرية؛ فإن سلامة الأمة وسيادتها على قدر ما تخرجه معاهدها وجامعاتها من أساتذة أجلاء، أساتذة لا يتركون في العلم الذي يتخصصون به غامضاً إلا استكشفوه، ولا باباً من أبوابه إلا نفذوا منه.

متى تكون الصراحة فضيلة

متى تكون الصّراحة فضيلة (¬1) وهبَ الله للإنسان لساناً يعبر به عما يجول في نفسه من آراء، أو يشعر به من نحو الحب والبغض، والسرور والحزن، واللذة والألم، وإذا كانت الآراء أو العواطف ونحوها قد تحدث في النفس غير اختيار، فإن اللسان موكول إلى صاحبه يتصرف فيه حسب اختياره، فله أن لا يبين ما في نفسه إلا حيث يدعوه إلى ذلك البيان ابتغاء خير، أو دفع ضرر، ومن هنا ترى الناس يلومون الإنسان على بعض ما يلفظ من قول، فيلام على القول من جهة مخالفته للواقع، وهو الكذب، أو من جهة مخالفته لما لا يعتقد، وهو النفاق، أو من جهة أنه يجلب ضرراً؛ كالغيبة والنميمة، أو من جهة أنه لا يأتي بفائدة، وهو اللغو، كما يلام الإنسان على تركه القول في حال يكون القول فيه نافعًا أو واجباً؛ كإظهار المودة لذوي النفوس الكريمة، والشفاعة لذوي الحاجات، والحكم بين الناس بالحق، وأداء الشهادة الصادقة، وتنبيه الغافلين لما فيه خير، أو تحذيرهم مما هو شر. والناس يقولون: فلان صريح، على معنى: أنه يجهر بما في نفسه من نحو الآراء والعواطف، لا يكتمها، ولا يدل عليها بتعريض أو كنايات خفية، وقد يصف الإنسان بها نفسه على وجه الفخر، أو يصف بها غيره على وجه ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد الثاني عشر، الصادر في جمادى الثانية 1359 هـ.

المدح؛ لأنه يراها وليدة الشجاعة، أو يراها وليدة الإخلاص والسلامة من علة الحب والمداهنة. والحقيقة: أن الصراحة التي تعد من خصال الحمد، واقعة بين طرفين مذمومين، فطرف التفريط فيها يرجع إلى علة الجبن، أو الطمع، أو الجهل بما تأتي به الصراحة من خير كثير. وطرف الإفراط فيها يرجع إلى علة العجلة، وقلة التروي فيما تثير بعض الأقوال الصريحة من عداوات خاصة، أو فتن عامة. والطريق المعتدل للصراحة، وهو الذي يعد فضيلة: أن يجهر الإنسان بما له من آراء أو عواطف؛ حيث يكون في الجهر مصلحة، ولا يتوصل إليها بطريق التعريض، أو الكنايات الخفية. ويمثل التفريط في الصراحة: أولئك الذين يرون أمتهم، أو طائفة منهم منحدرين في غواية، أو عمل منكر، ويمتنعون من دعوتهم إلى سبيل الرشد والعمل الصالح؛ خشية أن تحرمه الدعوة منفعة دنيوية، أو تجر إليه مكروهاً، ولو لم يكن شيئاً يذكر بالنسبة إلى المكروه الذي انحدرت فيه الأمة، وكان في ميسوره أن ينقذها بدعوة صريحة. ولا يدخل في هذا التفريط المذموم من أبى أن يقول غير الحق، وسلك في التعبير عن الحق طريقاً غير صريح، ولكنه يغني غناء الصريح في جلب الخير، أو دفع الأذى، ونسوق إليك مثلاً لهذا: قصة تيمورلنك إذ جمع علماء حلب، وقال لهم متعنتًا: قُتِل منّا ومنكم جماعة، فمن الذي في الجنة: قتلانا، أم قتلاكم؟ وأراد بهذا السؤال إيقاعهم في حرج حتى يتوصل إلى أذيتهم، فقال له أحد العلماء، وهو ابن الشحنة فيما يظن: قد أجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا السؤال حين سئل عنه، فغضب تيمورلنك، وقال له: كيف ذاك؟ فقال: روينا

في الصحيح: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليذكر وليرى مكانه، فمن الذي في الجنّة؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو الذي في الجنة"، فتلقى تيمورلنك هذا الجواب بالإعجاب، ثم بالسكوت. وهذا الجواب وإن يكن صريحاً، ولكنه أغنى عن الصراحة، ويمتاز عنها بأنه كان مخلِّصاً للقوم من سطوة ظالم غشوم. ويمثل ذلك الإفراط في الصراحة: أولئك الذين لا يحكمون سياسة الأمور، ولا يريدون أن الدهاء خصلة محمودة، وإن من الدهاء أن يبقي الرجل بعض آرائه في نفسه، ولا يحرك بها لسانه؛ حيث يرى أن النفوس لم تتهيأ لقبولها، أو أن الحال لا يساعد على إنقاذها. وليس من الإفراط في الصراحة أن يخشى الرجل في سكوته عن قول الحق، ضياعَ هذا الحق، وظهور الباطل مكانه، فيصدع بكلمة الحق موطنًا نفسه على احتمال ما يلاقيه من أذى، فلا أعدّ القاضي مالكَ بنَ سعيد الفاروقي قد أفرط في الصراحة إذ أمره الحاكم العبيدي بن يكتب سبّ الصحابة على أبواب المساجد، فأبى أن يفعل، وكتب عليها: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، ولما قال له الحاكم: هل فعلتَ ما أمرتك به؟ قال: نعم، فعلت ما يرضي الرب -عَزَّ وَجَلَّ-، وقرأ عليه الآية، فأمر بضرب عنقه، فمات شهيداً، وحماه الله من أن تكتب يمينه شيئاً يجر إليه عاراً في الدنيا، وخزياً في الآخرة. ويمثل لك الطريق المعتدل للصراحة: أولئك الذين يجمعون إلى

الإخلاص والغيرة على الإصلاح روية ودهاء، فالإخلاص والغيرة يمنعانهم من التفريط في الصراحة؛ إذ لا يكون مع الإخلاص والغيرة جبن ولا طمع، ولا إيثار المنافع الشخصية على المنافع العامة، والروية والدهاء يمنعانهم من الإفراط في الصراحة؛ إذ يرون ببصائرهم المضيئة وألمعيتهم المهذبة المواطن التي يكون السكوت عن شيء، أو استعمال الكنايات الخفية، أفضلَ من التصريح به. ويظهر فضل الصراحة جلياً متى وقع بجانب الكلام المبهم أو المطلي بشيء من المواربة، كما ترى في قصة عمر بن هبيرة والي العراق في عهد يزيد ابن عبد الملك؛ إذ استدعى الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، والشعبي، وقال لهم: "إن يزيد خليفة الله أخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب لي بالأمر من أمره، فأقلده ما تقلده من ذلك الأمر، فما ترون؟ ". فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تقية. فأقبل ابن هبيرة على الحسن البصري، وقال له: "ما تقول يا حسن؟ ". فقال: "يا ابن هبيرة! خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله .. حتى قال له .. فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". فموقف الحسن البصري في هذه القصة ظاهر الفضل، وبمقارنته بموقف ابن سيرين والشعبي ازداد فضله ظهوراً. وإذا اقتضى الحال الصراحة، فإن لها أساليب تختلف باختلاف أحوال المخاطبين، فمن حسن بيان المتكلم أن يراعيها، ويصوغ عبارته في الأسلوب المناسب؛ حتى تأتي الصراحة بثمراتها الطيبة.

رسائل الإصلاح

رسائل الإصلاح (¬1) سيدي الأستاذ الجليل محرر مجلة الهداية الإسلامية الغراء! سلام الله عليك، ويعد: فتلك كلمة أملاها عليّ الحق، ويعثت بها إلى إحدى المجلات، فنشرتها مبتورة، فأرجو باسم حرية الرأي أن تتفضل بنشرها كاملة بمجلتكم، ولكم خالص الشكر. أحمد الشرباصي (¬2) تفضل الأستاذ الجليل الشيخ محمد الخضر حسين المدرس بكلية أصول الدين، وعضو مجمع اللغة العربية، ورئيس جمعية "الهداية الإسلامية"، فأهداني كتابه الجديد "رسائل الإصلاح"، فرأيت واجباً عليّ أن كتب عنه كلمة أعرف فيها القرّاء به، فهو من أمهات الكتب الإسلامية الحديثة التي يجب على كل مسلم يريد أن يصحح عقيدته، وأن يعرف دينه على حقيقته، أن يقرأها مثنى وثلاث. والشيخ محمد الخضر حسين رجل أهمُّ ما يتصف به الهدوء والاتزان ¬

_ (¬1) مجلة "لهداية الإسلامية" - الجزآن الخامس والسادس من المجلد الخامس عشر الصادران في ذي القعدة وذي الحجة 1361 هـ. (¬2) من كبار علماء الأزهر.

والعمق، فهو يفكر طويلاً، ويستقصي في بحثه، ويستوعب، ويدير الفكرة في ذهنه أياماً، ويأخذ لها زادها من إحساسه ومعارفه، ومطالعاته واستنتاجاته، ثم إذا جلس ليكتب، كتب في هدوء وأناة، يزن لفظه قبل أن يخطه، ويتدبر عبارته قبل أن يصوغها، فإذا ما جئت بعد ذلك لتقرأ ما كتب، أعجبك أن ترى عقلاً واسعاً نيّراً، وتفكيراً عميقاً سليماً، ونظرة بعيدة صحيحة، وأسلوباً رزيناً محكماً. ولعل بعض القراء الذين لا ينسون التاريخ، يذكرون للشيخ الخضر حسين أنه نصب نفسه في أحيان كثيرة مدافعًا عن الدين الإسلامي، مجاهداً أولئك الذين حاولوا في خبث ودهاء أن يقوضوا دعائم الشريعة المحمدية، والله يتم نوره ولو كره الكافرون، فلم يتخذ طريقة السب والشتم والمناداة بالويل والثبور، والإسراف في الغضب والثورة وسيلة إلى أداء واجبه نحو ربّه ونبيه. بل تناول قلمه الرزين العفيف المحكم الذي خط به كتابه "القياس في اللغة العربية"، ذلك الكتاب الذي يعد آية بينة على الدراسة اللغوية الصحيحة الأصول، المسددة الخطا، الطيبة الثمرات، فكتب بهذا القلم ردوده ودفاعه عن الإسلام، وأظهر تلك الردود في كتب كثيرة شرقت وغربت، وكان من جميل عمله، ونبيل خلقه: أنه في مجادلته أو نقده يورد عبارة المنقود بنصها، ثم يكر عليها بالهدم والتفنيد، دون أن يستعمل كلمة نابية، أو تصدر عنه عبارة جافية. بل يذكر القرّاء أن الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت وكيل كلية الشريعة الإسلامية كتب في بعض أعداد مجلة "الرسالة" مقالاً عنوانه: "الهجرة وشخصيات الرسول" ذهب فيه مذاهب هاجت عليه المسلمين في مصر وبعض

الأقطار العربية، ورأى الأستاذ الخضر أن في هذا المقال من الآراء ما هو خطأ محض، ولا يصح السكوت عليه. أفتدري ماذا فعل؟ لم يثر، ولم يغضب، ولم يرد على مقالة الأستاذ شلتوت بمقال مثله في عجلة وتسرع؛ بل أقبل على موضوع المقال، فدرسه دراسة العالم الخبير، وجمعَ الدلائل والشواهد على ما فيه من أخطاء، ثم جلس إلى مكتبه الهادئ العامر بمكتبته العظيمة في دار جمعيته، وكتب كتابه القيم "نقد مقالة الهجرة وشخصيات الرسول"، وطبعه فيما يزيد على تسعين صفحة، فعلى الذين قرؤوا مقالة الشيخ شلتوت، أو سمعوا بها: أن يحرصوا على قراءة هذا الكتاب الذي يعد مثلاً على الإنصاف في النقد، والعفة في المجادلة، والحكمة في الدعوة، حتى يتبين لهم الحق بعد أن يسمعوا كلام الفريقين. ونعود بعد هذا الإيضاح إلى "رسائل الإصلاح"، فنقول: إنه مجموعة من المقالات الممتعة التي كان يزين بها الأستاذ الخضر جيد مجلته "الهداية الإسلامية"، والجزء الأول من الكتاب يتحدث عن مسائل الأخلاق والاجتماع، فتقرأ فيه القول الفصل، والكلام الجزل، والحديث المؤيد بكتاب الله وسنّة رسوله، وأقوال السلف الصالح، وتراه يتناول أبحاثًا لها أهميتها، فيجيد في الدراسة والعرض، والاستتتاج والحكم؛ مثل حديثه عن: العلماء والإصلاح، والإنصاف الأدبي، والدهاء والاستقامة، والرفق بالحيوان، والتعاون في الإسلام، والنبوغ في العلوم والفنون، وغير ذلك. وقد صدر هذا الجزء في (240 صفحة) من الحجم الكبير، والجزء الثاني من الكتاب تابع للأول في أبحاثه وموضوعاته، ولكنه لم يظهر (¬1) لأسباب ليس ¬

_ (¬1) طبع الكتاب فيما بعد.

هنا مجال الحديث هنا، بل صدر الجزء الثالث، وهو يتحدث عن مسائل علم الأصول؛ كالقياس، والاستصحاب، ومراعاة العرف، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، والسنّة والبدعة، وغير ذلك، وهذا الجزء يهم الذين يشتغلون بدراسة علم الأصول في كليتي أصول الدين والشريعة؛ لأن مؤلفه استطاع فيه أن يعرض مسائل هذا العلم مصفاة مجلوة، تأخذ طريقها إلى العقل والذاكرة في سهولة ويسر. وسيرى المطالع لكتاب "رسائل الإصلاح" أنه ثمرة لجهاد علمي طويل، بذل فيه صاحبه ما بذل من وقته وجهده وتفكيره، وأنت حينما ترى الأستاذ الخضر حسين، أو تجلس إليه، تعجب لهذه الشخصية النبيلة التي تفيض خلقًا وأدبًا، وتطيل الصمت والسكوت، ولا تتكلم إلا بقدر، ولا تنطق إلا بحياء، وقد تقول: كيف استطاع ذلك الشيخ الكبير أن يصبر لمتاعب التفكير والتأليف والكتابة والطباعة؟ ولكنك لو علمت أن في هذه الأثواب الرهيبة أسداً إسلامياً طالما ضحّى وجاهد، وطالما دعا إلى الله، وعمل لثه، ولو علمت ما يجب أن تعلمه من تاريخ الخضر حسين، لأدركت أن وراء هذا الهدوء ثورة، وأن هذا الشخص يحكمه عقل جبّار، وتزينه روح مؤمنة لا تعرف هوادة ولا لينًا، ولا راحة في سبيل العمل للعلم والدين.

المكتبة العربية: رسائل الإصلاح

المكتبة العربية: رسائل الإصلاح (¬1) زوّد السيد محمد الخضر حسين المكتبة العربية بكتابه: "رسائل الإصلاح" الذي صدر الجزء الأول والثالث منه في الأخلاق والاجتماع، تناول فيه كثيراً من المسائل الحيوية التي تتصل بحياة الإنسان اتصالًا وثيقًا، وبحثها بحثًا منطقيًا غيرَ متعصب لآراء السابقين، أو مشايم فيها جنوح المجددين المندفعين، وإنما سار فيها مستضيئاً بنور اليقين، وكتاب الله وسنّة سيد المرسلين، فجاعت البحوث آية من آيات البيان، دالّة على صدق إخلاصه لرسالته، وإيمانه بدعوته، معتمداً على الله في سبيل نجاح غايته. ويكاد يكون كل مقال من الكتاب موضوع رسالة تؤلف فيها الكتب، ولكن توفيق الله للأستاذ هيأ له من سلاسة العبارة، وحسن الأسلوب، وبلاغة البيان ما أقدره على إدماجه في مقال، هو زبدة ما يكتب فيه، مدعم بالأسانيد والأدلة، فلا تفرغ من قراءته حتى تصدق ما فيه داعيا إلى سبيله، ولا تنتهي من مقال حتى تبدأ المقال الذي يليه، ولا تفرغ من هذا الجزء حتى تدعو الله أن يوفق الشيخ إلى إتمام إصدار بقية أجزاء الكتاب، حتى ترتوي من فيض هذا البحر الخضم، وإني لأدعو الآباء أن يجعلوا هذا الكتاب مما يذخرونه لأبنائهم، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الرابع من المجلد الخامس عشر، الصادر في شوال 1361 هـ.

ويحثونهم على قراءته، والتبصر فيه؛ فهو مصباح يستضاء به في ظلمات هذه الحياة. مدّ الله في عمر الشيخ، ونفعنا بعلمه وفضله، وجزاه خير الجزاء، إنه - سبحانه وتعالى- خير من يستجيب الدعاء. آمين. المربي الفاضل عبد الفتاح مصطفى

9 - الدعوة إلى الإصلاح

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (9) «الدَّعْوَةُ إلى الإِصْلاحِ» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة للمصلح الكبير الإمام الأكبر المرحوم محمد الخضر حسين رسالة: "الدعوة إلى الإصلاح"، وهناك - إلى جانب هذه الرسالة القيمة - مقالات ومحاضرات عن الإِصلاح الديني، منها: ما نشر في مجلة "الهداية الإسلامية" التي كان يصدرها الإمام في القاهرة، ومنها: محاضرات ألقاها في النوادي الاجتماعية. وقد طبعت رسالة: "الدعوة إلى الإصلاح" للمرة الأولى عام 1346 هـ، وكان لها شأن عظيم؛ لما احتوته من أسس يعتمدها أي مصلح يبادر لحمل عبء الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة. ضممت إلى الرسالة المقالات والمحاضرات في كتاب يحمل عنوان الرسالة: "الدعوة إلى الإصلاح"، وألحقت بها مذكرات هامة وجهها الإمام إلى الحكومة المصرية في طلب العناية بالتعليم الديني والتربية الدينية بالمدارس المصرية، وسيجد القارئ المسلم في هذه المذكرات ما يصلح للأخذ بها في كل زمان ومكان؛ نظراً للمبادئ الواضحة التي قررها الإِمام الأكبر - رضوان الله عليه -.

أن العم الإمام لم يكتب في الدعوة إلى الإِصلاح، إلا بعد بلوغه المكانة العلمية المرموقة، وأن هذه الرسالة تعتبر صورة صادقة عن حياته. والله نسأل السداد والتوفيق. علي الرّضا الحسيني

مقدمة الإمام محمد الخضر حسين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الإمام محمّد الخضر حسين يبحث الكتّاب عن العلل التي لبست الأمم الإسلامية، وقعدت بها في خمول، حتى ضربت عليها الدول الغربية بهذه السلطة الغاشمة؛ ويوردون في نتيجة بحثهم أسباباً شتى. وأنت إذا تدبرت هذه الأسباب، وجدت السبب الحق منها يرجع إلى تهاون هذه الأمم بتعاليم الشريعة، ونكث أيديهم من المشروعات التي عهدت إليهم بالقيام عليها. والعلة في ضعف هممهم، وقلة إقبالهم على ما أرشد إليه القرآن - من وجوه الإصلاح ووسائل المنعة والعزة - إنما هي تقصيرهم في التواصي بالحق، وعدم استقامة زعمائهم على طريقة الدعوة والإرشاد. هذا ما استثار الهمة، وأخذ برأس القلم يجرّه إلى البحث في مشروع الدعوة إلى الإصلاح؛ لعله يبسط من حقائقه وآدابه جملًا كافية، ويملك بتأييد الله زمامه. محمّد الخضر حسين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي رفع منازل العلماء المصلحين، وأعلى كلمتهم في نفوس قوم مخلصين. والصلاة والسلام على من أبلغ فرائضَ هذا الدين وسننه، ودعا إلى سبيل ريه بالحكمة والموعظة الحسنة. ثم الرضا عن آله وصحبه الذين أُخرجوا للناس في أحسن تقويم، وهدوا الأمم بالحجة والأسلوب الحكيم. * * * الدعوة إلى الإصلاح الحاجة إلى الدعوة - الدعوة في نظر الإسلام - المبادرة إلى الدعوة - التعاضد على الدعوة - من الذي يقوم بالدعوة؟ - الاخلاص في الدعوة - طرق الدعوة- أدب الدعوة- سياسة الدعوة - الإذن في السكوت عن الدعوة - علل إهمال الدعوة - آثار السكوت عن الدعوة - ما يُدعى إلى إصلاحه.

الحاجة إلى الدعوة

الحاجة إلى الدعوة في فطرة الإنسان قوّة يعقل بها طرق الصلاح والفساد، ويفقه بها الحق والباطل. ولكن هذه القوة العاقلة لا تستقلّ وحدها بتمييز المعروف من المنكر، وليس من شأنها أن تطلع على كل حقيقة، ولا أن تدبر أعمال البشر على نظام لا عوج فيه؛ فإنها- وإن بلغت في الإدراك أشُدها - قد تنبو عن الحق، ويعزب عنها وجه المصلحة، ولا تهتدي إلى عاقبة العمل؛ وربما ألقت على الحسنة نظرة عجلى، فتحسبها سيئة، وقد يتراءى لها الشر في شبهٍ من الخير، فتتلقاه بالقبول. وقد تصدى رجال من أصحاب هذه القوى العاقلة للبحث في نشاة الخليقة، فكانت عاقبة بحثهم: أن خرّوا للأحجار أو الكواكب أو الحيوان سُجّداً. وتصدى آخرون لإنشاء نظُم اجتماعية، فوضعوا ما يذهب بالجماعة في غير طريق، ويكبو بها في خسار؛ وأمثلة هؤلاء مشهودة حديثاً، ومضروية في كتب التاريخ قديماً. وليس القانون الذي يسيغ المقاتلة الشخصية (المبارزة) إلا صنع نفس عريقة في الهمجية، وليس القانون الذي يساعد الفتيات على إراقة ماء الحياة والعزّة من وجوههن، والزهد في صيانة أعراضهن، إلا وليد عقل غمرته الغباوة، أو حفت به الشهوات من كل ناحية. وأراد ذو عقل كبير - وهو الحجّاج بن يوسف - معاقبة شخص على جريمة ارتكبها بعض ذوي قرابته، فدافعه بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، فما كان إلا أن استمع للآية وارْعوى.

وإذا وقف صاحب القوة العاقلة على وجه الخير أو الشر، فقد يساوره الغضب، أو تسيطر عليه اللذة، فيترك الصالح، أو يأتي المنكر، ولا يبالي بما يوقعه فيه التهاون بالصالحات، أو ارتكاب المنكرات من شقاء بعيد. وقد تخلص النفوس من تخبط الغضب، أو أسر الشهوات، ثم لا يستطيع أصحابها البقاء دون أن ينشب بينهم نزاع؛ فإن المدارك تتفاوت إما بحسب فطرتها، وإما بالنظر إلى استعدادها المكتسب من التجارب، فترى الرجل يستحسن عينَ ما يستقبحه غيره، بل النفس الواحدة قد يبدو لها الأمر حسناً في حال، فإن لم يوافق غرضها في وقت آخر، انقلب في رأيها شيئاً نكراً. وكثيراً ما يشتمل الأمر في الواقع على وجهي الإثم والمنفعة، فيريد بعضهم جلب منفعته، فيسعى في تقريره، ويرغب آخر في درء مفسدته، فيلوي عنها صفحاً. وربما يشاهد الإنسان الحادثة تنزل بغيره، فيقضي عليها برأي، ولو عرضت له في نفسه، وأدرك مقدار تأثيرها، لعاد إلى الحكم عليها بأشدّ مما قضى به أولاً، أو أدنى. ولما كانت الأنظار تقصر، والأهواء تتغلب، والعقول تتفاوت وتختلف؛ اشتدت حاجة الناس إلى مصلح إلهيّ يطلق نفوسهم من قيود الأوهام، ويهديهم السبيل إلى ما فيه خير، وينذرهم عاقبة الانهماك في اللذائذ، ويعلمهم كيف يتحامون الفتنة إذا اختلفوا. هذا وجه من حكمة بعثة الأنبياء - عليهم السلام -, وصعودهم بالناس إلى مراقي السعادة، وإقامتهم القضاء على أسس عادلة. فبهذه الدعوة الإلهية لبست النفوس أدبًا ضافيًا، وأخذ الاجتماع سُنّة منتظمة، وبصرت العقول بحقائق كانت غامضة. وإذا كان للشرائع السماوية مزية تقويم النفوس، وإنارة البصائر، وفتح طرق الحكمة؛ فإن نصيب الإسلام

من هذه المزية أوفر وأجلى. وما برح الناس - بعد انطواء عهد النبوة - في حاجة إلى من يعلمهم إذا جهلوا، ويذكرهم إذا نسوا، ويجادلهم إذا ضلوا، ويكفُّ بأسهم إذا أضلوا. واذا سهل عليك أن تعلّم الجاهل، وتذكر الناسي، فإن جدال الضال، وكف بأس المضل لا يستطيعهما إلا ذو بصيرة وحكمة وبيان. وما برحت العصور تلد من الضالين المعاندين، والمضلين المخادعين، من يحاولون إثارة الفتن، وإطلاق النفوس من قيد الأدب والعفاف؛ وفي كل عصر لا يفقد هؤلاء أولي عزم وإخلاص يقرعونهم بالحجة، ويهتكون الستار عن مكايدهم؛ فيزهق باطلهم، وترهق وجوههم قترةُ الخيبة والخذلان. ولا تنس أن المضلين المخادعين في هذا العصر قد تهيأ لهم من وسائل الدعاية ما لم يتهيأ لإخوانهم الغابرين: فمن نوادٍ تفتح، وصحف تنشر، وجمعيات تعقد، وأموال تنفق، وجاه يبذل، وسلطات تمالئ وتستبد؛ وهذا ما يجعل الدعوة الرشيدة من أفضل الواجبات، وأحمد المساعي، وهذا ما يقضي على حكماء الأمة بأن يعدّوا للدعوة ما استطاعوا من قوة، ويكسروا شوكة هذه النفوس المحشوّة بالغواية والشهوات، قبل أن تبلغ أمنيتها. وهناك طائفة لم تفسق عن جحود وتمرد، وإنما أُتيت من قِبل الجهل، وعدم صفاء البصيرة، فوضعت بجانب حقائق الإسلام ما يتبرأ منه الإسلام؛ ومن أيدي هؤلاء نزلت البدع، ومن ألسنتهم هبطت المزاعم والخرافات، ومن آرائهم دخل في الكتاب والسنّة ضرب من سوء التأويل. وحاجتنا إلى تقويم أصحاب هذه البدع، تضاهي حاجتنا إلى إنقاذ النفوس الزاكية من أن تقع في حبائل أولئك الذين يضلون عن سبيل الحياة الطيبة، ويبغونها عوجاً.

الدعوة في نظر الإسلام

الدعوة في نظر الإسلام للدعوة الأثر الكبير في فلاح الأمم، وتسابقها في مضمار الحياة الزاهرة، وهذا ما يجعلها بالمكانة السامية في نظر الشارع الحكيم، وقد ألقى عليها الإسلام عناية شديدة، فعهد إلى الأمة بأن تقوم طائفة منها على الدعاء إلى الخير، وإسداء النصيحة للأفراد والجماعات. قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. فالآية ناطقة بأن الدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فريضة ملقاة على رقاب الأمة، لا تخلص من عهدتها حتى تؤديها طائفة على النحو الذي هو أبلغ أثراً في استجابة الدعوة وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي. والدعوة إلى الخير- كسائر فروض الكفاية- يوجه خطابها إلى الأمة بقصد إفهامهم وإعلامهم. ومناط التكليف والإلزام إنما هو طائفة يتفق أهل الحل والعقد على تعيينها، أو تتقدم إليه من تلقاء نفسها. وإذا قلنا: إن الخطاب بفرض الكفاية، والإعلام به يتوجهان إلى الأمة، فإنما نريد من الأمة: القادرين على القيام به خاصة، وهؤلاء هم الذين تحقُّ عليهم كلمة العذاب حيث لا تنهض به طائفة منهم، فلا جُناح على من لا يستطيع الدعاء إلى خير، أو الدفاع عن حق إذا سكت المستطيعون إليه سبيلاً. ولو ضل قوم عن سبيل الخير، أو جهلوا معروفاً، أو ركبوا منكراً، وقامت طائفة تدعوهم،

أو تأمرهم، أو تنهاهم بأسلوب ليس من شأنه التأثير على أمثالهم، لبقيت هذه الفريضة ملزمة في أعناق الذين يستطيعون أن ينفذوا بألمعيتهم إلى نفوس الطوائف، ويصوغوا إرشادهم وموعظتهم على الطراز الذي تألفه نفوس الطائفة التي يحاورونها. وليست القدرة على الدعوة في قوتي الحجة والبيان وحدهما، بل تأخذ معهما كل ما يتوقف عليه إقامة الدعوة؛ كوسائل نشرها في بيئة نفقت فيها سوق الفسوق، أو خفقت فيها ريح الإلحاد؛ فهذه الفئة الموعز إليها بالدعاية إلى غير هدى وغير أدب، قد ملكت لنشر باطلها وسائل أهمها الإنفاق؛ وإذا وجب على الأمة أن تميط أذى هذه الدعاية عن طريقها، فخطاب هذا الواجب يتوجه إلى الكتّاب والخطباء، ثم إلى كل من له شيء من القدرة على البذل في سبيل الدعوة، كفتح نوادٍ لإلقاء المحاضرات، وإنشاء صحف، أو مساعدة صحف تُظاهر الدعوةَ بإخلاص. رَفع كتابُ الله منزلةَ القائمين على خطبة الإرشاد، ومن آياته المحكمات قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، فالآية تومئ إلى أن المخاطبين بها يفضلون على سائر الأمم، وإنما نالوا هذه الأفضلية بمزية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله. ومن يطلق النظر فيما يتجشمه الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر من أخطار، وما يلاقونه من أذى؛ ثم لا يلوون أعنَّتهم إلى راحة، ولا يحملون أنفسهم على مصانعة أو إغضاء؛ يعرف أن هنالك بصائرَ ساطعة، وعزائم متوقدة، وهمماً ينحطُّ أمامها كل عظيم. أفلا يكون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر خير أمة أخرجت للناس؟

نوَّه التنزيل بشأن المصلحين، ثم أنحى باللعنة على من يؤتون الحكمة ولا يبسطون ألسنتهم ببيانها، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]. فالآية نزلت في وصف حال فريق من غير المسلمين؛ ولكن حكمها- وهو استحقاق اللعن- لا يقف عند حدَّهم، بل يجري على كل من درس آيات الله، أو قبض قبضة من أثر هدايته، ثم أمسك عن بيانها، والناس في جهالة أو حيرة يتخبطون. وكذلك يقول علماء الأصول: إن مقتبس الأحكام من الآيات لا يقتصر على سبب نزولها، بل يمشي في تقرير معانيها على قدر ما يسعه عموم لفظها. الحقائق التي لا يسوغ كتمانها هي ما ينبني على العلم به أثر في صحة اعتقاد، أو أدب نفس، أو استقامة عمل، فإن كانت من قبيل ما هو من مُلح العلم، فلا حرج عليه في احتكارها، والسكوت عن بيانها. حكى الشيخ ابن عرفة في درس تفسيره: أنه دخل على شيخه ابن الحباب، وجعل ينظر في كتبه، فمنعه من استيفاء النظر فيها، وقال له: للشيخ أن يمتاز عن طلبته بزيادات لا يخبرهم بها. وعمد بعض الناس لعهد الصديق - رضي الله عنه - إلى قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، فتأوله على غير صواب، فقام الصدّيق خطيباً، وقال: إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]، وتضعونها في غير موضعها، وإنني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولم ينكروه، يوشك أن يعمهم الله بعقاب".

ولم ينقطع أثر ذلك التأويل الخاطئ، فظلَّ في أوهام بعض العامة إلى هذا العهد، حتى إذا أمرتَ أحد هؤلاء بمعروف، أو نهيته عن منكر، ألقى عليك الآية؛ كالمستشهد بها على أنك تخطيت حدَّك، ورميت بكلامك في فضول. ومنهم من يتلوها على قصد الاعتذار، وتبرئة جانبه من اللائمة متى شهد منكراً، ولم يغيره بيده أو لسانه أو قلبه الذي من أمارات تغييره البعد عن مكان الواقعة المنكرة. ومعنى الآية الذي تطابق به غيرها من الآيات الآمرة بالدعوة: أنكم إذا استقمتم كما أُمرتم، وقضيتم الواجبات التي من جملتها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكرة فلا يضرّكم من اشتدَّ به هواه، وتطوَّح به في واد من الغواية. ولا تُقدَّر الدعوة الواجبة بعدد، أو تضبط بقدر من الزمن إذا قضاه الداعي برئ من عهدتها، وإنما يُرجع في إبلاغها واستئنافها مرة أخرى إلى اجتهاد الداعي، ورجائه تأثيرَها، وأخذها في نفوس المدعوّين مأخذ القبول. وإذا دعا العالم طائفةً إلى إصلاح شأن من شؤونهم، فعتوا عن أمره، واستكبروا عن إجابته، حتى أيس من إقبالهم على نصيحته، واستيقن عدم الفائدة من تذكيرهم، خلصت ذمته، ولا جناح عليه أن يقف عند هذه الغاية. وحمل بعض المفسرين مفهوم الشرط في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] على مثل هذا الحال، وبيان هذا التاويل: أنك إذا قمت بذكرى قوم على الوجه الأكمل، ولم ينتفعوا بالذكرى، وتمادوا على غوايتهم، فقد قضيت حق الدعوة، ولا عليك في أن تصرف عنهم نظرك، وتدعهم إلى أيام الله. ولا يقطع الداعي بعدم نفع الذكرى، وضياعها كصيحة في فلاة، إلا

إذا وجه بخطابها إلى قوم معينين مرة بعد أخرى حتى عجم عيدانهم، وكان على ثقة مما انطوت عليه نفوسهم من التقليد في الباطل، وإنكار الحقيقة في أي صورة ظهرت. أما مَن دأبه النصيحة العامة - كخطباء المنابر وأرباب الصحف -, فلا يحق لهم أن يهجروا الإرشاد، وإن شهدوا قلة تأثيره في قوم بأعيانهم، فما يُدريهم أن تصادف نفوسًا مستعدة للخير، فتقودها إلى سواء السبيل. قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]. وما سطع الإيمان في نفس إلا كانت كالبلد الطيب يُخرج نباته بإذن ربه، فابذر فيها من الحكمة والموعظة ما شئتَ أن تبذر، فلا تريك إلا نيات صالحة، وأعمالاً راضية. وكثيراً ما يستخف الناس بالأمر تلقى له الخطبة، أو تؤلف فيه المقالة، فماذا تتابم الترغيب فيه، أو التحذير منه، ولو من المرشد الواحد، أخذوا يعنون بشأنه، ويتداعون إلى العمل به، أو الإقلاع عنه.

المبادرة إلى الدعوة

المبادرة إلى الدعوة الدعوة نوعان: دعوة يُقصد بها إنقاذ الناس من ضلالة أو شرّ واقع، ودعوة يُقصد بها تحذيرهم من أمر يخشى عليهم الوقوع في بأسه. أما الأولى، فيتحتم القيام بهالأول وقت ممكن، ويلوّح إلى هذا الواجب قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20]. فقوله: {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} إظهار لعناية هذا الداعي، وشدَّة رغبته في الإصلاح حيث لم يثبطه بُعد المسافة عن السعي إليه، والوفاء بحقه. وقوله: {يَسْعَى} تذكرة لدعاة الإصلاح، وإيقاظ لهممهم؛ كي ينفقوا في هذه الغاية وسعهم، ويسارعوا إلى النصيحة جهدهم؛ لأن السعي في لسان العرب بمعنى العدْو والمشي بسرعة. وأما النوع الثاني من الدعوة، فإن كان مما ينشأ عن تأخيره حرَج، التحق بالأمر الواقع، ووجبت المبادرة إلى الدعوة حسب الطاقة، وإن كان بينك وبين وقوعه فسحة، جاز إرجاؤها إلى زمن الحاجة. وما يقوله بعض أهل العلم من جواز السكوت عن العلم إلى أن يُسأل عنه إنما يحمل على هذا النوع الذي لم يدعُ الحال إلى معرفته في الوقت الحاضر. حكى القاضي عياض في كتاب "المدارك": أن سحنون وصاحبي عون ابن يوسف، وابن رشيد دخلوا على أسد بن الفرات، فسألهم عن مسألة،

فابتدر لجوابه صاحبا سحنون، وسكت سحنون، فلما خرجوا، قال له صاحباه: لمَ لم تتكلم؟ فقال سحنون: ظهر في أن جوابكما خطأ؛ وبيَّن لهما ذلك، فقالا له: لمَ لم تتكلم بهذا ونحن عنده؟ فقال: خشيت أن ندخل عليه ونحن أصدقاء، ونخرج ونحن أعداء. قال القاضي عياض: وسكت سحنون حين علم أن القضية لا يفوت أمرها، ولو علم ذلك لبادر، بما ظهر له.

التعاضد على الدعوة

التعاضد على الدعوة ذكر بعض أهل العلم أن قيام الواحد بفريضة الدعوة كافٍ، واستشهدوا بقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. وقالوافي وجه الاستشهاد: إن الطائفة في لسان العرب: الواحد فما فوقه. وهذا القول مستقيم بالنظر إلى إبلاع الأمر والنهي، ووضع الحق بين أيدي الغافلين عنه. أما من حيث فعل الدعوة في النفوس، ودخولها مدخل الإقناع، فمن البيّن بنفسه أن للدعوة التي تقوم بها الجماعة أثراً لا تبلغه دعوة الفرد، وربما كان النظر في هذا يرجع إلى حال المدعوين، أو حال ما تتعلق به الدعوة، أو ما يقصد من الدعوة. أما النظر إلى حال المدعوين، فقد يغني العدد القليل في دعوة جماعة تتقارب مشاربهم، وتتشابه أحوالهم النفسية، أما إذا اختلفت مشاربهم، وتعمَّدت نزعاتهم، فلكثرة القائمين بالدعوة، وتظاهرهم عليها وقعٌ في نفوسهم، وأخذٌ لها من بين تلك النزعات المتباينة، والمسالك المتشعبة؛ فإن الدعاة إذا تعمَّدوا، اختلفت أساليبهم في الدعوة غالباً، وقد يبدو للداعي من وجوه تحسين الأمر أو التنفير منه ما لا يخطر على بال آخر، وإن كان أغزر علماً، وأوسع نظراً، وقد تخضع النفس لأسلوب دون أسلوب، وتهتدي بطرز من الجدل أو الموعظة أكثر مما تهتدي بغيره، ولو كان أقرب دلالة بحكم المنطق، وأوضح إنتاجاً.

وأما حال ما تتعلق به الدعوة، فإن الإرشاد إلى أحكام الدين العملية - مثلاً - أيسر من إصلاح العقائد ووضع الإيمان موضع الجحود بالله، فداعي المطمئنين بالإيمان إلى مثل الأحكام العملية إنما يتلو قرآناً أو حديثاً، أو نصوصَ من يُقتدَى باجتهادهم، والداعي إلى الإيمان يقصد إلى نقل النفوس من ملة إلى ملة، وتحويلُ النفوس من عقيدة إلى أخرى يبلغ من الصعوبة أن يحتاج دعاته إلى من يشد أزرهم في إبلاغ الحجة، أو مطاردة الشبهة، وكذلك سأل موسى - عليه السلام - ريه أن يجعل أخاه هارون شريكًا له في الرسالة، فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29 - 32]. وبَعث عيسى - عليه السلام - إلى أهل أنطاكية برجلين اثنين؛ ليدعواهم إلى الإيمان، فقابلوهما بعناد وتكذيب، فأضاف إليهما ثالثاً يؤيد بعثتهما، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 13، 14]. وأما حال ما يقصد من الدعوة، فإنك ترى رجالاً انحرفت عن أدب الإسلام قلوبهم، وساعدتهم الأيام على أن أصبحوا يسيطرون على بعض شعوبه، ويفسدون عليهم دنياهم وآخرتهم، فيعتدون على أحكام دينهم، ويناصرون الأشخاص الذين يملؤون أفواههم بالجهل على رسوله الاكرم. فإذا كان أولئك المنحرفون عن أدب الإسلام ممن لا يُقبِلون على الحق بعين باصرة، أولا ينقادون إلى الحقائق المبصَرة، فمن المحتمل ألا يراد من دعوتهم إصلاح نفوسهم، وإنما يراد منها صرفهم عن هذه السيرة الخرقاء، وإراءتهم أن الأمة التي تتقلد الإسلام شريعة لا تستطيع أن تبقى أمامَ تعسفهم هذا معقودة الألسنة، أو مقبوضة الأيدي. فالذين يرضون عن عبث هذه الأرواح

غير الطيبة، إنما يغني في دعوتهم جماعة من زعماء الأمة لا يحوم على ألسنتهم مَلق، ولا يشترون متاع هذه الحياة بكتمان ما أوتوا من حكمة، فيوقظونهم من غرورهم، وُيرونهم أن العزَّة للمؤمنين. أما صوت الواحد ونحوه، فإنما يلقى منهم آذان الصمّ الذين لا يفقهون. وإنما تفيد كثرة الدعاة عند اتحادهم وقصدهم إلى إقامة المصالح، ونصرة الحقيقة في نفسها، وبذلك أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا موسى، ومُعاذَ بن جبل حين بعثهما إلى اليمن: قال لهما: "يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفرّا، وتطاوعا". وُيشعر بهذا الشرط التعبير عن الدعاة باسم "الأمة" دون "القوم " في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104]. قال القفّال: الأمة: القوم المجتمعون على الشيء الواحد، يقتدي بعضهم ببعض، مأخوذ من الائتمام. وهو الوجه في إيثار التعبير به أيضاً في آية: وَ {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)} [الأعراف: 159]، فإن لفظ: "القوم" يطلق في اللسان على عدد أقلّ مما يطلق عليه لفظ: "الأمة"، وهو من هاته الجهة أنسب عادة بدعاة الإصلاح، لقلة عددهم، ولفظ: "الأمة" أليق بسائر الأفراد؛ لكثرتهم؛ ولكنه اختير للدعاة اسم "الأمة"؛ لأن إشعاره بمعنى اتحادهم وتآلفهم أقوى مما يشعر به لفظ: "القوم". فالقرآن يرشد إلى أن يكون دعاة الإصلاح جماعة، وأن يكون أدب هذه الجماعة الاتحاد والتعاضد. ومن الواجب صرف الهمة إلى مشروع الدعوة حتى تقام على نظام يحفظ الحقائق والمصالح، أما بقاؤها مطروحة إلى داعية الأفراد، فقد يفضي بها إلى ضياع، وطالما جعلها تفقد حيث يجب أن تكون.

من الذي يقوم بالدعوة؟

من الذي يقوم بالدعوة؟ أطلق الإسلامُ في أمر الدعوة، فأعطى لكل إنسان الحقَّ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى أذن لأدنى الناس منزلة أن يصعد إلى مقام الأمير الأعلى، ويجاهره بالنصيحة وطلب الإصلاح. وقد كان الفرد من سائر الناس يأمر الولاة في عهد السلف وينهاهم. روى البخاري في "جامعه الصحيح" عن طارق بن شهاب، قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة: مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد تُرك ما هنالك، قال أبو سعيد الخدري: أما هذا، فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله يقول: "من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطعْ، فبلسانه، فإن لم يستطعْ، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". وجاء في حديث آخر رُوي في الصحيح أيضاً: أن أبا سعيد هو الذي جذب بيد مروان - حين رآه يصعد المنبر -، فردَّ عليه مروان بمثل ما ردَّ به على ذلك الرجل. ولعلهما قضيتان كما قال شارحوالحديث: إحداهما وقعت لأبي سعيد، والأخرى كانت من الرجل بحضرته. ويضاهي هذا ما روى مسلم في "صحيحه" عن كعب بن عجرة: أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً، فقال: انظروا إلى

هذا الخبيث يخطب قاعداً، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]. واعتبروا بعد هذا في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، وقوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79]، فالتعبير بصيغة الفاعل في قوله: {وَتَوَاصَوْا}، وقوله: {لَا يَتَنَاهَوْنَ} يدلُّ على تبادل الوصاية، والتناوب في النهي عن المنكر. ويشير إلى أن الشخص الذي يُوصي آخر بحق، أو ينهاه عن منكر، لا يعلو به قدره عن طاعة ذلك الموصَى أو المنهي إذا دعاه إلى صالح، أو إلى النزوع عن باطل. ويجري على هذا الباب: أن الفقهاء يطلقون للخصوم أن يخاطبوا القاضي بنحو: "اتق الله"، أو "اذكر الله"، ولم يعدّوه من اللمز بقلة التقوى. ولو أجري على مثل هذا حكم الجفاء أو الطعن الذي يستحق به الخصم الأدب، لاتخذه الحاكم المستبد ذريعة إلى كفّ الرعية، وسدّ أفواههم عن إحضاره النصيحة، ودعوته إلى القيام بصالح الأعمال. يروى أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب في كلام دار بينهما: "اتَّقِ الله"، فأنكر عليه بعض الحاضرين، وقال له: أتقول لأمير المؤمنين: اتق الله؟ فقال له عمر: دعه فليقلها لي، نِعْمَ ما قال؛ لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها. إنما يعتمد في شرط المصلح: أن يكون على بيّنة من حكم ما يأمر به، أو ينهى عنه، تلك المزية المومأ إليها بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، وقوله تعالى: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].

والناس في إدراك الحقائق أربع طبقات: فمنهم: من يشعر بوجه الحق، فيستولي عليه نظراً وعلماً، وفي استطاعته أن ينصب عليه الدلائل الصريحة؛ ليهتدي بها المقتدون على أثره. ولا تنبعث أمة من مرقدها، وتمتطي غارب عزّها إلا إذا نبتت فيها نابتة من أهل هاته الطبقة. ومنهم: من لم يبلغ في قوة الشعر وسرعة المخاطر أن ينتبه إلى جهة الحق من تلقاء نفسه، ولو ترك بحاله، وخُلي سبيله، لتمادى في جهالته، واستمر على غوايته. ولكنه يسمع الكلمة تشير إلى موضع الحق، فيرمي ببصره إليه، ويأخذ في نصب الدلائل الموصلة إلى معرفته. وبعض الناس لا ينتبه للحق بنفسه، ولا يتمكن من إقامة الشواهد عليه لو أنبأته بناحيته، فيفتقر إلى أن تأخذ بيده، وتقوده بما تلقيه من الأدلة حتى يراه رأي العين. إلا أنه انطوى على فطرة سليمة، ونظر صحيح، فلا يمكنك بعد أن يفقه الرشد، ويستقرَّ على علم أن تنتزعه منه، وتغرس في مكانه جهلًا أو ضلالاً. وفي الناس من يلقي زمامه إلى أيدي الدعاة، ويتلقى أقوالهم بالطاعة، دون أن يكلفهم الدليل على صحة قضية، أو الوجه في بيان حسن عمل، وإنما يعتمد في الاقتداء بهم على ما اشتهروا به من نحو العلم والاستقامة وكثرة المريدين من أولي الأحلام الراجحة. وعلامة هذه الطبقة: أن يرجع مرشدهم عما بثه من علم، أو ندب له من عمل، فينقلبوا معه إلى تقليد مذهبه الجديد. ولا يختص بواجب الدعوة أهل الطبقة العالية وما يقرب منها؛ فإن من الحق ما يكون واضحاً بنفسه، أو بدليل متوافر؛ بحيث لا يتأتَّى فيه نزاع،

ولا يحتاج الأمر فيه إلى تقرير حجة، أو إزالة شبهة؛ كفريضة الصلاة، وفضيلة العدل، والعمل لتخليص الوطن من سيطرة الأجنبي؛ فأمثال هذه الحقوق إنما يهملها مستطيع القيام بها لآفة سهو، أو داعية هوى. فيحق لكل مسلم - وإن كان من أهل الطبقة السفلى- أن يذكّر فيها غيره، ويوصيه بها، وإن كان من أهل الطبقة العليا. وأما ما لا تدركه العامة من الحقائق، ويضطر الداعي إلى أن يورد في بيانه الأدلة، ويطارد الشبه، فأمر الدعوة إليه من حق العلماء القادرين على تحرير بحثه، وحسن التصرف في سَوق أدلَّته. يأخذ بعض أهل العلم في وصف الداعي أن يكون صالحًا في نفسه، مستقيمًا في سيرته. وهو شرط صحيح بالنظر إلى انتفاع الناس بإرشاده، وتسابقهم إلى إجابته؛ فإنهم- على ما نرى ونسمع- لا تلين قلوبهم لموعظة واعظ، ولا يقتدون برأي مرشد إلا إذا وثقوا بأمانته، وأبصروا في حالته الظاهرة مثالاً لما ينصحهم به. وقد تبرأ شعيبٌ - عليه السلام - من مخالفة قومه إلى ما حذَّرهم منه، فقال: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]. وجاء في كثير من الآيات المسوقة في فضل الدعوة ذكر صلاح الداعي في نفسه، واستقامته في عمله، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33]، وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]،. وجاء في التنزيل مافيه تقريع وتعجب من حال الذي يلقي الموعظة، ويبسط لسانه بالأمر بالمعروف، وهو يترك العمل به ناحية قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، وفي هذه الآية شاهد على أن من

أرشد غيره إلى صالح، وهو قابض يده عنه، أو حذره مفسدة، وهو لا يغادر موضعها، فقد خالف مقتضى الحكمة، ودخل في قبيل الذين لا يعقلون. يتوهم بعضُ الناس أن الدعوة إلى احترام حقائق الإسلام وآدابه إنما هي شأن من شؤون علماء الدين، وربما ذهب بهم الوهم في مصر، أو في تونس- مثلاً - إلى أنها شأن علماء الأزهر، أو جامع الزيتونة؛ وانبنى على هذا أن بعض من يدرس حقائق الإسلام وآدابه، ويستطيع بيان حكمتها، ودفع شبه المضلين عنها؛ لا يهز في هذا الغرض قلمًا، ولا يحرّك به لسانًا، ثم لا ترى له من عذر عن هذا التقصير سوى أنه لم يكن من أصحاب العمائم، أو أنه لم يكن من علماء المعاهد الدينية؛ إن لم يلق إليك هذا العذر بمقاله، دلّك عليه بلسان حاله. وقد عرف فريق من حكماء الشرق: أن الداعيَ إلى مبادئ الإسلام خادمٌ للإنسانية، عامل على إنقاذ الشرق من مخالب الاستعمار، فوقفوا حياتهم أو جانباً منها على نشر محاسنه، وإفحام هذه الفئة المتهالكة على محاربته.

الإخلاص في الدعوة

الإخلاص في الدعوة الغاية من "الدعوة" صلاح العالم، وانتظام شؤونه على منهج السعادة. فإذا وجَّه الداعي قصده إلى هذا الغرض، وأقامه نصب عينه، استقام على الطريقة، وقضى حياته في سيرة راضية، وإذا انحرف عن هذا القصد - ولو قيد أنملة -، رأيته يضطرب في حال دعوته كالريشة تخفق بها الرياح أينما تصرَّفت. وقد حكى التنزيل في مواعظه أن شعيبًا - عليه السلام - قد برَّأ نفسه، ودفعها عن أن تؤم غرضاً من الدعوة سوى الإصلاح حين قال: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود: 88]. ويرشدنا قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90]، وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21] إلى أن تشوف الداعي إلى ما في أيدي القوم، وتطلعه إلى أن ينال من وراء إرشاده شيئاً من متاع هذه الحياة، قادح في صدقه، وداخل بالريبة في إخلاصه. ولا يدخل في زمرة المصلحين من يظهر بدعوى الغضب للعدالة، ويعلن البغضاء لمن يروم انتهاك حرمتها، ثم يبصر مرة أخرى قوماً يعمدون إلى حقوق قائمة، فيفتلون أعناقها، فإذا هو يتبسم لصنيعهم تبسم المرتاح، أو يشاركهم في دفنها ولو بحثية من تراب. ماذا حمله على حب العمل بالحق والانتصار له أولاً، ثم ماذا بعثه على خِذلانه والارتياح لإزهاق روحه ثانياً؟

إقامة الحق في الأولى تعود عليه بمنفعة، فكان من أشياعه، وإطفاء نوره في المرة الأخرى لا يذهب بحظ من لذائذه، فلم يأسف للقضاء عليه. ومن الناس من يضمن في نفسه لبانة لا تنالها يده إلا بمساعدة قومه، فينصب اسم "الإصلاح" شرَكًا لاستعطافهم والتفافهم حوله، فإذا ضحك الإقبال في وجهه، وحان قِطاف أمنيته، انصرف عن معاضدة العدل، وعرَّى أفراسَ الدعوة ورواحلها. تهافت كثير من أصحاب الضمائر المعتلة على منصب "الدعوة"، واجتهدوا في كتم سرائرهم بغاية ما يستطيعون، وما لبثوا أن انكشف سرهم، وافتضح أمرهم، سنّة الله في الذين يظهرون بغير ما يعلمون من أنفسهم، وهذا ما يجعل أذكياء الناس يحترسون ممن يخرج في زي مصلح أشد مما يحذرون المجاهر بإرادة العنت والفساد، فأخو العشيرة إذا ظهر لهم في ثوب الناصح الأمين، انخدع لأقواله أهل الغباوة، والتبس حاله على كثير من أهل النباهة، فيجد سبلاً مفتوحة ونفوسًا متهيئة لقبول ما يدسه في مطويّ كلامه، ويكنّه تحت اسم الإصلاح من مقاصد سيئة، فيكون كيده أقرب إصابة، وأنفذ رميةً من خطر المبارز لهم بالعداوة والعمل على شقائهم، فإن من يكشف لهم عن بطانة صدره لا يرميهم بالمكايد تحت ستار، ولو رماهم بها في مواربة، لوجدوا من شعورهم بطويته ما يحملهم على سوء الظن به، وينقذهم من الوقوع في حبائله. ونحن نرى الذي يصدّون عن الإسلام من المخالفين له علانية لم ينالوا بين الأمم الإسلامية إلا خَيبة وخسارًا، ورأينا الفئة التي ما برحت تُذكر في حساب المسلمين- وهي تحمل لهم عداوة الذين أشركوا- قد فعلت في فريق من شبابنا ما تقر له عين الأجنبي الذي يحاول أن تكون سلطته خالدة.

والتمييز بين مَن وقف ينادي للإصلاح صادقاً، ومن لبس قميص المصلح عارية- لدنيا يصيبها، أو وجاهة يتباهى بها - إنما تَهدي إليه الفراسة المهذَّبة، والاختبار الصحيح: فإذا أبصرنا داعياً ذا يسار، ولم يظهر في طبيعته حرص على نماء ما بين يديه من المال، أو قام يدعو فريقاً ليس من دأبهم بسط أكفهم بصلة الدعاة، فما كان لها أن نرميه بتهمة القصد إلى اصطياد ما في خزائن الناس من زينة هذه الحياة. ويدلك على سلامة نيته من إحراز رياسة أو وجاهة: أن ينشأ في بيت مساجد، ويحوز في الشرف مكانة سامية، فيقوم وهو يشعر بأن مجاراته للقوم، وإغضاءه عما يشاهدهم عليه من العوج يزيد في إقبالهم عليه، ويضع قلوبهم في الرضا عن سيرته، فيضرب عن مداجاتهم، ويناضلهم بالحجة، ولا ينفكّ يعرض شمس الحقيقة على أبصارهم وهم لها كارهون. ومن شواهد طيب السريرة: أن ينادي قومه للإصلاح سنين، ويتمادى في سعيه المتواصل إلى آخر رمق من حياته، دون أن يفل عزمه تباطؤهم عن إجابته، أو مقابلتهم لصنيعه بالكفران. والشأن فيمن انطوى صدره على سريرة غير طيبة أن يبتغي إليها الوسيلة، فإذا أبطأت به، ولم تقع عينه إلا على خيبة وإخفاق، ملّ العمل، وصرف جهده إلى وسيلة أخرى. والذي يواصل سعيه، وينفق معظم حياته في الدعوة، قد نصفه بسلامة النية، وإرادة الخير لقومه، ولكنا لا ننعته باسم: "المصلح"، إلا إذا صفا منهجه، واستقامت آراؤه، فمن الدعاة من تطيب سريرته، ويخلص قصده، وإنما يخونه قلة بضاعته في العلم، أو قصور نظره عند قياس الأشياء بأشباهها، أو اقتباس الفروع من أصولها.

طرق الدعوة

طرق الدعوة تؤدَّى الدعوة باللسان تارة، وبالقلم تارة أخرى. ولكل منهما مقام هو أحق به من الآخر؛ ففي الناس من يُسعده لسانه، فيعبر كيف يشاء، ويمسك القلم، فلا يجده مطواعاً. وفي الناس من إذا نطق، وقع في كبوة، واذا كتب، أباع، وبلغ ببيان ما يجول في ضميره الأمدَ الأقصى. فينبغي للداعي أن يُبصر في نفسه، ويعرف من أي صنف هو، ثم يأخذ الناس بالطريق التي يركبها ذلولًا. فإن كان الداعي طلق اللسان، بليغ القلم، راعى في إرشاده حال المدعوين؛ فإن الناس طبقات، وإذا استوى في نظر الطبقة المستنيرة الخطيب البارع والكاتب الفائق، فإن الخُطب أسرع إلى فهم العامة، وأنهض بهم إلى ما تأمر أو تنهى، ولشدة ما تؤثر الخطب في نفوسهم ترى الرئيس المستبدّ يحنق على الخطباء كبر مما يحنق على الكتّاب. والدعوة بالكتابة أوسع جولة، وأخلد أثراً، ومن فوائدها: إرشاد من لا يمكنك أن تخاطبه فوك إلى أذنه، وإرشاد المنحرفين عن السبيل، مع البعد من ساحتهم، والسلامة من أن يواجهك سفهاؤهم بالسخرية والأذى. عُني الإسلام بالخطابة، فشرعّ الخطب أيام الجمع والأعياد؛ ليقوم فيها الخطيب بإرشادٍ يراعي فيه حال الأمة، فيقرع أسماعها بالموعظة الحسنة، ويستنهضها للأعمال الكافلة بعزها في الدنيا، وسعادتها في الأخرى.

ذهل كثير من الخطباء عن هذه الحكمة، فالتزموا لكل شهر خطبًا معينة يسردونها سردًا، ولا ينظرون فيها إلى ما يقتضيه حال الناس في التعليم أو التذكير. وبصنيعهم هذا خرجوا بالخطب عن أن تكون طريق الدعوة إلى إصلاح. ويزيد في حسن الخطبة ونفعها: أن تكون من إنشاء الداعي، ويكون نفعها أبلغ إذا استطاع أن يرتجلها ارتجالاً؛ فإن الأقوال التي ينزع معناها بنفسه، ويسبك عباراتها بطبعه؛ تكون أبلغ أثراً في نفوس السامعين، وأملك لعواطفهم من أقوال صنعت من قبل، فأخذ يحكي ألفاظها حرفاً فحرفًا. والأقوال المنشأة حال إلقائها تصدر عن انفعال نفسي، وقوة إرادة، فتنفذ في نفس السامع بألفاظ جديدة، وهيئة غير مصطنعة. ويمكنك أن تعرف مقدار انفعال الخطيب وقوة إرادته مما تشاهده في هيئته الظاهرة من تبسم أو استعبار، وعبوسة جبين أو طلاقته، ورفع صوت أو خفض، إلى ما يماثل هذا من الآثار التي لا تشاهدها على ظاهر الناقل أو المترجم لكلام غيره، إلا أن يتكلّفها. وتختلف طرق الدعوة - من حيث طرز الكلام، ومبلغ الاستدلال- إلى ما يفيد يقينًا لا ريب فيه، وإلى ما يفيد ظنًا غالباً. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد من الحكمة: الحجة المفيدة لليقين، ومن الموعظة الحسنة: الأمارات الظنية، والدلائل الاقناعية، ومن المجادلة بالتي هي أحسن: الدليل المؤلف من مقدمات مسلمة عند المنازع. وفصَّل الإمام الغزالي في كتاب "الاقتصاد" هذه الأنواع من الحجج، وقسم المخاطبين

إلى ثلاث طبقات، وعيّن لكل طبقة نوعاً، قال: والبرهان يخاطب به الأذكياء، والخطابة يخاطب بها العوام؛ لأنهم لا يفهمون البرهان، والجدل لا يخاطب به إلا المعاندون في الاعتقادة لأنهم لا يرجعون عن مذهبهم بالموعظة. ولم يرتضِ الشيخ ابن تيمية تفسير الآية بهذه الطرق المنطقية، وقال في رسالة "معراج الوصول": بل الحكمة هي معرفة الحق، والعمل به؛ فالقلوب التي لها فهم وقصد تُدعى بالحكمة، فيبين لها الحق علماً وعملًا، فتبلغه وتعمل به. وآخرون يعترفون بالحق، لكن لهم أهواء تصدهم عن إتباعه، فهؤلاء يُدعون بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق، والترهيب من الباطل. والدعوة بهذيْن الطريقين لمن قبل الحق، ومن لم يقبله، فإنه يجادل بالتي هي أحسن. ثم قال: والقرآن لا يَحتج في مجادلته بمقدمة لمجرّد تسليم الخصم لها - كما هي الطريقة الجدلية عند أهل المنطق وغيرهم -، بل بالقضايا والمقدّمات التي تسلمها الناس، وهي برهانية. وإن كان بعضهم يسلمها، وبعضهم ينازع فيها، ذكر الدليلَ على صحتها. والواقع أن القرآن لا يحتجُّ إلا بقاطع؛ فإن دعوته للناس كافة، وهدايته للعقول، كبيرة كانت أو صغيرة. ومن حكمته- وهو يدعو البشر قاطبة- أن يقيم على الحق أدلة لا تحوم عليها ريبة، ولا يستطيع لها كبار الفلاسفة نقضًا. أما غيره من الدعاة الذين قد يقصدون لإصلاح طائفة معينة، فلا جناح عليهم أن يسلكوا في الاستدلال على الحق ما يجعله مألوفاً للمخاطبين، وإن لم يبلغ في قوة الدلالة أن يقع من طلاب اليقين موقع التسليم.

أدب الدعوة

أدب الدعوة العمل على إنقاذ النفوس من وادي الغواية، والإقبال بها على مطالع السعادة؛ مسلك وعر لا يمر فيه على استقامة إلا من بلغ في صناعة البيان أمداً قاصياً. لا يكفي في الدعوة أن يكون يزيد القائم بها حجة أو موعظة يلقيها في أي صورة شاء؛ فإن المخاطبين يختلفون ذوقاً وثقافة اختلاف الزمن والبيئة، ومن اللائق أن تصاغ دعوة كل طائفة في أدب يليق بأذواقها أو ثقافتها. الخبرة بما للطوائف من أحوال نفسية، والقاء الدعوة في الثوب الملائم لهذه الأحوال؛ موكول إلى ذكاء الداعي، ورسوخِه في فنون البلاغة وأدب اللسان. ولا يمنعنا هذا من تذكير القارئ ببعض جمل نوردها كأمثلة للأدب الذي تخرج به الدعوة في خطاب بليغ. من أدب الدعوة: الرفق في القول، واجتناب الكلمة الجافية؛ فإن الخطاب اللين قد يتألَّف النفوس الناشزة، ويدنيها من الرشد والإصغاء إلى الحجة أو الموعظة. قال تعالى في خطاب موسى وهارون- عليهما السلام-: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43، 44]. ولقّن موسى - عليه السلام - من القول اللين أحسنَ ما يخاطَب به جبّار يقول لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]؛ فقال تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)

وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 18، 19]. ويندرج في سلك هذا: صرفُ الإنكار إلى غير معين؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم - في النكير على أهل بَرِيرة، وقد عرفهم بأعيانهم: "ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ ". ومن هذا القبيل قوله - عليه السلام -: "ما بال أقوام يتنزّهون عن الشيء أصنعه؟ فو الله! إني لأعلمهم بالله، وأشدّهم له خشية"، وشكا إليه - صلوات الله عليه- رجل من مُعاذ بن جبل حين كان يطيل بهم الصلاة، فاشتد غضبه، ولكنه احتفظ بعادته الجميلة، فلم يخاطب معاذًا على التعيين، بل عمَّم في الموعظة، وقال: "أيها الناس! إنكم منفرون، فمن صلى بالناس، فليخفف؛ فإن فيهم المريضَ والضعيف وذا الحاجة". ومن أمثلة هذا الأدب: أن يوجه الداعي الإنكار إلى نفسه، وهو يعني السامع؛ كقوله تعالى فيما يقصه عن رجل يدعو إلى الإيمان بالله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22]، فإنه أراد تقريع المخاطبين؛ إذ أعرضوا عن عبادة خالقهم، وعكفوا على عبادة ما لا يغني عنهم شيئاً، فأورد الكلام في صورة الإنكار على نفسه؛ تلطفاً في الخطاب، وإظهاراً للخلوص في النصيحة، حيث اختار لهم ما يختار لنفسه. ويضاهي هذا الأدب: أن يضع نفسه بمنزلة السائل المتطلب للحقيقة، ويقيم الحجة في معرض الاسترشاد، حتى تعلق بأذهان المخاطبين، قبل أن يشعروا بغرضه، فينصرفوا بقلوبهم عن الإصغاء إليه. ومثل هذا: ما فعل إبراهيم - عليه السلام - في محاجَّة قومه المشار إليها بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: 70 - 73].

وقال تعالى في تعليم رسوله الأكرم كيف يدعو إلى الحق: {قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]. فإذا لم يظهر الداعي أنه على بينة من أمره، وألقى الكلام في هيئة المتردّد الذي لا يتيقن أن الهدى في جانبه، كان كالمستعين برأي المخاطب في البث عما هو حقّ ورشد، فتنحلّ في قلب هذا المخاطب عقدة التعصب. وريما طمع في الداعي، وأخذه إلى مذهبه، فيقبل على النظر بجدّ حتى يمرّ به مغالبة الداعي على الآيات البيّنات، فإذا هو ينظر إلى الحق: فإما إيماناً بعد، وإما عناداً. ومن لطف الدعوة: أن تنادي المدعوَّ بلقبه الشريف، وتنعته بوصف شأنه أن يبعث صاحبه على قبول الموعظة، أو الإنصاف في المجادلة. وهذا الأدب مقتبس من مثل قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 65]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104]، {يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]، {يَاأُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - هرقل في كتاب دعوته إلى الإسلام بعظيم الروم. ويتأكد مثل هذا الأدب في موعظة الصغير للكبير، والمرؤوس لرئيسه، ولاسيما حيث تُضرب على الدولة طبائع الاستبداد. وقد يفتتح الداعي للرؤساء خطابه بكلمة: "ائذن لي"، قال ابن شريح لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: "ائذن في- أيها الأمير- أحدّثك قولاً"، وروى له قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن مكة حرّمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا" إلخ الحديث. فقال له عمرو بن سعيد: نحن أعلم بحرمتها منك. فقال له ابن شريح: إني كنتُ شاهداً، وكنت غائبًا، وقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ شاهدُنا غائبنا، وقد أبلغتك، فأنت وشأنك.

يذهب بعض الناس في الإنكار على من يراه مبطلاً مذهب الفظاظة في القول، فيرميه باللعن والشتائم، وفن الشتم والهجاء مما يبذر الشقاق الذي نهينا عنه، وربما حمل المبطلَ على التعصب لرأيه أو هواه، وقبض عليه باليمين والشمال. والناس يعرفون أن طريقة السباب في المجادلة إنما يسلكها العاجز عن إقامة الحجج الدامغة، فترى المقال الذي يحرر في سعة صدر وأدب مع المخالف يجد من القبول وشدة الأثر في نفوس القراء ما لا يجده المقال الذي يخالطه السفه والحماقة. وكذلك ترى المستيقن أنه على حق، مطمئنَّ المخاطر، آمنًا على مذهبه من صولة الباطل، فينطق عن أناة وتخيّر للأقوال الصائبة. أما من لم يكن على بصيرة من رأيه أو عقيدته، فإنه ينزعج عند المجادلة، ويطيش به الجدل حتى يقذف بالسباب، ويلفظ بالكلام من قبل أن يقيم له وزناً. وقد يكون حديثك مع طائفة باعوا نفوسهم بمتاع هذه الحياة، واندفعوا لإغواء الأمة، والكيدِ لشريعتها وحياتها السياسية، بجميع ما ملكوا من صفاقة وعناد وسوء طوية. ولعل الناس يعذرونك حين تتصدَّى لكف بأس هؤلاء، ويجري على لسانك أو قلمك في خلال جدالهم كلمة تتهكم بعقولهم، أو تزدري آراءهم، أو تنبه على مكر انطوت عليه دعايتهم. فإنك إن تهكمت بعقول هؤلاء، أو ازدريت آراءهم، فإنما تضعها في مواضعها، وتمس خيلاءهم بما يخفف من غلوائها، وإن رفعت الغطاء عن مكايدهم، فينما تجادل قوماً يجعلون مكان الصريح رمزًا، ومكان الطعن غمزاً، ويلبسون أقوالهم المعبرة عن آرائهم تردداً أو ريباً.

سياسة الدعوة

سياسة الدعوة ضربنا لك الأمثلة في المقال السالف للأدب الذي ينبغي أن يصاغ فيه خطاب الدعوة. أما هذا الفصل، فمعقود في طرق من غير أدب اللسان يراعيها الداعي، ويأخذ بها الدعوة، فيكون لها في النفوس المستعدة للخير أثر حميد. إذا كان أدب الخطاب يقوم على البراعة في فنون البلاغة، فإن الطرق التي نبحث عنها في هذا الفصل إنما تقوم على نظرٍ تقلَّبَ في أحوال الجماعات أطواراً، ودرسَ سنن الله في الخليقة، فعرف كيف يسوس النفوس الجامحة، ويردّها إلى قصد السبيل. لا يسهل على القلم استيفاء الحديث عن هذه الطرق، ولا يسعه إلا أن يضرب لها أمثلة، ويأكل الأمر بعدها إلى ألمعيتك، فهي التي تتناول المعنى القليل فتجعله كثيراً، وتتلقى القول مجملاً فتفصله تفصيلاً. من الحكمة في الدعوة: أن تناجي بها الجاهل أو الغافل في خلوة؛ إبقاءً للستر عليه، ورغبة في حسن إصغائه إليك؛ فإن كثيراً من الناس مَن إذا ألقيت عليه النصيحة في علن، أخذته العزة، وثنى عطفه عن الاستماع أو الامتثال. فإذا تصامم عن قبولها في خلوة، ساغ لك أن تلقيها عليه في ملأ؛ لعله يتألم من الفضيحة، ويحذر سوء الأحدوثة، فيعود إلى سيرة نقية، ويذكَّر كما يذكَّر أولو الألباب. قال تعالى في قصة نوح - عليه السلام -: {قَالَ رَبِّ

إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح: 5] إلى أن قال: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 8، 9]. ومن الحكمة: الجمعُ بين الإعلان والإِسرار؛ إزالة لما يقع في نفس المدعو من اتهام الداعي بأنه ما أراد من دعوته علانية إلا تلويث عرضه، وإذاعة كلمة السوء عن سيرته. ومن حسن النظر: أن تكون الدعوة إلى المطالب العظيمة بطريق الترقي؛ كأن يبتدئ المصلح بما هو أيسر عملاً، أو أقرب إلى المألوف لدى الأمة، أو أظهر حكمة لعقولهم. وعلى هذه القاعدة وضع الإسلام سياسته، فنجد في تاريخ التشريع: أنه أمر بالصلاة، وسكت عن الكلام في أثنائها، ثم نهى عنه، وجعله من مبطلاتها. وأمر بالإنفاق على وجه التطوع، ثم شرع فريضة الزكاة. ونبه على مفسدة الخمر بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. ثم منع منها في حال الصلاة خاصة فقال: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. ثم حرّمها في كل حال تحريمًا لا هوادة فيه فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. وروي عن بعض الصحابة: أنه قال: لو جاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين وبالقرآن دفعة، لثقلت هذه التكاليف علينا، فما كنا ندخل في الإسلام. ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة، فلما قبلناها، وعرفنا حلاوة الإيمان، قبلنا ما وراءه كلمة بعد كلمة، على سبيل الرفق، إلى أن تم الدين، وكملت الشريعة. ويحكى عن عمر بن عبد العزيز: أن ابنه عبد الملك قال له: ما لك

لا تنفذ الأمور؟! فو الله! لا أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق. فقال له عمر: لا تعجل يا بنيَّ؛ فإن الله ذمَّ الخمر مرتين، وحرَّمها في الثالثة، وإنني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، وتكون من ذا فتنة. ويشابه هذا: أن يقصد الداعي إلى أمر فيه مشقة، فيضع أمامه تمهيدًا يخفف وقعه، ويقلل شأنه؛ حتى لا تكبره النفوس، وترتخي دونه العزائم خَورًا. ومثال هذا: ما سلكه التنزيل في التكليف بفريضة الصيام؛ حيث شرعه أولاً في أمر مجمل فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، وذكر أن هذا النوع من القربة قد فرض على الأمم السالفة، فقال تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فهو عمل مألوف، وشريعة غير خاصة، وفي هذه التذكرة ما يدخله في قبيل السنن الجارية، ويجعله أمراً هينًا. ثم أشعرهم بأن أيامه في الحساب قليلة، فقال تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184]. وبعد أن هيأ النفوس لقبول فريضته، قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. وجرى التنزيل على هذه السنّة عند الترغيب في أمر صعب المركب، شديدِ الأثر على النفس، وهو الصبر على الأذى، ومقابلة الإساءة بالعفو، فأمر بالعدل في المجازاة، ونهى عن تجاوز المثل في العقوبة، فقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، ثم بيّن في قوله تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]: أن الأكمل لهم الإغضاء عن السيئة، وترك المؤاخذة عليها، فالصفح عن الأذى - مع القدرة على الانتقام -

ضرب من الكرم، ومظهر من مظاهر الرحمة. ثم قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]، فرغب في الصبر بطريق أبلغ؛ إذ وجّه الخطابَ به إلى الرسول اللأعظم، وهو أسرع الناس إلى الاستقامة على الطريقة، فيجدون من سنّة التأسي به نشاطاً للطاعة، وباعثاً على التجمل بالصبر، وإن ثقلت على النفوس وطأته. ويُقارب هذا النوع من السياسة: أن يأخذ الداعي في تقرير المصالح بوجه عام حتى يأنس لها الناس، ويتفقهوا في طرق الخير على سبيل الإجمال، ثم يندبهم إلى الأعمال المندرجة تحتها ببيان وتفصيل؛ فإن من السهل على البشر قبول القضايا الكلية، وقلما نازعوا في صحتها. وأكثر ما يقع منهم الإنكار والاختلاف في المسائل الجزئية، وأحكام النوازل المعينة، وعلى هذا النمط أدار الإسلام سياسته، فأسسّ معظم قواعده العامة بمكة، وشرع أكثر الأحكام الفرعية بالمدينة المنوَّرة. ومن حسن السياسة: ألا يجهر برأيه الصريح في صدر مقاله، وإنما يبتدئ بما يخفُّ على المخاطبين سماعه من المعاني الحائمة حول الغرض، ثم يعبر عن المراد بلفظ مجمل، ويدنو من إيضاحه شيئاً فشيئًا حتى لا يفصح عنه إلا وقد ألفته نفوسهم، وهدأت له خواطرهم. وعلى هذه الطريقة جرى ذلك المؤمن من آل فرعون، فقد كان يكتم إيمانه، وهو يحب أن يظهره، ويدعو قومه إلى مثله، وكان يخشى- من التصريح بعقيدته - بادرة غضبهم، أو انتقامهم منه، حتى اغتنم وقت إجماعهم على قتل موسى - عليه السلام - فرصة، وقام ينكر عليهم هذه المؤامرة المخزية، وتخلص إلى أن دعاهم إلى الإيمان بما بُعث به هذا الرسول دعوةً ظاهرة، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ

مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28]. فاتحهم بالإنكار على قتله، وهو لا يدلُّ على أنه مصدّق برسالته، إذ قد ينهى العاقل عن سفك دم الرجل أو اضطهاده، وهو من أبغض الناس إليه، تألماً من مشهد الظلم، أو حذراً مما ينشأ عنه من فتنة، ودل بقوله: {أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] على ما لهذا الرجل من فضل في العقيدة، وأومأ إلى أنه لم يجئ شيئاً نكراً يستحقّ به هذه العقوبة الصارمة، وذكّرهم إذ قال: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] بالدلائل القائمة على صدقه في دعوى الرسالة، وقد أخذ يتقرّب بهذه الجملة من دعوتهم إلى الإيمان به، ولم يرد التظاهر بأنه من شيعته، فعزل نفسه عمن جاءهم بهذه البينات، وأضاف مجيئها إليهم خاصة، ثم استرسل في موعظته المنسوجة في أدب الإنصاف إلى أن صدع ببطلان نحلتهم، ودعاهم إلى دين الحق بقوله الصريح، قال تعالى فيما يقصه عنه: {وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر: 41، 42]. قد يسكت المرشد عن بعض ما يكون حقاً، أو يتعرض له بعبارة مجملة، أو ذات وجهين، إذا لم يساعده الحال على أن يصدع به، ورأى ضرر التصريح به أرجح من نفعه. وليس له أن يقول غيرَ الحق بقصد أن يتألف أصحاب النحَل والمذاهب الزائغة، ويستدرجهم إلى ما يُورده بعده، أو يثبته في حديثه من الحقائق والدلائل الفاضحة لمعتقداتهم وأوهامهم. وزعم الرازي صحة هذا الصنيع، وعدَّه من حكمة المتشابه في التنزيل، وحمل عليه قول إبراهيم - عليه

السلام - في محاجّة قومه الواردة في القرآن {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] مشيراً إلى النجم، ثم القمر، ثم الشمس. وقد ذكر المحققون للمتشابه وجوهاً أظهر من هذا الوجه، وفهموا قول إبراهيم - عليه السلام - على غير هذا التأويل. ومن حكمة الداعي: أن يسبق إلى العمل بما يأمر، فقد يكون اقتداء الناس بأفعال المصلح أقرب من اتباعهم لأقواله، ويشهد بهذا سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في شرع الأحكام، فتراه في بعض الأحيان يصرح بالإذن في أشياء، فلا يبادرون إلى فعلها، ويستمرّون على الإحجام عنها حتى يقرّرها بالعمل، ثانياً: تجده قد أذن لهم- وهم على سفر- في الإفطار شهر رمضان، وبقي هو صائماً، فلم يقطعوا صومهم حتى عمد إلى الفطر، فخفّوا إلى الاقتداء بفعله، وأفطروا. وأذن لهم في نكاح من كنَ أزواجًا لأدعيائهم، فكبر عليهم أن يخرقوا هذه العادة حتى تزوج - صلى الله عليه وسلم - بزينب بعد أن فارقها مولاه زيد، وفي هذا المعنى نزلت آية: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37]. ومن الوسائل التي يكون لها أثر في تألّف الجاهلين أو المفسدين، وتهيئتهم إلى قبول الإصلاح: بسط المعروف في وجوههم، وإرضاؤهم بشيء من متاع هذه الحياة؛ فإن مواجهتهم بالجميل، ومصافحتهم براحة كريمة، قد يعطف قلويهم نحو الداعي، ويمهد السبيل لقبول ما يعرضه عليها من النصيحة. والنفوس مطبوعة على مصافاة من يُلبسها نعمة، ويُفيض عليها خيراً. ولمثل هذه الحكمة ذكر القرآن في مصارف الزكاة: صنف المؤلفة قلوبهم، فقال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]

الإذن في السكوت عن الدعوة

الإذن في السكوت عن الدعوة إنما تسقط فريضة النصح والدعوة إلى الحق في موضعين: أحدهما: أن ينشأ عن الأمر أو النهي مفسدة أعظم، وذلك ما تقتضيه قاعدة: ارتكاب أخفّ الضررين إذا تعارضا. ومن شواهده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره من الصحابة تناولهم الأعرابي حين أخذ يبول في المسجد، ونهاهم عن ذلك، وقال: "إنما بُعثتم ميسرين، ولم تُبعثوا معسرين"، فالبول في المسجد تلطيخ لمحل العبادة بنجاسة، وفي قطعه عمن شَرع فيه مفسدة أكبر منه، وهي ما يحدث عنه من علة في البدن. والنجاسة تزال بالماء. ومن العلل ما ينبو عنه رأي الطبيب، ويخونه فيه الدواء، واعتناء الإسلام بالمحافظة على سلامة الأبدان غير قليل. ويماثل هذا: أن يكون صاحب الضلالة ممن يطغى على الداعي، ويستنكف أن يكون بمنزلة المصادر عن إرشاده أو تذكيره، فيأخذه الإعجاب بسطوته إلى ارتكاب جهالة أفظع من الأولى حتى يغيظ داعيه إلى الخير، ويتظاهر بالغلو في مخالفة أمره أو نهيه. ولا يدخل في هذا القبيل أن تجري عادة العامة بترك سنّة، أو فعل بدعة، ويكون أمرهم أو نهيهم سبب ثورة لا تتجاوز القلم أو اللسان، فإذا شد المصلح قلبه بإخلاص، وتحرَّى الأدب جهده، فلا جرم أن يكون لدعوته

الأثر النافذ، والعاقبة الحسنة، وليس السكوت عن صنيعهم، أو التمحل في تأويله، والفتوى بصحته، إلا مداهنة وإيثاراً للخلق على الحق، ولا يلبس هذه الخصلة المنكرة إلا قصير النظر، أو ضعيف الإرادة. ولا حقَّ لأحد في أن يكتم ما فرض الله معرفته معتذراً بالخوف من أن يقع المخاطبون في سوء فهم، أو اضطراب فكر؛ فإن هذا النوع من العلم لا تحار في إدراكه العقول، وإنما يقوم مثل هذا معذرة للسكوت عن الحق الذي لم يكلف الناس بعلمه، وهو المراد يقول الإمام علي - كرم الله وجهه -: "حدثوا الناس بما يفهمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟! "، ومن هذا: حديث عائشة - رضي الله عنها-، قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشة! لولا قومك حديثٌ عهدهم بكفر- وفي رواية "بجاهلية" -، لنقضتُ الكعبة، فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون"، والذي تحاماه - صلى الله عليه وسلم - أن يظن بعضهم - لقرب عهدهم بالإسلام - أنه غيّر بناء الكعبة لينفرد بالفخر عنهم. ثانيهما: أن يوقعه الأمر أو النهي في بلاء، ويلحق به ضرراً فادحاً. وعدّ الإمام الغزالي من هذا البلاء: الاستخفاف به على وجه يزري بكرامته. وقد يكون هذا عذراً في صرف الدعوة عن طائفة خاصة عرف منها هذا الخلق اللئيم، ولا يصح أن يكون عذراً في الإحجام عن دعوة الأمة إلى صالح، وإن وجد فيها طائفة تطلق ألسنتها بسباب المصلحين، وتباهتهم في المجامع أو الصحف بغير حساب. وقد اتخذ بعض المفسدين هذا السباب والمباهتة سلاحاً يشهرونه في وجوه من يعترضون دعايتهم بالإنكار، ولو كان مثل هذا الأذى يجيز لأهل

العلم أن يخلوا سبيلهم، ويغمضوا عن منكراتهم، لسرت تلك الدعاية سريان السم الناقع، ولوثت هذه الفطرة السليمة برجس الغواية، ولا مرية في أن بلية الإغواء أشد إيلاماً لعقلاء الأمة، وأسوأ عاقبة من أن تنهش أعراضهم بألسنة حداد. ويرى الشيخ ابن عرفة: أن خوف العزل من المنصب لا يعد عذراً يسقط عن الرجل فريضة النهي عن المنكر، وإذا كان بعض من لا يرجون لله وقارًا، قد يدعوه الحرص على إحراز سمعة فاخرة إلى أن يذود عن المصلحة العامة، وبزدري الولاية، ولا يبالي أن يصبح عاطلاً من قلادتها، أفلا يليق بأهل التوحيد الخالص - ما داموا يستيقنون أن الله يرزق الداعي إلى الإصلاح من حيث لا يحتسب - أن يكون أزهد الناس في المنصب الذي يطوي ألسنتهم عن قول الحق، أو يحملهم على مجاراة رئيس لا ينهى النفس عن الهوى؟!. فإذا اعتقد الداعي إلى الإصلاح بما يناله من عذاب وبلاء، فهو في سعة واختيار من تحمل الأذى، أو طلب السلامة، فإن شاء، أخذ بالعزيمة، ورفع صوته بالدعوة إلى الحق، وإن شاء، تمسك بالرخصة التي يتمسك بها المستضعفون من الرجال والنساء. وقد آثر جماعة من علماء الإسلام؛ لقوة غيرتهم على العدل، وشدة رغبتهم في الصالحات، أن يأخذوا بالعزم، وبحافظوا على الجهر بالإرشاد، وإن كره المفسدون جهرهم، وأذاقوهم من ألوان جورهم عذاباً أليمًا. ومن قصصهم في هذا الشأن: أن الملك إسماعيل والى الإفرنج، وسلَّم لهم "صيدا"، وغيرها من الحصون؛ لينجدوه على الملك نجم الدين أيوب،

فأنكر عليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام هذه الفعلة الخائنة، فغضب عليه الملك، وعزله عن مناصبه، وأمر باعتقاله، ثم بعث إليه من يعده ويمنيه لعله يرجع عن إنكاره ويرضى، فجاءه الرسول وقال له: تعاد إليك مناصبك وزيادة، وما عليك إلا أن تنكسر للسلطان، وتقبل يده لا غير. وما كان جواب الشيخ إلا أن قال له: والله! ما أرضاه أن يقبّل يدي، فضلاً أن أقبَّل يده، يا قوم! أنتم في واد، وأنا في واد.

علل إهمال الدعوة

علل إهمال الدعوة ما بال الرجل يعرف مناهج الصلاح، ويبصر طائفة من قومه يتهافتون على عماية، أو يهيمون في جهالة، ولا تنهض به الهمة ليعمل على إفاقتهم من سكرتهم، وإراءتهم معالم فوزهم؟!. أخذنا نبحث عن منشأ هذا التقصير، وندير النظر في البحث كرتين، فرأينا مدار علته الفاقرة على عشرة أسباب: 1 - المداهنة، فمن أهل العلم من يرى ذا جاه أو رياسة يهتك ستر الأدب، أو يعثو في الأرض فساداً، فيتغابى عن سفهه أو بغيه، ويطوي دونه التذكرة والموعظة ابتغاء مرضاته، أو حرصًا على مكانة أو غنيمة ينالها على يديه. ومن البلية: أن المترفين، ومن بنحو نحوهم في الزيغ والغرور، لا يكتفون ممن يسوقه الزمن إلى نواديهم أن يسكت عن جهلهم، ويتركهم وشأنهم. وإنما يرضيهم منه: أن يزين لهم سوءَ عملهم، أو يرمقهم بعين مكحولة بتبسم الاستحسان، وهو أقل شيء يستحق به في نظرهم لقب كيِّس ظريف!. والمداهنة خلق قذر، لا ينحط فيه إلا مَن خفَّ في العلم وزنه، أو من نشأ نشأة صغار ومهانة، وهذا تاريخ العلماء الراسخين ناطق بما كان لهم من الإقدام على وعظ الأمراء، والإنكار عليهم إذا أساؤوا التصرف، أو أهملوا.

قال عز الدين بن عبد السلام للملك نجم الدين أيوب في مجلس حافل برجال الدولة: يا أيوب! ما حجّتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوّئ لك ملك مصر، ثم تبيح الخمور؟! فقال: هل جرى هذا؟ فقال: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة. فقال: هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي. فقال: أنت من الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 23]، فرسم الملك بإبطال تلك الحانة (¬1). نعلم أن السلطة السياسية تتتقل أطواراً، وأن موقف العلماء أمام الأمراء يختلف على قدر ما يكون للعالم من مكانة في قلوب الأمة، وعلى قدر ما يكون للأمير من حماقة أو أناة. واختلاف السياسة أطوارًا، أو اختلاف مواقف العلماء أمام الأمراء إنما يقتضي أن يكون لكل طور سياسي- أو لموقف كل عالم- أسلوب في الدعوة يطابق مقتضى الحال، أما أصل دعوة الأمراء إلى حق أو صالح، ففريضة قائمة، وعز الدين بن عبد السلام، وأحدُ علماء هذا العصر - في احتمال أمانتها، ووجوب تحرير الذمة بأدائها - على سواء. 2 - ضعف الجأش، وقلة الصبر على المكاره، وهو خلق يقطع لسان صاحبه عن قول الحق؛ مخافة أن لا يرتضي بعض الناس قوله، فيضمروا له البغضاء، ويسوموه أذى أو تهمكاً: وكم سقتُ في آثارهم من نصيحةِ ... وقد يستفيد البغضة المتنصحُ وقد تعرض الكتاب العزيز لخصلة الاستهزاء بالمرشدين، ونبه على ¬

_ (¬1) "طبقات الشافعية" لابن السبكي.

أنها عادة مالوفة، وأذى يعترض في طريق كل مناد بالإصلاح، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر 10 - 11]. وقد يقص علينا من بذائهم ومكرهم ما يصح أن يكون من حكمةِ تسلية الدعاة، وتأكيد عزمهم على مواصلة الدعوة، وقلة الاكتراث بما يلاقونه من شغب وإساءة، فإذا لقي رُسُل الله- عليهم السلام- من سفهاء القوم أذى كثيراً، فأغمضوا عنه، وداسوه بأقدامهم، فلا يسع غيرهم ممن يريد الخير لأمته إلا أن ينصح لهم، ويفتح في طرق الهداية أبصارهم، ولا يبالي بمن ينغض إليه رأسه ساخراً، أو يطلق فيه لسانه لامزاً. 3 - إن في الرؤساء من تجمح بهم أهواؤهم عن ناحية العدل، ولا يرقبون لفضيلة العفاف عهداً، فيكيدون لكل من شأنه الدعوة والإصلاح؛ لكيلا يتعرض لسيرتهم، أو يتطاول إلى نقد سياستهم. وهذا الضرب من الاستبداد يلقي في النفوس الضعيفة حذراً بالغاً، ويقلب العارفين بطرق الإصلاح إلى حال الغافلين عنه، فتراهم ينظرون إلى الفساد يتقلب في البلاد كأنهم لا يبصرون. قد يعذر أمثال هؤلاء في عدم التعرض لأحوال الرؤساء المستبدين؛ حيث اعتقدوا أن خوضهم فيها يسوقهم إلى عقوبة لا طاقة لهم بها. ولا عذر لأحد في الصمت عن التذكير جملة إلا إذا بلغ هؤلاء المستبدون أن يضعوا عقوبتهم على ظهر كل من ينهى عن منكر، ولو لم يكن له صلة بسياستهم الجائرة، ولعلك لا تجد في أنباء الدول من يتخطبه شيطان الاستبداد حتى يسطو على كل من ينطق بالحكمة والموعظة، وواجب العلماء أن يقوموا

بالإصلاح والإرشاد في دائرة الإمكان. 4 - أن يغلوَ العالم في الورع، فيأبى الذهاب إلى حيث يأمر بمعروف، أو ينهى عن منكرة حذراً من أن يغشى ناديَ منكر، أو يختلط بصاحب ضلالة. حكى القاضي عياض في كتاب "المدارك": أن عضد الدولة فنا خسرو الديلمي بعث إلى أبي بكر بن مجاهد، والقاضي ابن الطيب ليحضرا مجلسه لمناظرة المعتزلة، فلما وصل كتابه إليهما، قال الشيخ ابن مجاهد وبعض أصحابه: هؤلاء قوم فسقة، لا يحل لنا أن نطأ بساطهم، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال: إن مجلسه يشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان مخلصاً، لنهضتُ. قال القاضي ابن الطيب: فقلت لهم: كذا قال المحاسبي، وفلان، ومن عاصرهم: إن المأمون فاسق لا يحضر مجلسه، حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرطوس، وجرى عليه ما عرف، ولو ناظروه، لكفّوه عن هذا الأمر، وتبين له ما هم عليه بالحجة. وأنت أيضاً - أيها الشيخ - سلكت سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولوا بخلق القرآن ونفي الرؤية، وها أنا خارج إن لم تخرج. فقال ابن مجاهد: إذا شرح الله صدرك لهذا، فاخرج. 5 - أن يقوم الرجل بالإرشاد، فلا يجد ممن فيهم الكفاية مساعداً، وربما أدخلوا في قلبه اليأس، وسدوا باب الأمل في وجهه متكئين على دعوى فساد الزمان، وعدم إفادة النصيحة عند غلبة الفساد، وهو الخاطر الذي يسر أعداء الأدب أن يستقر في نفس كل مؤمن، فيجدوا من خمول أهل العلم وكسلهم، ما ينشط بهم إلى أن ينادوا للخروج على الفضيلة وهم آمنون. 6 - أن يجد العالم في سيرته سيئة أو سيئات، فتلقي في نفسه الذلة

والرهبة، ويترك الإرشادة حذراً من أن يلمزه بها الناس حين يقوم بينهم مقام الواعظ الأمين. والعادة أن من يخرج للناس في ثوب مرشد، وقد علقت بسيرته وصمة، لم يلبثوا أن يذكروه بها، وينشدوه: يا أيها الرجلُ المعلّم غيرَه ... هلّا لنفسك كان ذا التعليمُ فينبغي للعالم أن يكون ذا نفس زكية، وساحة نقية، حتى لا يكون الخلل في سيرته كالشجا يقف له في لهاته، ويمنعه من هداية المسرفين. وعلى أي حال كان، لا يليق به الإحجام عن الإرشاد، فإن ما يعرفه له الناس من زلل قد يصرف عنه وجوه العامة، ويقعد بهم عن سماع موعظته، أما الخاصة، فربما انتفعوا بدعوته الموصولة بالحجة أو بيان الحكمة. 7 - العداوة تنشب بين الرجل والفئة الجاهلة، فتمسك لسانه عن نصيحتهم وإنذارهم ليتمادوا في ضلال، ويتساقطوا على عمل يهوي بهم في خسار. وقد خادعت هذا البائسَ نفسه، فرمت به في غش، وساقته إلى التهاون بواجب النصيحة. 8 - الشفقة تفيض في فؤاد الرجل، وتطغو على حبه للإصلاح، فترده عن أمر الشخص بصالح فيه كلفة. والشفقة كسائر الفضائل التي يخرج بها الإفراط إلى ما لا يسمى فضيلة، وقد نهى القرآن عن مثل هذه الشفقة الطاغية، فقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} [النور: 2]. فالحدود والنظم وضعت لحفظ المصالح، واستيفاء الحقوق، فيجب ألا يكون للرأفة الداعية إلى الإخلال بشيء من إقامتها أثر يرى. وأخرج ابن جرير في "تاريخه" عن سالم: أن عمر بن الخطاب كان إذا

صعد المنبر، فنهى الناس عن شيء، جمع أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير، وأقسم بالله! لا أجد أحداً منكم فعله، إلا أضعفت عليه العقوية؛ لمكانه مني. 9 - أن يكون المستحق لأن يوجِّه إليه الداعي أمره أو نهيه مثل أب مطاع، أو معلم محترم، فيبلغ به الحياء منه، والاحترام لمقامه أن يسكت عن دعوته المشعرة بنسبته إلى جهالة أو خطيئة. وفيما قصة الله علينا من موعظة إبراهيم - عليه السلام - لآزر، وتسميته أباً، ما يرشدنا إلى أن الأبؤَة لا تمنع من الأمر بمعروف، أو النهي عن منكر، ولكن الأب يستحق من أدب الخطاب ولطف الموعظة أكثر مما يستحق غيره. وفي قصة موسى والخضر- عليهما السلام -، واتباع الأول للثاني بصفة متعلم، ثم إنكاره عليه خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، عبرةٌ للمتعلمين والمعلمين، فللمتعلمين حق الإنكار، وعلى المعلمين أن لا يستنكفوا. 10 - علة نادرة، ولا ندري هل بقي لها من أثر إلى هذا اليوم، وهي: أنه كان في الناس من يبدو له أن يترك بعض أعمال الخيرة حذراً من أن يخالط قصدَه الرياءُ، والتطلعُ للسمعة، فيقلص نور إخلاصه، ويفوته ثواب الله في الآخرة. وترك الدعوة بمثل هذا الوسواس ورعٌ خادع، وما على العارف بالإصلاح إلا أن يجاهد نفسه، ويأخذها بأدب الإخلاص ما استطاع، ومخافةُ الرياء تجاه فائدة الدعوة إلى صالح لاغية. 11 - علةٌ نشات في هذه الأيام، وهي أن الذين في قلويهم زيغ قد وجدوا من القوة المادية، وسلطان الدول الأجنبية، ما يزين لهم نشر دعايتهم الهازلة، فصادفت من بعض الأحداث أفئدة هواء، فباضت فيها وفرخت، وأخذ الإلحاد

يدرج على ألسنتهم، وصفاقة المجّان بارزة على وجوههم. وقد ينظر بعض أهل العلم إلى أن هذه الفتنة لم يسبق لها مثيل فيما سلف، فيهاب سطوتها، ويحسبها ناراً لا يمكن إطفاؤها، فيذوب أمامها، ويوليها ظهره يائساً!. وما هذه الفتنة إلا جولة باطل يتوكأ على قوة مادية، فمتى لقي في سبيله الحقائق تكتنفها البينات، ذهب جُفاء، ولا يبقى له أثر إلا في نفوس يذهب المنطق بين جهالتها وشهواتها ضائعاً.

آثار السكوت عن الدعوة

آثار السكوت عن الدعوة ينزوي العارفون بوجوه الإصلاح، فيرفع البغي لواءه، ويبقى إخوان الفساد يتردّدون على نوادي المنكرات، والبغيُ يضرب على الأمة الذلة والمسكنة، والانهماكُ في المنكرات يميت خصال الرجولة؛ من نحو: الشجاعة، وشدة البأس، والبذل في سبيل الخير. وإذا تفشى وباء البغي والفساد، تداعت الأخلاق الفاضلة إلى سقوط، ونضب ماء الحياء من الوجوه، ووهنت رابطة الاتحاد في القلوب، وتضاءلت الهمم عن معالي الأمور، وقلّت الرغبة في الآداب والعلوم. وما عاقبة الأمة المصابة بالذل والإحجام والجهل والتفرّق وقلة الإنفاق في سبيل البر إلا الدّمار، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [لإسراء: 16]. ومن أكبر الدَّمار الذي تبتلى به الأمم الفاسقة: أن تقع ناصيتها في قبضة خصمها العنيد، وفي التنزيل الحكيم ما يفيد أن لمرتكبي فاحشة الظلم عاقبة وبيلة، هي وقوعهم تحت سيطرة الظالمين، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129]. ولا يحسب الذين ينقطعون عن إرشاد الضالين ووعظ المسرفين، أن إقبالهم على شأنهم، واقتصارهم في العمل الصالح على أنفسهم، يجعلهم في منجاة من سوء المنقلب الذي ينقلب إليه الفاسقون، والذي جرت به

سنة الله في الأمم، أن وباء الظلم والفسوق إذا ضرب في أرض، وظهر في أكثر نواحيها، لا تنزل عقوبته بديار الظالمين أو الفاسقين خاصة، بل تتعدّاها إلى ما حولها، وترمي بشرر يلفح وجوه جيرانهم الذين تخلوا عن نصيحتهم، ولم ياخذوا على أيديهم، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]. ومن الفتن ما ينزل على القرى الظالمة، ويأتي على المؤمنين منهم، ولو لم يلبسوا إيمانهم بترك النصيحة، وقاموا بالأمر والنهي جهدهم. فإنك تجد فيما تطالعه من أنباء الأمم: أن الأمة التي يجوس خلالها الظلم والفساد، لا تلبث أن تسقط من شامخ عزّها، فإما أن تقبض عليها يد أجنبية، وإما أن تحل بها قارعة سماوية، وما كان من نوع هاتين العقوبتين يتناول الأفراد الذين نصحوا لقومهم فلم يقبلوا، كما يتناول الصبيان، ومن لا قدرة له على الجهر بالنصيحة. روي في الصحيح عن زينب بنت جحش، قالت: قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا أكثر الخبث". وعن ابن عمر: أنه سمع أباه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أنزل الله عذاباً، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بُعثوا على أعمالهم". ومن البلية في سكوت العلماء: أن العامة يتخذونه حجة على إباحة الأشياء، أو استحسانها، فإذا نهيتهم عن بدعة أو سيئة، وسقتَ إليهم الدليل على قبحها ومخالفتها لما شرع الله، كان جوابهم: أنهم فعلوها بمرأى أو مسمع من العالم فلان، ولم يعترض فعلهم بإنكار. ومن أثر التهاون بالإرشاد: أن يتمادى المفسدون في لهوهم، ولا يقفوا في اتباع شهواتهم عند غاية، فتقع أعين الناس على هذه المناكر كثيراً، فتألفها

قلوبهم حتى لا يكادوا يشعرون بقبح منظرها، أو يتفكروا في سوء عاقبتها. ومن أثر هذا: أن يقبل عليهم الحق بنوره الساطع، ووجهه الجميل، فتجفل منه طباعهم، وتجفوه أذواقهم لأول ما يشرف عليها. ومن أثر السكوت عن بيان الحق والدعوة إليه: أن نبتت هذه الفئة التي تحاول القضاء على الآداب الفاضلة، والنظم الحكمية، وتهذي باسم الجديد والقديم، وأنصار الجديد وأنصار القديم، ويلغت بإخلاصها للقوة التي يعد الإخلاص لها جريمة، أن أخذت تدفع بعض أذنابها إلى إيذاء الأمة بتضليل أبنائها، والطعن في شريعتها، يفعلون هذا وهم يعلمون ما فيه من تمزيق رابطة الإلفة، وصدع بناء الوحدة، يفعلون هذا وهم يعلمون أنهم سيشاغبون أفكاراً وأقلاماً تعمل على إصلاح شؤون الأمة، وتجاهد في سبيل خلاصها، كانهم يبتغون منها أن تنصرف عن هذه الغاية السامية، وتقضي الزمن في جدالهم، وكشفِ اللثام عن بنات جهلهم ومواقع أهوائهم، وهذا ما وقع، وإلى الله المشتكى. وإذا كان ضرر هذه الفئة على الحياة السياسية يساوي ضررها على الحياة الأدبية، فإن تقويمها، وحماية الشعوب من وبائها، لا يجب على رجال الدين خاصة، بل هو حق على كل من يغار على الأدب والنظام، وإطلاق الشعوب من قيود الاستعباد.

ما يدعى إلى إصلاحه

ما يدعى إلى إصلاحه يجري الإنسان في أعماله على وفق ما يريده من أوضاعها وهيئاتها، وللإرادة صلة بالعقائد تصفو لصفائها، وتخبث لخبثها، فالإيمان بيوم البعث والجزاء تنشأ عنه إرادة فعل الخير؛ كالانتصار للمظلوم، أو إيثار ذي الحاجة، دون انتظار جزاء أو شكور في هذه الحياة. والجحود بعلاّم الغيوب إنما يكون مثار الإرادات الذميمة، ويزين لصاحبه أن يعقد نيته على ارتكاب الفحشاء والمنكر، إن لم يكن علناً، فمن وراء ستار، فإذا زاغت العقائد، كانت أعمال صاحبها بمنزلة من يرمي عن قوس معوجة، أو يضرب برمح غير مستقيم: وإذاكان في الأنابيبِ حيفٌ ... وقعَ الطيشُ في صدور الصِّعادِ وإذاً، يجب على الداعي أن يوجه عنايته إلى محو المزاعم الباطلة، وربط قلوب الناس بالاعتقاد الصحيح. وللطباع الراسخة أثر في المسابقة إلى الأعمال، أو التباطؤ عنها؛ كسجية الكرم تنهض بالأمة إلى إنشاء الجمعيات العلمية، وتبسط أيديهم بالبذل في سبيل المشروعات الخيرية. ومما ينبهك على أن للأخلاق سلطاناً على الإرادة: أنك ترى المسلم يعتقد بفريضة الزكاة، ويقرأ ما يناله في تركها من عذاب، ثم لا يكون منه إلا

أن يقبض يده عن قضاء واجبها؛ مطاوعة لداعية الشح، وإيثاراً للذة العاجلة على السعادة الباقية. وإذا كانت السجايا ميسرة للأعمال، ومساعدة على صدورها بسهولة، دخل في وظيفة المصلح الدعوةُ إلى نبذ الأخلاق السافلة، والتحلي بالأخلاق الفاضلة. وإصلاح الأخلاق بالمقالات العامة نافع، وأقرب الوسائل في تربيتها أن يركبها المصلح في طبيعة كل شخص بعينه، فكثير من الناس يتعلم الأخلاق الحميدة، ولا يشعر بأنه عارٍ من حليتها، وقد يدرك حقيقة الخلق الحسن وحقيقة ضده نظرياً، وتتشابه عليه صورهما في الواقع، فلا يكاد يفرق بينهما: وفي الناسِ من عدَّ التواضعَ ذلةً ... وعدّ اعتزازَ النفسِ من جهلهِ كبرا ومن هنا كانت تربية الأبوين الصالحين أرسخ أثراً من الأدب الذي يتلقاه الناشئ من الدرس أو الكتاب. وكان المصطفى - صلوات الله عليه - يرشد إلى مكارم الأخلاق بالحكمة العامة، ويتولى تربية الأفراد على وجه خاص، فكثيراً ما نرى في الأحاديث الواردة في الحثّ على الخلق الجميل ما يصرف الخطاب به إلى شخص بعينه؛ كقوله - عليه السلام - لمعاذ بن جبل: "أحسن خلقك للناس"، وقوله لجارية بن قدامة: "لا تغضب". ثم إن العمل لا يكون حسناً في نفسه إلا أن يسير به صاحبه في سنّة الله، ويقتدي فيه على آثار حكمته البالغة، فكان من شرط المصلح: درسُ كتاب الله، وسيرة رسوله الأعظم؛ ليكون على بصيرة من الأعمال التي يدعو الناس إليها. وقد ترامى على مقام الدعوة نفر لا يدرون ما الحكمة، ولا يفرقون بين السيرة القيمة والسيرة الضالة، فلطخوا النفوس بأرجاس تكاد تشبه هذه الأرجاس التي

تسيل من أفواه طائفة يسمون أنفسهم المجددين. وحيث كانت الأمة تفتقر في بقائها وطيب حياتها وحماية ذمارها إلى وسائل شتى؛ كالصناع والعلوم النظرية- من نحو الطبيعيات والرياضيات -، أصبحت هذه الوسائل من قبيل ما تجب الدعوة إليه، كما صرح بذلك أبو إسحاق الشاطيي وغيره من الراسخين في العلم، فإن عظم مصلحتها، والخطر الذي ينشأ عن إهمالها دليلٌ واضح على أنها داخلة فيما تأمرنا حكمة الله بالمسابقة إليه، ولكن الإسلام لم يفتح العيون في كل موضع من مواضع إصلاحها، وما أعطى لتفاصيلها قواعد؛ كما فعل في قسم العبادات، والمعاملات، والجنايات، وإنما أرشد إليها في كثير من أوامره؛ كقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 65]. ثم فوَّض استنباطها واختيار ما هو الأصلح منها إلى الفطر السليمة، والعقول الراجحة، كما قال المصطفى - صلوات الله عليه - في واقعة تأبير النخل: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"؛ فإن تمييز النافع والضار في مثل هذا لا يكاد يفوت مداركهم، أو يضيق عنه طوق عقولهم. وقد يسبق غير العارفين بأدب الشرع إلى بعض نظم مدنية، أو فنون حيوية، فلا حرج على إخوان الإسلام أن يحاكوا غير المسلمين، ويعملوا على مثالهم فيما يحسن في نظرهم من هذه النظم أو الفنون؛ فإن إحجامنا عن أخذ ما بأيدي المخالفين من المعارف والنظم المفيدة في هذه الحياة، يفضي بنا- كما قال أبو حامد الغزالي- إلى أن نحرم من كل صالح سبقونا إليه. فمن واجب دعاة الإصلاح أن يجيدوا البحث عن أحوال الأمم الأخرى؛

لعلهم يقتبسون منها ما يليق بحياة أمتهم، كما يتعين عليهم أن يعرفوا أسباب ارتقاء الشعوب، وعلل سقوطها؛ ليستعينوا بها في ضرب الأمثلة، ويؤيدوا بها صواب ما تهديهم إليه البصيرة الخالصة. وإذا استبان لنا أن وجوه الإصلاح كثيرة، وأن الدعوة لا تنهض بالأمة إلا أن تاتي على كل علة، فتصف دواءها، أدركنا شدة الحاجة إلى أن يكون المتصدي للدعوة جماعة مؤلفة من رجال رسخوا في علوم الشريعة، وألمّوا بالعلوم العمرانية، والشؤون المدنية، يجتمعون فيبحثون، ويسيرون تحت راية الإخلاص والإنصاف، ولو تقارب ما بين من درسوا علوم الإسلام، ومن درسوا العلوم الأخرى من المؤمنين، وتعاونوا على الدعوة، لأقاموها على وجهها المتين، وشادوا من قوة إيمان الأمة، وشرف أخلاقها، وسعة معارفها، وشدة عزمها حصونا تتساقط دونها مكايد عدوها خاسئة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55]. (انتهت رسالة الدعوة إلى الإصلاح)

أثر الدين في إصلاح المجتمع

أثر الدين في إصلاح المجتمع (¬1) كل أمة تنشد الإصلاح، وكثيراً ما يختلف زعماء الأمم في طرقه، وكثيراً ما تزِلّ أقدامهم إلى حضيض من الفساد، والحقيقة التي نقولها ونحن على بصيرة مما نقول، هي: أن الإصلاح الذي يرفع الأمة إلى منزلة تجلها القلوب، وتهابها العيون، وتجعلها في مأمن من أن تتداعى على أركانها، وتسقط إلى خمول واستكانة، هو الإصلاح الذي يرشد إليه الدين الحق، ذلك أن الدين الحق يسير بالناس على الطريقة الوسطى، فلا يأمر بما فيه حرج، كما يفعل بعض الدعاة المتنطعين، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ولا يجاري أهواء الناس ابتغاء مرضاتهم كما يفعل بعض الدعاة المتملقين. قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]. وغرضنا من هذا الحديث إلقاء نظرة عامة على نواحي الإصلاح الذي جاء به دين الإسلام، وسنتبع هذه النظرة العامة - إن شاء تعالى - بنظرات نقف بها في كل ناحية من نواحي هذا الإصلاح المعصوم، ونتحدث عنها بتفصيل، حتى نرى رأي العين كيف عالج الدين حاجات الاجتماع بحكمة وحزم. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد الخامس عشر.

بعث الله محمداً - صلوات الله عليه -، والعالم في جهالة غامرة، وأهواء جائرة، وأعمال خاسرة، وما زالت هدايته تتكامل حتى أخذت بالإصلاح من جميع أطرافه، فوضعت مكان الجهالة علماً، ومكان الأهواء همماً سامية، ومكان الخسر صلاحاً وفلاحاً. أصلح النفوس بالعقائد السليمة، وزودها بالأخلاق الزاهرة، وشرع من العبادات ما يؤكد الصلة بين العبد وربه، ثم نظر إلى أن الإنسان لم يخلق ليعيش في عزلة عن الناس، وإنما خلق ليكون واحداً من جماعة تتعاون على القيام بمرافق حياتها، والأخذ بوسائل سعادتها، فعني بحقوق ذوي القربى، فقرر النفقات والمواريث في نظم محكمة، وحرّض على إسعادهم، والبرِّ بهم من طرق المروءة وكرم الأخلاق. وحاط الزوجية بحقوق تجعل الزوجين في ألفة صادقة، وعيشة راضية، وأخذ بإصلاح رابطة أخرى هي رابطة الجوار، واتجه بعد إصلاح هذه الصلات الصغيرة إلى إصلاح رابطة الإيمان، ثم رابطة الإنسانية، ووضع للمعاملات المالية نظماً عادلة، وللجنايات عقوبات زاجرة، فأصبحت النفوس والعقول والأعراض والأموال والأنساب بتلك النظم والعقوبات في صيانة. وتناول الإسلام إصلاح الغذاء، فاذن في الطيبات من الرزق، وحرّم أشياء؛ لقذارتها، أو لأنها تلحق بالأبدان ضرراً، أو بالعقول خللاً، فترونه قد حرّم كل الميتة، وتناول السموم والمسكرات والمخدرات. ووضع الزينة بمكانتها اللائقة، فاذن فيها، وأنكر على من يتعمد اجتنابها بدعوى أن اجتنابها من الورع والتقوى، ولكنه نهى عن الإسراف فيها، وأنذر الناس سوء عاقبة المسرفين.

وشمل الإسلام بنظرته الإصلاحية ناحية السياسة الخارجية، واتجه فيها بين رفق وحزم، فاذن في الحرب متى كان الشر في السلم، وأذن في السلم متى كان الشر في الحرب، وقرر للحرب آداباً تخفف من ويلاتها، وتجعلها كالدواء لا يتجاوز به المقدار الذي يحصل به الشفاء، وأذن في عقد المعاهدات على وفق المصلحة العامة، وحثَّ على الوفاء بالعهد. وأرشد الدين إلى التسامح في معاملة المخالفين غير المحاربين، تسامحاً يرضي الإنسانية دون أن يبخس حقاً، أو ينصر باطلاً. قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. ووجد الإسلام في الناس مزاعم شأنها أن تكدر صفو الفكر، أو تعوق عن كثير من الأعمال الفاضلة، فأماطها عن الطريق السوي؛ كالتشاؤم ببعض الأمور، والإخلاد إلى البطالة بدعوى التوكل أو الزهد، وزعم الاطلاع على الغيب. ونظر إلى أشياء هي وسائل إلى رقي الفكر البشري، أو وسائل إلى ازدهار العلوم على اختلاف موضوعاتها، فأدخلها في دائرة إصلاحه؛ كتحرير العقول من أسر التقليد، ودعوتها إلى الاعتماد على الحجة والدليل. {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]. وكرفعه من شأن العلم، وحثه على طلبه، والسعي إلى تلقينه بقدر الطاقة {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. ولو قلت: إن النهضة العلمية الزاخرة التي ظهرت ببغداد وقرطبة هي من أثر الإصلاح الديني، لم أكن مخطئاً. أصلح الدين الشؤون الفردية والاجتماعية بما أشرنا إليه من النظم

والآداب، ولا بد لهذه النظم والآداب من سلطان يشرف عليها، ويرد إليها من يحاول الخروج عنها، وذلك ما يسمونه السلطة القضائية أو التنفيذية، فدعا الدين الحق إلى إقامة هذه السلطة، ورسم لها سيرة حازمة عادلة، ومما أخذه عليها: أن تقيم سياستها على قاعدة الشورى، ومثل قاعدة: التسوية بين أفراد الأمة وجماعاتها، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وقال وأثنى تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. قال- عليه الصلاة والسلام -: "وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها". وكما جعل هذه السلطة راعية للأمة، جعل لعلماء الأمة وحكمائها الحق في أن ينصحوا للحائد في قضائه اْو تنفيذه عن طريق الرشاد. قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. ومن أثر إصلاح الدين للقضاء: ما يحدثنا به التاريخ عن أمثال قاضي قرطبة منذر بن سعيد؛ إذ كانوا يحكمون على الخليفة في قضايا يرفعها عليهم ناظر يتيم، أو تاجر قليل البضاعة خامل الذكر. وقد أتت رعاية العلماء الأمناء للسلطة القضائية أو التنفيذية فيما سلف بخير كثير. يرعى الدين مصالح الأفراد والجماعات، وينهى عن الأعمال والمعاملات الضارة، وإن رضي بها من يلحقه ضررها، ومن هنا شرع الحجر على السفهاء، وحرم الزنا ونحوه في كل حال. ويتحدث الناس عن الاشتراكية، وقد حل الدين هذه المشكلة. بأن جعل للفقراء أنصباء في أموال الأغنياء تؤخذ لهم، رضي الأغنياء أم كرهوا، وإذا نظرنا إلى أن الغني الذي يكون في ماله حق للفقراء هو كل من يملك النصاب

المقرر في الزكاة، عرفنا أنها اشتراكية كافية وعادلة. وإذا تحدث الناس عن الرفق بالحيوان، فإن الدين الإسلامي قد وجه إلى الحيوان جانباً من عنايته، فحض على الرفق به، ونهى عما فيه تعذيب له، وشواهد هذا من نصوص الشريعة وسيرة علماء الأمة وأتقيائها ليست بقليل. يحض الإسلام على إصلاح شؤون الأمة عامة أو خاصة، حتى إنك لتراه يأمر بالفعل المشتمل على مصلحة، ويحذر أن يعتذر الناس بفقد الوسائل التي يتحقق بها هذا العمل الصالح، فيعود إلى الأمر بإعداد وسائله، حتى يتحقق الإصلاح، كما أمر بالدفاع عن الأوطان، وحذر أن يقول الناس عند الحاجة إلى الدفاع: ليس بأيدينا من سلاح، فقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. ومن حرص الدين على الإصلاح، وأخذه في الدعوة إليه بالحيطة: أنه ينهى عما فيه مفسدة، ثم يعود إلى الوسائل التي تفضي إليه لا محالة، فيمنعها، ومن هنا تقرر في قواعد الشريعة قاعدة: سد ذرائع الفساد. وقد سلك الدين في الدعوة إلى الإصلاح أساليب حكيمة؛ ليجعلها قريبة من النفوس، فلا تلبث أن تتلقاها بالقبول. ومما تراه في أساليبه: أن يرشد إلى ناحية الإصلاح بكلمة عامة تجري مجرى الحكمة السائرة، ويذكر بعد ذلك ما يرى الحاجة داعية إلى بيانه وتفصيله، فانظروا إليه كيف قال في إصلاح صلة الزوجية: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]. ثم دل القرآن المجيد، وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - على كثير مما لهن أو عليهن من الحقوق بتفصيل. ويدلكم على أن الإصلاح الديني مراعى فيه حفظ المصالح، ودرء المفاسد

في الواقع: رجوع أحكامه بعد الاستقراء إلى أربعة فصول: "الضرر يزال"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"الأعمال بمقاصدها"، واالعادة محكمة". تناول الدين بنصوصه وأصوله نواحي الإصلاح أينما كانت، وليس من شك في أن اتباع الناس لهدايته أقرب، وسيرهم على ما يرسمه من الخطط أيسر، فإذا نحن دعونا إلى الإصلاح بحكمته، وذكرناهم بموعظته، أمِنّا ما يزِلُّ فيه الدعاة من عثرات، وكفينا ما يواجهون به من إعراض وعصيان. ذلك دين الله، لا يدعو إلا إلى الخير، ولا ينهى إلا عن سوء، وقد أنصف الفيلسوف أبو العلاء المعري حين قال في لزومياته: دعاكم إلى خير الأمور محمدٌ ... وليس العوالي في القنا كالسوافِلِ حداكم على تعظيم من خلق الضحى ... وشهب الدجى من طالعات وآفلِ وألزمكم ما ليس يُعجز حملُه ... أخا الضعف من فرض له ونوافلِ وحثَّ على تطهير جسم وملبسٍ ... وعاقب في قذف النساء الغوافلِ وحرم خمراً خلتُ ألباب شربها ... من الطيش ألباب النعام الجوافلِ فصلى عليه الله ما ذزَّ شارق ... وما فتَّ مسكاً ذكره في المحافلِ

أثر أدب اللغة في نجاح الدعوة إلى الإصلاح

أثر أدب اللغة في نجاح الدعوة إلى الإصلاح (¬1) العلم في نفسه فضيلة، ومن أتقن علماً من العلوم المعدودة في وسائل السعادة، أصبح ركناً من أركان نهضة الأمة، تنشرح الصدور لبقائه، وتحزن القلوب لفقده، ولكن العلم الذي يضيف إليه صاحبه الحذق في صناعة الأدب، يكون فضله أظهر، وأثره أقوى وأشمل. ولو سألت التاريخ عن العلماء الذين طار صيتهم في الآفاق، أو تركوا آثاراً لا تضعها يد إلا تناولتها يد أخرى، لوجدت معظمهم من العلماء الذين خاضوا غمار أدب اللغة، ويلغوا فيه غاية سامية. ذلك أن أدب العالم يجذب إلى مجالسه الأذكياء من الطلاب، فيبذر علومه وآراءه في عقول خصبة، ويساعده على أن يقرر الحقائق بعبارات رصينة أنيقة، فتقع من النفوس وقع العذب الفرات من الكبد الحرّى. وإذا كان العالم غير الأديب يلقي المعاني في عبارات لا يراعي فيها إلا أن تكون دالة على المعنى بمقتضى وضعها العربي، فإن العالم الأديب يستطيع شيئاً آخر وراء ذلك، هو أن يصوغ المعاني في عبارات تألفها أذواق السامعين أو القارئين، وتهوي إليها أفئدتهم، فيكون لها في نفوسهم أثر لا يوجد مع العبارات الخالية من روح الأدب، وإن صحت دلالتها على ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثامن.

المعنى في نظر اللغويين والنحاة. للأدب أثر في أن يكون وعظك ناجحاً، ورأيك نافذاً. وللأدب أثر في أن تسوق القصة، فتسرع القلوب إلى ملاحظة ما حوته من عبرة. وللأدب أثر في أن تستقر الآراء العلمية في نفوس كانت قد عرضت عليها في غير أسلوب أدبي، فلم تسكن إليها. فالأديب يحسن عقد المشابهة بين المعقولات والمحسوسات، أو بين المعاني الخفية والمعاني الجلية، ويجيد الاقتباس من آيات القرآن الحكيم، ويضع الأمثال في المقامات الشبيهة بمواردها، وهو الذي يريد أن يتحدث عن المعنى الواحد في المقام الواحد مرات متعددة، فيستطيع أن يعبر عنه في كل مرة بطريق يعرضه عليك في صورة جديدة، فتجد من الارتياح له ما لا تجده عندما ياتيك في صورته التي عرفته بها أول مرة. ولو نظرت في المواعظ التي كانت تلقى على الأمراء والوزراء ونحوهم من الرؤساء المستبدين، فيلاقونها بسكينة، أو يتقبلونها بقبول حسن، لوجدت كثرها من قبيل المواعظ التي ينفث فيها الأدب شيئاً من روحه اللطيف، ولاسيما أدباً يتالق في موعظة صادرة عن إخلاص. وإذا كان أولو الأنظار السليمة يعرفون الحق في أي عبارة ظهر، ويدركون الحجة في أي مقال وردت، فإن في الناس من يرد عليه الباطل في زخرف من القول، فيحسبه حقا، وتتعرض له الشبهة في حلية من محاسن البيان، فلا يرتاب في أنها حجة، ذلك لأنه يتخيل أن بين البراعة في القول، والسداد في الرأي صلةً لا تنقطع، فلا تراه يزن المعاني بميزان المنطق ليعلم صحيحها من سقيمها.

وهؤلاء الذين يستهويهم رونق الألفاظ أكثر من حكمة معانيها، ليسوا بقليل، فلا ينبغي لنا أن نستخف بهم، وندعهم لعصبة المضلين، يعرضون عليهم الآراء المنحدرة بهم في شقاء. وإذا لم يكن لأولئك المضلين سبيل على المستضعفين سوى أنهم يحبرون لهم القول تحبيراً، فمن الميسور لدعاة الإصلاح أن يسابقوهم في مضمار البراعة، فإنهم متى ألبسوا الدعوة إلى الحق والفضيلة أساليب بديعة، أحرزوا الغاية، وأنقذوا أولئك المستضعفين من ضلال بعيد. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخير لإبلاغ رسالته الملوك والرؤساء من عرفوا بالحكمة وفصاحة اللهجة، تعرف هذا حين تقف على أسماء أولئك المبعوثين، وتقرأ شيئاً من أحاديث دعوتهم؛ كقول العلاء الحضرمي للمنذر ابن ساوي ملك البحرين: "يا منذر! إنك عظيم العقل في الدنيا، فلا تصغرن عن الآخرة". وقول سليط بن عمرو لهوذة بن علي ملك اليمامة: "إن قوماً سعدوا برأيك، فلا تشق به". وقول عمرو بن أمية الضمري للنجاشي: "إن عليّ القول، وعليك الاستماع، إنك كأنك في الرقة علينا منا، وكأنا بالثقة بك منك؛ لأناّ لم نظن بك خيراً قط إلا نلناه، ولم نخفك على شيء إلا أمناه". وقول عبد الله بن حذافة لكسرى: "قد ملك قبلك ملوك أهل الدنيا وأهل الآخرة، فأخذ أهل الآخرة بحظهم من الدنيا، وضيع أهل الدنيا حظهم من الآخرة، فاختلفوا في سعي الدنيا، واستووا في عدل الآخرة". وقول دحية ابن خليفة الكلبي لقيصر ملك الروم: "فاسمع بذلّ، ثم أجب بنصح، فإنك إن لم تذلل، لم تفهم، وإن لم تنصح، لم تنصف". عني بأدب اللغة نفر تصدوا بعد للكتابة في العلم أو الاجتماع أو السياسة،

وكانت آراؤهم بعيدة من الرشد، واستطاعوا أن يسوقوا بعض الشبان الغافلين إلى غير حق، أو غير فضيلة، ويقذفوا بهم في إباحية هوجاء، ومن طباح هؤلاء القادة غير الراشدين أن يستخفوا بمن يقف في سبيلهم، ولو كان غزير العلم، قوي الحجة، إلا أن ينطق بأفصح من ألسنتهم، أو يكتب بابرع من أقلامهم. وإذا اتخذ بعض الكتاب أو الخطباء أدب اللغة سلاحاً يقطعون به سبيل الخير والفلاح، أفلا يجدر بدعاة الحق والفضيلة أن يسبقوا إلى تقلد هذا السلاح، ويغوصوا في علم الأدب إلى غاية بعيدة، ويعملوا لإعلاء شأن هذا العلم، حتى تخرج لنا المعاهد الدينية والمدارس العلمية رجالاً يوردون الحجج في أساليب سائغة، ويزيحون عن الشبه والمغالطات ما تضعه على وجوهها من صبغة خادعة؟!. ولم ننس أن في الشرق لهذا العهد رجالاً يجمعون بين حصافة الرأي، وطهارة القلب، وبلاغة القول، ويجاهدون في الإصلاح جهافى من لا يخافون لومة لائم، ولكنهم بالنظر إلى الطوائف الذين يحاربون الهداية، ويصدون عن سبيل الله، لا يبلغون الكفاية. والقصد: أن نعد للدعوة إلى الإصلاح قوة من الخطابة والكتابة تستطيع أن تقف في وجه كل دعاية لا تأتي بخير.

حرية الدعوة فى دليل على رقي الأمة وعظمة الدولة

حريّة الدعوة فى دليل على رقي الأمة وعظمة الدولة (¬1) أطيب الأمم حياة: أمة تجد الدعوةُ إلى الحق بينها طرقاً معبدة، فتذهب مطلقة العنان دون أن تعترضها عقبات. وإنما تملك دعوةُ الحق حريتها في ظلال دولة تسير في سياستها على رشد، ولا غاية لها إلا أن ترعى أمة عزيزة الجانب، نبيهة القدر. يدرك المخلصون من أولي الأمر أن لا فلاح لأمة إلا بالدعوة، فينظرون إلى دعاة الإصلاح بارتياح وإكبار، ويدرك الدعاة إلى الإصلاح أن فتح باب الحرية في وجه الدعوة شأن الدولة التي تريد بأمتها خيراً، فتألفها قلوبهم. ويبذلون في تنبيهها لوجوه الإصلاح جهدهم. فالدعوة إلى الحق ميزان الحرية الصادقة، ودليل رقي الشعب، فإذا رأيت الدعوة تغشى كل موطن، وتطرق كل سمع، فاعلم أن الحرية باسطة أجنحتها، وأن الشعب سائر إلى حياة راضية. ولو رجعت إلى ماضي الأمم، رأيت هذه الحقيقة رأي العين: ترى الدعوة ترد مجالس بعض الرؤساء، فيفسح لها، ويتلقاها بأذن واعية، ويعمل لنفاذها، فتفهم من الجهر بالدعوة، وإبلاغها مسامع الرؤساء، أن الدعاة إلى ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد الثاني عشر.

الحق في يقظة وعزم، وتفهم من عدم مقابلتها بالامتعاض: أن للرؤساء صدوراً فسيحة، وبصائر سليمة. وإذا قيض الله لأمة دعاة لا تأخذهم غفلة ولا جبن، ورؤساء يسمعون دعوة الحق، فلا تاخذهم العزة بالإثم، فهي الأمة البالغة الذروة من السعادة، أو السائرة إلى الذروة بخطا سريعة واسعة. ولا أريد أن أذهب بك إلى عهود الخلفاء الراشدين، فتلك عهود معروفة بان الداعي يقول فيها كلمة الحق، وهو على يقين من أنه محفوف بالأمن من كل ناحية، حتى لا يحس الحاجة إلى تذكير نفسه بفضل الشجاعة، ومعروفة بأن الرئيس يسمع فيها كلمة الحق، ويسيغها دون أن يجد لها مرارة، ولكني أريد منك التفاتة إلى عهود دول إسلامية جاءت بعد تلك العهود الزاهرة، وأخذت فيها الدعوة إلى الحق أو الإصلاح حريتها، وكان الفضل في هذه الحرية لقوة إيمان الدعاة بما قاموا يدعون إليه من صالح، ولاستنارة بصائر الرؤساء، وإخلاصهم في تدبير شؤون جماعاتهم. ومن العهود التي حظيت فيها الدعوة بحريتها الضافية: عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر بالأندلس، فكان العلماء في عهده يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويحكمون بما أنزل الله، لا يخافون لومة لائم، وكثيراً ما يوجهون أمرهم ونهيهم إلى الخليفة نفسه، فيتلقى دعوتهم بالرضاء، ولا تحدثه نفسه بان يلحق بهم أذى، أو يقطعهم عن القيام بواجبهم، أو ينقصهم مثقال ذرة من الإجلال اللائق بمقاماتهم، وكان منذر بن سعيد البلوطي قاضي قرطبة يواجهه بإنكار بعض أفعاله الخاطئة، وربما اشتد في لهجة الإنكار، وكان في مقدور الناصر أن يناله بأذى، ولكنه عرف إخلاص منذر، فتلقى إنكاره بأناة وسكينة.

ومن العهود التي أخذت فيها الدعوة حريتها: عهد أبي جعفر المنصور، وأذكر أنه وفد إليه عبد الرحمن بن زياد من القيروان، فلما جلس إليه، قال له المنصور: كيف رأيت ما وراء بابنا؟ قال: رأيت ظلماً فاشياً، وأمراً قبيحاً!! قال له أبو جعفر: لعله فيما بعُد عن بابي، قال: بل كلما قربت، استفحل الأمر وغلُظ، قال: ما يمنعك أن ترفع ذلك إلينا وقولك عندنا مقبول؟ قال: رأيت السلطان سوقاً، وإنما يرفع إلى كل سوق ما ينفق فيها. فأثّرت في أبي جعفر الموعظة، حتى اغرورقت لها عيناه. وقد تحظى الأمة برجال تذهب بهم الغيرة على الحقوق والمصالح أن يقولوا الحق، ويتحروا في دعوتهم الصراحة، ولكنها تكون محرومة من رؤساء تتسع صدورهم لسماع كلمة الحق، فيعملون جهدهم لإسكات أولئك الدعاة، ويأخذون في قطعهم عن الدعوة بكل ما يستطيعون من حيلة. وهاهنا يقع بين أولئك الدعاة والرؤساء جدال وتدافع، يريد الدعاة أن يوصلوا نصائحهم إلى كل أذن، ويشعروا كل مفسد بأنه مفسد، ويريد الرؤساء أن يستبدوا بتصريف الشؤون، ولا يشاركهم فيها أحد، ولو على وجه الوعظ والإرشاد. وبين هذا الجدال والتدافع يسقط من صفوف الدعاة كثير من المستضعفين والمرائين، أما قوي العزيمة، سليم الإرادة، فيبقى ثابت القدم في الجهاد، وقد يدعوه إخلاصه وحكمته إلى أن يسلك في الدعوة أساليب تنفذ بها إلى القلوب، دون أن يجد المستبد الذي فيه مسكة من عقل منفذاً لصرفه عن الدعوة. فإذا حكى التاريخ، أو دلت المشاهدة على أن طائفة كانوا يدعون إلى حق جُحد، أو فضيلة أضيعت، ثم أخلدوا إلى الصمت، والحق لم يزل

مجحوداً، والفضيلة لم تزل مضاعة، فلك أن تجعل هذا الصمت أمارة على أن الدعوة لم تقم على إيمان قوي، وغيرة صادقة. وقد يتولى أمر الجماعة رحيب الصدر، العارف بما تأتي به الحرية الصادقة من الفوائد العظيمة، ولكنك ترى طائفة من شأنهم الدعوة إلى الحق في خمول وانزواء، وإذا كان الصمت عن الدعوة في عهد المستبد قبيحاً، فهو في عهد من يوسع صدره للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشد قبحا، وأكبر إثماً. وإذا كان من واجب دعاة الإصلاح صرف الجهد في معالجة المنحرفين عن السبيل، وانتزل ما في قلوبهم من قسوة حتى يالفوا سماع كلمة الحق، فإن من واجب ولي الأمر، الرافع للواء العدل، أن يبذل همته في معالجة المهملين للدعوة، وينتزع ما في نفوسهم من دواعي الجبن أو اليأس، حتى يظهروا في ميدان الجهاد لإعلاء كلمة الحق، وإزهاق روح الباطل، فيزعوا بحكمتهم ما لا يزعه السلطان القاهر بقوته. والغاية التي نرمي إليها في هذا المقال: أن الأمة التي تحظى بالحياة الطيبة في دنياها وآخرتها، هي الأمة التي تنبت أرضها رجالاً تتقد قلوبهم غيرة على الحق، ويكون القابضون على أمرها رجالاً لا يعترضون دعوة الإصلاح، وان نسبت إليهم عوجاً في سيرتهم، أو نبهتهم لخطأ في سياستهم.

أصول الإصلاح الاجتماعي

أصول الإصلاح الاجتماعي (¬1) يعمل المصلحون على أن تكون شؤون أممهم الاجتماعية في نظام وصفاء، ولا تستقيم هذه الشؤون، وتخلص من كل كدر، إلا حيث تكون الأمة قد استوفت وسائل القوة والمنعة، وهي: الارتواء من مناهل العرفان، والرسوخ في مكارم الأخلاق، والاعتصام بحبل الائتلاف والاتحاد، وتوفير الأيدي على العمل لكسب الأرزاق. وهذه الوسائل الأربع إنما تعود على النفس بطمأنينة، وتذيقها طعم حياة لذيذة متى سبقها إيمان يضرب بأشعته في كل سبيل. فتفاضل الأمم في مراقي العزة والقوة، يجري على قدر تفاوتها في الإيمان والعلم وكرم السجايا، ومتانة الاتحاد، والسعي لاكتساب الطيّب من الرزق. أما الإيمان، فهو النور الذي يسعى بين أيدي الجماعة، يرد بها كل ورد عذب، ويرتاد بها كل مرعى خصب، وهو الوسيلة التي يبتغون بها رضا الخالق - جل شأنه -، وإذا ظفروا برضا الخالق، وفّقهم لكل عمل مجيد، وجعلهم إذ يجارون غير المؤمنين هم السابقين، وإذ يناضلون غير المؤمنين هم الفائزين. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء العاشر من المجلد السابع عشر.

وقد دل التاريخ الصادق، والمشاهدات المتواصلة على أن المنتمين إلى دين حق، لا يدركهم خمول، ولا تعلو عليهم يد ممن سواهم إلا حيث يتضاءل الإيمان في قلويهم تضاؤلاً ينسيهم جلال علاّم الغيوب، ولا يبقى لحكمته البالغة عليهم من سبيل. والسياسة الرشيدة تعلم يقيناً أن للإيمان الصحيح فضلاً في تقوية صلات الألفة والاتحاد، وفضلاً في تهذيب النفوس، وانتظام الأمن في البلاد، فتوجه عنايتها إلى تربية النشء على تعظيم أمر الله تعظيماً يتجه بهم إلى أفضل السير، وأحمدها عاقبة، وفي الحق أن من يضع في نفس الناشئ إيماناً مسنداً إلى حجة، إنما يبني فيها أساساً للسيرة القويمة، والعواطف الكريمة. وأما العلم، فنريد منه: المعارف التي طلعت من أفق النبوة الصادقة، واستنبطتها العقول الثاقبة، أو ثمرتها التجارب الصحيحة، وفضل هذه العلوم في استبانة طرق الفلاح، واستكشاف ما في هذا العالم من أسرار، وتوفير أسباب الراحة في هذه الحياة، واضح بحيث يشهد به كل ذي باصرة، أو أذن واعية. والذي أرى التنبيه له في هذا المقام: هو أن الشرف إنما جاء على العلم من ناحية العمل به، فلو بلغ شخص الدرجة القصوى في علم من العلوم، ولم يكن لهذا العلم في حياته العملية من أثر، لكان هو والجاهل به سواء. فلا فضل للعالم بالشريعة إلا أن يقف بجانب حمايتها، ويأخذ نفسه بآدابها، ولا فضل للعالم بالهندسة، إلا أن يكون له قسط في تثبيت قواعد العمران والحضارة، ولا فضل لدارس الطبيعة، إلا أن يضع يده فيما يجلب للإنسانية راحة، أو يزيح عنها نصباً، ولا يحق لدارس علم أن يعد نفسه في قبيل أهل ذلك العلم، إلا أن يستطيع تحقيقه في صور عملية، كما يفعل

علماؤه الراسخون، والطالب الذي يقبل على العلم بداعية قوية من نفسه، هو الذي يسير فيه إلى أقصى غاية، ولا يرضى إلا أن يتجه به إلى الناحية الحيوية التي وُضع ودوِّن لإصلاحها. وليس من شك في أن المعلم الذي يدرّس علماً برغبة من نفسه، هو الذي يصلح لأن يناط به العمل الذي يتصل بذلك العلم، وهو الذي يرجى لأن ينهض به في غير سآمة، ويعده عزمه على أن يقوم به أفضل قيام. وأما أثر الأخلاق في رقي الاجتماع، فإن كل خلق يسد ثغرة في بناء المجتمع لا يسدها غيره، فالحاجة إلى إقامة المشروعات الكبيرة ثغرة لا يسدها إلا خلق السخاء، والحاجة إلى دفاع البغاة ثغرة لا يسدها إلا الشجاعة، ورباطة الجأش، والحاجة إلى حرية الدعوة إلى الحق لا يسدها إلى إقدام الدعاة، وحلم أولياء الأمور وأناتهم، ولطالما لهجت الألسنة والأقلام بتمجيد الأخلاق، ونوهت بما لها من فضل في الصعود بالأفراد والأمم إلى أوج السؤدد والكرامة، والذي يحتاج إلى ألمعية مهذبة، وبصيرة نافذة، إنما هو استبانة الطريق التي تسلك لتربية نشأتنا على الأخلاق الماجدة تربية تجعلهم يقدرونها حق قدرها، ويتنافسون فيها كما يتنافسون في العلوم والفنون. ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أقول: إن المعاهد والمدارس التي يدرَّس فيها علم الأخلاق، ويكون رؤساؤها وأساتذتها أنفسهم مثلاً كاملة للأخلاق الراقية، هي الكفيلة بأن تخرج لنا نشئاً نباهي بسمو أخلاقهم، قبل أن نباهي بغزارة علومهم، ورجاجة عقولهم، وطلاقة ألسنتهم. قال عمرو بن عتبة لمعلم أولاده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك

لنفسك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح ما تركت. وأما الاعتصام بحبل الائتلاف والاتحاد، فإن في الناس من تقصر يده عن الوصول إلى حقوقه الشخصية، ومآربه الحيوية، إلا أن يعينه عليها قوم آخرون، كما أن من مقتضيات الحياة الاجتماعية ما يتعذر القيام به إلا أن تتمالأ عليه الجماعات الكثيرة، والتعاون الفردي أو الاجتماعي إنما يصدر عن ائتلاف وتعاطف يجعل الأمة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، فإن تفرقت القلوب، ضاعت المصالح الفردية، واختل أمر المصالح الوطنية، وصارت البيوت بحال القبور، وإن كانت مفتحة الأبواب، وسكانها بحال الجثث الهامدة، ولكنهم لا يستغنون عن الطعام والشراب. وأما الثروة، فتدخل في أصول الإصلاح؛ من ناحيةِ أن كثيراً من المصالح الحيوية لا تقام إلا أن يبذل في سبيلها مال غزير، ثم إن كثيراً من الأخطار الداهمة لا يكفي في دفعها إلا قوة يسعدها الأغنياء بأموالهم قبل أن يسعدها الحكماء بآرائهم، وإذا استطاع الفرد أن يعيش في قلة من المال، وهو حافظ لكرامته، فإن الأمة لا تعيش حافظة لكرامتها إلا أن تكون في خزائنها أو بيت مالها ما يسد حاجاتها، ويكفل لها السلامة من كل قوة تحاول أن تسلبها حقاً من حقوقها. وشعر الناس في القديم بمزية المال، ومساعدته لذي الهمم الكبيرة على أن يدركوا من الحمد ما لا يدركه المقلّون منهم، كما قال أحد أدبائهم: أريد بسطة مالٍ أستعين بها ... على أداءِ حقوق للعلا قِبَلي وكذلك الأمم لا تدرك سيادتها كاملة إلا أن تضيف إلى ما لديها من بسطة العلم وسماحة الأخلاق بسطة في الأرزاق، وقد جعل الله تعالى

لبسطة الرزق أسباباً، وجعل تعاطي هذه الأسباب صالحة معدوداً في الطاعات التي يجازي عليها بالحياة الطيبة في الدنيا، والنعيم الخالد في الآخرة، والزهد الذي يعد في جملة الفضائل لا يراد منه إيثار الفقر على الغنى في كل حال، وإنما يراد منه طهارة القلب من التعلق بالملذات والزينات تعلقاً يدفع إلى الوصول إليها ولو من طرق خبيثة، والتوكل على الله الذي هو شعبة من شعب الإيمان المثمر إنما هو قوة اتجاه القلب إلى الخالق عند العزم على العمل، حتى يسعده بالتوفيق، ويمده بالتأييد، وشاهد هذا قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

من هو الواعظ بحق؟

من هو الواعظ بحق؟ (¬1) الوعظ: الدعوة إلى ما فيه خير وصلاح، والتحذير مما فيه شر وفساد، فالواعظ يرشد الجاهلين، وينبه الغافلين، ويعالج النفوس الطائشة مع أهوائها؛ ليعيدها إلى فطرتها السليمة من الإقبال على الفضائل، والترفع عن الرذائل، ولكن إرشاد الجاهلين، وتنبيه الغافلين، وتقويم عوج من غلبت عليهم شهواتهم، جهادٌ يحتاج صاحبه إلى ألمعية مهذبة، ودراية بالطرق الحكيمة، علاوة على العلم الذي يميز به بين الحق والباطل، ويفرق به بين المعروف والمنكر، ثم إن العلم والنباهة وحكمة الأسلوب لا تاتي بثمرتها المنشودة إلا أن يكون الواعظ طيب السريرة، مستقيم السيرة. فمن واجبات المتصدي للوعظ: أن يكون متفقهاً في الدين تفقه من يستطيع أن يدعو إلى ما قرره الدين القيم من عقائد وأحكام وآداب، ويكون بعد هذا سريع التنبه لما يجري بين الناس من وسائل شأنها أن تفضي إلى فساد، ويكون نافذ البصيرة إلى ما يستتر تحت أقوالهم أو أعمالهم من أغراض وخيمة العاقبة، ويكون بعد هذا وذاك خبيراً بالأساليب التي تدخل بالوعظ إلى أعماق النفوس، فتبدل جهالتها معرفة، أو غفلتها يقظة، أو أهواءها الجامحة شغفاً بالخير، وتقبلاً للنصيحة، ويضيف إلى هذا: أن يكون لباسُ ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الحادي عشر والثاني عشر من المجلد الثامن عشر.

التقوى شعاره ودثاره. أما التفقه في الدين، فتتكفل به السنون التي يقضيها الطالب بالمعاهد الدينية العليا متى قضاها مجدّاً في التلقي والبحث، وقد أشار القرآن المجيد إلى أن الوعظ إنما يقوم على التفقه في الدين؛ حيث قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. والتفقه في الدين هو الذي يجعل الموعظة نقية من نحو إيراد الأحاديث الموضوعة، والقصص المنبوذة، وتحسين البدع المحظورة أو المكروهة، بزعم أنها سنّة، أو موافقة لروح التشريع. وفي الحق أن الوعظ عمل جليل، وله في نظر الشارع مقام رفيع، وانما يحط من شأنه أن يتصدى له من لا يميز الأحاديث المصنوعة من الأحاديث الثابتة، ولا يفرق بين ما هو سنّة وما هو بدعة، ومن ينسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولاً لا يثق من أنه صدر منه، أو يلصق بالدين ما هو بريء منه، فقد ارتكب بهتاناً وإثماً مبينا، وكان مالك - رضي الله عنه - كثيراً ما ينشد البيت: وخيرُ أمورِ الدين ما كان سُنَّةً ... وشرُّ الأمورِ المحدثاتُ البدائعُ وأما اليقظة ودقة الملاحظة، ففي أصلها موهبة فطرية، ولكنها تقوى وتنمو على قدر ما يتقلب فيه الفكر من مشاهدات وتجارب ومطالعات تاريخية. فينبغي - مراعاةً لهذا الواجب - أن ينظر في حال طالب الانتظام في سلك الوعّاظ، ويلاحظ في اختبار مبلغ هذه الموهبة الفطرية، حتى إذا كانت مفقودة أو ضئيلة، ولم يكن فيه استعداد لتنميتها، صرف إلى ناحية أخرى يمكنه أن

ينفع فيها المجتمع بقدر ما أوتي من علم. وأما الأساليب الحكيمة، فتكتسب من النظر في سيرة الدعوة المحمدية، وسيرة الدعاة البلغاء في نصائحهم التي يوجهونها إلى الطوائف الخاصة أو الجمهور. يقولون: الموعظة ثقيلة على السمع، مستحرجة على النفس؛ لاعتراضها الشهوة، ومضادتها للهوى، حتى قال يونس بن عبيد: "لو أمرنا بالجزع، لصبرنا"؛ يشير: إلى ثقل الموعظة على السمع، وجنوح النفس إلى مخالفتها. ولكن صوغها في أسلوب راع يجعلها خفيفة على السمع، سهلة النفوذ إلى القلب، وقد تكون معاني الموعظة حاضرة في ذهن الشخص، ولا يجد في نفسه تأثراً بها، حتى إذا عرضت عليه تلك المعاني في أسلوب بارع، وقعت منه موقع الإعجاب، كأنها معان جديدة لم يسبق له بها علم. خرج الزهري يوماً من عند هشام بن عبد الملك، فقال: ما رأيت كاليوم ولا سمعت كاربع كلمات تكلم بهن رجل عند هشام: دخل عليه فقال: احفظ مني أربع كلمات فيهن صلاحُ ملكك، واستقامة رعيتك، قال: ما هن؟ قال: "لا تعد عِدة لا تثق من نفسك بانجازها، ولا يغرنكّ المرتقى وإن كان سهلاً، إذا كان المنحدر وعراً، واعلم أن للأعمال جزاء، فاتق العواقب، وأن للأمور بغتات، فكن على حذر". ومعاني هذه الموعظة لا تغيب - فيما أحسب - عن أمثال الزهري، وإنما جاء إعجابه مما كسيت به من الإيجاز الساحر، وسلامة الألفاظ، وجمع الحكم الأربع في نسق جعلها كعقد ملتئم الدرر، محكم التأليف. وأما التجمل بالتقوى في السر والعلانية، فيستمده الواعظ من قوة الإيمان بأن الله يعلم ما يسر الناس وما يعلنون؛ ومن تيقنه بأن دعوته إلى فعل شيء

هو تاركه، أو إلى ترك شيء هو يفعله لا تتجاوز الآذان إلى القلوب، وتذهب كما يذهب الزبد جفاء، وقد أشار القرآن المجيد إلى أن داعي الناس إلى معروف لا يفعله، معدودٌ في فاقدي العقول، وهو جدير بأبلغ عبارات التوبيخ، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]. والتقوى هي التي تجعل الواعظ مخلصاً فيما يأمر به، أو ينهى عنه، وللإخلاص أثر كبير في نجاح الموعظة، وانشراح الصدور للانتفاع بها على أي حال. والتقوى الصادرة عن التفقه في الدين بحق، هي التي تكسو الواعظ وقاراً وحسنَ سمتٍ غير مصطنع، فتمتلئ العيون بمهابته، فإذا ألقى الموعظة، ذهبت تواً إلى القلوب، وأثمرت كلماً طيباً، وعملاً صالحاً. يجمل بالواعظ أن يراه الناس في وقار وحسن سمت، فذلك مما يدعوهم أن يتلقوا وعظه بحسن القبول، ومما لا يليق بمكانته - على ما يبدو لي - أن يقف أمامهم، ويكثر من حركات يديه ورأسه، أو يحرص على أن يقص عليهم القصص المضحكة، ويطارحهم النكت المسلية، فللضحك والتسلية مسارح ومناظر، إنما شرعت مجالس الوعظ للتخفيف من أثرها الذي هو الافتتان بزخرف هذه الحياة، والغفلة عن سبيل الفلاح في الحياتين: الأولى، والآخرة.

الإسلام والعلم

الإسلام والعلم (¬1) طلع الإسلام، فوجد طرقاً من الباطل مسلوكة، ومظاهر من الفساد مألوفة، فجاهد تلك الأباطيل حتى زهقت، وكشف عن قبح تلك المفاسد حتى هجرت، قوّم النفوس حتى استقامت على توحيد الله تعالى، والعبادات التي يتقبلها، ويجزل المثوبة عليها، وعلّمها بعد هذا كيف تعيش في هذه الدنيا عالية الهمم، نبيلة الأعمال، عزيزة الجانب، محفوظة الكرامة، مأمونة العواقب، سديدة الأنظار، رشيدة الآراء، متواصلة القلوب، وتفاضل الشعوب على قدر أنصبائها في هذه الخصال والمزايا التي لا تتحقق المدنية الفاضلة إلا بها. دعا الإسلام إلى تلك المقاصد السامية، وأخذ في دعوته لإقامة الحجة، وإلقاء الحكمة، وضرب الأمثال، وإيراد القصص العامرة بما فيه عبرة. نشأ هذا الدين الحق بين خصوم يناصبونه العداء، ويأتمرون به ليطفئوا نوره، ويقطع السبيل دونه، وما كان إلا أن خاب سعيهم، فسطعت حجته، وعلت كلمته، ومع سطوع حجته وعلو كلمته يلقى في كل عصر طوائف يكل الزيغ قلوبهم، فيطعنون فيه علناً، أو يذهبون في الكيد له مذهب التاويل الفاسد وهم يعلمون. ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء السادس من المجلد الرابع - القاهرة.

ولم يفقد - بتوفيق الله تعالى - في كل عصر طائفة من ذوي العقول الراجحة، لا يخشون في الذود عن موارده لومة لائم، فيزيحون من طريق هدايته ما يلقيه أولئك الجاحدون أو المراؤون. ومن هذه الطوائف الخاطئة من يزعم أن الإسلام لم يبعث الدواعي إلى طلب العلم. والواقع أن الإسلام قد رفع قدر العلم، ونوّه بشان العقل، وسلك بطلاب العلم مسالك النظر والاجتهاد، وعوّدهم على نقد الآراء، وتمييز زائف الأخبار من صحيحها، فلما نقلت العلوم النظرية إلى اللغة العربية، وجدت منهم نفوساً تلذ العلم، وعقولاً تنشط للمناظرة، وألسنة تعرف كيف تقرر الحجة، ففتحوا لها صدورهم، ووضعوها تحت سلطان أنظارهم، ولم يمنعهم إعجابهم بها، وتنافسهم على التضلع من مواردها، أن يطلقوا الأعنة في مناقشتها، وتقويم المعوج من مذاهبها، فسدّوا ثغوراً يأتي من قِبَلها الباطل، وذلّلوا لطلاب العلم الطريق الذي تفيؤوا فيه ظلال الرشد، وتدني فيه الفلسفة المعقولة قطوفها، فقامت للعلوم- على اختلاف موضوعاتها- سوق نافقة، وأصبحت ترى علوم الشريعة وعلوم الفلسفة المعقولة يلتقيان في النفوس المطمئنة بالإيمان، وتسنى للتاريخ أن يحدثك عن كثير من علماء الإسلام، ويصفهم بأنهم جمعوا بين العلوم الشرعية والعلوم الفلسفية؛ كالغزالي، وابن رشد، وأبي عبيدة مسلم بن أحمد الأندلسي، وهو أول من اشتهر في الأندلس بعلم الفلسفة، وكان - مع هذا - صاحب فقه وحديث. ومن الظن الخاطئ ما تخطه بعض الأقلام من أن هذه العلوم المادية قد تشد أزر الإلحاد، وتجعله يظهر على دين كدين الإسلام؛ فإن النظر الصحيح في هذه العلوم لم يأت بما يؤازر الإلحاد، وليس في نصوص الدين الإسلامي

وأصوله ما يتعارض مع العلم الصحيح حتى يستطيع الإلحاد أن يتخذ منه قوة، وإنما الآراء التي تدفعها الحجة قد تقع في يد من لا يحسن نقدها، ولا يميز رأسها من عقبها، فيعارض بها آية من كتاب الله، أو حديثاً صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويذهب في الحيرة أو الضلالة إلى مكان بعيد. وقد تكون آفة الرجل من عدم تفقهه في الدين، وتخيله أن معنى الآية أو الحديث يخالف ما أثبته العلم الصحيح. فبلاء أبناء المسلمين الآن من أحد رجلين: رجل يتعلق بآراء المنتمين إلى الفلسفة، لا يفرق بين جيدها وزائها، حتى إذا لقي في الدين ما لا يوافق تلك الآراء الزائفة، خالطه الريب أو الجحود، ورجل يدرس الفلسفة، ولكنه لم يدرس الدين في طمأنينة، ولم يبحث في حقائقه بنظر فاصل، فيتوهم أن بعض نصوص الدين أو أصوله لا يطابق المعقول. ماذا يكون مبلغنا من الحكمة إذا لم نزن آراء علماء الغرب بالقسطاس المستقيم، ولم نفرق بين ما ينبني على علم أصيل، وما يقولونه على وجه الفرض، أو يتعلقون فيه بشبه واهية، وعمدنا إلى كل نص يظهر لنا أنه مخالف لرأي من آراء أولئك العلماء، فنذهب في تأويله إلى معنى يطابق ذلك الرأي، حتى إذا انكشف الحق، وظهر للملأ أن ذلك الرأي خيال في خيال، عدنا إلى ذلك التأويل، فمحوناه بايدينا، وكذلك يفعل من يستهويه كل ناعق، ويفتنه كل جديد. لم يخلص الدين من مبتدعة أو زنادقة افتروا عليه مزاعم باطلة، وذهبوا في تاويله مذاهب فاسدة، وقد قام علماء الشريعة الذين يردون منابعها العالية، فبينوا بطلان تلك المزاعم، وفساد تلك المذاهب، فما كان لأحد أن يأتي إلى

أمثال هذه الأقذاء التي نفاها أهل العلم من قبل، ويتخذ منها شبهة على أن في الدين ما لا يقبله العقل، أو لا يرضى عنه العلم. فإنْ بدا لك أن في قسم العبادات ما لم يصل العقل إلى حكمته الخاصة، وهو ما يقول فيه بعض العلماء: هذا الأمر تعبُّدي، قلنا: معنى هذا: أن في الشريعة أحكاماً قد تخفى على العقل حكمتها المعينة، كما أنه لا يستطيع إنكارها إنكاراً يستند إلى وجه معقول، وهذا النوع - على قلّته في شريعة الإسلام- ليس بموضع خلاف بين الدين والعلم أو العقل، وإنما يرينا أن من أحكام الدين ما لا يدخل العقل في تفصيل حكمته، ولا في نفي حكمته، ولكن الآيات القائمات على أن الدين حق، هي الآيات البينات على أن هذه الأحكام مطوية على حكمة بالغة، وإن لم ندركها بوجه خاص، فإن الدين الحق لا يدعو إلا لما فيه خير {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].

التربية الدينية والشباب

التربية الدينية والشباب (¬1) سادتي! نقلب النظر في الأيام الخالية، فنقف على وقائع تحدث عنها التاريخ بإعجاب، ذلك أنها كانت مظهر قوة الفكر، ومتانة العزم. ومن هذه الوقائع ما رفع أمة من خمول إلى نباهة، أو نقلها من استعباد إلى سيادة، فإذا تجاوزنا الوقائع إلى الأيدي التي هزتها وأطلقتها من عقالها، وجدناها أيدي الشباب الذين يشعرون فيعزمون، ويبصرون الخطر فلا يحجمون. فذلك أبو مسلم الخراساني نهض بالدعوة العباسية، وزلزل عرش الدولة الأموية، وهو ابن إحدى وعشرين سنة. وتولى محمد بن القاسم الثقفي قيادة جيش قاتل قبائل ثائرة، فأطفأ ثورتها وهو ابن سبع عشرة سنة، وقال فيه الشاعر: إن السماحة والمروءة والنَّدى ... لمحمد بن القاسم بن محمدِ قاد الجيوش لسبع عشرة حجةً ... يا قربَ ذلك سؤوداً من مولدِ وقد نبّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن الولايات منوطة بالكفاية، وأن الكفاية ¬

_ (¬1) كلمة الإمام في مهرجان رابطة الشباب المصري - مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد التاسع.

للعظائم قد تتحقق في الشباب، فولى أسامة بن زيد جيشاً تخفق رايته على أمثال أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، ولم يتجاوز أسامة يومئذ الثامنة عشرة من عمره. ففي الشباب نفوس قريبة من الخير، وهمم لا ترضى من المجد إلا باللباب، فإذا توجه الشباب إلى غايات خطيرة، وساروا في طرق قويمة، فما للأمة إلا أن ترفع رأسها عزّة، وما لخصومها إلا أن يتقوا بأسها، ويجنحوا لسلمها. ومن أين لنا أن يتوجه شبابنا إلى السيادة لا يبغي بها بدلا؟ وإذا توجهوا إليها، فمن أين لنا أن يسيروا إليها في أقوم الطرق وآمنها؟ ذلك ما يجب علينا أن نفكر فيه بجد، ونبذل في سبيله كل جهد. نعم! ذهبنا بالفكر في كل مذهب، ورجعنا إلى التاريخ والتجارب، فلم ندع بعيداً إلا دنونا منه، ولا شافياً إلا كشفنا غطاءه، فلم نر لشبابنا سيرة تجعلهم خير شباب أخرج للناس، إلا أن نراهم يستنيرون بهدى الله، ويتنافسون في التجمل بآداب شريعته الغرّاء: أدب الفتى في أن يُرى متمسكاً ... بأوامرٍ من ربّه ونواهي إن الدين ليهدي للتي هي أقوم! يطبع النفوس على الأخلاق السمحة الكريمة؛ ويضع أمامها موازين تستبين به الرشد من الغي، ويريها كيف تحيا الحياة الزاهرة المطمئنة. فإذا تلقن شبابنا حقائق الدين نقية من كل بدعة، وابتهجت نفوسهم بحكمته ابتهاج البلد الطيب بالغيث النافع، فقد أعددنا للخوض في غمار

الحياة رجالاً لا يكتفون بالخُطب تلقى على المنابر، ولا بالمقالات تحرر على المكاتب، بل يعلمون فيقولون، ويقولون فيفعلون. وأراكَ تفعلُ ما تقولُ، وبعضُهم ... مذقُ اللسان يقولُ ما لايفعلُ إن الإيمان ليملأ القلوب إجلالاً للواحد الخلّاق، ومَنْ أجلَّ مقامَ خالقه، صغر في عينه كل جبار مخلوق، ومن الأمراض التي تأكل من كرامة الأمم أكلاً ذريعا، وترمي بالمهانة في أوطانها: أن ترهب سطوة المخلوق رهبة تمنعها من أن تقول في صدق، أو تعمل في حكمة. فحقيق بشبابنا أن يكون الإيمان الصادق رائدهم، فإنا لا نرى من ضعيف الإيمان عملاً إلا أن يكون مخلوطا برياءة ولا نرى له من سيرة إلا أن تنحرف إلى الشمال مرة، وتتأخر إلى الخلف مرة أخرى. وإذا كان في الأنابيبِ حيفٌ ... وقعَ الطيشُ في صدورِ الصِّعادِ وإذا قيل: إن الذمم تباع وتشترى، فإن ذمم المؤمنين الصادقين، لا يملك ثمنها إلا رب العالمين. كنا رأينا من بعض شبابنا انحرافاً عن الرشد، فخشينا أن تسري عدوى هذا الانحراف إلى سائر الشباب، فتصبح مصر - وهي زعيمة الأقطار الشرقية - مبعث الجحود والإباحية، ولكنا لم نلبث أن رأينا شباباً في المدارس العالية يحرصون على تلقي دروس علوم الدين، ويتبينون أحكامه وآدابه، ويتصلون بالجمعيات الإسلامية، بل أقول: إن للشباب الفضل في إنشاء هذه الجمعيات، أو المؤازرة على نهوضها. والواقع أن ما قام به بعض العاملين من دعوة الشباب إلى الدين، قد أتى بثمر على قدر الجهاد الذي بذل في هذا السبيل.

فمتى اتسعت دائرة هذا الجهاد، وكثر العاملون في صفوفه من رجال العلم، ووجه أولو الشأن عنايتهم للتربية الدينية أكثر مما وجهوا، متى تحقق هذا الأمل - ولا أراه إلا متحققاً -، أدركنا ما نبتغي من شرف وقوة، وفزنا بحياة آمنة المسالك، محمودة العواقب، ذلك وعد الله، والله لا يخلف الميعاد.

التعليم الديني في مدارس الحكومة

التعليم الديني في مدارس الحكومة (¬1) يشعر كل من يطلع على ما ينشر في الصحف، أو يشهد مجالس طوائف من الناس مختلفة: أن انحرافاً غريباً طرأ على الأخلاق، وأخذ يدب في نفوس النشء دبيب السم الناقع في جسم اللسيع، ويمتاز هذا الانحراف بأنه ناشئ عن زيغ العقيدة، لا عن مجرد الأهواء الغالبة. وزيغ العقيدة مصدر الأخلاق المرذولة في كل حين، إلا أن الدعاية إلى القبائح - فيما مضى - لم تبلغ في علانيتها ما بلغته اليوم، ألم يبلغ الحال أن يكتب الكاتب، أو يخطب الخطيب داعياً إلى ما يمزق رداء العفاف والكرامة، مخادعاً الشباب باسم الحرية، أو الفن الجميل؟ ولا جمال إلا مع الفضيلة، ولا حرية إلا لمن يلقى الناس بعرض سليم. والانحراف الناشئ عن زيغ العقيدة أصعبُ علاجاً من الانحراف الناشئ عن طغيان الشهوة؛ فإن زائغ العقيدة يستهين ببعض محاسن الآداب؛ بزعم أنها ليست من الحسن في شيء، ويخرج عن حدود المكارم؛ بدعوى أن هذه الحدود رسمت على غير حكمة. والمغلوب للشهوة وحدها قد ينصرف عن الحسنة معترفاً بأنه أقبل على سيئة، وينتهك حرمة الحق غير منازع في أنه ارتكب جريمة، وإذا احتجت ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء السادس من المجلد الثاني - القاهرة.

في تهذيب أخلاق الزائغ إلى إصلاح عقيدته بالحجة، فإنه يكفيك في تقويم أخلاق المنحط في أهوائه شيء من الموعظة، وتاثير الموعظة في زجر من يعرف الحق حقاً، والباطل باطلاً، أيسرُ من تأثير الحجة فيمن يبصر الباطل حقاً، أو الحق باطلاً. وقد يندى جبين المغلوب لأهوائه إذا أنبّته، ويعرف لك فضل النصيحة إذا ذكّرته، أما زائغ العقيدة، فإنه يحمل بين حاجبيه وناصيته ما هو أشد قسوة من الحجارة، ويرى إرشادك له لغواً في القول، فلا يعيرك فؤاداً صاغياً إلا أن تبقى فيه للإنصاف وحرية النظر بقية. ولا مرية في أن انحراف الزائغين أظهر فساداً، وأشد فتنة من انحراف الشاعرين بقبح ما يفعلون؛ فإن الزائغ يندفع فيما لا يليق إلا أن يرهب قانوناً حازماً؛ ولا يبالي أن يبصر به من لا يملك للقانون نفاذاً، أما الشاعر بقبح ما سيفعل، فشأنه أن يجتهد في التستر عن أعين الناس- حتى في حال أمنه- من أن يناله القانون بأذى، فإذا قست الجاحد بأمثاله في التعلم أو الأمية، وجدت لخروجه عن مكارم الأخلاق مواطن أكثر، ومشاهد أظهر؛ فتكون جنايته في الناس أكبر وأفظع، فلا شبهة في أن إصلاح العقائد أساس لتهذيب الأخلاق، وأن الأخلاق الكريمة لا تستقيم إلا على العقيدة السليمة. لم يتفشّ زيغ العقيدة فيما سلف تفشيه اليوم؛ لأن وسائل ساعدت على سريان وبائه لم توجد قبل، وأمهات هذه الوسائل ثلاثة أمور: أحدها: هذه المدارس التي يفتحها الأجانب في أوطاننا باسم العلم، ويغفل بعض المسلمين عن سريرتها، فتأخذهم بمظاهرها، حتى يسلموا أطفالهم - وهم على الفطرة - إلى من يصبغ هذه الفطر بسواد، وينزع منها

روح الأدب الذي يجعلهم أولياء لعشيرتهم، نصحاء لأمتهم. ثانيها: تهاون بعض الآباء بواجب أبنائهم، إذ يرسلون الناشئ إلى معاهد العلم باوربا قبل أن يتلقن من علوم الدين ما يجعل عقيدته مطمئنة، فيلاقي في أثناء الدراسة هنالك، أو في بعض المحادثات شُبهاً لا يجد في نفسه من الحجج ما يدفعها، وإذا تواردت الشبه على الناشئ، رانت على قلبه، وأصبح يبصر وجه الحق أسود قاتما، فيعود إلى وطنه وهو يحمل لأبويه عقيدة أنهما في ضلال قديم، وذلك جزاء من يستهين بهدى الله، ولا يهمه إلا أن يكون لابنه مورد رزق واسع، أو منصب في أحد الدواوين. ثالثها: أن كثيراً من الحكومات الإسلامية ضعف فيها روح الاعتزاز بالدين الحنيف، فاستباح واضعو برامج التعليم العام في مدارسها أن لا يضربوا لعلوم الدين بسهم، ومن يضرب لها، فبسهم لا يغني من جهل، والتعليم الذي يهضم فيه جانب العلوم الدينية، لا يرجى منه تهيئة نشء تتساقط عليهم الشبه فيطردونها، أو توسوس إليهم الشياطين فيستعيذون منها. وإذا كان سوء الأخلاق الذي هو علة اختلال النظام، ينشأ من زيغ العقيدة تارة، ومن طغيان الشهوات تارة أخرى، فإن الإسلام دين ينير العقول بالحجة، ويهذب النفوس بالحكمة، ولكم أخرجت مدارسه، أو مجالس القوّامين على هدايته من رجال يلاقون الأسود فيصرعونها، ويجارون الرياح فيسبقونها، يخفضون أجنحتهم تواضعا للمستضعفين، ويرفعون رؤوسهم عزّة على الجبارين، تعترضهم الأخطار، فيخوضون غمارها، وتعتل قلوب أو عقول، فيضعون الدواء موضع عللها، عدلٌ كأنه القسطاس المستقيم، وسخاء كانه الغيث النافع العميم، وجدٌّ في طلب العلم وإن كان بمناط الثريا، وطموح

إلى المعالي وإن انتبذت وراء الفلك الدّوار مكاناً قصياً، إلى ما يشاكل كل هذا من الخصال التي ترفع بعض الأمم على بعض درجات. والأمة في حاجة إلى نشء ترتبط قلوبهم بالتعاطف، وتمتلئ صدورهم بالغيرة على حقوق الوطن، والإخلاص في كفاح من يروم اغتصابها، والدين يفجّر ينبوع التعاطف، ويجعل الغيرة على الحقوق حامية، ويبعث في النفوس إخلاصاً يأبى لها أن تتخذ من المنافع الخاصة غرضاً. والتاريخ يملأ آذاننا بأسماء رجال أحرزوا بعلمهم الزاخر مكانة تكفيهم لأن يعيشوا بين الناس في هناءة وإجلال، ولكن ما يبذره الدين في نفوسهم من غيرة وإخلاص يأبى لها أن يقضوا حياتهم بين جدران المدارس أو المساجد دون أن ينفقوا منها في تعرّف الشؤون العامة، والجهاد في نجاة الأمة قسطاً وافراً، ولو أخذنا نضرب الأمثال على أن التعليم الديني يطبع النفوس على خصال الشرف، ويملؤها همماً لا تقف عند حد، وغيرة لا تلهو عن حق، لملأنا صحفاً كثيرة أو أسفاراً، ولكن المقام للتذكرة، ومن مقامات التذكرة ما يغني فيه الإيجاز عن الإسهاب. وإذا رأينا في بعض المتلقين لعلوم الدين عوجاً، فتلك سنّة الله في الخليقة أن لا تخلص الطوائف الكثيرة من أفراد يشربون بكأسها، ويظهرون في زيها، ثم هم يشذون عنها، ويسيرون في غير وجهتها؛ لعوارض تجد في نفوسهم من الاستعداد للهو أكثر من الاستعداد للجد، ويكفي شاهداً على استقامة الطريق: أن يبلغ أكثر سالكيه غاية الفلاح، فإن قعد في منتصفه ذو همة خامدة، أو التوى عنه ذو هوى غالب، فالطريق لا يزال طريق رشد وفلاح، والوزر على رقبة من قعد في منتصفه لاهياً، أو التوى عنه قبل أن يدرك من

الاهتداء به حظاً كافياً. فسماحة الدين، وما له من الأثر الخطير في إعداد أمة روحها البطولة، وزينتها التقوى، وغايتها السيادة، من أشد ما يبعث أولي الأمر منا على أن يضعوا علوم الدين بالمكانة العليا، ويقرروا لها في جميع المدارس، وفي كل سني الدراسة ما فيه الكفاية. ومما يقضي عليهم بأن يعنوا بها عناية ضافية: أن الأمة مسلمة، والأمة المسلمة لا ترضى إلا أن يكون أبناؤها مطمئنين بحجج الدين الحنيف، سائرين في ضوء حكمته الغراء، فمن سلك في تعليم أبنائها طريقاً لا يأتي بهم على هذه الحجج، ولا يدخل بهم في نهار من ضوء هذه الحكمة، فقد تصرف في شؤونها تصرف من لا يرعى ذمتها، ولا يحترم وكالته على أمرها، وإذا وجد في الناس من لا يؤلمه أن يكون ولده في ظلام من الغي، فامثال هؤلاء - على قلتهم - طائفة استهواهم زخرف الحياة غروراً، ولم يهتدوا إلى خير أبنائهم سبيلاً، وما كان للحكومة الرشيدة إلا أن تقيم سياستها على رعاية ما فيه خير النشء، وما يرتضيه أهل العلم والعقل، ويكون قسط تلك الطائفة من هذه السياسة تقويم عوجهم، وإصلاح ما فسد من أخلاقهم، وإذا أهملت التعليم الديني حكومة باض الإلحاد في أدمغة رؤسائها وفرخ، فأعلنوا فسوقهم عن الدين في غير استحياء؛ فإن حكومة يكون على رأسها ملك يعتز عرشه الرفيع بعزة الدين الحنيف، وينص في دستورها على أن دينها الرسمي الإسلام، لجديرة بان يكون للتعليم الديني في مدارسها شأن لا يقل عن شأن غيره من العلوم النافعة في الحياة. ولا يكفي في تعليم الدين أن تكون له جامعة كالأزهر، وما يتصل به

من معاهد؛ فإن قصره على الأزهر والمعاهد الدينية يجعل تربيته العالية في طائفة من الناس خاصة، والخير في أن تكون روح الدين سارية في نفوس الأمة قاطبة، وبثها في جميع الأفراد مدعاة إلى الائتلاف والاتحاد الذي هو أساس كل نهضة، وكل عمل اجتماعي يقام على غير هذا الأساس، فمنقلب إلى فساد. ولو كان التعليم الديني آخذاً حقه في جميع مدارسنا، لم ير الناس ما يرونه من التجافي بين أفراد نشؤوا في مدارس دينية، وآخرين نشؤوا في مدارس ليس للدين فيها من نصيب، ولا منشأ لهذا التجافي إلا بُعد النشأتين، وإدخال العلوم الحديثة في المعاهد الدينية يذهب بجانب هذا التجافي، فإذا عنيت وزارة المعارف بدراسة علوم الدين درساً جدياً، اتحد أبناؤنا في أصل التربية، فيكون فضل المعاهد الدينية والمدارس الرسمية على الشرق في إخراجهما نشئاً يتقارب شعورهم، وتتدانى عواطفهم، فيتسابقون إلى أعباء الحياة بكواهل متساوية، ويرمون في وجوه العظائم عن قوس واحدة. لا يغيب عنا أن في بعض الأمم التي لا تعني وزارات معارفها بدرس علوم الدين شيئاً من كمال أو قوة، ونقول مع هذا: إن الأمم التي يقوم تعليمها على روح دينية قوية تبلغ من العظمة ما لا تبلغه أمة تساويها في غير هذه الروح من وسائل الحياة. فإذا تقدمت فرنسا - مثلاً - على بعض الشعوب الشرقية، وكانت أبسط منه سلطاناً وأنعم بالاً، فإنما فضلته بالقوة المادية، ثم بجانب من الأخلاق التي ينتظم بها شأن الاجتماع في بلادها، ويجعلها قوية أمام خصومها، ولو جاراها ذلك الشعب الشرقي في وسائل الحياة المادية، واستنار في تقويم

أخلاقه بحكمة الدين، لكان أسعد منها حالاً، وأرسخ في السيادة قدماً، وأعلى يوم ينادي المنادي علماً. وليس في إعطاء علوم الدين بمدارس الحكومة حقها ما يجحف بحق دراسة العلوم الأخرى؛ لأنا لا نرجو من وزارة المعارف أن تغذي التلاميذ من علوم الدين بمقدار ما يتغذى به طلاب العلم بالمعاهد الدينية، وإنما نرجو منها أن تقرر من هذه العلوم ما يستنير به التلميذ في كل سنة من سني الدراسة، وتجعله مادة أساسية في امتحاني النقل والشهادة، وأن تسن لهذه العلوم مناهج حكيمة، ولا تغمض عن كفاية من تعهد إليهم بتدريسها. وقد دلنا التاريخ والمشاهدات على أن وزارات المعارف في بعض الشعوب الإسلامية، قد تستخف بالتعليم الديني متى ألقي أمرها إلى من نشأ في غفلة عن آداب الدين، وقصر في السياسة شأوه، فليس له بصيرة يحس بها فضل الدين ومحاسنه، ولا بعدُ نظر في السياسة يفقه به أن خير ما تتألف به الأمم الإسلامية رعاية دينها، وجعله روحاً في تربية أبنائها، ومن أشد ما تبلى به المصالح العامة أن يصرفها من لا يدري كنهها، ولا يتدبر العواقب في تصريفها، وإذا انتهز أولئك الخاطئون غفلة الأمة فرصة لاهتضام حق التعليم والتربية، فإنها اليوم في يقظة تميز بها المهوشين من المصلحين، فتقابل المهوش بامتعاض وتنديد، وتلاقي المصلح بإقبال وتأييد، ورجاؤنا في حضرة صاحب المعالي وزير المعارف أن يكون الرجل الذي يؤثر إقبال الأمة على امتعاضها، وتأييدها على تنديدها، بل صلاحها على فسادها، وسعادتها على شقوتها؛ فيوفي للتعليم الديني حقه، حتى تصبح مدارسنا منبع العلم، ومطلع الهداية. ومن فائدة الشرق: أن تكون له عاصمة تلتقي فيها آراء المصلحين،

ويتدفق منها الشعور السامي إلى سائر الأقطار. وموقع مصر في البلاد يستدعي أن تكون مصر هي ملتقى تلك الآراء، ومصدر ذلك الشعور؛ ولا يكفيها لهذه الزعامة أنهارها التي تجري من تحتها، والعلوم والفنون المالئة ما بين جوانبها، وإنما تحن لها القلوب، وتمتلئ بمهابتها العيون، إذا أضافت إلى هذه الأنهار والمدارس تربية دينية عامة، حتى يقول كل زائر لها فاضل - مثل ما قال العلامة أبو عبد المقري - حين زارها، وعاد إلى المغرب في أثناء المئة الثامنة: "من لم ير مصر، لم ير عز الإسلام".

العلماء وأولو الأمر

العلماء وأولو الأمر (¬1) يقصد الإسلام لأن يخرج للناس أمة تُجفها القلوب، وتهابها العيون، وإنما تجلها القلوب وتهابها العيون على قدر اعتصامها بهدى الله، وعلى قدر ما تأخذ به من مظاهر القوة والمنعة. ولا تعتصم الأمة بهدى الله، ولا تظهر في قوة ومنعة، إلا أن يقيض الله لها علماء يملأ الخوف من الله قلوبهم، حتى لا يدع فيها للخوف من مخلوق مثقال ذرة، وتظفر مع هذا بولاة يحرصون على أن يقيموا العدل، ويستقيموا على طريق الرشد كثرَ من حرصهم على ما تشتهي أنفسهم، وتلذ أعينهم من متاع هذه الحياة. لهذا عني الإسلام بأن يكون في الأمة علماء لا يكتمون عن أحد نصائحهم، وأمراء يحبون أن يسمعوا كلمة الحق تتردد في مجالسهم. والتاريخ الصادق يحدثنا أن بلاد الإسلام قد حظيت بعلماء يزهدون في زهرة الحياة الدنيا، ويبيعونها بكلمة حق يقولونها ابتغاء أن يكون لها في إصلاح حال السلطان أثر كبير أو صغير. وحظيت برؤساء يرتاحون لوعظ العالم الأمين، ويسيغونه إساغة الظمآن ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد الحادي عشر.

للماء القراح. وبمثل هؤلاء العلماء والأمراء تسعد الأمة، ويعظم شأن الدولة. والتاريخ الصادق قد حدثنا أيضاً: أن في أهل العلم مَنْ فتنته الدنيا بزخرفها، فانطلق يجري وراءها، لا يرعى للحق عهداً، ولا لجانب الله حرمة. وحدثنا: أن في الرؤساء من يكون نصيب اللهو والانهماك في الشهوات منه أكثرَ من نصيب الجد والرشد. وإذا حدثنا التاريخ عن أمة ذلّت بعد عزة، أو دولة سقطت بعد قوة، فتبعة ذلك الذل أو السقوط ملقاة على رقاب أولئك العلماء الذين لا ينصحون، أو الرؤساء الذين لا يحبون الناصحين. نلقي نظرة على تراجم العلماء، فنجد حالهم مع الأمراء يجعلهم على ثلاثة أصناف: أولهم: عالم يضع نصب عينه رضا الله، ويهمه أن يسير أولو الأمر في الناس على استقامة، فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر بمرأى ومسمع منهم، غير مبال بأن يقع أمره أو نهيه لديهم موقع الرضا والقبول، أو موقع الكراهية والإِعراض عنه. قيل لمالك: إنك تدخل على السلطان وهو يظلم أو يجور؟ فقال: يرحمك الله، فأين يكون الكلام في الحق؟!. والعلماء الذين يقومون بواجب النصيحة للأمراء يختلفون في أساليب وعظهم، فمنهم من يسلك طريق الصراحة، ويشافه الأمير بإنكار ما يريد إنكاره على وجه التعيين؛ حيث يرى أن طريق التصريح والتعيين أبلغ وأقرب إلى نجاح الدعوة. كان السلطان سليم أمر بقتل مئة وخمسين رجلاً من حفّاظ الخزائن،

فبلغ ذلك الشيخ علاء الدين الجمالي، فدخل على السلطان وقال له: وظيفة أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وهؤلاء الرجال لا يجوز قتلهم شرعاً، فعليك بالعفو عنهم. فغضب السلطان سليم، وقال للشيخ: إنك تتعرض لأمر السلطنة، وليس ذلك من وظيفتك. فقال: لا، بل أتعرض لأمر آخرتك، وإنه من وظيفتي، فإن عفوت، فلك النجاة، وإلا، فعليك عقاب عظيم، فانكسرت سورة الغضب في نفس السلطان، وعفا عن أولئك الرجال الذين كان قد أمر بقتلهم. ومن العلماء الحكماء من يسلك في وعظ الأمراء طريقاً غير صريح؛ إذ يراه كافياً في إبلاغ النصيحة. قدم الشيخ أبو بكر بن سيد الناس حاضرة تونس في عهد المنتصر بالله، ولما دخل على الأمير، أمره أن يقرأ بين يديه آية من القرآن، فقرأ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] فاستحسن المنتصر قراءته وقصده، وكان ذلك سبب حظوته، ورفعة منزلته عنده. ومن العلماء من يأخذ في نصح الأمراء بالعزيمة، ويوطن نفسه على احتمال كل ما يمكن أن يلاقيه من أذى. وقد صبر رجال من كبار أهل العلم أيام فتنة القول بخلق القرآن، على ما أصابهم في الدين من أذى، واحتملوا أشد العذاب، مثل: نعيم بن حميد الذي توفى في سجن الواثق، وأحمد بن نصر الخزاعي الذي قتل في عهد الواثق، وأحمد بن حنبل الذي سجن وضرب في عهد المعتصم، ومثل أبي يعقوب البويطي الذي حمل مقيداً من مصر إلى العراق، حتى مات في أقياده. ومن العلماء من يرى أن له فيما يلحقه من الأذى عذراً في السكوت

وعدم التعرض للسلطان بأمر أو نهي. ويصح أن يقال: إن هؤلاء قد أخذوا بالرخصة، وليس لهم من قوة الصبر على الأذى ما يحملهم على أن يأخذوا بالعزيمة، ويجاهروا بالدعوة إلى حق أو إصلاح. وإذا جاز للعالم أن يسكت عن الأمر أو النهي اتقاء لأذى لا طاقة له به، فليس له أن يكتم الحق بمجرد الخوف من أن يجفوه السلطان، أو يبعده من مجلسه، أو يحرمه من ولاية منصب. ثانيهم: عالم يذهب مذهب العزلة والبعد من ساحات الأمراء؛ حتى لا يقف بين يدي ذي نخوة وتعاظم، ومن هؤلاء من يقول: إنْ صحبنا الملوكَ تاهوا علينا ... واستخفّوا كبراً بحق الجليسِ فلزمنا البيوت نستخرج العلـ ... ـم ونملا به بطونَ الطروس وملاقاة النخوة والتعاظم ليست عذراً يبيح للعالم القعود عن إسماع الأمراء النصيحة، فقد دخل موسى - عليه السلام - على فرعون ليدعوه إلى الحق، وكان فرعون متكبّراً جبّاراً. وقد يبتعد العالم عن الأمراء الذين لا يعنون بتنقية ساحتهم من أقذاء المنكرات؛ كراهة أن يشاهد منكراً، وقد يكون هذا الابتعاد حكمة متى عرف العالم أنه لا يستطيع النصح بإزالة ذلك المنكر، وأنه لا يجتني من رؤيته إلا حسرة وأسفاً. وقد يكون الاقتراب خيراً من الابتعاد، متى قصد بالاقتراب إيصال النصيحة إليهم، عسى أن تجد أذناً واعية، أو نفساً زاكية، وكان أبو الحسن الأشعري يقصد إلى مجالس المعتزلة ليناظرهم، ويقول: هم أولو رياسة، منهم الوالي والقاضي، ولرياستهم لا ينزلون إليّ، فإذا لم أسر إليهم، فكيف

يظهر الحق، ويعلمون أن لأهل السنّة ناصراً بالحجة؟. ثالثهم: عالم يتردد على ساحة الأمراء، ويميل مع أهوائهم، وربما بلغ به الإغراق في ابتغاء مرضاتهم: أن يحرف أحكام الله عن مواضعها، ومثل هذا الصنف من العلماء لا يرجى منهم أن يبسطوا ألسنتهم إلى السلطان بنصيحة. ولهذا الصنف جنايات على الدين، وعلى الأمة، وعلى الأمراء نفسهم. أما جنايتهم على الدين، فلأنهم يختلقون أحكاما يلصقونها بالدين، وليست من الدين. وأما جنايتهم على الأمة، فلأنهم يسهلون على الولاة السير بالسياسة في طريقة عمياء. وأما جنايتهم على الأمراء أنفسهم، فلأن الأمة إنما تفتح صدورها لمحبة أمرائها، وتبذل لهم حسن الطاعة من جميع أفئدتها، متى ساروا في رشد، وساسوا الناس بقوانين العدل. ونحن نعلم أن العصور تتغير، وأن مقتضياتها تختلف، ولكن الحق هو الحق، والكرامة هي الكرامة، فلا يأتي عصر يفقد فيه الحق جلاله، ولا يأتي عصر يبيح للعالم أن يداهن السلطان، ولا أن يغمض عن شيء من كرامته، وإنما هي التربية الدينية الصحيحة تُري العالم وجه الحق مشرقاً، فلا يرضى إلا أن يحميه بيده، أو لسانه، وتريه منزلته شامخة الذرى، فيابى أن ينزل عنها، ولو وضعت الشمس في يمينه، والقمر في يساره. يحدثنا التاريخ القديم: أن بعض المنتمين إلى العلم كانوا يتملقون أولي الأمر من المسلمين، وقد يفتونهم بغير ما أنزل الله، ويحدثنا التاريخ غير القديم: أن من المنتمين إلى العلم من يتملق بعض المخالفين الغاصبين، ويرضى أن

يكون جسراً يعبرون به إلى قضاء مآربهم التي يكيدون بها الإسلام والمسلمين. وقد يسمّي هذا العالم تملقه للمخالفين الغاصبين: مداراة؛ ليقضي بعض حاجات شخصية، وربما زعم أنه يقضي بهذا التملق مصالح وطنية. والواقع: أن اتصال العالم بالمخالفين الظالمين، وهو يستطيع أن لا يتصل بهم، وصمةٌ في عرضه لا يغسلها ماء، وجناية على الدين خاصة، وعلى الأمة عامة. أما أنه وصمة في عرض ذلك العالم، فلما عرف من أن المخالف الغاصب لا يُقبل بوجهه، ولا يضع يد الصداقة إلا في يد من اختبر سرائرهم، ووثق من إخلاصهم له. وأما أنه جناية على الدين فلأن ذلك الاتصال الآخذ اسم الصداقة خروج عن الدين الذي ينهى عن موادة أعدائه. وأما أنه جناية على الأمة عامة، فلأن هذا العالم لا يتحامى أن يرضي أولئك المتغلبين المخالفين بالمساعدة على أعمال يفسدون بها على الأمة أمر دينهم أو دنياهم. ونلقي بعد هذا نظرة في حال الأمراء مع العلماء الذين يجاهرونهم بالنصيحة، أو يؤثرون الحق على أهواء الأمراء، فنجدهم ثلاثة أصناف: أولهم: أمير تلقى إليه النصيحة، فيأخذه التعاظم بالإثم، ويقابل الناصحين بوعيد، أو بعقوبة المجرمين. وقد يدعو بعض الأمراء بعض العلماء إلى حرام، فلا يجيبه إلى ذلك، فيناله بالعقوبة، ويتلقاها العالم بصبر جميل. دعا أحمد بن طولون القاضي بكّار بن قتيبة لخلع الموفق من ولاية العهد

للخلافة، فامتنع، فحبسه، وما زال يكرر عليه القول، وهو لا يجيبه إلى ذلك، حتى مرض ابن طولون، وأمر بنقل بكار من السجن إلى دار اكتريت له. ثانيهم: أمير يجد في صدره الحرج من إسماعه الموعظة تأتي على غير ما يهوى، ولكنه يهاب مكان العالم، فلا يقابله بأذى. استدعى أبو جعفر المنصور عبدالله بن طاوس بن كيسان، ومالك بن أنس، فلما دخلا عليه، أطرق ساعة، ثم التفت إلى ابن طاوس، وقال له: حدثني عن أبيك، فقال: حدثني أبي: أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله تعالى في سلطانه، فأدخل عليه الجور في حكمه. فأمسك أبو جعفر ساعة. قال مالك: فضممت ثيابي خوفاً أن يصيبني دمه. ثم قال له المنصور: ناولني تلك الدواة، قال ذلك ثلاث مرات، فلم يفعل، فقال له: لم لا تناولني؟ فقال: أخاف أن تكتب بها معصية، فاكون قد شاركتك فيها! فلما سمع ذلك، قال: قوما عني! قال: ذلك ما كنا نبغي! قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضله من ذلك اليوم. ثالثهم: أمير تأخذه اليقظة وصفاء الفطرة إلى طاعة الحق، وشكر الدعاة إليه. دخل عز الدين بن عبد السلام إلى السلطان أيوب نجم الدين، وقال له: ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أُبَوِّئ لك ملك مصر، ثم تبيح الخمور؟! فقال: هل جرى هذا؟ قال: نعم، الحانة الفلانية تباح فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة! فقال: أنا ما علمته، ثم أمر السلطان بإبطال تلك الحانة. ودخل ابن شهاب على الوليد بن عبد الملك، فسأله الوليد عن حديث:

"إن الله إذا استرعى عبداً الخلافة، كتب له الحسنات، ولم يكتب له السيئات"، فقال له: هذا كذب، ثم تلا: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26]. الآية، فقال الوليد: إن الناس ليغروننا عن ديننا (¬1). ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، كتب إليه طاوس بن كيسان: "إن أردت أن يكون عملك كله خيراً، فاستعمل أهل الخير"، فقال عمر: كفى بها موعظة. ومن الأمراء الذين كانوا يوسعون صدورهم لنصح العلماء: عبد الرحمن الناصرة فقد كان القاضي منذر بن سعيد يواجهه بإنكار ما يراه من أعماله منكراً؛ كخطبته التي ألقاها على مسمع منه في إنكاره عليه الإسراف في الإنفاق على بناء القصور وزخارفها. ومن مواقف منذر بن سعيد في هذا السبيل: دخوله على الناصر، ومخاطبته بالبيتين: يا باني الزهراء مستغرقاً ... أوقاته فيها أما تمهل لله ما أحسنَها رونقاً ... لو لم تكن زهرتها تذبل ولم يزد الناصر على أن قال: إذا سقيت بماء الخشوع، وهب عليها نسيم التذكار، لا تذبل إن شاء الله. ولقبول الأمراء لنصح العلماء فضل لا يقل عن فضل قيام العلماء بنصيحة الأمراء؛ فإن النفوس - ولاسيما الشاعرة بما لديها من قوة ومقدرة على البطش - شأنها النفور من أن تؤمر بمعروف، أن تنهى عن منكر، تتخيل أن ذلك الأمر أو النهي يتضمن نسبتها إلى الجهل، أو القصد إلى ارتكاب أمر قبيح، فإن ¬

_ (¬1) "فتح الباري".

تلقى الأمير نصيحة العالم الأمين، وأساغها على ما فيها من مرارة، دل ذلك على أنه يجل الحق، ويبتغي الخير، ويريد أن يفتح لحرية القول باباً طالما أغلقه المستبدون الظالمون. ولا تبلغ الأمم مراقي المنعة والسيادة إلا أن يكون باب الحرية مفتوحاً في وجوه الدعاة المصلحين. يقدم العالم الأمين على نصح ذي السلطان غيرة على الحق، وحرصاً على أن يكون ذو السلطان كامل السيرة، طيب السمعة، وكثير من الأمراء من يفهم وعظ العلماء على هذا القصد، ويكون في نفسه نزعة إلى الاستقامة، فيتلقى الإرشاد بارتياح وشكر. الأمراء المستقيمون يرتاحون لوعظ أهل العلم، ومنهم من يطلب من أتقياء العلماء أن يزودوه بالوعظ؛ كما كان عمر بن عبد العزيز وأمثاله يفعلون ذلك. يعظ العلماء المستقيمون الأمراء، فيساعدونهم على أن يكونوا أمراء راشدين، ويستطيع الأمراء أن يلاقوا العلماء بما يساعدهم على أن يكونوا علماء مصلحين، وسبيل هذه المساعدة: أن يجلوا العلماء، ويفهموهم أنهم يجلونهم لعلمهم واستقامتهم، ثم إذا استفتوهم في واقعة، طلبوا منهم أن يبينوا لهم حكم الله الذي تدل عليه نصوص الشريعة أو أصولها دلالة تطمئن إليها النفوس، وإذا استبانوا أن عالماً فقد الخشية من الله، وأخذ يبتغي مرضاتهم بتحريف النصوص، اْو تلقط الأقوال الساقطة، عمّوه في جماعة المنافقين، وأشعروه بأن مثل هذا النفاق لا يزيده عندهم إلا حقارة، ثم كانوا منه على حذر. وبمثل هذه السيرة يصل الأمير العادل إلى أن يرى المعاهد العلمية، والمحاكم الشرعية طافحة بعلماء تزدهر بهم مملكته ازدهار السماء بالكواكب النيرة.

تعاون الدولة والأمة على انتظام الأمن

تعاون الدولة والأمّة على انتظام الأمن (¬1) يطمح كل أحد إلى أن يحيا حياة طيبة، ولا حياة طيبة إلا مع ارتياح الضمير، وطمأنينة النفس، وإنما ترتاح الضمائر، وتطمئن النفوس عندما يكون الأمن الشامل ضارباً أطنابه في البلاد. ونريد من الأمن: أن تسير الأمة في حياتها وهي آمنة على نفوسها ودينها وأعراضها وأموالها، وكل اعتداء على نفس أو دين أو عرض أو مال يعد خرقاً في سياج الأمن. والمخل بالأمن أحد رجلين: رجل يباشر الأعمال المخلة بنفسه؛ كالقاتل، والقاذف، والغاصب، ورجل ينصب للأعمال المخلة وسائل، فتقع على غير يده؛ كالنمام، والمحرّض على الجناية، والمفتي إذا أفتى بجهالة، والقاضي إذا قضى بغير علم. ويدخل في الاعتداء على النفوس: حال الطبيب الذي لا يفحص العليل بعناية وروية، فيخطئ في فهم الداء ووصف الدواء، فيقع العليل في موت، أو يصاب بآفة مزمنة. ويدخل في الاعتداء على الدين: تحريف كلمة عن مواضعها، وحملها ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد الثالث عشر.

على غير ما يقصد منها. ويدخل في الاعتداء على الأعراض: الطعن فيها بنحو الكنايات الجلية، وقد ذهب بعض أهل العلم؛ كمالك بن أنس إلى أن القاذف بالكناية المفهومة مستحق للعقوبة. ويدخل في الاعتداء على الأموال: الرشوة؛ فإن لها شبهاً بالغصب؛ حيث تؤخذ من صاحبها وهو يبصر، وشبهاً بالسرقة؛ حيث تؤخذ على استخفاء من الناس، وإن شئت فقل: تزوج الغصب السرقة، فولدا الرشوة. وللأمن الشامل وسائل يقوم عليها، وآثار يحمد من أجلها. والقصد من هذا الحديث: إلقاء نظرة على وسائل الأمن، وإتباع هذه النظرة بنظرة أخرى فيما يأتي به الأمن من خير وسعادة. أعظم وسيلة لبسط ظلال الأمن في البلاد: التعليم المثمر، والتربية الصحيحة. فمتى انتشر التعليم بين الأمة، وأصبح كل فرد يدرك ما له من حقوق، وما عليه من واجبات، رأيت الرجل يبادر إلى أداء ما عليه من واجب، ولا يطالب غيره إلا بما هو حق له. والتعليم الصحيح يرفع همّة الرجل من أن يتعرض لنقيصة، وإن من أنقص النقائص امتناعَ الإنسان من أن يقضي حقا حضر وقت قضائه، أو إطلاق يده إلى حق فرد أو جماعة، وانتزاعه بخدل أو بقوة، قال بشير بن عبيد الله: إياك والخصومات، فإنها تذهب بالمروءة. والتعليم الصحيح يسمو بالرجل إلى منزلة من الشرف متى قدرها حقَّ قدرها، يأبى كل الإِباء أن يدنسها بعمل قد يساق من أجله إلى القضاء، أو إلى دار لا يساق إليها إلا المجرمون، ومن هنا نرى الجنايات تقل من طبقات

المتعلمين، ولاسيما الطبقة الراقية منهم، وإذا صدر من متعلم اعتداء على نفس أو عرض أو مال، نظر الناس إلى هذا الاعتداء بتعجب، وتكون شدة تعجبهم على قدر منزلته من العلم. والتربية الصحيحة تغرس في النفوس أخلاقاً وآداباً تجعلها بعيدة من أن يصدر عنها ما يمس الأمن العام بسوء: تغرس فيها الحلم والأمانة والسخاء، وإيثار طهارة العرض على الحطام الزائل. قال الشاعر: أقي العرض بالمال التلاد وما عسى ... أخوك إذا ما أُضيع العرض يشتري وقال مهيار: ومتى تسمع بقوم أعجفوا ... ليعزّوا فابغني فيهم تجدني وكذلك ترى الرجل الذي نشأ في بيئة عفاف وكرم نفس يؤثر بقاء العرض على الشهوات؛ كما قال العجير السلولي: يبين الجار حين يبين عني ... ولم تأنس إليّ كلاب جاري وتظعن جارتي من جنب بيتي ... ولم تستر بستر من جوار وتأمن أن أطالع حين آتي ... عليها وهي واضعة الخمار كذلك كان آبائي قديماً ... توارثه النِّجار عن النجار ويروى: أن عبد الملك بن مروان قال لمؤدب ولده: إذا روَّيتهم الشعر، فلا تروِّهم إلا مثل قول العجير السلولي: (يبين الجار حين يبين عني ... إلخ الأبيات). وللتربية الدينية في ترقية النفوس، وتهذيب الأخلاق أثر أعظم من كل

أثر، فإن التربية غير الدينية قد تضعف أمام كثير من الأهواء الطاغية، فلا تستطيع كبح جماحها، أما التربية الدينية فلديها من المتانة ما يطارد هذه الأهواء، وليس الذي يؤمن بأنه سيقف بين يدي علاّم الغيوب، ويحاسبه على ما يرتكبه من جنايات، ويجازيه عليه جزاء العادل الحكيم، مثل الذي لا يعرف زاجراً عن الجناية سوى أنها موضع لوم من يطلعون عليها، أو عقوبة من ترفع إليهم قضيتها. ومما يعد في وسائل انتظام الأمن العام: براعة الرجال الذين يتولون استنطاق مرتكبي الجرائم، فمتى عرف المجرمون أن الذي يتولى استكشاف الجنايات قد رزق ألمعية تصل به إلى معرفة مرتكب الجريمة ولو بالغ في إخفائها ما شاء، أدركتهم الرهبة، وأحجموا عن الأِجرام؛ مخافة أن ينكشف أمرهم، ويقعوا في عقوبة لا يطيقونها. وتتصل بوسيلة براعة المتصدين للبحث عن الجنايات وسيلة أخرى، هي: اختيار العيون؛ أي: المخبرين من الرجال النبهاء الأمناء، حتى يصلوا بنباهتهم إلى ما يقع في الخفاء من أعمال الفساد، ويبلغوا ما يطلعون عليه إلى ولي الأمر بصدق وأمانة، وكان أحمد بن طولون يوجه في ملأ من الناس تهمة جناية على بعض الأشخاص، ويبعث بهم إلى السجن على أنهم من أرباب الجرائم، حتى يتصلوا بالمسجونين، ويتعرفوا منهم أسراراً كانوا قد أصروا على كتمانها من قبل، ثم يأذن بإخراجهم؛ ليبلغوه ما أفضى به إليهم المسجونون من أنباء الجنايات الخفية. وينتظم الأمن العام بالقضاء العادل، فإذا عرف من يتهم بالجناية أن القاضي يقضي على كل جان بما يستحقه من العقاب، ولا تأخذه في تنفيذ

ما يقضي به لومة لائم، كان هذا من أسباب إحجامهم عن الجناية؛ حذراً من أن تناله عقوبتها المؤلمة. فالقاضي العادل هو الذي يأخذ أرباب الجرائم بالحزم، ولا يجيب عاطفة الرأفة في إهمال عقوبتهم، ولا يقبل شفاعة من يشفع عنده لإِطلاق الجاني وتخلية سبيله من غير عفو المجني عليه. وقد تقع ولاية الحكم إلى من ليس فيه كفاية لها، فتكون سيرته عاملاً من عوامل الإخلال بالأمن، ورؤساء الدولة المخلصون يحترسون من مثل هذا الحال بإرسال عيون من وراء كل ذي ولاية، حتى يكونوا على بينة من استقامتهم أو انحرافهم، وكذلك كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يرسل وراء كل عامل بعض من يثق به؛ ليطلع على سيرته، ويأتيه بخبرها، وقالوا في سيرة هشام بن عبد الرحمن أمير قرطبة: وكان يبعث بقوم من ثقاته إلى نواحي البلاد، فيسألون الناس عن سير عمالهم، ويخبرونه بحقائقها، فإذا انتهى إليه حيف من أحدهم، أنصف منه، وأسقطه، ولم يستعمله بعد. ومن ينظر في تراجم الأمراء والقضاة الذين استقاموا على سيرة العدل، يجد الأمن في عهدهم سائداً، كما قالوا في سيرة ملك شاه بن ألب أرسلان، وكانت السبل في أيامه آمنة، تسافر القوافل أو الأفراد مما وراء النهر إلى أقصى الشام من غير خوف ولا رهبة. ومما يساعد القضاء العادل على تثبيت دعائم الأمن: أن يكون الرجل قد عرف الجناية، فيؤدي شهادته على الجاني كما عرفها، وكذلك المحامي يساعد القضاة على تخفيف شر الجنايات، أو قطع دابرها، متى اتجه في دفاعه إلى إظهار الحقيقة، فإذا دافع عن الجاني، وهو يعلم أنه مرتكب الجناية، وبذل

قوة بيانه لينقذه من عقوبتها، فهو أخو الجاني، وعليه نصيب من وزر الإخلال بالأمن والفساد في الأرض. ورئيس الدولة الذي يقدر الأمن العام قدره يمنح القضاء حريته، فلا يتدخل في شأن من شؤونه، ويساعد على تنفيذ الأحكام، ولو كان الحكم صادراً عليه، أو على بعض شيعته. كان المنصور بن أبي عامر ملك قرطبة في مجلس عام يسمع فيه شكوى المظلومين، فنادى رجل من العامة: يا ناصر الحق! إن لي مظلمة عند ذلك الفتى الذي هو قائم على رأسك، وقد دعوته إلى الحاكم، فلم يحضر. فقال المنصور: أو عبد الرحمن بن فطيس (يعني: صاحب المظالم) بهذا العجز والمهانة، وكنا نظنه أمضى من ذلك؟!، ثم قال المنصور: ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية، وقال للفتى: انزل صاغراً، وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك، ففعل، وقال لصاحب شرطته الخاص: خذ بيد هذا الظالم، وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم، لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره. وبعد أن نفذ عليه صاحب المظالم حكمه، أبعده المنصور من خدمته. ومن أهم وسائل الأمن الشامل: أن يكون الملقى على كواهلهم أمرُ المحافظة على الأمن ذوي حزم، وغيرة على الحقوق والنظام؛ بحيث لا تأخذهم غفلة عن الأفراد والجماعات التي شأنها تعكير صفو الأمن، ويكونون على أهبة في كل ساعة من ليل أو نهار للضرب على يد كل من يحاول الاعتداء على نفس أو دين أو عرض أو مال، وإنما يفضل القائم على أمر الأمن بمثل هذه الأهبة التي تساعد على صد حوادث الفساد قبل وقوعها، أو قطعها قبل

استفحال أمرها، والناس يمدحون الأهبة لمكافحة الحوادث، ويجدونها من أكبر مظاهر الحزم واليقظة. قال مسلم بن الوليد يمدح يزيد بن مزيد الشيباني: تراه في الأمن في درع مضاعَفَةٍ ... لايأمن الدهر أن يأتي على عَجَلِ تتمتع الأمة براحة البال متى كان المسؤولون عن الأمن في حزم ويقظة، ومن متممات الحزم واليقظة: أن يوجهوا عنايتهم إلى الغاية التي نيطت بعهدتهم، لا يشغلهم عنها شاغل ولو طرفة عين، وأن يحملوا في صدورهم قلوب آساد لا تلوي جباهها عن كفاح؛ كما قال لقيط بن يعمر فيمن ينبغي أن يوكل إليه أمر الدفاع: لا مترفاً إن رَخِىُّ العيش ساعده ... ولا إذا حلَّ مكروه به خضعا مسهر النوم تعنيه أموركم ... يروم منها على الأعداء مطلعا فليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولاولد يبغي له الرفعا ومن وسائل انتظام الأمن العام: مكافحة البطالة؛ فإن البلاد التي تكثر فيها طرق الاكتساب من نحو الزراعة والصناعة والتجارة، وتكون عامرة بالجمعيات الخيرية والملاجئ؛ بحيث يجد صحيح البنية طريق العمل ميسوراً، ويجد العاجز باب البر مفتوحاً، يقل فيها ارتكاب جريمة الاعتداء على الأموال التي تفضي في كثير من الأحوال إلى سفك الدماء. ومكافحة البطالة ترجع إلى أغنياء الأمة، ورجال الدولة، فأغنياء الأمة يستطيعون عقد شركات تجارية أو زراعية أو صناعية، فتكون طرقاً لاكتساب كثير من أرباب العائلات معايشهم.

أما رجال الدولة، فشأنهم تدبير كل ما يعود على ذوي الحاجات بالرفق واليسر. وإذا ساد الأمن في البلاد، وقلَّ الاعتداء على النفوس والأعراض، شعر الناس بطمأنينة، وعاشوا في راحة وصفاء، ولم يجهدوا أنفسهم في اتخاذ وسائل السلامة. وطمأنينة القلوب أهم ركن من أركان الحياة الطيبة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أصبحت آمناً في سربك، معافى في بدنك، عندك قوت يومك، فعلى الدنيا وأهلها العفاء". والأمن في السرب يراد به: الأمن في طريق الحياة. وقد جعل القرآن الكريم اطمئنان النفوس من أعظم نعم الله على الناس، فقال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4]. فامتن على قريش بالإطعام من الجوع الذي هو أساس الحياة الجسمية، وأتبعه بالامتنان عليهم بالأمن من الخوف، ذلك أن التمتع بالحياة الجسمية لا يتم إلا مع راحة النفوس، وعدم اضطرابها بالخوف من الأيدي العادية. وكذلك نرى القرآن المجيد قد جعل الخوف فيما ينتقم به الله من الجاحدين المجرمين، فقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]. أراد تعالى أن يصف أهل قرية بأنهم كانوا على ما يرام من سعادة الحياة، فأشار إلى ذلك بأنهم كانوا آمنين من المخاوف، وكانوا في سعة من العيش، ثم أراد التنبيه لما يوقعهم فيه الكفر بالنعم من شقاء، فذكر ابتلاءهم بضيق

العيش، وتجرع غصص الخوف، ويكفي شاهداً على شدة بلاء الخوف أن ينبه به على سوء عاقبة من يكفر بأنعم الله. وكذلك نرى الشعراء إذا مدحوا الكبراء، قد يصفونهم بفضيلة البر والإحسان، ويقرنون ذلك بمدحهم بخصلة تأمين الناس من الخوف؛ كما قال المغيرة بن حبناء في مدح المهلب بن أبي صفرة: أمنٌ لخائفهم فيضٌ لسائلهم ... ينتاب نائله البادون والحضر وإذا ساد الأمن في البلاد، وقلّ الاعتداء على الأموال، انتظمت الزراعة والتجارة والصناعة، وتقدمت هذه الأصول في نماء، وعادت على الناس بثراء؛ كما قال الأستاذ محمود قبادو في قصيدة تعرض فيها لصيانة النفوس والأموال والأعراض: والأمن في تلك الأصول جميعها ... هو منشأ الإثراء والعمران وليس الثراء بالأمر الذي يقصد لذاته، وإنما هو وسيلة لبلوغ ذروة العزة، متى صرف في سبيل الخير وحماية الأوطان من أيد تريد إذلالها. إذن يمكننا أن نقول: إن الأمن الشامل في داخل البلاد، هو الوسيلة إلى أن تكون الأمة بمأمن من أن يستخف عدو أجنبي بحقوقها، أو يبسط يده إلى استعبادها. وقد عني الإسلام بالأمن العام، ومن شدة عنايته به: أنه لم يلق واجبه على رجال الدولة وحدهم، بل جعل على الأمة قسطاً كبيراً من العمل لمكافحة الجنايات، فكل أحد يرى شخصاً قد عزم على ارتكاب جريمة، وجب عليه زجره ووعظه بكل قوة، وإذا رآه قد أخذ في فعلها، كان رآه يحاول الاعتداء على نفس أو مال أو عرض، وجب عليه رده عنها بيده حسب المستطاع،

قال - صلى الله عليه وسلم - "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه". ويبقى استخلاص الحقوق بعد الاعتداء عليها، أو عقوبات الجنايات بعد وقوعها، فذلك ما يرجع إلى القضاء العادل؛ اتقاء للفتنة، وحذراً من انتشار الفوضى.

من هو الشاب المسلم؟

من هو الشاب المسلم؟ (¬1) في شبابنا من يكتفي في إسلامه بأن ينشأ في بيت إسلامي، ويسمّى: محمداً، أو مصطفى، ويعد عند إحصاء طوائف البلاد في قبيل المسلمين، ولا تجد بعد هذا فارقاً بينه وبين شاب لا تمت روحه إلى الإسلام بصلة. وهذا ما بعثني على أن اخترت للمحاضرة موضوع: "من هو الشاب المسلم؟ ". ذلك أن أنظار حكماء الأمة متجهة إلى بناء مدنية روحها الإيمان، وجسمها نظم الإسلام، وحليتها آدابه التي صاغتها يد الوحي السماوي، وما زالت ولن تزال في صفاء وضياء، فوجب أن تعلم من هو الشاب الذي يصلح لأن يمد يده لبناء هذه المدنية الشامخة الذرا؟ فنقول: الشاب المسلم: هو الذي يسمو بنفسه إلى أن يكون مسلماً حقاً، فيقرأ القرآن المجيد بروية، ويجيل فكره في آياته الزاهرة، حتى يتملأ حكمه البالغة، ومواعظه الرائعة، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51]. والشاب المسلم: هو الذي يؤمن بالله من الشرك، أو ما يشبه الشرك، فيعتقد من صميم قلبه أن الله وحده هو المتصرف في الكون، فلا مانع ولا ضار ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن السادس والسابع من المجلد الثامن عشر.

إلا هو، وبهذه العقيدة السليمة يحمي نفسه من أن تلابسها مزاعم مزرية، ويصغر في عينه كل جبار، ويهون عليه احتمال المصاعب، واقتحام الأخطار في سبيل الجهاد في الإصلاح والدعوة إلى الحق. والشاب المسلم: هو الذي يدرس سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دراية يرى بها رأي العين أن تلك المكانة البالغة المنتهى من الحكمة وقوة البصيرة، والنهوض بجلائل الأعمال المختلفة الغايات، مكانة لا يدركها بشر ليس برسول، وإن بلغ في العبقرية الذروة القصوى، وأنفق في السعي إليها مئات من الأعوام أو الأحقاب. والشاب المسلم: يستجيب لله فيما شرعه من عبادات تقربه إليه زلفى؛ كالصلوات الخمس بقلب حاضر، ويؤديها ولو بمحضر طائفة لم تذق حلاوة الإيمان، فتنظر إلى المستقيمين بتهكم وسخرية، وضعفاء الايمان من شبابنا لا يقومون إلى الصلاة في مجالس الملاحدة وأشباه الملاحدة من المترفين، يخافون أن يسخروا منهم، أو تزدريهم أعينهم. والشاب المسلم يعتز بدين الله، فيدافع عنه بالطرق المنطقية، ويرمي بشواهد حكمته في وجه المهاجم له، أو ملقي الشبه حوله، وإن كان ذا سلطان واسع، وكلمة نافذة، وضعفاءُ الإيمان من شبابنا تتضاءل نفوسهم أمام أولئك الطغاة، ويقابلون تهجمهم على الدين بالصمت، وربما بلغ بهم ضعف العقيدة أن يجاروهم فيما يقولون، وسيعلم الذين يشترون رضا المخلوق بغضب الخالق أي منقلب ينقلبون. والشاب المسلم يذكر في كل حين: أن أمد عمره غير معروف، ويتوقع انقطاعه في كل يوم، فتجده حريصاً على أن لا تمر ساعة من ساعات حياته

دون أن يكسب فيها علماً نافعاً، أو عملاً صالحاً. إذا ما مضى يومٌ ولم أصطنع يداً ... ولم أكتسب علماً فما ذاك من عمري والشاب المسلم: إذا وكل إليه عمل، أقبل عليه بنصح، وتولاه بأمانة، ذلك بانه يشعر بان الرجال إنما يتفاضلون على قدر إتقانهم للأعمال، ويشعر بانه مسؤول عما ائتمن عليه بين يدي من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. والشاب المسلم: ينظر بنور الله، فلا يسارع إلى تقليد المخالفين، ومحاكاتهم في عاداتهم وأساليب مدنيتهم، وإن لم تقم على رعاية مصلحة، وضعفاء الإيمان يحرصون على أن يقلدوهم في كل شيء، ولو خالف آداب الشريعة، كمن يمسك السكين باليمين عند الأكل، والشوكة بالشمال، ويتناول بها الطعام مخالفاً لآداب الشريعة الغراء. والشاب المسلم: يؤمن بأن النظم الإسلامية الاقتصادية أرقى نظم يسعد بها البشر، ويدركون بها حياة مطمئنة آمنة، فمن يعتقد أن الربا - مثلاً - من الوسائل التي تتسع بها الثروة، وينتقل بها الناس من فقر إلى غنى، فقد وقف بهذا الرأي محارباً لله ورسوله، ولا يزيده ما يرتكبه في تحريف نصوص الشريعة عن مواضعها إلا ضلالاً. والشاب المسلم: لا يجعل أحكام الشريعة تابعة لهواه وشهواته، فياخذ في تأويل نصوص الشريعة والتلاعب بقواعدها حتى يزعم أنها موافقة لهواه،، كمن يحاول أن يكون سفور النساء وتبرجهن واختلاطهن بالرجال غير محظور شرعاً، يزعم هذا؛ لينظر إلى بنات المسلمين وأزواجهن بملء عينيه، أو يتصل بهم دون أن يسمع كلمة إنكار.

والشاب المسلم: لا يسعى لمجالسة الجاحدين، إلا أن تدعوه إلى ذلك ضرورة؛ فإن علامة حياة القلب بالإيمان تألمه من سماع كلمة تهكم أو طعن في الدين، وقد دل التاريخ والمشاهدة: أن الزنا دقة إن لم يطعنوا في الدين، أو يتهكموا بالمؤمنين صراحة، لم يلبثوا أن يطعنوا فيه، أو يتهكموا به رمزاً وكناية، ثم إن الملحد - أيها الشاب المسلم- لا تجد في خلقه وفاء، ولا في مودته صفاء، إلا أن تسير سيرته، وتحمل بين جنبيك سريرته. والشاب المسلم: يمثل سماحة الإسلام، وفضلَه في تهذيب النفوس، وأخذها بأرقى الآداب، فإذا جمع بينه ويين المخالفين المسالمين عملٌ لمصلحة وطنية، عاشرهم برفق وإنصاف، وإذا دارت بينه وبينهم محاورة في علم أو دين، اكتفى بتقرير الحقائق، وإقامة الحجة، وطفر لسانه أو قلمه من الكلمات الجافية، وأخفى ما قد يقع في نفسه من غيظ، والتجملُ بالأناة وحسن السمت، ولين القول قد يجاذب النفوس الجامحة عن الحق، ويخطو بها الخطوة الأولى إلى التدبر في الحجة. والشاب المسلم: يعمل ليرضي ربه، ولا يحفل بأن تكون له وجاهة عند رجال الدولة، فإذا وجد أمامه أمرين، أحدهما يرضي الخالق، وثانيهما يقربه من ذوي السلطان درجة، اختار أولهما؛ فإن آثر رضا السلطان على رضا الله، فليتفقد مقر إيمانه، فعساه أن يهتدي إلى المرض الذي طرأ على قلبه، فليلتمس له دواء ناجعاً، وإنما دواؤه الناجع: أن يعلم أن الله يمنعه من ذوي السلطان، وأن ذوي السلطان لا يمنعونه من الله. والشاب المسلم: قد تقضي عليه ظروف خاصة بأن يسكت عن بعض ما هو حق، ولكنه إذا تكلم، لا يقول إلا الحق.

والشاب المسلم: لا يزن الناس في مقام التفاضل بما يزنهم به العامة من نحو المال أو المنصب، وإنما يزنهم بما يزنهم به القرآن المجيد، والعقل السليم من ورائه، أعني: العلم النافع، والسيرة النقية الطاهرة؛ كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. والشاب المسلم: يكسب المال ليسد حاجات الحياة، ويحيط نفسه بسياج من العفاف والكرامة، ويأبى أشد الإباء أن يسعى له من طريق الملق وإراقة ماء الوجه، والذي يبذل ماء محياه، ولا يبالي أن يقف موقف الهوان، هو الشخص الذي فقد أدب التوكل على الخالق - جل شأنه -، وزهد في ثوب العزة الذي ألبسه إياه بقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. والشاب المسلم: لا يرفع رأسه كبراً وتعظماً على الطيبين من الناس، وإن كان أغزر منهم علماً، وأعلى منصباً، وأكثر مالاً، وأوسع جاهاً، وانما الكبر والتعاظم مظهر قذارة في النفس توحي إلى أن من ورائها نقائص أراد صاحبها أن يوريها عن أعين الناس بهذه الكبرياء. والشاب المسلم: يرفع رأسه عزة على من يعدّون تواضعه خسة في النفس، أو بلاهة في العقل، حتى يريهم أن الإيمان الصادق لا يلتقي بالذلة في نفس واحدة. والشاب المسلم: إذا رأى منكراً يُفعل، نهى عنه، وإذا رأى معروفاً يُترك، أمر به، ولا يقول كما يقول فاقدو الغيرة على الإصلاح: ذلك شأن رجال الدين، يعنون: أرباب العمائم خاصة، والدين لم يقصر واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على طائفة تسمى: رجال الدين، بل أوجب الأمر بالمعروف على كل من علم أنه معروف، وأوجب النهي عن المنكر

على كل من عرف أنه منكر، لا فرق بين الشاب والشيخ، والمتعمم وحاسر الرأس. سادتي! هذه كلمة سقنا فيها مثلاً من السيرة التي يجب أن يكون عليها شباب الإسلام، وإذا هم نحروها رشداً، وثقنا بأن لنا أمة تستطيع أن تقف أمام كل قوة، وهي على ثقة بأن تجد من الله ولياً ونصيراً.

إلى شباب محمد - صلى الله عليه وسلم - أيها الشباب الناهضون!

إلى شباب محمد - صلى الله عليه وسلم - أيها الشباب الناهضون! (¬1) تعلم حق اليقين أن دين الإسلام منبع العزة في الدنيا، ومرقاة السعادة في الأخرى، يدري هذا من درس أصول الدين، واطلع على أسرار أحكامه وآدابه، ولا يزال المسلمون في سلامة وسيادة، حتى حادوا عن سبيله، ونكثوا أيديهم عن عروته الوثقى، وكان عاقبة ذلك: أن سقطت أوطانهم في أيدي أعدائهم، وأصبحوا لا يملكون لأنفسهم رأياً ولا نفاذاً. وكان يهوّن هذا الخطب أن انحراف المسلمين عن شريعتهم الذي كان سبب ضعفهم، لم يكن إلا إهمال الواجبات العملية عن غفلة، أو تغلب شهوة، والغفلة تداوى بالتنبيه، والشهوات تقاوم بالموعظة الحسنة. ولكن أمتنا بعد أن انحدرت بها الأهواء في تلك الحفرة من الذلة، أصيبت بعلة أخرى هي أسوأ أثراً، وأشأم عاقبة من علتهم الأولى، وهي ابتلاء كثير من أبنائنا بزيغ العقيدة، ومحاكاة المخالفين، حتى في الآراء المخالفة لجوهر الدين. وإذا كان خسران العقيدة فيما سلف، قد يبتلى به أشخاص متفرقون، ويبالغون في كتمانه، وإنما يظهر في لحن خطابهم، أو ينقله عنهم بعض من ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد الثالث عشر.

يسرون إليه به، فإنه في هذا العصر قد تفشى، حتى أصبح الملاحدة والاباحيون يصرخون في المجالس العامة، أو على صفحات المجلات أو الجرائد بما لا يختلف علماء الإسلام في أنه ردة وخروج على الدين إلى حد بعيد. وليس من العجب أن يلحد أبناؤنا الذين نشؤوا في بيئات لا تعرف من الدين إلا اسمه، ولم يلاقوا إلا النفر الذين تصدوا لمحاربة الدين بجهالة أو بسوء قصد، وإنما العجب أن تجد الإلحاد والإباحية في نفر نشؤوا في معاهد إسلامية، ولكنهم يتسترون بتأويل القرآن المجيد، والحديث النبوي الشريف تأويلاً لو سلكناه في تأويل كلام أحدهم، لغضب منه، وعمّه رمياً له بالعيّ، أو العبث باوضاع اللغة العربية. إذن فالزائغون عن الرشد في أوطاننا صنفان: 1 - صنف نشؤوا في بيئات شأنها الطعن في الدين، ولا عمل لها إلا إيراد الشبه مجردة من الحجج التي تدفعها، وتقر الحقائق في مواضعها. 2 - وصنف نشؤوا في معاهد إسلامية، ولكنهم لم يدرسوا الدين دراسة جد وتحقيق تجعلهم في حصانه من أن تأخذهم الشبه، وتخدعهم زخارف الحياة، ولم يملكوا من خشية الله تعالى ما يمنعهم أن يقولوا على الله غير الحق. وتقويم الصنف الأول من الملاحدة أيسر من تقويم الصنف الثاني؛ إذ الصنف الأول قد يجلس إليك بصفتك داعياً إلى الإصلاح، فيصغي إليك عندما تتصدى لدفع شبهة، وإقامة حجة، فإذا بصر بالشبهة ذهبت، وبالحجة أضاءت، لم يلبث أن يجيب دعوتك متأسفاً عما سبق له من الغواية، مغتبطاً بما وفقه الله إليه من هداية.

أما الصنف الثاني، وهو الذين يلحدون بعد قطع مراحل من التعليم الديني، ففي دعوتهم من ظلمات الزيغ إلى نور الرشد عسرة إذ يخيل إليهم أنهم عرفوا ما يعرفه الدعاة، ولم يجدوه موصلاً إلى حق، وهذا التخيل يصدهم عن الإصغاء إلى الدعوة، وإذا أصغوا إليها، فإنما يقصدون في غالب أمرهم استكشاف موضع ضعف يهاجمونها منه. وهذا الصنف أشد ضرراً على الأمة من الصنف الأول؛ إذ الصنف الأول قد يكون إلحاده مقصوراً عليه، وإن قام بدعاية إلى الإلحاد، فإن الناس لا يستمعون إليه؛ إذ هو محمول على الجهل بحقائق الدين وأصوله، أما ذلك الذي يخرج لهم في زي رجال الدين، أو يذكر أنه درس الدين حتى انتهى إلى غاية بعيدة، فكثيراً ما يغرّ الغافلين من الشباب أو العامة؛ إذ يسبق إلى أذهانهم أنه يتكلم على بينة، ولا ينتبهون لما يحمل في صدره من زيغ، ولا لما يضمر في نفسه من أغراض دنيئة. أقول هذا - أيها الشباب الناهضون - لأذكركم بأنكم ستلاقون شباباً سرى إليهم وباء الإلحاد والإباحية من اتصالهم بنفر أعرفَ بطرق المكر، أو أبرعَ في صناعة البيان، فخذوهم بالحكمة والرفق وسعة الصدر عند المناقشة؛ فإنكم تدعون إلى الحق، وللحق ضياء ينكشف إزاءه كل باطل، وإن خرج في ثوب مستعار من الحق. وأنكم ستلاقون فئة ممن يدّعون أنهم درسوا الدين وهم زائغون عن سبيله، وقد يجنحون بكم إلى طريقة التأويل الفاسد، فازدرُوا أقوالهم، وارموا في وجوههم بالحجة، ولا تهابوهم، ولو لبسوا العمائم؛ فإنها قد تنصب على رؤوس لا تفكر إلا في وسائل المكر بالدين الحنيف، وهذه الخيانة تكسبهم

ضعفاً، وتجعل مسالك القول أضيق عليهم من سم الخياط، فلا يقفون لجدالكم إلا بمقدار ما يعرفون قوة إيمانكم، وثبات أقدامكم. وإنكم ستلاقون فئة باض اليأس من الإصلاح في قلوبهم وفرخ، ويصارحونكم بأن الدعوة إلى الحق في هذا العصر من قبيل النقش في الماء، أو الضرب في حديد بارد، فإن تعذر عليكم اقتلاع هذا اليأس من نفوسهم، فاعلموا أن خلف يأسهم جبناً، ولا خير لكم في محادثة الجبناء. وإنكم ستمرون بأشخاص مردوا على التهكم والاستهزاء، فيهمسون في الآذان، ويتغامزون بالأعين، وكذلك كان أمثالهم يستهزئون بالدعاة إلى الخير، فيجدون من الدعاة إخلاصاً وثباتاً يذهب كل استهزاء من حولهما لاغية، فدعوا المتهكمين والمستهزئين في هزلهم، وامضوا في سبيل دعوتكم إلى الحق والفضيلة، فستجنون بتأييد الله تعالى ثمرتها، وتحمدون عاقبتها، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مقاصد الاسلام في إصلاح العالم

مقاصد الاسلام في إصلاح العالم (¬1) يدخل الفساد في العقائد والآراء والأخلاق، وفيما يقصد به التقرب إلى الخالق - جلّ شأنه -، وفيما يتناوله الإنسان من نحو المطعوم والملبوس، وفي المعاملات الجارية بين الأفراد والجماعات من الناس، بل يدخل الفساد في معاملة الإنسان للحيوان. وقد دلّنا التاريخ أن كثيراً من عقائد الأمم كانت زائغة، وكثيراً من آرائهم كانت مزاعم ينبذها العقل، وأن الأخلاق كانت منحطة، والتقرب إلى مبدع الخليقة لا يقع على وجهه الصحيح، والتمتع بالمطعومات والملبوسات وما يتخذ من المراكب لا يقف عند الطيبات والزينة وما يوافق الحكمة، ومعاملات الأفراد والجماعات من الناس والحيوان لم تكن جارية على نظام الرحمة والعدل. فكان من مقاصد الإسلام: تقويم العقائد، وتطهير العقول من المزاعم السخيفة، وإصلاح الأخلاق، وشرع العبادات الصحيحة، وبيان الطيبات من الرزق، وما لا يخرج عن حدود الحكمة من نحو الملابس والمراكب، وتنظيم المعاملات على وجه العدل والرفق. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد التاسع.

أما العقائد، فقد أنكر الإسلام على أصحاب الملل الباطلة، وأقام الحجج على بطلان تلك الملل، وقرر العقائد السليمة، وثبتها بالبراهين القاطعة. حارب عقيدة الشرك بالله، ونهى عما يفضي إليها؛ كالمبالغة في تعظيم بعض المخلوقات، وصرّح ببطلان كل عبادة يتوجه بها إلى مخلوق؛ من نحو صنم، أو كوكب، أو نار، أو حيوان، أو إنسان، ونظر في الأديان السماوية السابقة؛ كاليهودية، والنصرانية، فدلّ على ما طرأ عليها من تغيير، وما دخلها من مبتدعات حتى بعدت عن هداية الله، وأصبحت تلك الأديان في واد، والسعادة في واد. وأما الآراء، فقد قصد الإسلام لتقويمها بطريقة عامة هي: نهيه عن التقليد، وحثّه على الرجوع إلى العقل، وإقامة العلم على قاعدة الاستدلال، ثم أتى إلى مزاعم كانت ذائعة بين الناس، فنبّه على بطلانها؛ كزعم الشؤم في بعض الأشياء، وكزعم أن خسوف الشمس أو القمر يقع لموت رجل عظيم. وأما الأخلاق، فقد وجه إليها الإسلام جانباً كبيراً من عنايته، فانكر الجبن والبخل والكذب والخيانة والرياء والحسد، إلى غير ذلك من الأخلاق الذميمة، وحثّ على الشجاعة والكرم والصدق والأمانة والحلم والإخلاص، إلى نحو هذا من الأخلاق الحميدة. وأما العبادات التي هي صلة بين الخالق والمخلوق، فقد قرر أوضاعها، ورسم حدودها، ونبّه على شروط صحتها؛ مثل: الصلوات والصيام والحج والزكاة والذكر، ونبّه على فساد أعمال قد يحسبها الناس عبادات تقربهم إلى الله، نبّه على ذلك بوجه عام كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا هذا

ما ليس منه، فهو رد"، وقصد لكثير من الأعمال الخاصة؛ فدلّ على أنها ليست من العبادات في شيء؛ كشدِّ الرحال للصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة، وكوصل الليل بالنهار في الصيام. وأما المطعومات، فقد ذكر الطيبات، وأذن في التمتع بها، وذكر الخبائث، ونهى عن تناولها. وأما الملبوسات، فقد حرم بعضها؛ كما حرم على الرجال لبس الحرير والذهب والفضة؛ لما في استعمالها من السرف والرفاهية، والرجال في حاجة إلى الكمال النفسي، وليسوا في حاجة إلى زخرف المظهر، وإذا كان الحرير والذهب والفضة تزيد في ظاهر المرأة حسناً، فإن الرجل لا يباهي إلا بسمو خلقه، واستنارة فكره، واستقامة سيرته، وصلاح أعماله، وتطوّحُه في النعيم إلى حد بعيد يعود إلى الرجولة الكاملة بشيء من النقص كثير أو قليل. وأما المراكب، فقد أذن في ركوب بعض الحيوان؛ كالخيل والبغال والحمير والإبل، ونهى عن ركوب البقر، ويلحق بالبقر كل حيوان يحصل له ما يحصل للبقر من ضرر الركوب عليه. وأما المعاملات بين الناس، فقد أخذت من شريعة الإسلام أوسع مكان، ونريد من المعاملات: ما يجري بين شخصين أو أشخاص من نحو عقود البيع والإجارة والقرض والهبة، ويدخل في هذا القبيل: مراعاة حقوق الزوجين والأقارب والأرقاء والأطفال، فيعدّ في قبيل المعاملات: أحكام النكاح والطلاق والعتق والحضانة والنفقات والإيصاء. وأما معاملة الحيوان، فقد أخذت جانباً من عناية الإسلام؛ إذ نهى عن تعذيب الحيوان، وحثّ على الرفق به.

ثم إن الإسلام أرشد إلى أشياء قصد لها قصد الوسائل التي لا تتحقق المقاصد الأصلية إلا بها؛ كالجهاد، وعقوبات الجناة المشروعة للزجر عن الاعتداء على الدين والنفس والعرض والمال والعقل، وكالشورى؛ فإنها طريق الوصول إلى الحكم العادل، وطريق تدبير الأمور على نهج السداد، وكإطلاق العقل من أسر التقليد؛ لأنه طريق الإيمان الصادق، واستنباط الأحكام الصحيحة، وتوسيع دائرة العلوم على اختلاف موضوعاتها. فالإسلام لم يقتصر على إصلاح العقائد، وتنظيم الصلة بين العبد وربه؛ كما يقول بعض من يظهر الاسلام ويخفي الإنكار، بل الإسلام دين سماوي، نظر إلى كل ناحية من نواحي الحياة الفردية والاجتماعية، وقرر لها نظماً مفصلة، أو وضع لها أصولاً عامة، وعدَّ الخروج على هذه النظم وهذه الأصول فسقاً وظلماً، بل سماه في بعض الآيات كفراً؛ كما قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وليس من شك في أن من خرج على نظم الإسلام وأصوله معتقداً أن ما خرج إليه أقرب إلى الحكمة، وأحفظ للمصلحة، فقد خلع طوق الدين الحنيف من عنقه. ولماذا لا يحتفظ المسلمون بشريعتهم وهي قائمة على رعاية المصالح التي يبحث عنها أصحاب القوانين الوضعية، فيسيبونها حيناً ويخطئونها أحياناً كثيرة. وقد تتبع الراسخون في العلم أحكام الشريعة الغراء فوجدوها ترجع إلى أربعة أصول: أولها: الأعمال بمقاصدها. ثانيها: الضرر يزال. ثالثها: المشقة تجلب التيسير.

رابعها: العادة محكمة. والقضاء الذي يقوم على رعاية هذه الأصول، قضاء محكم عادل، وهو يعد عدله وحكمته، كفيل بأن تطيعه قلوب الأمة، ولا تجد في أنفسها حرجاً متى أجرى عليها بإنصاف.

انتشار الإسلام في العالم وعوامل ذلك

انتشار الإسلام في العالم وعوامل ذلك (¬1) أبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوته إلى العرب، ثم اتجه بإبلاغها إلى الأمم الأخرى من غير العرب، فبعث رسله بكتب إلى ملك الفرس، وملك الروم، وملك مصر، وملك الحبشة، يدعوهم إلى الإسلام. فكتب إلى كسرى: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة؛ لينذر من كان حياً، ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت، فعليك إثم المجوس". وكتب إلى هرقل: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين (¬2)، و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًامِنْ دُونِ ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثامن والجزء التاسع من المجلد التاسع. (¬2) الفلاحون والزارعون، والمراد: إثم رعاياه الذين يتبعونه.

اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] ". وكتب إلى المقوقس ملك مصر: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك اثم أهل القبط، {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، أسلم أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت به، فخلقه الله من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي. والسلام على من اتبع الهدى". أما ملك الفرس، فمزق الكتاب، وبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "مزق الله ملكه". وأما ملك الروم وملك مصر، فقابلا الدعوة برفق وأناة، ولكنهما لم يجيبا إليها. وأما النجاشي، فقبل الدعوة ودخل في الإسلام (¬1) ¬

_ (¬1) هذا ما يوجد في بعض كتب السيرة، وفي "صحيح مسلم" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى=

وجّه - صلى الله عليه وسلم - الدعوة إلى تلك الأمم بدعوة ملوكها، فكان هذا من دلائل أنه مأمور بإبلاغهم الدعوة كما أبلغها العرب، فلم يتردد أصحابه - رضي الله عنه - في قصدهم لبثِّ الدعوة بين الأمم ما أمكنهم، وكان من أبي بكر الصديق بعد أن أطفأ فتنة المرتدين ومانعي الزكاة في البلاد العربية أن وجه نظره إلى نشر الإسلام في العراق والشام على طريق الفتح، وجاء عمر بن الخطاب، فأتم فتح الشام، ثم فتح الفرس ومصر وطرابلس الغرب، وجاء عثمان بن عفان، فاتم فتح الفرس، وفتح أرمينية والقوقاز. وفي عهد بني أمية فتحت تونس والجزائر والمغرب الأقصى وبلاد الأندلس، وانتشر الإسلام في الهند على يد فاتحها السلطان محمود بن سبكتكين، ثم المغول الذين أسسوا فيها الدولة المغولية. ووصل الإسلام إلى الصين منذ عهد قديم (¬1) على أيدي الدعاة من التجار والمهاجرين الذين يرحلون إلى تلك البلاد بحراً من طريق الهند، أو براً من طريق ما وراء النهر، ودخل جزائر سو مطرة، وجاوة منذ عهد بعيد على أيدي الدعاة أيضاً من التجار الوافدين عليها (¬2)، ووصل إلى جزائر سرنديب "سيلان"، وجزائر الفلبين، وسيام، وأستراليا، والبرازيل، وبلاد أخرى من أميركة. ¬

_ =النجاشي، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه؛ أي: صلاة الغائب. انظر: "زاد المعاد" لابن القيم. (¬1) من مؤرخي الصين من يقول: إن أول وفد من المسلمين دخل الصين كان في عهد الخليفة عثمان - رضي الله عنه -. (¬2) من الكاتبين من ذهب إلى أنه دخل جاوة بدعوة تجار من الفرس، ومنهم من ذهب إلى أنه دخل بدعوة الحضارمة من العرب.

عوامل انتشار الإسلام

وانتشر في السودان، وبلغ بلاد "السنغال"، و"غيانا"، و"ساحل العاج"، و"سيراليونا"، و"نيجيريا"، و"ساحل الذهب"، و"توجو"، و"الكمرون"، وجنوب أفريقية "مستعمرة الكاب"، و"مدغشقر"، و"زنجبار"، و"بلاد الحبشة". وانتشر الإسلام بالفتح العثماني في آسيا الصغرى، والآستانة، وشرقي أوربا، وهو اليوم في بولونيا، ويوغوسلافيا، وألبانيا، وبلاد اليونان. وانتشر في المغول "التتار"، وبلاد روسيا بالدعوة الخالصة. * عوامل انتشار الإسلام: انتشر الإسلام ذلك الانتشار الواسع المدى في زمن غير بعيد، بعوامل اقتضتها حكمة الله: وأول هذه العوامل: متانة أصول الدين، وسماحة شريعته، ووضاءة ما دعا إليه من أخلاق وآداب، فإذا صادفت الدعوة ذا فطرة سليمة، وعقل راجح، فنظر فيما يدعو إليه الدين من عقائد وأحكام وآداب، لم يلبث أن يتقبل دعوته، ويصير إلى إيمان لا تزلزله عواصف التضليل. في خطاب العلاء الحضرمي عند دعوة المنذر بن ساوي ملك البحرين: "هذا النبي الأميّ الذي والله! لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه ليته أمر به، أو ليته زاد في عفوه، أو نقص من عقابه؛ إذ كل ذلك منه على أمنية العقل، وفكر أهل البصر". وكذلك قال المنذر في جواب العلاء: "قد نظرت في هذا الأمر الذي في يدي، فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم، فوجدته للآخرة والدنيا، فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة، وراحة الموت".

ولما بلغ أبا ذزّ الغفاري مبعثُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أرسل أخاه إلى مكة؛ ليسمع من قول النبي - صلوات الله عليه -، ويأتيه بخبره، فانطلق إلى مكة، وعاد إلى أبي ذر، وقال له: "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق". وكذلك قال المقوقس عندما جاءه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى الإسلام: "إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى إلا عن مرغوب عنه". وسلك الكتاب والسنّة في كثير من هذه الأصول والأحكام والآداب طريق الاحتجاج لها، وبيان الداعي لها، وما يترتب عليها من المصالح؛ لتزداد القلوب إيماناً بصحتها، وتطمئن إلى أن دعوة هذا الدين دعوة قائمة على رعاية المصالح؛ كما قال تعالى في الاستدلال على الوحدانية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقال - صلى الله عليه وسلم - في علة النهي عن بيع الثمر قبل بدوِّ صلاحه: "أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ "، وقال لمن سأله عن الاستئذان على أمه: "استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟ ". ثانيها: استقامة الدعاة، وتحليهم بما يدعون إليه من خير. وانظر إلى قول ملك عمان لعمرو بن العاص إذ أبلغه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - داعياً إلى الإسلام: "إنه والله! لقد دلني على هذا النبي الأمي: أنه لا يأمر بخير إلا كان أول من أخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يَغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر، وأنه يفي بالعهد، وينجز الموعود". ومن نظر في تاريخ الخلفاء الراشدين، وجدهم يقتدون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل: الزهد في الدنيا، والعدل في القضاء، والجد في العبادة، فكانوا

دعاة للإسلام بسيرتهم قبل أن يدعوا إليه بالسنتهم. وفد على الخليفة الأول ذو الكلاع من ملوك اليمن، ولما شاهد ما كان عليه الخليفة أبو بكر من الزهد والتواضع، أخذ يتزيا بزيه حتى رئي ذو الكلاع وهو حامل لجلد شاة، فأنكر عليه بعض قومه أن يفعل هذا بين المهاجرين والأنصار. فقال: "أفأردتم أن كون ملكاً جباراً في الإسلام؟ لا والله! لا تكون طاعة الرب إلا بالتواضع والزهد". وانظر إلى ما كانوا يوصون به عمالهم من إنصاف أهل الذمة، وعدم إيذائهم، ومن هذا ما رواه الطبري في "تاريخه": أن عمر كتب إلى أمير البصرة أن يبعث إليه جماعة من ذوي الرأي والبصيرة، فأرسل إليه وفدأ فيهم الأحنف ابن قيس، فسألهم عن أهل الذمة، وقال: أيشكون ظلماً؟ فقالوا: لا. ولم يكتف بهذا حتى سأل الأحنف، وكان يطمئن له ويثق بخبره، فأجاب بمثل جوابهم، ثم صرفهم. ومن نظر إلى تاريخ أمراء الجيوش الفاتحة للفرس والعراق والشام ومصر وأفريقية، رآهم على سير قيمة، وآداب سنية، يكبرهم من أجلها المخالفون، وأقل ما يكون لها من الأثر: أن تستدعيهم إلى النظر في الدين الذي هو يدعو إليه هؤلاء العظماء. أرسل المقوقس رسلاً إلى عمرو بن العاص، فحبسهم عمرو عنده يومين وليلتين؟ ليروا حال المسلمين، فلما عادوا إلى المقوقس، وصفوا له المسلمين فقالوا: "رأينا قوماًالموتُ أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرف رفيعهم من وضيعهم،

ولا السيد منهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة، لم يتخلف منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم". وإن شئت شاهداً على أن استقامتهم كانت قائمة على خشية الله، لا على الخوف من رئيسهم الأعلى، فذلك عمير بن سعد عاملُ عمر بن الخطاب على حمص: وفد على عمر، وسأله عن أشياء، ثم قال له: عد إلى عملك. فقال: لا تردني إلى عملي؛ فإني لم أسلم منه. حتى قلت لذمي: "أخزاك الله"، ولقد خشيت أن يخصمني له محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد سمعته يقول: "أنا حجيج المظلوم، فمن حاججته، حججته"، ولكن ائذن لي إلى أهلي، فأذن له، فأتى أهله (¬1). ثالثها: حكمة طرق الدعوة، فإن القرآن الكريم أرشد الدعاة إلى الأخذ بالحكمة والموعظة الحسنة، وأمرهم أن يتحروا في مجادلاتهم أحسن الطرق. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ومن ينظر في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجده يأخذ في الدعوة بالطرق التي تجعلها مالوفة للعقول، قريبة من القلوب، فكان يعرضها في لين من القول، ويخاطب كل قوم بما يفهمون، ولا يخاطب أحداً إلا بما يحتمله عقله، وينظر إلى النفوس وما يلابسها من علل وشبهات، ويضع كلامه موضع الدواء الناجع. وانظر قصة دعوته عدي بن حاتم حين دخل عليه في المسجد، فأخذ بيده، وانطلق به إلى بيته، وأخذ يدعوه إلى الحق، ويعالج ما في نفسه من شبه، ويزيحها في رفق، ومما يروى في هذه القصة: أنه قال له: "لعلك إنما يمنعك ¬

_ (¬1) "سراج الملوك" للطرطوشي.

من دخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم، وقلة عددهم، فإن طالت بك حياة، لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، ولئن طالت بك حياة، لتفتحن كنوز كسرى"، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: "كسرى هرمز"، (¬1) فأسلم عدي، وكان من أصدق الناس إيماناً. وقد تعلم الناس من القرآن والسيرة النبوية كيف يدعون إلى الدين والإصلاح على طريق الحكمة، وكانت هذه الحكمة من وسائل نجاح الدعوة، وذهابها إلى أقصى الشرق والغرب. رابعها: بلاغة القول، وحسن البيان، ذلك أن بلاغة الداعي مما يأخذ إلى قبول الدعوة؛ فإن إخراج الحق في صورة واضحة جميلة يسرع بإلقائه في النفوس، وإذا نظرت إلى الرسل الذين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث بهم للدعوة، وتدبرت في المخاطبات التي كانت تجري بينهم وبين الملوك أو غيرهم من المدعوين، وجدتهم من أبدع الناس بياناً، وأعرفهم بالطرق التي تنفذ منها الدعوة إلى القلوب المستعدة إلى الرشد. وانظر إلى دعوة المهاجر بن أمية للحارث بن عبد كلال، فمما يقول فيها: "فإذا نظرت في غلبة الملوك، فانظر في غالب الملوك، وإذا سرّك يومك، فخف غدك، وقد كان قبلك ملوك ذهبت آثارهم، وبقيت أخبارهم، عاشوا طويلاً، وأملوا بعيداً، وتزودوا قليلاً، منهم من أدركه الموت، ومنهم ¬

_ (¬1) انظر: "سيرة ابن هشام"، وكتاب: علامات النبوة من "الجامع الصحيح" للإمام البخاري.

من أكلته النقم، وإني أدعوك إلى الرب الذي إن أردت الهدى، لم يمنعك، وإن أرادك، لم يمنعك منه أحد". ثم انظر إلى دعوة عمرو بن أمية الضمري للنجاشي، فمما يقول فيها: "إن عليَّ القول، وعليك الاستماع، إنك كأنك في الرقة علينا منا، وكأنا بالثقة بك منك؛ لأنا لم نظن بك خيراً قط إلا نلناه، ولم نخفك على شيء قط إلا أمنّاه، وقد أخذنا عليك الحجة من فيك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور، وفي ذلك وقع المحزّ، وإصابة المفصل، وإلا، فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى بن مريم". وإذا عُدَّ بذل المال في وسائل نجاح الدعوة، فلأن الإحسان يزيل ما في النفوس من نفور، فيهيئها للنظر في أمر الرسالة، والتأمل في دلائلها، فإذا أذن الشارع بصرف جانب من المال لبعض من لم تطمئن قلوبهم بالإيمان، فإنما أذن في وسيلة من وسائل لفت النفوس المتجافية عن الحق إلى النظر في أمره، لعلها تصل إلى العقيدة الصادقة. قال بعض من نَفَّلهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، من غنيمة هوازن: (لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنه لأبغض الخلق إليّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إليّ). أما عن سوء سيرة رؤساء الأمم غير المسلمة، وعنف سياستهم، فذلك سبب لنفور أولئك الأقوام منهم، ووهن عزائمهم في الدفاع عن عروشهم، فيصح أن يعد من ميسرات تلك الفتوح التي هي وسيلة إلى الاتصال بالشعوب، وذلك الاتصال وسيلة إلى اطلاعها على مزايا الإسلام، ومحاسن آدابه، فتدخل فيه بركبة تملأ أفئدتها.

ما يثار حول انتشار الإسلام من شبه

وانظروا إلى قصة المغيرة بن شعبة إذ دخل على رستم قائد جيوش كسرى، وجلس معه على سريره، فوثب عليه الجند وأنزلوه، كيف قال كلمة حق، وكان لها في الجند أثر، قال: "إنا - معشر العرب - لا يتعبد بعضنا بعضاً، فظننت أنكم تتواسون كما نتواسى، فكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبرونا أن بعضكم أرباب بعض"!. * ما يثار حول انتشار الإسلام من شبه: يزعم بعض المخالفين غير المنصفين: أن الإسلام انتشر بالسيف، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كره الناس على قبوله، وهذا الزعم باطل، والحق أن دين الإسلام انتشر بالدعوة، وانقاد إليه الناس من طريق الحجة، وإليك البيان: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجاهد في مكة بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد عرفتهم ما كان يلاقيه من المشركين من أذى، وما ينالون به أصحابه من سوء العذاب، حتى هاجر بعض أصحابه إلى الحبشة، وهاجر هو وبقية المسلمين إلى المدينة المنورة، وهنالك تألف حوله حزب من المهاجرين والأنصار، وأصبح هذا الحزب بين أربعة أصناف من المخالفين: معاهدون: وهم اليهود وبعض قبائل من العرب؛ كبني مدلج، وبني ضمرة. ومنافقون: وهم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر. ومحاريون: وهم كفار قريش ومن شاكلهم في المجاهرة بالعداوة، والسعي للقضاء على هذه الدعوة قبل ظهورها، ومتاركون: وهم القبائل التي لم تتعرض لحربه، ولم تدخل معه في عهد. وقد جرى حكم معاملاته - صلوات الله عليه - لهذه الأصناف الأربعة على مقتضى الحكمة، وهو رعاية حق المعاهدين ما استقاموا على عهدهم، والأخذ في معاملة المنافقين بظاهر حالهم، ومسالمة المتاركين ما داموا على

حيادتهم، وإعلان الحرب على من وقف موقف العدو الذي لا يرعى عهداً، ولا يقبض يده عن شر. ومن درس غزواته - صلى الله عليه وسلم -، وسراياه، وجدها إما حرباً لعدو لم يدع أذى وصلت إليه يده إلا فعله؛ كغزوة بدر، أو دفاعاً لعدو مهاجم؛ كغزوة أحد، وغزوة حنين، أو مبادرة لعدو تحفز للشر؛ كغزوة بني قريظة، وغزوة المريسيع، وغزوة دومة الجندل، وغزوة ذات السلاسل، أو كسراً لشوكة عدو نقض العهد، وعرف بمحاربة الدعوة، واتخذ كل وسيلة للانتقام من القائمين بها، والقضاء عليها؛ كفتح مكة. حارب - صلى الله عليه وسلم - أولئك الأعداء، وكان يحاريهم في جانب عظيم من السماحة، فنهى عن قتل النساء والأطفال والشيوخ، ونهى عن المثلة، وكان يمضي كل تأمين يصدر من أحد من المسلمين لبعض المحاريين، ولو صدر التأمين من امرأة أو عبد (¬1)، وقال: "ويسعى بذمتهم أدناهم"، وكان يوصي بالإحسان إلى الأسرى، وقد يطلق سبيلهم من غير فداء؛ كما أطلق سبيل سبعين رجلاً من المشركين هبطوا عليه في صلح الحديبية يريدون غرته؛ وقد أشار القرآن المجيد إلى هذه القضية، فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]. وإذا عقد مع قوم عهداً، حافظ على العهد إلى أن ينقضوه بأنفسهم، ومن أظهر المثل التي نسوقها على هذا: قصة أبي رافع الذي بعثه إلى قريش؛ ¬

_ (¬1) أعطى عبد يدعى مكنفاً الأمان لجيش حاصرهم أبو سبرة، فتمسك به الجيش، وكتب أبو سبرة بذلك إلى عمر، فكتب إليهم: "إن الله عظَّم الوفاء، فوّفوا إليهم"، فوّفوا لهم وانصرفوا عنهم."تاريخ الطبري".

فإنه لما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقع في قلبه الإيمان، وقال: يا رسول الله! لا أرجع إليهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ارجع إليهم، فإن كان في قلبك الذي فيه الآن، فارجع". ونص الفقهاء على أنه لا يقتل المعتوه، ولا الأعمى، ولا الزَّمِن، ومن الفقهاء من يقول: لا يقتل الأعمى والزمن، ولو كانا ذوَي رأي وتدبير. وما زال - صلى الله عليه وسلم - يدافع أولئك المعتدين على الوجه المذكور آنفاً، إلى أن شرعت الجزية في السنة الثامنة أو التاسعة للهجرة، ونزل قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فأخذ الجزية من النصارى واليهود والمجوس. أخذها من نصارى نجران، ومن اليهود الذين كانوا باليمن، ومن المجوس الذين كانوا بالبحرين، أما محاربته ليهود المدينة، فكانت قبل شرع الجزية. واختلفت أنظار الفقهاء فيمن تقبل منهم الجزية، وقد قرر جماعة منهم: أن الجزية تقبل من كل مخالف، ولو لم يكن من أهل الكتاب، قال ابن حجر في "الفتح": "وقال مالك: تقبل الجزية من جميع الكفار إلا من ارتد، وبه قال الأوزاعي، وفقهاء الشام". وقال ابن القاسم من أصحاب مالك: "إذا رضيت الأمم كلها بالجزية، قبلت منهم" (¬1). وإذا لم يرد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها من عبدة الأصنام، فلأن مشركي العرب أسلموا قبل نزول آية الجزية؛ لأنها إنما نزلت بعد غزوة تبوك، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فرغ من قتال العرب، ¬

_ (¬1) يقابل هذا مذهب الإمام الشافعي أنها لا تقبل إلا من النصارى واليهود والمجوس. وقال أبو حنيفة: تؤخذ من أهل الكتاب وغيرهم من الكفار وعبدة الأصنام من العجم دون العرب.

واستوثقت كلها بالإسلام، فعدم أخذه الجزية من عبدة الأصنام لعدم وجود من يؤخذ منه، لا لأنهم ليسوا من أهلها (¬1)، وفي "صحيح مسلم" أنه قال: "إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث، فأيتهن أجابوك إليها، فاقبل منهم، وكف عنهم". ثم أمره أن يدعوهم إلى الإسلام، أو الجزية، أو يقاتلهم. فلا شبهة أن الدعوة انتشرت في مكة بالحجة، ولا شك أن الأنصار من الأوس والخزرج أسلموا بمجرد الدعوة. وكذلك من أسلم من اليهود بالمدينة، فإنهم أسلموا وهم في حماية العهد الذي كان بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأسلم قبل فتح مكة رجال كثير من قريش باختيار منهم، مثل: خالد ابن الوليد، وعمرو بن العاص، وطلحة بن أبي طلحة، ومن غير قريش مثل: رفاعة بن زيد الجذامي، وأبي موسى الأشعري، وأصحابه الأشعريين، وكذلك كان إسلام فريق من الحبشة. ومن أسلم بعد فتح مكة من قريش قد أسلموا بعد أن أعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمان بقوله: "من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن، ومن أغلق بابه، فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام، فهو آمن". وبقوله - صلوات الله عليه - لقريش: "لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء،. ونرى قبيلة ثقيف لم يدخلوا الإسلام يوم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - محاصِراً لهم وهم بالطائف، ولكنهم بعد أن تركهم، وعاد إلى المدينة، جاؤوا إلى المدينة فأسلموا بحق، ثم عادوا إلى قومهم، وأخذوهم إلى الإسلام بالدعوة فأسلموا، وكذلك كان الشأن في ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" لابن القيم.

القبيلة التي يسلم رؤساؤها من غير حرب؛ فإنه يتركهم يدعون بقية قومهم، ويرسل معهم من يدعو عامتهم بالحكمة والموعظة الحسنة. ومن أسلم في البلاد التي تُقبل من أهلها الجزية لا يصح أن يقال: إنه أكره على الإسلام؛ لأن له سبيلاً إلى البقاء على دينه، وعدم الدخول في الإسلام، وذلك السبيل هو إعطاء الجزية، وليست الجزية بالشيء الذي يضطر الشخص إلى الخروج عن دينه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر معاذاً إذ أرسله إلى اليمن أن يأخذ من كل محتلم ديناراً، أو قيمته (¬1)، وهذا المقدار اليسير إنما يؤخذ من الرجل البالغ القادر على أدائه، ولا يؤخذ من امرأة، أو صبي، أو فقير عاجز عن الكسب. وكذلك نرى الخلفاء الراشدين في فتوحهم لم يحملوا أمة على الإسلام، بل كانوا يخيرون الأمم بين الإسلام والجزية والمقاتلة، وفي حديث المغيرة ابن شعبة لعامل كسرى: "أمرَنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله، أو تؤدوا الجزية". وماذا يقول هؤلاء الذين يزعمون أن الإسلام انتشر بالسيف إذا نظروا في مسلمي الصين، وجاوة، وغيرهم من الأمم التي دخلت الإسلام بمجرد الدعاية؟! وقد اعترف بعض منصفي الأوربيين بهذه الحقيقة، مثل: (السير توماس أرنولد) حيث قال: "لا يعرف الإسلام بين ما نزل به من الخطوب والويلات خطباً أشد هولاً من غزوات المغول، فقد انسابت جيوش جنكيز ¬

_ (¬1) اختلف الفقهاء بعد في تقدير الجزية؛ ومنهم من يقول - كالمالكية -: تخفف عن الضعيف بقدر ما يراه ولي الأمر.

خان انسياب الثلوج من قنن الجبال، واكتسحت في طريقها العواصم الإسلامية، وأتت على ما كان لها من مدنية وثقافة، على أن الإسلام لم يلبث أن نهض من تحت أنقاض عظمته الأولى، وأطلال مجده التالد، واستطاع بواسطة دعاته أن يجذب أولئك الفاتحين المتبربرين، ويحملهم على اعتناقه، ويرجع الفضل في ذلك إلى حماسة الدعاة من المسلمين الذين كانوا يلاقون من الصعوبات أشدها، لمناهضة منافسينِ عظيمين هما: المسيحية، والبوذية" (¬1). وقال في كتابه "تاريخ انتشار الأديان": "إن اقتناع المسلمين بأن دينهم دين الحق قد غرس في نفوسهم المران والاندفاع في الدعاية إليه حيثما وجدوا، وآية هذه الدعاية في ثلاثة عشر قرناً مضت: ما نراه اليوم من استقرار الإسلام في نفوس بضع مئات من ملايين البشر منتشرين في كل بقعة من بقاع الأرض". وقال: "بينما كان المغول يغيرون على بغداد، وينهبونها عام (656 هـ)، ويحتلون بيت الخلافة من بني العباس، ويغرقونه بالدماء، وبينما كان (فرديناند) يكتسح بقايا المسلمين في قرطبة عام (634 هـ)، ويرغم غرناطة - وهي المعقل الأخير للمسلمين في الأندلس- على أداء الخراج، كان الإسلام يظفر في خلال ذلك بالتقدم والانتشار في جزائر سومطرة". وقال سليمان نظيف بك التركي في التعليق على هذا الذي كتبه (السير أرنولد) في صحيفة "صوت تلغراف": "فالترك السلجوقيون في القرن الخامس الهجري، والمغول من بعدهم بقرنين، إنما جاؤوا إلى بلاد الإسلام أعداء ¬

_ (¬1) "تاريخ الإسلام السياسي" للدكتور حسن إبراهيم.

مغيرين، فما لبثوا أن دخلوا تحت جناح هذا الدين، وصاروا إلى دعاته وناشريه" (¬1). فالحق: أن الإِسلام لم ينتشر بالسيف، وإنما انتشر بالدعوة والحجة، وإذا كان للفتح أثر في انتشار الإِسلام، فمن جهة أن فتح البلاد يستدعي قصد كثير من المسلمين للرحلة إليها، والإقامة في ربوعها، فيكثر اتصال أهل البلاد بالمسلمين، فيقفون في محادثتهم ومعاملتهم على جانب من حقائق الدين، ولو لم يتعمدوا البحث عنها، ثم إن ظهور الدعاة بمظهر العزة والوجاهة يجعل العيون ترمقهم بإجلال، فتقرب منهم النفوس، حتى إذا وجدتهم على دين أفضل من دينها، وشريعة أحكم من شريعتها، وآداب أرفع من آدابها، آمنت بما يؤمنون، وسارت في حياتها على ما يسيرون. ¬

_ (¬1) مجلة "الزهراء" - شعبان سنة 1343 هـ.

نهوض الشباب بعظائم الأمور

نهوض الشباب بعظائِم الأمُور (¬1) يسبق إلى الأذهان: أن الفتى حديث السنن؛ لقلّة ما مر عليه من التجارب، تخفى عليه عواقب الأمور، ويقصر باعه عن حل المعضلات، وتصريف الأمور بحكمة، ومن هنا نرى الناس يحتملون أخطاء الشباب أكثر من احتمالهم أخطاء غيره، ويعتذرون عنه بحداثة سنِّهِ، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لمن أنكر عليه عزل خالد بن الوليد من قيادة الجيش الفاتح للشام: إنك حديث السنن, مغضب في ابن عمك. وهذا حق بالنظر إلى الشباب الذين ينشؤون نشأة عادية، فتنمو عقولهم على قدر ما يمر عليهم من السنين، وعلى قدر ما يلاقون من تجارب الحياة. ما استقامت قناةُ فكري ... إلا بعد أن أعوجَ المشيبُ قناتي ولكن التاريخ والمشاهدة يدلان على أن في الشباب من يبلغ في حصافة العقل، وحسن التدبير، المنزلةَ الكافية لأن يلقى على عاتقه ما يلقى على عواتق الكهول أو الشيوخ من عظائم الأمور. وفي مثل هذا الفتى يقول بعض الأدباء: "قد لبس شبابه على عقل كهل، ورأي جزل، ومنطق فصل، حمدت عزائمه، قبل أن تحمل تمائمه"، وفي ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الأجزاء الثاني والثالث والرابع من المجلد الثالث عشر.

مثل هذا يقول آخر: "وكان بارعاً في العلم، أو السياسة إلى درجة تسمو على سنِّه"، وفي مثل هذا الفتى يقولون: "كان حسن السيرة، رفيقاً بالرعية، على حداثة سنِّه)، وقد يقولون: لا تنظر إلى صغر سن فلان، وانظر إلى عظم ما بلغه من المجد, كما قال البحتري: لا تنظرن إلى الفياض من صغر ... في السنن وانظر إلى المجد الذي شادا إن النحوم نجومَ الأفق أصغرها ... في العين أذهبها في الجو إصعادا وإذا قلبنا صفحات التاريخ, دلتنا على رجال ظهرت عبقريتهم وكفايتهم للقيام بأعمال جليلة، وهم في أوائل عهد شبيبتهم. نقرأ في السيرة النبوية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولّى عتاب بن أسيد مكة وقضاءها، وهو في سن الحادية والعشرين، وولّى معاذ بن جبل على اليمن وهو دون سن العشرين، وولّى أسامة بن زيد إمارة جيش فيه الشيخان أبو بكر وعمر، وسن أسامة يومئذ تسع عشر سنة، وولّى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كعبَ بن صور قضاء البصرة وهو في سن العشرين. وكان يدعو ابن عباس في المعضلات، ويجلسه بين الأشياخ، وهو دون سن العشرين. وقلّد عثمان - رضي الله عنه - عبد الله بن عامر ولاية البصرة، وهو ابن خمس وعشرين سنة، قاد الجيوش، وفتح ما بقي من بلاد الفرس، حتى انقرضت على يده الدولة الساسانية، وولّى الحجاج محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم الثقفي قيادة جيش أخمد ثورة في الفرس، وقيادة جيش افتتح السند، وكان عمر هذا القائد سبع عشرة سنة، حتى قال فيه بعضهم: قاد الجيوش لسبع عشرة حجَّة ... يا قربَ ذلك سؤدداً من مولدِ وظهر نبوغ مخلد بن يزيد المهلبي في أوائل عهد شبابه، وفيه يقول

حمزة بن بيض الحنفي: بلغت لعشر مضت من سنيـ ... ـــــــك ما يبلغ السيد الأشيب فهمّك فيها جسام الأمور ... وهمُّ لداتك أن يلعبوا وكان مخلد هذا والياً على جرجان، وتوفي في عهد عمر بن عبد العزيز، وهو ابن سبع وعشرين سنة، وقال عمر بن العزيز: اليوم مات فتى العرب، وأنشد متمثلاً: على مثل عمرٍ تذهب النفس حسرةً ... وتضحي وجوه القوم مغبّرةً سودا وولى المأمون يحيى بن الأكثم قضاء بغداد وهو في سن الحادية والعشرين، وتولى أبو شجاع بن نظام الدين الوزارة للمسترشد، وسنه دون العشرين، ولم يل الوزارة أصغر منه. وإذا انتقلنا إلى النظر في شباب الملوك، وجدنا رجالاً تقلدوا الملك في سن العشرين، أو فيما دونه، أو فيما يزيد عليه بقليل، وأخص حديثي وما أسوقه من الأمثال بمن تولوا الملك في عهد الشباب، وظهرت لهم آثار تدل على كفايتهم للقيام بأعباء الملك. وأضع في أول سلسلة هؤلاء الشباب من الملوك: الخليفة هارون الرشيد, فإنه تولى الخلافة وهو في سن الحادية أو الثانية والعشرين، وماذا أقول في هارون الرشيد، وصحف التاريخ مملوءة بمآثره الحميدة، وبما بلغه الإِسلام في عهده من العزة والعظمة؟!. وإذا لم يكن بدّ من ذكر خصلة من خصاله الزاهرة، فإنه كان يدع القضاء يتمتع بحريته الكاملة، ومما حدثنا به التاريخ: أن يهودياً كان قد رفع عليه قضية لدى القاضي أبي يوسف، وحكم القاضي لليهودي، وكان هارون في المجلس، فبادر إلى تنفيذ ما حكم به القاضي.

ومن عظماء شباب الملوك: ملك شاه بن ألب أرسلان الملقب بالسلطان العادل، تولّى الملك وهو في سن التاسعة عشرة، أو العشرين، وقد ملك من كاشغر "أقصى مدينة في بلاد الترك" إلى بيت المقدس، وكان مغرماً بالعمران، لهجاً بالصيد، مظفرًا في الحروب، وكانت السبل في أيامه آمنة: تسافر القوافل أو الأفراد مما وراء النهر إلى أقصى الشام من غير خوف ولا رهبة، وأصدق شاهد على إخلاصه في سياسة الأمة: أنه خرج لقتال أخيه أبي سعيد بن ألب أرسلان، واجتاز بمشهد الإمام علي الرضا، فقال في دعائه: "اللهم انصر أصلحَنا للمسلمين، وأنفعَنا للرعية". ومن عظمائهم: محمد بن ملك شاه، فقد تولى السلطنة وهو في سن العشرين، وسار سيرة حسنة، وكانت له الآثار الجميلة من العدل الشامل، والبرّ بالفقراء والأيتام، وكان ساهرًا على أن تكون عقيدة الأمة سليمة، يخشى أن يدخلها الإلحاد، فتتزعزع قوتها المعنوية، وما تفشّى الإلحاد والإباحية في قوم إلا فقلت الرجولة من نفوسهم، وركب العدو أعناقهم. ومن عظمائهم: محمود بن محمد بن ملك شاه؛ فقد تولى السلطنة في خلافة المستظهر بالله، وخطب له في بغداد وهو في سن الحلم، وكان هذا السلطان متوقدًا ذكاء، قوياً في العربية، عارفًا بالتواريخ، شديد الميل إلى أهل العلم والفضل، وهو الذي مدحه الشاعر حيص بيص بقصيدته التي يقول فيها: يا ساري الليل لا جدب ولا فرق ... فالنبت أغيد والسلطان محمود قيلٌ تألفت الأضداد خيفته ... فالمورد الضنك فيه الشاء السيد ومن عظمائهم: فنا خسرو عضد الدولة بن بويه، فقد ولّي سلطنة فارس

وعمره خمس عشرة سنة، واستولى على العراق والجزيرة، وهو أول من خوطب بالملك في الإِسلام، وكان شهمًا حازماً متيقظًا، محبًا لأهل الفضل، وقصده فحول الشعراء ومدحوه بأحسن المدائح، ومن هؤلاء الشعراء المتنبي، ومما قال فيه: ومن أَعتاضُ عنك إذا افترقنا ... وكل الناس زور ما خلاكا ومنهم محمد بن عبد الله السلامي، وهو الذي يقول فيه: وبشرف آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر ومن عظماء شباب الملوك في الشام أو مصر: أبو الفتح غازي بن السلطان صلاح الدين المعروف بالملك الظاهر، فقد سلم إليه والده مملكة حلب وسنه أربع عشرة سنة، وكان ملكاً حازماً عالي الهمة، حسن السياسة، كثير الاطلاع على حال الرعية وأخبار الملوك، باسطاً للعدل، مجّلاً للعلماء، مجيزاً للشعراء، ورثاه راجح بن إسماعيل الحلبي بقصيدة بديعة يقول في طالعها: سل الخطب إن أصغى إلى من يخاطبه ... بمن علقت أنيابه ومخالبه ثم يقول: أيا تاركي ألقى العدو مسالماً ... متى ساءني بالجد قمت ألاعبُهْ

ومن شباب ملوك مصر: خمارويه بن أحمد بن طولون؛ فقد تولى ملك مصر وهو ابن عشرين سنة، وكان هذا الملك يمثل الثبات ومقارعة الخطوب؛ فقد أصابه في أوائل ولايته ما يكسر العزم، ولكنه ما زال ينهض حتى ثبت لقتال الخارجين عن طاعته، ووصل أصحابه إلى "سر من رأى" بالعراق، وعظم أمره، واستولت الهيبة منه على القلوب. وإذا نزل بقدره شيء، فهو أنه كان ينفق الأموال الطائلة في الملاهي والزينة. كما فعل في تجهيز ابنته "قطر الندى". وممن يذكر في هذا القبيل: علي بن الحاكم العبيدي، الملقب بالظاهر، فقد تولى ملك مصر وعمره ست عشرة سنة، وكان على خصال حميدة من نحو: السخاء والحلم والتواضع، والعدل في الرعية، والنظر في إصلاح البلاد، وكان لا يدّعي ما كان يدّعيه والده وجدّه من المزاعم، وله كتاب يتبرأ فيه من الغلاة فيه، وفي آبائه. ومن هؤلاء العظماء: المظفّر موسى بن الملك العادل، فقد ملكه والده مدينة "الرها" وهو في سن العشرين، واتسع ملكه بعد، وكان سلطاناً واسع الصدر، كريم الأخلاق، ويقول المؤرخون: إنه أحسن إلى الناس إحساناً لم يعهدوه ممن كان قبله، فكان محبوباً إلى الناس، مؤيداً في الحروب، ومن شعرائه أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن النبيه، ويعجبني من مديحه له قوله: قام بالدنيا وبالأخرى معاً ... فهي ضرات به قد رضيت حسن الظاهر للناس وللـ ... ـــــــــه منه حسنات خفيت ومن عظماء شباب الملوك في تونس: أحمد بن محمد بن الأغلب،

فقد ولي الملك بالقيروان وهو في سن العشرين، وكان حسن السيرة، رفيقاً بالرعية، كثير الصدقات، وكان مولعاً بالعمارة، فبنى بأفريقية حصوناً كثيرة الحجارة والكلس وأبواب الحديد. ومن هؤلاء العظماء: باديس بن المنصور، فقد تولى الملك بالقيروان وعمره إحدى عشرة سنة، وكان ملكاً كبيراً، حازم الرأي، شديد البأس، وأذكر من مآثره: أن الفقيه الزاهد محرز بن خلف بعث إليه بكتاب يعظه فيه، ويطلب رفع مظلمة وقعت على أحد تلاميذه، ومما يقوله في الكتاب: "لا يغرنك توالي زخارف الدنيا عليك، وشاور في أمرك من يتقي الله، وخف من لا يحتاج إلى عون عليك، أنت على رحيل، فخذ الزاد". ولما وصل الكتاب إلى باديس، أصدر أمراً بتحرير طلبة العلم كافة، ورفع المظالم عنهم جملة. ومن هؤلاء العظماء: المعزِّ معد بن منصور العبيدي، تولى الملك وهو في الثانية والعشرين من العمر، وثبّت دعائم دولتهم بالمغرب، ثم أسس الدولة العبيدية بمصر، وكان عاقلاً حازماً أديباً. ومنهم: المعزّ بن باديس؛ فقد تولى الملك وهو في السنة الثامنة من العمر، وكان ملكاً جليلًا، عالي الهمة، حريصاً على تنفيذ أحكام الشريعة الغراء، واجتمع بحضرته من أفاضل الشعراء ما لم يجتمع إلا بباب الصاحب ابن عباد. ويدخل في صف هؤلاء: المستنصر باللهِ محمد بن زكريا؛ فقد تقلّد الملك في تونس وعمره عشرون سنة، فنهض بأعباء الملك، وعلا صيته، وأبقى آثاراً علمية وأدبية وعمرانية أبقت له ذكراً جميلاً، وهو الذي قدم عليه حازم القرطاجني من الأندلس، فأكرم نزله، ومدحه بقصيدته الطائية المعروفة،

وقصيدته الرائية التي يقول في نسيبها: ولا تعجبوا يوماً لكسر جفونها ... فإن إناء الخمر في الشرع يُكسَرُ ويقول في حال الأعداء: وقد شابه الأعداء جمعاً مؤنثاً ... لذاك غدت في حالة الفتح تُكسَرُ ومن عظماء شباب السلاطين بالمغرب الأقصى: إدريس بن إدريس الحسني؛ فقد أخذت له البيعة بالمغرب الأقصى وعمره إحدى عشرة سنة، فقد نشأ في كفالة مولى أبيه راشد، فأقرأه القرآن الكريم، وعلمه السنّة، وروّاه الشعر وأمثال العرب، وأطلعه على سير الملوك، ودربه على ركوب الخيل، والرمي بالسهام، فلم يصل إلى السنة الحادية عشرة حتى ترشح للأمر، واستحق أن يبايع، وظهر من ذكائه ونبله ما أذهل العامة والخاصة. صعد المنبر يوم بيعته وخطب، ومما قال في خطبته: "أيها الناس! إنا قد ولّينا هذا الأمر الذي يضاعف للمحسن فيه الثواب، وللمسيء الوزر، ونحن - والحمد لله- على قصد جميل، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا, فإن ما تطلبونه من إقامة الحق إنما تجدونه عندنا"، وكان عاملاً بكتاب الله، قائماً بحدوده، وبذلك استقام له الملك، وعظم أمره. ومن هؤلاء العظماء: علي بن محمد بن إدريس، أخذت له البيعة بعد وفاة أبيه، وكان يوم بويع في سن العاشرة من العمر، فظهر ذكاؤه ونبله، وسار بسيرة أبيه وجده في العدل، وإقامة الحق، وقمع الأعداء، وضبط البلاد والثغور، ويقول المؤرخون: كانت أيامه خير أيام. ومن هؤلاء العظماء: علي بن يوسف بن تاشفين، بويع وعمره ثلاث وعشرون سنة، وكان حليماً عادلاً وقوراً، آخذاً بالحزم، فضبط الثغور، وملك

من البلاد ما لم يملكه أبوه من قبله. ومن عظماء شباب الملوك بالأندلس: عبد الرحمن الناصر، تولى الملك غير متجاوز الثانية والعشرين من عمره، درس عبد الرحمن القرآن والسنّة، وأجاد النحو والتاريخ, وبرع في فنون الحرب والفروسية، وزهت في عصره العلوم والزراعة والصناعة، وساد الأمن في البلاد، وكان للعلماء في عصره الحرية المطلقة، يواجهونه بالأمر بالمعروف، ويتلقى منهم ذلك بصدر رحب. ومواقف منذر بن سعيد في نصحه له معروفة في التاريخ, وهو الذي خطب على المنبر في بعض المجالس الحافلة منكراً عليه الإسراف في تشييد المباني وزخرفتها، وهو الذي خاطبه في أحد المجالس بقوله: يا باني الزهراء مستغرقاً ... أوقاته فيها أما تمهل لله ما أحسنها رونقاً ... لو لم تكن زهرتها تذبل وكان القضاء في عهده على استقلال لا يخشون معه لومة لائم، وكان القاضي ابن بشير يحكم عليه لخصمه، ويتوعده بالاستقالة إذا لم يمتثل ما حكم به عليه. ومن هؤلاء العظماء: أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج أحد ملوك غرناطة، تولى الملك وهو في السادسة من العمر، وكان الغالب على أيامه الهدنة والصلاح والخير، وكان وزيره الأديب الكبير أبو الحسن بن الجياب، ثم توزر له لسان الدين بن الخطيب. ومن هؤلاء العظماء: ابنه محمد بن يوسف بن إسماعيل، بويع له بعد وفاة أبيه يوسف وعمره تسع سنين، وكان وزيره لسان الدين بن الخطيب بعد أن توزر لأبيه من قبله، ووصفه ابن الخطيب فقال؛ متحلٍّ بوقار وسكينة،

وسافر عن وسامة يكتنفها جلباب حياء وحشمة، كثير الأناة، ظاهر الشفقة، عطوف، مخفوض الجناح، مائل إلى الخير بفضل السجية، فأنست العامة بقربه، وسكنت الخاصة إلى طيب نفسه، وحمد الناس فضل عفافه، وكلفه بما يعنيه من أمره، وكان مع هذه المزايا مثلاً في الفروسية، قال بعض مادحيه: إن ألمَّتْ هيعةٌ طا ... ر إليها غير وانِ يصدع الليل بقلبٍ ... ليس بالقلب الجبان وأختم حديثي هذا بحديث ملوك تقلدوا في أوائل شبابهم ولايات كانوا فيها مظهر اليقظة والحزم، وتولوا الملك بعده، فساروا فيه سيرة عبقري زادته التجارب خبرة بطرق السياسة الرشيدة. ومن هؤلاء الملوك: هشام بن عبد الرحمن الداخل "مؤسس الدولة الأموية بالأندلس"؛ فقد كان والده عبد الرحمن يوليه في صباه الأعمال، ويرشحه لولاية الملك، ولما توفي عبد الرحمن، تولى هشام الخلافة وعمره ثلاثون سنة، وكان يذهب بسيرته مذهب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. ويدخل في نظم هؤلاء الملوك: عبد الرحمن بن الحكم الأموي، وكان أبوه الحكم يوليه قيادة الجيوش العظيمة في الأندلس وهو ابن خمس عشرة سنة، فيهزم الأعداء، ويعود ظافراً. وأذكر من هذا القبيل: تميم بن المعزّ بن باديس، فوض إليه والده المعزّ ولاية "المهدية" وهو في سن الثالثة والعشرين، وتولى الملك بعده وهو في سن الثانية والثلاثين، وكان حسن السيرة، محمود الآثار, معظمًا لأرباب الفضائل، وقصدته الشعراء من الآفاق، وكان هو نفسه معدوداً من طبقات الأدباء. ومن شعره:

فإما الملك في شرف وعزٍّ ... عليّ التاج في أعلى السرير وأما الموت بين ظبا العوالي ... فلست بخالد أبد الدهور والغرض من حديثنا عن أولئك الشباب الذين تولوا أموراً جليلة القدر، عظيمة الشأن، فقاموا بأعبائها خير قيام: أن نستنهض همم أبنائنا للأخذ بأسباب قوة الفكر، وسعة الدراية لأول عهد التمييز، ولمواصلة السير في سبيل السيادة بجد وحزم؛ لكي نراهم وهم في ريعان الشباب قد بلغوا بجودة النظر، واستقامة السيرة أن كانوا موضع آمال الأمة، يعملون لسلامتها، والاحتفاظ بعزتها. وواجب على ولي أمر الناشئ أن يشعره بأن بلوغ الفتى المنزلة المحمودة في السيادة وهو في مقتبل العمر، ليس بالأمر المتعذر أو المتعسر، وليس من شك في أن هذا الشعور يريه السيادة قريبة التناول، فيشمر عن ساعد الجد، وسرعان ما يبلغ ذروتها، ومن أدرك السيادة في عنفوان شبابه، فإن مات، مات سيداً، وإن عاش إلى زمن الكهولة أو الشيخوخة، كانت سيادته أطول عماداً، وأرفع ذكراً، وأطيب ثمراً.

جيل يؤمن بالأخلاق

جيل يؤمن بالأخلاق (¬1) إن الأمم الناهضة تحتاج نفوسها إلى الغذاء الجيد من الأخلاق والسجايا, لتقوى به على مواصلة النهوض إلى المعالي، كما تحتاج أجسامها إلى الغذاء الجيد من الطعام؛ لتقوى به على مواصلة الكفاح في سبيل المعايش، والشجاعة غذاء من أغذية الأمة في طور التحرير، لا يتهاون به إلا صغار النفوس، والذين يستعذبون موارد العبودية، وإن لم تفرض عليهم، وأصل الشجاعة: أن تعرف الحق: حق الله، وحق الأمة، وحقوق المواطنين، وحقك الشخصي، فتوطن نفسك على أن تكون صادق العزم في إعطاء كل ذي حق حقه بالعدل والإنصاف. وقد أوصى المسلمين بأن يكونوا أهل الشجاعة في مواقف الدفاع عن الحق، ما داموا يرجون لهذا الحق العزة والاستعلاء، فقال - صلى الله عليه وسلم -؛ في سورة النساء: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104]، فأرشدهم الله إلى أنهم بما يرجون من إقامة الحق ومعونة الله عليه، ينبغي ¬

_ (¬1) حديث صحفي للإمام نشرته مجلة "الأزهر" - الجزء الثامن من المجلد الرابع والعشرين.

لهم أن يكونوا أبعد من أعداء الحق عن الوهن والضعف؛ لأن المؤمن الذي يرجو الحق، ويعيش له، ويعد نفسه لإعلانه ونصرته، يجب أن يكون من أبعد الناس عن الوهن في سبيله. ومن هنا يتبين لنا: أن الشجاعة العسكرية وليدة الشجاعة الأدبية، لأن كلا نوعي الشجاعة منبعث عن الولاء للحق، وتوطين النفس على إقامته ونصرته. وإن الرجل الشهم الذي يوطن نفسه على الدفاع عن الحق، ويؤدي الشهادة الصادقة على نحو ما علم، دون أن يهاب ذا جاه أو سطوة، لا يقل عن البطل الصنديد في موقفه بساحة الحرب أمام نيران العدو مدافعاً عن حق أمته وملته ووطنه. إن المسلم الذي يعلم أنه لم يكن مسلماً إلا بشهادة الحق: "لا إله إلا الله" يوطن نفسه على أن ألا يشهد إلا بالحق، ولو على نفسه وعلى والديه في كل المواقف، متمثلًا دائمًا في ذهنه أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- للمسلمين: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]. ولما ربى الإِسلام أبناءه على إقامة الحق ونصرته ومحبته، والشهادة به والإعانة عليه، ربى فيهم بهذه السجية خلق الشجاعة في النفوس، فأخرج منهم أمة لا تهاب الخطوب، وترى الموت في سبيل إعلاء كلمة الحق خيرا من ألف حياة يقضيها صاحبها في مشاهدة الباطل يمشي في الأرض مرحاً. انظروا إلى قول الخليفة الأول أبي بكر الصديق في وصيته لقائده العظيم خالد بن الوليد: "احرص على الموت، توهب لك الحياة"، فباقتحام موارد الموت في سبيل إقامة الحق تبرهن الأمة على أنها جديرة بالحق، وبهذا

نكون من أهل الحياة، وأن الشهداء من رجالها أحياء عند ربهم، وأحياء في قلوب عباده، والذين لم ينالوا منهم نعمة الشهادة يتمتعون بالحق، وبما يفيضه عليهم الحق من نعمة الحياة. وإلى هذا المعنى يشير الفارس الشاعر حصين بن الحمام أحد بني سهم ابن مرة: تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما جلس القائد المجاهد الشهير مسلمة بن عبد الملك مع أخيه الخليفة الأموي هشام ذات ليلة، فقال له أخوه الخليفة: "يا أبا سعيد! هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو؟ "، فأجاب مسلمة: "ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه إلى حيلة، ولم يغشني فيها ذعر سلبني رأيي"، فقال له هشام: "هذه هي البسالة". ولما كان الحكم والسلطان في إسبانيا للخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر، رفع أحد التجار قضية على الخليفة إلى القاضي الأكبر في عاصمة الأندلس "قرطبة"، وهو العالم الفقيه الورع ابن بشير، فحكم ابن بشير للتاجر على الخليفة، ولم يكتف بإصدار الحكم، بل كان حريصاً على سرعة تنفيذه، فذهب إلى الخليفة يخبره بنص الحكم الذي صدر عليه، وينذره بالاستقالة من القضاء إن لم يبادر الخليفة بالتنفيذ. وحتى في أحط أدوار الدولة العبيدية بمصر، دخل الإمام أبو بكر محمد ابن الوليد الطرطوشي على الملك الأفضل ابن أمير الجيوش بدر الجمالي - وكان الأفضل وزير مصر للمستنصر والمستعلي والآمر-, فتكلم الطرطوشي موجهًا الموعظة والنصيحة للملك الأفضل. ولاحظ في أثناء موعظته أن إلى

جانب الملك رجلاً لا يؤتمن على الدولة، ولا تهمه مصلحة الملة، فختم الطرطوشي موعظته بالحديث عن ذلك الرجل غير المؤتمن، وأشار إليه بيده، فلم يكن من الملك الأفضل - لما استشعره من صدق الإمام الطرطوشي وغيرته على الحق وشجاعته في إعلانه - إلا أن أمر ذلك الرجل الجالس إلى جانبه بأن يتنحى عن ذلك المقام. إن الأمة الضعيفة المستكينة لا تستحق الحياة، وهي لا تقوى وترتقي وتعتز إلا إذا شاع في أفرادها - ولا سيما شبابها، خصوصًا المثقفين منهم - خلق الصدق، ومحبة الحق، وتوطين النفوس على نصرته، والصراحة فيه، والدفاع عنه. ومن هذا الخلق يولد الجيش الباسل الذي لا يغلب، بل من ذلك الخلق يولد الجيل الفاضل الذي لا يطمع في حق غيره، ولا يطمع غيره في حقه. والحق شطر الإِسلام، بل هو عظامه التي تقوم بها بنيته، أما الشطر الآخر، فهو الخير، وهو في مقام اللحم والشحم من بنية الإِسلام. ولم يرد في الإِسلام أمر ولا نهي إلا وهو يرجع إلى شعبة من شعب الحق، أو إلى شعبة من شعب الخير. والمسلمون لن يعودوا كإخوانهم الذين حملوا لواء الحق، ونشروا قانونه في الأرض، إلا إذا تضلعوا من معين الحق، وارتووا من موارد الخير، فأصبحوا يعرفون بين الأمم بأنهم أمة الحق والخير، وحينئذ يكون منهم الجيش الغالب الظافر الذي يقتحم كل عقبة تحول بينه ويين الحق، ويجتاز كل مخاضة تمنعه من الوصول إلى أهداف الخير. وكما ينبغي أن يجهز الجيش بالدبابات والمدافع الضخمة، والطائرات النفاثة والقنابل الذرية، فإن كل هذه المعدات لا تنفعه إن لم يستمد جنوده وضباطه من أمة تربت على الصدق، وآمنت بالحق، ووطنت نفسها على

محبة الخير. بل إن تجهيز الأمة بسجية الصدق، وتربيتها على الإيمان بالحق، وعلى الإيمان بالخير، هو الذي ييسر لها الأسلحة من كل نوع، والأنصار من كل أمة، وهو الذي يملا بالهيبة والحرمة لها قلوب الأمم جميعاً. وهكذا الأخلاق لا تزال معيار الأمم، وهي مفتاح الأماني المغلقة وهي السبيل إلى استرداد الحقوق، وتيسير السبل إليها. إن إعداد شباب الجيل بسجية الصدق، وتربيتهم على الإيمان بالحق، وعلى محبة الخير، عنصر من عناصر الإِسلام. ولقد صرنا الآن إلى عهد قام بالأخلاق، وهو في حاجة إلى الاستعانة بجيل يؤمن بالأخلاق. والمصانع المصرية لتربية الأخلاق هي معاهد العلم التي يتوقف عليها نجاح هذا العهد، ويكون لأمتنا منها الجيش الظافر الذي هي بحاجة إليه في مصيرها القريب، وكل يوم تضيعه معاهدنا العلمية، وتحجم فيه عن البدء في مناهجها الصالحة، يكون خسارة على الأمة، وعلى حقوقها. إن الأمر جد، والوقت أثمن من أن يضيع بغير عمل.

مثل أعلى لشجاعة العلماء واستهانتهم بالموت في سبيل الحق

مثل أعلى لشجاعة العلماء واستهانتهم بالموت في سبيل الحق (¬1) رأى عبد الملك بن مروان أن يدعو الناس إلى مبايعة ابنيه: الوليد، وسليمان بولاية العهد، وكتب فيما كتب إلى والي المدينة هشام بن إسماعيل أن يدعو أهل المدينة إلى هذه المبايعة، ففعل، وأطبق أهل المدينة على البيعة إلا سعيد بن المسيّب؛ فإنه امتنع بعلة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين، فكتب هشام إلى عبد الملك يخبره بأن أهل المدينة بايعوا قاطبة، ولم يأب منهم البيعة إلا سعيد بن المسيّب، فكتب عبد الملك إلى هشام بأنه يأمر سعيداً بالمبايعة، فإن أبى، عرضه على السيف، فإن أصر على عدم المبايعة، جلده خمسين صوتاً، وطيف به في أسواق المدينة. وصل كتاب عبد الملك إلى هشام، واتصل بهشام ثلاثة من أصدقاء سعيد، وهم: سليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله، فأخبرهم هشام بما أُمر به في شأن سعيد، والظاهر أن هشامًا لم يطلعهم إلا على ما أمر به عبد الملك من عرض سعيد على السيف إن امتنع من البيعة، ولم يذكر لهم ما جاء في الخطاب من قتله إذا أصر على رأيه، واستبدال الجلد بالقتل. ارتاع الفقهاء الثلاثة لهذا الخبر، وخشوا أن يصمم سعيد على عدم ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزآن الثالث والرابع من المجلد الثالث عشر.

المبايعة، فيناله عقاب القتل، فأخذوا يدبرون وجهاً لتخليص سعيد من هذه الورطة متى صمّم على عدم البيعة، حتى وصلوا إلى تدبير عرضوه على الوالي، فقبله، وكانوا يظنون أن ما دبروه من الوجوه لإنقاذ سعيد من عقوبة القتل سيجد من سعيد ليناً وقبولاً حسناً. كذلك ذهب الفقهاء الثلاثة إلى سعيد، وقالوا: جئناك في أمر عظيم: إن عبد الملك كتب إلى الوالي يأمره بأن يعرض عليك المبايعة، فإن لم تفعل، ضرب عنقك، ونحن نعرض عليك خصالاً ثلاثاً، فأعطنا إحداهن، وهي: أن يقرأ عليك الكتاب، فتسكت، ولا تقل: "لا"، ولا "نعم"، فيكتفي منك الوالي بهذا السكوت، فتمضي على ما صممت عليه من عدم المبايعة، وتدرأ عن نفسك عقوبة القتل. سعيد: ما أنا بفاعل؟ الفقهاء الثلاثة: تجلس في بيتك، ولا تخرج إلى الصلاة أياماً، فيعتمد الوالي في عدم إنفاذ أمر عبد الملك على أنه قد طلبك من مجلسك فلم يجدك. سعيد: أفعل هذا، وأنا أسمع الأذان فوق أذني: حي على الصلاة، حي على الصلاة؟! ما أنا بفاعل. الفقهاء الثلاثة: انتقل من مجلسك بالمسجد إلى مكان غيره، فإن الوالي يطلبك في مجلسك، فإن لم يجدك، أمسك عنك. سعيد: أفرقاً من مخلوق؟! ما أنا بمقدم شبراً ولا متأخر. ولما رأى الفقهاء صلابة سعيد، وأيسوا من قبوله إحدى الخصال التي

عرضوها عليه، خرجوا والأسف على سفك لم سعيد يملا صدورهم. وما كان من سعيد إلا أنه خرج إلى صلاة الظهر، وجلس في مجلسه الذي اعتاد الجلوس فيه من قبل، ولم يكن من الوالي إلا أن بعث إليه، فأتي به، فقال له: إن أمير المؤمنين كتب يأمر إن لم تبايع ضربنا عنقك. سعيد: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين. هشام: اخرجوا سعيداً إلى السدة، ومدوا عنقه، وسلّوا عليه السيوف، ففعلوا، وسعيد مصر على عدم البيعة. فلما رأى هشام إصراره، أمر به، فجرد من بعض الثياب؛ ليذوق ألم الجلد، وضرب خمسين سوطاً، ثم طافوا به في أسواق المدينة، ومنعوا الناس أن يجالسوه. بايع أهل المدينة - علماؤهم وأهل الحل والعقد منهم - بولاية الوليد وسليمان العهد، وكان لسعيد بن المسيّب أن يجاري هذا الاجتماع دون أن يجد من أحد لومًا أو اتهامًا بالانحراف عن أوامر الشريعة، ولكنه رأى أن هذه المبايعة قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها، فليس له أن يقدم عليها، وإن أجمع عليها أهل الأرض قاطبة. وكان لسعيد رخصة في أن يقرأعليه كتاب عبد الملك فيسكت، ولكنه خشي أن يفهم الناس أنه موافق على هذه البيعة، فيكون سكوته كالإفتاء بصحتها، وإفتاء العالم بغير ما يراه حكم الله في الواقعة، من باب قوله على الله غير الحق، وهو يعلم أنه غير الحق، وذلك ما لا يصح أن يصدر من مؤمن، فضلاً عن عالم عرف بتقوى الله تعالى، واتخذه الناس قدوة مثل سعيد بن المسيّب.

وكان لسعيد رخصة في أن يمكث في منزله أياماً حتى يصرف عنه عذاب القتل، ولكنه رأى أن الحياة أحقر من أن يترك المسلم من أجلها صلاة أو صلوات في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الجماعة. وكان لسعيد رخصة في أن يترك محله في المسجد، ويجلس في مكان آخر من المسجد، فيتجنب بذلك عقوبة القتل دون أن يخطر على بال أحد أن سعيداً غير رأيه في المبايعة، أو تردد في حكمها، ولكن سعيدًا يزدري الحياة، ولا يهاب الموت، فلا يرى تهديده بالقتل بالأمر الذي يمنعه من أن يكون صريحاً في الحق، وأن يذهب في هذه الصراحة إلى أقصى غاية، فلا يرضى لنفسه أن يترك شيئاً اعتاده، ولا داعي لهذا الترك، سوى اتقاء أذى تجرّه إليه تلك الصراحة. ثم إن سعيد - رضي الله عنه - لو قبل إحدى الخصال التي عرضها عليه الفقهاء الثلاثة، لفتح باباً لمن يريد أن ينعته بالجبن والفزع من الموت، وذلك ما لا يصح أن يكون نعت عالم درس الشريعة الغرّاء بحق، وعرف ما تقصد إليه من إقامة صروح العزّة والسيادة. ومأخذ العبرة في هذه القصة: أن سعيد بن المسيّب قد ضرب مثلاً أعلى لشجاعة العلماء وثباتهم على ما يرونه شريعة، واحتمالهم في سبيل ذلك كل ما يتوقع من أذى، ولو بلغ ضرب الأعناق بالسيوف.

شجاعة العلماء وإنصاف الأمراء

شجاعة العلماء وإنصاف الأمراء (¬1) كان يحيى بن أكثم، ومحمد بن المنصور، وأبو العيناء، مرافقين للخليفة المأمون في رحلة من بغداد إلى الشام. - المأمون لبعض أعوانه: نادوا بتحليل نكاح المتعة. - الأعوان ينادون بأمر الخليفة: نكاح المتعة حلال. - يحيى بن أكثم: يا محمد بن المنصور، ويا أبا العيناء! بكّرا غداً إلى المأمون، فإن رأيتما للقول وجهاً، فقولا، وإلا، فاسكتا إلى أن أدخل. محمد بن المنصور وأبو العيناء يدخلان على المأمون، المأمون يقول وهو مغتاظ: المتعة كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى عهد أبي بكر، ومن أنت حتى تنهى عما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر - رضي الله عنه -؟! - أبو العيناء ومحمد بن المنصور يقولان بينهما: رجل يقول في عمر ابن الخطاب ما يقول، نكلمه نحن؟! وأمسكا عن الكلام. . يحيى بن أكثم يدخل المجلس وعلى وجهه أثر غم وكآبة. - المأمون: ما لي أراك متغيراً؟ ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد الثالث عشر.

- يحيى بن أكثمَّ: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإِسلام. - المأمون: وما حدث في الإِسلام؟ - يحيى بن أكثم: النداء بتحليل الزنا. - المأمون: الزنا؟ - يحيى بن أكثم: نعم: المتعة زنا. - المأمون: ومن أين قلت هذا؟! - يحيى بن أكثم: قلت هذا من كتاب الله، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 1 - 6]. يا أمير المؤمنين: زوجة المتعة ملك اليمين؟ - المأمون: لا. - يحيى بن أكثم: أهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث، وتلحق الولد، ولها شرائطها؟ - المأمون: لا. - يحيى بن أكثم: فقد صار الناكح نكاح المتعة متجاوزاً ملك اليمين والزوجية اللذين أحلتهما الآية، فهو من العادين. وهذا الزهري- يا أمير المؤمنين- روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان قد أذن فيها. - المأمون يلتفت إلى محمد بن المنصور وأبي العيناء، ويقول: أمحفوظ

هذا من حديث الزهري؟ - محمد بن منصور وأبو العيناء: نعم يا أمير المؤمنين، رواه جماعة، منهم مالك بن أنس - رضي الله عنه -. - المأمون: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة. في هذه القصة مواضع صالحة لأن تؤخذ منها عبر قيمة: يؤخذ منها: أن شأن أمراء الإِسلام أن لا يقدموا على أمر من أمور الدين إلا أن يستندوا فيه إلى دليل، فالمأمون لم يأمر بالنداء بتحليل المتعة إلا بعد أن بلغه أنها كانت تُفعل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. ويؤخذ منها: أن العالم إذا رأى أنه أقدر على النهي عن المنكر من غيره، وجب عليه النهي عن المنكر بنفسه، فقد علم يحيى بن أكثم أن ليس لصاحبيه: محمد بن المنصور، وأبي العيناء من عظم المنزلة لدى المأمون ما يسهل عليهما الإنكار عليه في كل حال، فقال لهما: إن رأيتما للقول وجهًا، فقولا، وإلا، فاسكتا إلى أن أدخل. ويؤخذ منها: أن العالم إذا خشي أن يناله من ذي السلطان مكروه حينما ينهاه عن منكر، فله أن يترك نهيه إلى من هو أقوى منه، وأبعد من أن يسومه ذو السلطان بأذى، فالشيخان محمد بن المنصور وأبو العيناء لما سمعا المأمون يقول في عمر بن الخطاب ما قال، خشيا أن ينالهما منه مكروه، وسكتا, اعتماداً على أن المأمون سيخاطبه من هو أرفع منهما لديه منزلة، وأدرى بأساليب الدعوة وإقامة الحجة. ومن مواضع العبرة: تغير وجه يحيى بن أكثم عند دخوله على المأمون،

حتى أدرك المأمون ذلك، وقال له: ما لي أراك متغيّراً؟ وشأن العالم المصلح أن يكون صدره عامراً بالغيرة على الحق متى يظهر أثر استيائه من الباطل في وجهه قبل أن يظهر على لسانه. وانظروا كيف افتتح يحيى بن أكثم الكلام مع المأمون بعبارة فيها تهويل وإخراج لنكاح المتعة في صورة أقبح الفواحش، إذ جعل النداء به نداء بتحليل الزنا، والعلماء المتملقون يبتغون رضا الأمراء أكثر من رضا الله، ولا يبالون أن يفتوهم بغير ما حكم الله، ويعرضون عليهم المحرمات في صورة المباحات. وانظروا إلى المأمون إذ لم يقبل دعوى يحيى بن أكثم أن نكاح المتعة زنا، حتى طالبه بإقامة الدليل، والشأن فيمن يستطيع فهم الأدلة أن لا يقبل فتوى من عالم إلا أن تكون مقرونة بدليل. وانظروا إلى المأمون كيف انقاد إلى الحق عندما قامت عليه الحجة، وذلك شأن من يخطئ في الدين عن سلامة نية، لا عن هوى واستخفاف بأمر الشرع الحكيم.

محاربوا الأديان ونموذج من سلاحهم

محاربوا الأديان ونموذج من سلاحهم (¬1) الحكم المنعقد على كون الشيء حقاً أو مصلحة أو حسناً، قد تستمده النفس من الدلائل الخارجية؛ كالمشاهدة، والتجربة، والتواتر، والقياسات النظرية. وأحيانا يكون أثر من آثار النشاة في بيئة، والتقلب في أطوار، وربما كان صادراً عن الذوق الذي يتربى من العيش في بيئة خاصة، والتنقل في أطوار معينة. وللأهواء تأثير في الآراء المتولدة عن العادة والذوق أكثر من تأثيرها في الآراء القائمة على سند الحجة ومكانة الدليل، فالرأي الناشئ عن القعود أو الذوق، لا يلبث أن يتغير ويتلاشى متى تكونت في الرجل حالة نفسية تستدعي رأيًا أوسع مجالًا لدواعي الشهوة، وأجمع لفنون اللذة من الرأي الناتج عن سيرته الأولى. نتخلص من هذا إلى أن من الناشئين في بلاد الشرق من ينبت نباتاً حسناً، ويتلقى آداب الدين وعقائده على بينة وروية، ومثل هذا الفريق لا يتزحزح عن عقيدته، ولا يتحول عن مبادئ تربيته، وإن تغلغل في أحشاء بلاد أجنبية، وانغمس في عادات أقوامها أمداً طويلاً. ¬

_ (¬1) مقال نشر في "جريدة الاستقلال المصرية"، وقد أخذته من كتاب "مجمع "الفوائد" الذي جمع فيه الجيلاني الفلاح بعض المقالات الاجتماعية.

ومنهم من يتلبس بتلك العقائد والآداب، تبعًا للبيئة، وجريًا على عادة البيت الذي شبّ فيه، والجماعة التي اتفق له لقاؤها، وارتبط بمعاشرتها، وهذا الفريق متى انتقل إلى بيئة غير شرقية، واندمج في أقوام يخالفون الشرقيين في عاداتهم وتقاليدهم، لا يلبث أن تأخذ نفسه حالة غير حالتها الأولى، فينفر ذوقه الجديد أن يشاهد رجلاً يؤدي فريضة الصلاة، أو يتناول الطعام بيده اليمنى، ويجمل في نظره أن تبرز الفتاة إلى المحافل العامة حاسرة عن صدرها، بعد أن كان يراه حسبما تقتضيه تربيته الأولى عملاً غير لائق. قد يفتتن هذا الفريق بمحاكاة الأجانب، ويطوي ضميره على أن ينقل جميع تقاليدهم ومظاهر عاداتهم إلى أمتنا، ويسعى في السر والعلانية إلى أن يغير مزاجها النفسي والاجتماعي، ويقلبه إلى مزاج الأمة التي نشأت فيها نفسه نشأة أخرى، واكتسبت فيها صبغة لا شرقية ولا غربية، كأنه لا يشعر بأن تجرد الأمة من مميزاتها، وتطوُّحَها في تقليد غيرها إلى هذه الغاية، علة من علل موتها، ومرونتها تحت مؤثرات من تقلده، ولا سيما حيث تكون له السلطة الغالبة على أمرها، والرأي الذي لا يستقيم مع إرادتها. لسنا ممن يزدري مدنية أوربا وعلومها النافعة ومخترعاتها البديعة، وإنما نطالب الفريق الذي يحط رحله في تلك البلاد أن يكون من رصانة العقل وحكمة الرأي بحيث يميز الطيب من الخبيث، ويفرق بين ماله مدخل في رقي الأمم وسعادتها، وبين ما ينشأ عن مجرد الذوق، وطبيعة البيئة الخاصة. نقضي العجب من القوم الذين يفتنهم كل شأن من شؤون البلاد الغربية، ولكن ماذا تقولون في أفراد بعثوا إلى تلك البلاد ليشهدوا معارف ونظامًا، فقضوا الأجل فيما قضوا، ثم انقلبوا إلينا وقد تأهبنا لنقتبس منهم علماً، أو

نلاقي أدباً، أو غوصاً في أغوار السياسة، فما راعنا إلا أن قالوا: أفرغوا قلوبكم من التوحيد الخالص، واجعلوا مكانه إلحاداً، وانزلوا في أحوالكم الشخصية على حكم القانون الإفرنجي؛ فإنه أقرب عهداً من كتاب ربكم وأحكم وضعاً. ولولا أنهم يدعوننا إلى الإلحاد، لقالوا: أقيموا الصلاة في مساجدكم مثلما رأيناها تقام في المعابد بأوربا؛ فإنها أبدع طرزاً، وأشد انطباقاً على المدنية الحديثة. ولقد جُسنا خلال أوربا كما جاسوا، فرأينا: صفواً وكدراً، ونظاماً وخللاً، وأدباً وسفهاً، وتدينا وإلحاداً. فما بال هؤلاء الأفراد يكتمون الحقائق، ويقولون: كل ما في البلاد الأجنبية نظام ومدنية راقية. وسيقولون - بل قالوا -: لا نظام ولا مدنية إلا مع الإلحاد! نشرت "صحيفة الأمة الغراء" مقالا ذكرت في نسقه نبذة من مزايا الدين الإِسلامي وتعاليمه المحكمة، ووصلتها ببيان تأثيرها في سعادة الحياة، وإحراز الأمد الأقصى في معارج السيادة. فكانت تلك الجمل كالغصة في لهاة أحد المتملصين من جلال هذا الدين كما يقولون، فأوردها في "جريدة الاستقلال"، وقال ملاحظاً عليها ومعلقاً: "مهما يكن من أمر الأديان وما فيها من تربية وآداب وأخلاق، وتمسك أهلها بها، فإنها لم تكن يوماً مانعة من أن يحكم غيرهم من المستعمرين، سواء كانوا من أهل الأديان السماوية، أو سواها، بل لو أننا أخذنا بنظرية الكاتب (يعني: صاحب جريدة الأمة)، لما وجدنا مبرراً لتغلب الحكومات الإِسلامية بعضها على بعض. وكلها ذات دين واحد، وعقيدة واحدة، بل ربما كان الفاتح المستعمر أبعد عن الدين ممن يقع فريسة بين يديه".

هذا نموذج من السلاح الذي أعدوه لمحاربة الدين، نعرضه على أنظار الأمة الرشيدة حتى تعلم حق اليقين: أن هذه الطائفة إنما تنطق عن أذواق خاصة، وآراء ملفقة، ولو كانت حملتهم على الأديان قائمة على تدبر ومحاكمة فكر، لتعلموا فن المنطق قبل أن يعلنوا الحرب على مبادئ يقدسها الآلاف من ذوي البصائر النقية، والأفكار الحرة، والأقلام المتمرنة على مكافحة عصبة الغواية. أنكر الملاحظ أن يكون الدين منشأ لقوة الأمة، وقيامها على أمرها، وأقام في الرد على "جريدة الأمة" دليلاً أفرغه في شكل فات علماء المنطق قديمًا وحديثًا، فيحق له أن يفاخر بأنه اخترع شكلًا خامساً كان من الواجب إضافته إلى الأشكال الأربعة المدونة في فن المنطق، إذ لا فرق بينه وبينها سوى أن تلك الأشكال المعروفة منتجة، وهذا الشكل المخترع عقيم. أنكر الملاحظ أن يكون لتربية الدين وتعاليمه أثر في القوة، وضرب بفكره يمينًا وشمالًا باحثاً عما يساعده على ترويج هذه النظرية البالية، فلم يعثر لسوء الحظ إلا فيما قصصناه عليكم من قوله: "أنها لم تمنع أهلها من أن يحكمهم غيرهم من المستعمرين"، ومن الواضح الغني عن البيان: أن الملاحظ لم يفهم مقال صاحب "جريدة الأمة" على صراحته، فالذي يقول: "إن تربية الدين وآدابه تمنع أهلها من أن يتحكم فيهم غيرهم" لا يريد: أن تقرير الدين لها، وحثه على التمسك بها، يكفي في قوة المنتمين إليه، وسلامتهم من أن يقعوا في قبضة دولة أجنبية، وإنما يريد: أن اعتصامهم بعهد الشريعة، وسيرهم في الحياة على ما يطابق إرشاداتها، يجعلهم في أمن ومنعة من أن يصابوا بسيطرة المستعمرين، فالشعوب التي وقع زمامها

في أيدي المستعمرين، لم تكن عاملة بما أرشد إليه الدين من استقامة الأخلاق والنظر في علوم الاجتماع، والقيام على فنون الحرب، والابتعاد عما يوقظ الفتن النائمة، وما شاكل ذلك. يعز علينا أن نلفت أقلامنا إلى تزييف أمثال هذه الخواطر المنادية على نفسها بأنها هزل يتعرض لمصارعة جد، وباطل يحاول أن يظهر على حق، ولكن ماذا نصنع وهي تتساقط علينا من أدمغة رهط شربوا في حانة السياسة الموسومة بهم كأسًا دهاقاً، وخرجوا للأمة في ثوب الحريص على رشدها، القائم على تثقيف أفكارها، وفي الناس من ينخدع بالمظاهر، ويجر رداءه وراء كل ناعق؟! ولا أحسب العامل لمحو أثر الدين من النفوس مدركاً بغيته، إلا إذا تسنى له وسمحت له ديمقراطيته أن يلتقط جميع نسخ القرآن المبثوثة في الشرق والغرب، ثم يصدر من إنذاراته البليغة ما يحجم بالمطابع، ويغل أيدي الكاتبين عن اصطناع نسخ أخرى. أما إذا تحقق أن هذا الكتاب سيستمر قريب التناول من أيدي البشر، فيتلونه صباحاً ومساء، ويتلقون منه العقائد الخاصة، والبراهين الدامغة لأباطيل الملحدين، فلا مطمع له في فوز الإلحاد على الإِسلام، وجدير به أن يريح قلمه، ويأخذ في شرطي تسخيره أن لا يهاجم به المبادئ القائمة على دعائم ثابتة، وحجج ساطعة.

العلماء وحياتهم الاجتماعية

العلماء وحياتهم الاجتماعية (¬1) كان للذين أوتوا العلم فيما سلف سلطة نافذة في القلوب، وجلالة تملأ الصدور، حتى أصبحت مكانتهم أعزّ منزلة تطمح إليها النفوس، وأشرف غاية تتسابق إليها الهمم، ولم يرتقوا إلى تلك المكانة الشامخة بمعرفة اصطلاحات العلوم، وفهم ما تنطوي عليه صحف من تقدمهم فقط، فإن هذا المقدار وحده لا يغني في إحراز مظهر تحفل به العقول الراجحة، وتتضاءل أمامه النفوس المتعاظمة. وإنما أدركوا ذلك المقام الذي يكتنفه الاحترام من كل جانب؛ لأنهم كانوا يؤدون وظيفتهم بحق، ويتحرون بهديهم وتعليمهم الخطة المرسومة على حكمة. وما أحكموا القيام بوظيفتهم، وغنموا- بعد رضا الله تعالى- لسانَ صدق يلهج بتمجيدهم، إلا لأنهم يتحلون بأربع مزايا: أولاها: استقلال الفكر؛ فإن من يغوص في فهم حقائق الشريعة ببصيرة نقية، ونظر قائم بنفسه، لا يعجزه أن يبينها للناس في أسلوب ينهض بحجتها، ويكشف عن وجه حكمتها. وهذا مما يحفظ رونقها، ويرفع شأن القائمين على حمايتها، أما الذي يتلقى تعاليمها بمجرد المتابعة، فلا يأمن أن يبتلى ببارع في فن الجدل يكافحه بتخيلات وشُبه تزلّ به في حيرة، وتهبط به في هاوية خيبة وصَغار. ¬

_ (¬1) مجلة "البدر التونسية" - الجزء الثاني.

من ملك فكراً يفرق بين قشور العلم ولبابه، ولا يتناول القضايا النظرية إلا من دلائلها الناصعة، هو الذي يشهد أن لا لذة إلا في الحكمة، ولا شرف إلا مع العلم، فيعز عليه أن يمر به وقت لا يبحث فيه عن حقيقة، أو أن يخوض في موضوع دون أن تجود قريحته بما لم يسبقه إليه أستاذ، ولولا أن الأستاذ أبا إبراهيم المشاور على يقين من أن وظيفة التدريس منصب ليس وراءه مرتقى، لما قال لرسول الخليفة الناصر - حين جاء يدعوه وهو في مجلس حافل من الطلبة -: ارجع إلى أمير المؤمنين، وعرفه أنك وجدتني مع طلاب العلم، وليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتم مجلسهم المعهود لهم. وحيث كان الخليفة ممن يقدر العلماء المستقيمين حقَّ قدرهم، أعاد إليه الرسول في الحال قائلاً له في الجواب: "جازاك الله عن الدين وعن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين خيراً، وأمتعهم بك". ثانيتها: الاستقامة؛ فإن العلم لم يدخل في قبيل الفضيلة إلا لأنه أساس للعمل الذي هو وسيلة السعادة وعنوان الفلاح، فمن أتيح له أن اجتنى من ثمار العلم ما أحرز به لقب عالم، إلا أنه كان يمشي على عوج، ولا يبالي أن يتلطخ ذيله بريبة أو إثم، كان في عين الأمة الراقية كالقذى، ولا سيما إذا رمى بخطيئته النظام الاجتماعي، والمصلحة المشتركة. لا يفي الناس للراسخ في العلم كيل الاحترام، إلا إذا استقامت سيرته، ووثقوا بصفاء سريرته، ولهذا ترى خصوم العالم العظيم إذا أرادوا القضاء على سمعته، يجنحون إلى الطعن في عدالته، فيرمونه بالماَثم، فإن لم يجدوا لذلك سبيلًا، التجؤوا إلى اتهامه بقلة الإخلاص في أعماله. يحق للأمة متى ألقى العالم زمامه بيد الهوى أن يشعروه بامتعاضهم من سوء مسلكه، ويطرحوا عن أنفسهم إجلاله بقدر ما طرح من رعاية الشريعة ومظاهر التقوى؛ إذ زلة

العالم ليست عقيمة كزلة غيره، بل لكونه محل القدوة، تتناسل، وتذلل للعامة الطريق إلى إتيان أمثالها، وارتكاب ما هو أشد خطراً، وأكبر وزراً منها. ثالثتها: النظر في شؤون الاجتماع ومجاري السياسة، وبهذا يمكنكم السير في إرشادهم العام على منهج يستدرج الناشئة إلى التجمل بالآداب، والقيام على المصالح. ثم إن كانت الحكومة رشيدة، وطدوا لها في كثير من النظامات القيّمة والمشروعات النافعة أكناف الأمة، وأنذروها عاقبة التهاون بالطاعة، والاستخفاف بواجب السكينة. فإن كانت تغمض عن بعض الحقوق طرفها، ولا يبالي الباطل أن يرفع تحت سلطتها رأسه، دعوها إلى موقف السياسة العادلة، وجادلوها بالتي هي أحكم وأهدى سبيلاً. ومما يشهد به النظر، وتؤيده التجربة: أن سلطة الدين المالكة لقلوبهم تجعلهم أطهر الناس ذمة، وأشدهم رعاية لحقوق الأمة متى عهد إليهم بتدبير قضية، أو إجراء نظام. رابعتها: قوة الإرادة؛ إذ من وظيفة العالم مراقبة سير الأمة، حتى إذا اعترضها خلل، أرشد إلى إصلاحه، أو ضلت عن حق، قادها إلى مكانه، ومن تصدى لتقويم الخاطئين، وردِّ جماح المبطلين، يلاقي بالطبيعة أذى، ويجد في طريقه عقبات لا يقتحمها إلا ذو عزم ثابت، وإقدام لا يتزلزل، وكم من عالم يفوقه أقرانه علماً وألمعية، ولكن ينهض لإحياء سنة، أو إماتة باطل، ويلاقي في جهاده شدائد، فيجتازها بنفس مطمئنة، ولا يلبث أن يرجح وزنه،

ويبعد في حلبة السباق شأوه، ولو كشف لنا الغطاء عن حياة العلماء الذين أوذوا في سبيل الدعوة إلى الخير، ولم ينحرفوا عن خطتهم فتيلًا، لرأينا كيف ارتفعت منزلتهم، وتجلى وقارهم، حتى في عين من كان يسومهم سوء الأذية، أو يشفي غليل صدره أن يصرعوا في مصارع الاضطهاد. الرجال الذين أحرزوا هذه المزايا، واستحقوا بها لقب العالم المصلح، ليسوا بكثير، فلو قلبت نظرك في السنين الماضية، وصعدت به إلى عهد غير قريب، رأيت المعاهد العلمية إنما تنبت في العصر الواحد الرجل أو الرجلين، وعلة هذا: ما طرأ على أسلوب التعليم من العوج الذي يقف بالأفكار في دائرة ضيقة، ويحرمها من أن تتمتع بنعمة استقلالها، ثم إن كثيراً من الحكومات لا توسع لدعاة الإصلاح صدرها، بل تنظر إليهم - في أغلب الأوقات - نظر المزدري بهم، أو الناقم عليهم، وهذا يفسد على العالم خصلة الشهامة، فينقلب إلى خمول وفرار من معترك الحياة. كيف تكون حياة العلماء، ومبلغ الأمة من السعادة، لو جرى جميع الرؤساء على سياسة الخليفة الناصر, حيث قام القاضي منذر بن سعيد على منبر الجامع بقرطبة، وخطب منكراً عليه -وهو من الشاهدين- الإسرافَ في زخرفة المباني، وانفاق أموال الرعية في غير مصلحتها، وقارعاً سمعه بمثل قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 128 - 130]، وما كان من الخليفة سوى أن قال لابنه الحكم- حين قال له: اعزله -: أمثل منذر بن سعيد في فضله وعلمه يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد، سالكة غير القصد؟! هذا ما لا يكون.

فانزواء العلماء عن الدعوة إلى الخير إضاعة للقسم المهم من وظيفتهم، وقضاء على أعظم وسيلة لرقي الحالة الاجتماعية. فما أجدر الرجال الذين شربوا من موارد الحكمة بالكأس الراوية، وحزبت نفوسهم على العناية بحال الاجتماع، أن يخوضوا في أسباب سعادة الأمة، ويبحثوا في السير الذي تظهر في مظهر عزيز.

العناية بالتعليم الديني

العناية بالتعليم الديني (¬1) حضرة صاحب. . . . جمعية الهداية الإِسلامية تحييكم أجمل التحية، وتقدم إليكم أليق مظاهر الإجلال، وتأمل فيكم أن تتقبلوا هذه المذكرة بقبول حسن، وأن تنبتوها نباتًا حسناً، فتحققوا ما فيها من رغبة، وتعملوا على إنجاز ما تحمل من رجاء، وما رغبتنا إلا رغبة مصر في كثرية سكانها، وما رجاؤنا إلا رجاء الإِسلام في أشرف غاياته وأنبل مقاصده. لقد أصاب المسلمين في أنحاء المعمورة مصاب جلل أبدلهم من قوتهم ضعفاً، ومن عزتهم ذلاً، ومن نشاطهم ورقيهم في كافة مناحي الحياة خمولاً وتدهوراً. مصاب دهى الأفراد والجماعات، واكتسح الرجل والمرأة، وعمَّ الصغير والكبير، وشمل الغني والفقير، ولم يرحم الفتى ولا الفتاة، ولم يسلم منه الجاهل ولا العالم. ولسنا في حاجة إلى التفصيل ولا التدليل؛ فإن نظرة واحدة إلى مصر ¬

_ (¬1) المذكرة الأولى التي رفعها الإمام بصفته رئيساً لجمعية "الهداية الإِسلامية" إلى الحكومة المصرية في طلب العناية بالتعليم الديني والتربية الدينية بالمدارس المصرية، ونشرت عام 1350 هـ - 1932 م.

- وهي مركز الثقافة الإِسلامية - تشعركم بفداحة ما نئنّ منه اليوم من انحلال في الأخلاق، وتفكك في الجماعات، وانهدام في الأسر، وانهيار في كل مقومات الأمة، وتقهقر ذريع إلى الوراء، في الوقت الذي تسير فيه قافلة العالم جادة إلى الأمام. ولقد فكرنا وفكّر المصلحون، فألفينا الخطر كله أو جله يرجع إلى نقص التعليم المدرسي، وقصوره عن الوفاء بحاجات النفوس، وتربيتها تربية دينية صحيحة، تسلّحها ضد عاديات الأيام، وتقيها شر الزيغ والإباحة، وتحميها موارد الفسوق والفتنة، وتهيب بها إلى استرداد مجدها الأول، وعزها الراحل. * مزايا التعليم الديني: نعم، إن الدين الإِسلامي يقوّم العقيدة ويصلحها، ومتى استقامت العقيدة وصلحت، أقامت على المرء رقيباً منه عليه في حركاته وسكناته، وفي سره وعلانيته، وجعلت قلبه عرشاً لحكومة ساهرة، حاكمُها قدير عادل، عينه لا تنام، وملكه لا يرام. وهذه العقيدة الصالحة تحفز الهمة إلى النهوض والعمل، وتملا النفس بالشجاعة والأمل، وتطبع الإنسان على الإباء والشمم، وترفع القلب البشري عن الذلة والعبودية لغير من له السلطان وحده، وتنأى بالعقل الإنساني عن الخضوع للخرافات والأوهام، والتحاكم لغير الدليل والبرهان. وهذه العقيدة الصالحة أيضاً تفتح أمام الناس مستقبلاً أوسع من هذا المستقبل الضيق الذي يتطاحنون من حوله، وتجعل ميدان المجد متسعاً للجميع بما ترسم بين يدي صاحبها من حياة أسعد وأبقى وألذ وأمتع من هذه الحياة.

والدين الإِسلامي يصف لأتباعه من شعائر العبادات ما ينظم علاقتهم بالله تعالى، ويحرك فيهم دائماً إحساس الدين، ويقوي فيهم سلطان تلكم العقيدة التي هي مبعث كل إصلاح إن صلحت، كما أنها مثار كل فساد إن فسدت. والدين الإِسلامي يقرر من ضروب المعاملات ما ينظم صلة الناس بعضهم ببعض، ويضمن راحة غنيهم وفقيرهم، ويجعل الجميع في أمن على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، بأفضل ما عرف البشر من القوانين المدنية والتجارية والشخصية والجنائية والاجتماعية. والدين الإِسلامي يشرعّ من مكارم الأخلاق ما يحكم به الروابط الإنسانية، وما يملأ العالم عدلاً وإحساناً وسلاماً ورحمة، وما يفي بحاجات بني الإنسان براً ونهوضاً ورقياً ورفعة. والدين الإِسلامي زاخر بثقافات عالية في الفلسفة والأدب واللغة والقصص والتاريخ والاجتماع والتربية الوطنية وكثير من العلوم القديمة والحديثة. * الإسلام والتجربة: وليست هذه المزايا نظرية فحسب، بل هي عملية يؤيدها الواقع، وتسجلها الأيام، ويشهد بها الزمان؛ فإن الدين الإِسلامي قد جرب غير مرة في البوادي، وفي الحواضر، فنجح نجاحاً باهراً أدهش التاريخ, وبهر المؤرخين، وترك وراءه من جليل الآثار في حقب قليلة من الدهر ما لم يُسمَع بمثله في آية نهضة من النهضات الدينية وغير الدينية، حتى كأنما خلق العالم خلقاً جديداً، أو ولد الوجود ولادة ثانية. فهل بعد هذه الحقائق الواضحة والتجارب الناجحة في دين الإِسلام،

يليق أن تُحرم ناشئتنا منه، وهو سر كل قوة، ويحال بينهم وبينه، وهو مبعث كل عظمة؟!. * أولادنا وتعليم الدين: ألا إن العين لتدمع، والقلب ليجزع من تلك المآسي المفجعة التي تمثَّل على أبنائنا وبناتنا من غير رحمة في طلعة كل شمس، فتُخفيهم عن أهليهم وذويهم، وتفرق بين الأم وولدها، والأب وابنه، والأخ وأخيه، والمسلم ودينه. وتجعل منهم حطب المبشرين، ووقود المضللين، وزبانية الملحدين، وذبائح الانتحار، وضحايا البغاء، وصرعى الخمور، وفرائس السموم البيضاء والسوداء، وسوس الأموال، ونكد الآباء والأمهات، وهمّ المعلمين والمعلمات، وعار الحال، وخيبة المآل. أليس ذلك كله نتيجة مباشرة لإهمالنا هذه الناحية الحصينة في تكوين الطفل، وإعداد التلميذ، وتثقيف النشء تثقيفا إسلاميًا يكسبه المناعة ضد هذه الجراثيم المتفشية التي تحيط به إحاطة الظلام بالليل؟. ثم ألسنا نحن الذين نتحمل بحق مسؤولية هذا النقص الفاضح في التربية، ونعتبر في نظر العدالة جناة على أولادنا، وبالتالي على أسرنا وأمتنا، وعلى شرفنا الماضي ومركزنا الحالي ومستقبلنا الآتي؟!. ثم أليس هذا التلميذ وهذه التلميذة هما في الغد القريب سيقومان وحدهما بتمثيل أدوار الزوج والزوجة، والأب والأم، والمعلم والمعلمة، والطبيب والطبيبة، والصانع والزارع، والعامل والتاجر، والموظف والمحامي، والقاضي والحاكم، والوزير والأمير، والراعي والرعية؟ وهل ينجح أحد هؤلاء في الحياة، أو تنجح الحياة بأحد هؤلاء إلا إن

كان له ضمير حي، ولديه وازع قوي؟ وهل يحي الضمير، ويقوي الوازعَ سلطانٌ فوق سلطان الدين، وتربية أعلى من التربية الإِسلامية العملية الصادقة؟ إن كنتم في شك، فاسألوا التاريخ عن الآثار الجليلة التي خلقتها تربية الإِسلام "الصحيحة" حين كانت عملاً لا قولاً، وعامة لا خاصة، ويناء لا طلاء، وإخلاصاً لا نفاقاً، ونرجو ألا تنخدعوا بهذه الأصباغ والمساحيق الموضوعة على وجوه المنتسبين إلى الإِسلام زوراً في هذه الأيام؛ فإن بينها وبين الحقيقة ما بين النور والظلام، والجهل والعلم، والصدق والكذب، وذلك هو مثار الشكوى، ومنشأ البلاء. * عيوب التعليم الديني الحاضر: - من دواعي الأسف والأسى أن التعليم الديني الحاضر في المدارس يكاد يكون اسمًا بلا مسمى، أو جسماً من غير روح؛ إذ هو عبارة عن معلومات هزيلة ضئيلة لا تشبع حاجة التلميذ، ولا تتناول تفنيد الشبهات الطارئة عليه، ولا تفضح أمامه كثيراً من البدع والخرافات المحيطة من حوله، ولذلك فإن تعليم الدين على الوجه الموجود لا يترك أثراً في نفس التلميذ وأخلاقه وأفكاره، ولا في مظاهره وأعماله. - وفوق ذلك، فإن الوزارة سلكت بالتعليم الديني مسلك الألعاب الرياضية، فجعلته مادة إضافية لا يحاسب التلميذ عليها، ولا يمتحن فيها، ولا وزن له في نجاحه أو رسوبه، ولا فرق بينه وبين الألعاب إلا أن الألعاب محبوبة إلى التلميذ بداعٍ من طبيعته وميوله، أما الدرس الديني، فمُبْغَض إليه بدافع من هواه ومجونه.

- وزاد الطين بلة: أنْ تُقرر هذه المادة الحيوية على صغار التلاميذ دون كبارهم، ففرضت على القسم الابتدائي، وصدر من القسم الثانوي، حتى إذا بلغ التلميذ أشده، واستوى وصار في السنة الثالثة الثانوية وما بعدها من بقية الثانوي وجميع العالي، هنالك لا يذوق لدينه طعماً، ولا يعرف لإسلامه هداية، على حين أنه في هذا الدور من السن والوسط والتفكير أمسُّ حاجة إلى التدرع بتعاليم الإِسلام، فإن دوَر المراهقة - بإجماع آراء المربين - هو أخطر الأدوار على الفتى والفتاة، وأشدها احتياجاً إلى تقوية الوازع الخلقي، وتربية الضمير الأدبي؛ لمكان ثورة الشباب، وطغيان الشهوة، وغلبة الهوى في هذه المرحلة الطاغية في حياة الإنسان. ومما لا ريب فيه: أنه لا قوة تعدل قوة الدين في تقوية الوازع، وإيقاظ الضمير. - ومما هو جدير بالنظر: أن ليمس في مدارسنا رقابة دينية تهيمن على التلاميذ في أعمالهم وأحوالهم، ولا في أفكارهم ومظاهرهم، فليس ثمة عقوبة مفروضة على من ظهر بأفكار كافرة أو ملحدة، ولا على من قصر في صلاة وهو في المدرسة، ولا على من أفطر في رمضان مع الاستطاعة، ولا على من لوحظ عليه أو عليها رذيلة أو سلوك غير شريف. - ومن عجيب أنك ترى ملابس التلاميذ وأزياءهم لا يلاحظ فيها ذوق الإِسلام، ولا تراعى فيها حرمة الدين، ولا تقدر فيها كرامة القومية. فإذا نظرت إلى الطفل وهو في روضة الأطفال، رأيته يلبس القبعة، وإذا نظرت إلى الفتاة، وجدتها حاسرة، وقد تعرى صدرها ونحرها، وربما غطت رأسها خارج المدرسة، فإذا دخلت حجرة الدراسة، كشفت رأسها أمام أستاذها، وإذا تأملت الفتى في بشرة وجهه، وشعر رأسه، وتفصيل ملابسه، وجدت في الكثير من الأحوال خروجاً عن واجب اللياقة، ومقتضيات الرجولة.

وإننا لا نشك لحظة في أن النظافة من الإيمان, وأن التجمُّل من المروءة، ولكننا نقول مع هذا: إن الشيء إذا خرج عن حده، عاد إلى ضده. - نضيف إلى ما سبق: أن مادة القرآن الكريم قلّت عناية الوزارة بها عن ذي قبل، فأصبحت المدارس لا يتخرج فيها من الحفّاظ مثل من كانوا يتخرجون فيها من قبل، لا كثرة في العدد، ولا جودة في الأداء. ولوحظ التضييق على كثير من المدارس أو المكاتب التي كانت معنية بهذه الناحية من استظهار كتاب الله تعالى وتجويده، واضطر بعض الغيورين من الأمة أن يسدوا هذا النقص، ويدفعوا هذا الخطر بتأليف جمعيات للمحافظة على القرآن الكريم. ونحن نألم من عدم احترام شعور الأمة المسلمة إلى هذا الحد. ونود من وزارة المعارف أن تبذل أقصى ما يستطاع من ترضية الأهالي في تعليم أولادهم، خصوصاً فيما يتصل بقداسة كتابهم، وأساس دينهم. - وإن تعجب، فعجب أن تجد التلميذ المسلم لا يعرف من تاريخ نبيّه بقدر ما يعرف من تاريخ نابليون - مثلاً -. ولا يدرك من سيرة عظماء الإِسلام وأبطاله على نحو ما يدرك من سيرة مشاهير الغرب ورجاله، "وتلك ثالثة الأثافي". ومن رابه شيء في ذلك، فليرجع إلى كتب الوزارة ومنهاجها في التاريخ" ثم ليسامحنا إذا خجل، ووارى وجهه استحياء حين يرى التاريخ الإِسلامي يندب حظه في مدارسنا، ويبكي أهله فينا وفي أولادنا. * الذنب على الماضي والإصلاح على الحاضر: وإننا لنعلم أن هذه التبعات في مجموعها ذنب جناه الماضي على يد

فئات يعلم الله ماذا كانوا يقصدون من وضع هذه السياسة في التعليم، ونعلم بجانب ذلك أن رجال العهد الحالي قد أخذوا يرأبون باصلاحهم صدع ما أفسدته الأيام الخالية، فحققوا بذلك أمنية عزيزة لشعب عزيز لا يرى شيئاً أعزّ عليه من دينه، ونفذوا بجهادهم هذا أجلّ رغبة سامية لأجلّ مليك إسلامي يكتب له التاريخ كل يوم يداً جديدة في خدمة الإِسلام ونصرته وإنهاضه وحراسته. * الشكر لأنصار الإِسلام: ونحن نشكر لأنصار الإِسلام هذه المواقف المشهورة المشرفة. ومن ورائنا مئات الملايين من المسلمين في أقطار الأرض يقدرون كل من آزر الحنيفية البيضاء في أمنية من أمنياتها، وأنهضها في عثرة من عثراتها، غير ناظرين إلى الأسماء، ولا آبهين إلى الألوان السياسية ولا غير السياسية، ولكن إلى الأعمال وحدها، وإلى الحقائق الواقعة أياً كان مصدرها. وتلك البارقة التي لاحت في سماء هذا العهد، قد أنارت لنا السبيل، وجعلتنا نرغب إليكم في العمل على تهذيب سياسة التعليم، واثقين أنكم بذلك تكفِّرون ذنوب الماضي، وتصلحون الحاضر، وتحسنون إلى المستقبل بتنشئة جيل مسلم صادق، يستطيع أن يواجه الحياة بضمائر حية، وقلوب نقية، ورجولة صحيحة، وهمة فتية. * كيف يكون الإصلاح؟ ونرى من الحكمة أن نترك لوزارة المعارف الشكل الذي تختاره، والثوب الذي تُلبسه لإصلاح تلك الغلطات السابقة، وعقيدتنا أن فيها رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يعرفون من الدين ومن وسائل التربية ما هو جدير

بإصلاحهم التعليم في هذه الناحية الدينية الخطيرة إذا ما عنوا بذلك، غير أننا نرجو ونلح، ونسأل ونلحف ونوصي، ونؤكد بضرورة تحقيق المطالب الآتية: المطالب: - يجب أن يقرر تعليم الدين كمادة أساسية، شأنه شأن بعض اللغات الأجنبية- على الأقل-. أما تقريره كمادة إضافية، فهو بالهزل أشبه منه بالجد. - ويجب أن يكون تعليم الدين عاماً يشمل كل دور من أدوار التعليم، لا فرق بين إلزامي وأولي، وابتدائي وثانوي، وعال وفني وخصوصي، ولا فرق بين البنين والبنات، ولا بين المدارس الأميرية والأهلية. - ويجب تعديل مناهج التعليم تعديلاً يناسب حال التلاميذ في سنهم وتفكيرهم، وفي نوع دراستهم ومستقبلهم، ويتناول بالبحث جميع الشبهات التي تعرض لهم، ويتعرض للبدع والخرافات، فيقضي عليها أمامهم، ويعنى عناية تامة بتهذيبهم وردعهم عن كل ما يحيط بهم من فتنة، لا سيما وهم في سن المراهقة. - ويجب أن يكون التعليم عملياً يحمل فيه التلاميذ حملًا على التزام الشعائر الدينية مدى وجودهم بالمدرسة، ويبنى في كل مدرسة مصلى إن لم يكن بها، ويعين لها الإمام والمراقب الديني. وتفرض العقوبة الرادعة على كل من أهان الإِسلام بكلمة أو فكرة من الإلحاد أو الكفر أو الزندقة، كما تفرض عقوبة زاجرة على كل من قصر في تأدية الصلاة وهو في المدرسة، أو انتهك حرمة الصيام مع الاستطاعة، أو ثبت عليه أنه يخادن فتاة، أو يسلك سلوكاً شائناً.

- ويتصل بهذه الرغبة: إلزام الفتيات بتهذيب أزيائهن، ورعاية الذوق الإِسلامي والكرامة القومية في غطاء رؤوسهن، وحشمة ملابسهن، وحياء وجوههن، وشرف سيرهن، ونقاء سيرتهن، ولا يفوتنا أن ننوه بمنع الاختلاط المحرم بين الجنسين، كما لا ننسى المطالبة بالقضاء على كل تعليم يتنافى ومبادئ الإِسلام، وإن أملنا لعظيم في أن يكون حضرات المعلمين والمعلمات في المدارس قدوة حسنة لتلاميذهم في المحافظة على هذه الشعائر الدينية والتقاليد القومية. - ويجب أن يعني بتحفيظ القرآن الكريم أتم عناية، على نحو يستبقي لمصر مجدها في كثرة من يتخرج فيها من حفاظ، وبطريقة واسعة تشبع رغبات الأهلين في تزويد أولادهم باستظهار كتاب الله تعالى. - ويجب أن يعني بدراسة التاريخ الإِسلامي دراسة حية واسعة تطبع في نفس التلميذ طابعًا لا يمحى؛ من الاعتزاز بدينه، والاعتداد بأسلافه، والإجلال لأبطال أمته، والطموح إلى ترسم آثار السلف الصالح في التوثب والنهوض، والتشبه بهم في كافة مناحي الحياة الحقة. * شبهات المعترضين وردها: ترى الجمعية أن المعترضين على هذا المشروع الجليل لا يتجاوزون في شبهاتهم الاعتراضات التالية: الاعتراض الأول: انقسام عناصر السكان في مصر إلى مسلمين وأقباط، ولكل ديانة هو موليها. أما مدارس الحكومة، فهي مفتوحة للعنصرين على سواء، فيجب أن تكون الدراسة فيها مدنية فقط بعيدة عن كل ما هو دين. والجمعية ترى: أن هذا الاعتراض منقوض من أساسه؛ لأن الدين هو

حاجة كل نفس، ووزارة المعارف - باعتبارها القائمة على تربية الأمة - يجب أن تسفح التلاميذ بما يحتاجون إليه من وسائل التربية والتهذيب. ولا شك أن الأغلبية الساحقة في البلاد مسلمة، ودين الدولة الرسمي بنص دستورها هو الإِسلام، ودافعي الضرائب الذين ينفقون على الحكومة، ومنها وزارة المعارف، مسلمون في معظمهم، ولا يرضون مطلقاً بأن يحرم أولادهم ثقافة الإِسلام الذي هو عصب السعادة الصحيحة للإنسان في حياته العاجلة والآجلة. أما اختلاف ديانة السكان، فلا يصح أن تهدر في الأغلبية لأجل الأقلية، بل المعقول والمعمول به في كل عصر ومصر مراعاةُ الأغلبية، ومن خالجه شك في هذه الحقيقة، فلينظر إلى المدارس في البلدان الأجنبية، بل فلينظر إلى المدارس الأجنبية في بلادنا الإِسلامية، هنالك يجد الدين المسيحي يدرس دراسة أساسية عملية عامة لكل من في تلك المدارس من تلاميذ مسلمين وغير مسلمين. فأحرٍ ببلاد أكثريتها مسلمة، ومدارسها مسلمة، وأموالها مسلمة أن يكون الدين الإِسلامي فيها مادة أساسية عملية مفروضة على كل من فيها، مسلمين وغير مسلمين. على أن سماحة الإِسلام لا تريد أن تذهب بعيداً كما ذهب أولئك، ولا تلزم غير المسلمين بتعاليم الإِسلام، وإنما تريد ألا يحرم الناشئ المسلم من أول مقوم له، وأعز شيء لديه، وهو معرفة دينه معرفة صحيحة لها قيمتها وأثرها. ولا ترى الجمعية مانعاً من أن تفسح وزارة المعارف لغير المسلمين أن يتعلموا دينهم، والله يقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. الاعتراض الثاني: قد نعلم أنهم يقولون: إن جعل هذه المادة أساسية

فيها امتحان ورسوب، يؤدي إلى خلل في نظام النجاح وترتيب التلاميذ إذا لوحظ اجتماع العنصرين. والجمعية تقول لهم: إن المخرج من ذلك سهل، فيمكن أن تجعل درجات الدين مستقلة لا تضم إلى المجموع في ملاحظة الترتيب. وإنما يكفي أن تراعى في نجاح التلميذ ورسوبه فحسب. وذلك هو المهم. وإذا جعل تعليم غير المسلمين لدينهم مباحاً في المدارس، زال الإشكال، أو كاد. الاعتراض الثالث: يذهب بعض الأفكار إلى أن تعليم الدين في المدارس يُنافي مبدأ التخصص ذلك المبدأ الذي أجمع علماء التربية على احترامه، وضرورة تركيز سياسة التعليم عليه. والجواب: إننا لا نريد تلاميذ المدارس على دراسة الدين دراسة المتخصصين، ولا أن يتوسعوا فيه توسع الأزهريين الفنيين، ولكننا نريدهم على أن يأخذوا من ثقافة الإِسلام بالقدر الذي لا بد منه في هداية كل نفس، وحمايتها من عاديات الإلحاد والزيغ، والفتنة والرذيلة. ما بال هؤلاء القوم يؤمنون بوجهة النظر في تثقيف التلاميذ عامة، بعلوم مختلفة في مبدئها وغايتها, فمن لغة إنكليزية، إلى لغة أخرى فرنسية، إلى لغات شرقية، ومن حساب، إلى تاريخ، إلى قواعد صحة، إلى طبيعة، إلى تمرينات بدنية وألعاب رباضية، إلى غير ذلك. ثم ما بالهم لا يؤمنون في جانب ذلك بوجهة النظر في تثقيف التلاميذ بثقافة الإِسلام، التي هي بلا نزل أعلى الثقافات، وأبلغها أثراً في خُلق التلميذ وأفكاره، وعلومه وأعماله، ومظاهره وسائر شؤونه وأحواله؟!.

الاعتراض الرابع: ربما سمعنا منهم: أن تعاليم الإِسلام تتصل بالسياسة، وتتحكم فيها تحكماً لا يلائم الحال القائمة في مصر، ولا يتفق والصالح الخاص أو العام. ونحن نؤكد: أن الإِسلام إذا اتصل بالسياسة، يحسن إليها ولا يسيء، ويوجهها إلى الغاية المثلى في ضمان السلام للعالم، وبث الطمأنينة في نفوس بني الإنسان، ويضع لها ميزانًا عادلاً يحمي حقوق الأفراد والجماعات. الاعتراض الخامس: ربما قال قائلهم: إن أوروبا هي أسوتنا الحسنة، بل قدوة العالم كله اليوم. والناظر إلى نهضتها يجدها قائمة على نفض يدها من كل دين، وتذرعها في توثبها بقوة العلوم والصناعات فقط. والجمعية ترى في ذلك الزعم انحرافاً عن جادة الصواب، وتجنياً على الحقيقة الواقعة؛ فإن الغربيين في مجموعهم لا يقلون عن الشرقيين في تمسكهم بدينهم الآن. وإذا صح أن بعض دولهم قد حاربت الأديان حيناً من الدهر، فذلك من الخطأ الفاحش في نظر أغلبيتهم، أو لظروف قاهرة أحاطت بها الفتنة، والتهمتها نار الثورة، حتى إذا بلغ الكتاب أجله، وهدأت العواصف، عادوا إلى حظيرة دينهم أشد مما كانوا، على أن الإِسلام في طبيعة تعاليمه وسماحة مبادئه له طابع خاص يجعله يساير الحوادث في كل زمان ومكان، وبؤيد النهضات كلها ما دامت صالحة؛ لأنه في الواقع هو دين النهضة، إليها دعا، وعليها قام، وبدونها لا يحيا ولا يعيش. الاعتراض السادس: بقي أن طائفة يحتجون على الإِسلام بخمول أهله، وتأخر متبعيه في هذه الأيام. والجمعية تقول لهؤلاء: "شنشنة أعرفها من أخزم"، هذه مغالطة لا يتكلم

بها، ولا يصغي إليها إلا مفتون طبع على قلبه، أو جهول بحقيقة الإِسلام لم يتذوق طعم مبادئه، وإذا أردتم أن تحكموا على الإِسلام كقانون مقدس، فادرسوا تعاليمه أولاً، ثم زنوها بميزان المنطق والعقل ثانياً، ثم احكموا بعد ذلك عليه بها، واحكموا به على أدعيائه، ولا تحكموا بأدعيائه عليه {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]. أما بعد: فلا نحسب وزارة المعارف تعلل بمثل هذه السفاسف اليوم، خصوصاً بعد أن سلّمت بوجهة النظر في تعليم الدين، وقررته فعلاً. ولكن الذي نطلبه إليها الآن، ونرجو من رجال الإصلاح معاونتنا عليه، هو اعتبار الديانة لمادة أساسية عملية عامة على نحو ما أسلفنا.

العناية بالتعليم الديني

العناية بالتعليم الديني (¬1) حضرة صاحب. . . . في هذا العهد السعيد من عهود مصر ترفع "جمعية الهداية الإِسلامية" إلى مقامكم الكريم هذه المذكرة الخطيرة، حاملة أبلغ آيات التحية، وأليق مظاهر الإجلال، راجية أن تتقبلوها بقبول حسن، متمنية على الله تعالى أن يبارك في جهودكم الموفقة، حتى يؤتي الاستقلال والدستور ثمارهما الغالية المنشودة. * التعليم في مصر: تفتتح مصر الآن صفحة جديدة من كتاب الاستقلال بعد إبرام المعاهدة، ولهذا الاستقلال تبعات جسام تضع البلاد بين حاضر ترهقه التجارب الثقيلة، ومستقبل تنتظره النتائج الخطيرة. ولا ريب أن أهم هذه التبعات، وأولاها بالعناية: هي مسألة التربية والتعليم، ولكن تربية رشيدة وتعليماً صالحاً، يفي ¬

_ (¬1) المذكرة الثالثة المرفوعة من الإمام إلى الحكومة المصرية في طلب العناية بالتعليم الديني والتربية الدينية. وقد نشرت في مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد العاشر. وهذه المذكرة قد ضمت جميع فقرات المذكرة الثانية المنشورة في الجزء الثاني عشر من المجلد السابع لمجلة "الهداية الإِسلامية"، لذا اكتفينا بنشر المذكرة الثالثة فقط.

بحاجات البلد، ويربي لأبنائها كواهل قوية، وعوائق صُلبة، تستطيع أن تضطلع يحمل تلك الأعباء الضخمة، التي يفرضها عهد إلاستقلال السعيد. ونحن في هذه المذكرة لا نحاول علاج مشكلة التربية والتعليم من جميع وجوهها، فتلك مجالات واسعة نترك الحديث في كل مجال منها للمتوفرين على دراسته من ذوي التخصص والامتياز. ونقتصر نحن هنا على الجانب الأهم من تلك الجوانب جميعاً، وهو التعليم الديني والتربية الإِسلامية، أو الإسراع بوضع سياسة التعليم في مصر على أساس العناية بالدين الإِسلامي تربية وتعليماً، حتى ينطبع النشء بشريف طابعه، وحتى تظهر آثاره الجليلة في اعتدال أفكارهم، وسمو أخلاقهم، ومتانة رجولتهم، وحسن انتفاعهم بالحياة ونفعهم إياها. * الغرض من التعليم: يقول سعادة وزير المعارف الأسبق في تقريره عن التعليم الثانوي نقلاً عن المؤتمر الدولي للتعليم الثانوي، يقول: "إن الغرض من التعليم هو تكوين الشخصية، وتقويم الخُلق". ونحن أمام هذا البيان الرائع، نرى من واجبنا أن نمدّ يد المعونة للوزارة في هذه المهمة السامية، وأن ندلها في هذه المحاولات الجليلة الشأن على أن أهم عامل من عوامل تحقيق هذه الغايات العليا: هو الاعتصام بالدين الإِسلامي الذي شرعه الله لمثل هذه الأغراض نفسها، من إيجاد شخصيات عظيمة، وأمم قوية ممتازة، عن طريق بث روح الإيمان بالحق، وتوجيه البشر إلى اعتناق العقائد الراشدة، والمبادئ السليمة، والأعمال الصالحة المثمرة، وتقويم الأخلاق، وتزكية النفوس.

* الإِسلام كفيل بذلك الغرض: ولسنا نحاول في هذه الكلمة أن نقيم الأدلة النظرية على أن الحنيفية السمْحة هي الأساس النافع لبناء الأفراد والأمم، ولكن حسبنا أن نلفت النظر إلى شيء واحد فيه غناء عن كل دليل: ذلك أن التربية الإِسلامية جُربت، وأعيدت تجربتها مراراً، فنجحت في كل مرة أكبر نجاح، وانتفع بها كل من صدق في تجربتها من الأمم المتبدِّية والمتحضرة على سواء. وكان لهذا النجاح دويّ هائل في التاريخ, وروعة أخاذة في الوجود، وتحول مدهش في العالم، وانتقال سريع في حدود الممالك، وحياة جديدة صالحة لبني الإنسان في كل زمان ومكان! وكان فيها - فوق ذلك - تحقيق واسع لأمنية الجامعة الإنسانية التي تحلم بها الشعوب المتزعمة لحضارة الوجود في هذا الزمن. وما ظنك بدين جمع تحت رايته نصف الكرة الأرضية في أقل من خمسين ومئة سنة، جمعها ولكن على مبدأ المساواة والعدل، وعلى قاعدة الحرية والرحمة. هذا إذا نظرنا إلى الإِسلام من ناحية تأثيره في المجموع. أما تأثيره في الفرد، فإنه يتجلى لنا فيما تركه من السمو المدهش بعقل المسلم الصادق، وضميره، وعاطفته وخلقه، وعمله، وسلوكه مع الله ومع الناس، حتى لقد جعل من رعاء الشاء رعاة للأمم، وأخرج من البادين في الأعراب مضارب الأمثال في الحضارة "الصحيحة" والمدنية الراقية، وحوّل أشباه الشياطين في جزيرة العرب وغيرها إلى أشباه ملائكة يمشون على الأرض، ملؤوها بالهداية والنور، وفتحوها بالعلم والخلق، ذلك لأن الإِسلام تناول بالإصلاح كل ناحية من نواحي الإنسانية، فوفق بين مطالب الروح والجسد، وحدَّ

للإنسان حدودًا في عقيدته، وعبادته، وأخلاقه، ومعاملاته، ووضع أسس الإصلاح المالي والاجتماعي والسياسي، وهذّب الحرب والسلم، وأنصف النساء، ووضع قواعد تحرير الرقيق، وحافظ على كل عزيزة لدى الإنسان؛ من عقله وعرضه، وصحته وماله، وحريته وحياته، وأهله ووطنه، ومستقبله العاجل والآجل!! وبهذا الإصلاح الشامل طبع الإِسلام شخصية الفرد وشخصية الأمة بأعلى طابع عُرف منذ خلق الإنسان الأول إلى يوم الناس هذا. ولقد بهر هذا الإصلاح الإِسلامي أمم الغرب، فمدوا أيديهم يقتبسون من هدايته، وراحوا يغترفون من مناهله العذبة في جامعات الأندلس أيام عزّ الإِسلام هناك، وكذلك فتحوا عيونهم على تعاليمه منذ الحروب الصليبية واتصالهم بالشرق وبلاد الإِسلام. ومن أجل ذلك اعتبرت المدنية الغربية مدينة إلى حد بعيد لمدنية الإِسلام وعلوم الإِسلام، ثم لا يزال دعاة الإصلاح في هذا العصر من الغربيين ينادون: أن هلمّوا إلى الإِسلام في آدابه وأحكامه، وهاهي مؤتمراتهم الدولية تعجب بالتشريع الإِسلامي، وتقرر دراسة الشريعة الإِسلامية، وهاهي بعض دولهم الفتية ترجع إلى مقررات الإِسلام في بعض أحكامها وتقاليدها. وينتهي الأمر إلى هذه النتيجة الرائعة التي يعلنها الكاتب الذائع الصيت (برناردشو) إذ يقول: "إن أوربة لا تتماثل من علتها التي تكاد تؤدي بها إلا إذا أخذت بأصول الإِسلام، وعملت بها"!. * الحاجة الملحة إلى تعليم الدين: فما لنا نحن لا نهتم بهذا الروح الإلهي ننفخه في الناشئة، ونحيي به

ما رمَّ من الأخلاق، ونبني به ما تهدم من الشخصيات، خصوصاً في هذا العصر الذي أصبحت فيه مدارسنا المصرية لا تعتبر إلا معسكرات علمية - على حد تعبير سعادة وزير المعارف في مذكرته عن التعليم الثانوي (ص 29) -, أجل: إنها معسكرات، ولكن لا تخرج - بالأسف - إلا جيوشاً جرّارة أكثرها عاطل لا يجد عملاً, وزاد الطين بلة: أن هذه الجيوش الجرّارة تعوزها القوة المعنوية أشد مما تعوزها القوة المادية، ويصيبها خراب نفوسها، وإفلاس أخلاقها بأفظع مما يصيبها خراب بيوتها، وإفلاس أيديها، ولم يقف المرض- واأسفاه- في منطقة معينة، بل تفشى وسمم الجو كله، فإذا مخازي الأخلاق تفضح مصر، وتسود وجهها كل وقت، وإذا كثير من أولادنا وفلذات أكبادنا نرى مصارعهم اللاطمة على قارعة كل طريق، فمنهم ضحايا التضليل والتبشير، ومنهم حطب الزندقة والإلحاد، ومنهم ذبائح الانتحار وصرعى الخمور، ومنهم فرائس التخنث والبغاء، ومنهم خراب الدور وسوس الأموال، ومنهم نكد الآباء والأمهات، وداء المعلمين والمعلمات. هذا شأنهم في عهد الثقافة والتعلم، فإذا تخرجوا، ونزلوا ميدان الحياة العملية، نزلوها بأسلحة مفلولة لا تأتي إلا بالهزيمة؛ لأن عواتقهم رخوة لم تربها المدرسة لتحمل أعباء العمل، ولم يصنعها منهج التعليم للكفاح والنضال. فأنت تراهم إذا دعاهم الواجب، يولون الأدبار، ويأبى عليهم جبنهم وتردّدهم إلا أن يتقهقروا سراعاً إلى الوراء، بينما القافلة العالمية تسير طيرانًا إلى الأمام. أجل: هذا شبابنا الذي يتسكّع في الشوارع، ويطارد الفتيات فيها من غير حياء ولا خجل، وليتسابق إلى الملاهي والمساخر، ويتنافس في التخنث

والتهتك، ثم ليعبث بعد ذلك بكل مقدس، ويحتقر تاريخه وتاريخ أمجاده، بل وينكر من شاء من آبائه وأجداده. بينما شباب الأجانب أعد إعداداً جعله يتغنى بمجد أمته، ويعتز بدينه، ويفاخر بقومه، ويعمل ليله ونهاره في إنهاض نفسه وإسعاد بلده بالجد والسعي، والعلم والتحصيل، والكشف والاختراع، والدفاع والكفاح. ونحن إذا أنعمنا النظر، نجد أن العامل الأهم في هذا الانحدار الذي تتردى فيه إنما يرجع إلى قبض روح الإِسلام من هيكل التعليم، وحرمان أولادنا من تنسم هذه الحياة الراقية التي رحم الله بها الوجود الإنساني، وبدون هذه الروح لا حظّ له في الرحمة، ولا نصيب له إلا اللعنة! * التعليم الديني واجب سياسي أيضاً: على أن السواد الأعظم من دافعي الضرائب في مصر مسلمون معتزون بإسلامهم، وهم متألمون متململون من عدم تنشئ الحكومة لأولادهم على هدايته في مدارسها. ولا ريب أن الحكومة الحكيمة الراشدة هي التي تجامل الأمة المحكومة، فترعى حرمة دينها فيها وفي أولادها، وتشبع حاجتها في نوع تربيتها وتعليمها، حتى ولو كانت الحكومة لا تدين بدين الأمة، ولا تشعر بالحاجة الجدية إليه. فما بالك والحكومة المصرية دينها هو دين الأمة، وشعورها بالحاجة هو شعور الأمة، بل ومصر تفتخر بأنها حاملة مشعل الإِسلام، وبأنها منهل الثقافة الإِسلامية لجميع أقطار الإِسلام. إذن فإهمال التعليم الإِسلامي يعتبر - بلا شك - امتهاناً لشعور الأكثرية الساحقة من الأمة، هذه واحدة، وهناك ناحية أخطر من تلك، وهي أن عدم العناية بهداية الإِسلام في المدارس يصدع وحدة الأمة، ويفرّق بين أبنائها تفريقًا يفتت كتلتها، ويهدد سلامتها. ذلك

أن بعض أبناء هذه الأمة يتربون تربية دينية في الأزهر والمعاهد الدينية، أو على أيدي المتخرجين في الأزهر والمعاهد الدينية، فينطبعون بطابع الإِسلام، وتتأثر حياتهم ومشاعرهم به. بينما البعض الآخر من أبناء الأمة، وهم الأكثرون، يتربون تربية مدنية فقط في المدارس الأميرية، أو غير الأميرية، فينطبعون بطابع يجافي الدين، وتتأثر بهذا الطابع المجافي حياتهُم ومشاعرهم أيضاً. من هذا الاختلاف بين الثقافتين - في المبدأ والغاية والأثر - ساء التفاهم، واشتدّ التناكر بين طائفة المتعلمين تعلماً دينياً، والمتعلمين تعلماً مدنياً، وكاد الشر يتفاقم، والخرق يتسع، لولا أن تنبه المصلحون إلى ضرورة التقريب بين الثقافتين، والربط بينهما برباط وثيق، فأدخلوا العلوم المدنية في الأزهر والمعاهد الدينية بمقدار مناسب؛ "أي: لا يطغى على العلوم الدينية"، ثم بات هؤلاء المصلحون يرتقبون بفارغ الصبر من وزارة المعارف أن تخطو هي أيضاً خطوة التقرب الواجبة عليها بإدخال العلوم الدينية في مدارسها بمقدار مناسب؛ "أي: لا يطغى على العلوم المدنية". وبهذا وحده تتوثق عرا الوحدة بين أبناء الأمة، وتلك سياسة لا بد منها في حفظ كيان الدولة؛ لأن الدولة لا تسلم كتلتها إلا إذا اتحدت مشاعرها ومطامحها، ولن توجد في الدنيا صلة أوثق في توحيد المشاعر والمطامح من الدين والتثقيف، وذلك أمر يكاد يكون ظاهراً للعيان، لا يحتاج إلى دليل ولا إلى برهان. فالكلمة إذن لوزارة المعارف، وخطوة التقرب التي تربط بين الثقافتين منتظرة من جانبها هي بعد أن خطت المعاهد خطوتها الواسعة في هذا السبيل. * عيوب الثقافة الدينية الحاضرة بالمدارس: ونحن لا ننكر أن وزارة المعارف قررت منذ زمن تدريس الدين الإِسلامي

بالمدارس، ولكنا نلاحظ أن هذا التقرير أشبه بالهزل منه بالجد, لأنه اعتبر الدين مادة إضافية؛ أي: غير مهمة، أمرها موكول إلى رحمة الطالب، إن شاء أقبل عليها، وإن شاء أعرض عنها، ثم هي لا يتوقف عليها نجاح، ولا أثر لها في نتيجة، ومع ذلك، فإن تقرير الديانة بهذه الصفة مقصور على القسم الابتدائي والقسم الثانوي، أما العالي كله، والمدارس الفنية، فلا نصيب لكل ذلك في هداية الإِسلام. ومن الغريب: أن التاريخ الإِسلامي لا يدرس إلا عرضًا في ضمن التاريخ العام! وأغرب من هذا: أن دراسته قد تستند إلى أساتذة لا يؤمنون بعظمة الإِسلام، ولا بأبطال الإِسلام! وإن تعجب، فعجب إهمال التربية الإِسلامية في جميع المدارس دون استثناء، على حين أن التربية أهم من التعليم؛ لأنها هي التطبيق العملي الذي يربي النفس بالتمرّن، ويقوِّم الأخلاق بالتعود! * الوسائل إلى إصلاح تلك العيوب: لهذا كله: نطلب في إلحاف أن يُعنى بالثقافة الإِسلامية والتربية الإِسلامية كلتيهما عناية تفيد وتثمر، وتحقق الغاية المرجوة من إعداد جيل ينهض بنفسه وبأمته. وعقيدتنا أن تلك الغاية لن تتحقق إلا بالوسائل الآتية: - الوسيلة الأولى: وهي أهم الوسائل: أن يقرر تعليم الإِسلام في المدارس على أنه مادة أساسية مهمة، بمعنى: أن يكون داخل الجدول لا خارجه، وأن يتوقف عليه نجاح الطالب لا ترتيبه، وأن يفرض لنهايته الصغرى في النجاح درجة كبيرة تشعر التلميذ خطورة هذه المادة دائماً، وتحرك عزمه إلى العناية بها طول أيام دراسته.

وإنما اعتبرنا هذه الوسيلة أهم الوسائل؛ لأنه ثبت بالتجربة الطويلة الصادقة: أن الطلاب لا يعيرون المواد الإضافية أهمية، ولا يلتفتون إليها إلا بمقدار ما فيها من لهو أو متعة؛ كالألعاب الرياضية. أما الدين، فإنه يكلف الإنسان ضبط نفسه، وقمع هواه، وتهذيب غرائزه، ويقيم على عرش قلبه حكومة إلهية ذات رقابة دقيقة. والنفوس البشرية التي لم تتشرف بهدايته تعمل على أن تفر منه تهربًا من المسؤولية في زعمها، وانطلاقاً إلى الإباحة التي أصيبت بها. وتلبث كذلك حتى تنساق إلى عرفانه بأي عامل من العوامل المؤثرة، فإذا عرفته، ألفته، وعشقته، وهنالك تحيا به، ويحيا هو بها، ويهون عليها أن تفديه بكل نفس ونفيس. فالخطوة الأولى إذن: هي أن ندفع التلميذ دفعاً إلى أن ينهل من مناهل الإِسلام. والوسيلة الوحيدة إلى ذلك: هي أن تفرض مادته عليه فرضًا يترتب عليه نجاحه إن أقبل، ورسوبه إن أهمل. وإلا، فكيف يهتم التلميذ بمادة يعتقد أنها في نظره ونظر رياسته ليست ذات أهمية، لا تشعره المدرسة نحوها بمسؤولية، ولا تحاسبه عليها ولا مرة واحدة في حياته الدراسية؟ وهل ترضى وزارة مصرية دينها الرسمي هو الإِسلام، ودين جلالة مليكها هو الإِسلام، ودين الكثرة الغامرة من رعاياها هو الإِسلام، ولديها الأزهر قبلة الأقطار الإِسلامية كافة في علوم الإِسلام. نقول: هل ترضى وزارة هذا شأنها أن يكون الدين الإِسلامي في مدارسها مادة إضافية، مثله مثل الألعاب الرياضية؟!. ثم هل ترضى هذه الوزارة أن يفهم عنها أن مادة الدين في نظرها ليست مهمة، وأنه لا قيمة لها في نجاح، ولا وزن لها في نتيجة؟!

ألا إن هذه وصمة تسوئ سمعة الأمة، وتجرح كرامة الحكومة، وتصيبنا في الصميم من بناء أخلاقنا، وإعداد أولادنا للحياة الفاضلة. وقد كان السكوت عليها هينًا في نظر بعض الناس يوم كانت المدارس محدودة، وكانت سياسة التعليم فيها ترمي إلى غرض واحد، هو تخريج موظفين على نمط خاص. أما الآن، وقد ضاقت الوظائف بأصحابها، وماجت مصر بمدارسها، وأتخمت المدارس من كثرة الإقبال عليها، وفشا الإلحاد والتضليل، وكثرت حوادث الاختلاس في الموظفين، وكاد حبل الأمن العام يضطرب من كثرة الجرائم لضعف الوازع المديني؛ فقد وجب أن تعدل سياسة التعليم، وأن تتجه إلى غرض سام شريف هو: إعداد شبان نافعين يواجهون الحياة العملية بضمير وصبر، ويحلون مشاكل الوجود بحكمة وشجاعة، ويصلحون لأن تتكئ الأمة عليهم في المهمات والنوازل. ولن يكون شيء من هذا إلا بتربية النفوس على آداب الإِسلام، وإشرابها من عهد الصغر ثقافة الإِسلام، كما بيّنا. وهناك ناحية جديرة بالنظر، وهي أن وزارة المعارف قد شغلت وقت الطالب ببعض مواد أساسية، لا تمت بسبب وثيق إلى حياة الطالب العملية، فهل يصح في الأذهان أن تكون هذه مواد أساسية، ويكون الدين بجانبها مادة إضافية، على حين أن الطالب لا يمكن أن يستغني عن هداية الإِسلام لحظة واحدة إذا أراد أن يعمل لحياته العاجلة والآجلة؟! وإذا كان بعض العلوم قد اعتبر من المواد الأساسية؛ لمكان تأثيره في نضوج عقل التلميذ، فإن التعاليم الإِسلامية أولى أن تعتبر كذلك من المواد الأساسية؛ لمكان تأثيرها هي أيضاً لا في عقل التلميذ وحده، بل في عقله، وخلقه، وسلوكه جميعاً. وفيما قدمناه من التدليل غناء عن الإعادة والتطويل.

ولا يغيب عن الأذهان في هذا المقام: أن كثيراً من المدارس التي تديرها وزارة المعارف الآن نشأ بمال أوقاف إسلامية، وجرت عليه الأرزاق من غلة تلك الأوقاف الإِسلامية، ثم حول إلى وزارة المعارف بأرزاقه ملاحظاً فيها ذلك الاعتبار. ومعنى هذا: أن الناحية الإِسلامية مقصودة للواقف على هذه المدارس، ومعلوم أن شرط الواقف كنص الشارع، فلا بد إذن من رعاية الإِسلام تعليماً وتربية، حتى نبرأ إلى الله تعالى من إهمال تلك المقاصد العالية التي طمح إليها الواقفون، ثم حبسوا من أجلها عزيز أموالهم، ونفيس عقارهم وأطيانهم. ويتصل بذلك: أنه لا يجوز أن يدرس دين غير الإِسلام في مدارسنا الحكومية، وإلا انعكست الآية، فضلاً عن الإغفال لروح الدستور ونصوصه في أن دين الدولة الرسمي هو الإِسلام. ويزداد هذا الأمر وضوحاً إذا نظرنا إلى ما تقوم به كثير من كبريات الدول الأجنبية في مصر وفي غير مصر، فإنها تفرض تعليم دينها الرسمي في مدارسها كمادة أساسية من غير أن يدرس بجانبه دين آخر، ولا دين البلد الذي تقطنه، وتعلم أولاده، وتعيش من خيراته، وما أمر هذه المدارس في مصر ببعيد. وحسبنا أن نلفت النظر إلى أن انجلترا نفسها لا تسمح أن يدرس في مدارسها إلا مذهبها البروتستانتي وحده، دون أي مذهب آخر غير مذهب الدولة الرسمي، على حين أنه توجد أقليات مختلفة الأديان والمذاهب في مملكتها المتحدة. فأي الفريقين أحق أن يعني بعد ذلك بدراسة دينه في مدارسه دراسة أساسية موحدة: أنحن، أم هم؟ "لقد أسفر الصبح لذي عينين"! ثم ما بالنا نذهب بعيداً، وهذه وزارة المعارف عينها قد اعتبرت الدين الإِسلامي مادة

أساسية في مدارس المعلمات، ولم تقرر بجانبه دراسة دين آخر، ولم يترتب على هذا ولا ذاك خطر ولا شبه خطر. وإذن، فالأحرى بالوزارة الرشيدة بعد هذه التجربة الناجحة أن تفرضها في سائر المدارس؛ تعميما للنفع، وتحقيقًا لرغبة الأمة، وليس بعد التجربة برهان، ولا بعد العيان بيان. فإن زعموا أن هناك مانعاً من تحقيق هذه الرغبة، وهو وجود تلاميذ غير مسلمين بجوار التلاميذ المسلمين، قلنا: هذا ليس بمانع؛ لأننا لا نطلب أن يفرض تعلم الإِسلام في المدارس على غير المسلمين، فإن كتاب الإِسلام يقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، بل نطلب فوق هذا ألا تعتبر درجات الدين في ترتيب الطلاب، إنما تعتبر في نجاحهم فحسب؛ حفظاً للنظام، وتوخيًا لتوزيع العدالة بين طوائف التلاميذ بقدر الإمكان، لا فرق بين مسلمين وغير مسلمين. - الوسيلة الثانية: أن يقرن التعليم الديني بالتربية الدينية؛ فإن منزلة التربية من التعليم منزلة الثمرة من الشجرة، وحشو أذهان التلاميذ بالمعلومات لا يغنيهم غناء إلا إذا ذاقوا فائدتها بالتطبيق. فتحديثهم عن مزايا الصدق في الإِسلام- مثلاً - لا يرسخ فيهم كخلق، ولا يثمر بهم كفضيلة، إلا إذا روّضناهم عليه بوسائل الترغيب والترهيب. وكذلك إذا حدثناهم عن مضار التهتك والتبرج في الإِسلام لا يكون هذا الحديث ناجعًا إلا إذا ضربنا على أيدي المتهتكين والمتهتكات، والمتبرجين والمتبرجات، من التلامذة والتلميذات، وإلا، إذا قامت المدرسة من جانبها بملاحظة أزياء الطلاب والطالبات، وبفرض عقوبات رادعة على كل من يخرج من الجنسين عن أدب الحشمة والوقار في مظهره أو ملبسه أو

سلوكه، سواء في ذلك داخل المدرسة وخارجها. * استياء واستنكار!! ونعلن لهذه المناسبة استياءنا واستنكارنا لتلك المظاهر الخليعة، والأزياء الماجنة، التي تظهر بها بناتنا ومعلماتنا في المدارس، وفي حفلات الكشافة والرياضة والتمثيل؛ فإن هذا لا يتفق وما عرف عن الإِسلام والمسلمات من أدب الحشمة والتصون. وحرام على وزارة المعارف أن تربي أمهات المستقبل على هذا التبذل المنافي للاَداب العالية الدينية، والتقاليد الصالحة القومية؛ فإن ذلك جناية على فلذات الأمة، يهوِّن عليهن السقوط في مهاوي الرذيلة، ويعرض سمعتهن للتسويء والتهمة، ويصيب الفتاة في الصميم من عفافها وحيائها، ثم يزعزع الثقة بها، ومن هنا تنتشر العزوبة، ويندر الزواج، ويظهر الفساد في البر والبحر، وتصاب الأمة بالعقم وقلة النسل، وتفشو الأمراض السرية والحوادث الإجرامية على نحو ما نرى ونسمع، ويا لهول ما نرى ونسمع!! فنحن نهيب بوزارة التربية والتعليم أن تقضي على هذه الفوضى الضاربة أطنابها في أزياء التلميذات والمعلمات، ونرجو منها في لهفة أن تنهاهن عن اتخاذ المساحيق والأدهان والأصباغ، وأن تحتم عليهن تغطية رؤوسهن، وستر أيديهن وأرجلهن ونحورهن، وأن تأمرهن بتوسيع ملابسهن، وإسباغها عليهن؛ حتى يكن عند أدب الإِسلام في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59]. * اختلاط الجنسين: ونوجه نظر وزارة المعارف أيضاً إلى أن اختلاط الجنسين في مرحلة

التعليم العالي مناف لآداب الإِسلام وتقاليده من ناحية، ومؤدّ إلى الخطر من ناحية أخرى. وإذا كان التعليم الثانوي قد فصل فيه الجنسان، فأحرِ بالتعليم العالي أن يُفصل فيه الجنسان كذلك؛ لأن العواطف الجنسية في هذه المرحلة تكون أشد ثوراناً. * إقامة الصلاة بالمدارس: ويتصل بالتربية الإِسلامية: أن يؤدي الجنسان ما يدركهما من الصلوات كل يوم بالمدرسة في جماعة، وأن تهيأ الوسائل اللازمة لإقامة هذا الشعار الإِسلامي الفخم الذي هو أول أركان الإِسلام بعد الشهادتين؛ فإن الصلاة درس عملي يتلقاه العبد عن مولاه، ومتى أداه على وجهه، تأثر به كل التأثر في إيمانه وايقانه، وفي أخلاقه وأمياله، وفي استقامته وسلوكه. ويظهر هذا الأثر في حياته العملية واضحًا لا يحتاج إلى برهان: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 19 - 23]. ولا يصح أن تكون منزلة الصلاة في المدرسة بأقل من منزلة تصفيف التلاميذ كل يوم فيها لدخول حجرات الدراسة، أو الألعاب الرياضية؛ فإن الآثار المترتبة على هذا التصفيف تجدها بصورة رائعة في صفوف الصلاة، وتجد فيها فوق هذه التربية الجسمية تربية أخرى روحية، فيها إيقاظ للضمير الإنساني، وتقوية للوازع الأدبي، واتصال بقيوم الوجود يملأ القلب بالخشية والهيبة، ويسلح النفس بالشجاعة والعزة، ويدفع المرء إلى الفضائل، وينأى به عن الرذائل.

وها هي المدارس الأجنبية في مصر تقيم صلواتها لتلاميذها وتلميذاتها في مدارسها باهتمام وعناية، دون تفرقة بين من كان من المسلمين أو غير المسلمين. فمن أشنعِ العار أن تكون الصلاة الإِسلامية أقل اعتباراً في مدارسنا، وأهون علينا من الطقوس الدينية في مدراس غير المسلمين! - الوسيلة الثالثة: أن تتوجه هذه العناية بالدين إلى جميع المدارس المصرية في كافة مراحل التعليم؛ لأن الإِسلام حاجة كل نفس، فيجب أن يتزود الجميع من ثقافته علماً، وأن يعتصموا بهدايته عملاً، ويجب توجيه عناية ممتازة إلى الطلاب والطالبات في سن المراهقة؛ لأن هذا الدور هو أخطر الأدوار في حياة الناشئين والناشئات، بشهادة رجال التربية وعلماء النفس؛ إذ هو دور الانتقال في حياة الإنسان، وأدوار الانتقال هي أخطر ما يكون في حياة الأفراد والأمم، والمرء في سن المراهقة وبدء الشباب تتنبه فيه الغرائز الجنسية؛ وتتيقظ فيه الشهوات الجامحة، ويكون مستعدًا لاستجابات الطبيعة النازلة، فإهماله في هذه الحال من تقوية الوازع الديني والأدبي لا يفسر إلا بأنه جناية عليه، وإذن، لا يجوز بحال أن يبقى ما نراه من إهمال الديانة بعد القسم الثانوي؛ وكان الواجب أن تزداد العناية حينئذ, لأن هذا الحين هو أوان عصوف المراهقة وجنون الشباب. وإن نظرة واحدة إلى سلوك التلاميذ والتلميذات عند هذه المرحلة ينطق نطقاً صارخاً بما نقوله من وجوب مضاعفة المجهود الديني لهم ولهن، فقل لي - بربك - كيف استساغت الوزارة ترك هذه العناية في مرحلة الخطر التي يجب أن تتضاعف فيها العناية؟! ثم أليست لنا أسوة حسنة بالأمم القابضة على ناصية العالم في هذا

الزمن، وهي تعنى بدور المراهقة وثورة الشباب عناية خاصة، ولا تجرد مرحلة من مراحل التعليم عن روح الدين؟! - الوسيلة الرابعة: أن يعني بمنهج التعليم الديني فتتسع أبوابه حتى يشمل كل ما يحتاج إليه التلميذ والتلميذة في العقيدة، والخلق، والعبادة، والحياة العملية، ويجب أن يعني بتدعيم العقائد الإِسلامية في نفوس الناشئة بالأدلة التي تناسب عقولهم، والتي تترقى معهم في مراحل تعليمهم مسايرة لرقيهم. ومن الواجب أيضاً أن يكون في كتاب الديانة باب واسمع لعلاج الشبهات التي تطرأ على التلاميذ في دينهم، وباب آخر لبيان البدع والخرافات التي يتوهم أنها من الإِسلام، حتى يعلموا أن الإِسلام بريء من كل بدعة، عدو لكل خرافة، حرب على كل تضليل. ويتصل بهذا: أن يعني بدراسة تاريخ عظماء الإِسلام وعظيماته، ولا يجوز الإبقاء على ما نراه في المنهج من التوسع في دراسة مشاهير الغرب وشهيراته؛ لأن ذلك يفقد الطالب المسلم روح الاعتزاز بدينه وأبطال ملته، ويربيه تربية مذبذبة لا شرقية ولا غربية، ويطبعه على الاستخفاف بالإِسلام وأمجاد الإِسلام، فتكون النتيجة أن تخسر الأمة شبابها، ويخسر الشبان أنفسهم، في الوقت الذي تعمل فيه كل دولة على إعداد شباب ناهض يضطلع بأعباء المسؤوليات الخاصة والعامة، ويسعف بلاده إذا ما جدّ الجد، ودعا الواجب للكفاح والنضال. إن مؤلفات التاريخ في المدارس تقدم إلى أولادنا سيرة المشهورين من الأجانب في أسلوب فياض رائع، وبلغة جذابة ممتعة، تملا النفس إعجاباً

وإكباراً، بينما هي لا تتكلم عن عظماء الإِسلام إلا لمامًا في ثنايا التاريخ العام، وبلغة قاصرة جافة، لا تستهوي الشخص، ولا تمتع النفس، ولا تثير في الطالب ما تستحقه من الإعجاب والإكبار. وازن إذا شئت بين الصفحات التي تدرس في تاريخ نابليون- مثلاً -، والصفحات التي تدرس في تاريخ نبي الإِسلام ومنقذ البشرية الأعظم - صلى الله عليه وسلم -، فإنك - لا محالة - تذرف الدمع معنا دماً على هذه الهاوية السحيقة التي تنحدر فيها الشبيبة المسلمة، ومن ورائها الأمة الإِسلامية الكريمة! ألا فلتتدارك الوزارة الصالحة هذه الطامة، ولتعمل من الآن على العناية بدراسة العظماء والعظيمات في الإِسلام، ولتهتم اهتمامًا ممتازًا بسيرة الرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الحياة الفاضلة الشريفة، والأخلاق العالية المشرقة، والآمال القومية العزيزة، كل أولئك لا يمكن أن ندركه إلا من وراء هذه الدراسات الخصبة العليا التي ملأ أصحابها آفاق العالم بالهدى والرحمة، والعلم والحكمة، والسلام والإِسلام! - الوسيلة الخامسة: أن تسند دراسة الإِسلام وتاريخه وأبطاله إلى أساتذة مسلمين أخصائيين مؤمنين بعظمة الإِسلام. ومن العبث والعار أن تسند دراسة شيء من هذا - ولو في ثنايا التاريخ العام - إلى أساتذة لا يدينون بعظمته؛ لأن ذلك مؤذ لشعور المسلمين، وجارح لكرامتهم، ثم إن فاقد الشيء لا يعطيه. ولهذا المعنى أيضاً نطلب ألا تسند نظارة المدارس إلى غير المسلمين؛ فإن ناظر المدرسة هو الرأس المدبر لها، وليس بمعقول أن يخلص في رعاية تعليم دين لا يدين به.

فالمخرج الوحيد هو اصطفاء نظار المدارس ممن يتشرفون بهداية الإِسلام، وليس ذلك بدعًا في التاريخ, ولا دعوة إلى عصبية؛ فإن دولة إنجلترا لا يمكن أن تعين ناظر مدرسة إلا إذا كان متمذهبًا بمذهب الدولة، وهو المذهب البرتستانتي، وتأبى عليها تقاليدها تعيين غير البرتستانتي، ولو كان مسيحيًا. بل إنهم يشترطون في مليكهم أن يكون متمذهبًا بهذا المذهب، وأن يحلف على احترامه إياه. فكيف نرضى نحن بتعيين نظار غير مسلمين يديرون دراسة الإِسلام فيما يديرون؟ ألا إن هذا بعيد كل البعد عن مصلحة التعليم نفسه، كما أنه مناف لروح الدستور الذي ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الإِسلام. * رأينا في الشكوك والشبهات: بقيت لنا كلمة لا بد منها: وهي أن بعض الناس يلقون حبالاً وعصياً من الشكوك والشبهات في سبيل هذه المطالب العادلة. وقد كان أمر هذه الأوهام جليًا قبل أن تلمس الأمة بيدها خطر إهمال التعليم الديني في المدارس. أما الآن، فلا يمكن أن تروج أمثال هذه المزاعم إلا على السذج والبسطاء. فقد انكشف الغطاء، وضجت الأمة حكومة وشعباً من فساد التعليم، وانحلال أخلاق الشبيبة، وبأن للجميع سوء المصير الذي تستهدف له الدولة لو دامت هذه الحال، ولذلك بدأت الحكومات المصرية في العهد الأخير تعير الدين جانباً من الالتفات، وإن كان قليلاً، فمن الحكمة إذن أن نضرب صفحاً عن تسويد الصحيفة بإيراد تلك الشبهات، وتطويل المسافة على القارئ الكريم في علاجها، على أننا قد بسطنا هذه المزاعم وعالجناها في مذكرتنا الأولى والثانية. ثم عالجنا المهم منها في ثنايا هذه المذكرة.

* لا بدّ من سياسة إسلامية واضحة: على أن مركز مصر الحاضر يرفعها إلى مقام الزعامة للأمم الإِسلامية جمعاء، وذلك لمواهب ممتازة فيها، أهمها: وجود الأزهر الشريف بها، وهو المنهل الأعلى للثقافة الإِسلامية تؤمه الشعوب المسلمة من كافة أقطار الأرض. ومنها: موقع مصر الطبيعي الذي يجعل منها نقطة اتصال بين الشرق والغرب من ناحية، وبين الشعوب العربية من ناحية أخرى. ومنها: تفوق مصر في مجالات النهضات العلمية والأدبية، والزراعية والصناعية، إلى غير ذلك مما جعل الشعوب الإِسلامية تنظر إليهانظرة الزعامة، وتقدمها إلى محراب الإمامة، وتعلق كبر الآمال عليها في تحقيق الوحدة الإسلامية. ولا ريب أن كل أولئك يفرض على مصر أن تكون لها سياسة إسلامية واضحة.

مناهج الشرف

مناهج الشرف (¬1) الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وعلمه كيف يعرج إلى ذلك المعالي بأسلوب حكيم، والصلاة على سيدنا محمد أشرف الخليقة، وعلى آله الذين استضاؤوا بهديه حتى استقاموا على الطريقة، ثم الرضا عن أصحابه المجاهدين في سبيل إعلاء كلمة الله بالسيف والبرهان، وكل من اقتدى على اَثارهم فارتقى في أوج السعادة أرفع مكان. أما بعد: فإن معنى الشرف ومناهجه من أجمل الوجوه التي ينظر فيها الباحث عن حقائق الأشياء وأسرارها، وأعزّ ما يباكر إلى اجتناء معرفته قبل أن يدرج في حياته الاجتماعية، ويسابق في مضمارها، وليست هذه المعرفة دانية القطوف فيتناولها كل باع، من غير أن يفتقر في رسوخها إلى تحرير في العبارة واتساع؛ فإنك ترى كثيراً من الناس لم يستنبطوا المعنى الذي يضمّه الشرف تحت اسمه، ولم يميزوا بينه وبين ما لا يضارعه في وسمه، ولا يدخل معه في رسمه، تتشعب مداركهم في ذلك بحسب اختلاف أذواقهم، وما يلائم طبائعهم، فربما ظنّوا الرذيلة فضيلة، فأَعنقوا إليها، أو حسبوا الفضيلة في قبيل ما يترفع ¬

_ (¬1) رسالة للإمام طبعت في جمادى الثانية عام 1331 هـ بدمشق.

عنه من الدنايا، فاعتزلوا ساحتها، وشددوا النكير على من احتفظ بها، ونشأ عن هذا تطرفهم في مقام الحكم بالتفاضل بين الرجلين، إلى أن يذكر بعضهم في نعوت الشرف ما يعده غيره خسة أو لاغية. هذا ما بعثني على أن أبحث في هذا الغرض مستمداً في تحقيقه من دلائل الشريعة المقدسة، وسيرة علمائها الراشدين؛ فإن الإِسلام لم يلق بهذا المعنى في يد العادات والأذواق، فتلبس ثوب الشرف من تشاء، وتنزعه عمن تشاء، بل أقام له قواعد، ورسم له معالم، من تخطى حدودها، وبنى على غير أساسها، كان في نظره سافلاً وضيعاً. وإذا تقصينا أثر ما يعدّ من أوضاع الشرف في عادات الأمم، واعتبرناه بنظر الإِسلام، وجدناه على أربعة وجوه: أحدها: ما وافق الشرعُ على اعتباره شرفاً في نفسه، فأثنى على صاحبه، ووعد بالمثوبة عليه؛ كسماحة اليد، وصدق اللهجة، والصبر للشدائد. ثانيها: ما منحه التفاتة، وربط به بعض أحكام، ولكنه يصرح بأنه غير معتد به لنفسه، وإنما هو وسيلة إلى غاية شرف؛ كسعة المال، أو أمارة تلوح إلى ما وراءها من فضل؛ كرفعة النسب. ثالثها: ما تغاضى عنه، ولم ينزل به إلى عدّهِ نقيصة؛ كزيادة علم لا تنبني عليه فائدة عملية. رابعها: ما أرشد إلى أنه يخدش في وجه الشرف، ويسقط بمن يرتكبه في جرف من المنكر، كبسط يد القوة إلى ما ليس بحق، ونصرة ذي القربى وإن كان مبطلاً. قال عمر بن الأهتم للأحنف في مجلس عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إنا كنا

نحن وأنتم في دار جاهلية، وكان الفضل فيها لمن جهل، فسفكنا دماءكم، وسبينا نساءكم، واليوم في دار الإِسلام، والفضل فيها لمن حلم. وأما ما لا يرونه شرفاً، ولا يسوقونه في مقام المفاخرة، فعلى ضربين: أحدهما: ما كانوا يتخيلونه نقيصة تحط من مكان الرجل، فكشف الشارع عن فساد تصورهم وأيقظهم إلى أنه يلتئم بنظام الشرف؛ كالاحتفاظ بالبنات، والجلوس مع المساكين. ثانيهما: ما حسبوه غير مناف للفضيلة، وقاسوه بالأعمال التي يسعها أن تقارن كرم الهمة، فنادى عليهم بالخطأ في قياسهم، وأشعرهم بأنه مما ينقض بناء الفضل، ويبلي أطلاله؛ كتعاطي الربا. * الشرف والتفاضل فيه: يطلق اسم الشرف، ويراد منه معنى: الفضل، قال في "لسان العرب": "كل ما فضل على شيء، فقد شرف". والفضل: زيادة الشيء فيما هو كمال فيه، والشيء إنما يكمل بالوصف الذي يمتاز به، ويراد منه، كالصرامة في السيف، والعَدو في الفرس، والإضاءة في الكوكب، والحكمة في الإنسان، واستيفاء مطالب الحياة وشرائط السعادة في الأمة، وإجراء النظامات العادلة في الدولة. يذهب بعضهم إلى أن التفاضل إنما يجري في أفراد النوعِ الواحد؛ لأنها تعمل إلى جهة الكمال في قَرَن، وتتواطأ في سيرها على سُنَن، ويصرح بأن عقد التفاضل بين الأشياء المختلفة في حقائقها المتباينة في غاياتها لا تجتنى من ورائه ثمرة، ويتعسر وضعه في مكان عادل. وتحرير هذا: أن التفضيل بين الأمور المشتركة في جهة كمالها قريب

المأخذ, بحيث يقل فيه الاشتباه، ولا ينتشر فيه اختلاف العقلاء متى دخلوا إلى تقريره من باب العدالة؛ فإن جهة كمال النوع الواحد إذا تعينت ورسمت حدودها, لم يبق لمن انتصب للتفضيل بين فردين منه سوى أن يقيم الموازنة بينهما من تلك الجهة، فيتجلى له حالهما من مساواة أو رجحان. وأما الأمور المتمايزة بما هو كمال له، فإنها موضع الالتباس، فتستدعي إجالة نظر متسع، ولا يسهل وضعها في وزن مستقيم، ومما يلقي الشبهة في تحقيق التفاضل بينها: أن الوصف الواحد قد يعتبر في بعض الموجودات كمالًا، ويعدّ في غيره نقيصة، ومن هنا ترى بعض المحكمين في التفضيل بين أمرين، يتخذون افتراقهما في النوع عذراً يتخلصون به من القطع في المفاضلة بينهما. حكى أبو عبد الله بن الحباب: أن أبا جعفر بن يوسف الفهري الأبلي سأله: ما الأحسن: كتاب "المقرب"، أو "شرح الجمل" لابن عصفور؟ قال: فما تخلصت منه إلا أني قلت له: ذلك تأليف مستقل، وهذا شرح. ويقف بك على دخول التفاضل بين الحقائق المتباينة، وصحة التصدي للقضاء فيه: قوله تعالى في نسق الامتنان علي بني آدم: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وإذا أجريت المفاضلة بين المتباينين في الحقيقة، ولم يستند فيها إلى وحي سماوي، فبملاحظة عظم منافعها، وأهمية ما يقصد منها, كما عقدوا التفاضل بين السمع والبصر، والقلم والسيف، والليل والنهار. يتفاضل البشر بحسب استعداداتهم الفطرية، وما يتهيا لهم من وسائل الارتقاء: إلى رجل تصعد به محامده حتى يسابق الملائكة في سماواتها العلا،

وآخر يهوي إلى درك لو زحزح عنه إلى ما دونه التحق عند أولي البصيرة بمنازل الأنعام، وبين هذين المرتبتين مقامات أوسع من أن يحيط بكثرتها التفضيل. والذي يلقنك الحكمة في هذا التفاضل: قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]. فلو وقف الناس في الفضل صفًا واحداً، وتماثلوا في هممهم ومكتسباتهم، لفسد نظام الاجتماع، واختل أمر المعاش والعمران؛ فإن فيما تمس إليه حاجتهم، وتستدعيه نشأة حياتهم، ما يأبى بعض أولي الهمم أن يباشر عمله بنفسه، وإن غشيه من الأذى ما غشيه، وقد تضعف به الاستطاعة، أو لا يهتدي السبل إلى تحصيله، فيفتقر في هذه الأحوال إلى ذي همة نازلة، أو قدرة أوسع، أو بصيرة أقوى. وفيما تدعوك إليه الحاجة ما لا يرضى غيرك أن يصرف جهده فيه، ويشغل به وقته إلا تجاه عوض من المال، ومتى كان الناس في كفاية وغنى عن العوض، لم يتنازلوا إلى معونتك فيما تتقاضاه حياتك من المطالب، وقصر مجهودك عن أن نقوم به وحدك. وإذا كان التفاضل في الخليقة وارداً على مقتضى الحكمة، فلا يجمل بالرجل يأنس في نفسه المقدرة على إدراك منزلة، ولكنها دون الغاية البعيدة، أن يحبس عنانه، ويبقى عاكفاً في زوايا العجزة؛ بدعوى أنه لا يقنع إلا بالأمد الأسمى من السيادة، ولو أخذ هذا بقبس من مراقبة أسرار الكون، لأمضى عزمه، واندفع في سيره ليبلغ إلى الغاية المستطاعة. وما كان ينبغي للرجل حين تقوم له في سبيل مجده عقبات تقطع عنه

وجهته، أن يركن إلى خاطر اليأس، فينقض حبل رجائه، وينقلب إلى طبقات الأسافل، وليس له سوى أن يقف في مصارعتها حتى يكسر كُعوبها، ويفت في جَلمدها, فإن ما يتمخض به المستقبل، وتجري به صروف الأقدار، أكبرُ من أن يضبطه قياس، أو تقضي عليه خواطر الأياس. يتحقق التفضيل بين الشخصين إذا انفرد أحدهما بأصل فضيلة خلي منها الآخر؛ كالعالم والجاهل، والشجاع والجبان، أو بزيادة قسطه منها؛ كالأعلم أو الأشجع يقاس بالعالم أو الشجاع، وقد يختص كل منهما بحلية فضيلة أو فضائل لا يشاركه فيها صاحبه، ولا يعول حينئذ في الترجيح على كثرة الفضائل؛ لجواز أن تكون الفضيلة الواحدة أرجح في الموازنة، وأوفى من فضائل متعددة، وإنما يصار إلى حال كل فضيلة بانفرادها، وتوزن بغيرها، فيعلم أيها أشرف ثمرة، أو أجزل فائدة. ولا يلزم في إطلاق التفضيل، أن يستوفي الأفضل ما عند المفضول من الكمالات، فقد يستقل المفضول بمزية، ولا يمنع استقلاله بها من إطلاق العبارة في تفضيل غيره عليه. ويصح إذا اختص المفضول بمحمدة، أو كان نصيبه منها أوفر، أن تقرر له الأفضلية من جهتها خاصة؛ كالعالم الكريم لا يتمكن في سجية الإقدام، فتفضله على الجاهل البخيل يبذل نفسه في مواقع الأخطار، ولكنك لا تستطيع أن تغمض لهذا المفضول عن مزية إقدامه حتى لا تقضي له بالأفضلية من جهتها. وإذا كنا نعد المزية ينفرد بها المفضول، ويسوغ تفضيله من ناحيتها على من ترجح عليه بغيرها من المزايا، فلا يليق بخالص اعتقادنا الاعتراف بأن بعض أفراد الأمة قد يختص بحال كاملة يصدق عليها اسم المزية بدون أن

يتحلى بها أفضل الخليقة - صلى الله عليه وسلم -. ومن هنا ينكشف لك الستار عما قرره القرافي في قصة فرار الشيطان من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ونفقه كيف انتقض جوابه بأن اختصاصه بهذه المزية لا تقتضي تفضيله على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ اعتباراً بقاعدة: أن المزية لا تقتضي الأفضلية. والحق ما سنح لخاطر أبي إسحاق الشاطبي من أن فرار الشيطان من ابن الخطاب إنما عدّ مزية له؛ حيث كان كافلًا بحفظه من إغوائه وصيانته عما ينفثه في الصدور من الوساوس، ولا ريب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معصوماً من نزعاته، اَمنًا من تزييناته، وإن قرب من ساحته. ويوضح هذا: أن المزية غاية تحصل بوسائل تختلف؛ كالعلم - مثلاً - يناله أحد بمطالعة كتاب، ويتلقاه آخر من تقرير أستاذ، فلا يقال: إن لمكتسب العلم من كتاب مزية عمن تلقفه من فم معلم، متى استويا في الغاية التي هي العلم. يقول بعضهم: لا يعرف مقدار فضل الرجل إلا من كان مساوياً له في مرتبته، أو أعلى. وهذا مثل ما قال تقي الدين السبكي حسبما نقله التاج في "طبقاته": "لا يعرف قدر الشخص في العلم إلا من ساواه في رتبته، وخالطه". ومقتضاه: أن لا ينتصب للتفضيل بين العالِمَيْن إلا من كان في منزلتهما، أو أرقى درجة. وأنت إذا علمت: أن من الناس من لا يصل إلى أن يستظهر الحقائق من مخبآتها، ولكنها إذا استخرجت، ووضعت أمامه في أخلاط من الباطل، عرفها بصفاء فطرته، وميّزها من غير أن تلابسه ريبة، تحققتَ أن الرجل قد يبلغ به الذوق الخالص إلى أن يعرف من كان ينطق بالقضايا التي تنحو نحو المقاصد البعيدة، ويفرق بينه وبين من لم ترتفع بهم مداركهم عن الخوض

في المسائل القريبة، وإن لم يبلغ في نفسه أن ينسج على منواله، ويرمي في تحقيق المباحث إلى غايته. ويعجبني قول بعض تلامذة الغزالي: لا يعرف فضل الغزالي إلا من بلغ، أو كاد يبلغ الكمال في عقله. وهي مقالة أمكن في الصواب من قول تاج الدين السبكي: لا يعرف أحد ممن جاء بعد الغزالي قدر الغزالي، ولا مقدار علمه؛ إذلم يجئ بعده مثله. * شرف الإنسان: من ضرب بنظره في سيرة رجل ممن شهدت لهم العقول الراجحة، ورفعتهم في رتب السيادة إلى السنام، وأخذ يتبصر في الأحوال التي امتاز بها عن سائر الحيوان، فأول ما يطالعه في صحيفة آثاره: عمل منتظم، وسير لا عوج فيه، يتحرك فتتناثر الصالحات من خلال حركاته، وشمكن فتبتهج العيون بسكينته. وليست هذه الشؤون الظاهرة مما يعرض لأعضائه بغتة، مثل ما يعرض الاختلاج للعين، والارتعاش لليد، بل هي ناشئة عن قلب حاضر، ومنسوجةبإرادة ثابتة. ونفقه أن هذه الإرادة لا تخطر على قلبه؛ كما يريد الرضيع ليقبض على ذُبالة السراج , فيمد يده إليها، وإنما هي أثر علم يتقدمها، وشعور بما يترتب على صنع كذا، أو الإمساك عنه؛ من جلب محمدة أو التخلص من معتبة. ولا يستقل العلم وحده بإنشاء هذه الإرادة على وجه منسجم؛ فإنك ترى المسلم يعترف بفريضة الزكاة، ويشعر بما يترتب على منعها من العقوبة في الدار الآخرة، ثم يمسك عن إعطائها مطاوعة لطبيعة الشح بمكتسب المال، أو حرصاً على إتلافه في تحصيل لذة عاجلة. فيؤخذ لصدور الإرادات

الحسنة على منهج لا ينخرم شرط تنقيح النفس من الطباع السيئة، وترشيحها بالآداب الراقية. ثم إن العلوم صور ترتسم في النفس بواسطة قوة نسميها بالعقل، وقد يتفق لبعض من تخلصت له مزية العقل والعلم والأدب وحسن الإرادة، أن لا يصدر عنه من العمل الصالح ما يصدر عن ذلك الرجل الذي ضربناه مثلاً. وهذا يستلفتنا لتعرف وصف آخر له مدخلٌ في إبراز المساعي الحميدة إلى طرف الوجود، وهو الاستطاعة. فتحرر بهذا الاستقراء: أن مدار كمال الإنسان على: عقل وعلم وأدب، وإرادة واستطاعة وعمل. * القوة العاقلة: هي استطاعة النفس الانتفاع بالمعلومات عند الحاجة إليها. ومما لا يحتمل الشبهة: أن حصص النفوس من هذه القوة متفاوتة، فمن الناس ذكي يقرأ من صفحات الوجوه ولحظات العيون ما يكنه الرجل في خبايا سريرته. ومنهم غبي لا يصل إلى المعاني القريبة إلا بالعبارات الواضحة وإعادتها عليه مرة بعد أخرى. لماذا ترى الرجلين استويا في مقدار ما احتسياه من لبان المعارف، وأحدهما يتناول قلمه، فيملي عليه فكره من الإفهام ما لم يروه عن معلمه، ويمسك الآخر القلم، فلا يرشح له بكلمة زائدة عما تلقاه من فم أستاذه؟. ذلك لأن في مدرك الرجل الأول فضل قوة يحسن بها التصرف في معلوماته، وينتزع بها المعاني الغامضة من منازع بعيدة، ثم يؤلفها في صور قضايا مبتكرة؛ بخلاف عقل الثاني؛ فإنه لضعف شعوره بالمناسبات بين

المعاني المتفرقة، وقصوره عن تصور ما ينتج عنها إذا ركبت في نظام واحد، لم يزد على الاحتفاظ بما اقتنصه سمعه من إفهام معلمه. تتفاوت العقول بحسب فطرتها، وقد تتقارب باعتبار الفطرة، ويدركها التفاضل بما يتقدم إلى بعضها من التعاليم الراقية بحسن أساليبها وصدق قضاياها؛ فإن مبكرة الفطرة بالمطالب الصحيحة الواردة في الأساليب الحسنة، يربيها من مبدأ نشأتها على معرفة الطيبات من العلم، ويشب بها على طريقة الإفهام القيمة، وإذا انطبعت الفطرة بالتعاليم الثابتة، وأنست بها منذ أخذت في طور التعلم، كانت أقدر على تمييز درر المباحث من حصبائها، وأدرى بالصواب والخطأ ممن ترشحت فطرته بالقضايا المنحرفة، والقصص الواهية؛ فإن الفطرة إذا تزيت بزي التلقينات الزائغة، وتلطخت بحمأتها الخبيثة، صارت مستعدة لقبول الأقوال الساقطة، وإدراجها في زمرة معلوماتها. وعلى فرض أن تمد تلك القوة عنقها لاستنتاج ما لم تتعلم، فلا تتحاشى أن تستجلب القضايا المستضعفة التي هي من نوع ما سبق لها في التلقين. قد يتسع عقل الإنسان لإدراك مطالب يضيق عنها نظر آخر هو أقدرُ منه طى ضور مطالب أخرى. وربما كان هذا التفاضل الذي تقاسماه بينهما ناشئًا بحسب ما يتسابق إلى كل منهما، ويتجمع عنده من العلم بالمقدمات والقضايا القريبة من المطالب التي فاق قرينه في تحصيلها. ومما يضع أمامك أن الفكر قد يبلغ أشده في بعض المباحث، ويدركه الفشل في بعضها: أن قدماء الفلاسفة أقبلوا على بعض علوم؛ كالحساب والهندسة والمنطق، وأعملوا فيها الروية، فأصابوا مفاصلها بصوارم الأدلة، واستولوا على خبرة بها لا تنازعهم فيها ريبة. وهذه الأنظار التي عهدت لهم هناك بجودة التصرف

وإصابة الغرض، هي التي أداروا عنانها نحو الإلهيات، فطرحتهم في فضيحة، وألقت على أفواههم كلمات يعدها المؤيد بحجج الشرائع من قبيل ما يهذي به المبرسمون. وفد العلاء الحضرمي على منذر بن ساوي، فقال له: يا منذر! إنك عظيم العقل في الدنيا، فلا تصغرن عن الآخرة: فَطِنٌ بكل رزية في ماله ... وإذا يُصاب بدينه لم يشعر نوه الإِسلام بشأن العقل، وشمله بعناية كبرى، ونكتفي في تقرير هذه العناية بثلاثة شواهد: أحدها: أنه منع من تناول ما يؤثر فيه خللاً؛ كالمسكرات، وأغلظ القول في تحريمه. ثانيها: ما وضعه على من ضرب شخصًا، فأزال عقله من دية مبلغها ألف دينار. ثالثها: توسيع طرق النظر أمامه، واستدعاؤه إلى التدبر في أسرار الموجودات. رفع الإِسلام مكان العقل، وأثبته في سجل الشرف على شرط أن يوجهه صاحبه في البحث عن مكان الحقيقة، وينافس به لإحراز العلوم النافعة. ومما ينبهك على هذا الشرط الوثيق: قوله تعالى في ذم قوم حبسوا عقولهم في ظلمة الباطل، ولم يطلقوها من أسر المتابعة والجمود: {إنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]. فتمثيل حالهم بالأنعام، إنما ساقه إليهم إغفالُ عقولهم، وبقاؤها تائهة في أودية الجهالة، إلى أن حرموها حلاوة اليقين وراحة الاعتقادات الراسية.

وقد مثّل تعالى حال من نفروا عن العظة، ونأوا بجانبهم عن الإصاخة إليها، بحال الحمر المتوحشة إذا عاينت أسداً، امتلأت منه فزعًا، وطاشت عن ساحته فالتة، فقال: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 50، 51]. وفي إلحاقهم بالحمر، ووضعهم معها في قران التشبيه، إيذان بأن منزلتهم في الحطّة ما برحت بإزاء منازلها، وأن قوى مداركهم لم تصعد بهم إلى مطالع الشرف قيد أنملة؛ حيث أصبحت عارية عن إدراك ما فيه سعادة دائمة. وقال تعالى في جملة ما قصه علينا من أقوال الضالين عن سنّة هدايته: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك: 10]، الآية؛ فهؤلاء لم يريدوا سلب حقيقة العقل من أنفسهم بحسب الواقع، وإنما اعتبروه بمثابة المعدوم، وأطلقوا في نفيه حيث لم يجتنوا به ثمرة الإيمان الواجب، ولم يستضيئوا به في البحث عن التعاليم المفيدة. ولا تلابسك الحيرة في قضية أن العقل مطلع كل شرف، إذا بلغت إلى قول الفقهاء: إن شدة الذكاء تفوت بصاحبها عن أهلية الولاية للقضاء. فاشترطوا للحاكم أن لا يكون زائدًا في الدهاء, فإن المراد من الذكاء: سرعة انقداح النتائج، وسهولته على النفس، وهذه هي الفضيلة. ويعني بالإفراط فيها: اختطاف صورة الأمر أو القضية من غير إحكام فهم، ولا تثبت في المأخذ. ووجه العيب في هذا: ما قد يعرض له من الاختلال في التصورة حيث لم يضع فكره على غضون الصورة أو القضية ولم يحط بها من سائر أطرافها. قال ابن خلدون: إن فرط الذكاء والكَيس عيب في صاحب السياسة؛ لأنه إفراط في الفكر، كما أن البلادة إفراط في الجمود، والطرفان مذمومان

من كل صفة إنسانية، والمحمود هو التوسط. وساق على هذا: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما عزل زياد بن أبي سفيان عن العراق، قال: لم عزلتني يا أمير المؤمنين، ألعجز، أم لخيانة؟ فقال: لم أعزلك لواحدة منهما، ولكنني كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس. ويلوح في التفقه من هذه القصة: أن فضل عقل زياد لم يكن من قبيل اختطاف الصورة من غير إحكام فهم حتى يكون خدشة في نفس تصوره، بل كان زياد بصفة من يحيط بالقضايا، وما ينشر لديه من النوازل، ويوفيها حقها من النظر وتطبيق الدليل، وإنما يدركه الذهول عن سبر عقول الجمهور، وتحرير قدر ما تحتمله من الأوامر في السياسة، فقد يقتضي الحال تأخير ما لا تصل إليه أفهامهم، ولو كانت المصلحة المرتبطة به أعظم؛ كيلا يعتقدوا به العنت والاعتساف، ويهوشوا عليه بالنكير، فيفضي الأمر إلى نزل وسخط لا تحمله عاقبته. ففضل عقل زياد بمعنى: اتساع أنظاره، والرمي بها إلى غايات من المصالح التي تكلّ دونها أبصار الجمهور، لا يسحب إليه خللاً في نفس ذكائه؛ ضرورة أن الجمهور لو اقتربوا من أنظاره، وتلقوها على كاهل القبول، لما وجه إليه عمر بالمؤاخذة، ولو كان فضل عقله من قبيل الوجه الأول، وهو الاستعجال في فهم الأمر من غير ترّو منه، لم يعبر عنه عمر بفضل العقل، ولحق عليه الانفصال عن الولاية، ولو رضيه الناس. ويزيدك خبرة بأن ما توفر لزياد وأمثاله من فضل العقل، ليس من العيب الذي تلمز به قوتهم الناطقة أنهم لو أضافوا إلى حدة بصائرهم ممارسة طبائع الرعية، وتحري ما يلاقي مداركهم، ولا يضطرب له نظام راحتهم، كانوا على شرط الكفاءة لأي ولاية تلقى إلى عهدتهم. وبهذا التحرير يظهر أن فرط

الذكاء؛ حيث يراد منه الرمي بالفهم إلى أغراض في السياسة غامضة، لا يكون مانعا من ولاية الأحكام بذاته، أو على إطلاقه. يذكر بعض الناس أن واسع العقل يكون أنكدَ عيشًا في هذه الحياة ممن قصرت أنظارهم، وجمدت مداركهم، ومنهم من يقول: إنما الراحة فيها على مقدار اتساع العقل، وبعد مراميه. وقد فكّ ابن حزم التعارض بين المقالين؛ بأن استراحة العقلاء من جهة تلقي المكاره بعزيمة ثابتة، وعدم التأثر لصدمات المصائب، بخلاف صاحب النظر الفاترة فإن خاطره ينزعج لأقل بلاء ينزل بساحته، وأما نكد عيش العاقل، فمن أجل ما يشاهده من إطفاء نور الحق، والنفخ في مزمار الباطل، أو الاستماع إلى ألحانه بطرب وارتياح، وهذا بخلاف من انطفت بصيرته؛ فإنه لا يهمه بعد انتظام شؤون بيته أن تنهض الحقوق قائمة، أو تحز أعناقها على نصب الشهوات. * فضيلة العلم: إذا كانت العقول في مثال السيوف تقطع الباطل أن يتشبث بأطراف الحقائق، فإن العلم ثقافها الذي يقوم أَودها، ومصقلتها التي تجلو أصداءها. أترون السيف الذي احدودب متنه، أو تكاثف الخبث على غراره، كيف يقبح منظره، وينبو عند الضراب به؟ كذلك العقل إذا غشيته الشبه، وانحدرت به في نواحي الضلالة، حتى التوى غصنه بالتواء شعبها، أو بقي في مستنقع من الجهالة حتى التف عليه من سوادها حجاب كثيف، فإنه يدنو من ذوي البصائر، فتشمئز فطرهم السليمة نفوراً منه، ويذهب إلى البحث عن الحقيقة، فلا يقع على مكامنها.

وما اللسان إلا مرآة تمثل خواطر العقل، وتنقل مداركها من شعور إلى شعور. والمرآة إذا تكور سطحها، أو تجهم وجه زجاجها بغبش، أخذت الصور على غير نظامها، وعرضتها في أشكال غير مطابقة. كذلك اللسان إذا ألقت عليه الفَهاهة أثقالها، وشدت عليه اللُّكنة عقدتها، فإنه لا يحتفظ بما يمليه عليه الفكر من المعاني، فيضبطها من سائر حواشيها، بل يوديها في مثال شخص حذفت بعض أعضائه، أو تخاذلت هيئته، فتصوب رأسه إلى أسفل، وتصعدت قدماه إلى أعلى. فمن العلوم ما يرجع إلى إصلاح النفوس، أو تكميل العقول؛ كعلوم الشريعة، وصناعة المنطق والتاريخ. ومنها: ما يرجع إلى تقويم اللسان، وتهذيب صناعة الكلام؛ كعلوم اللغات وآدابها. ومنها: ما يتخذ في وسائل الحياة، والتفنن في أساليب العمران؛ كالهندسة والطب والطبيعيات. أصبحت مزية العلم في جلائها وشهرتها مثل فلق الصبح، لا يسع أحداً جهالتها، فيكاد بسط العبارة في هذا الصدد يلحق بإسهاب المقال في المعاني المطروحة على البداهة عند العامة والأطفال، ولكنا نستوقف النظر برهة في تفاضل العلوم في أنفسها، ونعرِّج على الوجه الذي كان به العلم ركنًا من أركان السيادة. تتفاضل العلوم بحسب أهمية ثمرتها، أو عموم نفعها، أو قوة براهينها، أو شرف موضوعها, كاللغة تفضل على المنطق بعلو ثمرتها التي هي فهم دلائل القرآن والحديث، وكالفلاحة تفضل على معرفة الصياغة بعموم نفعها،

والهندسة تفضل على علم الهيئة بقوة براهينها، ومثل التوحيد يفضل على الفقه بموضوعه، وثمرته، وبراهينه. قد تقوى عناية قوم ببعض العلوم، فيجعلونها الغاية في الشرف، ويفضلون العارف بها على من قام بغيرها من العلوم، وإن كان أعلى حكمة، وأقرب وسيلة إلى السعادة، فيرفعون في بعض العصور أو البلاد مقام حافظ اللغة على مقام حافظ الحديث، ويؤثرون العارف بالمنطق على القائم بعلم الفرائض، ويفضلون صاحب البلاغة على العالم بالفقه. وكان للفقه عند أهل الأندلس المقام الأعلى، حتى إذا أرادوا تعظيم الملك أو الوزير، لقبوه بالفقيه، وربما دعوا به النحوي أو اللغوي؛ حيث قصدوا إجلاله؛ لأنه أشرف الألقاب في ندائهم. وقد يأخذ العلم اعتباراً لدى الشعب ورواجاً، إذا كان له مساس بتصرفات الدولة؛ كعلم العربية في قوم يكون لسان دولتهم عربيًا، ولرجال الدولة اهتمام بفصاحة الرسائل، ورفعة أسلوبها. قال ابن السبكي في "طبقاته": كان محمد بن برّي المولود عام 499 متوليًا أمر التصفح في ديوان الإنشاء، وذكر أن الكتب لا تصدر عن الدول إلى ملوك النواحي إلا بعد أن يتصفحها إمام من أئمة اللسان، وإن القاضي الفاضل كان يتصفح الكتب التي يكتبها العماد، ومن كان دونه. فمثل هذه العناية يكون له مدخل قوي في الإقبال على علوم العربية، والتنافس في صناعة الإنشاء. يثبت الشرف للعلم في اعتبار الإِسلام من جهة أنه يثمر عملاً نافعاً، فإذا لم يكن له أثر في عمل يشكر، فإما أن يعد ضرباً من المباح؛ كمسائل

الخلاف التي لا تترتب عليها فائدة، وإما أن يحسب فيما يصف صاحبه بوصف الحطة؛ كالسحر والطلمسات. مما يحقق أن الشرف لا يثبت للعلم إلا من حيث إنه ينبت المحامد، ويجلب السعادة: قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: 5]، الآية، فانظروا كيف ذم الذين درسوا التوراة، وأتوا عليها تلاوة، ثم أحجموا عن العمل بموجبها في أسلوب بليغ، فضرب في وصفهم مثل الحمار يحمل أسفارًا من حيث خلوَّهم عن المزية، وعدم استحقاقهم للحاق بزمرة العلماء, إذ لا ميز بين من يحمل كتب الحكمة على غاربه، وبين من يضعها داخل صدره أو دماغه إذا صدَّ وجهه عن العمل بها، وتنسحب هذه المذمة على كل من حفظ علماً طاشت به أهواؤه عن اقتفائه بصورة من العمل تطابقه. ومن الناس من يندفع في سبيل التعليم، فيتلقف المسائل على غير بينة من أمرها، ويضمها في حفظه جئدها على رديها، بدون أن يتفقه في ثمرة وضعها وتدوينها، ولا يتدبر كيف انصرفت الأفكار إلى استنباطها، وما الصنع الذي اقتحمته حتى تمكنت من اقتناصها، فأمثال هذا هم الذين إذا سمعوا مناديًا ينادي اسم العلماء، جاؤوا إليه يهرعون، وإذا وقف العاملون على ساق الاجتهاد، وشدّوا حيازيمهم للسعي، رأيتهم اضطجعوا على صماخ آذانهم يتماوتون. ومنهم من يأخذ القضايا العلمية، فيدير فيها نظره يميناً وشمالاً، ويجمع بين طرفي مبدئها وغايتها، فإذا نزلت في أعماق صدره، واختلطت بمسلك روحه، اشتد حرصه على الاحتفاظ بها، وأصبح يغار لعدم إجراء العمل

بموجبها غيرةَ من جرّد قريحته في البحث عنها، وأفرغ وسعه في انتزاعها وترتيب نظامها، وأمثال هذا هم الذين لا ينفضون أيديهم من صلة العلم، وإن كسدت بضاعته، ولم يتقدم صاحبه عن موقف الجاهلين خطوة، فإنهم أحسوا في الحكمة بلذة لا يشوبها كدر، ودخلوا في مطالع إيناس لا تمر بها سحائب الوحشة. ومما لا يرضى التحرير لنفسه، وإن لم يصر أهلاً لبدء القواعد والأحكام: أن يكون راوياً لأقوال العلماء من غير أن يتصرف فيها بمقتضى صناعة التحقيق، كأن يكشف عن الزائف، ويرجح جانب المصيب، أو يفرق بين ما يظهر في صورة التعارض، ويضع كل مقالة في موضعها، أو يستنبط الجواب عما يتوجه على القواعد المسلمة من البحث والاستشكال، وهذا أحد الوجوه التي يتفاضل بها العلماء، وترفع بعضهم فوق بعض درجات. قال الشيخ ابن عرفة في حديث: "أو علم ينتفع به": تدخل التآليف في ذلك إذا اشتملت على فوائد زائدة، وإلا فذلك خسار للكاغد. قال الأبي: ويعني بالفائدة الزائدة على ما في الكتب السابقة عليها، وأما إذا لم يشتمل التأليف إلا على نقل ما في الكتب المتقدمة، فهو الذي قال فيه: خسار للكاغد، وهكذا كان يقول في مجالس التدريس: "إذا لم يكن في مجلس الدرس التقاط زيادة من الشيخ، فلا فائدة في حضور مجلسه، بل الأولى ممن حصلت له معرفة الاصطلاح والقدرة على فهم ما في الكتب، أن ينقطع لنفسه، ويلازم النظر". وضمّن ذلك في أبيات نظمها، وهي: إذا لم يكن في مجلس الدرس نكتة ... وتقرير إيضاح لمشكل صورةِ وعزْوُ غريب النقل أو حلّ مقفلٍ ... أو اشكال أبدته نتيجة فكرةِ

فدع سعيه وانظر لنفسك واجتهدْ ... ولا تتركن فالترك أقبحُ خلةِ وإذا كان ظل العز والشرف يمتد حول العالِم بمقدار سعة معارفه، فيجدر بالرجل أن يلج بفكره في كل علم أمكنته مزاولته، ويأخذ من كل فن بطرف، ولو ألقى رحله في بعض علوم وجد من نفسه استعدادًا وانعطافاً زائداً نحوها. عكف أبو صالح أيوب بن سليمان مرةً على كتاب "العروض" حتى حفظه، فسأله بعضهم عن وجه إقباله على هذا العلم بعد الكبر، فقال: حضرت قوماً يتكلمون فيه، فأخذني ذل في نفسي أن يكون باب من العلم لا أتكلم فيه. جرت سنة الله أن علم الشريعة إنما ينال بالأخذ عن علمائها، وينحرف بعض العامة عن هذه العبادة، فيشهدون رجلاً كيف نشأ بينهم، ولم يدخل مجلس تعليم، ولم يصاحب أستاذاً يتلقى عنه ما تجب معرفته من أحكام الدين، فيغترون بمزاعمه، ويعتقدون له مقاماً سامياً في الصلاح، ثم يقتدون بسيرته، ويؤثرون أقواله عما يرويه العلماء من بينات الكتاب والسنّة. قال العلامة ابن حجر الهيتمي في "فتاويه": إن الجاهل بمبادئ العلوم الظاهرة مما يجب عليه تعلمه لا يكون وليًا، وإن علم الشراع لا يدرك إلا بالتعليم الحسي. قال: ويؤيد هذا: أن المحقق ابن عرفة المالكي حكى الإجماع على أن علم الشراع لا يكون إلا بقصد التعليم. وهذا واضح؛ فإن القرب من رب العالمين يكون على قدر سلامة الطوية، وصحة العبادة، ومن لم يتعلم شروط العبادات وواجباتها ومبطلاتها، اختلت أعماله، وكانت عارية عن الصحة، وإذا كان يخرج عن رسم الشرع، ويأتي بعمله على غير

وضع، فكيف يصدق إن ادعى المرتبة القريبة من رضاء منزل الشرائع، ويتخذ قدوة يعمل على آثاره قولاً وعملاً. * أدب النفس: يظهر جلياً أن توجه الإنسان لعمل يحمد، هو أثر اعتقاده بكماله، والفوز بغايته، ولكن العمل لا يسهل مأخذه، وتنشط له الجوارح بدون تردد، إلا إذا صاحب ذلك الاعتقاد خلقًا ثابتاً، فالخلق حال راسخ في النفس تصدر عنه الأفعال بسهولة. واعتبر في هذا بموسرين، يبصر أحدهما المسكين في حال احتياج إلى نائل، فتهتز عواطفه رغبًا في إمداده، ويحيى بالارتياح لمواساته، كيف يسري في عروق فؤاده كما يسري الشفاء في مواضع الألم. ويقف في جنب الآخر سائل تحف به شواهد الفاقة والعجز عن الاكتساب، فيشمئز خاطره لاستعطائه، ويحيد عنه بنظره، ولكنه يتذكر ما قرر في فضيلة البر، وما يجازى به المنفق في سبيل الله، فيدفعه ذلك إلى أن يقطع فلذة من فاضل ما عنده، ويضعها في يد السائل، ونفسُه متابعة لها. فالأول لم يزد على الثاني في صنعه الظاهر، والقيام بمعونة الفقير، سوى أنه بذل ماله عن كرم سجية، ورقة عاطفة، والثاني إنما فارق ما بيده بعد منازعة طبيعته، ومحاورتها بأن العوض عن ذلك أوسع ثواباً وأنقى. وهذا قد ينسج على قلبه الذهول، وتعزب عنه فضيلة البذل، فيصرف السائل خائباً. هذا الحال الذي نسميه خلقاً، وتتأهب به نفس المتأدب للعمل، قد تنشأ عليه النفس من أول فطرتها, كأخلاق الأنبياء - عليهم السلام -، وقد

يرتسم بواسطة اعتقاد يحضر في النفس، ويتكرر وارده عليها, كخلق الشجاعة ينتقش في الطبيعة بتتابع إدراك أن عاقبة الإقدام شرف دائم، أو راحة خالصة، وأن الحياة على هوان أشد مضاضة، وأمرُّ غصة من الموت في حال عز. فإذا ألقيت بتعليم هذا إلى شخص وبقي بعده مغرماً بحياته، حريصًا على استيفاء ملاذها، فإما أن يكون مع ذلك مستصوباً لآراء الجبناء، فنستيقن أن تلقينك له لم يصل به إلى اعتقاد جازم بقبح الجبن، ومعرة الفزع، وإما أن يعشق حياته، ويرضى برفقة القواعد، وهو يحترم المقدام، ويزدري بمن يماثله في الاندهاش والتسلل من مواقع الخطوب، فنتحقق أن تعليمك إنما أفاده اعتقادًا بفضيلة الشجاعة، ولم يبلغ به إلى أن صيّره خلقاً مكيناً. وإذا كان الخلق نتيجة اعتقاد، فخلق الجبن - مثلاً - حاصل عن اعتقاد أن الإقدام ملقٍ إلى التهلكة، وأن للموت مرارة لا تحتمل، فكيف يجتمع مع اعتقاد فضيلة الشجاعة، وعلو شأن البسلاء؟ إن الخُلق، وإن كان نتيجة اعتقاد، فقد يزول ذلك الاعتقاد، ويخلفه اعتقاد آخر، وتبقى النفس لابسة للخلق الذي أوقعه الاعتقاد الأول، فالقابض يده عن الزكاة- مثلاً -، إن تصرف في إرادته اعتقادٌ يناقض الاعتقاد بفريضتها، كاعتقاد خلوها عن المصلحة، وأنها نقص في الأموال، ومجلبة للفاقة، فقد خرج بذمته عن طوق الإِسلام. ومن أمارة هذا الاعتقاد الزائغ: أنك تسمعه يستخف برأي من يمد يده بها عن سماحة خاطر، وينسبه إلى البله وقلة الكياسة في حفظ المال، أما إذا وثق في اعتقاد وجوبها، ولكنه انكمش عن إيتائها إيثاراً للمنفعة العاجلة، وذهولاً عن هول العاقبة، فهذا هو الذي نثبت له أصل الإيمان, مع استحقاق ذلك الوعيد.

ويؤكد لك أن الاعتقاد بكمال الشيء قد يتفق مع نزوع الطبيعة، ومغالبتها في العمل بخلافه: أنك تجد المتهاون ببعض الواجبات الدينية يرى القائم بحقها على هداية وحكمة، فيعظم في عينه، ويذكره بلسان التمجيد، كما يشهد للفاسق بسفالة الهمة، وسخافة الرأي: وأبغض مَنْ بضاعتُه المعاصي ... وإن كنا سواء في البضاعة يذكر فلاسفة الأخلاق قضية اختلافهم في حال النفس عند ابتداء نشأتها، وليس من الغرض بسط المقال في هذه القضية بسرد المذاهب وتقرير "الدلائل" بل الذي يتشبث بمنهج هذه الورقات: أن نمر على صفوتها، ونأخذ بطرف المحرر منها، وهو: أن النفس في مبدأ فطرتها عارية عن سائر الأخلاق خيرِها وشرها، ولكنها فطرت على استعداد وقبول لما يؤثره فيها التعليم والاقتداء من الأخلاق الفاضلة، وهذا الاستعداد هو الذي جعلها متوجهة بفطرتها نحو السبيل الملاقي للحكمة، فإذا ألقمت ثدي التربية، كانت سرعة انطباع الخلق وبطؤه على قدر ما يبلغه ذلك الاستعداد الفطري من القوة والضعف. وقد يعرض لهذا الاستعداد إنحراف يزين للنفس بعض تعليمات خاسرة، ويريها وجه الأدب سمجاً، فلا تلتفت إليه بإعجاب، مثلما تبتلى حاسة الذوق بسقم تعاف به الماء القراح، وتستلذ به ما لا طعم له، أو ما له طعمٌ خبيث. ولا تمترِ فيما أومأنا إليه من أن هذا انحراف تصاب به الفطرة على قلة وغرابة، إذا كنت تشاهد من المتهافتين في مستنقع الأخلاق الدنيئة أكثر من القائمين على الأخلاق المهذبة؛ فإن أصحاب الرذائل قد تكون استعداداتهم

الفطرية مستقيمة، والبليةُ إنما وقعت عليهم من جهة تركهم في مضيعة، وعدم مراقبتهم بالتربية، إلى أن اجتذبتهم الأخلاق السافلة. وليس في استطاعتك أن تدرك بيقين أن النفس قد بليت بانحراف في ذات استعدادها، إلا إذا وجهت همتك إلى أحد الأطفال، وأخذت تلقي إليه من الآداب العالية، وترشحه بها يوماً فيومًا إلى أن قضيت في أدبه أمداً بعيداً، وعندما نصبت له وزن الاختبار، وجدته فرغاً من كل أدب رفيع، ورأيت همته منحطة على درك الرذالة. ومما يرشد إلى أن النفوس متهيئة بطبيعتها إلى الأحوال الشريفة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة"، فقد ذكروا في تفسير الفطرة: أنها الجبلّة السليمة، والطبع المتهيئ إلى قبول الدين. ويلوح إلى ذلك- فيما نبّه عليه بعض المفسرين-: قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58]،؛ فإن الآية ضربت مثلاً للنفوس الخيرة، والنفوس المطوية على شر، وقوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} عائد إلى الأولى، وقوله: {وَالَّذِي خَبُثَ} إيماء إلى الثانية، ووجه الدلالة: أن النفس لما كانت مستعدة بفطرتها لأن تكون طيبة، كان الطيب بمنزلة المغروز في فطرتها، فعبّر عنه بالاسم الدال عند أهل البلاغة على مجرد الثبوت، ولما كان الخبث يعرض لها لعلة انحراف أو تلقين، عبّر عنه بالفعل المشعر عندهم بالحدوث. ولا يتدافع ما تحقق لديك من استعداد طبيعة النفس للفضائل مع ما غرز فيها من قوة الشهوة، فإن هذه القوة لا تعد سيئة إلا إذا تطوحت عن رسم الاعتدال، وهي إنما تتعاظم بتكرر إدراك المحسوسات اللذيذة، وترددها على

مذاقاتها طعماً بعد آخر. ومع هذا التعاظم، فقد تبقى النفس على فطرتها من التوجه إلى الخير، والتعلق بأطرافه، فلا تدخل في أمر الشهوات، وإن بلغت غايتها، وربما كان فوز النفس عليها وهي متعاظمة أدلَّ على المزية من قهرها لها وهي متفانية؛ كما لاحظوه في مساق التفضيل بين البشر والملائكة. يتعرض الكاتبون في الأخلاق إلى رسومها الفارقة بينها، بحيث تتمايز حقائقها، ولا تختلط حدودها، والذي يعسر أحياناً إنما هو تطبيق تلك الرسوم على الأحوال الخاصة، ومعرفة أن هذا موقع الإقدام - مثلاً فنسمي الإحجام عنه: جبنًا، أو هو موقع الإحجام، فنسمي الإقدام عليه: جرأة، وقد تلتبس بعض المواطن، فلا يدري الناظر هل يحسن فيها الترفع، فيكون التنازل ذلة، أو يليق بها التنازل، فيكون الترفع كبراً؟ فلا بد حينئذ من جودة الرأي، وإمعان النظر في تعرف المواضع التي يصلح فيها مثل الإقدام، أو الصفح، أو البذل، أو الترفع، التي هي آثار الشجاعة، والحلم، والكرم، وعزة النفس. وفي هذا المقام تظهر مزية التربية الخاصة؛ فإنها تعطي للإنسان ملكة التفرقة بين مواقع الأخلاق الفاضلة، والأخلاق السافلة، فالأب والمؤدب يكرران على الصبي تمجيد الحلم وعزة النفس - مثلاً -، ويزيدان على ذلك تنبيهه على مواقعهما حين يغضب بغير حق، أو يتنازل إلى غير أهل. قد يمر بك في أقوال الشعراء ما يحث، أو يثني على بعض الأخلاق المعروفة بالمذمة، فلا يغرنك بما يمسح عليه من زخرف الفصاحة؛ كقول بعضهم يأمر بالحمق: وكنْ أكيسَ الكَيسى إذا كنت فيهم ... وإن كنت في الحمقى فكن أحمقَ الحمقِ

فعجز هذا البيت لا يتعلق بأذيال الأدب، إلا إذا قصد به ناظمه معنى مقاومة الأحمق ومقابلته بشدة تدفع في أذيته إذا لم يكف في مدافعتها اللينُ والمجاملة، ويماثل هذا قول ابن الرومي يمدح طبيعة الحقد: وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى ... وبعض السجايا ينتسبن إلى بعضِ فحيث ترى حقداً على ذي إساءة ... فثمَ ترى شكراً على حسن القرض فالحقد مما اتفق العقلاء على أنه خلق ذميم؛ لأنه طبيعة احتفاظ الإنسان على الجريمة وإمساكها على ظهر قلب؛ ليجازي بها حيث تسنح الفرصة، وإن أصلحها المجرم ببسط المعذرة، أو رجاء المغفرة، فإذا عني ابن الرومي من الحقد الذي عقد النسب بينه وبين الشكر: عدم نسيان الإساءة لمن لا يغني في رد شكيمته الأناةُ وسماحة الضمير، كان شعره بمقربة من الحكمة السائر. * فضيلة الإرادة: يخطر على قلب الرجل صورة عمل، فيحس بنفسه كيف تنزوي هرباً منه، أو تهتز رغبة في إيقاعه، حتى تثبت وتستقر على إحدى الحالين. فصفة استقرار النفس على ترك الأمر أو عمله هو الذي نعنيه بالإرادة. وقد اشتدت عناية الشريعة بالإرادة، فبعد أن أخذتها شرطاً في صحة الفعل أو كماله، نظرت إليها بانفرادها، ووضعتها بمقربة منه، فقدرت للنوايا الفاضلة نصيباً من المثوبة إذا لم يتمكن صاحبها من إنجاز ما عزم عليه.

قال - صلى الله عليه وسلم - فيما روى البخاري: "من همّ بحسنة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة". كما فرضت للإرادات السيئة كِفْلاً من العقوبة، وإن لم يعقبها أثر في الظاهر على ما ذهب إليه عامة السلف، واستشهدوا في هذا بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور: 19]، الآية؛ فقد بني استحقاقهم للعذاب الأليم على عمل قلبي، وهو محبة شيوع الفاحشة، واستدلوا بحديث: "إذا التقى المسلمان بسيفهما، فالقاتل والمقتول في النار"، فقيل: يا رسول الله" هذا القاتل، وما بال المقتول؟ قال: "لأنه أراد قتل صاحبه". وفي رواية: "أما إنه كان حريصاً على قتل أخيه"؛ فإنه اعتبر في علة العقوبة نفس الإرادة. وفسر هؤلاء الهم الذي ورد الحديث بعدم المؤاخذة فيه على معنى: حديث النفس بالفعل من غير قرار عليه وتصميم. وكذلك جاءت الشريعة بتزكية الأرواح، وإعلاء مقامها عن الأوصاف التي شأنها تثبت الآثار السيئة على الجوارح؛ كالحب والبغض والحقد والحسد، وفوضت لها نصيباً من الجزاء، إذا استرسل معها صاحبها، ولم يقوّم عوجها بسيف الحكمة والمجاهدة، وإنما حجز بينها وبين مباشرة العمل مانع في الخارج. تتفاضل الإرادات بالشدة والضعف، فقد يربط كل من الرجلين على قلبه القصد إلى مساع دونها سبل شاسعة وأخطار، ويشرعان في العمل، فيذهب أحدهما وهو يقاطع المثبطات، ويدافع ما يقف عرضة في سبيله إلى أن يضع يده على الغاية، ويتدرج ثانيهما زمناً، حتى إذا ما أحست قدمه بعثرات تترامى أمامه، قطع سيره، وصرف وجهه شطر همة أخرى. فمنشأ تمادي ذلك،

وانقطاع هذا: إنما هو شدة العزيمة وضعفها. يمثل لك شدة العزيمة: أن عبد الملك بن مروان قصد الخروج إلى بعض الحروب، فلما استعد للرحيل، وقفت له عاتكة بنت يزيد بن معاوية تستعطفه إلى التخلف، وتركِ الخروج لموقع الحرب بنفسه، ظناً منها أن سلطان الهوى أشد أثراً على قلب الرجل من عزيمته، فقال لها: هيهات، أما سمعت بقول الأول: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار ومما يكشف عن ضعف عزيمة الرجل، وتداعيها إلى البلى: أن يعقد إرادته على القيام بعمل يصدق بحكمة وضعه، ثم يتركه وينصرف عنه، حيث يكون بمرأى ممن يخالفه في الاعتقاد بشرفه، ويرى بناءه على غير نتيجة، ونضرب المثل لهذا: رجلاً يدركه وقت العبادة بمشهد من لا يوقنون بفريضتها، أو لا يلتئم وضعها بأذواقهم، فيعقد عن الإحرام بهاة مجاراة لأصحاب هذه الأذواق، ومخافة أن يسقط احترامه من أعينهم؛ كأنه لم يدر أن أقرب الناس منزلة من بهيمة الأنعام: من يخرج أعماله عن سلطان إرادته، ويأخذ فيها بإرادة قوم لا يملكون من أسباب سعادته فتيلاً. وتتفاضل الإرادات بحسب ما تتوجه إليه من العمل، أو باعتبار ما ترمي إليه من الأغراض، فمن حدثت له إرادة السعي في الإصلاح بين طائفتين، يكون أشرفَ قصدًا ممن همَّ بجهاد الباغية منهما، ومن قصد إلى طلب علم ليستكمل به في نفسه، أو يصلح به قومه، كان أرفع همة ممن يقبل على التعليم لاغتنام معيشة، أو الفوز برئاسة. فملاحظة الباعث مما يجر إلى الإرادة كمالاً زائداً عن الحسن العائد إليها من نفس العمل.

والبواعث تختلف إلى مراتب، أعلاها: التقرب من رضا منشئ الكائنات، والتحلي بحسن طاعته، وأدناها: اقتناص المال، أو إدراك الوجاهة في أعين الخليقة، وبينهما غايات بحث فيها علماء الشريعة من جهة ملائمة الإرادة الخالصة، أو تكدير صفوها، وممن حرر المقال في تفاصيلها، وبسط أدلتها: أبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته". ينبهك على التفاضل في الإرادات الحسنة: أن الرجلين قد يتماثلان في درجة الفضل، وتتحد آثارهما، ولكنك تجد أحدهما قد تمكن من الأخذ بالمكارم، وتجمعت حوله وسائل الارتقاء، حينما احتاج الآخر إلى مصارعة الموانع، وصرف الوسع في تحضير الوسائل، فإنا نقطع لعزيمة الثاني بفضل قوة هي مجهولة في همة الأول؛ إذ من الجائز أن همة الأول لا تثبت لتسوية العقبات، ولا تشد حزامها لتحصيل ما يعوزها من الوسائل المتعاصية. قال أبو الوليد الباجي يوماً مفاخراً لابن حزم: أنا أعظم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبته وأنت تُعان عليه، تسهر بمشكاة الذهب "يشير إلى ثروة ابن حزم وآبائه"، وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائن السوق "جمع ساق"، فقال ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك؛ لأنك إنما طلبتَ العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته، فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة. ويؤيد ابن حزم في جوابه هذا: أن من تربى في مهد الترف، وأحاطت به زخارف الدنيا من كل ناحية، يسكن في قلبه الحرصُ على اللذائذ، ويصعب عليه التخلص من شواغلها، فمن خلع صدره من الشغف بمناظر النعيم، والميل إلى مضاجع الراحة، وهي طوع يمينه، ثم استبدلها بالتوجه في سبيل

المجد الذي لا يخلص سالكه من متاعب واقتحامِ أخطار، فلا بد أن يكون قد ضم بين جنبيه همة سامية، وارادة لنفس الفضيلة خالصة. سبق لنا في التمهيد: أن الأعمال لا تصدر للخارج إلا مع استطاعة. ووسائل الاستطاعة تختلف باختلاف الأعمال، فمن الأعمال ما يتوقف على صحة الجسم، ومنها ما يتوسل إليه بالمال، وبعضها ينال بفصاحة المنطق، وآخر يفتقر إلى نفوذ الكلمة بوجاهة، أو رئاسة، أو حمية قوم، وقد جاء في مساقات الشريعة ضمّ هذه الأمور إلى أطراف الكمال، باعتبار التوسل بها إلى مقاصده. * مزية الاستطاعة: أما قوة الجسم، فاعتبارها من جهة أنها مكملة للشجاعة، وعدة لإرهاب المبطلين ودفاع أذيتهم، قال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247]. فلو كان الجسم الطويل العريض محشوًا بالجبن، وخور العقل، أو وقع التعرض به لمقاومة الحق ونصرة الباطل، لسقط عن ساحة الفضيلة، وكان صاحبه طفلًا، ولكنه في جسم كبير. قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4]. ومثَّلهم بالخشُب المسندة؛ لأنها غير مرجوة النماء أو المنفعة، كما يرجى من الخشب القائمة في مغارسها. وقال حسان - رضي الله عنه - في فئة تستبشر بملتقى الضلال؛ لا بأس بالقوم من طول ومن غِلَظٍ ... جسم البغال وأحلام العصافيرِ وأما المال، فيعز شأنه في نفوس كثير من البشر، ويتغالون في إجلال صاحبه من غير نظر إلى حال تصرفه فيه.

وفيما روى البخاري: أن رجلاً مر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لرجل عنده جالس: "ما رأيك في هذا؟ "، فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله! حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم مر رجل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما رأيك في هذا؟ "، فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وان قال أن لا يسمع لقوله. فقوله في وصف الرجل الثاني: "من فقراء المسلمين" يدل على أنه قصد بقوله في نعت الرجل الأول "من أشراف الناس": أنه غني، فأرشده - عليه الصلاة والسلام -, ونبهه على عدم تحقيقه في معنى الشرف بقوله: "هذا - أي: الفقير - خير من ملء الأرض من مثل هذا"؛ أي: الغني. وقد يتعاظم في الطبيعة تفخيم قدر المال، حتى يرسل على الفكر ستار الوهم، ويمثل له أن صفة الغنى رأس كل فضيلة، وملاك كل شرط لأهلية التصدر بالمجالس والمناصب، قال تعالى في قصة طالوت: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة: 247]، فانظر كيف ذهبوا إلى أن واسع الثروة، هو الجدير بأن يستخلص لرئاسة الملك، إلى أن أيقظهم نبيهم من سكرة الجاهلين، وهداهم إلى أن الوصف الذي يعتمد عليه في كفاءة الرئاسة، إنما هو العلم وصحة الجسم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ} [البقرة: 247]، ففضيلة العلم مطلع الآراء النيرة، والتدابير الماسكة بمحكم السياسة، وصحة الجسم مظهر الشجاعة، أو الإقدام على تنفيذها.

قال المتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني وإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... حازت من العلياء كل مكانِ والإِسلام يثبت الفضل في المال؛ من جهة أنه معونة على المشروعات العظيمة، ومطية إلى كثير من المقامات العالية، فلو أوتي رجل سعة من الثروة، فركض بها ركض الوحوش في الفلاة، ولم ينفقها إلا في ملبس فاخر، ومطعم لذيذ، أو مطية سابقة، وقصر مشيد، كان أحط رتبة من المسكين الذي يزيد عليه بمثقال ذرة من الخير. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيراً، فنفح به يمينه وشماله، وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيراً". ومما يرجع إلى التكاثر بالمال وسعة الحال: التباهي باللباس، والتفنن فيه أصنافًا وألوانًا، ومثل هذا مطروح من آيات الشرف في نظر الشريعة وعادة العقلاء، ولعلك تذكر ما جاء في "الموطأ" عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً وعليه بُردان قد خلقا "بليا"، فقال: "أما له ثوبان غير هذين؟ "، فقلت: بلى يا رسول الله، له ثوبان في العيبة كسوته إياهما، قال: "فادعه، فمره فليلبسهما". ثم ولّى يذهب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أليس هذا خيراً له؟ ". فهذا الحديث يصرح بفضل الملابس الحسنة، وأن حال الزينة أكمل من التقشف. فنقول: إن الشارع فوض في أمر اللباس إلى حكم العادة، وما يليق بحال الإنسان، فإذا جرت العادة بلبس نوع من الثياب، وكان مستطيعاً له، فعدل عنه إلى صنف أسفل منه، أو أبلى، قبح به هذا الحال، وكره له؛ لأن بذاذة اللباس ورثته مما تقذفها العيون، وتنشز عنها الطباع، فتلقي بصاحبها

إلى الهوان، والالتفات إليه بألحاظ الازدراء، وهذا هو الوجه في إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على الرجل في الحديث السالف. وأما الخروج عن المعتاد، والتطلع إلى ما هو أنفس وأغلى، فهو الذي رفضناه من حواشي الفضل، ونفينا أن يقفز بصاحبه درجة. قال المعرّي: إذا كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمدُه والحمائلُ بل تجد أكثر الناس يستخفون بمن يتعدى طور أمثاله في ملبسه، ويعدونه سفهًا في العقل، وطيشًا مع الهوى، وكذلك الإِسلام يستحب للإنسان أن يقتصد فيما تستدعيه حياته من المطالب، ولا يعجبه الاستكثار منها، والسرف في الإنفاق عليها، حتى يتخذ منها ما يزيد على الحاجة، ولا يستحق أن يذكر بإزاء الحكمة، فيما نرى قول الشاعر: هم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان إلا إذا كان الشاعر قد عبّر بألسن البنيان عن بناء المدارس والمساجد والمستشفيات، والطرق العامة، وبيوت يأوي إليها الفقراء والمستضعفون. وأما فصاحة المنطق، ففضيلتها من جهة الكشف عما يتجلى في مطالع الأفكار من المعاني، ويخطر على القلوب من المطالب. ولا خفاء أن العبارات والأساليب تتفاوت في إيضاح المراد وتشخيصه لذهن المخاطب، كما تتفاضل برونق الفصاحة، وعذوبة المذاق. وهذا أيضاً له مدخل في تلقي المطالب أو القضايا العلمية بقبول، ووثاقة فهم. ومن هنا رفع الإِسلام ذكرها في سياق الخصال العالية. قال تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ

الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4]. فإيراد {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} مجرداً عن حرف العطف؛ لكمال اتصال معناه بما قبله، وهو قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ}، ووقوعه منه موقع التفسير لشيء من مفهومه. فيشعر بأن الإنسان إنما يتم خلقه، وتتقوم حقيقته، بتعليمه المنطق الفصيح. ونريد بالفصاحة: ملكة التعبير عما في الضمير بأي لسان حضر، فللمتضلع من لغة الفرس - مثلاً - مزيةٌ على قصير الباع فيها، متى استعان بها في تقرير الحقائق، وابتغى بها الوسيلة إلى التعريف بمقاصده الحسنة. وتوهَّم كثير من الأدباء أن الفصاحة وصفُ كمالٍ في نفسه، فإذا اتفق لهم أن يبرزوا معنى في أسلوب فصيح، قذفوه بأفواههم، ولم يبالوا أن يكون ذلك المعنى عبثاً، أو خاذلاً لحق. ونرفع مقالنا هذا أن نسوق فيه أمثلة من منظوماتهم السخيفة، ولاسيما أشعارهم التي قلبوا فيها بعض آداب شرعية، ومدائحهم التي وقعوا بها حول الشرك بواجب الوجود. وفي الناس من لم يتفقهوا في فضيلة الفصاحة، فإذا سمعوا ناطقاً يجهر بالعبارة، ويطلقها من لسانه بدون حبسة، أدخهلوه باعتقادهم في زمرة الفصحاء، دون أن ينظروا في تحقيق المطابقة بينها وبين المعاني التي قصد إفهامها. والدرّاكةُ قد يرجِّح ذا العقدة في نطقه، حين يُفرغ العبارة في عين الغرض، ويفضله عمن يرمي بكلامه المتتابع، وهو لا يصيب المفصل من المراد. ولمن أحكم لسانين مزيةٌ ظاهرة على من عرف لساناً واحداً؛ حيث كان يستعمل اللسان الذي انفرد به في مقاصد لا تدرك باللسان الذي شاركه فيه صاحبه.

وإذا أقمت الوزن بينهما، فقد يساوي ذو اللسانين صاحبه في قدر معرفته باللسان المشترك، فتكون فضيلته أظهر. وتارة ينقص عنه، فلا بد لك حينئذ من النظر إلى الزيادة التي حازها ذو اللسان الواحد، وتقيس أثرها بأثر اللسان الذي استقل به صاحبه، فإن استويا، فإن ذا اللسان الواحد وذا اللسانين في منزلة واحدة من الشرف، وإن كان أثر الزيادة في اللسان المشترك أعظم من أثر اللسان المختص به، فذو اللسان الواحد يكون أعرق في المزية وأرقى، وإن كان أثر اللسان الثاني أقوى من أثر الزيادة، فهاهنا يكون ذو اللسانين أرجح وزناً وأرفع درجة. وأما الوجاهة، وهي أن يحصل للرجل شأن يستهوي إليه نفوس قوم بمودة أو رهبة أو رجاء، فتارة تكتسب باستقامة السيرة، وخلوص الطويّة؛ فقد جرت سنّة الله أن من صفت سريرته، وغزرت صالحاته، أحدقت إليه الضمائر الحرة، وأولته وداً وانعطافاً، وهو ما وصف الله به عيسى - عليه السلام - في قوله: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [آل عمران: 45]. وهذا الضرب من الوجاهة وَصْفُ شرف في نفسه، وإذا توسل به الوجيه إلى قضاء ما يهم الناس من المآرب، كان سيادة فوق سيادة. وتارة تدرك بحال تربي رهبة؛ كالقرب من ذي سلطة، أو تحث رغبة؛ كثروة يطمع الطامعون أن يبلّوا صدى حاجاتهم من قطراتها. وهذا الضرب إنما يحتمله العد في مساق الفخر، إذا خدم صاحبه المصلحة، وتناهى به إلى صنيع يشكر عليه. وإذا اطلعت على أثر يقتضي البعد عن الوجاهة، فإنه مصروف إلى الحرص في طلبها، والتصنع لإحراز سمعة في المجامع الحافلة والبلاد القاصية، وأما إذا اندفعت همة الرجل إلى المكارم بجاذب ابتغاء الفضيلة،

وطفق ذكره يتسع على حسب مساعيه المفيدة، فذلك خير من العزلة والاختباء في زوايا الخمول، قال تعالى فيما قصه من قول إبراهيم - عليه السلام -: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] وقال في سياق أقوال لقوم صالحين: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]. قال الرازي: الأقرب: أنهم سألوا أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم، ويقتدى بهم. واستحب الفقهاء للصالح أن يسعى في ولاية القضاء؛ ليدرك الناس أمده في العلم، وبراعته في الفهم، فيهرعوا إلى الاستنارة بأفهامه، والاستقاء من وِرد علومه. وأما الرئاسة، وهي أن يملك الشخص النظر في شؤون قوم بإنفراده، أو بمشاركة غيره، فإنما دخل صاحبها في ذوي الشرف؛ من حيث تطوقت ذمته بقلادة فصل الحقوق، أو تمكينها من أيدي أربابها، ولهذا شرع الإسلام ممن علم من نفسه الكفاءة والاستقامة؛ أن يسعى لإصابتها، ولو برغبة صريحة، قال تعالى فيما قصه من قول يوسف - عليه السلام -: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. وقال المازري: قد يستجيب طلب القضاء لمن يرى أنه أنهض به، وأنفع للمسلمين من آخر تولاه باستحقاق. وأما الآثار المؤذنة بالنهي، أو الوعيد على ولاية خطة القضاء والإمارة؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم تحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة"، فخطابها متوجه لمن لم يستوف شرائطها؛ من معرفة، وعدالة، وشدة، وعزيمة في التنفيذ.

يقولون: إن الولاية معيار همم الرجال وعدالتهم؛ فإنهم بعدها ثلاثة أصناف: فمنهم: من يتمادى على سيرته الأولى، ولا ينتقل إلى حال تبعد عما عهد له في الإساءة أو الإحسان. وبعضهم: ينطوي على نفس عاطفة إلى الخير، فإذا جلس في منصب، استعظم مكان الحقوق، وأخذ يفحص بخاطره عما يلزم اتخاذه من النظامات الكاملة بحفظها، ومتى اهتزت هذه النفس العاطفة، أنبتت من التدابير المثمرة ما يبعثها مقاماً محموداً. ومنهم: من يحمل في مخبآت صدره خبائث، وقد طبع على صناعة المخاتلة والاحتيال، فيحتفظ في سيرته جهده، ويتحاشى بظاهر عرضه أن يلوث بفضيحة، فإذا قبض بيده على سلطة، خلع ثوب عفته المستعار، وغشي من المخازي ما يجعله هدفاً لسهام الطاعنين. لا يفوت الرئيس الذي يحمل النية السوداء، ويركب في المظالم متن عمياء، أن ينساق إلى ذوي نفوس حرة ينقرون له على وجه نقيصته، ويصبون في أذنه أقوالاً تفيقه من نشوة السلطة، وتكدر عليه حلاوتها إلى مرارة، وإنْ ملك قوة ورجالاً، واتخذ سلاسلاً وأغلالاً. قتل الحجاج عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -، ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، فأبت أن تأتيه، فانطلق يتبختر حتى دخل عليها، وقال لها: كيف رأيتني صنعت بعدو الله - يعني: ولدها عبد الله - قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، أما إن رسول الله حدثنا: أن في ثقيف كذاباً ومبيراً "مهلكا"، فأما الكذاب، فرأيناه، وأما المبير، فلا أخالك إلا

أياه. فنفذ سهم هذه المقالة في فؤاده، فأفحمه، وقام عنها. وأما الاعتصاب بعشيرة أولي قوة على إمضاء عزيمتهم، وحماية ذمارهم، فيحسب في دعائم الشرف إذا استنجد به أخو العشيرة في اقتضاء الحقوق، أو مكافحة الأيدي المتطاولة إليها. وفي الصحيح: "ما بعث الله نبياً إلا في مَنعَة من قومه". وقال هرقل في مسألته لأبي سفيان عن حال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف هو فيكم؟ فقال أبو سفيان: هو فينا ذو حسب. فقال هرقل: والرسلُ تبعث في أحساب قومها. قال ابن خلدون: ومعناه: أن تكون له عصابة وشوكة، تمنعه عن أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه. وقد يأخذ العرب قلة النفر في موضع الهجاء، ويدرجونها في مساق التعيير، كما قال شاعرهم: تعيّرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها: إن الكرام قليل ثم إن الفائدة في كثرة عدد القبيلة عائدةٌ إلى اتساع سطوتهم، وبسط رواق العز على من تشبّث بجوارهم، وإذا استتب هذا الغرض لنفر قليل، فلا يلحقهم غضاضة من قلة عددهم، لاسيما إذا قيسوا بقوم غمروا بسوادهم البلاد، وامتدت عروقهم في كل واد، ولكن خمدت غيرتهم، ولم تهب الأنفة على معاطسهم، فيداس عنق المستغيث بحرمهم وأبصارُهم شاخصة، وإلى هذا أومأ بقوله: وما ضرّنا أنا قليلٌ وجارنا ... عزيزٌ وجار الأكثرين ذليلُ * فضيلة العمل: العمل الفاضل: ما دعا إليه منزّل الشرائع كلَّ واحد بعينه؛ كالعبادات،

أو خاطب عليه الأمة؛ لتقوم به طائفة منها؛ كالتعليم، وحماية الحقوق. ولا يعد في محاسن الأعمال ما لا يطلع له في دلائل الإسلام على ما يشهد باستحسانه، وهذا القسم منه: ما صد عن سبيله، فيدخل الآخذ به في حزب الأراذل؛ كأكل أموال الناس بنحو الارتشاء، ومنه: ما خلى بينه وبين ما يختاره العبد لنفسه؛ كترويح الخاطر باجتلاء الأزهار الرائقة، والأنهار الدافقة؛ فإنه لا يخطو به إلى محمدة، كما أنه لا يجر عليه ملامة. ومن الأعمال ما يقع على أوضاع متعددة، فيطلق الشارع الإذن في إتيانه بدون أن يحده برسم خاص، ولكن تجري عادة قوم بملابسته على حالة مخصوصة، ويهجرون سائر أحواله، فيتجدد بهذه العادة تخصيص لذلك الإذن العام، فتفضل هذه الحالة المألوفة، ويلحق غير المألوف بما يكره التلبس به؛ فإن من يرفض الطور المعروف، ويستبدل به طوراً مهجوراً على سبيل الهزل أو التقليد أو الإغراب، استحمقه الناس، ورتعوا في عرضه بالوقيعة والاستهزاء، وهذا ما يورده الفقهاء في باب الشهادة، ويسمون الاحتفاظ به: مروعة، فلو نبذ الرجل عادة قومه لوجه ظاهر في المصلحة، لم يكن انصرافه هذا خارقاً لثوب مروءته. يتسابق الناس في الأعمال الطيبة بحسب تفاضلها في نفسها، وأفضلية العمل تعرف بنص الشارع، أو بعظم ثوابه؛ كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد، أو بمصاحبته لفضيلة أخرى؛ كفضل صلاة النبي على صلاة غيره؛ لمقارنتها للنبوءة، أو بشدة المشقة؛ كفضل الدعوة إلى الخير حال الغربة والانفراد على الدعوة إليه في الوطن، أو مع كثرة الأعوان، أو بعموم المنفعة؛ كفضل المنتصب للتعليم على المنقطع للعبادة. ويرتفع بعضها فوق بعض منزلة بقدر الإخلاص فيها، وما يقصده العامل عند مباشرتها.

قد يكون العمل في نفسه شريفاً، فتخالطه بحسب مجرى العادة أحوال سافلة، فيسري في الطباع انتقاصه تبعاً لما حف به من المكاره؛ كما عد طائفة قرض الشعر نقيصة، حيث وضعه كثير من الشعراء في قلب الحقائق، ولم يتحاشوا أن يلمزوا به فاضلاً، أو يداهنوا به ظالماً، حتى قال بعضهم: ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد وسلوك كثير من الشعراء ذلك المسلك الخاسر لا يجرّ المهانة إلى أصل الصناعة، فلو أخذ أحد على عهدته أن لا ينتحله إلا في الحكمة، أو الانتصار على ظالم، كان من أحسن المذاهب في الخير، وأحمدها غاية، ولقد أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير في هجاء قريش، وقال لحسان بن ثابت: "قل، وروح القدس معك". وحطّ ابن خلدون من شأن التجارة، قال: لاستلزامها المكايسة في البيع والشراء، وخلق المكايسة بعيد عن المروءة التي تتخلق بها الملوك والأشراف، ثم ذكر ما يعرض لها من الغش والخلابة، وتعاهد الإيمان الفاجرة. وأنت إذا أمعنت في كلامه، واعتبرت المكايسة ضرورية للتجارة، أخذت منه للتجارة حالين: أحدهما: أن يرتكب صاحبها الغش والخلابة، وتعاهد الإيمان الكاذبة، وهي بالنظر إلى هذه الحالة نقيصة تنزع عنه ثوب المروءة، وتنزل به عن مرتبة الملوك والأشراف، ولكن هذه الحالة غير داخلة في حقيقة التجارة، ولا هي من مقتضياتها، فكيف يسري نقصها إلى أصل هذه الحرفة، ويجعل سبباً لإخلالها بالمروءة اللائقة بالأشراف؟.

ثانيهما: أن يترفع التاجر عن هذه الحالة المزرية، ولا يبقى معه سوى خلق المكايسة، فإن عنى ابن خلدون: أنه يخل بالمروءة التي يحسن التحفظ عليها في نظر الشارع، فغير صحيح، بل هي معدودة من فروض الكفايات؛ كسائر الصنائع التي يتوقف عليها حياة الأمة، وقد كان أكابر الصحابة يتَّجرون. وإن أراد: مروءة الأشراف بحسب بعض العوائد، فمحتمل، ولكنا لا نعتد من حكم العادة بالشرف أو ما ينافيه، إلا بما قامت شواهد الشرع على صحة اعتباره. وإذا وثقنا بأن الأعمال الشريفة ما حسنت في نظر الإسلام، انفتح لنا في طريق العلم بمعنى الشرف سبيلان: أحدهما: أن العمل الفاضل ما ثبت حسنه بالدلائل المثبوتة في الكتاب والسنة، المأخوذة بإفهام المجتهدين على مقتضى وضع اللغة العربية وأساليب بلاغتها، فينهدم فيما بناه الزنادقة تعليم انطلى تمويهه على أعين بعض العامة، فاستزلهم في غواية، وهو أن هناك أحكاماً يتلقاها بعض الأخيار من تعليم باطني؛ ليعمل بها في نفسه، أو يخلعها إن شاء على أتباعه، فيبصرون رجلاً يقلب رسوم الشريعة، ويحيد عن منهجها الصريح، ويستمرون على اعتقاد كماله، بزعم: أن ما انتحله من الأوضاع المخالفة قد بلغ إليه بطريق غيب. وترى كثيراً منهم يحمل في اعتقاده أن الرجل إذا ارتقى الذروة القاصية في الصلاح، سقطت عنه تكاليف الشريعة؛ كأنهم لم يتعلموا أن رسوم الشرع من عبادات وغيرها هي الحافظة لأركان الشرف، فمن نبذها، فقد نزع عن نفسه ثوب الكمال الإنساني، وأصبح عارياً من كل كرامة.

ثانيهما: أن العمل الذي يأمر به الإسلام لا يحق لأحد أن يتركه ترفعاً، وبرى مباشرته له نقيصة تحط من جلالته. وترى بعض من ينتمي إلى العلم يعتقد الخير بما يصنعه طائفة من العامة في مظهر الطاعة، ويدافع عنهم صولة المنكرين بتحريف وتأويل، ولو قلت له: أدخل يدك في أيديهم، وضمَّ صوتك إلى أصواتهم، ونقّر على ما ينقرون، فإما أن يستفيق من غفوته، أو يعتذر بأن هذا يقبح بمثله عادة. والذي يقطع هذه المعذرة: أن صوت العادة أضعف صدى، وأحقرُ من أن يسمع في تقبيح ما يحسنه منزّل الشريعة، ويجعله وسيلة يبتغي بها الفوز بالمثوبة والزلفى عنده. * دلائل الشرف: يورد الواصفون لحال حياة الرجل شؤوناً تساعفه بها صروف الأقدار، ويقصدون بها: الدلالة على عظم مكانه في الفضيلة؛ مثل: صحبة العظماء؛ فقد جرت العادة أن من اتصل برجل خطير قاصداً الاستقاء من معارفه، أو الاقتداء بسيرته، لا يفوته أن يفيض عليه من تحقيقات علومه، أو يخلع عليه بردة من ملابس آدابه. ومن هذا: ولاية منصب عظيم؛ كالقضاء والإمارة، والوزارة؛ فإنه يجري في الظنون أن لا يستخلص لهذه المقامات إلا ذو كفاءة، وإنما يصح الاعتماد في شرف الرجل على مجرد الولاية، بدون نظر في سيرته، أو تتبع آثاره، إذا ثبت أن تقليده بها صدر من عارف بحقائق الرجال، ذي عدالة تصده أن يوسد الأمر إلى غير أهله. ويقولون في سياق المديح: "نشأ في مدينة كذا"، وأصل هذا: أن الرجل

إذا شبّ في مدينة انتشرت فيها الفضيلة، وزخرت فيها المعارف، يغلب على الظن أنه التقم ثدي التعليم ناشئاً، أو ترشح خلقه بالأدب منذ كان صبياً، فيكون علمه أو أدبه ثابت الدعائم، واسعَ المجال. ونسي أسارى الأوهام هذه الملاحظة، فجرى إلى معتقدهم أن الولادة بمدينة علم أو فضل تعد لصاحبها مزية، وإنْ كبر سنه مع الهمج، وولج بعقله في حلق الحمقى. يخيل لكثير من أبناء الحواضر والقبائل: أن ولادة الشخص على تراب بلادهم من أرجح النعوت التي توضع في وزنه، وتستدعي إيثاره بكل مكرمة. ولم يتيقظ هؤلاء إلى أن هذه الطبيعة بقية مما ترك الجاهلية الأولى، وقد جاء القرآن بمحو آثارها من النفوس المسلمة، وتعليمها الاعتبار برابطة الإيمان، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، والوطنية التي تتلاقى بآداب الإسلام: أن يؤكد الرجل الرابطة مع من يضمهم وإياه وطن أو بلد، سواء تمخضت بهم أمهاتهم على تربته، أو استهلوا تحت سماء غير سمائه، ثم طوحت بهم طوائح القدر إليه؛ إذ المراد من تأكيد هذه الرابطة: إنما هو تبادل المنافع، والتعاون على المصالح المشتركة، ومتى صلح الوارد على أرض لأن يكون عضواً عاملاً في مطالب الحياة الاجتماعية، وقف في نظر العقلاء من ساكنيها بجنب الناشئين على ظهرها، حتى إذا ما دعوا إلى مقام الترجيح بينه وبين غيره، دخلوا إليه من ناحية القوة على عمل المصالح، والقيامِ بأعبائها. يدرك الرؤساء العادلون هذه الحقيقة، وكذلك الفضلاء الذين يرتلون قول خالقهم في وصف الأنصار: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9]، فيترفعون بأنفسهم أن تستعبدها الطبائع غير

المنقحة، ولا يعدون فيما يخل به وزن الرجل: أن يتباطأ أبوه عن الرحلة إلى مدينتهم أو قبيلتهم حتى تضعه أمه خارجها، ويفوته أن يستهل على مستقر منها. إنما يكره العلماء السكنى بالقرى، وإن كانت وطناً، ويقصدون إلى الإقامة بالحواضر؛ لأن سوق العلم فيها نافقة، والحرص على التعلم بها أقوى، فيجد العالم من الراغبين في الاستفادة سبلاً مفتوحة، ودواعي باعثة على المطالعة والتحرير. كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام بدمشق، ثم خرج إلى الديار المصرية لغضب الأمير إسماعيل أبي الخيش عليه، حين أنكر عليه الشيخ إعطاء بلد "صيدا" وقلعة الشفيف إلى الإفرنج، فلما مر بالكرك، تلقاه صاحبها، وسأله الإقامة عنده، فقال له: بلدك صغير على علمي، ولما وصل إلى القاهرة، عرف سلطانها نجم الدين أيوب قيمته، فأكرم منزله. ويرجحون الرجل بكثرة أتباعه ومعتقدي أفضليته، وهذا وزن صحيح إن كان هؤلاء الأتباع من أولي الأحلام الراجحة، والألمعية المنقحة، أما إذا كانوا فيمن عميت عليهم سبل السيادة، ولا فارق عندهم بين المكارم وأضدادها، فلا ترجح بهم صحيفته، وإن كانوا أكثر من الحصى. وإذا اعترفوا بالفضل لرجلين، أحدهما حاضر لديهم، والآخر لم تقع عليه أعينهم، جرى في ظنهم أن الغائب أوسع فضلاً، ورفعوه في اعتبارهم مرتبة. ومن علل هذا: أن المقررين لأحوال ذوي الفضل محادثة أو كتابة، إنما يتعرضون - في الغالب - إلى محاسنهم، وقلّما يذكرون لهم سيئة من أعمالهم، فإذا تلقى الإنسان ترجمة فاضل، تصوره بصورة كامل خلصَ من

كل عيب؛ بخلاف اعتقاده بفاضل شهد شخصه، وراقب سيرته؛ فإنه يطلع له على أحوال لا يستحسنها بمقتضى ذوقه أو عادته، أو كانت مما يؤاخذ به الفضلاء، وشأنه أن يندمج في فضائلهم، وتغطي عليه محاسنهم. ومن هنا نشَأت المقالة السائرة: "إن الخبر عن الغائب فوق المشاهدة". قال أبو بكر بن العربي في "قانون التأويل": ورد علينا ذا نشمند (يعني: الغزالي)، فنزل برباط أبي سعيد بازاء المدرسة النظامية، فلقيناه لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، وتحققنا أن الذي نقل إلينا: "إن الخبر عن الغائب فوق المشاهدة" ليس على العموم. ومن هذا: حسنُ التركيب، وجمال المنظر، فلا يعد في نفس الفضيلة، وإنما هو كالعلامة الرامزة إلى حسن الخلق؛ فإنه - كما يقول الحكماء - دالّ على اعتدال المزاج، وإذا اعتدل المزاج، كان منشأ للأفعال الجميلة - غالباً -، ومن هنا قال الفقهاء بتقديم صبيح الوجه إلى الإمامة إذا ساوى غيره في شرائطها، وأوصافِ كمالها. فإن تخلف عن وسامة المحيا حريةُ الطبع، وشهامة الخاطر، انفصل عن محل الاعتبار في نظر الشارع وعادةِ الفضلاء. قال المتنبي: وما الحسنُ في وجه الفتى شرفٌ له ... إذا لم يكن في فعله والخلائقِ وإن خطر لك أن تثبت له المزية في نفسه، فلا يمكنك سوى أن تعده مزية في الإنسان من حيث إنه جسم، كما أن قوة حواسه الظاهرة كمال فيه بوصف كونه حيواناً. ووضع في الطبائع إجلال العالي في السن، وتفضيله على من هو أقصر أجلاً، أو أقرب عهداً بالحياة منه، والسر في هذا: أن الشيخ بامتداد حياته،

وطول تجاربه، صار مظنة لأن يكون أوسع علماً، وأرسخ في الأخلاق الفاضلة: ما استقامت قناة فكري إلا ... بعد أن قوّس المشيب قناتي ولهذا ترى الأشيب أقدرَ على مقاومة الهوى، وأصوبَ رمية في وجه السياسة - غالباً -؛ بخلاف الشباب؛ فإنه يكثر فيهم الجهل بالعواقب، ويأخذهم السرف في اتباع الزينة والملاهي بسهولة، وبهذا كان للإقبال على الطاعة في حالة الشبيبة مزية على القيام بها في حال مشيب؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث: "سبعة يظلهم الله في ظله": "وشاب نشأ في طاعة الله"، فإذا عاش الطاعن في السن وهو يجري مع شهواته بغير عِنان، ولم يستفد من تصاريف الزمان ملَكَة قياس الوقائع بأشباهها، فلا يستحق لطول عمره تجلَّة: إذا لم يكن مر السنين مترجماً ... عن الفضل في الإنسان سميته طفلا وما تنفع الأيام حين تعدها ... ولم يستفد فيهن علماً ولا فضلا وينبهون على شأن الرجل بالحديث عن رحلته إلى الأقطار والمدن الآهلة بالعلماء والفضلاء؛ فإن الناهض في الأسفار قلما يفوته أن يلاقي عالماً، أو فاضلاً يقتبس من لقائه مسائل أو أساليب، أو شمائل لا يتوفق لها في وطنه. ذكر أبو بكر بن العربي مسألة حررها بالمسجد الأقصى عن شيخه أبي الحسن بن مرزوق، وقال في آخر ما كتب: ويوم حصلت هذه المسألة، قلت: الحمد لله الذي أفادني هذه في الرحلة، وعلمت أني لو لم أحصل غيرها، لكفتني، ثم رحلت بعد ذلك إلى العراق، فوجدتها عند علمائهم مبثوثة. وقد خففت كثرةُ التآليف وقيامُ المطابع بنشرها شدة الحاجة إلى الرحلة من الجهة العلمية.

وجرى في قريض أبي الطيب المتنبي: أن من دلائل كمال الرجل: رمي الناقص له بسباب حين يقول: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل ووجه هذا: أن الوضيع لا تلتفت همته إلى من كان واقفاً في صفه من الأسافل، فتحدثه بأن يلغ في أعراضهم بالمذمة؛ لأنه غني في نشر مثالبهم بما تلبسوا به من الفضائح، حتى إذا ألقى نحوهم بسبة، رماها على شفته من غير حرص وشدةِ اهتمام بالتحدث بها، وإنما تتوجه همته بمجامعها إلى الرجل الكامل؛ حيث يقصد إنزاله في معتقد الجمهور إلى مدرجته، أو ما هو أسفل منها. وفي جملة ما يلوح إلى فضل الرجل، ويحوز له نصيباً من الوجاهة: اقترانه بذات مجد وسؤدد، كما قال الحسن - رضي الله عنه - لعبدالله بن الزبير: ولم تكن لجدك في الجاهلية مكرمة إلا تزوجه عمتي صفية بنت عبد المطلب، فبذخ بها على جميع العرب، وشرف بمكانها. وإنما استفاد الرجل من اقترانه بماجدةٍ التفاتَ الناس إليه باحترام؛ لأن أولياء المرأة الحسيبة يحترزون - غالباً - أن يعزموا عقدة نكاحها لغير ذي كفاءة، فتكون إجابتهم لخطبته، والرضا عن مصاهرته كالشهادة لفضله ورفعة حسبه، ولذلك كان العرب يطلقون على رغبة غير الماجد في تزوج الماجدة، استياداً، أي: طلباً للسيادة وتكلفاً بها: تبغي ابن كوز والسفاهة كاسمها ... ليستاد منا إن شتونا لياليا ورد في الإسلام ما يدل على اعتبار رابطة التزوج بذي فضل، إذا انضم إليها الاحتفاظ بواجبات الشريعة، تجد هذا في قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ

لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب: 32]، فيفهم من الآية: أن صلة التزوج بشريف إنما تقابل بوجه من التفضيل، إذا صحبها وصف التقوى. ويقول بعض المفسرين: إن الوقف في الآية عند قوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}، ثم يبدا بالشرط، ويكون جوابه ما بعده، وهو قوله: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب: 32]، فتفيد الآية حينئذ تفضيلهن على النساء بإطلاق، وهو أبلغ في مدحهن. وهذا الوجه غير مستقيم، والذي يخدش فيه: أن الوقف على ما قبل الشرط غير متعين، وأن الآية لم ترد في سياق المدح والثناء، وإنما جاءت في معرض الوعظ والإرشاد. ومن دلائل شرف الإنسان: اتصال نسبه بمن ثبت له ضرب من السيادة؛ فإن النسب الرفيع مظنة أن يحث النسيب على تنقيح سيرته، ويتحرى به قصد السبل في أدبه. ووجه هذا: أن من نبت في بيت فاضل، ونشأ في مهاد طاهر، من شأنه الاقتداء على أثر سلفه، ولا يفوته أن يقتبس من أنوار فضيلتهم، ولهذا يهجم على الإنسان العجب، ويتقوى في الإنكار، متى شاهد من سلالة الفاضل ما لا يقع منه موقع الرضا؛ كما قصه الله تعالى عن قوم مريم - عليها السلام -، في قولهم لها حين أنكروا عليها الولد من غير أب: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]. وما ورد في الإسلام من النصوص النازلة به عن مكان الاعتبار، فمسوقة إلى حال نسب لم يفد صاحبه أدباً، ولم يبعث في همته نية صالحة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارُهم في الجاهلية خيارُهم في الإسلام إذا فَقهوا". جاء في الشريعة ما يصرح بأن النسب لا يغني غناء العمل الصالح في

الإخلاص من عهدة التكاليف، ولا يرد العقوبة على المظالم في الآخرة، قال - صلى الله عليه وسلم - فيما روى مسلم: "من أبطا به عمله، لم يسرع به نسبه"، ولا متمسك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] على أن الأبناء الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، يلحقون بمراتب آبائهم بدون أن يذوقوا عقوبة ما صنعوا؛ فإنه يقول بعد ذلك: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، وهل يأخذ النسب الفاضل بقسط من الكرامة، بعد أن يخلص صاحبه من تبعات التكاليف العامة؟ قد يستدل لصحة هذا بآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ}؛ فإن أولئك الذرية - في رأي الجمهور - لم يتأهلوا بأعمالهم وحدها أن يرتقوا إلى منازل آبائهم الذين هم أحسن عملاً وأوسع براً، وإنما رفعوا إليها؛ تتميماً لنعمة الآباء، وتوفيراً لأنسهم. لعلك تستشرف إلى تقرير التوافق بين هذه الآية القاضية بأن الكرامة قد تزداد بطريق غير التقوى، وهو النسب، وبين قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] المصرّح بأن التفاضل في الكرامة عند الله إنما يكون على قدر التفاوت في التقوى، فنقول في وجه الجمع بينهما: إن الرجل تارة يتأهل لدرجة من الكرامة بكمالات نفسه، وتارة لا تبلغ به مساعيه إلى ذلك المقام، بحيث لو ينظر إليه منفرداً، لقصرت وجاهته أن يحل بساحته، ولكن يفسح له في الدخول فيه تبعاً لعظيم ينعم باله، ويبسط أنسه أن يراه نازلاً بجواره، فهذا التابع، وإن حشر في زمرة متبوعه، وألحق به في المنزلة، فإن إجلال المتبوع عند رب المنزل كمل، ورضاه عنه في نفسه أوفر. فإذا أريد من الكرامة في الآية الثانية: العناية والمحبة النفسية، لا الإنعامات الظاهرة،

اطرد أن يكون التفاضل فيها بحسب التفاوت في التقوى، ولا حرج إن كان قسط التابع في النعيم مساوياً لنصيب المتبوع الذي هو أزيدُ منه طاعة، وأحمد سعياً، أو يقال: إن الآية أفهمت مساواة الذرية لآبائهم في المكان، وهذا يستلزم الاتحاد في مقدار النعيم وكيفيته، أما إذا فهم الإلحاق في قوله: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] على معنى: المزاورة والمواصلة أحياناً، لا المجاورة بالسكنى، فترتفع شبهة التعارض من حيث نشأت. وأما عنايته تعالى بذي النسب الفاضل في هذه الحياة، فمن مظاهر قولى تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82]، فقوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} يلوح إلى أن من أسباب إقامة الجدار لهذين الغلامين رعاية صلاح أبيهما. ولم نظفر فيما ثبت من نصوص الشريعة بما يدل على شمول هذه العناية للنسيب الذي فسق عن أمر ربه، وأطلق عنانه في مسابقة الغاوين؛ كما يتوهم بعضهم في أحوال تتفق للنسيب الفاجر، فيلقبونها بالكرامة، ويزعمون أنها انجرّت له من العناية بأبيه الصالح، أو جده، ويسوقون في استشهادهم على ما يزعمون قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}، والحال أن الآية واردة في قصة غلامين موصوفين باليتم، واليتيم إنما يطلق حقيقة على الولد قبل أن يبلغ الحلم، ويكتب في صحيفته القلم، وكأنهم جهلوا أو تناسوا أن المعاصي والضلالات تزل به في مواقع الهون، وتتخبطه في مصارع الغضب، وكيف يلتقي الغضب والكرامة التي هي من مآثر الرضا في موضع؟. ألقى الله تعالى على من انتظم في سمط النسب النبوي عناية خاصة، فطهّرهم عن أخذ الزكاة، وأكد في مودتهم ومعاملتهم بالمبرة والاحترام،

لمكان صلتهم بأفضل الخليقة - عليه الصلاة والسلام -: قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، كما في الصحيح: "والذي نفسي بيده! لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليّ أن أصل من أهلي وقرابتي". ولكن الحقوق الشرعية منوطة بذممهم، ومصروفة إليهم بأجمعها كما صرفت إلى غيرهم على سواء، فيجازون بالمحامد عما فعلوا من خير، ويلاقون بالملامة والنكير عما وقعوا فيه من السوء. ومن الصحيح الذي روي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "يا فاطمة! يا صفية! اعملا؛ فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً". وفيما روى الشيخان والأربعة عنه - عليه الصلاة والسلام -: "وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". ويعزى إلى بعضهم القول؛ بأن أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعذبون على المعاصي، فيعتقد في كل مؤمن منهم مات وهو يعمل بالمعصية: أنه لا يلحق به الوعيد في الآخرة، واستدل على هذا بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]؛ فإنه علق تطهيرهم وذهاب الرجس عنهم بالإرادة التي لا تتبدل أحكامها، وهذا المذهب لا ينتظم مع قاعدة أهل السنّة من أن أمر العصاة موكول إلى المشيئة، ولا أراه إلا مختلفاً على من نسب إليه، ثم إن فهم الآية على ما قرره غير متعين، ولا هو ظاهر، فإن المراد من آل البيت: علي وفاطمة وابناهما الحسن والحسين - رضي الله عنهم - كما عزاه ابن عطية للجمهور، أو المراد: - أزواجه عليه السلام -، وهؤلاء الأربعة، ورجحه ابن عطية من عند نفسه، وعلى فرض أن يحمل آل البيت على الأشراف ما امتدت فروعهم في الإسلام، فإن الإرادة في الآية واردة بمعنى الأمر كما فسرها بذلك أبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته"، وهي تستلزم المحبة والرضا بالمراد، لا وجويه ووقوعه، ويكون سوقها في حقهم خاصة، مع أن الله يحب

ويرضى ذهاب الرجس عن غيرهم؛ للإيذان بأن حكم الآل حكم غيرهم في استقباح المعاصي منهم، وارادة تطهيرهم من آثامها؛ لئلا يتوهم أن قرابتهم من أكمل الخليقة تقوم مقام الأعمال الصالحة، وتجعلهم بحيث لا تستقبح منهم الفحشاء، ولا تكتب في صحائفهم الأوزار. * مظاهر التشريف: طبع البشر على أنهم إذا عرفوا رجلاً بنعت شرف، أكبروه في قلوبهم، وهابوه في نفوسهم، بمقدار ما يعتقدون فيه من الكمال. ويشاهد أثر ذلك الإجلال في بعض أحوالهم الظاهرة عند مواجهته. تنوعت الهيئات التي يقصد بها إجلال الرجل العظيم بحسب اختلاف عوائد الأمم وأذواقهم إلى أنواع شتى، لا داعي في هذه الورقات إلى استقرائها، وإنما نأتي على المنهج الذي يلائم النفوس الفاضلة، ويسعها أن تسلكه عن رضا وسماحة خاطر. يتجلى لك هذا المنهج، إذا أنست رجلاً سليم الفطرة، حاضر العقل، ولم يحدث له رجاء ولا رهبة من الرجل الأفضل، فإنه لا يصدر عنه من شعائر الاحترام عندما يلاقيه أكثر من أن يبسط يده إلى مصافحته، ويطلق لسانه بتحيته، أو بما يستحق من التمجيد، وإذا تواصلت بينهما المحادثة، سلك في خطابه سبيل الأدب الجميل، وتلقى مطالبه بحسن الطاعة. طالع التاريخ، تر الرجل من آحاد الرعايا يدخل في مجلس عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فلا يزيده على التحية الإسلامية، فيقنع الخليفة برسم هذه التحية، ويرد عليه بمثلها، أو أحسن منها، وما كان ابن الخطاب يجهل أن الرجل يحترمه بقلبه؛ لأنه لم يلثم راحته، ولم يلبس ثوب العبودية بين يديه، بل كان على خبرة

بأن هذا الذي اقتصر في تحيته على ما أمر الإسلام، يوقره في صدره، ويحافظ على طاعته في الغيب، كما يسارع إلى امتثال أمره عند الشهادة. يعلم هذا، ولا نحتاج إلى أن نسند علمه إلى نور إيمانه، وصفاء سريرته، ولكنه كان على بصيرة من سيرة نفسه العادلة، وتصرفاته المحكمة، وهي لا تثمر في قلوب الرعية إلا المهابة والتعظيم. يقول بعضهم: إن مثل هذا لائق أيام كانت الرعايا مؤدبة بهدى يطبعها على حسن الطاعة، وسهولة المأخذ، أما حين ينتزع منها ذلك الأدب، وتضل عن معرفة ما هو كمال في نظر الحكم، فلا غنى من حملها على التظاهر بهيئات الإجلال وشواهد الرهبة بأبلغ مظهر، وهذا القول ضرب من الأوهام، فإن الأمر الذي يبذر المهابة، ويلقي الإجلال في قلوب البشر أدباء أو متوحشين، إنما هو العدل في إجراء القوانين، من بعد إعداد القوة الكافية لتنفيذها على من يريد الخروج عن الامتثال. إنما ابتدعت هذه المظاهر المتطوحة إلى مهاوي الذلة في عصور الأمراء الذين كانوا يضعون نير الاضطهاد على الرقاب، وقد اعتادها كثير من الناس، وأنسوا بها في جملة آدابهم، حتى لم يبق لهم عند إتيانها عرق ينبض لسماجتها وقبح هيئاتها، وأصبحوا يحسبون المقتصد فيها من ملأ يتكبرون، أو قوم هم عن أساليب الكياسة غافلون. ترى الوجهاء الذين لم يبلغوا رشدهم في المعرفة، ولم يثقوا من أنفسهم بالعدالة، أعلق همة وأشد حرصاً على أن يحتفظ لهم الناس بهذه المظاهر البالغة، ولهذا لا تجدهم ينظرون إلى سليم الفطرة نيّر القريحة بانعطاف وإعجاب؛ لأنه يجري في معتقدهم أن من كان بتلك الصفة لا تسمح له

همته بأن يتمضمض عندهم بعبارات التملق والإطراء، وينعت نفسه باسم المملوك ومقبّل الأعتاب. وهذا على خلاف سنّة الوجيه الذي امتلأ معارف، وتمكن من فضيلة العدل، فإنه يكون في غنى بلذة الحكمة والاستقامة عن أن ينتصب الناس لرؤيته قائمين، أو يضعوا شفاههم على ظاهر راحته لاثمين. وأما تنبيه الرجل عن محاسن نفسه، وتحدثه بمزاياه، فإنما سوغه العلماء في مواضع ذكرها السيوطي في تقييده المسمى بـ "نزول الرحمة في التحدث بالنعمة"، قال: ومنها: إذا لم ينصف أو يوزع، أو كان بين قوم لا يعرفون مقامه، ويستدل لذلك بعمل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -؛ فإنه لما ولي الخلافة، خطب فقال: أما بعد: أيها الناس! فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم. فجرى على قاعدة التواضع، ثم بلغه عن بعض الناس كلام، فخطب وقال: ألست أحق الناس بها؟ ألست أول من أسلم؟ ألمست صاحب كذا؟ ألست صاحب كذا؟. أخرجه الترمذي، وابن حبان في "صحيحه"، ثم قال: ووقائع العلماء في تحدثهم بمثل هذا لا تحصى. ومن هذا: ما حكى القاضي تاج الدين السبكي عن والده الشيخ تقي الدين: أنه طلب من خازن كتب المدرسة الظاهرية أن يعيره من الخزانة كتاباً، فتمنع عليه، فغضب السبكي وقال: مثلي لا يحتاج إلى كتب هذه الخزانة، بل كتب هذه الخزانة محتاجة إلى مثلي يحررها. ومما ينتظم بهذا العدد: ما قصه الله تعالى في قول يوسف - عليه السلام - لمن لا يعرف صفة عدالته وعلمه: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]

10 - دراسات في العربية وتاريخها

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (10) «دِرَاسَاتٌ فِي العَربيَّةِ وَتَاريخِهَا» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة من العلوم التي برع فيها الإمام محمد الخضر حسين، وصال وجال في ميادينها الشاسعة، وحاز فيها قصب السبق بكل أمانة وجهد: علوم اللغة العربية وآدابها، شأنها شأن العلوم الإسلامية التي شهدت له بالسموّ والإبداع. ومن المسلَّم به: أن الذي يتلقى علومه من النبع الرائق الصافي؛ كمثل: الجامع الأعظم- جامع الزيتونة-؛ ويأخذ عن شيوخ أجلاّء اتخذوا من العلم عبادة، وتفرغوا له بالدرس والتدريس، يتخرج من قلعة راسخة بالإيمان والمعرفة، ينطلق في الحياة بزاد لا ينفد، ويعطي عطاءً كمن يغرف من بحر لا ساحل له. ومن أوائل المحاضرات التي تحدثت بها الأندية الأدبية، وتلقفها أهل الفكر في تونس: تلك التي تناول بها: "حياة اللغة العربية". ومن طلائع الكتب: "الخيال في الشعر العربي". وسار الإمام في سبيل الله معلّماً ومصلحاً ومجاهداً يحمل على كتفيه كافة العلوم، مع الحرص على أن يؤدي لكل علم حقّه. كان عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق (¬1)، وعضوًا مؤسساً جاداً ¬

_ (¬1) عقد المجمع العلمي العربي بدمشق جلسته الأولى في 30/ 7 / 1919 م، وعين الإمام محمد الخضر حسين عضواً عاملاً فيه طيلة الفترة التي قضاها في سورية. =

وفعالاً في مجمع فؤاد الأول للغة العربية - مجمع اللغة العربية بالقاهرة (¬1) -. ومن الرجوع إلى مجلدات المجمع تطالعنا أعماله الهامة، ويبرز لنا نشاطه الفذّ من خلال الجلسات والمؤتمرات التي انتدب إليها. وكتاب: "دراسات في العربية وتاريخها" أول كتاب جمعتُه وطبعته للإمام، وكان الفاتحة لسيل الكتب الأخرى التي جمعتها وأصدرتها بحول من الله تعالى وقوته. فله الحمد والشكر على ما أعطى. ثم قدّمتُ للمكتبة اللغوية العربية كتاب: "دراسات في اللغة" ضمَّ المواضيع التي اطلعت عليها بعد طبع الكتاب الأول. توّج الإمام محمد الخضر حسين دراساته اللغوية بالبحث الفريد الراخ: "القياس في اللغة العربية"، ونال به عضوية هيئة كبار العلماء في القاهرة. ونجد أنه في ميدان المنشورات العلمية الدورية التي أصدرها، أو ترأس تحريرها، بدءاً من مجلة: "السعادة العظمى"، ومجلة: "نور الإسلام"، و"الهداية الإسلامية"، و"لواء الاسلام" وجَّه اهتماماً خاصاً إلى لغة القرآن، وأفرد لها ¬

_ = ثم أصبح مراسلاً للمجمع عند انتقاله للسكنى نهائياً في القاهرة. (¬1) تأسس مجمع فؤاد الأول للغة العربية (مجمع اللغة العربية) بمرسوم أصدره الملك فؤاد في (14 شعبان 1351 هـ - 13 كانون الأول 1932 م). وصدر مرسوم بتعيين الإمام عضواً عاملاً مع آخرين في (16 جمادى الثانية 1352 هـ - 6 تشرين الأول 1933 م). وساهم الامام بكل جهد في أعمال المجمع حتى آخر حياته، وترأس لجنة اللهجات، وشارك في لجان: الآداب والفنون - المعجم الوسيط - الأعلام الجغرافية - دراسة معجم المستشرق (فيشر) المتعلق بالألفاظ القرآنية، وله العديد من البحوث المنشورة في مجلة المجمع.

أبواباً ثابتة، ودعا للكتابة فيها كبار رجال اللغة والأدب. وهذا يدل على الاهتمام الكبير الذي أولاه لعلوم العربية. إن في كتاب: "دراسات في العربية وتاريخها" صفحات من العطاء العلمي، وثمرات من الفكر المبدع للإمام محمد الخضر حسين. والحمد لله رب العالمين علي الرّضا الحسيني

القياس في اللغة العربية

القياس في اللغة العربية

القياس في اللغة العربية (¬1) يتضمن هذا الموضوع الأبحاث التالية: مقدمة في فضل اللغة العربية ومسايرتها للعلوم والمدنية - اللغة - أصل نشأة اللغة- تأثير الفكر في اللغة - تأثير اللغة في الفكر - هل يمكن اتحاد البشر في لغة؟ - اللغة العربية لا تموت - اللغة في عهد الجاهلية - تأثير الإسلام في اللغة - فضل اللغة العربية - الحاجة إلى مجمع لغوي - تمهيد في: هل تتوقف اللغة على السماع، أو أن واضع اللغة أبقى طريق القياس مفتوحاً؛ لإلحاق الكلم بأشباهها؟ - الحاجة إلى القياس في اللغة - أنول القياس، وما الذي نريد بحثه في هذه المقالات؟ - القياس الاصلي: ما يقاس عليه - القياس على الحديث الشريف - القياس على الشاذ - القياس على ما لا بد من تأويله بخلاف الظاهر - سبب اختلافهم في القياس - القياس في صيغ الكلم واشتقاقها: المصادر - فَعْلة- الإفعال - افتعل - باب المغالبة - اسم الفاعل والصفة المشبهة - اسم المفعول - فعل التعجب وأفعل التفضيل - اسم الآلة - مَفْعَلة - الاشتقاق من أسماء الأعيان- الاستقراء الذي قامت عليه أصول الاشتقاق- قياس التمثيل، قياس الشبه، وقياس العلة- أقسام علة القياس- ¬

_ (¬1) طبع البحث (القياس في اللغة العربية) الطبعة الأولى عام 1353. وعنيت بنشره "المطبعة السلفية ومكتبتها" بالقاهرة.

أقسام قياس العلة - شرط صحة قياس التمثيل - مباحث مشتركة بين القياس الأصلي والقياس التمثيلي - القياس في الاتصال - القياس في الترتيب - القياس في الفصل - القياس في الحذف - القياس في مواقع الإعراب - القياس في العوامل - القياس في شرط العمل - القياس في الأعلام - الكلمات غير القاموسية للأستاذ المغربي، وجواب هذا الاقتراح.

مقدمة الإمام محمد الخضر حسين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين الحمد لله الذي جعل العربية أشرف لسان، وأنزل كتابه المحكم في أساليبها الحسان. والصلاة والسلام على أفصح العرب لهجة، وأبلغهم حجة، وأقوم الدعاة إلى الحق محجَّة، وعلى آله الأمجاد، وصحبه الذين فتحوا البلاد، ونشروا لغة التنزيل في الأغوار والأنجاد، وحببوها إلى الأعجمين حتى استقامت ألسنتهم على النطق بالضاد. أمّا بعد: فكنت أيام دراستي لعلم العربية أمرّ على أحكام تختلف فيها آراء علمائه؛ فيقصرها بعضهم على السماع، ويراها آخرون من مواطن القياس، وقد يحكى الكاتبون المذهبين دون أن يذكروا الأصول التي قام عليها الاختلاف؛ فأرى التمسك بمثل هذه الأقوال من المتابعة التي لا ترتاح إليها النفس؛ ولا سيما حين أذكر أن كثيراً من أصحاب هذه الأقوال قد تلقوا اللغة وعلومها من كتب قد وضعنا أيدينا عليها، أو على أمثالها. فأخذت أوجه نظرى إلى الاصول العالية التي يراعونها في أحكام السماع والقياس؛ حتى ظفرت بقواعد وقفت على جانب منها في صريح كلامهم، وألممت بجانب آخر من طريق النظر في مجادلاتهم، وأساليب استدلالهم. ولما هاجرتُ إلى دمشق، وشرعت سنة 1335 في دراسة كتاب: "مغني

اللبيب" بمحضر طائفة من أذكياء طلاب العلم، كنت أرجع في تقرير المسائل المتصلة بالسماع والقياس الى تلك الأصول المقرَّرة، أو المستنبطة التي اقترح عليَّ يومئذ أولو الجد منهم جمع هذه الأصول المفرَّقة؛ ليكونوا على بينة منها ساعة المطالعة، فشكرت همتهم، واستخدمت القلم في تحرير مطلبهم، فألفت مقالات تشرح حقيقة القياس، وتفصل شروطه، وتدل على مواقعه وأحكامه. ثم عدت منذ عهد قريب إلى تلك المقالات، فرأيت جُمَلا تحتاج إلى تهذيب، وفصولاً تقول: هل من مزيد؟ فجردت القلم لتهذييها، وأضفت إلى تلك الفصول بعض ما يتسع به نطاقها، وتكبر به فائدتها، بل عقدت فصولاً أخرى لمسائل من أمهات علوم العربية يتناولها موضوع القياس والسماع. ولا أدعي أني أخذت بمجامع هذا الموضوع الأسمى، وبلغت في بحثه الأمد الأقصى؛ فإنه واسعُ المجال، مترامي الأطراف، يمتُّ إلى كلِّ باب من أبواب العربية بصلة، ويكاد ذكره يجري عند تحقيق كل مسألة؛ إنما هي أقوال لبعض أئمة العربية انتقيتها، وآراء خطرت على الفكر فتقبلتها، ولثقتي بن باعَك - أيها القارئ - في علوم العربية غير قصير، ونصيبَك من الإلمام بأبوابها ودرس مسائلها غيرُ يسير؛ لم أذهب في بسط القول وضرب الأمثلة مذهب من يُسرف في مقام الاقتصاد، ويَشغل سمعك بما يُشبه الحديث المعاد. والله المستعان على بلوغ المرام، والمستعانُ به من كبوة الفكر وفضول الكلام. محمّد الخضر حسين

فضل اللغة العربية، ومسايرتها للعلوم والمدنية

المدخل فضل اللغة العربية، ومسايرتها للعلوم والمدنية في الكائنات ما يدرَك بإحدى الحواس، فيولد في الذهن صورة شيء آخر غير محسوس بالفعل؛ كالدخان المشاهد على بُعد، يولد في أذهاننا صورة النار، والنار غير ظاهرة لأبصارنا، وكالاحمرار يبدو على الوجه فجأة، فيحضر في أذهاننا معنى الخجل، ولم يكن قبل ظهور هذا الاحمرار حاضراً، وكلفظ الأسد يحضر في أذهاننا صورة الحيوان المفترس، وهذا الحيوان غير حاضر عندما يطرق اللفظُ أسماعنا. ولا شيء يدل آخر بطبيعته حتى يكون مجردُ وجوده كافياً في الدلالة، وإنما توجد الدلالة بعد العلم بما بين الشيئين من رابطة؛ ولولا ملاحظة هذه الرابطة، لما اقترن شيئان في الذهن على أن هذا دالّ، وذاك مدلولٌ له. فالأوضاع البدنية؛ كتقطيب الوجه، تدل على بعض أحوال نفسية؛ كالغضب، وهذه الدلالة لا تتحقق إلا عند من عرف - بطريق التجربة مثلاً - أن تلك الأوضاع البدنية والأحوال النفسية يرتبطان في الوجود؛ وهذا هو الذي يمكنه أن يلاحظ هذا الارتباط، فتقترن تلك الأوضاع البدنية والأحوال النفسية في ذهنه، أولاهما بصفةِ دالة، وأخراهما بصفةِ مدلول عليها. وإذا قالوا: إن الدلالة احمرار الوجه على الخجل طبيعية، فعلى معنى أن احمرار الوجه يرتبط بالخجل بقانون طبعي، أما نفس الدلالة، فإنها

اللغة

لا تتحقق إلا بعد أن يكون الناظر قد علم أن احمرار الوجه ينشأ عن الخجل، وهذا العلم إنما يحصل من نحو التجربة أو التلقين. وعلى هذا النحو يجري حال الأمور التي لا يربطها بما تدل عليه قانون طبعي، وإنما هو العرف والاصطلاح، فإذا رأينا علماً على شاطئ البحر، عرفنا أن هناك سفينة. ومن البين أن لا رابطة بين العلم ووجود سفينة بالمرسى غير تلك الرابطة الذهنية الناشئة من اصطلاح الناس على أن يرفعوا على السفن أعلاماً. ومن هذا الوادي: دلالة الألفاظ على المعاني؛ فإن المعنى لا يحضر عند النطق باللفظ، أولا يحضر حضورًا تنشأ عنه فائدة إلا أن يسبقه العلم بأن هذا اللفظ قد وضع ليدل على هذا المعنى؛ وأن المتكلم به ممن يحذو في الكلام حذو هذا الوضع. * اللغة: اللغة - كما قال ابن جني -: أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. وهي مزية عرف بها الإنسان، ولم يعرف في البشر أمة ليس لها لسان تعبر به عن حاجاتها، وقد حاول بعض الباحثين أن يثبت من تركيب أدمغة أشخاص عاشوا في القرون الخالية أنهم كانوا محرومين من هذه المزية، فلم يستطع أن يقيم على ما يقوله دليلاً تام المقدمات صحيح الإنتاج؛ كما أن العلم لم يستطع أن يثبت لغير الإنسان من الحيوان لغة تخاطب. وفي "دائرة المعارف الإنكليزية" أن هذه المسألة لا تزال تحت البحث. * أصل نشأة اللغة: تصدى للبحث في أصل نشأة اللغات كثير من الفلاسفة والمتكلمين

تأثير الفكر في اللغة

واللغويين، وذهبوا في البحث مذاهب شتى: هذا يقول: مصدرها التوقيف من الله، وذلك يقول: مبدؤها الطبيعة، وآخر يقول: منشؤها الاصطلاح والتواطؤ. والقائلون: إن مبدأ اللغات التوقيف لا ينكرون أن تعدد اللغات ونموها من بعدُ كان بطريق الاصطلاح، وعلى حسب الحاجة، ورجح ابن حزم في كتاب "الإحكام" أن أصلها التوقيف من الله تعالى، ثم قال: ولا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها، بها علموا ماهية الأشياء وكيفياتها وحدودَها، ثم قال: ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم - عليه السلام - عليها أولاً. وليس في أدلة هذه المذاهب ما يجعل النفس في قرارة من علم لا يخالطه ريب، وقُصارى ما وصل إليه الباحثون اليوم: أن الناظر في اللغة متى توغل في أطوارها إلى أقصى ما يسعه التاريخ، يصل إلى شذوذ في تركيب الكلمات، أو تركيب الكلام، بحيث يعتقد أن هذه اللغة لم تبلغ حالتها الحاضرة إلا بعد أن تقلبت في أطوار مرت عليها أحقاباً، فمن الصعب على الفيلسوف أو اللغوي أو المؤرخ أن يحكم في أصل نشأة هذه اللغات حكماً فاصلًا، وإنما يستفيد من بحثه في اللغات التي بين يديه أنها تكون في أول أطوارها قليلة الكلمات، غير متنوعة الأساليب، ثم تغزر مادتها، وتتعدد أساليبها، على حسب ما يكون للناطقين بها من ثقافة أو حضارة. * تأثير الفكر في اللغة: للفكر أثر في اللغة عظيم، ولولا الفكر، لفقدت اللغة خواصها، ولم يكن لوجودها أية فائدة؛ فإن الفكر هو الذي يربط الألفاظ بمعانيها، فيعمد

تأثير اللغة في الفكر

إليها وهي أصوات فارغة؛ فيردها كالأصداف تحمل من درر المعاني ما يبهر العقل، أو كالأغصان تحمل من الثمار ما تشتهيه النفس. والفكر: هو الذي يتوسل به الإنسان إلى توسيع نطاق اللغة وتنظيمها، فيدخل فيها عند الحاجة كلمات جديدة، أو يبتاع فيها أساليب طريفة، ويضع لها قواعد تساعد الناس على تعلمها، وتحفظهم من الخطأ عند النطق بها. ومن شواهد تأثير الفكر على اللغة: أن اللغة لا يرتفع شأنها، وتظهر فصاحة ألفاظها وغزارة مادتها وحسن بيانها؛ إلا أن تلد أرضها رجالاً ذوي عقول نيرة وقرائح جيدة. * تأثير اللغة في الفكر: للفكر تأثير في اللغة كما أسلفنا بيانه، وهذا لا يمنع من أن يكون للغة تأثير في الفكر من بعض الوجوه. وقياس هذا: أن العلم يزيد الأخلاق تهذيباً، وللأخلاق المهذبة - كالصبر على طول البحث، والإنصاف في المحاورة - دخل في توسيع دائرة العلم، أو تحقيق ما يشكل من مباحثه. تؤثِّر اللغة في الفكر من جهة أن المعاني لا تتمايز، ولا تخرج في وضوح، إلا أن يشار إلى كل معنى بلفظ يخصه، فاللغة وسيلة الضاح المعاني الغامضة، وتنسيق المعاني المختلطة، والرجل الذي يريد أن يؤدي المعنى في صورة منتظمة، يفكر في اختيار الألفاظ والأساليب أكثر ممن لا يبالي أن تقع صور المعاني في ذهن مخاطبه مبهمة مختلطة. وتأثير اللغة في وضوح المعنى وتنظيمه في ذهن المخاطب أمر لا شبهة فيه، والذي يمارس التدريس أو التحرير، قد يحس في نفسه معاني مجملة أو مختلطة، فيأخذ في معالجتها بالبسط أو التنسيق، وإنما يستعين على بسطها

هل يمكن اتحاد البشر في لغة؟

أو تنسيقها بكلام نفسي، وليس هذا الكلام النفسي إلا صور ألفاظ لغوية تتسرب من قوة الحافظة إلى المفكرة، فللغة تأثير على الفكر من قبل أن يعبر عنه بالقلم أو اللسان. واللغة: تصور ما يخطر في الفكر من المعاني، وهي التي تجعل المعاني محفوظة باقية، وكذلك يقول أحد الفلاسفة: "الأفكار التي لا تودع في الألفاظ كالشرارات التي لا تبرق إلا لتموت". ولا تقتصر اللغة على نقل ما يجرى في أقوال الأجيال الماضية من المعانى الحيوية، أو الآراء العلمية أو الأدبية، بل تنقل إلينا طرق تفكيرهم؛ ومن الواضح أن الأقوام يختلفون في طرق التفكيرة وطرز تفكير كل قوم مبثوث في ألفاظهم، ومدلول عليه بأساليب مخاطباتهم. * هل يمكن اتحاد البشر في لغة؟ يقول الباحثون في اللغات: كانت اللغات في أول الأمر فقيرة مختلفة؛ إذ كان لكل جماعة صغيرة من البشر لسان خاص، وبكثرة اختلاط صنوف البشر، واشتراكهم في المنافع، أخذ بعض اللغات يقترب من بعض، بل أخذ بعضها يندمج في بعض، فقل عددها، واتسع نطاق بعضها. ثم رأى بعض علماء أوروبا مثل (ديكارت): أن تعدد اللغات أدى إلى صعوبة التفاهم بين الأفراد المختلفة الشعوب، وهذا مما يجعل سير المدنية بطيئًا، فارتأوا وضع لغة جديدة لتكون لسان البشر جميعاً، وقد سعى لإنفاذ هذا الرأي الطبيب البولوني: لودفيج زامنهوف ludwing zamenhof، فوضع اللسان المسمى: الاسبرانتو Esperanto. وقد اعتمد في تألفيه على ثمانية وعشرين حرفاً، ووضع له ست عشرة

اللغة العربية لا تموت

قاعدة، ومعظم كلماته من اللغة الرومانية والإنكليزية، وفي العالم جمعيات تدعو لهذا اللسان يقدرونها بنحو: 1776 جمعية، وفي ألمانيا وحدها من هذه الجمعيات 441 جمعية، مركزها الرئيسي في مدنية "لايبسيك"، ولجمعيات العالم كلها مركزان أساسيان، أحدهما في جنيف، والآخر في باريز. وفي أوربا وأمريكا والصين واليابان صحف تصدر بهذه اللغة، وفي "دائرة المعارف الالمانية" أن عدد الذين يتكلمون بها يقرب من مئة وثلاثين ألفاً. وإذا أمكن انتشار لسان من الألسنة حتى يعرفه جميع الأمم، زيادة على ما يعرفون من لغاتهم القومية، فمن الصعب جداً أن ينتشر بين الشعوب- على اختلاف مواطنها- لغة تستولي على ألسنتها، وتطمس على آثار لغتها؛ فإن الألسنة تابعة لأحوال التفكير والإحساس، وهل من سبيل إلى أن تتحد الأمم في تفكيرها وإحساسها؟. * اللغة العربية لا تموت: ليس من الهين أن توضع لغة تتلقاها كل الأمم بالقبول على معنى أن تهجر لغاتها، وتقيم هذه اللغة مكانها، واذا فرضنا أن شعوبًا غير عربية رضيت أن تتخلى عن لغاتها؛ فإن الشعوب الذين ينطقون باللغة العربية أحرصُ الناس على حياة لغتهم، فمن المحال أن يتبدلوا بها لغة أخرى، وإن تضافر على هذه اللغة أمم الأرض جميعاً. تأبى هذه الشعوب هجر اللغة العربية، وتحويل ألسنتها إلى لغة أخرى، تأبى ذلك؛ لأنها لغة القرآن، الذي هو معجزة الرسالة، ومطلع الهدأية، ولأنها تملك من فصاحة الكلم، وحكمة الأساليب، وغزارة المادة ما يجعل خطيبها أو شاعرها أو كاتبها المجلي في حلبة البيان، فلو زهدت هذه الشعوب الإسلامية

اللغة في عهد الجاهلية

في اللغة العربية، كانت قد فرَّطت في جنب الله، وأضاعت من يدها لساناً بلغ في الإبداع أقصى ما يمكن أن تبلغه لغات بني الإنسان. كتب "جول فرن" قصة خيالية (¬1) بناها على سياح يخترقون طبقات الكرة الأرضية حتى يصلوا أو يدنوا من وسطها، ولما أرادوا العود إلى ظاهر الأرض، بدا لهم أن يتركوا هنالك أثراً يدل على مبلغ رحلتهم، فنقشوا على الصخر كتابة باللغة العربية، ولما سئل (جول فرن) عن وجه اختياره للغة العربية، قال: إنها: لغة المستقبل، ولا شك أنه يموت غيرها، وتبقى حية حتى يرفع القرآن نفسه. * اللغة في عهد الجاهلية: كانت اللغة في عهد الجاهلية تعبر عن حاجات القوم، وما تجود به قرائحهم، أو يجري في مخيلاتهم من صور المعاني، فما كانوا ليحسوا نقصًا في لغتهم، وإنك لترى المذاهب التي كانوا يطلقون فيها أعنتهم؛ كالفخر والنسيب، فسيحة الأرجاء إلى أقصى ما يمكن أن يبلغه الناشئ في مثل بيئتهم، الآخذ من المعاني المحسوسة أو المعقولة مثل مأخذهم، ومن نظر في أشعارهم وخطبهم ومحاوراتهم، وجد من جودة تصرفهم في المعاني، وحسن سبكهم للألفاظ ما يدله على أنهم كانوا يرسلون الفكر والخيال، ويصوغون ما شاؤوا من المعاني، فيجدون في ألفاظ لغتهم وأساليبها ثروة تسعدهم على أن يقولوا فيبدعوا. وإليك مثلاً من إبداعهم في الفخر بالبسالة والثبات في حومة الوغى، قال ودّاك بن ثميل المازني يخاطب بني شيبان: ¬

_ (¬1) من مقال: "عليكم باللغة العربية" للأستاذ محمود بك سالم.

رويد بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غداً خيلي على سَفوَان تلاقوا جيادًا لا تحيد عن الوغى ... إذا ما غدت في المأزق المتدانى عليها الكماة الغر من آل مازنٍ ... ليوث طعان عندكل طعان تلاقوهم فتعرفوا كيف صبرهم ... على ما جنت فيهم يد الحدثان مقاديم وصَّالون في الروع خطوهم ... بكل رقيق الشفرتين يمان إذا استنُجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم بأيّ مكان هذه الأبيات إيذان بالحرب، افتتحها الشاعر بشيء من التهكم، فقال: "رويد بني شيبان بعض وعيدكم"، وإنما كان طلبه الكف عن بعض وعيدهم تهكماً؛ لأن هذا الطلب شأنه أن يصدر ممن يعتقد قدرتهم على تنفيذ كل ما يوعدون به، وبعد أن تظاهر بإكبارهم، والرهبة من وعيدهم على وجه التهكم، فاجأهم بإنذار بليغ هو: لقاؤهم فرسان قومه بالمكان المسمى "سفوان"، فقال: "تلاقوا غداً خيلي على سفوان". ثم وصف هذه الخيل بأنها متدربة على الحروب، غير هيابة من مضائقها، فقال: تلاقوا جياداً لا تحيد عن الوغى ... إذا ما غدت في المأزق المتداني وليست الخيل كافلة للنصر إلا أن تكون أعتتها في أكفّ رجال لا يلوون جباههم عن طعان، لذلك أردف هذا البيت بقوله: عليها الكماة الغُرّ من آل مازن ... ليوث طعان عند كل طعان وفي وصفهم بالغر إيماء إلى شاهد من شواهد قوة الجأش، وهو طلاقة الوجه، ووضاءته عند لقاء الأقران، وقال: "عند كل طعان"؛ ليدل على أن

تأثير الإسلام في اللغة

الشجاعة قد أشربت في نفوسهم، فلا تتأخر عنهم في موطن، ولا تغيب عنهم في حال، وعزز هذا البيت بقوله: تلاقوهم فتعرفوا كيف صبرهم ... على ما جنت فيهم يد الحدثان ليدل على أن خلق الصبر فيهم وثيق العرا، واسع المدى، وليسوا ممن يزفون إلى الحروب زفيف النعام، حتى إذا طال عليهم أمدها، وكثر ما لا قوه من مكارهها، ضجروا من صحبتها، ومالوا بالسيوف إلى أغمادها. وفي الناس أولو شجاعة، ولكن شجاعتهم لا تتجاوز بهم أن يبسطوا أيديهم على قدر ما تناله سيوفهم أو رماحهم، فقصد الشاعر إلى أن يدل على أن قومه ليسوا من هذا المصنف، فقال: إذا استنجِدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم بأي مكان فأخبر أنهم كالجند، متأهبون للخوض في غمار الحروب، ولا يزيدون على أن يسمعوا نداء من يستنجدهم، فيطيروا إلى ما يناديهم له، غير سائلين عن سبب الحرب، أحق هو أم باطل، ولا عن مكانها أقريب هو أم بعيد. * تأثير الإسلام في اللغة: طلع الإسلام على العرب وفي هدايته من المعاني ما لم يكونوا يعلمون، بل في هدايته ما لم تفِ اللغة يومئذ بالدلالة عليه، فعبر عن هذه المعاني بألفاظ ازدادت بها اللغة نماء. ومن الجلي أن القرآن الكريم والحديث النبوي قد سلكا في البلاغة مذاهب ينقطع دونها كل بليغ، ثم إن فتح الممالك الكبيرة؛ كبلاد الفرس والروم زاد مجال اللغة بسطة بما نقل إليها من المعاني العلمية أو المدنية، ففضْل الإسلام على اللغة العربية يظهر في غزارة مادتها، وبراعة أساليبها،

فضل اللغة العربية

واتساع مذاهب بيانها، وكثرة الأغراض التي يتسابق إليها فرسان الخطابة والكتابة. * فضل اللغة العربية: للغة العربية فضل من جهه اعتدال كلماتها؛ فإنا نجد أكثر ألفاظها قد وضع على ثلاثة أحرف، وأقل من الثلاثي ما وضع على أربعة أحرف، وأقل من الرباعي ما وضع على خمسة أحرف، وليس في اللغة كلمة ذات ستة أحرف أصلية، وقد جاءت ألفاظ قليلة جداً على حرف واحد، أو على حرفين. ولها فضل من جهة فصاحة مفرداتها، فليس في كلماتها الجارية في الاستعمال ما يثقل على اللسان، أو ينبو عنه السمع. وللعارف بحسن صياغة الكلام أن يصنع من مفرداتها المأنوسة الوضاءة قطعاً أو خطبًا أو قصائد تسترق الأسماع، وتسحر الألباب، ولعناية العرب بتهذيب الألفاظ زعم قوم أن العرب تعنى بالألفاظ، وتغفل المعاني، وهؤلاء هم الذين رد عليهم ابن جني في باب مستقل من كتاب "الخصائص"، ومما قال في هذا الباب: "فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسَّنوها، وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا غرويها وأرهفوها، فلا ترينَّ أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ، بل هي عندنا خدْمة منهم للمعاني، وتنويه وتشريف، ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه، وتزكيته". كانت اللغة الفارسية في الشرق هي التي يمكن - بما لها من فصاحة وحسن بيان - أن يوازَن بينها وبين اللغة العربية، وقد شهد بعض الأعاجم الذين عرفوا اللغتين بأن العربية أرقى مكانة، وألطف مسالك، قال ابن جني في "الخصائص": "إنا نسأل علماء العربية ممن أصله أعجمي، وقد تدرب

قبل استعرابه، عن حال اللغتين، فلا يجمع بينهما، بل لا يكاد يقبل السؤال عن ذلك؛ لبعده في نفسه، وتقدم لطف العربية في رأيه وحسه. سألت غير مرة أبا علي عن ذلك، فكان جوابه عنه نحواً مما حكيته". وقد استدلّ بعض علماء الأدب بما كتبه أرسطو في "الشعر" على أن الشعر العربي أرقى من الشعر اليوناني. قال حازم في كتاب "المناهج الأدبية" (¬1): "ولو وجد أرسطو في شعر اليونان ما يوجد في شعر العرب؛ من كثرة الحكم والأمثال، والاستدلالات، واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام لفظًا ومعنى، وتبحرهم في أصناف المعاني، وحسن تصرفهم في وضعها، ووضع الألفاظ بإزائها، وفي إحكام مبانيها واقتراناتها، وطلب التفاتاتهم وتمنياتهم، واستطراداتهم وحسن مآخذهم ومنازعهم، وتلاعبهم بالأقاويل المخيلة كيف شاؤوا؛ لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية". هذه شهادات صادرة ممن يعتقدون أن للغة العربية فضلاً من جهة أنها اللسان الذي نزل به القرآن الكريم. وإليك شهادات ممن لا يؤمنون بالقرآن، وإنما ينظرون إلى اللغة من ناحية حسن البيان. قال المستشرق أرنست رينان في كتابه "تاريخ اللغات السامية": "من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية، وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمة من الرحَّل. تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها، ¬

_ (¬1) توجد نسخة من هذا الكتاب بالمكتبة الصادقية في تونس.

ودقة معانيها، وحسن نظام مبانيها. وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم علمت، ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغير يذكر، حتى إنها لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة - لا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعلم شبيهًا لهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج، وبقيت حافظة لكيانها من كل شائبة". وقد ذكر محاسن العربية رجال يعرفون غيرها من اللغات الراقية، وشهدوا لها بأنها أقرب اللغات انطباقاً على النظم الطبعية. قال المطران يوسف داود الموصلي: "من خواصّ اللغة العربية وفضائها: أنها أقرب سائر لغات الدنيا إلى قواعد المنطق؛ بحيث إن عباراتها سلسلة طبيعية، يهون على الناطق صافي الفكر أن يعبر فيها عما يريده من دون تصنع وتكلف، باتباع ما يدله عليه القانون الطبيعي، وهذه الخاصية إن كانت اللغات السامية تشترك فيها مع العربية في وجه من الوجوه، فقلما نجدها في اللغات المسماة "الهندية الجرمانية"، ولا سيما الإفرنجية منها". لندع الحكم بين اللغة العربية وأي لسان أعجمي لمن يعرف العربية الفصحى، ويعرف ذلك اللسان الأعجمي، فهو الذي قد يصغي إليه الناس متى آنسوا فيه الإنصاف، ويتلقون حكمه بالقبول. والذي أقوله، وأنا على بينة مما أقول: إن أساليب اللغة العربية أقرب إلى النظم الطبعية من اللسان الألماني؛ فإن في اللسان الألماني ضروباً من التصرف يفقد بها الكلام ترتيبه الطبعي، وليس لهذه الضروب في العربية الفصحى من شبيه، وسنلمّ بشيء من أمثلة ذلك في بعض فصول هذا الكتاب.

الحاجة إلى مجمع لغوي

* الحاجة إلى مجمع لغوي: قد أريناك أن اللغة العربية بالغة من حسن البيان ما ليس بعده مرتقى، وكانت تجري مع العلوم والحضارة جنبًا لجنب، فلا يقف عالم أو خطيب أو شاعر، إلا وجد في غزارة مادتها داحكام أساليبها، ما يمكنه من إبراز الحقائق أو المتخيلات في برود ضافية محبَّرة. ثم أدركها نقص منذ حين، وأخذت تتباطأ في مسايرة العلوم والمدنية، حتى تقدمها كثير من اللغات النامية، وأصبحت هذه اللغات تجول في كثير من العلوم والفنون، وتعبر عن معان تقف دونها اللغة العربية صامتة. ولم تقع اللغة العربية في هذا التباطؤ لقلة مفرداتها، أو ضيق دائرة تصريفها، أو إبايتها نقل بعض كلماتها عن معانيها الأصلية إلى معان أخرى تناسبها، ولو كان لشيء من هذا دخل في تباطئها؛ لعذرنا أولئك الذين يحاولون صرف الألسنة عنها، ويدْعون إلى أن تأخذ كل جماعة بلغتها المعتلة المشوهة، ولعذرنا أولئك الذين يدعون إلى استعمال الألفاظ الأعجمية، وحشرها في منشآتنا وأشعارنا وخطبنا ومحاوراتنا، وإنما علة ذلك النقص: غفلةُ إلمعهودِ إليهم بالقيام على حياة اللغة، ومسايرتها للعلوم والفنون والمدنية. والوسيلة التي تنهض باللغة، وترفعها إلى مستوى اللغات الراقية، هي الوسيلة التي نهضت بتلك اللغات الحية، وجعلتها تسير مع العلم والحضارة كتفًا لكتف؛ أعني: تأليف مجمع لغوي ينظر فيما تجدد أو يتجدد من المعاني، ويضع لكل معنى لفظًا يناسبه، ولا عجب أن تكون اللغات الأجنبية الراقية قائمة بحاجات العلم والمدنية؛ وأن يكون باللغة العربية خصاصة من هذه الناحية؛ فإن أصحاب تلك اللغات قد سبقونا إلى عقد المجامع اللغوية منذ

أحقاب، فالمجمع اللغوي في ألمانيا تألف سنة 1617 م، والمجمع اللغوي في فرنسا تألف سنة 1734 م، ولم ننس أن كلمات كثيرة حدثت في اللغة العربية لهذا العصر، وأصبحت تجري على ألسنة أدبائنا، وتخطها أقلام كتابنا، وهي عربية المنبت، خفيفة الوقع على السمع، آخذة حظها من مناسبة الوضع، ولكن العلوم تتدفق تدفق السيل، ومقتضيات المدنية تتجدد تجدد النهار والليل، وكل من المعاني العلمية والمرافق الحيوية يحتاج إلى أسماء تلتئم مع سائر الألفاظ العربية التئام الدرر النقية في أسلاكها، وتلك الكلمات المشار إليها إنما هي من صنع أفراد قد تنساق إليهم من نفسها، فيقع عليها اختيارهم، وتصادف في الناس حاجة، فتتلقفها ألسنتهم، وهذه الطريقة لا تشفي غلة العلم، ولا تملأ للمدنية عينًا، وإنما يشفي غلة العلوم المتكاثرة، ويملأ عين المدنية الزاخرة تأليفُ مجمع لغوي يسير مع العلوم والمدنية، لا يتأخر عنها طرفة عين. ذكر ابن حزم في كتاب "الإِحكام" سنةً من سنن الكون في سقوط اللغة، فقال: "إن اللغة يسقط أكثرها ويبطل، بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في مسكنهم، أو تنقلهم عن ديارهم، واختلاطهم بغيرهم؛ فإنما يقيد لغةَ الأمة وعلومها وأخبارها قوةُ دولتها، ونشاط أهلها وفراغهم؛ وأما من تلفت دولتهم، وغلب عليهم عدوُّهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم، فمضمونٌ منهم موت الخاطر، وربما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم، وبُيود علومهم؛ هذا موجود بالمشاهدة، ومعلوم بالعقل والضرورة". وقد أصاب ابن حزم في حكمه على الأمة التي تقع تحت سلطان من

لا ينطق بلسانها؛ من أن لغتها تصير الى انحطاط أو ضياع، وهذه سنة لغات الأمم التي يجدها الأجنبي في جهالة، ويتمكن من أن يبقيها في جهالتها؛ أما الأمة المتيقظة لوسائل سلامتها وعزتها، فإنها تندفع في ابتغاء هذه الوسائل بكل ما تستطيع من حيلة، وتسلك له ما تهتدي إليه من سبيل؛ فلا تألو جهداً في الاحتفاظ بلغتها، والعمل لإعلاء شأنها، على الرغم من كل من يكيد لها، ويبري السهام ليرمي بها مقاتلها. وفي البلاد التي تنطق بالعربية شعور ساطع في نفوس شيوخها وشبابها؛ ومن أثره: هذه الغيرة التي تملأ ما بين جوانحهم، وتهزُّهم أفرادًا وجماعات إلى النظر في إصلاح ما اختل من أمورنا، وإعادة ما تقوض من مجدنا؛ فنحن على ثقة من أن اللغة العربية سترفع رايتها، وتفوق اللغات الراقية بغزارة مادتها، وفضل بلاغتها؛ وما ذلك من همم أبنائها وطموحهم إلى الحياة الماجدة ببعيد.

تمهيد

تمهيد لا يكون الكلام عريباً فصيحاً إلا إذا سلمت مفرداته، وصحت دلالتها؛ واستقام تألفيها. أما سلامة مفرداته، ففي النطق بحروفها على مقتضى الوضع من غير أن تغير بنقص أو زيادة، أو إبدال أو قلب في هيئة ترتيبها، أو في حال حركتها وسكونها. وأما صحة دلالتها، فباستعمالها على وجه مقبول في لسان العرب. وأما استقامة تألفيها، فبانطباقه على أسلوب نسج عليه العرب في مخاطباتهم، ولا تتحقق هذه المطابقة إلا برعاية أحكام التقديم والتأخير، والاتصال والانفصال، والحذف والذِّكر. وهل تتوقف في استعمال الكلم وتأليفها على معرفة وضعها الخاص، ونظمها الوارد؛ بحيث لا نستعملها حتى يثبت لدينا من طريق الرواية كيف نطق بها العرب، أو أنَّ واضع اللغة أبقى طريق القياس مفتوحاً، فيسوغ لنا أن نلحق الكلم بأشباهها في هيئة مبانيها، أو نسق تركيبها، ونسوّي بينهما في الأحكام إذا أعوزنا السماع. هذا موضع تشعبت فيه أنظار الباحثين في العربية؛ فبعد اتفاقهم على العمل بالقياس، وتضافر عباراتهم على أنه من مآخذ اللغةِ؛ يغلو بعضهم

الحاجة إلى القياس في اللغة

في التعلق به، ويجري فيه بغير عِنان، ولا يجد في نفسه حرجاً من أن يفقد الكلامُ صبغته العربية. ووقف آخرون عند حد يقرب من موقف الجامد على الرواية في أوضاع الكلم ووجوه تأليفها. والطريق الوسط بين هذين الطرفين، وهو ما يبقي على اللغة شعارها، ويبسط في نطاقها بمقدار ما يتسوَّغه الذوق العربي، وتقتضيه العلوم على اتساع دائرتها، والمدنية على اختلاف أطو اراها، وتجددِ مرافقها. ولا تجد عالماً أو علماء بلد اطَّردوا في هذه الجادة، ولم يحيدوا عنها، فكانت جميع أقوالهم في محل الاعتدال؛ بل ترى القول الحق والقياس الوسط يدور بين مذاهبهم، فيصيبه هذا تارة، ويصبيه مخالفهُ تارة أخرى، وذلك شأن العلوم التي يكتفى في تقرير قوانينها بالدلائل الظنية، إذا لم يتيسر إقامتها على قرارة اليقين. * الحاجة إلى القياس في اللغة: وضعت اللغة ليعبر بها الإنسان عما يبدو له من المآرب، ويتردد في نفسه من المعاني. ومن البين جلياً أن المعاني تبلغ في الكثرة أن تضيق عليها دائرة الحصر، وتنتهي دونها أرقام الحاسبين، فلم يكن من حكمة الواضع سوى أن وضع لجانب كبير من المعاني ألفاظاً عيَّنها؛ كالسماء، والمطر، والنبات، والعلم، والعقل، وتوسل للدلالة على يقينها بمقاييس قدَّرها. والكلم التي تصاغ على مثال هذه المقاييس معدودة في جملة ما هو عربي فصيح. ولولا هذه المقاييس، لضاقت اللغة على الناطق بها، فيقع في نقيصة

العي والفهاهة، ويُكثر من الإشارات التي تخرج به عن حسن السمت والرزانة، ويرتكب التشابيه محاولاً بها إفادة أصل المعنى، لا كما يستعملها اليوم حليةً للمنطق، ومظهراً من مظاهر البلاغة. ولو صح أن يضع الواضع لكل معنى لفظاً يختص به، لكان الحرج الذي تقع فيه اللغة أن تضيق المجلدات الضخمة عن تدوينها، ويتعذر على البشر حفظ ما يكفي للمحاورات على اختلاف فنونها، وتباين وجوهها. فالقياس طريق يسهل به القيام على اللغة، ووسيلة تمكِّن الإنسان من النطق بآلاف من الكلم والجمل دون أن تقرع سمعه من قبل، أو يحتاج في الوثوق من صحة عربيتها إلى مطالعة كتب اللغة، أو الدواوين الجامعة لمنثور العرب ومنظومها. وقد يخطر على بالك أن في اللغة العربية ألفاظاً مترادفات بالغات في الكثرة أن يكون للمعنى الواحد عشرات أو مئات من الأسماء (¬1)، وتودَّ لو صرف الواضع هذه المترادفات إلى جانب من المعاني التي تركها لحكم القياس. وجواب هذا: أن للمترادفات في بلاغة القول، ورصانة تأليف الكلم، وإقامة وزن الشعر، وتمكين القافية؛ فضلاً لا يغني غيرها فيه غَناءها، فهى من مفاخر اللغة، ودلائل سعة بيانها؛ فالمترادفات تسد وجوهًا من الحاجة غير الوجوه التي يسدها القياس، ولا ننسى أن الكثير من هذه المترادفات قد نشأ من تعدد اللغات، أو من ملاحظة اختلاف دقيق في الأحوال والصفات. ¬

_ (¬1) ذكر صاحب "القاموس"، في مادة (سيف): أن للسيف أسماء تنيف على ألف اسم، قال: وذكرتها في "الروض المسوف".

أنواع القياس وما الذي نريد بحثه في هذه المقالات؟

هذا وجه الحاجة إلى القياس في صيغ الكلم واشتقاقها، ولا يخفى عليك - بعد هذا - وجه الحاجة إلى فتح باب القياس في نظُم الكلام، وما يعرض للكلم من نحو التقديم والتأخير، والاتصال والانفصال، والإعراب والبناء، والحذف والذِّكر؛ فإن تباين الأغراض، وتشعب العلوم، وتفاوت عقول المخاطبين، واختلاف أذواقهم، مما يستدعي إطلاق العنان للمتكلمين يذهبون في البيان كل مذهب قيِّم، ويتعلقون منه بكل أسلوب مقبول، حتى يظهر فيهم الخطيب المصقع، والشاعر المفلق، والكاتب المبدع، والمناظر المفحِم، والمحاضر الغوَّاص على الدرر، والعلامة المُجلي للمعاني الغامضة في أجمل الصور. * أنواع القياس وما الذي نريد بحثه في هذه المقالات؟ تجري كلمة القياس عند البحث في معاني الألفاظ العربية وأحكامها، فترد على أربعة وجوه: أحدها: حمل العرب أنفسِهم لبعض الكلمات على أخرى، واعطاؤها حكمها لوجه يجمع بينهما، كما يقال: أُعرب الفعلُ المضارع؛ قياساً على الاسم؛ لمشابهته له في احتماله لمعان لا يتبين المراد منها إلا بالإعراب. وإلى هذا أشار الزمخشري في بعض مقاماته بقوله: "ضارعِ الأبرار بعمل التوَّاب الأوَّاب، فالفعل لمضارعته الاسمَ فاز بالإعراب". وكما يقال: دخلَتِ الفاء خبر الموصول في نحو قولهم: "من يأتيني، فله درهم"؛ قياساً للموصول على الشرط؛ لمشابهته إياه في إفادة العموم. وكما يقال: نَصبت "لا" النافية للجنس الاسم، ورفعت الخبر؛ قياساً على "إنَّ"؛ لمشابهتها إياها في التوكيد؛ فإن "لا" تأتي لتأكيد النفي، كما

تأتي "إنَّ" التوكيد الإثبات. والقياس بهذا المعنى واقع من العرب أنفسهم، ويذكره النحوي تنبيهاً على علة الحكم الثابت عنهم بالنقل الصحيح. وليس هذا الضرب من القياس داخلًا في موضوع هذه المقالات. ثانيها: أن تعمد إلى اسم وضع لمعنى يشتمل على وصف يدور معه الاسم وجوداً وعدماً، فتعدّي هذا الاسم إلى معنى آخر تحقق فيه ذلك الوصف، وتجعل هذا المعنى من مدلولات ذلك الاسم لغة، ومثال هذا: اسم الخمر عند من يراه موضوعاً للمعتصَر من العنب خاصة، وما وضع للمعتصر من العنب إلا لوصف هو مخامرته للعقل وستره، فإذا وجد عصير من غير العنب يشارك المعتصر من العنب في الشدة المطربة المخمرة للعقل؛ فإن من يقول بصحة هذا القياس يجعل هذا العصير من أفراد الخمر، ويسميه خمراً. تسمية حقيقية لغوية. وإن شئت مثالاً آخر، فانظر في اسم السارق عند من يقول: إنه موضوع لمن يأخذ مال الأحياء خفية، فإنك تجد من ينبش القبور لأخذ ما على الموتى من أكفان، قد شارك من يأخذ أموال الأحياء في وصف أخذ المال خفية، ومقتضى صحة هذا الضرب من القياس أن تجعل اسم السارق متناولاً للنباش على وجه الحقيقة اللغوية، وتكون هذه الحقيقة قد تقررت من طريق القياس، لا من طريق السماع. وهذا الضرب من القياس هو الذي ينظر إليه علماء أصول الفقه عند ما يتعرضون لمسالة "هل تثبت اللغة بالقياس؟ (¬1) ". ¬

_ (¬1) من يرى أن القياس في اللغة على هذا الوجه غير صحيح يرى أن الخمر في لسان =

ثالثها: إلحاق اللفظ بأمثاله في حكم ثبت لها باستقراء كلام العرب حتى انتظمت منه قاعدة عامة؛ كصيغ التصغير، والنسب، والجمع، وأصل هذا: أن الكلمات الواردة في كلام العرب على حالة خاصة، يستنبط منها علماء العربية قاعدة تخول المتكلم الحق في أن يقيس على تلك الكلمات الواردة، ما ينطق به من أمثالها. رابعها: إعطاء الكلم حكم ما ثبت لغيرها من الكلم المخالفة لها في نوعها، ولكن توجد بينهما مشابهة من بعض الوجوه؛ كما أجاز الجمهور ترخيم المركب المزجي؛ قياساً على الأسماء المنتهية بتاء التأنيث، وكما أجاز طائفة حذف الضمير المجرور العائد من الصلة إلى الموصول متى تعين حرف الجرة قياساً على حذف الضمير العائد من جملة الخبر إلى المبتدأ، فتقول: قضيتُ الليلة التي ولدتَ في سرور؛ أي: ولدت فيها، جاز لك أن تقول: هذا الكتاب الورقة تساوي درهماً؛ أي: الورقة منه بدرهم. وهذا النوع من القياس، والنوع الذي قبله هما موقع النظر ومجال البحث في هذه المقالات، واخترت للفرق بينهما التعبير عن الأول بالقياس الأصلي، وعن الثاني بقياس التمثيل. ¬

_ = العرب غير خاص بالمعتصر من العنب، بل يتناول المتخذ من تمر النخيل بمقتضى الوضع، فتكون حرمته ثابتة بنفس الآية {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائده: 90]، وإذا سلم اختصاص اسم الخمر في لسان العرب بالمعتصر من العنب، قال: حرمة المسكر من غير عصير العنب ثابتة بالقواعد الشرعية القطعية، والأحاديث الصحيحة النبوية؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام".

القياس الأصلي

* القياس الأصلي: (ما يقاس عليه): يجمع اللسان العربي تحت اسمه لغات شتى، ولكنها تختلف فيما بينها اختلافاً يسيرًا، ووجوه هذا الاختلاف مفصلة في كتب فقه اللغة وآدابها، ولا تكاد تخرج عن اختلاف الكلمات ببعض حروفها، أو حال من أحوالها؛ كالحركة والسكون، أو الإعراب والبناء، أو الفك والإدغام، أو التصحيح والتعليل، أو الإمالة والتفخيم، أو ترتيب الحروف، أو المد والقصر، أو الإتمام والنقص، أو الإعمال والإهمال، أو التذكير والتأنيث. وقد يكون الاختلاف في بعض الألفاظ من حيث وضعها في لغة لمعنى، ووضعها لمعنى آخر في لغة أخرى، ومن هنا كثرت الألفاظ المشتركة، أو من حيث استعمال لفظ في لغة لمعنى، واستعمال لفظ آخر في لغة غيرها لذلك المعنى، ومن هنا اتسع باب الترادف حتى صار للمعنى الواحد مئات من الأسماء، وقد تختلف هذه اللغات في بعض وجوه النظم؛ كتقديم عامل "كم" الخبرية عليها، فإنه يقدم في لغة، ولا يقدم في أخرى. تتفاوت هذه اللغات بالجودة وفصاحة اللهجة، وجميعها مما يصح القياس عليه. قال ابن جني في "الخصائص": "اللغات على اختلافها كلهّا حجة، والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ". وقال أبو حيان في "شرح التسهيل": "كل ما كان لغة لقبيلة صح القياس عليه". وأفضل ما يحتج به في تقرير أصول اللغة: القرآن الكريم؛ فإنه نزل

بلسان عربي مبين، ولا يمتري أحد في أنه بالغ في الفصاحة وحسن البيان الذروة التي ليس بعدها مرتقى، فنأخذ بالقياس على ما وردت عليه كلمه وآياته من أحكام لفظية، ولا فرق عندنا بين ما وافق الاستعمال الجاري فيما وصل إلينا من شعر العرب ومنثورهم، وما جاء على وجه انفرد به، ولا نتبع سبيل من يحيدون عن ظاهره، ويذهبون به مذهب التأويل؛ ليوافق آراءهم النحوية. قال الرازي في "تفسيره": "إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول، فجواز إثباتها بالقرآن العظيم أولى. وكثيراً ما نرى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول، فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم، فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلاً على صحته، فلأنْ يجعلوا ورود القرآن دليلاً على صحته كان أولى". وقال ابن حزم في كتاب "الفِصَل": "ولا عجب أعجب ممن إِن وجد لامرئ" القيس، أو لزهير، أو لجرير، أو الحطيئة، أو الطِّرِمَّاح، أو لأعرابي أسدي أو سُلمي أو تميمي، أو من سائر أبناء العرب لفظاً في شعر أو نثر، جعله في اللغة، وقطع به، ولم يعترض فيه، ثم إذا وجد لله تعالى خالقِ اللغات وأهلِها كلامًا، لم يلتفت إليه، ولا جعله حجة، وجعل يصرفه عن وجهه، ويحرفه عن موضعه، ويتحيل في إحالته عما أوقعه الله عليه". فمن الحق أن مكانة القرآن الكريم المتناهية في الفصاحة والبلاغة تقضي بالاحتجاج به في كل حال. ومن النحاة من ينتزع من المقدار الذي يقف عليه من كلام العرب حكماً لفظياً، ويتخذه مذهباً، ثم تعرض له آية على خلاف ذلك الحكم، فيأخذ في صرف الآية عن وجهها.

ومن أمثلة هذا: أنهم قرروا أنَّ "أن" المصدرية لا يجوز حذفها، وأن نحو: "تسمعَ بالمعَيدي خيرٌ من أن تراه" يُحفظ، ولا يقاس عليه. وقد جاء على نحو هذا المثَل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم: 24]، ومقتضى ارتفاع منزلة القرآن في الفصاحة، وأخذه بأحسن طرق البيان، أن يجري حذف "أن" المصدرية، كما ورد في الآية مجرى ما يصح القياس عليه، وقرر جماعة من النحاة: أنه لا يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمعمول المضاف، من نحو: ضربُ عمرًا زيدٍ، وقد ورد على نحو هذا المثال: قوله تعالى في قراءة ابن عامر: (قتل أولادَم شركائِهم)، فأنكر بعضهم القراءة، وذهب بها آخرون مذهب التأويل والتقدير. والحق أن نتلقى القراءة المتواترة بالقبول، ولا نحمل الآية مالا تطيقه بلاغتها من التعسف في التقدير، بل نبقيها على ظاهرها، ولا نسلم أن الفصل في مثل هذا مخالف للفصاحة؛ ويالأحرى بعد أن أورد له ابن جني في "الخصائص" شواهد متعددة، ولا أخال أحداً يعوّل في مثل هذا على ذوقه، فيقول: إن الذوق ينفر من صورة المعنى الذي يفصل فيه بين المضاف والمضاف إليه بأحد معمولات المضاف؛ فإن مثل هذا لا يرجع فيه إلى ملاءمة الأذواق الخاصة، بل مداره على ما يجري به الاستعمال، ويثبت في الرواية، فما نجده واردًا في الكلام الفصيح نعلم أنه لا يكدر من مشرب الفصاحة العربية، ولا يثلم من سور البلاغة فتيلًا. ومما يقرِّب لك أن حكم الفصل بين الكلم لا يرجع فيه إلى الذوق الخاص، وأنه عائد إلى ما يسمع من كلام المشهود لهم بالفصاحة في تلك اللغة: أن اللغات تختلف فيه اختلافاً كثيراً، ففي اللسان الألماني - مثلاً -

الحديث الشريف

يفصلون بين أداة التعريف والمعرف بجمل كثيرة، وربما كان الفعل مركباً من قطعتين، فيضعون القطعة الأولى في صدر الكلام، ويلقون الأخرى في نهايته، فيتفق أن يكون بين القطعتين كلمات فوق العشر، وتراهم يفصلون بين علامة الاستقبال والفعل بجمل متعددة، ولا شبهة أن ارتباط أداة التعريف بالمعرف، أو بعض أجزاء الكلمة ببعض، أو علامة استقبال الفعل بالفعل، لا يقلُّ في شدته عن ارتباط المضاف بالمضاف إليه. ولا ننسى أن للمصدر المضاف صلة بمعموله تشبه صلته بالمضاف إليه. حاول بعضهم الاعتذار عمن يقولون في الآية تأتي على وجه يخالف مذهبهم النحوي: هذا غير مقيس، أو موقوف على السماع، فقال: إن النحاة لما استقرؤوا كلام العرب، وجدوه على قسمين: قسم اشتهر استعماله، وكثرت نظائره، فجعلوه قياساً مطردًا، وقسم لم يظهر لهم فيه وجه القياس؛ لقلته وكثرة ما يخالفه، فوصفوه بالشذوذ، ووقفوه على السماع، لا لأنه غير فصيح، بل لأنهم علموا أن العرب لم تقصد بذلك القليل أن يقاس عليه. وإذا سلموا أن ما جاءت عليه الآية مما يخالف مذهبهم عربي فصيح، كان اعتذارهم بأن العرب لم تقصد لأن يقاس عليه، أوهى من بيت العنكبوت. وفي صحة القياس على ما ترد به الآيات الكريمة مخالفاً لما اشتهر في كلام العرب، زيادة في أساليب القول، وفتح طرق يزداد بها بيان اللغة سعة على سعته. * الحديث الشريف: جرى جمهور النحاة على عدم الاحتجاج بالحديث الشريف في تقرير الأحكام العربية، وخالفهم العلامة محمد بن مالك، فجرى على الاستشهاد به

في كثير من الأحكام التي خالف فيها الجمهور، وسبقه إلى مخالفة النحويين في هذا الشأن: أبو محمد بن حزم، فقال عقب الكلام الذي نقلناه عنه في الاحتجاج بالقرآن الكريم: "وإذا وَجد- يعني: الباحث في العربية- لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلامًا، فعَل به مثل ذلك؛ (أي: صرفَه عن وجهه، وحرَّفه عن موضعه)، وتالله! لقد كان محمد بن عبد الله قبل أن يكرمه الله بالنبوة، وأيام كان بمكة أعلمَ بلغة قومه وأفصح، فكيف بعد أن اختصه الله للنذارة، واجتباه للوساطة بينه وبين خلقه؟! ". وكلام ابن حزم هذا لم يصادف المفصِل في رد مذهب الجمهور؛ لأن الجمهور لم يمتنوا من الاستشهاد بالحديث النبوي في تقرير أحكام اللسان لاعتقادهم النقص في فصاحة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهذا لا يخطر على بال أحد ألمَّ بشيء من سيرته؛ فضلاً عن علماء عرفوا أنه كان أفصح من نطق بالضاد، وأوتي من جوامع الكلم وعلم ألسنة العرب ما لا يجاريه فيه أحد سبقه أو جاء من بعده، وإنما امتنعوا من ذلك؛ لكثرة ما وقع في الحديث الشريف من الرواية بالمعنى، وفي الرواة مولَّدون لم ينشؤوا على النطق بالعربية الصحيحة، والدليل على تصرف الرواة في ألفاظ الحديث - بعد احتفاظهم بمعانيها -: وجود أحاديث تختلف ألفاظها اختلافاً كثيراً، فترى الحديث الوارد في وقعة معينة قد اختلفت ألفاظه في الرواية، ومن هذه الألفاظ ما يكون جاريًا على المعروف في كلام العرب، ومنها ما يكون مخالفاً، وتصرف الرواة في الأحاديث هذا التصرف؛ لأنهم كانوا يوجهون همهم إلى ما أودِعَه الحديث من أحكام وآداب، فمتى عرف الراوي أن عبارته أحاطت بالمعنى وأخذته من جوانبه، أطلقها غير ملتزم الألفاظ التي تلقى فيها المعنى أولاً.

أما وجهة نظر ابن مالك، فهي أن الأصل رواية الحديث الشريف على نحو ما سمع، خصوصاً أن أهل العلم قد شددوا في ضبط ألفاظه، والتحري في نقله، والمجيزون لروايته بالمعنى معترفون بأنها خلاف الأولى، وبهذا الأصل تحصل غلبة الظن بأن الحديث مروي بلفظه، وهذا الظن كاف في تقرير الأحكام النحوية، على أن الخلاف في صحة نقل الحديث بالمعنى إنما يجري في غير ما لم يدوَّن في الكتب، أما ما دوّن في الكتب، فلا يجوز تبديل ألفاظه من غير نزل كما نص على ذلك ابن الصلاح، وتدوين الأحاديث وقع في الصدر الأول حين كان أولئك الرواة الذين يتصرفون في ألفاظ الحديث - على تقرير تصرفهم - ممن يوثق بهم، ويحتج في أحكام الألفاظ بعباراتهم. ومما لا ينبغي أن يكون موضع خلاف بين الفريقين أربعة أنواع من الأحاديث: أحدها: ما يروى بقصد الاستدلال على كمال فصاحته، وبلوغه أعلى ما يمكن لبشر أن يبلغه من حكمة البيان؛ فإن المعروف في رواة الحديث بهذا القصد أن يحافظوا على ألفاظ الحديث نفسها، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حمي الوطيس"؛ أي: اشتد الضراب في الحرب، وقوله: "مات حتف أنفه"؛ أي: مات على فراشه، وقوله: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". ثانيها: ما يروى للاستدلال على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخاطب كل قوم من العرب بلغتهم؛ ككتابه إلى همدان، وكلامه مع ذي المشعار الهمداني، وطهفة النهديّ، وغيرهما. ثالثها: ما يروى لبيان أقوال كان يتعبَّد بها، أو أمَر بالتعبد بها؛ كألفاظ

القنوت، والتحيات، وكثير من الأدعية التي يدعو بها في أوقات خاصة. رابعها: الأحاديث التي وردت من طرق متعددة، واتحدت ألفاظها، فاتحاد الألفاظ مع تعدد الطرق دليل على أن الرواة لم يتصرفوا في ألفاظها، فإن كان تعدد الطرق يبتدئ بمن رووه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالأمر واضح، فإن انفرد بروايته صحابي، وتعددت طرق روايته عن الصحابي، صح الاستشهاد به أيضاً؛ إذ تصرُّف الصحابي في الحديث - على تقدير تصرفه فيه - لا يمنع من الاستشهاد به؛ لأن ألفاظ الصحابة مما يحتج به في العربية. ومجمل القول: أن الأحاديث التي تتعدد طرقها، ويتحد لفظها، تصلح للاستشهاد متى كانت تلك الطرق المتعددة متصلة براو يحتج بعبارته في الأحكام اللغوية. ويعتمد في تقرير أحكام اللفظ على أشعار الجاهلية؛ كامرئ القيس، وزهير، والمخضرمين، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام؛ كحسان، ولبيد، والإسلاميين، وهم الذين نشؤوا في صدر الإسلام؛ كالفرزدق، وذي الرمة. وأما المحْدَثون، وهم المولَّدون، وتبتدئ طبقتهم ببشار بن برد، فلا يحتج بشيء من أشعارهم في أحكام اللسان؛ وكان بشار قد هجا الأخفش، فأورد الأخفش في كتبه شيئاً من شعره؛ ليكفَّ عنه (¬1)، وكذلك سيبويه استشهد بشيء من شعر بشار؛ تقرباً إليه؛ لأنه كان قد هجاه لتركه الاحتجاج بشعره (¬2)، واستشهد أبو علي الفارسي في كتاب "الإيضاح" ببيت أبي تمام: من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا ¬

_ (¬1) كتاب "الموشح" للمرزباني. (¬2) "خزانة الأدب" للبغدادي.

ولم يكن ذلك من شأنه؛ لأن عضد الدولة كان يحب هذا البيت، وينشده كثيراً (¬1). وذهب بعض علماء العربية إلى صحة الاستشهاد بكلام من يوثق به من المحدثين، وجنح إلى هذا المذهب: الزمخشري؛ فقد استشهد ببيت لأبي تمام في تفسيره، وقال: "وهو- وإن كان محدثًا لا يستشهد بشعره في اللغة- فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، ألا ترى إلى قول العلماء: الدليل عليه بيت الحماسة، فيقنعون بذلك؛ لوثوقهم بروايته وإتقانه"، ونحا هذا النحو العلامة الرضي، فقد استشهد بشعر أبي تمام في عدة مواضع من شرحه لـ: "كافية ابن الحاجب"، وجرى على هذا المذهب الشهاب الخفاجي، فقال في "شرح درة الغواص": "أجعل ما يقوله المتنبي بمنزلة ما يرويه". وضعف هذا المذهب من ناحية أن الرواية تعتمد على الضبط والعدالة، أما الثقة بصحة الكلام، أو فصاحته، فمدارها على من يتكلم بالعربية بمقتضى النشأة والفطرة، وكيف يحتج بأقوال هؤلاء المولدين، وقد وقعوا في أغلاط كثيرة لا يستطيع أحد تخريجها على وجه مقبول؟! فهذا أبو تمام يقول: لعذلته في دمنتين تقادما ... ممحوَّتين لزينب وسعاد والصو اب: "تقادمتا". وهذا المتنبي يقول: فإن يك بعض الناس سيفاً لدولةٍ ... ففي الناس بوقات لها وطبول ¬

_ (¬1) "تاريخ ابن خلكان".

والصواب في جمع بُوق: بُوَق، أو أبواق. ومن هنا يتبين لك أن استناد بعض المتأخرين في تصحيح بعض الكلم إلى استعمال أحد أهل العلم غير سديد، فمن الخطأ أن يُردَّ على صاحب "القاموس" في قوله: "والأنموذُج لحنٌ" بأن الزمخشري سمى كتاباً له بـ: "الأنموذج"، والنووي عبَّرَ به في "المنهاج"، فقال: "أنموذج المتماثل". وكم من إمام في العربية ينطق، أو يؤلف بعبارة تخالف مذهبه الصريح، أفلم يشترط ابن هشام في كتاب "المغني" لدخول هاء التنبيه على الضمير كون خبره اسم إشارة؟ ولم يحافظ على هذا الشرط، فقال في خطبة الكتاب نفسه: "وها أنا بائح". ووقع صاحب "القاموس" في هذه الهفوة بعينها، فشرط لاتصال هاء التنبيه بالضمير ما شرطه ابن هشام من الإخبار عنه باسم الإشارة، ولم يأخذ نفسه بهذا الشرط، فقال في خطبة "القاموس": "وها أنا أقول". ويؤكد لك عدم صحة الاحتجاج بما ينطق به علماء العربية: أن صاحب "القاموس" صرح بأن كلمة: (بعض) لا تدخلها اللام، وهو يعلم - كما نقل بعد هذا الحكم - أن سيبويه والأخفش قد استعملاها في كتابيهما. فالحقُّ أن لا حجة فيما يلفظ به رواة الشعر، أو علماء العربية، إلا أن تذكره على وجه الاستئناس، وأنت مالئ يدك بما هو حجة، أو منتظر لأن تظفر بالحجة. ولابن السيد البطليوسي وجهة أخرى في صحة الاحتجاج بشعر أبي الطيب المتنبي، هي: أن البيت الذي سكت عنه علماء اللغة الذين تناولوا شعره، ولم ينكروه عليه؛ يلحق بما يصلح للاستشهاد به من كلام العرب،

ذلك أنه أورد في الإستشهاد على صحة إضافة "أل" إلى الضمير: قول المتنبي: والله يُسعد كل يوم جده ... ويزيد من أعدائه في آله ثم قال: وأبو الطيب - وإن كان ممن لا يحتج به في اللغة -؛ فإن في بيته هذا حجة من جهة أخرى، وذلك أن الناس عُنوا بانتقاد شعره، وكان في عصره جماعة من اللغوفي والنحويين؛ كابن خالوية، وابن جني، وغيرهما، وما رأيت منهم أحداً أنكر عليه إضافة "أل" إلى المضمر؛ وكذلك جميع من تكلم في شعره من الكتاب والشعراء؛ كالواحدي، وابن عباد، والحاتمي، وابن وكيع، ولا أعلم لأحد منهم اعتراضاً على هذا البيت. وهذا الذي يقوله البطليوسي في شعر المتنبي الذي لم ينكره أولئك العلماء والكتاب لا يرفعه من مرتبة الاستئناس به إلى مرتبة أن يكون حجة عند علماء العربية الذين يجتهدون في تقرير أحكام اللسان. ويحتج بالبيت الذي لا يعرف قائله متى رواه عربي ينطق بالعربية بمقتضى السليقة، وكان العرب ينشد بعضهم شعره للآخر، فيرويه عنه كما سمعه، أو يتصرف فيه على مقتضى لغته، ولهذا تكثر الروايات في بعض الأبيات، ويكون كل منها صالحاً للاحتجاج، كما يحتج بالشعر الذي يرويه من يوثق به في اللغة، واشتهر بالضبط والإتقان، وان لم يعرف قائله، وقد تلقى علماء العربية شواهد كتاب سيبويه بالقبول، وفيها نحو خمسين شاهداً لم تعرف أسماء قائليها، فإنما يكون الرد وجيهًا، إذا روى الشعر من لم يكن عربيًا فصيحاً، ولم يشتهر بالضبط والإتقان فيما يسوقه من الشعر على أنه عربي فصيح.

القياس على الشاذ

* القياس على الشاذ: للحكم الذي ورد به السماع النادر أربعة أنواع: أحدها: أن يرد لفظ معين على وجه لم يرد السماع بخلافه، لا في اللفظ عينه، ولا فيما كان من نوعه، وسيبويه يكتفي بهذا اللفظ الواحد، ويتخذه أصلاً يقيس عليه كل ما كان من نوعه، ومثال هذا شَنَئِيّ في النسبة إلى شنوءة. فقد اكتفى بهذا الشاهد، وجعل وزن فَعِليّ قياساً في كل ما كان على صيغة فعولة، مع أنه لم يقع إليه من شواهده إلا هذه الكلمة المفردة. وذهب الأخفش بكلمة "شنئي" مذهب الشاذ الذي لا يقوم عليه قياس، وأخذ بالأصل الأول للنسب، وهو إبقاء الكلمة على حالها، فيقال في النسبة إلى نحو فَروقة: فَروقي، ويتأيد السماع الذي عول عليه سيبويه بقياس فَعولة على فعيلة؛ فإن قياس النسبة إلى فعيلة فَعَليّ، نحو: حنَيفة وصَحيفة وبَجيلة، فيقال في النسبة إليها: حَنَفي وصَحَفي وبَجَلي. ثانيها: أن يرد لفظ معين على وجه يخالف القياس والسماع، وهذا الوجه المخالف للقياس والسماع لا يقام له في نظر الجمهور وزن، ولا يجيزون لأحد النسج على مثاله؛ وقد حاد الأخفش عن هذا السبيل حين سمع قولهم: "هَدَاوَى" في جمع هدية، فجعله مقيسًا في كل ما كان لامه ياء، وهذه الكلمة شاذة عن السماع والقياس؛ إذ المسموع والموافق للقياس في مثل هذا بقاء الياء بحالها، فيقال في جمع هدية وعطية ومزية وبلية وتحية: هدايا وعطايا ومزايا وبلايا وتحايا. ومن هذا القبيل: أن القياس في اسم المفعول المأخوذ من الفعل الثلاثي المعتل العين بالواو وحذت أحد الواوين، فيقال في اسم المفعول من "رام":

مَرُوم، وورد في ألفاظ معدودة النطقُ بالواوين كليهما، فقال بعض العرب: ثوب مَصْوُون، ومِسْك مَدْوُوف (¬1)، وفَرس مَفْوود. ومثل هذه الكلمات الشاذة تحفظ عند الجمهور، ولا يصح لأحد أن يقيس عليها، وخالفهم في هذا المبرِّد، وألحقها بقبيل ما يقاس عليه. ثالثها: كلمات معدودة تأتي على وجه مخالف للقياس، ويكثر استعمالها على الوجه المخالف، حتى يقل أو يفقد استعمالها على وجه القياس؛ مثل: استحْوَذ واستصْوَب، فقد ورد على خلاف القاعدة القاضية بقلب واوهما ألفاً، كما يقال: استقام، واستعاذ، واستنار، ومثلُ عيَيْد؛ تصغير عيد، ومقتضى القياس: عُويد؛ لأنه مثل عاد يعود، والتصغير كالجمع يرد الأسماء إلى أصولها. ومن هذا النوع ما يرد على الوجه الموافق للقياس أيضاً؛ نحو: استحوذ، واستصوب، فقد ثبت عن العرب أنهم قالوا: استحاذ، واستصاب، فيجوز لك العمل فيه على الوجهين، بيد أن الوجه الأكثر في السماع هو الأرجح في الاستعمال؛ لأنه مالوف عند المخاطبين أكثر من الوجه الذي قلَّ في السماع، وإن كان أرجح من جهة القياس. أما الألفاظ التي لم ترد إلا على الوجه المخالف للقياس؛ نحو: عيَيْد، فيقتصر فيها على ما ورد عن العرب، إلا أن يبدو لك أن تتعلق بمذهب من يجيز إجراء الألفاظ على مقتضى القياس زيادة على الوجه الثابت من طريق السماع، وسنحدثك عن هذا في فصل: "القياس في صيغ الكلم واشتقاقها". ¬

_ (¬1) مبلول أو مسحوق، وسمع؛ مدوف على القياس.

رابعها: أن ترد ألفاظ معينة على ما يوافق القياس، ويخالف السماع، ومثال هذا: أن المعروف في خبر "عسى" كونه مضارعاً مقروناً بأن، أو مجرداً منها، وورد اسماً صريحاً في أمثلة معدودة، فقالوا في المثل: "عسى الغوير أبؤسا"، وقال الشاعر: "لا تعذلن إني عسيت صائما" والخلاصة: أن النحاة يختلفون في الوارد على وجه الشذوذ من حيث الاعتداد به في القياس، وفي "شرح الفصيح" لابن خالويه: "كان الأصمعي يقول أفصح اللغات، ويلغي ما سواها. وأبو زيد يجعل الشاذ والفصيح واحداً". وممن أنكر القياس على الشاذ: ابن السراج، فقال: "ولو اعترض بالشاذ على القياس المطرد، لبطل أكثر الصناعات والعلوم، فمتى سمعت حرفاً مخالفاً لا شك في خلافه لهذه الأصول، فاعلم أنه شذ، فإن كان سمع ممن ترضى عربيته، فلابد أن يكون قد حاول به مذهباً، أو نحا نحواً من الوجوه، أو استهواه أمر غلطه". والمعروف في علم النحو: أن الكوفيين يعتدون بما ورد من الكلمات الشاذة، ويعملون بالقياس عليها، والبصريون يمتنعون من القياس على الشاذ، ويذهبون في مثله إلى أن قائله نحا به نحواً خلاف ما يظهر منه، ويردونه إلى الأصل المعروف عندهم على طريق من التأويل، وبعض النحاة كابن مالك لا يكلف نفسه تأويل الشاذ، ولا يذهب فيه مذهب الكوفيين من إباحة القياس عليه، بل يصفه بالشذوذ، أو يجعله من قبيل ما دفعت إليه الضرورة. ومن أمثلة هذا أنهم ذكروا في شروط صيغة أفعل التفضيل: أن لا يكون

أصل الوصف على وزن أفعل؛ نحو: أبيض، وأسود، ولما جاءهم قول الشاعر: جارية في درعها الفضفاضِ ... أبيض من أخت بني إباض أنزله الكوفيون منزلة المقيس عليه، وتأوله البصريون على أنه من قولهم: "باض فلاناً": إذا غلبه، وفاقه في البياض، وأبقاه ابن مالك على ظاهره، وطرحه إلى المسموعات الشاذة. ومن الأقوال الشاذة ما لا تجد للتأويل فيه مساغاً، ومن أمثلته: أن البصريين يمنعون أن تجمع الصيغة التي لا تقبل تاء التأنيث جمع مذكر سالم؛ نحو: أسود، وأحمر، وأجازه الكوفيون تمسكاً بقول الشاعر: فما وجدت نساء بني تميم ... حلائلَ أسوديِنَ وأحمريِنَ ولا يتخلص البصريون من هذا الشاهد إلا بطرحه إلى النادر الذي لا يقوم عليه قياس. والتأويل إنما يقتحمه البصريون إذا كان اللفظ المخالف للمعروف في اللسان واردًا عن الفرد ونحوه ممن يتكلم باللغة المألوفة، وأما إذا ثبت أنه لغة قبيلة، فلا وجه لتأويله والخروج به عن ظاهره، ولهذا أبطل ابن هشام تأويل أبي علي الفارسي، وأبي فزار لقولهم: "ليس الطيب إلا المسكُ"- برفع المسك-؛ لأن أبا عمرو بن العلاء أثبت أن رفع خبر "ليس" الواقع بعد "إلا" لغة تميم. والحق - فيما يظهر - أن ما يجيء على غير القياس قسمان: أحدهما: أن يكون كلام العرب سائراً على سنة معروفة، ووضع عام، فتسمع الكلمة أو نحوها ممن لا يعرف بالفصاحة، وهي تخالف المعروف في مجاري الكلام، فهذه لا تصلح أن تكون موضعاً للقياس، بل الكلمة أو

الكلمتان لا تقومان في وجه القاعدة التي يجري عليها الفصحاء في عامة مخاطباتهم، ولو نقلت عن فصيح عربي؛ إذ يجوز أن تكون قد صدرت منه على وجه الغلط، أو القصد إلى تحريف اللغة؛ فإن ألسنة الفصحاء قد تقع في زلة الخطأ، وتطوع لهم متى قصدوا إلى تغيير الكلمة عن وصفها المعروف لهزل ونحوه. وقد جرت عادة النحاة أن يصفوا خروج العربي الفصيح عن الشذوذ، ولا يبالون أن يُسمّوا خروج المولَّد عنها بالخطأ واللحن، وقد يصفون خروج العربي عن الأصول بالغلط؛ بناء على أن العربي يستطيع أن يلحن إذا تعمد اللحن، كما أنه يستطيع أن يتكلم بغير لغته إذا تعمد ذلك. يذكر النحاة في شروط عمل "ما" عمل ليس في لغة أهل الحجاز: مراعاة الترتيب؛ بحيث لا يتقدم خبرها على اسمها، فورد قول الفرزدق: "إذ هم قريش وإذ ما مثلَهم أحدُ" فقدم خبر "ما" على اسمها، فقالوا: قول الفرزدق هذا شاذ، أو غلط؛ أي: لحن؛ لأن الفرزدق تميمي، وأراد أن يتكلم بلغة أهل الحجاز، ولم يدر أن من شرط نصبها للخبر الترتيب بين اسمها وخبرها؛ وقولهم: إن العرلى لا يقدر أن ينطق بغير لغته، محمول على تكلُّمِه وهو على حال سليقته، وأما عند تعمده النطق بالخطأ، أو بغير لغته، فذلك ميسور له من غير شبهة. ثانيهما: ما يرد في الكلام الفصيح، وتتحقق أنه لم يصدر عن خطأ أو تلاعب في أوضاع اللغة؛ مثل: آيات الكتاب الحكيم، والأحاديث التي قامت القرائن على أنها مروية بألفاظها العربية الصحيحة، وهذا إن كان كلمة خرجت عما نسميه قياساً، نحو: "معائش"- بالهمز - في إحدى القراءات

القياس على ما لابد من تأويله بخلاف الظاهر

الصحيحة؛ صح لنا أن نعطيها حكم استحوذَ واستصَوب، فنتكنم بها ثقة بأنها كلمة لا شبهة في فصاحتها، ولكنا نرجع بأمثالها إلى حكم القياس. وهو أن مَفاعِل لا تقلب الياء فيه همزًا متى كانت الياء عينًا في بناء مفرده، فإن كان راجعاً إلى النظم، خالفناهم في دعوى خروجه عن القياس، وصح لنا أن نعده فيما يقاس عليه، وننسج على منواله، إن أباه البصريون والكوفيون، فلا نبالي أن نقدم معمول المصدر على المصدر متى كان المعمول ظرفاً أو جاراً أو مجروراً، وإن منعه جماعة من النحاة، فلو قال أحد: رُزق فلان على خصمه الفوز، أو قال: يعجبني أمام السلطان تكلُمك بالحق؛ لقضينا لقوله بالفصاحة؛ إذ له أسوة بقوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]، وقوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102]، ولا نبالي تقديم معمول صلة "أل" على "أل"، متى كان المعمول ظرفاً، أو جاراً، أو مجروراً، وإن منعه كثير من النحاة، فلو قال أحد: إني لزيد من المحبين، لتلقينا قوله بالقبول؛ إذ لم يزد على أن اقتدى بقوله تعالى: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20]، وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11]. * القياس على ما لابد من تأويله بخلاف الظاهر: قد يرد في كلام العرب ضرب من الكلام على وجه شائع، ولا يستقيم المعنى إلا بتخريجه على خلاف ظاهره؛ ومقتضى مذهب فريق من علماء العربية المنعُ من القياس عليه، وإن كان وجه تأويله مما يسعه القياس. ومما يساق شاهداً على هذا: قولهم في المصدر الذي أكثر مجيئه حالاً: إنه مقصور على السماع، مع أنهم يؤولون المصدر باسم الفاعل، أو يقدرون معه مضافاً يصلح أن يكون حالاً؛ فيكون المراد من المصدر نحو "بغتة" في قولهم:

"طلع زيد بغتة": اسم الفاعل، أو محمل على أنه في التقدير: "ذا بغتة". وإطلاق المصدر مرادًا منه اسم الفاعل، وحذف المضاف، شائعان في الاستعمال بحيث لا يقفان عند حد السماع. وذهب بعضهم إلى أنه من باب ما يقاس عليه. وهذا المذهب- بالنظر إلى ما يحتمله التركيب من الوجوه المقبولة في القياس- مذهب وجيه، ويشد أزره: أن علماء البلاغة استحسنوا حمل المصدر على الذات عند قصد المبالغة؛ نحو: زيد عدلٌ، أو رِضاً، وهذه المبالغة قد تقصد عند إيراده مورد الحالية. ومن هذا الباب قولهم: إن اسم الزمان لا يخبر به عن اسم الذات. وجاؤوا إلى نحو قولهم: "الليلةُ الهلالُ"، وأولوه بتقدير اسم معنى، وهو في هذا الشاهد لفظ: "طلوع" مضافاً إلى الهلال. والحق - فيما يظهر - أن المنع من القياس في مثل هذا مقيد بما إذا لم يقصد المتكلم إلى تأويل قريب، ووجه مقيس، أما إذا نوى في الكلام اسم معنى يضيفه إلى المبتدأ، فيستقيم به المراد؛ فإنه يلتحق بسائر الجمل التي يحذف فيها المضاف لقرينة تشير إليه. ولنسقْ إليك بهذه المناسبة أمثلة مما عده بعض الأدباء خطأ، وهو محتمل لوجه من وجوه القياس الصحيح: أنكر الحريري قولهم: "هو قرابتي"، وليس هذا بمنكر من القول متى عرف المتكلم أن القرابة مصدر، وعمد إلى إطلاقه على الموصوف به على ضرب من المجاز أو التقدير. وحكم صاحب "المصباح" على قولهم: "أَذَّن العصرُ" بالخطأ، والصواب:

أَذَّن بالعصر، مع أن إسناد الفعل إلى المفعول به - ولو بوسيلة حرف الجر - غير عزيز، وإنما يحكم عليه بالخطأ إذا صدر ممن لا يدري وجوه تصاريف الكلام العربي بفطرته، أو بتلقين. ويشاكل هذا قول ابن قتيبة في "أدب الكاتب": "المَلَّة يذهب الناس إلى أنها الخبزة، فيقولون: أطعمنا ملة. وذلك غلط، إنما الملة موضع الخبزة"، قال ابن السيد في "شرحه": "وليس يمتنع عندي أن تسمى الخبزة ملة لأنها تطبخ في الملة كما يسمى الشيء باسم الشيء إذا كان منه بسبب. أو يخرج على حذف المضاف إلى خبز ملة". والصواب ما عرفته من أن التخطئة والتصويب في مثل كذا يرجع فيهما إلى حال المخاطب؛ إذ الذي يطلق الملة على نفس الرغيف، ويظهر لك من قرينة حاله أو صريح مقاله أنه أطلقها على اعتقاد أنها موضوعة للرغيف بوضع حقيقي، لا يخلص من سهام التخطئة، ولو احتملت عبارته وجهًا من وجوه القياس الصحيح. ومن هذا القبيل حكم ابن قتيبة أيضاً على قول العامة: "تجوع الحرة ولا تأكل ثدييها" بأنه خطأ، وقال: الصواب: "بثدييها"، فقال ابن السيد في "شرحه": أما ما يذهب إليه العامة من أن المعنى لا تأكل لحم ثدييها، فهو خطأ، ولكن يجوز على التأويل بحذف المضاف إلى أجر أو ثمن ثدييها، أو على المبالغة بجعل كلها لأجر ثدييها بمكان كل الثديين أنفسهما. والتفصيل الذي سبق آنفاً من النظر في مثل هذا إلى حال المتكلم يجري هنا لولا أن العبارة مَثَل، والأمثال لا تُغير، فمن قصد بها ضرب المثل، فقد أخطأ من جهة تحريف المثلُ، وإن كانت العبارة التي ينطق بها العامة في نفسها

سبب اختلافهم في القياس

صحيحة، متى صدرت ممن يلاحظ المضاف المحذوف، أو يقصد إلى ذلك الوجه من المبالغة. * سبب اختلافهم في القياس: من الجليِّ أن العرب لم يصرحوا بعمل القياس في شيء من أحوال الكلم، أو نظم الكلام، ولكن علماء اللسان يتتبعون موارد كلامهم، ويتعرفون أحواله، فإذا وجدوا في الكلم نفسها، أو في تاليفها حالآ جرى عليها العرب بحيث يصح أن تكون موضع قدوة، استنبطوا منها قاعدة ليقاس على تلك الألفاظ المسموعة أشباهها ونظائرها. فمن أسباب اختلافهم في صحة القياس: أن يتوفر لدى العالم من استقراء كلام العرب ما يكفي لتركيب القاعدة، فيجيز القياس، ولا يبلغ الآخر بتتبعه مقدار ما يؤخذ منه حكم كلي، فيقصر الأمر على السماع. وقد يستوي الفريقان، أو يتقاربان فيما عرفوه من الشواهد، ويكتفي به أحدهما في فتح باب القياس، وششقله الآخر، فلا يتخطى به حد السماع. وقد يختلفون في القياس نظراً إلى ما يقف لهم من الأحوال التي تعارض السماع، فالكوفيون - الذين يكتفون في بعض الأقيسة بالشاهد والشاهدين - قالوا: إن صيغ المبالغة: فَعَّال، ومِفْعال، وفَعُول، لا تعمل عمل اسم الفاعل، وأخذوا يؤؤلون الشواهد التي سردها البصريون؛ مثل: "أخو الحرب لبَّاساً إليها جلالَها"، واعتذروا عن عدم قبولها والتمسك بظاهرها بن اسم الفاعل إنما عمل لشبهه بالفعل المضارع في وزنه، والصيغ المذكورة لم تجئ على الوزن الذي قرب اسم الفاعل من أصله الذي هو المضارع. وأعطى البصريون لهذه الصيغ حكم اسم الفاعل في العمل؛ أخذًا بتلك الشواهد، وأبطلوا ما اعتذر

القياس في صيغ الكلم واشتقاقها

به الكوفيون، فقالوا في جوابهم: إن المبالغة التي قوي بها المعنى في تلك الأبنية، جبرت ما نقصها من الشبه في اللفظ، فنقابل مشابهة اسم الفاعل للمضارع في اللفظ بزيادة المعنى الذي اختصت به أبنية المبالغة، فتحصل الموازنة والتساوي في طلب العمل من غير تفاضل. ومن أسباب اختلافهم في القياس: اختلاف أنظارهم في الشاهد أو الشواهد التي تذكر ليقاس عليها: يختلفون في أمانة ناقلها، أو في صحة عربية قائلها، أو في وجوه فهمها وإعرابها. ومن لا يثق بأمانة الناقل للكلام، أو لا يسلم أن الكلام صادر ممن ينطق بالعربية الصحيحة، لا يقيم لذلك الكلام وزنًا، ولا يعول عليه في شيء من أحكام اللسان. وإذا تبادر إلى ذهنك في فهم الكلام وإعرابه وجه يفتح لك السبيل لأن تستنبط منه حكماً، وتقيم منه قاعدة، فقد يتبادر إلى ذهن غيرك في فهمه وإعرابه وجه يطابق أصلاً من الأصول الثابتة من قبل، فيخالفك في ذلك الحكم، ويراه خارجاً عن سنن القياس، ومبنيًا على غير أساس. * القياس في صيغ الكلم واشتقاقها: نلقي في هذا الفصل نظرة على القياس في المصادر والأفعال، واسم الفاعل واسم المفعول، وأفعل التفضيل والصفة المشبهة، وفعل التعجب والنسب والتصغير والجموع. ولا تحسبني متعرضاً لهذه الأبواب بتفصيل، واضعاً يدي على كل حكم من أحكامها، منبهًا على ما يصح أن يقاس عليه، وما ينبغى أن تقف به عند حد السماع، وإنما هي كلمات أتناول بها بعض مباحثها، وأريك أن الله تعالى لم يجعل علينا في اللغة العربية حرجاً.

- المصادر: للمصادر في بعض اللغات غير العربية علامة لفظية، أو علامتان لابد للمصدر أن يتصل بأحدهما؛ كعلامة: " en" في اللسان الألماني، وعلامة: "مك"، أو "مق" في اللسان التركي، أما الأصل الذي تلحقه العلامة في الألماني، أو إحدى العلامتين في التركي، فله صيغ تختلف في مقدار الحروف وأحوالها، فليس للمصادر في اللغة التركية صيغتان فقط، ولا في اللسان الألماني صيغة واحدة. أما المصادر في اللغة العربية، فإنها تختلف كذلك اختلافاً كثيراً، غير أنها لا تمتاز بعلامة أو علامات خاصة كما هو الشأن في اللغتين: التركية والألمانية. ومما تمتاز به العربية في هذا الباب: أن مصدر فعل الواحد قد يجيء في صِيغَ متعددة، وربما بلغت هذه الصيغ تسعًا؛ كمصدر تَمَّ، أو عشراً؛ كمصدر لقي. وقد بذل علماء العربية جهدهم في جمع معفرقها تحت مقاييس، وجاؤوا إلى هذه المقاييس من ناحية الماضي والمضارع، فقربوا مآخذها ما استطاعوا، وانقسمت المصادر بعد هذا ثلاثة أقسام: أحدها: ما لا شبهة في صحة القياس عليه، نحو: "فَعْلَلَة" مصدراً للفعل الرباعي المجرد؛ كدحرج، وعربد، ونحو: "إفعال" مصدراً للفعل الرباعي المزيد؛ ككرم، ونحو: "تفعيل" مصدراً للفعل المضعَّف؛ كعَّلم، ونحو: "مفاعلة" مصدراً للفعل الرباعي أيضاً؛ كخاصم، ونحو: "افتعال" مصدراً للفعل الخماسي؛ كارتقى؛ ونحو: "تفعُّل" مصدراً لما جاء على تفعَّل كتكَّلم.

ثانيها: ما لا يُختلف في قصره على السماع؛ لقلة ما ورد منه في الكلام؛ كالمصدر الوارد على "فِعّال"؛ نحو: كَذَبَ كِذَّابا، أو الوارد على فعّيلي؛ نحو: الحثيثي للمبالغة في التحاث. أو ما جاء على فَعَلى؛ نحو: جَمَزَى، وقد طعن الأخفش على بشار في قوله: والآن أقصرَ عن سُميَّة باطلي ... وأشار بالوَجَلى عليَّ مشير وقوله: على الغَزَلى مني السلام فربما ... لهوتُ بها في ظل مخضلَّةٍ زهر وقال: لم يسمع من الوجل والغزل فَعَلى، وإنما قاسهما بشار. وليس هذا مما يقاس، إنما يعمل فيه بالسماع. ثالثها: ما جرى الخلاف في جواز القياس عليه؛ كطائفة من مصادر الفعل الثلاثي، نحو: "فَعْل" مصدراً للفعل المتعدي؛ كشرب، وفهم، ونصر، ونحو "فعَل" مصدراً لفَعِلَ اللازم؛ كفرح، ونحو "فُعُول" مصدراً لفعَل اللازم؛ كقعد، وغدا. وسبب الخلاف في القياس: أن جمهور النحاة وجدوا لكل واحد من صيغ هذه المصادر أمثلة كثيرة تجري عليه بنظام، فذهبوا فيها مذهب القياس. ورأى آخرون أن أفعالاً كثيرة مما يتحقق فيه شرط تلك المقاييس قد وردت مصادرها في صيغ خارجة عن القياس، فصرفتهم كثرة انتقاض هذه المقاييس عن الاعتداد بها؛ وذهبوا إلى أن مصادر الأفعال الثلاثية إنما يرجع فيها إلى السماع. ثم إن الذين ذهبوا بها مذهب القياس فريقان: فريق يجعلها مقاييس لمصادر الأفعال التي لم تسمع لها مصادر، أما ما سمع له مصدر مخالف

للقياس، فلا يصاغ له مصدر على مقتضى القياس (¬1). وفريق آخر أفسح طريق القياس حتى للأفعال التي سمعت لها مصادر مخالفة له، فيكون للفعل الواحد مصدران: مصدر ثابت بطريق السماع، ومصدر ثابت بطريق القياس. ووجهة نظر الفريق الأول: أن القياس في اللغة أمر دعت إليه الحاجة، فيؤخذ به على مقدارها، والأفعال التي سمعت لها مصادر لا حاجة بها إلى القياس، قال أبو علي الفارسي: إن الغرض مما ندؤنه من هذه الدواوين إنما هو ليلحق من ليس من أهل اللغة باهلها، وشمتوي من ليس بفصيح ومن هو فصيح، فإذا ورد السماع بشيء، لم يبق غرض مطلوب، وعدل عن القياس إلى السماع (¬2). ووجهة نظر الفريق الثاني: أن الأفعال التي من شأن مصادرها أن تصاغ في أوزان خاصة، قد استحقت أن تكون لها مصادر على هذه الأوزان بحكم القياس، فورود مصد ر الفعل من طريق السماع على غير قياس، لا يسلب وصف العربية الصحيحة عن مصدره الذي يصاغ على مقتضى القياس. - فَعْلَة: إذا قصد من المصدر الثلاثي الوحدة، أُتي به على وزن فَعْلة، ولو لم يكن المصدر على وزن فَعْل، فعقول في المرة من الرمي: رَمية، ومن الجلوس: جَلسة، ومن الذهاب: ذَهبة، ومن الإتيان: أتية؛ أما ما زاد على الثلاثي، فبإلحاق التاء له وهو بحاله، فتقول: إكرامة، وارتقاعة، واستدراجة، تريد: ¬

_ (¬1) هذا مذهب سيبويه والأخفش. (¬2) ابن جني في تصريف أبي عثمان المازني.

واحدة من الإكرام والارتقاء والاستدراج، هذا هو القياس. ونقل أنهم قالوا: إتيانة ولقاءة، وهذا من الشاذ الذي لا يصح القياس عليه إلا أن يضطر إليه شاعر، فيرتكبه على قبح فيه. قال الليث: لا تقل: إتيانة واحدة إلا في اضطرار شعر قبيح؛ لأن المصادر كلها إذا جعلت واحدة، ردت إلى بناء "فَعْلة"، وذلك إذا كان الفعل منها على فَعَل، أو فَعِل (¬1). - الأفعال: إذا كان بين نوع من الأفعال ووزن من أوزان المصادر تلازم في جميع المواضع، أو في أغلب الأحوال؛ بحيث لا يتخلف أحدهما عن الآخر إلا في النادر الذي لا يمنع من تقرير القوانين العلمية، صح لك أن تستدل بأحدهما على الآخر، فلك أن تستدل بالفعل الوارد في وزن "استفعل" أو "يستفعل " - مثلاً - على أن صيغة مصدره "استفعال"، كما يصح لك أن تستدل بالمصدر الوارد في صيغة استفعال على أن الماضي استفعل، والمضارع يستفعل، دون أن تتوقف على السماع. فإن كان اللزوم من جانب الفعل وحده؛ كأن يكون لنوع من الأفعال وزن واحد من المصادر، نحو "فَعَل" المتعدي؛ كنصر، فوزن مصدره: فَعْل لا غير، ولكن وزن فَعْل لا يختص بمصدر فَعَل، بل يكون لمصدر فَعِل أيضاً؛ نحو: فهم، فلا تستطيع إذن أن تستدل بمصدر ورد في وزن فَعْل على فعله الماضي أو المضارع، إذ لا تدري كيف تنطق بالفعل، وهو محتمل لأن يكون ¬

_ (¬1) "لسان العرب" في مادة (أتي).

من باب نصَر، أو فهِم. وإذا قيل لك: هل تستدل بالمضارع على الماضي الثلاثي، أو بالماضي الثلاثي على المضارع؟ أمكنك أن تستبين الجواب مما كنا بصدد بيانه، فتنظر في وجه التلازم بين وزني الماضي والمضارع، فإن كان بين الوزنين - تلازم ولو على وجه الأغلبية الكافية لتقرير القواعد؛ مثل: التلازم الحاصل بين "فعِل" غير حلقي العين أو اللام، كعِلم وفهِم، ومضارعه-؛ فإن مضارعه لا يأتي إلا على وزن يفعَل، ويفعَل أيضاً متى كان غير حلقي العين أو اللام، لا يكون ماضيه إلا على وزن "فعِل"، فإذا سمعتهم ينطقون بمضارع النوع الذي وصفنا، ولم تسمعهم كيف نطقوِا بفعله الماضي، فلك أن تقيسه على أمثاله، وتصوغه على مثال: حذِر يحذَر. فإن كان اللزوم من ناحية واحدة؛ كان يكون من ناحية الماضي فقط؛ نحو: "فعُل" - بضم العين - فإن مضارعه لا يأتي إلا على وزن "يفعُل"- بضمها أيضاً-، صح لك الاستدلال بالماضي على المضارع؛ لأن المضارع في هذا الوزن لا يتخلف عن الماضي، ولا يصح لك الاستدلال بالمضارع على الماضي؛ لأن وزن يفعُل لا يختص بالماضي المضموم العين، بل يأتي مضارعاً لفعَل المفتوح العين؛ نحو: نصَر وكتَب. فإذا سمعتهم ينطقون بفعل ماض من باب فعُل، ولم تسمعهم ينطقون بمضارعه، فلك أن تقيسه على أمثاله، وتصوغه على مثال: يسهُل ويجزُل. وكذلك يكون الحكم في الأفعال الرباعية؛ نحو: أكرم، والخماسية؛ نحو: اصطفى، والسداسية؛ نحو: استقبل، فإن كلاً من فعلها الماضي وفعلها المضارع لا يأتي إلا على وجه واحد، فلك أن تستدل بأحدهما على الآخر،

فيغنيك الماضي عن سماع المضارع، والمضارع عن سماع الماضي. فإن كان الفعل الماضي من باب "فعَل" - بفتح العين- فهذا يأتي مضارعه في وزن يفعُل تارة، نحو نصَر ينصُر، ويأتي في وزن يفَعَل تارة أخرى نحو عدَل يعدِل، وأمثلة كل من هذين الوزنين كثيرة، ومقتضى اختلاف حال المضارع الآتي ماضيه من باب "فعَل" أن لا يكون الماضي دليلاً على المضارع، بل إذا ورد ماض من "فعَل"، توقفنا في صوغ مضارعه على السماع، ولكنا نرى بعض علماء العربية يصرح بأنه إذا لم يسمع لفعل جاء على وزن "فعَل" فعل مضارع؛ بحيث لم يدر كيف نطق به العرب، فللمتكلم الخيار في أن يصوغه مضموم العين، أو مكسورها، إلا أن يكون حلقي العين أو اللام، فيتعين الفتح. قال صاحب "المصباح" في خاتمة كتابه، وهو يتكلم على تصريف "فعَل" المفتوح العين: أما المضارع إن سمع فيه الضم أو الكسر فذاك، وإن لم يسمع في المضارع بناء، فإن شئت ضممت، وإن شئت كسرت، إلا الحلقي العين أو اللام. فالفتح للتخفيف، وإلحاقاً بالأغلب. وقال الرضي في "شرح الشافية" وهو يتكلم على مضارع فعَل أيضاً: "وتعدى بعض النحاة، وهو أبو زيد، وقال: كلاهما (الضم والكسر) قياس، وليس أحدهما أولى به من الآخر، إلا أنه ربما يكثر أحدهما في عادة ألفاظ الناس حتى يطرح الآخر، ويقبح استعماله، فإن عرف الاستعمال، فذاك، وإلا، استعملا معاً؛ وليس على المستعمل شيء (¬1) ". ونظر بعضهم إلى أن ¬

_ (¬1) هذا ما اختاره أبو حيان.

الأكثر في مضارع فعَل الكسر، فجعل الكسر هو القياس (¬1). ومن الصيغ المختلف في القياس عليها صيغة: "أفعلَ"؛ أعني: الفعل الثلاثي الذي تدخل عليه همزة النقل، فتعديه إلى مفعول واحد إن كان لازمًا؛ أو إلى مفعولين إن كان متعدياً إلى مفعول واحد، أو إلى ثلاثة مفاعيل إن كان متعدياً إلى مفعولين. رأى بعض علماء العربية أن باب أفعلَ كله سماعي؛ ولا يدخل شيء منه في دائرة القياس. وذهب آخرون إلى أن دخول الهمزة على اللازم ليتعدى إلى مفعول واحد، قياسي؛ نحو: جلس وأجلسته، فإن كان في أصله متعدياً إلى واحد، فدخول الهمزة عليه سماعي؛ نحو: لبس الثوب وألبسته إياه. وذهبت طائفة إلى أن دخولها على اللازم أو المتعدي إلى واحد مقبول في القياس، وزاد الأخفش أن جعل دخولها على المتعدي إلى اثنين ليتعدى إلى ثلاثة صحيح في القياس؛ وأعطى هذا الحكم لظن، وحسب، وخال، وزعم، وإن لم يرد به سماع. وسبب اختلافهم: أن من نظر إلى أفعال كثيرة تدور في كلامهم، ولم يدخلوا عليها همزة النقل؛ نحو: ظرف، وضرب، ومدح، فلم يقولوا: أظرفه، ولا أَضرب زيداً عمراً؛ أو أمدحه فلاناً، جعل ذلك دليلاً على أنهم لم يقصدوا لجعله قياساً مطرداً، فوقف بهذه الصيغة عند حد السماع. ومن نظر إلى أن استعمال همزة النقل لتعدية اللازم بالغ في الكثرة الكفاية لإجراء القياس، وأن كثرة دخولها على المتعدي لواحد دون ما يكفي ¬

_ (¬1) هذا مذهب الفراء.

للقياس، فرق بين النوعين، فجعل دخولها على اللازم مقيساً، ووقف دخولها على المتعدي إلى واحد على السماع. ومن نظر إلى أنها تدخل على اللازم والمتعدي إلى واحد بكثرة، وهذه الكثرة المتحققة في النوعين تكفي في نظره لإباحة القياس، سوَّى بينهما، وجعلهما في صحة القياس سواء. وأما إجازة الأخفش لدخولها على الفعل المتعدي لمفعولين، فالحاقا لظن وأخواتها، باعلم وأرى؛ لتشابههما في العمل والدلالة على معنى قائم بالقلب. ونظر السهيلي في معاني الأفعال، فقرر مذهباً رابعاً، وهو: أن كل فعل يكتسب منه الفاعل صفة في نفسه لم تكن فيه قبل الفعل، نحو: قام وقعد وجرى وفهم، صح لك أن تقول فيه: أفعلته، فإذا قلت: أقمته أو أقعدته أو أفهمته، فمعناه: جعلته على صفة القيام أو العقود أو الفهم، ولا تقول: أمدحته زيداً، أو أشتمته إياه، أو أذبحته الكبش؛ لأن العامل في هذه الأفعال لم يصر منها على هيئة لم يكن عليها، ولم يحصل له في ذاته وصف باق. ومن الصيغ المختلف في إجرائها مُجرى المقيس عليه: وزن "فعَّل"، وقد سمع هذا الوزن في الفعل اللازم ليتعدى إلى واحد، نحو حسَّن وقبَّح وجدَّد، وفي الفعل المتعدي إلى واحد يتعدي إلى مفعولين، نحو ملَّك وبلَّغ وركَّب، ولم يستعمل التضعيف في المتعدي إلى اثنين ليتعدى إلى ثلاثة. اختلف علماء العربية في هذه الصيغة، فرأى بعضهم أن تضعيف الفعل ورد بكثرة تقتضي فتح باب القياس، فتجاوز به حد السماع، وتدبر آخرون في كلام العرب، فوجدوهم يُعَدّون أفعالاً بهمزة النقل؛ نحو: أضحكه وأضجره وأظهره وأزهقه وأرشده وأتحفه، وأشبعه وأصلحه وأغضبه، ويعدّون أفعالاً

أخرى بالتضعيف، نحو شرَّفه وقدَّسه وحلَّمه ونظَّفَه، ويجمعون في أفعال بين همزة النقل والتضعيف، نحو ذكزَه وأذكره، وأضافه وضيَّفه، وشرَّده وأشرده، وطيبَّه وأطابه، وبعَّده وأبعده، وفسَّده وأفسده، وظمَّأه وأظماه، وجوَّعه وأجاعه، فقالوا: يؤخذ في كل فعل بما ورد عن العرب، وقد بين علماء اللغة في كل فعل الوجه الوارد في الاستعمال من تعديته بهمزه النقل، أو بالتضعيف، أو بالوجهين كليهما، فيجب اتباع ما سمع من العرب، فإن لم نعلم له وجهًا من هذين الوجهين في كلام العرب، لم يستقم لنا طريق القياس، وليس لك أن تقول: ظرَّفته؛ أي: جعلته ظريفًا كما ساغ لك أن تقول: حلَّمته: إذا جعلته حليماً، ولا ضخَمتُه؛ أي: جعلته ضخماً، كما ساغ لك أن تقول: فخَّمته؛ أي: عظمته. ومن الصيغ المحتملة لأن تكون موضع اختلاف علماء العربية في إعطائها حكم القياس: "انفعل" الآتي مطاوعاً لفَعل الثلاثي، فقد عده بعضهم من قبيل ما يسمع، ولا يقاس عليه (¬1). ونحا به آخرون نحو ما يقاس عليه، وقالوا: إن الباب في مطاوع فعَل هو: انفعل؛ نظراً إلى كثرة ما ورد من هذا التصرف في الكلام الفصيح. ومن نظر في كلام العرب، وجد لصيغة انفعل باباً هو مجيئه مطاوعاً لما كان على "فعَل" من الأفعال التي يتصور فيها العلاج والتأثيرة نحو: فتحته فانفتح، وقسته فانقاس، وليس من بابه الأفعال الرباعية؛ نحو: أخرجته فانخرج، وأصلحته فانصلح، ولا الأفعال الثلاثية التي لا علاج فيها ولا تأثيرة نحو: ¬

_ (¬1) "شرح الرضي للشافية".

فقدته، أو وجدته، أو علمته؛ لأن فقدته بمنزلة قولك: لم أجده، ووجدته بمنزلة قولك: حصل الشيء، وعلمته في معنى: حصلت صورته في نفسك، وليس في عدم وجودك للشيء، أو حصوله بين يديك: أو تقرر صورته في ذهنك علاج منك حتى يصح لك أن تأتي له بالمطاوع الذي هو بمعنى قبوله للفعل. فمن قصر "انفعل" على مطاوعة "فعَل" الذي يكون فيه علاج وتأثيرة نحو فصلته فانفصل، وخدعه فانخدع، وذهب إلى أن هذا هو بابه المقيس، فقد أصاب في الاجتهاد، وأما ما ورد من قولهم: أطلقته فانطلق، وأزعجته فانزعج، وأفردته فانفرد، فموقوف على السماع. ويذهب بعض فلاسفة العربية إلى أن ما جاء من هذا القبيل محمول على تقدير أن العرب نطقوا بالفعل الثلاثي، ثم استغنوا عنه بالفعل الرباعي، فنحو: انطلق جاء مطاوعاً لذلك الفعل الثلاثي المقدر، ولم يقصد إلى أن يكون مطاوعاً لأطلق، وهذا الوجه ظاهر فيما ورد فعله الثلاثي على قلة؛ نحو: انغلق، فقد ورد في استعمال قليل غلق بمعنى: أغلق. - افتعل: ومن الأفعال المزيدة: "افتعل"، وهذا الوزن يأتي مرادفاً لفعله الثلاثي اللازم، نحو رقي وارتقى. وعدا عليه واعتدى. أو مرادفاً للمتعدي نحو خلسه واختلسه، وحازه واحتازه، وصاده واصطاده. ولا خلاف في أن هذا النوع سماعي، فليس لك أن تجيء إلى فعل ثلاثي لازم أو متعد، وتصوغ منه فعلاً في وزن افتعل موافقاً له في لزومه أو تعديه. ومن أجل هذا حكموا على أن احتار بمعنى: حار، واقتطف بمعنى: قطف، خطأ، حيث لم يرد أن

العرب تكلموا به. وقد يأتي افتعل مطاوعاً لفعل ثلاثي متعد. نحو: جمع القوم فاجتمعوا، وشوى اللحم فاثشوى، وهز الشجرة فاهتزت، ورد الشيء فارتد، وزاده فازداد، ورفعه فارتفع، وستره فاستتر. أو مطاوعاً لفعل رباعي؛ نحو: أنهضته فانتهض. وهذا ما يحتمل أن يكون مقيساً، ولكن علماء العربية يقفون به عند حد السماع. فليس لك أن تقول: غرسته فاغترس، ولا مسحته فامتسح. كما لا يسوغ لك أن تقول: أفسدته فافتسد. ولا أجلسته فاجتلس. * باب المغالبة: ومن المحتمل لأن يكون موضع قياس: الفعل الماضي، والفعل المضارع يصاغان لمعنى المغالبة. فإن الماضي يرد في وزن فَعَل. والمضارع في وزن يفَعُل، فتقول: كارمني فكرَمته؛ أي: غلبته في الكرم. أو إن كارمني كرُمه؛ أي: أغلبه في الكرم. وهكذا تقول: خاصمني فخصمته وأخصُمُه. وفاخرني ففخَرته وأفخُره. وشاتمني فشتمته وأشتُمه. ولكن علماء العربية - مع اعترافهم بكثرة ما ورد منه - يقصرونه على السماع. قال سيبويه في "الكتاب": "ليس في كل شيء يكون هذا. ألا ترى أنك لا تقول نازعني فنزَعته أنزُعه. استغني عنه بغلبته"، وقال الرضي في "شرح الكافية": "ليس باب المغالبة قياساً بحيث يجوز لك نقل كل لفظ أردت إلى هذا الباب". وإذا لم يصل باب المبالغة أن يكون مقيساً. فمعنى هذا: أنك لا تأخذ من صيغة المفاعلة ماضيًا ومضارعًا لمعنى المغالبة على وجه القياس. أما

إذا ورد فعل ماض للمغالبة، فلك أن تتكلم بمضارعه في وزن يفعُل من غير توقف على سماع، وذلك معنى قول بعض علماء الصرف: ومن القياسي ضم عين للمضارع في باب المغالبة. - اسم الفاعل والصفة المشبهة: يتحد اسم الفاعل والصفة المشبهة بأن كلاً منهما يدل على ذات وصفة قائمة بها، ويفترقان في أن اسم الفاعل يدل على حدوث تلك الصفة، والصفة المشبهة تدل على ثبوتها، والأصل فيما يقصد منه الحدوث: أن يجيء على وزن فاعل، نحو: كاتب، وعالم، أو يفتتح بميم مضمومة، ويكسر ما قبل آخره، نحو مُكرِم، ومُخترِع، ومُستكشِف، ومن ثم اشتهر ما يجيء في هذه الأوزان باسم الفاعل، والأصل فيما يدل على الثبوت: أن يجيء على نحو فَعْل؛ كضَخْم، وفَعَل؛ كحَسَن، وفَعِل كفَرِح، وأفعلَ؛ كأبيض، وفَعيل؛ كجميل، وفَعْلان؛ كعَجْلان، ولذلك يدعى ما يجيء على هذه الأوزان بالصفة المشبهة. ومن سعة بيان اللغة العربية: أنك إذا أردت من الصفة المشبهة إفادة؛ حدوث الوصف، حولتها إلى صفة "فاعل"؛ فتقول في نحو: حسن وعفيف وشريف وميت وضيِّق ومريض وجواد: حاسن، وعافّ، وشارف، ومائت، وضائق، ومارض، وجائد، وتقول ذلك قياساً لا تتقيد فيه بسماع. وأوزان الصفة المشبهة عند علماء العربية سماعية، فليس لك أن تصوغ وصفاً على نحو فعْل، أو فعَل، أو فَعْلان، أو أفعل دون أن ينطق به العرب، ما عدا فعيلًا، فقد ذهب بعضهم إلى صحة القياس عليه؛ لكثرة ما ورد فيه من الألفاظ، وينبغي أن يقيد هذا المذهب بالمعاني التي يراد منها الثبوت،

ولم تدر كيف تكلم فيها العرب بالاسم الدال على الذات وصفتها، وبهذا المذهب تستوفي الأفعال صفاتها المشبهة، ولا يبقى فعل من غير أن يكون هناك اسم يدل على الوصف والذات التي قام بها. ويقوم مقام اسم الفاعل: فعَّال، ومِفْعال، وفَعول، وفَعيل، وفَعِل، وهذه المسماة عندهم بأمثلة المبالغة، نحو نطار، ومِنْحار، وصَبور، وعليم، وحَذِر. ومن علماء العربية من يذكرها، ويضرب لها الأمثال، ويبسط أو يوجز في الخلاف الجاري في إعمالها عمل اسم الفاعل، ولا يأتي على ناحية القياس في اشتقاقها بعبارة صريحة، ومنهم من يصرح بصحة القياس في بناء فعَّال (¬1) خاصة، ووجه هذا المذهب: أن صيغة فَعَّال وردت في مقدار من الكلم الفصيح يكفي لصحة القياس عليه. ومما يستعمل للمبالغة في وصف الفاعل فِعِّيل، نحو "خِرِّيج" بمعنى: أديب، وقد صاغ فيه العرب ألفاظاً كثيرة، ولكن علماء العربية يقفون به عند حد السماع، وهذا ابن دريد قد سرد له في "الجمهرة" أمثلة كثيرة، ثم قال: "اعلم أنه ليس لمولّد أن يبني فِعّيلًا إلا ما بنته العرب، وتكلمت به، ولو أجيز ذلك، لقلب أكثر الكلام، فلا تلتفت إلى ما جاء على فِعِّيل مما لم تسمعه إلا أن يجيء فيه شعر فصيح". - اسم المفعول: يصاغ اسم المفعول من الفعل الثلائي على وزن "مفعول"، فإن زاد الفعل ¬

_ (¬1) "روح الشروح على القصود".

على ثلاثة أحرف، جرى اسم المفعول مجرى اسم الفاعل، في افتتاحه بميم مضمومة، وخالفه بفتح آخره بدل الكسر. ذلك قياس اسم المفعول الذي لا يختلف في صحته، فماذا ورد فعل متصرف، فلك أن تصوغ منه اسم مفعول، لا تتوقف في ذلك على سماع، ونقل عن الرماني: أنه قال: "لا يقال من "نفعَ" اسم مفعول، والقياس يقتضيه"، ولم ير أبو حيان وجهاً للتقيد في مثل هذا بالسماع، فقال: إن نفع كضرب، فكما يقال في مفعول ضرب: مضروب، يقال في مفعول نفع: منفوع. واستعمل العرب للدلالة على المفعول صيغاً أخرى، ومن هذه الصيغ ما لا خلاف في قصره على السماع؛ لقلة ما ورد منه، وهي فِعْل كذِبْح، بمعنى: مذبوح، وفَعَل؛ كقنص بمعنى: مقنوص. وفعالة كلقاطة بمعنى: ملقوط. ومنها ما اختلفوا في جعله مقيساً، وهو فَعيل كقتيل بمعنى: مقتول، وصريع بمعنى: مصروع. فوقف به فريق عند حد السماع، وفتح طائفة باب القياس لنوع منه، وهو ما لم يجئ من فعله فعيل بمعنى فاعل، فيقال بمقتضى هذا المذهب: حسيد بمعنى محسود، وضهيد بمعنى مضهود؛ حيث لم يجئ فعيل فيه بمعنى فاعل، ولا يقال: نصير بمعنى منصور، أو عليم بمعنى معلوم، أو رحيم بمعنى مرحوم؛ لأنه جاء نصير بمعنى ناصر، وعليم بمعنى عالم، ورحيم بمعنى راحم. وسبب الخلاف: أن "فَعيلاً" ورد بمعنى مفعول في ألفاظ كثيرة، والفريق الأول يعترفون بهذه الكثرة؛ ولكنهم رأوها غير كافية لفتح باب القياس، ورأتها الطائفة الثانية كافية لصحة القياس، ولكن قصروا القياس على ما لم يجئ من فعله فَعيل بمعنى فاعل؛ حذراً من التباس وصف المفعول بوصف الفاعل،

وليس على من يأخذ بهذا المذهب حرج؛ فإنه قائم على مراعاة الكثرة التي هي شرط القياس، مع اجتناب اللبس الذي يختل به فهم الغرض من الكلام. - فعل التعجب وأفعل التفضيل: للتعجب صيغتان هما: ما أفعلَه، وأفعلْ به، وللتفضيل صيغة هي: أفعلُ، وهذه الصيغ مطردة في كل فعل استوفى الشروط المعتد بها عند علماء العريية. ومن الشروط المختلف فيها: اختصاص هذه الصيغ بالأفعال الثلاثية، تمسك الجمهور بهذا الشرط، ولم يجيزوا اشتقاق فعل التعجب، ولا أفعل التفضيل من الأفعال الرباعية فما فوقها، ووردت ألفاظ عن العرب أخذوها مما فوق الثلاثي، فحملها الجمهور على الشذوذ، ووقفوا بها حد السماع، ووجهة نظر الجمهور: أن صيغ التعجب والتفضيل لا تحتمل أكثر من ثلاثة أحرف مزادة عليها الهمزة التي هي أول ما تمتاز به الصيغة، فإن كانت حروف ما زاد على الثلاثي كلها أصول، نحو عَرْبد، لزم متى اشتق منه التعجب أو التفضيل إسقاطُ حرف أصلي من بناء الكلمة، وفي ذلك خلل لا داعي إلى ارتكابه. وهناك طرق أخرى للدلالة على التعجب أو التفضيل؛ نحو: ما أشد عربدته، أو: هو أشد عربدة، وإن كانت حروف ما زاد على الثلاثي مزيدة؛ نحو: انفعل، أو افتعل، أو استفعل، فهذه الأحرف يؤتي بها في الفعل لمعان، ومتى حذفت هذه الحروف من صيغ التعجب أو العفضيل، ضاعت تلك المعاني المقصود إفادتها للمخاطبين. وخالف الجمهورَ في هذا الشرط ثلاثُ طوائف: 1 - طائفة تجيز أخذ التعجب والتفضيل من (أفعل) الذي تكون همزته في أصل وضعه؛ نحو: أظلم الليل، دون ما تكون همزته للنقل؛ نحو:

أجلس، ووجهه: أن الهمزة في نحو أظلم لم تدل على معنى خاص، فلا ينقص بحذفها شيء من المعنى المراد من أصل الفعل. 2 - طائفة تجيز أخذهما من "أفعل"، لا فرق بين ما تكون همزته في أصل وضعه، وما تأتي همزته لتعديته إلى مفعول لا يتعدى إليه من قبل، واعتمد هذا المذهبُ على أنه سمع من العرب أخذهما من "أفعل" بكثرة تكفي لأن تجعله موضع القياس؛ نحو: هو أعطاهم للدنانير، وأولاهم للمعروف، وأكرمهم من كل أحد. 3 - طائفة تجيز أخذهما من كل الأفعال الثلاثية المزيدة؛ كانفعل، واستفعل، ونحوهما، ويرى هؤلاء أن تلك المعاني المستفادة من الحروف الزائدة يمكن الدلالة عليها بعد حذف تلك الحروف بقرائن لفظية أو حالية. وذكروا في شروط صوغ التعجب وأفعل التفضيل: أن يكون الفعل مما يقبل المفاضل، وقالوا: لا يقال: ما أموته؛ لأن الموت لا يقع به التفاوت، ومقتضى هذا التعليل صحة أن يقال: ما أموته، متى جاء على وجه يحتمل التفاضل؛ كأن يكثر في بلد الموت، فتقول: ما أموتَ أهلَ هذا البلد، أي: ما أكثر موتهم، ولا يبقى سوى أن ما أموته لم يسمع من العرب بوجه، فنرجع إلى حكم الأفعال التي تحققت فيها شروط أخذ فعلي التعجب واسم التفضيل، ولم يبلغنا أن العرب نطقوا بهما، أو بأحدهما على طريق خاص، وسنمر بهذا البحث بعد صفحات قليلة - إن شاء الله -. وذكروا في شروط صوغها: أن لا يكون الفعل مبنياً للمجهول، وهذا في حال ما يحصل به لبس؛ نحو: ما أضرب زيداً، فإنه يسبق إلى الذهن أن التعجب من وصف الفاعل، لا من وصف المفعول، فإن كان القصد من

التعجب واضحاً؛ كان تقول: ما ألبسَ هذا الثوبَ، تتعجب من كثرة لبس صاحبه له، فذلك ما يراه بعض الأئمة (¬1) قياساً سائغاً؛ اعتماداً على أن له أمثلة متعددة وردت في كلام العرب، نحو: ما أشهره، وما أخصره، ومن أمثالهم: (أشغل من ذات النِّحْيين). - اسم الآلة: يصاغ من الفعل اسم للآلة التي يعمل بها، ويجيء على وزن مِفعَل؛ نحو: مِخْيَط، ومِفْعَلة؛ نحو: مِطرَقة، ومِفعال؛ نحو: مفتاح، وأورد صاحب "المفصل" هذه الأوزان الثلاثة، وقال: هذا قياس مطرد في جميع الأفعال الثلاثية. ووجه اشتراط أن يكون الفعل ثلاثياً: هو أن الأفعال المزيدة يؤتي بها لمعان زائدة على أصل معنى الفعل، ووزن مفعل ومفعلة ومفعال لا يسع إلا ثلاثة أحرف، وهي أصول الفعل، فلو صيغ من المزيد اسم في أحد الأوزان الثلاثة، لفاتت المعاني التي تدل عليها الأحرف الزائدة في الفعل، وكذلك أخذه من الرباعي المجرد يستدعي حذف أحد حروفه، فيختل اللفظ، فإن ورد اسم الآلة من غير ثلاثي، فهو خارج عن القياس، فلك أن تستعمله كما استعمله العرب، وليس لك أن تقيس عليه ما لم يرد استعمال صحيح. وصرح بعض الكاتبين في الصرف باشتراط أن يكون الفعل متعدياً، ولعلهم نظروا إلى أن أكثر ما ورد منه اسم الآلة الأفعال المتعدية، ونحن نجد في أمثلة اسم الآلة ما هو مصوغ من فعل لازم؛ نحو: معراج ومعرج ¬

_ (¬1) ابن مالك في "التسهيل".

للسّلم، ونحو مِرقاة للدرجة، ومن استأنس بإهمال كثير من علماء الصرف لشرط التعدي، واقتصارهم على شرط أن يكون الفعل ثلاثياً، وذهب إلى صحة اشتقاق اسم الآلة من الأفعال اللازمة عند الحاجة، لا نراه ذاهبًا مذهباً بعيداً، فلو وضعت آلة للسَّباحة، وبدا لجماعة أن يسموها مِسبَحة، أو مِسبَحاً، لم يكونوا - فيما نراه - مخطئين. - مَفعَلَة: يشتق العرب للمكان الذي يكثر فيه شيء اسماً من ذلك الشيء على وزن مَفْعَلَة، فقالوا: أرض مَأْبَلَة، أي: ذات إبل، ومَأْسَدَة؛ أي: ذات أسود، وَمَسْبَعَة؛ أي: ذات سباع، وَمَبْطَخَة؛ أي: كثيرة البطيخ ومقثأة؛ أي: كثيرة القثاء، وقالوا للأرض كثيرة اللصوص: مَلصَّة، ولكثيرة الرمان: مَرْمَنة، ولكثيرة الخزان (¬1) مَخَزَّة. وهذه الصيغة مما اختلف علماء العربية في القياس عليها، فمنهم من وقف به عند حد السماع، مع اعترافه بكثرة ما سمع منه، وفي كتاب "سيبويه" ما هو ظاهر في جواز القياس، فقد قال: في حديثه عن هذا الباب: "وليس في كل شيء يقال إلا أن تقيس شيئاً، وتعلم أن العرب لم تتكلم به". قال صاحب "المحكم" في حكاية كلام "سيبويه"؛ يعني: لم تقل العرب في كل شيء من هذا، فإن قست على ما تكلمت به العرب، كان هذا لفظه. وممن صرح بصحة القياس فيه مُظهر الدين صاحب "شرح المفصل المسمى بالمكمل" إذ قال: اعلم أنهم إذا أرادوا أن يذكروا كثرة حصول شيء بمكان، وضعوا لها مَفعلة، وهذا قياس مطرد في كل اسم ثلاثي؛ كقولك: ¬

_ (¬1) ذكور الأرنب.

الاشتقاق من أسماء الأعيان

أرض مَسبعة؛ أي: يكثر فيها السباع، وساق بعد هذا أمثلة كثيرة. ومقتضى هذا المذهب: صحة أخذ مَفعلة من كل اسم ثلاثي يكثر معناه في أرض، نحو: الذهب، فتقول في الأرض كثيرة الذهب: مَذهبة. * الاشتقاق من أسماء الأعيان: تصرَّف العرب في أسماء الأعيان على وجه الاثشقاق، فأخذوا منها أفعالاً في أوزان مختلفة، وأسماء فاعلين ومفعولين، إلى غير ذلك من الصيغ التي تنتزع من أسماء الأحداث، وورد في كلامهم ما يدل على أنهم ذهبوا في هذا التصرف إلى غاية بعيدة، ووجدنا علماء العربية قد صرحوا بصحة القياس على بعض أنواعه، منها: اشتقاق الفعل من أسماء الأعيان لإصابتها، أو إمالتها، أو العمل بها. قال ابن مالك في "التسهيل": "ويطرد صوغ "فَعَل" من أسماء الأعيان لإصابتها؛ نحو: جَلَدَه، وَرَأسه، أو إنالتها؛ نحو: شحَمَه، ولحَمَه: أطعمه ذلك، أو عمل بها؛ نحو: رمَحَه، وسَهمه: أصابه بالرمح والسهم". وذكر بعد هذا نوعين يظهر من عبارته أنهما غير مقيسين، وهما: اشتقاق الفعل من اسم العين التي عملتها، أو اشتقاقه من اسم العين التي أخذتها، فقال: "وقد يصاغ (أي: فَعَل)؛ لعملها؛ نحو جَدَر، ويَأَر: عمل الجدار والبئر، أو أخذِها، نحو ثَلَث المالَ ورَبَعه: أخذ ثلثه وربعه، إلى العشر". ومن أنواعه المقيسة: اشتقاق اسم الأرض على وزن مَفْعَلَة مما يكثر حصوله فيها؛ نحو: مأسدة ومقثأة ومَذَبَّة (¬1). ¬

_ (¬1) اسم للأرض يكثر فيها الذباب.

ما هو الاستقراء الذي قامت عليه أصول الاشتقاق؟

ونقل شرَّاح "درة الغوَّاص" عن أبي محمد ما يؤخذ منه أن اشتقاق الأفعال من اسم العين على وزن استفعل مقبول في القياس، ذلك أن الحريري أنكر قولهم: "استأهل"، فقال أبو محمد: استأهل استفعل، وأصله الهمزة، وهو جائز كثير؛ كاستأسد الرجل، واستأبر النخل، واستنوق الجمل؛ أي: صار ناقة، فإذا استعمل استأهل بمعنى صار أهلاً، كان قياساً جائزاً مع أن السماع فيه ثابت. ولم نجد في نصوص أهل العلم ما يساعد على الاشتقاق من أسماء الأعيان بإطلاق، وهو موضوع يستدعي بسطًا في القول، فنكتفي في هذا الفصل بما حدثناك به، وندع البسط إلى غير هذا المقام. * ما هو الاستقراء الذي قامت عليه أصول الاشتقاق؟ لا يجب على الناظر في المشتقات من نحو: اسم الفاعل، واسم المفعول، وأفعل التفضيل، واسم المكان، واسم الزمان- عندما يريد تقرير قواعدها- أن يستقرئ جميع ما ورد منها في كلام العرب، فإنه يتعذر عليه الوصول إلى هذه الغاية، نظراً إلى سعة اللغة، وانتشارها إلى ما لا يمكن الإحاطة به، والذي في وسعه أن يتتبع جزئياتها إلى أن يأتي على مقدار يفيد ظناً قوياً، وثقة بأن اللغة جارية في مثله على رعاية قاعدة، والذي لم يقع تحت استقرائه يكون قاصداً لإجرائه في الكلام على ما يطابق هذه القاعدة، فيصح لنا أن نرجع إلى القاعدة في كل لفظ يتفق دون أن نتوقف على سماع. وهاهنا إشكال لا يزال يتردد على ألسنة طلاب العربية، وهو أن واضع القاعدة إذا لم يلزمه استقراء جميع جزئياتها، وجاز له الإكتفاء في تقرير القاعدة بتتبع جانب عظيم من الجزئيات، فما باله يصرح في بعض الأفعال والمصادر؛

مثل: ويح، وويل، ونعم وبئس وعسى، ويذر وياع، بأنها لا تتصرف، ولا يصح أن يشتق منها اسم فاعل أو اسم مفعول أو أفعل تفضيل؟ وأي فرق بين هذه الأفعال والمصادر، وبين ما لم يبلغه استقراؤه من المصادر والأفعال، فيسوغ لنا أن ناخذ منها أوصافًا أو أفعالاً، ولا يجوز لنا أن نأخذ مثل ذلك من ويل وويح ونعم، وما شكلها من المصادر والأفعال التي يقولون عنها: إنها غير متصرفة؟ وجواب هذا: أن الأفعال والمصادر التي لم يسمع لها فروع في الاشتقاق على ضربين: أحدهما: ما يكثر استعماله في موارد كلام العرب من غير أن يتصرفوا فيه؛ مثل: ويل وويح ونعم ويذر وما يماثلها، وعدم تصريفهم لها- مع كثرة ترددها في محاوراتهم ومخاطباتهم- دليل على قصدهم لإبقائها على هيئتها. فمن تصرف فيها، فقد أتى بها على وجه قصد العرب إلى تركه، والناطق بما يقصدون إلى إهماله ناسج على غير منوالهم، وناطق بغير لهجتهم. هذا مذهب جمهور أهل العربية، وذهب بعضهم إلى جواز استعمال ما أهمله العرب متى دخل تحت قياس. قال ابن درستويه في "شرح الفصيح": "إنما أهمل استعمال وَدَع ووَذَر؛ لأن في أولهما واوًا، وهو حرف مستثقل، فاستغني عنهما بما خلا منه، وهو: ترك"، ثم قال: "استعمال ما أهملوا من هذا جائز صواب، وهو الأصل، وهو في القياس الوجه، وهو في الشعر أحسن منه في الكلام (النثر) (¬1) ". ثانيهما: ما لا يكثر في مخاطباتهم حتى يستفاد من وروده بهيئة واحدة ¬

_ (¬1) "المزهر" (ص 25).

أنهم قصدوا إلى ترك تصريفه. وهذا هو الذي نعمل به على طبق القاعدة، وإن لم يبلغنا أو يبلغ الواضعين للقواعد أن العرب تلفظوا فيه على وَفق القاعدة. فيصح لنا أن نجري قاعدة الاشتقاق في هذا النوع، وإن لم ندر أن العرب تصرفوا فيه على هذا الوجه من الاشتقاق. قال أبو عثمان المازني: ما قيس على كلام العرب، فهو من كلام العرب، ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول؟ وإنما سمعت بعضها، فقست عليها غيره. وقال ابن جني - بعد أن سرد أمثلة من اسم المكان والمصدر الواردين على اسم مفعول -: هذا كله من كلام العرب، ولم يسمع منهم، ولكنك سمعت ما هو مثله وقياسه. فإن قلت: ماذا يريد أبو إسحاق الشاطبي من قوله في "شرح الخلاصة": "الذين اعتنوا بالقياس والنظر فيما يعدُّ من صلب كلام العرب، وما لا يعد، لم يثبتوا شيئاً إلا بعد الاستقراء التام، ولا نفوه إلا بعد الاستقراء التام، وذلك كله مع مزاولة كلام العرب، ومداخلة كلامها، وفهم مقاصدها، إلى ما ينضم إلى ذلك من القرآن ومقتضيات الأحوال التي لا يقوم غيرها مقامها". قلنا: يريد من الاستقراء التام: الاستقراء الذي يفيد ظناً قوياً يكفي لتقرير أحكام اللغة. ويدلك على أنه لم يرد من الاستقراء التام تتبع أقوال العرب قولاً فقولاً إلى أن يأتي على آخرها، قوله فيما بعد: فالواجب على المتأخر التوقف حتى يدخل من حيث دخل المتقدم، فإن وجد الأمر مستثبتاً مطرداً على خلاف ما قال الأول، لم يسعه إلا مخالفته، وإن لم يجده كذلك،

قياس التمثيل

فليتوقف، وأبو إسحاق الشاطبي نفسه قد نقل أن إمام العربية سيبويه يجعل من شواذ التعجب "ما أمقته"، و "ما أفقره" بناء منه على أن العرب لم يستعملوا الفعل الثلاثي من المقت والفقر، ثم ذكر الشاطبي أن جماعة من أئمة اللغة أثبتوا استعمال العرب للفعل الثلاثي من المقت والفقر، وخفي ذلك على سيبويه، وقال: ولا حجة في قول من خفي عليه ما ظهر لغيره، بل الزيادة من الثقة مقبولة. وهذا يزيدك خُبراً بأن واضع القاعدة يستند إلى الاستقراء الذي يكسبه ظناً بقصد العرب لأن يكون الحكم قياساً مطردًا، كما يستند إلى الاستقراء الذي يفيده ظناً بن العرب لم ينطقوا من هذا المصدر بفعل أو اسم فاعل، أو من هذا الفعل بمصدر أو فعل ماض - مثلاً -. * قياس التمثيل: ذكرت فيما سلف أني أريد بقياس التمثيل: إلحاق نوع من الكلم بنوع آخر في حكم، وهو ما ينكره بعض النحاة، ويعنونه في قولهم: إن اللغة لا تثبت بالقياس. يأخذ النحاة بقياس التمثيل لإثبات أصل الحكم، وكثيراً ما يرجعون إليه في تأييد المذهب بعد بنائه على السماع، وهذا أبو حيان الذي هو من أشد النحاة وقوفًا عند حد السماع، ومن أسرعهم إلى محاربة من يعول على هذا الضرب من القياس، قد ينظر إليه في بعض الأحيان، كما قال: إن الناصب لى: بى ذا" فعلُ شرطها، قياساً على سائر أدوات الشرط. وقال في الكلام على وقوع الجملة المنفية حالاً: والمنفية بـ: "إن" لا أحفظه من كلام العرب، والقياس يقتضي جوازه، فنقول: جاء زيد إِنْ يدري كيف الطريق؛ قياساً

قياس الشبه وقياس العلة

على وقوعها خبراً في حديث: "فظل إن يدري كم صلى"، فقياس "إذا" على بقية أدوات الشرط في جعل العامل فيها فعل الشرط، وقياس الجملة الحالية في صحة تصديرها بـ: "إن" النافية على جملة الخبر، كلاهما من قبيل قياس التمثيل. * قياس الشبه وقياس العلة: يقيس النحاة بعض أنواع الكلم على بعض إذا انعقد بينهما شبه من جهة المعنى، أو من جهة اللفظ، ويسمى هذا القياس: "قياس الشبه"، ومثال الشبه من جهة المعنى: أن أسماء الأفعال نحو: عليك، ومكانك، وأمامك مشابهة في المعنى للأفعال التي قامت هذه الأسماء مقامها، وهي: الْزم، واثْبت، وتقدم، ولهذا الشبه أجاز الكوفيون تقديم معمول أسماء الأفعال عليها قياسا على جواز تقديمه على الأفعال التي قامت هي مقامها. ومثال الشبه من جهة اللفظ: أن المركب المزجي يشابه المختوم بتاء التأنيث في أحوال لفظية، منها: حذف جزئه الثاني عند النسب كما تحذف تاء التأنيث، ومنها: أن التصغير يجري في صدره كما يجري فيما قبل تاء التأنيث، وللشبه في هذه الأحوال اللفظية أجازوا ترخيمه بحذف الجزء الثاني قياساً على ترخيم المؤنث بحذف التاء. وقد ينبني القياس على اشتراك المقيس والمقيس عليه في العلة التي يقع في ظنهم أن الحكم قائم عليها، ويسمى هذا الضرب: "قياس العلة". * أقسام علة القياس: العلل التي يذكرها الباحثون في العربية بدعوى أن العرب راعتها، وبنت عليها أحكام ألفاظها، ترجع إلى ثلاثة أقسام:

أحدها: ما يقرب مأخذه، ويتلقاه النظر بالقبول، كما وجهوا تحريك بعض الحروف الساكنة بالتخلص من التقاء الساكنين، ووجهوا حذف أحد الحرفين المتماثلين بطلب الخفة. ثانيها: ما يكون من قبيل الفرضيات التي لا تستطيع أن تردها على قائلها، كما أنك لا تضعها بمحل العِلم، أو الظن القريب منه، وهذا كما قالوا في وجه بناء قبلُ وبعدُ إذا قطعا عن الإضافة لفظاً: "إنهما شابها الحرف في احتياجهما إلى معنى المحذوف، وهو المضاف إليه، فإذا قلت: إن هذه العلة ثابتة عند ذكر المضاف إليه، فلماذا لم يرتبط بها أثرها، وهو حكم البناء؟ قالوا: ظهور الإضافة التي هي من خواص الأسماء أبعَدها عن شبه الحرف، فعادت إلى أصلها الذي هو الإعراب، فإن قلت لهم: ما بالهم بنوا أيَّ الموصولة فيما إذا أضافوها في اللفظ، وحذفوا صدر صلتها؛، فهذا يرد قولكم: إن ظهور الإضافة يبعد عن شبه الحرف؛ لأنها من خواص الأسماء؟ أجابوك: بأن العرب أنزلوا المضاف إليه في باب أيَّ منزلةَ صدر الصلة المحذوف، فصارت أيّ في حكم المقطوع عن الإضافة في اللفظ، فتستحق ما استحقته قبلُ وبعدُ من البناء. ولا يسعك بعد هذا إلا أن تسلَّ يدك من هذه المجادلة، وتنفصل منها، وليس في ذهنك أثارة من علم. ثالثها: ما يجري فيه بعض النحاة على ما يشبه التخييل، ومثال هذا: أن "هل" تختص في أصل استعمالها بالدخول على الأفعال؛ نحو: هل كتب عمرو؟ وقد تخرج عن هذا الأصل؛ فتدخل على مبتدأ خبره اسم؛ نحو: هل عمرو كاتب؟ ولكنها لا تدخل على مبتدأ خبره فعل؛ نحو: هل عمرو كتب؟

أقسام قياس العلة

وقد أراد بعضهم أن يذكر علة لدخولها على اسم خبرُه اسم، وعدم دخولها على اسم خبرُه فعل؛ فقال: لأن"هل" إذا لم تر الفعل في حيزها، تسلت عنه ذاهلة، وإن رأته في حيزها، حنت إليه سابق الألفة، فلم ترض حينئذ إلا بمعانقته. وكلام هذا النحوي وهو يقرر حقيقة علمية لا يختلف عن قول الشاعر وهو يسبح في لجج من الخيال: مليحة عشقت ظبياً حوى حورا ... فمذ رأته سعت فوراً لخدمته كهل إذا ما رأت فعلاً بحيزها ... حنت إليه ولم ترض بفرقته * أقسام قياس العلة: لقياس العلة أقسام ثلاثة: أحدهما: قياس الأولى، وهو أن تكون العلة في الفرع أقوى منها في الأصل، ومثال هذا: أن صاحب "الكافية" أجاز في نحو اغضضْنَ أن يقال: غُضْنَ، قياساً على قول العرب في نحو "اقرِرْن": قَرْنَ، بحذف أحد المثلين، وعلة هذا القياس: طلب التخفيف، ولكن فك المضموم في نحو اغضضن أثقل من فك المكسور في نحو اقررن، وإذا فر من فك المكسور إلى الحذف ابتغاء التخفيف، ففعل ذلك بالمضموم أحق بالجواز. ثانيهما: قياس المساوي، وهو أن تكون العلة في الفرع والأصل على سواء، ومثاله: أن يقول من منع تقديم خبر ليس عليها: لا يجوز تقديم خبرها عليها، قياساً على عسى؛ فإنه لا يجوز تقديم خبرها عليها، وعلة المنع عدم تصرف الفعل، وهذه العلة يستوي فيها الفعلان ليس وعسى. ثالثهما: قياس الأدنى، وهو أن تكون العلة في الفرع أضعف منها في الأصل، ومثاله: أن اسم الزمان المضاف إلى الفعل الماضي يجوز بناؤه

شرط صحة قياس التمثيل

على الفتح نحو: "على حينَ عاتبت المشيب على الصبا" وعلة بنائه: أن الظرف في الواقع مضاف إلى المصدر الذي تضمنته الجملة، وإن كان في الظاهر مضافاً إلى الجملة نفسها، فشابه اسم الزمان كلمتي قبلُ وبعدُ في وجه بنائهما حين يقطعان عن الإضافة لفظاً لا معنى، وتتقوى هذه العلة في اسم الزمان الواقع بعده فعل ماض أن الفعل الماضي واقع موقع المضاف إليه، الذي قد يكتسب منه المضاف شيئاً من أحكامه؛ كالتعريف والتنكير، ووجوب التصدير، فلا بعد في أن يكون للإضافة - وإن كانت في ظاهر اللفظ - أثر في كتساب المضاف حكم البناء من المضاف إليه. فإن كان الواقعَ بعد اسم الزمان فعل مضارع، والمضارع معرب، نحو: "على حين أعاتب الزمان"، فعلّة بناء اسم الزمان، وهو "حين" أضعف منها في حال اتصاله بفعل ماض؛ حيث نقص منها ما كانت قد تقوَّت به من استعداد المضاف لاكتساب البناء من المضاف إليه. وقد اكتفى بعض البصريين والكوفيين بالعلة الضعيفة، وأجازوا بناء اسم الزمان الواقع بعده فعل مضارع؛ لتحقق أصل العلة، وهو الانقطاع عن الإضافة في اللفظ دون المعنى. * شرط صحة قياس التمثيل: يكون قياس التمثيل صحيحاً، ويتم الاستدلال به على تقرير حكم من أحكام اللفظ؛ متى كان وجه الشبه بين الأصل والفرع واضحاً، أو ظهر أن ما ذكره المستدل على وجه التعليل هو العلة التي يرتبط بها حكم الأصل، ويضاف إلى هذا: أن لا يوجد بين الأصل والفرع فارق يؤثر في عدم تعدية

حكم الأصل، إلى الفرع، ويزيد بعضهم على هذا: أن لا يكون حكم الأصل مخالفاً للأصول، خارجاً عن حد القياس. فالقياس مع الفارق؛ كما أجاز بعض النحاة تقديم معمول الفعل المنفيّ بلن قائلاً: إن لن أضرب، نفي لقولك: ساضرب، فكما جاز قولك: زيداً سأضرب، يجوز قولك: زيداً لن أضرب، وما كان من المنكرين لهذا القياس سوى أن فرقوا بين السين ولن؛ بأن حرف النفي يقتضي الصدارة في الجملة التي يدخلها، وذلك معنى لا يقتضيه حرف التنفيس. ومثال القياس على ما خالف القياس: أن الكسائي يقول: لا يقتصر في الظروف الواردة أسماءَ فعل؛ نحو: عليك، وأمامك على ما ورد في الرواية، بل يجوز أن يقاس عليها غيرها مما لم يرد به سماع، وطعن البصريون في هذا المذهب؛ بن تلك الظروف إنما وقعت موقع أسماء الأفعال على خلاف أصلها، وما جاء على خلاف الأصل لا يصح القياس عليه بحال. والحق أن الأمر في مثل هذا يرجع إلى قوة نظر المجتهد في العربية؛ فإن الأصول التي يجيء حكم الأصل على خلافها تتفاوت في اقتضاء حكمة الوضع لها، وخروج العرب عن حدودها، فالأصل الذي يمنع من زيادة الكلمات - مثلا-، وهو أن الألفاظ إنما وضعت لإفادة المعاني، أقوى من الأصل الذي يمنع من تقديم المعمول على العامل، ولهذا كانت مخالفة العرب لقانون تقديم المعمول على العامل أكثر من مخالفتهم لقانون المنع من الزيادة، فيمكن للمجتهد في العربية أن يمنع قياس زيادة "كان" في صدر الكلام، أو في آخره، على زيادتها في وسطه، وليس من البعيد صحة تقديم خبر "زال" الناسخة عليها قياساً على تقديم معمول الخبر الثابت على خلاف القياس؛ إذ القياس تقديم

مباحث مشتركة بين القياس الأصلي، والقياس التمثيلي - القياس في الاتصال

العامل على المعمول. ويذكر بعضهم في شرط صحة القياس: أن لا يكون حكم الأصل موضع اختلاف، ومثال هذا: أن الكوفيين ألحقوا فعل التعجب بأفعل التفضيل في جواز بنائه من لوني البياض والسواد، وردَّ البصريون هذا القياس؛ بأنه قياس على مختلف فيه؛ لأنهم لا يوافقون على حكم الأصل، وهو: صوغ اسم التفضيل من أسماء الألوان. والتحقيق: أن القياس على المختلف فيه لا يكون حجة على المخالف في حكم الأصل، أما من تقرر عنده حكم الأصل بدليل راجح، فله أن يتعلق بمثل هذا القياس في تعديته إلى الفرع. * مباحث مشتركة بين القياس الأصلي، والقياس التمثيلي - القياس في الاتصال: خصت العرب بعض الكلمات بالدخول على أنواع من الكلم لا تتجاوزها إلى غيرها؛ مثل: حروف الجر والنداء تختص بالأسماء، ومثل: لن ولم وليس وسوف تختص بالفعل المضارع، وجعلت بعضها مطلقاً بين الأسماء والأفعال، نحو: همزة الاستفهام، وما النافية، أو مطلقاً بين المضارع والماضي؛ نحو: قد، ولا النافية، وإن الشرطية. فإذا وردت كلمة من أمثال هذه الكلمات مقرونة بنوع خاص من الكلم، فليس لنا أن نخرج به عن دائرة السماع. ويجري على هذا الأصل "لَمّا" الحينية؛ فإنها إنما جاءت في كلام العرب موصولة بالفصل الماضي، ومقتضى الأصل المذكور امتناع دخولها على الفعل المضارع، ولهذا لحَّن بعض الناقدين ابن أبي حجة في قوله: والنبت يضبطها بشكل معرب ... لما يزيد الطير في التلحين

وإذا دارت الكلمة في كلام العرب، ولم ترد إلا مجردة من أداة التعريف - مثلاً -, فهل يجوز لنا استعمالها موصولة بهذه الأداة؟ يجري هذا النظر في لفظ: كل، وبعض، فقد أنكر الأصمعي أن تدخل عليهما ال المعرفة؛ حيث لم يجيئا في كلام العرب موصولين بها، وأجاز اتصالهما بها ابن درستويه، وخالفه جميع نحاة عصره، ذاهبين مذهب الأصمعي في وجوب تجردهما من أداة التعريف، وإن استعملها بعض الأدباء؛ كابن المقفع، ويعض النحاة؛ كسيبويه، والأخفش موصولة بها، وكل من هؤلاء الأدباء أو النحاة لا يحتج بما يقع في كلامهم، وإنما الحجة في روايتهم. وبمقتضى هذا الأصل أنكر الحريري إدخال أل المعرفة على لفظ "كافة" ناظراً إلى أن العرب لم تفعل ذلك (¬1). قد يخطر ببالك أن هذا الحجر يقتضي أن لا تدخل أل على اسم إلا إذا سمع اتصالها به في الفصيح من كلام العرب، ومن المتعذر أن يتتبع واضع القاعدة جميع الأسماء العربية؛ ليتحقق هل نطقوا بها مقرونة بال المعرفة، أولا؟. فالجواب: أنا لا ندَّعي أن هذه الكلمات لم يستثنها النحاة إلا بعد أن أتوا على جميع المفردات مفردًا مفردًا، فوجدوها تجيء موصولة بأل ما عدا هذه المستثنيات: كل، ويعض، وما شاكلها، وإنما جاز لهم استثناؤها من جهة أنها دائرة على ألسنة الفصحاء بكثرة، حتى لا تكاد تمر بقصيدة أو خطبة أو محاورة، دون أن يعترضك شيء منها، وعدم استعمالها موصولة بأداة التعريف ¬

_ (¬1) لنا عود في فصل: القياس في مواقع الإعراب، إلى زيادة البحث في استعمال هذه الكلمة.

مع إيرادهم لها في جل مخاطبتهم، دليل على أنهم التزموا قطعها عن هذه الأداة، ولا يسوغ لنا إلحاق الكلمة باشباهها متى شهد الاستعمال المستفيض بعدم إجرائها على القاعدة. وملخص القول: أن الكلمة إذا وردت متصلة بلفظ، أو نوع من الألفاظ خاص، فلابد من النظر في حال استعمالها؛ فإن أكثر دورانها في أقوال الفصحاء وغيرهم، ولم يعدلوا بها عن ذلك الوجه من الاستعمال، وقفنا عند حد استعمالهم، ولا يسعنا الخروج بها عن ذلك الحد، وإذا لم تكن شائعة في فنون المخاطبات شيوعَ كلّ وبعض؛ فإنه يسوغ لنا أن نتصرف فيها، ونتعدى بها حدود الرواية؛ حيث لم يقم الدليل على قصد اختصاصها بذلك الاستعمال، وهو كثرة تقلبها على ألسنتهم، ودورانها في محاوراتهم. ومما ينتظم تحت هذا البحث: الألفاظ التي قال صاحب "إصلاح المنطق" وغيره: إنها لا تستعمل إلا في سياق النفي، وهو: أحد، وعريب، وديَّار، وأخواتها، ويدخل في هذا نحو: قصارى، وحمادى، ولبَّى، ودوالي من الكلمات التي لم ترد موصولة إلا بنوع خاص، وهو المضاف إليه. ونظير هذا كلمة: "بيد"، فإنها بمعنى غير، ولكنها لم ترد إلا متصلة بأنَّ وصلتها، فيقال: فلان كثير المال بيد أنه بخيل، فلا يتجاوز بها حد هذا الاستعمال؛ كان تضيفها إلى اسم صريح قياسا على كلمة "غير" مراعياً توافقهما في المعنى. وإن شئت مثلاً يزيد البحث بياناً، فإن العرب لم يستعملوا الضمير المسبوق بهاء التنبيه موصولاً باسم الإشارة؛ نحو: ها أناذا قائم، فرأى ابن هشام أن الشواهد الواردة بهذا الأسلوب قد بلغت في الكثرة إلى أن يؤخذ

القياس في الترتيب

منها لزوم اتصال هذا الضمير باسم الإشارة، فمنع من أن يجيء الضمير المقرون بهاء التنبيه مقطوعًا عن اسم الإشارة. وعلى هذا المذهب ابن هشام أيضاً جرى في "غير" المبنية على الضم، فقال: إنها لا تستعمل إلا متصلة بليس، فتقول: عندي كتاب ليسَ غيرُ، وقولهم: "لا غيرُ" لحن، ومن عدَّ استعمال "لا غير" فصيحاً، فقد وقف في كلام العرب على ما يشهد بصحته، وهو قول الشاعر: جواباً به تنجو اعتمد فوربنا ... لعن عمل أسلفت لا غير تسأل وإذا وردت الكلمة متصلة بنوع من الكلم وروداً لا يحيط به استقصاء، صح أن يكون اتصالها بذلك النوع مقيساً؛ كتاء التأنيث تتصل باسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة والمنسوب، على وجه القياس، ولم يبلغ اتصالها بأسماء الأعيان هذا المبلغ، فوقفوا به عند حد السماع، كظبي وظبية، وامرئ وامرأة، فليس لك أن تقول: إنسانة في مؤنث إنسان إلا إذا نقل إليك لفظه في شاهد صحيح، ولهذا الأصل أنكر الصفدي قولهم للظبية: غزالة، مع ورود غزال للمذكر؛ لأنه لم يثبت عنده أن العرب قالوا: غزالة، وما خالفه الدماميني في ذلك إلا بعد وقوفه على شواهد من كلام العرب تقتضي صحة استعمالها. فالمذكر من أسماء الأعيان لا تلحقه التاء قياساً، وكذلك المؤنث منها لا يجرد من علامة التانيث، ويستعمل في المذكر إلا إذا ورد به نقل عن العرب، كما سمع إلْقة اسماً للقِرْدة، ولا يقال في ذكرها: إلْق؛ حيث لم يقم شاهد على استعماله. * القياس في الترتيب: إذا كانت إحدى الكلمتين تابعة للأخرى من جهة المعنى، فالتناسب

الطبيعي يقتضي أن تذكر الكلمة التابعة عقب الكلمة المتبوعة، ومن ثم قرروا في أصولهم: أن المعطوف عليه يتقدم على المعطوف، والمؤكد يقدم على التوكيد، والمنعوت يتقدم على النعت، والمبين يتقدم على البيان، والمبدل منه يتقدم على البدل، والمستثنى منه يتقدم على المستثنى، والمميز يتقدم على التمييز، وصاحب الحال يتقدم على الحال. فمن يجيز تقديم كلمة تابعة على متبوعها، فإنما تقبل دعواه متى كانت مصحوبة بدليل. فالكوفيون- مثلاً - أجازوا تقديم المعطوف على المعطوف عليه، والكسائي والمبرد سوَّغا تقديم التمييز على عامله، والفرَّاء والأخفش ذهبا إلى صحة تقديم الحال على عاملها الظرف أو الجار والمجرور. وابن برهان وابن كيسان نباحا تقديم الحال على صاحبها المجرصر بالحرف، وما أجاز هؤلاء التقديم في هذه المسائل، وهو مخالف للقياس، إلا مستندين إلى شواهد رأوها كافية في تقرير ما ذهبوا إليه. ومن فروع هذا الأصل: أن لا يتقدم الضمير على معاده، واستثنوا من ذلك مواضع، أجازوا منها تقديم الضمير على معاده: إما باتفاق؛ كتقديم ضمير الشأن، وإما مع اختلاف؛ كتقديم الضمير العائد على مفعول متأخر عنه، والأصل في محل الاختلاف بيد من لا يجيز عوده على المتأخر عنه في نظم الكلام إلى أن يأتي المخالف بشاهد صحيح، وكذلك كان مذهب الأخفش، وأبي الفتح في إجازة عود الضمير المتصل بفاعل مقدم على مفعول متأخر لم يقف أمام مذهب الجمهور الذين يمنعون هذه الصورة إلا بما احتف به من الشواهد؛ نحو: جزى بنوه أبا الغيلان عن أكبر ... وحسن فعل كما يجزي سِنمَّار

القياس في الفصل

ووجهة نظر الجمهور في عدم الأخذ بهذه الشواهد، وحملها على الشذوذ أو الضرورة: أنها جاءت على خلاف أصل أصيل، وما يرد على خلاف الأصول المعتد بها، لا يجعل مقيساً إلا حيث تكثر شواهده حتى تدل على قصد العرب لاطراده. ومقتضى هذا الأصل، وهو أن ترتب الألفاظ يكون على حسب ترتب المعاني في الذهن: أن يجيء المستثنى بعد المستثنى منه، وما نسب إليه من الحكم؛ نحو: قام الرجال إلا علياً؛ فإن مرتبة المُخرَج بعنوان أنه مخرج متأخرة عن مرتبة المخرج منه، سواء قلنا: إن المستثنى مخرج من المستثنى منه، أو من الحكم المتعلق به، ولكن أكثر في الاستعمال تقدمه على المستثنى منه؛ نحو: جاعني إلا زيداً القوم، أو على الحكم فقط؛ نحو: القوم إلا زيداً إخوتك، فبقيت مسألة تقدمه عليهما معاً على أصل المنع، وقد جوزها الكوفيون قياساً؛ والحق أن مخالفة الأصل بكل واحد من أمرين على انفراده، لا تدل على جواز مخالفته بالأمرين كليهما. * القياس في الفصل: الأصل في الألفاظ المربوط بعضها ببعض من جهة المعنى: أن لا يلقى بينها بفاصل، وقد خالفوا هذا الأصل في مواضع كثيرة، حتى دخل بعضها في فنون البلاغة؛ كالفصل بين مفعولي "رأيت" في مثل قول الشاعر: ويمتحن الدنيا امتحان مجرب ... يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا أو بين النعت والمنعوت؛ كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76]، ويجب النظر في قوة الارتباط وضعفه في هذا المقام، فيكفي من الشواهد الواردة في الفصل بين ما ضعف ارتباطهما ما لا يكفي

القياس في الحذف

في الفصل بين ما كان الارتباط بينهما قوياً، ويدلك على أن لشدة الارتباط بين المعنيين أثراً في ضعف القياس: أن بعض النحاة منعوا من الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمجموع الأمور التي يجوز الفصل بكل واحد منها منفردًا؛ نحو: الظرف، والمفعول، ولما أجاز طائفة الفصل بمجموعها قياساً على الفصل بين "تقول" العاملة عمل ظن، وأداة الاستفهام بمجموع ما يجوز به الفصل بينهما، وهو الظرف والمعمول، وطعنوا في هذا القياس بن ما بين المضاف والمضاف إليه من الاتصال أشد مما بين أداة الاستفهام والفعل المستفهم عنه. ويزيدك علما بن لشدة ارتباط الكلمة بالأخرى أثراً في أحكام النحو: أن كثيراً من علماء العربية منعوا الفصل بين الموصول الحرفي وصلته متى كان الموصول عاملاً؛ مثل: "أن" المصدرية، وأجازوا الفصل بين الموصول غير العامل وصلته؛ مثل: "ما" المصدرية، ذلك لأن الموصول العامل أشد اتصالًا بصلته من الموصول غير العامل؛ إذ الأول طالب للصلة من جهة المعنى والعمل، وأما الثاني، فطلبه لها من جهة واحدة، وهي الموصولية. * القياس في الحذف: من الجليّ: أن حذف أحد أجزاء الجملة يغير أسلوبها، ويحدث فيها هيئة جديدة، والمحافظة على الأسلوب العربي تقضي أن لا يلفظ الإنسان بعبارة إلا أن تجيء مطابقة للهجة العربية. وهذا الأصل هو الذي يتمسك به من لا يجيز حذف كلمة من الجملة حيث لم يقم عنده دليل على صحة حذف أمثالها. كما منع الجمهور حذف الفاعل، ومنع البصريون حذف الموصول، ومنع ابن ملكون حذف أحد

مفعولي ظننت، منعوا حذف هذه الأصناف من الكلم، وإن قامت القرائن، ودلت على الحذف بوضوح. فإذا جرى خلاف في حذف إحدى الكلم، فالأصل بيد من يوجب ذكرها، والمجيز لحذفها هو المطالب بالدليل. قد يقال: إن العرب أكثروا من حذف ما تقوم عليه القرينة، كالمبتدأ والخبر، والمفعول به، والمعطوف والمعطوف عليه، والحال والتمييز، وفعل الشرط وجوابه، وباستقراء هذه المواضع يتقرر أصل يمكن اطراده، وهو صحة الحذف لدليل. والجواب: أن ورود السماع بالحذف في باب؛ كالنعت أو المنعوت، إنما يبيح القياس في ذلك الباب خاصة؛ إذ أقصى ما تدل عليه شواهده: أن الحذف هنالك غير مخالف لأسلوب اللغة، وإنما أجاز الكسائي حذف الفاعل، والكوفيون حذف الموصول، والجمهور حذف أحد مفعولي ظننت؛ اعتماداً على شواهد مبسوطة في كتب الفروع. وإذا ورد السماع بحذف حرف في موضوع من التركيب على سبيل الاطراد، فهل يقاس عليه ما يرادفه من الحروف، فيسوغ حذفه، ولو لم ترد به الرواية؟ هذا من مواقع اختلاف علماء العربية أيضاً، ومن أمثلته: أنهم أجازوا حذف "لا" النافية في جواب القسم، كما ورد في قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85]، وقول الشاعر: آليتَ حبَّ العراق الدهرَ أطعمه ... والحبُّ يأكله في القرية السوس واختلفوا في حذف "ما" النافية في نحو هذا المقام، ومن أبى حذفها قد يتمسك بأن "لا" وضعت للدلالة على السلب، وحذفها يوهم إرادة الإثبات

القياس في مواقع الإعراب

الذي هو ضد مدلوها، فكان ذكرها على ما يقتضيه وضعها أمراً لابد منه، ولكنهم حذفوها في جواب القسم؛ لكثرة استعمالها، ولا يصح إلحاق لفظ "ما" بها، وإن كانت مرادفة لها في المعنى؛ لأنها لا تشاركها في الوجه الذي اقتضى العدول بها عن الأصل، وهو كثرة الاستعمال. وإذا وضعت ألفاظ للدلالة على غرض، وانتظمت في منهج، وسمع في أحدها حذف بعض متعلقاته، فهل يجري الحذف في متعلقات ما يشاركه في المعنى على طريقة قياس التمثيل؟. ومثال هذا: ما ثبت من أن العرب يحذفون صدر الصلة مع أيّ الموصولة، فيقولون: زارني أيهم أفضل، والأصل: أيهم هو أفضل، فحذفوا الضمير الذى هو صدر الصلة، وقد وقف بعض النحاة عند هذا الموضع، واستضعفوا حذف مثل هذا الضمير مع غير أيّ من الموصولات، ولم يستضعفه ابن مالك، فالقائل بمنع القياس ناظر إلى أن حذف متعلق الكلمة، وهو صدر الصلة، جرى على غير أصل، فلا نتجاوز به حد السماع، ونلحق به ما يشارك تلك الكلمة في وجه الاستعمال، ونحذف متعلقه كما حذف تعلقها. والقائل بجواز الإلحاق ناظر إلى أن اتحاد الكلمتين في المعنى يجعلهما بمنزلة الكلمة الواحدة، فما يثبت لأحدهما من الأحكام يصح إعطاؤه للأخرى؛ حيث إن الأسلوب معهما متماثل. * القياس في مواقع الإعراب: إذا وردت الكلمة بمكان من الإعراب، ولم يسمع استعمالها في غير هذا المكان، فأصولهم تقتضي أنها تطرد فيما سمعت، ولا يقاس عليه غيره من المواضع، ومن هذا: تخصيصهم الكلمات: فل، ولومان، ونومان بحال

النداء، وقط، وعوض بالظرفية، أو الجر بمن. ومن فروع هذا: قول ابن الحاجب، وسعد الدين التفتازاني: إن لفظه: "كل" إذا أضيفت إلى الضمير لم تستعمل في كلامهم إلا توكيدًا، فيمتنع إيرادها مفعولاً به، أو فاعلًا، ومن أجاز إيرادها مفعولاً به؛ كابن هشام اعتمد على ما وقع في يده من الشواهد التي منها قول الشاعر: "فيصدر عنها كلُّها وهو ناهل" ومما يجري على هذا الأصل قولهم: إن كافة، وقاطبة، وطُرّاً لا تخرج عن الحالية، وعدّ ابن هشام في أوهام الزمخشري تخريجه لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] على أن كافة نعت لمصدر محذوف، والتقدير: رسالة كافة، ومن نازعوا في اختصاصها بالحالية يقفون موقف المدعي المطالَب بالدليل، وقد استشهدوا على ما ذهبوا إليه بمثل قول عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -: "قد جعلت لآل بني كاهلة على كافة بيت مال المسلمين لكل عام مائتي مثقال ذهباً". وحاول الشهاب الخفاجي هدم هذا الأصل المقرر في الصدر، فقال في "شرح الدرة": فإن "كافة" ورد عن العرب بمعنى جميع، لكنه استعمل منكراً منصوباً، وفي الناس خاصة، ومقتضي الوضع: أنه لا يلزمه ما ذكر، فيستعمل كما استعمل "جميع" معرفاً ومنكراً بوجوه الإعراب، وفي الناس وغيرهم؛ لأنَّا لو اقتصرنا في الألفاظ على ما استعملته العرب العارية والمستعربة، حجَّرنا الواسع، وعسر التكلم بالعربية على من بعدهم. وهذا الرأي لا يؤخذ به على الإطلاق، ولا يستضاء به في كل حال؛ فإنه لا يطابق ما قاله أساتيذ العربية من أن معرفة الوضع غير كافية ما لم ينضم إليها

العلم بحال الاستعمال. قال ابن خلدون في "المقدمة": ليس معرفة الوضع الأول بكاف في التركيب حتى يشهد له استعمال العرب لذلك، وأكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه ونثره؛ حذراً من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها وتراكيبها، وهو شر من اللحن في الأعراب وأفحش. ولو اقتدينا بالشهاب في إباحته، وسرنا على أثر مقالته المطلقة العنان، لعمدنا إلى مثل: قط، وقبل، وعند، ومع، وأخرجناها عن الظرفية إلى نحو الابتداء، أو الفاعلية، ولا أحسبه يرضى للغة هذه الفوضى، فيفصم نظامها، وهو يريد توسيع نطاقها. والتحقيق في هذا المطلب: أن ما يصلح أن نجريه على القاعدة في الإعراب نوعان: أحدهما: ما يدور على ألسنة البلغاء وغيرهم، ويجري في مخاطباتهم بحالة خاصة من الإعراب، مثل: عند، وقبل، وقاطبة، ومع، وهذا هو الذي نقف فيه عند حد السماع؛ فإن كثرة دورانه في مجاري كلامهم نظمًا ونثرًا، وتقلبه في أساليبهم بحالة مخصوصة من الإعراب يشعر بقصدهم إلى تخصيصه بتلك الحالة، وما كان ينبغي لنا في هذا القسم إلا أن نتحرى الطريقة المألوفة في استعماله. ثانيهما: ما لا يتردد في أغلب مخاطباتهم، وإنما يرد في حال لا يدل على قصدهم إلى قصره على الحالة التي جاءت بها الرواية. وهذا هو الذي يسوغ لنا أن نخرج به عن حالته الواردة. ونستعمله في المواضع التي يساعد عليها الوضع، فلو لم نسمع لفظ الضرغام، أو اللوذعي، أو الفيصل إلَّا فاعلاً أو

مفعولاً، كان لنا إيراده في تراكيب من عندنا مضافاً إليه، أو مبتدأ، أو خبراً. فيتضح من هذا التفصيل مذهب الجمهور، ووجه ماخذه. ويمكنك أن تقضي به على مقالة الشهاب؛ حيث أباح خروج "كافة" عن الحالية بمجرد النظر إلى حال الوضع؛ فإن هذه الكلمة من القسم الأول قطعاً، فيجب على من ذهب إلى صحة استعمالها فاعلاً أو مفعولاً - مثلاً - إقامة شاهد على ذلك، ولا يكفيه التمسك بأنها قابلة لهذه الوجوه من الإعراب بحسب وضعها. وللشيخ الكافيجي مقالة تشبه مقالة الخفاجي، هي: أنه تكلم عن نحو قولك، في الدار علي، والمسجدِ خالد (¬1)، ثم قال: إن جزئيات الكلام إذا أفادت المعنى المقصود منها على وجه الاستقامة لا يحتاج إلى النقل والسماع، وإلا لزم توقف تراكيب العلماء في تصانيفهم على ذلك. وهذه العبارة مطلقة العنان، فلابد من وقفها عند حد، فنقول: إن أراد الكافيجي بقوله: "أفادت المعنى على وجه الاستقامة": أن المعنى حصل في ذهن المخاطب عند النطق بها كاملاً. فهذا لا يكفي في صحة الكلام عند علماء العربية قطعاً؛ فإن من التراكيب ما يفهم منه المعنى المراد، ويكون المتكلم قد خالف فيه بعض القواعد المجمع عليها، وإن قصد بوجه الاستقامة: المطابقة لصحة الأسلوب عربية، قلنا: هذا هو محل النزل بينه وبين من لا يجيز المثال: في الدار عليٌّ، والمسجدِ خالد؛ فإن ¬

_ (¬1) هذا مما يعبر عنه النحاة بمسألة العطف على معمولي عاملين مختلفين؛ فإن المسجد معطوف على الدار المعمول لحرف الجر. وخالد معطوف على علي المعمول للابتداء.

القياس في العوامل

المانع يراه غير مطابق للأسلوب العري الصحيح، فلا محيص للكافيجي وغيره من إقامة الدليل على صحة هذا التركيب. * القياس في العوامل: من البين أن الرافع والناصب للكلمة هو الناطق بها، وما نسميه بالعامل؛ كالفعل والحرف إنما هو أداة يلاحظها المتكلم، وياخذها بمنزلة الوسيلة لتلك الآثار الخاصة من رفع ونصب وخفض وجزم. ولما لم يكن تأثير هذه العوامل النحوية من قبيل تأثير الأسباب العقلية أو الحسية، وإنما هو بقصد المتكلم إلى جعلها وسيلة للعمل، جاز تأخيرها عن المعمول، واستقام لكل من اللفظين أن يكون عاملاً في صاحبه؛ كأسم الشرط والفعل المجزوم به؛ نحو: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 10]، ولا يتوجه الاعتراض عليهما بأن الأثر لا يوجد قبل علته الفاعلة. وساغ لهذا المعنى أيضاً أن يتوارد عاملان على معمول واحد، ولكنهم ضعفوا قول المبرد: إن الابتداء عامل في المبتدأ، وهما؛ أي: الابتداء والمبتدأ عاملان في الخبر، من جهة السماع، فقالوا: إن توجّه عاملين إلى معمول واحد لا يعهد له نظير في العربية، وبمثل هذا الوجه ضعفوا قول الفراء: إن زيداً في قولك: "قام وقعد زيد" مرفوع بالفعلين، واختاروا أن يكون فاعلاً للثاني، وهو قعد، وجعلوا الفاعل للأول ضميراً مقدراً. وأكثر اختلافهم في تحقيق العامل لا يظهر له أثر في نظم الجملة، وقد ينبني عليه الحكم بصحة بعض التراكيب؛ كاختلاف الكوفيين والبصريين في الرافع لاسم "كان" الناسخة، فمقتضى قول الكوفيين: إن الاسم لم يزل مرفوعا بالابتداء، وإن "كان" إنما عملت في الخبر، امتناع نحو: كان زيد

كاتباً، وعمرو شاعراً؛ لأنك عطفت قولك: "عمرو شاعراً" على قولك: "زيد كاتباً"، فيكون التركيب من قبيل عطف معمولين على معمولي عاملين مختلفين، وهما - أي: العاملان: كان، والابتداء - ولكنه بمقتضى مذهب البصريين كلام عربي فصيح؛ لأن المعطوف عليهما، وهما "زيد كاتباً" معمولان لمعمول واحد هو لفظ كان، وعطف اسمين على معمولي عامل واحد - وإن اختلف إعرابهما - لا مرية في صحته. وعوامل الإعراب ترجع إلى ستة أصناف: أولها: الأفعال المتصرفة، ومصادرها، وما يشتق منها؛ نحو: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، وأفعل التفضيل. ثانيها: الأفعال غير المتصرفة؛ نحو: عسى وليس ونعم وبئس. ثالثها: الحروف؛ مثل: الحروف الخافضة للأسماء، والحروف الناصبة للأفعال، أو الجازمة لها. رابعها: أسماء تعمل من جهة موقعها في الجملة؛ كالمضاف يعمل في الخبر، والمميز المفرد يعمل في التمييز. خامسها: صفات تكتسبها الكلمة من حال استعمالها في الجملة؛ كالإبتداء، والإضافة في الأسماء، والتجرد من الناصب والجازم في الأفعال. سادسها: كلمات ليست بأفعال، ولكنها تشبه الأفعال في المعنى؛ كاسم الإشارة وحرف التنبيه في رأي من يجعلهما عاملين في الحال؛ نحو: هذا زيد كاتباً، وكحروف النداء، وما النافية عند من يجيز تعلق الظرف أو الجار والمجرور بها. ولا شبهة في أن الصنف الأول، وهو الأفعال والمصادر، وما يشتق

منها، أقوى من بقية أصناف العوامل، ولقوته في العمل صح لهم أن يسندوا إليه عملين مختلفين؛ كالفعل يرفع الفاعل، وينصب المفعول، أو ثلاثة آثار؛ كالفعل يرفع الفاعل، وينصب مفعولين، أو أربعة آثار؛ كالأفعال التي ترفع الفاعل، وتنصب ثلاثة مفاعيل. ونبني على هذا: أنه متى أمكن أن يكون العامل من هذا الصنف الأقوى، لم يعدل عنه إلى جعل العامل من صنف غيره، وقد اختار سيبويه أن يكون العامل في المنادى فعلاً مقدراً، ورجحه على أن يكون العامل حرف النداء، وإن كان ملفوظاً به؛ حيث قال: إن العامل في المنادى فعل مضمر تقديره: "أدعو". والتحقيق - فيما نرى - أن الموازنة بين الصنف الأول إذا كان مقدراً، وغيره إذا كان ملفوظاً به، يرجع إلى قوة النظر في المعنى، وسرعة انتقال الخاطر إلى المقدر، فإذا كان المدعى تقديره لا ينتقل إليه الذهن بسرعة، أو لا يلتئم بنظم الكلام عندما تصرح به، فالراجح نسبة العمل إلى الملفوظ به، ولو كان من الأصناف الضعيفة، وهذا ما دعا المبرد إلى أن قال: العامل في المنادى حرف النداء نفسه. والرجوع في العوامل إلى ما يقتضيه المعنى ويتبادر إلى الأذهان، يريك أن قول سيبويه: إن العامل في عطف النسق هو العامل في المتبوع، أقوى من قول ابن جني في "سرِّ الصناعة": إن العامل مضمر، ويقدر من جنس العامل في المعطوف عليه. وإذا وزنت بهذا الأصل قول الجمهور: ان المفعول لأجله في نحو: "قمت إجلالاً لك" منصوب بالفعل المذكور، رأيته أرجح من مذهب الزجاج؛

حيث أرجعه إلى المفعول المطلق، وقدر له فعلاً من نوعه، والتقدير: قمت وأجلك إجلالاً. ومما يجري على هذا النسق: أن الجمهور يرون أن عامل الجزم في الفعل الواقع في جواب الطلب، شرط مقدر؛ والتقدير عندهم في نحو: "استقمْ يرفعِ الله قدرك": إن استقمت، يرفع الله قدرك، وذهب فريق إلى أن عامل الجزم هو الطلب نفسه، ومن أقام موازنة بين المذهبين، قد تدفعه قوة المعنى إلى ترجيح قول الجمهور، فإن رفعة القدر في المثال السابق معلقة على حصول الاستقامة، وهذا المعنى لا يستقل بافادته الأمر أو الاستفهام وحده، فلابد من ملاحظة شرط يستقيم به نظم الكلام، ويطابق به المعنى الذي أردت التعبير عنه. وللفريق الذي جعل عامل الجزم في ذلك المثال فعلَ الطلب نفسه، أن يجيب بأن ترتب رفعة القدر على الاستقامة، ودلالة الجملة على أن أولاهما موقوفة على ثانيتهما، يؤخذ بقرينة الجزم، فيكون الجزم بمنزلة الفاء في مثل قولك: كن شريف الهمة، فيكبُر عملك، فكبُر العمل موقوف على شرف الهمة، ولا حاجة إلى تقدير شرط؛ فإن الفاء تنبئ عن هذا الارتباط الذي سميت من أجله فاء السببية. والأصل في الحروف المشتركة بين الأسماء والأفعال: أن تكون معزولة عن العمل، وخرج عن هذا الأصل: "ما"، و"لا"، و"إن" النافيات؛ فإنها من قبيل ما يشترك فيه الأسماء والأفعال، وقد أعطاها بعض العرب عمل "ليس" الناسخة. فإذا وقع نزاع في نسبة العمل إلى حرف مشترك بين الأسماء والأفعال،

فهذا الأصل ينصر من ينفي عنه العمل، فيمكنك أن تستدل به على ضعف مذهب من يقول: إن العامل في المعطوف هو حرف العطف، فان العاطف يتصل بنوعي الأسماء والأفعال. وعلى هذا الأصل ينبني خلافهم في إن وأخواتها عندما تتصل بها "ما" الزائدة، فقد سمع إعمال "ليتما"، فاتفقوا على جواز إعمال هذا الحرف. واختلفوا في إعمال بقية الحروف، فمنعه سيبويه. وأجازه الزجاج، وابن سراج، والكسائي، ومذهب سييويه قائم على أن "ليتما" لم تزل على اختصاصها بالأسماء، فساغ إعمالها، ولا يسوغ قياس الأحرف الباقية عليها؛ لأن "ما" أزالت اختصاصها بالأسماء، وهيأتها للدخول على الأفعال. ومن أصولهم: أن الحرف لا يعمل عملين مختلفين، وإنما يعمل عملاً واحداً؛ كالحروف الخافضة للأسماء، أو الناصبة للأفعال، أو عملين متماثلين؛ نحو: إن، وإذما الشرطيتين، يجزمان فعل الشرط وجوابه، وخرج عن هذا الأصل عند البصريين: إن وأخواتها؛ فإنها في مذهبهم ناصبة للاسم ورافعة للخبر، وحافظ عليه الكوفيون، فطردوه في كل موضع، وقالوا: إن الناسخ عمل في الاسم وحده، وأما الخبر، فإنه مرفوع بما ارتفع به قبل أن يرد عليه الناسخ، وهو المبتدأ. ويشبه هذا قول سيبويه: إن "لا" النافية للجنس إنما عملت في الاسم، وأما الخبر، فإنه مرفوع بكونه خبر المبتدأ. والأصل فيما يسند إليه العمل: أن لا يتخلف عنه أثره أينما وجد، فإذا احتمل وجه الاعراب أن ينسب إلى ما يدور معه العمل حيثما وجد، وأن ينسب إلى ما لا يطرد معه العمل في جميع مواقعه، ترجح جانب الاحتمال

الأول، ومن أمثلة هذا: أن بعض الكوفيين يقولون: إن الفعل الواقع بعد واو المعية المسبوقة بطلب (¬1) أو نهي منصوب بالخلاف المسمى عندهم بالصرف، وبيانه: أن ما بعد واو المعية مثل: "وتأتي" في قول الشاعر: "لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله" خبر، وما قبله طلب، فلما اختلفا في المعنى، وقع الخلاف بينهما في الإعراب. وهذا المذهب مردود بأن نحو هذا الخلاف قد ثبت في مواضع لم يظهر له فيها عمل؛ مثل: الأسماء الواقعة بعد "لا"، أو "لكن" العاطفتين؛ نحو: ما كتب زيد، لكن بكر، وأحسن عمرو، لا خالد. وإذا دلت الصيغة على المعنى، وتقرر لها عمل خاص، ثم جاءت صيغة أخرى توافقها في الدلالة على ذلك المعنى، أفنلحق الصفة الثانية بالأولى، ونعطيها ذلك العمل الخاص، أو لا نملك هذا الإلحاق، ونقف دونه حتى يرد في كلام العرب ما يشهد بأنهم أعطوا من العمل ما أعطوه للصيغة الأولى؟ ووجه الوقف: أنه لا يلزم من الاتحاد في المعنى التماثل في العمل؛ فإنك ترى كثيراَ من الكلم تتحد معنى، وهي تختلف في التعدي واللزوم؛ نحو: رحمه، وصلى عليه. ومما يوضح هذا أن صيغة "مفعول" تعمل في الاسم الظاهر؛ نحو: محمود مُقامه، ومرفوع ذكْرُه؛ ويوافق صيغة مفعول في الدلالة على معناها صيغة فعيل، نحو قتيل وجريح، وقد أبى الجمهور أن يلحقوا فعيلاً بشبيهه، وهو مفعول، فيجيزوا رفعه للظاهر، وقالوا: لا يصح أن يقال: مررت برجل ¬

_ (¬1) المراد من الطلب ما يشمل الأمر والنهي والاستفهام.

القياس في شرط العمل

كحيل عينه، أو قتيل أبوه، وأجاز ذلك ابن عصفور، ولعله استند في هذا إلى أصل القياس. ويدخل في هذا الباب صيغة فَعِل؛ نحو: حَذِر، فالجمهور يمنعون عمله عمل الصيغة المحول عنها، وهي صيغة فاعل، فلا ينصب المفعول به، وسيبويه يجيز عمله، ولكنه استند في مذهبه إلى شاهد على أنه من كلام العرب هو قول الشاعر: حذر أموراً ماتخاف وآمن ... ما ليس ينجيه من الأقدار وطعن الجمهور في هذا البيت بأنه مصنوع، وحكوا عن اللاحقي أنه قال: إن سيبويه سألني عن شاهد في تعدي فَعِل، فعملت له هذا البيت. * القياس في شرط العمل: قد يكون العامل مقارناً لوصف، أو لفظ، فيجعلون مقارنته لذلك الوصف أو اللفظ شرطاً في عمله، كما أخذوا في فعل التعجب شرط تاخير معموله عليه، فلا يقال: زيداً ما أحسن، وكما قالوا: إنَّ "دام" تعمل عمل كان بشرط أن تسبقها "ما" المصدرية الظرفية. وللعامل مع هذه الشروط حالان: أحدهما: ما إذا فقد الشرط بطل العمل، ويقي العامل مهملاً، كما شرطوا في نصب "إذن" للمضارع أن تكون في صدر الجملة، فإذا فقدت الصدارة، بطل النصب، مع بقاء"إذن" في نظم الكلام مهملة. ومثل هذا النوع من الشروط لا تنبغي المخالفة فيه إلا ممن لم تبلغه الشواهد التي خليت من الشرط، فتخلى العامل فيها عن العمل. ثانيهما: ما إذا فقد الشرط، لم يصح أن يؤتى بالعامل في نظم الجملة

البتة، وهذا كما شرطوا لعمل إن وأخواتها الترتيب في الوضع؛ بأن يأتي اسمها مقدماً على خبرها، فإن المتكلم إذا لم يوف لها هذا الشرط لا يسوغ له أن يدخلها في التركيب، ولو مع إهمالها. وهذا النوع من الشروط هو الذي يختلفون فيه كثيراً؛ فإن للمخالف في الشرطية أن يدَّعي أن مقارنة ذلك الوصف أو اللفظ إنما كانت على سبيل الاتفاق، لا على أنها لازمة بحيث يكون العمل موقوفاً عليها، إذ لا يوجد في هذا القسم صورة تبين كيف أهمل العامل من أجل تخلف ذلك الوصف أو اللفظ، مثلما وجد في القسم الأول. ولمدَّعي الشرطية أن يقول: إني لم أر هذه الأداة عاملة إلاَّ مع هذا الوصف أو اللفظ الخاص، فاعده شرطاً للعمل، ومن ينفي الشرطية، فعليه بإقامة الدليل. فمنكر الشرطية إما أن يسوق شاهداً على عملها مع عدم ذلك الوصف أو اللفظ، أو يمنع أن يكون لارتباط العمل به وجه مناسب. فإن سلك الطريقة الأولى، وهي إقامة الشاهد الصحيح على العمل مع تخلف الوصف أو اللفظ، فقد رمى بسهم صائب، وأصبح مذهبه في حرز من الصحة. ومثال هذا: أن البصريين يقولون: لا يصح العطف على الضمير المجرور إلا بشرط إعادة حرف الجر. وخالفهم الكوفيون، فأجازوا العطف مع عدم إعادة الجار، وأقاموا على مذهبهم شواهد، منها: قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]، وقول الشاعر: "فاذهب فما بك والأيامِ من عجب" وقد يستمر مدعي الشرطية متشبثاً برأيه، ولو بعد أن تلقى عليه الشواهد

القياس في الأعلام

البينة في إلغاء الشرط وقيام الحكم بدونه، ويذهب في التأويل أبعد مذهب، وهذا كما قال البصريون في تاويل آية {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]: إن الواو في قوله: (والأرحامِ) للقسم، لا للعطف، أو إن حرف الجر، وهو الباء، مقدر، وكلا الوجهين في منتهى الضعف كما ترى. فلو عجز المخالف في شرطية الاقتران بوصف أو لفظ عن الطريقة الأولى، وهي إقامة الشاهد على وجود العمل مع تخلف ذلك الوصف أو اللفظ، وجنح إلى الطريقة الثانية، وهي المطالبة بالوجه المناسب، لجعل الاقتران بذلك الوصف أو اللفظ شرطاً، فإن أبدى القائل بالشرطية وجهاً صحيحاً لارتباط العمل بالوصف أو اللفظ المقارن، انقطع المخالف، واستقر الشرط في محله. وهذا كما يقول البصري: إن الفعل الناسخ المقرون بما النافية لا يجوز تقديم خبره على "ما"، وهذا القول في معنى أن شرط عمل الناسخ المنفي بحرف "ما" أن يكون خبره مؤخراً عنه. وقد نازع الكوفيون في هذا الشرط، مع اعترافهم بأن الخبر لم يرد في السماع إلا مؤخراً، فكان من البصريين أن قالوا: لربط العمل بتأخير الخبر وجه هو: أن "ما"، النافية من الأدوات المستحقة للصدارة، فلا يصح لما بعدها أن يعمل فيما قبلها. فإذا لم يأت مدعي الشرطية بوجه، أو أتى بوجه غير مقبول، بقي باب القياس مفتوحاً في وجه المخالف، فإن كان قريب المأخذ، حسن الموقع، انهدم ذلك الشرط، واستمر العمل على إطلاقه. * القياس في الأعلام: المعروف في الأعلام أن أمرها موكول إلى واضعها، فينقلها من أي

موضع شاء، ويصوغها في أي وزن شاء، دون أن يراعي قانوناً، أو يجري فيها على سنة قياس. قال الشيخ ابن عرفة في تفسير قوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 14]: انتقد القرافي على الفخر بن الخطيب تسمية كتابه بالمحصول قائلاً: إن فعل حصل "لا يتعدى" إلا بحرف الجر، ومثل هذا لا يبنى منه اسم المفعول إلا مصحوباً بالمجرور، فكان حق التسمية: المحصول فيه. ثم تصدَّى الشيخ ابن عرفة لجواب هذا الاعتراض، فقال: إن صوغ اسم المفعول من اللازم بدون المجرور إنما يمنع إذا أريد منه مجرد الوصف، وأما أخذه على أنه اسم لشيء معين، فجائز؛ لأنه يصح تسمية الإنسان ببعض الاسم، فأحرى أن يسمى باسم المفعول غير مصحوب بحرف الجر؛ كما سميت الشجرة: "سدرة المنتهى"، دون: المنتهى إليها. وبمثل هذا يجاب المعترض على القاضي عياض في تسمية كتابه: "الشفا"؛ حيث قال: إن ما ورد ممدوداً؛ كالشفاء، لا يجوز قصره إلا في ضرورة الشعر. وبمثل هذا أيضاً يجاب من اعترض تسمية بعض المؤلفات بنحو: رد المحتار، أو المقتطف؛ إذ لم يجد في كتب اللغة احتار واقتطف، وليس هناك قياس يجيز اشتقاق احتار من حار، أو اقتطف من قطف. والتحقيق: أن إنكار تسمية بعض المؤلفات برد المحتار، أو المقتطف، إنما يتوجه على واضع الاسم متى بنى وضعه على أن العرب قالوا: احتار، أو اقتطف، أو على اعتقاد صحة أخذ افتعل من مادة: حار، أو قطف، ولو علم أنه لا يقال: محتار، ومقتطف، ثم عمد إلى وضع أحدهما اسماً لتاليف

الكلمات غير القاموسية

بعينه، لم يكن مخالفاً لقانون اللغة، وعلى أي حال، لا يؤاخذ الناطق بهما بعد أن صارا علمين، ولا يوصف بالخطأ الذي يوصف به القائل: اقتطفت الثمرة، واحترت في أمر كذا. ولا أدري - إلى هذا اليوم - ماذا أراد صاحب "القاموس" بالقياس في قوله: "فَقْعَس عَلمٌ مرتجل قياسي"؛ إذ لا نعرف فارقاً بين فقعس وغيره من بقية الأعلام المرتجلة سوى أن مادته لم تستعمل إلا في صيغة هذا العلم؛ بخلاف غيره من الأعلام المرتجلة؛ كسعاد، وأدَد؛ فإنها مرتجلة؛ نظراً إلى صيغتها، وأما مادة حروفها، فإنها مستعملة من قبل هذه الأعلام بصيغ أخرى. * الكلمات غير القاموسية (¬1): كان فضيلة الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي رئيس المجمع العلمي بدمشق قدَّم إلى ذلك المجمع اقتراحاً، وبعث إليَّ المجمع بنسخة من ذلك الاقتراح يطلب إبداء رأي فيه، فكتبت في جوابه مقالاً موجزاً، وقد رأيت إضافته في الطبع إلى كتاب "القياس في اللغة العربية" مصدَّراً باقتراح المغربي. اقتراح الأستاذ المغربي: موضوع اقتراحي - أيها السادة - هو استمالة نظركم إلى العناية بالكلمات (غير القاموسية)؛ وأعني بالكلمات غير القاموسية: كلمات نستنكف من إيداعها ¬

_ (¬1) نشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السادس من المجلد الأول- الصادر في ذي القعدة 1347 - القاهرة.

قواميسنا العربية. وقد أصبحنا - مع هذا - لا نستنكف من التكلم بها، وإيداعها كتاباتنا أحياناً. وقد أصبحنا -معشر العرب- مع معاجم لغتنا تجاه أمر واقع غريب الشكل، ذلك أننا نرى ألوفاً من الكلمات العربية الحوشية المهجورة الاستعمال قد تبوأت من قواميسنا الصدر والمحراب، وألوفاً من الكلمات الدخيلة التي ألفتها الأسماع، والتي نرى أنفسنا مضطرين لاستعمالها قد حرمت دخول المعاجم، وطرحت وراء الأبواب. وهذا على خلاف ما عليه الحال في لغات الأمم الراقية؛ فإن معاجمها اليوم تتضمن من الكلمات القديم والحديث، والأصيل والدخيل، وميزان التفاضل بينهما إنما هو استعمال البلغاء لها، لا لكونها أصيلة أو دخيلة، فإذا تصفحت معجم (لاروس) - مثل -، وجدت فيه إزاء الألفاظ الإفرنسية المحضة ألفاظاً أخرى من لغات مختلفة، فنجد من اللغة العربية - مثلاً - كلمات: mesquine " مسكين"، felouque " فلك"، marbout " مرابط" (شيخ صوفي)، bled " بلد"، cable " جبل"، sirop " شراب"، houri " حورية"، mantille " منديل"، jare " جرة" في نظير ذلك من الكلمات العربية التي يحلونها المحل الأرفع من معاجمهم، ويزينون بها خطبهم وكتاباتهم. ولا يخفى على حضراتكم - أيها السادة - أن الكلمات الدخيلة التي سميناها: (غير قاموسية) تبقى مرذولة سيئة السمعة ما دامت لا تذكر في معاجمنا العربية. وما دام كتابنا المجيدون يأنفون من استعمالها خشية أن ينسب إليهم قصور، أو توصم كتاباتهم بلوثة العجمة، وكل ما أريد الآن من أفاضلنا أن لا ينظروا إلى الكلمات (غير القاموسية) نظرة ازدراء، ولا يحرموا استعمالها على السواء، بل أقترح عليهم أن يضعوها، ثم يميزوا بين أصنافها، فصنف منها يعلن مجمعنا

العلمي الفتوى بجواز استعماله، بل بلزوم ذكره في معاجمنا اللغوية الحديثة أيضاً، وصنف منها يعلن عدم جواز استعماله أصلاً، ثم يبين السبب في الأمرين: الجواز، وعدم الجواز. وها أنذا منذ الساعة أصنف هذه الكلمات تصنيفاً أولياً يدرك الذهن منه ما هي الكلمات (غير القاموسية) التي ينبغي استعمالها، وما هي الكلمات التي يجب اطراحها وإهمالها: "الصنف الأول": من الكلمات (غير القاموسية): كلمات عربية قحة، لم تذكرها المعاجم، لكنها وردت في كلام فصحاء العرب الذين يحتج بأقوالهم، مثل فعل "تبدَّى" بمعنى: ظهر، لم تذكره المعاجم بهذا المعنى، وإنما ذكرته بمعنى: "سكن البادية"، لكنه ورد في بيت شعر لعمرو بن معدي كرب من قصيدته الدالية المذكورة في "ديوان الحماسة". والبيت هو قوله: وبدت لميس كأنها ... بدر السماء إذا تبدَّي فما رأيكم - أيها السادة - في هذه الكلمة (غير القاموسية)؟ هل يجوز لنا إهمالها بعد أن جات في شعر هذا العربي الصميم؟ لكن لماذا لم تذكرها المعاجم؟ هذا شيء آخر لا يتسع الوقت للبحث فيه، ولا أظن أن زملائي أعضاء المجمع العلمي يخالفونني في وجوب الإسراع إلى إعلان الفتوى بجواز استعمال كلمة (تبدى) وما أشبهها. "الصنف الثاني": من الكلمات (غير القاموسية): كلمات عربية خالصة لم تذكرها المعاجم، لكنها وردت في كلام فصحاء العرب الإسلاميين الذين لا يحتج بأقولهم: وهذا كفعل (أقصَّ) الخبر-رباعياً- بمعنى: (قصه) - ثلاثياً - لم تذكره المعاجم، لكنه جاء في كلام الإمام الطبري المشهور ببلاغة عبارته إذ

قال في "تاريخه" (جزء 2 ص 184) من الطبعة الأوربية -: "فأتيته فأقصصت قصته". وأظن أن السادة أعضاء المجمع يوافقونني أيضاً على إعطاء الفتوى بجواز استعمال هذا الصنف من الكلمات (غير القاموسية)، ويمكن أن يعدّ من هذا النوع إقرار العلامة اليازجي لكلمة "فخيم"، مع أن علماء اللغة لم يذكروا إلا "فَخْم"، واستعمال الإمام الشيخ محمد عبده لكلمة: "صدفة" في خطبة "شرحه لنهج البلاغة" مكان كلمة: (مصادفة). "الصنف الثالث": كلمات عربية المادة، ومع هذا لا يعرفها العرب، أو يعرفونها في معان أخر، وهي كلمات اصطلاحية فنية أو إدارية؛ كقولهم: (هيئة المحكمة)، (تشكيل المحاكم)، (انعقدت الجلسة)، (تعريفة الرسوم)، (ميزانية)، (كمية)، (كيفية)، وما في نظير ذلك، وهذه الكلمات (غير القاموسية) أرجو من رفاقي أعضاء المجمع أن يجوزوا استعمالها، لا سيما أنها كلمات اصطلاحية كما قلنا، ولكل قوم اصطلاحهم. "الصنف الرابع": كلمات عربية المادة ولَّدها المتأخرون من أهل الأمصار الإسلامية لا يعرفها العرب الأولون، ولم ينطق بها الفحول المقرمون؛ مثل فعل: "خابره" بمعنى: راسله، وفعل: "تفرج" على الشيء، "واحتار" في أمره، "وتنزه" في البستان، وهكذا. وأنا أعترف بأنني سألقي صعوبة في حمل زملائي أعضاء المجمع العلمي على إعطاء فتوى بجواز استعمال هذا الضرب من الكلمات (غير القاموسية). "الصنف الخامس": كلمات دخلية عجمية الأصل، وهي منها ما هو ثقيل "على اللسان": (أتوموبيل)، (بيرصو ناليته)، ومنها ما هو خفيف في

السمع مثل: (فلم)، (بالون). وأنا على يقين أن أعضاء المجمع لا يجوزون استعمال كلا القسمين: الثقيل، والخفيف، وإنما هم يوجبون العدول عنهما إلى كلمات عربية تقوم مقامهما، أو تعريبها بكلمات ذات صيغة عربية كما قالوا: مناورة في تعريب manoeuvre. وأنا أوافقكم في الكلمات الثقيلة. أما الخفيفة مثل: (فِلم، وبالون)، فأرتاح إلى القول بجواز استعمالها كما هي. "الصنف السادس": أساليب أو تراكيب أعجمية تسربت إلى لغتنا مترجمة عن اللغات الأوربية، وهي مما لا يعرفه العرب الأقدمون، وهذا كقولهم: "ذر الرماد في العيون"، "عاش ستة عشر ربيعاً"، "وضع المسألة على بساط البحث"، "لا جديد تحت الشمس"، "ساد الأمن في البلاد"، وما في نظير ذلك، وكل هذا مما استفاض بيننا، وتعاورته أقلامنا، ولا أظن أن أحداً ينازع في جواز استعماله، اللهم إلا الذين أصيبوا بالوسواس اللغوي. "الصنف السابع": من الكلمات (غير القاموسية): كلمات عربية لا يستعملها أحد من الفصحاء، بل يتحاشون النطق بها لعمري، وهو ما نسميه: "العامي"، وهذا كثير لا يجهله أحد مثل كلمة "بدّى" أذهب، "جيب" الكتاب، "لحشه" على الأرض، "تعربش" على الشجرة، "تحركش" بفلان، إلى غير ذلك، وهذا لا يجوز استعماله بالطبع، بل يجب العمل على تقليص ظله من بيننا تدريجاً، وتعويد أبنائنا على استعمال غيره من الفصيح الذى يصلح أن يقوم مقامه. هذا ما خطر لي - أيها السادة - في تصنيف الكلمات (غير القاموسية)، ويمكن تصور أصناف أخرى غيرها؛ إذ ليس القصد من هذا الاقتراح الاستقصاء وبلوغ الغاية، وإنما القصد الإشارة والتلميح إلى ما يجب على مجمعنا العلمي

عمله من التسامح، وإعطاء الفتوى في الكلمات التي عمت بها البلوى. "المغربي" جواب هذا الاقتراح: لم يبق اليوم من يخالف في أن اللغة العربية في حاجة إلى مجمع علمي يسير بها مع مقتضيات العصر، ويضع للمعاني المتجددة ألفاظاً لائقة. والذي يمكن أن تختلف فيه الآراء إنما هو الطريق الذي نذهب منه إلى سد الحاجة ورفع الحرج حتى لا تفقد اللغة حياتها. وحتى لا يقف الكاتب أو الخطيب أو الشاعر أمام هذه المعاني الطارئة مبهوتاً. يكاد علماء اللغة -فيما سلف- يجمعون على أن الناطق بكلمة لم ترو عن العرب الخلص مخطئ، إلا أن تكون على قياس لغتهم. وإذا جرى الخلاف في صحة استعمال كلمة أو تركيب لم ينقل عن العرب، فاساسه اختلاف النظر في أن هذا الاستعمال موافق لمقاييس اللغة، أو غير موافق لها. وإذا وجد الباحث في مواقع اختلاف علماء العربية سعة فيما يأخذ به من قبول بعض الكلمات أو التراكيب، فإن مخالفتهم فيما يجمعون على أنه غير مطابق للقياس ليست من السهولة بحيث يجهر به الكاتب أو الخطيب غير مستند إلى شيء سوى الحرص على تكثير سواد اللغة، وإطلاق الألسنة من أن تتقيد بنظمها. ولا أذهب إلى أن خرق إجماعهم في نفسه خطأ، وأن قولاً خارقاً مردود على كل حال؛ وإنما أود من الكاتب أو الخطيب أن يدخل البحث على طريقة يثبت بها أن اسمتعمال الكلمة أو التركيب على الوجه الذى يختاره موافق لمقاييس اللغة، أو يذكر وجه الحاجة الداعية إلى هذا الاستعمال، ويبين أن اللغة تبقى

من دونه في قصور يقف بها دون هذه اللغات النامية. ضبط علماء اللغة قواعد العربية، ومازوا بين ما جاء على وجه الشذوذ، فينطق به كما ورد، وبين ما يصلح لأن يكون قياساً مطرداً، فرموا بهذا إلى غرضين شريفين: أحدهما: المحافظة على لهجة العرب وطرز خطابهم. ثانيهما: فتح السبيل إلى أن تستمر اللغة نامية على وجه يلائم روحها يوم وصلت في بلاغتها وحسن بيانها إلى ذروة لا تطمح العين إلى ما وراءها. "لم يزل ولدُ إسماعيل على مر الزمن يشتقون الكلام بعضه من بعض، ويضعون للأشياء أسماء كثيرة بحسب حدوث الأشياء الموجودات وظهورها". وهذا النوع من التصرف لا يختص بالعرب الخلص، بل هو حق باق لكل من ينشؤون على النطق بهذه اللغة الفضلى. وإذا لم تسر هذه اللغة فيما سلف على مقتضيات العصور، فليست علة ذلك أن آراء علمائها وقفت في سبيل تقدمها، وإنما فات علماءها أن يقوموا بهذا الإصلاح العلمي على طريقة منتظمة دائمة. طرأت على اللغة علل سرت من ألسنة غير فصيحة، وترجع هذه العلل إلى أضرب: أحدهما: تغيير نظم الكلام؛ كتقديم ما التزم العرب تأخيره، والفصل بين كلمتين التزموا فيهما الإتصال. وهذا النوع من التغيير لا يصح أن يجارى فيه العامة البتة؛ لأن الإغماض فيه يفضي إلى انقلاب اللغة الفصحى إلى لغة أو لغات لا ندري كيف تكون منزلتها في الانحطاط والبعد عن هذه الأساليب المحكمة.

ثانيها: ترك هذه الحلية المسماة بحركات الإعراب، والأخذُ في هذا بما تفعله العامة مُذْهِبٌ لبهاء اللغة، وملقٍ للكلام في ضروب من الإبهام، وقد كانت وجوه الإعراب تصونه عنها لأول ما يلفظ به من غير احتياج في رفع هذا الإبهام إلى قرينة زائدة عن نفس الخطاب. ثالثها: مفردات أصلها عربي، فتغيرها العامة بنحو الحذف أو الزيادة أو القلب. مثل كلمة: (بِدِّى) أفعل، فالظاهر أن أصلها: (بوُدّي) ومثل: (تحركش) بفلان، فالظاهر أن أصلها: (تحرَّش)، وهذا من أمراض اللغة التي يجب أن نحمي ألسنتنا وأقلامنا من أن تحوم حولها. والأستاذ المغربي يوافق على أن هذا الصنف مما يتحاشى من النطق به، ويجب العمل على تقليص ظله. ولا أحسبه يخالف في تحامي الصنفين الأولين، ووجوب العمل على تنقية اللغة من أقذائهما. ونحن نوافق الأستاذ في صحة استعمال ما سماه صنفاً أول، وهو "كلمات عربية قحة لم تذكرها المعاجم، ولكنها وردت في كلام فصحاء العرب الذين يحتج بأقوالهم، مثل فعل (تبدَّى) بمعنى "ظهر"؛ حيث ورد في بيت لعمرو بن معدي كرب مروي في "ديوان الحماسة"، ومن الذي يعارضه في صحة استعمال كلمة جاءت في شعر عربي احتواه كتاب يوثق به؛ ككتاب "ديوان الحماسة"؟! ويجري على هذا السبيل كلمة: (معتمد) للذي عمده الوجع؛ فقد وردت في شعر عزاه صاحب "الأغاني" لعدي بن زيد، وهو "من لقلب دنفٍ أو معتمد"، والقافية، وتفسير صاحب "الأغاني" لها بقوله: "المعتمد: الذي قد عمده الوجع" ينفيان احتمال أن تكون هذه الكلمة قد أصيبت بتحريف. فعد مثل هذه الكلمة في لغة العرب مما يجد في القبول مساغاً، وإن لم يرد

في كتب المعاجم. ومن هذا القبيل لفظ (يُسوِّف) مضعف سافَ؛ أي: شَمَّ، فإنا لم نجده في مثل "القاموس"، و"اللسان"، ولكنه ورد في قول أمية بن أبي عائذ: "فظل يسوف أبوالها"، وفسره أبو سعيد العسكري في "شرح أشعار الهذليين" بقوله: "يسوف: يشم". ونوافق الأستاذ "المغربي" فيما سماه صنفاً سادساً. وهو أساليب أو تراكيب أعجمية مترجمة عن اللغات الأجنبية، ولا يعرفها العرب الأقدمون، ونحن لا نعلم وجهاً للنفور من استعمال هذا الصنف ما دام التركيب موافقاً للنظم المالوفة في علم النحو؛ كهذه الأمثلة التى ضربها الأستاذ: (ذر الرماد في العيون)، (عاش ستة عشر ربيعاً)، (وضع المسالة على بساط البحث)، (لا جديد تحت الشمس)، (ساد الأمن في البلاد)، وهذا الصنف يرجع في الواقع إلى اقتباس صور من معاني لغة أخرى. واقتباس المعاني من اللغات الأجنبية شيء يتسع به أدب اللغة، ولا أعرف أحداً في القدماء أو المحدثين يلاقيه بإنكار، إلا أن يكون شيئاً تنبو عنه الأذواق السليمة. وأما ما سماه الأستاذ صنفاً ثالثاً، وهو (كلمات عربية المادة، ومع هذا لا يعرفها العرب، أو يعرفونها في معان أخرى، وهي كلمات اصطلاحية فنية أو إدارية)، فهذا النوع مما تدعو الحاجة إليه، ولمثله تؤسس المجامع اللغوية، والوقوف في سبيله وقوف في سبيل حياة اللغة، ولا شرط له إلا أن يجيء على قياس لغة العرب، ويصاغ على وجه يقع من ذوق الأديب العربي موقع القبول. وأما ما سماه الأستاذ: (صنفاً خامساً)، وهي كلمات دخيلة أعجمية الأصل؛ نحو: (أتوموبيل)، و (بالون)، فارى أن واجب المجمع اللغوي أن

يضع لهذه المعاني الحديثة ألفاظاً عربية، والمجال أمامه فسيح. ففي المجاز، والاشتقاق القائم على القياس سعة. ولا سيما الكلمات الخفيفة المهجورة؛ فإن إحياءها واستعمالها فيما يشبه معناها الأصلي، أو يكون له به صلة غير مشابهة، خير من جلب كلمة غير عربية، وأدعى إلى تناسب الكلمات وائتلافها. ولا نعد المجمع اللغوي مضطراً إلى إباحة استعمال الأعجمية إلا إذا لم يجد في نفس اللغة العربية ما يغني غناءها. وأما ما سماه الأستاذ: صنفاً رابعاً، وهو (كلمات عربية المادة، ولَّدها المتاخرون من أهل الأمصار الإسلامية، لا يعرفها العرب الأولون، ولم ينطق بها الفحول المقرمون)، وضرب له المثل بنحو: (تفرج)، و (تنزه)، و (احتار)، فإن قبوله يطلق لكل أحد العنان في أن يشتق الكلمة على غير قياس؛ كأن يقول: اقتام في معنى قام، واعتلم في معنى علم، كما قال غيره: احتار في موضع حار، واقتطف في موضع قطف. وأما ما سماه الأستاذ: صنفاً ثانياً، وهو (كلمات عربية خالصة لم تذكرها المعاجم، لكنها وردت في كلام فصحاء العرب الذين لا يحتج بأقوالهم)، ومثل له بكلمة (أقصصنا) الواردة في تاريخ ابن جرير، و (فخيم) الواردة في كلام اليازجي، و (صدفة) الواردة في كلام الشيخ محمد عبده، فنحن لا نفهم إلا أن اليازجي والشيخ محمد عبده استعملا هاتين الكلمتين على توهم أنهما من العربي الفصيح، ولسنا على ثقة من أن ابن جرير الطبري قال: (فاقصصنا)، ومجيئها في بعض النسخ من "تاريخه" لا يكفي دليلاً على أنه لفظها بفمه، أو كتبها بقلمه. ولو سلمنا أن يكون الشيخ محمد عبده واليازجي قد استعملا الكلمتين

مع العلم بأنهما لم يردا في كلام العرب الخلص، لكان تصرفهما هذا إطلاقاً لكل ناطق بالضاد أن يلقي الكلمات كيف يشاء. فيقول في الوصف من صعب - مثلاً - صعيباً، ومن سهل: سهيلاً؛ كما قال اليازجي في الوصف من فخم (فخيماً)، ويقول مكان قتل: (أقتلَ)، ومكان ضرب: (أضرب)؛ كما جاء في بعض النسخ من "تاريخ ابن جرير": (أقصصت)، ويقول كلمته (شفهة) بدل كلمته (مشافهة)؛ كما قال الشيخ محمد عبده: (صدفة) بدل مصادفة، ولسنا في حاجة إلى إيقاظ هذه الفوضى وهي نائمة، ولسنا في حاجة إلى أن ناع اللغة تمشي في غير نظام. انتهى

حياة اللغة العربية

حياة اللغة العربية

حياة اللغة العربية (¬1) "محاضرة ألقاها المؤلف سنة 1327 هـ في جمهور غفير من الأدباء وأساتيذ اللغة العربية، في "الجمعية الصادقية": كبرى الجمعيات الأدبية في تونس، عندما كان مدرساً بجامع الزيتونة". مقدمة في دلالة الألفاظ - تأثير اللغة في الهيئة الاجتماعية - أطوار اللغة العربية، وفيه: حكم الاستدلال بالحديث - فصاحة مفرداتها، ومحكم وضعها - حكمة تراكيبها - تعداد وجه دلالتها، وفي هذا الفصل: حكم ترجمة القرآن - تعداد أساليبها - طريق اختصارها - اتساع وصفها، وفي هذا الفصل: كلمة في الشعر والسجع - إبدل العرب في التشبيه - اقتباسهم من غير لغتهم - ارتقاء اللغة مع المدنية - اتحاد لغة العامة والعربية. ¬

_ (¬1) طبعت هذه المسامرة (حياة اللغة العربية) طبعتها الأولى في تونس بالمطبعة التونسية بنهج سوق البلاط عدد 57 عام 1327 هـ - 1909 م.

مقدمة الإمام محمد الخضر حسين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين الحمد لله الذي فاوت بين الألسنة في مراتب البيان والتبيين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد المرسل بلسان عربي مبين؛ ثم الرضا عن آل بيته الطاهرين. وأصحابه الأنصار والمهاجرين. هل أتاكم نبأ فريق من أعيان الأدباء، وأعضاء هذه الجمعية "جمعية الخلدونية"؛ إذ أخذتهم الغيرة على ما للغة العربية من الوضع المحكم، والأساليب المؤثرة، فاجمعوا أمرهم على السعي في ترقية شأنها باقرب الوسائل، ومواصلة البحث عن أسرار فصاحتها، ومن مآثر هذه الهمة أن خاطبني مجلس إدارتهم السامية بكتاب يقترح علي القيام بمسامرة في بيان شرف هذه اللغة، ودلائل حياتها، فضربوا لي معهم بسهم من ذلك الاهتمام، وما لبثت أن تلقيت دعوتهم بالاجابة. حررت ما سنناجيكم به في هذا المقام، وأتيت في خلال تحريره على شُبه أوحى بها إليّ بعض المسامرين، فالتبس عليه حال اللغة من جهة حياتها، ولئن أشهدناه دم الحياة كيف يجري في عروقها، وتلونا عليه من دلائل فصاحتها

ما لا يستطيع إنكاره، فإنا نعترف له بمزية البحث، وإعمال الفكرة لأننا أمة بحث ونظر، لا أمة تقليد وضغط على الأفكار. ولا أظهر في هذا الموقف بدعوى المفاضل بينها وبين لغات أخرى، ثم أقضي لها بالمزية والسباق؛ فإن شرف منزلتها، وقرار حياتها، لا يتوقف في بيانه على الموازنة بينها وبين ما عداها من اللغات. ولا أدعي - فيما أسوقه من شواهد حسنها - أن جميعه خاصة لها، لا يشاركها فيه لسان، فإذا أوردنا في سلكها فضيلة يعهدها بعض الحاضرين من لغة أخرى، فلا يناجِ نفسه بأنا خرجنا عن سبيل الغرض والقصد من الاستشهاد؛ إذ يكفينا داعيا إلى الذود عن حياضها، وناهضاً بالهمم إلى الاحتفاظ بها، أن غيرها من الالسنة لا يفوقها بفن من فنون البيان. فالغرض، إنما هو البحث عن حال اللغة في حد نفسها من جهة أطوارها، ومحكم وضعها، واتساع نطاقها، وارتقائها مع المدنية، وما يشاكل ذلك، وإليكم حديثها. محمّد الخضر حسين

دلالة الألفاظ

دلالة الألفاظ لا يشتبه على ذي نظر قيم: أن الألفاظ - وإن حسن تاليفها، وتناسبت أوضاعها، وامتدت إلى غير نهاية - لا تزيد فائدتها عن ضبط الغرض القائم في النفس، وتمييزه عما سواه، ولا تكاد تؤدي الصور والمعاني، وتنقشها في نفس السامع بحالتها المرسومة عليها في ذهن المخبر بها، فإذا شاهد الرجل حادثة، أو أدرك بحاسة وجدانه معنى، وأراد حكايته وإفراغه بمثاله الحقيقي في ذهن السامع، حتى يصير إدراك المخاطب للمحكي، مطابقاً لإدراك الحاكي مطابقةَ النعل للنعل، لم يجد لذلك لساناً كافياً. ولا يستطيع إنسان - وإن ملك الفصاحة تحت طي لسانه - أن يصف لك ذات شيء أبصره، فتتصوره على وجه يطابق صورته، إذا رأيته رأي العين، فيضطر إلى أن يفحص بخاطره فيما سبقت لك به معرفة من الموجودات؛ ليأخذ لك مثلاً تتعرف فيه أحوالاً للموصوف، لا تفي العبارة بتشخيصها، ومن ثمة انفتح باب التشبيه والتمثيل، ولم يستغن الفصحاء بعباراتهم الصريحة أن يقرنوها بضروب من إشارة اليد ونحوها. وإذا كان الحاذق في صناعة التصوير، لا يمكنه أن يرسم للشيء مثالاً يحكيه لك بجميع خواصه، ويغنيك عن مشاهدته، فكذلك مؤلف الألفاظ؛ لأن التعبير بها نوع من التصوير والمحكاة.

تأثير اللغة في الهيئة الاجتماعية

قال الشيخ ابن سينا في "كتاب الشفا": إن النفوس تنشط وتلتذ بالمحاكاة، فيكون ذلك سبباً لأن يقع عندها للأمر فضل موقع، والدليل على فرحهم بالمحاكاة؛ أنهم يسرون بتامل الصور المنقوشة للحيوانات الكريهة المنظر المتقزر منها، ولو شاهدوها أنفسها، لنفرت أنفسهم عنها، فيكون الفرح ليس بنفس تلك الصورة، ولا المنقوش، بل كونها محاكاة لغيرها إذا كانت قد أتقنت، ولهذا السبب ما صار التعليم لذيذاً إلى الفلاسفة فقط، بل إلى الجمهور، لما في التعليم من المحاكاة؛ لأن التعليم تصوير ما للأمر في رقعة النفس. وإذا كان التعبير بالألفاظ من قبيل التصوير ونقش المثال، فالصورة التي يمثلها الصانع بمقدار جمعها لخواص الممثل، وعلى حسب جودة أصباغها، وتناسب أوضاعها، تلذها العيون، ويرتاح الطبع عند النظر إليها، كذلك العبارة على قدر ما تسع من المعاني، وتحتوي عليه من الألفاظ السائغة، وحسن الائتلاف في التركيب، تطرب لها الأسماع، وتستعذبها الأذواق، ومن هذه الجهة يدخل العادلون إلى الحكم والتفضيل بين العبارات واللغات، فما كان أوسع دائرة في تصوير الغرض، وأرشق في مبانيه، وأحكم في نسيجه، كان أحق بالشرف، وأحرز للسباق. * تأثير اللغة في الهيئة الاجتماعية: مما لا سبيل للشبهة فيه، أن الشخص الذي يحل بين أقوام يجهل لغتهم، يبقى منفرداً عن جامعتهم، غيرَ معدود في زمرتهم، وتتوعر أمامه الطرق الموصلة إلى انخراطه في سلكهم، وتبادل المنافع معهم، فإذا تعلم من لسانهم ما يطلع به على آدابهم وعوائدهم ومعارفهم، انعقدت بينه وبينهم صلة التعارف والمعاشرة، وأصبح عضواً متصلاً بهم، عاملاً في هيئة مجتمعهم. هذا ما ينشأ عن مجرد

حفظ اللغة، فإذا أدرك من تلك اللغة فصاحة ورونقاً، ورأى تلك الآداب والعوائد والمعارف قائمة على أساس الحكمة، واستحسان العقل الصحيح، ترقى فوق ذلك إلى مكان التقرب منهم بفؤاده، والتحم معهم بجامع التحابب التحام الأنامل بالراحة. وربما ينتقل الإنسان إلى بلد لا يعرف لغة أهلها، فيوقعه سوء التفاهم مع أولي القوة منها في خطر لا يجد للخلاص منه طريقاً. روي أن زيد بن عبد الله بن دارم الحجازي دخل على ملك حِمير في مدينة ظفار، وهو جالس على مكان مرتفع، فقال له الملك: ثِبْ؛ أي: اجلس، في لسان حمير، ومعناها في لسان أهل الحجاز: اقفز، ففهمها الأعرابي على مقتضى لغته، وقفز، فتكسر، واندقت رجلاه، فسأل الملك عنه، فأخبر بلغة أهل الحجاز، فقال: ليس عندنا عربيت (¬1)، من دخل ظفار، حمر، وفي رواية: أما علم أن من دخل ظفار حمر؛ أي: تعلم اللغة الحميرية. ولا نفهم من هذا أن استحسان تعلم الوارد على البلد لغة أهلها يختص بالضعيف الذي لا يستطيع الدفاع عن حقوقه، بل إذا كانت القوة والسلطة للوافد عليهم، تأكد في حقه أيضاً بموجب فضيلة العدل أن يتعلم من لغة المحكومين؛ لئلا يفضي به سوء التفاهم معهم إلى خطيئة ظلمهم، والقضاء عليهم، بغير ما يستحقون. والتوافق في اللغة مما يزيد العلائق التي تؤلف الناس في نظم الاتحاد قوة ووثوقاً، ولهذا ترى الداعي إلى الوحدة الوطنية يسعى في تعليم لغة الوطن، وتعميم نشرها؛ حتى تكون هي اللغة الجارية في خطاباتهم وتحريراتهم على ¬

_ (¬1) أراد: عربية، لكنه وقف على هاء التأنيث بالتاء، وكذلك لغتهم.

أطوار اللغة العربية

وجه الصحة، لا يعدلون إلى التفاهم بغيرها إلا عند الحاجة، ومتى أهملت الأمة لغتها، وزهدت في تعلمها، انفصمت عرا جامعتها لا محالة، وتفرقوا أيدي سبأ، فإذا قام مناد يدعو أمة إلى نبذ لغتها، وأن تستبدل بها لغة أخرى، فإنما يريد انقسام وحدتها، وإخراجها من صبغة جنسها. ولن تتقدم أمة في معارج النهضة والرقي إلا بوسيلة لغتها، وعلى قدر ما تحتفظ بلغتها ترتقي في حياتها الأدبية، فمثل اللغة مع حال الأمة كالمثاقيل التي توضع في مقابلة الموزون، فبحساب ما ينقص من اللغة، ينزل ما يقابلها من حال الأمة إلى درك الشقاء؛ إذ لا يؤثر على إحساسهم في تذكيرهم بمجد الآباء، أو يهيج بعواطفهم إلى الاتحاد، والأخذ بوسائل السعادة غيرُ لغتهم الراقية، واعتبر في ذلك ببلاد الأندلس؛ فإن من أسباب سقوطها، ونزع أيدي المسلمين من ولايتها: ضعف اللغة العربية عندهم، ومسخ صورتها بما خالطها من الكلمات والأساليب التي لا تطابق وضعها، ولا تحتملها طبيعته. * أطوار اللغة العربية: لم يأت الباحثون عن مبدأ اللغة في أدلتهم بما تطمئن إليه النفوس، ويحل منها محل القطع، أو الظن القريب منه. على أن اختلافهم في تعيين الواضع هل هو الله تعالى، أو البشر؟ مما لا تترتب عليه فائدة في العمل تقتضي العناية بترجيح أحد المذهبين، ومن ثم صحح المحققون: أن ادخال هذه المسألة في علم الأصول من الفضول، وزعم بعضهم: أن قلب الألفاظ التي يؤدي تغييرها إلى فساد في أحكام الشريعة؛ كتسمية الثوب فرساً، والفرس ثوباً، يرجع حكمه إلى أصل ذلك الخلاف، فيمتنع القلب على القول بأن اللغة كلها وقعت بتعليم من الله، ويجوز على القول بأنها وضعت باصطلاح البشر، وليس هذا

البناء بمستقيم؛ فإن مجرد إسناد الوضع إلى الله تعالى، وإن ثبت بالحجة القاطعة، لا يقتضي الوقوف عند حد ما ورد منه، والإمساك عن تغييره باصطلاح جديد. وأقصى ما ثبت في التاريخ: أن هذه اللغة كانت في قبائل من ولد سام بن نوح - عليه السلام -، وهم: عاد، وثمود، وجرهم الأولى، وويار، وغيرها، وقد انقرضت أجيال هؤلاء، إلا بقايا متفرقين في القبائل، ولا يصح شيء مما يروى عنهم من الشعر، وقد أنكر العارفون على من كتب في السيرة أشعاراً كثيرة، ونسبها إلى عاد وثمود. ثم انتقلت إلى بني قحطان، وكانوا يتكلمون باللسانِ الكلداني لسان أهل العراق الأصليين، وأول من انعدل لسانه إلى العربية: يعرب بن قحطان، وبعد أن نشأت منها الحميرية لغة أهل اليمن، انتقلت إلى أولاد إسماعيل - عليه السلام - بالحجاز، ولم تكن لغة إسماعيل عربية، بل كان عبرانياً على لسان أبيه إبراهيم - عليه السلام -، ثم انخرط في شعوب العرب بمجاورتهم، ومصاهرته لجرهم الثانية حين نزل بمكة، فنطق بلسانهم، وورثه عنه أولاده، فاخذوا يصوغون الكلام بعضه عن بعض، ويضعون الأسماء بحسب ما يحدث من المعاني إلى أن ظهرت اللغة في كامل حسنها وبيانها، وصار لها شأن عظيم وتأثير بليغ. ويدلك على عنايتهم بأمر الفصاحة: ما وصل إلينا من نتائج أفكارهم، ويدائع خطبهم وقصائدهم في سوق عكاظ، وسوق مجنّة؛ إذ يفدون عليهما في موسم الحج، ويقيمون في عكاظ ثلاثين يوماً، وفي مجنة سبعة أيام، يتناشدون ما وضعوه من الشعر، ويتفاخرون بجودة صناعة الكلام، وعند احتفالهم يضربون قبة للشاعر العظيم في وقته؛ كالنابغة الذبياني، ويعرضون

عليه منتخبات أشعارهم، وكان بعضهم يهمد بعضاً بنظم الهجاء، وتسييره في ذينك الموضعين. قال أمية بن خلف يهدد حسان - رضي الله عنه -: ألامن مبلغٌ حسان عني ... مغلغلةً تدبُّ إلى عكاظ وقال حسان في جوابه. أتاني عن أمية زور قول ... وما هو في المغيب بذي حفاظ سأنشر إن بقيت له كلاماً ... ينشر في المجنة مع عكاظ ومن شواهد هذا: أن الحارث بن حلزة اليشكري كان شاعراً حكيماً، ولكنه ابتلي بوضَح (برص)، ومن أجله كان عمرو بن هند ملك الحيرة يكره النظر إليه، ويأبى أن يستمع إلى خطابه إلا من وراء ستار، فدخل عليه يوماً، وأنشد بين يديه قصيدته المعدودة في المعلقات: آذنتنا ببينها أسماء ... ربَّ ثاوٍ يمل منه الثواء وتعرض فيها إلى شيء من الصلح بين بكر وتغلب، فبهرت عمراً برائع نظمها، واستولت على لبه بسحر بيانها، فأخذته هزة وارتياح، ولم يتمالك أن أمر برفع الستار ما بينهما. واقتضت عناية العرب لذلك العهد بالإبداع في القول، والتنافس في مقام الفصاحة أن ظهرت معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بلاغة ما أنزل عليه من القرآن؛ كما جاء عيسى - عليه السلام - يبرئ الاكمه والأبرص، ويحي الموتى بإذن الله لما أرسل إلى قوم توفرت عندهم العناية بعلم الطب، وكما بعث موسى - عليه السلام - إلى أمة انتهى السحر فيها إلى غاية، فأتاهم في مقام

المعجزة بأبدع ما يكون في قلب الأعيان وإراءتها في غير سيرتها الأولى. ثم ارتقت اللغة في صدر الإسلام إلى طورها الأعلى، ودخلت في أهم دور يحق علينا أن نسميه: عصر شبابها، فنمت عروقها، وأثمرت غصونها بألوان مختلفة من الأساليب. ومن مآثر هذه الحياة الراقية: أن كان كلام الناشئين في الإسلام من العرب أحلى نسقاً، وأصفى ديباجة من كلام الجاهلية في شعرهم وخطبهم ومحاورتهم. والأسباب التي ارتقت بها اللغة حتى بلغت أشدها، وأخذت زخرفها أمور ثلاثة: أحدها: ما جاء به القرآن الحكيم من صورة النظم البديع، والتصرف في لسان العرب على وجه يملك العقول؛ فإنه جرى في أسلوبه على منهاج يخالف الأساليب المعتادة للفصحاء قاطبة، وان لم يخرج عما تقتضيه قوانين اللغة، واتفق كبراؤهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه اللائق به، وإن تفاضل الناس في الإحساس بلطف بيانه تفاضلهم بسلامة الذوق وجودة القريحة. ومن النحاة من يحكم على بعض استعمالات يرد عليها القرآن بعدم القياس عليها؛ كما قصروا حذف حرف المصدر ورفع المضارع بعده على السماع بعد أن أوردوا في مثاله قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم: 24]، ولا أدري كيف يتفق لهم هذا، مع علمهم بأنه صاحب وجد ما يعارضه في القياس يوقف على السماع، فنسلم لهم إجراء هذه البلاغة التي ليس وراءها مطلع، وإنا لنعلم قولهم في أصول العربية:

إن ما قل في السماع إن كان مقبولاً في القياس، صح القياس عليه، وإن وجد ما يعارضه في القياس، يوقف على السماع، فتسلم لهم إجراء هذه القاعدة في كلام العرب؛ لاحتمال أن تزيغ ألسنتهم عن القصد، فيحرفون الكلمة عن أصل استعمالها غلطاً، ولا نسلم لهم تحكيمها في كتاب الله الذي أخرس بفصاحته لسان كل منطيق. ثانيها: ما تفجر في أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ينابيع الفصاحة، وما جاء في حديثه من الرقة والمتانة والإبانة من الغرض بدون تكلف. روي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: لقد طفت في أحياء العرب، فما رأيت أحداً أفصح منك يا رسول الله، قال: "وما يمنعني، وأنا قرشي، وأرضعت في بني سعد؟! " وبنو سعد أفصح قبيلة في العرب بعد قريش. وإنما أغضى علماء اللسان النظر عن الإستشهاد بالحديث؛ لأن رواته لم يجمعوا عنايتهم على ضبط ألفاظه كما كانوا يثبتون في نقله على المعنى، ولو تحقق أهل العربية من رواية حديث بلفظه؛ كالأحاديث المنقولة للاستشهاد على فصاحته - صلى الله عليه وسلم -، لاستندوا إليه في وضع أحكامها يقيناً. ثالثها: ما أفاضه الإسلام على عقولهم بواسطة القرآن والحديث من العلوم السامية، وبما نتج عن تعارف الشعوب والقبائل، والتئام بعضها ببعض من الأفكار ومطارحة الآراء، ومعلوم أن اتساع العقول وامتلاءها بالمعارف مما يرقي مداركها، ويزيد في تهذيب ألمعيتها، فتقذف بالمعاني المبتكرة، وتبرزها في أساليب مستحدثة؛ فإن كثرة المعاني ودقتها تبعث على التفنن في العبارة، والتأنق في سياقها، وبوضح لكم هذا: أن الناشئين في الحواضر نجدهم في الغالب أوسع غاية في اجتلاب المعاني الفائقة، وأهدى إلى العبارات

الحسنة ممن يعادلها في جودة القريحة، وفصاحة المنطق بفطرته؛ لاشتمال المدن على معان شتى ينتزع الذهن منها هيئات غريبة لا طريق لتصورها إلا المشاهدة. ولما فارق العرب الحجاز لإبلاغ دعوة الإسلام، وبث تعاليمه بين الأمم، اقتضت مخالطتهم لمن لا يحسن لغتهم ضعف ملكاتها على ألسنتهم، ودخول التغيير عليها في مبانيها وأساليبها وحركات إعرابها، وابتدأ التحريف يسري إلى اللغة في عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فأشار على أبي الأسود الدؤلي بوضع علم النحو، ولم يزل أئمة العربية يحوطونها باستنباط القواعد حتى ضربوا عليها بسياج يقيها عادية الفساد، ويحول بينها ويين غوائل الضياع والاضمحلال، وحين انتشرت المخالطة، وتفشى داء اللحن، أمسك العلماء عن الاستشهاد بكلام معاصريهم من العرب، ويعدّون أول المحدَثين الذين لا يستشهد باقوالهم: بشار بن برد المتوفى سنة 167 هـ، واحتج سيبويه بشيء من شعر بشار بدون اعتماد عليه، وإنما أراد مصانعته، وكف أذيته؛ حيث هجاه لتركه الاحتجاج بشعره، كما استشهد أبو علي الفارسي في كتاب "الإيضاح" بقول أبي تمام: من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الاماني لم يزل مهزولا وليس من عادتهم الاستشهاد بشعر أبي تمام؛ لأن عضد الدولة كان يعجب بهذا البيت، وينشده كثيراً. واستشهد صاحب "الكشاف" عند قوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20] ببيت من شعر أبي تمام، وقال: وهو وإن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة

ما يرويه، فيؤخذ من صريحه أنه يرى صحة الاحتجاج بكلام المحدث إذا كان من أئمة اللغة، وليس مذهبه هذا بسديد، وقياس ما يقوله أبو تمام على ما يرويه غير صحيح؛ فإن التكلم بالعربية الصحيحة لعهد أبي تمام ناشئ عن ملكة تستفاد من تعلم صناعتها، ومدارسة قوانينها، فعلى فرض أن لا تفوته معرفة بعضها، قد يذهل عن ملاحظة تلك القوانين، فلا يامن أن يزل به لسانه في خطأ مبين. وأبو تمام نفسه صدرت عنه أبيات كثيرة خرج فيها عن مقاييس العربية. قال ابن الأثير: لم أجد أحداً من الشعراء المفلقين سلم من الغلط، فإما أن يكون لحن لحناً يدل على جهله بمواقع الإعراب، وإما أن يكون أخطا في تصريف الكلمة، ولا أعني بالشعراء من هو قريب عهد بزماننا، بل أعني بالشعراء من تقدم زمانه؛ كالمتنبي، ومن كان قبله؛ كالبحتري، ومن تقدمه؛ كأبي تمام، ومن سبقه؛ كأبي نواس. أما العربي القح، فإنه يطلق العبارة بدون كلفة في اختيار ألفاظها، أو ترتيب وضعها، فتقع صحيحة في مبانيها، مستقيمة في إعرابها، ولا يكاد يلحن في إعراب كلمة، أو يزيلها عن موضعها إذا ترك لسانه وسجيته، ومن ثم كان قرض الشعر كالخطابة على الارتجال والبديهة شائعاً عند العرب، نادراً في عصر المولدين، ولا يعترض هذا بأن كثيراً من العرب يطيل المدة في عمل القصيدة؛ كما فعل زهير في حولياته؛ لأنه يستوفيها في أمد قريب، ويتمها على شرط الصحة، ولكنه لا يخرجها للناس إذا فرغ من عملها إلا بعد التروي، وإعادة النظر في تقويم معانيها، وحسن النسق في بنائها وإحكام قوافيها، لا ليخلصها من اللحن، ويطبق عليها أصول العربية كما هو شأن المحدثين.

ثم نشأ بجانب هذا التحريف الذي طرأ على اللغة مرض آخر انجر إليها بسبب من أسباب حسنها، هو: أن مسلم بن الوليد وأبا تمام أمعنا النظر في أشعار الفصحاء وخطبهم، وحسروا اللثام عن وجه بيانها، فابصروا فيها محاسن من فنون البديع؛ كالاستعارة والجناس والتورية، فشغفوا بها، وثابروا على إيرادها في منظوماتهم؛ توفيراً لحسنها، واستزادة من التأنق فيها، فكان الناس يقولون: إن أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد، وسمع أعرابي قصيدة أبي تمام التي يقول في طالعها: "طلل الجميع أراك غير حميد" فقال: إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها، وأشياء لا أفهمها فإما أن يكون قائلها أشعر من جميع الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه. وما تعاصى فهمها على الأعرابي إلا لكونه سمع شعراً حشي بوجوه من البديع خرجت به عن الأسلوب المألوف، فثقل تأليفه، وبعد عن الأفهام تناوله. واتبع طريقهما كثير من الأدباء، وربما انتهى بهم الإعجاب بمحاسن البديع إلى مخالفة قانون العربية، وتغيير بنية الكلمة من أجلها؛ كقول بعضهم: انظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي فكأنه زاد في مصدر تلف ألفاً يتم له الجناس مع قوله: تلاف، ولا نعرف في كتب اللغة من ذكر التلاف مصدراً لتلف، وإنما يوردون في مصدره التلف - بدون ألف -. ولم تقف سيئة الإكثار من البديع عند حد الشعر، بل تعدى وباؤها إلى النثر أيضاً، فطفق كثير من الكتاب يملؤون رسائلهم بوجوه التحسين: الاستعارة والجناس ونحوها، واجتهدوا أن لا يفوتهم الشعراء بواحد منها،

حتى إذا ما تلقيت صحيفة من هذا القبيل، وألقيت فيها نظرك ليطوف عليها بالمطالعة، أدركته عند كل فقرة حبسة، والتوت أمامه طرق فهمها، وإن كانت معاني مفرداتها جلية، فتحس به كيف ينتقل من كلمة إلى أخرى بخطوات ضيقة كأنما حمل على قيد من حديد. وأكثر هؤلاء يهملون النظر إلى جانب المعنى والمحافظة على إقامته واستيفائه، وهذا ما بعث الشيخ عبد القاهر الجرجاني حين قام ينادي بابسط عبارة: إن الألفاظ خدم للمعاني، وإن المعاني مالكة سياسة الألفاظ، وأقام الحجة في كتابيه "دلائل الإعجاز"، و"أسرار البلاغة" على أن مزية الفصاحة إنما استحقتها الألفاظ، ووصفت بها من جهة معانيها، وأزال كل شبهة عرضت لمن اعتقد أنها مزية استحقها اللفظ بنفسه. وأدرك غالب المحررين اليوم: أن تتبع هذه الحسنات، ومواصلة العمل بها في نظم الكلام يبدلها سيئات تشمئز منها قلوب الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بياناً، فأقلعوا عن الإكثار منها، لا سيما في خطابات الجمهور، وزهدوا فيها، إلا ما سمح به الخاطر عفواً، ورمته الطبيعة بدون كلفة ظاهرة. وكانت اللغة في خلال الأعصر الماضية تعلو وتضعف وتنتشر في أنحاء المعمورة على حسب كرم الدولة، وعناية رجالها بالفنون الأدبية، فارتفع ذكرها حين كان الأمير سيف الدولة يباحث أبا علي الفارسي في غوامض علم النحو، وينقد شعر أبي الطيب المتنبي بذوق لطيف، ويجازيه وغيره من الشعراء بغير حساب. وأرتقى شأنها يوم قام القاضي منذر بن سعيد في مجلس الملك الناصر لدين الله عند احتفاله برسول ملك الروم في قصر قرطبة، وشرع يخطب من

فصاحة مفرداتها ومحكم وضعها

حيث وقف أبو علي البغدادي، وانقطع به القول، فوصل منذر افتتاح أي علي بكلام عجيب، وأطال النفس في خطبة مرتجلة، فخرج الناس يتحدثون ببديهته المعجزة، وارتواء لسانه من اللغة الفصحى، ولا مرية في أن كرم الدولة باعث على إرتقاء حال اللغة عند من التفت إلى التاريخ، وأقام الوزن بين الشعراء الناشئين في زمن أجواد العرب، وملوك آل جفنة، وملوك لخم؛ كزهير والنابغة، وبين من تقدمهم من الشعراء. * فصاحة مفرداتها ومحكم وضعها: تتفرع العربية بحسب إختلاف الشعوب والقبائل إلى لغات متعددة، ولكنها متقاربة اللهجة في أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها، والمغايرة بينها يسيرة جداً لا تخرجها عن اعتبارها في الأصل لغة واحدة ذات قوانين تطرد في جميعها، ما عدا لغة حِمير؛ فإنها تخالف لغة مضر خلافاً ظاهراً، ولا توافقها في أكثر أوضاعها ومقاييسها. وأفصح لغات العرب لغة قريش، وفضلت عن سائر اللغات بوجهين: أحدهما: بعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ولهذا لم يحتج أهل الصناعة العريية إلا بلسانهم، أو ما كان قريباً منه، ولم يعتمدوا لغات القبائل التي تجاور غيرها من الأمم؛ كلغة لخم وجذام وقضاعة وغسان، ولم يخالفهم في شرطهم هذا إلا أبو عبدالله بن مالك، فنقل في كتبه لغة لخم وقضاعة وغيرهم ممن يسكن أطراف الحجاز. ثانيهما: أن العرب كانوا يفدون عليهم في موسم الحج، ويقيمون عندهم قريباً من خمسين يوماً، فيتخيرون من لغات أولئك الوفود ما تعادلت حروفه، وخف وقعه على الأسماع، ويرفضون كل ما يثقل على الذوق، ولا يجد

في السمع مساغاً. ولا غرابة أن تجري الألفاظ في وصف الحسن والقبح مجرى جنسها الذي هو الصوت، فمن الأصوات ما يحدث في السمع لذة، ويرتاح الخاطر بالإصغاء إليه كنغم الأوتار، وسجع البلبل من الطير، ومنها ما يرميه الطبع، وينقبض لسماعه؛ كنعيق الغراب، وصرير آلة النشر. ويمكن الحكم على اللفظ بالحسن وضده - ولو من غير العارف بمعناه - متى كان ذوقه صحيحاً، فكل ذي ذوق سليم يفرق بين الورد، والوردة، والخوجم والخوجمة، ويميز بين السيف والخنشليل، ولا تتشابه عنده النفس والجرشى. وإذا كان إدراك صفة الحسن في اللفظ المفرد لا يتوقف على ملاحظة مدلوله، فيتيسر لمن لا يحسن لغة قوم أن يستمع إلى مفرداتها المستعملة عند الفحصاء منهم، ويستقرئها إلى أن يأتي على أكثرها، ثم يدخل إلى الحكم في وصفها بالفصاحة، أو الموازنة بينها وبين لغة أخرى، ولا يبالي. ومن أصغى جيداً إلى الألفاظ العربية الجارية على ألسنة الفصحاء، وجدها لذيذة في السمع، خفيفة على الأرواح. حكى الشيخ ابن الأثير في "المثل السائر": أنه لقي رجلاً إسرائيلياً بالديار المصرية، قال: فجرى ذكر اللغة العربية وفصاحتها، فقال ذلك الرجل من بني إسرائيل: كيف لا تكون كذلك؛ فإن واضعها تصرف في جميع اللغات السالفة، فاختصر ما اختصر، وخفف ما ضف، فمن ذلك اسم الجمل؛ فإنه عندنا في اللسان العبراني: كوميل، فجاء واضع اللغة العربية، وحذف منه الثقيل، وقال: جمل، فصار عذباً حسناً، وكذلك فعل في كذا وكذا، وذكر أشياء كثيرة.

ونقل بعض المحررين أخيراً حكاية ابن الأثير، وقال: سمعت من بعض اليهود العارفين بالعبرية أن الجمل يسمى: جمال، فيكون الفرق بينهما الألف بعد الميم، وأنكر تسميته كوميلاً، إلا أن هذا يقرب من اسمه بالرومية. ويشهد لبناء العربية على قاعدة الاعتدال: أن أكثر كلماتها وضعت على ثلاثة أحرف، وأقلوا من الرباعي والخماسي؛ لئلا يطول بهم الأمد في القول بدون فائدة، ولم يكثروا من الثنائي؛ حذراً من أن تتجاور منه عدة كلمات في خطاب واحد، فيقع في لهجته تقطع كثير يضعف بنسيجه، ويذهب بحسن تناسقه، وبهاء توسله؛ فإن المتكلم الفصيح - وإن وصل الجمل بعضها ببعض، ولم يقف عند انتهاء كل جملة منها - لا يسردها سرداً، بل يفصلها في منطقه، ويرتلها ترتيلاً يميز به المتثبت في تلقي الخطاب الكلم الداخلة في الجملة من الكلم المنفصلة عنها، وربما يتبين من هيئة نطق الفصيح نهاية الكلمات، فيميز السامع الحرف الذي هو منتهى كلمة، من الحرف الذي هو بداية لكلمة أخرى. والثلاثي يبتدئ فيه المتكلم بحرف، ويعتمد على ثان، ثم ينتهي بحرف آخر، فيكون في آلة النطق أمكن، وشماعده على أن ينحو في هيئة خطابه نحو المتانة والانسجام. قال الباقلاني: ولضيق ما سوى كلام العرب، أو لخروجه عن الاعتدال يتكرر في بعض الألسنة الحرف الواحد في الكلمة الواحدة والكلمات المختلفة كثيراً؛ نحو: تكرر الطاء والسين في لسان يونان، ونحو الحروف الكثيرة التي هي اسم لشيء واحد في لسان الترك، ولذلك لا يمكن أن ينظم من الشعر في تلك الألسنة على الأعاريض التي تمكن في اللغة العربية. ولشدة محافظتهم على الاعتدال في الكلم يسقطون شيئاً من حروفها إذا عرض لها طول في بعض

حكمة تراكيبها

تصاريفها؛ كحذفهم لآخر الاسم الخماسي في التصغير؛ نحو: سفر جل إذا أرادوا تصغيره يقولون: سُفيرج، وكذلك يفعلون في جمعه، فيقولون: سفارج. ثم إنك لا تجدهم يجمعون في حشو الكلمة بين ساكنين؛ لما ينشأ عن اجتماع الساكنين من البطء في التلفظ بها، ولا يوالون في اللفظة الواحدة بين أربعة أحرف متحركة؛ حذراً من الاستعجال الحاصل من كثرة الحركات المتوالية، ويزيدك بصيرة بهذا: إهمالهم للأوزان التي يتعسر النطق بها؛ نحو: فِعُل - بكسر الفاء وضم العين - رفضوه من أن يبنوا عليه شيئاً من كلمهم؛ للثقل الذي يوجبه الانتقال من الكسر إلى الضم. وقرر الباحثون عن أسرار اللغة أن الألفاظ تختلف بطبائعها وهيئاتها مثل اختلافها بالصلابة والرخاوة، والفك والإدغام، والحركة والسكون، ولم يصرف واضع العربية نظره عن هذه الوجوه، ولاحظ في كثير من الألفاظ المناسبة بينها وبين ما يدخل في قياسها. وإن شئت مثالاً يضرب على شاكلة ما قرروه، فانظر إلى علامة النسب، فتجدها ياء شددت للمبالغة في وصف الانتساب، وتلويحاً إلى شدة رابطة المنسوب بالمنسوب إليه، فإذا استعملت في نسبة الشخص إلى عشيرته - مثلاً -، كان تشديدها؛ كالمهماز لتحريك غيرته عليهم، أو تنبيه عواطفهم للإقبال عليه. * حكمة تراكيبها: من يرجع إلى حال نفسه عند إلقاء العبارة، يشعر بأنه لا يحرك بها لسانه إلا بعد أن يتصور معانيها المفردة، ويضم بعضها إلى بعض بروابط النسب الإسنادية، أو التقييدية في ذهنه، فيأخذ كل معنى من جهة التقديم والتأخير رتبة في النفس يستحقها بطبعه؛ كالفاعل يخطر في البال قبل المفعول،

والموصوف يجري على المخيلة قبل صفته. وقد يعرض لبعض المعاني حال ينقله عن مرتبته الطبيعية، ويعطيه في نفس المتكلم منزلة ثانية؛ كالاهتمام بالمفعول به يقتضي تقديمه على الفعل. وإذا تبين هذا، فمما يرجع إليه في وصف العبارة بحسن البيان: أن تكون ألفاظها مؤلفة على حسب ترتب معانيها في النفس، سواء كان ذلك الترتب مما دعت إليه طبيعتها، أو اقتضته الأحوال العارضة، ومن افتكر في تاليف الكلام العربي بالنظر إلى تقديم أجزائه وتأخيرها، وجده معتمداً على رعاية هذه القاعدة. تراتيب الكلم على ثلاثة أضرب: أحدها: ما عينه الواضع، وحكم به على سبيل الوجوب، فيعد مخالفه مخطئاً، ويخرج الكلام الخالي من مراعاته عن الأسلوب العربي؛ كتأخر التمييز عن المميز، والمضاف إليه عن المضاف. ثانيها: ما عينه الواضع أيضاً، ولكنه قضى به على وجه الأصالة، واعتبار ما هو الأولى، ولا تخرج العبارة بمخالفته عن حدود العربية؛ كتقديم اسم من صدر منه الفعل على اسم الذات الواقع عليها، والبحث عن أسرار ما كان من قبيل هذين الضربين مبثوثاً في مدارج علم النحو. ثالثها: ما لا يقتضيه الوضع على التعيين، وجعل أمره دائراً على رعاية ما يناسب المقام، وتعيينه بحسب التراكيب المخصوصة موكول إلى ألمعية المتكلم، وحسن تصرفه؛ كتقديم المفعول على الفعل لإفادة اختصاصه به، وعدم تعلقه بغيره، والبحث في هذا القسم ووجوهِه المناسبة مندرج في موضوع علم البيان.

وكان من حق الألفاظ والجمل التي تناسبت معانيها، وتعلق بعضها ببعض أن يلاءم بينها في السبك، ولا يفرق بينها في التأليف، هذا هو الأصل الذي بنيت عليه العربية، إلا أنهم لم يغلوا في ذلك؛ لئلا يوقعوا ألسنتهم في حرج، فأباحوا الفصل في مواضع لا يؤثر فيها الفصل تعقيداً، ولا يختل به فهم المعنى، وعملوا به في موارد الجمل الاعتراضية على وجه الزينة، وشبهوا ما بلغ الغاية في الحسن والقبول بحشو اللوزينج. ثم نظر العرب إلى الجمل تستقل كل واحدة منها بنفسها، فوجدوها تارة تتناسب، ويتشبث بعضها ببعض من جهة المعنى، فليس من الحكمة وجودةِ التصرف أن تلقى منثورة لا يراعى فيها جانب المعنى، وتستأنف واحدة بعد أخرى، فاعملوا حروف العطف وسائط في وصل الجمل ونظمها في سمط المناسبة؛ لتكون أجزاء الكلام متماسكة. وتارة تنقطع الجملة الثانية عن الجملة قبلها، ولا يتصل حديثها، بحديثها، سوى أنه اتفق الجمع بينهما في الإخبار، وفي هذا الموضع يجب الفصل بين الجملتين، فلو ضم المتكلم الجملة الأخيرة إلى الجملة السابقة بعاطف، كان بمنزلة من عمد إلى جواهر غير متناسبة في المقدار، ولا يشبه بعضها بعضاً في الشكل، وركبها في نظام واحد. ودعاهم اللطف ورعاية الأدب في الخطاب إلى الإغضاء عن شرط المناسبة، فادمجوا حرف العطف بين جملتين ليس بينهما صلة مناسبة إذا كرهوا أن يسبق إلى ظن السامع خلاف ما يراد منهما لولا واسطة حرف العطف؛ كقولهم: لا، وأيدك الله. فوضع الفصل والوصل بين الجمل على هذا الوجه وبناء حكمهما على

تعدد وجه دلالتها

اعتبار المناسبة، وما يقتضيه أدب الخطاب؛ مما يوضع في ميزان العربية، ويعد من دلائل الحكمة في وضع أساليبها. ويظهر مما ذكر الجاحظ في كتاب "البيان والتبيين" "أن الفارسي سئل، فقيل له: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل والوصل" أن للغة الفارسية تعلقاً بهذا الباب. * تعدد وجه دلالتها: من المقرر أن الألفاظ لم توضع لإفادة معانيها في أنفسها ضرورة أن المخاطب يتصورها ويعرفها من حين علمه بالوضع، وإنما وضعت لإفادة النسب والربط بين موضوعاتها على وجه الثبوت أو السلب، فلا دلالة للألفاظ على شيء قبل تركيبها وارتباطها بهيئتها الصحيحة. وللألفاظ العربية إذا ركبت دلالتان: إحداهما: تصور مفردات على وجه النسبة بينهما، وإسناد بعضها إلى بعض؛ كدلالة قولك: "أكرمت زيداً العالم إجلالاً" على معنى صدور الإكرام منك، وتعلقه بزيد الموصوف بالعلم؛ لعلة باعثة على إكرامه هي الإجلال، والدلالة على هذه المعاني تشترك فيها جميع الألسنة، وهي الداعي الأول إلى وضع اللغات، ويمكن بالنسبة إليها نقل الكلام العربي إلى لغة أخرى، مع الإحاطة بجميع ما يراد منه ما لم يكن صالحاً لعدة معان لم يتحقق المراد في واحد منها كما يفعله البليغ بقصد الإجمال على السامع لغرض يستدعيه المقام. ثانيتهما: الدلالة على معان زائدة على المعاني الأصلية من أحوال ترجع إلى المتكلم، أو المخاطب، أو المتحدث في شأنه، أو حال الفعل المخبر به، وغير ذلك؛ كدلالة الحذف لشيء من اْجزاء الكلام على ضجر المتكلم

وسآمته، ودلالة تكيد الجملة بالقسم على أن المخاطب ينكر مضمونها، ومن هذا إيراد المسند إليه نكرة؛ للدلالة على تعظيمه، وتقديم الفعل على المفعول - مثلاً - لاهتمام المخبر بشأنه. وهذه المعاني الزوائد تعتبر في صورة الكلام بمنزلة الروح تسري في الجسد، فتحدث فيه منظراً بهيجاً، وعلى حسب رعايتها تتفاضل العبارات في مقام البلاغة. قال الباقلاني: إن كثيراً من المسلمين قد عرفوا تلك الألسنة، وهم من أهل البراعة فيها، وفي العربية وقفوا على أنه ليس يقع فيها من التفاضل والفصاحة ما يقع في العربية. ومن قصد إلى ترجمة كلام عربي، ونقله إلى لغة أخرى، لا يمكنه تأدية ما اشتمل عليه من هذه المعاني الثواني، والإفصاح بها أثناء حكايته لمعانيه الأصلية، ومع هذا لم يمنع أهل الأسلام ترجمة القرآن، وأجمعوا على جواز ترجمته؛ لإفادة ما ظهر من معانيه الأصلية لمن لا قدرة له على فهم العربية، نقل الإجماع على ذلك أبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته"، فما نقل إلى بعض المسامرين بموت العربية من (أن ترجمة إحدى سور القرآن إلى لغة أخرى ممنوع عند المسلمين) غير مطابق للحقيقة، بل أجاز بعض الأئمة ترجمته إلى الفارسية، أو القراءة بها عند العجز عن العربية، ولو في حال الصلاة. ومن الآيات ما يحتمل بإعتبار معانيه الأصلية عدة وجوه، ولا يمكن نقله إلى لغة أخرى بحاله، فإذا اعتمد المترجم على أحد الوجوه، لم تكن الترجمة قرآناً بالمعنى؛ إذ يحتمل أن لا يكون مطابقاً للمراد من كلام الله تعالى، ومثل هذا لا ينبغي أن ينقل إلا على وجه التفسير والبيان؛ كأن يذكر المترجم

تعدد أساليبها

الآية بلفظها العربي، ويأخذ بعد ذلك في بيانها باللسان الآخر. وصرح الغزالي في كتاب "إلجام العوام" بحرمة ترجمة الآيات المتشابهات، واستدل على ذلك بأن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها، ومنها ما يوجد لها فارسية تطابقها، ولكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها منها، ومنها ما يكون مشتركاً في العربية، ولا يكون في العجمية كذلك، ومثل الفارسية غيرها من لغات الأعاجم. * تعدد أساليبها: مما يشهد بارتقاء اللغة، وسعة غايتها في البيان: تعدد أساليبها، وكثرة طرق إفادتها؛ فإن العبارات إذا اختلفت في أساليبها تغاير ما تصوره في نفوس المخاطبين من المعاني، وإن كان الغرض واحداً، فصورة المعنى الذي يستفاد بطريق المجاز أو الكناية يغاير الصورة التي تؤدى بلفظ الحقيقة أو القول الصريح، بل الصورة التي يرسمها قولك: زيد كريم الطبع غير الصورة التي ينقشها قولك: زيد ذو طبع كريم، وإن اتحد أصل المراد من المثالين، وهو إثبات الكرم لطبع زيد، ولولا أن العبارات الواردة على غرض واحد مختلفة في صور معانيها، لم يظهر التفاوت والتسابق بينها في حلبة البيان. وإذا قويت عارضة المتكلم في العربية، أمكنه أن يتصرف في الغرض الواحد، ويفرغه في أساليب مختلفة، كأن يلقيه في صورة تكلم أو خطاب أو غيبة يطابق به الحقيقة، أو يسلك به خلاف الظاهر على وجه الالتفات أو التجريد، أو ينشئ الطلب في صيغة الخبر، أو يحكي الخبر في صورة الانشاء، أو يدخل بعض كلمات في نظم الجملة؛ ليتقوى به نسجها، أو يفيد قيداً تتوفر به جزالة

معناها، وتارة يأتي بالألفاظ مساوية للمعنى المراد، ويفصلها على مقدار الحاجة، وريما كان إسقاطه لبعض الجملة أوقع في النفس، وأبعد عن اللغو، فيحذفه، وينبه على مكانه. ويعبر بلفظ مفرد إن شاء، أو مركب؛ نحو: سبقه، ووصل قبله، والمفرد إما مجرد من حرف الجر، أو موصول به؛ نحو: أخرجته، وخرجت به، أو يأتي بالمراد في سياق النفي أو الإيجاب؛ نحو: لم يشح بالتعليم، وسمحت نفسه به، أو يعبر عن الشيء وصفته بمركب إضافي، أو يركبهما على قياس النعت مع منعوته؛ نحو: يعجبني أكبر همتك، أو همتك الكبرى. ثم إن الحاذق في عمل التمثيل هو الذي يمثل لك الحزين المتضاحك، والمستبشر المتباكي، كذلك الفصيح يبرز لك الجد في صورة الهزل، أو يكسو الهزل بلباس من الجد، ويلقي المدح في قالب الذم، ويسوق الذم في معرض المديح؛ كقولهم: "أرانيه الله أغر محجلاً"؛ أي: محلوق الرأس مقيداً. وقد ينحو نحو البراعة في الصناعة وإظهار القدرة على التانق في تأليف الكلام، فيشحنه بضروب الاستعارات، وفنون التشابيه، وغيرها من محاسن البيان التي لا يعقلها إلا الخاصة من الأدباء؛ كما فعل الحريري في "مقاماته"، أو يتخير ما كانت ألفاظه صريحة، ومعانيه واضحة يسهل مأخذها على كل من له إلمام باللغة، وذهن حاضر في الجملة، إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف وطرق التعبير البالغة إلى غاية يقف دونها البيان. ومن تنوع الأساليب إلى ما يفوق حد الوصف: أخذ كل شاعر وكاتب طريقة يعرف بها نظمه أو تحريره، حتى إذا تليت قصيدة لشاعر، أو رسالة لكاتب لا تعلم نسبتها إليه، وكنت عارفاً بطريقته، لم يشتبه عليك أنها من

إنشائه. يؤيد لكم هذا: أن خلف الأحمر كان يعمل الشعر على ألسنة الفحول من القدماء، فيشبه كل شعر بقوله شعر من يصطنعه عليه، ويقال: إن القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى التي أولها: أقيموا بني أمي صدور مطيِّكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميلُ هي له، وقال: أنا وضعت القصيدة التي أولها: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللُّجُما ونسبتها إلى النابغة. وروي أن الفرزدق أنتحل بيتاً من شعر جرير، وقال: هذا يشبه شعري. وإذا نبغ كاتب كالجاحظ، أو شاعر كالمعريّ، وابتدع لنفسه أسلوباً راق في نظر أبناء عصره، أخذوا في محاكاته، واقتدوا بالعمل على منواله، فتتماثل تحريراتهم، ويتقرر لهم أسلوب جديد. ونقل إلى المسامر بموت العربية (أن أساليبها واقفة عند غاية لا تتجدد)، ولم يصب المبلغ له ذلك شاكلة الصواب؛ فإن من ينظر في أساليب التحريرات الراقية اليوم يجد بينها وبين أساليب المتقدمين بوناً شاسعاً، فلو جئت إلى رجل تدرب على مطالعة هذه المحررات الحديثة، وأمليت عليه صحيفة من نسجها، وهو لا يعرف من أين صدرت، ولا متى نشأت، عقل على البديهة جدتها، ولم يرتَبْ في أنها من قبيل الصنع الذي ظهر به هؤلاء الكاتبون، كما لا يشك في معرفة ما يتلى من زبر الأولين، ويدرك لأول نظرة إنشاءها على الطراز العتيق. والناقد لأصناف الكلام يفرق بين الإنشاء الحادث والعتيق، وإن كانت المعاني فيهما متماثلة، فلا يكن في ظنك أن الطريق المعرف للمنشآت الجديدة

طرق إختصارها

هو ما تتضمنه من الأسماء المستحدثة، أو الأفكار التي لم يعتن القدماء ببثها، والأساليب الخاصة بفرد، أو بأهل عصر مما يرجع في تمييزه إلى الذوق، وليس في طوق أحد أن يضبط لك أسلوباً ابتدعه كاتب أو شاعر بقواعد يدونها، حتى يمكنك إذا عرفتها أن تجري في تاليفك على نمطه بدون أن تتردد على محرراته بالنظر الجيد، وتدع في حفظك شذوراً منها، بل صاحب الأسلوب نفسه ليس في طاعته سوى أن يتصور المعنى مجملاً أو مفصلاً، ثم يطلق عليه العبارة بمقدار ما تصوره به من الإجمال أو التفصيل، فإذا وجد في أمد التعبير حرجاً، وعدم التئام مع الذوق، شعر حينئذ بأنه ذهب في غير منهجه المألوف، ولا يسعه إلا التصرف في القول بنحو تبديل الترتيب حتى يرده إلى الأسلوب. * طرق إختصارها: من البين أن الألفاظ وضعت لتنقل المعاني القائمة بالذهن إلى أفهام السامعين، لا زينة في المنطق، وحلية للألسنة كيف حضرت، وهذا ما دعا الواضع أولاً إلى التقدير في وضعها، واعتباره بمقدار الحاجة إلى الإفهام، فإذا اتفق في اللفظ القصير كفاية وغنى في الدلالة على المراد، آثره في الوضع على ما هو أبسط منه؛ حتى لا تسمع في حديث مخاطبك الحكيم لاغية. ثم إن عقول المخاطبين تتفاوت في الاستفادة من العبارات بالنظر إلى سرعتها في الإنتقال إلى المعاني وبطئها، ومن جهة قرب غايتها في الفهم وبعدها، وربَّ خطاب يلقى إلى الغبي، فيراه أبتر عن الفائدة، لا يشفي غليل المنتظر لتحصيلها، ويوجه إلى الألمعي، فيسام لبعض كلمات أو جمل تغنيه قوة الكلام وقرينة السياق عن ذكرها الصريح. فاقتضى تمايز المخاطبين بالفطنة والغباوة أن لا يستمر البليغ في سائر

عباراته على نسق واحد، وبيان لا يختلف، وسبيله أن يلاحظ حال المخاطب أولاً، ثم يزن العبارة بحسبها، ولم يغب هذا المعنى عن العرب، فراعوا جانبه، وأضافوا إليه في الاعتبار أن الإنسان قد تدعوه الحاجة إلى الحديث في شأن، ويضيق به الوقت عن التوسع في البيان، أو يجد في نفسه ضجراً يثقل الكلام على لسانه، فوضعوا في الأساس الذي بنيت عليه لغتهم قاعدة الاختصار، ويجري في كلامهم على وجوه يرجع الفضل في بعضها إلى حكمة الواضع، ومنها ما تعود المزية فيه إلى اقتدار المتكلم ولطف تصرفه. روعيت هذه القاعدة في كثير من المفردات حال وضعها، كما وضعوا الضمائر لتنوب عن الأسماء الظاهرة، وأقاموا علامة التثنية والجمع بأنواعه مقام العاطف والمعطوف، واستغنوا بتغيير الكلمة في التصغير عن وصف المسمى بالصغر بعد ذكر اسمه، واعتبروا في وضع أدوات الشرط زيادة على التعليق الدلالة على جنس المعلق عليه من عاقل وغيره، أو مكان أو زمان أو حال، فاكتفوا بنفس الأداة عن التصريح به من بعد، وكذلك صنعوا في أدوات الاستفهام حين أدخلوا في مفهوماتها فضلاً عن طلب الإعلام الدلالة على جنس المسؤول عنه، فإذا علمت بأن أحداً عند المخاطب، وقصدت إلى استكشاف حاله لتعرفه بعينه، فهنا لا تفيدك الهمزة في طلب تعيينه مثلما تفيدك كلمة (مَنْ)؛ إذ يلزمك مع الهمزة أن تعد الناس فرداً فرداً حتى تذكر الشخص المسؤول عنه، وربما لا يخطر على قلبك، أو كنت لا تعلم اسمه من قبل، فتستمر في تجديد السؤال: أزيدٌ عندك أو عمرو أو خالد؟ وهو يجيبك بالنفي إلى أن ينفد ما عندك من الأسماء، ولا يحصل لك الجواب المطابق، وليس على المخاطب أن يقول لك: عندي بكر - مثلاً - في جواب: أعندك زيد ... إلخ،

وسبيله أن يجيبك بكلمة: لا، أو نعم، وكذلك القول في بقية ما يسأل عنه من مكان أو زمان أو حال أو عدد. ومن هذا النوع: ضمير الفصل، وأدوات الاستثناء، وكلمة: إنما، فإنك تجد في ضمن استعمالها جملة ثانية تخالف الجملة المنطوق بها في الإيجاب أو السلب، وتقرب منها حروف العطف؛ لإغنائها عن إعادة العامل، ودلالتها فوق ذلك على معان أخرى؛ كمعنى الترتيب والتعقيب المستفاد من الفاء، والترتيب والمهلة المستفاد من "ثم". وانظروا إليهم كيف خالفوا بين أواخر الكلم في هيئاتها، وأجروها على نظام محدود، فكانت أوقع في النفس، وأدعى للإعجاب؛ لما فطرت عليه النفوس المتنورة من استعظام ما يكون مرتباً على نظامات مطردة، ولو لم يجروها على قانون، ورموا بها كيف اتفق، لقل العجب بها، وفقدت من مآثر الفصاحة وجهاً بديعاً، ثم استشعروا حاجاتهم إلى التفرقة بين معان ينبني على تمايزها فهم المراد من الجملة؛ كتمييز الفاعل والمفعول والمضاف إليه، والمسند والمسند إليه، وفي طوقهم أن يضعوا للدلالة على ذلك علامات غير أحوال أواخر الكلم، ولكن جنحوا إلى طريقة الاختصار، واكتفوا بها في التمييز بين تلك المعاني، واعتمدوا في بعض الأحيان على دلالة التقديم والتأخير، وقرائن الأحوال. وزعم ابن خلدون أن الإعراب لا يوجد إلا في لغة العرب، قال: وأما غيرها من اللغات، فكل معنى أو حال لابد له من ألفاظ تخصه بالدلالة. وقد ثبت أن حكم الإعراب مما يوجد له أثر في اللغتين اليونانية والألمانية، وإن كانت العبرة به في لسان العرب أزيد، وعنايتهم به أقوى. ثم إن العبارة

المطابقة للمعنى المراد من نسبة أمر لآخر تقتضي بطبيعتها أن تؤلف من ثلاثة ألفاظ في الأقل، واحد للمحكوم عليه، وآخر للمحكوم به، ولفظ ثالث لإفادة النسبة بينهما، وربطِ أحدهما بالآخر طبق ما هو المنقول عن اللغة الفارسية واللغة اليونانية، فالدال على النسبة عند الفرس لفظ: است، والموضوع لها في لغة اليونان لفظ: استين، ولكن العرب اقتصروا في تأدية ذلك المعنى على لفظين، فقالوا: زيد عالم، واستغنوا عن الرابطة بهيئة وضع التراكيب وما يجري في أواخر الكلم من علامات الإعراب. ومن اللغات الراقية ما لا يتصرف؛ مثل: اللغة التركية، وبدخول الصرف في العربية تيسر في اللفظة الواحدة أن تدل على معان؛ مثل قولنا: تحاربوا يدل بواسطة صيغته الخاصة على وقوع الحرب بين جماعة، وطبيعة المعنى تقتضي أن لا يعبر عنه باقل من أربع كلمات. وينحتون من كلمتين فكئر كلمة واحدة؛ نحو: سمعل: إذا قال: سلام عليكم، ودمعز: إذا قال: أدام الله عزك. وقال ياقوت في "معجم الأدباء": إن الشيخ أبا الفتح عثمان بن عيسي البلطي سأل الظهير الفارسي عما وقع في ألفاظ العرب على مثال: شقحطب، فقال: هذا يسمى في كلام العرب: المنحوت، ومعناه: أن الكلمة منحوتة من كلمتين؛ كما ينحت خشبتين، ويجعلهما واحدة، فشقحطب (¬1) منحوت من شق حطب، فسأله الملطي أن يثبت له ما وقع من هذا المثال ليعول في معرفته عليه، فأملاها عليه في نحو عشرين ورقة من حفظه. ¬

_ (¬1) الكبش: له قرنان أو أربعة كل منهما كشق حطب "قاموس". جمع شقاحط وشقاطب وهو منحوت من شقّ وحطب.

ولم يقف الناس في زمن الإسلام على ما سمع منه عن العرب، فقالوا في النسبة إلى الشافعي وأبي حنيفة: شفعنتي، ولا نعد النحت من خصائص العربية، بل هو معروف في اللغات الإفرنجية، اتخذوه منبعاً يستمدون منه أسماء ما يحدث من المعاني على ممر الزمان؛ فإن جغرافيا - مثلاً - مأخوذة من جيه بمعنى أرض، وأغرافو بمعنى ارسم، وتلسكوب (المنظار الفلكي) من تيل؛ أي: بعيد، وسكوبيو؛ أي: اختبر، وجيولوجيا من جيو بمعنى أرض، ولوغوس بمعنى علم، وتلغراف مشتق من تيل؛ أي: بعيد، واغرافو؛ أي: اكتب، وتليفون من تيل؛ أي: بعيد، وفون؛ أي: صوت، وترامواي كلمة إنكليزية من ترام بمعنى قضيب منبعج، "ويه" بمعنى طريق، إلى غير ذلك من الأسماء المحدثة. وشرع العرب سنّة الحذف، فيضمرون الكلمة، والجملةَ فما فوقها، وينبهون على المحذوف بقرينة المقال أو المقام. وحال الحذف من مقدار اللفظ الذي يستحقه المعنى كإبانة بعض أجزاء من خلقة الإنسان، والنقص في الخلقة منه ما يكون مكروهاً؛ كقطع يد أو لسان، ومنه ما يستحب دائماً، ولا يحسن في النظر سواه؛ كتقليم الظفر، وتقصير بعض الشعر، وقد يتقارب النقص والبقاء على أصل الفطرة، فيختلف الناس في ترجيح أحدهما واختياره بحسب الأشخاص والأذواق؛ كشجة تعرض في الوجه، فتزيده حسناً، وبعض أنواع اللثغ يلذ في سماع أناس، ويؤثرونه على الحرف المتمكن في مخرجه، وكذلك الحذف يجري على هذا التقسيم، منه معيب، وهو ما اختل به أداء المعنى المراد، وفسدت به هيئة الكلام، ومنه ما يدخل في سبيل الواجب، ويعد الذكر مكانه خروجاً عن قانون العربية؛ كحذف الفعل في باب التحذير التزموه عند تكرار المحذر منه، أو العطف عليه؛ لأن التحذير إنما يقع حيث

أشرف المخاطب على مهواة خطر، أو خيف عليه من الحصول في مكروه، وهذا يوجب على المتكلم المبادرة لاستيفاء الكلام، والاختصار على قدر ما يفهم المراد؛ حذراً من طول الكلام على المخاطب حتى يغشاه المخوف منه قبل أن يأخذ في سبب النجاة، وكذلك أوجبوه على أنفسهم عند حث المخاطب وإغرائه على طلب أمر محبوب؛ فإن شدة الحرص على فوزه بمرغوب فيه، وسباقه إليه تستدعي اختصار القول له ما أمكن؛ لئلا تفوته الفرصة قبل انقضائه. ومن الحذف ما يدخل في حكم الجائز بحسب أصل الوضع، ويفوض في ترجيحه وإختياره عن الذكر إلى نظر البليغ، وما يقتضيه مقام تلك العبارة بخصوصها؛ كالحذف مع القرائن الخفية لإختبار نباهة المخاطب، والعلم بمقدار شعوره. ونسمع من كثير: أن العربية لا تصلح في تعليم الجند، وأمرهم بالانتظام والاستعداد والهجوم وأعمال السلاح؛ بدعوى أن عباراتها الكافية للإفهام في هذا الغرض لا تبلغ غاية الاختصار المطلوب في مواقع الحروب، وهذه غفلة منهم عن وجه الحذف الذي أوجبته العربية في مثل هذه المقامات، وعدم دراية بأن الكلم المستعملة لتنظيم حال الجيش عند الأمم الأخرى إنما دخل عليها الاختصار من باب الحذف والإضمار. وسلك العرب في طلب الإيجاز جهة أخرى سوى طريقة الحذف هي: أن يطلقوا العبارة، فتشتمل بمفهومها على معان جمة، ولا تستطيع أن تضع يدك في حشوها، أو على موضع من جوانبها، وتشير إلى كلمة أو جملة سقطت هناك، ولكنك لو أخذت المعنى من حواشيه، وأفرغته في ألفاظ تفصلها من عندك، وتقدرها بالقياس على أفهام الأوساط أو العامة الذين لا يعقلون إلا

اتساع وضعها

الصريح من القول، لاتسع مجالها، وكبرت عن طوق العبارة الأولى. * اتساع وضعها: تنقسم اللغات إلى: راقية، وغير راقية، فغير الراقية: ما كانت موادها قليلة، لا يسع التعبير بها أكثر ما تمس الحاجة إليه؛ مثل: اللغات الزنجية، ولغة بعض سكان أستراليا، وهذه الأخيرة - على ما نقل بعض الكاتبين - ناقصة جداً بحيث لا يمكنهم التفاهم بها إلا مع إشارات حسية، والعمي عندهم، والمتخاطبون ليلاً بمنزلة من في آذانهم وقر، لا يكادون يفقهون حديثاً. والراقية: ما غزرت مبانيها، واتسعت طرق دلالتها، فكانت موفية بتأدية المراد مع الاستغناء عن الإشارة، وعدم الاعتماد على قرائن الأحوال في الأكثر؛ مثل: اللاتينية، والفارسية، والعربية. تحتوي العربية على ما يقوم بسداد الحاجة من أبنية الكلم، بل على ما تدعو إليه زيادة التحسن والتحبير، فإنا نجد المعنى الواحد قد وضعت له ألفاظ متعددة؛ لتكثر وسائل التفاهم؛ حتى لا تأخذ المتكلم حبسة في أثناء الخطاب، فإذا غاب عنه لفظ، وسعه أن يأتي بمرادفه، وإذا تعسر عليه النطق بكلمة؛ كالألثغ، عدل عنها إلى غيرها؛ كما فعل واصل الغزالي حين كان لا يحسن النطق بحرف الراء، فتركه في زوايا الإهمال، ولولا المترادف، ما أمكنه أن ينبذ الراء من كلامه جملة. وقد يضطره الحديث إلى إعادة المعنى، فلا يؤوده أن يعيده بغير اللفظ الذي عبر به أولاً؛ مثلما قال معاوية - رضي الله عنه -: من لم يكن من بني عبد المطلب جواداً، فهو دخيل، ومن لم يكن من بني الزبير شجاعاً، فهو لزيق، ومن لم يكن من ولد المغيرة تياهاً، فهو سنيد. فقال: دخيل، ثم قال: لزيق، ثم قال:

سنيد، فخلص كلامه من كراهة التكرار، وارتفع شأنه في الحسن درجة. وبالمترادف استعان المعتمد بن عباد ملك إشبيلية حين وقف إثر جنازة ولده في محفل عظيم من الناس قاموا لتعزيته، واقتدر على أن يجيب كل واحد من المعزين بعبارة لم يعدها إلى غيره، مع كثرتهم، وكونه في أسف شديد. قال الباقلاني: ويقول العارفون بألسنة الأمم: إنهم لا يجدون في تلك الألسنة من الأسماء الموضوعة للشيء الواحد ما يعرفونه من اللغة العربية. وتجد بعض اللغات خالية من علامة التمييز يين المذكر والمؤنث؛ كاللغة الفارسية، والتركية، والإنكليزية، وميزت العرب المؤنث عن المذكر بوضع الألف في اسم، أو التاء في اسم وفعل؛ كما فرقوا بينهما في الضمائر والموصولات وأسماء الاشارة. ومن اللغات ما وضع خالياً مما يدل على العدد؛ كاللغة الإنكليزية، فاللفظ الدال على المفرد هو الدال على غيره، ومنها ما لا يوجد فيه سوى المفرد والجمع؛ كاللغة الفارسية، وزادت العربية بما يدل على الاثنين، فميزوه عن المفرد والجمع بعلامة الألف أو الياء، وأفردوه في وضع الضمائر والموصولات وأسماء الإشارة باوضاع خاصة. ومن خصائص هذه اللغة: جمع التكسير، وجمع الاسم الواحد على عدة أمثلة، وهذا لا يشاركها فيه غيرها، حتى اللغتان اللتان يجتمعان معها في أصل واحد: العبرانية، والسريانية، ويوجد جمع التكسير في اللغة الجيزية من لغات بلاد الحبشة؛ لأنها تفرعت في الأصل عن العربية. ولا نجد في بعض اللغات أدوات رابطة بين الأفعال والذوات، وهي الحروف؛ مثل: اللغة الصينية، فيتكلفون في تأدية معنى "في" - مثلاً - إلى

ما يرادف كلمة: وسط، ولها في العربية محل من الاعتبار، ومدخل في الدلالة على المقصود، حتى أفردها بعضهم بالتاليف، وعدها ابن خلدون من خصائص العربية، ونفاها عن غيرها، وليس حكمه هذا بشامل؛ لأن الحروف توجد في لغات أخرى؛ مثل: اللاتينية، وما تفرع عنها. ويحتمل الوضع العربي أن ينقل اللفظ عملاً وضع له أولاً، ويستعمل في غيره على شرط المناسبة بين المعنى الأصلي والمعنى المقصود من اللفظ، فيقال: غيث - مثلاً - ويراد: نبات، وأسد، ويراد: شجاع، وهذا ضرب من التوسع في الخطاب؛ لأنه زيد للنبات اسم هو الغيث، وجعل للشجاع اسم آخر هو الأسد، بل أسماء الغيث كلها صارت بهذه الوسيلة صالحة لأن تطلق على النبات، وجميع الألفاظ الموضوعة للأسد يصح استعمالها في الشجاع، وترجع أمثلة هذا النوع المسمى بالمجاز إلى ضربين: أحدهما: ما كانت علاقته غير المشابهة، ويعرف بالمجاز المرسل، وقد أخبر الشيخ عبد القاهر الجرجاني بأنه لا يوجد في غير اللغة العربية. ثانيهما: ما كانت علاقته المشابهة، ويختص باسم الاستعارة، وهذا الضرب لا تختص به العربية، بل يجري به العرف في غير اللغات الراقية أيضاً؛ فإن بعض سكان أستراليا لا يجدون في لغتهم ما يفيد معنى صلب، فإذا اضطروا إلى وصف شيء بالصلابة، قالوا: حجر. ويتمايز هذان النوعان في الترجمة أيضاً، فلو أبدل مترجم الغيث في قولنا: رعينا غيثاً باللفظ الموضوع للنبات في اللغة المنقول إليها، لم يتغير المعنى، وكان مؤدياً للكلام بحاله، ولو أنه ترجم بحراً في قولك: رأيت بحراً يعطي الدنانير بلفظ يرادف كريماً، ولم يعبر بالاسم الذي يوافق البحر في تلك

اللغة، لأخل بجانب المعنى، ولم تكن الترجمة مطابقة، وقد تجري العادة في لسان قوم باستعارة اسم شيء لآخر، فيحسن موقعها من قلوبهم، ولا يألفها قوم في مجاري خطاباتهم، فتتبرأ منها أسماعهم، وتنفرها أذواقهم، وبمثل هذا يظهر النقص في صورة المعنى المؤدى بلهجة لغة إذا نقل إلى لغة أخرى. ولاتساع العرب في كلامهم بهذه الوجوه: المترادف، وجمع التكسير، والمجاز، وما يشاكلها من القلب اللفظي؛ نحو: جبذ وجذب، وورود الكلمة الواحدة على عدة أحوال مختلفة بزيالة بعض الأحرف ونقصها؛ كإصبع وأصبوع، تمكنوا من بناء أشعارهم على هذه الأوزان المعتدلة، والتزموا فيها القافية ورويَّها بدون كلفة، فجاءت محكمة في وضعها، بديعة في نسجها. قال أبو نصر الفارابي: إن الألسن العجمية متى وجد فيها شعر مقفى، فإنما يرومون أن يحتذوا فيه حذو العرب، وليس ذلك موجوداً في أشعارهم القديمة. وتيسر للعرب بهذه الأسباب أيضاً أن يأخذوا بطريقة السجع، فيأتوا بالكلام قطعاً قطعاً، ويلتزموا في كل كلمتين منه قافية، وكان هذا النوع في زمن الجاهلية متداولاً بدون أن يتغلب على المرسل، وكثر ما يستعمل عند أصحاب الكهانة؛ فإنهم كانوا يلتزمونه التزاماً، ثم هجره الناس في صدر الإسلام هجراً جميلاً، فلا يستعملونه إلا إذا أرسلته السجية بدون تطلب وتصنع، ثم أخذ في القرون الوسطى من العناية والحظوة ما لم يكن له في صدر الإسلام، ولا في زمن الجاهلية، فدرج الناس على سنته في خطاب الجمهور، والتزمه الكتاب في مخاطبة السلطان إلى الرعايا، وكتبوا به بعض الرسائل العلمية، وتغنت به الباعة في النداء على أمتعتها.

إبداع العرب في التشبيه

وبالغ بعض البيانيين في الرفع من شأنه حتى جعل تقديم الكلمة عن موضعها لصحة السجع أو الفاصلة من وجوه البلاغة، ونبه الباقلاني على عدم استقامة هذا الوجه بالنسبة إلى الكتاب الحكيم؛ لأن صرف الكلمة عن مرتبتها في النظم؛ لتوافق شيئاً من محاسن البديع، نوع من التصنع الذي عابه علماء الفصاحة على المولدين، ثم إن صحة السجع إنما هي عذر يقيمونه لرفع الملامة في مخالفة ما يقتضيه السياق، وإذا ساعدتك نفسك على الاعتذار به في سجع أو قافية من كلام البشر، فلا تسمح لك بتقريره في كتاب الله الذي لا يعجزه أن يضع كل كلمة في منزلتها التي يستدعيها حال المعنى مع سلامة الفاصلة. وأدرك كثير من المحررين اليوم أن المرسَل أوسع مذهباً في البيان، فعدلوا إلى طريقته في خطاب الجمهور، إلا إذا ساعدهم الطبع على السجع بسهولة كغيره من محاسن البديع. * إبداع العرب في التشبيه: علم من صدر هذه المسامرة: أن الباعث على التشبيه أمر فطري، وهو قصور العبارة عن إيضاح المراد، لهذا لم يختص في أصل استعماله بالبلغاء من الناس، وتناولته الأطفال في حجور أمهاتهم، وأيضاً لم تتميز به لغة دون أخرى، بل فازت اللغات السافلة منه بنصيب؛ فإن بعض سكان أستراليا لا يوجد عندهم ما يؤدي معنى مستدير، فيقولون: مثل القمر، وجرى العرب في هذا المضمار إلى الغاية القصوى، ورموا في تشابيههم إلى أغراض أخرى وراء البيان والإيضاح، منها: القصد إلى مدح المشبه وتزيينه في عين السامع؛ لتنبسط نفسه إليه، وتتقوى رغبتها فيه حيث حوكي بصورة راقية في حقيقتها، أو حسنة

في وضعها، ومما ينبئ عليه التشبيه: الاهتمام بشأن المشبه به؛ لأن صانع التشبيه يلتفت أولاً إلى ما استودعه في مخيلته من الصور، فتخطر على مفكرته، وتتسابق إليها على حسب تكررها على ذهنه، وتوجه قلبه إليها، فإذا ضرب مثلاً عند الاستغناء عنه، أو اختاره دون غيره، مع مساواته له في تحصيل الغرض، أشعر بكثرة ملابسته له، وتردده على فكره، فلا غرو أن تستفيد من تشابيه الرجل مكان همته، وإلى أين تذهب نفسه في معالي الأمور أو أسافلها، ومن الخطأ الذي يعرض للأديب هنا: أن يجري في تشابيهه على ما يلابس خاطره، ويسبق إلى قريحته، ولا يراعي في ضرب المثل حال المخاطبين، وما هو معروف لديهم. ثم إنهم لم يقتصروا في المشبه به على حد ما تقع عليه الحاسة، أو تدركه القوة العاقلة من الحقائق الثابتة، وتعدوا إلى ما تقدره قوة الخيال من المعاني التي لم يتحقق لها أثر في الوجود. ورأوا الفضل في التشبيه البسيط غير كبير؛ إذ لا مزية تظهر للشاعر في تشبيه الشجاع بالأسد، والعزيمة بالسيف، فترقوا في ذلك إلى انتزاع الهيئات المفصلة من المركبات في الواقع، أو بواسطة الخيال؛ كتشبيههم الزرع تتخلله شقائق النعمان وهو يميس أمام الرياح بكتيبة لباسها أخضر قد انهزمت، ومن بينها جرحى كسيت باثواب من الدماء، ولولا قوة مداركهم، ولطف تصرفها، ما رأيت فئة كثيرة من الشعراء يتواردون على تشبيه شيء واحد، فيسلك كل فرد منهم جهة لم يتعلق بها نظر غيره، كما بلغوا في تشبيه الهلال إلى ما يقارب السبعين وجهاً. منها: قول شرف الدين بن الريان: كأن الهلال نزيل السماء ... وقد قارن الزهرة النيره

سِوارٌ لحسناءَ من عسجدٍ ... على قفله وضعت جوهره ومنها: قول بدر الدين محمد بن مكي: كأن الشمس إذ غربت غريق ... هوى في البحر أو وافي مغاصا فأتبعها الهلال لدى غروب ... بزورقه يريد لها خلاصا فيمكنك أن تنظر إلى تشابيه الأمة وما يضربونه من الأمثال، وتجعلها عنواناً على إضاءة عقولهم، وشاهداً بالغاية التي تنفذ إليها بصائرهم؛ فإن المشبه به إذا كان نادر الحصول في الذهن، أو في ضمنه تفصيل كثير، صعب استطراده في غير موضع الحديث عنه، ولا يتمكن من قلادة التمثيل به إلى من كان له نظر واسمع في تخييل المعاني القاصية، وقوة فائقة في تأليفها مع ما يجانسها في شمل واحد. وكثيراً ما يصنع الأدباء التشابيه على بساط المساجلة لمجرد الرياضة، وإظهار البراعة في الالتفات من معنى إلى آخر، وإدخاله في نسق الحديث عن غيره بمناسبة لطيفة. فالأدباء يختلفون في مراتب التشبيه، ويتفاوتون في الغوص على لطائفة؛ مثلما يختلف المصورون من أهل السياسة في تمثيل حال أمة في سعادتها أو شقائها - مثلاً -، أو حال دولة في اتحادها مع دولة أخرى أو معارضتها، ويتفاوتون فيما يضمنونه في ذلك التمثيل من النكت السياسية. ولم تكفهم الإصابة في وجه الشبه والتحقيق فيه، فدعاهم لطف الذوق في التمثيل إلى التحفظ في موارده عما لا يلائم الغرض منه، ألا ترى الأصمعي كيف عاب في مجلس الرشيد قول النابغة: نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السقيم الى وجوه العُوَّدِ

فإن النابغة - وإن سدد الرمية إلى وجه الشبه -، لكنه أورده في صورة تقتضي تشبيه المحبوبة بالسقيم، وذلك مما يتخلى ذوق الأديب عن قبوله. ونظير هذا: أن يمثل المصور السياسي أمة في سعة رفاهيتها، وسعادة حريتها، فيرسم صوراً كريهة المناظر، تمرح بملابسها الفاخرة في رياض باسمة الأزهار، ويرمز إلى روح الأمن والاطمئنان باسطة أشعتها في صدورهم بانتظام سيرهم، والسكينة في حركاتهم، فهذا المثل كما رأيته مستوف للغرض الذي رسم من أجله؛ لأن السعداء بنعمة الحرية لا يجب أن تكون وجوههم مشرقة، وأعضاؤهم متناسبة، ولكن ما ارتكز في النفوس من إعظام الحرية، وشدة الشغف بها يخيل إليها أن من لبسوا رداءها، وتحلوا بزينتها، لابد أن تلقى على وجوههم نضرة النعيم، وتعلوها وضاءة لا يبصر الناظر معها إلا حسناً، فإذا شاهد إنسان الأحرار في صور كريهة، نقص إعجابه بالحرية، أو نازع المصور في عدم إتقانه لذلك التمثيل. واتسع العرب في هذا الباب إلى أن قال المبرد في "الكامل": لو قال قائل: هو أكثر كلام العرب، لم يبعد. وتفننوا فيه على حسب توغلهم في الحضارة، ومشاهدتهم للصور الغريبة، ولا جرم أن يجد الناظر في تشابيه أدباء الأمة ما يطلعه على نبذة من أحوالهم المدنية؛ فإن كثيراً من الأشياء يتعالى الأديب عن الحديث في شأنها. إذا ساقها إليك مساق التمثيل بها. فمما يقرب معرفتك إلى هيئة لباس النساء في عهد ابن الرومي قوله يصف قوس الغمام: يطرزها قوس الغمام بأصفر ... على أخضر في أحمر وسط مبيض

اقتباسهم من غير لغتهم

كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض ومن عرف القائل: أأميم شاهدت يوم نزالنا ... والخيل تحت النقع كالأشباح تطفو وترسب في الدماء كأنها ... صور الفوارس في كؤوس الراح لم يبق على الجهالة بشكل الكؤوس المستعملة لذلك العصر، وعقلها على أي صورة تصنع. ولعلك تسمع قول النور الأسعدي: يميناً ما مدحتك من ضلال ... ولي في ذاك عذر في الكمال ولكني لأكمل منك نقصاً ... كما جعل الطراز على الشمال فتستفيد منه: أن العلامة التي تجعل في ثياب الكبراء من قبل الأمراء؛ ليمتازوا بها عن غيرهم، كانت توضع في القديم على جهة اليسار؛ كما هي عادة رجال الدول اليوم في وضع غالب النياشين التي هي بمثابة الطراز. * اقتباسهم من غير لغتهم: مما يشهد للعرب بارتقاء أفكارهم، وبعدها عن ساحة الجمود: أنهم لم يستنكفوا - مع إعجابهم بفصاحة لغتهم، وعلمهم بكثرة مفرداتها وتصاريفها - أن يضيفوا إليها من لغات الأمم ما يوفر عددها، ويزيدها سعة على سعتها، ومن هذه الألفاظ الدخيلة ما يبقونه على حالته التي كان عليها عند العجم؛ نحو: كركم، ومنه ما يغيرونه بالنقص أو الزيادة أو الإبدال، لاسيما إذا كانت حروفه مخالفة في المخارج والصفات لحروف لغتهم؛ مثل: فيروز، فاؤه عند العجم بين الفاء والباء، ومثل: الأسقف، وأصله باليونانية (إيسكوبوس)،

وربما اشتقوا منه أفعالاً على قياس ما يشتقونه من أسماء الأجناس الأصلية في أبنيتهم؛ نحو: تطليس: إذا لبس الطيلسان، وألجم الدابة: إذا وضع اللجام في فمها، واتسعوا في تصريفها إلى أن نقلوها إلى غير معناها على سبيل المجاز، فقالوا: لجمه الماء: إذا بلغ فاه. وإذا تصرفوا فيها كما يتصرفون في أوضاع كلامهم، صارت بمنزلة الألفاظ المرتجلة عندهم. وليس بصحيح ما يزعمه بعضهم من أن إدخال الألفاظ الأعجمية على اللغة مفسد لها؛ فإن القرآن، وهو الراقي بفصاحته إلى حد الإعجاز، قد اشتمل على عدة كلمات غير عربية؛ نحو: مشكاة من الهندية، وإستبرق من الفارسية، وقسطاس من الرومية، وهذا لا ينافيه قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]؛ فإن هذه الألفاظ لما أخذها العرب، وأدخلوها في لسانهم، اختلطت بلغتهم، وصارت معدودة فيما هو عربي فصيح، فلا يخرج الكلام الشامل لها من نسبته إلى العربية. وأنكرت طائفة - منهم ابن جرير الطبري - وقوع المعرَّب في القرآن، وادعوا أن هذه الأمثلة مما تواردت فيها اللغات، فتكلمت بها العرب والفرس أو الروم - مثلاً - بلفظ واحد من دون اقتباس، ولا يصح القول بهذا في مثل إستبرق وسندس؛ لأن الثياب الحرير ليست من مصنوعات العرب، وإنما عرفوها من الفرس. وتجاوز كثير الحد في هذا النوع، وأتوا إلى كل لفظ عربي يعثرون عليه في لغة أخرى، وحكموا عليه بأن العرب اقتبسته من تلك اللغة، وإن كان معناه مما شأنه أن تشترك فيه الأمم، أو لا يدرى من الذي أنشاه سابقاً؛ مثل: الهرج؛ أي: الفتنة، والدرّي؛ أي: المضيء، والشطر؛ أي: الجهة،

ارتقاء اللغة مع المدنية

يقول بعضهم: إن العرب أخذتها من الحبشة، ولن يجد دليلاً على ذلك؛ إذ يحتمل أن الحبشة هي التي أخذتها من العرب، أو تكلم بها الفريقان على سبيل الاتفاق. * ارتقاء اللغة مع المدنية: يعلم كل من له حظ من تعاليم هذه اللغة أن موضوعاتها لم تقف عند الحد الذي انتهت إليه قبل الإسلام، ولا في زمن نزول الوحي، فكثير من الألفاظ وقع التصرف فيها، فنقلت إلى شرائع ومعان لا تعرفها الجاهلية؛ مثل: الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، ومثل: المنافق، والفاسق، والمخضرم، ولما دونت العلوم على اختلاف فنونها، وحدثت معان لم تكن اشتقوا لها أسماء من اللغة، وأجروها مجرى العربي الصحيح في الاستعمال، ولم يقتصروا على الاشتقاق من العربية، وسلكوا طريقة العرب في اقتباسهم من غير لغتهم، فنقلوا جملة من الكلمات الأعجمية، واستعملوها بحالها؛ كالسقمونيا، والإسطرلاب من اللغة اليونانية، والأسطوانة، والبنج من اللغة الفارسية، هذه الاصطلاحات المتجددة، وإن كان السبب الذي يدعو إلى وضعها أولاً هو الحاجة إلى التفاهم في مسائل تلك العلوم، فلا جناح على من أوردها في أغراض خارجة عن العلم متى جرت إليها مناسبة تشبيه، أو تلميح في خطاب لا يقصد به إلا الخاصة من الأدباء، وإنما يعاب استعمالها في مثل المقالات والقصائد والخطب التي يوجه الخطاب فيها إلى عامة الناس؛ لغموض معانيها، وعدم اشتهار وضعها. وفي قصائد الشعراء ورسائل الكتاب من التلميحات والتشابيه بالمعاني العلمية ما يستحق أن يذكر في عدد حسناتهم البديعية؛ كقول بدر الدين الدماميني

في بعض قصائده: وقد شابه الأعداء جمعاً مؤنثا ... لذاك غدت في حالة الفتح تكسر وكثرت اصطلاحات الفنون، واتسعت شعويها حتى خصصوها بمعجمات؛ مثل كتاب: "التعريفات" للجرجاني، وكتاب "الكليات" لأبي البقاء، و"كشاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي. فالإسلام لم يعق العربية عن النمو، ولا شد وثاقها عن الارتقاء مع المدنية كما أوحي به إلى بعض المسامرين، فقرر في سياق الاستشهاد على موت العربية: "أن المسلم الخالص يلزمه أن يبقى اللسان الذي نزل به القرآن على حاله. وتحويل الكلمة عن معناها الأصلي إلى معنى جديد يعد تغييراً للغة"، فهذا لفظ الباي، والمدير، والسفير، والمشير، ومجلس الشورى، وكثير من اصطلاحات الصنائع والفنون لم تكن معروفة في صدر الأسلام بهذه المعاني الخاصة، ويستعملها الناس منذ وضعت بدون تحرج منها، أو دخول شبهة عليهم في استعمالها. ومما يزيل هذا الغلط، ويمحي أثره: أن العربية لم يحتكرها العرب المسلمون لأنفسهم، ولا سدوا أفواه القوم المخالفين لهم عن التخاطب بها، بل لا تزال لسانَ طوائف ذات ملل مختلفة من حين بزغت شمس الإسلام إلى يومنا هذا، فعلى تسليم أن يقضي الإسلام ببقاء اللغة واقفةً عند حد، فلا يجري حكمه هذا إلا على من لبسوا هديه، وتطوقوا بقلادة شريعته؛ لأن هؤلاء الطوائف - وإن ضمهم الأسلام تحت حمايته - فإنه يطلق لهم الحرية فيما يدينون وما يصنعون، ولا يحملهم على ما يقرره من الأصول أو الفروع، فإذا قدرنا أن العربية سكنت أنفاسها، ولحقت بأصحاب القبور كما يزعم المسامر، فهي

وسيلة من وسائل الارتقاء وسعادة الحياة، أهملتها أمة غير متحدة في الملة، فكيف يستقيم لنا أن نلقي مسؤولية ذلك على عاتق دين لا تنسحب واجباته على جميعها، وليس التصرف في ترقية حال اللغة من متعلقات السياسة خاصة حتى يقال إن أمره في يد الهيئة الحاكمة، وهي متلبسة بشعار الإسلام. فلو نهض أفراد من أمة غير مسلمة يسعون إلى عمل لا يلحق بغيرهم ضرراً؛ كإصلاح لسانهم، لم يكن للدولة الإسلامية بوصفها إسلامية أن تعاضهم، وتحول بينهم وبين ذلك المسعى، صان كان عملاً غير صالح في شريعة الإسلام. فليس من العدل في القضية أن نسند موت اللغة -لو وقع - إلى الإسلام وحده، وهي لسان أمم لا تجمعها شريعته. قال المسامر: إن هذه اللغة ضيقة النطاق، لا تسع تحريرات العلوم العصرية، ولا يمكن أن يوجد فيها أسماء لهذه المخترعات، نحو: فوتغراف، وتلفون. وهذه قضية تردها شهادة التاريخ والعلم؛ فإن علوم الحكمة والطب والهندسة والحساب والفلك والمنطق وغيرها قد ترجمت في عهد الدولة العباسية، ودونت بالقلم العربي، وأصبحت تدرس بلسان عربي مبين، وأما شهادة العلم، فانه يمكننا أن نضع لهذه المعارف الحديثة أسماء عربية، وهو أحسن الطرق وأفضلها؛ لئلا تكثر الألفاظ الدخيلة، وتتغلب على ما هو عربي، فتؤول بكثرتها إلى خروج الكلام وانسلاخه عن صبغته العربية؛ فإن اللغات تتمايز بالأساليب، وبالمفردات، إلا ما كان قليلاً. ولما كانت العربية من اللغات المتصرفة يُشتق منها اسم الفاعل والمفعول، والمكان والآلة، سهل الطريق إلى وضع أسماء مفردة لهذه المستحدثات؛ فإن أكثرها من قبيل المكان، أو الآلة، أو الموصوف بالفعل، وهناك وسيلة

اتحاد لغة العامة والعربية

أخرى هي طريقة، المجاز، فإذا عرض لنا معنى جديد، نظرنا إلى لفظ يتناوله على وجه عام - مثلاً - أو مستعمل في معنى يقرب منه، وعلقناه عليه؛ كما فعل بعض الأذكياء في: رتل، وقطار، وبريد، ومنطاد، وعربة، ولا تثريب علينا إذا لم نهتد إلى وضع أسماء مفردة أن نعلق عليها أسماء مركبة؛ نحو: حاكي الصدى لفونغراف، وكذلك يفعل الإفرنج الآن، فأسماء المستحدثات عندهم من قبيل المركب، أو المنحوت. وبعد هذه الوسائل، فإن العربية - كما علمنا - تتلقى ما يرد عليها من الألسنة الأخرى، وتقبله بقبول حسن بعد تنقيحه وسبكه في قالب عربي، فلا مانع من أن نقتبس أسماءها الموضوعة لها في اصطلاح مخترعيها عند استحسانها، ونهذبها، ثم نحشرها في زمرة ما هو عربي فصيح. * اتحاد لغة العامة والعربية: إذا تتبعنا لغة التخاطب الآن؛ لنعلم نسبتها من العربية، وجدناها نفس العربية، ولكن طرأ عليها التحريف بنقص أحوال الإعراب، أو تغيير حروف بعض الكلم بالحركة أو السكون، اْو التخفيف أو التشديد، أو الحذف أو الزيادة، أو القلب أو الإبدال، وقد يرد الخطأ عليها من ناحية الاشتقاق؛ نحو: شائب، ومهبول، ومبروك؛ فإن الصحيح عربية: أشيب، وأهبل، ومبارك. وهناك كلمات دخيلة اقتضتها سنة المخاطبة، وقدرها بعض المحررين بالنسبة إلى ما هو عربي في لسان المصريين بخمسة في المئة، وليس التفاوت بينهم وبين التونسيين ببعيد. ومن شواهد أن لغة العامة لسان عربي دخله التحريف: أنك تراهم يستمعون إلى القرآن الحكيم، فيفهمون ظاهراً منه، ويتأثرون لسماعه، وتسرد

عليهم القصص المؤلفة بقلم عربي، فلا يفوتهم من فهمها إلا ما كان نادراً. واستشهد المسامر على عدم حياة العربية: بأن الجرائد المحررة بقلم راق لا يفهمها جميع الناس. وهذا مسلم في المنشآت التي يرمي فيها الكاتب إلى أنظار بعيدة عن أفكار العامة، ولا أظن العالم والأمي في أي أمة يكونان سواء في فهم التحريرات المشحونة بالأنظار العالية، وإن كانت خالية من المعاني العلمية واصطلاحاتها، وأما ما كانت معانيه قريبة التناول؛ كأخبار الوقائع والإعلانات، فلا يخفى عليهم فهمها، وإن كانت عباراتها راقية، إلا أن تشتمل على بعض مفردات غريبة وعندهم ما يرادفها من العربي صحيحاً أو محرفاً. ولا ننسى - وإن نسي المسامر - أن لغة العامة في كل أمة لا تنطبق بجملتها على اللسان الذي يكتب به علماؤها، وإن كان الفرق بينهما في ممالك أوربا على ما ينقل أقل من الفرق بين لغة التخاطب عندنا والعربية الفصحى؛ لأن أولي الأمر منهم في الأعصر القريبة كانوا أشد عناية بشأن التعليم، وأحرص على تعميمه بين رعاياهم، واستقامة ألسنة الأمة في اللغة على قدر ما يفتح لها من أبواب التعليم، ويتخذ فيه من الوسائل القريبة، ولهذا نرى لسان المتعلمين منا، أو من يتردد على صحبتهم أقرب إلى العربية من لسان الأميين الذين لا يحومون على ساحة التعليم. ثم إن ما قرره المسامر في شرط حياة اللغة، وبنى عليه الحكم بموت العربية، وهو: "أن يكون لسان التخاطب بها مطابقاً للسان الكتابة تماماً" نحن في سعة واختيار من قبوله، والاعتبار بوزنه، سواء قاله من تلقاء نفسه، أو تبع فيه سلفاً على وجه التقليد؛ فإن شرطه هذا أمر وضعي لا يستند في

تحقيقه إلى حجة عقلية، فلا يكبر علينا الالتفات عنه، ونعتمد وضعاً آخر لشرط الحياة، فنقول: إن اللغة الحية هي التي يكتب بها طائفة من الأمة على وجه الصحة، ويمكنهم أن يتفاهموا بها كذلك في أي عرض يعرض، وإن كانت في نطق العامة محرفة، ونسمي ذلك التحريف: مرضاً، لا موتاً حقيقياً. وإذا أثبت أن لغة التخاطب الآن عربية، ولكنها ابتليت بعلل يرجى برؤها منها، وعودها إلى تمام صحتها بالمعالجة شيئاً فشيئاً، فلا يحسن بنا أن نهجر اللغة الفصحى، ونسعى في تدوين لغة العامة على علاتها، فإن تحريفها يختلف بحسب اختلاف الأقطار والبلاد، حتى يكاد أهل الأقطار المتباعدة لا يفهم بعضهم خطاب بعض، وإن اشتركوا في فهم العربية الصحيحة، وإذا أريد أن أهل كل قطر أو بلاد يدونون لسانهم المحرف، فانظروا ماذا ترون. أيجمل بنا أن نعمد إلى لغة يشترك في التفاهم بها جميع المسلمين على اختلاف أجناسهم، ويتخاطب بها ابن الصين مع ابن مراكش بدون واسطة ترجمان، ويينهما من بعد المسافة مثل ما بين ملتقى الخافقين، ونفرقها الى لغات شتى تفريقاً يجعلها -في الأقل- لغات سافلة منزوعة من سر الفصاحة والرونق، ولا تجد قوة تذود بها عن حياضها كما وجدت العربية من ذات فصاحتها حانياً ونصيراً. وللعربية في نظر المسلم موقع عظيم من الاعتبار؛ لأن الإسلام وإن لم يجعلها من شعائره، فيأمر المسلم بالتزامها في سائر خطاباته، إلا أنه استحب له تلاوة القرآن، والتدبر في معانيه؛ لمعرفة وجوه إعجازه، واستخراج عبره، والاستضاءة بأنوار هديه؛ لأن غيره من كتب الحكمة والإرشاد ليس لقولها سلطان يؤثر على النفوس، ويعمل عمل القرآن في تطهيرها عما يعرض

حياة اللغة العربية

لها من الوساوس، وهدايتها إلى محاسن الأخلاق، ولا سبيل إلى التدبر في آياته وإدراك بلاغته إلا بعلم هذه اللغة. ولما علم المحققون أن استنباط الأحكام التفصيلية عند الحاجة إليها يجب أن يقوم به طائفة من الأمة. والأحكام إنما تؤخذ من القرآن، وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكلاهما وارد بلسان العرب، عدوا من فروض الكفاية التبحر في معرفة العربية، وهذا وجه نسبتها إلى الإسلام، وهو الحصن الذي يتكفل بحفظها وبقائها ما بقي دينه القويم. وإذا كانت العربية رواية نتلقى منها علوم الدين، وبريداً يحمل إلينا علوم الدنيا، فمن واجباتها علينا أن نصرف الهمة في سبيل إصلاحها، ونعدل ألسنة الناشئين بآثارها الصحيحة؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. * حياة اللغة العربية: كان المؤلف -رحمه الله- أنشأ في رمضان سنة 1335 هـ قصيدة في حياة اللغة العربية في أسلوب رواية خيالية، ونشرت في جريدة "الزهرة" الزاهرة، وقد رأينا من المناسب إثباتها هنا إتماماً للفائدة، ونصها: بصري يسبح في وادي النظر ... يتقصى أثراً بعد أثرْ وسبيل الرشد ممهود لمن ... يتجافى الغمض ما اسطاع السهر إنما الكون سجل رسمت ... فيه للأفكار آيٌ وعبر وإذا أرخى الدجى أستاره ... هب سمعي كاشفاً عما استتر لست أنسى جنح ليل خفقت ... فيه بالأحشاء أنفاس الضجر لج بي التسهيد حتى أوشكت ... غرة الإصباح أن تغشى السحر

قمت أسعى لتقاضي سلوة ... ومطايا السعي مرقاة الوطر قمت أخطو فجرى حادي الصبا ... بحسيس من أحاديث السمر وانثنى بي نحو ناد نشبوا ... في لحاء ولجاج منتشر لا تعي من بينهم إلا وغى ... في مزيج مثل ضغث معتكر وإذا الخصمان لم يهتديا ... سنة البحث عن الحق غبر هذه طائفة تحدو بما ... في لسان العرب من فضل ظهر وجفته فئة فاهتضموا ... شأنه والجهل مدعاة الهذر وتراضوا بعد ذا أن نصبوا ... حكماً بينهم فيما شجر فانبرى فيهم خطيباً بصدى ... لهجة فصحى وجأش مستقر لغة أودع في أصدافها ... من قوانين الهدى أبهى درر لغة نهصر من أغصانها ... زهر آداب وأخلاق غرر ضاق طوق الحصر عن بسطتها ... ولآلي البحر ليست تنحصر فاض من نهر مبانيها على ... فصحاء العرب سيل منهمر فسرت روح بيان في اللهى ... كخصيب الأرض يحييه المطر وابنها المنطيق إن زج به ... في مجال القول جلى وبهر يسبك المعنى متى شاء على ... صيغ شأن الغني المقتدر ثم لا يعوزه السير على ... وضعها في كل معنى مبتكر فأسأل التاريخ ينبيك بما ... أنجبت أرض قريش ومضر من خطيب مصقع أو شاعر ... مفلق يسحب أذيال الفخر

ضربت في كل شرب ينتحى ... من فنون الحسن بالسهم الأغر أرشفت من شنب الرقة ما ... يذهل الأسماع عن نغم الوتر ولطيف اللفظ يسري في الحشا ... ما سرت نظرة ظبي ذي حور وتذيب القلب رعبأ بجزا ... لة أسلوب لديها محتكر والكلام الجزل وضعاً واقع ... موقع السيف إذا السيف خطر ضل قوم سلكوا في حفظها ... سبباً أوهن من حبل القمر واحتست في نطق بعض أحرفاً ... من لغى أخرى فأضناها الخدر بعض من لم يفقهوا أسرارها ... قذفوها بموات مستمر نفروا عنها لواذاً وإذا ... جف طبع المرء لم تغن النذر مازكا تفاح لبنان على ... حسك السعدان في ذوق مذر هكذا في نظر الأعشى استوى ... زهر روض وهشيم المحتظر لغة قد عقد الدين لها ... ذمة يكلؤها كل البشر أو لم تنسج على منوالها ... كلم التنزيل في أرقى سور يالقومي لِوفاء إن من ... نكث العهد أتى إحدى الكبر فأقيموا الوجه في إحيائها ... وتلافوا عقد ما كان انتشر

الاستشهاد بالحديث في اللغة

الاستشهاد بالحديث في اللغة (¬1) يستند علماء العربية في إثبات الألفاظ اللغوية، وتقرير الأصول النحوية، إلى القرآن المجيد، وكلام العرب الخلص، وجرى بينهم الخلاف في الاحتجاج بما يروى من الأحاديث النبوية. وحقيق بمجمع اللغة العربية أن ينظر في هذه المسألة، ويقطع فيها رأياً؛ فإن الكتب المؤلفة في الحديث وغريبه كثيرة، ومنها ما يبلغ مجلدات ضخمة. ومتى رأينا أن الحق في جانب من يراها حجة كافية في اللغة، كان مجال البحث في علوم اللغة أوسع، ووجدنا من المساعدة على إعلاء شأن اللغة ما لا نجده عندما نقصر الحجة في القرآن الكريم، وما يبلغنا من كلام عربي فصيح. وهذا ما دعاني إلى أن بحثت هذه المسألة، وبذلت جهداً في استقصاء ما كتبه فيها أهل العلم، ثم استخلصت من بين اختلافهم رأياً. وهأنذا أعرض البحث كما اتفق لي أن سرت فيه، وأصله بإبداء ما رأيت؛ لينظر مجمعنا ماذا يرى. ¬

_ (¬1) بحث قدمه الإمام إلى مجمع اللغة العربية، ونشر في الجزء الثالث من "مجلة المجمع". الصادر في شعبان 1355 - أكتوير 1936. ونشر في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد العاشر الصادر في شعبان 1356 - أكتوبر 1937.

ما المراد من الحديث؟

* ما المراد من الحديث؟ تشتمل كتب الحديث على أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أقوال الصحابة تحكي فعلاً من أفعاله - عليه السلام -، أو حالاً من أحواله، أو تحكي ما سوى ذلك من شؤون عامة أو خاصة تتصل بالدين؛ بل يوجد في كثير من كتب الحديث أقوال صادرة عن بعض التابعين. وكذلك نرى المؤلفين في غريب الحديث يوردون ألفاظاً من أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أقوال الصحابة، أو أقوال بعض التابعين؛ كعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. وهذه الأقوال المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين، متى جاءت من طريق المحدثين، تأخذ حكم الأقوال المرفوعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جهة الاحتجاج بها في إثبات لفظ لغوي، أو قاعدة نحوية. * هل في الحديث ما لا شاهد له في كلام العرب؟ يرد في الحديث ألفاظ لا يعرف لها علماء اللغة شاهداً في كلام العرب، وترد بعض الألفاظ على وجه من الاستعمال لا يعرف إلا من الحديث. وكثيرا ما يقول شراح غريب الحديث، وهم من جهابذة علماء اللغة: هذا اللفظ لم يجئ إلا في الحديث، ولم نسمعه إلا فيه. وقال أبو بكر محمد بن قاسم الأنباري أحدُ المؤلفين في غريب الحديث: "وكذلك أشياء كثيرة لم تسمع إلا في الحديث" (¬1). وتكلم أبو موسى محمد بن أبي بكر الأصفهاني في كتاب "الغريب" عن ¬

_ (¬1) "النهاية" لابن الاثير في مادة هرو.

الخلاف في الاحتجاج بالحديث

الألفاظ التي لم ترد إلا في بعض روايات الحديث، فقال: وإنما أورد نحو هذه الألفاظ؛ لأن الإنسان إذا طلبه، لم يجده في شيء من الكتب، فيتحير، فإذا نظر في كتابنا، عرف أصله ومعناه. ومن أمثلة هذا النوع كلمة "استارة" وردت في حديث: "أيما رجل أغلق بابه على امرأته، وأرخى دونها استارة، فقد تم صداقها". لقد قال شراح الغريب: لم تستعمل "استارة" إلا في هذا الحديث (¬1). ومن أمثلته كلمة "أفلج" من الفلج؛ أي: تباعد ما بين الثنايا، فقد وردت في وصف ابن أبي هالة للنبي - صلى الله عليه وسلم - غير مضافة إلى الأسنان، وابن دريد، وصاحب "القاموس" يقولان: لا يقال: رجل أفلج، إلا إذا ذكر معه الأسنان. * الخلاف في الاحتجاج بالحديث: ذهب جماعة من النحاة إلى أن الحديث لا يستشهد به في اللغة؛ أي: لا يستند اليه في إثبات ألفاظ اللغة، ولا في وضع قواعدها، ومن هذه الجماعة: أبو الحسن علي بن محمد الاشبيلي المعروف بابن الضائع (¬2)، وأثير الدين محمد بن يوسف المعروف بأبي حيان (¬3)، وزعم أبو حيان: أنه مذهب المتقدمين والمتأخرين من علماء العربية، فقال في "شرح كتاب التسهيل": "إن الواضعين الأولين لعلم النحو، المستقرئين للأحكام من لسان العرب؛ كأبي عمرو، وعيسى بن عمر، والخليل، وسيبويه، من أئمة البصريين، ¬

_ (¬1) "النهاية" لابن الأثير مادة: ستر. (¬2) توفي سنة 680 هـ. (¬3) توفي سنة 672 هـ.

وجهة نظر المانعين

والكسائي، والفراء، وعلي بن مبارك الأحمر، وهشام الضرير، من أئمة الكوفيين، لم يفعلوا ذلك -أي: لم يحتجوا بالحديث- وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين، وغيرهم من نحاة الأقاليم؛ كنحاة بغداد، وأهل الأندلس". وأجاز قوم الاحتجاج بالحديث في اللغة، وعدوه في الأصول التي يرجع إليها في تحقيق الألفاظ، وتقرير القواعد. وممن عرف بهذا المذهب: محمد بن عبدالله المعروف بابن مالك (¬1)، وعبدالله بن يوسف المعروف بابن هشام (¬2)، وممن انتصر لهذا المذهب: البدر الدماميني في شرحه لى: "كفاية المتحفظ" المسمى بتحرير الرواية، وعد من أصحاب هذا المذهب: الجوهري، وابن سيده، وابن فارس، وابن خروف، وابن جني، وابن بري، والسهيلي، حتى قال: لا نعلم أحداً من علماء العربية خالف في هذه المسألة إلا ما أبداه الشيخ أبو حيان في "شرح التسهيل"، وأبو الحسن الضائع في "شرح الجمل"، وتابعهما على ذلك الجلال السيوطي. * وجهة نظر المانعين: قالوا: لا يستشهد بالحديث؛ لعدم الوثوق بأن ذلك لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانتفت الثقة من أنه لفظ الرسول لأمرين: أحدهما: أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى، فتجد القصة الواحدة قد جرت في زمانه - صلى الله عليه وسلم -، فتنقل بألفاظ مختلفة؛ كحديث: "زوجتكما بما معك ¬

_ (¬1) توفي سنة 745 هـ. (¬2) توفي سنة 761 هـ.

وجهة نظر المجوزين

من القرآن"، وفي رواية أخرى: "ملكتكها بما معك من القرآن"، وثالثة: "خذها بما معك من القرآن"، وفي رابعة: "أمكناكها بما معك من القرآن". نعلم يقينا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ، بل لا نجزم بأنه قال بعضها، إذ يحتمل أنه قال لفظاً آخر مرادفاً لهذه الألفاظ، فأتى الرواة بالمراد منه، ولم يأتوا بلفظه؛ إذ المطلوب إنما هو نقل المعنى. وأضافوا إلى هذا: أن الرواة لم يكونوا يضبطون الحديث بالكتابة؛ اتكالاً على الحفظ، وأن الضابط منهم من يحتفظ بالمعنى، وأما ضبط اللفظ، فبعيد جداً، ولا سيما ألفاظ الأحاديث الطويلة. ثانيهما: أنه وقع اللحن في كثير مما روي من الأحاديث؛ لأن كثيراً من الرواة لم ينشؤوا في بيئة عربية خالصة حتى يكونوا عرباً بالفطرة، بل كانوا قد تعلموا العربية الفصحى من طريق صناعة النحو. * وجهة نظر المجوزين: يستند هؤلاء إلى الإجماع على أنه - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب لهجة؛ كما قال ابن حزم في كتاب؛ "الفصل" منكراً على من لم يجعلوا الحديث حجة في اللغة: "لقد كان محمد بن عبدالله قبل أن يكرمه الله بالنبوة، وأيام كان بمكة، أعلمَ بلغة قومه، وأفصح، فكيف بعد أن اختصه الله للنذارة، واجتباه للوساطة بينه وبين خلقه؟! ". وقالوا: إن الأحاديث أصح سنداً مما ينقل من أشعار العرب؛ كما قال صاحب "المصباح" بعد أن استشهد بحديث: "من أثنيتم عليه بشر، وجبت"، على صحة إطلاق الثناء على الذكر بشر: "قد نقل هذا العدل الضابط عن العرب الفصحاء عن أفصح العرب، فكان أوثق من نقل أهل اللغة؛ فإنهم

مناقشتهم لأدلة المانعين

يكتفون بالنقل عن واحد، ولا يعرف حاله". وقد عرفت أن المانعين من الاحتجاج بالحديث معترفون بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب لساناً، وأبرعهم بياناً، ولا ينازعون في أن أسانيد الأحاديث أقوى من أسانيد الأشعار، وإنما استندوا في المنع إلى أن الأحاديث قد تروى بالمعنى، بخلاف شعر العرب، أو منثورهم؛ فإن رواته اعتنوا بألفاظه؛ لأن الغرض من روايته تقرير أحكام الألفاظ. قال ابن ضائع في "شرح الجمل": "لولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث، لكان أولى وأثبت في إثبات فصيح اللغة كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وأظهر وجه يورده المجيزون: أن الأصل رواية الحديث الشريف على نحو ما سمع، وأن أهل العلم قد شددوا في ضبط ألفاظه، والتحري في نقله، ولهذا الأصل تحصل غلبة الظن بأن الحديث مروي بلفظه، وهذا الظن كافٍ في إثبات الألفاظ اللغوية، وتقرير الأحكام النحوية. * مناقشتهم لأدلة المانعين: يقول المانعون: إن الرواة كانوا ينقلون الأحاديث بالمعنى، فلا ثقة لنا من أن اللفظ الذي روي به الحديث هو لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأجاب المجيزون على هذا: بأن كثيراً من المحدثين والفقهاء والأصوليين قد ذهبوا إلى منع رواية الحديث بالمعنى، ومن أجازوا الرواية بالمعنى شرطوا لذلك أن يكون الراوي على علم بما يغير المعنى، أو ينقصه، وأن يكون محيطاً بمواقع الألفاظ، بل قال بعضهم: شرطه أن يحيط بدقائق علم اللغة، وأن تكون المحسنات الفائقة على ذكر منه، فيراعيها في نظم كلامه. على أن المجيزين

للرواية بالمعنى معترفون بأن الرواية باللفظ هي الأولى، وإذا كانت الرواية بالمعنى ليست في رأيهم سوى رخصة، فإنهم لا يحتجون لها إلا في حال ضرورة، وأضافوا إلى هذا: أن النقل بالمعنى إنما أجازه من أجازه في غير ما لم يدون في الكتب، أما ما دون في الكتب، فلا يجوز التصرف فيه بوجه، وتدوين الأحاديث وقع في الصدر الأول قبل أن تفسد اللغة، وإذا كان قد وقع في الأحاديث المدونة نقل بالمعنى، فإنما هو تصرف ممن يصح الاحتجاج بأقوالهم. وإليك ما قاله البدر الدماميني، وما حكاه عن شيخه ابن خلدون في الرد على من يمنعون الاستشهاد بالحديث، قال في "حواشيه على المغني": "أسقط أبو حيان الاستدلال على الأحكام النحوية بالأحاديث النبوية باحتمال رواية من لا يوثق بعربيته إياها بالمعنى، وكثيراً ما يعترض على ابن مالك في استدلاله بها، ورده شيخنا ابن خلدون بأنها - على تسليم أنها لا تفيد القطع بالأحكام النحوية - تفيد غلبة الظن بها؛ لأن الاصل عدم التبديل، لاسيما والتشديد في ضبط ألفاظها، والتحري في نقلها بأعيانها، مما شاع بين الرواة، والقائلون منهم بجواز الرواية بالمعنى معترفون بأنها خلاف الأولى، وغلبة الظن كافية في مثل تلك الأحكام، بل في الأحكام الشرعية، فلا يؤثر فيها الاحتمال المخالف للظاهر، وبان الخلاف في جواز النقل بالمعنى في غير ما لم يدون في كتب. أما ما دُون، فلا يجوز تبديل ألفاظه بلا خلاف؛ كما قاله ابن الصلاح (¬1)، ¬

_ (¬1) قال أهل العلم بالحديث: ليس لك فيما تجده في الكتب المؤلفة من روايات من تقدمك أن تبدل في نفس الكتاب ما قيل فيه: أخبرنا، بقولك: حدثنا، ونحوه.

وتدوين الأحاديث وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية، وحين كان كلام أولئك - على تقدير تبديلهم - يسوغ الاحتجاج به، وغايته يومئذ تبديل لفظ يحتج به بآخر كذلك، ثم دون ذلك البدل، ومنع من تغييره ونقله بالمعنى، فبقي حجة في بابه صحيحة، ولا يضر توهم ذلك الاحتمال السابق في استدلالهم بالمتأخر. وقد ناقش بعض شارحي (¬1) كتاب "الاقتراح" ابنَ خلدون، فقال: إن تدوين الأحاديث وقع بعد فساد اللغة، وقال: لم يحصل التدوين إلا في عصر التابعين، ووقع يومئذ الاختلاط في اللغة، والرواية بالمعنى لم تقف عند حد من يتكلم بالعربية سليقة. ولا يسعنا أمام دعوى ابن خلدون، ومناقشة هذا الشارح له، إلا أن نقول كلمة في تاريخ تدوين الحديث، ونتحدث عن العهد الذي وقع فيه فساد اللغة، لعلنا نهتدي إلى ما يفيدنا في أصل البحث: "بحث الاستشهاد بالحديث في اللغة". الواقع أن أصل كتابة الحديث وقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وممن كان يكتب الحديث: عبدالله بن عمرو بن العاص، ولهذا كان أكثر جمعأ للحديث: من أبي هريرة. أما تدوينه في كتب، فقد وقع بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز المتوفى سنة 101 هـ، ومن المروي في الصحيح: أنه كتب إلى أهل الآفاق: أن انظروا ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو سنته، فاجمعوه، أو فاكتبوه. وأول من دون الحديث: محمد بن مسلم الزهري المتوفى سنة 124 هـ والمعروف أنه كان يروي عن الصحابة مثل: عبدالله بن عمر، وأنس بن مالك، ¬

_ (¬1) هو: ابن علان، وتوجد نسخة من شرحه بالمكتبة التيمورية.

وسهل بن سعد الساعدي. وقيل إن أول من دون الحديث: الربيع بن صبيح المتوفى سنة 160 هـ، وسعيد بن أبي عروبة المتوفى سنة 156 هـ. ثم شاع التدوين في الطبقة التي تلي طبقة الزهري؛ كمالك بن أنس، وعبد الملك بن جريج، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وحماد بن سلمة. وكان كثير من رواة الحديث في هذا العهد يكتبون الأحاديث عند تلقيها، ولا يكتفون بحفظها عن ظهر القلب، فإنا نجد في تاريخ طائفة منهم: أن لهم كتباً كانوا يرجعون إليها عند الرواية. ونجد في تاريخ من يروون عن أمثال الزهري: أن في مخلفاتهم أجزاء كثيرة تحتوي أحاديث أخذوها عن أولئك الأئمة. وكتابة الحديث تساعد على روايته بلفظه، وحفظُه عن ظهر القلب يبعده من أن يدخله غلط أو تصحيف. ويصل بنا البحث إلى أن مصنفات الطبقة التي جات بعد طبقة مالك، وابن جريج قد بلغت الغاية في جمع الأحاديث، وفي ذلك العهد صنفت مسندات كثيرة؛ كـ: "مسند أسد بن موسى الأموي" المتوفى سنة 212 هـ، و"مسند عبيدالله بن موسى العيسى" المتوفى سنة 213 هـ، و"مسند نعيم بن حماد الخزاعي" المتوفى سنة 228 هـ، و"مسند أحمد بن حنبل" المتوفى سنة 241 هـ. وجاء بعد هؤلاء أصحاب الكتب الستة، وأولهم: البخاري المولود سنة 194 هـ، وآخرهم النسائي المولود سنة 215 هـ. وما في الكتب الستة، أو معظمه كان مدوناً في الكتب المصنفة من قبل. ذكر الحافظ أبن حجر مصنفات أئمة الحديث في الصدر الأول، وقال:

فلما رأى البخاري هذه المصنفات، ورواها، وجدها بحسب الوضع جامعة، فألف كتابه مقتصراً على الصحيح. وإذا رأينا أن البخاري يقول في كتابه: حدثنا فلان. فهذا لا يمنع من أن يكون الحديث مدوناً في كتاب؛ فإنهم كانوا - كما عرفت آنفاً - لا يستغنون بالكتابة عن الحفظ، وربما قال الراوي: أملى علينا فلان كذا وكذا حديثاً من حفظه، ثم قرأها علينا من كتابه. وهذه النظرة التاريخية تدلنا على أن ابتداء تدوين الحديث كان في أوائل القرن الثاني، وأنه لم يمض القرن الثاني حتى قيد معظم الأحاديث بالكتابة والتدوبن. ولننظر بعد هذا إلى حال اللغة من جهة ما دخلها من الفساد، وننظر ما يكون لهذا الفساد من أثر في رواية الحديث. أخذ الفساد يدخل اللغة منذ وصلت الفتوح الإسلامية العرب بالعجم، وأسرع إلى ألسنة طائفتين من أبناء العرب، أو الناشئين في بيئتهم: طائفة كانت أمهاتهم من الأعاجم، وطائفة العامة الذين يسكنون الأمصار، وتكثر مخالطتهم للأعاجم. وظهر اللحن بجلاء في أواخر عهد الدولة الأموية، وكان انقراضها سنة 132 هـ. وبقي بجانب هاتين الطائفتين فريقان: سكان الجزيرة البعيدون عن مخالطة الأعاجم مخالطة تمس فصاحتهم بسوء، وأبناء الخاصة من سكان الأمصار الذين لم تكن أمهاتهم من الأعاجم. أما سكان الجزيرة، فإنهم ما برحوا على فصاحة اللغة إلى أواسط القرن

الرابع، وأما الخاصة من سكان المدن، فبقوا على فصاحة اللهجة مدة في أوائل عهد الدولة العباسية. وذكر الباحثون في طبقات الشعراء: أن إبراهيم بن هرمة آخر من يحتج بشعرهم، وقد توفي في خلافة الرشيد بعد الخمسين والمئة بقليل. والذين نشؤوا في بيئة عربية لم ينتشر فيها فساد اللغة انتشاراً يرفع الثقة بفصاحة لهجتها، يوثق بأقوالهم، ولو تأخروا عن منتصف القرن الثاني؛ كا لإمام الشافعي؛ فإنه ولد سنة 150 هـ، ولكنه نشأ في بيئة عربية، وهي مكة، فيصح الاستشهاد بما يستعمله من الألفاظ. قال الإمام أحمد: "كلام الشافعي حجة في اللغة"، وقال الأزهري في "إيضاح ما استشكل من مختصر المزني": "ألفاظ الإمام الشافعي عربية محضة، ومن عجمة المولدين مصونة". وإذا عدنا إلى قول ابن خلدون: "وتدوين الأحاديث وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية، وحين كان كلام أولئك - على تقدير تبديلهم - يسوغ الاحتجاج به"، وعرضناه على التاريخ، وجدنا التدوين وقع بعد أن دخل الفساد في اللغة، ولكن من المدونين من يحتج بأقواله؛ لأنه نشأ في بيئة عربية؛ كالزهري، ومالك بن أنس، وعبد الملك بن جريج، ومنهم من نشؤوا في بيئة غير عربية، أو عربية انتشر فيها الفساد، وصارت العربية الفصحى فيها إنما تدرك من طريق التعلم. فدعوى أن الاحاديث دونت قبل فساد اللغة، وأن كلام المدونين لها يسوغ الاحتجاج به في اللغة، غير مطابقة للتاريخ من كل وجه، ولو تمت على نحو ما قرره ابن خلدون؛ لقامت لها الحجة الفاصلة على الاستشهاد بالحديث

في اللغة من غير حاجة إلى شيء آخر يعضدها. والذي نستفيده من حقائق التاريخ: أن قسماً كبيراً من الأحاديث دونه رجال يحتج بأقوالهم في العربية، وأن كثيراً من الرواة كانوا يكتبون الأحاديث عند سماعها، وذلك مما يساعد على روايتها بألفاظها، فيضاف هذا وذاك إلى ما وقع من التشديد في رواية الحديث بالمعنى، وما عرف من احتياط أئمة الحديث، وتحريهم في الرواية، فيحصل الظن الكافي لرجحان أن تكون الأحاديث المدونة في الصدر الأول مروية بألفاظها ممن يحتج بكلامه. وأما قول المانعين: إنه وقع اللحن في كثير من الأحاديث، فيجاب عنه: بأن كثيراً مما يرى أنه لحن قد ظهر له وجه من الصحة، وقد ألف في هذا الباب ابن مالك كتابه: "التوضيح في حل مشكلات الجامع الصحيح"، وذكر للأحاديث التي يشكل إعرابها وجوهاً يستبين بها أنها من قبيل العربي الصحيح، وكثيراً ما نرى ألفاظاً من الحديث ينكرها بعض اللغويين، فيأتي لغوي آخر فيذكر لها وجهاً مقبولاً، أو يسوق عليها شاهداً صحيحاً. ثم إن وجود ألفاظ غير موافقة للقواعد المتفق عليها، لا يقتضي ترك الاحتجاج بالحديث جملة، وإنما يحمل أمرها على قلة ضبط أحد الرواة في هذه الألفاظ خاصة. وإذا وقع في رواية بعض الأحاديث غلط، أو تصحيف، فإن الأشعار يقع فيها الغلط والتصحيف، وهي حجة من غير خلاف. قال محمد بن سلام: وجدنا رواة العلم يغلطون في الشعر، ولا يضبط الشعر إلا أهله. وأبو أحمد العسكري الذي ألف كتاباً في تصحيف رواة الحديث، قد ألف كتاباً فيما وقع من أصحاب اللغة والشعر من التصحيف.

أما قول أبى حيان: "إن المتقدمين من علماء العربية لا يحتجون بالحديث"، فأجاب عنه المجيزون: بأن علماء العربية في العهد الأول لم يتعاطوا رواية الحديث، فعلماء الحديث غير علماء العربية (¬1)، ثم إن دواوين الحديث لم تكن مشتهرة في ذلك العهد، ولم يتناولها علماء العربية كما كانوا يتناولون القرآن الكريم، وإنما اشتهرت دواوينه، ووصلت إلى أيدي جمهور أهل العلم من بعد، فإن سلمنا عدم احتجاجهم بالحديث، فلعدم انتشاره بينهم، لا لأنهم يمنعون الاحتجاج به. على أن كتب الأقدمين الموضوعة في اللغة لا تكاد تخلو من الاستدلال على إثبات الكلمات بألفاظ الحديث، واللغة أخت النحو كما صرحوا به. وكذلك نرى الإمام اللغوي أبا منصور الأزهري المولود سنة 282 هـ يعتمد في كتابه "التهذيب" على الأحاديث، ويكثر من الاستشهاد بها. وأما ما ادعاه أبو حيان من أن المتاخرين من نحاة الأقاليم تابعوا المتقدمين في عدم الاحتجاج بالحديث، فمرود بأن كتب النحاة من أندلسيين وغيرهم مملوءة بالاستشهاد بالحديث. وقد استدل بالحديث الشريف: الصقلي، والشريف الغرناطي في "شرحيهما لكتاب سيبويه"، وابن الحاج في "شرح المقرب"، وابن الخباز في "شرح ألفية ابن معطي"، وأبن علي الشلوبين في كثير من مسائله. وكذلك استشهد بالحديث: السيرافي، والصفار في "شرحيهما لكتاب سيبويه". وقال ابن الطيب: "بل رأيت الاستدلال بالحديث في كلام ¬

_ (¬1) من علماء العربية من كانوا يعدون في رواية الحديث؛ مثل: أبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر الثقفي، والنضر بن شميل المازني، والخليل بن أحمد، والقاسم ابن سلام، وعبد الملك بن قريب الأصمعي، والرياشي.

تفضيل وترجيح

أبي حيان نفسه ". وقد عرفت أن مذهب البدر الدماميني صحة الاستشهاد بالحديث، وقد جرى على مذهبه في شرحه للمغني والتسهيل والبخاري. * تفضيل وترجيح: من الأحاديث ما لا ينبغي الاختلاف في الاحتجاج به في اللغة، وهو ستة أنواع: أحدها: ما يروى بقصد الاستدلال على كمال فصاحته - صلى الله عليه وسلم -؛ كقوله: "حمي الوطيمس"، وقوله: "مات حتف أنفه"، وقوله: "الظلم ظلمات يوم القيامه" إلى نحو هذا من الأحاديث القصار المشتملة على شيء من محاسن البيان؛ كقوله: "مأزورات غير مأجورات"، وقوله: "إن الله لا يمل حتى تملوا". ثمانيها: ما يروى من الأقوال التي كان يتعبد بها، أو أمر بالتعبد بها؛ كألفاظ القنوت والتحيات، وكثير من الأذكار والأدعية التي كان يدعو بها في أوقات خاصة. ثالثها: ما يروى شاهداً على أنه كان يخاطب كل قوم من العرب بلغتهم. ومما هو ظاهر أن الرواة يقصدون في هذه الأنواع الثلاثة لرواية الحديث بلفظه. رابعها: الأحاديث التي وردت من طرق متعددة، واتحدت ألفاظها؛ فإن اتحاد الألفاظ مع تعدد الطرق دليل على ان الرواة لم يتصرفوا في ألفاظها، والمراد أن تتعدد طرقها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى الصحابة، أو التابعين الذين ينطقون الكلام العربي فصيحاً.

خامسها: الأحاديث التي دونها من نشأ في بيئة عربية لم ينتشر فيها فساد اللغة؛ كمالك بن أنس، وعبد الملك بن جريج، والإمام الشافعي. سادسها: ما عرف من حال رواته أنهم لا يجيزون رواية الحديث بالمعنى؛ مثل: ابن سيرين، والقاسم بن محمد، ورجاء بن حيوة، وعلي بن المديني. ومن الأحاديث ما لا ينبغي الاختلاف في عدم الاحتجاج به، وهي الأحاديث التي لم تدون في الصدر الأول، وإنما تروى في كتب بعض المتأخرين. ولا يحتج بهذا النوع من الأحاديث، سواء أكان سندها مقطوعاً، أم متصلاً، أما مقطوعة السند، فوجه عدم الاحتجاج بها واضح، وأما متصلة السند، فلبعد مدونها عن الطبقة التي يحتج بأقوالها. وإذا أضيفت كثرة المولدين في رجال سند الحديث إلى احتمال أن يكون بعضهم قد رواه بالمعنى، أصبح احتمال أن تكون ألفاظه ألفاظ النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ألفاظ رواية الذي يحتج بكلامه، قاصراً عن درجة الظن الكافي لإثبات الألفاظ اللغوية، أو وجوه استعمالها. والحديث الذي يصح أن تختلف الأنظار في الاستشهاد بألفاظه هو الحديث الذي دون في الصدر الأول، ولم يكن من الأنواع الستة المنبه عليها آنفاً، وهو على نوعين: (حديث) يرد لفظه على وجه واحد، (وحديث) اختلفت الرواية في بعض ألفاظه. أما الحديث الوارد على وجه واحد، فالظاهر صحة الاحتجاج به؛ نظراً إلى أن الأصل الرواية باللفظ، وإلى تشديدهم في الرواية بالمعنى، ويضاف

إلى هذا: قلة عدد من يوجد في السند من الرواة الذين لا يحتج بأقوالهم، فقد يكون بين البخاري ومن يحتج بأقواله من الرواة واحد، أو اثنان، وأقصاهم ثلاثة. ومثال هذا النوع: أن الحريري أنكر على الناس قولهم قبل الزوال: سهرنا البارحة، قال: وإنما يقال: سهرنا الليلة، ويقال بعد الزوال: سهرنا البارحة. والشاهد على صحة ما يقوله الناس حديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أصبح، قال: "هل رأى أحد منكم البارحةَ رؤيا؟ "، وحديث: "وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: عملت البارحة كذا"؛ ففي قوله: "إذا أصبح، قال: هل رأى أحد منكم البارحةَ"، وقوله: "ثم يصبح فيقول: عملت البارحة" شاهد على صحة أن يقول الرجل متحدثاً عن الليلة الماضية، وهو في الصباح: سهرنا البارحة، أو وقع البارحة كذا. وأما الأحاديث التي اختلفت فيها الرواية، فإنا نرى من يستشهدون بالأحاديث من اللغويين والنحاة لا يفرقون بين ما روي على وجه واحد، وما روي على وجهين، أو وجوه. ويمكننا أن نفصل القول في هذا النوع، فنجيز الاستشهاد بما جاء في رواية مشهورة لم يغمزها بعض المحدثين بأنها وهم من الراوي؛ مثل كلمة: "ممثل" وردت في أشهر رواية لحديث: "قام النبي - صلى الله عليه وسلم - ممثلاً"؛ أي: منتصباً، والمعروف في كلام العرب إنما هو ماثل من مثل؛ كنصَر وكرُم. وأما يجيء في رواية شاذة، أو في رواية يقول فيها بعض المحدثين: إنها غلط من الراوي، فنقف دون الاستشهاد بها، ومثال هذا كلمة: "ناعوس" وردت في إحدى روايات حديث: "إن كلماته بلغت ناعوس البحر"، ووردت

في بقية الروايات: "قاموس البحر"؛ أي وسطه ولجته. وكلمة ناعوس غير معروفة في كلام العرب. قال أبو موسى محمد بن أيي بكر الأصفهاني أحدُ المؤلفين في غريب الحديث: "فلعل الراوي لم يجود كتب كلمة قاموس". وأضعف من هذا: أن تجيء الكلمة غير معروفة في اللغة في صورة الشك من الراوي؛ ككلمة: خطيط، وردت في حديث: "ثم نام حتى سمعت غطيطه، أو خطيطه"، قال ابن بطال: لم أجد كلمة "خطيط" - بالخاء - عند أهل اللغة. وخلاصة البحث: أنا نرى الاستشهاد بألفاظ ما يروى في كتب الحديث المدونة في الصدر الأول، وإن اختلفت فيها الرواية، ولا نستثني إلا الألفاظ التي تجيء في رواية شاذة، أو يغمزها بعض المحدثين بالغلط، أو التصحيف غمزاً لا مرد له، ويشد أزرنا في ترجيح هذا الرأي: أن جمهور اللغويين، وطائفة عظيمة من النحويين يستشهدون بالألفاظ الواردة في الحديث، ولو على بعض رواياته.

موضوع علم النحو

موضوع علم النحو (¬1) اطلعت على كتاب "إحياء النحو" لأحد أساتذة الجامعة المصرية، فبدا لي أن أشاركه في بعض بحوثه التي رأى أن النحاة قد غفلوا عن وجه الصواب فيها، وهو: موضوع علم النحو، وإذا نقدت بعض عبارات المؤلف، وعرضت رأياً غير رأيه، فإنما أريد طرح البحث بين أيدي القراء؛ لينظروا ماذا يرون. قال المؤلف في (ص 1): "يقول النحاة في تحديد علم النحو: إنه علم يعرف به أحوال أواخر الكلم إعراباً وبناء"، ثم قال: "فيقصرون بحثه على الحرف الأخير من الكلمة، بل على خاصة من خواصه، وهي الإعراب والبناء"، وقال: "غاية النحو - أي عند النحويين - بيان الإعراب، وتفصيل أحكامه، حتى سماه بعضهم: علم الإعراب"، وقال: "وفي هذا التحديد تضييق شديد لدائرة البحث النحوي، وتقصير لمداه، وحصر له في جزء يسير مما ينبغي أن يتناوله". لا ندري ماذا صنع المؤلف عندما وقف على هذا التعريف الذي ساقه لعلم النحو، هل تجاوزه الى مطالعة ما كتبه أهل العلم في شرحه، أو أنه اقتصر ¬

_ (¬1) نقد لكتاب "إحياء النحو" لمؤلفه الأستاذ إبراهيم مصطفى - مجلة "الهداية الإسلامية" الجزءان السابع والثامن الصادران في المحرم وصفر 1357 هـ - مارس وإبريل 1938 م - القاهرة.

على قراءته وحده، وكتب هذا الذي يقوله في الإنكار على علماء النحو، فإن كان قد اطلع على ما كتبه أولئك المحققون في شرحه، كان حقاً عليه أن يكف قلمه عن هذا الإنكار جملة، أو يترك -على الأقل - نسبته إلى النجاة في تلك العبارة الظاهرة في أن هذا هو التعريف الذي يقولونه على اتفاق منهم. وإن لم يكن المؤلف قد اطلع عل ما كتبوه في شرح هذا التعريف، وهو في المؤلفات القريبة المنال، أفلا يكون لقارئ كتابه حق في عتبه عتباً جميلاً على عدم صرف شيء من وقته في الرجوع إلى أمثال هذه المؤلفات قبل أن يتعرض لتخطئة علماء قضوا في استنباط قواعد العربية والتفقه في أسرارها وقتاً طويلاً؟! والتحديد الذي ساقه الأستاذ، وغمره بالإنكار، قد اقتصر فيه صاحبه على أحوال الكلم مراعياً الغالب في مباحث علم النحو. قال العلامة الأمير في شرح هذا التعريف: "هو اقتصار على غالب، وإلا فيعرف به - أي النحو- أحوال غير الكلمات؛ كالجمل التي لا محل لها من الإعراب، والتي لها محل، وكأحكام جملة الصلة من حيث العائد، وكونها لا تكون جملة إنشائية، وكذا جملة النعت والخبر. واقتصر في هذا التعريف على حال الإعراب والبناء، مع أن النحو يبحث فيه عن أحوال غير هذا الحال مراعاة للغالب أيضاً". قال العلامة الأمير: "وقولهم: إعراباً وبناء اقتصار على غالب، وإلا فيعرف به أحوال الكلم من غير أحوال الإعراب والبناء، كـ "إنَّ" من جهة كسر همزها أو فتحها، أو تخفيفها، أو شروط عملها، وشروط عمل بقية النواسخ، وكالعائد من حيث حذفه وعدمه، وغير ذلك". وصرح بعد هذا كئير من النحاة بأن علم النحو يبحث عن أحوال الألفاظ

من حيث دلالتها على المعاني التركيبية؛ أي: المعاني التي تستفاد من إسناد بعض الكلم إلى بعض، وهذا أبو إسحاق الشاطبي يقول في "شرح الخلاصة": "وهو - أي النحو - في الاصلاح: علم بالأحوال والأشكال التي بها تدل ألفاظ العرب على المعاني، ويعني بالأحوال: وضع الألفاظ من حيث دلالتها على المعاني التركيبية؛ أي: المعاني التي تستفاد بالأشكال ما يعرض في آخر طرفي اللفظ ووسطه من الآثار والتغييرات التي تدل بها ألفاظ العرب على المعاني"، فانظر إلى قوله "علم بالأحوال والأشكال"، وإلى تفسيره الأحوال بأنها وضع الألفاظ بعضها مع بعض، فذلك صريح بأن النحاة لا يقصرون بحثهم على الإعراب والبناء. وهذا السيد الجرجاني قد ذكر في "شرح المفتاح" علوم الأدب التي تبحث عن المركبات، فقال: "وأما عن المركبات على الإطلاق، فأما باعتبار هيئتها التركيبية، وتأديتها لمعانيها الأصلية، فعلم النحو، وأما باعتبار إفادتها لمعان مغايرة لأصل المعنى، فعلم المعاني". فانظر كيف جعل موضوع علم النحو: المركبات باعتبار هيئتها التركيبية، وتأديتها لمعانيها الأصلية، ولم يقل: يبحث عن الكلم باعتبار ما يعرض لها من الإعراب والبناء. وكذلك ترى ابن سيده اللغوي قد تناول النحو بشرح يجعل موضوعه أوسع من أحوال الإعراب والبناء، فقال: "النحو أخذ من قولهم: انتحاه: إذا قصده. إنما هو انتحاء سمتِ كلام العرب من إعراب وغيره؛ كالتثنية والجمع والتصغير والتكسير والإضافة والنسب؛ ليلحق به من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، فينطق بها".

وكذلك يقول ابن كمال باشا في رسالة تعرض فيها للتفرقة بين موضوع علم النحو وعلم المعاني: "ويشارك النحوي صاحب المعاني في البحث عن المركبات، إلا أن النحوي يبحث عنها من جهة هيئتها التركيبية صحة وفساداً، ودلالة تلك الهيئات على معانيها الوضعية على وجه السداد، وصاحب المعاني يبحث عنها من جهة حسن النظم المعبر عنه بالفصاحة في التركيب، وقبحه"، وقال: "فما يبحث عنه في علم النحو من جهة الصحة والفساد، يبحث عنه في علم المعاني من جهة الحسن والقبح، وهذا معنى كون علم المعاني تمام علم النحو". وهذا صريح في أن بحث علم النحو لا يقف به النحويون عند حد الإعراب والبناء، ولا يجعلونه دائراً على هذا الحال كما يدعي صاحب كتاب "إحياء النحو". وإذا رجعنا إلى الكاتبين في حقائق العلوم وموضوعاتها، وجدناهم لا يفهمون إلا أن النحاة يبحثون عن أحوال الكلم من حيث دلالتها على المعاني التركيبية، فصاحب "كشاف اصطلاحات الفنون" يقول: "علم النحو، ويسمى: علم الاعراب - على ما في شرح اللب - وهو: علم يعرف به كيفية التركيب العربي صحة وسقماً"، ثم قال: "والغرض منه: الاحتراز عن الخطأ في التأليف، والاقتدار على فهمه، والإفهام به"، ومعنى هذا: أن النحو قوانين يعرف بها أحوال التركيب؛ من نحو: الترتيب والذكر والحذف والإعراب والبناء. وسلك صاحب "مدينة العلوم" هذا المسلك، فعرف النحو: بأنه علم باحث عن أحوال المركبات من حيث دلالتها على المعاني التركيبية النسبية، وقال: "وغايته: الاحتراز عن الخطأ في تطبيق التراكيب العربية على المعاني

الوضعية الأصلية"، ولو كان موضوع علم النحو عندهم محصوراً في حال الإعراب والبناء، لما كان علم النحو كافياً في تطبيق التراكيب العربية على المعاني الوضعية الأصلية. وهؤلاء البيانيون يعدون فيما يخل بفصاحة الكلام التعقيد اللفظي، ويذكرون أن التعقيد يحصل بأحد أمرين: أولهما: ضعف التأليف، وهو أن يكون الكلام مخالفاً لقوانين علم النحو؛ كالفصل بين المبتدأ والخبر، أو النعت والمنعوت، بأجنبي. ثانيهما: اجتماع أمور كل واحد منها جائز، ولكنه خلاف الأصل؛ كتقديم المفعول على الفاعل، والمستثنى على المستثنى منه، والخبر على المبتدأ، ويقولون بعد هذا: إن كلاً من الأمرين - أعني: ضعف التأليف، ومخالفة الأصل - يعرف بعلم النحو. ولا يصح لنا أن نتهم هؤلاء البيانيين بأنهم لم يكونوا على بينة من علم النحو، أو أنهم أحالوا عليه أشياء لا تحتوي عليها كتبه. ثم قال المؤلف في (ص 1) "فإن النحو - كما نرى، وكما يجب أن يكون - هو قانون تأليف الكلام، وبيان لكل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة، والجملة مع الجمل، حتى تتسق العبارة، ويمكن أن تؤدي معناها". حقق النحاة النظر في علم النحو، وعرفوه كما يجب أن يكون، وقالوا: إنه يبحث عن أحوال التركيب، ويبين ما تكون عليه الكلمة في الجملة، والجملة مع الجمل، حتى يكون الكلام مطابقاً للمعاني الوضعية الأصلية. وقال المؤلف في (ص 2): "فالنحاة حين قصروا النحو على أواخر الكلمات، وعلى تعرف أحكامها، قد ضيقوا من حدوده الواسعة، وسلكوا

به طريقاً منحرفة إلى غاية قاصرة، وضيعوا كثيراً من أحكام نظم الكلام، وأسرار تأليف العبارة". لم يقصر النحاة النحو على أواخر الكلمات وتعرفِ أحكامها، بل بحثوا في أحكام تأليف الكلام؛ من نحو: التقديم والتأخير، والذكر والحذف، واتصال بعض الكلم ببعض، وانفصاله منه، ولا يكاد باب من أبواب النحو يخلو من البحث في التراكيب من هذه الناحية، ولعل الدارس لعلم النحو في كتبه المبسوطة، يخرج منها وهو على ثقة من أنهم قد أعطوا ناحية تأليف الكلام حقها، فلا يعرض له أسلوب من الكلام إلا نقده بما استفاده من تلك الكتب، ويقضي بانطباقه على الأسلوب العربي، أو انحرافه عنه. قال المؤلف في (ص 3): "فطرق الإثبات والنفي، والتأكيد والتوقيت، والتقديم والتأخير، وغيرها من صور الكلام قد مروا بها من غير درس، إلا ما كان ماساً بالإعراب، أو متصلاً بأحكامه، وفاتهم لذلك كثير من فقه العربية، وتقدير أساليبها". إذا ألقينا نظرة على علم النحو، وجدناه يبحث عن أحوال الجمل والمفردات من حيث وقوعها في التراكيب، أو عن الأحوال التي يكون بها التركيب مطابقاً للمعاني الوضعية الأصلية، أما الجمل، فنحو الجملة التي تقع خبراً، أو حالاً، أو صفة، أو معطوفة، أو شرطاً، أو جزاء، أو جواب قسم، أو مضافا إليه، أو مفعولاً ثانياً لنحو: علمت وظننت، ولم يقصر النحاة بحثهم في هذه الجمل على جهة الإعراب، بل بحثوا عن أحكامها من جهات أخرى؛ ككونها خبرية أو إنشائية اسمية أو فعلية، مقيدة بنوع خاص من الألفاظ أو مطلقة، كما بحثوا عنها من جهة موقعها في نظم الكلام، أو من جهة ما تتصل

به من الألفاظ أو من جهة وجوب الحذف وامتناعه أو جوازه. فيقولون لك - مثلاً -: إن جملة الخبر أو الوصف أو الصلة لا تكون إنشائية، وإن جملة الجزاء لا تتقدم على الشرط، وجملة الصلة لا تتقدم على الموصول، ويحدثونك عن حكم عطف الجملة الإسمية على الفعلية، وعطف الإنشائية على الخبرية، ويقولون لك: إن جملة الجزاء إذا كانت إسمية أو إنشائية، وجب قرنها بالفاء، ويدلونك على مواضع حذف جملة الشرط أو الجزاء أو جواب القسم. وأما المفردات، فيبحثون عن المفرد الذي يقع مبتدأً أو خبراً، أو فاعلاً، أو مفعولاً، أو حالاً، أو تمييزاً، أو مضافاً إليه أو مجروراً بحرف، ولا يقصرون بحثهم فيه على جهة الإعراب، بل يبحثون عن حال المبتدأ والحال والتابع - مثلاً - من جهة التنكير والتعريف، وعن الخبر والفاعل والمفعول والحال والتمييز والتابع من جهة التقديم والتأخير، وعن هذه الأنواع وغيرها من جهة الحذف والذكر، ويبحثون عن نوع الكلم التي يتصل بها كل من الحروف الرابطة بين الكلم، فيقولون لك - مثلاً -: إن حروف القسم، وكاف التشبيه، ومذ ومنذ لا تدخل على الضمائر، وإن "ربَّ" مختصة بالنكرات، وإن حيث وإذ لا يضافان إلا إلى جمل الأفعال، وتراهم يبسطون القول في حكم المضارع الذي يقع خبراً لكاد وعسى وأخواتها من جهة اتصاله بأَنْ. قال المؤلف في (ص 3): "نعم، ربما تعرضوا لشيء من هذه الأحكام حين يضطرون إليها لبيان الإعراب وتكميل أحكامه، فقد تكلموا في وجوب الصدارة لأسماء الاستفهام وبعض أدوات النفي، حين أرادوا شرح التعليق، وبيان مواضعه، ولزمهم أن يحصوا من الأدوات ما يحجب ما قبله عن

العمل فيما بعدمه". والمعروف أن النحاة يتكلمون عما تجب له الصدارة في أبواب غير بحث التعليق، فيقولون في باب المبتدأ والخبر: يجب تقديم المبتدأ إذا كان مشتملاً على ماله الصدر، ويجب تقديم الخبر إذا كان متضمناً ماله الصدر (¬1)، ويذكر بعضهم في هذا الباب بعض ماله الصدارة؛ من نحو: الشرط والعرض والتمني (¬2)، ويقولون في باب الجوازم: إن الشرط له الصدارة (¬3)، ويقولون في باب كم وكأين: إن كم الخبرية والاستفهامية يلزمان الصدارة. وقال ابن حاجب في فصل عقده لحروف التحضيض: حروف التحضيض: هلا، وألا، ولولا، ولوما، لها صدر الكلام. قال المؤلف: "وبينوا بعض الأدوات التي يجب أن يليها فعل، والتي لا يليها إلا اسم، حين أرادوا تفصيل أحكام الاشتغال". المعروف أن النحاة يتكلمون عن الأدوات من جهة ما تتصل به من فعل أو اسم؛ في مواضع غير باب الاشتغال، فقد قالوا في بحث حروف التحضيض هلا وألا ولولا ولوما إنها تلزم الفعل لفظاً أو تقديراً، وقالوا في بحث حروف الاستفهام: إن الهمزة وهل تدخلان على الجملة الاسمية والفعلية (¬4)، وقالوا في بحث لو: إنها تختص بالفعل كإن الشرطية (¬5). ¬

_ (¬1) "الكافية" لابن الحاجب. (¬2) الرضي في "شرح الكافية". (¬3) "الصبان على الاشموني". (¬4) "شرح الرضي للكافية". (¬5) "الخلاصة وشروحها".

وقال المؤلف: "ولكن هذه المباحث جاءت متفرقة على الأبواب، تابعة لغيرها، فلم يُستوف درسها، ولا أُحيطَ بأحكامها". قال لنا المؤلف: إن النحاة ذكروا ما يجب له الصدارة من أسماء الاستفهام وبعض أدوات النفي في بحث التعليق، وذكروا الأدوات التي يجب أن يليها فعل، والتي لا يليها إلا اسم في باب الاشتغال، واستخرج من هذا نتيجة، هي: أنهم لم يستوفوا درس هذه المباحث، ولا أحاطوا بأحكامها، وقد عرفت أنهم تكلموا عنها في غير بحث التعليق وباب الاشتغال، وكان على الأستاذ أن يذكر لنا شيئاً من الوجوه التي فاتتهم دراستها، أو شيئاً من الأحكام التي ظفر بها من الكلام العربي، ولم يتعرضوا له، ولو فعل شيئاً من هذا، لكان قوله: "فلم يستوف درسها، ولا أحيط بأحكامها" نتيجة يعترف المنطق الصحيح بصدقها. ثم تكلم الأستاذ على النفي من جهة أنه كثير الدوران في كلام العرب، مختلف الأساليب، متعدد الأدوات، وذكر أن النحاة درسوه مفرقاً على أبواب الإعراب، ممزقاً، وأخذ يتحدث عن هذه الأدوات التي هي: ليس، وما، وإن، ولا، وغير، وإلا، ولم، ولن، ولما. فلم يرض عن أن تدرس "لا" فيما ألحق بكان، ثم فيما ألحق بأنَّ، ولا أن تدرس "غير، وإلا، وليس" في باب الاستثناء، ولا أن تدرس "لن" في نواصب الفعل، "ولم، ولما" في جوازمه، ثم قال: "درست هذه الأدوات - كما ترى - مفرقة، ووجهت العناية كلها إلى بيان ما تحدث من أثر في الإعراب، وأغفل شر إغفال درس معانيها، وخاصة كل أداة في النفي، وفرق ما بينها وبين غيرها في الاستعمال، ولو أنها جمعت في باب، وقرنت أساليبها، ثم ووزن بينها، وبين منها ما ينفى الحال،

وما ينفي الاستقبال، وما ينفى الماضي، وما يكون نفيا لمفرد، وما يكون نفياً لجملة، وما يخص الاسم، وما يخص الفعل، وما يتكرر، لأحطنا بأحكام النفي، وفقهنا أساليبها، ولظهر لنا من خصائص العربية ودقتها في الأداء شيء كثير أغفله النحاة، وكان علينا ان نتبعه ونبينه". شأن علم النحو البحث عن أحوال ألفاظ من حيث دخولها في التركيب؛ مثل: تقديم اللفظ أو تاخيره، واتصاله أو انفصاله، وحذفه أو إثباته، وزيادته أو إفادته لمعنى، وإعرابه أو بنائه، وعمله في غيره أو إهماله عن العمل، فإذا درس النحاة حروف النفي في أبواب متفرقة، فذلك ما يناسب موضوع علمهم، إذ يذكرون الألفاظ في مقام البحث عن حال يعرض للفظ عند وقوعه في تركيب، وليس هناك حال يعرض لأدوات النفي عند التركيب، ويكون جارياً في جميع هذه الأدوات، وإنما نجد من الأحوال التي تعرض عند التركيب ما يتناول بعض أدوات النفي وغيرها من الكلم؛ كرفع الاسم ونصب الخبر يعرض لفعل نفي، وهو ليس، وأحرف نفي، وهي: ما، وإن، ولا، ولبعض أفعال الإثبات، وهي: كان وبقية أخواتها. ولا شك أن هذه الوجوه التي تشترك فيها حروف النفي مع غيرها هي أشد صلة بعلم النحو من مجرد الاشتراك في أصل المعنى الذي وضع له اللفظ. والواقع أن البحث عن معاني الحروف والأدوات لا يدخل في صلب علم النحو؛ إذ لم يكن بحثاً عن أحوال اللفظ من جهة وقوعه في التركيب، بل هو بحث عن المعاني التي وضعت لها هذه الكلم -؛ أعني: الحروف -، فهو إلى علم اللغة أقرب منه إلى علم النحو، ولكن النحويين لاحظوا أن هذه

الحروف روابط للتراكيب، فتعرضوا لمعانيها عند البحث عن الحال الذي يعرض لها عند التركيب؛ كالعمل أو الإعراب أو البناء أو الزيادة. قال المؤلف: "ومثل النفي في ذلك التوكيد، يدرسونه في "باب: إن"، ويقرنون بأن المؤكدة "أن" الواصلة، و"ليت" المتمنية؛ لأنها أدوات تتماثل في العمل، وإن تباعد ما بينها في المعنى والغرض، وفي باب الفعل يذكرون نوني التوكيد وأحكامهما؛ لأثرهما في إعرابه، وفي بحث التوابع يجعلون للتوكيد باباً خاصاً يذكرون فيه عدداً من الكلمات حكمها في الإعراب حكم ما قبلها، ولو جمعت أساليب التوكيد في العربية، ما ذكر هنا، وما لم يذكر، وبين ما يكون تنبيهاً للسامع، وما يكون توكيداً للخبر، وما يكون تقوية لرغبة، لكان أقرب إلى أن تدرس كل أنواع التوكيد، ويبين لكل نوع موضعه، ولكان أدنى إلى توضيح أساليب العربية وسرها في التعبير". فعل النحويون في التوكيد وأدواته ما يناسب صناعتهم، قرنوا إن بأن الواصلة، وليت المتمنية؛ لاشتراك الأحرف الثلاثة في حال يعرض لها بالتركيب، وهو نصب الاسم ورفع الخبر، وأوردوا الكلمات التي تستعمل للتوكيد؛ مثل: كل، وأجمع في بحث التوابع؛ لمماثلتها للتوابع في حكم ما يعرض لها بالتركيب، وهو موافقة ما قبلها في الإعراب، وذكروا نوني التوكيد في بحث الفعل حيث كان لهما عند الاتصال بالفعل أحكام خاصة لا يشاركهما فيها غيرهما من أدوات التوكيد، وهو إعراب الفعل الذي يتصلان به أو بناؤه على الوجه المعروف في ذلك البحث. ولو سلك النحاة في ألفاظ التوكيد هذا الطريق الذي أشار به المؤلف، فجمعوها في باب، لم يكن من اللائق بصناعتهم أن يقتصروا على بيان معانيها

الذي هو في الواقع من موضوع علم اللغة، ولو تعرضوا في كل لفظ إلى الحكم الذي يعرض له في التراكيب؛ كأن يذكروا عمل "إن" في الاسم والخبر في البحث عن حروف التوكيد، ويذكروا عمل "ليت" كذلك في حروف التمني، وعمل "كأن" في بحث حروف التشبيه، وعمل "لكن" في بحث الاستدراك، لتشتت الكلام في الأحوال التي يعد البحث فيها من صلب علم النحو، وهي رفع: الاسم والخبر، وما يعرض لهما من نحو الترتيب والذكر والحذف. ثم قال المؤلف: "والزمن جعله النحاة ثلاثة أنواع: الماضي، والحال، والمستقبل، وجعلوا للدلالة عليها صيغتين فقط: الفعل الماضي، والفعل المضارع، وكفاهم ذلك؛ لأن أحكام الإعراب لا تكلفهم أكثر منه، ولم يحيطوا بشيء من أنواع الزمن، وأساليب الدلالة عليه، وهي في العربية أوسع وأدق، يدل على الزمن بالفعل وبالاسم، وبالفعل والفعل، وبالفعل والاسم وبالحرف، ولكل اسلوب من هذه جزء من الزمن محدود يدل عليه". ثم قال المؤلف: "وليس لهذه الأبحاث من موضع يجب أن تفصل فيه وتبين أحكامها إلا علم النحو". قد عرفت أن علم النحو أحد العلوم العربية، لا أنه كل العلوم العربية؛ فإن علماء العربية يقسمون البحث في اللغة إلى علوم، فيقولون: البحث فيها إما عن المفردات من حيث جواهرها وموادها وهيئتها، فعلم اللغة، أو من حيث صورها وهيئتها فقط، فعلم الصرف، أو من حيث انتساب بعضها ببعض بالأصالة والفرعية، فعلم الاشتقاق، وأما عن المركبات فباعتبار هيئتها التركيبية، وتأديتها لمعانيها الأصلية، فعلم النحو، وأما باعتبار تأديتها لمعان مغايرة لأصل المعنى، فعلم المعاني، وأما باعتبار كيفية تلك الإفادة في مراتب

الوضوح، فعلم البيان (¬1). فهناك نحو، ولغة، وصرف، ومعان، وبيان، ولكل علم من هذه العلوم حد لا يتعداه، وعلم النحو من بينها إنما يبحث عن الألفاظ باعتبار هيئتها التركيبية، وتأديتها لمعانيها الأصلية، فنظره يتوجه إلى الأحوال التي تعرض للألفاظ عند تأليفها، وهذا لا يستدعي أن تجمع الكلمات المشتركة في الدلالة على معنى وضعت له، في بحث، إلا أن تشترك بعد ذلك في وجه من الوجوه التي يتناولها موضوع علم النحو، وهي الأحوال التي تعرض للألفاظ من حيث التركيب، وتأدية المعاني الأصلية. ثم أعاد الأستاذ دعوى أن النحاة قصروا النحو على البحث في أواخر الكلم، وقال: "قد أخطؤوا إلى العربية من وجهين"، وقال: "الأول -؛ أي: من الوجهين - أنهم حين حددوا النحو، وضيقوا بحثه، حرموا أنفسهم وحرمونا إذ اتبعناهم، من الاطلاع على كثير من أسرار العربية وأساليبها المتنوعة، ومقدرتها في التعبير، فبقيت هذه الأسرار مجهولة، ولم نزل نقرأ العربية ونحفظها ونرويها، ونزعم أننا نفهمها، ونحيط بما فيها من إشارة، وما لأساليبها من دلالة، والحق أنه يخفى علينا كثير من فقه أساليبها، ومن دقائق التصوير بها". قد أريناك أن النحاة لم يقصروا النحو على البحث في أواخر الكلم، وأنهم بحثوا في أحوال التأليف من كل ناحية تدخل في موضوع علمهم، ولا يسلم للمؤلف أنهم حرموا أنفسهم، وحرموا من اتبعهم، من الاطلاع على كثير من أسرار العربية وأساليبها المتنوعة، وإليك التحقيق: ¬

_ (¬1) "شرح السيد للمفتاح".

للنظر في أسلوب الكلام العربي جهتان: أولاهما: جهة صحة تأليف الكلام بحيث لا يعد صاحبه خارجاً عن العربية، محكوماً عليه باللحن، وبعبارة أخرى: يكون الكلام مطابقاً لأحد الأساليب التي يؤدي بها العرب المعنى الأصلي بليغاً أو غير بليغ، وهذه الجهة هي التي يبحث عنها النحاة. الثانية: جهة أخذ الكلام مرتبة من المراتب الزائدة على صحة التاليف عربية؛ أعني: مراتب حسن البيان، وهذه الجهة هي التي يبحث عنها علماء البلاغة. وإذا درسنا كتب النحاة، وكتب البيان بإنصاف، وجدنا كلاً من الطائفتين قد قطعوا في البحث عن فقه الأساليب ودقائق التصوير بها أشواطاً واسعة، وبلغوا فيها إلى غايات بعيدة، فدعوى أنهم حرموا أنفسهم، أو حرموا أتباعهم من الاطلاع على كثير من أسرار العربية، مبنية على أن النحاة قد ضيقوا بحث علم النحو، وقد أريناك أنهم لم يضيقوه، ولكنهم لم يريدوا أن يتعدوا حدوده إلى موضوعات يبحث عنها في علوم أخرى؛ كعلم اللغة وفقهها، أو علوم البلاغة. وأشار الأستاذ إلى الوجه الثاني من الوجوه التي أخطأ فيها النحاة إلى العربية من أجل قصرهم النحو على البحث في أواخر الكلم، فقال: "الثاني: أنهم رسموا للنحو طريقة لفظية، فاهتموا ببيان الأحوال المختلفة للفظ؛ من رفع أو نصب، من غير فطنة لما يتبع هذه الأوجه من أثر في المعنى. يجيزون في الكلام وجهين أو أكثر من أوجه الإعراب، ولا يشيرون إلى ما يتبع كل وجه من أثر في رسم المعنى وتصويره. وبهذا يشتد جدلهم، ويطول احتجاجهم،

وجهات البحث النحوي

ثم لا ينتهون إلى كلمة فاصلة". النحاة يبحثون عن الأساليب التي لا يقال للناطق بها: قد جئت بما لا تتكلم به العرب، فإذا أجازوا في بعض التراكيب وجهين، أو وجوهاً من الإعراب، فمعنى ذلك: أن هذين الوجهين، أو تلك الوجوه قد تكلم بها العرب عند تأدية المعنى الأصلي لذلك التركيب، يقولون هذا، ولا ينفون أن يكون لكل وجه من الوجهين أو الوجوه أثر في تصوير المعنى الأصلي يغاير الآثار التي قد يحدثها غيره من الوجوه، فهم إذا اختلفوا في وجه من وجوه الإعراب يجيزه طائفة، ويمنعه آخرون، فإن اختلافهم يرجع إلى أن هذا الوجه قد نطق به العرب في مثل هذا التركيب، أو لم ينطقوا، وبعد أن يقوم الشاهد على جواز وجهين أو وجوه في التركيب، قد ينبهون إلى ما يفترق به الوجهان أو الوجوه من الأثر في رسم المعنى الأصلي وتصويره، وإن صح أنهم لم ينتهوا في جدلهم إلى كلمة فاصلة، فلأن المجيز لبعض الوجوه لم يقم الشاهد المقنع لخصمه من كلام فصيح، أو قياس صحيح. * وجهات البحث النحوي: ذكر المؤلف شدة عناية العرب بالإعراب، وساق على ذلك شواهد، وتخلص منها إلى وصف النحاة بأنهم أطالوا مراقبة أواخر الكلمات، وأنهم قد يختلفون فيها، ويتجادلون عندها، ثم قال: "وطول هذه المراقبة، ودأبهم عليها هداهم إلى كشف سر من أسرار العربية عظيم، وهو أن هذه الحركات ترجع إلى علل وأسباب يطرد حكمها في الكلام، ويمكن الرجوع إليها، والاحتجاج بها، وقد أعجبوا بهذا الكشف إعجاباً عظيماً، فألحوا في الدرس، وفي تتبع الأواخر، والكشف عن أسرار تبديلها، وسموا ما كشفوا أول الأمر:

علل الاعراب، أو: علل النحو، ثم لم يلبثوا أن أوجزوا، فسموها: علم النحو، أو الإعراب". العلل التي يذكرها النحاة على أن العرب راعتها، وبنت عليها أحكام ألفاظها ترجع إلى ثلاثة أنواع: أحدها: ما يقرب مأخذه، ويتلقاه النظر بالقبول؛ كما وجهوا تحريك بعض الحروف والساكنة بالتخلص من التقاء الساكنين، ووجهوا حذف أحد الحرفين المتماثلين بطلب الخفة. ثانيهما: ما يكون من قبيل الفرضيات التي لا تستطيع أن تردها على قائلها، كما أنك لا تضعها بمحل العلم، أو الظن القريب منه، كما قالوا في وجه بناء قبلُ وبعدُ: إنهما شابها الحرف في احتياجهما إلى المحذوف، وهو المضاف إليه. ثالثها: ما يجري فيه بعض النحاة على ما يشبه التخييل، ويسهل عليك أن ترده على صاحبه، وأنت واثق من أنك دفعت عن العلم شيئاً لا يتصل بأول منه ولا بآخر، ومن هذا القبيل - فيما أرى -: قول بعضهم في تعليل عدم جواز اتصال الضمير الثاني في نحو: أعطاه إياك، فلا تقول: أعطاهك؛ بأن الضمير الثاني أشرف أنه أعرف، فيأنف من كونه متعلقاً بما هو أدنى منه. أما النوعان الثاني والثالث، فلا يدخلان في صلب العلم، ولا ملحه، وأما النوع الأول، فهو الذي يصح أن يدخل في علم النحو على أنه من أسرار أحكامه، والنحاة يعدونه في المرتبة الثانية، ومنهم من يصرح بأنه ليس من مقصود علم النحو. قال أبو إسحق الشاطبي في "شرح الخلاصة": "وعلم النحو يحتوي

على نوعين من الكلام"، وذكر أول النوعين، وهو إحراز اللفظ عند التركيب عن التحريف والزيغ عن معتاد العرب في نطقها، ثم قال: "والنوع الثاني: التنبيه على أصول تلك القوانين، وعلل تلك المقاييس والأنحاء التي نحت العرب في كلامها وتصرفاتها مأخوذاً ذلك من استقراء كلامها، وهذا النوع مهم، وليس بواجب، ولا هو المقصود من علم النحو، فلذلك لم يتعرض له الناظم (يعني: ابن مالك)؛ إذ لا ينبني عليه من حيث انتحاء سمة كلام العرب شيء، لكن لما كان هذا النوع لائقاً بغرض الشرح، لم أخل هذا الكتاب (يعني: شرحه للخلاصة) منه". وتحدث المؤلف بعد هذا على كتاب "مجاز القرآن" لأبي عبيدة، ووصفه بأنه حاول أن يبين ما في الجملة العربية من تقديم أو تأخير، أو حذف، أو غيرها، ثم قال: "ولكن النحاة - والناس من ورائهم كانوا قد شغلوا بسيبويه ونحوه، وفتنوا به كل الفتنة"، وقال: "فلم تتجه عنايتهم إلى شيء مما كشف عنه أبو عبيدة في كتابه "مجاز القرآن"، وأُهمل الكتاب، ونُسي"، ثم نقل المؤلف نحو ثلاث صفحات مما جاء في مجاز أبي عبيدة، ليبين بها كيف كان أبو عبيدة يتكلم عما يتجاوز آخر الكلمة وحكم إعرابها من سر العربية، ونظم تأليفها". لم يرد أبو عبيدة بتأليف "مجاز القرآن" البحث عن قوانين النحو، وإنما أراد بيان ما قد يخفى فهمه من الآيات، فيقف الذهن مستكشفاً عنه، فذكر وجوهاً يدل بها على المعنى الذي يطابق استعمال الكلمات أو الجمل عربية، أو وجوهاً ينبه بها القارئ على شيء من حسن بيان الآية، وأخذها

من البلاغة مكانتها السامية. وإذا نظرنا في هذه الصفحات الثلاث التي نقلها المؤلف من كتاب "مجاز القرآن"، وجدناها تشتمل على سبعة أحكام تتعلق بالأساليب. أولها: إيراد الضمير مفرداً في سياق الحديث عن أمرين أو أمور، فذكر أنه قد يراعى في هذا الضمير الأول؛ كما ورد في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا (11)} [الجمعة: 11]، وقد يراعى في استعماله الأمر الأخير؛ كما ورد في قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء: 112]. وقد تعرض النحاة لمثل هذا البحث، إذ ذكروا في بحث الضمير شرط مطابقته لمرجعه من جهة التذكير والتأنيث والإفراد والجمع، وأوردوا آيات جاء فيها الضمير مفرداً، ومرجعه فيما يظهر متعدد، وتأولوها على وجوه لا تنافي شرط المطابقة؛ كقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، ومن الوجوه التي ذهبوا إليها في الآية: أن عود الضمير على أحدهما لا يخل بالمعنى؛ لأن في إرضاء الله إرضاء الرسول، وفي إرضاء الرسول إرضاء الله. ثانيها: ما عبر عنه أبو عبيدة بمخاطبة الغائب، ومعناه: الشاهد، وقال في قوله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1 - 2] مجازه: هذا القرآن. واستعمال أسماء الإشارة الموضوعة للبعيد، في مشار إليه قريب، قد تعرض له علماء المعاني، وجعلوه من موضوع علمهم (¬1). ومن النحويين من يتعرض له، ويسوقه في تأليفه النحوي على طريق البسط، ومن هؤلاء: العلامة الرضي؛ فقد بحث في وجوه استعمال الإشارة، ¬

_ (¬1) بحث تعريف المسند اليه بالاشارة.

وتعرض لاستعمال اسم الإشارة البعيد في مشار إليه قريب، وقال في أثناء البحث: "ويجوز أن يكون قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2]، من باب عظمة المشار إليه، أو المشير (¬1). ثالثها: الانتقال من مخاطبة الشاهد إلى مخاطبة الغائب، قال هذا في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 2]، وقد أشار بهذا إلى النوع المسمى: بالالتفات، والالتفات قد تناوله علماء الأدب في القديم؛ كابن المعتز، وقدامة، وأدخلوه في مباحث علم البيان. وإذا ترك النحاة البحث في الالتفات إلى علماء البديع، فلأنه يرجع إلى وجه من وجوه حسن البيان، وقد وجهوا أنظارهم إلى استعمال الضمير مكان آخر يوافقه في المعنى، كما بحثوا عن صحة مثل قولك: أنت الذي أكرمتني، أو أنا الذي قمت، مكان: أنت الذي أكرمني، وأنا الذي قام، فأجازوه، وبحثوا عن مثل قولك: الذي أكرمتك أنا، أو الذي أكرمتني أنت، فمنعوه، فالحق أن النحاة لم يتركوا البحث عن وجه من وجوه نظم الكلام إلا أن يدعوه لفن يرونه أحق به من فنهم. رابعها: التكرار للتوكيد، فقال: "ومن مجاز المكرر للتوكيد قال: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] أعاد الرؤية، وقال: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34] أعاد اللفظ". وقد تحدث النحاة في باب التوكيد عن هذا النوع المسمى عندهم: التوكيد اللفظي؛ من جهة أنه يتبع المؤكد في إعرابه، أو من جهة أنه أسلوب ¬

_ (¬1) "شرح الكافية" (ص 13 ج 2).

عربي صحيح، وساقوا عليه شواهد من القرآن والحديث والشعر، وتحدث عنه البيانيون في بحث توكيد المسند إليه من جهة ما يقتضيه من الأحوال. خامسها: تقديم المؤخر، وتأخير المقدم، وساق عليه قوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}، وقال: "أراد: ربت، واهتزت". والنحاة يتعرضون لمثل هذا بما يقولونه من أن العطف بالواو لا يفيد ترتيباً، فيجوز لك أن تعطف بها المتأخر في الواقع عن المتقدم، ولا تعد بما فعلت مخطئاً الأسلوب العربي. وإذا أجاز النحاة تقديم المؤخر على معنى أنه لا يخرج بنظم الكلام عن الأسلوب العربي الصحيح، بقي للباحث عن البلاغة النظر في وجه تقديم كذا في النظم، وهو مؤخر في المعنى. سادسها: أن يكون الحديث عن سبب شيء، فتحول الحديث عن السبب إلى الشيء نفسه، قال: هذا في معنى قوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]؛ فإنه حول الخبر، وهو وقوله {خَاضِعِينَ} عن الأعناق إلى من أضيفت إليهم الأعناق. وقد تعرض النحاة في بحث جمع المذكر السالم لوجه ورود {خَاضِعِينَ} في الآية وصفاً للأعناق على خلاف المعروف من أن وصف غير العاقل لا يأتي على هذا الجمع، فقال الرضي: "وقد شبه غير أولي العلم بأولي العلم في الصفات إذا كان مصدر تلك الصفات من أفعال العلماء؛ كقوله تعالى: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وقوله: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}، وقوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، ومثله في الفعل: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].

سابعها: حذف حرف النداء، قاله في تفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]. وحذف حرف النداء من الأحكام التي يذكرها النحاة في باب النداء. ثامنها: زيادة "لا" النافية. قال في تفسير قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] مجازه: غير المغضوب عليهم والضالين. وقد بحث النحاة في حروف الزيادة، وأتوا على مواضع زيادتها، ومما تناولوه في بحثهم: زيادة حرف "لا"، وذكروا في الحديث عن مواضع زيادتها: أنها تزاد بعد حرف العطف. ثم أخذ المؤلف في حديث عن الشيخ عبد القاهر الجرجاني، ونقل ما كتبه في "دلائل الإعجاز" عن معنى النظم، وخرج منه باعتقاد أن الشيخ قد رسم في كتابه المذكور "طريقاً جديداً للبحث النحوي، تجاوز أواخر الكلم وعلامات الإعراب". ونحن نسوق إليك عبارات الشيخ التي حملها المؤلف على أنها تنبيه لطريق جديد للبحث في النحو، ونريك أن غرض الشيخ في ناحية غير الناحية التي نظر إليها المؤلف عند تفهم كلامه. قال الشيخ عبد القاهر في (صفحة 61) من الكتاب المذكور: "واعلم أنه ليس النظم إلا أن تضع الكلام الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت، فلا تخلّ بشيء منها". موضوع حديث الشيخ عبد القاهر: الفصاحة التي هي بمعنى البلاغة والبراعة، وهي الوصف الذي يقع به التفاضل في خصلة البيان.

أراد الشيخ أن يحقق البحث عن منشأ هذه الفصاحة وموطنها، فأنكر أن تكون من صفات الألفاظ المفردة، والكلم المجردة، وقرر أنها من صفات الألفاظ باعتبار إفادتها المعاني عند التركيب. وكلمة النظم يطلقها الشيخ، ويريد بها: تطبيق الكلام لمقتضى الحال، فيقول مرة: "النظم هو توخي معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام"، ومعنى توخي معاني النحو: إيرادها على حسب الأغراض، ومعاني النحو هي: التقديم والتأخير، والحذف والذكر، والتكرار والإضمار، والتعريف والتنكير، ونحو ذلك. ويقول مرة: "ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله". والقوانين التي أشار إليها هي أحكام المبتدأ والخبر، والفاعل والمفعول، والحال والتمييز، والمضاف والمضاف إليه، والتوابع، والشروط والجزاء، وغيرها، وأحكام هذه الأبواب ترجع إلى الإعراب، والتقديم والتأخير، والحذف والذكر، وغير ذلك مما يبحث عنه في علم النحو. ومعنى وضع الكلام الموضع الذي يقتضيه علم النحو: أن تضع كل واحد من مفرداته ومركباته، موضعه الذي يقتضيه علم النحو، ووضع المفردات والمركبات على وفق النحو لا يكفي لارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول إلا بعد أن يفيد الأغراض التي تراد منه، ووضع المفردات والمركبات على وجه يفيد هذه الأغراض، قد تهدي إليه السليقة، وقد تساعد عليه معرفة علم المعاني. ومعنى العمل على قوانين النحو: أن يكون تأليف الكلام على طبق قوانين النحو؛ بأن لا يرتكب فيه ضعف التأليف، أو التعقيد اللفظي، ولكن

وضع المعاني النحوية التي هي الحذف ونحوه من التقديم والتأخير، والتعريف والتنكير في مواضعها إنما يعرف بالملكة التي تتربى من كثرة كلام البلغاء، أو دراسة علم المعاني. فكلام الشيخ عبد القاهر يشبه قول الزمخشري في مقدمة "المفصل" يمدح علم النحو: "وهو المرقاة المنصوبة إلى علم البيان، المطلع على نكت نظم القرآن". ثم إن الشيخ عبد القاهر بعد أن قال: "أن تنظر في الخبر، وتنظر إلى الحروف؛ فتضع كلاً من ذلك في خاص معناه"، قال: "فتنظر في الجمل التي ترد، فتعرف موضع الفصل من موضع الوصل، وفي الوصل موضع الواو من الفاء، والفاء من ثم، إلى غير ذلك". والمراد: أنك بعد أن تنظر إلى الوجوه التي تذكر في النحو؛ تعرف أن لكل واحد منها موضعاً مخصوصاً عند تركيب الكلام باعتبار إفادتها الأغراض المطلوبة منها، وتجيء بكل واحد في موضع ينبغي له. والخلاصة: أن تنظر في الجمل التي تؤلف باعتبار العوارض التي يبحث عنها في علم النحو من العطف بالحروف المختلفة المعاني وتركه، فتعرف بالسليقة، أو بعلم المعاني موضع كل منها بحسب الأغراض المطلوبة منها، فتجيء به في موضعه. وقد رأيت الشيخ كيف ذكر وجوهاً من تصرفات الخبر، ووجوهاً من تصرفات الشرط والجزاء، وأشار إلى حال التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، والحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، ونبه على أن النظم أن تضع كلاً من ذلك مكانه، وتستعمله على الصحة، وعلى ما ينبغي له، ثم قال:

"ولست بواجد شيئاً يرجع صوابه إن كان صواباً، وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه". فالنحوي يدلك على أن المبتدأ والمفعول - مثلاً - متى فهم بقرينة حال أو مقال، جاز حذفه، ولكن هذا المعنى النحوي الذي هو الحذف لا يأخذ به الكلام حكم الصواب عند البلغاء إلا أن تصيب به موضعاً من مواضعه المعروفة لدى السليقة العربية الصحيحة، أو الملم بالقوانين المبحوث عنها في فن البلاغة. ومن الظاهر أن الشيخ عبد القاهر عندما ذكر أن النظم توخي معاني النحو، والعمل على قوانينه وأصوله، يريد: النحو الذي كتب فيه النحاة قبله، مثل: سيبويه، وأبي علي الفارسي، وابن جني، ويريد القوانين والأصول المقررة في كتب هؤلاء وأمثالهم، وليس من المحتمل أن يريد نحواً وقوانين وأصولاً لم يتكلم أو لم يحقق البحث فيها العلماء من قبله. ننفي هذا الاحتمال؛ لأنه يذكر النحاة وأصولهم وقوانينهم ذكرَ من هو راضٍ عنها، ولم يرمِهم كما رماهم المؤلف بإزهاق روح فكرة النحو، وعدم الاهتداء في أبحاثهم النحوية، ولو أن الشيخ عبد القاهر يريد أن يرسم طريقاً جديداً للنحو، لنبه -ولو بايماء ولطف- على أن النحاة ضيقوا دائرة النحو؛ وأهملوا جانباً من معانيه وأصوله. وقد رأينا الشيخ عبد القاهر قد ألف في النحو مثل شرحه لكتاب الإيضاح الذي سماه: "المقتصد"، وذهب فيه مذهب النحاة من قبله ومن بعده في تقرير القواعد التي يستقيم بها التركيب، ويسلم بها من آفة الفساد، تاركين النظر فيه من جهة الفصاحة وحسن البيان إلى علماء البيان.

وإذا قال الشيخ: إن النظم يعني البلاغة والبراعة أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، فهذا القول لاغبار عليه، ولا يقتضي أن رعاية قوانين النحو وحدها كافية في صوغ الكلام البليغ، أو فهم ما في الكلام من بلاغة عند سماعه، ذلك لأن النحو كما قدمنا يبحث عن المفردات والجمل من حيث هيئاتها التركيبية؛ فيفتح أمامك طرقاً متعددة للتعبير عن المعاني الوضعية، وليس من شأنه التعرض للأغراض التى يستدعي كل واحد منها طريقاً خاصاً، فما من غرض يعرض لك إلا وجدت له في النحو طريقاً تعبر به عنه، ولكن معرفة أن هذا الغرض يؤدى بهذا الطريق تحتاج فيه إلى وسيلة أخرى هي السليقة، أو تتبع علم المعاني، ونريد من الأغراض التي ليس من شأن علم النحو أن يبحث عنها: ما يسميه علماء البلاغة: المعاني التابعة؛ كالتعظيم يؤدى بالتركيب الذي يعبر فيه باسم الاشارة للبعيد، والتحقير يؤدى بالتركيب الذي يحذف فيه المسند إليه. ودلالة الألفاظ على هذه الأغراض لم تكن بطريق الوضع، ولهذا لا يبحث عنها علماء اللغة أيضاً. ذكر المؤلف: أن الشيخ عبد القاهر قد بلغ أقصى الجهد في تصوير رأيه وتوضيحه، وقال "فجمهور النحاة لم يزيدوا به في أبحاثهم النحوية حرفاً، ولا اهتدوا منه بشيء". لم يزد النحاة بكتاب "دلائل الإعجاز" حرفاً؛ لأنه لم يؤلف في علم النحو، ولا قصد مؤلفه أن يزيد في علم النحو مسألة، وليست مباحثه مما تهدي إلى شيء من علم النحو. وكيف يستقيم رأي المؤلف في أن عبد القاهر يقصد رسم طريق جديد

في النحو، وعبد القاهر يدلنا في فاتحة كتابه أنه مؤلف في فن البيان؛ إذ قال بعد الحديث عن شرف العلم: "ثم إنك لا ترى علماً هو أرسخ أصلاً، وأبسق فرعاً، وأحلى جنى، وأعذب ورداً، وكرم نتاجاً، وأنور سراجاً، من علم البيان الذي لولاه، لم تر لساناً يحوك الوشي ... الخ". وسمى الشيخ علم البيان: علمَ الفصاحة، فذكر أن القرآن كان معجزاً بالمزايا التي ظهرت في نظمه، والبدائع التي راعت العرب، وأنه يجب على العاقل أن يبحث عن تلك المزايا والبدائع ما هي؟ ولم هي؟ وكيف هي؟ ثم قال: "ولا يمكن ذلك إلا بالبحث عن حقيقة المجاز والحقيقة، والاستعارة والتشبيه والتمثيل، وحقيقة النظم، والتقديم والتأخير، والإيجاز والحذف، والوصل والفصل، وسائر وجوه المحاسن المعتبرة في النظم والنثر"، ثم قال: "وإذا ثبت ذلك، كان العلم الباحث عن حقيقة الفصاحة، والكاشف عن ماهيتها، والمتفحص عن أقسامها؛ والمستخرج لشرائطها وأحكامها، والمقرر لمعاقدها وفصولها، والملخص المحرر لفروعها وأصولها، باحثاً عن أشرف المطالب الدينية، وأرفع المباحث اليقينية". قال المؤلف: "وآخرون منهم أخذوا الأمثلة التي ضربها عبد القاهر بياناً لرأيه، وتأييداً لمذهبه، وجعلوها أصول علم البلاغة، سموه: علم المعاني، وفصلوه عن النحو فصلاً أزهق روح الفكرة، وذهب بنورها، وقد كان أبو بكر يبدي ويعيد أنها معاني النحو، فسموا علمهم: "المعاني"، وبتروا هذا الاسم البتر المضلل". قد أريناك أن الشيخ عبد القاهر قد ذكر علم النحو، وقرر أن هناك علماً

يسمى: علم البيان، وهو العلم الذي تحدث عنه بعدُ بأنه العلم الباحث عن حقيقة الفصاحة، وذكر في قبيل ما يبحث عنه في هذا العلم: المجاز والاستعارة، والتشبيه والتمثيل، وحقيقة النظم، والتقديم والتأخير، والإيجاز والحذف، والفصل والوصل ... إلخ. ولا يصح أن يكون المراد من علم البيان: علم النحو؛ فإنه عد في موضوع علم البيان: المجاز والاستعارة، والتشبيه والتمثيل، ولا أظن المؤلف يقدم على دعوى أن هذه المباحث من قبيل علم النحو، فإن ظهر للمؤلف أن يترك المجاز والاستعارة ونحوها إلى علم البيان، ويأخذ مباحث التقديم والتأخير ونحوها إلى علم النحو، فإن هذا رأي المؤلف، لا رأي الشيخ عبد القاهر، وإذا كانت أحوال التركيب في الواقع نوعين: أحوال يخلص بها الكلام من فساد البنية وعيب اللحن، وأحوال يرتفع بها شأن الكلام في الحسن، فليس لنا أن ننكر على علماء العربية إذا فصلوا بين النوعين، وجمعوا مباحث كل نوع منهما على جانب، وعدُّوه علماً مستقلاً، ذلك أن هذا الصنيع أقرب إلى تنظيم العلوم، ووضع مسائلها في سلك محكم من التناسب.

التضمين

التضمين (¬1) للتضمين غرض هو: الإيجاز، وللتضمين قرينة هي: تعدية الفعل بالحرف، وهو يتعدى بنفسه، أو تعديته بنفسه، وهو يتعدى بالحرف. وللتضمين شرط هو: وجود مناسبة بين الفعلين، وكثرة وروده في الكلام المنثور والمنظوم تدل على أنه أصبح من الطرق المفتوحة في وجه كل ناطق بالعربية، متى حافظ على شرطه، وهو مراعاة المناسبة. فإذا لم توجد بين الفعلين العلاقة المعتبرة في صحة المجاز، كان التضمين باطلاً، فإذا وجدت العلاقة بين الفعلين، ولم يلاحظها المتكلم، بل استعمل فعل أذاع - مثلاً - متعدياً بحرف الباء على ظن أنه يتعدى بهذا الحرف، لم يكن كلامه من قبيل التضمين، بل كان كلامه غير صحيح عربية. فالكلام الذي يشتمل على فعل عُدي بحرف، وهو يتعدى بنفسه، أو عدي بحرف، وهو يتعدى بغيره، يأتي على وجهين: الوجه الأول: أن لا يكون هناك فعل يناسب الفعل المنطوق به، حتى تخرج الجملة على طريقة التضمين. ومثل هذا نصفه بالخطأ، والخروج ¬

_ (¬1) بحث لغوي ألقاه الإمام في "مجمع اللغة العربية"، ونشر في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد السابع - الصادر في ذي القعدة 1353 هـ القاهرة.

عن العربية، ولو صدر من العارف بفنون البيان. الوجه الثاني: أن يكون هناك فعل يصح أن يقصد المتكلم لمعناه مع معنى الفعل الملفوظ، وبه يستقيم النظم، وهذا إن صدر ممن شأنه العلم بوضع الألفاظ العربية، ومعرفة طرق استعمالها، حمل على وجه التضمين الصحيح، كما قال سعد الدين التفتازاني: "فشمرت عن ساق الجد إلى اقتناء ذخائر العلوم"، والتشمير لا يتعدى بإلى، فيحمل على أنه قد ضمن شمر معنى الميل الذي هو سبب التشمير عن ساق الجد. فإن صدر مثل هذا من عامي، أو شبيه بعامي؛ أي: ممن يدلك حاله على أنه لم يبن كلامه على مراعاة فعل آخر مناسب للفعل الملفوظ، كان لك أن تحكم عليه بالخطأ، فلا جناح عليك أن تحكم على قول العامة - مثلاً -: أرجو الله قضاء حاجتي، باللحن، والخروج عن قانون اللغة الفصحى؛ لأن فعل الرجاء لا يتعدى إلى مفعولين، وليس لك أن تخرجه على باب التضمين؛ كأن تجعل "أرجو" مشرباً معنى "أسال" بناء على أن بين الرجاء والسؤال علاقة السببية، فإن هذا الوجه لم ينظر إليه أولئك الذين استعملوا فعل "أرجو" متعديا إلى المفعولين. ومن هنا نعلم أن من يخطئ العامة في أفعال متعدية بنفسها، وهم يعدونها بالحروف، مصيب في تخطئته، إذ لم يقصدوا لإشراب هذه الأفعال معاني أفعال أخرى تناسبها، حتى يخرج كلامهم على باب التضمين. وليس معنى هذا أن التضمين سائغ للعارف بطرق البيان دون غيره، وإنما أريد: أن العارف بوجوه استعمال الألفاظ، لا نبادر إلى تخطئته، متى وجدنا لكلامه مخرجاً من التضمين الصحيح. أما غيره؛ كالتلاميذ، ومن يتعاطى

الكتابة من غير أن يستوفي وسائلها، فإن قام الشاهد على أنه نحا نحو التضمين؛ كما إذا اعترضت عليه في استعمال الفعل المتعدي بنفسه متعدياً بحرف، فأجاب بأنه قصد التضمين، وبين الوجه، فوجدته قد أصاب الرمية، فقد اعتصم منك بهذا الجواب المقبول، ولم يبق لاعتراضك عليه من سبيل. وإن قام شاهد على أن المتكلم لم يقصد للتضمين، وإنما تكلم على جهالة بوجه استعمال الفعل، كان قضاؤك عليه بالخطأ قضاء لا مرد له. فمصحح ما يكتبه التلاميذ ونحوهم، يجب عليه أن يرد الأفعال إلى أصولها، ولا يتخذ من التضمين وجهاً لترك العبارة بحالها، والكاتب لا يعرف هذا الوجه، أو لم يلاحظه عند الاستعمال. فللتضمين صلة بقواعد الإعراب من جهة تعدي الفعل بنفسه، أو تعديه بالحرف، وصلة بعلم البيان من جهة التصريف في معنى الفعل، وعدم الوقوف به عند حد ما وضع له، ومن هذه الناحية لم يكن كبقية قواعد علم النحو، قد يستوي في العمل بها خاصة الناس وعامتهم.

تيسير وضع مصطلحات الألوان

تيسير وضع مصطلحات الألوان (¬1) حمداً لمن علم البشر أسماء الكائنات، وجعل لغة العرب أفضل اللغات، وصلى الله على سيدنا محمد أفصح الناطقين لساناً، وأبدعهم بياناً، وعلى آله وصحبه وسلم. كثرت ضروب الألوان، بما ينشأ من مزج لون بلون، وبظهور اللون الواحد في درجات متفاوتة، فاحتاج كل لون يحصل من امتزاج لونين إلى اسم، كما احتاج كل لون إلى أن يكون له في كل درجة اسم يمتاز به. وقد عنيت اللغات الحية بوضع أسماء تأتى على الألوان أصولها وفروعها، وربما بدا لذي النظرة القصيرة أن اللغة العربية فقيرة من أسماء الألوان، وأننا في حاجة إلى أن نستمد للألوان مصطلحات من لغات أخرى. وهذا ما دعاني الى أن أحرر مقالاً، ترى فيه كيف وسعت العربية بما تحتويه معجماتها من الكلم، وبما تقرر في علم صرفها من المقاييس كلَّ ضرب من ضروب الألوان المختلفة بأصباغها، أو أشكالها أو درجاتها. ¬

_ (¬1) بحث قدمه الإمام إلى المؤتمر الطبي العربي الثالث، والمنعقد في القاهرة في (ذي الحجة سنة 1358 هـ يناير سنة 1940 م)، لمناسبة انتدابه لتمثيل المجمع اللغوي في المؤتمر، ونشر في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن السابع والثامن من المجلد الثاني عشر - الصادران في المحرم وصفر 1359 هـ - فبراير ومارس 1940 م.

أسماء الألوان

يقع نظري عندما أتصفح بعض المعجمات على كثير من أسماء الألوان، أو الأسماء التي روعي عند وضعها لون ما وضعت له، حتى وثقت بأن الألوان أخذت من اللغة حظاً وافراً. ثم ألقيت نظرة على ما بين يدي من الكلم العائدة إلى الألوان، أو الكلم المراعى في وضعها لون، فلمحت أصولاً لا يمكن الاستعانة بها على توسيع دائرة مصطلحات الألوان كلما دعت الحاجة. وها أنا ذا أعرض عليك أصنافاً من أسماء الألوان، وأصنافاً من الأسماء التي روعي في وضعها لون، وأحدثك عقب كل صنف عن مزيته، أو عما ينبه له من الأصول الميسرة لوضع مصطلحات جديدة: * أسماء الألوان: الاسم إما أن يدل على لون ساذج، وإما أن يدل على هيئة مركبة من لونين، أو ألوان، وكل من النوعين إما أن يكون مصدراً يؤخذ منه فعل، واسم فاعل، وإما أن يكون غير قابل للتصريف. * القابل للتصريف من أسماء الألوان الساذجة: أريد من اللون الساذج: ما يشمل اللون الأصلي؛ كالسواد، والفرعي؛ كالشهبة، وإليك جملة من هذا الصنف القابل للتصريف: 1 - الُأدمة: لون بين البياض والسواد، ويراد بها في وصف الإبل: البياض الواضح. يقال: أدِم وأدُم فهو آدم، والمؤنث أَدماء. 2 - البرغثة: لون شبيه بالطحلة، ومنه اشتقاق البرغوث. 3 - البضَاضة: شدة البياض. يقال: أبيض بَضَّ: شديد البياض. 4 - البُغثة: بياض يضرب إلى الخضرة، أو إلى الحمرة، فهو

أبغث، وهي بغثاء. 5 - البُهمة: اللون الذي لا يخالطه غيره، فهو بهيم. 6 - البياض: معروف. 7 - الثقابة: شدة الحمرة، ثُقب، وهو ثقيب. 8 - الحُتْمَة: السواد، والأَحتم: الأسود، والحاتم: الغراب الأسود. 9 - الحُمرة: معروفة، احمرَّ الشيء، فهو أحمر، وهي حمراء. 10 - الحُلْبَة: سواد صرف، حَلِبَ، فهو أَحلب، وحلوب، ويقال: أسود حُلبوب: حالك. 11 - الحُلكة: شدة السواد، حَلِك، فهو حالك، ويبالغ به، فيقال: أسود حالك. 12 - الحُمة: السواد، وقد يبالغ به في السواد، ويقال: أسود أحمُّ. 13 - الحَنْط: شدة الحمرة، يقال: حَنَطَ الأَديم، فهو حانط: احمرَّ، وقد يبالغ به في الحمرة، فيقال: أحمر حانط؛ أي: قانئ. 14 - الحَور: البياض، يقال: احوَّر الشيء: ابيضَّ، والحُوَّارَى: الدقيق الأبيض، وامرأة حوارية: بيضاء، وهو في العين شدة بياضها في شدة سوادها. 15 - الحُوَّة: حمرة تضرب إلى سواد، وسموا كل أسود غير شديد السواد: أحوى. 16 - الخَضْب: الخضرة تظهر في الشجر، يقال: خضَب الشجر، أو الأرض: اخضرَّ، فهو خاضب، وهي خاضبة. 17 - الخُضرة: معروفة، خَضِرَ، فهو أخضر، والمؤنث: خضراء،

وخضِرة، وهو في الخيل: غُبرة تخالطها دهمة، وقد يطلق على السواد، فيقال: اخضرَّ الليل؛ أي: اسود. 18 - الذُّبْسة: حمرة مشربة سواداً، دبس، فهو أدبس، وهي دبساء، والدَّبس: الأسود من كل شيء. 19 - الدُّجة: في الأصل: شدة الظلمة، وجاءت بمعنى السواد، فقالوا للجبال السود: دُجُج، وقالوا: دُجدج ودَجوجى: شديد السواد. 20 - الدُّجنة: أقبح السواد: دَجِنَ فهو أدجن، وهي دجناء. 21 - الدُّخنة: كُدرة في سواد، دَخِنَ فهو أدخن، وهي دخناء. 22 - الدُّسمة: غبرة إلى سواد، دَسِمَ، فهو أدسم، وهي دسماء؛ والديسم: السواد. 23 - الدُّعجة: السواد، أو شدة السواد، دَعِجَ، فهو أدعج، وهي دعجاء، وقيل: شدة سواد العين وشدة بياضها، فيدخل في القسم الآتي، وهي أسماء ما ركب من لونين. 24 - الدُّهسة: لون الرمل يعلوه أدنى سواد، يقال: ادهاست الأرض، أو العنز: صارت دهساء اللون. 25 - الدُّكنة: لون يضرب إلى الغبرة - بين الحمرة والسواد - دكِن، فهو أدكن، وهي دكناء. 26 - الدُّلمة: لون الفيل، والدَّلام: السواد، فهو أدلم، ودلماء. 27 - الدُّهمة: السواد، يقال: ادهمَّ وادهامَّ، فهو أدهمُ، وهي دهماء، ويوصف به الضأن، فيراد به: الخالصة الحمرة. 28 - الرُّبدة: لون الرماد "كدرة في سواد"، وقد اربدَّ، واربادَّ، وهو

أربد، وهي ربداء. 29 - الرُّبْسة: مثل الدُّبْسة، يقال: داهية دبساء، وربساء، وجاء بأمور رُبْس: سود. 30 - الرُّمدة - لون الرماد، يقال: نعامة رمداء، وثوب أرمد. 31 - الرُّمكة: سواد مشرب كُدرة "لون الرماد"، يقال: ارمكَّ الجمل، فهو أرمك. 32 - الرَّهرهة: حسن بصيص البشرة ونحوه، وترهره الجسم: ابيضَّ من النعمة. 33 - الزُّهرة: البياض، والأزهر: الأبيض، وهي زهراء، وقد يبالغ به في لون الحمرة، فيقال: أحمر زاهر. 34 - السُّحمة: السواد، يقال: سَحِم فهو أسحم، وهي سحماء. 35 - السُّخمة: السواد، سخِم، فهو أسخم، والسَّخام: سواد القدر. 36 - السُّدفة: في الأصل: الظلمة، وتستعمل في السواد، وأشار صاحب "القاموس" إلى هذا بقوله: والأسدف: الأسود. 37 - السُّعرة: لون يضرب إلى السواد فويق الأُدمة، يقال: سَعِر، فهو أسعر. 38 - السَّفَر: بياض النهار. 39 - السُّفعة: سواد مشرب بحمرة، وقيل: سواد مع لون آخر، يقال: سفع، فهو أسفع، وهي سفعاء. 40 - السُّمرة: لون بين البياض والسواد، يقال: سمُر، فهو أسمر، وهي سمراء.

41 - الشَّرَق: اشتداد الحمرة، يقال: شرق الشيء: اشتدت حمرته، وأشرقته بالصبغ إذا بالغت في حمرته، وثياب مشرقة؛ أي: محمرة. 42 - الشُّقرة: بياض تعلوه حمرة، وهي في الخيل حمرة في مُغرة، يقال: شقِر، فهو أشقر، وهي شقراء. 43 - الشُكلة - حمرة وبياض مختلطان، وقيل: بياض يضرب إلى حمرة، وفي الإبل: ما يخالط سواده حمرة. 44 - الشُّهْبة: بياض يغلب على السواد، يقال: شَهِب وشَهُب، فهو أشهب، وهي شهباء. 45 - الصُّبْحة: سواد يضرب إلى حمرة، يقال: صَبُح، فهو أصبح، وهي صبحاء. 46 - الصُّحْرة: غبرة في حمرة خفيفة إلى بياض قليل، وهو أصحر، وهي صحراء. 47 - الصُّحْمة: سواد إلى صفرة، أو غبرة إلى سواد قليل، أو حمرة في بياض، وهو أصحم، وهي صحماء. 48 - الصُّدأة: شقرة إلى سواد، وهو أصدأ، وهي صدآء. 49 - الصُّفرة: معروفة، وقد اصفرَّ واصفارَّ، فهو أصفر، وهي صفراء. 55 - الصُّهبة: حمرة في سواد، أو شقرة في الشعر، صَهِب، فهو أصهب، وهي صهباء. 51 - الضحاء: البياض أو الشهبة، والأضحى من الخيل: الأشهب، والأنثى ضحياء: قال أبو عبيدة: لا يقال للفرس إذا كان أبيض: أبيض، ولكن يقال له: أضحى، وليلة ضحياء - بيضاء.

52 - الطّحْلة: لون بين الغبرة والبياض بسواد قليل "لون الرماد"، وفي "أساس البلاغة": "شراب أطحل: كدر على لون الطحال". 53 - الطُّلسة: غبرة إلى سواد، وهو أطلس. 54 - الطُّهمة: سمرة تجاوزت إلى سواد. 55 - الظَّمى: السمرة، يقال: رمح أظمى: أسمر، وقد يراد به السواد، يقال: ظل أظمى، وبعير أظمى: اسود. 56 - العَتك والعتوك: الاحمرار، يقال: عتك الرمل، والدم: اشتدت حمرتهما، والعاتك في الألوان الخالص، ومن النساء: المحمرة أو المصفرة من كثرة الطيب. 57 - العَشرقة: الاخضرار، يقال: عشرق النبت، أو الأرض: اخضرَّ. 58 - العُفرة: بياض تعلوه حمرة، أو بياض ليس بشديد. 59 - العِيْسة: بياض يخالطه شيء من شقرة، وقيل: لون أبيض مشرب صفاء في ظلمة خفيفة. 60 - الغُبرة: لون شبيه بالغبار، والأغبر: الذئب؛ لغبرة لونه، وهي غبراء. 61 - الغُبسة: بياض فيه كدرة "لون الرماد"، فهو أغبس. 62 - الغُثرة: الغبرة: أو الغبرة تضرب إلى خضرة، أو إلى حمرة. 63 - الغُربة: بياض صرف، والمُغرب: الأبيض وما كل شيء منه أبيض، يقال: أسود غربيب: حالك. 64 - الغُرَّة: البياض، والأَغَر: الأبيض من كل شيء، ويقال: غَرَّ غَرّاً وغُرَّةً: ابيضَّ، والغرة في الفرس: بياض في جبهته.

65 - الفُحومة: السواد: فَحُم، فهو فاحم، وفحيم. 66 - الفُضحة: الغُبرة في طُلحة، يكون في ألوان الإبل والحمام، فضح، فهو أفضح، وهي فضحاء، وقال أبو عمرو: سألت أعرايياً عن الأفضح، فقال: هو لون اللحم المطبوخ. 67 - الفُقوع: شدة الصفرة، وأصفر فاقع مبالغة، وقد يبالغ به في كل ناصع اللون من بياض وغيره. 68 - القُتمة: سواد ليس بشديد، كسواد ظهر البازي، قَتِم، فهو قاتم، وقَتُم فهو أقتم، وهي قتماء، وقيل: القُتمة: حمرة وغبرة، ويقال: أحمر قاتم: شديد الحمرة، كما يقال: أسود قاتم. 69 - القُثمة: الغبرة، قَثُم: اغبرَّ. 70 - القُلْبة: الحمرة، يقال: قلبت البسرة: احمرت. 71 - القُمرة: شدة البياض، ومنه اشتق القمر، أو بياض يضرب إلى خضرة، أو بياض فيه كدرة، ويقال للسحاب الذي يشتد ضوؤه لكثرة مائه: سحاب أقمر، وهي قمراء، وقمرة. 72 - القُنوء: اشتداد الحمرة، يقال: قَنَأ، وهو قانِئ، وهي قانئة، ويبالغ به في الحمرة، فيقال: أحمر قانئ. 73 - القُهبة: بياض تعلوه كدرة، قَهِب فهو أقهب، وهي قَهِبة. 74 - الكُدرة: لون ينحو نحو السواد والغبرة، كدِر، فهو كدر. 75 - الكُلفة: لون بين البياض والسواد، والكَلَف: السواد في صفرة، ويقال: بعير كَلِف: للبعير الذي يخالط حمرته سواد. 76 - الكُمتة: حمرة يخالطها سواد، كمت فهو كُميت.

77 - الكُمْدة - تغير اللون وذهاب صفائه، قالوا: مالي أراك أكمدَ اللون؟ وكمِد الثوب: تغير لونه من إخلاق. 78 - الكُهبة: غيره مشربه سواداً. 79 - اللُّهبة: بياض ناصع نقي، والملهَّب من الثياب: ما لم تشبع 80 - اللَّهَق: شدة البياض، وهو لَهِق، وقيل: اللهق: بياض ليس بذي بريق. 81 - المُعرة. لون يضرب إلى الحمرة. 82 - المُغرة: لون ليس بناصع الحمرة، أو شقرة بكدرة، والأَمغر الذي في وجهه حمرة في بياض صاف. 83 - المَقَه: بياض في زرقة، أو حمرة في غبرة، أو غبرة إلى البياض، مَقِه مَقْهاً، فهو أمقهُ، وهي مقهاء. 84 - المُلحة: بياض يخالطه سواد، وهو أملح، وهي ملحاء، وقد يطلق على أشد الزرق. 85 - المُهْقة: بياض في زرقة، أو شدة البياض، مَهِق مَهَقاً فهو أمهق، وهي مهقاء. 86 - النَّصاعة: شدة البياض، يقال: نصَع لونه؛ أي: اشتد بياضه، ويبالغ به في البياض، فيقال: أبيض ناصع، وقد يبالغ به في الحمرة، فيقال: أحمر ناصع؛ أي: قانئ. 87 - النَّضْرة: الحسن والبهجة، والناضر: شديد الخضرة، ويبالغ به في كل لون، فيقال: أخضر ناضر، وأحمر ناضر، وأصفر ناضر.

88 - النُّعوج: البياض الخالص، يقال نعَجَ؛ أي: ابيضَّ، فهو ناعج، وهي ناعجة. 89 - النُفوض: ذهاب بعض لون الصبغ، نفَض الثوب، فهو نافض: (باهت). 90 - النَّوَق: بياض فيه حمرة يسيرة. 91 - الوُردة: حمرة تضرب إلى الصفرة، يقال وَرُد، فهو وَرْد، وهي وردة. 92 - الوُرقة: بياض يضرب إلى سواد "لون الرماد"، وهو أورق، وهي ورقاء. 93 - الوَضَح: بياض الصبح: والواضح من الإبل: غير شديد البياض، والوضاح: الأبيض اللون، الحسنه. 94 - اليُقوقة: البياض، يقال: يَقَّ: ابيضَّ، فهو يَقِق، ويبالغ بها فيه، فيقال: أبيض يقق. فقد رأيت من هذه الكلم، كيف كان واضع اللغة العربية يضع للألوان أسماء يؤخذ منها أفعال وأسماء الفاعل، ورأيته كيف كان يدل على اللولين يمتزجان بلفظ واحد، وفي ذلك كله تيسيرٌ على الناطق بها، وتَحَرٍّ لوجه من وجوه الإيجاز البديع. ومن مزايا هذا النوع من الكلم: أنه يؤخذ منه لايجاد اللون مصادر، وأفعال، وأسماء فاعل، وأسماء مفعول، فيقال: بيَّض الشيء تبييضاً، فهو مبيِّض، والشيء مبيَّض، وكذلك قالوا: حمرته، وسودته، وصفرته، وخضَّرته، ووردته، وقنأته.

أسماء الألوان الساذجة غير القابلة للتصريف

وتعدية الفعل الثلاثي اللازم بالتضعيف إلى المفعول، مقيسٌ عند طائفة من علماء العربية، وإذا رأيت في هذا النوع ألفاظاً مترادفة على لون واحد، فلواضع المصطلحات أن يخص كل لفظ من هذه المترادفات بدرجة من درجات اللون الذي فسر به. وما كان ينبغي لواضع مصطلحات أن يعدل عن هذه الأسماء إلى غيرها من الأسماء التي لا تتصرف، أو الألفاظ التي لا تشعر باللونين الممتزجين إلا أن تمكون مركبة. * أسماء الألوان الساذجة غير القابلة للتصريف: في أسماء الألوان الساذجة ما لا يساعد على أن يؤخذ منه فعل، أو اسم فاعل، كالأرجوان للحمرة (¬1)، والجريال لحمرة الذهب (¬2)، والعوهق للون كلون السماء مشرب سواداً. ومن هذا القبيل الألفاظ التي تدل على لون بإلحاق ياء النسبة إلى اسم شيء عرف بذلك اللون؛ كما قالوا: الزنجارية (¬3) للون الكُهبة، والكراثية (¬4) لخضرة تضرب إلى سواد، والنيلية (¬5) للكراثية مع قليل من الحمرة، والبنفسجية لما يشبه لون البنفسج؛ وقال العرب: أسود لوبيّ، وأرادوا باللوبي: شديد السواد، نسبة إلى اللوبة، وهي الأرض ذات الحجارة السود، وقالوا: فرس ¬

_ (¬1) قد يبالغ به في الحمرة، فيقال: أحمر أرجوان. (¬2) قد يطلق على ما خلص من لون أحمر. (¬3) نسبة إلى الزنجار. (¬4) نسبة إلى الكراث: ضرب من النبات. (¬5) نسبة إلى النيل، وهو نبات يصبغ به.

أسماء هيئات الأشياء المركبة من ألوان

صنابيّ اللون: بين الصفرة والحمرة: نسبة إلى الصناب، وهو الخردل مع الزبيب، وقالوا حمام ورسيّ: أصفر: نسبة إلى الورس، وهو نبات أصفر تصبغ به الثياب، وقالوا: تِبْنىّ: أصفر كالتبن. والوصول إلى التشبيه من طريق النسبة غير عزيز، فقول الناس: برتقالي، ورمادي، وسماوي، غير خارج عن مقاييس اللغة. * أسماء هيئات الأشياء المركبة من ألوان: نريد من هذا النوع: الاسم الذي يدل على هيئة مركبة من لونين يمتاز كل منهما عن الآخر بصبغة وموضعه نحو: الرُّقطة، وتلحق بهذا ما يدل على لون يستلزم لوناً آخر، كاللُّمظة، وهذا النوع يأتي مصدراً يؤخذ منه فعل، واسم فاعل، ويأتي اسماً غير قابل للتصريف. * أسماء الألوان المركبة القابلة للتصريف: يوجد من هذا النوع أسماء كثيرة، وإليك طائفة مما وقع عليها نظرنا فى المعجمات: 1 - الأُرْثة: بياض وسواد، وهي الرقطة، يقال: كبش آرث، ونعجة أرثاء. 2 - البُرشة: أن يكون في الشيء ألوان مختلفة، يقال: مكان أبرش: مختلف الألوان، والبَرَش في شعر الفرس: نكت صغار تخالف سائر لونه. 3 - البَرص: بياض يظهر في البدن، وجاوز العرب به هذا المرض، فقالوا للحية فيها لمع بياض: البرصاء، بل سموا القمر بالأبرص. 4 - البُغثة: سواد يشوبه نقط بياض؛ أو بياض يشوبه نقط سواد، بغِث فهو أبغث، وهي بغثاء.

5 - البَقَع: بياض يخالطه لون آخر، وهو أبقع، ومبقَّع: فيه موضع بياض، وموضع غيره. 6 - البُلقة: سواد وبياض، بَلُق، فهو أبلق، وهي بلقاء، والفرس الأبلق: ما ارتفع تحجيله إلى فخذيه. 7 - الخصاف: أن يجتمع لونان من سواد وبياض، والأخصف من الخيل والغنم: الأبيض الخاصرتين والجنبين، ومن الجبال: ما فيه بياض وسواد، ورماد خصيف: فيه سواد وبياض، وسماء مخصوفة: ذات لونين، وخصَّف الشيبُ لمته: جعلها خصيفة: ذات بياض وسواد. 8 - الخُلسة: أن يكون السواد أكثر من البياض، يقال: أخلس الشعر، فهو مخلس، وخليس: إذا ابيض بعضه، وأخلس النبت: إذا كان بعضه أخضر، وبعضه أبيض. 9 - الخَيَف: أن يكون إحدى عيني الفرس أو غيره زرقاء، والأخرى كحلاء، فهو أخيف، ويقال: تخيَّف ألواناً؛ أي: تغير. 10 - الخال: الشَّامة في الجسد، والأخيل: كثير الخيلان، وهي خيلاء، (وقد نص صاحب "اللسان" على أنه لا فعل له). 11 - الدُّرعة: أن يكون رأس الفرس أو الشاة أسود، وسائره أبيض، دَرع، فهو أدرع، وهي درعاء. 12 - الدغمة: أن يضرب وجه الفرس وجحافله إلى سواد أشد من سواد سائر جسده، ويقال: ادغامَّ، فهو أدغم، وهي دغماء. 13 - الرُّبشة: اختلاف اللون، يقال: رجل أربش: مختلف اللون. 14 - الرُّثمة: بياض في جحفلة الفرس العليا، أو بياض في الأنف،

رثم، فهو أرثم، وهي رثماء، ونعجة رثماء: سوداء الأرنبة، وسائرها أبيض. 15 - الرُّقش: نقط أو خطوط سود وبيض، يقال: حية رقشاء؛ لترقيش ظهرها بخطوط ونقط. والرقشاء من المعز: التي فيها نقط من سواد وبياض. 16 - الرُّقطة: سواد يشوبه نقط بيض، أو بياض يشوبه نقط سود، ارقَطَّ وارقاطَّ، فهو أرقط، وهي رقطاء. 17 - الرَّمش: رجل أرمش: مختلف اللون، وأرض، أو سنة رمشاء: كثيرة العشب. 18 - الرَّمَل: خطوط في قوائم الثور أو البقرة الوحشية تخالف سائر لونه، وهو أرمل، وهي رملاء، ونعجة رملاء: سوداء القوائم، وسائرها أبيض. 19 - الشُّمَط: بياض الرأس يخالطه سواد، والشميط: ذئب فيه سواد وبياض. 20 - الصُّقعة: أن يكون في وسط رأس الفرس أو الطير أو غيره بياض، وهو أصقع، وهي صقعاء. 21 - العُرمة: تنقيط ببياض وسواد، ومن غير أن يتسع كل نقطة، وهو أعرم، وهي عرماء، والحية العرماء: التي فيها نقط سود وبيض. 22 - العُصمة: أن يكون في ذراعي الظبي أو الوعل، أو في إحدى ذراعيه بياض، وسائره أسود أو أحمر، وهو أعصم، وهي عصماء. 23 - الكَحَل: سواد يعلو جفون العين خِلقة، والكحلاء: الشديدة سواد العين، ومن النعاج: البيضاء السوداء العين. 24 - اللُّمْظة: بياض في جحفلة الفرس السفلى، فهو ألمظ.

أسماء الألوان المركبة غير قابلة التصريف

25 - اللَّمى: سمرة في الشفة، لَمِيَ، فهو ألمى، وهي لمياء، واستعملوها في شديد السمرة، فقالوا: رمح ألمى: شديد السمرة. 26 - النَّبَطُ: أن يكون في بطن الفرس أو شاكلة الشاة بياض، يقال: فرس أنبط: أبيض البطن، وشاة نبطاء: بيضاء الشاكلة. 27 - النَّشَم: أن يكون في الثور نقط بيض وسود، يقال: نشِم، فهو نشيم. 28 - النَّكتة: النقطة من أي لون كان، يقال: في العين نكتة بياض، أو حمرة، ويقال: هو كالنكتة البيضاء في الثور الأسود، ونكَّت البُسر: بدا فيه نقط من الإرطاب، فهو منكِّت، والبسرة منكِّتة (بصيغة اسم الفاعل). 29 - النُّمرة: النكتة من أي لون كان، ولكنهم يقولون: الأنمر: ما فيه نكتة بيضاء، وأخرى سوداء، ومنه سمي السبع المعروف بالنَّمر، ويقال نَمِر (كفرِح) السحابُ: صار على لون النمر، فهو نِمر وأنمر، وهي نَمِرة ونمراء. 30 - الوبَش: الرَّقَط من الجرب، وَبِش البعير، فهو وَبِش. 31 - الوَدَق: نقط حمر تخرج في العين من علة كدم تشرق به، ودِقت، فهي ودِقة. 32 - الوَكتة: النقطة في الشيء من غير لونه، يقال: وكَّت البُسْر: بدت فيه نقط من الإرطاب، فهو موكِّت، والبسرة موكِّتة (بصيغة اسم الفاعل). وفي هذا النوع المزايا التي نبهنا لها آنفاً من صوغ الأفعال، وأسماء الفاعل، ومن دلالة الكلمة الواحدة على هيئة شيء ذي لونين. * أسماء الألوان المركبة غير قابلة التصريف: نريد من هذا: ما كان نحو الخِلقة، وهو كل لونين اجتمعا.

الأسماء المراعى في معانيها لون

ويمكن صوغ أسماء للألوان المركبة بوسيلة النسبة التي يراد بها التشبيه؛ كأن تريد الدلالة على حال ما يركب من سواد وبياض في هيئة الجِزعْ "وهو: خرز يماني فيه سواد وبياض"، فتقول: الجزعية، وذو اللون جزعي، ولو أردت الدلالة على حال ما يركب من ألوان متعددة مختلفة بهيئة قوس قُزَح، لساغ لك أن تقول القزحية، وذو اللون قزحي، وتقول على هذا النمط: النرجسية، متى أردت تشبيه حال ما اجتمع فيه بياض وصفرة على هيئة النرجس، والعرب يشبهون العيون بالنرجس، وشبهوا عيون الوحش بالجَزْع. * الأسماء المراعى في معانيها لون: في اللغة أسماء يلاحظ عند وضعها، أو عند استعمالها لون من الألوان، دون أن نجد لها في المعجمات مصدراً، أو فعلاً يدل على نفس اللون. أولاها: أسماء لا يوجد في مادتها مصدر، أو فعل يدل على نفس اللون، ويصح أن تكون مأخوذة منه على وجه مقيس، وهذه إما أن تكون موضوعة، أو مستعملة لمجرد الدلالة على الاتصاف بلون. وأمثلتها: الدَّيجور: الأغبر الضارب إلى السواد. الدِّحمس: الأسود من كل شيء. الذريحي: يبالغ به في الحمرة، فيقال: أحمر ذريحي؛ أي: أرجوان. الأصبغ: المبيضّ طرف الذنب، يقال: طائر أصبغ، وعنز صبغاء. المُصْمَت: ما لا يخالط لونه لون آخر، يقال: ثوب مصمت؛ أي: بلون واحد لا شِيَة فيه. الصَّمعريُّ: الخالص الحمرة.

الصَّيعريُّ: يبالغ به في الحمرة، يقال: أحمر صيعري؛ أي: قانئ. المضرحيُّ: الأبيض من كل شيء. الغُداف: الأسود، يقال: شعر غداف، وجناج غداف: أسود، ويقال للغراب الأسود غداف، وأغدف الليل: إذا أظلم. الغضْب: الشديد الحمرة. الغيهب: شديد السواد من الخيل. الفَدْم: الأحمر المشبع حمرة، أو ما لم تكن حمرته شديدة. القَرَّاص: القانئ، يقال: أحمر قراص: قانئ. القهْبَلس: الأبيض تعلوه كدرة. الكرك: الأحمر، وأكثر ما يوصف به الثياب، واستعمل في الخوخ، فقالوا: خوخ كرك: فيه حمرة. اللُّهاثي: الكثير الخيلان الحمر في الوجه، واللُّهاث: النقط في الخوص. الماذي: الأبيض، قالوا: عسل ماذيّ؛ أي: أبيض، ودرع ماذيَّة: بيضاء. الأمرخ: المنقط ببياض وحمرة، قالوا: ثور أمرخ؛ أي: به نقط بيض وحمر. المارَّية: البيضاء البراقة (لؤلئية اللون) يقال: امرأة أو قطاة مارية؛ أي: بيضاء براقة. اليلَق: الأبيض من كل شيء، ويقال: أبيض يلق: متناهٍ في البياض. وإما أن يجري مجرى اسم العين، فلا يقع وصفاً لغيره، وهو الذي يقول فيه أصحاب المعجمات: هو اسم لاصفة.

وأمثلته: البرّكان والبرنكان: الكساء الأسود. الشَّمرساء: السحابة البيضاء. الصبير: السحابة البيضاء. العلجوم: الظبي الآدم. العوهج: الظبية في كشحيها خطتان سوداوان. الغَمِرة: ثوب أسود يلبسه الخدمة. القصيم: الجلد الأبيض يكتب فيه. ثانيتها: أسماء تدل على ذي لون أو لونين، وهي مأخوذة من اسم عين؛ كاسم الموضع الذي يقع عليه أحد اللونين. أمثلته: الأصدر: الأبيض لبة الصدر من الغنم والخيل. المطرَّف: أبيض الطرفين: الرأس، والذنب، أو أسودهما، وسائر لونه يخالف ذلك. الأعنق: الكلب في عنقه بياض. المعضَّد: ثوب له علم في موضع العضد. أو اسم ما يشبهه اللون في صبغه أو هيئته. وأمثلته: الآزر: يقال: فرس آزر: إذا كان لون فخذيه أبيض، ولون مقاديمه أسود، أو أي لون كان، فكأن بياضه إزار، والمؤزرة: نعجة كأنها أزرت بسواد.

المحجَّل: يقال: فرس محجَّل: إذا ابيضت قوائمه، وجازوا البياض إلى نصف الوظيف (ما فوق الرسغ إلى الساق) كأن بياضه حجل (والحجل: الخلخال). المتبَّن: الأصفر في لون التبن. المدنَّر: الفرس فيه نكت فوق البرش (تشبه الدنانير). المرجَّل: يقال: بُرد مرجل: فيه صور الرجال. المرحَّل: برد مرحل: فيه صور الرحال. المسروَل: يقال: فرس مسرول: إذا جاوز بياض تحجيله العضدين والفخذين؛ كأنه لبس السراويل. المسهَّم: يقال: برد مسهم: إذا كان فيه وشي كالسهام. المشجَّر: ما نقش بهيئة الشجر من الديباج. المضلَّع: ثوب فيه خيوط تشبه الأضلاع. المطبَّل: ثوب عليه صورة الطبل، يقال: برزوا في أردية الطبل. المطيَّر: ما نقش فيه صورة الطيور. المعمَّم: الأبيض الرأس، يقال: فرس معمَّم؛ أي: أبيض الرأس دون العنق، ودون سائر جسده، كأن بياضه عمامة، وهي ما يلف على الرأس. المعيَّن: ثوب في وشيه ترابيع صغار كعيون الوحش. المقفَّص: يقال: ثوب مقفص؛ أي: مخطط بهيئة القفص. المفوَّف: الثوب الذي فيه خيوط بيض كالفُوف، والفوف: نقط بياض في أظفار الأحداث.

المقفَّز: ما كان بياض تحجيله في يديه إلى المرفقين؛ كأنه لبس القفاز. المُمَرجَل: ثوب فيه صور المراجل؛ أي: القدور. المكعَّب: الموشَّى على هيئة الكعاب. الممغَّر: ما لونه كلون المغرة. المنطَّقة: ما علم عليها بحمرة في موضع النطاق. الوشحاء: العنز التي يكون بياضها المخالف لسائر لونها؛ كالوشاح لها. وما جاء على وزن مفعَّل من هذا الضرب يصح لواضع المصطلحات أن يقيس عليه، فيقول - مثلاً -: مسوَّر، أو مسمَّك، أو مسيَّف، لما نقش عليه صور أسورة، أو اسماك، أو سيوف. ومن قبيل الأسماء المأخوذة من اسم عين ما يؤخذ من اسم الموضع الذي ينتهى إليه اللون نحو: 1 - المجبَّب: يقال: فرس مجبب: إذا ارتفع البياض منه إلى الجبُب (جمع: جبة، وهو موصل ما بين الساق والفخذ). 2 - المجوَّف: الذي يصعد البلق فيه حتى يبلغ الجوف (البطن). 3 - مرفَّقة: وصف للشاة التي يبلغ بياض يديها إلى مرافقها. ومن هذا القبيل ما يؤخذ من اسم الصبغ الذي يعطي اللون، نحو: 1 - المجسَّد: الأحمر، يقال: ثوب مجسد؛ أي: أحمر، وأصله: المصبوغ بالجساد، وهو الزعفران، أو العصفر. 2 - المضرَّج: الأحمر، قيل: مأخوذ من الإضريج، وهو صبغ أحمر. 3 - المُمَصَّر: يطلق على ما فيه حمرة خفيفة من الثياب، وقال بعض

أسماء إيجاد الألوان

علماء اللغة: الممصَّر: المصبوغ بالمصر، وهو الطين الأحمر، ومن فسروا الممصر بما فيه صفرة خفيفة لم نرهم تعرضوا لوجه اشتقاقه. 4 - المُهَرْوَد: ما فيه صفرة خفيفة في الثياب، وقال بعض علماء اللغة: المهرود: الثوب الذي يصبغ بعروق يقال لها: الهُرد. ويدخل في هذا الباب الاسم الذي يؤخذ من اسم البلد الذي يصنع فيه ذو اللون. ومثاله: مهراة: صفراء، يقال: عمامة مهراة؛ أي: صفراء، وكان سادات العرب يلبسون العمائم الصفر، قال بعض علماء اللغة: مهراة،: نسبة إلى هراة، لأن هذه العمائم كانت تجلب منها. * أسماء إيجاد الألوان: ذكرنا أن أسماء الألوان يشتق منها مصادر وأفعال للدلالة على إيجادها؛ نحو: بيَّض وحمَّر وسوَّد، وللعرب بعد هذا ألفاظ للدلالة على إيجاد الألوان. وأمثلتها: البرقشة: النقش بألوان شتى، وتبرقش الرجل: تزين بألوان شتى مختلفة، وتبرقش النبت: إذا اختلفت ألوانه. الدِّخلة: تخليط ألوان في لون. الدَّمّ: طلاء الشيء بأي لون كان، دمَّه بالدمام (الطلاء)، فهو مدموم، ودميم. الرَّقْم: تخطيط في الثوب وغيره كالترقيم. الترقين: الترقيم.

الزَّبرقة: تصفير الثوب. الزَّهلقة: تبييض الثوب. التزويق: النقش والتزيين. التضريج: صبغ الشيء بحمرة. النقش: تلوين الشيء بلونين. الوشي: الرقم والنقش. هذا ما أردنا عرضه من أسماء الألوان، وأسماء ما يراعى في استعماله لون يقوم به، وقد رأيت فيما عرضناه من أسماء الألوان ما يذكر علماء اللغة في تفسيره لونين، أو ألواناً، ولواضع المصطلحات أن يقصر اللفظ المشترك على أحد معانيه؛ كما قالوا: الجون: الأحمر والأبيض والأسود، فله أن يخصه بأي لون شاء. ورأيت فيما عرضناه من الأسماء ما يختلف علماء اللغة في تعيين اللون المراد منه، ولواضع المصطلحات فيما إذا اختلفوا، ولم يظهر وجه لترجيح رأي على غيره: أن يأخذ بالرأي الذي ينايسب الاصطلاح، كما اختلفوا في "الممصر" هذا يقول: ما فيه حمرة خفيفة، وهذا يقول: ما فيه صفرة خفيفة، فله أن يخص الممصر بما شاء من ذي حمرة خفيفة، أو ذي صفرة خفيفة. ويشابه هذا أن يختلف اللغويون في درجة اللون الذي وضع له الاسم، كما اختلفوا في "الفدم"، هذا يقول: المشبع حمرة، وهذا يقول: ما حمرته غير شديدة، فلواضع المصطلحات أن يخص كلمة الفدم بذي الحمرة الشديدة، أو ذي الحمرة الخفيفة. ورأيت فيما عرضناه عليك أسماء تخصها المعجمات بنوع من الأشياء؛

كالثياب، أو الحيوان، أو النبات، وهذا النوع من الأسماء يصح لواضع المصطلحات التصرف فيه باستعماله على وجه المجاز فيما بينه وبينه علاقة من نحو مشابهة، أو إطلاق، أو تقييد. وملخص البحث: أن اللغة العربية تسع - بغزارة مفرداتها، ومساعدة أصول صرفها - كلَّ ما يحتاج إليه من المصطلحات العائدة إلى الألوان، وقد رأيتها كيف تدل على الألوان بالألفاظ الكثيرة التصرف، ورأيتها كيف فتحت أبواباً يمكن الدخول منها إلى وضع مصطلحات حاجات العلوم والمدنية، دون أن نضطر إلى ترقيعها بكلمات من لغات غير عربية.

طرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية

طرق وضع المصطلحات الطبيّة (¬1) وتوحيدها في البلاد العربية شرف الأمة في رقي لغتها، ورقي لغتها في مسايرتها للعلوم والفنون، واتساعها لأن تخوض في بحث كل علم أو فن، وتشرح مسائله، وإن بلغت في كثرتها وغموضها أقصى غاية. كانت العلوم والفنون على اختلاف موضوعاتها، قد وجدت من بيان اللغة العربية معيناً لا ينضب، فلم تلبث أن لبست من ألفاظ هذه اللغة وأساليبها حللاً ضافية. ومن بين العلوم التي وجدت في اللغة العربية بغيتها في علم الطب، فتقبلته، وتقبلت كل ما يدخل فيه أو يتصل به من فنون. وجد هذا العلم في اللغة أيام انتقاله إلى العرب مادة غزيرة، واستطاع أن يأخذ منها كل ما يسد حاجته، ويجعل العرب والمستعربين يتدارسونه بلسان عربي مبين. انتقل هذا العلم إلى العرب وهو يعتزون بلغتهم، ويحرصون على أن تكون لغة العلم، كما كانت لغة السياسة والأدب والاجتماع، فالتفت علماء ¬

_ (¬1) بحث قدمه الإمام إلى المؤتمر الطبي العربي المنعقد بالقاهرة سنة 1939 بصفته مندوب المجمع اللغوي. ونشر في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثامن من المجلد الحادي عشر - الصادر في صفر 1358 هـ - مارس 1939 م - القاهرة.

الطب إلى الألفاظ العربية التي وضعت لمعان تدخل في علمهم، أو تتصل به من نحو: أسماء العلل (¬1)، وأسبابها، وأعراضها، وأطوارها، وآثارها (¬2). وأسماء الأعضاء والأجزاء منها، ظاهرة كانت أو باطنة، وأسماء ما يركب منه الأدوية من نحو: النبات، والمعادن، والأحجار، وأسماء الأدوات التي يستعان بها على المداواة (¬3). التفتوا إلى هذه الكلمات، واستعملوا كثيراً منها في معانيها المعروفة في اللغة، ولعلي لا أكون مخطئاً إذا قلت: أن علم الطب قد وجد في اللغة العربية مدداً أكثر مما وجده غيره من العلوم المنقولة إليها ووجد علماء الطب بعد ذلك المدد أصولاً في اللغة تسمح لهم بوضع مصطلحات لمعان طبية لم يتقدم للعرب أن وضعوا لها أسماء؛ مثل: أصول الاشتقاق والمجاز والنقل، فصاروا يضعون مصطلحات زائدة على ما تكلمت به العرب في هذا العلم، وصارت كتب الطب تصدر في عبارات عربية فصحى. فإذا ألقينا نظرة على كتب الطب المؤلفة فيما سلف بأقلام عربية فصيحة، وجدناها قائمة على كلمات مستعملة فيما وضعها له العرب من المعاني الطبية، وكلمات اشتقها أولئك الأطباء لمعان يتحقق فيها معنى الفعل الذي ¬

_ (¬1) معظم أسماء العلل جاء على وزن فُعال؛ نحو: (صداع)، أو وزن فعل؛ نحو: (بهق). (¬2) نريد من آثارها ما يعقبها من نحو: "الندبة" لأثر الجرح بعد برئة، ونحو: "المهج" لحسن الوجه بعد علة. (¬3) نحو: "الميجر" لما يصب به الدواء في الفم، و"المسعط" لما يصب به الدواء في الانف، و"الدسلم" لما يسد به الجرح من نحو الفتيلة.

اشتقت منه، كما سموا العرض دليلاً، نظراً إلى مطالعة الطبيب الاه، ومعرفته ماهية المرض منه. وكلمات نقلوها من معانيها المعروفة عند العرب إلى معان تربطها بتلك المعاني مناسبة، كما استعملوا الرسوب في كل جوهر أغلظ قواماً من المائية، وإن لم يرسب. قال ابن سينا في كتاب "القانون": إن اصطلاح الأطباء في استعمال لفظة: الرسوب، والثفل قد زال عن المجرى المتعارف؛ لأنهم يقولون: رسوب وثفل، لا لما يرسب فقط، بل لكل جوهر أغلظ قواماً من المائية متميزاً عنها، وإن طفا. وكلمات صاغوها على مثال الإضافة؛ كما قالوا: حمى الدق، وهي الحمى المعروفة "أنطيقوس". أو على مثال تركيب الصفة والموصوف؛ كما قالوا: الشريان الصاعد، والشريان النازل، أو على مثال النسب الذي يقصد به التشبيه؛ كما سموا أحد أنواع النبض الموجي؛ لأنه يشبه الأمواج إذ يتلو بعضها بعضاً على الاستقامة، مع اختلاف بينها في السرعة والبطء. وقد نبه أبو علي بن سينا في كتاب "القانون" على وجوه تسمية الأمراض، فقال: قد تلحقها التسمية من وجوه: إما من الأعضاء الحاملة (¬1) لها؛ كذات الجنب، وذات الرئة، وإما من ¬

_ (¬1) اشتق العرب من بعض الأعضاء أسماء للعلل التي تصيبها، وهي: القلاب لداء يصيب القلب، والكباد لداء يصيب الكبد، والنكاف لداء يصيب النكفتين، وهما غدتان يكتنفان الحلقوم من أصل اللحي، والقوام لداء يصيب الشاة في قوائمها.

أعراضها؛ كالصرع، وإما من أسبابها؛ كقولهم: مرض سوداوي، وإما من التشبيه؛ كقولهم: داء الأسد (¬1)، وداء الفيل (¬2)، وإما منسوباً إلى أول من يذكر أنه عرض له؛ كقولهم: قرحة طيلانية منسوبة إلى رجل يقال له: طيلانس، وإما منسوباً إلى بلدة يكثر حدوثه فيها؛ كقولهم: القروح البلخية، وإما منسوباً إلى من كان مشهوراً بالإنجاح في معالجتها؛ كالقرحة السيروتية، وإما من جواهرها وذواتها؛ كالحمى، والورم. وتجدد لذلك العهد أسماء عربية لأدوات طبية؛ كأسماء آلات الكي والجراحة التي ذكرها أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (¬3) في كتابه المسمى: "التصريف" (¬4)؛ فإنه رسم في هذا الكتاب صور الآلات، وذكر لكثير منها أسماء مناسبة؛ نحو: المكواة، والزيتونية، والمنشارية، والهلالية والمسارية. ودخل في مصطلحاتهم كلمات مولدة؛ ككلمة "بحران" للتغير الذي يحدث للعليل دفعة في الأمراض الحادة، وكلمة "تفسرة" لماء المريض المستدل به على علته، يقال: أرسل فلان تفسرته إلى الطبيب، ونظر الطبيب ¬

_ (¬1) الجذام لأن وجه المبتلى به ليشبه وجه الأسد في كراهة منظره. (¬2) زيادة في القدم والساق، وسمي داء الفيل؛ لأن رجل المريض به تشبه رجل الفيل، ومن هذا القبيل اسم السرطان فإنه في الأصل اسم لدابة نهرية، وسمي به الداء المعروف؛ لأنه اذا كبر، ظهر عليه عروق حمر وخضر تشبه أرجل الدابة التي تسمي: السرطان. (¬3) ذكره ابن حزم في رسالة أودعها مؤلفات الأندلسيين، وقال: قد أدركته. وابن حزم توفي سنة 399 هـ. (¬4) طبع بالعربية واللاتينية في اكسفورد، وتوجد منه نسخة في دار الكتب المصرية.

في تفسرة المريض. ومن أسباب أخذ علم الطب فيما سلف مكانة في اللغة الفصحى: أن كثيراً من رجال هذا العلم كانوا قد درسوا اللغة العربية إلى أن صاروا من أئمتها، أو صاروا من كبار أدبائها، تجدون الحديث عن هؤلاء الرجال، والتنبيه على رسوخهم في علم الطب واللغة، في كتب طبقات الأطباء، وطبقات اللغويين والأدباء؛ مثل: الرئيس أبي علي الحسين بن سينا، برع في الطب، وأتقن الأدب، وبلغ في اللغة مرتبة عليا، وله في الطب مؤلفات كثيرة، منها: كتاب "القانون"، وله مؤلف في اللغة يسمى: "لسان العرب". ومثل أبي بكر محمد بن أبي مروان بن زهر (¬1)؛ فقد كان - كما قالوا - بمكان من اللغة مكين، ومورد من الطب عذب معين، وكان يحفظ شعر ذي الرمة، مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب (¬2). ومثل محمد بن أحمد بن رشد (¬3)؛ فقد جمع إلى الطب والفلسفة التضلع في علوم العربية، وله في الطب مؤلفات منها كتاب "الكليات"، وله في العربية الكتاب المسمى: "الضروري". ونرى طائفة ممن بلغوا في علوم الشريعة مرتبة الاستنباط - ولا يبلغ مرتبة الاستنباط في الشريعة إلا من كان له في علوم اللغة قدم راسخة - قد برعوا في علم الطب، ومن هؤلاء: الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر المازري (¬4)، كان ¬

_ (¬1) توفي سنة 596 هـ. (¬2) "نفح الطيب" للمقري. (¬3) توفي سنة 595 هـ. (¬4) توفي سنة 536 هـ.

يعد في طبقة المجتهدين، ودرس علم الطب، وألف فيه، وقالوا في ترجمته: "كان يفزع إليه في الطب كما يفزع اليه في الفتوى (¬1) ". ولا عجب أن يقبل الفقهاء على علم الطب، فإنهم يرونه من العلوم التي رفع الشرع الإسلامي منزلتها، حتى إنهم بنوا كثيراً من الأحكام الشرعية على رعايته، واستعانوا في بيان أسرار الأوامر والنواهي بشيء من مسائله، ومثال هذا: أن النبي - صلوات الله عليه - قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبعًا إحداهن بتراب"، والعلامة محمد بن رشد جد الفيلسوف ابن رشد أول من نبه - فيما بلغنا - على أن هذا الامر مراعى فيه وجهة طبية، هي ما يخالط لعاب الكلب من مواد ضارة تعرض له عند ما يصاب بداء الكلب، وإصابته بهذا الداء قد تكون خفية، فلا تظهر لكل ناظر (¬2). فلولا أن علم الطب قد وقع فيما مضى بأيدي علماء اللغة، ما ظفر هذا العلم بتلك المصطلحات التي ترتبط باللغة ارتباطاً محكماً. ويدلكم على أن أولئك الأطباء اللغويين كانوا يجتهمون في أن يخرج علم الطب في لسان عربى فصيح: تحريهم العربية الفصحى في ألفاظ مؤلفاتهم، نجد في ترجمة الطبيب اللغوي مهذب الدين عبد الرحيم بن علي: أنه كان إذا تفرغ من افتقاد المرضى من أعيان الدولة وغيرهم، يأتي إلى داره، ويأتيه طلاب علم الطب قوماً بعد قوم، وكان إلى جانبه - مع ما يحتاج إليه من الكتب الطبية - كتب اللغة: "الصحاح" للجوهري، و"المجمل" لابن فارس، وكتاب "النبات" لأبي حنيفة الدينوري، فكان إذا جاءت في الدرس ¬

_ (¬1) كتاب "الديباج" لابن فرحون. (¬2) "بداية المجتهد" للحفيد الفيلسوف ابن رشد.

كلمة لغوية محتاج إلى كشفها وتحقيقها، نظرها من تلك الكتب. ومن يطالع شيئاً من مؤلفات أولئك الأطباء، ويمعن النظر فيما يستعملون من أسماء الأمراض وغيرها من المعاني المتصلة بعلم الطب، يعرف أن أولئك المؤلفين كانوا على اطلاع واسع في اللغة، وبذلك أمكنهم أن يجعلوا اللغة تسير مع علم الطب جنباً لجنب. ينبئنا بهذا: أننا نجد جانباً عظيما من الألفاظ العربية غير الكثيرة الاستعمال مبثوثة في هذا العلم، ومنظومة في سلك مصطلحاته؛ ككلمة: "الحصف" للجرب اليابس، وكلمة: "الشرى" لبثور صغار حكاكة، وكلمة: "الحرصان" للحمة دقيقة لاصقة بحجاب البطن، وكلمة: "الصاخة" لورم يكون في العظم من صدمة أو كدمة (¬1)، و"القطرب" لنوع من الماليخوليا (¬2). وقف علم الطب بعد هذا في الشرق عند حد، وتناوله الغربيون من مؤلفات علمائنا، وأوسعوه بحثًا، وقطعوا فيه أشواطًا بعيدة المدى، وصارت المصطلحات العربية التي وضعت له من قبل لا تفي بما تجدد فيه من آراء ومستكشفات. ظل هذا العلم يتقدم بخطوات سريعة، ويقيت لغتنا واقفة دونه بمراحل، ولما أقبل أبناء العربية على دراسته، اضطروا إلى أن يدرسوه بلغات أجنبية، وأصبح علم الطب وهو في ديارنا يدرس بلسان غير عربي. وإذا وجد فيما سلف لغويون أطباء استطاعوا أن يسيروا بعلم الطب تحت ظلال اللغة ومقاييسها، فإن علم الطب الحديث واسع المباحث، ¬

_ (¬1) التأثير فيه بنحو حديدة. (¬2) الماليخوليا: المزاج السوداوي.

كثير الفنون، فلا يتيسر لعلماء اللغة اليوم أن يبرعوا فيه كما برع فيه كثير من اللغويين من قبل إلا بمجهود كبير، وعناية متناهية. ومن هنا شعر الناس في هذا العصر بالحاجة إلى إنشاء مجمع لغوي عربي يقوم بوضع مصطلحات العلوم؛ كي تسير اللغة الفصحى مع العلوم كتفًا لكتف. وأخذ مجمع اللغة العربية يعمل لهذه الغاية المنشودة، ووجد في ميسوره أن ينقل العلوم - وبينها علم الطب على اختلاف فنونه، وكثرة مصطلحاته - إلى العربية الفصحى. تجد في المعاجم ألفاظاً كثيرة تتصل بهذا العلم، وهذه الألفاظ إما أن تكون نصاً في المعنى الطبي؛ نحو: "مثير" بمعنى الموضع الذي تلد فيه المرأة، فلو أطلقناه على الحجرة، أو الغرفة المعدة في المستشفى للولادة، كان استعمالاً للفظ في معناه العربي من غير تصرف فيه. وأذكر بهذه المناسبة أني رأيت الطبيب أبا المؤيد محمد بن الصائغ الجزري ينهى في وصية له طبية عن أن يلتزم الإنسان في غذائه طعاماً خاصاً، فيقول: إياك تلزأ كل شيء واحد ... فتقود طبعك للأذى بزمام ووجدت لهذا المعنى بعد ذلك كلمة عربية هي: المرازمة، فقد شرحتها المعاجم بأن لا يداوم الإنسان في عيشه على طعام خاص. ويلحق بمثل هذه الألفاظ المطابقة لمعناها: أن تذكر المعاجم في بيان مفهوم اسم المرض- مثلاً - سبب المرض، كما قالت: "السواد": داء يأخذ الإنسان من كل التمر يجد منه وجعًا في كبده، فنرى أن ذكر السبب لا يجعل الاسم خاصًا بما ينشأ عن هذا السبب، فإذا ظهر من طريق علم الطب

أن هذا الداء بنفسه وأعراضه قد يحصل في الكبد من سبب آخر غير كل التمر، صح أن نطلق عليه لفظ: "السواد"، وإن لم يحدث عن كل التمر، ولا نعد هذا الإطلاق من نوع التصرف لإخراجها عن موضوعاتها اللغوية. وأنبه هنا على أن المعاجم قد تذكر للكلمة الواحدة معاني طبية متعددة، كما قالوا: "الذرب": فساد الجرح، وفساد المعدة، والمرض الذي لا يبرأ. والمجمع يتجنب في وضع مصطلحات العلوم أن يكون بينها لفظ مشترك، ويحافظ على أن يكون للاسم الواحد في العلم الواحد معنى واحد. وقد تذكر المعاجم للمعنى الطعي الواحد، - مثلاً -, أسماء متعددة توردها على أنها مترادفة، كما قالوا لما يقاس به غور الجرح: سبار، ومسبار، ومحراف، وقالوا لذلك المرض: السل، والسحاف، ولواضعي المصطلحات وجه من الحق في تخصيص كل اسم بنوع من أنواع ذلك المعنى متى تعددت أنواعه، وقد سلك المجمع هذا المسلك في طائفة من مصطلحات العلوم. وقد تشير المعاجم إلى اختلاف اللغويين في معنى الاسم، كما قال صاحب "القاموس": السلعة: خرل في العنق، أو غدة في العنق، أو زيادة في البدن كالغدة تتحرك إذا حركت. وقد جرى المجمع على أن يأخذ في مثل هذا بالقول الذي يسد حاجة العلم. ووجد المجمع في مؤلفات الأطباء فيما سلف مصطلحات محكمة الوضع، وخطته أن يحافظ على المصطلحات القديمة ما وجد لها وجهاً تدخل به في حدود العربية. ووجد في علم العربية مقاييس تساعده على أن يصوغ للمعاني التي

حدثت أو تحدث أسماء عربية، فلو اتخذ في المستوصف - مثلاً - محل خاص ينزع فيه المريض ثوبه، ووجد العرب قالوا: ثرب فلان المريض يثربه: نزع ثوبه، صح أن يسمى ذلك المحل: "مثرباً". ولم يقتصر المجمع على الأصول المعروفة بأنها مقيسة؛ نحو: الاشتقاق من المصادر أو الافعال، ونحو المجاز والنقل، بل نظر في طريق آخر سلكه العرب في وضع كعير من المفردات، وهو الاشتقاق من أسماء الأعيان كما قال العرب: جلده، ورَأَسه وبَطَنه، وصَمَخه؛ أي: أصاب جلده ورأسه، وبطنه، وصماخه، وقالوا: رمحه، وسهمه، وسافه؛ أي: أصابه بالرمح، والسهم، والسيف، ومنه: أبرته العقرب؛ أي: أصابته بإبرتها، وقالوا: لبنه وعسله ولحمه، وشحمه؛ أي: أطعمه اللبن والعسل واللحم والشحم (¬1)، وقالوا: جدر، وبارة أي: صنع الجدار والبئر. وقد قرر المجمع صحة الاشتقاق من أسماء الأعيان في مصطلحات العلوم عند الحاجة، وجرى على هذا في وضع طائفة من مصطلحات العلوم. ومن الطرق التي تتسع بها اللغة، وأخذ بها المجمع في وضع المصطلحات العملية: طريقة المصدر الصناعي، وهو المصدر الحاصل من إلحاق ياء النسب لأسماء الفاعلين والمفعولين، وغيرهما، نحو العالمية، والمعلومية، والجاذبية، والمجذوبية، وقد استعمله علماؤنا من مناطقة وفلاسفة وغيرهم في مؤلفاتهم كثيراً. ويمتاز هذا المصدر الصريح بأنه يدل على معنى الوصف من حيث ¬

_ (¬1) نص ابن مالك في كتاب "التسهيل" على أن هذه الأنواع الثلاثة مطردة، فيصح القياس عليها.

صدوره عن الفاعل، أو وقوعه على المفعول، بخلاف المصدر الصريح، فإنه لا يدل على هذه الناحية الخاصة بنفسه. ويمتاز هذا المصدر الصناعي عن المصدر الصريح من وجه آخر: هو أنه يدل على المبالغة متى كان المنسوب إليه من صيغ المبالغة، فالعلامية أبلغ من العلم، وقد رأينا الأطباء السابقين يقولون: المصحاحية، والممراضية، وهاتان الصيغتان من قبيل المصدر الصناعي، فالمصحاحية تدل على الصحة التامة؛ لأنها نسبة إلى مصحاح، وهو كثير الصحة، والممراضية تدل على المرض الشديد أو الكثير؛ لأنه نسبة إلى ممراض، وهو شديد المرض أو كثيره. وفي المصدر الصناعي سعة من جهة أخرى هي: أنا نتوصل به إلى وضع أسماء لمعان يشير إليها اسم العين، فإذ أردنا أن نتحدث عن كون الشيء إنسانًا، أو حيوانًا، أو نباتًا، أو حجراً - مثلاً - قلنا: الإنسانية والحيوانية والنباتية والحجرية. ووجد المجمع المعجمات قد تقتصر في بعض المواد على ذكر المصدر أو الفعل أو الوصف، فوضع المجمع قواعد لتكميل المادة الناقصة، مستمدًا هذه القواعد من أقوال علماء العربية، فإذا وجدنا المعجمات تقول- مثلاً - المؤتنب: من لا يشتهي الطعام، صح لنا أن نسمي علة انقطاع شهوة الطعام "ائتنابًا"، وإذا وجدنا المعجمات تقول: سنَّني هذا الشيء؛ أي: شهى إلي الطعام، صح لنا أن نزيد فيها فعيلاً، ونسمي الدواء الذي يقوي شاهية الطعام سنيناً وإذا وجدنا المعاجم تقول: القامح: الكاره للماء لأي علة، صح لنا أن نسمي علة انصراف النفس عن شرب الماء: "قماحاً".

ومن المعروف في وضع المصطلحات تفضيل اللفظ المفرد على المركب، والمجمع يحافظ على هذا القصد، فيؤثر المفرد على المركب إلا أن يكون في المركب مزية تدعو إلى اختياره، فلو أراد المجمع أن يضع لفظاً للموضع الذي يتداوى فيه بحرارة الشمس، لا أحسبه يعدل عن كلمة "المشرقة" إلى لفظ آخر مركب، فمان المشرقة موضع القعود في الشمس للتمتع بدفئها، وهذا المعنى متحقق فيما يقال له: الحمام الشمسي، ورأيت ابن سينا في "القانون" يعبر بالتضحي إلى الشمس عن التعرض للشمس بقصد التداوي. والألفاظ العربية تختلف من حيث أنسُ السمع بها، وإساغة الذوق لها، والمجمع يلاحظ هذا فيما يضعه من المصطلحات، فإذا وجد في المعجمات - مثلاً -: توحش فلان؛ أي: أخلى معدته من الطعام لشرب الدواء، آثر عليها كلمة: تحامى للدواء؛ لأن الذوق يسيغها أكثر من كلمة توحش. ومع ما أحرزته اللغة من الثروة الواسعة، والمقاييس التي يمكننا أن تتصيد بها من الأسماء ما نشاء، لم يقف المجمع وقفة الرافض لكل مصطلح علمي أجنبي، بل أبقى باب التعريب أمامه مفتوحًا، حتى إذا دعته ضرورة إلى قبول اسم غير عربي، وإلحاقه بالمصطلحات العربية الصميمة، أجاب داعي الضرورة، وله بالعرب في القديم أسوة، إذ قالوا: الترياق (¬1)، والقولنج (¬2)، والنقرس (¬3)، والكيموس (¬4)، والكلمات الأربع يونانية، وقالوا: "البرسام" لذلك ¬

_ (¬1) دواء مركب من أجزاء كثيرة، ويطلق على ماله نفع عظيم سريع. (¬2) مرض معوي. (¬3) مرض في مفاصل الكعبين، أو أصابع الرجلين. (¬4) الغذاء بعد أن تهضمه العصارة المعدية.

المرض الصدري، والكلمة فارسية. ومن ينظر في كتب الطب أيام رقيه في البلاد العربية يرى المؤلفين فيه قد يختلفون في بعض المصطلحات، فابن سينا- مثلاً - يستعمل البرسام، والشوصة، وذات الجنب على أنها أسماء مترادفة، وغيره يجعل كل واحد من هذه الأسماء اسماً لمرض مختص به (¬1). وإنما جرى مثل هذا الاختلاف بينهم؛ لأن المصطلحات في ذلك العهد لا تصدر عن مجمع أو مؤثمر ينعقد لها. والقصد من إنشاء المجمع اللغوي: توحيد المصطلحات العلمية، ودليل هذا: أن المجمع لم يؤلف من أعضاء مصريين فقط، بل ألف من أعضاء يمثلون البلاد العربية من نحو المغرب والشام والعراق. وصفوة ما كنت أقول أن الطموح إلى عزة ليس بعدها عزة، يقضي علينا بأن نعيد علم الطب وسائر العلوم والفنون إلى لغتنا العربية، وأن هذه اللغة تسع - بما آتاها الله من غزارة العلم، وحكمة المقاييس - كل ما تدركه الأبصار والعقول. ولم يبق علينا إلا أن نرجع إلى معجمات ومصطلحات علمائنا، ومقاييس لغتنا، ونتعاون على أن تكون مصطلحاتنا العلمية واحدة. ¬

_ (¬1) يخص البرسام بالمرض العارض للحجاب الذي بين الكبد والمعدة، و "الشوصة" بالورم العارض في أضلاع الخلف، و "ذات الجنب" بالورم العارض للغشاء المستبطن للأضلاع والحجاب، انظر: "كشاف مصطلحات العلوم".

حول تبيسيط قواعد النحو والصرف والرد عليها

حول تبيسيط قواعد النحو والصرف والرّد عليها (¬1) أصدر بهي الدين بركات عندما تولى وزارة المعارف في مصر قرارًا بتأليف لجنة للنظر في تبسيط قواعد النحو والصرف والبلاغة، واللجنة مؤلفة من: الدكتور طه حسين، والأساتذة أحمد أمين، وعلي الجارم، ومحمد أبي بكر إبراهيم المفتش بالوزارة، وإبراهيم مصطفى المساعد بكلية الآداب، وقد قدمت اللجنة تقريراً يشتمل على اقتراحات. وقد قام الإمام بتقديم ملاحظاته عليها. * اقتراحات اللجنة في النحو والصرف والرد عليها: * باب الإعراب: ترى اللجنة وجوب الاستغناء عن الإعراب التقديري، والإعراب المحلي؛ فإن مثل (الفتى) يعرب بحركات مقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر، ومثل (القاضي) تقدر فيه حركتا الرفع والجر، ويقال: منع من ظهورها الثقل، ومثل (غلامي) تقدر فيه الحركات الثلاث، ويقال: منع من ظهورها حركة مناسبة، وفي تقدير الحركات، وفي الإشارة إلى سبب التقدير مشقة يكلفها ¬

_ (¬1) ملاحظات الإمام محمد الخضر حسين على تقرير لجنة النظر في تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة - مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزءان الثاني والثالث من المجلد الحادي عشر- الصادران في شعبان ورمضان 1357 هـ - سبتمبر وأكتوبر 1938 م - القاهرة.

العلامات الأصلية للإعراب والعلامات الفرعية

التلميذ من غير فائدة يجنيها في ضبط كلمة، أو في تصحيح إعراب. كذلك الإعراب المحلي: فمثل (هذا هدى) - هذا: مبني على السكون في محل رفع، ومثل (يا هذا) - هذا: مبني على ضم مقدر منع منه سكون البناء الأصلي في محل نصب، وكذلك (يا سيبويه) مبني على ضم مقدر منع من ظهوره حركة البناء الأصلي في محل نصب، وهذا عناء مضاعف، وجهد يبذل لغير شيء. واللجنة ترى أن يستغنى عن الإعراب التقديري، وعن الإعراب المحلي في المفردات وفي الجمل، ويوفر على التلميذ والمعلم والعلم هذا العناء. * العلامات الأصلية للإعراب والعلامات الفرعية: جعلت بعض علامات الإعراب، أصلية ويعضها فرعية، فتنوب الحروف عن الحركات، وتنوب الحركة عن الحركة في أبواب معدودة معروفة، ويعرب (الزيدان) مرفوعاً بالألف نيابة عن الضمة، و (مسلمات) منصوباً بالكسرة نيابة عن الفتحة. ولا ترى اللجنة هذا التمييز، ولا تلك النيابة، بل تجعل كلاً في موضعه أصلاً، وتقسم الاسم المعرب إلى الأقسام الآتية: 1 - اسم تظهر فيه الحركات الثلاث، وهو أكثر الأسماء. 2 - اسم تظهر فيه الحركات الثلاث مع مدها، وهو الأسماء الخمسة. 3 - اسم تظهر فيه حركتان: ضم وفتح، وهو الممنوع من التنوين. 4 - اسم تظهر فيه حركتان: ضم وكسر، وهو الجمع بألف وتاء. 5 - اسم تظهر فيه حركة واحدة هي الفتح، وهو ما آخره ياء لينة (المنقوص).

ألقاب الإعراب والبناء

6 - اسم تظهر فيه ألف ونون أو ياء ونون، وهو المثنى. 7 - اسم تظهر فيه واو ونون، أو ياء ونون، وهو المجموع بهما. ويستغنى بهذا عن الإعراب التقديري، وعن القول بنيابة علامة عن أخرى. * ألقاب الإعراب والبناء: جعل النحاة لحركات الإعراب ألقاباً، ولحركات البناء ألقاباً. فحركات الإعراب: الرفع، والنصب، والجر، والجزم. وحركات البناء: الضم، والفتح، والكسر، والسكون. وعلى هذا، (فمحمد) مرفوع، و (قبلُ) مضموم، و (محمداً) منصوب و (الآن) مفتوح. وهذه التفرقة دعتهم إليها الدقة، بل الإفراط في الدقة، والسخاء في الاصطلاحات، ومن النحويين من لم يلتزم هذه التفرقة، واستعمل ألقاب نوع في غيره. وترى اللجنة أن يكون لكل حركة لقب واحد في الإعراب وفي البناء، وأن يكتفى بالقاب البناء. * الجملة: تتألف الجملة من جزأين أساسيين، ومن تكملة تذكر حين يحتاج إليها، وقد يستغنى عنها تبعًا لغرض المتكلم، ولما يريد أن يعرب عنه. وعلى هذا التقسيم رتبت اللجنة أبواب النحو. * تسمية الجزأين الأساسيين: كان أمام اللجنة أن تسميهما بالأسماء الآتية:

أحكام إعرابهما

أولاً: مسند إليه، ومسند كما اصطلح علماء البلاغة، وكما عبر بعض علماء النحو قديمًا منذ سيبويه. ثانياً: الموضوع، والمحمول. كما اصطلح علماء المنطق. ثالثاً: الأساس، والبناء. رابعًا: المحدث عنه، والحديث. والأخيران: اصطلاح جديد قد يكون أوضح في معناه. وقد عرضت اللجنة هذه الأسماء، ثم فضلت اصطلاح المناطقة، وهو: الموضوع والمحمول؛ لأنه أوجز، ولأنه لا يكلفنا اصطلاحاً جديداً. * أحكام إعرابهما: الموضوع: هو المحدث عنه في الجملة، وهو مضموم دائماً، إلا أن يقع بعد إنَّ أو إحدى أخواتها، والمحمول: هوالحديث، وهو الركن الثاني من ركني الجملة. أ - ويكون اسماً، فيضم، إلا إذا وقع مع كان أو إحدى أخواتها، فيفتح. ب - ويكون ظرفاً فيفتح. ج - ويكون فعلاً، أو مع حرف من حروف الإضافة، أو جملة، ويكتفى في إعرابه ببيان أنه محمول. * الترتيب بين الموضوع والمحمول: الجملة العربية مرنة في الترتيب طيعة، فلا تلزم أحد الركنين موضعاً واحداً، وقد ساعدتها تلك المرونة على أداء معان خاصة دقيقة، وإنما يغلب أن يتأخر الموضوع فيما يأتي:

المطابقة بين الموضوع والمحمول

أ - إذا كام المحمول فعلاً. ب - إذا كان الموضوع نكرة. * المطابقة بين الموضوع والمحمول: أولاً: في النوع إذا كان الموضوع مؤنثًا، كان في المحمول علامة التأنيث. ثانياً: في العدد إذا كان المحمول متأخراً، لحقته علامة العدد التي توافق الموضوع، وإذا كان متقدمًا، لم تلحقه، فيقال: الرجال قاموا، وقام الرجال. وعلامة العدد التي تلحق الفعل هي في الجمع: الواو للذكور، والنون للإناث. وفي المثنى: الألف لهما، وفي المفرد: التاء للواحدة. وتأخذ اللجنة في ذلك برأي الإمام المازني القائل: إنها علامات، لا ضمائر!! وبهذا النحو من تقسيم الجملة إلى موضوع ومحمول، واعتبار إشارات العدد علامات لا ضمائر، يسرت اللجنة الإعراب، ونائب الفاعل، وقللت الاصطلاحات، وجمعت أبواب الفاعل والمبتدأ، واسم كان واسم إن في باب الموضوع، وجمعت أبواب خبر المبتدأ، وخبر كان وخبر إن في باب واحد هو المحمول، وخففت عن المعلمين والمتعلمين بردِّ باب ظن إلى الفعل المتعدي. * متعلق الظرف وحروف الإضافة: يقسم النحاة هذا المتعلق إلى قسمين: الأول: متعلق عام؛ كمتعلق (زيد عندك، أو في الدار)، ويقدرونه (كائن، أو استقر) وهو عندهم واجب الحذف، ويعربونه هنا خبراً.

الضمير

الثاني: متعلق خاص، ولا يفهم الكلام إذا حذف؛ مثل: (أنا واثق بك)، والخبر هو المتعلق، والظرف فضلة. وترى اللجنة أن المتعلق العام لا يقدر، وأن المحمول في مثل: (زيد عندك، أو في الدار) هو الظرف، أما النوع الثاني، فهو كما قرر النحاة: المتعلق هو المحمول، والظرف تكملة، ويجيء إعرابها فيما بعد. * الضمير: من أصول اللجنة أن تلغي الضمير المستتر جوازًا أو وجوبًا، فمثل (زيد قام): الفعل هو المحمول، ولا ضمير فيه، وليس بجملة كما يعده النحاة، وهو كمثل: (قام زيد)، ومثل: (الرجال قاموا) الفعل محمول اتصلت به علامة العدد، ولا يعتبر جملة. ومثل (أقوم) و (نقوم) مما يقدر فيه الضمير مستترًا وجوبًا: الفعل محمول، والهمزة أو النون إشارة إلى الموضوع أغنت عنه، وكفى ذلك في إعرابه. الضمير المتصل البارز - منه الدال على العدد، وقد اعتبر إشارة لا ضميراً، واتبع فيه مذهب المازنى. وغير الدال على العدد؛ مثل: (قمت) أو (قمتَ)، (وقمتم): الضمير موضوع، والفعل قبله محمول. وإذا ذكر مع المتصل ضمير منفصل، فهو تقوية له؛ مثل: (قمت أنا)، و (أنا قمت). * التكملة: كل ما يذكر في الجملة غير الموضوع والمحمول فهو تكملة، وحكم التكملة أنها مفتوحة أبداً، إلا إذا كانت مضافاً إليها، أو مبسوقة بحرف إضافة. * أغراض التكملة: وتجيئ التكملة لبيان الزمان أو المكان، ولبيان العلة، ولتأكيد الفعل،

الأساليب

أو بيان نوعه، ولبيان المفعول، أو لبيان الحالة، أو النوع. وبذلك جمعنا كثيراً من الأبواب؛ كالمفاعيل، والحال، والتمييز تحت اسم واحد، وهو: التكملة، دون ان نضيع غرضاً. * الأساليب: في العربية أنواع من العبارات تعب النحاة كثيراً في إعرابها، وفي تخريجها على قواعدهم: مثل: التعجب، فله صيغتان هما: (ما أجملَ زيداً) و (أَجْمِلْ بزيد). ومعروف خلاف النحاة في إعرابها، وعناء المعلمين والمتعلمين في شرحها وفهمها. وقد رأت اللجنة أن تدرس هذه على أنها أساليب يبين معناها واستعمالها، ويقاس عليها. أما إعرابها، فسهل (ما أحسنَ): صيغة تعجب، والاسم بعدها المتعجَّب منه مفتوح، و (أحسنْ) صيغة تعجب أيضاً، والاسم بعدها مكسور مع حرف الاضافة. ومثل هذا: التحذير، والإغراء كما في (النارَ)، أو (إياك النارَ)، أو (النارَ النارَ): هو أسلوب، والاسم فيه مفتوح، والاسمان مفتوحان أيضاً، وإنما توجه العناية في درس هذه الأساليب إلى طرق الاستعمال، لا بتحليل الصيغ وفلسفة تخريجها، وقد جمعت أمثال تلك العبارات لتدرس على هذا الوجه. * ملاحظات الإمام على الاقتراحات: اطلعت على تقرير اللجنة التي ألفتها وزارة المعارف للنظر في تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة، فمررت في أثناء قراعته على عبارات يخالطها شيء من الغموض، وآراء لا يظهر لها وجه في تيسير القواعد، بل آراء أرادت اللجنة أن تستبدلها بأصول اتفق عليها النحاة، ولم يكن بجانب هذه الآراء

الاقتراحات

ما يجعلها أرجح من تلك الأصول المتفق عليها. ومن المعقول أن تيسير القواعد باختيار المذهب السهل، أو ابتكار مذهب سهل يقوم عليه الشاهد، وتؤازره الحجة، وليس من المعقول أن يلقن الناشئ رأياً في أنظمة اللغة الفصحى بدعوى أنه أيسر، حتى إذا قوي في العلم، رأى رأي الباصرة كيف يسقط هذا الرأي أمام الشاهد والدليل. وسواء علينا مست اللجنة اقتراحاتها أصلاً من أصول اللغة، أم لم تمس تلك الأصول من قريب أو بعيد فشأننا نقد هذه الاقتراحات اجابة لرغبة وزارة المعارف، وإبداء ما رأيناه فيها من وهن، أو حيدة عن الأصول الثابتة بمكانها. * الاقتراحات: تعرضت اللجنة للإعراب التقديري، والإعراب المحلي، وبعد أن ساقت أمثلة من المعتل والمضاف والمبني، وذكرت ما يقوله النحاة في إعرابها، قالت: واللجنة ترى أن يستغنى عن الإعراب التقديري، وعن الإعراب المحلي في المفردات وفي الجمل، ويوفر على التلميذ والمعلم والعلم هذا العناء. قرر النحاة الإعراب التقديري، والإعراب المحلي، ذلك أن تتبع كلام العرب دلهم على أن الكلمة إذا وقعت مسنداً إليها - مثلاً - كان حالها في الإعراب الرفع، فإذا ورد مسند إليه لم يظهر عليه حال الإعراب لعلة خاصة في ذلك اللفظ؛ كعدم قبول الحرف الأخير لحركة الضم، سلكوا به في الإعراب مسلك أمثاله من الكلم المسند إليه، وعدوه من قبيل المرفوعات، وقالوا: إن الضم مقدر؛ أي: منوي، وملاحظ. وهذا حال الجملة الواقعة موقع المفرد المعروف بنوع من الإعراب؛ كالجملة الواقعة موقع الخبر المعروف بالرفع إذ يرون أن مقتضى الرفع الظاهر

العلامات الأصلية للإعراب والعلامات الفرعية

في المفرد، وهو الخبرية، متحقق في الجملة، فيعطون المقتضى أثره الذي هو الرفع، غير أن هذا الأثر يكون ملاحظاً لا ظاهراً، وذلك معنى قولهم: إن الجملة في محل رفع. ولم يكن إجراء افراد المسند إليه في الإعراب على طريقة واحدة هو الداعي الوحيد إلى تقرير الإعراب التقديري، أو المحلي، بل دعاهم إليه داع آخر، هو ما يرد بعد المقصور والمنقوص، والمضاف والمبني؛ من نحو: النعت والعطف والتوكيد؛ فإن توابع هذه الأنواع تجري في إعرابها على الحركات التي تظهر فيها عندما تكون تابعة لاسم معرب صحيح الآخر غير مضاف، وهذا معروف في القرآن الكريم وغيره من الكلام العربي الفصيح. فإذا وقع المقصور أو المضاف أو المبني أو الجملة موقعًا يقتضي وجهاً خاصًا من الإعراب؛ كالفاعلية والخبرية، ثم تلاه تابم قد ظهر فيه هذا الوجه الخاص، وهو الضم، أفلا يكفي هذا دليلاً على أن الوجه نفسه ملاحظ في المقصور وما عطف عليه من الألفاظ التي لا يظهر فيها أثر الإعراب؛ وإذا اقتضى حال البادئ ألا يتعرض في تعليمه للإعراب التقديري، والإعراب المحلي، فإن عقدة التوابع لما لا يظهر فيه الإعراب، لا تنحل إلا بمراعاتهما، فليس في الاستغناء عنهما توفير لعنائهما على العلم كما تقول اللجنة. * العلامات الأصلية للإعراب والعلامات الفرعية: خالفت اللجنة النحاة في أن يكون للإعراب علامات أصلية وعلامات فرعية تنوب عنها، وقالت: "لا ترى اللجنة هذا التمييز، ولا تلك النيابة، بل تجعل كلاً في موضعه أصلاً"، ثم قسمت الاسم المعرب إلى سبعة أقسام، وأشارت بلى إعراب الأسماء الخمسة، فقالت: "اسم تظهر فيه الحركات الثلاث

مع مدها، وهي الأسماء الخمسة"، وأشارت إلى إعراب المثنى والجمع، فقالت: "اسم تظهر فيه ألف ونون، او ياء ونون، وهو المثنى، واسم تظهر فيه واو ونون، أو ياء ونون، وهو المجموع بهما". يقول النحاة: الأصل في الإعراب أن يكون بالحركات، ويكون بالرفع والضم، والنصب والفتح، والجر والكسر، ذلك أن الحركة أخف من الحرف، ثم هي أبين في الدلالة على المعنى المقصود بالإعراب؛ لظهور زيادتها على بنية كاملة، وعدم تدخلها في الدلالة على مفهومها، بخلاف الحرف؛ كألف المثنى، وواو الجماعة؛ فإن لها دخلاً في الدلالة على مفهوم الكلمة؛ إذ بسقوطها يختل المفهوم، والعلامة التي تختص بالدلالة على معنى لا تتعداه إلى غيره أقوى من علامة تشعر به مع دلالتها على شيء آخر. ثم إن الرفع بالضم، والنصب بالفتح، والجر بالكسر، هي إعراب أكثر الألفاظ الدائرة في الكلام العربي، فلم يخرج عن الرفع بالضمة شيء مما يعرب بالحركات، ولم يخرج عن النصب بالفتح سوى جمع المؤنث السالم، ولم يخرج عن الجر بالكسر سوى الممنوع من الصرف. ولكون الإعراب بالحروف، والنصب بالكسر، والجر بالفتح على خلاف الأصل، ترى العرب يرجعون إلى الأصل المشار إليه في كثير من الأحوال؛ كالمجرور بالفتح "ما لا ينصرف" يرجعون به إلى الأصل في حال الإضافة، وحال اتصاله بأداة التعريف، والأسماء الخمسة يرجعون بها إلى الأصل إذا جردت عن الإضافة، أو أضيفت إلى ياء المتكلم، و "كلا وكلتا" يرجعون بهما إلى الأصل إذا أضيفا إلى اسم ظاهر. وفي بعض ما خرج عن الأصل لغات تجري على الأصل؛ كالأسماء

ألقاب الإعراب والبناء

الخمسة، ولو في حال إضافتها إلى غير ياء المتكلم، ورجعوا بما لا ينصرف إلى الأصل لداعي ضرورة أو تناسب، وورد في هذا كثير من أشعارهم، وحكى قوم أن صرف ما لا ينصرف مطلقاً لغة قوم. وفي بعض ما خرج عن الأصل أقوال تجيز إعادته إلى الأصل، كما أجاز الكوفيون نصب جمع المؤنث السالم بالفتح على الأصل. ومجمل القول: أن الوجوه التي دعت علماء العربية إلى تقسيم علامات الإعراب إلى أصلية وفرعية وجوه لا يستهان بها، ومن هنا نشأ بحثهم عن أسباب عدول العرب في بعض أنواع الكلم عن تلك الأصول إلى غيرها. وفي إعراب الأسماء الخمسة مذاهب اختارت اللجنة منها أنها معربة بالحركات الظاهرة، والواو والألف والياء حروف مد د"إشباع"، وهو مذهب المازني، وإذا ذهب المازني إلى هذا الوجه، مع ما فيه من دعوى الإشباع الذي يعد من الأحوال الشاذة في الكلام العربي، فلأن الحركات عنده هي العلامات الأصول، فلا يعدل في الإعراب إلى الحروف إلا حيث يتعذر تخريجه على الأصول، أما اللجنة، فإنها ترى الواو والألف والياء علامات أصول، فما الذي دعاها إلى العدول عن أصول لا شذوذ معها، إلى أصول يصحبها شذوذ؟ * ألقاب الإعراب والبناء: ذكرت اللجنة أن النحاة جعلوا لحركات الأعراب ألقاباً هي: الرفع والنصب والجر والجزم، ولحركات البناء ألقاباً هي: الضم والفتح والكسر والسكون، ثم قالت: "ومن النحويين من يلتزم هذه التفرقة، واستعمل ألقاب نوع في غيره، وترى اللجنة أن يكون لكل حركة لقب واحد في الإعراب

والبناء، وأن يكتفى بألقاب البناء". للرفع والنصب والجر والجزم في اصطلاح النحويين وجهان تستعمل ألقاباً لما تحدثه العوامل في آخر الكلمة من حركات وسكون وما ناب عنهما، فالضمة بمقتضى هذا الاصطلاخ رفع، والواو رفع، وهكذا سائرها تطلق على الحكم الذي يحدثه العامل، والضمة والواو وغيرها من العلامات دالة عليه، وكل من الاصطلاحين يجري عليه الإعراب في انتظام، أما اللجنة، فقد أحدثت لنفسها اصطلاحا هو استعمال الضم والفتح والكسر ألقاباً للإعراب والبناء، مع إلغاء ألقاب الرفع والنصب والجر، فلم تنتظم عباراتها في الحديث عن حال الإعراب، ذلك أن الاسم المعرب لا يوصف على مقتضى اصطلاحها بالرفع ولا النصب ولا الجر، وإنما يقال في إعرابه: مضموم ومفتوح ومكسور، وهذا يستقيم في نحو المفرد، وأما المثنى والجمع، كالفاعل في نحو: جاء الزيدان، أو الزيدون، فإنه لا يقال فيه: مرفوع؛ لأن اللجنة ألغت الرفع، ولا يقال: مضموم؛ لأنها لما قسمت علامات الإعراب، بنت تقسيمها على حسب ما يظهر في آخر الاسم، فجعلت من المعربات ما تظهر فيه الحركة؛ كالاسم المفرد، ومنها ما تظهر فيه ألف ونون، وهو المثنى، أو واو ونون، وهو الجمع، قالت هذا، وصرحت بأن كلاً من الألف والواو أصل في الإعراب، وأنكرت أن يقال: إنهما نائبان عن الضم. ولا ندري ماذا تقول اللجنة في وجه ضم التابع المعرب بالحركات إذا كان متبوعه معربًا بالحروف؛ نحو: جاء الزيدون كلُّهم؛ فإن الفاعل في هذا المثال بمقتضى اصطلاح اللجنة ليس بمرفوع ولا مضموم، ففي أي شيء تبع هذا التأكيد المضموم ذلك الاسم المؤكد، وهو غير مضموم؟ أما النحاة، فإعرابهم للمثال منتظم؛ فإن التابع والمتبوع يشتركان في الرفع على كلا الوجهين من اصطلاحهم، فالرفع على

تسمية الجزأيين الأساسيين للجملة

الوجه الأول لقب يتناول النوعين: الضم، والواو، وهو على الوجه الثاني: حكم، والضم والواو يدلان عليه. * تسمية الجزأيين الأساسيين للجملة: ذكرت اللجنة اصطلاح أرباب العلوم في تسمية الجزأين الأساسيين للجملة، وقالت: "وقد عرضت اللجنة الأسماء، ثم فضلت اصطلاخ المناطقة، وهو: الموضوع والمحمول؛ لأنه أوجز، ولأنه لا يكلفنا اصطلاحاً جديداً". نظر النحاة إلى ما يسميه المناطقة موضوعاً، فوجدوا محموله إما اسماً، أو جملة اسمية، أو فعلية، وإما فعلاً أو وصفاً متقدماً عليه، ووجدوا هذين النوعين يختلفان في أحكام شتى، فرأوا أن اختلافهما في الأحكام يناسب أن يكون لكل منهما باب يجمع مباحثه، واسم يمتاز به، فسموا الأول: مبتدأ، والثاني: فاعلاً، ووضعوا لكل منهما باباً خاصاً. وإذا كان للجزء الأول اسم واحد عند المناطقة هو الموضوع، واسم واحد عند البيانيين هو المسند إليه، فلأن أنواعه لا تختلف بالنظر إلى الأحوال المبحوث عنها في ذينك العلمين اختلافاً يقتضي تقسيماً مثل التقسيم الواقع في علم النحو. * أحكام إعرابها: قالت اللجنة: "الموضوع هو: المحدث عنه في الجملة، وهو مضموم دائماً، إلا أن يقع بعد إنَّ أو إحدى أخواتها. صرحت اللجنة قبل هذا بأن الألف في المثنى، والواو في الجمع كلّ منهما أصل في الإعراب، وخالفت النحاة في قولهم: إن الضم أصل، والألف والواو نائبان عنه، فكان على اللجنة إذ حكمت على الموضوع بالضم الدائم

المطابقة بين المحمول والموضوع

أن تستثني المثنى والجمع؛ لأنهما لا يظهر في آخرهما ضم، ولا شيء ينوب عن الضم. وتحدثت اللجنة عن إعراب المحمول ذاكرة له ثلاثة أقسام، فقالت: فيكون اسماً، فيضم، إلا إذا وقع مع كان أو إحدى أخواتها، ويكون ظرفاً، فيفتح، ويكون فعلاً، أو مع حرف من حروف الإضافة، أو جملة، ويكتفى في إعرابه ببيان أنه محمول". كان على اللجنة ان تحافظ على اصطلاحها السابق؛ من أن الألف في المثنى، والواو في الجمع علامتان أصليتان، فتقول: فيضم، أو يظهر في آخره ألف ونون، أو واو ونون، واكتفاء اللجنة في إعراب المحمول الواقع فعلاً أو جملة ببيان أنه محمول مبني على إلغائها للإعراب المحلي، وقد أريناك أن الجملة الواقعة موقع المفرد لا تستغني عن الإعراب المحلي؛ إذ عليه يقوم إعراب تابعها؛ نحو: (زيد أبوه كريم، وعالم أخوه)، ولم يجر - فيما نعلم - خلاف بين النحاة في فصاحة هذا الأسلوب، أما اكتفاؤها في إعراب المحمول المصاحب لحرف الإضافة ببيان أنه محمول، فمبني على ما ذهبت إليه اللجنة من عدم تقدير المتعلق العام، وجعل الجار والمجرور نفس المحمول، وسننبه على مكان هذا المذهب من الضعف، والحق أن الجار والمجرور الواقعين بمكان الخبر متى صرف النظر عن متعلقهما، أخذا حكم الخبر، وكانا بمحل رفع، ووردت التوابع بعدهما على رعاية هذا المحل؛ كأن تقول (زيد في الدار أو مسافر). * المطابقة بين المحمول والموضوع: قالت اللجنة: "وعلامة العدد التي تلحق الفعل هي في الجمع: الواو

للذكور، والنون للاناث، وفي المثنى: الألف لهما، وفي المفرد: التاء للواحدة، وتأخذ اللجنة في ذلك برأي الإمام المازني القائل: إنها علامات لا ضمائر". يقول جمهور النحاة: إن الواو في نحو: الزيدون قاموا، والنون في نحو: الهندات قمن، والألف في نحو: الزيدان قاما، هي ضمائر، وهي المسند إليها الفعل، ويقول المازني: "هي علامات، وفي الأفعال ضمائر مستكنة هي المسند إليها الفعل"، أما اللجنة، فتراها علامات كما يراها المازني، ولكنها ترى الأفعال خالية من ضمائر على ما تصرح به بعد من إلغائها للضمائر المستترة. فرأي اللجنة في إعراب الأفعال التي تلحقها الواو والنون والألف لا يطابق مذهب المازني من كل وجه، ولهذا نجد رأيها قد يترلزل أمام نقد يثبت أمامه مذهب المازني. ماذا تقول اللجنة حين تُسأل عن الموضوع في مثل قوله تعالى: "فسجدوا" من آية: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة: 34]؟ وعن الموضوع في مثل: جفوني من قول الشاعر: جفوني ولم أجف الأخلاء إنني ... لغير جميل من خليلي مهمل وعن الموضوع في مثل: "هوينني" من قول الشاعر: هوينني وهويت الغانيات إلى ... أن شبت فانصرفت عنهن آمالي لا يستقيم لها أن تقول: الموضوع في الآية لفظ: الملائكة، وفي البيت الأول لفظ: الأخلاء، وفي البيت الثاني: الغانيات، كما قالت: الموضوع في نحو: الزيدون قاموا، والهندات قمن، والزيدان قاما: هذا الاسم الظاهر؛

متعلق الظروف وحرف الإضافة

لأن لفظ الملائكة مكسور، ولفظ الأخلاء مفتوح، ولفظ الغانيات ظاهرة في آخره كسرة، والموضوع - على ما تقول اللجنة - مضموم دائماً. ولا يشكل علينا إعراب هذه الأسئلة على مذهب المازني؛ لأنه يقول: المسند إليه هو الضمير المستتر، والواو والنون من قبيل العلامات المشيرة إلى العدد. * متعلق الظروف وحرف الإضافة: ذكرت اللجنة ما يقول النحاة في متعلق الظروف وحروف الإضافة، وتقسيمهم له إلى: متعلق عام، ومتعلق خاص، ثم قالت: "وترى اللجنة أن المتعلق العام لا يقدر، وأن المحمول في مثل: زيد عندك، وفي الدار، هو الظرف". لاحظ النحاة أن الجملة ذات المبتدأ والخبر المفرد لا يستقيم معناها إلا على معنى أن هذا المحمول عين الموضوع؛ نحو: زيدٌ إنسان، أو قائم، فإذا ورد بعد المبتدأ ظرف؛ نحو: زيد: أمامك، فالظرف من قبيل الاسم الجامد، ولا يستقيم معنى الجملة على أن هذا الخبر هو عين المبتدأ؛ إذ الظرف الذي هو المكان ليس عين زيد، ولما كانت حكمة العرب تأبى لهم أن يخبروا بجامد عن جامد ليس عينه، وثق النحاة بأن العرب لابد أن يكونوا قد لاحظوا عند النطق بهذا الترتيب كلمة أخرى يصح حملها على المبتدأ، وحذفوها على عادتهم في حذف ما تشير القرائن إلى مكانه، والتركيب ينساق بسامعه إلى معنى أن زيداً موجود وكائن أمام المخاطب، فقالوا: إن المحمول هو هذا اللفظ الملاحظ في نظم الكلام، والظرف قيد له. ولاحظ النحاة أيضاً أن حروف الإضافة وضعت لتربط بين الأسماء والأفعال، وأنه لا يتحقق معنى حرف الإضافة في الجملة إلا إذا تعلق بفعل،

الضمير

أو ما يقوم مقامه في الدلالة على الحدث، فإذا جاءتهم جملة تشتمل على حرف الإضافة، وليس هناك فعل، أو ما يشبهه؛ نحو: زيد في الدار، ذكروا قاعدة وضع حروف الإضافة، وما تجري عليه في الاستعمال، وعرفوا بذلك أن العرب لا يستعملون حرف الإضافة دون أن يكون له متعلق من العقل أو نحوه، فوثقوا من أن في الجملة متعلقاً لحرف الإضافة ملاحظًا في نظم الجملة، وأول ما ينساق إليه ذهن سامع الجملة هو معنى موجود وكائن، فإذا قال النحاة: إن لحرف الإضافة في نحو: زيد في الدار متعلقاً منويًا هو من معنى الكون العام، فقد جروا في إعراب الكلام على ما تقتضيه قاعدة وضع الحروف، ونبهوا على لفظ لا يظهر معنى الجملة في صورته الجلية إلا بملاحظته. هذا وقد جرى بعض النحاة على ظاهر حال الجملة، وقالوا كما قالت اللجنة: إن الظرف والجار والمجرور هو الخبر، ولا حاجة إلى تقدير متعلق، غير أن هؤلاء يخالفون اللجنة بقولهم: إن الضمير الذي كان في المتعلق انتقل إلى الظرف والجار والمجرور، وصار ملاحظًا معه، ولم يبق للمتعلق حظ من الإعراب، واللجنة التي تنكر الضمير المستتر في: زيد قام، لا تسيغ أن يكون في الظرف والجار والمجرور هذا الضمير. وورد في الشواهد العربية الصحيحة نحو: "فإن فؤادي عندك الدهرَ أجمعُ"، وهذه الطائفة من النحويين يقولون: إن أجمع توكيد للضمير الملاحظ في الظرف، وماذا ترى اللجنة في وجه ضم أجمع، ولم يسبقه على مقتضى رأيهم مؤكد مضموم؟ * الضمير: قالت اللجنة: "من أصول اللجنة أن تلغي الضمير المستتر جوازاً أو وجوباً، فمثل: زيد قام، الفعل هو المحمول، ولا ضمير فيه، وليس بجملة

كما يعده النحاة، وهو كمثل: قام زيد". أنكرت اللجنة الضمير المستتر جوازاً ووجوباً، ووجه ما يقوله النحاة: أنهم وجدوا في بعض الجمل أفعالاً لم يذكر معها اسم ظاهر، ولا ضمير بارز يصلح لأن يكون فاعلاً (موضوعاً) لها. فقالوا: إن الفاعل ضمير مستتر؛ أي: ملاحظ في ذهن المتكلم عند إلقاء الجملة، ولم يذكره استغناء عنه بالقرينة المشيرة إليه، فنحو "كتب" من قولك: أمرت زيداً بالكتابة، فكتب، فعل لم يذكر معه اسم ظاهر، ولا ضمير بارز يصلح لأن يكون فاعلاً له، ولكل فعل فاعل، فالنحاة يقولون: إن الفاعل ضمير مستتر يعود على زيد، والقرينة تقدم الأمر له بالكتابة، وإذا أرادوا التنبيه لهذا الضمير الذي أسند إليه الفعل، دلوا عليه بلفظ الضمير المنفصل، فقالوا: "هو". ليس بمعقول أن تقول اللجنة: إن لفظ: كتب في المثال مسند إلى زيد المتقدم. وهو مفتوح على أنه مفعول به تكملة؛ فإنه سبق لها أن قالت: "والموضوع مضموم دائماً". ومما يساعد النحاة على تقدير الضمير مع الفعل الذي لم يذكر بعده اسم ظاهر، ولا ضمير بارز: أنهم وجدوا بعض العرب قد أتوا بعد الفعل بمعطوف لا يستقيم عطفه إلا على ضمير ملاحظ في الفعل؛ نحو قول جرير: ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه ... مالم يكن وأبٌ له قد نالا فإن قوله: "وأب له" لا يستقيم عطفه إلا على الضمير المستكن في قوله: لم "يكن". ومن هذا قول عمر بن أبي ربيعة:

قلت إذ أقبلت وزهر تهادى ... كنعاج الفلا تعسفن رملا فإن قوله: "زهر" معطوف كذلك على الضمير المستتر في قوله: "أقبلت". وقد اتفق علماء العربية فيما نعلم على أن نحو: "رأيت الذي سافر يوم الجمعة وزيد" أسلوب عربي فصيح. وقالت اللجنة: "ومثل: أقومُ، ونقوم؛ مما يقدر فيه الضمير مستتراً وجوباً الفعل محمول، والهمزة أو النون إشارة إلى الموضوع أغنت عنه، وكفى ذلك في إعرابه". يقول النحاة في الأفعال المشار إليها في هذه العبارة: الفاعل ضمير مستتر وجوباً، وتقول اللجنة: "والموضوع أشارت إليه الهمزة والنون، فأغنت فيه"، وقد ظنت اللجنة أنها يسرت بهذا الصنع قاعدة من قواعد النحو، ولا أظنها فعلت؛ إذ معنى الإشارة إلى الموضوع لا يقل عن قول النحاة: إن الموضوع مستتر؛ أي: ملاحظ في نفس المتكلم، والنحاة يفسرون الضمير المستتر بالضمير المنفصل. فيقولون: تقديره: أنت، أو نحن، ولا ندري ماذا يكون جواب اللجنة لو طلب منها بيان هذا الموضوع الذي أشارت إليه الهمزة أو النون، ولعلها تضطر فتذكر هذه الضمائر التي يذكرها النحاة، وإذا استطاع التلميذ أن يفهم إعراب جملة مركبة من فعل وحرف يشير إلى الموضوع، لم يعسر عليه أن يفهم إعراب جملة مركبة من فعل وضمير مشار إليه بحرف، ولم تحدثنا اللجنة عن الحرف الذي يشير إلى الموضوع في فعل الأمر نحو: "اكتب"، وفي اسم الفعل نحو: صَهْ، وأُفّ. وقالت اللجنة: "الضمير المتصل البارز منه الدال على العدد، وقد اعتبر إشارة لا ضميراً، واتبع فيه مذهب المازني. وغير الدال على العدد مثل:

التكملة

"قمت، أو قمتم" الضمير موضوع، والفعل قبله محمول، وإذا ذكر مع المتصل ضمير منفصل، فهو تقوية له مثل: قمت أنا وأنا قمت". نبهنا فيما سلف على الفرق بين رأي اللجنة ومذهب المازني في نحو: "الزيدان يقومان، والزيدون يقومون، والنسوة يقمن"، وقول اللجنة هنا: وإذا ذكر مع المتصل ضمير منفصل، فهو تقوية له، عبارة غير واضحة؛ لأن موضوع بحثها الإعراب، ومقتضى موضوع البحث أن تريد من التقوية التوكيد المعروف في علم النحو، وهذا ظاهر في مثل: "قمت أنا"، أما نحو: "أنا قمت"، فالضمير المنفصل لا يدخل في باب التوكيد المعدود من التوابع، وإنما هو مبتدأ أخبر عنه بجملة، وحصل توكيد النسبة من تكرر الإسناد؛ لأن فعل القيام أسند إلى الضمير المتصل على وجه الفاعلية، وأسند إلى الضمير المنفصل في ضمن الجملة على وجه الخبرية. فإذا كانت اللجنة تريد أن تخالف النحاة فيما قرروه من وجوب تأخير التأكيد عن المؤكد، فلتكن عباراتها أوضح مما كتبت، حتى يكون للناقد رأي في هذه المخالفة. * التكملة: اختارت اللجنة أن تسمي كل ما عدا الموضوع، والمحصول: تكملة، ثم قسمت التكملة بالنظر إلى أغراضهما إلى تكملة لبيان الزمان أو المكان: "المفعول فيه"، ولبيان العلة: "المفعول المطلق"، ولبيان المفعول: "المفعول به"، أو لبيان "الحال"، أو لبيان النوع: "التمييز"، ثم قالت اللجنة: وبذلك جمعنا كثيراً من الأبواب؛ كالمفاعيل، والحال، والتمييز تحت اسم واحد هو: التكملة دون أن نضيع غرضاً.

الأساليب

إذا كان الناشئ يلقن أغراض التكملة، وكان إعراب التكملة يستدعي ذكر الغرض منها، فإن اللجنة لم تأت بشيء سوى أنها استبدلت بالمصطلحات النحوية كلمات ليست بأوجز منها، ففي نحو: جاء زيد راكباً يقول النحاة: راكباً حال. وتقول اللجنة: راكباً تكملة لبيان الحالة، وفي نحو: عندي عشرون كتاباً يقول النحاة: كتاباً تمييز، وتقول اللجنة: كتاباً تكملة لبيان النوع، فالذي نرى أن المصطلحات النحوية تشعر بالأغراض مع الإيجاز، فلا داعي إلى أن نستبدل بها مصطلحات أخرى. * الأساليب: قالت اللجنة: إن النحاة تعبوا كثيراً في إعراب أنواع من العبارات، وفي تخريجها على قواعدهم؛ مثل: التعجب، ثم قالت: "وقد رأت اللجنة أن تدرس هذه على أنها أساليب يبين معناها، واستعمالها، ويقاس عليها، أما إعرابها، فسهل "ما أحسن": صيغة تعجب، والاسم بعدها المتعجبُ منه مفتوح "وأحسنْ": صيغة تعجب، والاسم بعدها مكسور مع حرف الإضافة". صيغة التعجب يكثر دورانها في كلام العرب، وتتعلق بها أحكام خاصة، ولذلك عقد لها النحاة في كتبهم باباً قائماً بنفسه، وما ذكرته اللجنة لا يكفي في إعراب هذه الصيغة، بل هو إهمال لإعرابها؛ إذ أقل ما يجب في إعراب الجملة أن يبين فيها الموضوع والمحمول، وإعراب جملة التعجب على الوجه الذي ذكرته اللجنة لم يبين فيه الموضوع، ولا المحمول، وإذا كان النحاة قد تعبوا كثيراً في إعرابها، وتخريجها على قواعدهم، فمن السهل على اللجنة أن تختار وجهاً من الوجوه التي تعبوا فيها، وتقتصر عليه في إعراب الجملة، وإذا بدا للجنة أن النحاة لم يصيبوا في تخريج صيغة التعجب على

قواعدهم، أو أن قواعدهم التي خرجوا عليها الصيغة غير صحيحة، أو غير ميسرة، فلتورد على وجه الاجتهاد تخريجا غير تخريجهم، ووجهًا من الإعراب أيسر من وجوههم. وقالت اللجنة: "ومثل هذا التحذير والإغراء؛ كما في: النارَ، أو إياك والنارَ، أو النارَ النارَ، وهو أسلوب، والاسم منه مفتوح، والاسمان مفتوحان أيضاً، وإنما توجه اللجنة العناية في درس هذه الأساليب إلى طرق الاستعمال، لا بتحليل الصيغ وفلسفة تخريجها". إذا قيل للتلميذ في درس النحو: إن النار "في نحو النارَ النارَ"، وأخاك في نحو "أخاك أخاك" مفتوح، يذهب ذهنه، وإن لم يكن نبيها، إلى أن هذه الكلمات تكملات من تكملات الجملة، ويتشوف لمعرفة ركني الجملة: "الموضوع، والمحمول"، فماذا يكون جواب المعلم له؟ "أيقول له: هذه صيغة لا محمول لها"، ولا موضوع، أو يقول له: لها موضوع ومحمول لا حاجة بك إلى معرفتهما؟ ثم إن درس أسلوب التحذير والإغراء يستدعي بيان معنى الصيغة، وإذ استبان معناها، كان من أسهل ما يلقنه التلميذ أن هذه الأسماء المفتوحة تكملات لفعل وفاعل: "موضوع، ومحمول" جرت العرب على حذفهما؛ لقيام ما يدل عليهما. ولا أظن اللجنة تريد من مثل هذا الاختصار البالغ في الإعراب صرف المعربين عن حديث تقدير مفرد أو جملة في الكلام، ولو في مثل هذه الصيغ التي لا يجد التلميذ في معرفة الفعل والفاعل المقدرين فيها أدنى صعوبة. هذا ما أردت تقديمه لوزارة المعارف، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

الإمتاع بما يتوقف تأنيثه على السماع

الإمتاع (¬1) بما يتوقف تأنيثه على السماع الحمد لله العلي الأعلى، والصلاة والسلام على مرشد الأمم إلى الطريقة المثلى، والرضا عن آله الأبرار، وصحبه الأخيار. أما بعد: فهذه رسالة في الألفاظ المؤنثة سماعاً، جمعتها مرتبة على حروف المعجم؛ لتكون تذكرة لي ولمن شاء أن يذكر بها من الكتاب والأدباء بعدي. وقد أخذت فيها على القلم أن يستشهد على كل كلمة بنص إمام من أئمة اللغة، وستجد فيها ما ينبهك على أن الشيخ ابن الحاجب وغيره قد أوردوا كلمات فيما يجب تأنيثه، والتحقيق أنها مما يجوز فيها التذكير والتانيث، وإليك ما تقصيت أثره ووقعت عليه يدي من هذه الاسماء. حرف الهمزة (الإبْطُ): هو باطن المنكب، وتكسر الباء، قد يؤنث. "قاموس". وقال ابن جني: يذكر ويؤنث، وتذكيره أجود. قال أبو حاتم: سألت بعض فصحاء ¬

_ (¬1) بحث نشره الإمام في رسالة صغيرة مطبوعة. ونشر في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السادس من المجلد الثاني عشر الصادر في ذي الحجة 1358 - يناير 1940. والجزء الأول من المجلد الثالث عشر- الصادر في رجب 1359 - أغسطس 1940 - القاهرة.

العرب عن تأنيث الإبط، فأنكره أشد الإنكار، فقلت: إنه حكي لنا أن بعض العرب قال: وقع السوط حتى برقت إبطه، فقال: ليس هذا من العربية، إنما هو: حتى وضح إبطه. "المخصص". (الإبْهَامُ): أكبر الأصابع، وقد تذكر. "قاموس". وقال ابن جني: الإبهام يؤنث، وتذكيره لغة لبني أسد. (الأذُنُ): الأُذن- بالضم - وبضمتين معروفة مؤنثة. "قاموس". وفي "لسان العرب": وأذن كل شيء: مقبضه؛ كأذن الكوز والدلو على التشبيه، وكله مؤنث. (الأَرْنَبُ): عدها ابن الحاجب فيما يجب تأنيثه، وعده صاحب "المكمل" فيما يؤنث. وظاهر عبارة المبرد في "الكامل" أنه يؤنث إذا قصد به أنثى ويذكر إذا أريد به ذكر، قال: إن العقاب يقع على الذكر والأنثى، وانما ميز باسم الإشارة كالأرنب. (أَرْوَى): هي جمع، أو اسم لأروية، وهي الأنثى من الوعول، عدها صاحب "المكمل" فيما يؤنث. وفي "اللسان": والأروى مؤنث. (الأزْيَبُ): السرعة والنشاط مؤنث، يقال مرَّ فلان وله أزيب منكرةٌ: إذا مر مرًا سريعًا من النشاط. "لسان العرب". (الإزَارُ): الملحفة، ويؤنث. "قاموس". والإزار: الملحفة، يذكر ويؤنث عن اللحياني. "لسان العرب". وقال ابن سيده: وقول أبي ذؤيب "وقد علقت دم القتيل إزارها" يجوز أن يكون على لغة من أنث الإزار. (الاسْتُ): عده ابن الحاجب فيما يجب تأنيثه. وأورده صاحب "المكمل في شرح المفصل" في قبيل المؤنث السماعي.

(الإصْبَعُ) أشار صاحب "القاموس" إلى وجهي التأنيث والتذكير بقوله: وقد تذكر. وقال ابن فارس: الأجود في أصبع الإنسان التأنيث. وقال الصاغاني: يذكر ويؤنث، والغالب التأنيث. (الأشْفى): المثقب والسراد يخرز به، ويؤنث. "قاموس". (الأَضْحَى): جمع أضحاة، وهي الذبيحة يذكر ويؤنث. ومن ذَكَّر، ذهب بها إلى اليوم. "لسان العرب"، و"أدب الكاتب" لابن قتيبة. (الأَفعى) ذكرها ابن الحاجب فيما يجب تأنيثه، وكذلك أوردها صاحب "المكمل" في حساب ما يؤنث. (الألفُ) الألف من العدد مذكر، ولو أنث باعتبار الدراهم، لجاز. "قاموس". وقال ابن جني: الألف من العدد مذكر، فإن أنث، فإنها يذهب بها إلى الدراهم. (الآلُ): هو السراب، أو خاص بما في أول النهار، ويؤنث. "قاموس". وقال ابن جني: الآل الذي يشبه السراب مذكر، وتأنيثه لغة. حرف الباء (بَشَرٌ) أورده صاحب "المكمل" فيما يؤنث ويذكر، ومعناه أنه يقع على الأنثى والذكر، ولكن يقال: هي بشر، وهو بشر؛ كما في "لسان العرب". (البطن) خلاف الظهر مذكر. "قاموس". ومثله في "لسان العرب"، ثم قال: وحكى أبو عبيدة أن تأنيثه لغة. (البلد) بلد يذكر ويؤنث. "مصباح". قال سيبويه: هذه الدار نعمت البلد، فأنث حيث كان الدار. "لسان العرب". (البنصر) البنصر مؤنثة. "قاموس". ومثله في "اللسان".

(البِيرُ) هي أنثى. قاموس. ومثله في (اللسان". حرف التاء (تمر) يذكر ويؤنث. "المكمل في شرح المفصل". حرف الثاء (الثدي) أشار صاحب "القاموس" إلى وجه التأنيث بقوله: ويؤنث. وقال النووي في "شرح مسلم": الثدي مذكر، وقد يؤنث في لغة. وفي "المحكم": الثدي معروف يذكر ويؤنث. (ثعلب) عدها ابن الحاجب فيما يجب تأنيثه. حرف الجيم (الجحيم) عده ابن قتيبة وابن الحاجب فيما يؤنث. وقال ابن جني. الجحيم من بين أسماء جهنم مذكر، وسائر أسمائها مؤنث. (الجَزُور) يقع على الذكر والأنثى، وهو يؤنث؛ لأن اللفظة مؤنثة، تقول: هذه الجزور، وإن أردت ذكرًا. "لسان العرب". (الجِعَارُ) حبل يشد به المستقي وسطه إذا نزل في البئر لئلا يقع فيها. عده صاحب "المكمل في شرح المفصل" مما يؤنث. (الجناح) عده صاحب (المكمل في شرح المفصل" فيما يؤنث. وقال صاحب "اللسان": جمع الجناح أجنحة، وأجنح، حكم الأخيرة ابن جني، وقال: كسروا الجناح وهو مذكر على أفعل، وهو من تكسير المؤنث؛ لأنهم ذهبوا بالتأنيث إلى الريشة. (الجن) عده صاحبا "المكمل" في جملة ما يؤنث. وفي "اللسان": قوله:

"لا ينفخ التقريب منه إلا بهرا ... إذا عرته جنه وأبطرا" قد يجوز أن يكون جنون مرحه، وقد يكون الجن هنا هذا النوع المستتر عن العيون؛ أي: كان الجن تستحثه. ويقويه قوله: عرته؛ لأن جن المرح لا يؤنث، إنما هو كجنونه. (جهنم) اسم لنار الآخرة منع من الصرف للتعريف والتأنيث. "لسان العرب". (الجام) عده صاحب "المكمل" فيما يؤنث، وقال صاحب "اللسان": ابن بري: الجام جمع جامة، وتصغيره جويمة، وهي مؤنثة؛ أعني: الجام. (جيأل): الضبع: قال ابن بري: جيال غير مصروف للتأنيث والتعريف. "لسان العرب". حرت الحاء (الحانوت) يذكر ويؤنث. التبريزي في شرح معلقة طرفة. وقال ابن جني، والزجاج: هي مؤنثة، فإن ذكرت، فانما يعني بها البيت. (الحدثان) قال الأزهري: ربما أنثت العرب الحدثان، يذهبون به إلى الحوادث. وقال الفراء: يقول العرب: أهلكتنا الحدثان. "لسان العرب". (الحَدُور) يقال: وقعنا في حدور منكرة، وهي الهبوط: "لسان العرب". (الحرب) الحرب أنثى، وحكى ابن الأعرابي فيها التذكير، والأعرف تأنيثها، وإنما حكاية ابن الأعرابي نادرة. "لسان العرب". (حَلاقِ) بنيت على الكسر لأنه حاصل فيها العدل والتأنيث والصفة الغالبة. "لسان العرب". ويريد بالعدل: أنها معدولة عن الحالقة. (الحال) كينة الإنسان، وهو ما كان عليه من خير أو شر، يذكر ويؤنث،

اللحياني: يقال: حال فلان حسنة، وحسن، والواحدة حالة، يقال: هو بحالة سوء، فمن ذكر الحال، جمعه أحوالاً، ومن أنثها، جمعه حالات. "لسان العرب". (الحمَّام) قال ابن بري: وقد جاء الحمام مؤنثاً في بيت زعم الجوهري أنه يصف حماماً، وهو قوله: فإذا دخلت سمعت فيها رجة ... لفظ المعاول في بيوت هداد قال ابن سيده: والحمام: الديماس، مشتق من الحميم، مذكر، تذكره العرب. وقال سيبويه: جمعوه بالألف والتاء وإن كان مذكراً حين لم يكسر جعلوا ذلك عوضاً من التكسير. "لسان العرب". (حَضَاجِر): هي الضبع، أوردها مظهر الدين صاحب "المكمل في شرح المفصل" في قبيل ما يؤنث سماعاً، وقال صاحب "اللسان": حضاجر اسم للذكر والأنثى من الضباع، سميت بذلك لسعة بطنها وعظمه. (حضار) عده صاحب "المكمل" فيما يؤنث سماعاً. وقال صاحب "اللسان": وحضارِ مبنية مؤنثة مجرور أبداً: اسم كوكب. حرف الخاء الخِرْنق: ولد الأرنب يذكر ويؤنث. "المكمل في شرح المفصل". وفي "اللسان": أنه يقع على الذكر والأنثى. (الخليفة) قال صاحب "القاموس": والخليفة: السلطان الأعظم، ويؤنث. (الخمر) قال ابن جني: الخمر أنثى، وكذلك جميع أسمائها. وذكر صاحب "القاموس" وجه التذكير، فقال: وقد يذكر. قال شارحه المرتضى: الأعرف في الخمر التأنيث، وقد يذكر، وأنكره الأصمعي.

(الخنصر) الخنصَر - بفتح الصاد - الإصبع الصغرى، أو الوسطى مؤنث. "قاموس". حرف الدال (الدَّبُور) أسماء الرياح كلها مؤنثة إلا الإعصار. "تاج العروس" في مادة (دبر). (الدرع) الدرع: لبوس الحديد، تذكر وتؤنث. حكى اللحياني: درع سابغة، ودرع سابغ. وتصغير درع دريع بغير هاء على غير قياس؛ لأن قياسه بالهاء، وهو أحد ماشذ من هذا الضرب. "لسان العرب". وقال ابن جني: درع الحديد أنثى، ودرع المرأة مذكر لا غير. وهذا ما قاله اللحياني في درع المرأة. وفي "اللسان": ودرع المرأة: قميصها، وهو أيضاً: الثوب الصغير تلبسه الجارية الصغيرة في بيتها، وكلاهما مذكر، وقد يؤنثان. (الدلو) الدلو معروفة، واحدة الدلاء التي يستقى بها، تذكر وتؤنث. "لسان العرب". وقال ابن جني: يجوز تذكير الدلو. وهذا يدل على أن الأكثر التأنيث حتى عدها ابن الحاجب فيما يجب تأنيثه. (الدار) هو المحل يجمع البناء والعرصة، وقد تذكر. "قاموس". وقال الجوهري: الدار مؤنثه، وإنما قال تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30]، فذكر على معنى المثوى والموضع؛ كما قال عزوجل: {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 31] فأنث على المعنى. حرف الذال (الذراع) الذراع: ما بين طرفي المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى،

أنثى، وقد تذكر. وقال ابن بري الذراع عند سيبويه مؤنثة لا غير. "لسان العرب". وقال ابن جني: الذراع مؤنثة، وربما ذكرت. (ذُكاءُ) - بالضم - اسم الشمس، معرفة لا ينصرف، ولا تدخله الألف واللام، تقول: هذه ذكاء طالعة. "لسان العرب". (الذَّنوبُ) هي الدلو، أو فيها ماء، أو الملأى، أو دون الملأى. "قاموس". في "تهذيب التبريزي": الذنوب تذكر وتؤنث. "المزهر". وقيل: إن الذنوب تذكر وتؤنث. "لسان العرب". (الذَّودُ): القطيع من الإبل. قال ابن سيده: الذود مؤنث، وتصغيره بغير هاء على غير قياس. "لسان العرب". (الذهب) الذهب: التبر، ويؤنث. "قاموس". يقال: إن التأنيث لغة أهل الحجاز. وسائر العرب يقولون: هو الذهب: "تاج العروس". حرف الراء (الرِّجْلُ) قال أبو إسحق: والرجل من أصل الفخذ إلى القدم، أنثى. "لسان العرب". (الرَّحِمُ): هو بيت الولد، أنثى "المخصص". والرحم: رحم الأنثى، وهي مؤنثة. "لسان العرب". (الرَّحا) الرحا مؤنثة. "قاموس". ابن سيده: الرحى: الحجر العظيم، أنثى، والرحى معرفة التي يطحن بها. "لسان العرب". (الروح) الروح: النفس، يذكر ويؤنث، والجمع الأرواح. "التهذيب" قال أبو بكر بن الأنباري: الروح والنفس واحد، غير أن الروح مذكر، والنفس مؤنثة عند العرب. "لسان العرب". وقال ابن جني: الروح مذكر، فإن أنث،

فإنما يعنى به: النفس. وأشار صاحب "القاموس" إلى وجه التأنيث بقوله: ويؤنث. (الرّيح) الريح: نسيم الهواء، أنثى. "مخصص". الريح: نسيم الهواء، وكذلك نسيم كل شيء وهي مؤنثة. "لسان العرب". وقال صاحب "المكمل" في تعداد ما يؤنث: الريح وجميع أسمائها؛ كالجنوب والشمال، وغيرهما. حرف الزاي (الزقاق) الزقاق: السكة، يذكر ويؤنث. قال الأخفش: أهل الحجاز يؤنثون الطريق والسراط والسبيل والسوق والزقاق والكلاء، وهو سوق البصرة، وبنو تميم يذكرون هذا كله. "لسان العرب". حرف السين (سَباطِ) كقطامِ: هي الحمى، ذكرها صاحب "المكمل" فيما يؤنث. (السبيل) السبيل: الطريق وما وضح منه، يذكر ويؤنث. "لسان العرب". وقال ابن الأثير: والسبيل في الأصل: الطريق، والتأنيث فيها أغلب. (السراب) قال اللحياني: السراب يذكر ويؤنث. "لسان العرب". (السراويل) السراويل فارسي معرب، يذكر ويؤنث، ولم يعرف الأصمعى فيه إلا التأنيث. "لسان العرب". وعلى تأنيثها اقتصر ابن جني في "رسالته"، وابن الحاجب في قصيدته. وأشار صاحب "القاموس" إلى وجهي التأنيث والتذكير بقوله: وقد تذكر. (السُّرى): سير عامة الليل، ويذكر. "قاموس". وكذلك قال صاحب "اللسان": تذكره العرب وتؤنثه، قال: ولم يعرف اللحياني إلا التأنيث.

(السعير) عدها الشيخ ابن الحاجب فيما يجب تأنيثه، وسبق في الكلام على جحيم قول ابن جنى: الجحيم من بين أسماء جهنم مذكر، وسائر أسمائها مؤنث. (سَقَرُ) عدها الشيخ ابن الحاجب فيما يجب تأنيثه، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 27 - 30] الآية. (السِّقْطى) - مثلث السين-: هو ما سقط بين الزندين وقبل استحكام الوري، ذكره صاحب "المكمل" فيما يؤنث في "اللسان" عن ابن سيده أنه يذكر ويؤنث. (السكين) السكين: المدية، تذكر وتؤنث. قال ابن الأعرابي لم أسمع تأنيث السكين. وقال ثعلب قد سمعه الفراء. قال الجوهرى: والغالب عليه التذكير. "لسان العرب". (السِّلَاحُ): هو ما يقاتل به، يذكر ويؤنث، والتذكير أعلى؛ لأنه يجمع على أسلحة، وهو جمع للمذكر. "مصباح". وقال صاحب "اللسان": السلاح اسم جامع لآلة الحرب، وخص بعضهم به ما كان من الحديدة، يؤنث ويذكر، والتذكير أعلى؛ لأنه يجمع على أسلحة، وهو جمع المذكر؛ مثل: حمار وأحمرة، ورداء وأردية. (السلطان) السلطان: الوالي وهو فُعلان، يذكر ويؤنث. وقال ابن السكيت: السلطان مؤنثة، يقال: قضت به عليه السلطان، وقد آمنته السلطان. قال الأزهري: وربما ذكر السلطان؛ لأن لفظه مذكر. وقال الفرَّاء: السلطان عند العرب: الحجة، ويذكر ويؤنث، فمن ذكر السلطان، ذهب به إلى معنى

الرجل، ومن أنثه، ذهب به إلى معنى الحجة. "لسان العرب". (السلم) السلم: الصلح، يفتح ويكسر، ويذكر ويؤنث. "لسان العرب". (السُّلَّمُ) كسكَّر: المرقاة، وقد تذكر. "قاموس". وفي "المحكم"، السلم: الدرجة، والمرقاة، يذكر ويؤنث. (السماء) وسماء كل شيء: أعلاء، مذكر. والسماء التي تظل الأرض أنثى عند العرب؛ لأنها جمع سماعة. والسماء: السحاب، والسماء: المطر، مذكر. ومنهم من يؤنثه، وإن كان بمعنى المطر كما تذكر السماء وإن كانت مؤنثة. "لسان العرب". السماء معروفة، وقد تذكر. "قاموس". (السَّمُومُ): الريح الحارة، تؤنث. "لسان العرب". (السِّنُّ): سن الجارحة، مؤنثة، ثم استعيرت للعمر استدلالاً بها على طوله وقصره، وبقيت على التأنيث. "النهاية" لابن الأثير. السن: واحد الأسنان. ابن سيده. السن الضرس، أنثى. "لسان العرب". (الساق) والساق مؤنث، قال الله تعالى {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة: 29]. "لسان العرب". (السِّواك) السواك: اسم العود المسواك، يذكر ويؤنث، وقيل: السواك تؤنثه العرب، وفي الحديث: "السواك مطهرة للفم". قال أبو منصور: ما سمعت أن السواك يؤنث، فهو مذكر، وقولهم: مطهرة كقولهم: الولد مجبنة مبخلة. "لسان العرب". واشار صاحب "القاموس" الى الوجهين بقوله: والعود مِسواك وسِواك - بكسرهما - أي: (الميم والسين)، ويذكر. (السُّوقُ) ابن سيده: السوق التي يتعامل فيها، تذكر وتؤنث. "لسان العرب". ونقل صاحب "المزهر" عن الأخفش: أن أهل الحجاز يؤنثونها،

وبنو تميم يذكرونها. (السَّه): هي الاست، عده صاحب "المكمل" في جملة ما يؤنث، وقال أوس: "وأنت السه السفلى إذا دعيت نصر". حرف الشين (شَعُوب) عدها صاحب "المكمل في شرح المفصل" فيما يؤنث سماعا. وفي "اللسان": شعبته شعوب؛ أي: المنية. (الشَّمَالُ) قال ابن سيده في "المخصص": وقد كسرت - يعني: شمال - على الزيادة التي فيها، فقالوا: شمائل؛ كما قالوا في الرسالة: رسائل إذ كانت مؤنثة مثلها. (الشمس) قال ابن جني: الشمس الطالعة مؤنثة، والشمس الذي في القلادة ذكر. الشمس معروفة مؤنثة. "قاموس". قال اللحياني. الشمس: ضرب من الحلي مذكر. "لسان العرب". حرف الصاد (الصَّبوب) عده صاحب "المكمل" فيما يؤنث. وكذلك قال ابن جني: الصبوب مؤنثة مثل الصعود. (الصَّبا) أوردها صاحب "المكمل" وغيره فيما يؤنث، وأعاد عليها صاحب "القاموس" الضمير مؤنثاً. (الصَّعُودُ): الطريق صاعداً مؤنثة. "لسان العرب". وقال ابن جني: الصعود من الأرض مؤنثاً. (الصِّلاح) والصلاح - بكسر الصاد -: مصد ر المصالحة، والعرب تؤنثها، والاسم: الصلح، يذكر ويؤنث. "لسان العرب".

(الصُّلْحُ) الصلح - بالضم - السلم، ويؤنث. "قاموس". (صَليفُ): هي صفحة العنق، يذكر ويؤنث. "المكمل في شرح المفصل". (الصَّاعُ) قال ابن جني. الصاع يذكر ويؤنث. وقال صاحب "اللسان": والصاع: مكيال لأهل المدينة يأخذ أربعة أمداد، يذكر ويؤنث، فمن أنث قال: ثلاث أصوع مثل: ثلاث أدور، ومن ذكره قال: أصواع مثل: أثواب، وقيل جمعه أصوع. وفي "القاموس". الصاع: الذي يكال به، ويؤنث. (الصُّوَاعُ) قال صاحب "اللسان" الصواع إناء يشرب فيه، مذكر، ثم قال: وأما قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76]؛ فإن الضمير راجع إلى السقاية من قوله: {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70]، وقال الزجاج: هو يذكر ويؤنث. حرف الضاد (الضَّبُعُ) قال صاحب "اللسان": الضبع والضبع: ضرب من السباع، أنثى، ثم قال: والضبع: السنة الشديدة المهلكة المجدبة، مؤنث قال عباس ابن مرداس. أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع وفي "القاموس": الضبع- بضم الباء وسكونها- مؤنثة. (الضُّحى) قال التبريزي في "شرح المعلقات": الضحى مؤنثة تأنيث صيغة، وليست الألف فيها بألف تأنيث، وإنما هو بمنزلة موسى الحديد. وفي "لسان العرب": والضحى مقصورة مؤنثة، وذلك حين تشرق الشمس، قال: وتصغيرها بغير هاء؛ لئلا تلتبس بتصغير ضحوة. (الضَّرب) - بسكون الراء، وفتحها أشهر - وهو العسل الأبيض، يذكر

ويؤنث كما في "تاج العروس"، ولم يذكر فيه ابن جني سوى التأنيث. (الضِّرْس) الضرس: السن، وهو مذكر ما دام له هذا الاسم؛ لأن الأسنان كلها إناث إلا الأضراس والأنياب. وقال ابن سيده: الضرس: السن، يذكر ويؤنث، وأنكر الأصمعي تأنيثه. "لسان العرب". والضرس - بالكسر - السن، مذكر. "قاموس". (الضِّلَع) قال صاحب "القاموس": الضلع مؤنثة، وقال شارحه المرتضى: هذا هو المشهور، وقيل: مذكرة، وقيل بالوجهين، وهو مختار ابن مالك. وفي "اللسان": الضلع لغتان محنية الجنب، مؤنثة. حرف الطاء (الطاغوت) ما يعبد من دون الله، قال ابن جني: الطاغوت يذكر ويؤنث، ومثله للثعالبي في "فقه اللغة". وفي "اللسان": الطاغوت يقع على الواحد والجميع، والمذكر والمؤنث، ثم قال ابن السكيت: هو مثل الفلك يذكر ويؤنث. (الطريق) مذكر، ويؤنث "قاموس". وقال شارحه المرتضى: والذي صرح به الصاغاني أن التذكير أكثر. وفي "اللسان": الطريق يذكر ويؤنث، فجمعه على التذكير أطرِقة؛ كرغيف وأرغفة، وعلى التأنيث أطرقُ؛ كيمين وأيمن. (الطَّستُ) قال ابن جني: الطس، والطسة، والطست مؤنثات. ونقل الشهاب في "شفاء الغليل" عن المغرب أن طست مؤنثة. والتحقيق أن التاء في طست ليست أصلية بدليل جمعه على طِساس، وتصغيرها على طسيسة. (الطَّاسُ) قال ابن جني: الطاس مؤنثة.

حرف الظاء (الظُّهر) قال صاحب "اللسان": الظهر: ساعة الزوال، ولذلك قيل: صلاة الظهر، وقد يحذفون على السعة، فيقولون: هذه الظهر يريدون: صلاة الظهر. حرف العين (العاتق) مذكر، وقد أنث "المخصص". وقال ابن جني: العاتق يذكر ويؤنث. وأشعرَ صاحب "القاموس" إلى الوجهين بقوله: ويؤنث. (العجُز) قال صاحب "اللسان" بعد أن حكى فيه لغات شتى: يذكر ويؤنث. وقال اللحيانى: هي مؤنثة فقط. والعجز: ما بعد الظهر، وجميع تلك اللغات تذكر وتؤنث، والجمع أعجاز، لا يكسر على غيره. وأشار صاحب "القاموس" الى الوجهين بقوله: يؤنث. (العُرْب) - بالضم وبالتحريك - خلاف العجم، مؤنث "قاموس". (العُرس): طعام الابتناء، أنثى "المخصص". في "اللسان": والعرس: مهنة الإملاك والبناء، وقيل: طعامه خاصة، أنثى، تؤنثها العرب، وقد تذكر، وتصغيرها بغير هاء، وهو نادر إذ هو مؤنث على ثلاثة أحرف. (العَروض): هو ميزان الشعر، واسم للجزء الأخير من النصف الأول سالمًا أو مغيرًا، مؤنثة. "قاموس". وربما ذكرت كما في "اللسان". مرتضى. (العسل) أشار صاحب "القاموس" إلى وجهي التذكير والتأنيث بقوله: ويؤنث. (العصا): العود، أنثى. "قاموس". (العَصْر) وقالوا: هذه العصر على سعة الكلام، يريدون: صلاة

العصر. "لسان العرب". (العضد) قال صاحب "اللسان" بعد أن حكى لغاته: كل يذكر ويؤنث. وقال اللحياني: العضد مؤنثة لا غير. وفي "المخصص": وهي تذكر وتؤنث. (العَقِب): مؤخر القدم، أنثى. "المخصص". (عقرب): معروف، ويؤنث. "قاموس". وقال الليث: يذكر ويؤنث بلفظ واحد، والغالب عليه التأنيث. وقال ابن جني: العقرب اسم للذكر والأنثى. (عنبر) أشار صاحب "القاموس" إلى وجهي التذكير والتأنيث بقوله: ويؤنث. وفي "المصباح": يقال: هو العنبر، وهي العنبر. (العنق) وصلة ما بين الرأس والجسد، يذكر ويؤنث. "لسان العرب". (العنكبوت) وقال ابن جني: العنكبوت يذكر ويؤنث. وأشار صاحب "القاموس" إلى الوجهين بقوله: وقد يذكر. (العِيرُ) والعير - بالكسر - القافلة، مؤنثة. "قاموس". (العَيْنُ) الباصرة مؤنثة. "قاموس". والعين: ينبوع الماء الذي ينبع من الأرض ويجري. أنثى. "تاج العروس". حرف الغين (الغول) عده ابن الحاجب فيما يجب تأنيثه. وقال صاحب "اللسان": تغيلت الغول: تخيلت، وتلونت. قال ذو الرمة: فيوماً يجارينا الهوى غير ماضي ... ويوماً ترى منهن غولاً تغول حرف الفاء (الفأس): آلة من آلات الحديد يحفر بها ويقطع، أنثى. "لسان العرب".

(الفَخِذ): وصل ما بين الساق والورك، أنثى. "لسان العرب". (الفَرَس) يقال للذكر والأنثى. قال ابن سيده: وأصله التأنيث، فلذلك قال سيبويه: وتقول: ثلاثة أفراس إذا أردت المذكر، ألزموه التأنيث، وصار في كلامهم للمؤنث أكثر منه للمذكر حتى صار بمنزلة القدم. "لسان العرب". (الفردوس) قال أهل اللغة: الفردوس مذكر، وقد يؤنث، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11] , وإنما أنث، لأنه عنى به الجنة، وهو قليل. "تاج العروس". (الفِرْسِن) هو للبعير كالحافر للفرس، مؤنثة. "قاموس". والفرسن: فرسن البعير، وهي مؤنثة. "لسان العرب". (الفُلك) قال ابن جني: الفلك يذكر ويؤنث. وقال صاحب "القاموس": الفلك: السفينة، ويذكر. وقال صاحب "المخصص": الفلك واحد، وجمع، ويذكر. (الفِهْر) أشار صاحب "القاموس" إلى وجهي التذكير والتأنيث بقوله: ويؤنث، خلاف قول الليث: عامة العرب تؤنث الفهر. حرف القاف (القَتَب) قال ابن جني: القتب من الأمعاء أنثى. وقال صاحب "القاموس" القتب: أكتاف البعير، مذكر، وقد يؤنث. (قُدَّام) قال ابن جني: قدام أنثى، وتصغيرها بالهاء. وأشار صاحب "القاموس" إلى الوجهين بقوله: ضد وراء، وقد يذكر. (القدم) اقتصر صاحب القاموس فيه على التأنيث، ونقل شارحه المرتضى: أنه إذا قصد به الجارحة، يجوز فيه التذكير والتأنيث.

(القَدُوم) القدوم: آلة للنجر، مؤنثة. "قاموس". (القِدْر) معروفة، أنثى، أو يؤنث. "قاموس". (القفا) قال الأزهري: القفا - مقصور -: مؤخر العنق، ألفها واو، والعرب تؤنثها، والتذكير أعم. وقال ابن سيده: القفا: وراء العنق، أنثى. وقال اللحياني: القفا يذكر ويؤنث. (القَلْت) هي النقرة في الجبل يستنقع فيها الماء. وفي "اللسان"، و"المخصص"، و "رسالة ابن جني": القلت أنثى. (القَلِيب): البئر قبل أن تُطوى، تذكر وتؤنث. قال ابن جني: القليب تذكر وتؤنث، واْشار صاحب "القاموس" إلى الوجهين بقوله: ويؤنث. (القاع): هو ما انبسط من الأرض. قال صاحب "اللسان": ويصغر قويعة، من أنث، ومن ذكر قال: قويع. حرف الكاف (الكأس) مؤنثة. "لسان العرب". الكأس: الإناء يشرب فيه، أو ما دام الشراب فيه، مؤنثة. "قاموس". (الكبد) اقتصر ابن جني فيها على التأنيث، وكذلك قال اللحياني: هي مؤنثة فقط. وذكر صاحب "القاموس" الوجهين حيث قال: وقد يذكر. ونسب شارحه وجه التذكير إلى الفراء وغيره. (الكتف): هي عظم عريض خلف المنكب، أنثى. "لسان العرب". (الكَحْل): السنة الشديدة، يقال: صرحت كحل؛ أي: أجدبت؛ عده صاحب "المكمل" فيما يؤنث، وقال صاحب "اللسان": الكحل تصرف ولا تصرف على ما يجب في هذا الضرب من المؤنث العلم.

(الكِرش) الكرش لكل مجتر في الإنسان وغيره بمنزلة المعدة للإنسان، تؤنثها العرب. "لسان العرب". (الكُراع) مستدق الساق، ويؤنث. "قاموس". وقال ابن جني: هي أنثى، وقد يذكر. (الكَفّ) قال شيخنا: الكف مؤنثة، وتذكيرها غلط غير معروف، وإن جوزه بعض تأويلًا. وقال بعض: هي لغة قليلة. "تاج العروس". (الكُمَيْت) كزبير: الذي خالط حمرته قنوء، ويؤنث. "قاموس". حرف اللام (اللَّبُوس): هي الدرع، عده صاحب "المكمل" فيما يؤنث. (اللِّسان) يذكر ويؤنث. قال في "المصباح": ربما أنث على معنى الرسالة والقصيدة من الشعر. وقال الفراء: اللسان لم يسمع من العرب إلا مذكراً. وقال عمرو بن العلاء: اللسان يذكر ويؤنث. (لظى) لظى: اسم جهنم، غير مصروف للعلمية والتأنيث، وفي التنزيل العزيز: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج: 15، 16] "لسان العرب". حرف الميم (المَتْن) متنا الظهر: مكتنفا الصلب، ويؤنث. "قاموس". وقال ابن جني: المتن مذكر، وربما أنث. (المِجْمَر) في "التهذيب": المجمر قد يؤنث، وهي التي يدخن بها الثياب. "لسان العرب". (المسك) قال ابن سيده: المسك: ضرب من الطيب، مذكر، وقد أنثه بعضهم على أنه جمع واحدته مسكة.

وقال الجوهري: وأما قول جران العود: لقد عاجلتني بالسباب وثوبها ... جديد ومن أردانها المسك تنفح فإنما أنثه لأنه ذهب به إلى ريح المسك. "لسان العرب". (المِعَى): من أعفاج البطن، وقد يؤنث. "قاموس". (الملح) معروف، وقد يذكر. "قاموس". وقال صاحب "اللسان": الملح: ما يطيب به الطعام، يؤنث ويذكر، والتأنيث فيه أكثر. (المَنْجَنِيق): القذاف التي ترمى بها الحجارة، أعجمي معرب، قال صاحب"اللسان": هي مؤنثة. وأشار صاحب "القاموس" إلى وجهي التأنيث والتذكير بقوله: وقد تذكر. (المَنُونُ) قال صاحب "اللسان": هو يذكر ويؤنث، فمَن أنث، حمل على المنية، ومَن ذكر، حمل على الموت. (المُوسى): ما يحلق به، من جعله فُعلى قال: يذكر ويؤنث. وحكى الجوهري عن الفراء قال: هي فعلى، ويؤنث. وقال عبدالله بن سعيد الأموي: هو مذكر لا غير، وهو مفعل من أوسيت رأسه. قال أبو عبيد: ولم يسمع التذكير فيه إلا من الأموي. "لسان العرب". حرف النون (النَّفس) قال أبو بكر بن الأنباري: من اللغويين من سوى النفس والروح، وقال: هما شيء واحد، إلا أن النفس مؤنث، والروح مذكر. وقال اللحياني: العرب تقول: رأيت نفسًا واحدة، فتؤنث، وكذلك رأيت نفيساً، فاذا قالوا: رأيت ثلاثة أنفس، وأربعة أنفس، ذكروا، وكذلك جميع العدد، وقد يجوز التذكير في الواحد والاثنين، والتأنيث في الجميع. "لسان العرب".

(النَّوَى) قال ابن جني. النوى: البعد، مؤنث. وقال الجوهري: والنوى: الوجه الذي ينويه المسافر من قرب أو بعد، وهي مؤنثة لا غير، والنوى: الدار، والنوى: التحول من مكان الى مكان آخر، أو من دار إلى دار غيرها، كل ذلك أنثى. "لسان العرب". وفي "اللسان": النوى: جمع نواة التمر، وهو يذكر ويؤنث. (النَّاب): السن خلف الرباعية، مؤنث. "قاموس". حرف الواو (الوَرِك) - بالفتح والكسر، وككتف - ما فوق الفخذ، مؤنثة. "قاموس". والورك: ما فوق الفخذ كالكتف فوق العضد، أنثى. "لسان العرب". (وراء) قال ابن جني: وراء بمعنى: خلف، مؤنثة. وأشار صاحب "القاموس" إلى الوجهين بقوله: ويؤنث. حرف الهاء (الهبُوط): قال ابن جني: الهبوط في الأرض أنثى. (الهُدى) ابن سيده: الهدى: ضد الضلال، وهو الرشاد، والدلالة، أنثى. وقد حكي فيه التذكير. وأشار صاحب "القاموس" إلى وجهي التذكير والتأنيث بقوله: ويذكر. وقال ابن جني: قال اللحياني: الهدى مذكر، قال: وقال الكسائي: بعض بني أسد يؤنثه. "لسان العرب". حرف الياء (اليد) اليد مؤنثة، وكذلك يد القميص، ويد الرحا، واليد التي يتخذها الرجل عند آخر. "المخصص". (اليسار): الشمال. مؤنثة. "المخصص".

(اليمين) القسم. مؤنث. "القاموس". هذا ما تيسر جمعه من الكلمات المؤنثة وجوباً أو جوازاً باتفاق، أو على أحد الأقوال، وسميتها: "الامتاع بما يتوقف تأنيثه على السماع". وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

11 - دراسات في اللغة

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (11) «دِرَاسَاتٌ فِي اللُّغَةِ» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ الله الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيمِ المقدمة للعلامة المرحوم محمد الخضر حسين دراسات لغوية قيمة أنشأها منذ مطلع حياته العلمية في تونس، وحتى أواخر أيام جهاده الإسلامي الطويل، وبصفته عضواً في مجمع اللغة العربية القاهرة. وقد سبق أن ضممت بعضاً من تلك الدراسات في كتاب "دراسات في العربية وتاريخها"، وقدمته إلى قراء العربية. وها أنذا أتقدم إليهم بمجموعة أخرى ومتممة من تلك الأبحاث والاقتراحات والنقد تحت عنوان: "دراسات في اللغة"، وأملي أن أكون بهذا الكتاب قد أحطت بكل الآثار اللغوية للعم الإمام. ومن المفيد أن نذكر أمثولة للأم المسلمة رواها سيدي الوالد الشيخ زين العابدين - رحمه الله - هي أن السيدة حليمة السعدية بنت الشيخ مصطفى ابن عزوز والدة الإمام كانت أول من لقن أولادها العلوم الدينية واللغوية، وأن الشيخ محمد الخضر- شأن إخوته الآخرين- قد أخذ عن والدته: كتاب الكفراوي في النحو، وكتاب السفطي في الفقه المالكي. وهكذا تكون الأمهات المسلمات. رحم الله الإمام الأكبر رحمة واسعة على هذا الثراء العلمي العظيم، وبما قدمه للإسلام والعروبة من خدمات جلىّ. والله نسأل السداد والتوفيق. علي الرّضا الحسيني

المجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية

المجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية (¬1) شبَّت اللغة العربية في ربوع عدنان وقحطان، فصيحةَ الكلمات، محكمة الأساليب، وكانت تسير بعهد الجاهلية على قدر سيرهم في الحياة الفكرية والمدنية حتى طلع الإسلام، فوجد في حكمة وضعها، وقوانين استعمال ألفاظها، ما يساعد على توسيع دائرتها، وإعلاء سمائها، وتكثير طرق بيانها، فاتخذها لسان دعوته الحكيمة، فأصبحت هذه اللغة تنتقل مع الدعوة الإسلامية حيثما انتقلت، ودخلت في أمم ذات علوم خصبة، وحضارة بعيدة المدى، فلم تقف وقفة اللغة المعسرة، لا تجد في ألفاظها ولا أصول وضعها واستعمالها ما يكفي حاجات العلوم والحضارة، بل كانت اللغة التي تسع العلوم على اختلاف موضوعاتها، والحضارة على كثرة مظاهرها، فنهضت بالعلوم الشرعية والعربية، والفنون الأدبية، وصارت لسان الفلسفة والسياسة، ولا يعرض معنى غامض إلا دلت عليه بأسنى عبارة، وأضفى بيان. وَسِعت هذه اللغة العلمَ والسياسة والصناعة وضروب المعاملات، وكل معنى يراد نقله من ذهن إلى آخر، وساعدها على ذلك كله غزارةُ مادتها، ¬

_ (¬1) مجلة "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة - الجزء الأول - تشرين الأول (أكتوبر) 1934.

وما تفتح فيها من أبواب الاشتقاق والتصرف في الكلم على وجوه المجاز أو النقل، ثم تهيؤها لقبول الكلمات الأعجمية بعد تهذيب حروفها، وحيث تدعو الحاجة إلى تعريبها. والكلام في هذه المزايا كثير الشعاب، بعيد مابين الجوانب، وحظ القلم منه في هذا المقال: بحثُ المجاز والنقل، وأراني في موقف الباحث الذي يسوق حديثه إلى أدباء درسوا فن البيان، وكانوا منه على بينه، فلا أطيل في تعريف المجاز وذكر أقسامه، ولا أتعرض للعلاقات التي هي شرط صحته: علاقةً فعلاقة، بل أمرّ على معنى المجاز بكلمة وجيزة، وأتحدث عن العلاقة من الناحية التي يأخذ بها الكلام صحته أو فصاحته العربية، وأتخلص إلى الفرق بين المجاز والنقل، وأريك كيف يكسبان اللغة ثروة، وكيف يقومان بجانب عظيم من حاجات العلوم، وما يتجدد من مرافق الحياة. * المجاز: كلمة "المجاز" وزنها مَفْعَل، وهو من جاز المكان؛ أي: سلكه، وسار فيه، ومن ثم قيل للطريق: مجاز؛ لأنه مكان يجوزه الناس عند الانتقال من أحد جانبيه إلى الآخر، ثم استعمل المجاز فيما يشبه الطريق من الأمور التي تتخذ وسيلة إلى بعض الأغراض، فقالوا: "جعل فلان ذلك الأمر مجازاً إلى حاجته؛ أي: اتخذه وسيلة إلى قضائها". ثم استعملت هذه الكلمة في العلوم لمعان خاصة، وأول من نحا بها هذا النحو - فيما عرفنا - أبو عبيدة مَعْمَر بن المُثنَى المتوفى سنة 209 هـ؛ إذ وجدناه يستعملها قاصداً بها الوجه الذي يخرّج عليه الكلام، وما يحسن أن

يقال في تفسيره، وذلك ما يعنيه في كتابه "المجاز في غريب القرآن" كما قال: "والرحمن: مجازه: ذو الرحمة، والرحيم: مجازه: الراحم". ورأينا الشريف الرضىّ المتوفى سنة 406 هـ يطلق المجاز على اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، ويضيف إلى ذلك التشابيه التي ذكر فيها المشبّه والمشّبه به، وحذفت منها أداة التشبيه، وهذا كتابه "المجازات النبوية" يورد فيه التشابيه البليغة، نحو حديث: "المرء مرآة أخيه"، وحديث: "الناس معادن"، وصرح بأن التشابيه المصرح فيها بأداة التشبيه خارجة عن المجاز (¬1). وتعرض ابن رشيق المتوفى سنة 463 هـ في كتاب "العمدة" لكلمة المجاز، فذكر لها معنى عاماً هو: "طريق القول ومأخذه"، وقال: "فصار التشبيه والاستعارة وغيرها من محاسن الكلام داخلة تحت اسم المجاز". ثم نبه ابن رشيق على أن هذه الكلمة نقلت بعدُ إلى معنى أخص، فقال: "إلا أنهم خصوا به - أعني: اسم المجاز - باباً بعينه، وذلك أن يسمى الشيء باسم ما قاربه، أو كان منه بسبب". وأراد من قوله: "ما قاربه": الأمر الذي يكون بينه وبين أمر آخر مشابهة، ومن قوله: "أو ما كان منه بسبب": الأمر الذي يكون بينه وبين أمر آخر صلة غير المشابهة؛ كالسببية والمجاورة. وهذا المعنى الخاص الذي صارت إليه كلمة المجاز، هو الذي جرت عليه كلمة المجاز، في عرف البيانيين؛ فإنهم إنما يطلقونه على اللفظ الذي ينقله المتكلم من معنى وضع له اللفظ، إلى معنى بينه وبين ذلك المعنى ¬

_ (¬1) انظر: (ص 169) من ذلك الكتاب.

مناسبة؛ أي: علاقة (¬1)، والعلاقة إما المشابهة، وهو مَبْنَى الاستعارة، وإما غير المشابهة، وذلك مبنى ما يسمونه: المجاز المرسل. وهذا المعنى الذي انتهت إليه كلمة المجاز هو ما نقصده بالبحث في هذا المقال. * العلاقة: تتبع علماء البيان الكلام العربي؛ ليتعرفوا وجوه العلاقات التي يراعيها العرب في نقل اللفظ إلى غير معناه على سبيل المجاز، فالمُّوا بها خُبرًا، وأحصوها عَدّاً، واختلفوا بعد هذا الاستقراء والضبط في موقف المولَّدين إزاء هذه العلاقات، فبعضهم ضيَّق عليهم الدائرة، وبالغ في تضييقها، فلم يبح لهم - ولو عند تحقق العلاقة - إجراء أي لفظ شاؤوا مجرى المجاز، وجعل حظهم من هذا الفن البديع لا يزيد على استعمال الألفاظ التي نطق بها العرب من قبل؛ كالأسد للرجل الشجاع، والغيث للنبات، واليد للنعمة، وهذا المذهب صريح في أن المولد لا يباح له نقل لفظ من معنى إلى معنى لم ينقله إليه العرب، وإن كان بين المعنيين علاقة من تلك العلاقات المقررة في فن البيان، فلا يستعير لفظ الغضنفر- مثلاً - للرجل الشجاع، إلا إذا ثبت أن العرب استعاروه له، كما استعاروا له لفظ الأسد، ولا يطلق لفظ المُدام على عصير العنب، مع تحقق العلاقة، وهي مصير العصير إلى أن يكون مُدامًا، إلا إذا ورد إطلاقه عليه في الكلام العربي، كما أطلق عليه لفظ الخمر في نحو قوله تعالى: {أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]. ¬

_ (¬1) وممن فسر المجاز بهذا المعنى: عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 هـ، فقال في كتاب "دلائل الإعجاز": "وأما المجاز، فقد عول الناس في حده على النقل، وإن كل لفظ نقل عن موضوعه فهو مجاز".

وهذا المذهب ساقط بنفسه، ولا أظنك تجد له نظيراً بين علماء لغة يجري في عروقها دم الحياة (¬1). وجمهور العلماء على أن مدار صحة المجاز على تحقق ما كان يراعيه العرب من نوع العلاقات، فلا تقف عند حد الألفاظ التي استعملوها في غير ما وضعت له؛ كالأسد والقمر والغيث، فإذا رأيناهم قد نقلوا اسم شيء إلى آخر لعلاقة السببية- مثلاً -، جرينا على أثرهم، وساغ لنا أن نتصرف في الألفاظ تصرفهم، فننقل اسم كل سبب إلى المعنى الذي ينشأ عنه، كما ننقل اسم كل محل إلى ما يحل فيه، وننقل اسم كل معنى إلى ما بينه وبين ذلك المعنى وجه من المشابهة، فنطلق لفظ "الاستقلال" على راحة البال وهناءة العيش، ونسمي الكتب: خِزانة، ونستعمل الرعد في أصوات المدافع، وان لم يذهب العرب بلفظ الاستقلال والخزانة والرعد هذا المذهب من المجاز. وقد جرى على هذا المذهب أئمة الأدب، فما كانوا ليتوقفوا في الأخذ بسبيل المجاز إلا على تحقق نوع العلاقة، دون يبحثوا عن اللفظ بعينه، ليتعرفوا: هل سلك به العرب مسلك المجاز؟. ولو لم يكن باب القياس في المجاز مفتوحاً إلى هذا الحد، لما وجد الشعراء والخطباء في فن البيان متسعًا، ولما أحرزت اللغة من ضروب المجاز والاستعارات هذه الثروة، التي زادت مكانتها رفعة، وآدابها بهاء وسناء. ¬

_ (¬1) ليس هذا المذهب باقرب ولا أنفع - ولو قليلاً - من مذهب من ينكر وجود المجاز في اللغة، بزعم أن الواضع وضع الأسد للرجل الشجاع، كما وضعه للحيوان المفترس، ووضع الغيث للنبات كما وضعه للمطر.

ويزيدك علماً بقوة هذا المذهب: صنيع علماء اللغة؛ فإنهم يقصدون في كتبهم لبيان المعاني الحقيقية، ولو كان استعمال الألفاظ على سبيل المجاز موقوفاً على النقل، لدعاهم الاحتفاظ بهذا الفن من البيان: أن يلتزموا بعد بيان المعاني الحقيقية: ذكر المعاني التي استعمل العرب فيها اللفظ على وجه من المجاز، وما رأيناهم يفعلون. ولا يقصد الزمخشري بتعرضه في كتاب "أساس البلاغة" للمعاني المجازية بعد الحقيقية أن يقصر المجاز على تلك الألفاظ، ولا أن يحجر على الناس التصرف في تلك الألفاظ بنقلها إلى معان لم ينقلها إليها العرب، وإنما قصده التنبيه على جانب عظيم من أساليب البلغاء، وتصرفاتهم في المعاني؛ ليقتدي بها الناشئون، ويتخذوها سُلَّمًا يرتقون به إلى المرتبة العليا من مراتب البلاغة. وقد يبدو لك أن الاكتفاء بنوع العلاقة ينحط بالكلام - في كثير من الأحيان- إلى ما لا ترتاح له النفوس، ولا يليق بحسن بيان اللغة العربية، ومئال هذا: أنهم يعدون في العلاقات: "التضاد"، ومقتضى الاكتفاء بنوع العلاقة: أن نستعمل لفظ النور في الظلام، ولفظ الظلام في النور، ونطلق البياض على السواد، والسواد على البياض، ويعدون في العلاقات: "علاقة اعتبار ما كان دا، ومقتضى الاكتفاء بنوع العلاقة: أن ننقل لفظ الطفل إلى الشيخ، ونطلق على من آمن بعد شرك لفظ: مشرك، ومثل هذا الصنيع لا تسلم معه اللغة من غمز. فمن أين لنا أن نعده في فنون فصاحتها ... ؟ وتحقيق البحث: أننا نكتفي في صحة المجاز بمراعاة نوع العلاقة. وللبيانيين في كل علاقة نظر خاص؛ من حيث الاكتفاء بمجرد وجودها، أو

إضافة بعض قيود إلى أصلها. وهم لا يكتفون في إطلاق اسم الشيء على ضده بعلاقة التضاد، حتى يفيد معنى لطيفًا؛ كالتهكم في تسمية قبيح المنظر: قمرًا، أو التفاؤل؛ كتسمية الصحراء: مفازة، أو اللسيع: سليمًا. ولا يجيزون تسمية شيء باسم ما كان له، ثم انقطع متى صار الشيء متلبسًا بضد ما كان عليه؛ كمن صار إلى الشيخوخة، ليس لك أن تطلق عليه اسم الطفل، مراعيا علاقة أنه كان طفلًا. فإن سميته طفلًا لصغر عقله، أو قلة تجاربه، فقد خرجت عن علاقة التضاد، إلى علاقة المشابهة. ولا يكتفون في إطلاق الجزء على الكل بعلاقة الجزئية، حتى يكون للجزء اختصاص بالمعنى الذي يقصد من الكل. نحو: "عين" يستعمل في "الجاسوس"؛ لأن للعين مزيد اختصاص بحرفة التجسس. وللذوق السليم بعد هذا التحقيق مدخل في الحكم على بعض الاستعمال المجازي، بالرد أو القبول. وإطلاق الحلواء على البنين (¬1) لا يخلو من علاقة المشابهة، ولكن الذوق يمجه، كما يمج استعارة ماء الملام (¬2). * النقل: يذكر الكاتبون في طرق استعمال الألفاظ: المجاز، والنقل، وقد يختلف علماء العربية، أو يترددون في لفظ أخذ من معنى إلى آخر: أطريق أخذه المجاز، أم النقل؟. فالنقل إذاً طريق من طرق استعمال اللفظ يقع في ¬

_ (¬1) إشارة إلى قول أبي الطيب المتنبي: وقد ذقت حلواء البنين على الصبا ... فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل (¬2) إشارة إلى قول أبي تمام: لاتسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي

مقابلة المجاز، وإليك بيانه: قد يغلب استعمال اللفظ في معنى على سبيل المجاز، حتى يصير المعنى المجازي هو الذي ينساق إليه الذهن عند الإطلاق، وذلك ما يسمى في عرف البيانيين: "المجاز الراجح"، وإذا صار اللفظ لغلبة استعماله في المعنى المجازي لا يفهم منه عند التجرد من القرينة إلا هذا المعنى، سُمِّي: منقولًا، وكان النقل اسماً لغلبة هذا الاستعمال. وعلى هذا الوجه من النقل حمل كثير من العلماء الألفاظ الإسلامية؛ كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وقالوا: "إن الشارع نقل هذه الألفاظ من معانيها اللغوية، واستعملها في معانيها الشرعية على سبيل المجاز، ثم غلب استعمال الناس لهذه الألفاظ في هذه العبادات على الوجه الذي استعملها عليه الشارع، حتى صارت مجازاً راجحًا، فتكون هذه الألفاظ الإسلامية بالنظر إلى أصل استعمال الشارع من قبيل المجاز اللغوي، صدر التجوز فيها من الشارع نفسه، ثم صارت بغلبة الاستعمال المسماة بالنقل، حقائق في عرف حملة الشريعة" ... وعلى هذا الوجه من النقل أيضا يجري جانب كبير من الأسماء المستحدثة في العلوم وغيرها، كما أطلق الفقهاء على اتباع قول أحد العلماء تقليدًا، والتقليد: وضع القلادة في العنق؛ كأن المتبع جعل قول غيره قلادة في عنقه، وكما أطلق العروضيون على حذف الثاني من "متفاعلن": وَقْصًا، والوقص في الأصل: كسر العنق؛ كأن حذف الشاعر للحرف الثاني المتحرك من "متفاعلن" كسرٌ للعنق الذي هو العضو الثاني بالنسبة إلى الرأس، ويدخل في هذا الوجه: نقل كلمة "البرق" إلى "تلغراف"، وكلمة "المدرعة" أو

"الدارعة" إلى سفينة على جوانبها ما يحميها من ضربات العدو كما تحمي الدروع الضافية رجل الحرب من الطعان. ومن الألفاظ ما يكون موضوعاً في أصل اللغة لمعنى كلي يتناول جزئيات متعددة، فيكون إطلاقه على كل فرد من أفراد هذه الجزئيات من قبيل الحقيقة، ثم يغلب استعماله في جزئي خاص حتى يكون هذا المعنى الجزئي هو المتبادر منه عند الإطلاق؛ مثل: لفظة "الدابة" يتناول بحسب مفهومه اللغوي كل ما دب على وجه الأرض من حيوان، فاستعماله بحسب هذا الوضع- في أي حيوان يمشي على الأرض- من قبيل الحقيقة، وقد يغلب استعماله في بعض الأزمنة أو المواطن في نوع خاص من أنواع الحيوان؛ كالذي يمشي على أربع، حتى يكون هذا المعنى هو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق، وغلبة استعمال اللفظ على هذا الوجه تسمى: (نقلًا" أيضاً ... ولهذا النوع من النقل أمثلة كثيرة في أسماء ما تجدد من العلوم وغيرها من الشؤون المدنية، فانظر إلى كلمة "الإنشاء"- مثلاً -، تجدها موضوعة في أصل اللغة لمعنى عام هو الإيجاد، ثم أكثر استعمالها في إيجاد القول المحرر خاصة، حتى صار هذا المعنى الخاص هو المتبادر منها عند الإطلاق. وشمهل عليك أن ترد إلى هذا النوع كلمة: "الحلول، والاتحاد" في علم الكلام والتصوف، وكلمة: "التالي" للجزء الثاني من القضية الشرطية في علم المنطق، إلى ما يشابه هذا من نحو: المندوب، والعميد، والمدير، والمأمور، والحاجب، والمحافظ، والمحامي، والسيارة، والغواصة. هذا الوجهان هما المعروفان في معنى النقل، وقد يبدو لك أن للنقل وجهاً ثالثاً لا يأتي من ناحية غلبة الاستعمال، وإنما هو اللفظ ينقل من معناه

الأصلي، ويوضع لمعنى علمي أو مدني حديث وضعاً مستانفًا؛ لمناسبة بين المعنيين؛ كأن يتفق طائفة على نقل اسم "السَّلوف" من الناقة التي تكون أوائل الإبل، إذا وردت الماء، ووضعه للعربة التي تكون أول القطار- مثلاً -, ثم أخذوا يستعملونه في هذا المعنى الجديد، بانين استعمالهم على هذا الوضع المتفق عليه، لا لملاحظة علاقة المشابهة، والظاهر أن هذا النقل لا يرجع إلى واحد من الوجهين المذكورين آنفاً. أما امتناع رجوعه إلى الوجه الأول، فلأن استعمال اللفظ في معنى بناء على أنه وضع له وضعاً خاصاً، لا يسمى مجازاً، وأما امتناع الوجه الثاني، فلأن العربة التي تكون في أول القطار ليست فردًا من أفراد المعنى الذي وضع له لفظ "السلوف". ويدلك على أن اللفظ الذي يستأنف وضعه لمعنى غير معناه الأصلي، لا يكون استعماله في هذا المعنى من قبيل المجاز: أن طائفة كبيرة من أهل العلم خالفوا من ذهب إلى أن الأسماء الشرعية؛ كالصلاة ونحوها قد استعملها الشارع في معانيها الإسلامية على وجه المجاز، وقالوا: إن صاحب الشريعة نقل هذه الأسماء، ووضعها لهذه المعاني بوضع جديد؛ كمولود يولد، فيوضع له اسم يعرف به بين الناس، فيكون استعمال الصلاة في العبادة المخصوصة لأول مرة من قبيل الحقيقة الشرعية. فإن خطر على بال أحد أنَّ وضع الألفاظ للمعاني لا يملكه إلا العرب، وأجاز مع هذا للطوائف من أرباب العلوم والصناعات أن يتفقوا على لفظ معين يجعلونه دليلاً على معنى علمي أو صناعي، غير أنه يرى استعمال اللفظ بعد هذا الاتفاق من قبيل المجاز، لم يكن للخلاف بينك وبينه ثمرة عملية،

وإنما هو خلاف في هذا اللفظ المستعمل في معناه الجديد لأول مرة: أمن باب الحقيقة هو، أم من باب المجاز؟ * شرط المناسبة في النقل: أشرنا في البحث السابق إلى شرط المناسبة بين المعنى المنقول منه، والمعنى المنقول إليه، وذلك ما صرح به كثير من الراسخين في العلم، فمن الحق مراعاة المناسبة في النقل، ومما نراه بعيداً وغير لائق: أن يعرض لطائفة من العلماء معنى لا يجدون له اسماً خاصاً في اللغة، فيمدون أيديهم إلى الألفاظ غير ناظرين إلى معانيها اللغوية، فينقلون إليه لفظاً ليس بين معناه الأصلي والمعنى المنقول إليه مناسبة. * أثر المجاز والنقل في حياة اللغة: إن المعاني التي تتجدد بحسب رقي الأفكار، واتساع العلوم، وامتداد ظلال المدنية، لا بد لها من أسماء تدل عليها، وقد كان للألفاظ المنقولة على سبيل المجاز، ثم النقل، جولة واسعة في العلوم وشؤون الاجتماع. والناظر في العلوم وكتب التاريخ والأدب يقف على مقدار كبير من الألفاظ التي دخلت في اللغة من هذا الطريق، فاتسع به نطاقها، ويسر على الأقلام الخوض في موضوعات علمية أو سياسية أو أدبية لم تخض فيها العرب من قبل، وهذا باب واسع لو أرسلنا فيه القلم، لجرى فيه أشواطاً بعيدة، دون أن يدنو من النهاية، وقد سقنا إليك أمثلة منها في حديثنا عن النقل، ففي تلك الأمثلة الكفاية. وربما يحوم في خاطرك: أن الرجوع إلى المجاز والنقل، والتعلق بهما في سد حاجات المعاني المستجدة، يوقعنا في تكثير الالمفاظ المشتركة، وكثرة

الاشتراك في الألفاظ يعد مرضاً من أمراض اللغة، التي يجب النظر في طرق علاجها، ولا سيما ألفاظاً تشترك فيها معان كثيرة. فإذا عمدنا إلى كلمة "القطار" - مثلاً -، ونقلناها من الإبل، تجئ على نسق إلى مجموع مراكب "عربات" السكة الحديدية، كنا قد داوينا حاجتنا إلى وضع اسم لمجموع هذه العربات بأمر يقتضي قانون الفصاحة أن نعمل لنقصه، لا للازدياد منه، وهو اشتراك المعاني المتعددة في كلمة واحدة. وهذا ما يتعلق به بعض من يميل إلى استعمال الأسماء الأجنبية، ويؤثره على أن نتخير لها أسماء عربية، فقال: وضعُ الكلمة العربية لمعنى جديد، وقد وضعت من قبل لمعنى آخر، يصيرها من قبيل المشترك، فبعد أن يكون لها معنى يتبادر إلى الذهن عند سماعها، يلابسها شيء من الإبهام لا ينكشف إلا بنصب قرينة. ونحن نرى أن المعاني التي تشترك في اللفظ الواحد قد تختلف مواطنها اختلافاً بعيداً؛ كان يكون لها معنى يرجع إلى الشؤون المدنية، ومعنى آخر يرجع إلى مصطلحات علم خاص؛ كالنحو، أو الطب، أو الحساب، والاشتراك في هذا القبيل لا باس به؛ فإن مقام البحث أو المحاورة يعين أحد المعنيين، ويتجه بذهن المخاطب أو القارئ إلى المعنى المراد، حتى كأن اللفظ لا معنى له غير ما قصد في ذلك الكلام الخاص، ومن ذا الذي يأخذ كتاباً في النحو - مثلاً -, أو يشهد درساً، أو محاورة في بعض مباحثه، فيمر على كلمة الفاعل أو المفعول، أو الظرف أو المجرور أو الحال، ولا يذهب توًا إلى المعنى الذي يريده النحاة من هذه الأسماء؟. أما إذا كانت المعاني المشتركة في اللفظ الواحد ترجع إلى جهة واحدة؛

كأن تكون راجعة إلى علم واحد، أو يكون كل منها يجري في الشؤون السياسية أو الإدارية أو الصناعية، فذلك هو الاشتراك الذي ينبغي لنا أن نتحاماه، حتى تكون المعاني سهلة المأخذ من الألفاظ. ثم إننا - وإن رأينا إبقاء طريق المجاز والنقل مفتوحًا في وجوه العاملين لحياة اللغة- لا نريد إطلاق العنان فيها ما أمكن، بل نرى في كتب اللغة المبسوطة ألوفًا مؤلفة من الألفاظ التي لا تجري في مخاطبات الجمهور، ولا ترد في كلام أدباء العصر، وإن وردت، فعلى وجه الندرة، فيمكننا أن نرجع إلى هذه الألفاظ المهجورة، وننتقي منها ما يسد الحاجة، ويصلح لأن يكون غذاء للغة حية راقية، مؤثرين له على الأسماء الأجنبية التي لا تمت إلى العربية بسبب، ولا تلتقي معها في أب ولا جدّ، وسلامة الذوق وجودة الاختيار كفيلان بأن نسوق إلى ميدان الحياة اللغوية ما يجري على الألسنة جريان الألفاظ المأنوسة في الاستعمال، وليس كل غريب يثقل على السمع، ولا كل مهجور ينبو عنه الطبع، ومثال هذا: أننا نرى لأوعية الأمتعة أسماء كثيرة، ومنها ما أصبح غريبًا لا يراه الناس إلا في كتب اللغة المبسوطة، أو في شعر قديم لا يدور على ألسنة الأدباء إلا قليلاً؛ مثل: "الوفضة": اسم لما يضع فيه الراعي زاده وأدواته، و"الكنف": اسم لوعاء أداة الراعي، أو وعاء أسقاط التاجر، و "الزنفليجة": وعاء شبه الكنف، و"العيبة": زبيل من أدم (¬1)، وما يجعل فيه الثياب، و"الخريطة": وعاء من أدم يشرج (¬2) على ما فيه. ¬

_ (¬1) اسم جمع للأديم، وهو الجلد. (¬2) يشرج: يشدّ.

فما الذي يضرنا لو نقلنا بعض هذه الأسماء إلى ما نسميه: "شنطة"، وبعضها إلى ما نسميه: "سَبَتْ" مثلاً، وندع لزاد الراير وأدواته اسماً واحداً، ففيه الكفاية. وقد يعلق بالظن: أن نقل هذه الألفاظ العربية إلى معان غير معانيها المعروفة في عهد العرب الخلص، يجر- ولو بعد طول العهد- إلى التباس في فهم بعض الكلام العربي القديم، وربما سبق المخاطب إلى حمل اللفظ على المعنى الطارئ، فيقع في خطأ مبين، والذي يدفع هذه الشبهة: أن ليس في استطاعتك حماية العامة أو أشباه العامة من الخطأ في فهم الكلام العربي الفصيح في كل حال، أما الناشئون المتعلمون، فما يدفع هذا اللبس والخطأ عن أذهانهم ما سيؤلف بعد من المعاجم؛ حيث يلتزم فيها عند التعرض لمعاني الألفاظ الإشارة إلى عهد نقل اللفظ إلى معناه الحديث. ولنا الأمل الوطيد في أن يكون نشؤنا كلهم متعلمين، وما ذلك على الله بعزيز.

من وثق من علماء اللغة ومن طعن فيه

من وُثِّق من علماء اللغة ومن طُعِن فيه (¬1) لما نزل الكتاب المجيد، وبيَّن الحديث النبوي أحكامه وحكمه ودلائله - وكلاهما ورد باللغة العربية-، أقبل الناس على النظر في العربية مفرداتها وإعرابها وأساليبها؛ لتحقيق تفسير القرآن، وشرح الحديث الذي هو بيان له. ومقالنا هذا يبحث في رواية المفردات الصحيحة والمعتلَّة، ورواية الأساليب الصحيحة والفاسدة، وهو موضوع علم النحو، ولا يبحث عن رواية الأساليب التي يرتفع بها شأن الكلام، وهو موضوع علم البلاغة. ومن العلماء من وُثِّق في رواية مفردات اللغة؛ كمحمد بن أحمد الأزهري المتوفى سنة 370 هـ، ألف كتابه المشهور "تهذيب اللغة"، وكان متفَقًا على ثقته وورعه، كما قال ابن خلكان: إن بعض الأفاضل ذكر لي أنه رأى بخطه: "إني امتُحنت بالأسر، سنةَ أن عارضت القرامطةُ الحاج في الهبير (¬2)، والقوم الذين وقعت في سهمهم عرب نشؤوا بالبادية يتتبعون مساقط الغيث أيام النجع ... إلخ"، وهذا الذي نقله ابن خلكان عن بعض الأفاضل هو ما ذكره الأزهري في مطلع كتابه "التهذيب". ¬

_ (¬1) مجلة "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة- الجزء الثاني عشر لعام 1960. (¬2) الهبير: رمل في طريق مكة كانت عنده وقعة أبي سعد القرمطي سنة 312 هـ. "تاج العروس".

وممن ألف في اللغة: محمود الزمخشري المتوفى سنة 538 هـ؛ فقد ألف كتابه المسمى "أساس البلاغة"، غير أنه يمتاز عن بقية المعجمات ببيان ما هو مجاز أو استعارة؛ كقوله: "ذهب من داره إلى المسجد ذهابًا ومذهباً"، ثم قالوا: ومن المجاز والكناية: ذهب فلان مذهباً حسناً، وذهب عليَّ كذا: نسيته. ونرى "القاموس" يخلط في معاني الكلمة بين الحقيقة والمجاز؛ كما قال في مادة "أبل": "الإبل: حيوان معروف"، وأردف ذلك مباشرة: "أو السحاب الذي يحمل ماء المطر"، وهو مجاز، ثم قال، ويقال: "إبلان للقطيعين من الإبل ... إلخ". ومنهم من ألف في مفردات خاصة بأجناس؛ كما ألف معمر بن المثنى: "غريب القرآن"، و"غريب الحديث"، وكما ألف ابن الأثير: "النهاية في غريب الحديث"، وكما ألف الفيروز أبادي: "الروض المسلوف فيمن له اسمان إلى ألوف". وممن ألف في النحو: سيبويه، والخليل من البصريين، والكسائي، وثعلب من الكوفيين. فسيبويه له: "الكتاب" المعروف، والخليل بن أحمد له: "كتاب العين"، وثعلب له كتاب: "المصون"، وكتاب "اختلاف النحاة". ومن هنا صار النحو قسمين: نحو البصريين، ونحو الكوفيين. وظهر تأليفان: تأليف في نحو البصريين، وتأليف في نحو الكوفيين، وتأليف في اختلاف البصريين والكوفيين. ويقول أصحاب الطبقات: فلان يعرف نحو البصريين والكوفيين. وممن وثق من علماء اللغة: الخليل، وتلاميذه: سيبويه، ومؤرج

السدوسي، والنضر بن شميل، وكذلك ثعلب، والكسائي، والقاسم بن سلام، وأبو حنيفة الدينوري. والموثقون من علماء العربية كثير، والمطعون فيهم قليل، ويعتمد في التوثيق وعدم التوثيق على من عاصرهم من أهل الصدق، ولم يكن بينهما منافرة. فلا يعتمد على قلة الثقة بابن دريد على ما قاله فيه نفطويه؛ لأن بينهما منافرة فقد قال فيه: ابن دريد بقرة ... وفيه عِيٌّ وشَرَه ويدَّعي من حمقه ... وضعَ كتاب "الجمهرة" وهو كتاب "العين" ... إلا أنه قد غَيَّره وقد نفهم صدق العالم من تأليفه. فتتبع كلام الرجل المختلف الغايات يدل على شيء من أخلاقه وطبائعه، مثال هذا: ابن الأنباري الذي يقول في قصيدته التي خاطب بها أبا زكريا الحفصي يرغب منه النصرة لأهل الأندلس: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا والقصيدة طويلة بليغة للغاية. فالذي ينظم هذه القصيدة المملوءة بلاغة وغيرة لا يكون إلا نقي الأخلاق، بعيداً عن أن يقول في العربية ما لم يسمع. والذي يشترط فيه الصدق هو من ينقل عن العرب أنفسهم؛ كالأزهري في "التهذيب"، أو من ينقل عن الثقة الذي ينقل عنهم؛ كالجوهري صاحب "الصحاح". أما صاحب "المصباح"، فأكثره متابع للمعاجم المعروفة، ونجد فيه ألفاظاً لا توجد في المعاجم التي بين أيدينا؛ كرفيع بمعنى: رقيق، وكعوائد: جمع عادة.

وممن طُعن فيه: أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي. قال الأزهري في "التهذيب": حضرته في داره ببغداد غير مرة، فرأيته يروي عن أبي حاتم، والرياشي، وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، فسألت إبراهيم بن محمد بن عرفة الملقب بنفطويه عنه، فاستخف به، ولم يوثقه في روايته. ودخلت يوماً عليه، فوجدته سكران لا يكاد يستمر لسانه على الكلام من غلبة السكر عليه. وتصفحت كتاب "الجمهرة" له، فلم أره دالًا على معرفة ثاقبة، وعثرت منه على حروف كثيرة أزالها عن وجوهها، وأوقع في تضاعيف الكتاب حروفًا كثيرة أنكرتها، ولم أعرف مخارجها، فاثبتها من كتابي في مواقعها منه؛ لأبحث عنها أنا وغيري ممن يظهر فيه لبعض الأئمة، فإن صحت لبعض الأئمة، اعتمدتها، وإن لم توجد لغيره، وقفت. وممن طعن فيه الأزهريُّ - في مقدمة كتاب "التهذيب" -: الجاحظُ، فقال: "وممن تكلم في لغة الغريب بما حضر لسانه، وروى عن الأئمة في كلام العرب ما ليس من كلامهم: عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ، وكان أوتي بسطة في لسانه، وبيانًا عذبًا في خطابه، ومجالاً واسعاً في فنونه، غير أن أهل المعرفة بلغات الغريب ذموه، وعن الصدق دفعوه". وأخبر أبو عمرو الزاهد: أنه جرى ذكره في مجلس أحمد بن يحيى، فقال: "اعزبوا عن ذكر الجاحظ؛ فإنه غير ثقة، ولا مأمون". وممن طعن فيه: أبو علي محمد بن المستنير المعروف بقطرب. قال ابن السكيت: "كتبت عنه قِمَطْراً، ثم تبينت أنه يكذب في اللغة، فلم أذكر عنه شيئاً". وممن طعن في روايته: أبو الفرج الحسين الأصبهاني صاحب كتاب

"الأغاني"؛ فقد قال ابن شاكر في كتابه "عيون التواريخ": إن الشيخ شمس الدين الذهبي قال: رأيت شيخنا - يعني: ابن تيمية - يضعفه، ويتهمه في نقله، ويستهول ما يأتي به. وقال ابن الجوزي: "لا يوثق بروايته؛ فإنه يصرح في كتبه بما يوجب عليه الفسق. ومن تأمل كتاب "الأغاني"، رأى كل قبيح ومنكر". وممن طُعن فيه: أبو العلاء صاعد بن الحسين، جاء من الشرق إلى الأندلس في عهد المنصور بن أبي عامر، فشاهد منه علماء الأندلس إخباراً في اللغة بخلاف الواقع، فاعرض عنه أهل العلم كما قال المقري في "نفح الطيب"، وقدحوا في علمه وعقله. وألَّف لهم كتاب "الفصوص"، فألقوه في النهر، ولم يأخذوا عنه شيئاً؛ لقلة الثقة به. ولا يقدح خطأ رأي العالم في الثقة بروايته. فابن تيمية - مثلاً - يصحح رواية سيبويه، ويخطئه في التطبيق، وقد روى: أن أبا حيان كان رفيقًا لابن تيمية، فرد ابن تيمية على سيبويه فقال له أبو حيان: أترد على سيبويه؟ فقال: هل سيبويه نبي النحو؟ لقد أخطأ في ثلاثين موضعاً من كتابه، فهجره أبو حيان، وكان شأن أبي حيان أن يقول له: بيِّن لنا الخطأ الذي وقع في الثلاثين موضعاً ويردها أو يسلم بها، ولا يكون قول ابن تيمية وحده سبباً للهجرة. ومن يروي شيئاً في اللغة، وهو لا يوثق بروايته، يحفظ قوله، فإن ورد ما رواه عن راو آخر يوثق بروايته، أخذ به، وإلا، وقف عن روايته كما قال الأزهري في "تهذيبه". وهناك فريق ثالث يخرج من اللغة ما يصح أن يكون داخلاً فيها؛

كالقاسم الحريري؛ فقد ألَّف "درة الغواص في أوهام الخواص"، وكثر ما جعله وهمًا، وليس بعربي فصيح، رده شارحو كتابه: الشهاب الخفاجى، والشيخ محمود الألوسي بأنه عربي فصيح، إما بمطابقته لقول بعض النحاة، أو بوجه عربي مقبول. وعلى فرض أن سجل ما ينطق به أشباه العامة، فعلينا أن نضع علامات لما زيد على العربية الفصحى. ومن أدبائنا من يمشي في طريق معاكس لهذا، فيسبق إلى ذهنه أن استعمال العامة من الناس لكلمة توافق العربية، فيستعملها على أنها عربية فصيحة، ويتبين أن العامة لم يستندوا إلى نطق عربي فصيح، ولو قبلنا هذه الكلمة، لزم أن نقبل كل ما تنطق به العامة مخالفاً العربية الفصحى؛ كاشتقاق بعضهم اسم الفاعل من فخم: فخيم، والعرب يقولون: هو فخم، ولم يقولوا: فخيم، وقول العامة: عمولة، وهي في اللغة: عمالة - بالكسر والضم -. ثم إنا لو قبلنا دخول هذا في معاجمنا على أنه من العربية الفصحى، لكثر في اللغة المترادف: اللفظ العربي، واللفظ العامي الذي زيد عليه. ومن أدبائنا من يرون كثرة المترادف في اللغة من العيب فيها، وأنه يجب إعدامه. ولا يضرنا وجود المعرب في اللغة إذا اقتضت الحاجة، ولا سيما إذا لم يوجد له مثال قريب من العربية. وقد أخذ الأتراك كلمتي: فانوس، وفنار من اليونان، ثم أخذتهما أمم عربية، وصارتا من مفرداتها اللغوية. وكذلك: الجذوة؛ فقد قال في المعجم التركي شمس الدين سامي: هي مأخوذة من العربية، والأصل: قبسة من النار. ويستعمل في تونس: "كاهية" لنائب الرئيس، قال السيد محمد فريد في رحلته إلى تونس: إن أهل تونس يطلقون كاهية بمعنى: وكيل الرئيس، وهي محرفة عن "كيخيا" المحرفة هي أيضاً عن

"كتخدا". والحق أن كتخدا فارسي، ومعناه: بيت الرب. وحرّفه الأتراك إلى قولهم: كاهية بمعنى: وكيل الرئيس، ولفظ كيخيا لعلّه مستعمل في مصر فقط، فإنا لم نره في المعجم التركي الذي بين أيدينا لشمس الدين سامي. لهذا أرى من الواجب أن نتحرز مما ينسب إلى غير الموثوق بهم حتى يعضده نقل آخر موثوق به، أو يكون له في العربية وجه مقبول.

اللهجات العربية في هذا العصر

اللَّهجات العربية في هذا العصر (¬1) لهجات البلاد العربية اليوم أصلها العربية الفصحى، دخلها الفساد من وجوه شتى، وظهر في كثير من ألفاظها وأساليب مخاطبتها. ولما كان مجمع اللغة العربية الملكي يعمل لسلامة اللغة العربية، وسد ثغور حاجاتها، وإصلاح ما اعتراها من خلل، كان من حقه دراسة تلك اللهجات بقدر المستطاع، متخذًا هذه الدراسات وسيلة إلى تخليصها مما طرأ على ألفاظها وأساليبها من فساد. وذلك أن دارس اللهجة يذكر الكلمات التي دخلها التحريف، ويبيِّن وجه تحريفها، وينبه على وجهها الصحيح، ويذكر الكلمات التي دخلها التحريف، ويدل على ما يقوم مقامها من الألفاظ العربية الفصيحة، ويتعرض للكلمة المستعملة في غير معانيها المعروفة في كلام العرب، أو معجمات اللغة، حتى إذا لم يجد بين هذه المعاني والمعاني التي وضعت لها الكلمة مناسبة، نبّه على أن هذه الكلمة استعملت في غير مواضعها، وأرشد إلى الألفاظ التي يصح أن تستعمل مكانها. وإذا أخذ يبحث في الأساليب، ووجد فيها ما يخالف قانون نظم الكلام ¬

_ (¬1) مذكرة قدمها الإمام إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة. ونشرت في الجزء الثامن من المجلد الثالث عشر - مجلة "الهداية الإسلامية".

العربي، نبه على هذه المخالفة، وذكر الوجه الذي يكون به الأسلوب عربيًا فصيحاً. وفي دراسة هذه اللهجات معرفة مقدار بُعدها عن العربية. والمجهودات التي تبذل في إصلاحها تكون على قدر ما عرف من هذا البعد؛ فقد يظن بعض أهل العلم أن اللغة الدارجة في طرابلس الغرب، أو في المغرب الأقصى بعيدة عن العربية أشد البعد، ويرى أن العودة بها إلى العربية المستقيمة أمر متعسر أو متعذر، ولكنه متى درسها بنفسه، أوقرأ كتبًا بحثتها بحثًا علميًا وافيًا، يعرف أنها لم تبعد عن العربية إلى الحد الذي سبق إلى ظنه، فيقوى أمله في السعي لإعادتها إلى العربية السليمة، ويعمل لتحقيق هذا الأمر مجتهداً. وأذكر أني كنت ممن يحسبون أن لهجة بلاد الجزائر قد بعدت من العربية إلى أقصى غاية، حتى أخذت أدرس مفرداتها، وأرجع فيما أشتبه فيه إلى معجمات اللغة، فوجدت أكثرها من أصل العربية، غير أنهم يحرفونه بنحو تبديل بعض الحركات أو الحروف، أو بصوغه على غير قياس، أو يتصرفون فيه باحد طرق المجاز، ويغلب استعماله في المعنى المجازي حتى يصبح حقيقة في عرفهم الخاص. ونجد في لهجة كل قطر ألفاظاً عربية فصيحة دارجة بين عامتهم، ولابتذالها في ألسنة العامة يتحاماها الكتاب والشعراء والمؤلفون، وقد تكون هذه الألفاظ عند أدباء قطر معدودة في غريب اللغة؛ لعدم جريانها في لهجتهم، وقلة ورودها فيما قرب مأخذه من كلام العرب، ومثال ذلك: أنك ترى العامة في بلاد بصحراء الجزائر يقال لها: "سوف" يستعملون لفظ: كرف بمعنى:

الشم، فيقولون: كرفت؛ أي: شممت. وفي "القاموس": كل ما كرفته، فقد شممته. وأدباء تلك الناحية يتجنبون استعمالها بهذا المعنى؛ لابتذالها، وربما يعدها بعض الأدباء في بلاد الشرق من غريب اللغة، فيترك استعمالها لغرابتها، لا لابتذالها. ولو أرسلت في إيراد ما يشاكل هذه الكلمة في ابتذاله بين أهل قطر، وعده غريباً عن آخرين، لأتيت بكلم كثير. فبحثُ المجمع في لهجات البلاد العربية اليوم وأساليبها، واستكشافُ ما دخلها من ضروب الفساد، ثم التنبيهُ على وجوه صحتها في مجلته، أو في مؤلفات خاصة، نراه من أقرب الوسائل إلى إصلاح هذه اللهجات، وإعادتها إلى أصلها العربي الفصيح. ولا يغني عن هذه الدراسة أن يحيل أهل تلك اللهجات على معجمات اللغة، وكتب النحو؛ فإن أكثر الناس يأخذهم التعود على النطق بلفظ أو أسلوب غير عربي، فلا يتنبهون لوجه الخطأ في استعماله. ومثل هذا التعود كان السبب في انتشار أخطاء كثيرة، حتى بين الأدباء والمؤلفين من أهل العلم، ولم ينكشف للناس أمرها إلا بعد أن قام رجال من العلماء الراسخين في اللغة، فأقبلوا يتتبعون بقدر ما استطاعوا تلك الألفاظ التي يخطئ في استعمالها الخواص من الناس، فنقدوها، وبيَّنوا وجه استعمالها الصحيح، فتجنبها من يتحرَّى النطق والكتابة بالعربية الفصحى. وإذا وجد أفراد خدموا اللغة بإصلاحِ جانبٍ من أخطاء طرأت عليها، وأنقذوا ألسنة كثيرة وأقلامًا من معرَّة تلك الأخطاء، فجدير بمجمع اللغة العربية الملكي أن يقوم بعمل أوسع من عمل أولئك الأفراد، وأعظم منه أثراً، وهو أن يدرس لهجات الأقطار العربية من ناحية ما دخل في ألفاظها وأساليبها من

أغلاط، ويدل على وجهها الصحيح. وأذكر أني كنت في مجلس حضره أحد كبار رجال الدولة في هذا العهد، ودار حديث يتعلق بالمجمع، فقال: إن أهم عمل يقوم به المجمع أن يأتي إلى ألفاظ دائرة في اللغة الدارجة، وليست بعربية، فينبه على الألفاظ الفصيحة التي تقوم مقامها، وضرب المثل بكلمة: "يادوبك" في اللهجة المصرية، وهذه الكلمة تستعمل بمعنى: على أكثر تقدير. فهذا أحد عظماء الدولة يرى أن من أهم أغراض المجمع دراسة اللهجات الحاضرة، والعمل لإصلاحها. واتصال المجمع بعلماء الأقطار العربية وأدبائها يساعده على درس هذه اللهجات، ويكون هؤلاء العلماء والأدباء هم الذين يتلقون ما يقرره من إصلاح، ويأخذون به النشء ما أمكنهم، ويذيعونه في دروسهم ومجالسهم، ويدعون إليه في صحفهم. وقد روير في نظام المجمع ما يؤكد الصلة بينه وبين تلك الأقطار؛ إذ جعل للمجمع انتخاب أعضاء فخريين، وأعضاء مراسلين، فإذا جرى المجمع في انتخاب هؤلاء الأعضاء على أن يكون له في كل قطر عضو أو أعضاء، انفتح أمامه الطريق لدراسة هذه اللهجات دراسة وافية. ودراسة اللهجات - بعرض مفرداتها وأساليبها على قوانين العلوم العربية - قد تحتاج إلى مجهود كبير، وزمن غير قصير، ولكن غاية سامية مثل هذا الإصلاح ينبغي للمجمع أن يقف دونها، وهو يستطيع إدراكها، ولو بعد عشرات من السنين. أما لجنة اللهجات، فقد كتب أعضاؤها في لهجة مصر والشام وتونس

والجزائر، ولكن اللجنة أرجات النظر فيما كتبوه؛ لكثره ما عرض في جلسات المجمع من مصطلحات العلوم والفنون والشؤون العامة، فإذا زيد في أعضاء المجمع، وكان عمله متواصلاً غير مقيد بجلسات معلومة، استطاعت اللجنة أن تواصل عملها، وتعرض على المجمع ما يصل إليه بحثها.

نيابة بعض الحروف عن بعض

نيابة بعض الحروف عن بعض (¬1) يتعرض النحاة لمعاني الحروف، فيذكرون للحرف الواحد معنيين، أو معاني، كما يقولون في الباء: تأتي للسببية، والظرفية، والاستعانة، وإذا وقفت على ظاهر صنيعهم، تبادر إلى ذهنك أن الحروف التي تعددت معانيها من قبيل المشترك، وهو اللفظ الدال على معنيين فأكثر؛ بحيث يدل كل معنى مستقل عن الآخر دلالة لا يحتاج فيها إلى تطلب علاقة. وقد رأينا كثيراً من محققي النحاة يعملون لتقليل معنى الحروف، فيأتون إلى كثير من الشواهد التي يريد بعضهم أن يثبت بها للحروف معاني زائدة على معانيها الكثيرة الدوران في كلام الفصحاء، ويردونها إلى المعاني المعروفة في الاستعمال، كما يفعل ابن هشام، ونجم الدين الرضي، وكما فعل السكاكي في كتاب "المفتاح"، وكذاك ينبغي أن تكون معاني الألفاظ المشتركة قليلة؛ فإن قلتها أعون على حسن البيان. وقد تمر على قول النحاة: إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، فيجعلك هذا القول في حيرة، أو يذهب بك في استعمالها على غير طريقة، تسمعهم يقولون: إن "في" - مثلاً - تكون بمعنى: "إلى"، أو تكون بمعنى: ¬

_ (¬1) بحث طرحه الإمام في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ونشر في الجزأين السادس والسابع من المجلد السابع لمجلة "الهداية الاسلامية".

"الباء"، فتريد أن تذهب بذلك مذهب القياس، فتقول بدل "سرت إلى البحر": سرت في البحر، أو تقول بدل "بعته بدرهم": بعته في درهم. وإذا مشيت على هذا الوجه من القياس، وقعت في لبس من القول، وأتيت بجمل تنبو عنها الفطرة العربية، وقد نقد أحد فلاسفة اللغة- وهو ابن جني- قول النحاة: إن الحروف يستعمل بعضها مكان بعض، ونبه لما في إطلاق هذه العبارة من فساد، فقال في كتاب "الخصائص": "هذا باب يتلقاه الناس مغسولًا ساذجًا من الصنعة، وما أبعد الصواب عنه، وأوقفه دونه! ". ثم قال: "ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا، ولكنا نقول: إنه يكون بمعناه في موضع، دون موضع على حسب الحال الداعية إليه، والمسوغة له، فأما في كل موضع، وعلى كل حال، فلا". ثم أتى إلى كثير من الشواهد التي ساقوها على استعمال الحرف بمعنى الحرف؛ وخرَّجها على وجوه تبقى بها الحروف في معانيها المعروفة، واعتمد في هذه الوجوه على باب التضمين. وقال ابن القيم في كتاب "بدائع الفوائد": "وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء العربية، فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف، ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف، وما يستدعي من الأفعال، فيشربون الفعل المتعدي به معناه، هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه، وطريقة حذاق الصناعة، يضمنون الفعل معنى الفعل، لا يقيمون الحرف مقام الحرف. وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن". وخلاصة هذا المذهب: أن الحروف لا تستعمل إلا في معانيها الشائعة

في كلام الفصحاء، فإذا وجه إليك كلام، وظهر لك أنه قد أنيب فيه حرف مكان حرف، فإن هناك تضميناً، أو حذف كلمة يبقى به الحرف على حقيقته المعروفة في الاستعمال. وإذا صرفت النظر إلى فن البيان؛ رجاء أن تجد فيه ما يزيد البحث وضوحًا، وجدتهم يعدون في قبيل الاستعارات: استعارة حرف لمعنى آخر. ولا يزيدون على أن يذكروا لك أمثلة قليلة؛ لتعلم منها كيف تجري الاستعارة في الحروف. غير أنك تحتاج بعد هذا إلى تفصيل القول في معاني الحروف، حتى تصرف المعاني التي وضعت لها الحروف على وجه الحقيقة؛ لتفرق بينها وبين المعاني التي تستعمل فيها على وجه المجاز. ولا لوم على البيانيين إذا لم يفصّلوا لك القول في معاني حروف الجر؛ فإن ذلك من شأن اللغوي الذي يبحث عن دلالات الألفاظ المفردة. فإذا ضم المجمع اللغوي ما يقوله البيانيون إلى ما يقوله ابن جنّي وغيره من المتفقهين في العربية، أمكنه أن يقرر أن الحرف لا يستعمل مكان آخر إلا على وجه الاستعارة، أو على وجه التضمين. وعلى المؤلفين في العربية بعد هذا أن يقتصروا في بيان معاني الحروف على المعاني الحقيقية، وإن تعرضوا لما زاد على ذلك، فمع بيان أنها معان لم يوضع لها الحرف، حتى يكون الناشئ على بصيرة من أن استعمال الحرف في هذه المعاني من قبيل الاستعارة التي لا تتم إلا بملاحظة علاقة، ونصب قرينة. وتتعرف المعاني الأصلية للحروف من نصوص علماء العربية، أو من تتبع موارد استعمالها، وكثرة دورانها في الكلام الفصيح.

الأمثال في اللغة العربية

الأمثال في اللّغة العربيّة (¬1) المَثَلُ في أصل وضعه: المثيل، والشبيه، ويطلق على الكلام البليغ الشاخ المشهور؛ لحسنه، أو لاشتماله على حكمة، وذلك ما نبغي الحديث عنه في هذا المقال. توجد الأمثال حتى في غير اللغات الراقية، ولا تكاد لغة تخلو من الأمثال. وها نحن نجد بين الجماعات البعيدة من العلم أو المدنية أقوالاً من نوع كلامهم يضربونها في مواضع تشبه مواردها، ولا فرق بينها وبين ما جاء في الفصيح من الأمثال إلا الفرق الذي نحسه بين اللغة الدارجة واللغة العربية الخالصة. من خواص المثل: الإيجاز، وأن يكون جيد العبارة. ولإيجازه وجودة عبارته تداولته الألسنة، وقبلته خاصة الناس وعامتهم. قال الزمخشري: "ولم يضربوا مثلاً، ولا رأوه أهلاً للسير، ولا جديرًا بالتداول والقبول، إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه". وقال الفارابي: "المثل ما ترضاه العامة والخاصة في لفظه ومعناه، حتى ابتذلوه فيما بينهم، وفاه بها في السرَّاء والضرَّاء". ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء التاسع من المجلد الرابع.

وقال: "وهو أبلغ الحكمة؛ لأن الناس لا يجتمعون على ناقص، أو مقصر في الجودة، أو غير مبالغ في بلوغ المدى في النفاسة". وقال أبو عبيد: "اجتمع في الأمثال ثلاث خلال: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه". يصوِّر المثل الحقائق في أجلى صورة، ويريك المعاني الكثيرة في الكلمات القليلة، فإذا أردت أن تصف رجلاً بالدهاء، وجودة الرأي، والأخذ في تدبير الأمور بأنجح الطرق، ورمت أن تعبر عن هذا المعنى بلفظ موجز ينقشه في نفس المخاطب حتى كأنه يراه رأي العين، ضربت فيه المثل: "يعرف من أين تؤكل الكتف". وإذا سمعت كلاماً كثيراً لا تُجنى منه فائدة، وأردت أن تصفه بكلمة يخف وقعها في الأذن، وتضع ذلك المعنى موضع المشاهد، ضربت فيه المثل: "أسمع جعجعة، ولا أرى طحناً". يحسن ضرب المثل حيث يكون سبب وروده معروفاً للمخاطبين. وكثير من الأمثال لا يفهم منها معنى، وإن كانت ألفاظها واضحة الدلالة على معانيها المفردة، فالمثل: "إن يبغ عليك قومك، لا يبغ عليك القمر"، مفرداته واضحة المعاني، وليس في تركيبه حذف، ولا لفظ يتوقف فهمه على كلام يسبقه أو يأتي من بعده، ولو سقته في الحديث مع من لا يعرف مورده، لم تصل به إلى الغرض الذي تستعمل من أجله الأمثال، وهو إبراز المعنى في صورة مألوفة تتلقاها النفوس بارتياح، وإنما يفي هذا المثل بالغرض، ويقع المعنى المقصود في نفس المخاطب موضع الجلي الواضح، متى عرف: "أن بني ثعلبة بن سعد بن ضبة في الجاهلية تراهنوا على الشمس والقمر ليلة

أربع عشرة من الشهر، فقالت طائفة: تطلع الشمس، والقمر يُرى، وقالت طائفة: يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس، فتراضوا برجلٍ جعلوه حكماً، فقال واحد منهم: إن قومي يبغون عليّ، فقال الحكم: "إن يبغ عليك قومك، لا يبغ عليك القمر". قد يستعمل المثل على وجه الاستعارة؛ كضرب المثل: "الصيف ضيَّعتِ اللبن" في حق من كان متمكنًا من أمر، فأضاعه من يده، ثم جاء يطلبه بعد فواته، فإنك شبهت حال هذا الرجل بمورد المثل، وهو حال المرأة التي كانت تحت شيخ موسر سألته الطلاق، فطلقها زمن الصيف، فتزوجت شابًا فقيراً، فلما دخل الشتاء، أرسلت إلى الشيخ تستقيه لبناً، فقال لها: "الصيف ضيعت اللبن"، واستعرتَ هذا المثل إلى حال الرجل الذي أضاع أمراً كان طوع يده، ثم رغب في مناله. واستعمال الأمثال على هذا الوجه هو الذي تحدث عنه البيانيون، فقالوا: "متى فشا استعمال المجاز المركب، سمي: مثلاً". وقد يستعمل المثل على وجه التشبيه الصريح؛ كان تذكر شخصًا تريد أن تصفه بأنه يُشتهى قربه، ويخاف شره، فتقول: هو "كالخمر يُشتهى شربها، ويُخاف صداعها". وقد يستعمل على وجه الحقيقة المحضة، كأن ترى شخصًا اعتبر في بعض الأمور بما وقع فيه غيره من عاقبة مكروهة، فأخذ حذره من ذلك الأمر، فتقول: "السعيد من اتعظ بغيره" فليس في ضرب هذا المثل استعارة ولا تشبيه. والكتب التي صنفت في أمثال العرب، كأمثال أبي عبيدة، والميداني،

وابن قتيبة، وابن حبيب، وابن الأنباري، وابن هلال، والشيخ طاهر الجزائري، تجمع الأنواع الثلاثة، ولا تختص بما تحدث عنه البيانيون، وهو المجاز المركب الذي يفشو استعماله. يلزم في المثل: أن يكون قولاً موجزاً شائعاً، وقد يكون حكمة؛ أي: كلاماً ينهى عن سفه، أو يدعو إلى خير، نحو: "إنَ المُنْبَتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقي"، وهو مثل يضرب لمن يجهد نفسه في طلب الشيء، ويبالغ في الطلب، حتى إنه ربما يدركه التعب أو الملل، فينقطع دون البلوغ إلى الغاية. وقد يكون خالياً من الحكمة بالمعنى المشار إليه، ولكنه يدل على معنى مقبول؛ كالأمثال الصالحة للاعتذار؛ نحو: "مكره أخاك لا بطل". والحكمة التي تؤدي إلى ما يؤديه المثل، إلا أنها لم تشع في الجمهور، ولم تجر إلا بين الخواص، يسميها بعض الأدباء بالنادرة. ومن الأمثال ما يكون كلاماً مستقلاً بنفسه، نحو: (حُبُّك الشيءَ يُعمي وُيصم"، ونحو: "ربَّ أخ لك لم تلده أمك". وقد يكون مقتطعًا من كلام؛ نحو: "إن المقدرة تذهب الحفيظة". قال أبو عبيد: بلغنا هذا المثل عن رجل عظيم من قريش في سالف الدهر كان يطلب رجلاً بثأر، فلما ظفر به، قال: لولا أن المقدرة تذهب الحفيظة، لا نتقمت منك. ثم تركه. وإلى هذين الضربين من الأمثال أشار المرزوقي في كتاب "الفصيح"، فقال: المثل جملة من القول مقتضبة من أصلها، أو مرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول، وتشتهر بالتداول. يقول علماء الأدب: إن الأمثال لا تُغير، بل تجري كما جاءت، حتى إنهم يحافظون عليها، وإن جاءت على بعض الوجوه الشاذة. قال الزجاج

في "شرح أدب الكاتب": الأمثال قد تخرج عن القياس، فتحكى كما سمعت، ولا يطرد فيها القياس، فتخرج عن طريقة الأمثال. وقال المرزوقي: من شرط المثل: أن لا يغير عما يقع في الأصل، ألا ترى أن قولهم: "أعطِ القوس باريها" تسكن ياؤه، وإن كان التحريك الأصل؛ لوقوع المثل في الأصل على ذلك. ويتصل بهذا: أن لا يغير المثل ليوافق حال من ضرب في شأنهم؛ من نحو التذكير والتأنيث، أو الإفراد والتثنية والجمع، بل يستعمل باللفظ والحال التي نطق به العربي في أول ما نطق به (¬1). والعلَّة العامة في امتناع تغيير ما يسمى مثلاً: أن تغييره يخرجه عن أن يكون اللفظ المتداول المشهور، وفي امتناع تغيير المثل الذي يستعمل على وجه الاستعارة علة خاصة، هي أن الاستعارة مبنية على استعمال لفظ المشبه به، ولو غير المثل؛ كأن قلت: (الصيف ضيعتَ اللبن"- بفتح تاء الخطاب -، لما كان لفظ المشبه به مستعملاً في المشبه بعينه، ومن تصرف في المثل بالتغيير، كان مشيرًا إلى المثل، لا ضارباً للمثل نفسه. وقد عد علماء الأدب فيما يجب أن يعرفه الكاتب والشاعر: الأمثال العربية. قال ابن الأثير في "المثل السائر": وكنت جردت من كتاب "الأمثال" للميداني أوراقاً خفيفة تشتمل على الحسن من الأمثال الذي يدخل في باب الاستعمال. وإذا كان في الأمثال حكمة وبلاغة، كان في العناية بجمعها ودرسها وسيلة من وسائل ترقية التحرير والخطابة. ¬

_ (¬1) قال الزمخشري: لم يضربوا مثلاً إلا قولاً فبه غرابة من بعض الوجوه، ومن ثم حوفظ عليه، وحمي عن التغيير.

وصف جمع غير العاقل بصيغة فعلاء

وصف جمع غير العاقل بصيغة فَعْلاء (¬1) جرى اختلاف بين أدباء العصر في صحة عبارة وقعت في منثور الكتَّاب، ومنظوم الشعراء منذ عهد بعيد، وهي العبارة التي يوصف فيها الجمع بصيغة فعلاء. وأول مناقشة جرت في هذا كانت بين الأستاذ (فريتس كرنكو العرباني الجرماني)، والأب (آنستاس الكرملي)؛ حيث كان الأب آنستاس يستعمل في مجلته "لغة العرب" فعلاء وصفاً للجمع، كان يقول: الأشجار الخضراء، بدلأ من: الأشجار الخضر، فأنكر عليه الأستاذ (كرنكو) بدعوى أن هذا الاستعمال خطأ، ورد عليه الأب (آنستاس) بأن من مزايا لغة العرب وصف المنعوت المجموع من غير العاقل بصفة المفردة المؤنثة، وأورد شواهد فيها وصف الجمع بصفة فاعلة؛ نحو: الأيام الخالية، وقطوفها دانية، وتناولت الصحف والأندية الحديث عن هذه المسألة باحثة عن وجه الحق في هذه العبارة، فبدا لي أن ألقي نظرة فاحصة بين نظراتهم حتى أثق بفصاحة هذا الوصف، وتناولته من حيث القياس والسماع، فكان ملخص البحث ونتيجته ما يأتي: ¬

_ (¬1) اقتراح قدمه الإمام إلى مؤتمر مجمع اللغة العربية بالقاهرة. ونشر في الجزء التاسع من المجلد العشرين لمجلة "الهداية الاسلامية".

يقول علماء العربية: يجوز وصف الجمع المكسر لغير العاقل بالمفرد المؤنث، غير أن وصفه بالمفرد المؤنث بالتاء كثير شائع، ووصفه بالمفرد المؤنث بالصيغة قليل، والمراد من المؤنث بالصيغة: ما كانت علامة تأنيثه ألف التأنيث المقصورة، أو الممدودة، فالحكم الذي قرروه عام، ولكنهم اقتصروا فيما رأينا على التمثيل بما فيه ألف التأنيث المقصورة. قال أبو البقاء في "الكليات": "والجمع المكسر لغير العاقل يجوز أن يوصف بما يوصف به المؤنث، نحو: {مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18]، وهو قليل". ثم قال: "والجمع يوصف بالمفرد المؤنث بالتاء، وهو شائع، وقد يوصف بالمفرد المؤنث بالصيغة؛ كما في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18]. ومازال الناس يحملون ما قرره علماء العربية من جواز وصف جمع التكسير لغير العاقل بالمفرد المؤنث على عمومه، دون أن يتعرض أحد لمنع وصفه بفعلاء. وورد وصف الجمع بصيغة فعلاء في أشعار هذا العصر؛ كما قال الأستاذ خليل مطران في رثاء شوقي: يجلو نبوغك كلَّ يوم آية ... عذراءمن آياته الغرّاء فقد وصف الآيات، وهي جمع، بغرّاء. وقال أيضاً: النيل يجري من عميق دافق ... من حيث ينبع في الربا السَّمَّاء وقال الأستاذ بشارة الخوري في رثاء شوقي: قاموا على سرر الأعراس وانتبهوا ... على صياح بكيّ الطرف عائرِهِ على مآتم من طير ومن شجر ... خرساء كالقبر غرقى في دياجره

فوصف المآتم بقوله: خرساء. وورد وصف الجمع بفعلاء في كثير من أشعار المولدين قبل هذا العصر، كما قال القاضي الفاضل عبد الرحيم (¬1): متكفن بملابس ... حمراء وهي تعود خضرا وقال برهان الدين القيراطي المتوفى سنة 781 هـ: شرَّف الله أحمداً سيد الخلق ... بأسنى المواهب الحسناء وقال: قد تشرفت حيث صغت قريضاً ... في معاني صفاتك العلياء وقال الإشبيلي (¬2): أفديه إن أخذ الطلا منه وقد ... دعت الكرى أجفانه الوطفاء وقال مهيار الديملي: راكب العز في مفاوزها اليَهْـ ... ـــــــــــــماءِ سار لا يركب التغريرا فوصف المفاوز، وهو جمع، باليهماء، قال صاحب "الأساس": "مفازة يهماء: ما فيها ماء". وقال اليازجي: "وبوده أن يكون فداء عن أياديهم البيضاء". وورد في أشعار المولدين فَعْلاء خبراً عن ضمير يعود على جمع؛ كما قال أبو تمام: ¬

_ (¬1) "معاهد التنصيص" (ج 1 ص 197). (¬2) كتاب "تراجم بعض أعيان دمشق" لابن شاشو.

فيا حسن الرسوم وما تمشى ... إليها الدهر في صور البعاد وإذ طير الحوادث في رباها ... سواكن وهي غنّاء المراد فقوله "غنّاء المراد" خبر عن الضمير العائد إلى الرسوم، أو إلى رياها. وقال ابن هانئ: طويت لي الأيام فوق مكايد ... ما ينطوي من فوقها الأعداء ما كان أحسن من أياديها التي ... توليك إلا أنهاحسناء وقال أبو الطيب المتنبي: وعقاب لبنان وكيف يقطعها ... وهوالشتاء وصيفهن شتاء لبس الثلوج بها علي مسالكي ... فكأنها ببياضها سوداء فقوله: "سوداء" خبر عن الضمير في قوله: "فكأنها"، وهذا الضمير عائد على الثلوج، أو على المسالك. بل ورد مثل هذا في شعر عربي فصيح، قال المخبل السعدي: أعرفت من سلمى رسوم ديار ... بالشط بين مخفق وصحار وسألتها عن أهلها فوجدتها ... عمياء جاهلة عن الأخبار فقوله: "عمياء" مفعول ثان لوجدت، وهو بمنزلة الخبر عن الضمير العائد إلى رسوم ديار "الأغاني". وورد خبراً عن الضمير العائد إلى جمع بعد الإخبار عنه المفرد المؤنث بالتاء؛ كما قال ابن هانئ: لولا مشيب بفودي للفؤاد عصا ... أنضيت في مهمه التشبيب لي قلصا واستوقفت عبراتي وهي جارية ... وكفاء توهم ربعاً للحبيب قصا

وجرى على هذا المرحوم حافظ إبراهيم، فقال: يستنطق الآلام وهي دفينة ... خرساء حتى تنطق الآلام فأخبر عن الضمير العائد إلى الآلام بفعلاء بعد أن أخبر عنه بالمفرد المؤنث بالتاء، ونسج على هذا المنوال المرحوم مصطفى صادق الرافعي، فقال: "وترد الأمواج نقية بيضاء كأنها عمائم العلماء". وورد خبراً عن ضمير يعود على اسم جمع؛ كما قال ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 في طير أبابيل من سورة الفيل: "ثم اختلفوا في صفتها، فقال بعضهم: كانت بيضاء، وقال آخرون: كانت سوداء، وقال آخرون: كانت خضراء، والطير اسم لجماعة ما يطير، والواحد طائر". وورد فعلاء في أشعارهم حالاً من الجمع، كما قال ابن الخطيب (¬1): ولك الجواري المنشآت وقد غدت ... تختال في برد الشباب وترفل جوفاء يحملها ومن حملت به ... من يعلم الأنثى وماذا تحمل فقوله: "جوفاء" حال من الجواري المنشآت، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي؛ أعني: الجواري. وقال الطغرائي يمدح أبا الفضل أسعد بن محمد بن موسى (¬2): لقد قلت للمزجي قلائصه ... حدباء يعرق لحمها الجدب فقوله: "حدباء" حال من جمع، وهو: "قلائصه". ووردت وصفاً لجمع محذوف بعد وصفه بصفة المؤنث بالتاء، ¬

_ (¬1) "نفح الطيب". (¬2) "مختارات البارودي".

قال المتنبي: وبساتينك الجياد وما تحـ ... ـــــــــل من سمهرية سمراء وقال الأبيوردي: ولو استطيل على الحمام بعزة رفعت له اليزنية السمراء واليزنية: الرماخ، نسبة إلى ذي يزن. وملخص البحث: أن علماء العربية أطلقوا في صحة وصف جمع غير العاقل بصفة المفردة المؤنثة، فيدخل في إطلاقهم وصفه بفَعلاء، ولم نر أحداً منهم خص هذا الحكم بصيغتي فاعلة، وفعلى. ثم إن الوصف بها ورد في كلام العلماء والأدباء كثيراً؛ كما ورد في عبارة ابن جرير الطبري، وورد في شعر أبي تمام، والمتنبي ما يدل على صحته. وقد قال صاحب "الكشاف": اجعل ما يقوله أبو تمام بمنزلة ما يرويه. وقال الشهاب الخفاجي في "شرح درة الغواص": اجعل ما يقوله المتنبي بمنزلة ما يرويه. ثم إن قياس فَعلاء على فعلى وفاعلة في صحة الوصف بهما من الأقيسة التي تتلقاها اللغة العربية على الرحب والسعة. وبناء على هذا، أقترح على مؤتمر المجمع الموقر أن يُصدر قراراً في صحة التركيب الذي يوصف فيه جمع غير العاقل بصيغة فَعلاء، قطعاً للمناقشة التي تدور حول هذا الأسلوب. وبعد عرض هذا الاقتراح قرر المجمع صحة وصف جمع غير العاقل بصيغة فعلاء.

اسم المصدر في المعاجم

اسم المصدر في المعاجم (¬1) يقوم المجمع اليوم بعمل معجمين: المعجم الوسيط، والمعجم التاريخي الكبير؛ ليخرج للناس معاجم تمتاز عن المعاجم السابقة بترتيب يجعل الاستفادة منها أيسر، وبعبارات تعرض المعاني في أجلى صورة، علاوة على الداعها ألفاظاً وضعها المجمع، أو أقر وضعها؛ استيفاء لمقتضيات العلم والحضارة. وهذا الاتجاه الموفق دعاني إلى أن أطرح على بساط المؤتمر الموقر بحثًا في كلمة ترد في المعاجم على وجه غير منضبط، وغير واضح وضوحًا يسارع بمعناها إلى أذهان عامة المطالعين. وهذه الكلمة هي: اسم المصدر، الذي يشيرون إليه بعد ذكر الفعل أو المصدر أو الوصف بقولهم: "اسم المصدر كذا"، أو "الاسم منه كذا"، أو "الاسم كذا"، أو "وكذا الاسم". توجد هذه الكلمة في المعاجم القديمة؛ ككتاب "الصحاح"، "والمخصص"، "والجمهرة" لابن دريد، "والنهاية" لابن الأثير، "والقاموس المحيط"، "ولسان العرب"، و"المصباح"، كما توجد في المعاجم الحديثة؛ ¬

_ (¬1) ألقى الإمام هذا البحث في الجلسة التاسعة لمؤتمر مجمع اللغة العربية بالقاهرة (18 يناير 1950) ووفق على إحالته إلى لجنة الأصول. ونشر في الجزء الثامن من مجلة "مجمع اللغة العربية" سنة 1955.

كـ "البستان"، "وأقرب الموارد"، ولا تخلو منها كتب الأدب؛ كـ "الكامل" للمبرد، و"الأمالي" لأبي علي القالي، بل توجد في عبارات يعزوها بعض أصحاب المعاجم إلى الأقدمين من علماء العربية؛ كالخليل، وسيبويه، وأبي عبيدة. ودخلت هذه الكلمة في كتب العلوم الأخرى، وذاعت في شروحها وحواشمِها، حتى انساقت إلى التفسير، وشروح الحديث عندما يرد شيء من أفرادها في القرآن الكريم، أوالحديث الشريف، وجرت على ألسنة الفقهاء عند تعريف بعض الحقائق الشرعية؛ كالطهارة، والسرقة، والعطية. ولا أحسب أن في اللغات الواسعة النطاق لغة تخلو من اسم المصدر، وأعرف أن في اللغة الألمانية مصدراً infinitive، واسم مصدر substantivischer infinitive، والقصد من كلمتنا هذه يرجع إلى أربعة أهداف: أولها: بيان ما هو اسم المصدر في عرف علماء العربية. ثانيها: عرض أمثلة ترون فيها كيف اختلف أصحاب المعاجم في تمييز اسم المصدر عن المصدر، وساروا في ذكره على طريقة غير منتظمة. ثالثها: أسباب هذا الاختلاف. رابعها: البحث عما ينبغي أن نأخذ به في المعاجم التىِ بين أيدينا عندما يقتضي الحال ذكر هذا الصنف من المشتقات. * ما اسم المصدر؟ وما الفرق بينه وبين المصدر؟ حيث جعلنا الهدف الأخير لهذا البحث: لفتَ نظر المجمع إلى رسم الطريقة التي. ينبغي أن تسير عليها معاجمنا في الصيغ التي تسميها المعاجم السابقة: اسم المصدر، رأيت أن أضع على وجه التذكرة أمام المجمع مذاهب

علماء العربية في هذا المصطلح، وما قرروه في الفرق بينه وبين المصدر، فأقول: اسم المصدر: كلمة جرى عرف علماء العربية باستعمالها في نوع خاص من الكلمات المشتقة، يجري بحثها في علمي الصرف والنحو، ينظر الصرفيون في بحثها إلى حال بنيتها واشتقاقها، ويبحثها النحويون من جهة إعرابها، وعملها عمل المصدر في نحو الفاعل والمفعول، ويتناول كل منهما عند شرح معناها الفرق بينها وبين المصدر. يقسم بعض النحويين اسم المصدر إلى ثلاثة أقسام: أحدها: الاسم المشتق من المصدر بزيادة ميم في أوله؛ نحو: ضرب مَضْرِباً؛ أي: ضرباً، وأكرم مُكرماً؛ أي: إكراما .. وليس هذا موضع بحثنا؛ لأنه من الصيغ المطردة المنضبطة، فلا يقع في اشتقاقه غلط، ولا في معناه التباس. على أن كثيراً من النحويين والصرفيين يسمونه: مصدراً ميمياً، لا اسم المصدر. ثانيها: اسم يدل على ما يدل عليه المصدر، ويجري عليه من الأحكام ما يجري على بعض الأعلام؛ من البناء، أو المنع من الصرف؛ نحو: برة غير مصروف بمعنى: المبرة، وفجارِ مبنياً على الكسر بمعنى: الفجور، ونظيره بدادِ، ومعناه: البدة، أو المبادة، وهي التفرق، وهمامِ، ومعناه: الهمة، وصلاحِ، ومعناه: المصالحة، وورد إطلاق اسم المصدر على هذا النوع في كتاب سيبويه إذ قال: ومما جاء اسماً للمصدر: قول الشاعر: إنا اقتسمنا خطتينا بيننا ... فحملت برة واحتملت فجارِ وليس هذا النوع أيضاً موضع بحثنا؛ لأنه يمتاز عن المصادر بما أجري

عليه من أحكام العلم، وهي ألفاظ محصورة في المعاجم ليست بكثير. ثالثها: اسم دال على معنى المصدر، ولكنه يخالف المصدر في عدم جريانه على الفعل الذي يجري عليه المصدر، نحو: الصلح اسم مصدر للمصالحة، فالمصالحة مصدر لصالَحَ، والصلح اسم للمصدر؛ أعني: المصالحة؛ لأنه لا يجري على فعل صالَحَ. وهذا النوع هو الذي نريد بحثه في هذا الحديث، ونعنيه باسم المصدر، أو هو الذي اختلفت كلمة النحاة في تعريفه، وافترقت المعاجم في إيراده بين المشتقات. وإليكم بعض النصوص المعبرة عما يراد منه، الكاشفة عما بينه وبين المصدر من فروق. وستلمحون في نصوص أولئك الباحثين اختلافاً أدى إلى ما ألفوه من حرية الرأي، وإطلاق الفكر في مجال الاجتهاد، ولا يضر الاختلاف الصادر عن حرية واجتهاد ما دام وراءه نقد بريء يميز الراجح من الضعيف، والمخطئ من المصيب. والنصوص التي سنسوقها في التعريف باسم المصدر بعضها يبين الفرق بين المصدر واسم المصدر من جهة اللفظ، وبعضها يبين الفرق بينهما من جهة المعنى. قال أبو إسحاق الشاطبي في "شرح الخلاصة": "اسم المصدر يطلق عند النحويين بإطلاقين: أحدهما: أن يكون معناه الاسم المشتق من المصدر بزيادة ميم في أوله؛ كقولك: ضرب مضربًا، وقتل مقتلًا، وأكرم مكرمًا (¬1). والثاني: أن يكون معناه: الاسم الدال على ¬

_ (¬1) وهذا هو الذي أشرنا إليه آنفاً، وقلنا: لا نقصد إلى بحثه في هذه الكلمة.

معنى المصدر المخالف له بعدم جريانه على فعله، ومثاله: الكلام، والسلام، والعون، والكبر، والطاقة، والطاعة، والعطاء، والعسرة، والثواب؛ فإن هذه الكلمات ونحوها غير جارية على أفعالها: والجاري على سَلَّم: التسليم، وعلى كَلَّم: التكليم، وعلى أَعان: الإعانة، وكذلك سائرها؛ أي: والجاري على تكبر: التكبر، وعلى أطاق: الإطاقة، وعلى أطاع: الإطاعة، وعلى أعطى: الإعطاء، وعلى أعسر: الإعسار، وعلى أثاب: الإثابة، فالجاري هو المصدر، وغير الجاري هو اسم المصدر". وقد رأيتموه كيف أتى بهذه الأمثلة من الصيغ التي جاءت حروفها أقل من حروف الفعل، وهذا ما يصرح به جمهور النحويين؛ إذ يجعلون الفرق بين المصدر واسم المصدر في اللفظ: أن تكون أحرف اسم المصدر أقل من أحرف الفعل، فإن ساوت أحرفُ الصيغة أحرفَ الفعل، أو كانت أزيدَ منها، فذاك هو المصدر، والظاهر أن أبا إسحاق يريد بجريان المصدر على فعله: أن يكون المصدر مشتملًا على أحرف الفعل، سواء كانت أحرفه مساوية، أو أزيد، ويعدم الجريان على الفعل أن تكون أحرفه أنقص من أحرف الفعل، فيدخل في تعريف المصدر: المصادرُ غير القياسية، وهي المصادر الشاذة الموقوفة على السماع، فتكون الصيغ التي تدل على الحدث: مصادر قياسية، ومصادر سماعية، وأسماء مصادر. وقد ذكر ابن القيم في كتاب "بدائع الفوائد" هذا الفرق، فقال: "إن المصدر هو الجاري على فعله الذي هو قياسه؛ كالإفعال من أفعل، والتفعيل من فَعَّل، والانفعال من انفعل، والتفغُّل من تفغل، وأما السلام والكلام، فليسا بجاريين على فعليهما، ولو جريا عليه، لقيل: تسليم، وتكليم.

وإذا كان المصدر ما يجري على قياس فعله، واسم المصدر ما لا يجري على قياس فعله، بقيت المصادر التي لا تجري على قياس فعلها، وهي المصادر السماعية، خارجة عن التعريفين؛ أي: تعريف المصدر؛ لأنها غير جارية على فعلها، وعن تعريف اسم المصدر؛ لأنها تجيء مساوية للفعل بأحرفها، أو أزيد منها. والفرق بين المصدر واسم المصدر في اللغة الألمانية من جهة اللفظ: أن المصدر ما كان منتهياً بحرفي en دائماً؛ نحو: kammen المجيء gehen: الذهاب. وأما اسم المصدر، فإنه يأتي في صيغ مختلفة. هذا ما يقرره علماؤنا من الفرق بين المصدر واسم المصدر من جهة اللفظ، وأما الفرق بينهما من جهة المعنى، فقد افترقوا في ذلك على ستة مذاهب: 1 - أن اسم المصدر يدل على ما يدل عليه المصدر؛ أعني: الحدث، فهما في المعنى سواء، وإنما الاختلاف بينهما في اللفظ فقط، وهذا ما يوافق قول الشاطبي فيما نقلناه عنه في تعريف اسم المصدر: "الاسم الدال على معنى المصدر، المخالف له بعدم جريانه على فعله"، وقال ابن مالك في "التسهيل": "اسم المصدر هو ما دل على معناه ... " إلخ. 2 - أن معنى اسم المصدر: هو لفظ المصدر من حيث دلالته على الحدث، فتكون دلالة اسم المصدر على الحدث بواسطة دلالته على لفظ المصدر، فمدلول عطاء: لفظ: الإعطاء؛ من حيث دلالة الإعطاء على المعنى الصادر من الفاعل، وهو المناولة، وهذا الرأي - وإن اختاره بعض كبار

النحويين؛ كأبي حيان - نراه بعيداً، ودعوى أن العربي عندما يعبر بلفظ الإعطاء يريد به نفس الفعل، وإذا عبر بالعطاء يريد منه: كلمة الإعطاء؛ ليتوصل منها إلى معناها الذي هو المناولة، تعسفُ ينبو عنه الفكر. 3 - ثالث المذاهب: أن معنى المصدر هو الفعل، مع ملاحظة تعلقه بالمنسوب إليه، وأما اسم المصدر، فهو موضوع للفعل من حيث هو، بلا اعتبار تعلقه بالمنسوب إليه، وإن كان له تعلق في الواقع. قال الرضي: الحدث إن اعتبر صدوره عن الفاعل، ووقوعه على المفعول، سمي: مصدراً، وإذالم يعتبر من هذه الحيثية، سمي: اسم مصدر، ويرجع إلى هذا المذهب قول ابن القيم في كتاب "بدائع الفوائد": "وأما الفرق المعنوي - أي: بين المصدر واسم المصدر -، فهو أن المصدر وإل على الحدث وفاعله، فإذا قلت: تكليم، وتسليم، وتعليم، ونحو ذلك، دل على الحدث ومن قام به، فيدل التسليم على السلام والمسلم، وكذلك التكليم والتعليم، وأما اسم المصدر، فإنما يدل على الحدث وحده، فالسلام والكلام لا يدل لفظه على مسلم ومكلم؛ بخلاف التكليم والتسليم، فاسم المصدر جردوه لمجرد الدلالة على الحدث". وقريب من هذا ما يقرر في اللغة الألمانية من أن المصدر الاسمي يلاحظ فيه الحدث مجرداً عن اعتبار تعلقه بفاعل أو مفعول؛ بخلاف المصدر، ولعدم اعتبار تعلقه بفاعل أو مفعول صرحوا بأنه لا أثر له في الإعراب، فلا يعمل في فاعل أو مفعول، وكذلك يقول جماعة من علماء لغتنا: إن اسم المصدر لا يعمل في شيء من متعلقات الفعل، ووقف جماعة على شواهد قليلة فيها إعمال ما يسمى مصدراً، فأجازوا إعماله.

4 - ورابع المذاهب: ما حكاه أبو البقاء في "كلياته"، وهو أن المصدر مدلوله الفعل مع ملاحظة تعلقه بالفاعل، واسم المصدر يدل على الفعل أيضاً، ولكن مع ملاحظة الأثر المترتب عليه. 5 - خامسها: أن المصدر اسم عين يستعمل بمعنى المصدر، فيقال فيه عند استعماله لمعنى المصدر: اسم مصدر، قال الرضي في "شرح الكافية": "هو اسم العين يستعمل بمعنى المصدر؛ كقوله: أكفراً بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المئة الرتاعا أي: إعطائك، والعطاء في الأصل اسم لما يعطى". فاسم الحدث - بناء على هذا الرأي - لا يسمى: اسم مصدر، إلا إذا ثبت أنه استعمل من قبل اسماً لعين. 6 - وسادس المذاهب: ما أشار إليه فارس الشدياق في كتاب "الجاسوس" إذ قال: "الفرق بين المصدر والاسم: أن المصدر يتضمن معنى الفعل ينصب مثله، والاسم هو الحال التي حصلت من الفعل، مثال ذلك: الغَسل، والغُسل تقول: قد بالغت في غَسل هذا الثوب، فتنصب الثوب، فإن أردت الحال، قلت: لست أرى في هذا الثوب غسلاً، وهذا ماظهر لي". وهذا الرأي غير معروف في كتب النحو صراحة. غير أني وقفت على عبارة للشهاب الخفاجي في "شرحه للشفاء" توافقه؛ حيث ذكر صاحب "الشفاء": "الثناء، والكرامة"، فقال الشهاب مفسراً للكرامة: الكرامة: اسم مصدر بمعنى الحاصل بالمصدر، وهو الإكرام. والحاصل بالمصدر يريدون منه: الأثر الذي يترتب على فعل الفاعل؛ أعني: الإيقاع. فمدلول المصدر

نفس الإيقاع الذي هو أمر معنوي لا يشاهد، وهو من مقولة الفعل، ومدلول اسم المصدر: أثره الذي هو هيئة محسوسة، وهو بهذا المعنى من مقولة الكيف. * اختلاف المعاجم في أسماء المصادر: هل سار اللغويون في معاجمهم عند إيراد اسم المصدر على قاعدة النحويين، وهو أن تكون أحرفه أقل من أحرف الفعل، أو أنهم اتخذوا قاعدة أخرى لهذا المصطلح، وساروا عليها بانتظام؟. هم يقولون فيما كانت أحرفه أقل من أحرف الفعل: اسم مصدر، فكثيراً ما تجدهم يذكرون فعلاً على وزن أفعل، أو فغَّل، أو تفاعل، أو نحوها من الأفعال المزيدة، ويوردون صيغة أقل حروفاً منه على أنها اسم المصدر، كما قال صاحب "المخصص": "الأداء اسم من قولك: أديت الشيء تأدية". ولكننا نجدهم قد يذكرون الفعل الثلاثي، ويسمون ما يذكرونه بعدُ: اسماً، وهو مساو لحروفه للفعل، كما قال صاحب "المصباح": أثم أثماً من باب تعب، والإثم -بالكسر- اسم منه. وقال صاحب "المخصص": نبزه ينبزه نبزاً، والاسم النبز. وقال صاحبه "البستان": والصدر - محركة -: الاسم من صدر؛ أي: رفع. وقال صاحب "المخصص": عفوت للحق: خضعت، والاسم العفوة. وقال صاحب "الجمهرة": غبّ الطعام يغب غباً، والاسم: الغبّ. بل نجدهم يذكرون الفعل الثلاثي، ويصلونه بما يسمونه اسماً، وهو أزيد حروفاً من الفعل؛ كما قال صاحب "المصباح": "أتى الرجل يأتي أتياً: جاء، والإتيان اسم منه". قال: "شَتَّ من باب ضرب، والاسم: الشتات"،

وقال صاحب "القاموس": "مرح؛ كفرح ونشط: تبختر، والاسم ككتاب؛ أي: مراح"، وقال: "صقله: جلاه، فهو مصقول، وصقيل، والاسم ككتاب"، وقال: "فطمه: فصله عن الرضاع، والاسم: ككتاب". وقد يبدو للناظر في المعاجم أن ليس للغويين قاعدة مضبوطة في تسمية بعض أسماء المعاني أسماء مصادر؛ لوجوه: أحدها: أنهم قد يترددون، أو يختلفون في الصيغة الواحدة بين كونها مصدراً أو اسماً كما قال صاحب "القاموس": عتق العبد يعتق عتقاً، ويفتح، أو بالفتح: المصدر، وبالكسر: الاسم، وقال: الصدق - بالكسر والفتح -: ضد الكذب، أو - بالفتح -: المصدر، و - بالكسر - الاسم، وقال: عاف عيفاً وعيافاً، أو ككتاب: مصدر، وككتابة: اسم، وقال صاحب "المحكم": التلقاء اسم مصدر، لا مصدر، وقيل: مصدر، ولا نظير له. ثانيها: أنهم يختلفون في الصيغة، هل هي اسم مصدر، أو هي مصدر في بعض اللغات، كما قال صاحب "المصباح": شربته شَرباً - بالفتح -، والاسم: الشُّرب - بالضم -، وقيل: همالغتان، أي: كل منهما مصدر، وكل مصدر عائد إلى لغة، وورد الحَج بالفتح، والحِج بالكسر، فقال أبو علي الفارسي في كتاب "الحجة": الحج مصدر، والحِج الاسم، وقال غيره في "المخصص": همالغتان. ثالثها: قد يدرج بعضهم في أسماء المصادر صيغة يعدها النحويون من الصيغ الجارية على القياس؛ كما عدّ صاحب "المصباح": النواح اسم مصدر لناح، مع أن الفُعال - بضم الفاء - من الأوزان القياسية مما يدل على صوت؛ كالصراخ، وقد أورده صاحب "القاموس" في المصادر، ثم

0 قال: والاسم: النياحة. رابعها: أن يذكر فعلا ثلاثياً، وفعلاً آخر من المزيد. ويوردون صيغة واحدة على أنها اسم مصدر لهما؛ كما قال صاحب "المصباح" في مادة: ألف: ألفته إلفاً: أنست به، والاسم: الألفة - بالضم -، والألفة أيضاً اسم من الائتلاف. خامسها: أن يختلف عمل المعجميين في الصيغة الواحدة، فيوردها أحدهم في جملة المصادر، ويقول الآخر عنها: إنها اسم مصدر؛ كما ساق صاحب "القاموس" المودة في مصادر ودّ، وعدها صاحب "المصباح" اسم مصدر، فقال: والاسم: المودة، وكما اختلفا في لفظ مُزاحة، ساقها صاحب "المصباح" مساق المصدر، وعدها صاحب "القاموس" اسماً لمصدر مزح. واختلفا في لفظ البخل كفلس، ساقه صاحب "القاموس" مساق المصادر لبخل، وعده صاحب "المصباح" اسم مصدر. ونسب فارس الشدياق لصاحب "القاموس" تخليط المصدر باسم المصدر؛ حيث ذكر القوت - بالضم - في مصدر قات، مع أن صاحب "الصحاح" عده اسماً إذ قال: والاسم: القوت. وقد يجدهم الناظر يذكرون للفعل الواحد مصادر متعددة، ولا يسمون واحداً منها اسم مصدر، كما ذكر صاحب "القاموس" لفعل لزم ستة مصادر، ولخسر سبعة مصادر، ولمكث تسعة مصادر، وللقي أحد عشر مصدراً، ولتم عشرة مصادر، ولم يقل في واحد منها: إنه اسم مصدر. وأحياناً يذكرون للفعل الواحد مصدراً، ويردفونه بصيغ يقولون عنها: إنها أسماء مصادر، قد يكون من المعقول أن يذكرواللفعل المزيد صيغاً

ليست جارية عليه، ويسمونها: أسماء مصدر؛ كما قال صاحب "القاموس": أوصاه، ووصَّاه توصية: عهد إليه والاسم: الوصاة، والوصاية، والوصية، ولكن النظر يقف عندما يذكرون فعلاً ثلاثياً ومصدره، ثم يذكرون صيغاً بمعنى المصدر، ويسمونه: أسماء مصدر، كما قال صاحب "القاموس": "مزح مزحاً"، ثم قال: "ومُزاحة، ومُزاحاً - بضمهما -، وهما اسمان". * أسباب اختلات المعاجم في مسألة اسم المصدر: لعدم اتحاد المعاجم على وجهة واحدة أسباب نعرض على حضراتكم ما بدالنا منها أثناء البحث، عسى أن يكون لعرضها أثر في تلافي ذلك النقص فيما سيصدره المجمع من المعاجم: 1 - جرى علماء اللغة على أن يجمعوالهجات القبائل العربية في لغة واحدة، فيذكرون للفعل الواحد مصادر متعددة، وقد يكون للفعل في لغة قبيلة صيغة مصدر، وله في لغة غيرها من القبائل صيغة أخرى، فهذا صاحب "القاموس" - مثلاً - عدّد لكل من فعلي حمّل وكذّب مصدرين هما: التحميل، والتحمال، والتكذيب، والكِذّاب، والواقع أن كل واحد من المصدرين عائد إلى لغة. قال سيبويه في "الكتاب": "وقال قوم: كلمته كِلاَّماً، وحَمَّلته حِمَّالا". وقال الكسائي: "أهل اليمن يجعلون مصدر فعّل فِعّالاً، وغيرهم من العرب يجعلونه تفعيلاً". ومن أمثلة هذا أن صاحب "القاموس" ذكر مصادر فعل طلع، فقال: طلعت الشمس طلوعاً، ومطلَعاً، ومطلِعاً، وسيبويه يقول في الكتاب أتيتك مطلِع الشمس؛ أي: عند طلوعها، وهذه لغة بني تميم، وأما أهل الحجاز، فيفتحون؛ أي: اللام. ومن قبيل ما كان تعددُ مصادره من اختلاف اللغات: غزر؛ ككرم،

غزراً، وغزراً؛ أي: أكثر، فقد قال الأصمعي كما في "أمالي أبي علي القالي": إن الغزر لغة أهل البحرين، والغزر - بالفتح - اللغة العالية. ويدلكم على أن تعدد المصادر قد يكون من اختلاف اللغات: أن قياس أهل نجد كما قال الرضي في "شرح الشافية" أن يقولوا في مصدر مالم يسمع مصدره من فعَل - المفتوح العين -: فُعول، متعدياً كان أو لازماً، وقياس الحجازيين فيه: فعل، متعدياً كان أو لازماً. ونشأ من إيراد المصادر من غير أن تنسب إلى قبائلها أن ألحقوا بعض المصادر باسم المصدر، وإنما هو مصدر في لغة من اللغات؛ كما عد بعضهم شُرباً - بضم الشين - اسم مصدر لشرب، وإنما هي لغة تميم، قال صاحب "المزهر": شربت الماء شَرباً، وبنو تميم يقولون: شربت الماء شُرباً. 2 - ومن المصادر الجارية على بعض الأفعال ما يوضع موضع مصدرٍ آخر جارٍ على فعله الخاص؛ كوضع تعقيد موضع تعقُّد، في قولك: فصاحةُ الكلام: خلوُصه من التعيقد،. إذ الكلام إنما يوصف بالتعقد، لا بالتعقيد، ولكنك وضعت التعقيد موضع التعقد، وقد جاء في الكتاب العزيز: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]، وضع هنا التبتيل موضع التبتُّل، وكثيراً ما يقول المتقدمون في مثل هذا النوع: اسم أقيم مقام مصدر كذا، وسماه سيبويه في كتابه: مصدراً، فقال: باب: ما جاء المصدر فيه على غير الفعل؛ لأن المعنى واحد، وذلك قولهم: اجتوروا تجاوراً، وتجاوروا اجتواراً، فإن معنى اجتوروا وتجاوروا واحد، وأورد في هذا القبيل آية: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} وقول القطامي: وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تَتَبَّعُهُ اتِّباعا

كما استعمل رؤبة الانطواء موضع التطوي في قوله: "وقد تطويت انطواء الحضب"، والحضب: الحية. وقد يطلق بعض أهل العربية على هذا النوع كلمة: اسم مصدر، مع أن له فعلاً يجري عليه. 3 - وقد يجد اللغوي اسم معنى، ولا يقف له على فعل من لفظه يجري عليه، فيسميه: اسم مصدر؛ كما قال ابن الحاجب في "أماليه": "واسم المصدر هو اسم المعنى، وليس له فعل يجري عليه؛ كالقهقرى". ولكن ثبت عند غيره أن له فعلاً يجري عليه؛ كما ورد في "القاموس": أنهم قالوا قهقر؛ أي: رجع إلى خلف. وكما قال ابن درستويه في "شرح الفصيح": ليس واحد من الخُطبة والخِطبة بمصدر لقولك: "خطب المرأة" يخطب، ولكنهما اسمان يوضعان موضع المصدر؛ لأن مصدر هذا الفعل غير مستعمل. وقد ثبت عند غيره أن له مصدراً جارياً عليه، وهو الخطب، أورده صاحب "القاموس"، وأضاف إليه: الخطبة، والخطِّيبى على أن الثلاثة مصادر لهذا الفعل. 4 - قد يسمون اللفظ الدال على الحدث: اسم مصدر؛ حيث يجدونه وارداً على صيغة غير معروفة في المصادر، ومن هنا أنكر كثير من علماء الصرف أن يكون ما جاء على وزن فَعول - بالفتح - مصدراً، وقالوا فيما ورد منه؛ كَقبول ووَلوع: اسم مصدر، لا مصدر، وحكى صاحب "اللسان" عن ابن جني: أن المجوبة: اسم مصدر من أجاب، ثم قال: "ولا تكون مصدراً؛ لأن المفعلَة عند سيبويه ليست من أبنية المصادر"، وقال صاحب "المحكم": التقاء اسم مصدر، لا مصدر، وإلا، فتحت التاء، فسماه: اسم مصدر؛ حيث ورد في وزن غير معروف في المصادر.

5 - ثم إن اللغويين قد يصرحون بأن كذا اسم مصدر؛ كما قال صاحب "المخصص": الجزاء اسم مصدر، وقد يقولون بعد ذكر الفعل والمصدر: والاسم كذا، ويتبعونه بما يدل على أنهم أرادوا اسم المصدر؛ كما قال صاحب "المخصص": أنفذت الأمر: قضيته، والاسم النَّفْذ، يقال: أمرته بنَفْذه؛ أي: إنفاذه. وتارة يردفونه بما يدل على أنهم أرادوا المشتق من نحو اسم الفاعل أو المفعول؛ كما قال صاحب "اللسان" في مادة دفأ: والاسم: الدفء - بالكسر -، وهو الشيء الذي يُدفئك، وقال صاحب "العين" فيما نقله صاحب "المخصص" وهو يتحدث عن صفد بمعنى أوثق: "والاسم الصفاد، والصفاد: حبل يوثق به، أو غُل". وكما قال صاحب "المخصص": "فاد له مال فيداً، والاسم: الفائدة، وهو ما استفدت". وقال في مادة كنز: "والاسم: الكنز، إنما أراد: المال المكنوز؛ أي: المدفون؛ بدليل قوله: والجمع كنوز". وكثيراً ما يقول: والاسم كذا، إنما يريد: اسم الفاعل. وقد تدلك الصيغة على أن المراد اسم الفاعل؛ كما قال صاحب "النهاية": بئس يبأس بؤساً وبأساً: افتقر، والاسم: بائس. وسيبويه قد يعبر في "الكتاب" بالاسم عن اسم الفاعل؛ كما قال بعد ذكر أفعال ومصادرها: والاسم: قاتل، والاسم: خالق، والاسم: لاحس، والاسم: لا قم. وقد يقولون بعد ذكر الفعل والمصدر: "والاسم كذا". ولا يستبين من عبارتهم ماذا أرادوا، وهذا قد يختلف في تفسيره الكاتبون في اللغة أنفسهم؛ ككلمة "بُقيا"، قال صاحب "القاموس": "والاسم: البُقيا"، ولم يذكر ما يبين المراد منها، وأوردها صاحب "المخصص"، وقال: "البُقيا:

الإبقاء على الشيء". ولكن صاحب "أقرب الموارد" أوردها مع البقوى، وقال: "أسماء لما بقي". ولم يقع اضطراب لمعاجم اللغة الألمانية في ذكر اسم المصدر؛ لأن المصادر عندهم كلها منتهية بحرفي en. فما عداها مما يدل على المعنى الذي يدل عليه المصدر هو اسم مصدر؛ نحو der cang: الذهاب، و Die kemitnis المعرفة sicit: النظر. * ما الطريق التي يصح لنا أن نتحراها في صنع معاجمنا؟ إذا كانت كلمة: اسم المصدر من المصطلحات التي نشأت في المصدر الأول، ودخلت في معاجمنا قديماً وحديثاً، بل في أكثر العلوم العربية، وكان لها نظير في اللغات الراقية، لا نرى وجهاً للاستغناء عنها وإيرادها أينما وجدت في قبيل المصادر، حتى على المذهب المشهور القائل: إن مدلول معنى اسم المصدر هو معنى المصدر، ويمكننا أن نتحاشى ذلك الاختلال الواقع في المعاجم بتقرير قاعدة مضبوطة؛ بأن نعتمد الفرق بين المصدر واسم المصدر من جهة اللفظ على ما قاله النحاة، واتبعته المعاجم في أكثر المواد، وهو أن اسم المصدر: ما كانت أحرفه أنقص من أحرف الفعل، والمصدر: ما كانت أحرفه مساوية لأحرف الفعل، أو أزيد منها. ونضم إلى هذا ما يفهم من تعريف اسم المصدر من أنه إنما يكون للأفعال المزيد فيها؛ أي: لا يكون للأفعال الثلاثية، أو المصادر الثلاثية اسمُ فعل، وقد صرح بذلك بدر الدين بن مالك، فقال: "اسم المصدر ما كان لغير ثلاثي؛ كالغسل، والوضوء". ونعتمد على أن لا فرق بينهما من جهة المعنى؛ أي: أن كلاً منهما يدل على المعنى الصادر من الفاعل، أو القائم

به، وإذا أراد المتكلم أن يدل على معنى الفعل غير ملاحظ تعلقه بفاعل أو مفعول، كان الأولى أن يدل عليه باسم المصدر؛ لأنه أخصر، وله أن يعبر بالمصدر؛ إذ المصدر نفسه قد يستعمل في العربية مشاراً به إلى الاحداث كذات قائمة بنفسها، وذلك ما يعنونه بقولهم: المصدر معنى الثبوت، وما يشار به إلى الحدث باعتبار تعلقه بفاعل أو مفعول، وهو ما يعنونه بقولهم: المصدر بمعنى الحدوث (¬1)، ومن المعروف في اللسان الألماني أن المصدر قد يستعمل كالمصدر الاسمي مراداً منه الحدث المجرد ويصلونه بأداة التعريف der kammen المجيء، der sehen الرؤية. ويسوغ لنا أن نطرح من أسماء المصادر كل اسم معنى له فعل ثلاثي يلاقي الفعل المزيد في المعنى، ونذكره على أنه مصدر للفعل الثلاثي، وإذا استعمل مع الفعل المزيد كأنه مصدر له، جعلناه من قبيل المصدر الذي وضع موضع مصدرآخر، وليس كل مصدر أقيم مقام مصدر آخر يستحق أن يسمى: اسم مصدر، فنحو لفظ: نبات له فعل ثلاثي هو نبت، فاستعماله مع الفعل الذي يلاقيه في المعنى، وهو أنبت، لا يقتضي دخوله في قبيل اسم المصدر، وإنما هو مصدر أقيم مقام مصدر آخر؛ لخفته، أو لاستقامة الفاصلة، أو القافية، ونحو ذلك من مقتضيات حسن البيان. وممن درج على الفرق بين اسم المصدر وما وضع موضع المصدر: صاحب "المصباح" حين تكلم عن لفظ نبات في آية {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17]، وقال: قيل: وضع موضع المصدر، وقيل: هو اسم مصدر. أما اسم المعنى الذي لم نجد له فعلاً ثلاثياً يلاقي الفعل المزيد في ¬

_ (¬1) "شرح ابن هشام لقصيدة بانت سعاد".

المعنى؛ نحو: عطاء، وكلام، وسلام، فلتسميته اسم مصدر وجه، وهو مجيئه على خلاف ما هو معهود في المصادر من ارتباطها بالأفعال، وجريانها عليها بمعنى: استيفاء حروفها. وترك تسمية بعض الألفاظ العربية باسم المصدر الذي هو مصطلح علمي لا يمس جوهر اللغة بشيء، وإنما هو تصرف في اصطلاح لم يتفق عليه علماء العربية أنفسهم. هذا ما ظهر لي في تلافي النقص الذي وقع لمعاجمنا في مسألة اسم المصدر، ولينظر المجمع الموقر ماذا يرى.

شرح قرارات المجمع، والاحتجاج لها تكملة مادة لغوية ورد بعضها في المعجمات، ولم ترد بقيتها

شَرْحُ قراراتِ المجمَعِ، والاحتجاجُ لها تكملة مادة لغوية ورد بعضها في المعجمات، ولم ترد بقيتها (¬1) نرى كتب اللغة - ولو كانت مبسوطة - قد تهمل في كثير من المواد بعض ما يتفرع عنها من نحو المصادر، والأفعال، والمشتقات غير الفعل. ومن هذه المهملات ما يعرف من اصطلاح صاحب المعجم، فيكون بمنزلة المذكور صراحة، كما نبه الفيروز أبادي في "مقدمة قاموسه" أنه إذا ذكر المصدر مطلقاً، أو الماضي، ولم يذكر المضارع، فالفعل من باب كتَب يكتُب. ومن هذه المهملات ما يقول أصحاب المعاجم: إن العرب هجرته، أو أهملته، أو أماتته، أو لم تقله، أو لم تتكلم به، أو استغنت عنه بكذا، كما قالوا: إن العرب أماتوا ماضي دَعْ، وذَرْ (¬2)، وقالوا: مصدر عسى لا يستعمل؛ لأنه أصل مرفوض (¬3)، وقالوا: الحتف: الهلاك، ولا يبنى منه فعل (¬4)، وقالوا: السافر: المسافر، ولا فعل له (¬5)، وقالوا: إن العرب استغنوا بارتفع ¬

_ (¬1) مجلة "مجمع اللغة العربية" القاهرة الجزء الثاني مايو 1935 - صفر 1354. (¬2) "القاموس". (¬3) "المزهر". (¬4) "المجمل" لابن فارس. (¬5) "القاموس".

عن رفع، وعليه جاء رفيع. وقد يقول بعضهم في المصدر، أو الفعل، أو المشتق غير الفعل: إن العرب أماتته، أو لم تقله، أو استغنت عنه بكذا، ويخالفهم آخرون من الثقات، وينسبون إلى العرب أنها قالته، أو استعملته في كلامها، والسماع كما قال أبو إسحاق الشاطبي: "إذا أثبته ثقة، لم يطرح بسبب أن ثقة آخر لم يثبته؛ لعدم اطلاعه عليه، بل القاعدة أن المثبت في مثل هذه الأمور مقدم على النافي؛ لأن النافي إنما يقول: لم أحفظه". وجمهور علماء العربية على أن ما نص في المعاجم ونحوها أنه أميت، أو لم تقله العرب؛ من فعل أو مصدر أو مشتق، نجري فيه على ما جرت عليه العرب، فنهمله، ونستغني عنه بالألفاظ التي تغني عنه. ولم نر من أجاز استعمال ما أهمله العرب على هذا الوجه إلا ابن درستويه؛ فقد قال في "شرح الفصيح": "إنما أهملوا استعمال ودع، ووذر؛ لأن في أولهما واواً، وهو حرف مستثقل، فاستغني عنهما بما خلا منه، وهو: ترك". ثم قال: "واستعمال ما أهملوا من هذا جائز صواب، وهو الأصل". ومن المهملات في كتب اللغة: مالا يستدل عليه باصطلاخ، ومالا يقول فيه أصحاب المعاجم: إن العرب أماتته، أو لم تقله؛ كأن يشرحوا المادة، ويذكروا بعض ما يتصل بها، ويسكتوا عن بعض، وهذا النوع هو الذي عني به المجمع، شاعراً بالحاجة إلى إحيائه بالاستعمال؛ إذ تزداد به اللغة ثروة، وتسدّ به حاجات قد يقصر غيره عن أن يقوم مقامه في سدّها، فسلك في بحثه طريقاً وسطاً، وانتهى به البحث إلى ذلك القرار الحكيم. افتتح القرار بالتنبيه على طريق تكملة المواد غير ثلاثية الحروف، وهي:

مزيد الثلاثي، ومجرد الرباعي، وملحقه (¬1)، ومزيده، ذلك أن تصوغ مالم يذكر على ما يقتضيه كل باب من هذه الأبواب. وبيان هذا: أن ما زادت حروفه على ثلاثة، يكون لكل صيغة من أفعاله صيغة مصدر قياسية، وصيغة مشتق غير فعل لا يتخلفان عنها (¬2)، ويكون لكل صيغة من مصادره صيغة فعل واحدة، وهكذا الشأن في مشتقاته؛ من نحو: اسم الفاعل، واسم المفعول، واسم الزمان والمكان، فلكل صيغة من صيغها وزن من الأفعال، وآخر من المصادر لا تتجاوزهما. ولهذا كانت دلالة كل من المصدر، أو الفعل، أو المشتق غير الفعل على البقية واضحة مطرد؛، فإذا وجدت في مادة اسماً في وزن مفتعل - مثلاً -، صغت له فعلاً على وزن افتعل، ومصدراً على وزن الافتعال، وإذا وجدت في أخرى مصدراً في وزن "فعللة"، صغت له فعلاً في وزن فعلل، واسم فاعل في وزن مُفعلِل، وقس على هذا ما شاكله من الصيغ غير ثلاثية الحروف. وتضمن القرار أن الفعل الثلاثي المتعدي يصاغ له مصدر على وزن ¬

_ (¬1) الإلحاق: أن يزاد في ثلاثي أو رباعي ما يجعله موازناً لما فوقه؛ أي: موافقاً في الحركة والسكون وعدد الحروف، وهو قياسي عند أبي علي الفارسي، وابن جني، قال ابن جني: لو احتجت في شعر أو سجع أن تشتق من ضرب اسماً، أو فعلاً، أو غير ذلك، لجاز، وكنت تقول: ضربب زيد عمراً، وأنت تريد: ضرب. (¬2) وقد يكون للمصدر مع الصيغة القياسية صيغة أخرى؛ نحو: فاعَلَ، له صيغة لا تتخلف عنه هي المفاعلة، وصيغة أخرى مختلف في قياسيتها، وهي الفِعال، ونحو: فعلل، له صيغة لا نزاع في قياسيتها هي الفعللة، وصيغة أخرى جرى الخلاف في قياسيتها، هي: فِعلال - بكسر الفاء -.

فعل مالم يدل على حرفه. وهذا موافق لما يقوله علماء العربية؛ إذ قرروا: أن مصدر الفعل الثلاثي المتعدي يكون على فعل قياساً مطرداً، واستثنوا الأفعال الدالة على الحرفة؛ فإن قياس مصدرها: فِعالة -بكسر الفاء-، وكان المجمع قد قرر في دورته الأولى قياسية فِعالة للحرفة، سواء أكان الفعل متعدياً، أم لازماً (¬1). وتضمن القرار: أن الفعل اللازم الذي يأتي على وزن فِعل - مكسور العين - يصاغ له مصدر على فعَل - مفتوح العين - مالم يدل على لون، فيصاغ مصدره حينئذ على فُعْلة -بضم فسكون-، وهذا القرار موافق لما جرى عليه علماء العربية؛ فإنهم قرروا أن مصدر فعِل اللازم يكون على وزن فَعَل؛ نحو: فرِح فرَحاً، وهوِي هوى، وشَلّ شَللاً، واستثنوا من ذلك ما دلّ على لون، وقالوا: إن الغالب على مصدره الفُعْلة؛ نحو سَمِر سُمْرة، وشهِب شُهبة، وكَهِب كُهبة. وتضمن القرار: أن الفعل اللازم الذي يأتي على وزن فُعل مضموم العين يصاغ له مصدر على وزن فَعالة، أو فُعولة. وهذا من الأصول المعروفة في علم الصرف. قال الصبان في "حواشي الأشموني": "فعولة وفعالة كل منهما مصدر قياسي لفعُل المضموم العين، فإذا وردا، فذاك، أو أحدهما، اقتصر عليه، أو لم يرد واحد منهما، خيّر بينهما". وتضمن القرار: أن الفعل اللازم الذي يجيء على وزن فعَل - بفتح ¬

_ (¬1) انظر قرار المجمع في: (ص 206) - الجزء الأول من مجلة "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة.

العين - يصاغ له مصدر على فُعُول - بالضم -، واستثنى من ذلك ما يدل على حرفة، أو اضطراب، أو صوت، أو مرض، أو سير، أو امتناع، أو ما كان معتل العين. أما أن قياس مصدر فعَل اللازم هو الفعول، فاصل معروف لا نحتاج إلى أن نقيم عليه شاهداً من نصوص علماء العربية. وأما الأصناف السبعة التي استثنيت من هذا الأصل، فلأن قياس مصدر ما يدل على الحرفة: فِعالة، وقياس مصدر ما يدل على الاضطراب: فَعَلان، وقياس مصدر ما يدل على الصوت: فُعال، أو فَعيل، وقياس مصدر ما يدل على المرض: فُعال (¬1)، وقياس مصدر ما يدل على السير: فَعِيل، وقياس ما يدل على الامتناع: فِعال؛ نحو: إباء وجماح وشراد، وقياس مصدر ما جاء معتل العين: فَعْل - بفتح الفاء وسكون العين-. وتضمن القرار: أن الفعل الذي يكون مجهول الحال؛ أي: لا يعرف من أي باب هو، ينظر في معناه، أو في حال تعديه ولزومه، ويلحق بالباب الذي يقتضيه المعنى، أو التعدي واللزوم، ويصاغ له مصدر على مقتضى الباب الذي ألحق به، فإذا وجدنا في المعجمات - مثلاً - فعلاً لم ندر أهو مفتوح العين أم مكسورها أم مضموها؟ ونظرنا إلى معناه، ثم إلى حال تعديه ولزومه، فإن كان فعلاً لازماً يدل على سجية، ألحقناه بباب فعُل - بضم العين -؛ لأنه الأغلب في السجايا، وقال الرضي: "إن (فعُل) يأتي في الأغلب للغرائز؛ أي: الأوصاف المخلوقة؛ كالحسن والقبح، والوسامة والقسامة، والكبر والصغر، والسهولة والصعوبة، والثقل والحلم، ونحو ذلك". ¬

_ (¬1) انظر قرار المجمع: (ص 209) من الجزء الأول من المجلة.

وإذا ألحقناه بباب فَعَل صغنا له مصدراً على وزن فعالة أو فعولة؛ لأنهما الصيغتان القياسيتان لمصدر الفعل الآتي من باب فعُل. وإن كان فعلاً لازماً يدل على حزن أو فرح، أو لون أو عيب أو حلية، أو خلو أو امتلاء، أو خوف أو مرض، ألحقناه بباب فعِل يفعَل؛ لأن هذا الباب تكثر فيه هذه المعاني، كما هو مبسوط في علم الصرف. وإذا ألحقناه بباب فعِل يفعَل، صغنا له مصدراً على وزن فَعَل - مفتوح العين -؛ لأنه الصيغة القياسية لمصدر هذا الباب. فإذا كان الفعل المجهول لازماً، ولم يدل على شيء من تلك المعاني المفصلة، ألحقناه بباب فعَل - مفتوح العين -؛ لأنه أكثر في الاستعمال من فعُل - بالضم -، وفعِل - بالكسر -. قال الرضي في "شرح الشافية": "إن باب فعَل لخفته لم يختص بمعنى من المعاني، بل استعمل في جميعها؛ لأن اللفظ إذا خف، أكثر استعماله، واتسع التصرف فيه. وإذا ألحقناه بباب فعَل، جاز لنا أن نجعله من باب نصر، فنضم عين مضارعه، أو من باب ضرب، فنكسرها، قال الرضي في ذلك الشرح: "قياس مضارع فعَل المفتوح عينه: إما بالضم، وإما بالكسر". وقال أبو زيد: كلاهما قياس، وليس أحدهما أولى به من الآخر، فإن عرف الاستعمال، فذاك، وإلا، استعملا معاً، وليس على المستعمل شيء (¬1). ثم تعرض القرار للاستدلال بالمصدر على الفعل، وفصل القول في ¬

_ (¬1) قال بحرق في "شرح اللامية": لم أظفر بمادة مطلقة يكون الشخص مخيراً فيها بين الضم والكسر؛ يعني: أنه ما من فعل نقل عن العرب إلا ورد مقيداً بكسر أو بضم، أو بهما.

ذلك على حسب ما يدل عليه المصدر من المعاني، فإن دل على سجية، صيغ له فعل من باب فعُل يفعُل؛ لما سبق من أن هذا الباب هو الباب الأغلب في السجايا. وإن دل المصدر على حزن أو فرح، أو لون أو عيب أو حلية، أو خلو أو امتلاء، أو خوف أو مرض على فَعَل، صيغ له فعل من باب فعِل يفعَل؛ لما سبق من أن هذا الباب تكثر فيه هذه المعاني. وإن لم يدل المصدر على شيء من هذه المعاني -أعني: السجية والحزن والفرح واللون وما عطف عليها-، ولم تكن عينه أو لامه حرف حلق، صيغ له فعل من باب نصَر أو ضَرب؛ لما سبق من أن فعَل المفتوح العين أكثر من فعُل - بالضم -، وفعِل - بالكسر -، وأن فعل الذي لا ندري كيف نطق العرب بمضارعه، كان لنا أن ناتي بمضارعه مضموم العين أو مكسورها. وإن كانت عينه أو لامه حرف حلق (¬1)، صيغ له فعل من باب فعَل يَفعَل - بفتح العين فيهما -، وهكذا قياسه المعروف عند علماء الصرف. ووجهه: أن حروف الحلق ثقيلة، وبعيدة المخارج، فاعطي المضارع معها أخف الحركات الذي هو الفتح؛ ليكسب اللفظ من بين ثقل حروف الحلق وخفة حركة الفتح شيئاً من الاعتدال. ثم تعرض القرار للاستدلال بالمشتق غير الفعل على مالم يذكر من الفعل والمصدر، ونبه على أنه يستدل بالمشتق على الفعل والمصدر بالنظر في معنى المشتق وحال تعريفه ولزومه. فاذا وجدنا - مثلاً - مشتقاً يدل على ¬

_ (¬1) حرف الحلق ستة هي: الهمزة والعين والخاء والهاء والحاء والغين.

سجية، صغنا له فعلاً من باب فعُل يفعُل؛ لما عرفته من أن هذا الباب هو الباب الأغلب في السجايا، وصغناله مصدراً من باب فَعالة أو فُعُولة؛ لما عرفته أيضاً من أن مصدر باب فعُل يفعُل قياسُهَ فَعالة أو فُعولة. وإن كان المشتق لازماً، ودل على سير، صغنا له فعلاً من باب فَعَل؛ لأن السير معدود في المعاني التي يأتي لها فَعَل؛ نحو: رَقَل وذَمَل، وصغنا له مصدراً على الوزن المعروف للسير، وهو فَعِيل. وإن دل المشتق على مرض، صغنا له فعلاً من باب فَعِل يفعَل، وصغناله مصدراً على الوزن المعروف للمرض وهو فُعال، وقس على هذا غيره من وجوه الاستدلال المشار إليها في قرار المجمع ونصه: 1 - قرار تكملة مادة لغوية ورد بعضها في المعجمات ونحوها ولم ترد بقيتها (¬1): إذالم تذكر من مادة لغوية في المعجمات ونحوها إلا بعض ألفاظها؛ كالمصدر، أو الفعل، أو أحد المشتقات الأخرى، فلذلك حالان: الأولى: أن تكون المادة غير ثلاثية الحروف، حينئذ يجوز لنا أن نصوغ منها مالم يذكر على حسب قياس كل باب من أبواب مزيد الثلاثي، وباب الرباعي، وملحقه، ومزيده. الثانية: أن تكون المادة ثلاثية، والمذكور حينئذ إما فعل، وإما مصدر، وإما مشتق غير الفعل. أ - فإن كان المذكور فعلاً، فهو إما متعد، وإمالازم. فالمتعدي نصوغ له مصدراً على وزن "فَعْل" - بفتح فسكون- مالم يدل على حرفة. واللازم ¬

_ (¬1) محضر الجلسة التاسعة.

له أربع حالات: 1 - إما أن يكون على وزن فعِل - مكسور العين -، فنصوغ له مصدراً على "فعَل" - مفتوح العين - مالم يدل على لون، فيصاغ مصدره حينئذ على وزن "فَعْلة" - بضم فسكون -. 2 - وإما يكون على وزن " فعُل" - مضموم العين -، فنصوغ له مصدراً على "فُعالة، أو فُعُولة" - بالضم -. 3 - وإما أن يكون على وزن " فعَل" - بفتح العين-، فنصوغ له مصدراً على وزن "فعول " - بالضم - مالم يدل على حرفة أو اضطراب، أو صوت أو مرض، فنصوغ مصدر كل منها على الوزن الذي قرر المجمع قياسيته في دورته الأولى، ومالم يدل أيضاً على سير أو امتناع، فإننا نصوغ للأول مصدراً على "فَعيل"، وللثاني مصدراً على "فِعال" - بالكسر -. ومالم يكن معتل العين، فيكون قياسه: "الفَعْل" - بفتح فسكون-. 4 - وإما أن يكون مجهول الباب، فنرجعه بحسب ما يدل عليه من المعنى أو التعدية أو اللزوم إلى باب من الأبواب المتقدمة، ونصوغ له مصدراً مناسباً لهذا الباب. ب - وإذا كان المذكور في المعجمات ونحوها مصدراً: 1 - فإما ألا يدل على سجية أو حزن، أو فرح أو لون أو عيب أو حلية، أو خلو أو امتلاء، أو خوف أو مرض على وزن "فَعَل"، فيصاغ له فعل من باب نصر، أو ضرب، مالم تكن عينه أو لامه حرف حلق، فإن بابه "فعَل يفعَل". 2 - وإما أن يدل المصدر على معنى من المعاني السابقة، فإن دل على

سجية، كان فعله على "فعُل يفعُل"، وإلا كان الفعل من باب فعَل يفعَل. ج - وإذا كان المذكور في المعجمات ونحوها مشتقاً غير فعل، استدللنا على مصدره أو فعله بمعرفة ما يدل عليه هذا المشتق من المعاني والتعدية واللزوم. وكل ما تقدم جائز مالم ينص على أن الفعل مات، أو محظور، ومالم يسمع عن العرب ما يخالفه، فإن سمع، عملنا بالمسموع فقط، أو عملنا بالمسموع أو القياس. * * * وقد جاء القرار موافقاً لمذهب الجمهور من أن الأفعال التي لا تختلف نصوص علماء اللغة على أنها مماتة أو محظورة، نهملها كما أهملها العرب، ولا نأخذ فيها بطريقة القياس. وجاء في القرار: إن ما بين فيه من وجوه الاستدلال بما ذكر على مالم يذكر نرجع إليه فيمالم يسمع عن العرب، أما ماسمع، كان مخالفاً للقياس، فنقف فيه عند حد السماع وحده، أو نعمل فيه على الأمرين: السماع، والقياس. وقد أشار المجمع في هذا القرار إلى مذهبين ذكرهما علماء العربية في مصادر الأفعال الثلاثية: أولهما: أن هذه المقاييس يعمل بها في صوغ مصادر الأفعال التي لم يسمع لها مصادر، أما ماسمع له مصدر مخالف للقياس، فلا تتجاوز فيه المسموع إلى القياس، وهو مذهب سيبويه، ووجهة نظر هذا المذهب: أن القياس في اللغة أمر دعت إليه الحاجة، فيؤخذ به على مقدارها.

ويوافق هذا المذهب: أنا نرى في بعض اللغات الأوريية - مثل الألمانية - ألفاظاً خرجت عن قاعدة أمثالها، فنبه العلماء على الوقوف فيها عند حد السماع، ويعدون من خرج إلى قياس أمثالها مخطئاً لاحناً. ثانيهما: أن الأفعال التي سمعت لها مصادر مخالفة للقياس يكون للفعل الواحد منها مصدران: مصدر ثابت بطريق السماع، ومصدر ثابت بطريق القياس، ووجهة نظر هذا المذهب: أن الأفعال التي من شأن مصادرها أن تصاغ في أوزان خاصة، قد استحقت أن تكون لها مصادر على هذه الأوزان بحكم القياس، فإذا ورد مصدر على غير قياس، يبقى طريق القياس مفتوحاً، وصوغك للفعل مصدراً آخر على هذه الطريقة لا يخرج المصدر عن أن يكون عربياً فصيحاً. 2 - النسبة إلى جمع التكسير: أصل النسب: أن يزاد في آخر اسم المنسوب إليه ياء مشددة. ومقتضى هذا: أن ينسب إلى جمع التكسير وهو باق على حاله، فيقال في النسبة إلى النجوم: نجوميّ، وإلى الأزهار: أزهاريّ، ولكن العرب لم يجروا في النسبة إلى الجموع على هذا الأصل، وعدلوا عن ذلك إلى النسبة إليها بلفظ المفرد. وإنما تصرف العرب في النسبة إلى الجمع هذا التصرف لوجود ما يقتضيه، وانتفاء ما يمنع منه. أما ما يقتضيه، فهو خفة المفرد بالنظر إلى الجمع؛ إذ الغالب في الجموع أن تكون أكثر حروفاً من مفرداتها، وأما انتفاء المانع، فإن الذي يخشى منه عند النسبة إلى الجمع بلفظ المفرد التباس ما يراد نسبته إلى الجمع بما ينسب إلى المفرد، وهذا مدفوع بأن القصد في النسبة إلى

الجمع متوجه إلى الجنس، والجنس يحصل بلفظ الواحد، إذاً لا داعي لنسبه بلفظ الجمع. وربما جال في خاطرك أن النسب قد يقصد به مجرد إفادة صلة المنسوب بجنس المنسوب إليه؛ كأن يقصد المتكلم إفادة أن لفلان علاقة بالفواكه، أو الكتب من جهة تعاطيه بيعها، فيكفي في هذا الحال أن نقول: فلان فاكهي، أو كتابي، وقد يتعلق الغرض من النسب بإفادة معنى لا يؤديه إلا النسبة إلى الجمع، كأن يكون لإنسان نسختان من كتاب، اشترى إحداهما بدينار، والأخرى بثلاثة دنانير، وتريد أن تستعير منه النسخة ذات ثلاثة الدنانير، فإنما تبلغ مرادك بنسبة الكتاب إلى الجمع، فتقول: أعرني النسخة الدنانيرية. وجواب هذا: أن العرب اعتمدوا في دفع ما يدخل النسب من اللبس على القرائن المقالية أو الحالية. وفي هذا الباب - أعني: باب النسب - صيغٌ لا يفهم المراد منها إلا إذا صاحبتها قرينة، ففعيلة - مثلاً - وفَعَل ينسب إلى كل منها على وزن فعليّ، فإذا قلت: فلان "شَرَفيّ"، لم يدر إلى شرف نسبته أم إلى شريفة؟ وإنما يعرف قصدك بقرينة حال أو مقال. وقد يبدو لك أن في النسبة إلى الجمع معانيَ غير رفع اللبس، لا تؤديها النسبة إلى الواحد؛ كتعظيم المنسوب؛ نحو أن تصف شخصاً لقي حظوة ومكانة عند ملوك متعددين بأنه "مُلوكيّ"، وتراه أدلَّ على تعظيمك من قولك: "ملكيّ"، أو تحقيره؛ نحو أن تصف أخلاق شخص يضع نفسه مواضع المهانة بأنها كلابيّة، وتراه أبلغ في ذمه من قولك: كلبية. وجواب هذا: أن العرب لم يتخذوا النسب طريقاً إلى مثل هذه الأغراض، بل كانوا يصلون إليها بطرق أخرى؛ كالإضافة والموصولية والوصف، وكذلك

أهمله علماء البيان، فلا تراهم يذكرون في كتبهم الدواعي إلى النسب، كما ذكروا الدواعي إلى الإضافة وما شاكلها. هذا أساس مذهب النحويين من البصريين، ولم يختلفوا في أن الجمع الذي له واحد من لفظه مناسب له في القياس؛ نحو: مدارس، وأسواق، وصحف، لا ينسب إليه على لفظه، وإنما ينسب إليه بلفظ الواحد، فيقال: مدرسيّ، وسوقيّ، وصحفيّ. ومن الخطأ عندهم قول بعض الناس في وصف بعض الصحف: "أخلاقيّة"، وفيمن يتوسلون بالموتى: "قبوريّون"، وفيما يختص بالكواكب: "كواكبيّ"، أو الجبال: "جباليّ". والصواب خلقيّة، وقبريّون، وكوكبيّ، وجبليّ. فإن كان للجمع واحد من لفظه، ولكن هذا الواحد غير مناسب له في القياس؛ كمحاسن جمع حسن، وملامح جمع لمحة، ومشابه جمع شبهة، ولواقح جمع ملقحة (¬1)، وطوائح (¬2) جمع لمطيحة. فهذا موضع خلاف بينهم. فألحقه فريق بالجمع الوارد على القياس، فجعلوا النسبة إليه بلفظ الواحد، وهذا ما اختاره ابن مالك في كتاب "التسهيل"، فقال: "وذو الواحد الشاذ كذي الواحد القياسيّ". وذهب آخرون، منهم ابن الصائغ، إلى أنه ينسب إليه بلفظه، فيقال: محاسنيّ، وملامحي، ومشابهي، ولواقحي، وطوائحي، وهذا ما رواه سيبويه عن أبي زيد، وذكر أبو حيان في كتاب "الارتشاف": أن أبا زيد صرح بنقل ¬

_ (¬1) يقال: ألقحت الرياح الشجر، فهي لواقح. (¬2) يقال: طوّحته الطوائح؛ أي: قذفته القذائف، ولا يقال: المطوّحات.

ذلك عن العرب. فإن لم يكن للجمع واحد من لفظه؛ نحو: خلابيس (¬1)، وعبابيد، وشماطيط، وأبابيل (¬2)، نسب إليه على لفظه، فيقال: عبابيديّ، وشماطيطيّ، وأبابيليّ، من غير خلاف، ويلحق بهذا النوع اسم الجمع؛ نحو: قوم ورهط ونفر ونسوة، فينسب إليه على لفظه، ويقال: قومي، ورهطي، ونفري، ونِسْوي. ويجري هذا الحكم فيما جاء على بناء الجمع ومعناه واحد معين؛ نحو: أنمار وكلاب ومعافر وضباب - أسماء رجال -، فيقال: أنماريّ، ومعافريّ، وضبابي. ومما يجري مجرى الأسماء الموضوعة لواحد في النسبة إليها على لفظها: أبنيةُ جموع يغلب استعمالها في طائفة مخصوصة؛ كالأنصار، غلب استعماله في أنصار النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأوس والخزرج، وهو في الأصل جمع ناصر، أو نصير، فيقال في النسبة إليه: أنصاريّ، وكالأبناء، غلب استعماله على قبائل من بني سعد بن مناة من تميم، أو على قوم من الفرس ارتهنهم العرب، أو على أبناء فارس الذين أرسلهم كسرى مع سيف بن ذي يزن لما استنجده على الحبشة، فيقال في النسبة إليه: أبناوي، قال ابن مالك في "التسهيل": "وحكم اسم الجمع والجمعِ الغالب حكمُ الواحد". ¬

_ (¬1) الشيء الذي لا نظام له، ولم يعرف البصريون له واحداً، وقال البغداديون، خلبيس، وليس بثبت - "المزهر". (¬2) العبابيد: الفرق من الناس، والشماطيط: القطع من الخيل، والأبابيل: الفرقة. وهذا مذهب الأصمعي وبعض علماء اللغة، وذكر لها بعضهم آحادا".

ويظهر من الفصل الذي عقده سيبويه في "الكتاب" لهذا البحث: أن للعرب في هذا الصنف طريقتين، فقد حكى أن العرب ينسبون إلى الأبناء بلفظ المفرد، فيقولون: بنويّ، ثم حكى عن بني سعد: أنهم ينسبون إليه على لفظه، فيقولون: أبناويّ، وخزّج ذلك على أنهم يجعلون كلمة الأبناء اسماً للحى، والحيّ كالبلد. ومن أبنية الجموع الجارية على هذا السبيل: كلمة "شعوب"، فقد غلبت على جبل العجم، فنسبوا إليها على لفظ الجمع، وقالوالمحتقر أمر العرب: "شُعوبي". ومن هذا الوادي أسماء بلاد تجيء على بناء الجمع، ويكون مدلول الاسم طائفة من الأماكن لا يستعمل واحدة في مفرد منها؛ نحو: الأهواز: اسم لسبع كور بين البصرة وفارس، لكل كورة منها اسم خاص، ولا يقال في الواحدة منها: هوز، فاذا نسبت إلى الأهواز، نسبت إليه على لفظه، وقلت: أهوازي. ويدخل في هذا القبيل كلمة "مدائن"، وهو اسم غلب إطلاقه على مدن متقاربة كانت مسكن ملوك الفرس من الأكاسرة وغيرهم، وصار علماً على مجموع تلك المدن، حتى هجروا تسمية الواحدة منها "مدينة"، فالنسبة إليها: مدائني. وربما نسب العرب إلى هذا الصنف من أبنية الجموع بلفظ الواحد؛ كما قالوا: سيف مشرفيّ نسبة إلى "مشارف"، وهو اسم لقرى من أرض العرب تصنع فيها السيوف، ولا يقال في الواحدة منها: مشرف. والأقرب في القياس: أن ينسب إلى أبنية الجموع الغالبة في أفراد

مخصوصة على لفظها؛ لأن غلبة استعمالها في طائفة مخصوصة تجعلها بمنزلة الجموع الموضوعة لمعنى واحد، وذلك مالا ينبغي الاختلاف في النسبة إليه على لفظه، لا بلفظ واحده. وذكر ابن مالك في كتاب "التسهيل": أن العرب قد ينسبون إلى الجمع إذا شابه واحداً في وزنه، وصلح لأن يجمع من بعد؛ نحو: كلاب. فإنه شابه واحداً في الوزن، وهو كتاب، وصالح لأن يجمع من بعد؛ فقد قالوا في الكلاب: كلابات. هذا بيان مذهب البصريين، وعليه جمهور علماء العربية من بعدهم. وأما الكوفيون، فقد نقل عنهم ابن بري: أنهم يجيزون النسبة إلى الجمع على لفظه مطلقاً (¬1)، وذكر هذا القول أبو حيان في كتاب "الارتشاف"، ولم يعزه إلى الكوفيين، وإنما قال بعد الكلام على منع النسبة إلى الجمع على لفظه: "وقد أجازه قوم، وذهبوا في قُمْريّ إلى أنه منسوب إلى الجمع، من قولهم: طيور قُمْر، وفي دُبْسيّ إلى طيور دُبْس"، ثم قال: وهو عندنا منسوب إلى القمرة (¬2)، والدبسة (¬3). وهذا المذهب الذي ينسب إلى الكوفيين مبني على ما ورد من النسبة إلى أبنية بعض الجموع على لفظها، وإن كانت شاذة، والمعروف في أصولهم أنهم يكتفون بالشاذ في فتح باب القياس. وما شاع بين الناس من النسب إلى الجموع على ألفاظها؛ نحو: ¬

_ (¬1) "شرح الألوسي لدرة الغواص" (ص 303). (¬2) القمرة بالضم: لون إلى الخضرة، أو بياض فيه كدرة. (¬3) لون بين السواد والحمرة.

قلانسي، وقواريري، وطيالسيّ، وحصائري، وأخلاقي، إنما يصح بالتخريج على هذا المذهب، ومن عمل عليه عند الحاجة؛ كالتخلص من لبس، لم يخرج عن حدود العربية الفصحى. ورأى المجمع أن النسبة إلى الجمع أفيد في بعض الأحيان من النسبة إلى المفرد، وأوضح دلالة على المراد، فاعتد بمذهب الكوفيين في هذه المسألة، وأصدر قراره الآتي: * قرار النسب إلى جمع التكسير: "المذهب البصريّ في النسب إلى جمع التكسير أن يرد إلى واحده، ثم ينسب إلى هذا الواحد. ويرى المجمع أن ينسب إلى لفظ الجمع عند الحاجة؛ كإرادة التمييز، أو نحو ذلك". 3 - صيغة مفعلة للمكان الذي يكثر فيه الشيء: صاغ العرب من أسماء الأعيان ألفاظاً في وزن "مَفْعَلَة" للدلالة على المكان الذي تكثر فيه تلك الأعيان، ومن الواضح أن وزن مفعلة لا يسع أكثر من ثلاثة أحرف، فإن كان اسم العين المأخوذ منه مفعلة ثلاثي الأصول، وكان من قبيل المجردّ؛ نحو: سبع، وذئب، اشتقوا منه وهو على حروفه المنطوق بهالفظاً في وزن مفعلة، فقالواللأرض التي فيها السباع: مَسْبَعَة، وللأرض التي يكثر فيها الذئاب: مَذْأَبَة، فإن كان ثلاثي الأصول من قبيل المزيد فيه؛ نحو: بطيخ وأفعى، حذفوا ما زاد على الأصول، وقالواللأرض التي يكثر فيها البطيخ أو الأفاعي: مبطخة، أو مفعاة. وأما ما زادت أصوله على ثلاثة أحرف؛ نحو: عقرب، فإنهم يحذفون

بعض أصوله حتى يمكن صوغه في مفعلة؛ كما قالوا في الأرض التي يكثر فيها العقارب: مَعْقَرة، وفي الأرض التي يكثر فيها الضغابيس (¬1): مَضْغَبَة. والملخص: أن اسم العين الذي يشتق منه لفظ في وزن مفعلة إما أن يكون من الثلاثي المجرد، وإما أن يكون من ثلاثي المزيد، وإما أن تكون أصوله فوق ثلاثة أحرف. وإذا نظرنا إلى هذه الأقسام الثلاثة من جهة فتح باب القياس، أو الوقوف بها عند حد السماع، وجدناها ترجع إلى قسمين: قسم اختلف علماء العربية في جعله مقيساً، وهو ثلاثي الأصول، مجرداً كان أو مزيداً فيه، وقسم لم ينقل عنهم خلاف في أنه مقصور على السماع، وهو ما زادت أصوله على ثلاثة أحرف. أما الخلاف في القسم الأول، فإنك تبحث في كتب العربية، فترى في نصوص بعض علمائها ما يصرفك عن القياس، ويردك فيه إلى مقدار ماسمع عن العرب، كما فعل الرضي في "شرح الشافية" إذ قال: "واعلم أن الشيء إذ أكثر بالمكان، وكان اسمه جامداً، فالباب فيه "مفعلة" - بفتح العين-؛ كالمأسدة والمسبعة والمذأبة؛ أي: الموضع الكثير الأسد والسباع والذئاب، وهو - مع كثرته - ليس بقياس مطرد، فلا يقال: مضبعة، ومقردة"؛ أي: للأرض الكثيرة الضباع والقرود. وترى في نصوص طائفة منهم ما يفسح المجال، ويأذن لك أن تقيس مالم يقله العرب على ما قالوه في هذه الصيغة قياساً مطرداً، ومن هؤلاء الطائفة: مظهر الدين صاحب شرح المفصل المسمّى: "المكمَّل"، ونصه: ¬

_ (¬1) الضغابيس جمع ضغبوس، وهو صغار القثاء.

"اعلم أنهم إذا أرادوا أن يذكروا كثرة حصول شيء بمكان، وضعوا له مفعلة - بفتح الميم والعين -، مع لزوم التاء إياها. وهذا قياس مطرد في كل اسم ثلاثي؛ كقولك: أرض مسبعة؛ أي: يكثر فيها السباع، ومأسدة؛ أي: يكثر فيها الأسد، ومذأبة؛ أي: يكثر فيها الذئب، ومحياة؛ أي: يكثر فيها الحيّة، ومفعاة؛ أي: يكثر فيها الأفعى". ومن هؤلاء الطائفة: أبو الحسن الأخفش - على ما نسب إليه ابن سيده في كتاب "المخصص" (¬1) -، ونصه: "ومكان مَوْعَلَة: كثير الوعول، ومفدرة: كثير الفدور، وهي الوعول المسنة، مطرد عند أبي الحسن". وأشار إلى هذا المذهب المرتضى شارح "القاموس" في مادة أسد، فقال: "والمكان المأسدة أيضاً، وهو الأرض الكثيرة الأسود؛ كالمسبعة كما في "الروض"، وبعضهم جعله مقيساً؛ لكثرة أمثاله في كلامهم". وعبارة سيبويه في "الكتاب" تنحو بظاهرها نحو هذا المذهب، ونصها: "هذا باب ما يكون مفعلة لازمة لها الهاء والفتحة، وذلك إذا أردت أن يكثر الشيء بالمكان، وذلك قولك: أرض مسبعة ومأسدة ومذأبة، وليس في كل شيء يقال ذلك، إلا أن تقيس شيئاً، وتعلم أن العرب لم تتكلم به". ونقل ابن سيده في كتاب "المخصص" عبارة سيبويه، وكساها شيئاً من البيان، فقال: "قال سيبويه: وليس في كل شيء يقال هذا؛ يعني: لم يقل العرب في كل شيء من هذا، فإن قست على ما تكلمت به العرب، كان هذا لفظه". فالظاهر من عبارة سيبويه إجازة القياس على ما تكلم به العرب في ¬

_ (¬1) (ص 174 خ 16).

هذه الصيغة، واحتمال أن يقصد سيبوبه من القياس محاكاة العرب في ذلك على وجه التمرين، بعيد من ظاهر عبارته. وأما صوغ مفعلة مما زادت أصوله على ثلاثة أحرف، فلم نر أحداً من علماء العربية ذهب به مذهب القياس، ووجهه: أن العرب لم يصوغوا مفعلة من اسم العين الرباعي إلا قليلاً، وسبب هذه القلة: أن الاسم الرباعي لا يمكن بناء مفعلة منه إلا أن يحذف منه حرف، وحذف الحرف الأصلي مكروه عندهم، لا يرتكبونه إلا أن تدفعهم إليه ضرورة، كما حذفوا اللام في نحو سفرجل عند تصغيره أو جمعه جمع تكسير، فقالوا: سفيرج وسفارج. وورد عن العرب أنهم صاغوا من اسم العين الرباعي ألفاظاً على وزن مُفَعْلَلَة بصيغة اسم المفعول، فقالوا: أرض مُثَعْلَبَة من الثعالب، ومُعَقْرَبة من العقارب، وهذه رواية سيبويه، ورواها أبو زيد بصيغة اسم الفاعل: مُعَقْرِبة ومُثَعْلِبة، وعلى هذه الرواية اقتصر صاحبا "الصحاح"، و"المصباح"، وذكرهما صاحب "القاموس"، ولم يقيدهما بفتح أو كسر، فاحتمل كلامه الروايتين. ورجح الدماميني في "شرح التسهيل" رواية سيبويه، فقال: ينبغي أن يقرأ بالفتح؛ فإن سيبويه أثبتُ من غيره، وإن كان أبو زيد أستاذُه قد حكى الكسر. وما ورد من الألفاظ على مفعلله هو على كلا الروايتين نادر إلى حد يبعده أن يكون مقيساً، وذكر صاحب "المخصص" الألفاظ التي وردت في هذا الوزن، فلم تتجاوز خمس كلمات، وهي: مثعلبة، ومعقربة، ومعنكبة من

العناكب، ومؤرنبة من الأرانب، ومخرنقة من الخرانق، وهي أولاد الأرانب. فاتضح من هذا البحث أن صوغ مفعلة من اسم العين الثلاثي مجرداً أو مزيداً، قد ورد عن العرب بكثرة، وأن من علماء العربية من اعتد بهذه الكثرة، وجعله من قبيل ما يقاس عليه. ورأى المجمع أنه قد يحتاج إلى هذه الصيغة في التعبير عن أماكن يكثر فيها أشياء من حيوان أو نبات أو غيره، فأصدر قراره الآتي: * قرار صوغ "مفعلة" للمكان الذي يكثر فيه الشيء: "تصاغ مَفعَلة قياساً من أسماء الأعيان الثلاثية الأصول للمكان الذي تكثر فيه الأعيان، سواء أكانت من الحيوان، أم النبات، أم من الجماد". 4 - صيغة فعّال للمبالغة من المتعدي واللازم: يقع النظر عند وضع الأسماء للمعاني الحديثة على أشياء تشتد فيها بعض الصفات، أو تكثر فيها بعض الأفعال، فمن المناسب وضعُ اسم لها يشعر بهذه الشدة أو الكثرة. ومن الصيغ التي تدل على شدة الوصف، أو كثرة الفعل: الصيغة فعّال (¬1)، وهذا ما دعا المجمع إلى النظر في هذه الصيغة من جهة اشتقاقها، وصحة القياس على ما سمع من أمثلتها. حتى أصدر قراره. واليك نتيجة البحث التي بني عليها هذا القرار: ¬

_ (¬1) تأتي صيغة فعّال للنسبة، ذلك أن تصوغ من اسم الشيء لمصاحبه وملازمه لفظاً على وزن فعال؛ كما يقال لصانع الزجاج: زجّاج، ولمن يبيع اللبن: لبّان، ولمن يقوم على أمر الجمال: جمّال، ولمن شأنه الضرب بالسيف: سيّاف. وقد قرر المجمع في دورته الأولى أن فعّالا للنسبة إلى شيء مقيس. انظر: (ص 215) من الجزء الأول من مجلة "مجمع اللغة العربية".

بحثنا عن أمر القياس في صيغة فعّال من طريقين: طريق الرجوع إلى كتب الصرف؛ للوقوف على عبارة تدل على صحة إجراء هذه الصيغة مجرى ما يقاس عليه، وطريق الرجوع إلى كتب اللغة؛ للوثوق من أن الألفاظ الواردة في هذا الوزن بالغة في الكثرة إلى حد يكتفى به في فتح باب القياس. رجعنا إلى كتب الصرف، فوجدنا كثيراً منها لا يتعرض لصيغة فعّال من ناحية أنها قياسية أو سماعية، ولا يزيد على أن يذكر أنها صيغة تأتي بدلاً من اسم الفاعل؛ للدلالة على المبالغة في معنى الفعل، ووجدنا طائفة يتعرضون لمجيء فعَّال ومِفْعال وفَعول بدلاً من اسم الفاعل، ويصفونه بالكثرة، كما قال الأشموني في "شرح الخلاص": "كثير ما يحول اسم الفاعل إلى هذه الأمثلة لقصد المبالغة والتكثير". ووجدنا طائفة ثالثة تصرح بأن الصيغ الخمس: فعّالاً، ومفعالاً، وفعولاً، وفعيلاً، وفَعِلاً، المأخوذة من فعل متعد، قياسية. قال الدنوشري: ينظر هل التحويل إلى الخمسة المذكورة قياسيّ، أو سماعيّ، أو قياسي في الثلاثة الأُوَل: "فعّال ومِفعال وفَعول"، سماعيّ في الأخيرين "فعيل وفَعِل"، ثم قال: "مذهب البصريين منقاسة في كل فعل متعد ثلاثي؛ نحو: ضرب، تقول: ضرّاب ومِضراب وضروب وضريب وضَرِب" (¬1)، وهذا النص يدل على أن صوغ فعال من الفعل المتعدي قياسيّ كسائر أبنية المبالغة. ووقفنا على عبارة لأبي إسحاق الشاطبي في "شرح الخلاصة" تدل على أن بناء صيغ المبالغة مقيس، وظاهر إطلاقها أن هذه الصيغ مقيسة في المتعدي واللازم، قال أبو إسحاق عقب الكلام على عمل هذه الصيغ عملَ اسم الفاعل: ¬

_ (¬1) "حواشي يس على التصريح".

"فإن قيل: إن بناء هذه الأمثلة للتكثير بالجمل على بناء الفعل للتكثير (¬1)، وذلك الفعل غير مقيس، فأولى أن يكون اسم الفاعل غير مقيس، قلنا: لا نسلم أنه غير مقيس، بل هو مقيس؛ لكثرة مجيئه". ووجدنا في علماء الصرف من يذكر صيغة فعّال بوجه خاص، ويجعلها أصلاً مطرداً، ولم يخص هذه الأصالة والاطراد بالفعل المتعدي. قال في "روح الشروح على المقصود": "ووزن فَعَّال - بالفتح - أصل مطرد، ولذا يثنى ويجمع، ويذكر ويؤنث على القياس المشهور"، وظاهر إطلاق هذه العبارة: أن فعالاً مطرد في اللازم اطراده في المتعدي. ثم ألقينا بعد هذا نظرة على بعض كتب اللغة، فألفينا العرب قد صاغوا من اللازم ألفاظاً كثيرة في وزن فعّال، وإليك طائفة جاءت من الأفعال اللازمة في هذا الوزن: 1 - (الأطّاط) في "القاموس": أطَّ: صوّت، والأَطَّاط: الصيَّاح. 2 - (الأفّاك) في "القاموس": فهو أفّاك، وأَفيك، وأَفوك. 3 - (الألاّق) في "القاموس": ألق البرق يألق إِلاق؛ ككتاب: كَذَب، فهو ألاق. 4 - (الأوّاب) في "اللسان": الأوّاب: التائب. 5 - (البخّال) في "القاموس": رجل بَخيل، وبَخال؛ كسحاب، وشدّاد. 6 - (البرّاق) في "لسان العرب": وفي صفة أبي إدريس: دخلت مسجد ¬

_ (¬1) بناء الفعل للتكثير: أن يؤتي به على وزن فَعَّل؛ نحو: طوّف وجوّل وعبّس وموّت وجرّح، مبالغة في طاف وجال وعبس ومات وجرح،

دمشق، فإذا فتى برّاق الثنايا. 7 - (البسّام) في "القاموس": فهو باسم، ومِبسام، وبسّام. 8 - (البطّال) في "القاموس": ورجل بَطَل - محركة -، وكشدّاد: بيّن البطالة والبطولة، شجاع تبطل جارحته، فلا يكترث لها، أو تبطل عنده دماء الأقران. 9 - (التوّاب) في "اللسان": ورجل توّاب: تائب إلى الله. 10 - (التيّاح) في "اللسان": تاح في مشيته: إذا تمايل، وفرس متيح وتيّاح وتَيَّحان: يعترض في مشيته نشاطاً. 11 - (التيّاه) في "القاموس": التِّيه - بالكسر -: الصَّلَف والكِبر، تاه، فهو تائه وتيّاه. 12 - (الثَجَّاج) في "اللسان": وقال بعض أهل اللغة: ثج الماء نفسه يَثُجّ ثجوجاً: إذا انصب، فيكون ثجَّاجاً في قوله تعالى: {مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ: 14]؛ أي: ثاجّ. 13 - (الثوّاب) في "اللسان": ورجل ثوّاب: أوّابٌ توّاب منيب، بمعنى واحد. 14 - (الجفّاخ) في "القاموس": جفخ؛ كمنع: فخر وتكبر، فهو جفّاخ. 15 - (الجمّاز) في "القاموس": وحِمار جَمَّاز: وثّاب. 16 - (الجوّال) في "تاج العروس": وهو جوّال وجوّالة: طوّاف في البلاد. 17 - (الحنّان) في "القاموس": وكشداد: من يحن إلى الشيء، واسم الله تعالى، ومعناه: الرحيم.

8 - (الحلَّاف) "في الأساس": حلف بالله على كذا حلفاً، وهو حلّاف وحلّافة. 19 - (الخرّاج) في "القاموس": ورجل خرّاج ولّاج: كثير الظرف والاحتيال. 20 - (الخرّارة) في "الأساس": وله عين خرارة في أرض فوّارة. 21 - (الخطّار) من خطر الرمح؛ أي: اهتز، وفي "القاموس": والرمح: اهتز، فهو خطّار، وفي "الأساس": ورجل خطار بالرمح؛ أي: مشى به بين الصفين. 22 - (الخنّاس) في "المصباح": ومن الثاني "اللازم" الخنّاس في صفة الشيطان؛ لأنه اسم فاعل للمبالغة؛ لأنه يخنس إذاسمع ذكر الله تعالى؛ أي: ينقبض. 23 - (الخوّار) في "القاموس": الخوار "ككَتان": الضعيف. 24 - (الدرّاج) في "اللسان": الدرّاج: القنفذ؛ لأنه يدرج ليلته جمعاء. صفة غالبة. 25 - (الدهّاس) في "القاموس": والدهسة والدهاسة: سهولة الخلق، وهو دهّاس؛ ككتان. 26 - (الدوّار) في "الأساس": والفلك دوّار، وفي "القاموس": والدهر دوّار، ودوّار في: دائر. 27 - (الرجّاس) من رجست السماء رجساً: قصفت بالرعد. وفي "الأساس": وسحاب رجَّاس وراجس ومرجس. 28 - (الرجّاف) في "الأساس": رجف البحر: اضطربت أمواجه،

ومن أسمائه الرجّاف. 29 - (الرعّاس) في "التاج": رمح رعّاس؛ كشداد: شديد الاضطراب. 30 - (الرقّاص) في "اللسان": رقص اللعاب يرقص رقصاً، فهو رقّاص. 31 - (الروّاغ) في "الأساس": هو ثعلب روّاغ. 32 - (الزحّار) في "اللسان": ورجل زحر وزحران وزحّار: بخيل يئن عند السؤال. 33 - (الزخّار) في "الأساس": بحر زاخر وزخّار. 34 - (الزعّاق) في "اللسان": يزعق بدوابه زعقاً؛ أي: يطردها مسرعاً، ويصيح في أثرها، وهو رجل ناعق وزَعّاق ونَعّار. 35 - (السبّاح) في "القاموس": سبوح من سبحاء، وسبّاح من سباحين. 36 - (السجّاع) في "القاموس": وكمنع: نطق بكلام له فواصل، فهو سجّاعة. وفي "الأساس": رجل سجّاع وسجّاعة. 37 - (السّرّاج) من سرج؛ أي: كذب، في "القاموس": والسرّاج متخذه - أي: السرج -، وحرفته السِّراجة. والكذاب. 38 - (السيّاح) في "الأساس": ورجل سائح وسيّاح. 39 - (السقّاط) في "الأساس": وسيف سقّاط: قطاع، يسقط من وراء الضريبة. 40 - (الشفّاف) من شف؛ أي: رقّ: وفي "الأساس": وزجاجة شفّافة ورقيقة المستشف. 41 - (الصخّاب) في "القاموس": صخب؛ كفرح، فهو صخّاب.

42 - (الصوّار) في "القاموس": صار: صوّت، وعصفور صوّار. 43 - (الصهّال) في "القاموس": صهل الفرس؛ كضرب، ومنع، صهيلاً، فهو صَهّال: صوّت. 44 - (الصيّاح) في "القاموس": والمِصْدَح الصيّاح: الصيِّت. 45 - (الضحّاك) في "القاموس": فهو ضاحك وضحّاك وضحوك. 46 - (الطنّاز) طنز به؛ أي: سخر، فهو طنّاز. 47 - (الطّوّاف) في "القاموس": والطوّاف أيضاً: الخادم يخدمك برفق وعناية. 48 - (الطيّار) في "القاموس": وفرس مُطار وطيّار: حديد الفؤاد ماض. 49 - (الطيّاش) في "المصباح": فهو طائش، وطيّاش مبالغة. 50 - (العبّاس) في "المصباح": فهو عابس، وبه سمّي، وعبّاس أيضاً للمبالغة، وبه سُمِّي. 51 - (العجّاج) من عبجَّ؛ أي: صاح، وفي "القاموس": والعجّاج: الصيَّاح. 52 - (العَوَّام) في "الأساس": الفرس العَوّام: السبوح. 53 - (الغوّاص) في "الأساس": وقال عمر لابن عباس: غص يا غوّاص. 54 - (الفحّاش) في (الأساس": أفحش فلان في كلامه، وفحش، وتفحش، وهو فحّاش. 55 - (الفرّار) في "الأساس": هو فرّار وفَرور. 56 - (الفوّارة) في "الصحاح": وفوّارة القدر: ما يفور من حرها،

وفي "الأساس": عين فوّارة في أرض خوّارة. 57 - (الفيّاح) في "اللسان": كل موضع واسع يقال له: أفيح، وفيّاح، والفعل من ذلك فاح يفيح فيحاً. 58 - (القفّاف) من قفّ الصيرفيُّ؛ أي: سرق الدراهم بين أصابعه، وفي "القاموس": فهو قفّاف. 59 - (القلّاص) من قلص الماء: ارتفع، وفي "القاموس": فهو قالص وقلوص وقلاّص. 60 - (القوّام) في "المصباح": قام بالأمر يقوم به قياماً، فهو قوّام وقائم. 61 - (اللمّاح) من لمح البرق أو النجم؛ أي: لمع، وفي "القاموس": فهو لامح ولموح ولمَّاح. 62 - (اللمّاع) في "الأساس": وبرق لامع ولَمَّاع. 63 - (المزّاح) في "الأساس": ورجل مزَّاح. 64 - (المشَّاء) في "الأساس": ورجل مشاء إلى المساجد. 65 - (المزّاع) من مزع؛ أي: سعى فأسرع، وفي "اللسان": والقنافذ تمزع بالليل مزعاً: إذا سعت فأسرعت. ابن الأعرابي: القنفذ يقال لها: المزَّاع. 66 - (المكَّار) في "القاموس": المكر: الخديعة، وهو ماكر ومكَّار. 67 - (الموَّار) مار؛ أي: تردد في عَرْضٍ. وفي "الأساس": جمل موَّار الضبعين، وفرس موَّار الظهر. 68 - (الميَّاس) من ماس؛ أي: تبختر، وفي "القاموس": فهو

مائس ومَيُوس ومَيّاس. 69 - (المثال) في "المصباح": مال الحاكم في حكمه ميلاً؛ أي: جار وظلم، فهو مائل، وميال مبالغة. 70 - (النبّاج) من نبُاج الكلاب؛ أي: نبيحها، وفي "القاموس": وكلب نبَّاج ونُبَاجي: نبّاح. 71 - (النبّاح) من نبح الكلب، وفي "القاموس": وككَنَّاف: والد عامر مؤذن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، والشديد الصوت. 72 - (النبّاغة) يقال: نبغ الرأس: ثارت هبريته. وفي "الأساس": ومحجة نباغة: يثور ترابها. 73 - (النهّات) في "القاموس": النهّات: النهّاق. 74 - (النهّاض) في "الأساس": وهو نهَّاض ببزلاء؛ أي: خُطَّة عظيمة. 75 - (النَوّام) في "الأساس": ورجل نَؤُوم، ونُوَمَة، ونوّام: كثير النوم. 76 - (الهتّافة) من هتفت الحمامة، أو القوس؛ أي: صاتت، وفي "القاموس": وقوس هتّافة وهتَوف وهتفى: ذات صوت. 77 - (هدّاج) من هدج الظليم؛ أي: مشى في ارتعاش. وفي "الأساس": وظليم هدّاج. 78 - (الهذّاف) من هذف؛ أي: أسرع، وفي "القاموس": والهذاف؛ كشداد، ومحسن، وخجل: السريع. 79 - (الهذّاء) في "أساس البلاغة": هو يهذي في كلامه، وهو هذَّاء. 80 - (الهرَّاج) في "اللسان": وإنه لمهرج وهرّاج: إذا كان كثير الهرج.

81 - (الهطّال) من الهطل، وهو تتابع المطر، وفي "القاموس": ومطر وسحاب هَطِل؛ ككتف، وشَدّاد. 82 - (الهفَّاف) في "القاموس": والهفّاف من الحمر: الطيّاش. 83 - (الهوّاس) من الهوس، وهو الطلب بجرأة، وفي "اللسان": وأسد هوّاس. 84 - (الهوّاك) من التهوك، وهو الحمق، وفي "القاموس": رجل هوّاك، ومتهوِّك: متحير. 85 - (الوبَّاص) من وبص؛ أي: لمع، وفي "الأساس": قمر وبّاص. 86 - (الوثّاب) في "الأساس": وظبي وثّاب. 87 - (الوضاح) في "الأساس": وإنه لوضّاح. 88 - (الوقّاع) من وقع فيه؛ أي: اغتابه، وفي "القاموس"، ورجل وقّاع ووقّاعة: يغتاب الناس. 89 - (الوَلاَّج) في "الأساس": وامرأة خَرَّاجة وَلاَّجة. نظر المجمع في تلك النصوص التي اقتضت بإطلاقها أن صيغة فعال مقيسة في اللازم والمتعدي، وأضاف إلى هذا كثرة ما جاء في هذه الصيغة من نوعي اللازم والمتعدي. فقرر ما يأتي: * قرار صوغ (فَعّال) للمبالغة: يصاغ فَعّال للمبالغة من مصدر الفعل الثلاثي، اللازم والمتعدي.

نقد اقتراح ببعض الإصلاح في متن اللغة

نقد اقتراح ببعض الإصلاح في متن اللغة (¬1) قرأت اقتراح حضرة الأستاذ أحمد أمين بك "لبعض الإصلاح في متن اللغة"، فكنت ألاقي في هذا الاقتراح آراء مقبولة، وآراء كان المجمع قد أقرها، وجرى عليها في وضع كثير من المصطلحات، وآراء يصح أن تكون موضع بحث ومناقشة، وحيث إن المجمع قد عمل منذ نشأته على القاعدة التي لا يقوم العلم الصحيح إلا عليها، أعني: منح الحرية المطلقة لكل عضو من أعضائه يريد أن يبدي رأياً، أو يناقش غيره في رأي، لم أتردد في أن أعرض على حضراتكم ما بدا لي في هذا الاقتراح من ملاحظات، وانظروا ماذا ترون: ذكر الأستاذ في فاتحة اقتراحه: أنه يجب على اللغة أن تخضع لحياتنا، تنمو بنمونا، وتسير مع زماننا، وزمن من يأتي بعدنا، وأن تسايرنا في تقدمنا، وتكون أداة طيّعة لتطورنا، وقال: إن لغة كل أمة عنصر من عناصر تكوينها، ورقيها أو انحطاطها. وهذا الذي قاله الأستاذ لا يختلف فيه اثنان درسا شؤون الاجتماع، وعرفا مقتضيات التطورات التي تتنقل فيها الأمم حيناً بعد حين، ولكن اللغة تخضع لحياة الأمم، وتنمو بنموها على قدر ما تدعو إليه الحاجة بحق، ¬

_ (¬1) مجلة "لهداية الإسلامية"- الجزآن التاسع والعاشر من المجلد السادس عشر.

وتسايرها في تقدمها، وتكون عنصراً من عناصر رقيها متى وقع زمامها في أيد تقودها بحزم وأناة. ذلك أن الأحوال التي تطرأ على اللغة، أو التصرفات التي يراد إدخالها عليها، قد تكون من مقتضيات التطورات التي لابدَّ منها، وقد تكون أمراضاً تنذر بموتها، أو عيوباً تذهب بكثير من محاسنها. تحدث الأستاذ عن علماء العربية، وجمعِهم للغة في صدر الدولة العباسية، وقال: إنهم أكملوا متن اللغة بالتعريب، وبتوسيع الاشتقاق بالقياس، وسايرت حركة الاجتهاد في اللغة حركة الاجتهاد في التشريع، وقال: "ثم أصيب العرب بالضربة الشنيعة في الأمرين، وهو إقفال باب الاجتهاد في التشريع، وباب الاجتهاد في اللغة". ادعى بعض الفقهاء أن باب الاجتهاد مقفَل عندما أدرك الهممَ ضعف، وقلَّ في الناس من يدرس الشريعة دراسة تبلغ بصاحبها أن يكون مجتهدً، ولكن الراسخين في العلم - وإن ورثوا من السلف فتاوى وأقضية وأصولاً لاستنباط الأحكام - لم ينقطعوا عن الاجتهاد جملة، وكانوا لا يبالون أن يناقشوا أقوال أئمة المذاهب، ويتخيرون من بينها ما يرونه أرجح دليلاً، وأوفى برعاية المصلحة، ثم يطبقون على الحوادث المتجددة الأصولَ العامة، أو القواعد المذهبية الخاصة؛ كقاعدة المصالح المرسلة، وقاعدة سد الذرائع، وقاعدة رعاية العرف. واستمر الإفتاء والقضاء بفضل هؤلاء العلماء الذين يملكون أنظاراً مستقلة، جارين على منهج محفوف بعدل وسداد، ولعل كلمة إقفال باب الاجتهاد في الشريعة قيلت عندما تجاسر قليلو البضاعة في العلم على الإفتاء، وأفسدوا كثيراً من الأحكام بدعوى الاجتهاد.

وأذكر أني كنت أنشات في تونس منذ أربعين سنة مجلة (¬1)، وقلت في أول عدد منها: "ودعوى أن باب الاجتهاد مغلق لا تُسمع إلا بدليل يساوي الدليل الذي انفتح به أولاً". وأما الاجتهاد في اللغة، فلا أدري متى أقفل بابه، وما زال علماء العربية في القرن السادس والسابع والثامن يناقشون آراء المتقدمين، ويقررون آراء تخالف آراءهم؛ مثل: ابن مالك، وأبي حيان، وابن هشام، وهذا ابن تيمية - وقد أدرك صدراً من القرن الثامن - قد كتب مخطئاً سيبويه في عشرات من المسائل، وهذا كتاب "بدائع الفوائد" لابن قيم الجوزية عامر بمسائل خالف بها علماء النحو والصرف. فإذا فقد الاجتهاد اللغوي في عصر أو في موطن، فلأن همم طلاب اللغة قعدت بهم عن أن يبلغوا مرتبة الاجتهاد في نحوها وصرفها. ذكر الأستاذ: أنه وقع التحايل على فتح باب الاجتهاد في التشريع، وقال: "ولمالم تنجح هذه الحيل، كانت الضربة المخجلة، وهي إهمال التشريع الإسلامي، والاعتماد على التشريع الأوربي، إلا في حدود ضيقة؛ كالأحوال الشخصية". لم يفصح قلم عن وجه التحايل، حتى نأخذ معه بأطراف الحديث عنه، ونستطيع أن نوافقه في عدم نجاحه، أو نخالفه، والذي أريد أن أقوله هنا: هو أن الاعتماد على التشريع الأوربي لم ينشأ عن فقد الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وإنما نشأ من ناحية أن التصرف في شأن المحاكم وقع ¬

_ (¬1) مجلة "السعادة العظمى" التي أصدرها الإمام في تونس عام 1322 هـ. انظر كتاب: "السعادة العظمى" للإمام.

في أيدي أشخاص لم يعرفوا كفاية الفقه الإسلامي للقضاء، او عرفوا هذا، ولكن لابستهم خواطر اتجهت بهم إلى استبدال التشريع الأوربي بالتشريع الإسلامي، ونحن نعلم أن دولة شرقية أخلت محاكمها من الشريعة الإسلامية حين ذهب بعض زعمائها إلى الطرف الأقصى في محاكاة الأوربيين، ونعلم أن أمة أخرى استبدلت التشريع الفرنسي بالتشريع الإسلامي يوم كان رئيس وزارتها لا يؤمن بحكمة الشريعة الإسلامية. قال الأستاذ: "وأما في اللغة، فكذلك نمت اللغة العامية على حساب اللغة العربية، واستعمل الناس في حِرفهم وصناعاتهم وحياتهم اليومية الكلمات التي يرون أنفسهم في حاجة إليها، ولو أخذت من اللغات الأجنبية محرفة". ثم قال: "ولو استمروا على ذلك، كانت نتيجة اللغة نتيجة التشريع، ولا علاج لهذا إلا فتح باب الاجتهاد؛ لأن إغلاقه كان هو الداء". لم يكن سبب نمو العامية إقفال باب الاجتهاد في اللغة، وإنما سببه قلة التعليم، وعدم وجود جماعات تسارع إلى أن تضع لكل معنى يحدث اسماً يليق به، وتذيعه بين الناس، كما فعل أصحاب العلوم فيما سلف؛ إذ رأوا أنفسهم في حاجة إلى وضع مصطلحات للمعاني التي لم يسبق للعرب أن وضعوا لها أسماء، فكثرت المصطلحات في الفقه والنحو والصرف، والفلسفة والحساب، والطب، وغيره، قال الجاحظ يتحدث عن المتكلمين: "وهم نخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، واشتقوالها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية مالم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفاً لكل خلف، وقدوة لكل تابع". ثم قال: "وكماسمى النحويون، فذكروا الحال والظرف وما أشبه ذلك؛ لأنهم لو لم يضعوا هذه العلامات،

لم يستطيعوا تعريف القرويين وأبناء البلديين علوم العروض والنحو، وكذلك أصحاب الحساب قد اختلقوا أسماء، وجعلوها علامات التفاهم". ونبه أبو علي ابن سينا في كتاب "القانون" على طرق يسلكونها لتسمية الأمراض التي لم يضع لها العرب أسماء خاصة، فقال: "قد تلحقها التسمية من وجوه: إما من الأعضاء الحاملة لها؛ كذات الجنب، وذات الرئة، وإما من أعراضها؛ كالصرع، وإما من أسبابها؛ كقولهم: مرض سوداوي، وإما من التشبيه؛ كقولهم: داء الأسد، وداء الفيل، وإما منسوباً إلى أول من يذكر أنه عرض له؛ كقولهم: قرحة طيلانية منسوبة إلى رجل يقال له: طيلاني، وإما منسوباً إلى بلدة يكثر حدوثه فيها؛ كقولهم: القروح البلخية، وإما منسوباً إلى من كان مشهوراً بالإنجاع في معالجتها؛ كالقرحة السيروتية، وإما من جواهرها وذواتها؛ كالحمى، والورم". فإذا كان جماعات العلوم والفنون وضعوا من المصطلحات ما ألفت فيه كتب مستقلة، ونظر الناس إلى ما صنعوه بإعجاب واستحسان، فلو أن جماعة من العلماء في العهود الماضية أقبلوا على ما يرجع إلى الصناعات والشؤون الحيوية من الأشياء المحدثة، وأخذوا يضعون لها أسماء على نحو مصطلحات العلوم، لم يجدوا - فيما أحسب - منكراً يزعم لهم أن هذا اجتهاد في اللغة، وأن باب الاجتهاد مقفل. ذكر الأستاذ: أن اللغة واسعة سعة عظيمة أكثر من اللازم، وضيقة في مواضع أخرى ضيقاً شديداً أكثر من اللازم، ثم قال: "وعلاج ذلك في نظري أمور". وأورد في صدر هذه الأمور: التخفيف من كثير من مفردات اللغة التي

في المعاجم؛ بعلة أننا لسنا في حاجة إلى الثمانين ألف مادة في "لسان العرب"، وقال: لابد من طرح بعض الألفاظ وإماتتها، إلا أن تكون مؤرخة للغة. توضع المعجات ليأخذ الناس منها ألفاظاً يؤلفون منها خُطبهم ومراسلاتهم وأشعارهم، كما توضع لتيسر للناس فهم ما يقوله بلغاء اللغة من شعر ونثر، وليس من شك أن الألفاظ العربية التي تحتويها المعجمات هي مبثوثة في كلام العرب شعراً ونثراً، ودراسة آداب اللغة تقتضي أن نكون مستعدين لنفهم كل ما يصل إلينا من ذلك الشعر والنثر، فيحسن التخفف من مفردات اللغة في المعجمات التي توضع ليرجع إليها جمهور المثقفين في الكشف عن الكلمات التي تكثر الحاجة إليها، ولا بد لنا بجانب هذا من معجمات نتقي فيها الألفاظ الواردة عن العرب بقدر المستطاع. وقد يقول الأستاذ: هذا ما أردته بقولي: إلا أن تكون مؤرخة للغة. فنقول: لا تورد الألفاظ العربية الصحيحة في المعاجم المبسوطة لمجرد التاريخ، بل توضع لأنه يحتاج إليها في فهم شعر أو نثر قد يكون مشتملاً على حكمة بالغة، أو صورة معنى رائعة. وأورد الأستاذ ثلاثة أنواع من الكلم رآها أولى من غيرها بالإعدام، وهي الكلمات الحوشية، والمترادفات، وأسماء الأضداد، وساق ممثلاً للكلمات الحوشية أبيات صفي الدين الحلي التي يقول في أولها: إنما الحيزبون والدردبيس ... والطخا والنُّقاخ والعلطبيس وملاحطتنا على هذا هو ما أشرنا إليه من أن أدب اللغة يحمل كثيراً من هذه الكلمات الحوشية أو المترادفة، أو ما قيل فيها: إنها أسماء الأضداد،

وليس من التحقيق في العلم أن نمر على هذه الكلمات في شعر أو نثر دون أن نفهم معانيها، إلا أن يريد الأستاذ من الحكم بالإعدام: إعدام هذه الأنواع من الكلمات، وإعدام الشعر أو النثر الذي يحملها، فالحيزبون - مثلاً - ورد في شعر عبيد بن الأبرص من الجاهلية، والدردبيس وردت في شعر جزي الكاهلي، إلى غير هذا من الكلمات، بل نجد أشعار البلغاء من الإسلاميين والمحدثين عامرة بكثير من الكلمات الحوشية، وإذا صح لنا أن نقول لمن يزاولون صناعة الفصاحة: لا تستعملوا الكلمة الحوشية؛ فإنها مخلة بالفصاحة، فليس بأيدينا أن نقول لهم: لا تستعملوا هذه الألفاظ المترادفة، وهي مأنوسة الاستعمال، خفيفة على اللسان، كما أنا لا نستطيع أن نقول لهم: لا تستعملوا هذا اللفظ الذي قيل: إنه من أسماء الأضداد، فإن بأيديهم حجة قوية إذ يقولون: نحن أعرف بما يقتضيه المقام، ونفرق بين الكلام الذي يجب أن يكون نصاً صريحاً فيما يراد منه؛ كالمؤلفات العلمية، وعقود المعاهدات والمعاملات، والكلام الذي يحسن أن تقوم فيه القرائن الجلية مقام التصريح، أو القرائن الخفية مقام القرائن الجلية، أو يقوم فيه الإبهام مقام الإيضاح، ولا يمتري أحد في أن كثيراً من المراسلات والمحاصرات الأدبية والسياسية تقوم على البراعة في هذا الأسلوب من الكلام، وقد يكون لنحو التورية والتوجيه والإبهام أغراض نبيلة، وصور من المعاني تستروح إليها النفوس، ويزداد بها أدب اللغة ثراء يغبط عليه. ورأى الأستاذ أن المترادفات لازمة للشعر العربي حيث تلتزم وحدة القافية والروي في القصيدة الطويلة، وأشار على الشعراء أن يهجروا هذه الطريقة، ويأخذوا بطريقة تعدد القافية حتى يمكن تنفيذ حكم الإعدام على

كثير من المترادفات، وقال: "وما علينا لو تعددت القوافي في القصيدة الواحدة؟! فذلك أروح للسمع، وأفسح مجالاً للشاعر". وحدة القافية والروي أو تعددهما أمر لا تسيطر عليه المجامع، وإنما هو متروك إلى ذوق الشاعر نفسه، والأذواق في مثل هذا تختلف باختلاف العصور، بل الأشخاص؛ ولا ينبغي -فيما أرى- أن نصرف الشعراء عن وجهة قد تكون ملائمة لأذواق كثير منهم، وهي وحدة القافية والروي، ونقصرهم على وجهة تعددهما، ونضطرهم إلى ذلك بإعدام وسيلة وحدة القافية، وهي المترادفات. ثم تحدث الأستاذ عن المشترك، فقال: "ولكن لا أريد حذفه بتاتاً كما أريد حذف المتضاد، فالحاجة إليه شديدة، ولكن أريد التخفف منه قدر الإمكان". يحسن التخفف من المشترك في المعجمات التي يراد منها إسعاف الجمهور؛ بأن تذكر فيها المعاني التي أكثر استعمال اللفظ المشترك فيها، وتترك المعاني التي قلما يستعمل فيها ذلك اللفظ، ولكن يجب أن نستوفي في المعاجم المبسوطة معاني الألفاظ المشتركة إجابة لداعي أدب اللغة؛ فإن معاني هذه الألفاظ قد عرفت من الشعر والنثر العربي القديم، وصارت مبثوثة في المنشآت التي حدثت في القرون الوسطى، أو في العصور القريبة من عصرنا. ثم تعرض الأستاذ لصيغ الزوائد؛ كأفعل، وفعَّل، وفاعل، وانفعل، وافتعل، واستفعل، وذكر ما قاله النحاة في معانيها، وقال: "وجه العيب أنهم قصروا ذلك على ما سمع، ولم يبيحوا لعلماء اللغة أن يتوسعوا في هذا

الاستعمال متى احتيج إليه، واقترح على المجمع أن يقرر قياسية ذلك". قد قرر المجمع قياسية أفعل وفعَّل مستأنساً بنصوص بعض أئمة اللغة على قياسيتها، ونعلم أن بعض أئمة العربية قرر قياسية انفعل مطاوعاً ليفعل أو أفعل، أما المطاوع لفعل، فقد قال علماء الصرف: إذا أردت أن تجعل المتعدي لازماً، فالطريقة فيه أن ترده إلى باب انفعل، وأما المطاوع لأفعل، فقد صحح قياسيته ابن عصفور، وأما استفعل بمعنى طلب الفعل، فقد ذهب بعض الأئمة إلى أنه سماعي، وظاهر كلام ابن سعيد السيرافي أنه قياسي؛ إذ قال: أصل استفعلت الشيء في معنى: طلبته، واستدعيته، وهو الأكثر، وما خرج عن هذا، فهو يحفظ، وليس بالباب. وقد وجدت في بعض مذكراتي عبارة يغلب على ظني أني نقلتها من "شرح المكمل على المفصل" لمظهر الدين محمد، ونصها: "فالباب في استفعلت الشيء أن يكون للطلب، أو الإصابة، وما عدا ذلك، فإنه يحفظ حفظاً". ومما يلاحظ هنا: أن الأستاذ حرص على تصحيح كلمة "خابره" قياساً على قول العرب: نابأه، وأبدى هذا الحرص عقب دعوته إلى استبعاد كثير من المترادفات في معاجمنا، فهل يريد الأستاذ استبعاد المترادفات المسموعة، وتكثير مواد المترادفات المصنوعة بيد القياس؟ على أني لا أرى مانعاً من جعل صيغة فاعل لمعنى المشاركة في الفعل قياسية؛ لكثرة ترددها في النصوص العربية. قال الأستاذ: "وكذلك الشأن في المصادر، فقد نصوا على أن الفعل إذا دل على حرفة، فقياس مصدره فِعالة؛ كالخياطة والحياكة، فلنعمم ذلك

إذا شئنا؛ كالبرادة والنقاشة". ذكر الأستاذ في هذه الفقرة أن النحاة نصوا على أن فِعالة مصدر قياسي للفعل الذي يدل على حرفة، فما وجه التوقف إذن في أن نقول: برادة، ونقاشة؟! وممن نص على قياسيته: ابن عصفور؛ فقد نقل عنه الأزهري وغيره أن فِعالة مصدر قياسي في كل فعل ثلاثي دل على حرفة، أو ولاية، سواء أكان مفتوح العين، أو مكسورها، وسواء كان متعدياً، أو لازماً. وقد استأنس المجمع بمثل هذه النصوص، فقرر قياسيته، ونص القرار: "يصاغ للدلالة على الحرفة وشبهها من أي باب من أبواب الثلاثي مصدر على وزن فِعالة". قال الأستاذ: "وفَعَلان يدل على التقلب؛ كالجولان والغليان، فنقيسه في مثله متى احتجنا إلى ذلك، ولو لم ينصوا عليه". لا داعي لهذا الاقترح، وقد قرر المجمع فيما سلف قياسية هذا المصدر، ونصه: يقاس المصدر على وزن فَعَلان للفعل اللازم مفتوح العين إذا دل على تقلب واضطراب. قال الأستاذ: "وصيغة فَعَّال تطلق على صاحب الحيوان، ومروضه، فقالوا: فيل وفيّال، فلم لا نقول إذا احتجنا: قرد وقرّاد، وكلب وكلَّاب، وهكذا؟ ". تكلم النحاة على استعمال فعّال للنسب، ونقلوا عن سيبويه أنه سماعي، ونقلوا عن المبرد أنه قياسي، فيقال لصاحب الفاكهة: فَكَّاه، ولصاحب البر: برَّار ولصاحب الشعير: شعّار؛ كما قالوا: عطّار وبزّاز. وقال ابن سيده في "المخصص": فرق حُذّاق النحويين بين فاعل

وفعّال، فقالوا: الباب فيما كان ذا شيء، وليس بصنعة يعالجها: أن يجيء على فاعل؛ لأنه ليس فيه تكثير؛ كقولنا لذي الدرع: دارع، ولذي اللبن: لابن، والباب فيما فيه صنعة ومعالجة: أن يجيء على فعّال؛ كالبزّاز والنجّار، وقد يستعمل أحدهما في موضع الآخر؛ نحو: ترّاس لصاحب الترس، وقد يستعمل في الشيء الواحد لفظان؛ نحو: رجل سائف وسيّاف. ومقتضى كلام ابن سيده أن نقول: قارد لمن له قرد، وقرّاد لمن يسوس القرود، على أن المجمعات قد نعتت أنه يقال لسائس القرود: قراد، قال صاحب "القاموس": والقرد معروف، والقرّاد: سائسه. قال الأستاذ: "كذلك من أصعب الأبواب وأكثرها غلطاً في العربية المذكر والمؤنث"، وذكر ألفاظاً معانيها مذكرة، وقد لحقتها الهاء، وهي: راوية وعلّامة ونسّابة. ثم ذكر ألفاظاً دالة على أوصاف خاصة بالإناث جاءت خالية من الهاء، وهي: كاعب، وناهد، وذكر ألفاظاً تستعمل للذكر والأنثى خالية من علامة التأنيث، وهي: أملود، وظهير، وضامر، وقال: "إن هناك الحيرة في أسماء هي مؤنثة أم مذكرة؛ كالدرع، والصاع، والسكين، والدلو، والسوق، والعسل، والدوح". وقال: "فيجب العمل لتسهيل هذه الصعاب المربكة، والجرأة في تنظيمها، ووضع قواعد عامة، ولو خالفنا فيها بعض النصوص". للأستاذ أن يضع قاعدة تخالف نصوص النحويين، وللمجمع أن ينظر في هذه القاعدة، ويزنها بمقاييس اللغة المأخوذة من موارد الكلام الفصيح، وليس للأستاذ أن يضع قاعدة تبطل استعمالاً شائعاً في نصوص الفصحاء،

وتفرض على أبناء العربية استعمالاً لم يألفوه فيما ينطق به فصحاؤهم في القديم والحديث، والهاء في راوية الشعر، وعلاّمة ونسّابة ونحوها للمبالغة، وأي ضرر في استعمال الهاء للمبالغة حيث لا يحتمل المقام إرادة التأنيث؟. وجاء الأستاذ بقواعد ليضبط بها باب التذكير والتأنيث، وقال أولاً: "جواز تأنيث كل مؤنث بإلحاق تاء التأنيث إليه، فيقال: هي كاعبة، وناهدة، وشاب أملود، وجارية أملودة، وجمل ضامر، وناقة ضامرة". الأوصاف التي تختص بها الإناث مثل: كاعب وناهد وطالق يلتزم فيها حذف الهاء؛ لأن الهاء يؤتى بها في الأصل للفرق بين المذكر والمؤنث، فاستغني عنها في مثل هذه الأوصاف؛ لظهور التأنيث من نفس الوصف، ومع هذا، فقد قال النحويون: إذا أريد منه معنى الفعل؛ كأن يقال: طالقة غداً، جاز أن تلحق الهاء إجراء له مجرى الفعل، أما ما لا يختص بالإناث، كأملود وضامر، فلا مانع عندي من أن تلحقه الهاء على وجه الجواز، فقد ورد في المعجمات: أملودة، وضامرة، وظهيرة، قال صاحب "القاموس": شاب أملود، وجارية أملودة. وقال صاحب "اللسان": وناقة ضامر ذهبوا إلى النسب، وضامرة. وقال: بعير ظهير: إذا كان شديداً قوياً، وناقة ظهيرة. ومن القواعد التي قصد بها الأستاذ تنظيم باب التأنيث والتذكير قوله: كل ما ليس مؤنثاً حقيقياً؛ كأسماء الجماد، إذا لم تكن فيها علامة التأنيث؛ كالدلو والبئر والأرض والسماء والنجم، يجوز تذكيره وتأنيثه؛ لما حكى صاحب "المصباح" عن ابن السكيت، وابن الأنباري؛ إذ قالا: إن العرب تجترئ على تذكير المؤنث إذا لم تكن فيه علامة التأنيث!! الألفاظ التي تخلو من علامة التأنيث، وسُمع من العرب تأنيثها يقسّمها

علماء اللغة إلى قسمين: ما يجب تأنيثه، وما يجوز تأنيثه وتذكيره، وقد تعرض لجمعها بعض كتب فقه اللغة؛ كـ "المخصص"، أو كتب النحو؛ ككتاب "المكمل في شرح المفصل"، وقصد بعضهم إلى جمعها مستقلة؛ كما صنع ابن جني، وابن الحاجب، وكنت منذ عهد بعيد قد تتبعتها في هذه المؤلفات وغيرها، فبلغت نحواً من مئة وستين اسماً، وقد تختلف عبارتهم في واجب التأنيث وجائزه، وإذا نحن أتينا إلى كل ما روى فيه أحد العلماء الوجهين من التذكير والتأنيث، وجعلناه في قبيل المتفق على أنه جائز التأنيث، بقي لنا فيما يجب تأنيثه نحو أربعين كلمة ونيف، وهذا المقدار قريب المأخذ متى أردنا المحافظة على ما هو جار في الاستعمال الفصيح. ثم إن من ينظر في اللغة الألمانية يجد كلماتها التي يرجع تأنيثها إلى السماع لا تكاد تدخل تحت حساب، فهل خطر على بال طائفة من علمائها أن يبدلوا هذا الوضع من أوضاعها بدعوى أنه فوضى واضطراب؟. ثم إن وجود هذا القسم - أعني: واجب التأنيث - هو الذي يشهد له الاستعمال المعروف في الكلام الفصيح، وقرر جمهور علماء العربية التزام هذا الاستعمال، ولكن بعض اللغويين أجازوا نحو: الشمس طلع، والسماء أمطر، والأرض اخضرّ، قال الألوسي في "شرح ضرائر الشعر": "وعن ابن كيسان الجوهري أن الفعل إذا كان مسنداً إلى ضمير المؤنث المجازي لا يجب إلحاق علامة التأنيث به". ورأى الأستاذ أن يعد في اللغة ما استعمله أبو تمام والبحتري والمتنبي وأبو العلاء، ومن أتى بعدهم على منوالهم، وقال: فإذا استعمل هؤلاء لفظة،

أو تعبيراً لم يرد في المعاجم، ووجدناه صالحاً يسد حاجة من حاجتنا، استعملناه. هذا الذي قاله الأستاذ قد ذهب إليه بعض علماء العربية قديماً، وقد استشهد الزمخشري في "تفسيره" ببيت لأبي تمام، وقال: وهو - وإن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة - فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. واستشهد أبو علي الفارسي في كتاب "الإيضاح" ببيت لأبي تمام كان سيف الدولة يعجب به، وينشده كثيراً. واستشهد الرضي في عدة مواضع من "شرح الكافية" بأشعار أبي تمام، وجرى على هذا المذهب: الخفاجي في الاستشهاد بشعر المتنبي. وقال في شرح "درة الغواص": أجعل ما يقوله المتنبي بمنزلة ما يرويه. واستشهد ببيت لابن دريد، وقال: وابن دريد إمام ثقة نعد ما يقوله بمنزلة ما يرويه. وتجاوز الأستاذ هذه الطبقة من علماء العربية، وقال: "وإذا استعمل المقري التذكرة بمعنى الرقعة التي يكتب فيها للتذكر، فهي عربية، والألفاظ الاصطلاحية التي استعملها ابن خلدون ليسد بها حاجته في علم الاجتماع عربية، فهل علينا أن نعد ما استعمله أبو تمام وأضرابه عربياً؛ لأنهم عُرفوا بإتقان الرواية، وسعة الاطلاع، وطول الباع في صناعة البيان، وذلك مما يجعل الخطأ فيما استعملوه من الكلمات والأساليب بعيد الاحتمال". ومن موجبات الفوضى في اللغة: أن نعمد إلى ما يستعمله المؤلفون، ولو لم يتصدوا لرواية اللغة، وبعد عهدهم من العهود التي كانت فيها اللغة

على الألسنة نقية؛ كالمقري، وابن خلدون، ونجعله عربياً، والطريقة السليمة -فيما أرى-: أن ننظر إلى ما يستعمله هؤلاء المؤلفون من الكلمات التي لا تحتويها المعاجم العربية، ونعرضها على مقاييس اللغة، فإن لم تدفعها، تلقيت بالقبول؛ ككلمة التذكرة؛ فإن عربيتها مسلَّمة؛ إذ ليس فيها سوى التسمية بالمصدر، واستعمال المصدر فيما يقوم به، أو يقع عليه، قياس مطَّرد، أما إن كانت مثل كلمة: صدفة، أو كلمة: عمولة، فلا أرى وجهاً لعدها في قبيل اللغة العربية، وإدخالها في المعاجم. وليسمح الأستاذ بأن أتقدم له بسؤال: هو أنه قال في هذا المقال: "الصعوبة المربكة"، فهل أراد الأستاذ عندما استعمل كلمة: مربكة أن تعد عربية صحيحة، وتدخل في المعجمات الجديدة، أو أنه كتبها على وجه السهو، وكلنا يقع في مثل هذا السهو؟ فإن كتبها على أن تعد عربية، مع وجود ربك، فقد أعان على تكثير المترادفات، وهو يدعو بإلحاح إلى أن نستبعد كثيراً منها، وإن كان كتبها على وجه السهو، فلم لا يحمل ما كتبه المقري، أو ابن خلدون؛ مما لم يسمع، ولم يدخل تحت قياس، على أنه مصدر سهو؟. ذكر الأستاذ: أن من أشق الأمور على دارس اللغة العربية: وزن الفعل الثلاثي ماضيه ومضارعه، ومشى في تصوير هذه الصعوبة حتى قال: "ولو ترك هذا الأمر على حاله، ما أمكن النطق الصحيح الدائم، مهما طال الزمن، وكثر الدرس". في الأفعال الستة صعوبة، ولكن متى قرر المجمع التزام شكل الحروف، وصار الناشئ يقرأ الأفعال الكثيرة الاستعمال في الكلام على وجهها الصحيح؛

لكثرة ما يسمعها، أو تقع عليها عينه وهي واضحة الشكل، لم تبق إلا الأفعال القليلة الاستعمال، فربما لقي فيها صعوبة عادية حيث يحتاج في معرفة بابها إلى مراجعة بعض المعجمات. قال الأستاذ: وقد أدرك هذه الصعوبة بعض العلماء قبلنا، فاجتهدوا فيها، فقد روى "القاموس" في مقدمته عن أبي زيد الأنصاري: "إذا جاوزت المشاهير من الأفعال التي يأتي ماضيها على فعل، فأنت في المستقبل بالخيار، إن شئت قلت: يفعُل - بضم العين -، وإن شئت قلت: يفعِل -بكسرها -". إنما تحدث أبو زيد على أفعال المضارعة للفعل الذي لم يسمع مضارعه، وذلك الذي فهمه أهل العربية فيما رأينا، وقد تصدى المرتضى في "التاج" لزيادة شرح هذه العبارة، وقال: ويريدون بمجاوزة المشاهير: أن يرد عليك فعل لا تعرف مضارعه بعد البحث في مظانه، أما إذا ورد في بعض المعجمات أنه من باب نصر، أو من باب ضرب، فيتعين الوجه الذي جاء في المعجمات. وهذا صاحب "المصباح" يقول: "وإن لم يسمع في المضارع بناء، فإن شئت ضممت، وإن شئت كسرت، إلا الحلقي العين أو اللام، فالفتح للتخفيف، وإلحاقاً بالأغلب". قال الأستاذ: "وهو اجتهاد حسن لا بأس به، ولكن يجب أن يكون لنا من الحق ما لأبي زيد، فننظم الأفعال الثلاثية كلها، ولا نقتصر على ما كان من باب فعل، ولا نجيز أن يكون مضارع فعل من باب ينصر أو يضرب، فإن هذه توسعة ضارة لا حاجة إليها، بل نكتفي بوزن واحد، وليكن وزن يضرب". اجتهاد أبي زيد على وجه الذي فهمه علماء اللغة حسن لا بأس به،

ولنترك مناقشة الأستاذ في تنظيمه للأفعال الثلاثية حتى يفصله، ومتى كان الأستاذ يريد من قوله: "ولا نجيز أن يكون مضارع فعل من باب ينصر"، فعد الذي لم يسمع مضارعه، فله أن يكتفي بوزن واحد، ولا يحجر على غيره أن ينطق به على وزن ينصر ما دامت قواعد اللغة تسمح بذلك. قال الأستاذ: "فإذا جاز لأبي زيد أن ينظم بعض التنظيم، فنحن أحق ما نكون للتنظيم الكامل، وأقدر منه". يعمل أبو زيد وأمثاله لتنظيم اللغة في دائرة الإبقاء على أوضاعها ومقاييسها المنظور فيها إلى استعمال فصائحها، ولسنا أقدر منهم على هذا التنظيم المعقول. أما التصرف في اللغة بنحو الهدم والتغيير والتبديل، فغير علماء العربية أسرع إليه، وأقدر عليه من علماء العربية. قال الأستاذ: "وهناك أبواب أخرى في اللغة العربية مسببة للخلط والاضطراب؛ كباب التعدي واللزوم، وباب العدد، والمصادر، وكثرتها وبعثرتها، وجموع التكسير واضطرابها ... إلخ، وكلها تحتاج إلى ضبط، ولو بتضحية أرجئ القول فيها إلى فرصة أخرى". ذكر الأستاذ في الأبواب التي يراها مسببة للخلط والاضطراب: باب العدد، وأذكر بهذه المناسبة أن شخصاً كتب في إحدى المجلات مقالاً حاول فيه قلب بعض الأوضاع العربية، وذكر في جملتها تذكير العدد للمؤنث، وتأنيثه للمذكر، واقترح تغيير هذا الوضع. ونحن نعود فنقول: إن الأخذ بمثل هذا الاقتراح ينحرف بنا عن الغرض النبيل، وهو المحافظة على سلامة اللغة العربية؛ إذ هو اقتراح لإعدام شيء من مميزاتها، ولو مشينا في هذا السبيل، لكنا نعمل لإفناء اللغة العربية،

وإحداث لغة أخرى. ذكر الأستاذ: أن فتح باب الاجتهاد في اللغة لتنظيمها لا يكون إلا بالاعتقاد بأن اللغة ملكنا، وقال: "نتصرف فيها كما يتصرف الملاك بالهدم والبناء، والتغيير والتبديل". ليست اللغة ملكاً لأفراد، ولا لجماعات قليلة العدد، وإن رأوا في أنفسهم الكفاية للتصرف معها بالهدم والبناء، والتغيير والتبديل ما رأوا، وإنما هي ملك للأمة التي تنطق بها، والناطقون باللغة العربية شعوب يبلغ عددهم نحواً من ستين أو سبعين مليوناً، ومن بين هذه الشعوب علماء درسوا اللغة دراسة ملأت نفوسهم بالإعجاب بها، والحرص على سلامتها، وإنما يطمحون إلى تكميل حاجاتها بنحو وضع مصطلحات لما يتجدد من العلوم والفنون، ووضع أسماء لما يتجدد من مقتضيات المدنية، إلى نحو هذا مما تسعه مقاييسها، ويشر طرق تعليمها، والمجمع ألّف في مصر للمحافظة على سلامة اللغة العربية، وهذا ماجعل الشعوب العربية - ومن بينها مصر - تقدره، وتعلق عليه أمل القيام بالمهمة التي ألقيت على عاتقه، وتسائل كل ركب عن سيرته، وعما قرر في مؤتمراته، فإن أراد المجمع أن يتصرف في اللغة بالهدم والبناء، والتغيير والتبديل، فإنما يريد العمل لإيجاد لغة إقليمية، لا للمحافظة على سلامة اللغة العربية. قال الأستاذ: "وأخيراً نستخلص من هذا كله مبدأ واحداً، وهو تقرير فتح باب الاجتهاد في اللغة؛ لتنظيمها، وضبط الفوضى فيها". لا نرى باب الاجتهاد في اللغة مقفلاً، ولكن للاجتهاد فيها حدود، متى تخطاها الناظر، خرج إلى تفكير لا يسمى اجتهاداً في اللغة العربية، وإنما

المجتهدون في اللغة من يستكثرون من حفظ ألفاظها، ويمعنون النظر فيما يراد بها من المعاني، ثم يقبلون على النظر في كلام العرب، فيستخرجون المقاييس التي يقوم عليها الاشتقاق، والنظم التي تراعى في التراكيب. قال الأستاذ: "ثم لا خطر من هذا الاجتهاد في اللغة مطلقاً متى أحكم طريقه، ومتى حوفظ على مقومات اللغة، وليست مقومات اللغة [في]، ألفاظ تحذف، وألفاظ تزاد، ولا في هذه الفوضى في كثير من الأبواب، إنما مقومات اللغة في هيئتها، وبناء كلماتها، وطريقة الاشتقاق، ونحو ذلك". نوافق الأستاذ في أنه لا خطر على اللغة من الاجتهاد في اللغة مطلقاً متى أحكم طريقه، ومتى حافظ المجتهد على مقومات اللغة، ولم يمد يده إلى هدم وضع من أوضاعها التي عرفت بها، أو جرى عليها بلغاؤها بدعوى أنها فوضى منتشرة في أبوابها.

نقد إعرابين جديدين في صيغة التحذير

نقد إعرابين جديدين في صيغة التحذير (¬1) اطلعت على مقال نشر في إحدى المجلات (¬2) الأسبوعية تحت عنوان: "إعرابان جديدان في صيغة التحذير"، فرأيت كاتب المقال قد أنكر ما قاله أعلام النحويين في إعراب صيغة التحذير، ورماه بالتكلف، وأبدى الكاتب تأويلين في إعرابها، وادعى أنهما خير مما قاله النحويون، وختم مقاله بقوله: "فكم ترك الأول للآخر! ". ولما تراءى لي أن تأويلَي كاتب المقال ليسا خيراً مما قاله النحويون، خطر على بالي أن كتب كلمة أُلم فيها بوجهة نظر أولئك الأعلام، وأترك القول الفصل للقارئ الذي لا يضع المسائل موضع القبول إلا بعد عرضها على أصول العلم الذي تتصل به، وبحثها بروية وأناة. قال كاتب المقال: "اضطرب النحويون في إعراب صيغة التحذير مع الواو التي يجعلونها للعطف اضطراباً كبيراً، ومن هذه الصيغة قول الشاعر: فلا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه ¬

_ (¬1) نقد منشور في مجلة "الهداية الإسلامية"، الجزء التاسع من المجلد الرابع عشر. (¬2) مجلة "السياسة" عدد (7 شعبان سنة 1306 - 13 أغسطس سنة 1941) بالقاهرة.

ولم يأتهم هذا الاضطراب إلا من هذه الواو الداخلة على المحذَّر منه، فقد اتفقت كلمتهم على أنها للعطف، مع أن معنى الصيغة ينبو عن ذلك نبواً كبيراً". يأتي العرب عند قصد التحذير من المكروه بضمير المخاطب المنصوب، أو باسم مضاف إلى ضمير المخاطب المتصل، ويأتون بعده باسم المحذَّر منه مقروناً بالواو، فيقولون - مثلاً -: إياك والأسدَ، ويقولون: رأسَك والسيفَ. ومن الواضح أن إعراب هذين التركيبين لا يتم إلا بتقدير عامل في المنصوب، أعني: إياك في المثال الأول، ورأسك في المثال الثاني. ولما كان المتبادر من الواو الواردة في الصيغة هو العطف، لاحظ النحويون في التقدير صحة معنى التحذير، وقد اختلفت عباراتهم في المقدَّر، فمنهم من راعى الاقتصاد في التقدير، فجعل العطف من قبيل عطف المفردات، وقدر فعلاً يصح تسليطه على المحذَّر والمحذَّر منه مع إفادة الغرض الذي هو التحذير، فقال: التقدير: إياك باعدْ (¬1) والشر، ويهذا التقدير يكون الإعراب قد أخذ حقه، ثم إن الذهن ينساق من طلب مباعدته لنفسه والشر إلى أن المراد باعد نفسك من الشر، وباعد الشر منك. ومن النحويين من قصد إلى أن يكون المقدر أوضح دلالة على التحذير، فجعل العطف من قبيل عطف الجمل، وقدر لكل واحد من المنصوبين في الصيغة فعلاً، فقال: التقدير: إياك باعد، واحذر الشر. ¬

_ (¬1) إذا قدر النحويون في الصيغة فعلاً، لا يريدون أن لفظ هذا الفعل متعين للتقدير، بل يصح تقدير ما كان موافقاً لذلك الفعل في المعنى ووجه الاستعمال من نحو التعدية واللزوم.

ومن قلَّب نظره في طرق الإيجاز في كلام العرب، ورآهم كيف يعتمدون على ظهور المعنى من الجمل، ولا يبالون حذف ما كان عمدة في الكلام أو فضلة، لم ير في حذفهم لفعلين في صيغة التحذير، واكتفائهم بالمفعولين، ما ينبو عنه المعنى نبواً كبيراً أو صغيراً. وقد تكلم العرب بمثل هذا الضرب من الإيجاز، إذ قالوا: كلَّ شيء ولا شتيمةَ حُر، والتقدير: اصنع كل شيء، ولا ترتكب شتيمة حر، وقالوا: أهلَك والليلَ، والتقدير: ألحق أهلك، وبادر الليل. والتقدير الصحيح المقبول ما كان مطابقاً لأصول اللغة، ملائماً للغرض الذي يرمي إليه المتكلم، غير زائد على قدر الحاجة. إذا اختلفت عبارات النحويين في المقدر في صيغة التحذير، فإن من تلك المقدرات ما نجده مطابقاً لأصول اللغة، مؤدياً معنى التحذير، مقتصراً فيه على قدر الحاجة. وإن كان اختلاف النحويين في الألفاظ المقدرة في التحذير يعدّ اضطراباً كبيراً، فسترى أن كاتب المفال لم يفعل شيئاً سوى أن زاد في طين هذا الاضطرابِ بلَّة. قال كاتب المقال: "والحقيقة أن الواو في قولك: إياك والشر، ليست للعطف كما فهم النحويون؛ لأن واو العطف تقتضي دخول المعطوف في حكم المعطوف عليه، فيكون العامل في المعطوف عليه بحيث يصح تسليطه في اللفظ والمعنى على المعطوف". قد عرفت أن الذين يجعلون صيغة التحذير من قبيل عطف المفردات يقدرون عامل النصب في المعطوف والمعطوف عليه لفظ: باعدْ، ونحوه،

على معنى أن المطلوب من المخاطب تبعيد نفسه من الشر، وتبعيد الشر منه، وذلك قصد المحذر، والمباعدة يصح تسليطها على المحذر الذي هو المخاطب، والمحذر منه وهو الشر. أما الذين يجعلون الصيغة من قبيل عطف الجمل، فيقدرون للمحذر عاملاً من نحو احذر، فلكل من المحذر والمحذر منه عامل يصح تسليطه عليه في اللفظ والمعنى. قال كاتب المقال: "وأنت إذا قلت: إياك والشر، فالمعنى القريب لهذه الصيغة: أحذرك والشر، ولكن هذه الواو لا تستقيم أن تكون للعطف في هذا المعنى القريب لهذه الصيغة؛ لأن هذا العامل الذي قدرناه، لا يصح تسليطه على ما بعدها؛ إذ لا يصح أن تقول: احذر الشر، كما تقول: أحذرك؛ لأن الشر محذر منه، لا محذر كالمخاطب، وللواو استعمالات كثيرة غير استعمالها في العطف، وإذا عرضنا هذه الواو التي معنا على تلك الاستعمالات، وجدنا أقربها إليها أن تكون زائدة". يتلخص تأويل كاتب المقال لصيغة التحذير في تقدير "احذر"، وجعل الواو في المحذر منه زائدة، أما تقدير احذر، فإن صح، إنما يصح في الصيغة المبدوءة بضمير المخاطب "إياك"، أما الصيغة المبدوءة باسم مضاف إلى المخاطب؛ نحو: رأسَك والسيَف، فإن فعل احذر غير صالح للعمل فيها؛ إذ لا يصح أن يقال: احذر رأسك والسيف، فلا بد من تقدير فعل من نوع ما يقدره النحاة، وهو: باعدْ أو نخِّ، وإذا رأى كاتب المقال نفسه مضطراً إلى العدول عن "احذر" في هذا القسم من التحذير، لزمه أن يسلم أن تقدير باعد أو نح، في نحو إياك والشر، لا يعد في قبيل التعقيد والخروج

عما نستسيغه الآن. ثم إننا إذا وجدنا جملتين عطفت إحداهما على الأخرى، وكانت إحداهما صريحة في طلب أو نهي، والأخرى قد حذف منها المسند، وساعد المعنى على أن يقدر المسند فعلاً مضارعاً، أو فعل طلب، فمراعاة التناسب تقتضي أن يكونا متفقين في الطلبية، وقد وجدنا العرب يأتون بصيغة التحذير معطوفة على أمر أو نهي، أو معطوفاً عليها أمر أو نهي، ومن أمثلة ذلك البيت الذي ساقه كاتب المقال، أعني قوله: ولا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه فإن قوله: "وإياك وإياه" معطوف على قوله: "ولا تصحب". ومما عطف فيه النهي على صيغة التحذير قول أمية بن طارق الأسدي: إياك والظلم المعبس إنني ... أرى الظلم يغشى بالرجال المغاشيا ولاتك حفّاراً بظلفك إنما ... تصيب سهام الغي من كان غاويا فقوله: "ولا تك حفّاراً" معطوف على قوله: "إياك والظلم". ومن هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذبُ الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا". ومما عطف فيه الأمر على صيغة التحذير قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إياي وأن يحذف أحدكم الأرنب، وليذِّك لكم الأسلُ والرمح"، فقوله: "وليذك" معطوف على قوله: "إياي وأن يحذف". ومن هذا الباب قوله - رضي الله عنه -: "إياكم والبطنة؛ فإنها مكسلة عن الصلاة، ومفسدة للجسم، ومؤدية إلى السقم، وعليكم بالقصد في قوتكم". ومما وردت فيه صيغة التحذير بين أمر ونهي تقدما عليها، وأمر تأخر

عنها: قول عمر بن الخطاب: "أما بعد: فاستعينوا على الناس وكل ما ينوبكم بالصبر والصلاة، وأمر الله أقيموه، ولا تدهنوا فيه، وإياكم والعجلة فيما سوى ذلك، وارضوا من الشر بأيسره؛ فإن قليل الشر كثير". وكون المعنى في نحو: "إياك والأسد" على قصد التحذير، لا يقتضي تقدير عامل النصب من مادة حذر، كما أن القصد من نحو: "أخاك أخاك" هو الإغراء، ولا يصح أن يقدر عامل النصب هنالك من مادة أخرى. وأما دعوى كاتب المقال أن الواو الداخلة على المحذر منه زائدة، فكلمتنا في نقده هي أن الألفاظ وضعت للدلالة على ما يقوم بالنفس من المعاني، فأصل الكلام أن يكون لكل كلمة منه معنى يقوم بنفس المتكلم، ويريد نقله إلى نفس المخاطب، فلا يصح لأحد أن يدعي زيادة كلمة في صيغة من صيغ الكلام إلا حيث يعجز الناس عن أن يذكروا لها معنى يلائم الغرض الذي صيغ له الخطاب، وقد وجد النحويون حروفاً ترد في مواضع من التراكيب مرة، وتسقط منها مرة أخرى، دون أن يظهر لها عندما تذكر معنى زائد على ما يفيده التركيب الخالي منها، فحكموا بزيادتها، مثل "أنْ" الواردة بعد "لما"، و "ما" الواردة بعد بعض حروف الجر. وهؤلاء الذين يحكمون في بعض الحروف بالزيادة، لا يجيزون حمل كلمة على الزيادة إلا إذا تعذر فهم التركيب على وجه تحمل فيه على أحد معانيها الأصلية، قال الرضي في "شرح الكافية": "والأصل عدم الحكم بالزيادة ما كان للحكم بالأصالة محتمل". والنحويون قد فهموا من صيغة التحذير أن الواو عاطفة، وذكروا في تقدير عامل النصب وجهاً يلائم العطف، فصرْف الواو إلى الزيادة مع إمكان بقائها عاطفة خروج عن الأصل.

أراد كاتب المقال أن يؤيد دعوى أن الواو في صيغة التحذير زائدة بذكر نظائر في كلام العرب، فقال: كالواو في قول الشاعر: فمابال من أسعى لأجبر عظمه ... حفاظاً وينوي من سفاهته كسري فالواو في قوله: "وينوي" زائدة؛ لأنها حال، والمضارع المثبت لا يقترن بالواو، ومثلها: ولقد رمقتك في المجالس كلها ... فإذا وأنت تعين من يبغيني فالواو في قوله: "فإذا وأنت" زائدة؛ لأن ما بعد إذا الفجائية "لا يقترن بالواو". قد تكون زيادة الواو في البيتين ظاهرة بحيث تساوي أو ترجح رأي من يذهب فيهما إلى تأويل غير دعوى زيادة الواو، ولكن الحكم بزيادة حرف في تركيب جزئي على نحو ما ورد في البيتين، أمره هين بالنسبة إلى الحكم بزيادة حرف في صيغة عامة كصيغة التحذير تواردَ عليها الفصحاء من العرب، حتى كادوا لا يلفظون هذه الصيغة إلا مقرونة بهذه الواو. قال كاتب المقال: "ومن الواو الزائدة أيضاً: قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ} [الصافات: 103 - 104] ". ذهب بعض المعربين للقرآن الكريم إلى أن الواو في قوله تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}، وفي قوله: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ} زائدة، ولكن فريقاً ممن يقدرون بلاغة القرآن قدرها أنكروا أن يكون في القرآن حرف زائد، وذهبوا إلى أن الواو في الآيتين عاطفة، وجعلوا الآية الأولى من قبل ما حذف

فيه جواب إذا. وجعلوا الآية الثانية من قبيل ما حذف فيه جواب لما، والتقدير: فلما أسلما، وتله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم؛ فإن هناك ما لا يوصف من ألطافه تعالى. وممن أنكروا أن يكون في القرآن حرف زائد صاحب "المثل السائر"، فقال راداً على من قال: إنَّ "أنْ" في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96]، زائدة: إن هذه اللفظة لو كانت زائدة، لكان ذلك قدحاً في كلام الله تعالى، وذلك أنه يكون قد نطق بزيادة في كلامه لا حاجة إليها، فلا يكون كلامه معجزاً. وممن أنكروا ما أنكره ابن الأثير العلامة ابن قيم الجوزية، وألف كتاباً سماه "الفتح المكي" قرر فيه أن ليس في القرآن حرف زائد، وتكلم فيه على ما قيل: إنه زائد، وبين أن كل لفظة لها فائدة متجددة. ولما قال أبو عبيدة: إنَّ "إذْ" في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 30]، زائدة، أنكر عليه المفسرون، حتى قال الزجّاج: هذا اجترام من أبي عبيدة. ونحن لا نمنع أن يجيء في القرآن شيء من الحروف التي يسميها النحاة حروف الصلة؛ مثل: إن، وأن، وما، ومن، والباء؛ مما شاع استعماله في كلام البلغاء دون أن تدل على معنى من معانيها الخاصة بها، ونكتفي بالمعنى العام الذي هو التوكيد حتى يبدو لنا منها معنى غير التوكيد، ولا نجيز لأحد أن يقصد إلى حرف في القرآن من غير هذه الحروف المعهود استعمالها في كلام البلغاء ويحمله على الزيادة، وتخريجُ الآيات على حذف بعض

أجزاء الكلام لظهور معناه، أيسرُ من الحكم على بعضها بالزيادة. قال كاتب المقال: "فلتكن تلك الواو التي ترد في صيغة التحذير داخلة على المحذر منه، زائدة، لا عاطفة؛ لأنك تقول: إياك والشر، كما تقول: إياك الشر، سواء بسواء، وهذه هي علامة الزيادة، الواو ونحوها من الحروف الزائدة، فيكون إعراب الصيغتين واحداً، وإياك فيها مفعول أول، والشر مفعول ثاني، ولا فرق بينها إلا زيادة الواو في الأولى دون الثانية". يُحكَم على الحرف بالزيادة إذا لم يوجد وجه لحمله على معنى معروف في الاستعمال، أو معنى يناسب الغرض الذي سيق له الكلام، ولا يكفي في الحكم على الحرف بالزيادة أن يذكر في التركيب مرة، ويسقط منه مرة أخرى على وجه الندرة، ويكون المعنى مستقيماً في الحالين؛ فإن شأنهم فيما ورد مقروناً بحرف له معنى وروداً غالباً، ثم ورد على وجه الندرة غير مقرون بهذا الحرف: أن يحملوا الكلام على وجه يلائم المعنى المعروف للحرف، ويحملوا تلك الأمثلة النادرة على وجه لا يخدش في أصالة ذلك الحرف، وهذا حال صيغة التحذير من نحو قولك: "إياك والأسد"؛ فقد وردت مقرونة بالواو في كلام الفصحاء، ولم ترد مجردة من الواو إلا في قول نادر، ولما رأى النحويون حمل الواو الواردة في غالب الكلام الفصيح على العطف لا ينبو عنه المقام، أخذوا به في الإعراب، وحملوا ما ورد مجرداً من الواو على وجوه سنذكرها فيما بعد -إن شاء الله تعالى-. بل شأنهم فيما يستعمل مقروناً بحرف مرة، ومجرداً منه مرة أخرى: أن يحملوا ما اقترن بالحرف على معنى يقتضيه الحرف، ويحملوا المجرد على معنى يقتضيه الخلو من ذلك الحرف، وإن شاع كل منهما في الاستعمال،

ولا يذهبون إلى الحكم بزيادة الحرف إلا إذا تعذر عليهم تخريج الكلام على وجه يلائم معنى الحرف، وانظروا إلى الأخيار حين تتعدد؛ إذ يصح عطف بعضها على بعض تارة، فنقول: زيد وشاعر وكاتب، ويصح تجريدها من حرف العطف تارة أخرى، فنقول: زيد عالم شاعر كاتب. ووجه هذا: أنك قد تنظر إلى تعداد الصفات وهي متغايرة، والتغاير يقتضي العطف، وقد تنظر إلى أن الذات الحاملة للصفات واحدة، وهذا الاتحاد يسوّغ تجريدها من حرف العطف. قال كاتب المقال: "وبعضهم يوجب جر المحذر منه بمن إذا لم تذكر هذه الواو، ولكنه محجوج بقول الشاعر: فإياك إياك المراء فإنه ... إلى الشر دعَّاء وللشر جالبُ فقوله: "المراء" هو المحذر منه، وهو غير مجرور بمن؛ لأنه لا يلزم تقدير المحذوف فعلاً يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه، وإلى الثاني بمن، بل يجوز تقديره فعلاً يتعدى إلى مفعولين بنفسه". قد أريناك أن الوارد على وجه الندرة لا يقضى به على الغالب في استعمال البلغاء، بل تحمل الواو الواردة في غالب الاستعمال على أحد معانيها المعروفة حتى يمنع منه مانع لفظي أو معنوي. والصيغة المجردة من الواو لم ترد إلا في وجه نادر، ولندرته لم يبن عليها جمهور النحويين صحة نحو: اياك الأسد، وقالوا: المحذر منه الذي يذكر بعد المحذر، يجب أن يكون مقروناً بالواو، أو بمن، وحملوا البيت الذي أورده كاتب المقال على ضرورة الشعر، أو على أن المراء جرى على قاعدة النصب بنزع الخافض، والأصل: من المراء، وذهب سيبويه إلى أن

الشاعر أضمر بعد إياك فعلاً آخر هو الناصب للمراء، فقال في "الكتاب": "ولو قلت: إياك والأسد، تريد: من الأسد، لم يجز"، ثم قال سيبويه: "إلا أنهم زعموا أن ابن أبي إسحاق أجاز هذا البيت في شعر: إياك إياك المراء فإنه ... إلى الشر دعاء وللشر جالبُ كأنه قال: إياك، ثم أضمر بعد إياك فعلاً آخر، فقال: اتق المراء". وذهب إلى هذا الذي ذكره كاتب المقال في صحة نحو: إياك والأسد بدرُ الدين بن محمد بن مالك، وخالف الجمهور في منعه، وقدر عامل النصب في الاسمين لفظ "احذر"، غير أن بدر الدين بن مالك لم يتسرع إلى أن يقول: إن الواو في مثل: إياك والأسد، زائدة، بل يوافق الجمهور في أن الواو في نحو هذه الصيغة عاطفة. أجاز بدر الدين بن مالك نحو: إياك الأسد، ولم يقل: إن الواو في نحو: إياك والأسد زائدة بشبهة أن المعنى في الصيغتين واحد، كما قال كاتب المقال، ذلك أن معنى التركيب قد يأخذ في حال ذكر الحرف صورة غير الصورة التي يأخذها حال تجرده من ذلك الحرف، فتختلف الصورتان، ويكون المعنى في ظاهر الكلام واحداً، فلو قلت: إياك الأسد، مقدراً: احذر - مثلاً - أخذ المعنى صورة غير الصورة التي يأخذها عندما تقول: إياك والأسد، مقدراً فعلاً يقع على المعطوف والمعطوف عليه؛ نحو: باعدْ، فصورة المعنى في التركيب الأول تشتمل على الإخبار بأن المتكلم يحذر المخاطب من الأسد، وصورة المعنى في التركيب الثاني تشتمل على أمر المخاطب بأن يباعد نفسه من الأسد، ويباعد الأسد منه، والصورتان يلتقيان على غرض واحد هو: تحذير المخاطب من أن يدنو من الأسد.

قال كاتب المقال: "وهناك استعمال لواو العطف تأتي فيه بمعنى باء الجر، فلا تقضي من التشريك في الحكم ما يقتضيه الاستعمال المشهور لواو العطف، وذلك كالواو في قولهم: أنت أعلم ومالك، وكذلك الواو في قولهم: بعت الشاء شاة ودرهماً، فالواو فيهما حرف عطف تقتضي التشريك في اللفظ، ولا تقتضي التشريك في الحكم؛ لأنها بمعنى باء الجر، ومعنى الأول: أنت أعلم بمالك، ومعنى الثاني: بعت الشاة شاة بدرهم". ورد عن العرب أنهم قالوا: أنت أعلم ومالك، وقالوا: بعت الشاة شاة ودرهماً، فمن النحويين من ذهب إلى هذا الذي حكاه كاتب المقال، فقالوا: الواو بمعنى الباء، وهي مع دلالتها على هذا المعنى عاطفة، والعطف من قبيل التشريك في اللفظ دون الحكم. ومن النحويين من ذهب في تأويل التركيبين إلى تقدير ألفاظ تكون بها الواو مستعملة في معناها المعروف، أعني: العطف الذي يقتضي التشريك في اللفظ والحكم. وإذا عقدنا موازنة بين المذهبين، وجدنا في المذهب الأول ضعفاً من ناحيتين: أولاهما: أن في جعل الواو بمعنى الباء زيادة معنى في معانيها الدائرة في كلام العرب، ومن الأصول المعقولة التقليل من الاشتراك في الألفاظ ما أمكن التقليل. ثانيتهما: أن جعل الواو للعطف في اللفظ دون الحكم، مخالف لأصل العطف الذي هو التشريك في اللفظ والحكم. أما المذهب الثاني، فيعتمد على تقدير ألفاظ في نظم الكلام، والتقدير

لا يرتكب إلا عند الحاجة، فهو خلاف الأصل. وتقدير كلمات يقتضيها الإعراب، وتتصيد من مجرى الخطاب، قد يكون أخف من تكثير الاشتراك في الألفاظ، والخروج بالعطف عن التشريك في اللفظ والحكم، ولكنه قد يكون أضعف من مخالفة ذينك الأصلين متى كانت الألفاظ المحذوفة كثيرة لا تتسابق إلى الذهن حين التلفظ بأصل الجملة، كما قال بعضهم في تقدير المحذوف في المثال الأول: أنت أعلم بحال مالك، فأنت ومالك، ثم خفف بحذف معمول أعلم "بحال مالك"، وحذف المبتدأ "أنت" المعطوف عليه "مالك"، وكما قال بعضهم في تأويل المثال الثاني: دفعت شاة، وأخذت درهماً. فهذه الألفاظ التي أدعي حذفها في المثالين لا تنساق إلى ذهن السامع على أنها ملاحظة لتصحيح الإعراب يسهولة. قال كاتب المقال: "وإذا صح للنحويين أن يجعلوا الواو عاطفة في هذين المثالين بمعنى باء الجر، فإنه يصح لي أن أجعل الواو الداخلة على المحذر منه عاطفة أيضاً، ولكنها بمعنى "من" الجارة، وليست هي الواو العاطفة التي تقتضي التشريك في اللفظ والحكم معاً، ويكون معنى قولك: إياك والشر: إياك من الشر، وهذا أيضاً إعراب تجري هذه الصيغة عليه بسهولة التأويل، وليس فيها شيء من التكلف الذي يشوه جمال العبارة، وينبو عنه الذوق الصحيح، والطبع السليم". قد أريناك أن الوجه الذي حكاه كاتب المقال عن بعض النحاة في تخريج المثالين السابقين خارج عن أصل التقليل من الاشتراك في الألفاظ، وخارج عن أصل العطف الذي هو التشريك في اللفظ والحكم.

واذا سلك بعض النحاة في المثالين ذلك الوجه الخارج عن الأصول، فلأن غيره من الوجوه لا يخلو أيضاً من مخالفة بعض الأصول. فتأويل كاتب المقال يشارك تأويل الجمهور في تقدير عامل النصب، ولكن تأويل الجمهور موافق للأصول من جهة إبقاء الواو على معنى العطف الذي يقتضي التشريك في اللفظ والحكم. ثم ذكر كاتب المقال وجوهاً أبداها النحويون في إعراب صيغة التحذير، وقال: "ومن يوازي بين هذه التكلفات التي ذهبوا إليها، وبين التأويلين السهلين اللذين اخترتهما، لا يتردد في اختيارهما على تكلفاتهم، ولا يهمه نسبتهما إلى علمائنا الأوائل، فكم ترك الأول للآخر! ". حدثناك عن بعض الوجوه التي يراها النحويون في إعراب صيغة التحذير، وأريناك أنهم لم ينصرفوا فيها إلا بتقدير عامل النصب، وكاتب المقال يشاركهم فى هذا التقدير، ومن وجوه الفرق بينهما: أن ما يقدره النحاة يدل على طلب الابتعاد من المحذر منه بأصل وضعه، وما يقدره كاتب المقال موضوع للإخبار، وإنما يؤخذ منه الطلب بدليل خارج عن مدلول الصيغة بحسب وضعها. ثم إن العامل الذي يقدره النحاة يجري في نحو: رأسَك والسيفَ، والفعل الذي يقدره كاتب المقال لا يجري في نحو هذا الضرب من التحذير. ويلاقيك في تأويل كاتب المقال وجوه من الضعف لا تجدها فيما يقوله النحويون، مثل: دعوى زيادة الواو، أو أنها بمعنى من، أو أن العطف بها للتشريك في اللفظ دون الحكم.

ملاحظات على البحث المقدم عن موقف اللغة العامية من اللغة العربية الفصحى

ملاحظات على البحث المقدَّم عن موقف اللغة العامية من اللغة العربية الفصحى (¬1) كتب حضرة العضو المحترم الأستاذ فريد بك أبو حديد بحثاً تحت عنوان: "موقف اللغة العامية من اللغة العربية الفصحى"، وألقاه في مجلس المجمع في الدورة الماضية، ثم إن المجمع وزع هذا البحث على حضراتكم لمناقشته في هذه الدورة، ووصلتني نسخة منه، فألقيت على البحث نظرة فاحصة، فلاحظت فيه فقرات تستوقف النظر، ليتعرف الهدف الذي نرمي إليه، وها أنذا أعرض على حضراتكم ملاحظاتي على تلك الفقرات، بعد أن أُورد كل فقرة بنصها، وانظروا ماذا ترون؟ قال حضرة العضو (ص 1): "والذي يتتبع تاريخ العربية الفصحى يستطيع أن يدرك أنها كانت تتغير وتتطور دائماً في ألفاظها وأساليب تعبيرها، حتى بعد أن جاء الإسلام، ونزل القرآن الكريم بلغة قريش، وخلع عليها نوعاً من الثبات جعل تطورها محدوداً". التطور الذي كان يعرض للغة العربية في ألفاظها وأساليبها قبل أن يجيء الإسلام وينزل القرآن هو التطور الذي يعرض لجميع اللغات عندما ¬

_ (¬1) هذه الملاحظات قدمها الإمام إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة بصفته عضواً في المجمع. ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الأجزاء الأول والثاني والثالث والرابع من المجلد الحادي والعشرين.

تأخذ في النمو والتدرج في مراقي الكمال، ولم ينقضِ العصر الذي ظهر فيه الإسلام، ونزل فيه القرآن، حتى بلغت اللغة أشدها، وتسنمت ذروة كمالها، فاستقرت على هذا الحال الكامل من جهة قوانين بيانها، وفنون بلاغتها، وفصاحة ألفاظها. ولا بد للغة الحية بعد هذا التطور الكمالي من تطورآخر تساير به حاجات العصر، ومقتضيات الحضارة في دائرة ما انتهت إليه من كمالها الجوهري، ولم تقف اللغة دون هذا في المائة الأولى لصدر الإسلام، واستطاعت أن تعبر عن كل معنى من معاني العلوم أو المحدثات، وأصبح الفرق بين التطور الذي أخذته اللغة في عهد الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، والطور الذي بلغته في عهد نزول القرآن الكريم واضحاً. قال حضرة العضو المحترم (ص 1): "وقد كان للاتصال بين اللغة العربية والقرآن الكريم أثران عظيمان". قال حضرته هذه العبارة، ثم ذكر الأثرين، وسنسوق إلى حضراتكم نص حديثه عن هذين الأثرين، ثم ملاحظاتنا عن ذلك الحديث، حتى يتبين أن صلة الاتصال بين اللغة العربية الفصحى والقرآن الكريم قد أورثت اللغة أساليب بديعة، وارتقت بفنون تبلغها إلى ذروة الكمال، ولم ينشأ عن هذا الاتصال أثر يصدق عليه أنه عقيم. قال حضرة العضو المحترم مبيناً الأثر الأول الذي قال: إنه نشأ عن الاتصال بين الفصحى والقرآن الكريم: "الأول: أن اللغة العربية احتفظت بصورة كادت تكون مستقرة مدة تزيد على ثلاثة عشر قرناً، وصار التراث الثقافي المتخلف من تلك القرون كلها ملكاً سهل التناول لكل من يقرأ الفصحى

إلى يومنا هذا". إن أراد حضرته بالصورة التي احتفظت بها اللغة: الصورةَ التي تتقوم من مراعاة قوانين تراكيبها، فهذا يجب أن يكون، ومن حاول تغيير تلك القوانين، يسقط من حساب العاملين لسلامة اللغة العربية، وإنما يريد إحداث لغة إقليمية، وإن أراد بالصورة التي احتفظت بها: هي أنها حدثت معان علمية أو مدنية، ولم توضع لها أسماء خاصة، فهذا لم يكن ناشئاً عن قصور في اللغة، ولا عن اتصالها بالقرآن الكريم، وإنما هو الإهمال ممن شأنهم القيام على تسييرها مع العلم والمدنية. قال حضرة العضو المحترم في (ص 1): مبيناً الأثر الثاني الذي قال: إنه ترتب على اتصال الفصحى بالقرآن الكريم: "والأمر الثاني: أن اللغة العربية منذ استقرت، فقدت كثيراً من المرونة الضرورية لتطور اللغات، ولا سيما فيما يتصل بالحياة اليومية والمعاملات، فنشأ من ذلك شيء من الانفصال بين لغة الثقافة والأدب والفكر، وبين لغة الأسواق والمعاملات اليومية وما إليها". لم تفقد اللغة شيئاً من المرونة الضرورية لتطور الحياة؛ فقد كانت وسائل التطور ولا زالت متوفرة فيها، مثل: المجاز والاشتقاق والتعريب، وإذا وجدت معان علمية أو مدنية، ولم تأخذ في هذه اللغة أسماء خاصة، فذلك عائد إلى تقصير الموكول إليهم العمل على مسايرتها لمقتضيات الحياة. قال حضرة العضو المحترم (ص 1): "وما زال هذا الانفصال يزداد مع تغيير الأحوال، وتبدل ظروف الحياة؛ لأن اللغة الفصحى قنعت بأن تكون أداة للتعبير الفكري والعلمي، وكانت القداسة التي خلعها عليها القرآن الكريم من أقوى أسباب اتصالها بالدراسة العقلية، وقلة قبولها للتطور الذي يبعدها

عن صورتها الأولى - نقصد: الصورة التي نزل القرآن الكريم بها -". علل حضرته ازدياد الانفصال بين العامية والعربية بأن الفصحى قنعت بأن تكون أداة التعبير الفكري والعلمي، والواقع أن الفصحى بقيت تستعمل في المراسلات للتعبير عن كل شأن من شؤون الحياة، ولم تفقد مكانتها في المخاطبات العادية من جهة أنها غير قابلة لأن تتطور بتغير الأحوال وتبدل ظروف الحياة، وإنما السبب في ذلك: قلة العناية بتعلمها، وتمرين النشء على التخاطب بها، ومن هنا نرى الفصحى تطارد العامية في ألسنة المتعلمين، وتقلل من رطانتها على ألسنة أنصاف المتعلمين؛ حيث أصبحت أحاديث الإذاعة تطرق كل سمع، والصحف السيارة تقع في كل يد. ويقول حضرته: وكانت القداسة التي خلعها عليها القرآن الكريم من أقوى أسباب قلة قبولها للتطور الذي يبعدها عن صورتها الأولى. والواقع أن الأساليب التي تجري في اللغة نوعان: أولهما: أساليب ترجع إلى ما يبحث عنه في علم النحو، وهي ما يعد الخروج عنه خروجاً من أوضاع اللغة؛ كان يجري الكلام على غير إعراب، أو على غير ما يجب مراعاته في نظم الكلام تقديماً وتاخيراً، أو ما يجب أن يقع عليه الكلام من أحوال الاتصال والانفصال، والذكر والحذف. ووقوفُ اللغة عند حد هذه الأساليب التي يقرها علم النحو، لم يكن سببه قداسة القرآن، بل لأنها محكمة الوضع، كافية للتعبير عن الأفكار السامية. ثانيهما: الأساليب التي تجري في دائرة ما تجيزه القوانين النحوية، وهي من الكثرة والتفاضل بحيث يتسابق إليها الكتاب والخطباء إلى أقصى ما يرومون من مظاهر الفصاحة والبراعة.

قال حضرة العضو المحترم (ص 1): "وقد كان من أول ما هجم على العربية الفصحى من آثار تطور الحياة: شيوعُ اللحن فيها، ولهذا الأمر دلالة كبرى، فإنه ينم عما شعرت به الشعوب المتكلمة بالعربية من ثقل وطأة حركات الإعراب، وصعوبتها على الناس إذا احتاجوا إلى التعبير في حياتهم اليومية". لا يصح أن ينسب دخول اللحن في العربية إلى تطور الحياة الذي تجب مسايرته، وإنما نشأ من دخول أمم غير عربية بين العروبة، واستيلائهم على كثير من مراكز الدولة كما وقع في أواخر الدولة العباسية، بل كان هذا اللحن مظهراً من مظاهر الانحطاط الذي أصيبت به الأمة من ناحية الثقافة والاجتماع. ويشهد بهذا: أن الأمة اليوم قد أخذت تسترد رقيها الثقافي والاجتماعي، فأخذت لغة العامة تقترب من اللغة الفصحى، والأمل وطيد في أن لا يمر زمن طويل حتى تتحول إليها. قال حضرة العضو المحترم (ص 2): "وقد كان أصحاب اللغة العربية في موقف يضطرهم للاختيار بين خطتين: إما أن يختاروا تطوير لغتهم، والبعد بها عن صورتها الأولى، وإسقاط الإعراب جملة واحدة، وفي هذه الحالة كان الذي ينتج هو أن تستمر اللغة العربية لغة التعامل، وتدفع في تطورها إلى غايته، وكان هذا لا بد يؤدي بها آخر الأمر إلى أن تصير لغة جديدة إلى مدى كبير. وإما أن يختاروا تجميد لغتهم، والمحافظة على صورتها، والإقبال على درسها وضبطها، والاحتفاظ بكل خصائصها، وبذلك يحتفظون بوحدتها، واتصال ثقافتها على مر العصور".

المخلصون للغة العربية، المتنبهون للنتائج التي تنشأ من تطورها، يرون أنا في حاجة إلى تطويرها، على معنى: أن نضع مفردات للمعاني المحدثة من علميات ومدنيات، أما أن نمس أوضاعها الجوهرية؛ بأن يخرج بها عن وجوه استعمالاتها المألوفة بين البلغاء، والتي انتهى إليها تطورها الكمالي، فذلك ما لا ينبغي أن يخطر على قلب عارف بمزايا هذه اللغة الفصحى، فضلاً عن أن يصدر مجمع فؤاد الأول به قراراً، على أمل أن يلقى من ذوي الأفكار المثقفة قبولاً. قال حضرة العضو المحترم (ص 2): "ولقد اختاروا الخطة الثانية في حماسة عجيبة يدل عليها كل ما تخلف من أخبار الرواة والعلماء والخلفاء والأدباء، وكانت حركة ضبط اللغة العربية ودراستها، والحرص على بقاء صورتها، من أعجب الحركات وأقواها في تاريخ اللغات كافة". إنما اختار أصحاب اللغة العربية المحافظة على صورتها الكمالية، ولسلامة هذه الصورة وضعوا علوم النحو والصرف والبيان، ولا يعد هذا تجميداً للغة، وإذا وقع في اللغة جمود، فلم تساير العلم والمدنية، فإنما جاءها من قلة التوجه إلى وضع ألفاظ لتدل على المعاني المتجددة، وقد نبهنا على أن هذا واقع تبعاً لتباطؤ أهلها في مسايرة العلم والمدنية. قال حضرة العضو المحترم (ص 2): "ومنذ اختار أصحاب اللغة العربية هذه الخطة، كان لا مفر من اتساع الفرق بين لغة أدبية فصحى ميدانها الفكر للخاصة، ولغة عامية ميدانها الحياة كلها للكافة". إنما يتسع الفرق بين اللغة الفصحى واللغة العامية في دور انحطاط الأمة، وقلة حظها من التعليم، وحضرة العضو المحترم يتفاءل للعامية بأنها سائرة

في ازدياد البعد بينها وبين العربية الفصحى، ونحن نتفاءل للعامية بأنها سائرة في ازدياد التقرب من اللغة الفصحى، ومن نظر إلى اللغة العامية في العهد السالف، وقاسها بهذا العهد الحاضر، وجد اللغة العامية أخذت تتقرب من العربية على قدر انتشار التعليم، وتبسيط أساليبه، ومما ساعد عل هذا التقريب الصحف السيارة والإذاعة؛ فقد أصبحت العامة تسمع من مفردات اللغة وأساليبها ما لم يكونوا يسمعون من قبل. قال حضرة العضو المحترم (ص 2): "بدأ هذا الانفصال منذ أول التاريخ الإسلامي، وما زال يزداد حتى بلغ إلى مداه الذي نراه اليوم بين لغة المثقفين القارئين، وبين لغة التعامل الحر". قد رأيناك أن هذا الانفصال لم يكن ناشئاً عن التطور الذي تقتضيه طبيعة الحياة، وإنما نشأ عن قلة التعليم، وإطلاق الألسنة تنطق بالكلم على جهالة كيف تشاء، ولو كان ذلك الانفصال تطوراً طبيعياً، لما رأينا اللغة العامية الآن تنهض من كبوتها متدرجة في التقرب من اللغة الفصحى. قال حضرة العضو المحترم (ص 2): "وذلك يشبه ما حدث في بلاد أوربا؛ إذ تطورت اللغة اللاتينية في الوطن اللاتيني، وما يليه من البلاد التي كانت لغة الثقافة فيها هي اللاتينية، ونشأت من ذلك اللغة الإيطالية والفرنسية والإسبانية، وتباعدت الصلة بين اللاتينية وبين سلالاتها تباعداً مختلفاً، يقل في بعضها، ويزيد في بعضها؛ تبعاً لما داخلها من آثار الأقوام الذين مزجوا لغاتهم الأجنبية باللغة اللاتينية الأصلية، وقد حدث مثل هذا التطور إلى حد كبير في اللغة اليونانية؛ فإن يونانية اليوم ليست هي اليونانية القديمة، وإن كان المصدر لا يزال واحداً".

هناك فرق بين اللغة اللاتينية وسلالتها، وبين اللغة العربية ولهجاتها؛ فإن في اللغة العربية ما يمنع من تطورها تطور اللغة اللاتينية، وهو كمال اللغة العربية الفصحى الذي لا تبلغه اليونانية الأصلية، ولا اللاتينية، ثم وحدة أصحاب اللغة العربية في الجنسية والعقلية والخلقية والدينية، قال خليل مطران بك في مقدمة ترجمته لرواية "عطيل" تأليف شكسبير: "تا الله! لو ملكت العامية، لقتلتها بغير أسف، ولم أكن بقتلي إياها إلا منتقماً لمجد فوق كل مجد، نزلت من هيكله الذهبي الخالص الرنان منزلة الرجلين الخزفيتين القذرتين، فهو فوقهما متداع، وبهما مشوه، منتقماً لأمة كسرت العامية وحدتها، وكانت عليه أكبر معوان للتصاريف التي مزقتها في الشرق والغرب كل ممزق، منتقماً للفصاحة نفسها، وأي فصاحة في خشارة لا تصيب فيها تبر الأصل إلا وقد تلوث بذريرات لا تحصى من أوضار الرطانات بأنواعها". قال حضرة العضو المحترم (ص 3): "ولكن مهما يكن الفرق بين موقف العامية من العربية الفصحى، وبين موقف اللغات الأوريية الحديثة من اللغات القديمة، فإنه من الواضح أن الاتجاه واحد في نوعه في الحالين، وإذا استمر في سبيله، كان من المحتوم أن تصير اللغة العربية الفصحى لغة الكتاب، على حين يزيد تطور العامة مع الحياة، وتزداد تبعاً لذلك شقة الخلاف بينها وبين الفصحى التي تصبح بعد حين في حكم اللغات القديمة". غزارة مادة اللغة العربية، وحسن بيانها، وانتشار تعليم القرآن الكريم، تقف بألسنة الناطقين بها دون أن تغرق في العامية حتى تصبح الفصحى في حكم اللغات القديمة، وليس من المحتمل أن يزداد تطور العامية مع الحياة،

وتزداد شقة الخلاف بينها وبين الفصحى، إلا أن يبدو لأولياء الأمور أن يلغوا تعليم الفصحى في الأزهر، ودار العلوم، وكلية الآداب بالجامعة، وغيرها من المدارس، ويكون عمل هذا المجمع عقيماً، فلا يرمي إلى الغاية التي أنشئ من أجلها، وهي المحافظة على سلامة اللغة الفصحى. قال حضرة العضو المحترم (ص 3): "لو حدث مثل هذا التباعد، لما كان للأمم العربية مفر -ولو بعد حين- من أن تقف مرة أخرى في موقف الاختيار بين أحد أمرين، كل منهما ينطوي على أضرار كبيرة". ثم قال مبيناً الأمر الأول من الأمرين المنطويين على أضرار كبيرة: "الأول: أن نختار الاتصال بالتراث القديم الماثل في اللغة الفصحى، ونضحي في سبيل هذا الاتصال بأعز ما عند أمة حية تتطلع إلى حياة مليئة قوية، وهو اتصال اللغة بالفكر اتصال الشعب الذي يتكلم بأصحاب الفكر الذين يكتبون، وعند ذلك يكون لا مناص لنا من أن نقنع بحركة فكرية منعزلة عن كتلة الأمة، وأن نرضى لأنفسنا بديمقراطية سطحية لا تتعدى المظاهر الكاذبة، على حين تبقى جماهير الأمة في حالة أمية، وعقم عقلي ونفسي. "والأمر الثاني: أن نختار الحياة الحاضرة والمستقبلة مضحين بكنوز الثقافة القديمة، وما فيها من أصول حضارتنا ومثلنا العليا، ونقطع بيننا وبين ماضينا الكريم السامي، ويكون علينا في هذه الحالة أن نعود إلى حيث بدأت الأمم أول خطواتها نحو الحضارة إلى أن نستطيع - بعد أحقاب طويلة - تحصيل ثروة فكرية جديدة، تصلح لأن تكون غذاء لعقول أمة حديثة". هذا كلام ناشئ عن التشاؤم لمستقبل اللغة الفصحى، والواقع أن العامية قد أخذت تزداد قرباً من اللغة الفصحى؛ للأسباب التي ذكرناها آنفاً، فيمكننا

- بلا ريب - أن نبقى متصلين بالتراث القديم الماثل في اللغة الفصحى، وأن نسير في الحياة الحاضرة والمستقبلة كما تسير الأمم الراقية شبراً بشبر، وذراعاً بذراع. أما الإعراض عن الفصحى، والتضحية بكنوز الثقافة القديمة، وابتداء أولى الخطوات إلى الحضارة كما قال حضرته، فنزعة لا تلتقي مع اتجاه المفكرين الناطقين باللغة العربية. ذلك أن هؤلاء المفكرين الصادقين يبتغون لأممهم حضارة فاضلة نقية، ولا فضل لحضارتنا إلا أن تقوم على التراث القديم الماثل في اللغة الفصحى. قال حضرة العضو المحترم (ص 3): "ونرى أن الخطوة الأولى في تفكيرنا: هي أن نتامل في حال هذه اللغة العامية، وأن نحاول تجديد خصائصها، وما بلغته في تطورها، ثم نسأل أنفسنا بعد ذلك في صراحة عمّا يجدر بنا أن نفعله للمحافظة على حياتنا الفكرية أولاً، ولتجنب ما يمكن تجنبه من الخسارة ثانياً". تأملنا في حال هذه اللغة العامية، وعرفنا ما بلغته في تطورها، وسألنا أنفسنا في صراحة عما يجدر بنا أن نفعله للمحافظة على حياتنا الفكرية أولاً، ولتجنب كل ما يمكن تجنبه من الخسارة ثانياً، فوصلنا إلى أن سعادة الأمم العربية في المحافظة على العربية الفصحى، وإصلاح العامية ما استطعنا حتى تعود إليها، وقد رأينا أمارات نجاحنا في الإصلاح؛ حيث شعرنا بأن العامية قد أخذت تقترب من العربية الفصحى؛ لوسائل وجدت في هذا العصر، فنبهنا لها من قبل. قال حضرة العضو المحترم (ص 4): "لا شك أن الكثرة الكبرى من

الألفاظ العامية إما عربية قرشية صحيحة، وإما محرفة عنها تحريفاً قليلاً، وإما عربية من لهجات قبائل أخوى غير قريش، أو محرفة عنها تحريفاً قليلاً، فمن المعروف أن القبائل العربية التي جاءت إلى مصر في العصور المختلفة كانت من أصول مختلفة، وكان مقامها في العواصم والريف وعلى حدود الصحراء سبباً في وجود لهجات متباينة في الأقاليم المختلفة، ولكن العامية المصرية؛ أي: التي نشأت حول العاصمة مصر هي الأكثر انتشاراً، وقد امتزج فيها أثر كثير من القبائل، وكان رائدها دائماً التسهيل في النطق، والتيسير في التداول". العربية القرشية الصحيحة، والعربية من لهجات قبائل أخرى غير قريش، قد احتوت عليها المعاجم الواسعة، ودواوين الشعراء. أما المحرفة عن القرشية، أو لهجات القبائل تحريفاً قليلاً أو كثيراً، فيجب تصحيحها، وتخطئة من ينطق بها محرفة، ولا يكفي في عدها صحيحة احتمال أن تكون لهجة قبيلة عربية من القبائل التي جاءت إلى مصر في العصور المختلفة. ولو فتحنا باب التحريف بعلة التسهيل في النطق، والتيسير في التداول، لأفسدنا على اللغة الفصحى نظامها، وحشرنا فيها من الألفاظ ما يكثر سواد مترادفاتها، ونحن نريد التقليل منها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. قال حضرة العضو المحترم (ص 4): "ويستطيع كل منا أن يخلو إلى نفسه، ويثبت ما يرد على خاطره من الألفاظ المعروفة المتداولة، ومنها يتبين أن الألفاظ العامية ليست سوى صور من ألفاظ عربية ليس من العسير أن تصحح، بل إنه ليس من العسير أن يرد إليها اعتبارها، وترفع عنها الوصمة التي لصقت بها على مر القرون".

إن كانت هذه الألفاظ العامية مخالفة للسماع، فتصحيحها أن ترد إلى الوجه الذي نطق به الفصحاء من قبل، وإن كانت خارجة عن القياس، فتصحيحها أن ترد إلى الوجه الذي يوافق مقاييس اللغة الفصحى، أما ما يرد إليه اعتباره، وهو الكلمات العربية التي تلوكها ألسنة العامة، ويتحاماها البلغاء لابتذالها، فتلك الكلمات لم تزل معدودة في العربي الفصيح، وإذا تحاماها الأديب البارع، مؤثراً عليها ما يراه أجود وأليق بنظم الكلام، فكل له ذوقه واختياره فيما يستعمل من الألفاظ. قال حضرة العضو المحترم (ص 4): "ونرى أن بُعد الألفاظ العامية عن العربية مبالغَ فيه، فالفرق لا يزال ضئيلاً بينها وبين الفصحى، ومن اليسير تدارك الأمر إذا نحن عنينا بجمع كل المفردات العامية، وعنينا لإعادة الاعتبار إلى كل ما يمكن رد الاعتبار إليه، وصححنا كل ما يمكن تصحيحه منها بغير إبعاد لها عن صورتها كلما أمكن ذلك". لا ندري ماذا يريد حضرة العضو المحترم: أنجمع المفردات العامية في لهجات الشعوب العربية الجارية اليوم، أم يريد خصوص اللهجة المصرية وحدها؟ فإن أراد إجراء العمل في جميع اللهجات العربية؛ بأن يعيد للألفاظ العامية اعتبارها، فقد عمل على تكثير المترادفات في اللغة، وساعد على أن تكون لهجات الشعوب مختلفة، مع إمكان توحيدها في دائرة اللغة الفصحى، وإن أراد إجراء اللهجة المصرية خاصة، قلنا: إن الشعوب الأخرى إنما ترضى العود إلى اللغة العربية الفصحى، ولا يستطيع المجمع، ولا ما هو أقوى من المجمع أن يحملها على العود إلى لغة إقليمية، وإن بلغ أهلها في الثقافة ما لم يبلغه غيرهم.

قال حضرة العضو المحترم (ص 4): "على أن اللغة العامية تحتوي على كثير من الألفاظ التي أهملتها الفصحى تعالياً منها، أذكر منها: طرفة، قفة، سلة، دخان، مزراب، فلان يطوح - أي: يتطوح -". ماذا يريد حضرة العضو الفاضل من الفصحى التي أهملت هذه الألفاظ؟ فإن أراد اللغة المقابلة للعامية، فهذه الألفاظ لم تتعال عنها اللغة الفصحى؛ فإن مزراب، وسلة، والجونة (¬1)، وقفة، ودخان ثابتة في المعاجم، وإن أراد لغة قريش، فليست الفصحى بمقصورة على هذه اللغة، على أن كلمة دخان واردة في القرآن الكريم. قال حضرة العضو المحترم (ص 5): "والتحريف في العامية ناشئ في أغلب الأحوال من القصد إلى التخفيف في النطق، إذا لم يكن ناشئاً من تأثير لهجة بعض القبائل العربية". ما يكون موافقاً للهجة بعض القبائل العربية لا يسمى تحريفاً، بل هو عربي صحيح، قال ابن جني في "الخصائص": "اللغات على اختلافها كلها حجة، والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ". وقال أبو حيان في "شرح التسهيل": "كل ما كان لغة لقبيلة صح القياس عليه". وأما التحريف الذي سماه حضرة العضو المحترم: قصداً إلى التخفيف في النطق. فيجب معالجته، وإعادة اللفظ إلى الحال التي كان عليها يوم بلغت اللغة طورها الكمالي، وإذا فتحنا باب التخفيف في النطق، دخل منه على اللغة ريح عاصف تنسف كثيراً من قوانينها، وأوضاع ألفاظها، وأهل ¬

_ (¬1) سليلة: منشأة أدما تكون مع العطارين.

العلم يأنفون في مجاراة العامة فيما يقعون فيه على جهالة، وإنما شأنهم إصلاح خطئهم، والأخذ بهم إلى أن ينطقوا بالكلام، أو يكتبوا على نحو ما ينطق به العلماء من الناس أو يكتبون. قال حضرة العضو المحترم (ص 9): "ليس أسلوب اللغة العامية هو عين أسلوب الفصحى، وإن كان قريباً منه، فهناك فروق كثيرة نذكر منها البعض على سبيل التمثيل". وأخذ حضرة العضو المحترم يسوق أمثلة لهذه الفروق الكثيرة، فأورد أربعة أمثلة حيث قال: "تقول في العربية عادة: جاء محمد، وكتب أخي لي كتاباً، وهكذا. وذلك بتقديم الفعل على الفاعل، فإذا قدمنا الفاعل، وابتدأنا به، كان لنا في ذلك قصد، وأما في العامية، فالمعتاد أن تقول: محمد جه، وأخويا بعث لي جواباً، وهكذا". مقتضى ما قاله حضرة العضو: أن للعربية الفصحى في الإخبار أسلوبين: أسلوب تقديم الفاعل على الفعل، وأسلوب تقديم الفعل على الفاعل، وأن لكل منهما مقاماً كما هو معروف في علم البلاغة، وأن العامية جرت على أحد هذين الأسلوبين، وهو أسلوب تقديم الفاعل على الفعل. إن جرت العامية على تقديم الفاعل، فقد جرت على أسلوب عربي فصيح، ولكن تنقصه البلاغة متى استعمل في مقام يستدعي تقديم الفعل على الفاعل، ونحن لا نقصد إلى تكليف العامة برعاية مقتضيات الأحوال في كل ما يتكلمون به، بل يكفيهم أن لا يخرجوا عن الأسلوب الذي يعد في نظر النحوي عربياً صحيحاً. قال حضرة العضو المحترم (ص 9): "تكثر في العامية العبارات الآتية التي

تدل على حركة النفس، والإشارات واللفتات، وهذا لشدة امتزاجها بالحياة اليومية"، ثم قال: "وسأورد عبارة عامية في وصف حالة لبيان ما فيها من اللفتات والإشارات التي أقصدها"، وأورد صورة واقعة باللغة العامية، ثم قال: "ومثل هذا الأسلوب لا يتفق والأسلوب العربي المعتاد، فمن سايره من الكتاب، فإن قصده تقريب أسلوبه من العامية". قرأت القصة التي صورها حضرته باللهجة العامية، ولم تقع عيني على عبارة منها تقف اللغة الفصحى أمامها عاجزة عن أن تدل على حركة النفس والإشارات واللفتات التي دلت عليها تلك العبارات العامية، يعرف هذا من درس الفصحى بألمعية مهذبة، وذوق سليم. قال حضرة العضو المحترم (ص 10): "ومهما يكن من الأمر، فإنما نوجه النظر إلى أن اللغة العامية قد ابتكرت لنفسها نظاماً كاملا في تعبيرها، وأصبح الخروج عنه خروجاً عن طريقة معترف بها، ومن ثم يمكن أن نقول: إن العامية قد كادت تصير لغة قائمة بنفسها في قواعدها وفي أسلوبها". إن كان الخروج عن نظام العامية خروجاً إلى اللغة الفصحى، كان رجوعاً عن طريقة مكروهة إلى الطريقة المعترف بها. وإن كان الخروج عنها إلى غير نظام العربية الفصحى، فهو خروج إلى طريقة ذات عوج، إنما أنشئ هذا المجمع لإصلاحها وتسويتها غير مبال باعتراف العامة من الناس بها. ثم إن حضرة العضو المحترم يقول عن العامية: "وقد ابتكرت لنفسها نظاماً كاملاً في تعبيرها". ثم يقول: "وقد كادت تصير لغة قائمة بنفسها في قواعدها وفي أسلوبها".

إن صح أن يكون للعامية نظام كامل كما قال حضرته أولاً، أو أنها كادت تصير لغة قائمة بنفسها كما قال حضرته ثانياً، فما على المجمع إلا أن ينظر في تلك النظم أو القواعد، فيعيدها إلى نظم اللغة الفصحى وقواعدها. قال حضرة العضو المحترم (ص 10): "عندما اضطرت الحياة الشعوب المتكلمة بالعربية إلى تطوير لغتها، أشعرت هذه الشعوب في الوقت عينه أنها مهددة بالحرمان الأدبي منذ بعدت الشقة بينها وبين اللغة الأدبية، والشعوب لا يمكن أن تحيا بغير تعبير عن خلجات نفسها في الأغاني والأناشيد والأمثال والعبر، فوجد الموهوبون من عامة الشعب وبعض الأدباء المتصلين بالشعب أن اللغة التي يتخاطبون بها، ويتعاملون ويفكرون في حاجة إلى أن تؤدي ما يحتاج إليه الناس من التعبير، وأخذوا يحاولون مرة بعد مرة أن يجعلوها أداة أدبية، فتحللوا من الأساليب الأدبية المعروفة في اللغة الفصحى؛ لأنها لا تلائم تلك اللغة الساذجة التي تولدت منها، فاخترعوا الموشحات، والمواليا ... إلخ ". يصرح حضرة العضو المحترم هنا بأن الشقة بين العامية والعربية بعيدة، وقال في موضع آخر: والفرق بينهما لا يزال ضئيلاً. قال حضرة العضو المحترم (ص 11): "فلو كانت العامية لا تزيد على أنها استخدمت أداة للتعامل في الأسواق والحياة اليومية، لكان أمرها هيناً، ولكنها منذ برهنت على صلاحها للتعبير الأدبي، وصار من الممكن أن تنطلق في سبيلها متباعدة عن الفصحى، حتى ينتهي بها الأمر إلى الاستغناء عنها، بل إن جمال أساليب التعبير العامي إذا بلغ مداه، كان أجدر أن يسترق القلوب؛ لأن تلك الأساليب أقرب إلى النفس والإلهام من الفصحى؛ لشدة

اتصالها بحياة الكافة". لم تبرهن العامية حتى اليوم على صلاحها للتعبير الأدبي، وما هي إلا كالعامية التي توجد في كثير من اللغات الحية بجانب لغة الأدباء والكتاب، وهل وجد في أصحاب تلك اللغات من يدعو إلى ترك لغة الأدب والكتابة، واستبدال عاميتهم بها؟ قال الأستاذ جبر ضومط في مقال له نشرته مجلة "السيدات والرجال" (م 6 ص 449 و 450): "خذ الإنكليزية - مثلاً -، فترى فيها لغتين: مكتتبة وهي الفصحى، وعامية وهي الدارجة، والفصاحة في المكتتبة بالغة أعلى درجاتها في لندن، والدارجة بالغة أحط درجاتها أيضاً في بعض أقسام من تلك المدينة؛ حيث الفقر والجهل على أشدهما، ومثل الإنكليزية الفرنسية، ومثل لندن باريس، فإن اللغة المكتتبة فيها وصلت في كتابات بعضهم إلى ما وصلت إليه تماثيل اليونان الجميلة، ولكن اللغة الدارجة في بعض شوارع باريس لا يزيد نصيبها عما هي فيما يقابلها من شوارع لندن، بل في برلين مدينة العلم والعلماء، ومدينة الأدب والأدباء تهبط اللغة الدائرة على الألسنة في أفواه الأقوام من الغوغاء والخشارة إلى ما لا يستطيع أن يتصور مثله بين أقوام العامة عندنا". قال حضرة العضو المحترم (ص 12): "غير أننا لا ينبغي لنا أن نتجاهل الخطر الماثل في لباقة اللغة العامية وصلاحيتها كأداة للتعبير الأدبي، فهو إن كان اليوم من ذلك محدوداً، فقد يكون غداً أقوى. وقد تصبح أقدر على الأداء الأدبي السامي من الفصحى، إذا فتن الشباب المثقف بالإنتاج الفكري باللغة العامية، وعملت أجيال منهم على الارتفاع بها إلى المستوى الأدبي

الذي يجعلها لغة فكر وتعبير صحيح". ليس من المعقول أن يجيء يوم تكون فيه اللغة العامية أقدر على الأداء السامي من الفصحى؛ فإن الفصحى بالغة نهاية الكمال في الأداء الأدبي السامي، يعرف هذا من أعارها نظرة منصف بعيد، ومن البعيد جداً -فيما نرى- أن يفتن شبابنا بالعامية، وقد اتجهوا اليوم إلى الاعتزاز بعربيتهم، وبذل كل مجهود في الاحتفاظ بتراثها وجمع شملها. ولا أدري كيف غفل أو تغافل حضرته عن هذه الحركة العربية التي تشرف عليها جامعة الدول العربية، وينهض لتأييدها شبابنا في مصر وغير مصر، ومن أثر هذه الحركة: العمل لتوحيد الثقافة، ويجب أن يكون في مقدمتها: اتحاد اللغة. وحضرة العضو المحترم إن أراد من العناية باللغة العامية: العناية باللغة العامية المصرية وحدها، قلنا له: ما رأيك في اللغة العامية في تونس والشام والعراق والحجاز؛ فإنها تختلف اختلافا ظاهراً؟ فإن قال: يعني كل شعب بلغته العامية، قلنا له: كانت مذكرة حضرتك هذه دعوة إلى تشتيت شمل هذه الشعوب، وعقبة في سبيل توحيد الثقافة التي تعقد له الجامعة اليوم المؤتمرات، وتؤلف له اللجان. وإن قال: تفرض اللغة المصرية على تلك الشعوب، قلنا له: إن تلك الشعوب لا يسهل عليها أن تترك لهجتها، وتنقلب إلى اللهجة المصرية، وكلاهما من اللغات المعتلة المحتاجة إلى إصلاح وتصحيح. وإذا سهل على الشعوب أن تتحد في لغة، فهذه اللغة هي العربية الفصحى، فقد اتفق على فصاحتها وكمالها المسلمون من تلك الشعوب، وغير المسلمين. قال حضرة العضو المحترم (ص 12): "وليس يجدينا أن تقاوم عوامل

الحياة بالعنف والقسوة؛ لأن الطبيعة تأبى كل عنف، وهي أقوى من كل قوة، ولسنا نملك أن نقاومها إلا بأن نطيعها، ونعرف أسرارها، ثم نتجه بها ومعها إلى حيث نحتال أن نصل بها". قد عرفت وجه الحالة الملحة إلى أن تكون الشعوب العربية مرتبطة بلغة واحدة، واللغة الفصحى هي المحبوبة لهم جميعاً، وهي التي يرضون بالتوجيه إليها أن تكون جامعة لشتاتهم، ثم هي معروفة بينهم في الجملة، فبذل شيء من العناية يجعل جريانها على الألسن أمراً ميسوراً. وحضرة العضو نفسه يقول في بعض المواضع من مذكرته: فالفرق لا يزال ضئيلاً بين العامية وبين الفصحى. قال حضرة العضو المحترم (ص 12): "والذي يجعلنا نحرص على اللغة الفصحى واضح لا يحتاج إلى بيان، فلو لم تكن العربية لغة القرآن الكريم، ولو لم تكن كنوزنا القديمة هي أكبر ما نملك من ثقافة إنسانية، لكان من الهين علينا أن نقبل على هذه العامية بكل جهودنا، فنسمو بآدابها، ونودعها ثمار كل ما في شعوبنا من عبقرية، فتصبح هي لغتنا، ولا ضرر علينا أن تكون لنا لغة ليست هي الفصحى". قد فات حضرة العضو وجه مهم من الوجوه التي تجعل انصرافنا عن اللغة الفصحى غير هين علينا، وهو حسن بيانها، وسعة وجوه تصرفاتها، وسمو منزلتها في البلاغة، تلك المزية التي تدعونا إلى أن نقبل بكل جهودنا على أن نحتفظ بها، ونودعها ثمار كل ما في شعوبنا من عبقرية، ومن الضرر الفادح في اتخاذنا لغة غير الفصحى سد أبواب التفاهم بين شعوب عربية، من الخير لها جميعاً أن تكون لها لغة واحدة، بها يتعارفون ويتخاطبون،

وليست هناك لغة يتقبلون أن تكون نظام وحدتهم، ووسيلة تعارفهم غير العربية الفصحى. وهناك رجال يعرفون غير العربية من اللغات الحية، ولا يهمهم الاحتفاظ باللغة من جهة أنها لغة القرآن، قد شهدوا بأن العربية أقرب اللغات انطباقاً على النظم الطبيعية، قال المطران يوسف داود الموصلي: "من خواص اللغة العربية وفضائلها: أنها أقرب لغات سائر الدنيا إلى قواعد المنطق، بحيث إن عباراتها سلسة طبيعية، يهون على الناطق صافي الفكر أن يعبر فيها من دون تصنع ولا تكلف باتباع ما يدل عليه القانون الطبيعي، وهذه الخاصية إن كانت اللغات السامية تشترك فيها مع العربية في وجه من الوجوه، فقلما نجدها في اللغات المسماة: "الهندية الجرمانية"، ولا سيما الإفرنجية منها". قال حضرة العضو المحترم (ص 17): "إن أسلوبها قد استقر على صورة اعتادها الناس، وفي ذلك الأسلوب خلاف كبير للأسلوب العربي الفصيح". يقول حضرة العضو المحترم هنا: "في ذلك خلاف كبير للأسلوب العربي الفصيح"، وقال فيما سبق: "فالفرق لا يزال ضئيلاً بينها وبين العربية الفصحى". قال حضرة العضو المحترم (ص 17): "إن اللغة العامية لا تزال تتطور عصراً بعد عصر، وإن هذا التطور ناشئ من حياة الناس، فهي وليدة الحياة نفسها، وفيها من المرونة كل ما للكائن الحي. كانت العامية تتطور عصراً بعد عصر، أما الآن، فتطورها هو أنها أخذت تتقرب من الفصحى، وهذا دليل على أن تطورها في الماضي ناشئ من قلة

المحافظة على سلامة اللغة الفصحى، والسير بها مع العلم والمدنية جنباً لجنب، فالعامية وليدة قلة العناية بنشر الفصحى التي تملك من وسائل النمو والترقي ما تملكه كل لغة حية. قال حضرة العضو المحترم (ص 17): "إنها أداة صالحة للتعبير الأدبي الساذج، فإذا أرادت التعبير عن المعاني الدقيقة السامية، كان لا مفر لها من الاقتراب من الفصحى". اللغة العامية اليوم في طور التقرب من اللغة الفصحى، وللصحف السيارة وما يلقى في الإذاعة فضل في هذا التقريب، وقد أرادت الحكومة المصرية أن تسرع بهذا التقريب، فأنشأت هذا المجمع؛ للعود بالعامية إلى العربية؛ بوضع أسماء عربية، أو على مقاييس العربية الفصحى، وبنشر نصوص عربية فصيحة، ليعرف بها الناس كيف كان بلغاء العرب يتكلمون، فينحوا نحوهم، وينسجوا على منوالهم. قال حضرة العضو المحترم (ص 17): "إن العامية ليست مجرد مسخ أو تشويه للعربية، بل قد أصبحت لغة قائمة بذاتها، ولها قواعدها وأصولها، وإذا شذ عنها شاذ، عد ذلك خروجاً عن طريقة مقررة". تخلو اللغات - راقية كانت أم ساقطة - من قواعد يجري عليها المتكلمون بها، ولكن في العامية مفردات عربية فصيحة، وأساليب لا تخالف أساليب العربية الفصحى، وما عدا ذلك، فهو مسخ وتشويه للعربية، وإذا دعا مرسوم المجمع إلى دراسة لهجات الشعوب العربية، فليس معنى هذا أن ندرسها لتعد لغة مستقلة، ويعنى بتعليمها لأبنائنا، وإنما القصد من دراسة المجمع لها: أن يعلم وجوه الانحراف الذي دخل فيها حتى تصحح لتعود إلى العربية

الفصحى. ويلاحظ هنا: أن حضرة العضو المحترم قال هنا: "قد أصبحت لغة قائمة بذاتها، ولها قواعدها وأصولها". ولو أراد من دراستها أن تعلم، لكان المجمع بين خطتين: إما أن يقصد إهمال العربية الفصحى، والاستغناء بالعامية عنها، ولا أظن أحداً من حضرات الأعضاء يسبق إلى ذهنه أن المجمع يستطيع أن يفعل هذا، أو إذا فعله يجد من الأمة العربية إغضاء عنه، وإما أن يفرض على الناس تعلم لغتين، لكل منهما نظامها وقواعدها، وهما: العامية والعربية. قال حضرة العضو المحترم (ص 18): "ألا يمكن أن نقبل في الفصحى غير ما يصح في لغة قريش؟ ". نقبل في الفصحى غير ما يصح في لغة قريش، فقد نقلنا لحضراتكم أن ابن جني قال: "اللغات على اختلافها كلها حجة". وكذلك قال أبو حيان: "ما كان لغة لقبيلة، صح القياس عليه". قال حضرة العضو المحترم (ص 18): "هل نجعل الأصل هو منع ما لم يستعمل في الفصحى من قبل، أم نجعل الأصل إجازة كل ما يمكن إجازته، ما دام قائماً في لغة الحياة؟ ". المحافظة على سلامة اللغة العربية تقتضي أن يكون الأصل هو منع ما لم يستعمل في الفصحى من قبل، ولم يمكن تخريجه على وجه القياس في الفصحى، فإن أمكن تخريجه على وجه من وجوه القياس، أصبح عربياً فصيحاً، وإن لم يستعمل الفصحى من قبل، وليس من حق المجمع أن يجيز كلمة عامية تخالف ما سمع في اللغة الفصحى، ولم يمكن تخريجها على طريق من طرق القياس؛ ككلمة: عمولة، ونحو قولهم: "بالتبر لم بعتكم".

قال حضرة العضو المحترم (ص 19): "ولو استطعنا أن تتجرد من قيود الأساليب القديمة، لسهل علينا تطوير الفصحى بحيث تقترب من العامية خطوة جريئة في الطريق السوي، بغير أن يعود ذلك بضرر على الفصحى، بل يكسبها قوة وشباباً". للغة الفصحى أساليب محكمة، وبعد أن يحافظ الناس على قوانين النحو، يجدون في دائرة هذه القوانين صوراً من التراكيب يتفاضل فيها البلغاء، فإن أراد حضرة العضو المحترم من الأساليب القديمة: الأساليب التي يبحث عنها النحاة من حيث الصحة والفساد، كان التجرد من قيودها هدماً لكيان اللغة الفصحى، وإن أراد من الأساليب القديمة: صور التراكيب التي يتفاوت فيها البلغاء بعد الاحتفاظ بالقوانين النحوية، فهذه يسوغ التجرد من قيودها إن كان في التجرد منها تطوير للغة؛ لأنه لا يعود على الفصحى بضرر، وربما أكسبها قوة وشباباً. وإذا قلت: إنَّ سلامة اللغة الفصحى في الوقوف عند قوانين نحوها، أريد: القوانين التي اتفق عليها النحاة، أو قررها جمهورهم، أو انفرد بها أحد علماء العربية الذين لا يقطعون رأياً إلا بعد نظر واجتهاد. وقد أصدر المجمع قبل هذا قرارات قصد بها التوسع في أساليب اللغة، وتيسير وضع بعض المصطلحات، اعتمد فيها على آراء انفرد بها بعض العلماء عن الجمهور، ولا ننكر أن يقوم اليوم أحد الدارسين للعلوم العربية، ويتخذ في بعض المسائل العربية مذهباً يخالف به رأي الجمهور، على شرط أن يذكر أدلة علمية على ما ذهب إليه. والذي لا نرتاح إليه أن يتعرض بعض من لم يدر أصول اللغة العربية إلى إحدى المسائل العربية، ويرتجل فيها رأياً لم يسبقه إليه أحد، معتمدً على ذوقه الخاص، دون أن يسنده إلى شاهد يعتد به، أو قياس.

الألفاظ المؤنثة من طريق السماع

الألفاظ المؤنثة من طريق السماع (¬1) للشيخ ابن الحاجب المتوفى سنة 646 قصيدة في الأسماء المؤنثة في كلام العرب من غير أن تكون فيها علامة تأنيث. وقسمها إلى: ما يجب فيه التأنيث، وما يجوز فيه التذكير والتأنيث، وقد أحببنا نشرها مع تعليق عليها في هذه المجلة؛ ليطلع عليها من حضرات القراء من لم يكن قد اطلع. نفسي الفداء لسائل وافاني ... بمسائل فاحت كروض جِنان أما الذي لابد من تأنيثه ... ستون شبه العين والأذنان والنفس ثم الدار (¬2) ثم الدلو (¬3) من ... أعدادها والسن (¬4) والكتفان وجهنم ثم السعير وعقرب (¬5) ... والأرض ثمَّ الاست والعضدان ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد العاشر. (¬2) الدار: المحل يجمع البناء والعرصة، وقال صاحب "القاموس": وقد تذكر. (¬3) في "رسالة ابن جني": ويجوز تذكير الدلو. وفي "القاموس": وقد تذكر. (¬4) في "النهاية": سن الجارحة مؤنثة، ثم استعيرت للعمر استدلالاً بها على طوله وقصره، وبقيت على التأنيث. (¬5) قال صاحب "القاموس": العقرب معروف، ويؤنث. وقال الليث: يذكر ويؤنث بلفظ واحد، والغالب عليه التأنيث.

ثم الجحيم (¬1) ونارها (¬2) ثم العصا ... والريح منها واللظى ويدان والغول والفردوس (¬3) والفلك (¬4) ... في البحر تجري وهي في القرآن وعروض شعر والذراع (¬5) وثعلب ... والملح (¬6) ثم الفأس والوركان والقوس (¬7) ثم المنجنيق (¬8) وأرنب (¬9) ... والخمر (¬10) ثم البئر والفخدان ¬

_ (¬1) لم يتعرض "القاموس" لتأنيثه، وفي "رسالة ابن جني": الجحيم من بين أسماء جهنم مذكر، وسائر أسمائها مؤنث. (¬2) أورد ابن جني النار فيما لا يجوز تذكيره مثلما صنع الناظم. وفي "القاموس": النار معروفة، وقد تذكر. (¬3) الفردوس مما يذكر ويؤنث، والتذكير فيه أكثر من التأنيث. قال صاحب "القاموس": وقد يؤنث، وفي "شرحه" للمرتضى: قال أهل اللغة: الفردوس مذكر، وقد يؤنث. واقتصر ابن جني في "رسالته" على التذكير، فقال: الفردوس مذكر. (¬4) قال ابن جني: الفلك يذكر ويؤنث. وفي "القاموس": الفلك: السفينة، ويذكر. وفي "المرتضى": يؤنث ويذكر. (¬5) قال ابن جني: الذراع مؤنثة، وربما ذكرت. وفي "القاموس": وقد تذكر. (¬6) في "القاموس": الملح معروف، وقد يذكر. قال المرتضى: والتأنيث فيه أكثر. (¬7) في "القاموس": وقد تذكر، قال المرتضى: فمن أنث، قال في تصغيره: قويسة، ومن ذكر، قال: قويس. (¬8) أشار صاحب "القاموس" إلى وجه تذكيره، فقال: وقد يذكر. (¬9) هذا مبني على أن الأرنب إنما يقال على الأنثى، وأما ذكرها فيقال فيه: الخزر، وعلى هذا درج ابن جني في "رسالته". وأما من يقول: إن الأرنب يستعمل في الذكر والأنثى كما قال المبرد، فيجعله مما يذكر ويؤنث (¬10) اقتصر ابن جني في الخمر على التأنيث، فقال: الخمر أنثى، وكذلك جميع =

وكذاك في ذهبٍ (¬1) وفهر (¬2) حكمهم ... أبداً وفي ضرب (¬3) بكل مكان والعين للينبوع، والدرع (¬4) التي ... هي من حديد قط والقدمان (¬5) وكذاك في كبد (¬6) وفي كرش وفي ... سقر ومنها الحرب (¬7) والنعلان وكذاك في فرس وفي كأس وفي ... أفعى، ومنها الشمس (¬8) والعقبان ¬

_ = أسمائها. وذكر صاحب "القاموس" وجه التذكير، فقال: وقد يذكر. وقال شارحه: والأعرف في الخمر التأنيث، وقد يذكر، وأنكره الاصمعي. (¬1) قال ابن جني: الذهب مؤنثة، وربما ذكرت. ومثله قول صاحب "القاموس": الذهب: التبر، ويؤنث. قال شارحه: يقال إن التأنيث لغة أهل الحجاز، وسائر العرب يقولون: هو الذهب. وقال صاحب "اللسان": الذهب: التبر، والقطعة منه ذهبة. وعلى هذا يذكر ويؤنث على ما ذكر في الجمع الذي لا يفارقه واحده إلا بالهاء. (¬2) اقتصر ابن جني على التأنيث. ومثله قول الليث: عامة العرب تؤنث الفهر. وقال صاحب "القاموس" مشيرًا إلى جواز الوجهين: ويؤنث. ونقل شارحه عن الفراء أن فيه الوجهان. (¬3) الضرْب - بسكون الراء، وفتحها أشهر -: وهو العسل الأبيض، ولم يذكر فيه ابن جني إلا التأنيث. وفي "المصباح" وجه لجواز تذكيره. (¬4) مثله لابن جني إذ قال: درع الحديد أنثى، ودرع المرأة ذكر، وأشار صاحب "القاموس" إلى وجه التذكير، فقال: قد تذكر. (¬5) اقتصر صاحب "القاموس" كابن جني على التأنيث، ونقل شارح "القاموس" أنه إذا قصد به الجارحة، يجوز فيه التذكير والتأنيث. (¬6) اقتصر ابن جني في الكبد على التأنيث. وقال اللحياني: هي مؤنثة فقط. وأشار صاحب "القاموس" إلى وجه التذكير، فقال: وقد يذكر، ونسبه شارحه إلى الفراء وغيره. (¬7) في "اللسان": الحرب مؤنثة، واقتصر عليه ابن جني، وأشار صاحب "القاموس" إلى وجه التذكير، فقال: وقد تذكر، وعزاه شارحه إلى ابن الاعرابي. (¬8) قال ابن جني: الشمس الطالعة مؤنثة، والشمس الذي في القلادة ذكر.

والعنكبوت (¬1) تحوك والموسى معاً ... ثم اليمين وأصبع (¬2) الإنسان والرِّجل منها والسراويل (¬3) التي ... في الرجل كانت زينة العريان وكذا الشمال من الأناس ومثلها ... ضبع، ومنها الكف والساقانِ * * * أما الذي قد كنت فيه مخيراً ... هو كان سبعة عشر في التبيان السلم ثم المسك ثم القدر في ... لغة، ومثل الحال كل أوان والليث منها، والطريق وكالسرى ... ويقال في عنق كذا ولسان وكذاك أسماء الليالي والضحى ... وكذا السلاح (¬4) لفاتك طعّانِ والحكم هذا في القفا أبداً، وفي ... رحم وفي السكين (¬5) والسلطان (¬6) وقصيدتي تبقى وإني اكتسي ... ثوب الفناء وكل شيء فان ¬

_ (¬1) قال ابن جني: العنكبوت يذكر ويؤنث، وأشار "القاموس" إلى الوجهين أيضاً. (¬2) أشار صاحب "القاموس" إلى الوجهين، وقال ابن فارس: الأجود في أصبع الإنسان التأنيث. (¬3) اقتصر ابن جني كالناظم في السراويل على التأنيث. وقال "شارح القاموس": لا يعرف فيه الأصمعي إلا التأنيث. وأشار صاحب "القاموس" إلى الوجهين بقوله: وقد تذكر. (¬4) في "المصباح ": السلاح: ما يقاتل به، يذكر ويؤنث، والتذكير أعلى؛ لأنه يجمع على أسلحة، وهو جمع للمذكر. (¬5) قال المرتضى: الغالب عليه التذكير. (¬6) قال صاحب القاموس: السلطان يؤنث؛ لأنه بمعنى الحجة، وقد يذكر ذهاباً به إلى معنى الرجل.

12 - الخيال في الشعر العربي ودراسات أدبية

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (12) «الخَيالُ فِي الشِّعرِ الْعَرَبِيِّ وَدِرَاسَاتٌ أدَبِيَّة» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة للإمام الأكبر العلامة محمد الخضر حسين - رضوان الله عليه - نفحات أدبية من قلم بليغ، تناول فيها من عالم الأدب مواضيع أساسية، يقوم عليها صرح الأدب العربي. وفي هذا الكتاب ضممنا الدراسات الأدبية التي وضعها الإمام في مختلف فنون الأدب، والعنوان: "الخيال في الشعر العربي" هو عنوان البحث الأول والأطول والأقدم في هذا الكتاب، لا سيما وأن بحث الخيال في الشعر العربي قد طبع برسالة صغيرة، وقد عُرفت هذه الرسالة لدى رجالات الأدب والعلم منذ مطلع حياة الشيخ - رحمه الله -. وإلى بحث الخيال هذا جمعنا مقالات ومحاضرات في الأدب، منها: ما كتبه في مجلة "نور الإسلام" التي كانت تصدر عن الأزهر الشريف، وقد رأس تحريرها فترة من الزمن، ومنها: محاضرات في جمعية الهداية الإسلامية، ومقالات نشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" التي كان يصدرها في القاهرة. والله نسأل أن نكون قد وفقنا لجمع تراث المؤلف الأدبي في هذا الكتاب. علي الرّضا الحسيني

مقدمة الإمام محمد الخضر حسين

بسم الله الرحمن الحيم مقدمة الإمام محمّد الخضر حسين الحمد لله الذي فطر النفس الناطقة على الشوق إلى استطلاع الحقائق، وأطلع في سمائها فكراً يبسط شعاعه على رأس اليراعة فإذا هو درٌّ متناسق، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المؤيد بالعصمة، والقائل: "إن من الشعر حكمة "، ثم الرضا عن آله المشهود لهم بالسبق في حلبة الفصاحة، وصحبه الفائقين في مناهج البيان مجازاً وكناية وصراحة. أمّا بعد: فيرتفع شأن الشعر، ونقضي لصاحبه بالبراعة والتفوق على غيره بمقدار ما يحرز من بناء محكم، ومعنى بديع، وقد حدَّق فلاسفة الأدب أنظارهم إلى الوجوه التي تملك بها المعاني شرف منزلتها، وحسن طلعتها، أو تأخذ منها الألفاظ متانة نسجها، وصفاء ديباحتها. ومن أجمل الفنون التي يرجع النظر فيها إلى جهة المعنى: صناعة التخييل، وهي الغرض الذي جرَّدتُ القلم للبحث عنه في هذه الصحائف متحريًا أسلوباً لا يشتكي منه القارئ طولاً ولا قصراً. ولا أدّعي أن هذا الفن مما ضلّ عن أولئك الفلاسفة، فلم يعرجوا على مكانه، أو صعب عليهم مراسه فلم يسوسوه بفكر ثاقب، وبيان فاصل؛ فإن كثيراً من علماء البلاغة قد ولّوا وجوههم شطره حتى توغلوا في طرائقه،

وكشفوا النقاب عن حقائقه، ومن أبعدهم نفوذاً في مسالكه الغامضة، وأسلمهم ذوقاً في نقد معانيه، وتمييز جيدها من رديئها: الإمام عبد القاهر الجرجاني صاحب كتابي: "أسرار البلاغة"، و"ودلائل الإعجاز". وما كان لي سوى أن أعود إلى مباحثه المبثوثة في فنون شتى، فأستخلص بقدر ما تسمح به الحال لُبابها، وأؤلف بين ما تقطَّع من أسبابها، ولا تجدني - إن شاء الله- أحكي مقالهم دون أن أعقد بناصيته، أو أبث خلاله، أو أضع في ردفه جملًا تلبسه ثوباً قشيباً، أو تنفخ فيه روحاً كانت هادئه محمد الخضر حسين شعبان/1340 - نيسان/ 1922

الخيال في الشعر

الخيال في الشعر العربي (¬1) * الشعر: يعرف العريىّ في جاهليته، كما عرف بعد أن نسل إليه العلم من حدب: أن الكلام ينقسم إلى شعر ونثر، والميزة المحسوسة لكل أحد: أن الشاعر لا يحثو عليك الألفاظ جزافاً مثلما يفعل الناثر، وإنما يلقيها إليك في أوزان تزيد في رونقها، وتوفر لذتك عند سماعها، ومن أجل هذا ذهب بعضهم في حد الشعر إلى أنه كلام مقفّى موزون، وهذا مثل من يشرح لك الإنسان بأنه حيوان بادي البشرة، منتصب القامة، فكل منهما قَصَرَ تعريفه على ما يدرك بالحاسة الظاهرة، ولم يتجاوزه إلى المعنى الذي تتقوم به الحقيقة، ويكون مبدأ لكمالها، وهو التخييل في الشعر، والنطق في الإنسان. فالروح التي يُعدُّ بها الكلام المنظوم في قبيل الشعر، إنما هي التشابيه والاستعارات والأمثال، وغيرها من التصرفات التي يدخل لها الشاعر من باب التخييل، وليس الوزن سوى خاصة من خواصِّ اللفظ المنظور إليها في مفهوم الشعر بحيث لا يسميه العرب شعراً إلا عند تحققه، وإطلاق الشعر على الكلام الموزون إذا خلا من معنى تستطرفه النفس، لا يصح إلا كما ¬

_ (¬1) طبع هذا البحث في رسالة مستقلة عام 1340 هـ - 1922 م.

يصح لك أن تسمي جثة الميت إنساناً، أو تمثال الحيوان المفترس أسداً. والمنثور من الكلام يشارك الشعر في اشتماله على الصور الخيالية، ولكن نصيب الشعر منها أوفر، وهو بها أعرف، كما يمتاز بأحد أنواع التخييل، وهو ما لا يتوخى به صاحبه وجه الحقيقة، وإنما يقصد به اختلاب العقول، ومخادعة النفوس إلى التشبث بغير حق، كما قال ابن الرومي يدعوك إلى أن تطوي جناحيك على جذوة من الحقد: وما الحقدُ إلا توأمُ الشُّكْرِ في الفتى ... وبعضُ المزايا ينتسبنَ إلى بعضِ فحيث ترى حقداً على ذي إساءة ... فثمَّ ترى شكراً على واسعِ القرضِ وقال آخر - يزين لك أن تدرج نفسك في كفن الذل، وتواريها في حفرة من الخمول-: لُذْ بالخمولِ وعذ بالذلِّ معتصماً ... بالله تنجو كما أهلُ النهى سَلِموا فالريحُ تحْطم إن هبَّت عواصفُها ... دوحَ الثمارِ وينجو الشيحُ والرَّتَمُ (¬1) ولاختصاص الشعر بهذا النوع من التخييل، أطلق بعض المشركين من العرب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - اسم الشاعر، ليلقوا في أوهام السذج: أن كلامه من نوع ما يصدر عن الشعراء من الأقوال المموّهة، والتخيلات الباطلة. فهم يعلمون أن القرآن بريء من النزعة التي عهد بها الشاعر، وهي عرض الباطل في لباس الحق؛ لأنه إنما ينطق بالحكمة، ويجادل بالحجة، ولا يخفى عليهم: أنه مخالف للشعر في طريقة نظمه؛ فإن للشعر عروضاً ¬

_ (¬1) الشيح والرتم: نوعان من أنواع النبات.

التخييل عند علماء البلاغة

يقف عندها، وأوزاناً ينتهي إليها، والقرآن يصوغ الموعظة، وينفق الحكمة بغير ميزان، ولكن ضاقت عليهم مسالك الجدال، وانسدت في وجوههم طرق المعارضة، فلم يبالوا أن يتشبثوا بالدعاوى التي يظهر بطلانها لأول رأي، كما قالوا عنه: إنه مجنون، وهم يشهدون في أنفسهم أنه أبلغهم قولاً، وأقواهم حجّة، وأنطقهم بالحكمة. وأما الآيات التي وافقت بعض الأوزان، فهي على سلامتها من بهرج التخيلات لا تجد الموافق منها للموزون قد استقل بنفسه، وأفاد المعنى دون أن تصله بكلمات من الآيات السابقة أو اللاحقة، والكلام المؤلف من الموزون وغير الموزون لا يصح لأحد أن يسميه شعراً ليقدح به في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41]. * التخييل عند علماء البلاغة: ينقسم التصرف في المعاني على ما يقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني إلى: تحقيق، وتخييل، والفارق بينهما: أن المعنى التحقيقي ما يشهد له العقل بالاستقامة، وتتضافر العقلاء من كل أمة على تقريره، والعمل بموجبه؛ كقول المتنبي: لايسلمُ الشرفُ الرفيع من الأذى ... حتى يراقَ على جوانبهِ الدمُ فمعنى هذا البيت مما تلقاه العقلاء بالقبول، ووضعوه بمقدمة ما يتنافسون فيه من الحكم البالغة، وكذلك اتخذه الأمراء الراشدون قاعدة يشدون بها ظهر سياستهم، ويستندون إليها في حماية شعوبهم، ومن الذي يجهل أن حياة الأمم إنما تنتظم بالوقوف في وجه من يتهافت به السفه على هدم شرفها، والاستئثار بحقوقها؟!.

والتخييلي: هو الذي يردّه العقل، ويقضي بعدم انطباقه على الواقع، إمّا على البديهة؛ كقول بعضهم: لولم تكن نيّةُ الجوزاء خدمتَه ... لما رأيتَ عليها عِقْدَ مُنْتَطِقِ فكلُّ أحد يدرك لأولِّ ما يطرق سمعه هذا البيت: أن الكواكب لا تنوي، ولا تنطق، ولا تخدم، وأن تلك النجوم المتناسقة في وسط الجوزاء مركّبة فيها من قبل أن يصير الممدوح شيئاً مذكوراً. أوبعد نظر قليل؛ كقول أبي تمام: لا تنكري عَطَلَ الكريمِ من الغنى ... فالسيلُ حربٌ للمكانِ العالي نهى المخاطبة في صدر البيت عن إنكارها لفاقة الكريم وفراغ يده من المال، وأخبر في العجز بأن السيل لا يستقر على الأماكن المرتفعة، وهذا المعنى في نفسه صحيح، ولكنّ الفاء في قوله: "فالسيل حرب" أفصحت بأن السبب في عدم توفر حطام الدنيا لدى الكريم، هو كون الماء إذا وقع على الأماكن العالية لا يلبث أن ينحدر إلى ما انخفض عنها من وهاد وأغوار، وهذا إنما وصل إلى الذهن بتخييل أن رفعة القدر بمنزلة المكان الحسي، وأن الماء الدافق ينساق إلى الرجل فيقضي منه وطره، ثم يرسله إن شاء إلى بنىِ الحاجات، فيكون القول بأن مكانة الكريم لارتفاعها جعلت المال يمر على يده، ثم ينطلق بالبذل والإنفاق، يستند إلى أن الماء يجتمع على ما صعد على وجه الأرض من أكمات وهضاب. وهذا القياس ضرب من التخييل لا يجول في العقل إلا ريثما ينظر إلى أن السبب في عدم استقرار الماء على الأماكن العالية كونه جرماً سيالاً لا تتماسك أجزاؤه وتثبت في محل إلا إذا أحاط بجوانبه جسم كثيف، وليس للدراهم والدنانير هذه الطبيعة حتى يلزم

التخييل عند الفلاسفة

أن تمر على يد الكريم ثم تنصبَّ منها إلى من كانوا أدنى منه منزلة. ويفهم من وجه التفرقة بين القسمين: أن مجرد الاستعارة عندهم لا يدخل في قسم التخييل، وقد صرح الجرجاني بهذا في كتاب "أسرار البلاغة" ناظراً في أن المستعير لا يقصد إلى إثبات معنى اللفظة المستعارة حتى يكون الكلام مما ينبو عنه العقل، وإنما يعمد إلى إثبات شبه بين أمرين في صفة، والتشابه من المعاني التي لا ينازع العقل في صحتها. * التخييل عند الفلاسفة: يقول الفلاسفة: إن من بين القوى النفسية قوة تتصرف في صور المعلومات بالترتيب تارة، والتفصيل مرة أخرى، يسمّيها فلاسفة العرب إذا لم تخرج عن دائرة التعقل: مفكِّرة، ويقال في عملها: تَفَكُّرٌ، فإن تصرفت بوجه لا يطابق النظر الصحيح، سموها: مُخَيِّلَة، ويقال في عملها: تخيُّلٌ، أو تخييلٌ، فمثال ما يأخذ من العقل مأخذ القبول قول القاضي عياض: انظر إلى الزرعِ وخاماته ... تحكي وقد ولّت أمامَ الرياح كتيبةً خضراءَ مهزومةً ... شقائقُ النعمانِ فيها جِراح فالشاعر التفت إلى ما في حافظته من الصور المناسبة لهيئة زرع أخضر يتخلله شقائق النعمان، وقد أخذت الرياح تهب عليه من جانب، فيميل إلى آخر ميلاً يتراءى للعين أنه حركة ينتقل بها من مكانه، فوقع خياله على الجيش، والملابس الخضراء، والجراحات التي تنال الجيش المقاتل، فألَّف بينها، ثم جعل سيره إدباراً وانهزاماً؛ لأنه ولّى ظهره الناحية التي هجمت منها الرياح، وليوافق حالة جيش ظهرت فيه الجرحى بمقدار مافي المزارع الخضراء

ماذا نريد من التخييل؟

من شقائق النعمان. ومثال ما لا يثق به النظر، ولا يدخل في حساب الأقوال القائمة على التحقيق: قول الشاعر: ترى الثيابَ من الكتان يلمحها ... نورمن البدر أحياناً فيبليها فكيف تنكر أن تبلى معاجرها (¬1) ... والبدر في كل وقت طالعٌ فيها أبصر معاجر من يتحدث عنها وقد أخلقت، فحاول التماس وجه يجعل ذلك الإخلاق من شواهد حسنها، أو يسد فم العاذل حتى لا يغض من شأنها، فتصوّر طلعة القمر، وانساق إليه ما يدور بين الناس من أن الثياب التي يمج عليها القمر أشعته يسرع إليها البلى، ثم ادعى مبالغاً في التشبيه أن وجهها قمر، وبنى على هذا: أن تعجّب ممن ينكر تأثيره في معجرها بالإخلاق. ففي هذا التصرف ادعاء أن وجهها قمر، وهذا مما يألفه العقل؛ لأنه بمنزلة التشبيه، ولا مفرّ له من قبول التشبيه متى تحقق الوجه بين طرفيه، والمعنى الذي للعقل أن يلتفت عنه، إنما هو دعوى أن معجرها أخلق بعلة كونه مطلعاً لوجهها المسمّى بالقمر على وجه المجاز. * ماذا نريد من التخييل؟ يفهم من صريح المقالة الفلسفية: أن المفكرة والمخيلة اسمان لقوة واحدة، وهي التي تتصرف في المعلومات بالتفصيل والتركيب، وإنما تغير اسمها بحسب اختلاف الحال، فعندما يكون زمامها بيد العقل يسمونها: مفكِّرة، وعندما تنفلت منه يسمونها: مخيّلة. ¬

_ (¬1) معاجرها: ثيابها.

وإذا عرفت أن التمثيل والاستعارة من عمل هذه القوة باتفاق علماء النفس، فلو جرى طائفة من الناس على إطلاق التخيل أو الخيال عندما تتصرف هذه القوة تصرفاً تصوغ به معنى مبتدعاً، سواء أذعن له العقل، أو تجافى عنه، لم يكونوا صنعوا شيئاً سوى تغيير الاصطلاح، وإدخال القسمين تحت اسم واحد. واطلاق لفظ التخييل أو الخيال في صدد الحديث عن المعاني الصادقة، والتصورات المعقولة، لا يحط من قيمتها، أو يمس حرمتها بنقيصة؛ فإن علماء البلاغة أنفسَهم قد أطلقوه على ما يأتي به البليغ في الاستعارة المكنية من الأمور الخاصة بالمشبّه به، ويثبته للمشبّه، فقالوا: الأظفار أو إضافتها في قولك: "أنشبت المنية أظفارها" تخييل، أو استعارة تخييلية، وأطلقوه في الفصل والوصل حين تكلموا على الجامع بين الجملتين، وقسّموه إلى: عقلي، ووهمي، وخيالي، وأطلقوه في فن البديع على تصوير ما سيظهر في العيان بصورة المشاهد، ولم يبالوا أن يضربوالجميع تلك المباحث أمثلة من آيات الكتاب العزيز وغيره من الأقوال الصادقة. فيسوغ لنا حينئذ أن نساير أدباء العصر، ونتوسع في معنى الخيال والتخييل، ولا نقف عند اصطلاح القدماء من الفلاسفة أو علماء البلاغة حيث خصوا بهما ما لا يصادق عليه العقل، والمخالفة في الاصطلاح ما دامت الحقائق قائمة، والمقاصد ثابتة بحالها، لا يبعد تبديل العبارة أو الاسلوب. يقول الناس عندما يسمعون بيتاً أو أبياتاً لأحد الشعراء: "هذا خيالٌ واسغٌ" أو: "هذا تخيُّلٌ بديعٌ"، فيفهم السامع لهذه الكلمات وما يماثلها: أن لصاحب هذا الشعر قدرة على سبك المعاني، وصوغها في شكل بديع.

ولو قالوا: "ما أضيق هذا الخيال! "، أو: "ما أسخف هذا التخيُّل! "، فهم السامع أن ليس له قدرة على إخراج المعاني في صورة مبتكرة. فيصح لنا أن نأخذ هذا المعنى الذي يحضر في الذهن عند سماع تلك الجمل، ونشرح به معنى المخيلة، فنقول: هي قوة تتصرف في المعاني؛ لتنتزع منها صوراً بديعة. وهذه القوة إنما تصوغ الصور من عناصر كانت النفس قد تلقتها من طريق الحس أو الوجدان، وليس في إمكانها أن تبدع شيئاً من عناصر لم يتقدم للمتخيل معرفتها، ومثال هذا من الصور المحسوسة: أن قدماء اليونان رمزوا إلى صناعة الشعر بصورة فرس له جناحان، وهي صورة إنما انتزعها الخيال بعد أن تصور كلاً من الفرس والطير بانفراده. وقد يجول في خاطرك عندما تمر على قول امرئ القيس: أيقتلني والمشرفيُّ مضاجعي ... ومسنونةٌ زرقٌ كأنياب أَغوالِ (¬1) أن هذا الشاعر قد تخيل الأغوال وأنيابها، ولم تسبق له معرفة بها، إذ لا أثر للغول وأنيابها، ولا لشيء من موادها في العيان، فيلوح لك أن هذا التصرف يقدح في قولنا: إن المخيّلة لا تؤلف الصور إلا من مواد عرفتها بوسيلة الحس أو الوجدان. والذي يكشف الشبهة: أن كلاً من الغول وأنيابها صورة وهمية، ولكن لم يحدثها الخيال من نفسه، بل أخذ من الحيوانات الفظيعة المنظر أعضاء متفرقة، وأنياباً حادة، وتصرف فيها بالتكبير، ثم ركَّبها في صورة رائعة، وهي ¬

_ (¬1) المشرفي: السيف.

تداعي المعاني

التي تخطر في الذهن عندما يذكر اسم الغول. حتى إن الناس لا يتفقون - فيما أحسب - على كيفية تصور هذا الأمر الموهوم، فكل يخطر له المعنى في أبشع صورة يتمكن خياله من جمعها وتلفيقها. فغاية ما صنع الشاعر: أن عمد لأمر محسوس، وهي النصال المحددة، وتخيَّله في صورة أمر هو في نفسه خيالي، ولكن صورته مأخوذة من مواد كان يعرفها من قبل بطريق الرؤية أو السماع. وتعتمد المخيلة على قوة التذكر، وهو تداعي المعاني وخطورها على الذهن بسهولة، وبعد أن تتراءى لها الصورة بوسيلة التذكر، تستخلص منها ما يلائم الغرض، وتطرح ما زاد على ذلك، فتفصل الخاطرات عن أزمنتها، أوما يتصل بها مما لا يتعلق به القصد من التخييل، ثم تتصرف في تلك العناصر بمثل التكبير أو التصغير، وتأليف بعضها إلى بعض حتى تظهر في شكل جديد. * تداعي المعاني: ترجع الأسباب التي تجمع بين المعاني، وتجعلها بحيث يكون حضور بعضها في النفس يستدعي حضور بعض، إلى ثلاثة أنواع: أولها: اقتران المعنيين في الذهن حيث يكون تعلقهما أو إحساسهما في وقت واحد، أو على التعاقب، ومن هذا تذكُّر الوقائع عندما يخطر بالبال مكانها، كما قال ابن الرومي: وحَبَّبَ أوطانَ الرجال إليهم ... مآربُ قضّاها الشبابُ هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذَكَّرَتهمُ ... عهودَ الصِّبا فيها فحنّوا لذلكا

أو زمانها، كما قالت الخنساء: يذكِّرني طلوعُ الشمس صخراً ... وأذكره بكلِّ مغيب شمس وخصت هذين الوقتين بالتذكير؛ لأنهما مظهر لعملين عظيمين من أعمال صخر، إذ كان يغدو للإغارة التي هي مظهر الشجاعة عند مطلع الشمس، ويبذل الطعام للضيوف وقت الغروب. ومن هذا الوجه نشأت الكنايات، وبعض أنواع المجاز المرسل، أما الكنايات، فلأنها الدلالة على المعنى باسم ما يلازمه في الخارج، وصحَّ هذا نظراً إلى أن حضور المعنى الموضوع له اللفظ يستدعي حضور لازمه في ذهن المخاطب؛ كقول الحصين بن الحمام: تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما ولسنا على الأعقاب تدمى كلومُنا ... ولكن على أقدامِنا تقطر الدما أراد الشاعر أن يفيد ثباتهم في مواقف الحروب، وأنه لا يجمح بهم الفزع من الموت إلى سبة الهزيمة، فعبَّر عن هذا المعنى بأن دماءهم لا تقع على أعقابهم البتة، وهذا يقتضي أنهم لا يولون العدو ظهورهم حتى ينالها بسيوفه، كما أن معنى قطر الدماء على الأقدام يذهب بالسامع إلى معنى أنهم يستقبلون العدو بوجوههم إلى أن ينالوا ظفراً، أو يلاقوا موتاً شريفاً. وأما بعض أنواع المجاز المرسل، فكإطلاق اسم الحال على المحلّ، والسبب على المسبّب، والكل على الجزء، وعكسها، ومداره على أن ذهن المخاطب ينتقل إلى المعنى المراد بسهولة حيث كان بينه وبين المعنى الحقيقي مناسبة تقضي تقارنهما في الذهن؛ لأن إدراكهما كان في وقت واحد، كالحالّ والمحلّ، والكلّ والجزء، أو على التعاقب كالسبب والمسبب.

لماذا تختلف الأفكار في تداعي المعاني؟

النوع الثاني: من الأسباب التي تتلاحق بها المعاني في الذاكرة: التباين؛ فإن الصور التي يكون بينها تضاد، لا يكاد بعضها يتخلف عن بعض، فمن تصور الشجاعة، خطر له معنى الجبن، ومن مرت على باله الصداقة، انساق إليه معنى العداوة، ولهذا أدخل علماء البلاغة في وجوه الوصل بين الجملتين ما يقوم بينهما من التضاد في المعنى، وساقوا في أمثلته قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الإنفطار: 13 - 14). وإن شئت مثلاً من الشعر، فقال المتنبي: أزورهم وسوادُ الليل يشفع لي ... وأنثني وبياضُ الصبحِ يُغري بي ومن هذا الوجه أيضاً صحَّ لهم أن يعدّوا بين علاقات المجاز المرسل: الضدية. النوع الثالث: التشابه، وهو أن يكون بين المعنيين تماثل في بعض أمور خاصة؛ كمن يرى الرجل المقدام، فيتصور الأسد، ويسمع الألفاظ البليغة قد تبرجت في أسلوب محكم، فيذكر الدرر المتناسقة في أسلاكها. وعلى هذا النوع يقوم فن التشبيه والاستعارة اللذين هما أوسع مضمار تتسابق فيه قرائح الشعراء والكتَّاب. * لماذا تختلف الأفكار في تداعي المعاني؟ يختلف الناس فيما يتداعى إليهم من المعاني إلى أن ترى صوراً تتوارد على شخص متعاقبة، وهي في خيال آخر لا تتقارن البتة. قال أحد الفلاسفة: إني لا أسأل عن السبب في أن معنى من المعاني يدعو آخر ويأخذ بناصيته، ولكنني أبحث في شيءآخر، وهو أن المعنى الواحد قد يختلف تواليه باختلاف الأشخاص. ثم قال: ويمكن الجواب عن هذا: بأن الناس يختلفون في ميولهم،

وشعب وجهتهم في الحياة، فكل معنى يدعو لصاحبه ما هو ألصق، بميله، وأقرب إلى عمله. وإيضاح هذا الجواب: أن توالي المعاني يختلف باختلاف الأشخاص لأحد سببين: الأول: أن الدواعي والعواطف النفسية لها مدخل في تجاذب المعاني واسترسالها على الخيال، فالطمع أو الحاجة أو الرهبة- مثلاً - تستدعي المعاني العائدة إلى المديح أو الاستعطاف، والغرام يستدعي المعاني الغزلية، والكآبة والأسف يستدعيان معاني الرثاء أو الشكوى، والسرور يستدعي المعاني اللائقة بالتهمئة، والإعجاب بالنفس أو العشيرة يستدعي معاني الفخر والحماسة، فالزاهد في الدنيا لا يسع خياله من معاني الإطراء والملق ما يسعه خيال الحريص عليها، والخالي من عاطفة الغرام لا يخطر على قلبه من معاني التشبيب ما يخطر على قلب الشجي المستهام. الثاني: ما يتفق للإنسان في طرز حياته، وهو حال المحيط الذي يتقلب فيه، فيتوالى على خاطر الناشئ في النعيم والترف ما لا يتوالى على خاطر الناشع في حال عسرة وبؤس، ويحضر في نفس من شبَّ في الحاضرة ما لا يحضر في نفس الناشئ في البادية، وينساق إلى خيال الناشئ في شمال المعمورة ما لا يدخل في خيال الناشع في جنوبها، فالمقيم في شمال أوربا - مثلاً - يذكر الشتاء، فتقارنه صورة الثلج، وليس بينهما في ذهن المقيم بالجنوب اقتران واتصال؛ لقلة مشاهدته للثلج، أو عدم وقوع نظره عليه طول حياته، ولو نظر إلى الهلال رجلان، هذا نشأ في الحلية، والآخر اتخذ الحصاد حرفة، فالشأن أن يتداعى إلى الأول صورة السوار، وينتقل منه إلى المعصم أو

التخييل التحضيري

الصياغة، ويتداعى إلى الثاني صورة المنجل، وينتقل منها إلى الزرع أو الحدادة. * التخييل التحضيري: تتداعى المعاني بوسيلة التذكر للأسباب التي كنا بصدد البحث عنها، ثم المخيِّلة تنتخب منها ما يناسب الغرض، وهذا العمل - أعني: الانتخاب - يسميه علماء النفس: تخييلاً تحضيرياً؛ لأنه العمل الذي تتمكن به المخيِّلة من استحضار العناصر المناسبة للمرام. تقتصر المخيِّلة عند الانتخاب على ما يدعو إليه الغرض، حتى إنها تأخذ الجسم مقطوعاً من بعض الأعضاء التي لا مدخل لها في المعنى، فتتخيل إنساناً بغير عنق؛ كقول ابن هانئ: كأنَّ أرؤُسَهم والنومُ واضعُها ... على المناكب لم تُخْلَقْ بأعناقِ وطائر بغير جناح؛ كما قال الفتح بن خاقان: وتركت قلبي للصبابة طائراً ... تهفو به الأشواق دون جناح وتتصور الجواد بغير قوائم؛ كما قال المتنبي: أتوك يجرّون الحديدَ كأنما ... أتوا بجيادٍ ما لهنَّ قوائمُ والعقرب بغير ذَنَب؛ كما قال أبو هلال: تبدو الثريا وأمرُ الليل مجتمعٌ ... كأنها عقربٌ مقطوعةُ الذنبِ وربما انتزعت العضو من بين سائر الجسم؛ كما أخذ ابن هانئ اليد فقال: ولاحت نجومٌ للثريا كأنها ... خواتيمُ تبدو في بنان يد تخفى وأخذ ابن المعتز القدم فقال:

التخييل الإبداعي

وأرى الثريا في السماء كأنها ... قدمٌ تبدَّت من ثياب حدادِ وأخذ آخر القلب فقال: نَقْلُ الجبال الرواسي من مواطنها ... أخفُّ من ردِّ قلبٍ حين ينصرف وأخذتُ المقلة وحدها في أبيات نظمتها في قرية قائمة على بحيرة، فقلت: سرق الغمامُ اليومَ ظلي بعد أن ... رسمته في "لنداو" شمسُ ضحاها ويدُ الرحيل تخطَّفت من (جِلَّقٍ) ... جسمي وأبقتْ مهجتي برباها فأنا خيالٌ والبحيرةُ مقلةٌ ... لكنْ تطاول بالخيال كراها * التخييل الإبداعي: بعد أن تنتخب المخيِّلة ما يليق بالغرض من العناصر، تتصرف فيها بالتأليف إلى أن ينتظم منها صورة مستطرفة، ويسمّى هذا التصرف، تخييلاً إبداعياً، أو اختراعياً. ويجري هذا التخييل في التشبيه والاستعارة وغيرها. فالتشبيه قد تحذف أداته؛ كما في قول النابغة: فإنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكبُ وعمل الخيال فيه هو: إحضار صورة المشبه به - أعني: الشمس والكواكب -، وإلغاء وجوه التباين بينها وبين المشبه به - أعني: الممدوح وبقية الملوك -، حتى يدعي اتحادهما، ويصح الإخبار بأحدهما عن الآخر، وبني على هذا الادعاء أن ليس للملوك مظهر، ولا تقوم لهم أمام هذا الملك سمعة؛ فإن الكواكب يتقلص ضوؤها، ويغرب عن العيون مشهدها، عندما

تتجلى الشمس في طلعتها الباهرة. وأما ما تذكر فيه أداة التشبيه، فلا أستطيع أن أعدّه في قبيل الخيال جملة، كما أني لا أعزله عنه في كل حال، فإن كان فيه إخراج المعقول في صورة المحسوس، أو المحسوس في صورة المعقول، أو إخراج الخفي إلى ما يعرف بالبداهة، أو إخراج الضعيف في الوصف إلى ما هو أقوى فيه، صحت إضافته إلى الخيال؛ إذ له الأثر القوي في تقريره. وأما عقد المشابهة بين أمرين متفقين في وجه الشبه من غير تفاوت؛ كالتشبيه الذي يساق لبيان الاتحاد في الجنس أو اللون، أو المقدار أو الخاصية، فلا يصح نسبته إلى الخيال الشعري، وإن وقع في كلام مقفّى، وإنما هو مما ينظر فيه الباحث عن الحقائق؛ كالفيلسوف أو الطبيب. فلو اتفق أن وقف فتى بجانب ظبي، وانطلقا في فسيح من الأرض، ولم يفت أحدهما صاحبه قيد شبر، فبدا لك أن تتحدث عنهما فقلت - ولو في نظم -: "كان فلان في سرعة عدوه كالغزال"، لم يكن في هذا التشبيه شيء من الخيال؛ لأن عقد المشابهة بينهما في هذا الحال يشاركك فيه كل من شاهد الواقعة، وإنما يمتاز التخيل بمثل قول الشاعر: وفي الهيجاء ما جزَّبتُ نفسي ... ولكنْ في الهزيمةِ كالغزالِ حيث إن الخيال بحث عن صورة المشبه به، وهو الغزال، وانتقاها من بين سائر الصور المتراكمة في الحافظة، ثم تصور انطلاق المنهزم، وهو الشاعر نفسه، وبالغ في مقدار سرعته إلى أن وقع التشابه بينه وبين الغزال. وإن أردت أن تفرق بين التشبيه الذي يدخل في التخيل، والتشبيه الذي

هو حائد عن طريقته، فانظر إلى قول المجنون: كأنّ القلبَ ليلةَ قيل يُغدى ... بليلى العامريةِ أو يُراحُ قطاةٌ غرَّها شَرَكٌ فباتت ... تعالجه وقد عَلِق الجناحُ فترى الخيال هنا قد تجوَّل حتى تصيدَ معنى القطاة، ووقع على الشرك، ثم انتزع منهما هذه المعاني، وهي وقوع القطاة في الشرك، وعلوق جناحها به، ومعالجتها له كي تتخلص منه، وضم بعضها إلى بعض، فانتظم ذلك المعنى المركب، وانعقدت المشابهة بينه وبين حال القلب الذي وقع في حب العامرية، فأخذ يرتجف وجلاً من لوعة الفراق. ولو نظر شاعر إلى أزهار مفتحة بمكان منخفض الأرض، وقال مثلاً: هذه الأزهار في منظرها ... وشذاها مثل أزهار الربى لاستبردتَ شعره لأول وهلة، وأخذت تهزأ به كما هزأت بقول الآخر: كأننّا والماءُ من حولنا ... قومٌ جلوسٌ حولهم ماءُ بيد أن ذلك التشبيه نفسه، لو يصدر من العالم بالنبات في الرد على من يدعي أن هذه الأزهار ليس لها لون ولا نفحات عاطرة كالأزهار التي تنبت على الربى، لأصغيت إليه سمعك، وتلقيته منه بكل وقار، وما ذاك إلا لأن الأول قابله بوصف كونه شاعراً، ولم يأت فيه على عادة الشعراء بشيء من التخييل، وأما الثاني، فإنما ألقاه إليك في صدد البحث عن الحقيقة، فلا تنتظر منه أن يصله بشيء من عمل الخيال. والاستعارة يصنع فيها الخيال ما يصنع في التشبيه المجرد من الأداة، إلا أنها تعرض عليك المشبّه في صورة المشبه به؛ على وجه أبلغ، ولا سيما

إذا أضيف إليها بعض معان عهد اختصاصها بنوع المشبه به أعني: ما يسميه البيانيون: ترشيحاً، ومن أبدع ما نسج على منوالها قول البارودي: من النفر الغرِّ الذين سيوفُهم ... لها في حواشي كلِّ داجيةٍ فَجْرُ إذا استلَّ منهم سيدٌ غَرْبَ سيفهِ ... تفرَّعتِ الأفلاكُ والتفتَ الدهرُ أراد الشاعر وصف قومه بأنهم أولو الصرامة التي تفرج الكرب المدلهمة، والسطوة التي يرهبها كل خطير، فساق إليك هذا الغرض في صورة تنظر منها إلى سيوفهم كيف تجرد حول الليلة الفاحمة، فيسطع الفجر الواضح في جوانبها، وترى فيها الحسام الواحد كيف يسل من جفنه، فترتعد الأفلاك ذعراً، ويلتفت له الدهر حذراً. خيِّل إليك أن الداهية ليلة ظلماء، وأن الفرج الذي ينبعث من مطلع سيوفهم صبيحة غرّاء، وعبَّر عن الأولى باسم الداجية، وعن الثانية باسم الفجر، وهذا التعبير الملوّح إلى ذلك التخييل هو الذي يعنيه البيانيون بقولهم: استعارة مصرحة. ثم خيَّل الفلك في صورة من له قلب يفزع، والدهر في صورة من له وجه يلتفت، والتصريح باسمها بعد هذا التخييل يدخل به الكلام فيما يطلقون عليه لقب الاستعارة بالكناية، ويمكنك أن تفهم الفجر في البيت بمعنى لمعان السيوف وتألقها المشاهد بالأبصار على نمط قول بشر: سللتُ له الحسامَ فخلتُ أني ... شققتُ به لدى الظلماءِفجرا ولكنك تضيع من يدك ما أفاده الوجه الأول من أن النجدة في جانبها، والظفر مقرون بطالعها، إذ لا يلزم من لمعانها في حواشي الداجية، أن تطعن في لبتها، وتقلبها بالفوز عليها إلى صبيحة مسفرة. ومن التخييل الذي لا يدخل له الشاعر من طريق تشبيه أو مجاز، ما تشهد

فنون الخيال

لصاحبه بالحذق في الصناعة، وأنت تشعر بأنه عرض عليك الموهوم في حلية المعقول؛ كقول الطائي: ولا يروعك إيماض القتير به (¬1) ... فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب أخبر عن الشيب بأنه ابتسام الرأي والأدب اللذين هما محبوبان ومحترمان لكل أحد؛ ابتغاء أن تأنس العين لرؤيته، ولا تنظر إليه نظر الازدراء به، وليس هذا من قبيل التشبيه؛ إذ لم يكن للرأي والأدب ابتسام يعهده السامع حتى يقصد الشاعر إلى تشبيه الشيب به، بل أراد أن يخيل لك أن الشيب ابتسام في الواقع، ولهذا تجد في نفسك ما يناجيك بأن صورة هذا المعنى غير مطابقة للحق، وإن استحكم تأليفها، ودقَّ مأخذها. ومنه ما يستملحه الذوق، ويسعه نظر المحقق، وتجد هذا في قول زهير: لونال حيٌّ من الدنيابمكرمةٍ ... أفقَ السماء لنالت كفُّه الأفقا فهذا البيت لم ينسج على منوال تشبيه أو مجاز، وليس لك أن تطرحه من حساب التخيلات المقبولة، ويلوغ كفّ الممدوح الأفق لا يتفق مع النظر الصحيح، غير أن تعليقه على حصوله لإنسان من قبل، وإيراده عقب حرف الشرط الدال على امتناعه، قد خلصه من زلة الكذب، وجعله في منعة من أن ينبذه العقل إلى القضايا الوهمية. * فنون الخيال: يتصرف الخيال في المواد التي يستخلصها من الحافظة على وجوه شتى، ولا يسع المقام استيعابها، وتقصّي آثارها فنلمَّ لك بمهماتها، وما يصلح أن ¬

_ (¬1) القتير: أول ما يظهر من الشيب. "المعجم المدرسي".

يكون بمنزلة أصل تتفرع عليه تفاصيلها: أحدها: تكثير القليل؛ كقول عمرو بن كلثوم: ملأنا البرَّ حتى ضاق عنا ... وظهر البحر نملؤه سفينا فإنه اطرد في حلية الفخر حتى وصل إلى التعبير عن منعة الجانب، والسطوة التي لا يفوتها هارب، فخطر له أن يثبت له ولقومه من القوة ووسائل الفوز ما يرهبون به عدوهم، فذكر أنهم ملؤوا البر جنداً حتى لم يبق فيه متسع، ويملؤون ظهر البحر بالمنشآت من السفن؛ ليدل بهذا على أنهم لا يبالون بالعدو من أي ناحية هجم، ولا يتعاصى عليهم إدراكه في أي موطن ضرب بخيامه. والذي صنع خيال الشاعر في هذا البيت: أنه تجاوز في الإخبار بكثرة قبيلته وسفنه حد الحقيقة، وتطوحت به نشوة الفخر إلى أن تخيل البر قد غصَّ كما تغص الثكنة بجنودهم، وأن البحر يتموج بسفنهم كتموج السماء المصحية بكواكبها الزاهرة. ومنها: تكبير الصغير؛ كقول بشر يصف وقعة الأسد حين قسمه بالضربة القاضية على شطرين: فخرَّ مضرَّجاً بديمٍ كأني ... هدمت به بناء مشمخرّا فقد تخيل عندما سقط الأسد إلى الأرض دفعة: أنه أتى إلى بناء شامخ، ونقضه من أساسه، فانقضت أعاليه على أسافله، فالخيال هو الذي بلغ بجثة الأسد إلى أن جعلها في العظم بمقدار بناء ارتفعت شرفاته، حتى اتخذت من السحب أطواقاً. ومنها: تصغير الكبير؛ كقول المتنبي:

كفى بجسمي نحولاً أنني رجلٌ ... لولامخاطبتي إياك لم ترني وقوله: ولو قَلَمٌ أُلقيتُ في شقِّ رأسه ... وخُطَّ به ما غيَّر الخط كاتبُ فالصبُّ، وإن تقلب على فراش الهجر أمداً طويلاً، وأكل الوجد من لحمه حتى شبع، وشرب من دمه حتى ارتوى، لا يصل في نحافة الجسم إلى أن يسعه شقُّ رأس القلم، أو يخفى عن عين الناظر إليه، وإن كانت عشواء، وإنما هو الخيال أخذ يستصغر ذلك الجسم، حتى ادعى في البيت الأول أن مخاطبته للناس هي التي تهديهم إلى مكانه فيبصرونه، ولولاها لبقي محجوباً عن أبصارهم، وإن وقف قبالتهم، وادّعى في البيت الثاني: أنه لو وقع في شق اليراعة، وانطلقت به اليد في الكتابة، لاستمر الخط بحاله. ومنها: جعل الموجود بمنزلة المعدوم؛ كقول المتنبي: ومطالب فيها الهلاكُ أتيتُها ... ثبتَ الجنان كأنني لم آتها وصف نفسه بالإقدام على مواقع الردى، واقتحام الأخطار بجنان ثابت، وعزم لا يتزلزل، حتى تخيل؛ لقلة المبالاة بها، وعدم الفزع لملتقاها: أنه لم يكن قد خاض غمارها، ورآها كيف تنشب أظفارها، وإنما نشأ هذا الخيال من جهة أن الخطوب المدلهمة لا يسلم من روعتها والدهشة لوقعتها في مجرى العادة إلا من حاد عن ساحتها، وجذب عنانه عن السير في ناحيتها. ومنها: تصوير الأمر بصورة حقيقة أخرى، ولها في هذا المقام أربعة أحوال: أحدها: تخيل المحسوس في صورة المحسوس؛ كما في قول زهير:

يجرّون البرود وقد تمشت ... حُمَيّا الكأسِ فيهم والغناءُ تمش بين قتلى قد أصيبت ... مقاتلُهم ولم تُهرقْ دماءُ فهذا الشعر يصور لك من دارت نشوة السكر والغناء برؤوسهم، فأجهزت على البقية من شعورهم، في صورة قتلى لم تهرق دماؤهم، بل زهقت نفوسهم بمثل خنق، أوسقاء سم دبَّ دبيب الخمر في مفاصلهم. ثانيها: تخيل المعقول في صورة المحسوس؛ كما في قول الشاعر: مررت على المروءة وهي تبكي ... فقلت علامَ تنتحب الفتاةُ فقالتْ: كيف لا أبكي وأهلي ... جميعاً دون خلق الله ماتوا تصوَّرَ المروءة في زي فتاة، فتسنى له أن يسند إليها البكاء، ويعقد بينه وبينها هذه المحاورة. ثالثها: تخيل المعقول في معنى المعقول، وهذا كمن تخيل المذلة في معنى الكفر، فقال: أمطري لؤلؤاً جبال سرنديـ ... ب وفيضي جبال تكرور تبرا منزلي منزلُ الكرام ونفسي ... نفسُ حرٍّ ترى المذلة كفرا رابعها: تخيل المحسوس في صورة المعقول، وهذا لم نعثر له على مثال في كلام العرب، ولكن التشبيه الذي هو أساس هذا الفن قد جرى في كلام المولَّدين بإيراد المحسوس في معرض المعقول؛ كقول التنوخي: فانهض بنار إلى فحم كأنهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا وقول الفاروقي: تمر مع الأتراب بالخيْفِ من منًى ... مرورَ المعاني في مفاوز أفكاري

وقد يعمد الشاعر إلى بعض المعاني، وينفيه عن أفراده المعهودة، ويثبته لأفراد مفهوم آخر، وتجد هذا في قول بعضهم: ليس من مات فاستراح بميْت ... إنما الميتُ ميِّتُ الأحياء إنما الميْت من يعيش كئيباً ... كاسفاً بالُه قليلَ الرجاء فقد نفى أن يكون من قضى نحبه ميتاً، وأطلق اسم الميت على من فاضت نفسه كآبة، وضاق صدره يأساً، على طريقة القصر، بدعوى أن المعنى الذي علق عليه الواضع اسم الميت إنما يتحقق فيمن يعيش في نكد وبلاء لا يرجو خلاصاً منه، والذي أخذ به إلى هذه الدعوى: ما تخيله من أن خواص الراحل إلى القبر، وهي مفارقة ما كان يتمتع به من طيبات الحياة، وانقطاع أمله منها، ونكث يده من العمل فيها، توجد بأجمعها في الكئيب اليائس من صفاء العيش، بأشد مما توجد فيمن ركبوا مطية المنون، حيث يزيد عليهم في الشقاء بأنه يصلى نار الحسرة والأسف بكرة وعشياً. وقد يكون الأمر مربوطاً بعلة محققة ظاهرة، فيضرب عنها، ويخترع له علة من عنده، وتجد هذا في قول أبي العباس الضبّي: لا تركنَنَّ إلى الفرا ... ق فإنه مرُّ المذاق فالشمس عند غروبها ... تصفرُّ من فَرَقِ الفراق ادعى أن العلة في الاصفرار الذي يبدو على وجه الشمس حين تتدلى إلى الغروب، وتنطفئ بهرتها، إنما هو الوجل والهلع من مفارقة الناس الذين طلعت عليهم ذلك اليوم، حيث اتصلت بينهم وبينها - فيما يزعم - عاطفه ألفة وإيناس. ومما صَنَعْتُ على هذا النمط وقد أخذ البَرَدُ يتساقط في حديقة:

هزَّ النسيم غصونَ الروضِ في سحر ... كما يهز بنانُ الغادةِ الوترا لذَّ الحفيف على أذن السحاب أما ... تراه يحثو على أدواحها دُرَرا وقلت وقد أخذت الريح تنسف في روض: قام هذا الروض يشدو مادحاً ... بلسان البلبل الزاهي سحابا وتمادى غالياً في مدحه ... فحثت في وجهه الريح ترابا وقلت في حال أشجار تراكم عليها الثلج، ثم ضربت فيها الشمس، فأخذ يتقاطر عن جوانبها: نسج الغمام لهذه الأشجار من ... غزل الثلوج براقعاً وجلاببا والشمس تبعث في الضحى بأشعة ... تسطو على تلك الثياب نواهبا فبكت لكشف حجابها أو ما ترى ... عبراتها بين الغصون سواكبا وقلت في حمرة الشفق: قتل الدجى هذا النهارَ ودسَّه ... تحت التراب مضرجاً بدمائه فخذوا من الشفق الشهادة إنه ... لطخ من الدم نال ذيل ردائه وربما يصاغ التعليل في قالب التشبيه؛ كقول أبي تمام: كأن السحاب الغُرَّ غيبن تحتها ... حبيباً فلا ترقا لهن مدامع فلو حذفت أداة التشبيه هنا، لكان الباقي بمنزلة العلة الخيالية لنزول الغيث المنسجم من ينابيع السحاب، واقترانه بأداة التشبيه يجعله بحيث يسكت عنه العقل، ولا يمانعه من أن يدخل في سبيل المعاني الصادقة. ومما نظمت على هذا المثال، وكان الجو يقذف وقت السحر

بنثار من الثلج: تطاولَ هذا الليلُ والجوُّ مزبدٌ ... فضاقت بأمواج الثلوج مسالكه كأني أذيب الصبح بالحدق التي ... يقلبها وجدي وتلك سبائكه وقد يقرر الشاعر معنى، ثم يقابله بأمر أوضح منه عند المخاطب، دون أن يصرح فيه بأداة تشبيه، بل تكون مصدرة بأداة استفهام؛ كقول مسكين الدارمي: وإن ابن عم المرء فاعلم جناحُه ... وهل ينهض البازي بغير جناح أو بأداة التوكيد فقط؛ كقول أبي العتاهية: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس أو تقرن أداة التوكيد بالفاء؛ كقول بشّار: فلاتجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم أو بالفاء وحدها؛ كقول بعضهم: لا تحسبوا أن رقصي بينكم طرب ... فالطير يرقص مذبوحاً من الألم ولنوجه البحث إلى معنى البيت الأول، ثم لا يشتبه عليك بعد تحرير الغرض منه أن بقية الأبيات جارية بمعنى التمثيل، أو ذاهبة مذهب الاستدلال والتعليل. صدر الدارمي البيت بجعل ابن عم المرء بمكان الجناح له، والشطر الثاني ينفي عن البازي أن ينهض بغير جناح، ومعنى الشطرين لا يلتئم إلا بملاحظة جملة مطوية ما بين الصدر والعجز لم يفصح عنها الشاعر؛ لسهولة مأخذها، وبعد ملاحظة تلك الجملة يكون مفاد البيت أن ابن عم المرء بمنزلة

حال المعنى والتخييل

جناحه، فلا يقدر أن يقوم بأعباء الحياة، أو يدرك فيها غاية شريفة إلا بمعاضدته، كما أن البازي لا ينهض إلى الطيران إلا إذا ساعده جناحه؛ فالقصد تمثيل حاجة الإنسان إلى ابن عمه بحاجة البازي إلى جناحه، وليس القصد الاستدلال حتى يلتحق ببيت أبي تمام المسوق فيما سلف للاستشهاد على التخييل الذي يراد منه المخادعة، وقول الدماميني: فلا تعجبوا يوماً لكسر جفونها ... فإن إناء الخمر في الشرع يُكسر فالأسلوب في نفسه وارد في الغرضين، غير أن فحوى الكلام، ومجرى الخطاب، وطبيعة المعنى تصرفك إلى التمثيل، أو تأخذ بك إلى الاستدلال والتعليل. وقد يعمد إلى أمرين يعدهما الناس بشدة التباين وغاية الاختلاف، فيعقد بينهما تشابهاً، وتجد هذا في قول المعري: وشبيهٌ صوتُ النعيِّ إذا قيـ ... س بصوت البشير في كل نادِ أبكت تلكمُ الحمامةُ أم غَنْـ ... نَتْ على غصن دوحها الميّاد فالمعهود أن النفس ترتاع لصوت النعي، وتتفطر حزناً، وترتاح لصوت البشير، وتأنس له طرباً، ولكن الحكيم يغوص في أعماق الحوادث، وينظر إلى ما تصير إليه من العواقب، فيتراءى له أن ليس في الحياة ما يدعو إلى لذة، أو يستشير النفس إلى جزع، فتكون نغمة البشير وصيحة الناعي في أذنه سواء، ولا يرى فارقاً ما بين النواح والحداء. * حال المعنى والتخييل: قد يصوغ الشاعر المعنى لأول الخطاب في صورة خيالية، فلا يدركه إلا من صفت قريحته، ورقت حاشية ألمعيته؛ ككثير من الأشعار الواردة على

طريق المعميات والألغاز، أو من سبق إليه ما يهديه إلى المراد، ويساعده على فهمه من قرينة حال أو مقال؛ كبعض المحاورات التي يقصد فيها المتخاطبان إلى إخفاء الغرض، وكتمه عمن يصغي إلى حديثهم، أو يطلع على رسائلهم. وقد يصرح بالمعنى، ثم يدخل به في طريق التخييل، وهذا: إما أن يخرج الصريح بالتخييل، فيفصل المعنى، ويضع بإزاء كل قطعة منه صورة خيالية؛ كما قال العتابي يصف السحاب: والغيمُ كالثوب في الآفاق منتشرٌ ... من فوقه طبقٌ من تحته طبقُ تظنه مصمتاً لا فتق فيه فإن ... سالت عزاليه قلت الثوب منفتق إن معمع الرعد فيه قلت: منخرق ... أو لألأ البرق فيه قلت: محترق مثَّل الغيم الضارب في الأفق بالثوب المنشور، ثم أخذ يقرن كل حال من أحواله بما يقابلها من أحوال الثوب، فجعل إمساكه عن المطر مظنة الصحة والمتانة، وانسكاب الغيث من خلاله منبئاً بتفتقه، ومعمعة الرعد إعلاناً بانخراقه، ووميض البرق شظايا من اللهب تؤذن باحتراقه. وإما أن يستوفى المعنى بالصراحة، ثم يأتي بمثاله الخيالي متواصل الأجزاء، وهذا كقول بعضهم: رأيتكم تبدونَ للحرب عدة ... ولا يمنع الأسلابَ منكم مقاتلُ فأنتم كمثل النخل يشرع شوكه ... ولا يمنع الخرَّاف ما هو حاملُ استقصى المعنى الصريح، وهو تظاهرهم بالأهبة للحرب، وقعودهم عن قتال عدوهم، وافتكاك ما سلب من حقوقهم، ثم ضرب له المثل على نسق واحد بالنخل يشرع نصالاً مسنونة من الشوك المتأهب للذود بها عمّا يحمل

من الثمار، فيعمد الخرّاف لها، ويجتنيها بأجمعها، دون أن يناله ذلك الشوك بأذى. ومن أبدع ما جاء على هذا النمط: قول ابن رشيق القيرواني: رجوتك للأمر المهم وفي يدي ... بقايا أُمنّي النفس فيها الأمانيا وساوفت لي الأيام حتى إذا انقضت ... أواخر ما عندي قطعت رجائيا وكنت كأني نازف البئر طالباً ... لأجمامها أو يرجع الماء صافيا فلا هو أبقى ما أصاب لنفسه ... ولا هي أعطته الذي كان راجيا وإما أن يصرح لك بالمحل الذي يجعله مناطاً للحديث عنه، ثم يسوق القول كله على طريق التخييل؛ كقول بعضهم: إني داياك كالصادي رأى نهلاً ... ودونه هوة يخشى بها التلفا رأى بعينيه ماءً عزَّ موردُهُ ... وليس يملك دون الماء منصرفا فقد أراك أول الشعر أنه يريد الحديث عن حاله مع المخاطب، ثم اطَّرد في مجال التخييل الذي أفاد به أن الحاجة تحثه على القرب منه، والخطر المعترض في سبيله ينصح له بالإحجام عنه. ومن أبدع الوصف المنسوج على هذا المثال: قول شرف الدين التيفاشي: أما ترى الأرض من زلزالها عجباً ... تدعو إلى طاعة الرحمن كل تقي أضحت كوالدة خرقاء مرضعة ... أولادَها درَّ ثدي حافل غدقِ قد مهدتهم مهاداً غير مضطرب ... وأفرشتهم فراشاً غير ما قلق حتى إذا أبصرت بعض الذي كرهت ... مما يشق من الأولاد من خلق هزت بهم مهدهم شيئاً تنبههم ... ثم استشاطت وآل الطبع للخرق

أسباب جودة الخيال

فصكَّت المهد غضبي وهي لافظة ... بعضاً على بعضهم من شدة النزق * أسباب جودة الخيال: لا مشاحة أن النفوس تختلف بفطرتها في صحة الذوق وقوة التذكر، فيكون من أسباب التفاوت في جودة الخيال ما هو عائد إلى الفطرة، والغرض في هذا المقام إنما هو البحث عن الأمور التي تؤثر في جودة الخيال، وتبسط في نطاقه من خارج، ومدارها على أمرين: أحدهما: تردد النظر في مظاهر المدنيّة؛ فإن امتلاء حافظة الشاعر من المناظر المختلفة والصور التي لا تدخل تحت حصر، تجعله أغزر مادة، حتى إذا عرض له معنى اقتضى الحال إيراده في طريقة الخيال، لا يعوزه متى التفت إلى حافظته أن يلاقيه منها ما يساعده على العمل بسهولة، ثم إنه لغزارة مادته، وسعة مجاله تكون مخيلته أكثر عملاً في إنشاء المعاني وإبداعها، وكثرة العمل مما تترشح به هذه القوة النفسية، فيكون صاحبها أقدر على صناعة التخييل، وأرسخ فيها ممن كانت بضاعته مزجاة، وحافظته في إملاق. وحيث إن غزارة المادة تشاهد على كثرة العمل الذي هو الإبداع، وكثرة العمل مما يقوي النفس في صناعة التخييل، أمكن للشاعر المدني أن يفوق الشاعر البدوي أو القروي في تخييل معان اشتركوا في العلم بالعناصر التي تنتزع منها الصور الخيالية. يبلغ تأثير المدنية في تهذيب المخيلة إلى أن يكون الفرق بين عملها في حال البداوة، وعملها بعد أن يحفن صاحبها بالحضارة من كل جانب أوضح من نار على علم، فهذا علي بن الجهم الذي قال للخليفة: أنتَ كالكلبِ في حفاظِك للعهـ ... ـدِ وكالتَّيْسِ في مراعي الخطوب

هو الذي يقول: فقلن لنا نحنُ الأهلَّةُ إنما ... نضيء لمن يأوي إلينا ولا نقري بيد أنه قال البيت الأول أيام كان يسكن البادية، وقال البيت الثاني بعدما نزل بغداد، وتراصف في حافظته من الصور والمعاني ما رقّت به حاشية طبعه، وجعل قريحته تنسج من المعاني البديعة بروداً ضافية. ثانيهما: الحرية؛ إذ لا شبهة أن الاستبداد الأعمى يطبع الناس على الجبن، ويلقي في أفئدتهم رهبة تحملهم على أن يجعلوا بينهم وبين الأقوال التي تسخط لها الحكومة القاسية حاجزاً لا يدنون منه، فيضيق بذلك مجال الشاعر، وربما تنكب الخوض في الاجتماعيات؛ حذرَ الوقوع في السياسيات، ومن ذا ينكر أن الخيال الذي يسخره صاحبه في كل غرض، ويطلق له العنان في كل حلبة، يكون أبعد مرمى، وأحكم صنعاً من خيال الشاعر الذي حصرته السياسة في دائرة، ورسمت له خطة لا يفوتها، ولقد كنت أعرف أُناساً شبوا تحت سلطة تكره للأديب أن يفتح لهاته في الأحوال السياسية، فصرفوا معظم حياتهم في التردد على الغزل والمديح والرثاء، وفاضت عليهم قرائحهم في هذه الأغراض بمعان رائقة، ولما سمح الوقت بالكلام في مقاصد اجتماعية أو سياسية، وقف بهم الخيال في عقبة كؤود، أو أتوا بها في نسج واهٍ وهيئة متخاذلة. فالخيال حرٌّ في عمله، لا تملك السلطة المستبدة مردَّه، ولكنها تمنعه من أن يتجول على مراكب الألسنة والأقلام، وهذا ما يثبط الشاعر عن إطلاق خياله للعمل في أوسع مجال، ولا يرخي له العنان إلا في أغراض يسعه الحال لأن يخاطب بها الناس نطقاً أو كتابة.

فذانك سببان لأن يكون الخيال بديع الصنع في كل غرض يتوجه إليه، وهاهنا أمر آخر إذا اتفق للشاعر حال تصديه للنظم في غرض، يكون له أثر جلي في سهولة التخيل، وبعد الرمية إلى المعاني الغامضة، وهو الإحساس والتأثر. فمن الشعراء من يتكلم عن مشاهدة وتأثر نفسي؛ كأن يرى البطل يلقي بنفسه في مواقع الخطوب، أو العالم كيف يتدفق بالحكمة البالغة، أو الجواد كيف يبسط يده بالنوال، فيشعر بإعظامه، ويأخذ في مديحه وتمجيده، ويرى الجبان كيف تصفر أنامله من ذكر الحرب، أو الجاهل كيف يتمضمض باللغو أو الباطل، أو البخيل كيف يشد على الدنيا رباطاً، فيشعر في نفسه بمهانته، ويتصدى لهجائه. ويموت من يعزُّ عليه من قريب أو صديق أو أُستاذ، فيشعر بالتفجع والأسف عليه، وتتفجر قريحته برثائه، وتحل بصديقه فاجعة، فيحس بالإشفاق عليه، فيأخذ في تسليته وتهوين وقعها عليه بالعزاء الجميل، ويدخل الروضة الفيحاء، فيتمتع بمرأى أزهارها، وتلحين بلابلها، فيهب في صدره ابتهاج وأنس، ويسترسل في وصفها وذكرِ ما راقه من مشاهدها. ومن الشعراء من يسوقه إلى الشعر باعث طمع أو خوف أو حياء، ومن الجليّ أن الإحساس والتأثر مما يفتح أمام الخيال طرقاً قلمّا يبصر بها من يحمل نفسه على الشعر لمجرد الطمع أو الخوف أو الحياء، فانظر إن شئت مثلاً إلى قصيدة أبي الحسن الأنباري التي يقول في مطلعها: علوٌّ في الحياةِ وفي المماتِ ... لَحَقٌّ أنت إحدى المعجزاتِ فتجد فيها تخيلات فائقة، والذي ساعده على ذلك - فيما أحسب - أنه أنشأها عن تفجع وإعظام بالغ؛ لأنه رثى فيها الوزير ابن بقية يوم قتله عضد

الدولة مصلوباً، فَنظْمُهُ لها - وهو لا يرتجي من ورائها فائدة، بل يوجس في نفسه الخيفة من أن يناله عضد الدولة بالعقوبة عليها - يشعر أن الباعث له على إنشائها التلهف والإخلاص. ولو نظرت إلى القصائد التي يخاطب بها الشعراء الملوك تهنئة بانتصار أو فتح، وقستها بالقصائد التي يخاطبونهم بها تهنئة بعيد مثلاً، أو بمولود، أو بناء قصر، لوجدت الأولى أجود خيالاً؛ لأن انتصار الدولة ممايبذر في نفوس الأمة فرحاً، ويثير فيها عاطفة إجلال لمن جرى النصر على يده، وليست الثانية بهذه المكانة؛ إذ طلوع العيد على الأمير، وازدياد ولد له، أو تشييده لقصر لا تهتز له نفس الشاعر حتى تطير به في جو الخيال، ويقتنص ما يلذه الذوق من بدائع الأفكار، وانظر إن رمت الوثوق بهذا إلى قصيدة أبي تمام التي يهنئ فيها المعتصم بفتح عمورية: السيف أصدقُ أنباءً من الكتبِ ... في حدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللعب فإنه ذهب بمعانيها مذاهب خيالية لا تطلع له على ما يحاكيها في القصائد التي لم يستفزه لها غير ما يرجوه من النوال. وكذلك الشاعر الذي يريد أن يتبرأ من جناية تعزى إليه، أو يحاول أن يزيل ما في نفس السلطان من ضغينة أونية سيئة، فإنه يبتكر من المعاني ما لا يبتكره في القصائد التي يمدحه بها وهو مقبل عليه. ربما يخوض الشاعر في غرض إنما دعاه إليه مجاراة غيره ومباراته في مضمار البيان، فيبلغ مبلغ من انساقوا إليه عن إخساس وعاطفة نفسية، ويقع على تخيلات جيدة، ولكن أمثال هذه التخيلات تنهال على ذي التأثر النفسي بدون تعسف، حينما يحتاج الآخر إلى أن يحث إليها قريحته، ويجاذبها

بماذا يفضل التخييل؟

وهي كالمستعصية عليه. * بماذا يفضل التخييل؟ عرف مما سبق أن التخييل يدور على انتقاء مواد متفرقة في الحافظة، ثم تأليفها وإبرازها في صورة جديدة، فيرجع فضله والبراعة فيه إلى ثلاث مزايا: إحداها: أن يكون وجه المناسبة بين تلك الجواهر - أعني: المواد المؤلفة منها صورة المعنى - غامضاً، فمزية من يتخيل الكواكب أزهاراً باسمة في روضة ناضرة دون مزية من يقول: وضوءُ الشهبِ فوقَ الليل بادٍ ... كأطراف الأسنَّةِ في الدروعِ فإن المشابهة بين الكواكب والأزهار لا تغيب عن كثير من الناس، أما التشابه بين النجوم وبين أطراف الأسنة اللامعة عند نفوذها في الدروع لا يحوم عليه إلا خيال بارع. ولا فضل لمن يرى الشمعة فيحاكيها بالرمح، إذا قسته بمن ينظر إليها فيقول: كأنها عُمْرُ الفتى ... والنارُ فيها كالأجلْ فإن محاكاتها بالرمح لا تكاد تخفى على ذي بصر، وإنما الخيال الفائق هو الذي ينتقل منها إلى العمر والأجل؛ حيث يشعر بالمناسبة الدقيقة بينهما، وهو أن الأجل يدنو من الإنسان حيناً فحيناً، ويتقاضى عمره رويداً رويداً، إلى أن تتقلص عنه أشعة الحياة؛ كلهيب الفتيلة يدب في جسم الشمعة، وينتقصها قليلاً قليلاً إلى أن يأتي على آخرها، وتذهب في الجو هباء منثوراً. ثانيتها: أن يكون التخييل مبنياً على ملاحظة أمور متعددة، فالصورة التي

يراعى في تأليفها ثلاثة معان - مثلاً - تكون أرجح وزناً، وأنفس قيمة من الصورة التي تبنى على رعاية معنيين، فمن الشعراء من يصور لك الرمح شهاباً ثاقباً، فهل يحق لك أن تساويه بمن يخيله لك ورؤوس الأعداء منصوبة على طرفه بالغصن يوم يكون مكللاً بالثمار؟ كما قال ابن عمار يخاطب المعتصم صاحب "المرية": أثمرتَ رمحك من رؤوس كُماتِهم ... لما رأيتَ الغصنَ يُعشق مثمِرا يقف الناس في تصوير الحرب بمعنى الرحى عند قولهم: دارت رحى الحرب، وكان عمرو بن كلثوم أبسطهم في هذا التخييل باعاً، حيث يقول في وصف الحرب: متى ننقل إلى قومٍ رحاها ... يكونوا في اللقاء لها طحينا يكونُ ثِفالهُا شرقيَّ نجدٍ ... ولهوتُها قضاعةَ أجمعينا فالثفال: ما يُبسط تحت الرحى ليتساقط عليه الدقيق، واللهوة: القبضة من الحب تُلقى في فم الرحى لتطحنها، وقضاعة: هي القبيلة التي يهمدها هذا الشاعر بالحرب الطاحنة، وكأني به عندما حضر في نفسه معنى الحرب، انساق إليه معنى الرحى لما بينهما من التشابه المعهود، ثم تنقل نظره من الرحى إلى ما هو من خواصها، فوقع على الثفال واللهوة، ثم انقلب إلى معنى الحرب، وألقى نظره إلى ما حوله، فتراءى له ميدانها مبسوطاً كالثفال، والرجال الذين يتهافتون عليها فتتناثر رؤوسهم، وتتساقط أشلاؤهم على ذلك الميدان في صورة اللهوة، فصاغ الأبيات على هذا الوجه الذي يدل على حسن تصرفه في ضم المعاني إلى أشكالها. والأدباء الذين أروك الحصى في صورة الدر ليسوا بقليل، وإنما المزية

لمن اتسع في صورة هذا المعنى، ونظر في تركيبها إلى أمور متعددة، فقال يصف وادياً: وقانا لفحةَ الرمضاء وادٍ ... سقاه مضاعَفُ الغيثِ العميمِ نزلنا دوحَهُ فحنا علينا ... حُنُوَّ المرضعاتِ على الفطيمِ وأرشفنا على ظمأٍ زلالاً ... ألذَّ من المدامةِ للنديمِ يروع حصاه حاليةَ العذارى ... فتلمَسُ جانبَ العقدِ النظيمِ كأني بالشاعر عندما فتح جفنه على الحصى، وهي في ملاستها وصفاء منظرها، انصرف خياله إلى ما يحاكيها من الجواهر النفيسة، ثم إلى حال تناسقها في هيئة قلادة، وتذكر بهذا موقعها من الصدر، فخطرت على قلبه الفتاة، وشرع يتصور كيف تنظر إلى تلك الحصى، فيهجم على ظنها بغتة أن قلادتها انفرطت، وأن ما تراه من الحصى إنما هو اللؤلؤ الذي كان متناسقاً في نحرها قد تساقط إلى مواطئ أقدامها، فلا تتمالك أن تضرب يدها على العقد حتى تحفظ البقية من السقوط، أو لتتيقن صدق ظنها، فتسعى إلى التقاطها. ثالثتها: أن يجري الشاعر في استخلاص المعاني وتأليفها على ما يوافق الذوق السليم، فهو الحافظ لنظام المعاني؛ كما أن القواعد العربية تحفظ نظام الألفاظ، ومن الشعراء من تأخذه سنة عن هذا الشرط، فيضع المعنى الخيالي على مثال تشمئز منه النفس، كما أن ناسج الثياب من غزل اختلفت ألوانه، إذا لم يكن صاحب ذوق فائق، لم يحكم وضعها، وأخرجها في صورة تقذفها العيون. ومثال هذا: أن أبا القاسم بن فرناس أنشد الأمير محمداً أبياتاً يقول فيها:

رأيتُ أمير المؤمنين محمداً ... وفي وجههِ بِذْرُ المحبَّةِ يثمرُ فقال له مؤمن بن سعيد: قبحاً لما ارتكبته، جعلت وجه الخليفة محراثاً تثمر فيه البذور؟ فغشيه الخجل، وجعل جوابه عن هذا النقد الصائب سباباً. ووقع في مثل هذه الزلّة كثير من كبار الشعراء، فهذا أبو تمام يقول في مدح أحد الأبطال: ضاحي المحيا للهجير وللقنا ... تحت العجاج تخاله محراثا فجعل ممدوحه محراثاً، كما جعله هاذياً حين قال: لا زال يهذي بالمكارم والعُلا ... حتى ظننّا أنه محمومُ وهذا بشار بن برد يقول: وجذّتْ رقابَ الوصل أسيافُ هجرِها ... وقَدَّتْ لِرِجْلِ البين نعلين من خدي فإثبات الرقاب للوصل، والرجل للبين من التخيلات المستهجنة. قد يخطر لسائل أن يقول: إن لهؤلاء الشعراء براعة مسلمة، وأذواقاً لا نرتاب في صحتها وصفائها، وقد مرت هذه المعاني التي رميتموها بسبة السخافة على أذواقهم، فألقت إليها بالتسليم، أفلا يكون رضاهم عنها، واستحسانهم لها شاهداً ببراءتها مما تصفونها به من سماجة الوضع، ومنافرة الذوق؟ والجواب: أن القبح في هذه المعاني وما كان على شاكلتها محقق بما يجده الإنسان في نفسه من أثر النكرة لها، وعدم الأنس لسماعها، فضلاً عن شهادة فريق لا تقصر بهم سلامة الذوق والمعرفة بحرفة الأدب عن طبقة أولئك الشعراء. وهذا ابن رشيق يقول عقب إيراد البيت الأول من بيتي أبي تمام:

"فلعنة الله على المحراث هاهنا ما أقبحه وأركه! ". ولم يبق سوى النظر في عدم تنبههم لذلك القبح، وكيف خفي عنهم وجهه، وهو كاشف لثامه، حتى بلغ وضوحه في بعض الأبيات أن لا يمتاز بإدراكه الأدباء عن غيرهم. والوجه في هذا: أن البصيرة مثل البصر، والمشاهد للصورة عن عيان قد يفوته أن يحدق فيها من بعض الجهات، فلا يشعر بما فيها من عيب، فكذلك الشاعر قد يصوغ المعنى، ولا يأخذه بالنقد من جميع أطرافه، فيصدر على عوج قد يبصر به من هو أضعف بصيرة منه، والعلة في عدم تنبه الشاعر لذلك الخلل: قصر المدة فيما بين إنشاء القصيدة، وإراءتها للملأ؛ بحيث لا يتمكن من تجريد نظره إلى كل بيت، ونقد معناه من سائر وجوهه. وربما أصيب الشاعر من اعتماده على براعته ومكانة سمعته؛ إذ كثيراً ما يستفيد الشاعر من المقام والشهرة التي يدركها بين قومه، فيتلقون شعره باستحسان فوق ما يتلقون به شعر غيره ممن لم يقم لهم صيت، وإن كان في نفسه أبعد أمداً، وأحكم نسجاً، فكثرة الإجادة وسعة الذكر قد تؤثر في همة الشاعر في بعض الأحيان، فيلقي القصيدة على علاتها، ولا يحمل نفسه على التدقيق في نقدها. ومن ثمّ ترى أكثر الذين يقعون في هذه العثرات، إنما هم كبار الشعراء، والمكثرون منهم؛ كأبي تمام، والمتنبي، ومن كان في طبقتهم. ويؤكد لك أن سيئات الشعراء في هذا الصدد، إنما لصقت بهم من جهة عدم نقدهم المعنى بعد أن تقذفه القريحة نقداً وافياً، إما لضيق الوقت، أو اغتراراً بما ملكوا من البراعة، وأحرزوا من الشهرة: أن أحدهم قد ترسل قريحته معنى، فيقع منه موقع الإعجاب، حتى إذا أعاد إليه النظر مرة ثانية، انكشف له من مساويه ما يجعله في أسف على إذاعته، أو في ارتياح من عدم

التفاضل في التخييل

اطلاع الناس عليه. ومن المحتمل أن يصوغ الشاعر المعنى، فتأخذ جهة الحسن بقلبه مأخذاً بليغاً، ثم يعثر في صورته على وجه من الخلل، ولا يتمكن من تلافيه وإكمال نقصه إلا برفض الصورة من أصلها، وحيث يرى أن جهة الحسن أرجح، ويرجو أن تسبل على ذلك المغمز فضل ردائها، فلا يشعر به الناقدون، يبقي صورة المعنى على حالها، ويجيزها للرواة، وهو بصير بعلتها. ولا أخال أن النابغة حين قال: نظرتْ إليكَ لحاجةٍ لم تقضِها ... نظَرَ السقيم إلى وجوه العُوَّد لم يخدش عاطفته أن يضع المحبوبة بمنزلة السقيم، ولكنه عزّ عليه أن يضرب عن هذا التشبيه الذي لا يلحق شأوه، وإن وخز لفظ السقيم في ضميره وخزات بالغة. * التفاضل في التخييل: أتينا في الفصل الذي كنا بصدد تحريره على الوجوه التي تفضل بها صور المعاني التخييلية؛ أعني: غرابة الجامع بين الأجزاء المؤلفة، ثم التوسع في الخيال، وبعده عن البساطة، مع الالتئام بالذوق السليم، فيصح لمن انتصب للموازنة بين الشعراء في التخييل، أن يتخذ هذه الوجوه مدخلاً للحكم، وأساساً يبني عليه في التفضيل. تعقد الموازنة تارة بالنظر إلى معنى خاص يتناوله كل من الشاعرين، وهذا إما أن تتحد الواقعة فيه، أو تختلف. وتارة تجري في غرض خاص يصوره كل منهما بغير ما يصوره به الآخر، فهذه ثلاث حالات تضاف إليها حالة رابعة، وهي المفاضلة بين الشاعرين يختلفان معنى وغرضاً، وحالة

خامسة، وهي أن تقام الموازنة بين الشاعرين على أن يقضى لأحدهما بالأفضلية المطلقة. الحالة الأولى: أعني: ما تعقد فيه الموازنة بالنظر إلى معنى خاص، والواقعةُ واحدة؛ كقول أبي عبدالله بن الزين النحوي يصف بركة نثر عليها الياسمين: نثر الغلامُ الياسمينَ ببركةٍ ... مملوءةٍ من مائِها المندفقِ فكأنه نثر النجومَ بأسرها ... في يوم صحوٍ في سماءٍ أَزرقِ فإذا قسته بقول علي بن ظافر في هذه البركة نفسها: زهرُ الياسمين ينثر في الما ... ءِ أمْ الزهرُ في أديم السماء ظلَّ يحكي عقودَ دُرٍّ على صد ... رِ فتاةٍ في حُلَّةٍ زرقاءِ رأيت كلاً من الشاعرين شبه الياسمين بالنجوم بادية في السماء، وتشبيه ابن الزين في هذا الوجه أجودة لأنه ذهب به الخيال إلى تفاصيل لم يأت عليها ابن ظافر، فإذا التفتَّ إلى تشبيه ابن ظافر في البيت الثاني، رأيت خطور هيئة النجوم والسماء عند مشاهدة الياسمين يطفو فوق الماء، أقرب من خطور عقود الدر تتقلدها الفتاة المتبرجة في حلة زرقاء، فيكون تشبيه علي بن ظافر أجودة لندرة المشبه به، وقلة ابتذاله بمشاهدة كل ذي عين باصرة. ولولا أن ابن الزين أسند نثر النجوم إلى الغلام، ونبّه على كرة الياسمين بقوله: نثر النجوم بأسرها - لانتفت عنه المزية، وكان تشبيهه من التخيلات الموضوعة في طريق كل من خطر على باله أن يذهب في تصوير المعنى من باب التشبيه. ومن هذا الضرب قول ابن المنجم يصف مطلع الهلال عند غروب الشمس:

وعشاءٌ كأنما الأفق فيه ... لازوردٌ مرصَّعٌ بنضارِ قلتُ دنت لمغربها الشمـ ... ـسُ ولاحَ الهلالُ للنظّارِ أقرض الشرق صِنْوَهُ الغربَ دينا ... راً فأعطاه الرهنَ نصفَ سوارِ مع قول ابن قلاقس، ولم يطلع على ما قاله ابن المنجم: لا تظنّوا الظلامَ قد أخذ الشمـ ... ـسَ وأعطى النهارَ هذا الهلالا إنما الشرقُ أقرضَ الغربَ دينا ... راً فأعطاه رهنَه خلخالا فقد سار الشاعران في التخييل على طريق واحد، وزاد ابن المنجم على ابن قلاقس نظرة في السوار، فلم يأخذ منه إلا المقدار الذي يطابق حال الهلال، وهو الشطر، فكان تخيله أحكم وقعاً. الحالة الثانية: وهي ما تكون الواقعة فيها مختلفة؛ كقول بعضهم: خلقنا لهم في كل عينٍ وحاجبٍ ... بسمرِ القنا والبيضِ عيناً وحاجبا مع قول ابن نباتة: خرقنا بأطراف القنا في ظهورهم ... عيوناً لها وقعُ السيوفِ حواجب فقد اتفق الشاعران على تصوير المعنى، وهو تأثير السيوف والرماح في أجسام الأعداء، ولكن تصوير ابن نباتة أجود؛ لأنه يزيد على الأول بما فيه من الإيماء إلى انهزامهم وتوليهم بظهورهم حتى تصنع فيها الرماح والسيوف عيوناً وحواجب. ولا يغيب عنك أن تفضيل بيت ابن نباتة إنما يتم إذا تماثلت الواقعتان، أوكان كل من البيتين صادراًعن تخييل محض، وأما إذا قصد كل من الشاعرين وصف الواقع، وكان الأعداء المشار إليهم في البيت الأول لم ينهزموا، بل

ثبتوا للطعن في وجوههم إلى أن وقعوا في مضاجعهم، أو لم ينلهم السلاح بعد أن ولّوا مدبرين، لم يكن لك أن تفضل عليه بيت ابن نباتة من جهة التخييل، وإن أشار إلى معنى يعود إلى مدح قومه بالشجاعة والمهارة في الطعن والضرب. ومن قبيل هذا الضرب: قول عبد الرحمن الفنداقي في وصف حال الندى، وتقاطره من زهر النرجس: والندى يقطرُ من نرجسه ... كدموعٍ أسكبتهن الجفون وقول ابن زيدون في مثله: نلهو بما يستميلُ العينَ من زَهَرٍ ... جالَ الندى فيهِ حتى مالَ أعناقا كأن أعيُنَه إذ عاينتْ أرقي ... بكت لما بي فجالَ الدمعُ رقراقا ومما يفضل به هذان البيتان على بيت الفنداقي: إيماؤهما إلى سبب إرسال الأزهار للمدامع، وهو معاينتها لأرق الشاعر، وإشفاقها عليه. الحالة الثالثة: وهي ما يقصد الشاعران فيه إلى غرض واحد، ويختلفان في المعنى الذي يصورانه فيه، ومثال هذا: أن يكون الغرض وصف شخص بالندى، فيقع الاختلاف في الطريق الذي يقرر به هذا الوصف؛ كما قال بعضهم: سألتُ الندى هلْ أنتَ حرٌّ؟ فقال: لا ... ولكنَّني عبدٌ ليحيى بنِ خالدِ فقلتُ: شراءً؟ قال: لا بل وراثةً ... توارثني عن والد بعد والد وقال الآخر: ولما رأيت البحرَ في الجود آية ... ومن جوده الدرُّ الثمين المقلدُ سألته من في الناس علَّمك الندى ... فقال أمير المؤمنين محمَّد

ومثل هذا مما يرجع بالتفضيل فيه إلى القوانين السابقة، فما كان أقل خطوراً على الذاكرة، أو أوسع نطاقاً في التخييل، أو ألذ وقعاً على الذوق، فهو المشهود له بمزية الرجحان. ومن الجليّ أن تشبيه الكريم بالبحر من المعاني التي وعاها كل قلب، وتناولها كل إنسان، فصاحب البيتين الأخيرين بنى محاورته على أمر اشتهر ذكره عند الحديث في هذا الغرض، وإنما زاد عليه شيئاً من التخييل، فتكون المحاورة الأولى أبدع؛ لأنها قائمة من أول حالها على شعور غريب، فضلاً عما امتازت به من الإيماء إلى دعوى قصر الندى على الممدوح، وهذا ما يجعلها أبلغ في الدلالة على ما يرمي إليه الشاعر من غرض الوصف بالسخاء. ويدخل في هذا القسم قول عنترة: ولقد ذكرتكِ والرماحُ نواهلٌ ... منّي وبيضُ الهندِ تقطر من دمي فوددت تقبيلَ السيوفِ لأنها ... لمعت كبارقِ ثغرك المتبسمِ مع قول بعضهم: ولقد ذكرتُكِ في السفينة والردى ... مُتوقَّعٌ بتلاطم الأمواج وعلى السواحل للأعادي جولةٌ ... والليلُ مسوَدُّ الذوائبِ داجي فعلت لأصحاب السفينةِ ضجةٌ ... وأنا وذكرُكِ في أَلذِّ تناجي فغرض الشاعرين واحد، وهو أنهما ذكرا الحبيب في حال تقتضي لشدة هولها وعظم خطرها دهشة القلب، وتفرغه لانتظار الفرج، أو الاحتيال على وسيلة النجاة، وإنما يصح لنا أن ندخل للمفاضلة بين الشعرين إذا كانا من التخييل المحض، فنقول: إن شعر عنترة أبلغ؛ لأنه صوَّر ذكره للحبيب بوقوعه

في حال انتشاب الخطر به، حيث ترتوي الرماح وتقطر السيوف من دمه الذي هو مادة حياته، ثم تمنى زيادة الاتصال بالسيوف التي هي مهبط العطب، وشاقه أن يقبلها؛ لأن بريقها يخيل إليه ثغر المحبوبة حال تبسمها، وأما شاعر السفينة، فاقصى غمراته توقع الهلاك بما أحاط به من أسبابه القريبة، فمزية من تذكر الحبيب وقد أنشب به الردى مخالبه، أعظم من مزية من يتذكره وهو يبصر الخطر، ولم يبسط إليه يده، فإن كان كل من الشاعرين حكى واقعة عرضت له في حياته، فلا تفاضل بينهما إلا من جهة تأليف اللفظ وصفاء ديباجته. الحالة الرابعة: وهي ما يختلف فيه الشعران معنى وغرضاً، وعقد المفاضلة في مثل هذا النوع قلَّما يخطر على بال الأديب، ولو قصد إلى ذلك، لوجد المسلك وعراً؛ إذ من المحتمل أن يكون كل من الشعرين ورد على أبدع غاية ممكنة في المقصد الذي سيق إليه، وإن كان أحدهما أوسع نطاقاً في الخيال. فلو نظرت إلى قول بشار: كأنَّ مثارَ النَّقْع فَوْقَ رؤوسنا ... وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُه سهل عليك الدخول إلى المفاضلة بينه وبين قول ابن المعتز: وعمّ السماءَ النقعُ حتى كأنها ... دخانٌ وأطرافُ الرماحِ شَرارُ ولو عمدت إلى الموازنة بينه وبين قول أحمد بن دراج يصف حالة وداعه لزوجته وابنه الرضيع: تناشدني عهد المودةِ والهوى ... وفي المهدِ مبغومُ النداء صغيرُ عَيِيٌّ بمرجوعِ الخطابِ ولحظُهُ ... بموقع أهواءِ النفوسِ خبير

أو قول بعضهم: لئن بكيتُ دماً والعزمُ من شيمي ... على الخليط فقد يبكي الحسامُ دما لم تجد الطريق إلى التفضيل بينهما أمراً ميسوراً. وليس لك أن تعول على ابتهاج النفس واهتزازها، وتجعل تفاوته ميزاناً للتفاضل؛ لأن شدة الابتهاج لسماع الشعر قد تكون تابعة للعواطف والأهواء، فمن رقت عاطفته لولده الصغير حتى كاد قلبه يذوب لنظراته المكحولة بالتبسم، يهتز لقول أحمد بن دراج: "ولحظه بموقع أهواء النفوس خبير" بأشد مما يهتز لغيره، ومن لم يذق حلاوة العطف على البنين، وكان كلفاً بمواقع الحروب، مغرماً بالحديث عن آثارها، يلتذ ببيت بشّار أكثر من التذاذه ببيت ابن دراج وما ذكر بعدهما. فلا أنكر أن يكون بين التخيلات المختلفة في المعنى والغرض فرق جليّ، وتفاوت واسع من جهة التركيب أو الغرابة، فيبني عليه الأديب حكمه بالتفضيل، وإنما أعني: أن الأشعار المتفقة في معنى أو غرض تجد المدخل للمفاضلة بينها سهلاً؛ إذ يتبين لك التفاوت بينها في التركيب، أو الغرابة من غير إطالة نظر، وعلى فرض اتحادها في ذلك، يمكنك الرجوع إلى وقعها على حاسة الذوق، وأخذها بالروح التي يتقوم بها المراد من الكلام، وأما الأشعار المختلفة في المعنى والغرض، فيتيسر القضاء فيها متى كان التفاوت بينها جلياً، فإذا كانت في مراتب متقاربة في الغرابة والتركيب، والتمكن من روح المعنى، أو الغرض الذي أفرغ فيها، فباب المفاضلة بينهما لا يطرقه إلا الماهرون في هذه الصناعة، حيث وصلوا إلى أن هذا الشعر لم يتجاوز في الغرض الذي عبّر عنه الدرجة الوسطى مثلاً، وأن الآخر انتهى في وجهته

إلى غاية ليس وراءها مرتقى. وقد يكون مناط التخييل أمراً واحداً، ويختلف نظر الشاعرين بتوجه أحدهما إلى حال أو صفة قد أخذ نظر الآخر بغيرها، فيصير التخييل بهذا من قبيل التخييل في أمرين مختلفين في خفاء التفاضل بينهما، وهذا كما قال الوزير أبو فارس يصف النهر من جهة منظره: فنضنضَ ما بين الغروس كأنه ... وقد رقرقت حصباؤه حيةٌ رقطا وقال أبو القاسم الأبرش يصفه من جهة خريره: وأنَّ النهرَ يشكو من حصاه ... جراحاتٍ كما أنَّ الجريحُ وقد يجيد أحد شاعرين من جهة الغرابة، ويجيد الآخر من حيث التركيب؛ كقول الصنوبري يصف الشمعة: كأنها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل مع قول الأرجاني يصفها أيضاً: تنفست نفس المهجورِ إذ ذكرت ... عهدَ الخليطِ فبات الوجدُ يذكيها فإن تشبيه الشمعة حين تدب فيها النار، وتتناقص شيئاً فشيئاً إلى أن تذهب في الجو هباء منثوراً بعمر الفتى حين ينقضي ساعة فساعة إلى أن يلتقي الأجل بآخر نفس منه فيعود إلى الفناء- تشبيه أدق وأخفى من تشبيهها بصب ذكر عهد الخليط، فقدحت الذكرى في مهجته وجداً بات يحترق بلوعته الملتهبة، ولكن هذا التشبيه أوسع، نطاقاً وأحلى مساقاً. وربما فاق أحدهما من جهة الغرابة، وفاقه الآخر من جهة المطابقة لحال المعنى؛ كقول ابن الخطيب يصف ليلة:

رعشت كواكبُ جوها فكأنها ... وَرِقٌ تُقَلّبُها بَنانُ شحيح وقول عنترة: أراعي نجومَ الليلِ وهي كأنها ... قواريرُ فيها زئبقٌ يترجرجُ فتشبيه ابن الخطيب أدق وأخفى، وتشبيه عنترة أشد مطابقة لحال النجوم. الحالة الخامسة: وهي ما يجري فيه تفضيل أحد الشاعرين على آخر بإطلاق، وهذا لا يستقيم إلا ممن أتى على معظم شعرهما، حتى عرف الذي يستوفي في تخيلاته شرائط الجودة أكثر من غيره، ولا سيما إذا اهتدى للمقايسة بينهما في كثير من المعاني أو الأغراض التي يتفقان في نظمها. ومن الخطأ الحكم بتفوق شاعر على غيره لمجرد تخييل بديع يتفق له في بيت أو أبيات، فربما ترجح شاعر في معنى مرة، وفاقه غيره في معان أخرى، فلا يصح لك متى وقفت على قول ابن زمرك يصف البرق: وجرَّد من غمد الغمامةِ صارماً ... من البرق مصقولَ الصفيحةِ صافيا ورأيته متوغلاً في الخيال أكثر من قول ابن الخطيب: لك اللهُ من برق كأن وميضَه ... يد الساهرِ المقرورِ قد قَدحتْ زندا أن تقضي بتفضيل ابن زمرك على ابن الخطيب؛ إذ قد يكون لابن الخطيب تخيلات أخرى أدرك فيها شأواً لم يلحق ابن زمرك غباره، بل تجد له في هذا المعنى نفسه تخييلاً سبق فيه إلى الغاية القصوى، وهو قوله: وميض رأى برد الغمامة مغفلاً ... فمد يداً بالتبرأ علمت البردا ومما يصدك أن تكتفي في تفضيل الشاعر بإجادته في البيت أو الأبيات: أنك ترى حازماً الأندلسي قد فاق ابن هانئ في وصف التقاء الصبح بآخر

الليل، حيث يقول الأول: كأن بياضَ الصبحِ معصمُ غادةٍ ... جنت يدها أزهارَ زهرِ الدجى لقطا ويقول الثاني: كأن عمودَ الصبح خاقانُ عسكر ... من الترك نادى بالنجاشي فاستخفى وترى ابن هانئ يقول في وصف الثريا: وولَّت نجومٌ للثريا كأنها ... خواتيمُ تبدو في بَنان يدٍ تخفى ففاق حازماً حين قال: كأن الثريا كاعبٌ أزمعت نوى ... وأمَّت بأقصى الغربِ منزلة شحطا وقد لوحنا فيما سلف إلى بعض الأسباب التي تقوم للشاعر، فيفضل في بعض المعاني أو الأغراض من هو كفؤاً له، أو أرسخ منه قدماً؛ كالتفاوت في قوة الباعث على النظم، فمن يخاطب إنساناً وقد ماجت مهجته بعواطف وده الخالص، وأضرمت النوى في فؤاده شوقاً إليه، يقع على دفائن من المعاني يقف دونها من يخاطبه تقصياً من ملامة، أو تعرضاً لمسألة ليست بذات بال، ويضاف إلى هذا: أن أحد الشعراء قد يمتاز بمعرفة العناصر التي يؤلف منها المعنى، كما امتاز البارودي عن بعض أدباء عصره بمشاهدة الكهرباءوإشراقها في أجرام كروية، فقال يصف الثريا: وكأنها أكرٌ توقَّد نورها ... بالكهرباءةِ في سماوةِ مصنعِ وقد يستوي الشاعران في الاطلاع على العناصر البسيطة، ولكن أحدهما يشاهدها مؤلفة في صورة لم يشهدها الآخر، فيساعده استحضار تلك الهيئة على انتزاع معنى لا يخطر على بال غيره، فصفوان بن إدريس الأندلسي عاش

في قطر يرى فيه المقلة الزرقاء تلوح عليها حمرة الرمد، فقال يصف الورد مفتحاً على شاطئ الخليج: والورد في شطِّ الخليج كأنه ... رمدٌ أَلَمَّ بمقلةِ زرقاء ومن الشعراء من لم يأخذ في حافظته صورة المقلة الزرقاء وعليها مسحة من الرمد، كمن نشأ في ناحية الجنوب، وإنما رأى المقلة الرمداء، ولون الزرقة ينفرد أحدهما عن الآخر. وانظر إلى ابن الرومي- حين قال بعض اللائمين: لم لا تشبه تشابيه ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ ثم قص عليه تشبيهه للهلال بزورق من فضة وعليه حمولة من عنبر، وتشبيه الآذريون بمداهن من ذهب فيها بقايا غالية- قال ابن الرومي: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ذلك إنما يصف ماعون بيته؛ لأنه ابن خليفة، وأنا أي شيء أصف؟ ولكن انظروا إذا أنا وصفت ما أعرف أين يقع قولي من الناس. وقد يتفق الشاعران في معرفة العناصر والهيئة المؤلفة، ويكون أحدهما أشد علقة بها، وكثر تردداً عليها، فيكون خطورها على قريحته أكثر من خطورها على قريحة من شاهدها مرة أو مرتين. كنت رأيت مرة الآلة المصورة، وعرفت كيف ترسم الصورة في زجاجاتها، ولم يسنح لي أن أستمد منها معنى خيالياً حتى نزل بجواري في بعض البلاد أحد المولعين بها، وتكررت ملاحظتي لها، فريثما جال في خاطري معنى الخطأ في فهم الحقيقة، هجمت على صورة الآلة والزجاجة، فقلت: عذرتك إذ صوَّرت في نفسك الهدى ... ضلالاً وصورتَ الضلال رشادا فإن زجاجات المصوِّر تقلب الـ ... ـسوادَ بياضاً والبياضَ سوادا قد يستمد الشاعر من غيره تخييلاً يضيف إليه ما يوسع في نطاقه،

ولهذا ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون الأصل من المعاني النادرة، والزيادة تساويه في غرابتها، أو تنقص عنه، وهنا لا يكون صاحب الزيادة أرجح ممن أنشأ أصل المعنى قطعاً؛ إذ من المحتمل أن تنبهه لهذه الزيادة، وإدراجه لها في صورة المعنى إنما تيسر له من تلقيه لذلك الأصل الذي أقامه له الشاعر الأول؛ بحيث لا يكون في قريحته فضل قوة على تحصيل هذا الأساس بنفسه، ومثال هذا قول علي الكوفي يصف النجوم: كأن التي حول المجرَّة أوردت ... لتكرع في ماء هناك صبيب وقول البارودي يصفها أيضاً: وكأنهاحول المجرِّ حمائمٌ ... بيضٌ عكفن على جوانب مشرعِ فلم يزد البارودي عما خيل إليك الكوفي، سوى أن جعل تلك النجوم الواردة حمائم بيضاً. ومن هذا القبيل قول المعتمد بن عباد يصف نهراً في روض: ولربما سلَّت لنا من مائها ... سيفاً وكان عن النواظر مغمدا وقول أبي القاسم البخاري: والنهر شقَّ بساطَ الروضِ تحسبه ... سيفاً ولكنه في السِلْمِ مشهورُ فهذا البيت أخذ في ضمنه معنى البيت الأول، وإنما زاد عليه بأن السيف مجرد في حال السلم. ثانيها: أن يكون المعنى الأصلي غريباً، وتكون الزيادة أدلّ منه على البراعة، ويصح لك في هذا الحال أن تقضي بفضل الثاني؛ إذ في يدك ما ينهض

بالحجة على أن في قريحته قوة تمكنها من إنشاء الصورة من أصلها. ومثال هذا قول الخفاجي: كأن الدجى لما تولت نجومه ... مدبِّرُ حرب قد هَزَمْنَ له صفّا وقول البارودي يصف الليل أيضاً: متوشِّحٌ بالنيرات كباسلٍ ... من نسل حامٍ باللجين مدرعِ حسب النجوم تخلفت عن أمره ... فوحى لهن من الهلالِ بأصبعِ فإن كان البارودي قد تنبه إلى تشبيه الليل بأمير حرب من بيت الخفاجي، فقد زاد عليه ماهو أغرب منه؛ أعني: ظنه أن النجوم تخلفت عن أمره، ثم إشارته إليها بأصبع من الهلال. ثالثها: أن يكون الأصل من المعاني التي تتناولها القرائح لأول لفتة؛ إذ أصبحت مبذولة ابتذال تمثيلك جميل الطلعة بالقمر، والمقدام بالأسد، ويسوغ لك بدون شبهة أن تعد التخييل فيما يرجح به وزن صاحب الزيادة البديعة، فالذين شبهوا الزهر بالدراهم كثير، ولكن ابن زمرك أضاف إلى ذلك أن جعل النسيم جابياً لها، فقال: كأنما الزهر في حافاتها سحراً ... دراهم والنسيم اللَّدْنُ يَجيبها ومن المتداول تشبيه الأقاح بالثغور، وقد بنى عليه ابن رشيق أن جعل الشمس ترشف منه ريق الغوادي، فقال: باكر إلى اللذات واركب لها ... سوابقَ اللهوِ ذوات المزاحِ من قبل أن ترشف شمسُ الضحى ... ريقَ الغوادي من ثغورِ الأقاحِ ومن المعهود تشبيه الليل بالغراب، فتناوله عبد الرحمن الفنداقي

الأندلسي، ورفعه في الحسن درجات، فقال: وانبرى جنحُ الدجى عن صبحهِ ... كغرابٍ طار عن بَيضٍ كَنين وقد يذهب الشاعران إلى محاكاة أمر، فيحاكيه أحدهما ناظراً إليه بانفراده، ويحاكيه الآخر ناظراً إليه في حال اقترانه بأمور أُخرى، فلا يحق لك متى قايست بينهما، ورأيت الأول أحكم، أن تقضي لصاحبه بالرجحان؛ إذ قد تكون محاكاة الثاني إنما جاءتها الجودة من ملاحظة ما اتصل به من المعاني، ولولا هذه المقارنة، لم يقدم صاحبه على هذه المحاكاة. ربما تسمع أن أبا جعفر الأندلسي خيل أصوات الحمام في الصباح بالخصام، فيبدو لك أن تشبيهها بالغناء أو النواح أقرب إلى الجودة، وأشد مطابقة لحالها، ولكنك إذا وقفت على قوله: فالصبحُ قد ذبح الظلامَ بنصله ... فغدت تخاصمه الحمائمُ فيه أدركت جودة التخييل التي أحرزها بما انضم إليه من تمهيد سبب الخصام، وهو اعتداء الصبح على الظلام، وقتله بالنصل ذبحاً. يعدون في تخيلات (فكتور هيغو) تشبيهه الموج بالغنم، فإذا قيل لك: إن الشاعر العربي معروف الرصافي قد شبهه بالرجال، حسبت أنه وقع التشبيه إلى الحضيض، حتى إذا قرأت قوله يصف قصر البحر في بيروت: كأن الموجَ في الدأما رجالٌ ... وهذا القصر بينهم خطيبُ تخاطبهم مبانيه فيعلو ... من الأمواجِ تصفيقٌ رحيب تيقنت أن الرجل قد ذهب في التخييل البديع إلى الدرجة القصوى. فتشبيه الموج بالغنم هو أحكم من تشبيهه بالرجال متى نظرت إليه مستقلاً،

الغرض من التخييل

ولكنك إذا راعيت ما انضم إليه من تشبيه القصر القائم على ضفة البحر بالخطيب، وتلاطم الأمواج بالتصفيق، لم يكن في وقوعه على ذوقك أقل تأثير من تشبيهه بالغنم السائمة. * الغرض من التخييل: عادة النفس الارتياح للأمر تشاهده في زي غير الذي تعهده به، والتخييل يأتيها من هذا الطريق، فيعرض عليها المعاني في لباس جديد، ويجليها في مظهر غير مألوف. فللتخييل فائدة عامة لا تتخلى عنه، وهي تحريك نفس السامع لتلقي المعنى بارتياح له، وإقبال عليه، ولو كان من قبيل الحديث المألوف أو المعلوم بالبداهة. وانظر إن رمت الثقة بهذا إلى قول الشاعر: أخذنا بأطرافِ الأحاديثِ بيننا ... وسالت بأعناقِ المطي الأباطحُ فالمعنى الذي صيغ البيت لتأديته لا يتعدى قولك: أخذنا نتناوب الحديث، والإبل تسير مسرعة في الأباطح. وهذا كما رأيته معنى مبذول، وحديث لا يختص به عابر سبيل دون آخر، ولولا أن الشاعر أورده في هذه الصورة التي خيلت إليك بطاحاً تتدفق بسيل من أعناق المطايا، لم ينل عندك هذا الموقع من الحظوة والاستحسان. قد يكون للمعنى في ذاته وجه يدعو نفس السامع إلى النفور عنه، وصناعة التخييل تبقي له أثراً لذيذاً في النفس، فتأتيها اللذة من ناحية غير الناحية التي يجيءُ منها النفور، فلو سمع أشياع ابن بقية قول عمارة اليمني شامتاً به وهو مصلوب: ونكَّسَ رأسه لعتاب قلبٍ ... دعاه إلى الغواية والضلالِ

لوجدوا لهذا البيت في أنفسهم ألماً بليغاً يدخل عليها من جهة القدح في كرامة رجل امتلأت صدورهم بإجلاله، وهذا الألم لا يمنع من أن يبقى للبيت في نفوسهم أثر لذة تسري إليها من جهة التخييل، وإن كانوا لها كارهين. ومما قلت في بعض الخواطر: "قد يهذب السياسي حاشية ظلمه، فيكون كالبيت البليغ يؤثر في نفس من يهجى به لذة وألماً". قد يبدو لك أن هذه الفائدة العامة إنما تتحقق فيما إذا كان المعنى معروفاً للسامع من قبل التخييل؛ كوصف حال القمر والكواكب والبرق والسحاب والرياض والأنهار، والمقلة والثغر والقلم والدواة، أو حال الرجل من كرم وشجاعة وعلم وغيرها من الخصال؛ إذ يصح أن يقال: إن التخييل قد عرض على السامع هذه المعاني في صور حديثة. وأما الوقائع والأحوال المجهولة، فلم يعرفوا لها صورة من قبل، حتى تعد الصورة الخيالية جديدة، وتحدث في النفس لذة زائدة عن لذة العلم بأصل المعنى. والجواب: أن المعنى الذي تتلقاه من الشاعر دون أن تسبق لك معرفة به، قد يلقيه إليك بوجه صريح، ثم يدخل به في الخيال، كما هي في الطريقة الشائعة في التشبيه والتمثيل، وعد التخييل في هذا صورة جديدة بالنسبة إلى الصورة التي نقشها التصريح أولاً مما لا تعتريك فيه شبهة. وقد يلقيه لأول الخطاب في صورة خيالية، وهذا مما يصح عده في الصور المستجدة؛ إذ للمعاني صور أصلية، وهي التي ترتسم في النفس لأول ما تدرك المعنى بمشاهدة أو وجدان، فالنفس تشعر حال تلقيها للصورة الخيالية أن للمعنى الذي تحمله تلك الصورة صورة أخرى، هي الصورة البسيطة التي يعبر عنها بالقول الصريح.

ولعلك تقول بعد هذا: إن صور المعاني تختلف ما اختلفت العبارات، سواء كانت تصريحية، أو تخييلية، فالصورة التي يعطيها قولك: "زيد يكتب " غير الصورة التي يفصح عنها قولك: "زيد يخط بالقلم على القرطاس "، وكل منهما صريح لا مدخل فيه للخيال، وإذا كان التخييل يلذ للنفس من جهة أنه يكسو المعنى لباساً جديداً، فيمكن لنا أن نصوغ للمعنى عبارة صريحة غير التي يعرفها المخاطب، فيأخذ بها صورة جديدة، ولا يفوز التخييل بهذه الفائدة ويختص بها دون التصريح. والجواب: أن الصور التي تنشأ من العبارات الصريحة - وإن تفاوتت في مواقع البلاغة، واختلفت بالإيجاز والإطناب - لا تعد كما تعد الصورة الخيالية غريبة عن المعنى المراد، ألا ترى أنك تعرض المعنى الواحد في صور خيالية متعددة، والشعر واحد، فيجد السامع عند كل صورة داعية لذة، ولو ألقيت المعنى في عبارة صريحة، ثم بدا لك أن تخرجه في عبارة أخرى تشاكلها في الصراحة، والمخاطب واحد، لقيت في نفس المخاطب سآمة؛ لأنك لم توافها بصورة غريبة تخيل بها أنك تعبر عن معنى غير ما ألقيته عليها أولاً. فلا أنكر أن الصور في العبارات الصريحة تتفاوت بحسب اختلاف العبارات في كيفية تأليفها، ومقدار ما تشتمل عليه من المعاني الزائدة عن أصل المراد، وأن هذا الاختلاف هو الذي يجعلها متفاضلة في مقامات البلاغة، وإنما أذهب إلى أن تلك الصور - وإن أحكمت نسقها، وأضفت إليها من المعاني ما يرتفع به شأنها - لا تهيج في نفس السامع هزة الطرب التي تثيرها العبارات الخيالية. فالعبارات الخيالية تشارك العبارات الصريحة في جودة نسجها، واشتمالها

على المعاني التي ترتقي بها في مدارج البلاغة، وتزيد عليها بإراءتك المعنى في صورة بديعة، تتعشقها النفس، وتهتز لوقعها طرباً. ثم إن التخييل لا يخلو في أكثر أحواله من صوغ المعنى في صورة ما، تكون معرفة المخاطب له أقوى، وفهمه إليه أسرع، وهذا مما يجعل أنس النفس أوفر، وارتياحها له أكمل. ولا أحسبك تقع من هذا الوجه في شبهة، أو تقف في حيرة، حين ترى الوجه السابق يقتضي أن لذة التخييل جاءت من غرابة الصورة، وهذا يقتضي أن انبساط النفس لها جاء من جهة إلفها، وكثرة التردد عليها؛ فإن غرابتها بالنظر إلى المعنى المراد لا تنافي أن تكون معرفتها بهيئاتها أو عناصرها أجلى لدى المخاطب في ذاتها، فالشاعر الذي يقول: كأن شعاع الشمسِ في كلِّ غدوةٍ ... على ورقِ الأشجار أوَّلَ طالعِ دنانيرُ في كفِّ الأشلِّ يضمُّها لقبضٍ ... فتهوي من فروجِ الأصابع قد خيل إليك حال تدفق الأشعة وقت الغداة، وتجليها على الأوراق بصبغتها الصفراء في صورة دنانير يضم عليها الأشل يده ليقبض عليها، فتنساب من بين أصابعه متساقطة إلى الأرض، وهذه الصورة بالنظر إلى مساق الحديث - وهو حال الأشعة - غريبة، ولكنها في نفسها جلية؛ إذ السامع للبيتين - وإن لم يشاهد من قبلهما دنانير تتناثر من يد الأشل -، فإن المواد المؤلفة منها الصورة كالدنانير ويد المرتعش من أوضح معلوماته. وللتخييل بعد هذا أغراض خاصة يرمي إليها الأدباء، ويتفاوتون في التمكن منها، ولا يسع هذا المقال سوى أن نلم بمهماتها، فنقول: قد يقصد الشاعر من التخييل:

- تقوية الداعية إلى الأخذ بالشيء؛ حيث يصوره بصورة ما لا يستغنى عنه؛ كما قال بشار: فلا تجعلِ الشورى عليكَ غضاضةً ... فإن الخوافي قوةٌ للقوادمِ ضرب المثل للشورى في تثبيت الرأي، وإقامته على وجه السداد بالخوافي من الجوانح؛ حيث تساعد القوادم على الطيران، وهذا التمثيل يلقي في نفس السامع أنه محتاج إلى الشورى حاجة القوادم إلى الخوافي، ويؤكد داعيته إلى العمل على سنتها. - أو الحث على الثبات والصبر على الأمر حيث يخرجه في مثال ما لا يمكن بطبيعة هذه الحياة الخلاص منه، كما قال بشار أيضاً: إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبُهْ فعشْ واحداً أوصلْ أخاك فإنه ... مقارفُ ذنبٍ مرةً ومجانبُهْ إذا أنت لم تشربْ مراراً على القذى ... ظمئت وأيُّ الناس تصفو مشاربُهْ فالأبيات مسوقة في الإرشاد إلى تحمل ما يصدر عن الإخوان من جفاء أو هفوة، فضرب لهم المثل بالمشارب؛ حيث لا مندوحة للإنسان عن ورودها، وهي لا تصفو له سائر حياته، بل يصادفها في بعض الأحيان كاشفة له عن وجه كالح، وماء كدر، ولا يسعه في حال الظمأ إلا الشرب منها، وإغضاء الجفن عن أقذائها، فهذا التمثيل يريك أنك لا تستطيع أن تعيش مستقلاً عن الإخوان، وأن ليس في طبيعتهم أن يسيروا في مرضاتك بحيث لا تلاقي منهم طول حياتك إلا ما يلائم طبيعتك، ويوافق بغيتك، ومقتضى هذا: أن تشد يدك بُعرا صحبتهم، وتغضي عما يعرض لهم في بعض الأوقات من جفاء، أو يزلون فيه من عثرات.

- أو التحذير مما يرغب فيه؛ كما قال أبو نواس: إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشفت ... له عن عدوٍّ في ثياب صديق لو ذهب إلى ذم الدنيا صراحة، وهي حلوة خضرة، لم يأخذه السامع بمأخذ التسليم، وأنكر أن يكون في لذيذ المذاق جميلِ المنظر ما يجب الحذر منه، فعدل إلى إخراج الذم في مثال يريه كيف يتزيّي الشر بزي الخير، ويظهر المؤذي في بهجة ما يعد نافعاً. - أو تخفيف الرغبة فيه، وتقليل الاهتمام به؛ كما قال المعري: وإن كان في لبس الفتى شرفٌ له ... فما السيف إلا غِمدُه والحمائلُ فمن تمثلت له الملابس بمنزلة الغمد والحمائل من السيف، لم يطمح بنظره إلى تنميقها، أو يجهد سعيه في اتخاذها من النسيج الفاخر، وإنما يصرف همته إلى ما تسمو به النفس من علم وفضيلة، كما أن البطل لا يعبأ بالغمد والحمائل، وإنما يقبل على السيف، فينفق سعه في إجادة صنعه، وإرهاف حده. - أو التسلية؛ كقول صاحبنا الأمير شكيب يسلي البارودي وهو في المنفى: إن يحجبوك فما ضرَّ النجومَ دجى ... ولا زرى السيفَ يوماً طيُّ أغماد لابأس إن طال نجز السعدموعده ... فأعذب الماء شرباً في فم الصادي أراد أن ينفث في نفس مراسله كلمة تحل منها عقدة الضجر، وتطرد عنها غيم الوحشة، فذكَّره بأن ما جرى عليه من التغريب والإخفاء عن أعين من ألفوه وألفهم، قد ابتليت بمثله الكواكب، فلم يمسها بنقيصة، ومنيت به

السيوف، فلم يضع من قيمتها فتيلاً. ورام بعد هذا تخفيف ما عساه أن يساور قلبه من لوعة الحنين إلى الوطن، والهم بما طال عليه من الأمد، فأقام له مثالاً من حال الماء حيث يكون مذاقه في فم من بعد عهده به- وهو الظمآن- ألذ وأشهى. ومما صنعت في غرض التسلية: بثثت شعاع علمك في نفوس ... تسوق إليك ما اسطاعت حتوفا كذا الأقمار تكسو الأرض نوراً ... ولولا الأرض ما لقيت خسوفا - أو إزالة ما يخالط النفس من النفور عن الأمر، أو عده عيباً؛ كما قال الفرزدق: تفاريقُ شيبٍ في الشبابِ لوامعٌ ... وما حسن ليل ليس فيه نجوم ضرب المثل للشعر الأسود تتخلله شعرات من الشيب، بحال ليل داج تتألق في سمائه الكواكب؛ ليخيل أن الشيب مما يحدث في الخلقة حسناً، ويزيدها بهجة، حتى يضع الأنس به مكان التجافي عنه. ومن هذا القبيل قول قابوس: ياذا الذي بصروف الدهر عيَّرنا ... هل عاندَ الدهرُ إلا من له خطرُ أما ترى البحر تطفو فوقه جيفٌ ... وتستقرُّ بأقصى قعره الدررُ وفي السماء نجومٌ لا عداد لها ... وليس يكسف إلا الشمسُ والقمرُ - أو الدلالة على أن الذي تحكي عنه صفة قد بلغ فيها غاية قصوى، لتستدعي له في نفس المخاطب إجلالاً، أو إشفاقاً، أو تحقيراً له، أو جفاء عنه، ويرجع إلى هذا الغرض كثير من التخيلات الواردة على طريق المبالغة

في المديح والفخر والاعتذار والهجاء والوشاية، وأمثلتها كثيرة الدوران في كتب الأدب والبيان. وقد يكون المعنى مما لم تتداوله الأفكار، وليس من البعيد أن يلاقيه المخاطب بالتعجب الذي هو مطية الإنكار، ليجيء التخييل عقب هذا لإزالة التعجب منه، وبيان أن وقوعه داخل في حوزة الإمكان، وهذا كما يقول أبو تمام الأندلسي: لا يفخر السيفُ والأقلامُ في يده ... قد صار قطعُ سيوفِ الهند للقصبِ فإن يكن أصلها لم يقو قوتها ... فإن في الخمر معنى ليس في العنبِ ادعى في البيت الأول أن القطع الذي عهدت به السيوف قد انتقل إلى الأقلام التي تهزها يد ممدوحه، فلم يبق للسيوف خصلة تفاخر بها، وليست هذه الدعوى من الجلاء بحيث تفتح لها النفوس باب القبول بسرعة، وأول ما يطعن فيها: أن الأقلام مشتقة من القصب، وهي أوهن من العصا، دع السيف ومضاءه، فاحتاج إلى تأييدها بما يدفع الشبهة، ويحشرها في زمرة الأقوال المسلَّمة، فضرب لها المثل في البيت الثاني بالخمر التي هي عصارة العنب، وقد امتازت عن بقية العصيربإطفاء نور العقل، وإطلاق اللسان يخبط في فلاة الهذر خبط عشواء، فصارت بهذه الخاصية حقيقة قائمة بنفسها، ومالكة لقوة لم تكن في جنسها. وقد يكون المعنى مما تألفه العقول، ولا يتشبث به في سياقه ما يجر السامع إلى ارتياب، أو يحمله على إنكار، وإنما يقصد الشاعر إلى إيراده في مثال أوضح، حتى يقع من نفوس السامعين في قرار مكين، ومثال هذا: قول سيف الدين بن المشد:

إن ترقًّى إلى المعالي أولو الفضـ ... ـل وساخت تحت الثرى السفهاءُ فحباب المدام يعلو على الكأ ... سِ محلاً وترسبُ الأقذاء فارتفاع الفضلاء إلى المراتب العالية، وهبوط أهل السفه إلى ما تحت الثرى ليس في نفسه بأمر يتعجب منه، أو يتلقي بإنكار، فمحاكاته بارتفاع الحباب على وجه الكأس، ونزول الأقذاء إلى أسفله، إنما كانت مؤكدة له، ومفصحة عن مناسبته للحكمة، وانطباق على سنة الله الجارية، بارتفاع العناصر النقية، ورسوب الأجرام المتعفنة. ومما صغت على هذا النمط: لايألفُ العزُّ شعباً لجَّ في وسن ... من الخلاعة لامسعى ولا أملا كالدرِّ يزهو على صدر الفتاة وإن ... دبَّ النعاسُ إلى أجفانها اعتزلا ومن الدواعي إلى التخييل: تخصيص بعض السامعين أو القارئين بفهم المعنى، إما لفضل ألمعيته، أو لأن في يده من القرائن المساعدة له على الفهم ما ليس في يد غيره، فلو حاورك إنسان في أمة من الناس أقاموا على فريق من أموالهم رقباء، فأردت أن تذكر له أن أولئك الرقباء لم يحرسوها بعين الأمانة حتى تناولها قوم ملؤوا منها حقائبهم، ونثروها في سبيل شهواتهم، فكتبت إليه على مثال ما كنت قلت: يا رياضاً خانَها الحراسُ إذْ ... غرقت أحداقُهم في وسنِ سرقت ريح الصبا منك شذى ... طاب وانسابت به في الدمن لم يستطع فهم ما أردت من الكلام إلا من دارت بينك ويينه تلك المحاورة. وقد يذهب الشاعر إلى التخييل لقصد التهكم؛ كما قال المعري يتهكم بمن يحكي أن أول من شاب إبراهيم - عليه السلام -:

أطوار الخيال

ما أقبح المين قلتم لم يشب أحد ... حتى أتى الشيب إبراهيم عن أَمَمِ كذبتم ونجوم الليل شاهدة ... أن المشيب قديماً حلَّ في الأُمَمِ فكأَنه يقول: هذه الرواية الملفقة ليست أهلاً لأن تقابل بغير هذا الرد القائم على الخيال. ويقرب من تخييل نجوم الليل بالمشيب قولُ أحمد بن دراج القسطلي يصف المجرة: وقد خيلت طرق المجرَّةِ أنها ... على مفرقِ الليل البهيم قتيرُ وربما لا يجد الشاعر داعياً إلى مسلك التخييل بعد بسط النفس، سوى التنبيه على ما بين المعاني من المناسبات الخفية، أو مجاراة البلغاء، وإقامة الشاهد على الحذق في هذه الصناعة، ومما يرمي إلى أحد هذين الغرضين: ما يتعلق به الأدباء في وصف بعض المناظر الفطرية؛ كالكواكب، والحدائق، أو الصناعية؛ كالشمعة، والسفينة. * أطوار الخيال: كان العرب في الجاهلية يعيشون في مواطن لا يشهدون فيها غير مناظر فطرية؛ كالكواكب، وبعض النبات والحيوان، أو مرافق حيوية، ووسائل حربية؛ كالرحى، والجفنة، والرمح، والحسام، ولصفاء قرائحهم، وسلامة أذواقهم أضافوا إلى هذه الحقائق ما يخطر على ضمائرهم، ويدركونه بحاسة وجدانهم من المعاني التي لا تنالها الحواس الظاهرة؛ كالغضب، والرضاء، والبغض، والمحبة، ونسجوا على مثال التخيل صوراً بديعة. وإن رأى المدني اليوم أن معظم تلك الصور من التخيلات القريبة،

فعذرهم في ذلك: أنهم لم ينفذوا في مسالك الفلسفة، ولم يعودوا أنفسهم التنقيب عن المعاني الغامضة، وإنما كانوا ينطقون بالشعر على البداهة، فمن وقفت له على معنى رائع؛ كقول النابغة يخاطب النعمان بن المنذر: وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسعُ فقد لفظته قريحته عفواً، وانساق إليها بدون إجهاد نظر، ومن ثم كانت أمثال هذا التخيل الجيد نادرة في أشعارهم، ولو كانوا ممن يذهب في صوغ المعاني إلى إزعاج الفكر، وحثّه على استخراجها من مغاصها العميق، كما يفعل المولدون، لظفرنا له بنظائر لا تحصى، ثم إن فن التخيل كسائر الملكات والصنائع، إنما يترقى شيئاً فشيئاً، ويتكامل يوماً فيوماً، فتطلع لزهير ابن أبي سلمى مثلاً على تخيلات لا تظفر بها في أشعار من تقدموه بأمد بعيد، فالعهد الذي يعبر فيه هذا الشاعر عن معنى أن من لم يجب إلى الأمر الصغير يقع تحت وطأة الأمر الكبير بقوله: ومن يعصِ أَطرافَ الزَّجاج فإنه ... يطيع العوالي ركِّبت كلَّ لهذمِ لا يصح أن يكون من أوائل العصور التي ظهر فيها التخيل الشعري، فهذه الغاية من حسن البيان لا يدركها الناس بفطرتهم إلا بعد أن يتقلبوا في سبيلها أطواراً، ويقضون في السير إليها أحقاباً، كما أن ابن سفر الأندلسي لو نشأ في البيئة والعصر اللذين نشأ فيهما زهير، لم يسهل عليه أن يصف نهر إشبيلية الذي يصعد فيه الماء مسافة بعيدة، ثم يحسر بقوله: شقَّ النسيمُ عليه جيبَ قميصه ... فانساب من شطيه يطلبُ ثاره فتضاحكت وُرْق الحمام بدوحها ... هزءاً فضمَّ من الحياءِ رداءه

ثم بزغت شمس الإسلام، وكان من أساليب القرآن في الدعوة أن ضرب الأمثال الرائعة، وصاغ التشابيه الرائقة، والاستعارات الفائقة، والكنايات اللطيفة، ويضاف إلى هذا: ما كان ينطق به الرسول - عليه الصلاة والسلام - من الأقوال الطافحة بالأمثال والاستعارات والكنايات، التي لم تخطر على قلب عربي قبله، فكان مطلع الإسلام مما زاد البلغاء خبرة بتصريف المعاني، وترقى بهم إلى منزلة سامية في صناعة التخييل. أخذ الخيال يتقدم بخطوات أوسع مما كان يسير به في الجاهلية، ولكن الأدباء إلى أواخر عهد الدولة الأموية، لم يبعدوا عن طرقه المعهودة، ويغيروا أساليبه تغييراً يشعر به كل أحد. فلو قال قائل: إن عبدالله بن الدمينة، أو عمر ابن أبي ربيعة، أو جميل، أوكثير، شاعر جاهلي، لم يكن لك أن تدخل إلى مغالبته وإبطال دعواه بإقامة الحجة من مناهج تخيلاتهم؛ كأن تجلب له من أشعارهم أمثلة ينكشف بها جلياً أنهم ساروا في التخيل على نمط لم ينسج عليه الجاهلية، ولكنك إذا نظرت في مجموعة الشعر الجاهلي، ثم وازنته بمجموعة الشعر الإسلامي، تيقنت أن الخيال قد بعد شأوه، واتسع نطاقه؛ لأنك تقف على تصرفات كثيرة من تشابيه مبتكرة، واستعارات لم يحم عليها شعراء الجاهلية، وإن كانت مفرغة في قوالبهم، مرسومة على خططهم. ثم ظهر في أوائل عهد الدولة العباسية مثل بشار، وأبي العتاهية، وأبي نواس، وعبد السلام الملقب بديك الجن، فأصبحت مسافة الفرق بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي واضحة لكل من له أدنى بصيرة، فلو ادعى مدع أن ديك الجن شاعر جاهلي، أو من شعراء صدر الإسلام، لكفاك في إفحامه أن تتلو عليه نبذة من شعره الذي أوغل فيه إلى حد يبدو عليه أثر التصنع؛

كالبيت الذي أعجب به أبو نواس، وقال له عندما اجتاز بحمص: إنك قد فتنت به أهل العراق، أعني قوله يصف الخمر: مورَّدةٌ من كفِّ ظبي كأنما ... تناولها من خدِّه فأدارها وجاء بعد هؤلاء ابن المعتز، وابن الرومي، ومسلم بن الوليد، وأبو تمام، وقد استحكمت عرا المدنية، وتجلت لهم الحضارة في أجلى مظاهرها، فكانوا أكثر ممن تقدمهم تفنناً في صناعة التشبيه والاستعارة، وما يلحق بها من تصرفات الخيال؛ كالتورية، والمقابلة، وحسن التخلص من غرض إلى آخر. وهذا لا يمنعك أن تقضي للسابقين بأنهم أقوى عارضة، وأدرى بصناعة الشعر من ناحية سبك الألفاظ، ومتانة بنائها. وبعد أن عني الناس بالنظر في شؤون الكون، وسلكوا في البحث عن أسراره طريقاً فلسفياً، أخذ الخيال الشعري يعمل في الحقائق الفلسفية، ويجري وراء الفكر كالمسعف له في تصوير تلك المعاني الغامضة؛ كما تراه في مثل قصيدة ابن سينا في النفس المفتتحة بقوله: هبطت إليك من المحل الأرفعِ ... ورقاءُ ذاتُ تعزُّزٍ وتمنعِ وقصيدة المعري المفتتحة بقوله: غيرُ مجدٍ في ملتي واعتقادي ... نَوْحُ باكٍ ولاترنُّمُ شادِ وقول أبي بكر بن الطفيل يصف حال الروح والجسد: نورٌ تردد في طين إلى أجلٍ ... فانحاز علواً وخلىّ الطين للكفن ياشدَ ما افترقا من بعدما اجتمعا ... أظنها هدنةً كانت على دَخَنِ إن لم يكن في رضا الله اجتماعُهما ... فيالها صفقةً تمت على غبنِ

وفي هذه الصبغة خرج كثير من أشعار الصوفية؛ كما تراه فيما ينسب إلى الشيخ ابن عربي، وابن الفارض. وقام بإزاء هذه النزعة الفلسفية: أن الشعراء عندما اتسعت دائرة العلوم الإسلامية، ونقلت العلوم النظرية إلى العربية، مدَّ بعضهم يده إلى قضايا هذه العلوم واصطلاحاتها، فخلط بها الصور الخيالية؛ كقول أبي تمام: خرقاءُ يلعب بالعقول حبابُها ... كتلاعب الأفعال بالأسماء وقول ابن جابر يمدح الرسول الأعظم - صلوات الله عليه -: أضفت إلى رحماك نفسي فأصبحت ... ذنوبي كالتنوين تستوجب الحذفا وقول الشاعر حيص بيص: لا تضع من عظيم قدر وإن ... كنت المشار إليه بالتعظيم ولع الخمر بالعقول رمى الخمـ ... ـر بتنجيسها وبالتحريم وقول ابن الخطيب: ونقطةُ قلبٍ أصبحت منشأ الهوى ... وعن نقطةٍ موهومةٍ ينشأ الخطُّ وقول أبي علي المهندس: كأن فؤادي مركز وهمُ له ... محيطٌ وأهوائي لديه خطوط وكذلك كانوا يقتبسون من سائر العلوم، حتى راق لكثير من المتأخرين أن يجعلوا قصائدهم كنموذج يلوح به إلى علوم شتى، ومن أثر ممارستهم للعلوم النظرية: إيراد التشابيه في أساليب منطقية؛ كقول بعضهم: لو لم يكن أقحواناً ثَغْرُ مبسمها ... ما كان يزداد طيباً ساعةَ السحر

خاتمة

ترقى التخيل يوم دخل الشعر في طور التصنع، ولكن التصنع هو الذي جر إلى استعارات مكروهة، وتشابيه سمجة أيضاً، فقد اقتحم أبو نواس، وأبو تمام، والمتنبي، ومن بعدهم في هذا الصدد مساوي لم يرتكبها العرب زمن جاهليتهم، فالعربي الصميم - وإن كان معظم تخيلاته ساذجة- لا يعالج قريحته ليستنبط لك منها مثل قول أبي نواس: بخَّ صوت المال مما ... منك يشكو ويصيح أو قوله: ما لرِجْلِ المال أضحت ... تشتكي منك الكلالا وتمادى الشعر ما بين تخيل فطري، وتخيل فلسفي، وتخيل علمي إلى هذه الأعصر، وإن كان النوع الأول هو الغالب في النظم، والمألوف في التخاطب؛ لأن التخيلين الفلسفي والعلمي إنما يليقان بكلام يوجه به إلى الخاصة من الناس، وأما التخيل الفطري، فيصلح لخطاب الخاصة والجمهور. ثم إن الضرب الفلسفي لم يكن تطوراً في نفس التخييل، وإنما هو تطور لحقه من جهة دخوله في منزع جديد؛ أعني: الخوض في حقائق وسنن كونية على طريق النظر العميق. * خاتمة: من فنون التخييل: عقد محاورة، أو إنشاء قصة يسوقها الشاعر لمغزى سياسي، أو أخلاقي، أو لغرض التفكه والإطراف بملح الحديث. ويدخل في هذا الضرب كثير من أشعار الغزل التي يخترع فيها الشاعر محاورات بينه وبين الحبيب والطيف والعاذل والواشي والراحلة والأطلال، بل الغزل التقليدي، وهو ما لا يكون صادراًعن عاطفة عشق خاصة، كلُّه معدود في هذا القبيل،

وهذا الفن هو الذي يعنيه بعض المستشرقين من أُدباء أوربا حيث يرمون الشعر العربي بقلة الحظ، وقصر الخطا في مضمار الخيال، وقد تعلق به أُدباؤنا في منثور كلامهم؛ كمقامات الهمذاني والحريري وغيرهما، ولكن الشعراء لم يحتفلوا به فيما سلف كما احتفل به غيرهم من شعراء أُوربا؛ إذْ أفرغوا معظم شعرهم في الروايات التمثيلية، والقصص الموضوعة على لسان حالة إنسان أو حيوان أو جماد. ومن الأمثلة المضروبة لهذا النوع من كلام العرب: قول بعضهم: قد زارني طيفُ من أهوى، فقلت له: ... كيف اهتديتَ وجنحُ الليلِ مسدولُ فقال: آنستُ ناراً من جوانِحكم ... يضيءُ منها لدى السارينَ قنديلُ فقلت: نار الهوى معنى وليس لها ... نورٌ يضيءُ فماذا القول مقبول فقال: نسبتنا في الأمر واحدة ... أنا الخيال، ونارُ الشوقِ تخييلُ هذا ما طاوعني عليه القلم من التحرير في فن لا يجيد الغوص في أغواره، ويأتي عليه من أطرافه، إلا من بات فكره في صفاء، وضميره في ارتياح، وإني لجدبر بإغضاء الناظر عن قصور أعثر في أذياله؛ فإني أرسلت نظري، وهززت قلمي إلى هذه المقالات يوم وضعت رحلي ما بين وادي النيل والأهرام. ولسان حالي ينشد متمثلاً: إلى الله أشكو بالمدينة حاجةً ... وبالشامِ أُخرى كيفَ يلتقيانِ والحمد الله الذي أنعم فوفّى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

الشعر البديع في نظر الأدباء

الشعر البديع في نظر الأدباء (¬1) * حقيقة الشعر: كلام العرب إما نثر: مرسَل، أو سجع. وإما شعر، وهو كلام موزون مقفّى. وقال بعض الباحثين في حقيقة الشعر: إن الشعر كلام موزون لا يتوقف معناه على نثر يتصل به، فإن كان لا يظهر معنى موزون إلا أن ينضم إليه ما يتصل به من النثر، فليس الموزون بشعر. فما كتبه الكاتب الذي أمره بعض الأمراء أن يكتب إلى عامل بإنذار ووعيد موجز، فكتب إليه: "أما بعد: فإن لأمير المؤمنين أناة، فإن لم تغن، عقب بعدها وعيداً، فإن لم يغن، أغنت عزائمه، والسلام ". فمن هذا الخطاب يتكون بيت، وهو: أناةٌ فإن لم تغن عَقَّب بعدها ... وعيداً فإن لم يغن أغنتْ عزائمُه فلا يسمى هذا البيت شعراً؛ لأن معناه يتوقف على ما قبله من النثر، وهو قوله: "فإن لأمير المؤمنين أناة". فالألفاظ الموزونة في القرآن لا تسمى شعراً؛ حيث إن معناها يتوقف على ما يتصل بها من التنزيل. ¬

_ (¬1) بحث الإمام المنشور في "مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة" الجزء الحادي عشر لعام 1959 م.

الشعر عند البلغاء

* الشعر عند البلغاء: وإنما يعتد البلغاء بالموزون إذا كان حسن التأليف، بارع التخيل، غريب المعاني؛ بحيث لا تحضر في ذهن كل ناظم، وتكون واردة في الغرض الذي سيقت إليه مورداً مقبولاً. وعلى قدر حسن السبك، وبراعة التخيل، وغرابة المعاني، وورودها في الغرض الذي سيقت إليه مورداً سائغاً، يرتفع الشعر في مرتبة البلاغة. والذي يكون مجرداً من هذه الغايات لا يسمى عند الأدباء شعراً، كما قال بعضهم: إذا كنتَ لا تدري سوى الوزن وحده ... فقلْ: أنا وزّانٌ ولست (¬1) بشاعرِ ويشترط بعض البلغاء في الموزون: أن يكون مطابقاً للواقع. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: وإنما الشعر عقلُ المرءِ يعرضهُ ... على البريةِ إن كيْساً وإن حمقا وإنَّ أشعر بيتٍ أنت قائُلهُ ... بيتٌ يقال إذا أنشدته: صَدَقا وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أشعرُ شعرائكم زهير، فإنه لا يعاظل بين الكلام، ولا يتتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما يكون في الرجال". وقال عمر بن عبد العزيز، لما دخل عليه جرير ليهنئه بالخلافة: "اتق الله يا جرير، ولا تقل إلا حقاً". ويدخل في قبيل بلاغة الكلام: المجاز العقلي واللغوي، مفرداً أو مركباً، والتشبيه والاستعارة والكناية والتعريض، ومستتبعات التراكيب، ¬

_ (¬1) رواية "نفحات الأزهار"، مبحث: التهذيب والتأديب: وما أنا بشاعر.

وهي الوجوه التي يحسن بالمتكلم أن يراعيها عند الكلام، كما يستعمل في المتحدث عنه الموصول لدلالة الصلة على مدحه أو ذمه، ووجود هذه المعاني في الكلام هو الذي به ارتفاع شأنه، ولا يخرج به عن دائرة الصدق، وقد سلك القرآن والحديث بذلك مسلكاً بديعاً. وهذا الشعر الوعر طرريقه، الصعب مركبه. وأشار إليه من يقول: الشعر صعبٌ وطويلٌ سلَّمُهْ ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمُهْ زلَّت به إلى الحضيض قدمُه ... يريد أن يُعربَه فيعجِمُه ومما يعده البلغاء من محاسن البيان: حسن التعليل، وهو أن يذكر المتكلم للأمر علة خيالية غير العلة الحقيقية المعروفة؛ كقول الشاعر في رثاء المصلوب: ولما ضاق بطنُ الأرضِ عن أن ... يضمَّ علاكَ من بعدِ الوفاةِ أصاروا الجوَّ قبرك واستعاضوا ... عن الأكفانِ ثوبَ السافياتِ فإن العلة في قتله مصلوباً هي إرادة الانتقام منه، لا أنهم راعوا أن بطن الأرض لا يضم علاه بعد الوفاة. وكقول بعضهم مترجماً عن الفارسية: لو لم تكن نيةُ الجوزاءِ خدمته ... لما رأيت عليها عِقْدَ منتطق فإن انتطاق الجوزاء ثابت قبل وجود الممدوح. والقول الفصل الذي يقصد به تقرير الحقائق؛ كالقرآن، والحديث النبوي لا يوجد فيه هذا النوع من حسن التعليل، وإنما البلغاء أجازوه، بل عدّوه من محاسن البديع، فإنه قريب من الاستعارة؛ حيث لا يستعمل إلا إذا كانت

الحقيقة معروفة عند السامعين. والذي لا يجوز باتفاق الأدباء: الكذب المحض؛ كقول أبي نواس: وأخفتَ أهلَ الشِّرْكِ حتى إنه ... لتخافك النطفُ التي لم تُخلقِ ويقال: إن العتبي قال لأبي نواس: "ألا تخاف الله فتقول: وأخفت أهل الشرك؟ " إلى آخره. فقال أبو نواس: وأنت تقول: ولم تزل دائماً تسعى بلطفك بي ... حتى اختلست حياتي من يَدَيْ أجلي فقال له: إنك تعلم أن هذا غير ذاك. والواقع أنهما يتحدان في الكذب. ويرتفع شعر الشاعر في مراتب البلاغة إذا كانت فطرة الشاعر سليمة، وعاشر شاعراً قديراً؛ كالحطيئة، وأبي تمام، وبشار بن برد. واطلاع الإنسان على دواوين الشعراء يقوم مقام هذه الوسيلة، واطِّلاعه على ما يجري في عصره من معاني الحضارة. قيل لابن الرومي: لم لا تشبِّه كتشابيه ابن المعتز، وأنت أشعر منه؟. وذكروا له بعض تشابيه ابن المعتز، فقال: ذلك يصف ماعون بيته؛ لأنه ابن خليفة. فانظروا إذا وصفت ما أعرفه أين يقع من الناس!! وأن يعرف أدب لغة أخرى؛ فقد يكون فيها من التخييل والمعاني الغريبة ما لا يكون في اللغة العربية، وقد قدمنا قول الشاعر: لو لم تكن نية الجوزاء خدمته ... لما رأيت عليها عقد منتطق مترجماً من الفارسية. وحدثني صديق لي: أن أحد التونسيين الذين لهم ولوع بالأدب العربي والأدب الفرنسي قال: وجدت في الأدب الفرنسي بيتاً من الشعر لم أجد معناه

إدراك الشعراء لبراعة الشعر

في الأدب العربي. ومعنى البيت الفرنسي: أنه رآها تكسر الجوز بأسنانها. فقال الشاعر الفرنسي: ما رأيت خشباً يكسر بالدرر إلا اليوم. فقلت له: يقرب من هذا قول الحريري: ولاح ليلٌ على صبحٍ أقلهما ... غصن وضرَّستِ البلّور بالدررِ وترجم إلى اللغة العربية من اللغة الفارسية معان متعددة؛ كقول الشاعر: قالوا إذا جَمَلٌ حانت منيتُه ... يطوف (¬1) بالبئر حتى يهلك الجملُ وذكر الشهاب الخفاجي في "طراز المجالس " أبياتاً نقلها من ديوان الطغرائي، ثم قال: هذا نظم لما في بعض الكتب الفارسية، ومنها: أن بعض الأشجار رأت فأساً ملقاة في الرياض، فقالت: ما تفعل هذه هنا؟ فأجاب بعضها: بأنها لا تضر إلا إذا دخل فيها عود منا. وهذا المثل ينطبق على حالنا مع المستعمر، فإنه لا يصل إلى أغراضه إلا بافراد لنا منا؛ كما دلت عليه المشاهدات. * إدراك الشعراء لبراعة الشعر: ومن دلائل براعة الشعر: تداول الرواة له، وتناقل ألسنة أهل الفضل إياه. ومنها: قصد الشعراء له بالمعارضة والتشطير؛ كما عارض الأصم السّراي أبي تمام: السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتبِ ... في حدِّه الحدُّ بين الجدِ واللعبِ بقصيدة يمدح فيها عبد المؤمن بن علي يقول في طالعها: ¬

_ (¬1) في "طراز المجالس": أطاف.

ما للعدا جُنَّةٌ أوقى من الهربِ ... أينَ المفرُّ وخيلُ اللهِ في الطلبِ كما عارض نجم الدين يونس بن محمد المصري قصيدة الحصري القيرواني التي يقول في مطلعها: يا ليلُ الصبُّ متى غدُهُ ... أقيامُ الساعة موعده؟ بقصيدته التي يقول في طالعها: قد ملَّ مريضَكَ عُوّدُه ... ورثى لأسيرِكَ حسَّدُه وعارضها الشاعر شوقي بقصيدة يقول في مطلعها: مُضناك جفاه مرقدُه ... وبكاه ورحَّم عُوّدُهُ وكما صدر الشيخ قبادو التونسي وشطر القصيدة التي مطلعها: أفاطمُ لو شهدتِ ببطن خَبْتٍ ... وقد لاقى الهزبرُ أخاك بِشْرا وهو الذي فتح باب الشعر العصري في تونس إذ يقول في بعض قصائده: ومن لم يجس خبر أوربا وملكها ... ولم يتغلغل في المصانعِ فهمُه فذلك في كنِّ البلاهةِ داجنٌ ... وفي مضجعِ العاداتِ يلهيه حُلْمُه واقترح المنصور بن أبي عامر على شاعره أحمد بن دراج أن يعارض قصيدة أبي نواس التي يقول فيها: "أجارة بيتينا أبوك غيور" إلخ. فعارضها بقصيدة يقول فيها: أَلمْ تعلمي أن الثواءَ هو الثوى ... وأن بيوتَ العاجزين قبورُ وقال فيها يصف ابنه الصغير عند رحيله: تناشدني عهدَ المودة والهوى ... وفي المهدِ مبغومُ النداءِ صغير

عَييٌّ بمرجوعِ الخطابِ ولحظُهُ ... بموقع أهواء النفوسِ خبيرُ ومما يدل على براعة الشعر: تعدد من يدعيه؛ بأن يقول شاعر القصيدة، فينسبها بعض الأدباء لنفسه؛ لينال فخر نظمه لها، وقد ذم ابن الرومي بعض من يأخذ شعر غيره، وينسبه إلى نفسه. وتشكى السريُّ الرفّاء بأديبين في قصيدة بعث بها إلى المفضل الضبي. ومما يدل على بلاغة الشعر: اتخاذه مثلاً يضرب لمن حصل له معناه؛ كقول عبد العزيز بن نباتة السعدي: ومن لم يمتْ بالسيفِ مات بغيره ... تعددت الأسبابُ والموتُ واحدُ أو من حصل له ما يماثل معناه؛ كقول المتنبي: لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابةَ إلا من يعانيها وقول أبي نواس: لا أذود الطير عن شجرٍ ... قد بلوْتُ المرَّ مِنْ ثمره وهذا مثل يضربه من ناله مكروه من رجل يجرعه غصص الأذية مرة بعد أخرى. ومن طرق التنبه على براعة الشعر: قول الأدباء: من كمال الظرف في الإنسان: أن يحفظ قصيدة فلان، أو شعر فلان، كما قال الأدباء: من كمال الظرف: أن يحفظ الإنسان قصيدة ابن زريق التي يقول في طالعها: لا تعذليه فإن العذْلَ يولِعُهُ ... قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه إلى أن يقول: أعطيت ملكاً فلم أحسن سياسته ... كذاك من لا يسوس الملك يخلعه

العلماء والشعر

وقال أدباء الأندلس: من كمال الظرف: أن يحفظ الإنسان شعر ابن زيدون. ومن هذا القبيل: قصيدة أبي القاسم عامر بن هشام التي يسميها أهل الأندلس: "كنز الأدب"، والقصيدة يذكر فيها متنزهات قرطبة، وفيها حكم بليغة. يقول في طالعها: يا هبة باكرت من نحو دارينِ ... وافت إليّ على بُعد تحييني إلى أن يقول: وأنكدُ الناس عيشاً من تكون له ... نَفْسُ الملوك وحالاتُ المساكين * العلماء والشعر: وتبرأ بعض العلماء من الشعر، ورأى أنه يزري بالعلماء، فقال: ولولا الشعرُ بالعلماء يُزري ... لكنت اليومَ أَشعرَ من لَبيدِ ولكن الشعر في ذاته لا يزري بالعلماء، بل هو فن من فنون أدب اللغة، فمن تعلق به، فقد ضم إلى أدبه أدباً. والشعر الذي يزري بالعلماء هو الشعر الذي يُقبل عليه الجاهلون، ويدعوهم إلى ما فيه خيبة وخسر، والذي يتيه بصاحبه في كل ناحية من الباطل، ومن يقول صاحبه مالا يصدر منه. وهو المشار إليه بقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء 224 - 226]. فمن الشعراء من يقول غير الحق؛ كقول بعضهم: ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا ... فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا وقول الآخر:

ومن لا يَظْلِم الناسَ يُظْلَمِ وحتى بلغ ابن الرومي أن مدحَ الحقد، فقال: وما الحقدُ إلا توأمُ الشكرِ في الفتى ... وبعضُ المزايا (¬1) ينتسبن إلى بعضِ فحيث ترى حقداً على ذي إساءة فثمَّ ... ترى شكراً على واسع (¬2) القرض فالحقد عند علماء الأخلاق خلق ذميم، وإنما يجوز للإنسان أن يمسك الإساءة في قلبه بقدر ما تستقيم به السيرة، أو تعتدل به السياسة. ولعل هذا هو مراد ابن الرومي بالحقد. وفي الشعر خصلة أخرى تزري بالعلماء؛ أعني: اكتساب الرزق به، وهو قادر على الاكتساب بغيره من الحرف اللائقة، وهجاء من لا يجازيهم على مدحهم، حتى قال ابن الجزّار: كان فضلي على الكلاب ومذ صر ... ت أديباً رجوتُ فضلَ الكلابِ فمراده من الكلاب في الشطرة الثانية: اللؤماء من الناس. ومن العلماء من يجمع بين العلم والأدب؛ كالقاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي الذي قال فيه أبو العلاء المعري: والمالكي ابن نصر زار في سفر ... بلادنا فحمدنا النأي والسفرا إذا تفقه أحيا مالكاً جدلاً ... وينشر الملكَ الضليِّلَ إن شعرا ومن شعر القاضي عبد الوهاب قوله: ¬

_ (¬1) رواية الديوان: السجايا. (¬2) رواية الديوان: حسن.

متى تصل العطاش إلى ارتواء ... إذا استقت البحارُ من الركايا (¬1) ومن يثني الأصاغرَ عن مرادٍ ... وقد جلس الأكابرُ في الزوايا وكالقاضي أحمد بن عمر الأرجاني؛ فقد كان فقيهاً أديباً، وهو يقول: اقرنْ برأيك رأيَ غيرِك واستشرْ ... فالحقُّ لا يخفى على الإثنينِ المرءُ مراَةٌ تُريه وجَهه ... ويرى قفاه بجمع مِرْآتين ومثل القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني؛ فقد كان فقيهاً أديباً، وهو القائل: يقولون لي: فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما يقولون: هذامورد. قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما وقد يولع العالم الكبير بالشعر البارع؛ كما فعل تقي الدين بن دقيق العيد عالم الإسكندرية لمّا بلغته قصيدة ابن خميس الشاعر التلمساني الذي يقول في طالعها: عجباً لها أيذوق طعمَ وصالِها ... من ليس يأملُ أن يمرَّ ببالها فقام لها، وجعل يكررها المرة بعد الأخرى، ووضعها بمكان قريب منه إعجاباً بها. وهؤلاء ينظرون إلى قول علي بن الجهم: وما أنا ممن سار بالشعر ذكره ... ولكنَّ أشعاري يسيِّرها ذكري وكثير من فحول الشعراء يفتتحون قصائدهم في المديح بالغزل؛ لتنبسط ¬

_ (¬1) الركايا: مفردها الرَّكِيَّة، وهي البئر ذات الماء. "المعجم المدرسي".

نفس الممدوح أولاً، وتقبل على سماع المديح بارتياح. وقد أشار أبو الطيب المتنبي إلى هذه العادة بقوله: إذاكان مدحٌ فالنسيبُ المقدَّمُ ... أكلُّ فصيح قال شعراً متيَّمُ؟ لَحُبُّ ابن عبدالله أولى فإنه به ... يبدأ الذكر الجميل ويختم وأنكر عليهم تطويل الغزل في قصائد المديح عمرو بن العلاء، فقال: "يا معشر الشعراء! عجباً لكم! إن أحدكم يأتينا فيمدحنا بقصيدة يتنسب فيها، ولا يبلغنا حتى تذهب لذاذة مرحه، ورونق مدحه". ومن كبار الأدباء من ينتقل من الغزل إلى المديح، ولا يراعي مناسبة خاصة. ومنهم من يراعي مناسبة خاصة بين الغزل والمديح، ويسميه علماء البديع: حسن التخلص؛ كقول أبي تمام: أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا؟ ... فقلت: كلا، ولكن مطلع الجود وقد أقبل المحدَثون على حسن التخلص، فأتوا بتخلصات بديعة، ومعان مبتكرة، وكتبُ الأدب حافلة بذلك، منها: قول القاضي الشيخ ابن عاشور يمدح الصادق صاحب تونس، أذكر منها: ..................... ولاح لها من كاذب الفجر ما يبدو فقلت لها: مهلاً، وبالصادق ابشري ... فقالت: أجل. إن الأمير هو القصدُ والذي يدرك الشعر البارع: الأدباء؛ لأنهم يمارسون الأدب، ويعرفون التخيل الجيد، والمعاني الغريبة، وارتباط بعضها ببعض، ويصحبون من قضى زمناً مديداً في نظم الشعر، فقد كان الشاعر كثير راوية جميل، وكان جميل راوية هدبة، وكان هدبة راوية الحطيئة، وكان الحطيئة راوية زهير وابنه كعب،

براعة الشعر عند الخلفاء

وكان ابن العميل راوية الشاعر مسلم بن الوليد، والبحتري تعلم الشعر من أبي تمام، ومهار الديلمي أخذ عن الشريف الرضي، وكان خلف الأحمر من الكوفيين يضع على ألسنة الشعراء شعراً، وكل شعر يشبه شعر الذي يضعه على لسانه، وكان حماد الراوية يعرف شعر القدماء والمحدَثين، وقال: لا ينشدني أحد شعراً قديماً أو حديثاً إلا ميزت بينهما. روي أن الخليفة المهدي عقد مجلساً عاماً، وكان بالحضرة بشار بن برد، فدخل أبو العتاهية، وهنأ المهدي بالخلافة بقصيدته التي يقول فيها: ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها ولولم تطعه بنات القلوب ... لما قبل الله أعمالها فالتفت بشار إلى شاعر بجانبه، وقال له: هل طار الخليفة من فراشه؟ يعني: طرب للأبيات. وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: اتفقت مع عباس بن الأحنف على أنه إذا سمع شعراً بليغاً، أطرفني به، وأنا أفعل ذلك. فجاءني يوماً، وأنشد أبيات ابن الدمينة التي يقول فيها: أإنْ هتفت ورقاءُ في رونقِ الضحى ... على فَنَنٍ غضِّ النباتِ من الرندِ وقد ترنح طرباً من حسنها. وكان بعض الأدباء كثيراً ما يعجب بقول شوقي: وللحرية الحمراء باب ... بكل يد مضرجة يُدَقُّ * براعة الشعر عند الخلفاء: وقد يدرك الخلفاء والملوك والوزراء براعة الشعر؛ لكثرة من ورد عليهم

من الشعراء، فيعرفون من يأتي بالمعنى الغريب، ومن يتخيل التخيل الرائع. ويروى: أن الرشيد قال ليزيد بن مزيد: أتعرف من يقول فيك: تراه في الأمن في درعٍ مضاعفة ... لا يأمن الدهرَ أن يأتي على عجلِ قال: لا يا أمير المؤمنين، لا أعرف قائله. فقال الرشيد: قد بلغ هذا الشعر أمير المؤمنين، فرواه وأجازه، وأنت لا تعرف قائله؟! وقائله هو مسلم بن الوليد. وقد يكون الخليفة أو الملك أو الوزير هو الذي يدرك بلاغة القصيدة؛ لكثرة ورود الشعراء لمجلسه، وتقريبه لهم؛ لنشر مفاخره ومآثره بين الناس، وإن لم يكن الشعر في مدحه. روي: أن هشام بن عبد الملك قال لأهله وولده: ليقل كل واحد منكم أحسن ما سمع من شعر، فواحد يذكر شعر امرئ القيس، وآخر يذكر شعر الأعشى، وآخر يذكر شعر طرفة، وأكثروا حتى أتوا على محاسنهم. فقال لهم: أشعرهم - والله - الذي يقول: وذي رحم قلَّمت أظفارَ ضِغنه ... بحلميَ عنه وهو ليس له حلمُ وذكر الأبيات، وهي لمعن بن أوس المزني، وأعجب بها؛ لسلاسة لفظها، ودلالتها على خلق قلما نجد من يتصف به. ويقال: إن الرشيد قال لمروان بن أبي حفصة: أنشدني مرثيتك في معن ابن زائدة، فأنشده إياها، فتأثر الرشيد وأجازه. وكذلك يروى: أن الوزير جعفر البرمكي قال لمروان بن أبي حفصة: أنشدني مرثيتك في معن بن زائدة، فأنشده إياها، فتأثر من نظمها البليغ,

وأجازه عن مرثية قيلت في معن بن زائدة. وقتل عضد الدولة الوزير ابن بقية مصلوباً، ورثاه ابن الأنباري بقصيدته التي يقول في طالعها: علوٌ في الحياة وفي المماتِ ... لحقٌ أنت إحدى المعجزات وهرب من وجه عضد الدولة، ولما انتهت القصيدة إلى عضد الدولة، أمَّن الشاعرَ، وتمنى أن يكون هو المصلوب دون ابن بقية، وقيلت فيه هذه القصيدة. ولما أنشد ابن الأنباري هذه القصيدة بمجلس الصاحب بن عباد، ووصل إلى قوله: فلم أر قبلَ جذعك قبلُ جذعاً ... تمكن من عناق المكرمات قام الصاحب بن عباد، وقبَّله؛ لشدة إعجابه بالبيت. وكان سيف الدولة يعجب من قول أبي تمام: من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا وينشده كثيراً. وهذا ما دعا أبا علي الفارسي أن يذكر البيت في كتاب "الإيضاح "، مع أنه ليس من عادته الاستشهاد بمثل قول أبي تمام السابق. وإعجاب الخلفاء والملوك والوجهاء بالقصائد التي يمدحون بها قد يكون من بلاغة الشعر، ويزيدهم طرباً أن يكون في ذكر مفاخرهم؛ كما ذكر أن مروان بن أبي حفصة أنشد بين يدي المهدي قصيدته التي يقول في طالعها: طرقتك زائرةٌ فحيِّ خيالَها ... حسناء تخلط بالجمال دلالها فأنصت له المهدي، ولم يزل يزحف كلما سمع شيئاً منها، حتى صار

على البساط؛ إعجاباً بما سمع. ودخل أبو الفضل محمد بن شرف على المعتصم بالأندلس، ومدحه بقصيدته التي يقول فيها: مطل الليلُ بوعد الفلق ... وتشكّى النجمُ طول الأرقِ هربت ريح الصبا مسك الدجا ... فاستفاد الروض طيب العبق فطرب المعتصم للقصيدة، وقضى له كل مطالبه، وهو (أي: أبو الفضل) صاحب القصيدة التي يقول فيها: لم يبق للجور في أيامهم أثر ... غير الذي في عيون الغيد من حور ودخل ابن جناح على المعتضد بن عباد في اليوم الذي أعده للشعراء، وكان الشعراء لا يعرفونه، ويظنونه لا يجيد الشعر، فاتفقوا على تقديمه، فأنشده قصيدته الفائقة التي يقول في مطلعها: قطَّعتَ يا يوم النوى أكبادي ... ونفيتَ عن عيني لذيذَ رقادي فلما انتهى منها، قال له: قد وليتك رياسة الشعراء، ولم يسمع من غيره في ذلك اليوم. وهذه القصيدة يقول فيها: إن القريضَ لكاسدٌ في أرضنا ... وله هنا سوقٌ بغيركساد ودخل إبراهيم بن هرمة على المنصور، وأنشده قصيدته التي يقول فيها: له لحظاتٌ في خفايا سريرِه ... إذا كرها فيها عقاب ونائل فرفع الحجاب له وأقبل عليه. وروي: أن عبد المؤمن بن علي مدحه أبو العباس التيفاشي بقصيدته التي قال في أولها:

ما هزَّ عطفيه بين البيضِ والأَسَلِ ... مثلُ الخليفة عبد المؤمن بنِ علي فأشار عليه أن يقتصر على هذا البيت؛ لأنه يغني عن بقية القصيدة. ومدح عبد الرحمن الفنداقي الخليفة إدريس بن يحى بقصيدته التي يقول فيها: أَلِبَرْقٍ لائح من أندرين ... ذرفت عيناك بالماء المعين؟ ويقول: ومصابيحُ الدجى قد طفئت ... في بقايامن سواد الليل جون وكأن الطلَّ مسكٌ في الدجى ... وكأن الطل درٌّ في الغصون والندى يقطر من نرجسه ... كدموع أسكبتهن العيون فرفع الخليفة الحجاب بينهما من شدة طربه بالقصيدة. وقد يتفق الأدباء في فهم بلاغة البيت، ولكن ينظر كل واحد منهم إلى ناحية من المعنى، فيجعلها بالوجه الذي كان به البيت بليغاً؛ كما روي أن الشاعر أبا الحسن البقال سمع قصيدة إبراهيم الصولي، فاستحسنها، ولما وصل إلى قوله فيها: رأى خلَّتي من حيث يخفى مكانهُا ... فكانت قذى عينيه حتى تجلَّتِ كرره استحساناً له. وكان بمرأى منه أبو الفرج الحسين الأصفهاني صاحب كتاب "الأغاني "، فأرسل إليه يقول له: أسرفت في استحسان هذا البيت، فأين موقع الصنعة فيه؟ فقال: قوله: "فكانت قذى عينيه حتى تجلت "، فقال صاحب "الأغاني " للرسول: قل له أخطأت، فالصنعة في قوله: "من حيث يخفى مكانها".

آثار الشعر

وقال ياقوت في "معجم الأدباء": وقد أصاب كل واحد منهما؛ فإن الموضعين غاية في الحسن، وإنما كان ما ذهب إليه أبو الفرج أحسن. والحق أن الصنعة فيه تأسست بقوله: "رأى خلتي من حيث يخفى مكانها"، ولكن المعنى الحسن لم يتم إلا بقوله: "فكانت قذى عينيه". ونظيره قول ابن هرمة في مدح المنصور: له لحظاتٌ في خفايا سريره ... إذا كرها فيها عقاب ونائل فقد تأسست الصنعة بقوله: "له لحظات في خفايا سريره"، وتم المعنى المطرب بقوله: "إذا كرها فيها عقاب ونائل "، ولولا هذه التكملة، لكانت الصنعة ناقصة. فالشعر الجيد له يد في الدعوة إلى سبيل الحق، والأخلاق الفاضلة؛ كشعر حسان بن ثابت في صدر الإسلام ومن بعده، وإلى هذا يشير أبو تمام بقوله: ولولا خلالٌ سنَّها الشعر ما درى ... بغاةُ العلا (¬1) من أين تؤتى المكارمُ * آثار الشعر: وقد يقرب الأديب منزلة من الخليفة أو الملك أو الوزير، فيضعه في منصب عال، أو يمنحه أموالاً طائلة، وقد ينجو الأديب من عقوبة من يقدر على عقوبته؛ كما نجا ابن الأنباري ببلاغة قصيدته: "علوٌّ في الحياة وفي الممات " من عقوبة عضد الدولة. وقد يرغب الأديب في القيام بطاعة لم تكن في باله. ¬

_ (¬1) في ديوانه: الندى.

قال ابن جريج: كنت في اليمن، وليس في بالي أن أؤدي فريضة الحج في هذه السنة حتى خطر ببالي قول عمر بن أبي ربيعة: بالله قولي له في غير مَعْتَبَةٍ: ... ماذا أردتَ بطول المكث في اليمنِ؟ إن كنتَ حاولت دنيا أو نعمتَ بها ... فهل أخذتَ بترك الحجِّ من ثمنِ؟ ولا سبب للحج إلا هذان البيتان اللذان خطرا ببالي. ومن بلاغة الشاعر في المديح: أن يذكر كلمة أو جملة يخفي وجة زيادتها على الممدوح ويعدها تقصيراً في الممدوح، حتى يذكر الشاعر وجه زيادتها؛ كالقصيدة التي مدح فيها عبدالله بن إبراهيم المعتمد بن عباد إذ يقول فيها: ولا سقاهم على ما كان من عطشٍ ... إلا ببعض ندى كفِّ ابن عبّاد فقال ابن عباد: "لأي شيء بخلت عليهم أن يسقوا بكل ما في كفي؟ "، فقال: إذاً يلحقني من التبعة مالحق الذي قال: "ولا زال منهلاً بجرعائك القطر"، وكان طوفان نوح أهونَ عليهم من ذلك. وقد احترس الشاعر من مثل هذا بقوله: فسقى ديارَك غيرَ مفسدِها ... صوبُ الغمام وديمةٌ تَهمي

أثر الشعر في الترويح على النفس وإثارة العواطف الشريفة

أثر الشعر في التّرويح على النّفس وإثارة العواطف الشّريفة (¬1) ترتاح النفوس لسماع الشعر أكثرَ مما ترتاح لسماع النثر المساوي له في مرتبة البلاغة، ذلك أن الشعر يمتاز بالوزن والقافية، ولورود الألفاظ في جمل موزونة، ومنتهية بقافية، وقعٌ تلذه النفس، زائدٌ على ما تلذّ من موقع الفصاحة والبراعة. ثم إن الشاعر يطلق لخياله العنان، فيؤلف من المعاني التي يقع عليها الخيال صوراً شائقة ليس من عادة البلغاء إيراد أمثالها في منثور الكلام. ويضاف إلى هذا: أن للبلغاء أساليب في الشعر غير أساليب الكلام المنثور، أساليب يستدعيها رعاية الوزن والقافية، أو يستدعيها إرسال الخيال في أودية لا يحوم بها خيال الكاتب أو الخطيب. وهذا الذي امتاز به الشعر؛ من الوزن والقافية، والأساليب الغريبة، وصور المعاني الطريفة، جعله يفعل في النفوس مالا يفعله المنثور من القول، وجعله يخرج النفوس من الهمود إلى انتباه، ومن الانقباض إلى ارتياح، ومن النفور إلى إقبال، بل زعم بعضهم: أن من الشعر البليغ ما ينسي الوطن والأهل. ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام في الإذاعة بالقاهرة يوم الثلاثاء 11 شعبان 1355 هـ، ونشرت في الجزء الثالث من المجلد التاسع - مجلة "الهداية الإسلامية ".

أورد أبو علي القالي قصيدة، وحكى: أن بعض أهل العلم سمعها وهو في دار غربة، فقال: أنستني أهلي، وهان عليّ طول الغربة، ومن أبيات هذه القصيدة: فإن تكن الأيامُ فينا تبدَّلتْ ... ببؤسٍ ونُعْمى والحوادثُ تفعلُ فما ليَّنتْ مني قناةً صَليبةً ... ولا ذللتنا للذي ليس يجملُ ولكن رحلناها نفوساً كريمة ... تُحمَّل ما لا يُستطاعُ فتَحْمِلُ ترتاح النفوس للشعر على حسب موافقته لأهوائها، أو طبائعها، أو جهات سيرها في الحياة، فالكاتب - مثلاً - يرتاح لقول الشاعر: ولي قلمٌ في أنملي إن هززته ... فما ضرني أن لا أهز المهنَّدا أكثرمما يرتاح له البطل الذي لا يعرف الكتابة، وإنما يعرف كيف يضرب بالمهند في ميادين الحروب. والبطل الهمام يهتز لمثل قول ابن عمار: السيفُ أصدقُ من زيادٍ خُطبةً ... في الحرب إن كانت يمينك منبرا بأشد مما يهتز له الخطيب الذي لم تقع يده على رمح أو حسام. ويغلب في الظن: أن عبدالله بن عبد العزيز العمري لم يكن حريصاً على رفاهية العيش حرصَ من يتقطع قلبه لفواتها، ذلك لأنه أعجب بشعر يمجد القناعة، ويجعل الرفاهية في جانبها أمراً لا يؤسف لفقده، حيث قال: أشعر الناس أبو العتاهية يقول: ما ضرّ من جعل الترابَ مهادَه ... أن لا ينامَ على الحريرِ إذا قنع ولو أنشد منشد قول دعبل:

ولست بذي وجهين فيمن عرفته ... ولا البخلُ فاعلم من سمائي ولا أرضي لم يطرب له أشد الطرب إلا شخص لا يمسك يده عن الإنفاق في سبيل الخير، ولا يعرف للنفاق عيناً ولا أثراً. قد يبتهج الرجل للشعر من جهة أنه يحمل مدحاً وإطراء له أو لبعض من يحبهم ويحبونه، وأوضح ما يدلك على أن ارتياح الرجل للشعر إنما نشأ من براعة الشعر نفسه: أن ترى الرجل معجباً بشعر مُدح به بعض خصومه، أو معجباً بشعر تضمن إنكار عمل صدر منه. تقرأ في كتب الأدب: أن عضد الدولة قتل أبا طاهر محمد بن بقية صلباً، فرثاه أبو الحسن الأبياري بقصيدته التي يقول في أولها: علوٌّ في الحياةِ وفي المماتِ ... لحقٌّ تلك إحدى المعجزات وكتبها، ورماها في شوارع بغداد، ولما وصلت إلى عضد الدولة، أعجب بها، وتمنى أن يكون هو المصلوب والمرثي بهذه القصيدة. ومن دلائل ارتياح الرجل للشعر من حيث إنه جيد الصنعة: أن يسمع شعراً يمدح به غيره ممن لا يربطه به صلة قرابة أو صداقة، فيجيز الشاعر عن شعره هذا بمال كثير. أنشد ابن حفصة في مجلس جعفر البرمكي قصيدته التي رثى بها معن ابن زائدة، فرقَّ جعفر لسماعها، وأمر له بجائزة سنية، ومما يقول ابن أبي حفصة في هذه القصيدة: مضى لسبيله معنٌ وأبقى ... مكارمَ لن تبيدَ ولن تنالا كأن الشمسَ يومَ أصيب معنٌ ... من الإظلام ملبسَةٌ جلالا

فإن يعلُ البلادَ له خشوعٌ ... فقد كانت تطول به اختيالا ومن هذا القبيل: أن يشهد الشاعر ببراعة شعر بعض معاصريه؛ فان التنافس الذي يقع بين الشعراء يبلغ أن يصد الشاعر عن أن يشهد لشاعر يعاصره بالإبداع؛ إلا أن يكون الشعر قد أخذ بمجامع قلبه، وكان فيه شيء من خلق الإنصاف. أنشد أبو العتاهية بين يدي المهدي قصيدته التي هنأه فيها بالخلافة، وكان بشار حاضراً، فلما وصل أبو العتاهية إلى قوله: أتته الخلافةُ منقادةً ... إليه تجرّر أذيالها فلم تكُ تصلُح إلاله ... ولم يك يصلح إلالها وإن الخليفة من يغض لا ... إليه ليبغض من قالها تملك بشاراً الطرب، وقال لمن بجانبه: أترى الخليفة لم يطر من فراشه طرباً لما يأتي به هذا الكوفي!. وأعجب الشاعر أبو العميثل ببيتين لأبي تمام من قصيدة يمدح بها عبدالله ابن طاهر، وهما: يقول في قومس قومي وقد أخذت ... منا السرى وخطا المهرية القود أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا ... فقلت: كلا ولكن مطلع الجود حتى إن أبا العميثل لما أراد استعطاف عبدالله بن طاهر على أبي تمام، ذكر له البيتين، فبالغ عبدالله في إكرام أبي تمام. وسمع الفرزدق أبياتاً لعمر بن أبي ربيعة في النسيب، فصاح قائلاً: هذا - والله - الذي أرادته الشعراء، فأخطأته، وبكت الديار.

تُسيغ النفس الشعر، فتأخذها هزة الارتياح، ولا تتمالك أن تعبر بقول، أو تفعل ما يدل على إعجابها به؛ أنشد أبو تمام أبا دلف قصيدته التي رثى بها محمد بن حميد، فقال أبو دلف: لم يمت من رُثي بمثل هذا الشعر، ومن عيون هذه القصيدة: كأن بني نبهانَ يوم مُصابه ... نجومُ سماء خرَّ من بينها البدرُ وأنشد ابن الأعرابي أبيات أبي العتاهية التي يقول فيها: واصبر على غِيَرِ الزمان فإنما ... فرجُ الشدائد مثلُ حَلِّ عِقال ثم قال لجليسه: هل تعرف أحداً يحسن أن يقول مثل هذا الشعر؟ وسمع الأصمعي أبيات نصيب التي يقول فيها: ولا خير في ودِّ امرئ متكارهٍ ... عليك ولا في صاحبٍ لا توافقُهْ إذا المرءُلم يبذل من الود مثلما ... بذلتُ له فاعلم بأني مفارقُهْ فقال: قاتل الله نصيباً ما أشعره!. واقترح الملك العادل على الشاعر ابن ظافر نظم قصيدة في المجلس، يرسلها جواباً عن قصيدة بعث بها الملك المعظم بالشام، فارتجل ابن ظافر قصيدة قال صاحب "نفح الطيب": صفقت لها أيدي الحاضرين إعجاباً ببلاغتها، ومما يقول في هذه القصيدة: يكفي الأعادي حَرُّ بأسك فيهم ... أضعاف ما يكفي الوليّ نداكا ويقول على لسان الملك العادل: مكثي جهادٌ للعدو لأنني ... أغزوه بالرأي السديد دراكا وأعجب الرشيد بقول الشاعر في مدح القائد يزيد بن مزيد:

تراه في الأمن في درع مضاعفةٍ ... لا يأمن الدهرَ أن يُدعى على عجل فروى الرشيد البيت، ووصل قائله بجائزة، ويزيد بن مزيد لا يشعر بما فعل الرشيد. ووفد جعفر بن محمد بن شرف على المعتصم بن صُمادح، وأنشده قصيدة شكا فيها اعتداء بعض العمال على مزرعة له باحدى القرى، فلما وصل في إنشاد القصيدة إلى قوله: لم يبق للجور في أيامهم أثر ... إلا الذي في عيون الغيد من حور قال له المعتصم: كم في القرية التي تزرع فيها من بيت؟ قال: خمسون بيتأ، قال: أنا أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد. والواقع أن هذا البيت من أبرع ما تصنعه قرائح الشعراء، والخمسون بيتاً قروياً قيمة له غير مبال في تقديرها، ولو وصلنا إلى مافي نفولس الشعراء لذلك الحين، لوجدنا الذين اغتبطوا الشاعر على هذا البيت المصنوع من درر الألفاظ أكثر ممن اغتبطوه على تلك البيوت المصنوعة من الطين والحجارة. وسمع ابن جني قول المتنبي: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم فقال: لو لم يقل المتنبي غير هذا البيت، لتقدم به أكثر المحدثين. وأنشد محمد بن كناسة إسحاق بن إبراهيم بيتين من الشعر، فقال إسحاق: وددت - والله - لو أن هذين البيتين لي بنصف ما أملك. والبيتان هما: فيّ انقباض وحشمة فإذا ... صادفت أهل الوفا والكرم أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غيرَ محتشم

ودخل جماعة من الشعراء على المنصور، فأنشدوه قصائدهم من وراء حجاب، ودخل الشاعر المعروف بابن هرمة في آخرهم، وأنشده قصيدته التي يقول فيها: له لحظات في خفايا سريره ... إذا كرها فيها عقاب ونائل فقال: يا غلام! ارفع الحجاب، وفضله عليهم في الجائزة. كنت لقيت المرحوم محمد فريد في "برلين"، فقال لي: إني اشتقت إلى قراءة كتاب عربي، فهل عندك من كتاب تعيرني إياه؟ فبعثت إليه بكتاب "الوساطة بين المتنيي وخصومه" للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، ولقيته بعد حين، فقال لي: لم أعجب من الكتاب إلا بأبيات للمؤلف وردت في صدر الكتاب، ومن شدة إعجابي بها نقلتها في مذكرة. يريد: الأبيات التي يقول فيها صاحب "الوساطة": ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمع صيرته لي سُلَّما أأغرسه عزاً وأجنيه ذلة ... إذن فاتباعُ الجهل قد كان أحزما ومن مظاهر الإعجاب بالشعر: أن يأخذ الرجل عقب سماعه في ترديد البيت أو الشطر الذي كان إعجابه به أشد، سمع دعبل قول أبي تمام: وأنجدتم من بعد إتهام أرضكم ... فيا دمعُ أنجدني على ساكني نجد فقال: أحسن والله، وأخذ يردد قوله: "فيا دمع أنجدني على ساكني نجد". ومن الطرق التي يدلون بها على إعجابهم بالشعر: أن يذكر لك الأديب شاعراً، ويقول لك: وهو الذي يقول كذا.

ذكر الجاحظ عتبان بن أصيلة الشيباني في كتاب "البيان"، وقال: وهو الذي يقول: ولا صلحَ ما دامت منابرُ أرضنا ... يقوم عليها من ثقيف خطيبُ وقد يحتاج الشاعر إلى أن يدل على سمو مكانته في الشعر قوماً يجهلونها، فيقصد إلى أحسن ما يحضره من شعره، ويقول: أنا القائل كذا. دخل أبو محمد جعفر المعروف بعنق الفضة مجلساً فيه ابن خفاجة، فقال له ابن خفاجة: ليت شعري من تكون؟ قال: أنا القائل: كلما هبَّت شمالٌ منهم ... لعبت بي عن يمين وشمال فارقت فكرتي أرواحها ... فأتت منهن بالسحر الحلال فقال ابن خفاجة: من يكون هذا قوله لا ينبغي أن يجهل. وقد يبلغ الطرب للشعر أن يخرج صاحبه عن عادة أمثاله، فيقول أو يفعل ما لا يلائم الرويَّة والوقار. سمع العباس بن الأحنف قصيدة ابن الدمينة التي يقول في أولها: ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجدِ ... فقد زادني مسراكَ وجداً على وجدِ فحفظها، وجاء بها إلى إبراهيم الموصلي، وبعد أن أنشدها، ترنح وقال: أنطح العمود برأسي من حسن هذا الشعر؟!. وأنشد أبو تمام في مجلس الحسن بن رجاء قصيدته اللامية المعروفة، ولما وصل إلى قوله: لا تنكري عَطَلَ الكريمِ من الغنى ... فالسيلُ حربٌ للمكانِ العالي وتنظري حيث الركاب ينصها ... محيي القريض إلى مميت المال

قام الحسن على رجليه، وقال لأبي تمام: والله! لا أتممتها إلا وأنا قائم. ونقرأ في كتب الأدب: أن مروان بن حفصة دخل على الخليفة المهدي، وأنشده قصيدته التي يقول في أولها: "طرقتك زائرة فحي خيالها" فأنصت لها المهدي، ولم يزل يزحف كلما سمع شيئاً حتى صار على البساط؛ إعجاباً بما سمع. وسمع أبو السائب المخزومي بيتي جرير: إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وَشَلاً بعينك لا يزال مَعينا غَيَّضْنَ من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا فاشتد لهما طربه، وحلف أن لا يرد على أحد سلاماً، ولا يكلمنه إلا بهذين البيتين، حتى يرجع إلى منزله. وقد يبلغ الرجل من ابتهاجه للشعر أن يمتنع من سماع شعر بعده في تلك الساعة، أو في ذلك اليوم. دخل محمد بن العباس بن التيفاشي على عبد المؤمن بن علي، وابتدأ في إنشاد قصيدته اللامية المعروفة، فلما أنشد البيت الأول منها، وهو قوله: ما هزَّ عطفيه بين البيض والأسل ... مثلُ الخليفة عبد المؤمن بن علي أشار عبد المؤمن إلى الشاعر أن يقتصر على هذا البيت، وأمر له بألف دينار. ودخل جماعة من الشعراء على المعتضد بن عباد ليلقوا بين يديه قصائدهم، وكان من بينهم الشاعر المدعو بابن جناح البطليوسي، فتقدم

وأنشد قصيدته التي يقول في أولها: قطَّعت يا يومَ النوى أكبادي ... ونفيتَ عن عيني لذيذ رقادي فلما انتهى من إنشادها، قال المعتضد: اجلس؛ فقد وليتك رياسة الشعراء، ولم يأذن في الكلام لأحد بعده. ومن شدة إعجاب الرجل بالبيت: اتخاذه له كمثل يضربه عند كل مناسبة؛ كما كان سيف الدولة يكثر من إنشاد قول أبي تمام: من كان مرعى عزمه وهمومه ... روضَ الأماني لم يزل مهزولا وأذكر بهذا: أن الأبيات التي أعجبت بها أشد الإعجاب، أجدني أذكرها - ولو في نفسي - عند كل مناسبة، ومن هذا الطرز قول أبي تمام: من لم يسسْ ويطير في خيشومه ... رهجُ الخميس فلن يقودَ خميسا إن الشعر البارع يبهج النفوس بجودة تصوير معانيه، وحسن صياغة ألفاظه، من غير نظر إلى قيمة الغرض الذي يرمي إليه، ومن هنا نرى بعض أهل الجد والورع قد يرتاحون لسماع شعر يعدون معانيه من قبيل اللهو، وهذا عمر بن أبي العلا، قد سئل عن أبدع الناس شعراً، فقال: الذي يقول: لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيفٌ ألمْ روّحي عني قليلاً واعلمي ... أنني يا عبل من لحم ودم يعني: بشار بن برد. وكان عمر بن عبد العزيز يستجيد - وهو أمير المدينة - قصيدة نصيب التي يقول في أولها: قفا أخويّ إن الدار ليست ... كما كانت بعهد كما تكون

ولما لقي نصيباً، قال له: أنشدني قولك: "قفا أخوي"؛ فإن شيطانك كان لك فيها ناصحًا حين لقنك إياها. وإذا كانت النفوس تبتهج لحسن صناعة الشعر، فإن ابتهاجها يجعلها تقبل على ما يعرضه عليها من حكمة، أو يسديه إليها من نصيحة، والشعر إما أن يعطي الحكمة في صراحة؛ كالبيت الذي قال فيه الأصمعي: إنه أبرع بيت قالته العرب، وهو قول أبي ذؤيب الهذلي: والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبتها ... وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تقنعُ والبيت الذي قالوا: إن العرب لم تقل بيتاً أصدق منه، وهو قول الحطيئة: من يفعل الخيرَ لم يعدمْ جوازيه ... لا يذهبُ العرفُ بينَ اللهِ والناسِ والبيت الذي قيل: إنه أحكم بيت قالته العرب، وهو قول الآخر: ولربما ابتسم الكريمُ من الأذى ... وفؤادُه من حرّه يتأوه وإما أن تستفيد منه الحكمة من طريق غير صريح؛ كبعض الشعر الذي يقال في نحو المديح أو الحماسة، فمن الشعر الذي يسمو بالنفس إلى فضيلة الشجاعة وحماية المستجير، وإن ورد في سياق المديح: قول الشاعر: حملوا قلوب الأسد بين ضلوعهم ... ولووا عمائمهم على الأقمار إن خوّفوك لقيت كل كريهة ... أو أمّنوك حللت دار قرار ومن الشعر الذي يطبع النفوس على التعفف والتجمل، وإن جاء في معنى الفخر، أو التحدث بالنعمة: قول مهيار الديلمي: وأُري العدوَّ على الخصاصة شارةً ... تصف الغنى فيخالُني متمِّولا

وإذا امرؤ أفنى الليالي حسرةً ... وأمانياً أفنيتهن توكّلا للشعر العربي أثر في تهذيب الأخلاق؛ بما يعطيه من الحكمة صراحة أو تلويحًا، وهو -بعد هذا- يثير العواطف الشريفة، فيبعث على نحو العفو والسماحة، وإخلاص الود، والثبات في المواقف المحفوفة بالأخطار. قال معاوية بن أبي سفيان: "اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر دأبكم؛ فلقد رأيتني بصفين أريد الهرب لشدة البلوى، فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة"؛ يعني: التي يقول فيها: وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانَكِ تُحمي أو تستريحي وإذا كان الشعر العربي معدوداً من وسائل الإصلاح، فمن حق أبنائنا علينا أن نلقنهم أشعار بلغائنا، وأن نسلك بطائفة منهم طريقة التمرين على النبوغ في الشعر، ثم نحتفي بهؤلاء النوابغ ما رفعوا شأن الأدب العربي، وأدنوا للناس قطوف الحكمة.

نموذج من نقد الشعر

نموذج من نقد الشعر (¬1) لحسن البيان أثر كبير في تهذيب النفوس، وتقويم العقول، وتربية العواطف الشريفة. ومن أنفس فنون البيان: فن الشعر، ولجودة الشعر ورقيَّة في معارج البلاغة أسباب معدودة؛ ومن هذه الأسباب: أخذه بالنقد، ووزنه عندما يعرضه صاحبه بميزان العلوم الأدبية، والذوق السليم. وإذا نظرت إلى العصور أو البلاد التي أدرك فيها الشعر منزلة سامية، رأيت أدباءها كيف كانوا ينقدون ما تصنعه قرائح الشعراء نقد الصيارفة للدرهم أو الدينار، فيجزون كل شعر بما يستحق من قبول وإطراء، أو إنكار وازدراء؛ وأذكر على وجه المثل: العهدَ الذي ظهر فيه أبو تمام والبحتري وأضرابهما؛ فإن وطيس النقد كان يومئذ حاميًا، ومن شواهد هذا: أن عبد الله بن طاهر والي خراسان الذي ألّف له أبو تمام "ديوان الحماسة"، كان لا يجيز شاعرًا إلا أن ينظر في قصيدته أبو العميثل، وأبو سعيد الضرير، ويشهدان لها بالإجادة، بل كنّا نرى كثيراً من الأمراء والخلفاء في أزمنة رقي الشعر ينقدون ما ينشد بحضرتهم من الشعر، فيميزون رديئه من جيده، وستسمعون في هذا النموذج أمثلة من انتقادهم الدال على سلامة الذوق، والإلمام بفنون البيان. ¬

_ (¬1) محاضرة ألقيت بجمعية الهداية الإسلامية بالقاهرة، ونشرت في مجلة "نور الإسلام" العدد التاسع من المجلد الأول - رمضان 1349 هـ.

تمهيد

فنقدُ الشعر من أسباب إبداع الشعر، وإبداعه من وسائل تثقيف الأخلاق، وإيقاظ الهمم، وعرض الحكمة في ثوب فاخر أنيق. وإذا كانت جمعية الهداية الإسلامية قد أنشئت لنصرة الفضيلة، وإعلاء شأن اللغة العربية، فجدير بها أن تعنى بالوسائل التي يبلغ بها الشعر مكانته العليا، وهذا ما بعثني على أن ألقي كلمة أعرض فيها نموذجًا من النواحي التي يلحظها الأدباء عند نقد الشعر، وإذا فاتني شيء منها، فلتفلُّته عن الذاكرة، أو لأنه بقي فيما لا أعلم، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. * تمهيد: نقد الشعر فن من فنون الأدب قديم، تجد له في عهد في الجاهلية وصدر الإِسلام اَثارًا وشواهد كثيرة؛ أما تخصيصه بالتأليف، فإننا نعلم أن عبد الله بن المعتّز المتوفى سنة 296 هـ قد ألّف في نقد شعر أبي تمام، ومحمد ابن طباطبا العلوي المتوفى سنة 322 هـ ألّف كتاب "عيار الشعر"، وقدامة بن جعفر المتوفى حوالي سنة 330 هـ ألف كتاب "نقد الشعر"، وكتابًا ناقش فيه ابن المعتز في نقد شعر أبي تمام؛ وجاء على أثر هؤلاء: محمد بن عمران المرزباني، وألّف في مآخذ العلماء على الشعراء كتابه المسمّى "بالموشح"، فأخرجه للناس كتاباً حافلاً. وقد أسرف فريق في النقد، حتى عابوا ما ليس في الحقيقة بمعيب؛ ومن هؤلاء: الأصمعي؛ فإنه كان مغرّى بالأخذ على الشعراء، وعاب عليهم أشياء وجهُ الجواب عنها واضح مقبول. ووقف تجاه هؤلاء آخرون يحرصون على أن يكون ما قيل من الشعر بريئًا من العيب، ويتعسفون في دفع ما يرمى به بعض الشعر من خلل في اللفظ أو المعنى؛ وعلى هذين الفريقين يصدق قول أبي العباس

المبرد: "من طلب عيباً، وجده، ومن طلب مخرجاً، لم يفته". وممن عني بالدفاع عن الأشعار المعيبة: أبو عبد الله محمد بن جعفر القيرواني التميمي النحوي المتوفى سنة 412 هـ، ومن مؤلفاته كتاب "ضرائر الشعر" (¬1) تكلم فيه عما يجوز للشاعر دون الناثر، وأوشك أن يأتي لكل ما عيب به الشعر من ناحية مخالفة قوانين اللغة، ويجعله من الرخص الشعرية. والواقع أن في الشعر مآخذ ينظر فيها إلى ما هو أحسن في النظم، وأظهر في الغرض. ومن هذا: عيب بلال بن بردة لقول ذي الرمة من قصيدة أنشدها بين يديه: رأيتُ الناسَ ينتجعون غيثاً ... فقلتُ لصيدح انتجعي بلالاً يقال: إن ذا الرمة لما أنشد بلال بن بردة هذا البيت، قال بلال: يا غلام! مر لصيدح بقتَّ وعلف؛ فإنما هي انتجعتنا؛ ومن الظاهر أن ذا الرمة إنما أراد من انتجاع صيدح -التي هي ناقته- انتجاع نفسه، ومثاله في القرآن قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82]، وإنما المراد: أهل القرية، وأهل العير؛ وإذا ذكر العريى انتجاع الناقة للممدوح، وعنى به انتجاع نفسه، فلأن الراحلة لا تنتجع مكاناً إلا حيث ينتجعه صاحبها، ومثل هذا المجاز لا يخفى على بلال بن بردة، ولكن الأوفق بمقام الاستعطاف وإظهار الحاجة أن ينسب الشاعر الانتجاع لنفسه. ومن المآخذ: ما يورده صاحبه على غير تثبت، فلا يقع موقع السداد، ¬

_ (¬1) توجد منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية.

وجوه النقد

قال ابن عبد ريه: "وأكثر ما أدرك على الشعراء له مجاز وتوجيه حسن، ولكن أصحاب اللغة لا ينصفونهم، وربما غلطوا عليهم، وتأولوا غير معانيهم التي ذهبوا إليها، ومن هذا ما أخذ على الحسن بن هانئ في قوله: وما لبكر بن وائل عصم ... إلا لحمقائها وكاذبها وقال الناقد: أراد بحمقائها هبنَّقة القيسي، ولا يقال للرجل حمقاء، وإنما أراد ابن هانئ دغة العجلية، وعجل في بكر، وبدغة هذه يضرب المثل في الحمق". وفي الشعر مواضع هجنة لا يغني التكلف للجواب عنها شيئاً، ومن هذه المواضع ما لا يكاد يخفي على أحد، ككثير من سقطات أبي تمام، وأبي الطيب المتنبي، ومنها ما لا يدركه إلا الذوق السليم والألمعية الشافعية، ومن شواهد هذا قول المتنبي: عجباً له حفظ العنان بأنملٍ ... ما حِفْظُها الأشياء من عاداتها ووجه العيب فيه: أنه يريد أن ينفي عن أنامل الممدوح الحفظ جملة، ويدعي أنه لا يكون منها حفظ البتة، وإضافة الحفظ إلى ضميرها في قوله: "ما حفظها الأشياء" يقتضي إثبات حفظ لها، ووجوده منها؛ وقد ساق عبد القاهر في "دلائل الاعجاز" هذا البيت، وقال: مضى دهر ونحن نقرؤه، فلا ننكر منه شيئاً، ولا يقع لنا فيه أنه أخطأ، ثم بأن بآخره أنه قد أخطأ، وبيّن الخطأ بالوجه المقرر آنفاً. * وجوه النقد: يتوجه النقد إلى ناحية اللفظ تارة، وإلى ناحية المعنى تارة أخرى؛ ولكل واحدة من الناحيتين فنون هي ما نقصد إلى الحديث عن شيء من تفاصيلها،

النقد اللفظي

وعرض نموذج من أمثلتها: * النقد اللفظي: الألفاظ بمنزلة الظروف تنقل المعاني من نفس إلى أخرى، فيحسن أن تكون على قدر المعنى الذي قصد إلى نقله، فإن كانت أقل منه، وصل المعنى إلى ذهن المخاطب ناقصاً، وإن كانت أكثر منه، حملت لسانك ما لا حاجة إلى حمله، وألقيت في سمع مخاطبك ما لا طعم له ولا رائحة. والألفاظ للمعاني بمنزلة الثوب للبدن، ومن الأثواب ما يقي من الحر والبرد، ولكن العين تمجُّه؛ لرداءة مادته، أو ضعف نسجه، أو قبح منظره؛ وكذلك الألفاظ قد تفصّل على قدر المعنى، ولكن الذوق يمجها؛ لتنافر حروفها، أو تجافي كلماتها، أو تخاذل نظمها، أو انحرافها عن هيئة وضعها. ونقدُ اللفظ إما أن يعود إلى المفرد، وإما أن يعود إلى التركيب. ومما يعود إلى المفرد: استعماله في غير معنى صحيح؛ كما عابوا قول المتنبي: ومِنْ نكدِ الدنيا على الحرِّ أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بُدُّ فإن الصداقة المحالة وهي إصفاء المودة، والإنسان لا يضطر إلى أن يصادق عدوه، أو يمحض له المودة، وإنما يضطره الحال إلى مداراته، وذلك ما يعنيه الشاعر، ومقتضى هذا المعنى أن يقول: "ما من مداراته بدّ". ومن عيوب المفرد: مخالفته لقانون الصرف، كما قال أبو عبد الله الحجاج: خرقت صفوفَهم بأَقَبَّ (¬1) نهدٍ ... مراح الصوت متعوبِ العنانِ ¬

_ (¬1) أقب من القَبَب، وهو دقة الخصر وضمور البطن. والنهد: الفرس الحسن الجميل.

فإنه يقال: تَعِب ومُتْعَبٌ، ولا يقال: متعوب؛ لأن تعب فعل لازم، فلا يجيء منه متعوب بمعنى متعب. ويعاب بعض مفردات البيت؛ لمخالفته للهيئة التي بناها عليه الواضع؛ ومن أمثلته قول ابن زمرك في بعض قصائده: يابن الخلائفِ من بني نصرٍ ومن ... حاطوا ذمارَ الملةِ السمحاءِ (¬1) وقوله: سمتهم الملة السمحاء تكرمة. إذ لم يرد في السماحة صيغة فعلاء، فلا يقال: سمحاء؛ وإنما يقال: ملة سمحة؛ أي: ليس فيها حرج ولا ضيق؛ وقد عاب بعضهم قول أبي نواس: وإذا نزعت عن الغوايةِ فليكنْ ... للهِ ذاك النزعُ لا للناسِ وقال: إن نزع بمعنى انتهى إنما جاء مصدره على فعول، فيقال: نزع عن الأمر نزوعاً: إذا انتهى عنه، ولكنا نجد في كتب اللغة: أن النزع يأتي مصدراً لنزع بمعنى انتهى (¬2). وعابوا على المتنبي قوله: ليس التعلُّل بالآمال من أدبي ... ولا القنوعُ بضنك العيش من شيمي وقالوا: إن القنوع مصدر قنع بمعنى سأل، أما الرضا بالقسم الذي هو مراد الشاعر، إنما يقال فيه: قنع قناعة، ويقال: إن أبا الطيب غيَّر البيت إلى قوله: "ولا القناعة بالإقلال من شيمي"؛ والواقع أن من أهل اللغة من روى أن العرب قد يستعملون القنوع في الرضا، قال ابن السكيت: ومن العرب من ¬

_ (¬1) "نفح الطيب". (¬2) في "اللسان": نزع عن الأمر ينزع نزوعاً: كف وانتهى، وربما قالوا: نزعاً.

النقد العائد إلى التركيب

يستعمل القنوع في معنى الرضا، وهو لغة قليلة حكاها ابن جني، وأنشد: في الخد نارٌ وفي أَجفانها شَرَكٌ ... لوقعةِ القلبِ كلٌّ منهما صالي فاستعمل كلمة صالي بمعنى صابر مترقب، وهي لغة العامة من أهل الشام وحماة، قال بعض الأدباء: لم أفهم ما أراد ابن حجة حتى سألت عنه بعض عوام حماة، ففسَّره لي. وقد تعاب الكلمة في الشعر من جهة تجافي الذوق عنها، وثقل وقعها على اللسان؛ كلفظ: ابتشاك في قول المتنبي: وما أرضى لمقلته بحلمٍ ... إذا انتبهت توهَّمه ابتشاكا والابتشاك: الكذب، ومن ذا يسمع هذه الكلمة، ولا يتبرأ منها ذوقه كما يتبرأ من معناها قلبه ولبّه؟! وقد يأتي الشاعر في البيت بكلمة لها معنيان: أحدهما لائق بالمقام، وهو المراد، وثانيهما يصير به معنى الكلام منبوذًا مستقبحًا، وليس بمقصود للشاعر؛ فيعاب الشعر من جهة هذه الكلمة المحتملة لمعنى مستهجن، وقد وقع أبو تمام في هذا العيب حين قال: أعطيت لي دية القتيل وليس لي ... عقلٌ ولاحقٌّ عليك قديمُ فقوله: "وليس لي عقل" يوهم أنه ينفي عن نفسه العقل الذي هو القوة المدركة، وإنما أراد الشاعر: الدية، ولو قال: وليس لي عليك عقل، لارتفع اللبس، وزال القبح. * النقد العائد إلى التركيب: من النقد العائد إلى التركيب: وروده على خلاف ما يقتضيه علم النحو،

وضربوا المثل لهذا يقول الفرزدق: وعضَّ زمان يابن مروان لم يَدَعْ ... من المالِ إلا مُسحَتاً أو مُجلفُ المُسحَت: المُهلَك، والمجلف: الذي بقيت منه بقية، فالنظم يقتضي نصب مجلف عطفًا على المنصوب قبله وهو"مسحتاً"، ولكن الشاعر أتى به مرفوعاً، وليس لرفعه وجه ظاهر، وأراد بعض النحاة أن يخلصه من وصمة الخطأ في الإعراب فجعله خبراً لمبتدأ محذوف، والمعنى: "أو هو مجلف"؛ وإذا نفع هذا الوجه الشعر، وخلّصه من عيب اللحن، فإنه لا يمنع الناقد من أن يجعله دون منزلة الشعر الذي يستقر معناه في الأذهان لأول ما يقع لفظه على الأسماع. ومن مآخذ المركَّب: خروجه عن قانون علم البلاغة، فيجيء غير مطابق لمقتضى المقام؛ ومن أمثلة هذا العيب: أن عبد الرحمن بن حسّان سأل بعض الولاة حاجة، فلم يقضها، ثم بعث إليه شفيعاً، فقضاها له، فقال: ذُممت فلم تُحمد وأدركت حاجة ... تولّى سواكم أَجْرَها واصطناعَها أبي لك كَسْبَ الحمدِ رأيٌ مقصِّرٌ ... ونفسٌ أضاق اللهُ بالخيرِ باعَها إذا هي حَثَّتْهُ على الخيرِ مرةً ... عصاها وإن همَّت بشرٍ أطاعها وموضع العيب في رأي علماء البلاغة هذا البيت الثالث، فقد جاء على خلاف ما يقررونه من أنّ (إذا) تستعمل فيما يكثر وقوعه، (وإنْ) تستعمل فيما لا يقع إلا نادرًا، ومقام الهجاء يقتضي أن نفس ذلك الوالي تحثه على الخير قليلاً، وأنها تهمُّ بالشر كثيراً، وهذا يقتضي أن يأتي في جانب الحث على الخير بـ (إنْ)، وفي جانب الشر بـ (إذا)، ولكن الشاعر جرى

النقد المعنوي

على عكس القاعدة، فقال: إذا هي حثّته على الخير مرة ... عصاها وإن همت بشر أطاعها قال الزمخشري: وللجهل بمواقع (إن) و (إذا) يزيغ كثير من الخاصة عن الصواب، فيغلطون، ألا يرى إلى عبد الرحمن بن حسّان كيف أخطأ بهما الموقع، ثم أورد الأبيات، وقال: "لو عكس، لأصاب". ومن مآخذ التركيب: عدم اتساق كلماته، فلا تقع كل كلمة منه موقعها اللائق بها، وينتج عن هذا: أن الذهن يقف في فهم البيت، فلا يصل إلى المراد منه إلا بعد ترديد النظر وإمعانه، ومن أمثلته هذا قول البحتري: فتى لم يَملْ بالنفس منه عن العلا ... إلى غيرها شيءٌ سواه مميلها وإذا استطاع بعض أنصار البحتري أن يخلص البيت من اللحن بوسيلة التأويل، فإنه لا يستطيع أن يحميه مما يعيبه بالتعسف والتعقيد. ومن معايب التركيب: أن ينبو عنه الذوق السليم، ويكون وقعه على اللسان ثقيلاً، ووقع في هذا العيب قول كشاجم: حدائقُ كفِّ كلِّ ريحٍ ... حلَّ بها خيطُ كلِّ قطرِ قال ابن الأثير: هذا البيت يحتاج الناطق به إلى بركان يضعه في شدقه حتى يديره له. * النقد المعنوي: مَثَلُ الشاعر في صنع المعاني مَثَلُ صانع الصور المحسوسة، وإذا كنت لا تشهد لصانع الصور بالإصابة إلا أن يعرض عليك الصورة مطابقة لحالتها الواقعة، فكذلك الشاعر لا تعده مصيباً في تصوير المعنى إلا أن يعرضه عليك

سالماً من النقص، غير مثقل بزيادة ما لا فائدة منه، حسن الوضع، متلائم الأجزاء واقعاً من المقام الذي أورده فيه موقع المناسب المقبول، ومن هنا كان لنقد معاني الشعر وجوه مختلفة. يدخل العيب على المعنى من جهة: الجمع بين أشياء غير متناسبة، وكثيراً ما يقع في هذا العيب من يقصد إلى النوع المسمّى بالمطابقة، ومما ذهب بعض النقاد إلى أنّ الشاعر جمع فيه بين شيئين غير متناسبين: بيت المتنبي: أزورُهُمْ وسوادُ الليلِ يشفعُ لي ... وأنثني وبياضُ الصبحِ يُغري بي فقد روي أن المعتمد بن عباد تباحث مرة مع جلسائه في هذا البيت، وقال: ما قصر في مقابلة كل لفظة بضدها، إلا أن فيه نقداً خفيًا، وهو أن الليل إنما يطائق بالنهار، ولا يطابق بالصبح الذي هو جزء من النهار، ومراد المعتمد: القدح في المطابقة بين الليل والصبح، وإن كان لذكر الصبح وجه هو أن المحبَّ ينصرف من الزيارة عند المحبوب انفجار الصبح خيفة الرقباء. ويعاب بوقوعه في عكس الغرض؛ يقول أبي تمام: إنَّ البشاشةَ والندى خيرٌ لهم ... من عفةٍ جمست عليك جموسا لو أنَّ أسبابَ العفافِ بلا تقى ... نفعت لقد نفعت إذاً إبليسا ساق الجرجاني هذين البيتين، وقال: ليت شعري لو أراد هجوه وقصد الغض منه، هل كان يزيد على أن يذم عفته ويصفها بالجموس والجمود، وهما من صفات البُرَّد والثقال، ثم يختم الأمر بأن يضرب له إبليس مثلاً، ويقيمه بإزائه كفؤاً!.

ويعاب الشعر بقصوره عن بلوغ الغرض؛ حيث يقصد الشاعر إلى ضرب من المدح - مثلاً -, ويصوغ له معنى يظنه وافيًا بالغرض، فلا يبلغ أن يكون مدحاً، وقد وقع في هذا العيب كثير عزّة حين قال: فما روضةٌ بالحزنِ طاهرة الثرى ... يمجُّ الندى جَثجاثها (¬1) وعرارَها بأطيبَ من أردانِ عزَّة موهِناً (¬2) ... وقد أوقدت بالمجمر (¬3) اللدن نارها أراد مدح عزّة بطيب الرائحة، فلم يبلغ ما أراد، فإن كل من يتجمر بالمجمر اللدن تطيب رائحته، وقد أشار إلى هذا القصور بعض من سمعه ينشد البيت، فقال له: لو فعل هذا بأمة زنجية، لطاب ريحها، ألا قلت كما قال امرؤ القيس: أم تر أني كلما جئت طارقاً ... وجدتُ بها طيباً ولم تتطيبِ ومن هذا الضرب قول الفرزدق - في رأي بعض الناقدين -: فمن يأمنِ الحَجّاجَ والطيرُ تتقي ... عقوبَتَه إلا ضعيف العزائم قال ناقدو البيت: إن الطير يخشى كل أحد، حتى أقصر الناس يداً؛ كالصبيان ونحوهم، فليس في اتقاء الطير للحجّاج كبير مدح للحجّاج، ويقال: إن الحجاج قال للفرزدق: ما عملتَ شيئاً، إن الطير تنفر من الصبي والخشبة. ومن الظاهر أن الفرزدق قصد إلى مدح الحجّاج بقوة السلطان وطول اليد؛ بحيث لا ينجو من سطوته مجرم، ولو كان الحيوان الذي شأنه أن يكون ¬

_ (¬1) الجثجاث: نبات سهلي ربيعي. (¬2) الموهن: نحو من نصف الليل، وقيل: هو بعد ساعة منه. (¬3) المجمر: العود يتطيب به.

في منعة، كالطير يذهب في الجو صاعداً، فلا تناله يد حتى ينزل في مأمن من كل ذي قوة، فاتقاء الطير للحجاج كناية عن سعة سلطانه، وأنه لا يخلص منه مجرم، ولو شقّ عنان السماء هرباً. ويدخل في هذا الباب قول الجعدي: فتى كملت أخلاقُه غيرَ أنه ... جوادٌ فلا يبقي من المال باقيا أشمُّ طويلُ الساعدين شمردلٌ (¬1) ... إذا لم يرح في المجد أصبح غاديا أنشد هذا الشعر في مجلس هارون الرشيد، فأنكر منه قوله: "إذا لم يرح للمجد"، وقال: لِمَ لمْ يروحه في المجد كما أغداه؟ ألا قال: "إذا راح للمعروف أصبح غاديا" ومن معايب الشعر: بُعده عن الواقع إلى حد أن يدفعه العقل لأول نظرة، دون أن يعرض على السامع صورة بديعة من صنع الخيال؛ قال أبو بردة الثقفي: أدركت الناس وهم يزعمون أن أكذب بيت قالته العرب قول أعشى ميمون: لو أسْنَدَتْ ميتاً إلى نحْرِها ... عاش ولم يُنقل إلى قابرِ وقال محمد بن يزيد النحوي: أحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبَّه، وعدل فيه عن الإفراط. كما قال القائل: ويمنعها من أن تطير زمامها أما إذا جاء الإفراط في صورة بديعة الصنعة، فليس به من بأس، ذلك ¬

_ (¬1) الشمردل: القوي الجلد.

لأن براعة التخييل تشفع في تجاوزه حد المعقول؛ ومثل هذا قول المتنبي يصف الجياد: عقدت سنابكها (¬1) عليها عِثْيَراً ... لو تبتغي عنقاً عليه لأمكنا ومنها: سوء تصرف الخيال، فيصوغ صورة ينقصها شيء من التناسب، ويظهر هذا في نحو التشبيه والاستعارة؛ ومن أمثلة هذا العيب قول الشاعر: وخالٌ على خديك يبدو كأنه ... سنى البدر في دعجاء بادٍ دجونها فإن مقتضى هذا التشبيه أن يكون الخال - وهو أسود - قد وقع مشبَّهاً بسنى البدر، وأن يكون الخد -وهو أبيض- قد وقع في مقابلة الظلماء، فهذه المحاكاة لا يحصل منها ما يريده الشاعر من إظهار الموصوف في صورة رائعة الجمال. ومما لحقها العيب من ناحية التخييل: قول أبي القاسم بن فرناس يمدح أحد أمراء الأندلس: رأيتُ أمير المؤمنين محمداً ... وفي وجهه بذْرُ المحبة يثمرُ فإنه جعل وجه الممدوح موضوعاً للبذر، ووصف ما يبذر بعد بالإثمار، وهذا ما لا يسيغه الذوق السليم؛ ويقال: إن الشاعر لما أنشد هذا البيت، قال له مؤمن بن سعيد: قبحًا لما ارتكبته، جعلت وجه الخليفة محرثًا يثمر فيه البذر! فخجل الشاعر، وما كان جوابه إلا أن شتم الناقد. وقد يقصد الشاعر في التخييل إلى المدح، فتجيء الصورة الخيالية وهي إلى الهجاء أقرب منها إلى المديح، ويمثل هذا العيب قول الشاعر ¬

_ (¬1) سنابكها: حوافرها. العثير: الغبار.

يمدح أحد الأمراء بالشجاعة: يهتزُّ من تحتِ السلاحِ كأنه ... ريحانةٌ لعبت بها ريحُ الصَّبا ولو قيل هذا البيت في جبان فرَّ من وجه أعدائه، فأدركوه حتى وقع تحت سيوفهم، لكان وصفاً مطابقاً؛ ويقال: إن الممدوح لما سمع هذا البيت، ثار غضبه، وهمَّ بعقوبة الشاعر لولا أنه أنشد بعده: في كلِّ منبتِ شعرةٍ من جسمه ... أسدٌ يمدّ إلى الفريسةِ مخلْبا وقد ينظر في الصور الخيالية من لم يصفُ ذوقه، فينحو في نقدها نحو المعاني العلمية؛ ووقع مثل هذا لأحد الكاتبين في البيان إذ ناقش الشاعر في قوله: كالطيفِ يأبى دخولَ الجفنِ منفتحاً ... وليس يدخلُ إلا إذا انطبقا وقال: إن الطيف لا يدخل الجفن، وإنما هو شيء يخيل إلى النفس، وهذا مدفوع بأن الصور الخيالية ليست بموضع لمثل هذه المناقشة الفلسفية، والشاعر يعلم أن الطيف لا يدخل الجفن، ولا يخرج منه، ولكن يخيل إلى النفس على وجه يشبه المرئي رأي البصيرة، فكان بمنزلة ما يدركه البصر من الصور المحسوسة في صحة التعبير فيه بدخول الجفن، كما صح أن يعبر عن امتناع تخييله حال انفتاح الجفن بإباية الدخول فيه. وقد يجيء العيب من ناحية الخلل الذي ينشأ من حذف بعض الكلمات، كما جاء في قول الشاعر: وإني لظلّام لأشعثَ بائسٍ ... عرانا ومقرورٍ بَرَى مالَه الدهرُ وجارٍ قريبِ الدار أو ذي جناية ... بعيدِ محلِّ الدار ليس له وفرُ

فالشاعر يريد: أنه ظلّام للناقة بنحر فصيلها للأشعث البائس، أو المقرور الذي برى الدهر ماله، ولكنّ ألفاظه لا تدل على ما أراد، قال الجرجاني بعد أن أورد البيتين: هل يشك من أنشدهما أن الشاعر وصف نفسه بأقبح الصفة، وأضاف إليها أشنع الظلم؛ وإنما أراد: أني أظلم الناقة فأنحر فصيلها لأجل هذا الأشعث أو الجار، ولو قال: "وإني لنحّار"، لاتضح المعنى، وإنما يتضح المعنى نظراً إلى أن النحر الذي هو إصابة النحر معروف في تذكية الإبل، فهو مصروف إلى هذا المعنى. ومما يؤخذ على الشاعر في الرثاء والتعزية: أن يتوسل بالحط من شأن الميت إلى تخفيف مصابه على من يعز عليه فقده، كما قال البحتري يعزّي أبا نهشل الطوسي على وفاة ابنته: أتبكي من لا ينازلُ بالسيـ ... ـف مُشيحاً (¬1) ولا يهزُّ اللواءَ والفتى من رأى القبورَ لما طا ... ف به من بناته أكفاءَ قد ولدن الأعداء قدماً وورثـ ... ـن التلاد الأقاصيَ البعداءَ ثم قال: ولعمري ما العجزُ عندي إلا ... أن تبيتَ الرجالُ تبكي النساءَ فقد خرج البحتري من مقام تعزية أبي نهشل بوفاة ابنته إلى هجوها، والحط من شأنها, وليس هذا طريق تسلية الآباء عن بناتهم، وتخفيف حزنهم عليهن، والتحدث بنقائص الميت، أو بسلب خصال الكمال عنه، مما لا ترتاح له نفس قريب أو صديق يأسف لفراقه. ¬

_ (¬1) المشيح: المجد.

ومن وجوه النقد: أن يقصد الشاعر إلى تحسين شيء قد يعده بعض الناس شائنًا، فيصرّح في الشعر بعيب الناس له، والأفضل أن يبين وجه حسنه حتى يتلقاه السامع من حيث لا يشعر بأنه مظنة لأن يعاب؛ وأسوق مثلاً على هذا: أن المعزّ بن باديس استخلى محمد بن شرف، وابن رشيق، وقال لهما: أريد أن تصنعا شيئاً تمدحان به الشَّعرَ الرقيق الذي يكون على سُوق بعض النساء، فإنيّ أستحسنه، وقد عاب بعض الضرائر بعضاً به، وكلهن قارئات كاتبات، فأحب أن أرِيهُنَّ هذا، وأدَّعي أنه قديم؛ لأحتج به على من عابه، فكان الذي قال ابن رشيق: يعيبون بلقيسية أنْ رأوا لها ... كما قد رأى من تلك من نصب الصرحا وقد زادها التزغيب ملحاً كمثل ما ... يزيد خدود الغيد تزغيبها ملحا فانتقد المعزّ على ابن رشيق قوله: "يعيبون بلقيسية"، وقال له: "أوجدت لخصمها حجّة بأن بعض الناس قد عابه". وقد يجيء العيب في الشعر من عدم رعاية الشاعر للغرض الذي يتحدث عنه؛ كما قال أبو نواس في مطلع قصيدة يهنئ فيها الفضل بن يحيى البرمكي ببناء دار: أَرَبْعَ البِلى إن الخشوعَ لبادِ ... عليك وإني لم أخنك ودادي يقال: إن الفضل عندما سمعها تطيَّر، ونكس رأسه، وأخذ الناس ينظر بعضهم إلى بعض، يعجبون لأبي نواس إذ كبا في هذه الحلبة جواده، ولم يسعده عند الحاجة ذكاؤه. ومن الزلل الذي يقع فيه الشاعر: أن يسيء الأدب مع الخالق، أو الرسول، أو من يجب احترامه في نظر الدين؛ وللسيوطي رسالة تسمّى: "تنزيه الأنبياء

عن تشبيه الأغبياء" أورد فيها نبذة من هذه الأشعار الرقيعة، وقال: إنما أكثرت الشواهد مع استثقالنا لحكايتها؛ للتعريف بأمثلتها. ومن هذا النحو: الأشعار التي تحمل المجنون والفحش من القول، وتزيِّن لقرائها الخنا والخلاعة؛ وإنما ينحدر في هذه الحمأة من لم يتربوا في مهد الأدب الرفيع، ولم تستقبلهم الفضيلة يوم يخرجون من بطون أمهاتهم. وإن تعجبوا لطائفة من فسقة الشعراء يقتبسون آيات من كتاب الله، ويقصدون بها معاني قبيحة منكرة، فاعجبوا لفئة أخرى يوردون في بعض مؤلفاتهم من هذه الأشعار ما يتصبب له الجبين من الحياء عرقاً. هذا نموذج من وجوه نقد الشعر، وأكثرها يجري في غير الشعر أيضاً؛ كمخالفة قانون الصرف والنحو؛ ومنها ماله مزيد اختصاص بالشعر؛ كالنقد العائد إلى تصرفات الخيال، أو صناعة النظم، وهذا الوجه من النقد لا يحكم عليه إلا من كان بصيرًا بهذه الصناعة، فضعف النسج - مثلاً -، ونبوّ الكلمة عن موقعها في النظم، وطيش الخيال عن غرض الإجادة في تصوير المعنى، لا يدركه أينما كان إلا شاعر واسع المدى، أو ألمعي قضى دهراً في تدبر أشعار البلغاء. وإذا حاضرنا في نقد الشعر بعد هذا، فإنما نوجّه العناية إلى الوجوه التي لها مزيد اختصاص بالشعر، ولا نعبأ بما يدركه النحوي أو العروضي أو اللغوي على البداهة؛ فإنه سهل المأَخذ، وفي دراسة العلوم العربية الكفاية.

الشعر المصري في عهد الدولة الأيوبية

الشعر المصري في عهد الدولة الأيوبية (¬1) في أوائل النصف الثاني من القرن الرابع صار أمر مصر إلى العبيديين، وكان المعزّ مؤسس دولتهم معدوداً في طبقة الأدباء، وكذلك كان ابنه تميم الملقب بالعزيز، فلا جرم أن يكون لسوق الأدب في أيامهم نفَاق، وللأدباء حظوة، ونرى في التاريخ: أن يعقوب بن كِلِّس وزير العزيز كان له مجلس يحضره العلماء، فإذا فرغ من هذا المجلس، قام الشعراء ينشدونه ما أنتجته قرائحهم من الشعر. ويقال: إن هذا الوزير قد رثاه حين توفي نحو مئة شاعر. ويمر بنا التاريخ بعد هذا على رجال كان لهم في الأدب أقدام راسخة؛ مثل: الأمير المختار المعروف بالمسجّى (¬2)، ومثل: أحمد بن علي المعروف بابن خيران (¬3)، وأذكر من شعره قوله: ولوسعى بك عندي في ألذِّ كَرًى ... طيفُ الخيالِ لبعتُ النومَ بالسهرِ وما زال الأدب موصول الحلقات إلى أن جاء القرن السادس، فظهر فيه نبغاء مثل: أبي الغمر محمد بن علي الهاشمي الذي قال فيه العماد الأصفهاني: ¬

_ (¬1) محاضرة الإِمام من محطة الإذاعة في القاهرة. ونشرت في الجزء السادس من المجلد التاسع - مجلة "الهداية الإسلامية" لعام 1355 هـ. (¬2) تولى ديوان الترتيب في عهد الحاكم، وألف في الأدب كتباً ممتعة. (¬3) كاتب السجلات في عهد الظاهر بن الحاكم.

كان أشعر أهل زمانه، وأفضل أقرانه. ومثل: محمد بن قادوس شيخ القاضي الفاضل، وكان يسميه: ذا البلاغتين. ومثل: الحسن بن علي الأسوانيّ المعروف بالمهذب الزبيري، الذي قال فيه العماد الأصفهاني أيضاً: لم يكن بمصر في زمنه أشعر منه. ومن بديع شعره قوله يتشوق إلى نهر بردى في دمشق: بالله يا ريحَ الشما ... لِ إذا اشتملتِ الرَّوح بردا وحملتِ من نَشْرِ الخزا ... مى ما اغتدى للنَّد نِدا ونسجت ما بين الغصو ... ن إذا اعتنقن هوى وودا وهززت عند الصبح من ... أعطافها قدّاً فقدَّا نهر كنصل السيف تكـ ... ـسو متنه الأزهار غمدا صقلته أنفاس النسـ ... ـيم بمرهنَّ فليس يصدا وظهر لذلك العهد شاعرات مجيدات، منهن: تقية بنت غيث الصورية الإسكندرية، نظمت هذه الشاعرة مرة قصيدة تعرضت فيها - على عادة الشعراء - لمعان من قبيل اللهو، فظن بعض من قرأ القصيدة أنها وصفت ذلك اللهو لحضورها بعض مجالسه، فنظمت قصيدة وصفت فيها الحرب، وما يتصل بها أحسنَ وصف، وبعثت إلى من ظن بها ذلك الظن تقول له: علمي بهذا كعلمي بذاك، تعني: أن الشاعر يصف ما لا يرى، ويقول مالاً يفعل. وممن شد أزر الحركة الأدبية لذلك العهد طلائع بن رُزّيك الملقب بالصالح؛ إذْ كان هو نفسه من الشعراء المجيدين، وأذكر من شعره قوله في الحكمة: تنامُ ومقلةُ الحدثانِ يقظى ... وما نابَ النوائبَ عنك نابي

وكيف بقاءُ عمرك وهو كنزٌ ... وقد أنفقت منه بلا حساب ولحسن تقديره للأدب العربي، قصده الشعراء من أقاصي البلاد، وفي أيامه دخل عُمارة اليمني مصر، ولقي منه ومن ابنه العادل إقبالاً ورعاية، وعمارة هذا هو الذي يقول: ولا تحتقر كيد الضعيف فربما ... تموت الأفاعي من سمومِ العقارب ويقول: إذا كان رأسُ المال عمرَك فاحترزْ ... عليه من الإنفاق في غير واجبِ وموجز القول: أن من طالع كتاب "الخريدة" للعماد الأصفهاني، وغيرها من كتب الأدب، وجد في شعراء النصف الأول من القرن السادس كثرة، ووجد في شعرهم إجادة وإبداعاً. كذلك كان الشعر في سمو مكانته، وكثرة من يجيدون صنعه، وبهذا العهد اتصل عهد الدولة الأيوبية، فإنه يبتدى" بسنة أربع وستين وخمسمائة، وينتهي بسنة اثنتين وخمسين وستمائة. وأريد من الشعر المصري في عهد الدولة الأيوبية: شعر من نشؤوا في هذا العهد، أو قضوا فيه جانباً من حياتهم الأدبية. وإذا تحدثت عن شعراء مصر في هذا العهد، فإنما أتحدث عمن نشؤوا في مصر نشأتهم الأدبية، ولا أبالي بعد هذا أن تكون ولادتهم في أرضها، أو في أرض غيرها, ولا أبالي أيضاً بأن يكونوا قد أقاموا فيها طول حياتهم، أو يكونوا قد هاجروها إلى قطر آخر، واتخذوه وطناً. تولى صلاح الدين الأيوبي أمر مصر، وكان من نواحي عظمته: الارتياح

للأدب العربي، والاحتفاء بالأدباء البلغاء، تقرأ في تاريخه: أنه كان يستحسن الأشعار الجيدة، ويرددها في مجالسه، ومما عرف عنه أنه كان مولعاً بشعر أسامة ابن منقذ الذي دخل مصر في أيامه، ونال مكانة سامية، وأذكر من شعر أسامة هذا: قوله: وما أشكو تلؤُّنَ أهلِ ودّي ... ولو أجدَت شكيَّتهم شكوتُ إذا أدْمتْ قوارصُهم فؤادي ... كَظَمتُ على أذاهم وانطويتُ ورحتُ عليهمُ طلقَ المحيا ... كأني ما سمعتُ وما رأيتُ ولارتياح صلاح الدين للشعر العربي، ونظره إليه نظر من يقدر قيمته، قوي التنافس في هذا الفن، واشتد اتصال الأدب في غير مصر بالأدب المصري؛ فإن كثيراً من أدباء الأقطار الأخرى يفدون على صلاح الدين، أو يراسلونه بقصائدهم، مثل التلِّعفري، وسبط ابن التعاويذي، وابن الساعاتي، وعمر بن محمد المعروف بابن الشحنة الموصلي، وهو القائل: وإني امرؤ أحببتكم لمكارمٍ ... سمعتُ بها والأذنُ كالعينِ تعشقُ ومحمد بن يوسف البُحراني صاحب القصيدة الفريدة التي يقول فيها: تخصَبُ الأرضُ فلا أقربها ... رايداً إلا إذا عزَّ حماها لايراني الله أرعى روضةً ... سهلة الأكناف من شاء رعاها ومن أمراء الأسرة الأيوبية بعد صلاح الدين الأيوبي من يقول الشعر الجيد؛ مثل: الأفضل بن صلاح الدين، والكامل بن العادل، وأخويه: الأشرف، والمعظم، قال ابن سعيد في "تاريخه": "وأولاد العادل في صدر المئة السابعة: الكامل، والمعظم، والأشرف، الثلاثة شهروا بحب

الفضلاء، وقول الشعر". وفي هؤلاء الأمراء الثلاثة يقول ابن عُنَيْن من قصيدة يمدح بها العادل: وله البنون بكلِّ أرضٍ منهم ... ملكٌ يقول إلى الأعادي عسكرا من كل وضّاحِ الجبين تخاله ... بدراً وإن شهد الوغى فغضنفرا نهض الشعر العربي في عهد الدولة الأيوبية نهضة راقية، واشتمل على أمثال: البهاء زهير، وابن الجزّار، وابن سناء الملك، وابن شمس الخلافة، وابن مطروح، وابن الفارض، وشرف الدين محمد بن سعيد البوصيري، وابن النبيه، وابن النقيب، ومظفر الدين بن إبراهيم الضرير، وابن أبي الإصبع، وابن الخيمي. وكيف لا يرفع الأدب رأسه وهو في ظلال دولة يقوم على المهم من أمورها أمثال: العماد الأصفهاني، وعبد الرحيم البيساني الملقب بالقاضي؟. وسيما الشعر في ذلك العهد: رقة الألفاظ، وقرب المعاني من أذهان قارئيه وسامعيه. ومما أخذ بمجامع قلبي لأبي الحسين الجزار جمع بين السهولة والمتانة، أعني قوله: هو ذا الركبُ ولي نفسٌ مشوقه ... فاحبسِ الركبَ عسى أقضي حقوقَهْ فاضَ دمعي مذ رأى ربعَ الهوى ... ولَكَمْ فاضَ وقد شام بروقَه نفد اللؤلؤ من أدمعه ... فغدا ينثر في الترب عقيقَه قم معي واستوقف الركبَ فإن ... لم يقفْ فاتركه يمضي وطريقَه فهي أرضٌ قلَّما يلحقها ... أملٌ والركبُ لم أعدمْ لحوقَه كانت مَيزة الشعر: السهولة والعذوبة، حتى إن بعضهم لا يبالي أن يورد

في شعره عبارة تجري على ألسنة الجمهور بعد أن يكسوها مسحة خفيفة من العربية الفصحى؛ كقول ابن النبيه: قل لأحبابٍ كسوني الأرقا ... ماتَ صبري فلهم طولُ البَقا نعم، وجد في هذا العصر ما وجد، وفشا في بعض العصور قبله وبعده من الاستكثار من أنواع البديع؛ كالجناس، والتورية، ولكن قصد الشعراء البارعين إلى نحو هذين النوعين من البديع إنما يكون في بعض المقطعات، أو الأبيات المعدودة من القصائد، ثم إن قصدهم إلى هذه الأنواع لا يمس براعتهم في صناعة الشعر؛ لأنهم يحسنون صنعها، فتسيغها أذواق الأدباء دون أن تحس بشيء من الثقل والكلفة. وللشعر الحماسي في ذلك الوقت باعث قوي هو انتصار الدولة، وعزة مكانتها، فإذا شعر الأديب بأنه يعيش تحت سماء عزة وكرامة، كان شعوره هذا من مهيئات البراءة في فن الحماسة، فإذا انضم إلى هذا كبرُ نفس الشاعر، رأيته يذهب في هذا الفن من فنون الشعر مذاهب بديعة، وانظر إلى البهاء زهير كيف يقول: أهوى التذلُّلَ في الغرام وإنما ... يأبى صلاحُ الدين أن أتذللا ومن أبلغ ما وقع في الشعر من الحماسة قول ابن سناء الملك: سوايَ يهابُ الدهرَ أو يرهبُ الردى ... وغيريَ يهوى أن يعيشَ مخلَّدا ولكنني لا أرهبُ الدهر إن سطا ... ولا أحذر الموتَ الزُّؤامَ إذا عَدا توقُّدعزمي يتركُ الماءَ جمرةً ... وحليةُ حلمي تترك السيفَ مِبْرَدا وأظمأ إن أبدى لي الماءُ مِنَةً ... ولو كان لي نهرُ المجرَّةِ موردا

ولي قلمٌ في أنملي إن هززته ... فما ضرَّني أنْ لا أهزَّ المهنَّدا أما الحكم والأمثال، فكثيراً ما نجدها في بعض مقطوعات، أو في أثناء قصائد مطولة؛ يقول ابن سناء الملك: وَمنْ يغرسِ المعروف يجني ثمارَه ... فعاجلُه ذِكْرٌ وآخرُه أَجْرُ وقوله: ألا إن إقليماً نبتْ بك دارُه ... وإنْ كَثُرَ الإثراء فيه لمعدمُ وكقول ابن النبيه: والعمرُ كالكأسِ تستحلى أوائلُهُ ... لكنَّه ربما مُجَّتْ أواخرُهُ ومما سار مسير المثل قول ابن سناء الملك: "ولابد دون الشهد من إبر النحل" وللنسيب في ذلك العهد جولة واسعة، وابتكر فيه بعض الشعراء طرقاً يستبينها الأديب من مطالعة دواوينهم، وقد أعجب الأديب الأندلسي ابن سعيد بطريقة البهاء زهير في هذا الفن من الشعر، وسأله عندما قدم مصر أن يرشده إلى وجه سلوكها، فأشار عليه البهاء بأن يطالع ديواني: الحاجري، والتلعفري، ثم يراجعه بعد ذلك، فغاب ابن سعيد عنه مدة أكثر فيها من مطالعة الديوانين، ثم اجتمعا وتذاكرا، وكان من البهاء أن أنشد شطرًا من بيت هو قوله: "يا بأن وادي الأجرع" وقال لابن سعيد: أشتهي أن تكمله، فقال ابن سعيد: سقيت غيث الأدمع

فقال البهاء زهير: حسن والله، ولكن الأقرب إلى هذا الطريق أن تقول: هل ملت من طرب معي وترى في هذا العصر تنافساً شديداً بين الشعراء، حتى إن الشاعر قد يدعي لنفسه شعر آخر، وهو في قيد الحياة، وأسوق على هذا حادثتين: إحداهما: نزل وقع بين ابن شمس الخلافة، وابن مطروح في بيت ادعى كل منهما أنه قائله، وبلغ بهما النزاع أن أقام كل منهما شاهداً على أن البيت له، والبيت هو: وأقولُ يا أختَ الغزالِ ملاحةً ... فتقول لا عاشَ الغزالُ ولا بقي ثانيتهما: نزاع جرى بين ابن الخيمي، وابن إسرائيل، تنازعا في القصيدة التي جاء فيها البيت المشهور: يا بارقاً بأعالي الرقمتين بدا ... لقد حكوت ولكنْ فاتك الشنبُ ثم إن الشاعرين تراضيا على تحكيم ابن الفارض. فأمر كلاً منهما أن ينظم قصيدة في وزنها، فذهبا وأتياه وأنشداه ما نظما، فحكم بها لابن الخيمي، وقال لابن إسرائيل: لقد حكوت ولكن فاتك الشنب ولا بدع أن يعرف الأديب الألمعي أن هذا الشعر من نظم زيد أو عمرو، مستنداً في ذلك إلى قوة شبهه بأسلوبه، فللأشعار قافة يعرفون أنسابها من روح المعنى وطرز النظم، كما أن للناس قافة يعرفون أنسابهم من النظر في خلقتهم وملامح وجوههم. وكان الشعر المصري في ذلك العهد يصل إلى بلاد المغرب والأندلس

على أيدي الراحلين من العلماء والأدباء، تقرأ في التاريخ: أن الكاتب ابن عبد ربه الأندلسي اجتمع في رحلته بابن سناء الملك، وأخذ عنه شيئاً من شعره، ورواه بالمغرب، وكذلك الوزير أبو عبد الله بن الحكيم الرندي الأندلسي أخذ في رحلته عن الشهاب ابن الخيمي قصيدته التي يقول في أولها: يا مطلباً ليس لي في غيره أربُ ... إليك آل القضى وانتهى الطلب وعاد بها إلى الأندلس. وكان للأدباء في ذلك العصر مجالس يتذاكرون فيها الأشعار، ومجامع يحتفلون فيها بمن يرد مصر من الأدباء. يقول ابن خلكان في ترجمة ابن سناء الملك: "واتفق في عصره بمصر جماعة من الشعراء المجيدين، وكان لهم مجالس يجري بينهم فيها مفاكهات، ومحاورات يروق سماعها، ودخل في ذلك الوقت إلى مصر شرف الدين بن عُنين، فاحتفلوا به، وعملوا له دعوات، وكانوا يجتمعون على أرغد عيش، وجرت له محافل سطرت عنهم، ولولا خشية الإطالة، لذكرت بعضها". ونسوق على هذا: أن علي بن سعيد الأندلسي دخل مصر في أوائل القرن السابع، فاحتفل به أدباؤها، وأقاموا له في بعض المتنزهات بظاهر القاهرة مأدبة؛ ومما جرى في هذا الاحتفال من الملح الأدبية: أن أبا الحسين الجزار داس بساطاً من النرجس، فقال له ابن سعيد مرتجلاً: يا واطئ النرجس ما تستحي ... أن تطأ الأعينَ بالأرجل وجاراه بعض الأدباء وقتئذ بشعر يناسب هذا البيت. وكذلك كانت مصر تبسم في وجوه الأدباء منذ عهد قديم، وأذكر أن

الشاعر المعروف بكشاجم قد وردها في القرن الرابع، وأقام بها مدة، ثم ارتحل عنها؛ فأخذه إليها شوق شديد، فلم يكن إلا أن عاد إليها، واتخذها دار إقامة، وقال: قد كان شوقي إلى مصر يؤرقني ... فالآن عدت وعادت مصر لي دارا ولا يشتاق الأديب إلى وطن إلا أن يكون للأدب في ذلك الوطن نَفاق، ولمقام الأديب فيه نباهة. وأضيف إلى هذا: أن الأديب إبراهيم الرقيق التونسي أحد شعراء القرن الخامس، زار مصر، فاحتفى به أدباؤها, ولما عاد إلى تونس، قال شعراً يتشوق إلى هؤلاء الأدباء، ومما قال: هل الريحُ إن سارتْ مشرِّقَةً تسري ... تؤدي تحياتي إلى ساكني مصرِ فما خطرت إلا بكيتُ صبابةً ... وحمَّلْتُها ما ضاقَ عن حمله صدري تراني إذا هبَّتْ قبولاً بنشرهم ... شممت نسيم المسك من ذلك النشر ألا إن الأدب الزاهر إذا لقي فِطَراً سليمة، وأذواقاً صافية؛ كان من ألطف وسائل التأليف بين الأفراد والجماعات: وقرابةُ الأدباءِ يقصُرُ دونهَا ... عند الأديب قرابةُ الأرحام

نظرة في شعر حسان بن ثابت

نظرة في شعر حسّان بن ثابت (¬1) حسان بن ثابت قضى شطراً من عمره في الجاهلية، وشطراً في الإسلام، وكان آباؤه من ذوي الشرف والوجاهة في الجاهلية، فنشأ في المدينة، وكان للشعر في ذلك العهد نهضة راقية، ففي ذلك العهد ظهر شعراء مبدعون؛ مثل: علقمة، وزهير، والنابغة، والأعشى، وقيس بن الخطيم، وكان لهؤلاء المبدعين ميدان يتبارون فيه، هو سوق عكاظ، فكلُّ من في قريحته استعداد لصنع الشعر؛ كحسان بن ثابت، يجد في هذه النهضة باعثًا على أن يقول الشعر، وينافس في مضماره بأقصى ما يستطيع. ويزيد حسان بمهيئ هو: أنه نشأ في بيت أصيل في صناعة الشعر، فقد كان أبوه ثابت، وجدّه المنذر معدودين في قبيل الشعراء. * سمو مكانة حسان في الشعر: في الشعراء من يتأنى في نظم الشعر، ولا يخرجه للناس إلا بعد أن يبالغ في تنقيحه؛ كالحطيئة فيما يقال، ويسمى هذا النوع من الشعر بالمصنوع، ومنهم من يقوله ويسمعه الناس على ما تجود به القريحة لأول مرة؛ كحسان ابن ثابت، ويسمى هذا النوع من الشعر بالمطبوع، وكان الأصمعي يعيب ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد الحادي عشر.

الحطيئة، وقال: وجدت شعره كله جيداً، فدلني على أنه كان يصنعه، وليس هكذا الشاعر المطبوع، إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه جيده على رديِّه. ولعلهم يريدون من الردي: الأبيات التي تكون في مرتبة دون مرتبة الإبداع؛ فإن اشتمال شعر الرجل الذي عرف بالبراعة على أبيات في مرتبة متوسطة، يدل على أنه لا يبالغ في تهذيب شعره، بل يلقيه على نحو ما تسمح به قريحته. ومن شواهد أن حسان لم يكن يتأنى ويتكلف للشعر: ما يروى من أنه قد يقول الشعر في المجلس الذي وجد فيه الباعث على الشعر؛ كقصته مع وقد تميم إذ جاؤوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنشد أحد شعرائهم الزبرقان بن بدر أبياتاً يفخر فيها بقومه، فأجابه حسان في المجلس بالقصيدة التي يقول في طالعها: إن الذوائبَ من فِهْرٍ وإخوتِهمْ ... قد بيّنوا سُنَّةً للناس تُتّبعُ والأصمعي الذي عاب الحطيئة بالتصنع في الشعر، شهد لحسان بسمو المكانة في الشعر، وقال: حسان بن ثابت أحد فحول الشعراء. وقال ابن رشيق في كتاب "العمدة": وأشعرُ أهل المدر بإجماع واتفاق من الناس: حسان بن ثابت، ثم قال: وقوم يرون تقدمة الشعر لليمن، في الجاهلية بامرئ القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت. كان عمر بن الخطاب يرجع في القضايا التي تتعلق بالشعر إلى حسان. استعداه وهي تميم على الشاعر المعروف بالنجاشي لما هجاهم، فألقى النظر في أمرهم إلى حسان، ونفذ عمرُ ما حكم به حسان، وكذلك فعل في هجاء الحطيئة للزبرقان بن بدر، فقد أخذ رأي حسان في أن ما قاله الحطيئة

الفخر في شعر حسان

هجاء، وأودعه السجن. ويوجد فيما ينسب إلى حسان من الشعر شيء كثير فيه ضعف، وبعض علماء الأدب ينفي أن يكون هذا الشعر الضعيف من صنع حسان؛ مثل: الأصمعي؛ فإنه لما جعل حسان في مرتبة فحول الشعراء، قال له أبو حاتم: تأتي له أشعار لينة، قال الأصمعي: تنسب إليه أشياء لا تصح عنه. والواقع أن حسان لا يقل في صناعة الشعر عن النابغة، وزهير، وأمثالهم، بل عدّه ابن خلدون في الطبقة التي تفوق هؤلاء الجاهليين، من جهة أنهم سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث، فارتقت ملكاتهم، وكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة، وأصفى رونقاً. فلحسان أشعار تضاهي في براعة الصنع وجودة التصرف أرقى شعر يقوله زهير، أو علقمة، أو النابغة، وله أشعار تضاهي ما يُعَدُّ في المرتبة المتوسطة من أشعار أولئك الفحول، وأرى أن أكثر هذا الشعر الضعيف الذي ينسب إليه ليس من صنعه؛ فإن الشاعر الفحل قد يضعف في الأبيات القليلة من القصيدة، وإذا تناول في شعره بعض المعاني المبتذلة، فإنه لا ينزل عن براعة الأسلوب ومتانة نسج الألفاظ إلا قليلاً. * الفخر في شعر حسان: تهيأت لحسان في الجاهلية أسباب البراءة في الفخر، فقد نشأ في بيت عريق في الشرف والتفاخر بالإنساب وخصال الشرف مما أولع بها العرب، ويضاف إلى هذا: أن الخزرج الذين هم قوم حسان كانت بينهم وبين الأوس حروب ووقائع، ثم جاء الإسلام، وقامت الحروب بين المسلمين والمشركين، والحروب تستدعي من الشاعر أن يجول في الفخر والحماسة جولات واسعة،

فكان من فنون شعر حسان الفخر والحماسة. يفخر حسان بالكرم والسخاء كما قال: وإن أَكُ ذا مالِ قليلِ أَجُدْ به ... وإن يهتصرَ عودي على الجهدِ يُحمدِ وقال: وإني لمعطٍ ما وجدت وقائلٌ ... لموقدِ ناري ليلةَ الريحِ أوقدي ويفخر برعاية حق الجار كما قال: فما أحدٌ منا بمهدٍ لجاره ... أذاة ولا مزرٍ به وهو عائدُ لأنا نرى حق الجوار أمانة ويحفظه منا الكريمُ المعاهد ويفخر بالصبر على الشدائد كما قال: فلا المالُ ينسيني حيائي وعفتي ... ولا واقعاتُ الدهر يَفْلُلْنَ مِبْردي ويفخر بالعدل كما قال: فنحن ولاةُ الناسِ في كلِّ موطنٍ ... متى ما نقل في الناس قولاً نُصدَّقِ توفَّق في أحكامِنا حكماؤنا ... إذا غيرُهم في مثلها لم يوفَّقِ ويفخر بالبراعة في الشعر كما قال: لكل أناسِ مِيسمٌ يعرفونه ... ومِيسمنا فينا القوافي الأوابدُ ويفخر بالعزم كما قال: ونحن إذا لم يبرم الناس أمرهم ... نكون على أمر من الحق مبرمِ ويفخر بالشجاعة كما قال:

المديح في شعر حسان

ويثربُ تعلم أنا بها ... أسودٌ تنفِّض ألبادها نهزُّ القنا في صدور الكماة ... حتى نكسِّرَ أعوإدها وجمع الفخر بالشجاعة والسخاء في بيت فقال: لنا الجفناتُ الغرُّ يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرنَ من نجدةٍ دما يفتخر حسان بالشجاعة، ولكن بعض المؤرخين يقولون: كان يجبن، وإن جهاده بشعره، وأنكر بعضهم أن يكون حسان جبانًا، وقال: إنه كان يهاجي قريشاً، ويذكر مثالبهم، ولم يبلغنا أن أحداً عيَّره بالجبن، والفرار من الموت. * المديح في شعر حسان: تهيأت لحسان أسباب البراءة في المديح في الجاهلية؛ فقد كان يفد على آل جفنة بالشام، فيهتزون لمديحه، ويبسطون إليه أيديهم بالجوائز، حتى روي أنه كان يرحل إليهم عاماً بعد عام، ومن أشهر قصائده في مدحهم القصيدة التي يقول في أولها: أسألتَ رسمَ الدارِ أمْ لم تسألِ ... بين الجوابي فالبُضَيع فحَوْمَلِ ويقول: لله درُّ عصابةً نادمتهم ... يوماً يجلَّق في الزمانِ الأول يمشون في الحللِ المضاعَفِ نسجُها ... مشيَ الجمالِ إلى الجمال البُزَّلِ الضاربونَ الكبشَ يبرق بيضُه ... حزماً يطيحُ له بنانُ المفصلِ والخالطونَ فقيرَهم بغنيهم ... والمنعمون على الضعيف المرمِلِ

الهجاء في شعر حسان

أولاد جفنةَ حول قبر أبيهم ... قبرِ ابن ماويةَ الكريم المفضلِ يُغشون حتى ما تهرُّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبلِ وروي: أنه تلا هذه القصيدة على عمر بن الحارث الغساني، وكان في المجلس علقمة والنابغة، فلم يزل عمر يزحل عن موضعه، حتى شاطر البيت، وهو يقول مخاطباً لعلقمة والنابغة: هذا - وأبيك - الشعر، لا ما تعللاني به منذ اليوم. وقد وقع البيت: "يغشون حتى ما تهر كلابهم" من الحطيئة موقع الإعجاب، فقال: أبلغوا الأنصار أن شاعرهم أشعر العرب حيث يقول: يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل وتهيأت لحسان أسباب المديح في الإِسلام بعد الجاهلية، إذ رأى من كمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمو مكانته، ومكارم أخلاقه فوق ما كان يراه في الناس بدرجات لا تحصى، فكان إيمانه الصادق يدعوه إلى مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام. ومن أبلغ ما روأنه في مدح الحضرة النبوية: قوله: وأحسنُ منك لم ترَ قطُّ عيني ... وأكملُ منك لم تلد النساءُ خُلِقْتَ مبرأً من كلِّ عيبٍ ... كأنك قد خُلِقْتَ كما تشاءُ وقوله: متى يبد في الليلِ البهيمِ جبينُهُ ... يلحْ مِثْلَ مصباحِ الدجى المتوقِّدِ فمن كان أو من قد يكون كأحمدٍ ... نظاماً لحق أو نكالاً لملحدِ * الهجاء في شعر حسان: يعزى إلى حسان أشعار على أنه هجا بها في الجاهلية بعض الأشخاص،

أو بعض القبائل، وهجا حسان بعد دخوله في الإِسلام. وسبب هذا الهجاء: أن رهطًا من المشركين كانوا يهجون النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال المهاجرون: يا رسول الله! ألا تأمر علياً فيهجو هؤلاء القوم؟ فقال: "إن القوم الذي نصروا بأيديهم أحق أن ينصروا بألسنتهم"، فقالت الأنصار: أرادنا والله! فأرسلوا إلى حسان فأقبل، وأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هجائهم. ومن عرف ما كان للشعر من الأثر في نفوس العرب، أدرك أن هجاء المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم - يكون له أثر كبير في الصد عن الدعوة، وصرف النفوس عن قبولها، فلا بد من مدافعة هذا الشعر الهجائي بشعر مثله يبطل أثره، أو يخفف شره. وفي حديث عمار بن ياسر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: "قولوا لهم كما يقولون لكم"، فهجاء حسان في الإسلام إنما كان دفاعاً لمن اتخذوا الهجاء طريقاً لمحاربة الدعوة إلى الحق، وكذلك قال حسان مخاطباً أبا سفيان بن الحارث: هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرضِ محمد منكم فداء وكان حسان يهجو الأشخاص أو القبائل بالبخل، أو الجبن، أو الغدر، أو اللؤم، أو بنقص العقل، أو الكفر والضلال. وينسب إليه أبيات فيها فحش وإقذاع، وليس من المحتمل أن تكون تلك الأبيات المقذعة التي يحتويها الديوان المنسوب إليه قد صدرت منه بعد دخوله الإِسلام، بل أراها مصنوعة ومنسوبة إليه بغير حق، فإن الإسلام طبع نفوس الصحابة على آداب رفيعة، وسار بهم في سيرة نقية، لو عرضنا عليها هذا الشعر المقذع، رأيناها تدفعه، وحسان من الصحابة الذكره تأدبوا بأدب القرآن، ولازموا مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنين كثيرة.

ثم إنا نرى حسان يعني في فخره بخصلة النزاهة عن الفحش كما قال: أبي فعلنا المعروف أن ننطق الخنا ... وقائلنا بالعرف أن لاتكلما وقال في الفخر: مساميحُ بالمعروفِ وسط رحالنا ... وشباننا بالفحش أبخل باخل وقال يمدح قومه: إذا اختبطوا لم يفحشوا في نديهم ... وليس على سؤّالهم عندهم بخل وقال: مقاويل بالمعروف خرس عن الخنا ... كرام معاطي للعشيرة سؤلها وليس من شك في أن تلك الأبيات المقذعة فحش ليس بعده فحش. وإذا وجد بعض هذا الشعر المقذع في سيرة ابن إسحاق، فإن لدينا نصوصًا تجعلنا لا نتقبل ما يرويه ابن إسحاق في السيرة من الشعر إلا بتحفظ، فهذا ابن هشام قد يورد القصيدة منسوبة إلى من نسبها إليه ابن إسحاق، ويقول: وأهل العلم أو أكثر أهل العلم ينكرها لفلان؛ أي: الذي نسبها إليه ابن إسحاق. إذن ابن إسحاق نسب في السيرة أشعاراً كثيرة لأناس ينكر أهل العلم أن تكون لهم، وهذا يساعدنا على إنكار أن يكون هذا الشعر المقذع قد صدر من حسان في عهد النبوة. ونزيد على هذا: أن من نقّاد الرجال من أنكر على ابن إسحاق هذا الشعر الذي يرويه. قال ابن معين في حق ابن إسحاق: ماله عندي ذنب إلا ما قد حشا في السيرة من الأشياء المنكرة، والأشعار المكذوبة.

النسيب في شعر حسان

وهذا ابن سلام الجمحي يقول في كتاب "الشعر والشعراء": شعراء المدينة الفحول خمسة، وأشعرهم حسان، وقد حُمل عليه مالم يحمل على غيره، لما تباغضت قريش واستبت، وضعوا عليه أشعاراً كثيرة لا تليق به. وأريد من هذا: أن ما ينسب إلى حسان من الشعر، ننظر فيه من جهة ما يعبر عنه من المعاني، فإن وجدناه يلائم روح عهد النبوة، وما عرف به الصحابة من نزاهة وفضل، قبلناه ورويناه على أنه شعر حسان، وإن وجدناه ينافي روح ذلك العهد، أنكرناه، ولا سيما شعراً لم يرد منسوباً إلى حسان بسند متصل صحيح. * النسيب في شعر حسان: يذهب حسان في النسيب مذهب الشعراء من قبله، فيذكر الشوق والسهر وطول الليل، ويكثر من ذكر الديار وأطلالها، والرحيل وما يحدثه من روعات وحسرات، ويسوق نسيبه في نزاهة معنى، وجزالة نظم، ومثل هذا قوله: تطاولَ بالخمان ليلي فلم تكن ... تهم هوادي نجمه أن تصوبا أبيت أراعيها كأني موكَّل .. بها لا أريد النوم حتى تغيبا إذا غار منها كوكبٌ بعد كوكبٍ ... تراقبُ عيني آخرَ الليلِ كوكبا غوائر تترى من نجوم تخالها ... مع الصبح تتلوها زواحف لُغَّبا أخاف مفاجاةَ الفراق ببغتة ... وصرف النوى من أن تشب وتشعبا وأيقنت لما قوَّض الحيُّ خيمَهم ... بروعاتِ بَيْنٍ تترك الرأس أشيبا يصدر حسان المدح أو الفخر بالنسيب، بل قد يصدر المهاجاة بذكر البين والرحيل والبكاء، وكثيراً ما يخرج من النسيب إلى غيره من الفنون بقوله:

الحكمة في شعر حسان

"دع ذا"، أو نحوه، كما نرى هذا في شعر هاجى به قيسَ بن الخطيم إذ قال في أوائله: ما كنت أدري بوشك بينهم ... حتى رأيت الحدوجَ قد عزفوا فغادروني والنفس غالبها ... ما شفَّها والهموم تعتكف دع ذا وعد القريض في نفر ... يرجون مدحي ومدحي الشرف والقصيدة التي افتتح بها ديوان حسان الذي بأيدينا، قصيدة هاجى بها أبا سفيان بن الحارث، وهي مصدرة بنحو عشرة أبيات من النسيب، وأولها: عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء وقال بعد العشرة الأبيات متخلصاً إلى مخاطبة قريش وأبي سفيان بن الحارث: عدمنا خيلَنا إن لم تروها ... تثير النقعَ موعدُها كداءُ يبارين الأعنَّة مُصعداتٍ ... على أكتافها الأَسَلُ الظماء تظل جيادُنا مُتمطِّراتٍ ... تلطِّمهن بالخمُر النساء ونقل عن حسان أن أبيات النسيب من هذه القصيدة قالها في زمن الجاهلية، ثم وضعها في أول هذه المهاجاة بعد الإسلام. ومن نظر في تلك الأبيات، وجد عليها طابع شعر حسان في الجاهلية. * الحكمة في شعر حسان: من فنون الشعر التي برع فيها حسان: إرسال الحكم البالغة، ومن هذا الباب: قوله فيمن يوثق بصحبته من الإخوان: أخلّاء الرخاء هم كثيرٌ ... ولكن في البلاء هم قليلُ

فلايغررك خلة من تؤاخي ... فمالك عند نائبة خليلُ وكلُّ أخٍ يقول أنا وفيٌّ ... ولكن ليس يفعل ما يقول سوى خلٍّ له حَسَبٌ ودين ... فذاك لما يقول هو الفعول وقال مشيراً إلى أن الشباب محفوف بالأهواء، وناصحاً بعدم إطالته في كل أمر: إنَّ شرخ الشباب والشَّعَر الأسـ ... ـودَ مالم يعاص كان جنونا وقال يحذر من عاقبة اتخاذ وسائل الكيد للنفوس المقبلة على شأنها: وكم حافرٍ حفرةً لامرئ ... سيصرعه البغيُ فيما احتفر وقد تؤخذ الحكمة مما يقوله في الفخر؛ كقوله في بذل المال صيانة للعرض: أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض بالمال أحتال للمال إن أودى فأجمعه ... ولست للعرض إن أودى بمحتال وربما أخذت الحكمة مما يقوله في المهاجاة؛ كقوله مشيراً إلى أن عاقبة الجبن والهرب من مواقع الدفاع ذل وهوان: كرهوا الموتَ فاستبيح حماهم ... وأقاموا فعل اللئيم الذليل أمن الموت يهربون فإن الـ ... ـموتَ موتُ النذال غير جميل ومما يدخل في قبيل الحكمة، ويدل على جودة تخيله لاصطيادها: قوله يصف القول المزخرف للغرور به: إني لأعجب من قولٍ غررت به ... حلوٍ يمد إليه السمع والبصرُ

لو تسمع العصم من شم الجبال به ... ظلت من الراسيات العصم تنحدر كالخمروالشهد يجري فوق ظاهره ... وما لباطنه طعمٌ ولاخبر وكالسراب شبيهاً بالغدير وإن ... تبغ السراب فلا عين ولا أثر لا ينبت العشب عن برق وراعدة ... غرّاء ليس له سيل ولا مطر وخلاصة البحث: أن الشعر الذي تنسبه الرواية إلى حسان، ويوافق الرواية فيه النقد والفكر، هو شعر بالغ في براعة النظم، وجودة صياغة المعاني المرتبة التي هي أقصى ما بلغه الشعراء في الجاهلية وصدر الإسلام.

الخطابة عند العرب

الخطابة عند العرب (¬1) * ما هي الخطابة؟ يذكر المناطقة الخطابة فيقولون: هذا القياس من قبيل الخطابة، وليس ببرهان، والخطابة على هذا القصد: ضرب من ضروب القياس، وهي القياس المؤلَّف من أقوال مظنونة أو مقبولة، والأقوال المظنونة ما يؤخذ فيها بالمحتمل الراجح، والأقوال المقبولة ما تُتلقى ممن يُعتقد صدقه، وسداد رأيه. ومثال الخطابة المؤلَّفة من أقوال مظنونة: أن تشير إلى أمة غربية أو شرقية، وتقول: هذه الأمة تساس بإرادتها؛ لأن لها مجلسًا نيابيًا ينظر في شؤونها، وهذا الاستدلال يرجع إلى الخطابة القائمة على أقوال مظنونة؛ إذ الشأن في الأمم ذات المجالس النيابية أن تكون مسوسة بإرادتها, ولا يبلغ هذا الاستدلال أن يكون قاطعًا إذ من الجائز - ولو على بعد - أن تجول عند انتخاب الأعضاء ريح ضاغطة، فلا يجري الانتخاب على وجهه الصحيح. ومثال الخطابة المؤلفة من أقوال مقبولة: أن تقول لمن يتخبطه الغضب حين يُنقد قوله: لا تستنكف من أن يُردّ عليك رأيك، فقد قال الخليفة المأمون: ¬

_ (¬1) محاضرة للإمام في نادي "جمعية الشبان المسلمين" بالقاهرة مساء الأربعاء 5 ذي القعدة 1346 ونشرت برسالة صغيرة عام 1346 هـ، ونشرت في مجلة "الفتح" العددين 94 و 95 لعام 1346 هـ - القاهرة.

إن العلم على المناقشة أثبت منه على المتابعة. أو تقول لمن يبلى بسلطة جاهل: لا تطع من يأمرك بغير هدى، فقد قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: فإذا عصيتُ الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم. ومقابل الخطابة أربعة فنون: أحدها: البرهان، وهو القياس المؤلَّف من أقوال يقينية؛ كأن تقول: تونس مملكة غير مستقلة؛ لأنه يقيم في ثكناتها، ويقبض على زمام أمرها رجال فرنسيون. وإنما كان هذا القياس برهانًا؛ لأن العقل لا يستطيع أن يتصور لأمة استقلالاً إلا أن يكون لرجالها الرأي النافذ، والكلمة العليا. ثانيها: الجدل، وهو القياس المؤلف من أقوال مشهورة مسلَّمة بين الناس، أو أقوال يسلمها المخاطب، ولو لم تكن في نفسها صادقة. ومثال ما كان مؤلفًا من أقوال مشهورة مسلَّمة بين الناس: أن تشير إلى قوانين أو محاكم ترفع الأقوياء على المستضعفين درجة أو درجات، وتقول: هذه القوانين قبيحة الوضع، أو هذه المحاكم قبيحة الهيئة؛ لأنها لا تقوم على أساس المساواة بين الناس. وهذا الاستدلال يرجع إلى أقوال عرفها الناس، وتعاقدوا على صحتها، وهي أن عدم المساواة بين الناس ظلم، وأن قبح الظلم شديد. ومثال القياس المؤلف من أقوال يسلمها المخاطب، ولم تكن في نفسها صادقة: أن تحاور من لا يعرف الحق والباطل، أو الضار والنافع، وإنما يعرف الجديد والقديم، فتقول له: الخمر غير لائقة؛ لأن أحدث قانون وضع لها في البلاد الغربية يمنع من تناولها. وهذا القياس يعتمد على قول يسلمه مخاطبك الذي يدور مع الجديد أينما دار، وهو أن كل شيء يوضع له قانون جديد يمنع من تناوله فهو غير لائق. ولو قلت: الخمر غير لائقة؛ لأن علماء الاجتماع

بأمريكا قرروا أنها قذى في عين المدنية، وعثرة في سبيل العمران، كان قياسك هذا من قبيل الخطابة. ثالثها: الشعر، وهو القياس المؤلف من أقوال خيالية، ومثال هذا: أن يزيِّن لك الرجلالخمول والقعود عن الناس في ناحية، فيقول: الخمول أهنأ حياة، وأقرب إلى السلامة من الظهورة فإن عواصف الرياح تحطم الأشجار الشامخة برؤوسهالأولا تمس الشجر القريب من الأرض بسوء. وإنما كان هذا القياس شعراً؛ لأنه لم يزد على أن خيّل إليك الظاهر بالعمل مع الجماعة في صورة ما تصرعه الرياح العاصفة، حتى تاخذك روعة، وتسل يدل من يدهم نفورأوفزعاً. ويمكنك أن تعارض هذا الخيال بخيال مثله، فتقول: الظهور خير من الخمول؛ فإن الثعالب تدوس النبات القريب من الأرض بأرجلها، ولا تصل إلى الأشجار الشامخة إلا أن ترمقها باعينها. وقد يجتمع في القياس الواحد الشعر والخطابة، ومثال هذا أن تقول: علِّموا البنات تحت ظلال الصيانة والحياءة فإنهن من البنين بمنزلة أعجاز القصيدة من صدورهالأولا يحسن في القصيدة الواحدة أن تكون صدورها محكمة، وأعجازها ضعيفة متخاذلة. وهذا القياس من جهة ما فيه من تخييل شعر، ومن جهة ما يضعه في الثفس من إقناع خطابة. وهذا النوع من الاستدلال هو ما يسميه الباحثون في فلسفة الأدب بالتمثيل الخطابي. رابعها: السفسطة، وهي القياس المؤلف من أقوال لم تستوف شرائط الإنتاج، ومثاله: أن يقول من في قلبه مرض: إن نبذ اَداب الدين تطوّر من تطورات العصر، وتطورات العصر لا تأتي مقاومتها بشيء. وإنما كان هذا القياس من نوع السفسطة؛ لأن التطورات التي لا تقاوم إنما هي التطورات الناشئة

عن سنن كونية ثابتة، أو التطورات التي يأتيها الناس برجاحة عقل، وسلامة ذوق، أما التطورات الحادثة عن أهواء أو جهالة، فهي التي تجيء الشرائع، وتؤلف الكتب، وتلقى الخطب لمحاربتها، وتطهير الأرض من أرجاسها، وإن لبسها الرؤساء ومن في الأرض جميعاً. ولعل بعض السادة الحاضرين يلاحظون أنا سقنا أمثلة الخطابة وما يقابلها من فنون القياس على غير الطريقة المعروفة في درس القوانين المنطقية، فلم نقل - مثلاً -: تونس مملكة شرقية يقبض على زمامها رجال فرنسيون، وكل مملكة شرقية يقبض على زمامها رجال فرنسيون فهي غير مستقلة، النتيجة تونس غير مستقلة. وعذرنا فيما سلكنا: أن هذه المقاييس لا ترد في المخاطبات التي تراعى فيها قوانين البلاغة إلا محذوفة إحدى المقدمتين، أو النتيجة؛ أي: محذوفة ما تدل عليه قوة الكلام تفصياً من وصمتي التكرار والإطالة لغير جدوى. ويراد من الخطابة: القوة الصانعة للأقوال المقنعة. وعلى هذه البابة رسمها أرسطو، فقال: هي قوة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأشياء المفردة. ومعنى هذا: أن الخطابة قوة يطيق صاحبها إقناع المخاطبين في كل شيء يدعي أنه غرض صحيح، والإقناع تقوية الظن، وهو ما تعتمد عليه صناعة الخطابة. وإنما وصف الإقناع بالإمكان، فقال: "تتكلف الإقناع الممكن"؛ لأن شأن هذه الصناعة إعداد النفوس لعمل الإقناع، وإن لم تبلغ غايتها القصوى.

شرف الخطابة

وكذلك الشأن في سائر الصناعات؛ فإنها تُعِدّ النفس لعمل خاص. ثم إن الناس يكونون فيها على درجات متفاوتة متفاضلة. وإنما قال: "في كل واحد من الأشياء المفردة"؛ لأن الخطابة تتناول كل العلوم والفنون، ويسوغ لها أن تدخل في كل شيء، صغيرًا كان أو كبيراً، معقولاً كان أو محسوساً. ومن هنا قال الباحثون في شؤونها: يلزم الخطيب أن يكون ملمًّا بالعلوم والفنون ما استطاع، وأن يسعى دائبًا إلى أن يزداد في كل يوم علماً. أما الخطابة في لسان الأدباءِ والبلغاء، فهي إلقاء الكلام المنثور, سجعاً أو مرسلاً؛ لاستمالة السامعين إلى رأي، أو ترغيبهم في عمل، وهذا ما يريدونه عندما يذكرون الخطابة، ويقولون: فلان يقوم على الخطابة أكثر مما يقوم على الكتابة. والخطابة عند هؤلاء - وإن كانت تعتمد على الأقوال المظنونة أو المقبولة - قد يدخل فيها ما يسمى عند المناطقة: برهانًا، قال صاحب "المناهج الأدبية": والأقوال الصادقة يقينًا لا تقع في الخطابة من حيث إنها خطابة، فإن ألمَّ بها الخطيب، فقد عدل بالخطابة عن أصلها. وربما أتى الخطيب على أقوال مموهة؛ أي: ذات جمل تشبه ما يكون صادقاً، وليست في نفسها صادقة، أو ذات هيئة تشبه ما يكون صحيحاً، وليست في نفسها بصحيحة، قال مالك ابن دينار: رأيت الحجّاج يتكلم على منبره، ويذكر حسن صنيعه لأهل العراق، وسوء صنيعهم له، حتى إنه صادق مظلوم. * شرف الخطابة: تشرف العلوم والصنائع بمقدار ما تشرف غاياتها. وللخطابة غاية ذات

شأن خطير، وهي إرشاد الناس إلى الحقائق، وتشويقهم إلى ما ينفعهم في هذه الحياة وفي تلك الحياة. والخطابة معدودة في وسائل السيادة والزعامة، سمع الإِمام علي بن أبي طالب زيادًا يخطب - وكان زياد لا يدعي يومئذ لأبي سفيان -,فقال: لو كان هذا الفتى قرشياً، لساق العرب بعصاه. وكانوا يعدونها شرطاً للإمارة، ألا ترون إلى عبد الله بن زياد - وكان خطيباً على لكنة في لسانه - كيف يقول: نعم الشيء الإمارة لولا قعقعة البرد، والتشرُّف للخطب. وقد عني الإِسلام بالخطابة إذ شرعها في أيام الجمع والأعياد ومواسم الحج، شرع الخطابة وما شرعها إلا ليتولاها ذو نباهة وعلم وبلاغة. يتولاها ذو نباهة؛ ليكون بصيراً بما يطرأ على نظام الجماعة من خلل، وبما ينصبه أعداؤها من مكايد، وبما يبيته منافقوها من تضليل. يتولاها ذو علم حتى يفرق بين المعروف والمنكر، ويميز الأوهام من الحقائق، ويكون إرشاده مملوءاً بالمواعظ الحسنة، والحكم السامية. يتولاها ذو بلاغة؛ ليختار من أساليب البيان ما تألفه الأذواق، وتنفتح له الصدور. وكذلك كانت الخطابة يوم كانت اللغة في حياتها الزاهرة، وكان الخطباء كما ولدتهم أمهاتهم أحرارًا. ففي الخطابة شرف عظيم، وشرفها في أن يكون القائم عليها نبيهاً عالماً بليغاً. قد يبلغ الخطيب بحذقه في فنون البيان أن يريك الباطل في صورة الحق، ويخيل إليك الشقاء سعادة. وهذا لا يزري بقدر الخطابة، وإن هي إلا ككثير من وسائل الخير التي قد يذهب بها بعض الناس في غير مذهبها، ويصفها فيما ليس من شأنها، ومثلها في هذا مثل السيف تهزه يد العدل لتضرب به الباطل

ماذا تفعل الخطابة؟

مرة، ويهزه الباطل ليسطو به على الحق مرة أُخرى. * ماذا تفعل الخطابة؟ الخطيب البارع يقف في الجند المتباطئ، ويصف له ما يناله الأبطال من عزة يوم يعيشون، أو سعادة يوم يموتون، فينقلب التردد عزماً صارماً، والإحجام هجوماً رائعاً. الخطيب البارع يقف في الجماعة الخاملة، فيهزّ قلوبها هزاً، فإذا هي ناهضة من خمولها، عاملة لإعلاء ذكرها، مقتحمة كلّ عقبة تقوم في طريقها. الخطيب البارع يقف بين قوم نشؤوا في بيئة مغبَّرة جهلاً وعماية، أو تلقتهم دعاة الغواية قبل أن تألف الحق بصائرهم، ويشتد في العلم ساعدهم، فلا يبرح يعرض عليهم سبل الهداية في استوائها ونقائها، فإذا هم الرجال المصلحون، أو الزعماء الناصحون. الخطيب البارع يقف بين طائفتين استعرت بينهما نار العداوة، ولم يبق بينهم وبين أن يصبح لون الأرض أحمر قانياً إلا شبر أو ذراع، فيذكرهم بعواقب التدابر، وينذرهم مصارع التقاتل، فإذا القلوب راجعة إلى ائتلافها، والسيوف عائدة إلى أغمادها. والشعراء يقرنون الخطابة بالسيف؛ لتشابههما في إعلاء كلمة الحق، وحمل النفوس الجامحة على أن تعود إلى السكينة والنظام، وهذا أحد الشعراء يسمي فعل السيف خطبة، فيقول: السيف أصدق من زياد خطبة ... في الحرب إن كانت يمينك منبرا وآخر يسمي نفسه يوم يطعن بالسيف خطيباً، فيقول: إذا لم أكن فيكم خطيباً فإنني ... بسيفي في يوم الوغى لخطيب

أطوار الخطابة

وربَّ كلمة يلقيها الخطيب، فتنفذ في قلب السامع، وينتفع بها في سيرته ما دام حياً. قال الحسن: لقد وقذتني كلمة سمعتها من الحجّاج، فقيل له: وإن كلام الحجاج ليقذك؟ فقال: نعم، سمعته على هذه الأعواد يقول: إن أمرأً ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له، لحري أن تطول عليه حسرته. ولشدة وقع الخطب في نفوس الملأ ترى الرئيس المستبد ينظر إلى الخطباء الأذكياء بعين عابسة، يحذر من أن يحوموا حول سيرته، ويقنعوا الناس بأن لا طاعة لمن يضطهد ولا ينصح في تدبير شؤونهم. * أطوار الخطابة: كان للعرب في الجاهلية خطابة أدبية، ولكنهم كانوا يقدمون الشاعر على الخطيب من جهة أن الشعر أعلق بالأذهان، وأسرع تقلبًا في البلاد، فهو أرفع صوتاً بمفاخرهم، وأكثر إذاعة لمثالب أعدائهم. وتقديم العرب للشاعر على الكاتب، داقبالهم على حفظ الشعر أكثر من إقبالهم على حفظ الخطب، كان السبب في قلة ما وصل إلينا من خطبهم في الجاهلية. والخطب التي يمكننا أن نستخلص منها صورة الخطابة في ذلك العهد، هي هذه الخطب التي تؤثر في كتب الأدب والتاريخ؛ كخطب وفود العرب عند كسرى، ثم هذه الخطب المروية في كتب السيرة النبوية لزعماء العرب الذين يفدون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مبدأ اعتناقهم للإسلام. والنظر إلى جملة هذه الخطب يجعلنا على ثقة من أن الخطابة قبل كانت بهذه المنزلة المناسبة لأمة هي إلى البداوة أقرب منها إلى الحضارة، ولكنها كانت ذات ذكاء وحسن تصرف في فنون البيان. وهذه الخطب تمثل الخطابة في عهد الجاهلية، سواء علينا أكانت مأثورة

على نحو الواقع، أم وصلت أثارة منها إلى أيدي الرواة، وأضاف إليها بعضهم جملاً تحاكيها في أسلوبها وطرز تفكيرها. ولا وجه لإنكار أن يكون في العرب قبل الإسلام خطابة ممتازة؛ فإن الخطابة أثر انفعالات تنشأ عن حوادث تمس الجماعات، ولم تخل حال العرب من حوادث على هذا النحو؛ فقد كانوا مطبوعين على التفاخر بخصال السؤدد؛ كإباءة الضيم، وحماية الجار، وعلى التفاخر بمجد الآباء والعشيرة والقبيلة، فتثور بينهم لهذه الطبيعة محاورات شديدة، وجدال عنيف، وكانت الحروب بينهم لا تكاد تضع أوزارها، وكانت لهم بعد هذا مجامع ينشرون فيها مصنوعات قرائحهم؛ ليباهوا بما فيها من بلاغة وحكمة. وإذا كان في لغة القوم بلاغة، وفي نفوسهم طموح إلى السيادة، وفي ألسنتهم قوة على الجدل وشدة في المحاورة، وفي أيمانهم سيوف تتجافى عن أغمادها، وفي بلادهم أسواق بضاعتها ما تبتدعه القرائح، فما الذي يمنعهم من أن يلدوا خطباء يقرعون الأسماع بذكر مفاخرهم، ويثيرون العواطف إلى الدفاع عن أعراضهم وأنفسهم وأموالهم؟ طلع الإسلام بشأنه الخطير، فاتسع مجال الخطابة، واشتدت البواعث على ركوب منابرها، ومن أهم هذه البواعث: الدعوة إلى هداية الإسلام، والتحريض على الوقوف في وجه خصومه بعزم وطيد، وإقدام حكيم، ويضاف إلى هذا: أن من أسباب إجادتها وإبداعها: ما بهرهم به القرآن ومنطق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بلاغة القول، وروعة الأسلوب. وقد تنفس صدر الإسلام برجال سبقوا في حلبة الخطابة، حتى أصبح الخطباء لذلك العهد يقدمون على الشعراء، ويرفعون فوقهم درجات، خصوصاً

عندما انحط الشعر بالإسراف في المديح، والإقذاع في الهجاء، والإغراق في التشبيب، وفي المديح المفرط مَلَق، وفي الهجاء المقذع دناءة. وأقل ما يدل عليه الإسراف في التشبيب: أن صاحبه لا يرجى لمقامات الجد، ولا يصلح لأن تناط به جلائل الأعمال. واستمرت الخطابة لأول عهد الدولة العباسية بمنزلتها التي بلغتها في صدر الإسلام، ومن بلغاء الخطباء في هذا العهد: أبو جعفر المنصور، والمأمون ابن الرشيد، وجعفر بن يحيى، وشبيب بن شيبة. ولما اختلط العرب بالعجم، وأصبح الموالي يتقلدون إمارة الجيوش وولاية الأعمال، ساءت حال الخطابة العربية، فاغبرَّ وجهها، وبلي ثوبها، وتضاءل على المنابر صوتها. وفي هذا العهد قامت سوق السجع، واندفع يستولي على النثر كتابة وخطابة. وإذا كان في بعض الخطب المنسوجة على منوال السجع فصاحة ورونق؛ كخطب ابن نباته، فإن كثيراً منها لم يكسبه السجع إلا سماجة وثقلاً. والتزام السجع -كما يقول ابن خلدون- ناشئ من القصور عن إعطاء الكلام حقه في مطابقة مقتضى الحال. عندما سقطت بغداد في أيدي التتار، وصارت الدولة إلى أيدي أمراء لا يعنيهم شأن العربية، انحطت اللغة إلى درك سافل، وظلت الخطابة بعد هذا مقصورة على أيام الجمع والأعياد ومواسم الحج، وموقوفة على مواعظ محدودة، بعد أن كانت تخوض الإرشاد إلى وسائل العزة، ووجوه الإصلاح. وما برحت الخطابة في موقفها حتى أقبل عهد الخديوي إسماعيل باشا، واهتزت في مصر حركة اجتماعية سياسية، فنشطت الخطابة من عقالها، بل بُعثت من مرقدها، وتخلصت من قيود السجع، فأتت من الآثار ما تقرؤون

أسباب ارتقاء الخطابة

اليوم وما تسمعون. * أسباب ارتقاء الخطابة: إذا اعتبرنا بأطوار الخطابة عند العرب، نجد الخطابة أخذت ترتقي في ثلاثة أحوال: في أواخر عهد الجاهلية، في صدر الإسلام، في صدر نهضتنا الحاضرة. نأخذ من الحالة الأولى: أن من أسباب رقي الخطابة - بعد فصاحة اللغة -: حياة الأمة في بيئة حرة، وشعورها بأنها ذات سؤدد وفخار، وكثرة ترددها على حروب تدافع فيها عن أعراضها ونفوسها وأموالها. ونأخذ من الحالة الثانية: أن من أسباب رقي الخطابة: اعتناق الأمة ديناً تحملها الغيرة والعاطفة على أن تبث نصائحه وتجاهر في سبيله بما تملك من قوة. ونأخذ من الحالة الثالثة: أن من أسباب رقي الخطابة: شعور الأمة بالحاجة إلى أن تأخذ الحالة الاجتماعية السياسية هيئة غير هيئتها، وتسلك سيرة أقوم وأهدى من سيرتها. * تعلم الخطابة: قد يدرس علوم الأدب - بما فيها من علمي العروض والقوافي - من لا يدري كيف يصنع شعراً مستقيم الوزن، سليم القافية، وقد يدرس علوم الأدب -بما فيها من علوم البلاغة- من لا يستطيع أن يكتب خطابًا يُسيغه الذوق الصحيح. كذلك الرجل قد يدرس قوانين الخطابة، ويضيف إليها التضلع من علوم اللغة وآدابها، ثم لا يكون له بعد هذا في الخطابة العملية جزء مقسوم.

الخطابة لا يحكم صنعها إلا من يأخذ بها خاطره يوماً فيوماً، ويروض عليها لسانه في هذ المجمع مرة، وفي ذلك المجمع مرة أخرى. نقرأ في كتب الأدب ما يدلنا على أن العرب كانوا يأخذون أنفسهم بالتدرب على الخطابة حتى تلين لهم قناتها، نجدهم حين يتحدثون عن عمرو ابن سعيد بن العاص يقولون: إنه كان لا يتكلم إلا اعترته حبسة في منطقه، فلم يزل يتشادق ويعالج إخراج الكلام حتى مال شدقه. ومن أجل هذا دعي بالأشدق، وإياه يعني الشاعر الذي يقول: تشدّق حتى مال بالقول شِدقه ... وكلُّ خطيب لا أبالك أشدقُ وربما تصدى بعض خطبائهم لتعليم الفتيان كيف يخطبون، يقص علينا صاحب "العقد الفريد": أن بشر بن المعتمر مرَّ بالخطيب إبراهيم بن جبلة السكوني، وهو يعلم فتيانهم الخطابة، فوقف بشر يستمع، ثم قال لهم: اضربوا عما قال إبراهيم صفحًا، واطووا عنه كشحاً. ثم دفع لهم صحيفة من تنميقه تحتوي شيئاً من آداب الخطابة. والخطابة - كسائر الصناعات -، يتفاوت الناس في إتقانها، والأخذ بزمامها، فمنهم من يمتلكها في أمد قريب، ومنهم من يحتاج إلى أن يصرف في مزاولتها زمناً بعيداً. وقد كان أهل الأدب يقولون: إنهم لم يروا قط خطيباً بلدياً إلا وهو في أول تكلفه للخطابة مستثقلاً إلى أن يتوقح، وتستجيب له المعاني، ويتمكن من الألفاظ، إلا شبيب بن شيبة، فإنه ابتدأ بحلاوة ورشاقة وسهولة وعذوبة. وإذا كانت الخطابة صناعة تتعاصى على طلابها إلا أن يأتوها من طريق الدربة والممارسة، فمن اللائق برجال يتقلدون في هذه الأمة أمر التعليم أن

إعطاء الحروف حقها

يفرضوا لها من أوقات الدراسة نصيباً كافياً، حتى تخرج لنا هذه المعاهد والمدارس خطباء يقودون الأمة إلى حيث تلقى السيادة والعظمة. * إعطاء الحروف حقها: ومما يقيم الخطبة ويكسوها رونقاً: أن يلفظ الخطيب بالحروف متمكنة من مخارجها، وقد كان العرب يحتفلون بهذا الوجه من الحسن، فيأسف الخطيب على سقوط شيء من أسنانه، وإنما يأسف لأن يفوته النطق ببعض الحروف على وجهها الصحيح. سقطت ثنايا عبد الملك بن مروان، فشدها بالذهب، وقال: لولا المنابر، ما باليت متى سقطت. وكانوا يفضلون الخطيب الذي يمكّن الحروف من مخارجها على الخطيب الذي يضع الحرف بمخرج غير مكين. خطب الجمحيّ، وكان منزوع إحدى الثنيتين، فكان عندما ينطق يخالط نطقه شيء يشبه الصفير, وخطب عقِبَه زيد بن علي بن الحسين، فأجاد الخطيبان، إلا أن زيد بن علي فضل الجمحي بتمكين الحروف، وحسن مخارج الكلام، فقال عبد الله بن معاوية يذكر ذلك: صحَّت مخارجه وتمّ حروفها ... فله بذاك مزية لا تنكر ولهجنة الحروف غير المتمكنة ونبوها عن السمع كان بعض الخطباء الذين يبلون بنحو اللثغة يتجنبون في كلامهم الحرف الذي يتعذر عليهم أن يلفظوا به على وجه سليم، ومثل هذا: واصل الغزال؛ فقد كان ألثغ قبيح اللثغة في النطق بالراء، فكان يتحامى أن ينطق بكلمة تحتوي الراء على كثرة تردد الراء في الكلام، ولقوة عارضته وغزارة مادته من اللغة استطاع أن يلقي الخطب الطوال دون أن يأتي على لفظ يشتمل على هذا الحرف، وقد مدحه

حسن الإلقاء

بهذا الصنيع بعض الشعراء، فقال: عليم بإبدال الحروف وقامع ... لكل خطيب يغلب الحقَّ باطله ومما يؤخذ به الخطيب: أن ينطق بالألفاظ في عجل حتى يصل الحرف أو اللفظ بأخيه قبل أن يستقر الحرف أو اللفظ الأول في موضعه، والأدب الجميل: أن يمكن الحروف تمكينًا، ويفصل الكلمات تفصيلاً، وكذلك كان كلام أفصح الخليقة - صلوات الله عليه -, قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: ما كان رسول الله يسرد سردكم هذا, ولكنه كان يتكلم بكلام بيِّنٍ فصلٍ، يحفظه من جلس إليه. * حسن الإلقاء: لاختيار المعاني وحسن تنسيق الألفاظ وقع في نفوس السامعين بليغ، ومما يزيد الخطبة حسناً على حسنها: أن يجيد الخطيب إلقاءها، ونعني بإجادة الالقاء: أن لا يستمر في نطقه بالجمل على حال واحدة، بل تكون الجمل متفاوتة في مظاهرها؛ من نحو رفع الصوت وخفضه، وتفخيمه وترقيقه، والوقوف عند جملة، أو وصله بأخرى، والضغط على الكلمة، أو التلفظ بها في هوادة، وأنتم تعلمون أن من هيئات النطق بالجملة ما يشعر بابتهاج الخطيب أو حزنه، ومنها ما يلائم الجمل التي يلقيها وهو واثق بصحتها، ومنها ما يلائم الجمل المرسلة لتهكم أو مزاح، ومرجع هذا كله إلى ذكاء الخطيب، وسلامة ذوقه. وجودة إلقاء الخطبة هي التي تجعل لسماعها فضلاً على قراءتها في صحيفة، وكم من خطبة يحسن الرجل إلقاءها، فيجد الناس في سماعها من الارتياح وهزة الطرب فوق ما يجدونه عندما يقرؤونها في صحيفة، أو يستمعون

الإشارة في الخطابة

إلى من يسردها عليهم سرداً متشابهاً. * الإشارة في الخطابة: من سنن الخطابة عند العرب وغير العرب أن يقرن الخطيب بعض أقواله بإشارات محسوسة؛ كرفع اليد وخفضها، أو قبضها وبسطها، أو إدارتها إلى اليمين في حال، دادارتها إلى اليسار في حال أخرى، وأمثال هذه الإشارات لا يكاد صاحب حديث يستغني عنها، قال ثمامة بن أشرس: لو كان ناطق يستغني بمنطقه عن الإشارة، لاستغنى جعفر بن يحيى عن الإشارة كما استغنى عن الإعادة. وقد يتكلف الرجل أن يتكلم في هدوء وسكون، ويحرص على أن لا يتحرك من جوارحه حين يتحدث غير شفتيه ولسانه، مثل ما كان يصنع أبو شمر، ويقول: ليس من المنطق أن تستعين عليه بغيره. وإنما تتيسر هذه الهيئة لمن يتحدث في راحة بال، وقرارة جأش، وليس هذا شأن الخطيب المطبوع، وإنما شأنه توقد الفؤاد، وهياج العاطفة، فهو في انفعال يضطره إلى أن يحرك يده، ولو قليلاً. فالخطيب الأحوذ من يحتفظ بحسن الصمت, ولا يكثر من الإشارة، وإذا أشار، فإنما تكون إشارته من الحكمة كأنها شيء استدعاه المعنى بطبيعته. * القيام بمكان مرتفع حال الخطابة: يقف الخطيب بمكان مرتفع؛ لكي يمتد صوته إلى مدى أبعد مما يبلغه لو كان قائماً بمكان مساو لمقاعد المستمعين، ومن دواعي ارتفاع الخطيب: أن يشهد الحاضرون إشارته الممثلة لبعض المعاني المعقولة، ووقوف الخطيب بمرأى من المستمعين يدعوهم إلى الإقبال عليه بأوفى مما لو كانوا يسمعون

الإرتاج في الخطابة

حديثه وهو غائب عن أبصارهم. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة مسنداً ظهره إلى جذع منصوب في المسجد، ثم أمر فصنع له منبر من طرفاء الغابة، وكان المنبر مركباً من ثلاثة درج، ويقي بهذه الهيئة حتى زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، وقال: إنما زدت فيه حين كثر الناس. وكان العرب يخطبون من قيام، ولا يخالفون هذه العادة إلا في خطبة النكاح، فإنهم يلقونها من جلوس؛ إذ ليس من شأنها أن تحتوي معاني تدعو الحاجة إلى أن يسمعها جميع الحاضرين. وكان - عليه الصلاة والسلام - يخطب قائماً، وكذلك كان شأن الخلفاء الراشدين، وروي أن معاوية بن أبي سفيان -رحمه الله- خطب جالساً، وذكروا في وجه الاعتذار عنه: أنه جلس للخطبة حين ثقل جسمه، وروى مسلم في "صحيحه": أن عبد الرحمن بن الحكم خطب في يوم جمعة قاعدًا، فأنكر عليه بعض الصحابة وقال: انظروا إلى هذا يخطب قاعدًا، والله تعالى يقول: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]. وقد اتفق العلماء على أن القيام في الخطبة مشروع، وإنما اختلفوا في تقدير المشروعية، فذهب فريق إلى أنه شرط في صحة الخطبة، وقال آخرون: إنه واجب، والذي اعتمده الحنفية: أنه سنَّة، ولا يبلغ حد الوجوب، فلو خطب قاعدًا، مضت الخطبة على ما نقصها من أدب كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحافظ عليه ما دام حيًا. * الإرتاج في الخطابة: قد يعرض للخطيب - وإن كان ذا عارضة قوية - ما يسمونه: إرتاجاً،

الارتجال في الخطابة

وهو أن يقف، فتنقطع عنه مذاهب القول، فلا يدري أين يضع كلامه، ومن أسباب الإرتاج: الدهش والانبهار الذي يأخذ النفس من هيبة الملأ العظيم، أو هيبة الرجل الذي شأنه أن ينقد الأقوال بعقل موزون. وحال الدهش والانبهار إنما تغشى ذلك الذي لم يكن على ثقة من كفايته لمقام الخطابة، فيخشى أن يقع في معنى سخيف، أو لفظ مرذول. قال الكميت بن زيد: إنما يجترئ على الخطابة الغمر الجاهل، أو المطبوع الحاذق الواثق بغزارته واقتداره. والخطيب المتصنع متى أُرتج عليه، لم يسعه إلا أن يدع الكلام، وينزل عن مقام الخطابة صاغراً. أما الخطيب المطبوع، فقد ينبو فكره عن الغرض الذي وقف من أجله، ولكنه لا يعجز أن يسمع الناس كلمات بليغة يصون بها موقفه من أن يسام بغضاضة أو ازدراء. صعد خالد بن عبد الله القسري المنبر، فأُرتج عليه، فمكث ملياً لا يتكلم، ثم تكلم فقال: أما بعد: فإن هذا الكلام يجيء أحياناً، ويعزب أحياناً، فيسيح عند مجيئه سيبه، ويعز عند عزوبه طلبه، إلى أن قال: وقد يرتج على البليغ لسانه، ويختلج من الجريء جنانه، وسأعود فأقول -إن شاء الله-. ويروى في هذا الصدد أن ثابت بن قطنة سعد منبر سجستان، فقال: الحمد لله. ثم أُرتج عليه، فنزل وهو يقول: فإن لا أكنْ فيكم خطيباً ... فإنني بسيفي في يوم الوغي لخطيبُ فقيل له: لو قلتها فوق المنبر، لكنت أخطب الناس. * الارتجال في الخطابة: في الناس من يقف ليخطب، فتنهال عليه المعاني، وتتسابق إليه الألفاظ،

فيسترسل في القول دون أن يدركه حَصَر، أو يتعثر في لجلجة، وهذا ما نسميه: ارتجالاً. وفي الناس من تجيئه المعاني على مهل، وتتوارد إليه الألفاظ في تباطؤ، فلا يحسن أن يخطب إلا بعد أن يعدَّ لمقام الخطبة مقالاً. قال أبو هلال العسكري: في الناس من إذا خل ابن فيه، وأَعمل فكره، أتى بالبيان العجيب، واستخرج المعنى الرائق، وجاء باللفظ الفائق، فإذا حاور أو ناظر، قصر وتأخر، فخليق بهذا أن لا يتعرض لارتجال الخطب. وكانوا فيما سلف يتهمون الخطيب المبدع بأنه يهيئ الخطب، ويحبرها تحبيرًا، وإنما ينفي عنه هذه التهمة أن يحدث داع للخطابة فجأة، فيقف ويخطب بما يشبه خطبه السابقة ارتجالاً. قيل لبعض الخلفاء: إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ويستعيره، فلو أمرت أن يصعد المنبر، لرجوت أن يفتضح. فأمر رسولاً فأخذ بيده إلى المسجد، فلم يفارقه حتى صعد المنبر، فارتجل كلاماً يشبه طرز خطبه، فعرفوا أنه من أولئك الذين يستطيعون أن يقتضبوا الخطب ساعة يقومون على أعواد المنابر اقتضاباً. فبلاغة الخطبة في نفسها مزية، وارتجالها بعد هذا مزية أخرى، وإنما يقوى على ارتجال الخطبة وإلقائها متماسكة الحلقات، من سبق له أن أدرك معاني كثيرة تتصل بالموضوع، وكانت له حافظة قوية تؤدي إليه صورة هذه المعافي كما أودعها، وكان بعد هذا ألمعيًا مهذبًا، يحسن التصرف في هذه الصور، ويضع كل صورة بالمكان اللائق بها. أيها السادة: هذا ما سمح المقام بعرضه على أسماع شبابنا الأذكياء، وإنما قصدنا تذكرتهم بهذا الفن الجليل من الخطابة، لعلهم يمنحونه من إقبالهم جانباً؛

فإن الحاجة الشديدة إليه قائمة، والدواعي إلى ترقيته وتوسيع نطاقه مجتمعة، وأولو الألباب هم الذين يقدرون الحاجات، فيبادرون إلى سدها، ويستمعون إلى الدواعي، فيحسنون إجابتها.

نشأة علم البلاغة

نشأة علم البلاغة (¬1) * المحاضرة الأولى: دعتني الرياسة العامة للمعاهد الدينية في السنة الماضية إلى درس علم البلاغة بقسم التخصص، فكنت أطمح في مطالعة بعض أصول هذا العلم إلى أن أعرف من سبق إلى بحثها، وكيف تقلبت في أطوارها، وأود لو يساعدني الحال على أن أتحرى هذه السيرة في درس، وأمضي عليها في كل بحث. فهممت بأن أهيئ لهذا الأمر سبباً، وخطر لي أن ألقي عند إنتهاء الدراسة محاضرة تكون تمهيدًا لهذا العمل الذي يسمّى: تاريخ أصول البيان. ثم إني اطلعت في بعض الصحف على محاضرات ثلاث ألقاها أستاذ في الجامعة المصرية تحت عنوان: (النقد الأدبي عند العرب)، فرأيته يصف نشاة علم البيان عند العرب، ويعرض فيها آراء لم تستو على سوقها، ودعاوى ثكلت أدلتها، ويطرح جملاً لا تتفق مع أخرى تتقدمها أو تجيء من ورائها. وذلك ما دعاني أن أمر في أثناء هذه المحاضرة على نقد مواضع من تلك المحاضرات؛ فإننا أمة بحث واستدلال، لا نفتتن بزخرف الأقوال، ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام في نادي جمعية الهداية الإسلامية، ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" في الأجزاء: العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر من المجلد الأول. لعام 1348 هـ.

تمهيد

ولا بمظاهر القائلين، ولا نقبل الآراء إلا أن تخرج في نور من الحجة مبين. وأعتمد في مناقشة ذلك المحاضر على ما قرأته في جريدة "السياسة"؛ فإنها كانت تنشر لكل محاضرة تلخيصًا (¬1). وربما تناولت جملاً مما قرأته في جريدة "العلم"؛ فقد وقع إلى العدد (¬2) الذي نشرت فيه المحاضرة الأولى. "وقد كان فضيلة الأستاذ الشيخ عباس الجمل يشهد تلك المحاضرات، وينقدها في جريدة "الأهرام" نقداً عادلاً (¬3)، ولولا أني أقصد إلى بحث الموضوع في نفسه، وهو يستدعي التنبيه على شيء من أغلاط تلك المحاضرات، لكان فيما كتبه الأستاذ ما يكفي غيره أن يجرد القلم لنقدها". * تمهيد: يتحد العرب في إيراد الكلام على ما تقتضيه قواعد الإعراب، وما توجبه النظم العامة؛ من نحو: التقديم والتأخير، أو الذكر والحذف، إلا ما تختلف فيه بعض القبائل اختلافاً يسيراً، أو ما ينطق به بعض الأفراد شذوذاً عن جماعتهم، وخروجاً عن السنن المألوف في لسانهم. ووراء هذا أمر آخر كانوا يتفاوتون فيه تفاوتاً بعيداً، ويتفاضلون فيه مراتب ما بين أعلاها وأدناها مثل ما بين السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع، ذلك ما نسميه: بلاغة، أو حسن بيان. حسن البيان الذي جعل في العرب قوماً يُذكرون بإعجاب، وجعل ¬

_ (¬1) المحاضرة الأولى في 14 أبريل نيسان. (¬2) في 18 أبريل. (¬3) عدد 15 أبريل.

الناس يتنافسون في رواية أقوالهم، والاطلاع على أسرار تراكيبهم، لا يعدو ثلاث جهات: 1 - ما يقصد إليه المتكلم من معان يقتضيها المقام زائدة على أصل المعنى. 2 - ما يقع من التصرف في المعاني بإيرادها في طرق تختلف بالوضوح والخفاء. 3 - ما يعرض للكلام من وجوه تكسوه حسناً، وتزيده في نفس السامع وقعاً. أخذت اللغة زينة البلاغة في عهد الجاهلية؛ إذ كانت حياة العرب تقوم على التفاخر بالأنساب والأحساب، وما فتئوا يخوضونها حروبًا حامية، والحروب مدعاة لإتقان صناعة البيان، ثم جاء الإسلام فبعثها مقامًا أرفع، وفتح في وجهها طرقاً أبدع، وألقى عليها ديباجة أنقى وأنصع، فازدادت سعة على سعتها، واكتست بهجة فوق بهجتها، وقد ظهرت آثاره في ألفاظها وأساليبها، في معانيها وأغراضها. وقد دفع القدماء من علماء البيان ما يتوهم من أن وجوه البديع من صنع المحدثين في صدر الدولة العباسية، فهذا عبد الله بن المعتز يقول في كتابه "البديع": "إن بشاراً وأبا نواس ومسلم بن الوليد ومن يتقيلهم (¬1) لم يسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه أكثر في أشعارهم، فعرف في زمانهم". وهذا أبو هلال العسكري يقول: "هذه أنواع البديع التي ادعى من لا روية له ولا رواية ¬

_ (¬1) يتقيلهم: يشبههم.

لماذا نهض النحو قبل أن ينهض البيان؟

عنده أن المحدثين ابتكروها، وأن القدماء لم يعرفوها، وذلك لما أراد أن يفخم أمر المحدثين". وصدرت من ابن أفلح البغدادي مقالة فخَّم فيها من شأن المحدثين، وأسرف في التفخيم إذ قال في مقدمته: "أما المعاني المبتدعة، فليس للعرب منها شيء، وإنما اختص بها المحدثون". وقد ردّ ابن الأثير في المثل السائر" على هذه المقالة الجائرة، وقال عقب الرد عليها: "لو قال: إن المحدثين أكثر ابتداعًا للمعاني، وألطف مأخذًا، وأدق نظراً، لكان قوله صواباً؛ لأن المحدثين عظم الملك في زمانهم، ورأوا ما لم يره المتقدمون". وقال ابن أبي الحديد: "إن هذا الفن من البديع لا يوجد منه في كلام غير الإمام علي ممن تقدمه إلا ألفاظ يسيرة غير مقصودة". وإنما يريد بالقصد في قوله "غير مقصودة": أنها تجيء عفوًا من غير تصنع وإجهاد نظر، وإلا، فالعرب كانوا يشعرون بوجه حسنها، فإذا صاغوا كلامهم في استعارة أو طباق أو جناس، أدركوا ما فيه من بديع، وفضّلوه على غيره مما يساويه في كل شيء إلا أنه لم يشاركه في هذا الوجه من الحسن. * لماذا نهض النحو قبل أن ينهض البيان؟ نهض علم النحو بالتأليف وتقرير القواعد قبل أن ينهض علم البيان ذلك النهوض، فكنا نرى النحاة يستنبطون القواعد، ويختلفون فيها مذاهب، ويودعونها الكتب الضخمة، في حين أناّ لا نرى من فنون البيان إلا كلمًا تجري على ألسنة البلغاء، أو تصدر من نقاد الخطب والأشعار، أو تقع في مباحث اللغويين أو النحاة، أو تجيء في بيان آيات من القرآن الكريم. علة تأخر نهضة البيان عن نهضة - النحو فيما يظهر - هي: ما أومأنا إليه

آنفاً من أن العرب على اختلاف طبقاتهم كانوا يقومون على قانون الإعراب، فأول لحن طرق آذانهم أشعرهم بالخطر الذي جعل ينتاب لغتهم الفصحى، فقاموا سراعًا يستخرجون القوانين التي تجري عليها هذه اللغة؛ حفظاً للألسنة من تحريف الكلم عن هيئاتها. أما فنون البيان، فإن العرب يتفاوتون في مراعاتها، والنسج على منوالها، ففي العرب من يخرج المعاني في صورة جميلة، ويصوغ الكلام في وجوه بديعة، وفيهم من لا يطيق سوى تأدية المعنى الذي يستوي فيه الغبي والألمعي، والقروي والبدوي، وهو عما وراء ذلك من الغافلين. ولوجود أفراد لا يذكرون في حساب البلغاء، حتى في عهد الجاهلية وصدر الإسلام، لم يكن ما نشأ عن اختلاط العرب بالعجم من قصور الألسن عن أمد الفصاحة، وجفافها من ماء البلاغة حادثاً مكشوف الوجه كحادث الخطأ في مباني الكلم أو الإعراب. فلا غرابة أن ينهض علم الإعراب ومباني الكلم تلك النهضة البالغة، ويبقى علم البيان جملاً تطرح في المجالس، أو مباحث تلقى مفرقة في الكتب، أو صحفًا تحتوي قطعاً غير شافية، ولا ينهض نهضته العبقرية إلا في خلال المئة الخامسة. وتفترق قوانين النحو من قوانين البيان من ناحية أخرى، هي: أن قوانين النحو تعرف بالاستقراء من غير أن يكون للذوق حكم نافذ في تقريرها. أما قوانين البيان، ومزايا النظم، فلا يكفي في إدراكها الاطلاع على ما يصدر من البلغاء منظوماً ومنثوراً، بل لا يحكم صناعتها إلا من حاز ذوقاً صافياً فوق ما يملك من الذكاء. ونريد من الذوق: تلك الملكة التي تتربى

كيف نشأ علم البيان؟

بممارسة كلام البلغاء، والتنبه لما تكنه تراكيبهم من المعاني الدقيقة. وما زال أئمة البيان يرشدون إلى أن صناعة البلاغة ليست كصناعة النحو، ويلهجون بأن عمادها الذوق والإحساس الرقيق، فهذا الإمام عبد القاهر يقول في "دلائل الإعجاز": "واعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعًا من السامع، ولا يجد لديه قبولاً حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة". وهذا السكاكي يقول في "مفتاحه": "وكان شيخنا الحاتمي يحيلنا، بحسن كثير من مستحسنات الكلام إذا راجعناه، على الذوق". وهذا سعد الدين التفتازاني يتحدث عن معاني أدوات الإنشاء من شرحه المطول، فيقول: ولا تنحصر فيما ذكره المصنف، ولا ينحصر شيء منها في أداة دون أداة، بل الحاكم في ذلك هو سلامة الذوق، وتتبع التراكيب. وتوقُّفُ أحكام صناعة البيان على الذوق كان السبب في أن من ألّفوا فيها كتباً قيمة أقلَّ عدداً ممن ألّفوا في النحو، فأجادوا البحث والأسلوب. * كيف نشأ علم البيان؟ لامراء أن العرب الخلص - جاهلية وإسلاماً - كانوا يحسون وجوه البلاغة ومحاسن البيان، وتأخذهم لسماع القول البليغ هزة ارتياح وإعجاب، ويصفونه بنحو الفصاحة والبلاغة. وليس بعيداً من المعقول أنهم كانوا يخوضون في الوجوه التي يرتفع بها شأن القول، ويضعون أيديهم على الناحية التي يظهر فيها أثر الصنعة، فيقولون: في هذه الناحية معنى دقيق، أو وجه من الصياغة بديع. أو يضعونها على الناحية التي يكبو فيها ذوق الشاعر أو الخطيب، فيذكرون عيبها، ويعدونها سقطة لصاحبها.

وممن صرح بأن العرب كانوا يتحدثون عن محاسن الكلام ومعايبه، ويتدارسونها بينهم: أبو الحسن حازم (¬1) الأنصاري الأندلسي في كتابه "المناهج الأدبية" حين قال: "لم تكن العرب تستغني بصحة طباعها عن تسديدها وتقويمها، باعتبار معاني الكلم، بالقوانين المصححة لها، وجعلها ذلك علماً تتدارسه في أنديتها، ويستدرك به بعضهم على بعض، وقد نقل الرواة في ذلك الشيء الكثير، لكنه مفرق في الكتب، لو تتبعه متتبع متمكن من الكتب الواقع فيها ذلك، لاستخرج منه علماً كثيراً موافقاً للقوانين التي وضعها البلغاء في هذه الصناعة". ثم قال: "وكيف يظن ظان أن العرب -على ما اختصت به من جودة الطباع- كانت تستغني في قولها الشعر عن التعليم والإرشاد إلى كيفية المباني التي يجب أن يوضع عليها الكلام، والتعريف بأنحاء التصرف المستحسن في جميع ذلك، والتنبيه على الجهات التي يداخل الخلل المعاني، وأنت لا تجد شاعرًا مجيدًا منهم إلا وقد لزم شاعراً آخر المدة الطويلة، وتعلّم منه قوانين النظم، واستفاد عنه الدربة في أنحاء التصاريف البلاغية". ومراد حازم بما ينقل من الروايات في هذا الشأن: ما يشبه قصة النابغة حين نقد قول حسان بن ثابت: لنا الجفنات الغرُّ يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما وقال له: "قللت جفانك وأسيافك". ¬

_ (¬1) قال فيه أبو حيان: لا نعلم أحداً ممن لقيناه جمع من علم اللسان ما جمع، ولا أحكم من معاقد البيان ما أحكم من منقول ومبتدع.

هذا ما يصرح به أحد جهابذة البيان مستنداً إلى الروايات الكثيرة، ومقتضاه: أن الحديث في صناعة البيان قد بدئ في عهد الجاهلية، وليس في قوانين النظر، ولا في سنن نشء العلوم ما يقضي بامتناعه، فإذا كان الكلام العربي تقلب في أطوار البلاغة، وخرج في زينة البيان منذ عهد الجاهلية، فما الذي يمنع الطبقة المستنيرة الممتازة منهم أن يتحاوروا في هذا الذي يتنافسون في حلبته، ويراعونه عندما يفضلون شاعرًا على شاعر، أو خطيباً على خطيب؟. ويذهب ذلك المحاضر إلى ان البيان العربي إنما نشأ عند علماء الكلام، فقال: "وكما أن البيان اليوناني بعد نشأته في القرن الخامس قبل المسيح قد أخذ يتطور شيئاً فشيئاً بفضل المعلمين والمؤدبين قبل أن يصل إلى أن يكون علماً منظمًا توضع له القواعد، وتؤلف فيه الكتب، كذلك كان البيان عند العرب. فبعد أن نشأ عند المتكلمين أخذ يتطور شيئاً فشيئاً قبل أن تؤلف فيه الكتب، وتوضع له القواعد الفنية". وقال: "لم ينشأ علم البيان عند العرب من الشعر، إنما نشأ من النثر حين ظهرت مذاهب الكلام عند المسلمين، وأخذ كل فريق منهم ينتصر لرأيه، ويأخذ على مناظره الحجة، ويعد عليه سقطته في اللفظ والمعنى". لننظر في معنى نشأة العلم، أيراد بها: مبدأ الحديث عما يعده في مباحثه، ويدخل في موضوعه؟ أم يراد بها: حالة ما يأخذ الناس في وضع قواعده وجمع مسائله؟. لا يصح للمحاضر أن يريد الوجه الأول، ويعني بنشأة البيان عند المتكلمين:

أنهم سبقوا إلى الحديث عنه؛ فإن الحديث عن بعض فنونه قد جرى من قبل أن يظهر علماء الكلام، ومما يمنع المحاضر أن يريد من نشأة البيان عند المتكلمين: مبدأ الحديث عنه: أنه يعترف بشيء من هذا الذي يقوله حازم؛ إذ يقول في محاضرته الأولى: "إن الشعراء في آخر العصر الجاهلي كانوا قد وصلوا إلى تعلم الشعر بالصناعة"، وبعد أن ذكر تعليم أوس بن حجر زهيراً، وتعليم زهير ابنه كعبًا والحطيئة، وتعليم الحطيئة لكثير من شعراء الإسلام، قال: "وليس من شك في أن المعلمين كانوا حين يستحسنون شعراً يقولون: استحسن لكذا، وحين يستقبحونه يقولون: استقبح لكذا. وهذه العلل التي يذكرونها في الاستحسان إنما هي أوجه البديع". ولا أظن المحاضر يقصد بقوله: "إنما هي أوجه البديع" إلى أن الذي كان يتعلم في الجاهلية أو في صدر الإسلام هو البديع دون غيره من فنون البيان؛ فإن الروايات في هذا الباب مطلقة، وقد سمعتم قول حازم: "لاستخرج منه علماً كثيراً موافقاً للقوانين التي وضعها البلغاء في هذه الصناعة". وهذا المحاضر يعد فيما أخذه البيانيون من الجاهليين لفظ الإيجاز والمجاز، فيقول في المحاضرة الأولى: "وهناك ألفاظ أخذها البيانيون عن الجاهليين، ولم يضعوها, ولم يخترعوها اختراعاً؛ فقد عرف شعراء الجاهلية ألفاظ الإيجاز والأسباب والمجاز، وغير ذلك من الألفاظ". ونحن لا نثق بأن كلمة المجاز بالمعنى الذي يريده البيانيون من أوضاع الجاهلية؛ إذ لا نعرف له شاهداً في شعر أو نثر، ولو كان معروفاً عند العرب بهذا المعنى، لاتخذ الجمهور من هذا الاستعمال حجة على من أنكروا أن يكون في كلام العرب مجاز، وما رأيناهم يفعلون.

ونجد أبا عبيدة في كتاب "مجاز القرآن" يستعمل كلمة "مجاز" - عند تفسير اللفظ بمعنى فيه خفاء، كما قال: والرحمن مجازه ذو الرحمة، والرحيم مجازه الراحم، وكما قال في قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة: 2]: مجازه: ولا يحملنكم، ولا يغرينكم، ومجاز {شَنَآنُ قَوْمٍ} أي: بغضاء قوم، وكما قال في قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ} [البقرة: 173]، أي: ما أريد به، وله مجاز آخر، أي: ما ذكر عليه من أسماء آلهتهم. فليس المراد من المجاز في هذا المقام ما يقابل الحقيقة، وإنما يراد به: مخرج الكلام، وما يقال في تفسيره. فإن أراد المحاضر من دعوى نشأة البيان عند المتكلمين: أنهم الذين أخذوا في وضع قواعده، وتنظيم مسائله، قلنا له: قد سميت هذا الذي كان يدور بين المتكلمين بملاحظات، فقلت: "وإن الجاحظ يرجع في ذلك إلى علماء الكلام، يعتمد على ملاحظاتهم التي كان يأخذها على بعضهم البعض". وإذا كان ما يجري بين المتكلمين من قبيل الملاحظات، فهو من نوع ما يلاحظه البلغاء من غير المتكلمين عندما ينقدون شعراً أو خطبة، وليس النقد عند الأدباء ورواة الأشعار بعزيز. ولم يقدم لنا المحاضر أمثلة من الملاحظات التي أخذها بعض المتكلمين على بعض حتى نستبين الفرق بينها وبين ملاحظات غيرهم من الأدباء، ونقضي بأن أصول البيان إنما نشأت عند علماء الكلام، ولو وجدنا شيئاً من هذه الملاحظات في مثل كتاب "البيان والتبيين"، لقلنا: إن المحاضر اجتزأ بما احتوته هذه الكتب عن ذكر أمثلتها. وإذا كنا نجد الجاحظ قد نقل عن بشر بن المعتمر أحدِ جهابذة علم

الكلام صحيفة تشتمل على شيء من أصول الخطابة وآدابها، فإن بشراً هذا كان معدوداً في أكابر البلغاء، فيصح أن يكون ما في هذه الصحيفة صادراً من ناحية ما تجمَّع لديه من وسائل البلاغة، لا من ناحية كونه متكلمًا؛ إذ لم يكن ما تحمله تلك الصحيفة بعيدَ المأخذ من مدارك البلغاء ونقاد الخطب ممن لم يدرسوا علم الكلام. والصواب فيما نرى: أن نبحث عن نشأة علم البيان من طريق البلغاء وعلماء العربية، وسواء بعد هذا أكان البليغ أو العالم بالعربية من علماء الكلام؛ كالجاحظ، وبشر بن المعتمر، أم لم يملك سوى مزية البلاغة، ولم ينظر في غير علوم اللسان. إذا وجهنا النظر إلى صدر الاسلام وعهد الدولة الأموية، وأخذنا نتحسس من الكلمات التي تقع على ناحية من نواحي علم البيان، نجد آثاراً تعزى إلى بلغاء من رجال ذلك العصر، مثل ما يروى في تعريف البلاغة عن الإمام علي ابن أبي طالب، وابنيه الحسن ومحمد بن الحنفية، وكما يروى عن يزيد بن معاوية في شأن الفصل والوصل، إذ يقول: "إياكم أن تجعلوا الفصل وصلاً؛ فإنه أشد وأعيب من اللحن". ونجدهم ينبهون في مقام النقد على شيء من فنون البيان. ومثل هذا: قصة ذي الرمة حين أنشد بلال بن أبي بردة قوله: رأيتُ الناسَ يَنْتجِعون غيثاً ... فقلت لصيدح انتجعي بلالاً فقال بلال: يا غلام! اعلفها قتاً ونوى. قال هذا تعريضاً بقلة فطنة ذي الرمة للوجه اللائق بالمديح، ونقرأ في هذه القصة: أن أبا عمرو أحدَ الحاضرين لإنشاد البيت قال لذي الرمة بعد أن انصرف: هلّا قلت له: إنما عنيتُ بانتجاع

الناقة صاحبَها، كما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] يريد: أهلها، وهلاّ أنشدته قول الحارثي: وقفت على الديار فكلمتني ... فما ملكت مدامعها القلوص يريد: صاحبها. وهذا من أبي عمرو حديث عما يسميه البيانيون: مجاز الحذف. أما ما يشبه هذه الكلمات وهذا النقد، فهو في صدر الدولة العباسية غير قليل. نجد في آثارهم: أن أبا العباس السفاح مؤسسَ تلك الدولة يصف البلاغة، ويجعل من حليتها المعرفةَ بمواضع الفصل والوصل، يروون عنه أنه قال لكاتبه: "قف عند مقاطع الكلام وحدوده، وإياك أن تخلي المرعى بالهمل، ومن حلية البلاغة المعرفة بمواضع الفصل والوصل". وتجد في آثارهم أن المفضل الضبي سأل أعرابياً عن البلاغة، فقال: "الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل". قال ابن الأعرابي راوي هذا الأثر: فقلت للمفضل: ما الإيجاز عندك؟ قال: حذف الفضول، وتقريب البعيد. وذكر ابن خلدون جعفرَ بن يحيى فيمن كتبوا في فن البيان، فقال في مقدمة "تاريخه": "وكتب في هذه العلوم جعفر بن يحيى، والجاحظ، وقدامة إملاءات غير كافية". وتحدث شبيب بن شيبة عن ثلاثة أنواع من البديع: حسن الابتداء، وحسن الانتهاء، وجودة القافية. فقال: والناس موكلون بتفضيل جودة الابتداء، وبمدح صاحبه، وأنا موكل بتفضيل جودة المقطع، وبمدح صاحبه، وحظ

جودة القافية - وإن كانت كلمة واحدة - أرفع من حظ سائر البيت. وإذا صرفنا النظر عن البلغاء إلى علماء اللغة والنحو، نجدهم كانوا يعرجون على جانب من وجوه البيان ومحاسنه. نجد أبا عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154 يشرح الأبيات، ويلوّح إلى ما فيها من مجاز. يورد الرواة هذا البيت: أقامت به حتى ذوى العود والتوى ... وساق الثريا في ملاءته الفجر ويقولون كان أبا عمرو يقول: "ألا ترى كيف جعل للفجر ملاءة، ولا ملاءة له؟ ". ونجده يذكر كلمة "قيد الأوابد" من قول امرئ القيس: بمنجردِ قيدِ الأوابد هيكلِ (¬1) ويقول: إنه أحسن في هذه اللفظة، وإنه اتبع فيها فلم يُلحق. ونجد الخليل بن أحمد المتوفى سنة 175 و 170، قد تحدث عن الجناس والمطابقة، وعن الاستعمال المجازي، قال سيبويه: "وسألت الخليل ابن أحمد عن قول العرب: ما أُميلحه! فقال: حقّروا هذا اللفظ، وإنما يعنون الذي تصفه بالملح، كأنك مُليّح، شبهوه بالشيء الذي تلفظ به وأنت تعني شيئاً آخر، نحو قولهم: يطؤهم الطريق: أهل الطريق، وصيد عليه يومان: صيد عليه الصيد يومين، فحذف الصيد، وأقام اليومين مقامه". ونجد سيبويه المتوفى سنة 180 يأتي في الكتاب على مباحث تدخل في فن البيان، نجده قد تناول في عدة مواضع من كتابه: التقديم والتأخير من الوجه الذي يبحث عنه علماء البلاغة، منها: قوله في باب الفاعل: "إنما يقدمون الذي ¬

_ (¬1) "الإعجاز" للباقلَّاني.

بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم". ونجده تناول شيئاً من دواعي الحذف، وهو الاستغناء عن المحذوف بعلم المخاطب، وبما يرى من شواهد الأحوال، وأقام له الشاهد من القرآن والحديث، وقول قيس بن الخطيم: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف وقول ضابئ البرجمي: فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيّارٌ بها لغريبُ وعرج في مواضع من كتابه على المجاز، ولكنه يسميه بسعة الكلام، أورد قول الخنساء: ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار ثم قال: "فجعلها الإقبال والإدبار مجاز على سعة الكلام؛ كقولك: "نهارك صائم، وليلك قائم"، ومثل ذلك قول الشاعر متمم بن نويرة: لعمري ما دهري بتأبين هالك ... ولا جزع مما أصاب فأوجعا وتحدث سيبويه عن مجاز الحذف إذ قال في قولهم: "هذه تميم، وهذه سلول": إنما تريد: هذه بنو تميم، وهذه بنو سلول، غير أنك حذفت المضاف تخفيفًا، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وقولهم: "ويطؤهم الطريق"، وإنما تريد: أهل القرية، وأهل الطريق، وهذا في كلام العرب كثير". وتناول الحديث عن التشبيه، وفرَّق بين ما اقترن بالأداة، وما لم يكن مقروناً بها، فقال: "تقول: مررت برجل أسد أبوه، إذا كنت تريد أن تجعله

شديداً، ومررت برجل مثل الأسد أبوه، إذا كنت تشبِّهه". ونجد الفراء المتوفى سنة 207 يتعرض في تفسيره معاني القرآن إلى وجوه تعد من فنون البيان، كتنبيهه على المجاز العقلي في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] حين قال: "ربما قال قائل: كيف تربح التجارة، وإنما يربح الرجل التاجر، وذلك من كلام العرب: ربح بيعك، وحسن بيعك، وحسن القول بذلك؛ لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة، فعلم معناه، ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم". ونبّه على بعض أنواع المجاز المرسل، كما نبه على إطلاق المحل وإرادة الحالّ في قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17]. وقال: العرب يجعلون النادي والمجلس والمشهد والشاهد: القوم. ونجد أبا عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 209 يأتي في تفسيره "مجاز القرآن" على جانب من فنون البيان، كما نبه على الالتفات في قوله تعالى: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 33 - 34]. وفي قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِبَةٍ} [يونس: 22]. ونبّه على بعض أنواع المجاز المرسل؛ كاستعمال المصدر في اسم الفاعل أو اسم المفعول، في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177]، وقوله تعالى: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء: 30]، ونبهَ على ما يسمونه: القلب في قوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: 76]. ونجد الأصمعي المتوفى سنة 116 يتحدثُ عن النوع الذي يسميه بعض البيانيين: التفاتاً. روى محمد بن يحيى الصولي: أن الأصمعي قال له: أتعرف التفاتات جرير؟ فقال: لا، ما هي؟ قال:

أتنسى إذ تودعنا سليمى ... بعود بشامة سُقي البشام ألا تراه مقبلاً على شعره، ثم التفت إلى البشام، فدعا له؟. وتحدث عن التغليب، فقال: إذا كان أخوان أو صاحبان، وكان أحدهما أشهر من الآخر، سمِّيا باسم الأشهر، من هذا الباب: الأسودان: التمر والماء، والأبيضان: الخبز والماء. جاء بعد هؤلاء عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى سنة 255، وهو ممن جمع بين علم الكلام والرسوخ في اللغة وآدابها، ومن مؤلفاته كتاب "البيان والتبيين"، أورد فيه ما قيل في تعريف البلاغة، وتحدث عما يرجع إلى وصف الفصاحة من حسن الألفاظ، وخلوص الكلمات من التنافر والتعقيد، وتعرض إلى شيء من فنون البيان، وما يسمونه: البديع. وصفه أبو هلال العسكري بمثل ما وصفنا، ثم قال: "إلا أن إبانته عن حدود البلاغة وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة في تضاعيفه، ومتنثرة في أثنائه، فهي ضالة بين الأمثلة، لا توجد إلا بالتأمل الطويل، والتصفح الكثير". ولم يقل الجاحظ: إني استمد من ملاحظات المتكلمين، ولا حدثنا عما يلاحظه بعضهم على بعض، فقول المحاضر في محاضرته الثانية: "وإن الجاحظ يرجع في ذلك إلى علماء الكلام، ويعتمد على ملاحظاتهم التي كان يأخذها على بعضهم البعض" هو إلى الفرض أقرب منه إلى التحقيق، وقد نطق المحاضر في محاضرته الثانية بغير هذا، فقال: "إن الجاحظ لم يرد أن يؤلف كتاباً في البيان، وإنما أراد تدوين خواطر كانت شائعة في ذلك الوقت عند الأدباء والشعراء". وهل ما كتبه الجاحظ في البيان مأخوذ مما ترجم عن اليونان والفرس؟

يقول ذلك المحاضر: "إن الجاحظ لم يقتصر في وضعه لأصول علم البيان على علماء الكلام، بل أخذ عن الفرس والعجم، بفضل ما كان هناك من اتصال بين الأمة العربية وبين الأمم الأخرى بواسطة الترجمة". وقال: "هذه القواعد التي ذكرت في "البيان والتبيين" لم يأخذها الجاحظ عن المتكلمين وحدهم، أو أن المتكلمين لم يخترعوها اختراعاً من عند أنفسهم، وإنما تأثروا فيها بما كان يصل إليهم من الفلسفة والبلاغة اليونانية". هل يستطيع المحاضر أن يثبت أن في الكتب المنقولة إلى العربية كتاباً في أصول البيان اليوناني أو الفارسي غير كتابي "الخطابة"والشعر، لأرسطو؟ أو يستطيع أن يثبت أن الجاحظ عرف بيان اللسان اليوناني أو الفارسي، فاستمد منه فيما وضعه من أصول البلاغة العربية؟. ولم يأت الجاحظ في كتابه بما فيه رائحة البيان اليوناني أو الفارسي إلا نحو ما رواه له الكاتبان: أبو الزبير، ومحمد بن أبان في حد البلاغة عند الفرس واليونان، وهذا لا يقتضي أن البيان العربي مأخوذ من البيان اليوناني، وإن هي إلا كلمة وقعت إلى الجاحظ على طريق هذين الكاتبين كما وقعت إليه كلمة في حد البلاغة عند أهل الهند. وقد ذكر المحاضر في محاضرته الثانية أن الجاحظ يجهل أن لليونان خطابة وشعرًا، فقال: إن الجاحظ حين جعل الخطابة والشعر من خصائص العرب، وقال عن اليونان: إنهم أهل منطق، كان يجهل أن عند اليونان خطابة وشعرًا، ولم يقرأ كتاب أرسطاطاليس في الخطابة والشعر، ولو قرأه، لما قال ذلك عن العرب واليونان. وممن كتبوا في آداب اللغة، ونشؤوا في عهد الجاحظ: عبد الله بن قتيبة المتوفى سنة 267، وقد تكلم في شيء من فنون البيان، كما نبه على المجاز

في "أدب الكاتب" حين قال: "والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان مجاوراً له, وكان منه بسبب ما بينت لك في باب تسمية الشيء باسم غيره". وحكى عنه صاحب "العمدة" بحثاً في باب المجاز، وأنه رد على من أنكر أن يكون في لغة العرب مجاز، وقال: لو كان المجاز كذباً، لكان أكثر كلامنا باطلاً. وإذا وقع إنكار المجاز في عهد ابن قتيبة، أو قبله (¬1)، عرفنا أن أبا إسحاق الإسفرائيني الذي يعزى إليه هذا المذهب، أو أبا علي الفارسي الذي يحكيه عنه بعض المؤلفين، لم يكن بأول من أنكر المجاز؛ لأن أبا أسحاق الإسفرائيني توفي سنة 418، وأبا علي توفي سنة 377. وممن نشؤوا في عهد الجاحظ، وابن قتيبة: أبو العباس المبّرد المتوفى سنة 282 هـ , فقد تكلم على بعض فنون البيان، كما نبّه في كتاب "الكامل" على نوع من أنواع المجاز المرسل، وهو استعمال الكلمة في ضد معناها الأصلي، إذ قال: والسليم: الملسوع، وقيل له: سليم على جهة التفاؤل، ¬

_ (¬1) ورد تصحيح بقلم الإمام في الجزء الثاني عشر من المجلد الأول كما يلي: جاء في محاضرة: نشأة علم البلاغة: أن ابن قتيبة رد على من أنكر أن يكون في لغة العرب مجاز، وأخذنا من هذا أن يكون القول بإنكار المجاز في اللغة قد جرى في عهد ابن قتيبة، أو قبله. والحقيقة أن كلام ابن قتيبة إنما يصلح أن يكون رداً على من أنكر أن يكون في القرآن مجاز، وممن يعزى إليه هذا القول: داود الظاهري، وكان معاصراً لابن قتيبة، فداود توفي سنة 270، وابن قتيبة توفي سنة 267. أما إنكار أن يكون في اللغة مجاز، فلم نقف على رواية تنسبه إلى أحد تقدم أبا إسحاق الإسفرائيني، وأبا علي الفارسي.

كما يقال للمهلكة: مفازة، وللغراب: الأعور على المغيرة منه لصحة بصره، وكما نبه على الفن الذي يسميه قدامة: "إشارة"، وسيأتي بيانه. والمبرّد أول من نظر في سر التأكيد - على ما نعلم -، وفرَّق بين قولهم: "عبد الله القائم"، و"إنّ عبد الله قائم"، و"إن عبد الله لقائم"، فنبه على أن الأول إخبار عن قيامه، والثاني جواب عن سؤال، والثالث جواب عن إنكار منكر لقيامه، وصار كلام المبرد هذا أصلاً من أصول علم المعاني تتفرع منه مباحث دقيقة. وممن نشؤوا في عهد هؤلاء، وتكلموا في بعض وجوه البيان: ابن دريد المولود سنة 223، المتوفى سنة 311، ومن أثره في هذا: أن نراه قد عقد في كتاب "الجمهرة" بحثًا عنوانه: (باب الاستعارات)، ولم يسلك في هذا الباب طريق الفرق بين الاستعارة والمجاز المرسل، بل ساق أمثلة وشواهد هي قائمة على التشبيه، كما قال: الظمأ: العطش، وشهوة الماء، ثم ذكر ذلك حتى قالوا: ظمئت إلى لقائك، وقالوا: الوجور: ما أوجره الإنسان من دواء أو غيره، ثم قالوا: أوجره الرمح: إذا طعنه في فيه. وساق أمثلة وشواهد أخرى ترجع إلى المجاز المرسل، كما قال: والغيث المطر، ثم صار ما نبت بالغيث: غيثاً، وقال: الوغى: اختلاط الأصوات في الحرب، ثم كثرت وصارت الحرب وغى، وقال: الظعينة: المرأة في الهودج، ثم صار البعير والهودج ظعينة. وظهر بعد ابن قتيبة والمبرد عبد الله بن المعتز المتوفى سنة 296، فألّف كتاباً سمّاه: "البديع"، ونبّه على أنه أول من كتب في هذا الفن مستقلاً، فقال في ديباجة هذا التأليف: "وما جمع قبلي فنون الأدب أحد،

ولا سبقني إلى تأليفها مؤلف". أورد ابن المعتز في هذا الكتاب سبعة عشر نوعاً من فنون البيان والبديع، وهي: التشبيه، وا لاستعارة، والتجنيس، والطباق، ورد العجز على الصدر، والمذهب الكلامي، والالتفات، والتمام، والاستطراد، وتأكيد المدح بما يشبه الذم، وتجاهل العارف، وحسن التضمين، والإفراط في الصفة، وعتاب المرء نفسه، وحسن الابتداء، والهزل الذي يراد به الجد. وممن نشؤوا في عهد ابن المعتز وابن دريد: قدامة بن جعفر المتوفى سنة 337 كما يقول ابن الجوزي في "تاريخه" (¬1)، وكان قد أدرك زمن ثعلب، والمبرد، وابن قتيبة، فقرأ مجتهداً حتى برع في صناعة البلاغة، وصنف كتابه المعروف بـ "نقد الشعر" سنة 302، وهو الكتاب الشائع اسمه، الحاضر لدينا بشخصه، وصنف كتاب "نقد النثر"، ولا نعرف لهذا الكتاب اليوم طريقاً ولا أثراً. وقد بحث قدامة في نقد الشعر عن عشرين نوعاً من أنواع البديع، اشترك مع ابن المعتز في سبعة أنواع، وانفرد عنه بثلاثة عشر نوعاً. هل ما كتبه قدامة مستمد من بيان اليونان؟ يقول ذلك المحاضر: "وفي القرن الثالث للهجرة حدثت ظاهرة في تاريخ البيان العربي؛ فإنا نجد رجلاً نصرانيًا ذا بيان ومنطق أسلمَ حين رأى نصرانيته تحول بينه وبين الحظوة عند الرؤساء، ذلك الرجل هو قدامة بن جعفر". ¬

_ (¬1) نقل ياقوت في "معجم الأدباء" ما قاله ابن الجوزي، وقال: إن قدامة كان قد حضر مجلس الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات وقت مناظرة أبي سعيد السيرافي، ومتى المنطقي سنة 320.

ولم يحاول المحاضر هنا إقامة الدليل على أن قدامة إنما أسلم لينال الخطوة عند الرؤساء، لا لأنه بصر بالحجة، واهتدى إلى أن الإسلام دين القيمة، ولعله يوفق إليه في محاضرة أخرى. ونحن لا نستطيع أن نقول في هذا شيئاً سوى أن المحاضر يريد أن يقضي وطر التملق لأهل ديانة أخرى؛ إذ لا نجد في تاريخ قدامة ما يثير الشبهة في أنه أسلم بإخلاص، وقد أسلم قدامة على يد المكتفي بالله، والمكتفي بالله من خلفاء بني العباس الذين لا يبخلون بالحفاوة لديهم عن نصراني يجدون عنده أثارة من علم، وقد كان المكتفي من قبل أن يتقلد الخلافة قد اتخذ كاتبًا نصرانيًا اسمه: الحسين بن عمرو، وهذا ابن جرير الطبري يقول في "تاريخه": لما توفي المعتضد، ووصل الخبر إلى المكتفي، وكان مقيمًا بالرقة، "أمر الحسين بن عمرو النصراني كاتبه يومئذ بأخذ البيعة على من بعسكره، ففعل ذلك الحسين". ثم قال المحاضر: "ونحن نلاحظ عندما نقرأ كتاب قدامة: أنه قد قرأ ما كان معروفاً عند العرب من الأدب العربي الخالص، وما كان الشعراء قد استكشفوه من أنواع البديع، كما أنه قد قرأ ما كان معروفاً في ذلك الوقت من فلسفة أرسطاطاليس وشعره وخطاباته. وقال: "إن قدامة قد تأثر باليونان، وأخذ عنهم ما كتب من قواعد البيان في كتابه: نقد الشعر". قدامة ضربَ في نقد البيان بسهم، وخطا به خطوة واسعة، ولكنها ليست من الغرابة بحيث تحملنا على فرض أن تكون مستمدة من بيان اليونان، بل إن ذلك المقدار الذي نتج من أقوال البلغاء، وأبحاث علماء العربية، وما وضع عبد الله بن المعتز، إذا انتهى إلى المعنى جلس إلى علماء اللغة حيناً من الدهر

أمكنه أن يأتي بمثل ما أتى به قدامة، وإن لم يكن ملمًا بقواعد البيان في لغة اليونان، ونحن لا نجد قدامة يستأنس في شيء من كتابه بما يعرفه من بيان اليونان، إلا كلمة قالها في فصل استحسن فيه الغلو الذي مثل له يقول أبي نواس: وأخفتَ أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطفُ التي لم تخلق فقال: وهذا مذهب فلاسفة الشعر من اليونان، وهذا الرأي الذي اختاره واستأنس له بمذهب فلاسفة الشعر من اليونان، قد رده عليه أهل الذوق والنظر الصائب في البيان. ونجده يسلك في بعض مباحثه طريقة العاطفة كما قال في حد الشعر: "إنه موزون مقفّى يدل على معنى". ثم أخذ يشرح كلمات هذا الحد، ويبين ما هو جنس، وما هو فصل، ويسلك طريقة الفلسفة؛ كبحثه في نعت المدح عن أصول الفضائل، وأصناف تركيب بعضها مع بعض، ومثل هذا الوجه من البحث لا يدخل في قوانين البلاغة، ولا يجعل لقوانين البيان اليوناني أثراً في نشأة البيان العربي. ونقف في هذه المحاضرة عند هذا الحد، وسنأخذ في محاضرتنا الثانية -إن شاء الله- ببسط القول فيما كتب قدامة، وفي حال البيان بعد قدامة، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أُنيب.

المحاضرة الثانية

نشأة علم البلاغة (¬1) * المحاضرة الثانية: أتينا في المحاضرة الأولى على بداية علم البيان، وسقنا ليلتئذ الشواهد على أن ثروة من هذا الفن قد تجمعت من أقوال البلغاء، ومباحث علماء العربية، فكانت كالأساس تقام عليه علوم البلاغة بحثًا وتأليفًا، وعطفنا في أثناء تلك المحاضرة على نقد ما يدعيه أحد المحاضرين من أن البيان العربي نشأ من ملاحظات علماء الكلام، وأن علماء الكلام تأثروا فيه بما كان يصل إليهم، من الفلسفة والبلاغة اليونانية. وسبق لنا أن المحاضر انتزع شبهة من قدامة بن جعفر الذي كان عارفاً باللسان اليوناني، ثم أسلم، وألف في البيان العربي كتابيه: "نقد الشعر"، "ونقد النثر"، فادعى أن قدامة أخذ ما كتبه في النقد من بيان اللغة اليونانية، وناقشناه في هذه الدعوى بأن ليس فيما كتب قدامة ما يشعر بأنه مأخوذ من بيان لغة أخرى. والقصد من محاضرة هذه الليلة: أن ننبه في شيء من التفصيل على أن قدامة قد استمد ما كتبه في النقد من آداب اللغة العربية، وأقوال بلغائها، ونمر ¬

_ (¬1) المحاضرة الثانية للإمام في نشاة علم البلاغة ألقاها في نادي جمعية الهداية الإسلامية، ونشرت في الجزأين الثاني والثالث من المجلد الثاني - مجلة "الهداية الإسلامية".

على كلمات ألقاها المحاضر كشُبه يحاول بها تقرير تلك الدعوى المضروبة في قالب الخيال. عرضنا على حضراتكم فيما سلف: أن أول من ألف في فن البيان مستقلاً هو عبد الله بن المعتز، وأنه أورد فيما ألف سبعة عشر نوعاً مما يسمونه: البديع، ثم جاء قدامة، وتكلم فيما كتب على عشرين نوعاً، اشترك مع ابن المعتز في سبعة أنواع، وانفرد عنه بثلاثة عشر نوعاً. لندع السبعة الأنواع المشتركة في ناحية - وهي: الجناس، والطباق، والالتفات، والتشبيه، والمبالغة، والاستعارة (¬1)؛ إذ ادعاء أن قدامة أخذها من بيان اليونان لا يقبل في حال. وإذا نظرنا إلى ما انفرد به قدامة، نجده يقتدي فيه بأقوال البلغاء، أو علماء العربية، وإليكم الشاهد على ما نقول: انفرد قدامة بالنوع الذي يسمّى: (صحة التقسيم)، وهو أن يبتدئ الشاعر أو الخطيب، فيضع أقسامًا، فيستوفيها, ولا يغادر قسمًا منها، وكان هذا النوع معروفاً عند علماء العربية من قبل قدامة، وقد ذكره الجاحظ في حد البلاغة عند اليونان، فقال: وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ فقال: "تصحيح الأقسام، واختيار الكلام". ونحن نجد في كتب الأدب ما يدلنا على أن العرب قد عرفوا هذا الوجه من حسن البيان، ومن هذه الدلائل ما يروونه من أن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - سمع قول زهير: وإنّ الحق مقطعه ثلاث ... يمين أَو نفار أو جلاء ¬

_ (¬1) على أن قدامة لم يتحدث عن الاستعارة في نقد الشعر إلا بقوله في المعاظلة: ولا أراها إلا فاحش الاستعارة.

فأعاد عمر البيت متعجباً من تفصيله بين الحقوق، وإقامة أقسامها. وينبه لهذا النوع ما حكاه قدامة نفسه من أنه أنشد في حضرته رجل من بني حنيفة قول جرير: كانت حنيفة أثلاثاً فثلثُهم ... من العبيد وثلث من مواليها وقيل للرجل: من أيهم أنت؟ فقال: أنا من الثلث الملغى! فقد عرف العرب من قبل قدامة أن إقامة الأقسام من حسن البيان، وأن الإخلال بواحد منها وصمة تقف به دون حد البلاغة. وانفرد قدامة بالنوع الذي يسمّى: "صحة المقابلة". وملاك هذا النوع: المواخاة بين المعاني، ولم يكن قدامة بالذي تحدث عنه في كلام العرب حديثاً لا سلف له فيه، فما نقرأ في كتب الأدب ككتاب "الأغاني"، و"موشح" المرزباني: أن نصيباً، والكميت، وذا الرمة اجتمعوا، فأنشد الكميت: أم هل ظعائن بالعلياء رابعة ... وإن تكامل منها الدَّلُّ والشنَبُ فعقد نصيب واحدة، فقال له الكميت: ماذا تحصي؟ فقال: خطأك؛ فإنك تباعدت في القول، فأين الدل من الشنب؟! ألا قلت كما قال ذو الرمة: لَمياءُ في شفتيها حُوة لَعَسٌ ... وفي اللثاة وفي أنيابها شنبُ وقد ذكر قدامة نفسه أن الأدباء كانوا يعيبون قول امرئ القيس: فلو أنها نفس تموت سوية ... ولكنها نفس تساقط أنفسا حيث جعل "سوية" في مقابلة "تساقط أنفسا"، قال: ولهذا غيّروها وأبدلوهاب "جميعة"؛ لأنه الذي يقع في مقابلة "تساقط أنفسا". وانفرد قدامة بالنوع الذي يسمى: "المساواة"، وهو أن يكون اللفظ

مساوياً للمعنى حتى لا يزيد عليه، ولا ينقص منه، وللأدباء من قبل قدامة حديث في هذا الشأن، وقدامة نفسه يقص علينا أن بعض الكتاب قال في وصف أحد البلغاء: "كانت ألفاظه قوالب لمعانيه"؛ أي: أنهما متساويتان لا تزيد إحداهما على الأخرى. وانفرد قدامة بالنوع الذي يسمى: "الإيغال"، وهو أن يستوفي الشاعر معنى الكلام قبل أن يبلغ مقطع البيت، ثم يأتي بالمقطع، فيزيد معنى آخر يزداد به الغرض حسناً وبيانًا. وهذا النوع قد تحدث عنه علماء الأدب من قبل قدامة، وقدامة نفسه يقص علينا أن التوزيَّ قال للأصمعي: من أشعر الناس؟ فقال: من يأتي بالمعنى الخسيس، فيجعله بلفظه كبيراً، أو الكبير، فيجعله بلفظه خسيسًا، أو ينقضي كلامه قبل القافية، فإذا احتاج إليها، أفاد بها معنى، قال: قلت: نحو من؟ قال نحو ذي الرمة حيث يقول: قف العيس في أطلال ميّة فاسألِ ... رسوماً كأخلاق الرداء المسلسل فتم كلامه بالرداء، ثم قال: "المسلسل"، فزاد شيئاً بقوله: المسلسل. وانفرد قدامة بالنوع الذي يسمى: "ائتلاف القافية"، وهو أن تكون القافية متعلقة بما تقدم من المعنى، وملائمة له. وقد سبق إلى التنبيه على العناية بشأن القافية شبيب بن شيبة حين يقول: "وحظ جودة القافية -وإن كانت كلمة واحدة- أرفعُ من حظ سائر البيت". وكذلك يقول بشر بن المعتمر: "فإن كانت القافية لم تحل مركزها، وكانت قلقة في مكانها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير أوطانها". وانفرد قدامة بالنوع الذي يسميه: "إشارة"، وهو أن يكون اللفظ القليل مشتملاً على معان كثيرة يدل عليها بايماء، وقد سبقه إلى التنبيه على هذا النوع

أستاذه المبرد إذ قال في كتاب "الكامل": "من كلام العرب: الاختصار المفهم، والإطناب المفحم، وقد يقع الإيماء إلى الشيء، فيغني عند ذوي الألباب عن كشفه". وساق عليه من الشعر أمثلة، وقدامة نفسه ينقل لنا أن بعضهم، وهو خلف الأحمر، وصف البلاغة، فقال: "في لمحة دالة". ويشابه هذا قول خلف أيضاً: "إن كلام العرب أوعية، والمعاني أمتعة، فربما جعلت ضروب من الأمتعة في وعاء واحد". وانفرد قدامة بالنوع الذي يسميه: "الارداف"، والإرداف من وادي الكناية؛ فإنه يسوق في أمثلته: "بعيدة مهوى القرط"، وقول امرئ القيس: نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضُّل والكناية تحدَّث عنها ابن المعتز، ومن تقدم ابن المعتز؛ كالجاحظ، والفراء، وقدامة نفسه يقول: ومن هذا النوع ما يدخل في الأبيات التي يسمونها: "أبيات المعاني (¬1) ". ونحن نعلم أن ابن قتيبة ألف فيها مجلداً حسناً. وانفرد قدامة بالنوع الذي يسميه: "التمثيل"، وهو أن يريد الشاعر معنى، فيضع كلاماً يدل على معنى آخر، وذلك الكلام ومعناه ينبئان بما أراد الإشارة إليه. وإذا نظرنا إلى الأمثلة التي ساقها قدامة، وأبو هلال العسكري على ¬

_ (¬1) أبيات المعاني من الشعر ما يقع فيه الإبهام من جهة معانيه، وسميت أبيات المعاني؛ لأنها لا تفهم لأول الأمر، بل تحتاج أن يسأل عن معانيها. ومن أمثلتها: قد وسموا إبلهم بالنار ... والنار قد تشفي من الأوار يريد: أنهم أهل عزة ومنعة، فراعي إبلهم يسقي الإبل، ولا يزاحمه أحد من أجل سماتهم الخاصة التي عليها.

هذا النوع، وجدنا فيها ما يرجع إلى الاستعارة بالكناية؛ كقولهم: "نقي الثوب"، أو إلى ما يكون وجه الشبه فيه منتزعاً من هيئة؛ يقول الشاعر: ألم تك في يمنى يديك جعلتني ... فلا تجعلَنِّي بعدها في شمالكا ومن بحثوا في الاستعارة، وعرفوا وجه الشبه فيما يضرب من الأمثال، يعد تمثيل قدامة في متناول مباحثهم، ومن أيسر معلوماتهم. وانفرد قدامة بالنوع الذي يسمى بالتصريع، وهو أن يقصد الشاعر إلى مقطع المصراع الأول من البيت الأول في القصيد، فيجعله موافقاً للقافية، وقد سبقه الناس إليه، وهذا أبو تمام يقول: وتقفو إلى الجدوى بجدوى وإنما ... يروقك بيت الشعر حين يصرَّع وانفرد قدامة بالنوع الذي يسمى: "صحة التفسير"، وهو أن يضع القائل معاني، ثم يذكر أحوالها من غير أن يعدل عنها, ولا يزيد عليها, ولا ينقص منها، ومثاله: قول صالح بن جناح اللخمي: ولي فرس للحلم بالحلم ملجمٌ ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرجُ فمن رام تقويمي فإني مقوَّمٌ ... ومن رام تعويجي فإني معوَّجُ ونحن نعلم أن للبلغاء والأدباء في نقد الشعر من حيث عدم مناسبة بعض أجزائه لبعض قصصاً متعددة، وقدامة نفسه يدلنا على أن الأدباء من غيره يعرفون هذا النوع من حسن البيان، فإنه يذكر لنا أن شاعرًا أنشد جماعة من الشعراء قوله: فيا أيها الحيران في ظُلم الدجى ... ومن خاف أن يلقاه بغيٌ من العدا تعال إليه تلق من نور وجهه ... ضياء ومن كفيه بحراً من الندى

فشعر بعضهم بما في البيتين من العيب، وهو أن قوله: "ومن كفيه بحراً من الندى" إنما يناسب الخوف من الفقر والخصاصة، لا مخافة البغي من العدا. وإذا كان أصل النوع معروفاً عند الأدباء، ففضل قدامة في أن وضع له حداً، وسماه: صحة التفسير. وانفرد قدامة بالنوع الذي يسميه: "التوشيح"، وهو أن يكون أول البيت شاهداً بقافيته، وقد سبقه إلى هذا أستاذ علماء العربية الخليل بن أحمد، فإنا نقرأ في كتب الأدب؛ "كالعقد الفريد": أنه قيل له: أي بيت تقول العرب أشعر؟ فقال: البيت الذي يكون في أوله دليل على قافيته، وما كان من قدامة إلا أن سماه: التوشيح، وسماه غيره: "التسهيم"، وقيل: إن الذي سماه: التسهيم هو علي بن هارون المنجم المولود سنة 277، المتوفى سنة 352، وأما ابن وكيع، وهو أبو محمد الحسن ابن علي المتوفى سنة 393، فيسميه المُطمع. هذا ما كتب فيه قدامة من وجوه البديع، وكذلك الشأن فيما بحث فيه من العيوب. تجدونه يورد في عيوب ائتلاف اللفظ والوزن: "الحشو"، وقد بحث الأدباء في هذا من قبله، ومما ينقل في هذا: أن حماد بن إسحاق الموصلي يقول في بيت من شعر أبيه إسحاق، وهو: وأبرح ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الديار من الديار قد عابوا عليه قوله: "يوماً" بأنه حشو. وتجدونه يورد في عيوب المعنى: "التناقض"، وقد تحدث عنه الأدباء من قبله، فهذا مسلم بن الوليد عاب قول أبي نواس:

ذكر الصبوح بسحرة فارتاحا ... وأملَّه ديك الصباح صياحا وقال له: كيف ارتياح وملل؟!. وهذا أبو نواس عاب قول مسلم بن الوليد: عاصى الشباب فراح غير مفند ... وأقام بين عزيمة وتجلد وقال له: هذه مناقضة، قلت: "فراح"، ثم قلت: "فأقام". وقدامة نفسه يعترف بأنه سبق إليه إذ يقول: وقد أنكر الناس وعابوا قول زهير: قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيّرها الأرواح والديم وتجدونه يورد في عيوب اللفظ: "الحوشي"، وهو أن يرتكب الشاعر ما لا يستعمل ولا يتكلم به إلا شاذًا، وهذا مما سبقه إلى إنكاره البلغاء، ومن كلام المأمون في وصف البليغ: "ولا يتعمد الغريب الوحشي، ولا الساقط السوقي"، وقدامة نفسه يحكي قول عمر بن الخطاب يمدح شعر زهير: "كان لا يتبع حوشي الكلام". وتجدونه يورد في عيوب الغزل: أن يأتي فيه الشاعر جفاء لا يلائم دعوى العشق والغرام، وهو مسبوق بهذا النوع من النقد؛ فإنا نقرأ في "الكامل" للمبرد: أن كثيراً عاب قول الأحوص: فان تصلي أصلك وإن تعودي ... لهجر بعد وصلك لا أبالي وقال له: لو كنت من فحول الشعراء، لباليت، هذا قلت كما قال هذا - يعني: نصيباً -: بزينب ألمم قبل أن يظعن الركب ... وقيل إن تملِّينا فما ملَّكِ القلبُ

وقدامة نفسه يقص علينا أن أبا السائب المخزومي أنشد قول أبي إسحاق الأعرج: فلما بدا لي ما رابني ... نزعت نزوعَ الأبي الكريم فقال: والله! ما أحبها ساعة قط. وتجدونه يورد في عيوب الوزن: "القلب"، ورسمه بقوله: هو أن يضطر الوزن الشاعر إلى إحالة المعنى وقلبه إلى خلاف ما قصد به، وقد تحدث أهل العلم من قبله عن القلب، فهذا ابن قتيبة ينشد في "أدب الكاتب" قول النابغة الجعدي: حتى لحقنا بهم تعدو فوارسنا ... كأننا رعن قف يرفع الآلا ويقول: هذا من المقلوب، أراد كأننا رعن قف يرفعه الآل. وصفرة القول في هذا البحث: أن من أمتع النظر في كتب الأدب وعلم العربية، لا يثق بأن قدامة استمد في كتاب "النقد" من أصول البيان في لغة اليونان. وليست الوجوه التي انفرد بها عن ابن المعتز سوى فنون البيان العربي تستخرج من الألفاظ العربية. وصف المحاضر قدامة بأنه قرأ فلسفة أرسطاطاليس وشعره وخطابته، ثم خرج إلى الحديث عن الخطابة عند أرسطو، وذكر انها تنقسم عنده إلى ثلاثة أقسام: أحدها: الخطابة، والعلاقة بينها ويين المنطق، وتقسيم الخطابة، والكلام عن الخطيب، وعن البحث الذي تدور عنه الخطبة. ثانيها: الجمهور، أو الذي يحاول الخطيب أن يؤثر فيهم. ثم قال

المحاضر: ولم يأخذ العرب من هذين القسمين شيئاً، أو أخذوا أشياء غامضة نلمحها لمحًا فيما نقرأ من الكتب المختلفة عندما يقولون: "لكل مقام مقال". يرى المحاضر أن الثقافة العربية تقصر عن أن تدرك أن لكل مقام مقالاً حتى يترجم لها ما تحدث به أرسطو عمن يحاول الخطيب التأثير فيهم! لم تقصر الثقافة العربية عن أن تقول: "لكل مقام مقال"؛ فإن هذه الحكمة واردة في الأمثال العربية، ساقها الميداني في "مجمع الأمثال"، والزمخشري في "المستقصى"، وجاءت في شعر عربي صحيح، ذلك الشاعر هو الحطيئة - ولا أخاله يعرف أن لأرسطو شعراً وخطابة - إذ يقول متعطفاً لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: تحنَّنْ عليَّ هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا ثم ذكر المحاضر القسم الثالث من أقسام الخطابة، وتعرض لما تحدث به أرسطو عن أنواع من البيان؛ كالتشبيه، والاستعارة، وأنواعهما، ثم استغرب أن يكون مذهب أرسطو هو مذهب العرب في البيان. نحو التشبيه والاستعارة أمر يشترك فيه الناس على اختلاف أجيالهم ولغاتهم، وهذا عبد القاهر الجرجاني يقول في "أسرار البلاغة": "التشبيه والاستعارة أمر يستوي فيه العربي والعجمي، وتجده في كل جيل، وتسمعه من كل قبيل". وتحدث ابن الأثير عن المطابقة، وقال: "هذا النوع من الكلام لم تختص به اللغة العربية دون غيرها من اللغات، ومما وجدته في لغة الفرس: أنه لما مات قباد أحد ملوكهم، قال وزيره: "حركنا بسكونه"، وأول كتاب "الفصول" لأبقراط في الطب: "العمر قصير، والصناعة طويلة"، وهذا الكتاب على لغة اليونان".

قال ابن أي الحديد في التعليق على قول ابن الأثير هذا: "أليس كل قبيلة وكل أمة لها لغة تختص بها؟! أو ليس الألفاظ دلالات على ما في الأنفس من المعاني؟! فإذا خطر في النفس كلام يتضمن أمرين ضدين، فلا بد لصاحب ذلك الخاطر، سواء كان عربياً أو فارسياً، أو زنجياً أو حبشياً، أن ينطق بلفظ يدل على تلك المعاني المتضادة، وهذا أمر يعم العقلاء كلهم". وإذا توافقت لغتان في بعض الخصائص، كان من الجائز أن تتشابه مذاهب الكاتبين في هذه الخصائص من علماء اللغتين، دون أن يستمد هؤلاء مما كتب هؤلاء. قال المحاضر: "ثم يعرض أرسطاطاليس إلى أجزاء الخطبة، فيرى أن تقسم إلى أجزاء يحسن الوقوف عندها، وقد أخذ العرب بذلك؛ فإنا نجد أبا هلال العسكري يقرر ذلك، ويسميه: الازدواج، ويمثل له بقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] ". إذا كان هذا النوع من محاسن البيان شائعاً في كلام العرب، فما الذي يمنع من أن يكون علماء العربية أدركوا حسنه، فأدخلوه في جملة محاسنها، وسموه: الازدواج، وإذا كان حسنه مما يدرك بالطبع، فلمَ لا يكون طبع الباحث في العربية صافياً كطبع أرسطاطاليس، فلا يفوته أن يتنبه لهذا الوجه من الحسن؟!. على أن الازدواج معروف بهذا الاسم من قبل أبي هلال العسكري؛ فإنا نرى الجاحظ قد عقد في كتاب "البيان" فصلاً عنوانه: (باب: مزدوج الكلام) أورد فيه جملاً تنتظم في هذا السلك، وقال في هذا الكتاب: "ونحن -أبقاك الله- إذا ادعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن

المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا العلم على أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب". وأذكر في هذا الصدد: أن ابن الأثير قد نفى أن يكون مما ذكره حكماء اليونان في المعاني الخطابية فائدة في بلاغة اللغة العربية وبيانها، فقال في "المثل السائر": "إن المعاني الخطابية قد حصرت أصولها، وأول من تكلم في ذلك: حكماء اليونان، غير أن ذلك الحصر كلي لا يستفيد بمعرفته صاحب هذا العلم -يعني: علم البيان-، ولا يفتقر إليه؛ فإن البدوي البادي راعي الإبل ما كان يمر شيء من ذلك بفهمه، ولا يخطر بباله، ومع هذا، فإنه كان يأتي بالسحر الحلال إن قال شعراً، أو تكلم نثراً". وذكر ابن الأثير أن أبا نواس، ومسلم بن الوليد كغيرهم من الشعراء والكتاب لم يكن لهم علم بما ذكره علماء اليونان، ثم قال: "فإن ادعيت: أن هؤلاء تعلموا ذلك من كتب علماء اليونان، قلت لك في الجواب: هذا باطل بي أنا؛ فإني لم أعلم شيئاً مما ذكره حكماء اليونان، ولا عرفته، ومع هذا، فانظر إلى كلامي، فقد أوردت لك نبذة منه في هذا الكتاب. وإذا وقفت على رسائلي ومكاتباتي، وهي عدة مجدات، وعرفت أني لم أتعرض لشيء مما ذكره حكماء اليونان في حصر المعاني، علمت حينئذ أن صاحب هذا العلم - من النظم والنثر - بنجوة من ذلك كله؛ لأنه لا يحتاج إليه أبداً". فإذا لم نقبل دعوى أن البيان العربي مأخوذ من البيان اليوناني، فلأن صاحب هذه الدعوى لم يسندها إلى بينة: والدعاوى إن لم يقيموا عليها ... بيناتٍ أبناؤها أدعياء

ولا ننكر - مع هذا - أن يكون الأدب العربي قد اكتسب من بعض اللغات العجمية معاني أضافها إلى ما عنده من المعاني البديعة؛ كأمثلة الكتابة التي يقال: إن عبد الحميد الكاتب قد نقلها من الفارسية إلى العربية، والجاحظ يرتاب في أمثال هذه الرسالة، فقال في كتاب "البيان والتبيين": "ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي بأيدي الناس للفرس أنها صحيحة غير مصنوعة، وقديمة غير مولدة، وإذا كان مثل ابن المقفع، وسهل بن هارون، وأبي عبيد الله، وعبد الحميد، وغيلان، وفلان وفلان لا يستطيعون أن يولدوا مثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السير".

13 - ديوان خواطر الحياة

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (13) «دِيوَانُ خَواطِرُ الحَيَاةِ» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة شاعرنا الإِسلامي المصلح الكبير الإِمام الأكبر محمد الخضر حسين -رضوان الله عليه- راية هدى، وداعية إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وديوانه "خواطر الحياة" روضة من رياض الحق والخير والسمو الخلقي، وقف حياته الطاهرة على الجهاد في سبيل الله، ومن أجل نصرة الشريعة، فكان شعره كنثره هما سلاحان ماضيان للذود عن الإسلام وللدعوة إلى الإِسلام. ولم يكن الشعر في نظره إلا دافعاً للشعوب التي تقاسي الاضطهاد، وحماساً لها ضد الجور والظلم، يقول في إحدى قصائد الديوان: وأنفع الشعر ما هاج الحماسة في ... شعب يقاسي اضطهاد الجائرِ الأشِرِ لو لم أخف وخز تثريب يصول به ... عليّ ناقد شعري من بني مُضرِ لقلت: لا شعر إلا في قريحة من ... يبيت من شقوة الأوطان في سهرِ من ذا يقيم على أرض يظللها ... ضيم ويحسن وصف الدلِّ والحور وإذا صنع القريضَ نقداً، فالإصلاح غايته ومرماه، وإذا رثى بقصيدة، فلعبرة ومأثرة، وإذا مدح، فللخصال الحميدة التي رآها في ممدوحه، وإذا وصف، أبدع، فازداد الأدب السامي ثراءً وجودة. لعلو همته، ورفعة شأنه، وعاطر سيرته، أغضى عن بعض فنون الشعر، فلم ينظم إلا ما اطمأنت إليه نفسه، وارتاح له ضميره، وابتغى به وجه الله

-سبحانه وتعالى-، وعزة الإِسلام، وقليل من الشعراء في كل عصر ومصر من كان على هذه المرتبة الراقية من الإباء والشمم. يقول شاعرنا: ولم أُنض القريحةَ في نسيب ... ولا عَذَلاً شكوت ولا بعادا فما أهوى سوى لغة سقاها ... قريش من براعتهم شِهادا وطوقها كتابُ الله مجداً ... وزاد سنا بلاغتها اتقادا من الشعراء من نظم شعره إرضاء للباطل حتى يقتات من موائده، فغوى مع الغاوين، وهام في كل واد مع الهائمين، يمدح طاغية ليتصيد لقمة، ويخوض في بحر الكذب حتى القمة. ومنهم من حمل بضاعة شعره يعرضها في كل سوق رائجة، يصوغ الشعر تكلفاً وتكليفاً، وينظمه أحجاماً وطبقات. ومنهم من اتخذ الشعر لبث اللهو، وإرضاء الشهوة، فانحط به إلى الدرك الأسفل من الرذيلة، فكان مهرجاً لا شاعراً. يقول الإِمام الشاعر: وفي الشعراء من ضاقت خُطاه ... وفاتته الحقائق وهي شتى فراح يخال لهو القول جدّاً .. وينفث في مكان الرشد بهتا وشعر العرب ذو نظم فرفقاً ... بها إن شئت رفقاً واستطعتا هذا وقد أضفتُ إلى هذه الطبعة الرابعة ما عثرت عليه من شعر شاعرنا الكبير في أوراقه الخاصة، أو في الصحف والمجلات والكتب، وحاولت الجهد أن أشير إلى مرجع كل قصيدة أو مقطعة، والمناسبة التي قيلت فيها، وتاريخ النظم.

ومن الأمانة في العلم القول: إننا قد حافظنا على شرح وتعليق العالم الفاضل المرحوم الشيخ محمد علي النجار في طبعة الديوان عام 1373 هـ - المطبعة السلفية بالقاهرة -جزاه الله خيراً-. إن هذا الديوان "خواطر الحياة" جدير بأن يتناوله رجال الفكر والأدب بالتحقيق الواسع والدراسة المستفيضة، وإعطاء صورة صادقة لشاعرية المؤلف. والله نسأل التوفيق والهداية في خدمة رسالة الإِسلام. علي الرّضا الحسيني

مقدمة خواطر الحياة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة خواطر الحياة نشأت في بلدة من بلاد الجريد بالقطر التونسي يقال لها "نفطة" (¬1)، وكان للأدب المنظوم والمنثور في هذه البلدة نفحات تهبُّ في مجالس علمائها، وكان حولي من أقاربي (¬2) وغيرهم من يقول الشعر، فتذوقت طعم الأدب من أول نشأتي. وحاولت في سن الثانية عشرة نظم الشعر، وفي هذا العهد انتقلت أسرتي إلى مدينة تونس، والتحقت بطلاب العلم بجامع الزيتونة (¬3)، وكان من أساتذة الجامع ومن هم في الطبقة العالية من طلاب العلم من أولعوا بالأدب، والتنافس في صناعة القريض إلى شأو غير قريب، فاقتفيت أثرهم، وكنت أنظم قصائد تهنئة لبعض أساتذتي عند إتمام دراسة بعض الكتب، ولكني أقبلت على طلب العلم، وتغلب ارتياحي له على ارتياحي للأدب حتى زهدت في صناعة النظم، إلا في أوقات تقتضي أن أهنئ صديقاً حميماً، أو في مجالس تجري فيها ¬

_ (¬1) بلدة صحراوية في جنوب تونس، أطلق عليها اسم: الكوفة الصغرى؛ لمكانتها العلمية آنذاك. (¬2) وفي مقدمتهم أستاذه وخاله العلامة محمد المكي بن عزوز. (¬3) بناه الأمير حسان بن النعمان الغساني عام 79 هـ، وأتم بناءه الأمير عبد الله بن الحبحاب عام 141 هـ، ثم أحدثت به أبنية فخمة من المرمر والرخام.

محاورات أدبية، فتحرك داعية النظم لأن أقول البيت أو البيتين أو الثلاثة. ولقلة إقبالي على نظم الشعر، أو لأنني كنت أرى أن ما أنظمه منه ليس أهلاً لأن يحتفظ به، لم يصحبني منه عندما رحلت (¬1) من تونس إلى الشام غير شذرات علقت بذاكرتي، أو شذرات وجدتها مبعثرة في كتب استصحبتها في رحلتي. نزلت دمشق وللشعر فيها سوق غير كاسدة، ولكني آثرت أن أصرف القريحة في البحث العلمي، أو في العمل للقضية الإِسلامية، بقدر ما أستطيع، وربما نزعت نفسي إلى أن أقول شعراً، فأرخي لها العنان، وأقول: هو فن من فنون الأدب الجميل، وللنفس فيه سلوة، ولا سيما شعراً أطرقُ به ناحية خلقية، أو أشارك به العاملين لإصلاح الحالة المدنية، أو أودعه صورة معنى لا أذكر أني لمحته فيما طالعته من المنشآت الشعرية أو النثرية. ثم هبطت مصر (¬2)، وكانت صناعة القريض قد ارتقت فيها إلى ما يطمح إليه الشاعر العبقري، فازددت زهدًا في النظم، وقلت يومئذ: أَجوده ليس في متناول قريحتي، وغير الأجود تتسامى عنه همتي، وربما خطرت لي صور من المعاني في أوقات أبتغي فيها راحة، فألبسها ثوياً من الكلام الموزون. ولم يلم بخاطري في يوم أن أجمع ما نظمته، وأخرجه للناس، حتى اقترح عليّ طائفة من إخواني الفضلاء أن أجمعه من أوراقه المتفرقة، وأصدره إلى عالم الأدب في صفحات متتالية، فما وسعني إلا أن تقبلت اقتراحهم، وقلت: هو كلام موزون، إن لم يجد فيه الأديب ما يروقه من لفظ أنيق، أو ¬

_ (¬1) خلال شهر كانون الأول 1912 م الموافق 1331 هـ. (¬2) عام 1339 هـ، 1920 م.

معنى رشيق، فقد يرى فيه المؤرخ أشياء يهمه أن يتعرفها من مصادر متعددة. وعمدت إلى ما نشر في بعض الصحف، أو احتوته بعض المذكرات، وضممت بعضه إلى بعضه، مرتباً له على حروف المعجم، ومنبهاً على المناسبة التي دعت إلى نظم القصيدة أو المقطَّعة، ثم عرضت على من اقترحوا علي جمعه، فأطلقوا عليه اسم: ديوان، ولقبوه بـ: "خواطر الحياة" (¬1). ودونك ما جمعت ورتبت، فانقده بفكرك الثاقب، وميزان منطقك العادل، عسى أن تنبه على خلل في تأليف الكلام، أو عيب في تصوير المعاني، فإن فعلتَ، فما هو بأول شعر كشف النقد البريء عما انطوى عليه من هفوات، وإذا محضتك الشكر، فما أنا أول من شكر الناقد البصير على إخلاصه للأدب، وإيثاره الصراحة في الحق على كتم ما تقع فيه الأفكار أو الألسنة من عثرات، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. محمّد الخضر حسين "بنت عزّوز" لقد لقَّنتنا ... خشية الله وأن نرعى الذِّماما ودرينا منك أن لا نشتري ... بمعالينا من الدنيا حُطاما ودرينا منك أن الله لا ... يخذل العبد إذا العبدُ استقاما ودرينا كيف لا نعنو لمن ... حارب الحق وإن سلّ الحساما "من قصيدة للشاعر في رثاء والدته" ¬

_ (¬1) صدرت الطبعة الأولى من الديوان بالقاهرة عام 1399 هـ، 1946 م، وأعيد طبعه للمرة الثانية بالقاهرة عام 1373 هـ، 1953 م، وعلق عليه فضيلة الأستاذ الشيخ محمد علي النجار.

قافية الألف

قافية الألف أيْ فلسطين " قيلت في مصر على فراش المرض عام 1358 هـ " (¬1). نَصبَ البُغاةُ على ذُراكِ لِواءَ ... وكَسَوْا مَرابِعَكِ الحِسانَ دِماءَ (¬2) كُنْتِ الشَّرى وديارُك الآجامُ لا ... يَبني حَوالَيْها الجَبانُ خِباءَ (¬3) وبَنوكِ أُسْدٌ مَنْ يَجُسُّ طِبَاعَها ... لمْ يَلْقَ إلا نَخْوَةً وإباءَ (¬4) ولقدْ عَهِدْتُكِ والحَياةُ أَنيسةٌ ... ورُباكِ تَزْهو بَهْجةً ورُواءَ (¬5) ¬

_ (¬1) قصيدة قالها الشاعر منبهاً للخطر الصهيوني الداهم، وحاثاً المسلمين على الجهاد. ونشرت في مجلة الهداية الإِسلامية - الجزء الثاني عشر من المجلد الحادي عشر. (¬2) البغاة: يقال: بغى فلان على فلان: استطال عليه، وظلمه، وهي جمع باغ. الذرى: ذرى الشيء -بالضم- أعاليه، الواحدة ذروة -بكسر الذال وضمها-. (¬3) الشرى: مأسدة جانب الفرات يضرب بها المثل، والطريق في سلمى كثير الأُسد، ويكنى بها عن المكان الذي تكثر فيه الأسود. الآجام: جمع أَجَمَة: الشجر الكثير الملتف، يقال: "الموت لا تنجو منه الأسد في الآجام، ولا الملوك في الآطام". (¬4) جَسَّ: مسّ بيده. (¬5) الربى: جمع ربوة: ما ارتفع من الأرض.

ما سارَ فيكِ الْغَيْمُ إلَّا صَيِّباً ... والرِّيحُ إلَّا أَنْ تَكونَ رُخَاءَ (¬1) لا يحتَسي من ماءِ أَرضِكِ صائِلٌ ... فيما عَرَفْتُ سوى شُعاعِ ذُكاءَ (¬2) لا دَمْعَ إلَّا مِنْ مَآقي خاشعِ ... لله يَدْعُو خِيفَةً ورَجاءَ لا حَرَّ إلَّا غَيْرةٌ في أَنفُسٍ ... تَهوى إذا حَمِيَ الوَطيسُ لِقاءَ (¬3) ما لِلْيهود استَوْطَنُوكِ وَصاعَروا ... بعدَ الَهوانِ خُدودَهُمْ خُيَلاءَ؟ (¬4) أَفَما نبتْ بِهِمُ مَواطِنُ لم تُطِقْ ... مَكْراً يَحُوكُ شَقاً لها وبلاءَ (¬5) يَنْفيهِمُ الزُّعماءُ عنْ ساحاتِها ... نفَيَ الرِّياحِ عَنِ المِياهِ غُثاءَ (¬6) هاتي فِلَسطينُ الحديثَ عنِ الَّذي ... خَلَعَتْ يَداهُ على الْيهود وَلاءَ وأَعَدَّ للعُرْبِ الْكِرامِ قذيفةً ... فتَّاكةً أَوْ طعنةً نَجْلاءَ (¬7) يُعطيهُمُ عَهدَ الَحليفِ مُداهِناً ... وَيسومُهمْ سوءَ الْعَذابِ عِداءَ ¬

_ (¬1) الصيّب: مجيء السماء بالمطر. الريح الرخاء: اللينة الهُبوب. (¬2) صائل: يقال: سأل صولاناً؛ أي: استطال، وسطا. الذُّكاء: الشمس، ويقال للصبح: ابن ذُكاء؛ لأنه من ضوئها. (¬3) الوطيس: التنور، أو الفرن، جمع وَطَس، ومنه قولهم: حمي الوطيس: إذا اشتدت الحرب، وتواطست الأمواج: تلاطمت. (¬4) صاغر خده: أماله عن النظر إلى الناس تهاوناً من كِبَرْ. الخيلاء: الكبر والإعجاب. (¬5) نبا: تجافى وتباعد. (¬6) الغُثاء والغثَّاء: البالي من ورق الشجر المخالط زبد السيل. (¬7) نجلاء: واسعة، يقال: عين نجلاء كناية عن سعة شقة العين.

يَسقيهُمُ السُّمَّ الزُّعافَ فإِنْ شَكَوْا ... عاطاهُمُ شَهْدَ الْكَلامِ رِياءَ (¬1) يهتَزُّ من طربٍ لِرؤْيَةِ ثاكِلٍ ... تَبكي بِهاطِلِ دَمْعِها الشُّهداءَ (¬2) أَفَيَحْسَبُ الْقاسي الفُؤادَ دُموعَها ... ودَمَ الشَّهيدِ الماءَ والصَّهْباءَ (¬3) يا مَنْ دَهى الأَوطانَ وهيَ أَمينةٌ ... واجتاحَ أَطْفالاً بِها ونساءَ (¬4) لا تأْمَنَنَّ الدَّهْرَ إنَّ صُروفَهُ ... لا تَقْبَلُ الذَّهَبَ النُّضارَ فِداءَ (¬5) والعُرْبُ تَأْبَى الضَّيْمَ إلَّا أَنْ تَرى ... ضَيماً تَسَنَّمَ قَبْلَها الجَوْزاءَ (¬6) ما وعدُ بِلْفورٍ سوى الزَّبَدِ الَّذي ... يَطْفو ويَذْهبُ في الفَضاءِ جُفاءَ (¬7) ¬

_ (¬1) سم زُعاف: قاتل سريعاً. الشَّهد والشُّهد: العسل ما دام لم يعصر من شمعه. (¬2) ثاكل: المرأة فقدت ولدها. (¬3) الصهباء: الخمر، وقيل: المعصورة من العنب الأبيض. (¬4) دهى: نزل. أمنية: آمنة، وأهلها مطمئنون فيها. (¬5) صروف الدهر: حدثانه ونوائبه. النضار: الذهب والفضة، والجوهر الخالص من كل شيء. (¬6) الضيم: الظلم. تسنَّم الشيء: علاه، وهو من قولهم: تسنم الناقة؛ أي: ركب سنامها. الجوزاء: برج في السماء. (¬7) بلفور: وزير خارجية بريطانيا: وجه رسالة إلى أحد أثرياء اليهود روتشيلد بتاريخ 2 تشرين الثاني نوفمبر من عام 1917 م جاء فيها: "إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتحقيق هذه الغاية .. ". الزَّبد: ما يعلو الماء وغيره من الرغوة. الجُفاء: ما نفاه السيل، وقوله تعالى: {فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد: 17]؛ أي: باطلاً.

أَفَبَعْدَ فَتْحِ ابنِ الوَليدِ وصَحْبِهِ ... لِلقُدسِ وَعْدٌ يَستَحِقُّ وَفاءَ (¬1) مَنْ مُبْلِغُ الحُنَفاءَ أُمَّةَ أَحمَدٍ ... نبأً يَطيرُ له الْفُؤَادُ هَباءَ (¬2) تِلْكَ الأَيَامَى عَضَّهُنَّ بِنابِهِ ... بُؤْسٌ وهُنَّ الصَّامِتاتُ حَيَاءَ (¬3) ذاكَ الْفَطيمُ تَفَقَدَتْ لَحَظاتهُ ... مَنْ كانَ يُطْعِمُهُ صَباحَ مَساءَ (¬4) وَيحَ الرَّضيعِ يَمُصُّ ثَدياً لمْ تَذَرْ ... فِيهِ الْكَوارِثُ للرَّضيعِ غِذاءَ (¬5) ونرَى ابْنَ يَعْرُبَ في الضفادِ وَغَيْرُهُ ... طَلْقٌ يَجُرُّ -كما يَشاءُ- رِدَاءَ (¬6) أَننامُ عَنْ إسْعافِهِمْ والدِّينُ قَدْ ... عَقَدَ ائْتِلافاً بَيْنَنا وإخاءَ هَلْ من عواطِفَ كالنَّسيم يمرُّ في ... سَحَرٍ بِزَهْرِ حَديقةٍ غَنَّاءَ كُلٌّ يَجُودُ بِما اسْتَطاعَ فما النَّدى ... وَقْفاً على مَنْ يُجْزِلونَ عَطاءَ (¬7) لا تُنْجِدُوهُمْ بالتَّحَسُّرِ وَحْدَهُ ... إنَّ التَّحَسُّرَ لا يُزيحُ عَناءَ ¬

_ (¬1) ابن الوليد: (... - 21 هـ) خالد بن الوليد بن المغيرة، سيف الله، والفاتح الكبير توفي ودفن في حمص. (¬2) الحنيفية: يقال: تحنف إلى الشيء إذا مال إليه، ومنه قيل لمن مال عن كل دين أعوج: هو حنيف، والجمع حنفاء، والحنيف: الصحيح الميل إلى الإِسلام، الثابت عليه، ويطلق على كل من أصبح على دين إبراهيم - عليه السلام -. (¬3) الأيامى: جمع أيم والأيم: من لا زوج لها، بكراً أم ثيباً. (¬4) تفقد الشيء: طلبه عند غيبته. (¬5) لم تذر: لم تدع. (¬6) الصفاد: ما يوثق به الأسير من قيد وغُلّ. (¬7) الندى: الجود والكرم.

بعض أمراضنا الاجتماعية

لا تَنْهَضُ الأوطانُ مِنْ كَبَواتِها ... إلَّا على أَيْدٍ تَفيضُ سَخاءَ ما سادَ قَومٌ أُشْرِبُوا شُحّاً وإِنْ ... بَلَغُوا السّماءَ شَجاعَةً وذَكاءَ (¬1) أَمِنَ المُروءَةِ أَنْ ننُادَى للَّتي ... فيها النَّجاةُ ولا نُجيبُ نِداءَ نبغِي النَّجاةَ ولا جِهادَ كَمُدْنَفٍ ... يَبْغي الشِّفاءَ ولا يُسيغُ دَواءَ (¬2) إنْ تَحْسَبوا البُخلاءَ أَحْياءَ وَهُمْ ... صُمُّ المسامِعِ تَظْلِموا الأَحياءَ لَوْ قِيلَ مَنْ مِثْلُ الحِجارةِ في الوَرى ... لم أَعْدُ في تَمثيليَ الْبُخَلاءَ بَسَطَ الْيَهُودُ إلى اليَهودِ كُفَّهُمْ ... بِالمالِ مِنْ بَيْضاءَ أَوْ صَفْراءَ (¬3) ومَتى أَرى قَوْمي قَدِ اسْتَبَقوا العُلا ... بِسَخَاءِ كَفٍّ يَكْشِفُ الَّلأْوَاءَ (¬4) [بعض أمراضنا الاجتماعية (¬5)] أَيَعودُ للشَّرْقِ الحَماسَةُ والإِباءُ ... فَتَعودُ عِزَّتُهُ ويَبْتَهِجُ الْعَلاءُ؟ قالوا: استَقَامَ الشَّرْقُ وَهْوَ يسيرُ في ... نَهْجِ الفَلاحِ وفي عَزيمَتِهِ مَضاءُ ¬

_ (¬1) الشح: البخل مع الحرص. (¬2) المدنف: الذي أثقله المرض. ساغ الدواء: سَهُلَ مدخله في الحلق. (¬3) البيضاء: الفضة. الصفراء: الذهب. (¬4) اللأواء: يقال: لأواء العيش: شدته، وفي الحديث الشريف: "من كانت له ثلاث بنات، فصبر على لأوائهن، كنَّ له حجاباً من النار". (¬5) قصيدة الشاعر يدعو بها إلى الإصلاح الاجتماعي، محذراً من الإلحاد والدعايات الخبيثة، ونشرت في مجلة "الهداية الإسلام" - الجزأين الأول والثاني من المجلد الرابع عشر.

ولَشَدَّ ما خُضْنا الخُطوبَ ولَمْ نُرِدْ ... إلَّا العُلا وجَرَتْ بِوادينا دماءُ قُلنا: الدَّعارةُ لمْ تَزَلْ في أَرْضِنا ... ولِرَهْطِها في كُلِّ حاضِرةٍ لِواءُ (¬1) تِلْكَ الخُمورُ تُدارُ في عَلَنٍ ولا ... لَوْمٌ يَنالُ المُعْلِنينَ ولا جَزاءُ كَمْ مِنْ مَآدِبَ في البِلادِ تُقامُ في ... رَأْدِ الضُّحى وَعلى مَوائدها الطّلاءُ (¬2) فَتياتُنا إنْ رُمْتُ بَثَّ شِكايَتي ... مِنْ خَطْبِهِنَّ يُسابِقُ الشَّكْوى بُكاءُ كُنَّ البُدورَ حَصانةً وَوَسامةً ... والحُسْنُ يَبْهرُ إذْ يُخالطُه الحَياءُ وحُجورُهُنَّ مَدارِسُ الأَطفالِ إِذْ ... طَهُرَتْ فَحَظُّهُمُ الطَّهارَةُ والنَّقاءُ ما بالُهُنَّ اليَوْمَ يُرْضِينَ الهوى ... ما شاءَ، لا راعٍ يُهابُ ولا قَضاءُ أَقْصى الإلهُ مَلاهِياً ومَراقِصاً ... نُصِبَتْ كأَشراكٍ يُصادُ بها النِّساءُ فَيَضَعْنَ أَحْمرَ فَوْقَ أَبيَضَ زينَةً ... وَيرِدْنهَا كالعِيسِ يَقْتُلُها الظَّمَاءُ (¬3) يَغْشَيْنَها وثيابُهُن كأنَّها ... لِشُفوفها فَوقَ الصَّلا والبَطْنِ ماءُ (¬4) ¬

_ (¬1) الدعارة: الخبث والفسق. الرهط: قوم الرجل وقبيلته. الحاضرة: ضد البادية، وهي المدن والقرى والريف. (¬2) رأد الضحى: وقت ارتفاع الشمس عند الخمس الأول من النهار، وانبساط ضوئها، وذلك شباب النهار. الطلاء: ما يطبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه، وبعض العرب يسمي الخمر: الطلاء (¬3) الأحمر والأبيض: الأصبغة التي تضعها النساء على وجوههن. العيس: الإبل البيض يخالط بياضها شقرة، وتطلق على كرام الإبل. الظماء: العطش. (¬4) الصَّلا: وسط الظهر من الناس، ومن كل ذي أربع، جمع صَلَوات، وأصلاء، وصَلا الفرس؛ أي: مغرز ذنبه.

أَسَفاً على عِرْضِ الفَتاةِ أَلمْ يَكُنْ ... مِنْ غَيْرَةِ الأُمّ العَطوفِ لَهُ وِقاءُ اليَوْمَ تُرْسِلُها يدُ الأَبِ نفسِهِ ... بَيْنَ الشَّبابِ كأَنَّهُ مِنْها بَراءُ وتَعودُ مِنْ، تِلكَ الخَلاعةِ مَوْهِنَاً ... وفؤادُها مِنْ عِزَّةِ التَّقوى هَواءُ (¬1) قالوا: دَواءُ قُضاتِنا قانونُ با ... ريزٍ، وقانونُ الإلهِ هُوَ الدَّواءُ سُسْنا بِهِ الأَقْوامَ فانتظَمَتْ لَنا ... في الشَّرقِ والْغَرْبِ العَدالَةُ والدَّهاءُ لا تُخْرِجُ الغَبْرَاءُ مِثْلَ مُحَمَّدٍ ... أَوْ مِثْلَ شَرْع آثَرَتْهُ بِهِ السَّماءُ (¬2) طَغَتِ الوساطَةُ في الوظائف ويحَ مَنْ ... لَمْ يَدْرِ أيْنَ الجَّاهُ أوْ أَيْنَ الثَّراءُ ضاعَتْ بِجَانِبَها كِفاياتٌ بَنَى ... آساسَها العِلْمُ المُؤَثَّلُ والذَّكاءُ بَلْوَى الرِّياسةِ أَنْ تُناطَ بِمَنْ لهُ ... نفسٌ تَعَبَّدَها غُرورٌ أَوْ رِياءُ يَرْنو إلى الدُّنيا بِمرآةِ الهوَى ... وبِعَيْنِ أَعْشى والعَشا داءٌ عَياءُ (¬3) صَوْتٌ مِنَ الشَّيْطانِ ردَّدَهُ الأُلَى ... مَرَدوا على تَمثيلهِ وَهُوَ الهُذَاءُ (¬4) نادَوْا بِها قَوْمِيَّة خَرْقاءَ أَوْ ... وَطَنِيَّةً، لاحَبَّذا ذاكَ النِّداءُ ¬

_ (¬1) المَوْهِنْ: نحو نصف الليل، أو بعد ساعة منه، وقال الأصمعي: هو حين يدير الليل. هواء: خالٍ. (¬2) الغبراء: الأرض، ويقال: جاء على ظهر الغبراء والغُبيراء؛ أي: على ظهر الأرض؛ يعني: راجلاً. (¬3) الأعشى: الذي لا يبصر بالليل، ويبصر بالنهار. العشا: سوء البصر بالليل والنهار، وقيل: العمى. داء عَياء: صعب لا دواء له؛ كأنه أعيا الأطباء. (¬4) مرد على الشيء: استمر عليه. الهذاء: القول الباطل، والتكلم بغير معقول لمرض أو غيره.

وإذا ذَكَرْتَ الدِّينَ قالوا: خَلِّنا ... مِنْ ذِكْرِه وعَلى أُخُوتهِ العَفاءُ (¬1) إِنَّ المدارِسَ كالسَّمواتِ العُلا ... وعُلومُها مِثْلُ النُّجُومِ لَها ضِياءُ وكَأَنَّما عِلْمُ الدّيانَةِ بَيْنَها ... قَمرُ السماءِ إذا تَجَلَّى أَوْ ذُكاءُ (¬2) وَسِياسَةُ التَّثقيفِ يَشْغَلُ بالَها ... وَيهُمُّها غَيْرُ الهُدى حَتَّى الغِناءُ ومَتى يُماطُ أَذى الدّعاياتِ التي ... تُوحي ضَلالا والضَّلالُ هُوَ الوَباءُ (¬3) فَدِعايةُ الإلْحادِ يَنْفُثُ سُمَّها ... رَهْطٌ يؤازِرُهُمْ عَلَيْهَا أَغْبِياءُ إِنْ جِئْتَ نادِيَهُمْ بأَبلَغِ حُجَّةٍ ... فَجَوابُهمْ عَنْها التَّهَكُمُ والبَذاءُ (¬4) وَدِعايةٌ في الفُرْسِ ميبيتَ أَمْرُها ... يَا لَيْتَها ذَهَبَتْ كما ذَهَبَ الجُفاءُ (¬5) جاسَتْ خِلالَ الشَّرقِ واغْتالَتْ بِه ... نشئًا ولمْ يَغْتَلْهُمُ إلَّا الشَّقاءُ خَرَجُوا عنِ التَّوْحِيدِ وارتَدُّوا إلى ... شِرْكٍ أَمَا قالوا: الإلهُ هُوَ البَهَاءُ؟! (¬6) ¬

_ (¬1) العفاء: التراب: قال صفوان بن محرز: إذا دخلت بيتي، فأكلت رغيفاً، وشربت عليه ماءً، فعلى الدنيا العفاء، ويقال: الهلاك. (¬2) ذُكاء: الشمس. (¬3) أماطه: أي: نحّاه، ومنه: إماطة الأذى عن الطريق. (¬4) البذاء: الفحش، وفلان بذيُّ اللسان. (¬5) الدعاية التي قامت في الفرس هي البهائية. الجُفاء: ما نفاه السيل إذا رمى به، وقال ابن السكيت: "وذهب الزبد جفاء"؛ أي: مدفوعاً عن مائه. (¬6) انظر كتاب المؤلف: "القاديانية والبهائية". البهاء: زعيم الطائفة البهائية، لقب يدعى به ميرزا حسين علي، وهو الزعيم الثاني للمذهب. وتسمى: الطائفة البابية، نسبة إلى (الباب)، وهو لقب ميرزا علي محمد الذي ابتدع هذه النحلة.

وَدِعايَةٌ في قادِيانَ تَبَرَّجَتْ ... لَكِنَّ حِلْيتها خِداع وافْتِراءُ (¬1) زُعَماؤُهُمْ -وغُلامُ أحْمَدَ رَأْسُهُمْ- ... زَعَموا بِأَنَّهُمُ دُعاة أَنْبِياءُ (¬2) ودِعايةٌ هِيَ مِنْ صَنيعِ الغَرْبِ تَرْ ... عاها سِياسَتُه وَيغْمُرُها الحِباءُ (¬3) لِمَنِ المدارسُ نبلُها شُبَهٌ ومَرْ ... ماها جُحودٌ في النُّفوسِ أَوِ امْتراءُ (¬4) عَجَباً لَنا نُلْقِي إلى أَحْضانِها ... أكبادنا مِنْ بَعْدِ أَنْ بَرِحَ الخَفاءُ (¬5) أُعْطيتُ عِلْماً ما جَنَيْتُ بِهِ سِوى ... ذَهَبٍ، وصارَ البَيْتُ هَمِّي والغِذاءُ إنْ لمْ أُذَكّرْ بالحَقائقِ دائِباً ... فَأَنا وغَيْرُ العالِمينَ بِها سَواءُ هيَ تِلْكَ أَمْراضٌ نَئِنُّ لَها ولَمْ ... يَهْدَأْ صَباحٌ مُذْ عَرَتْنا أَوْ مَساءُ لا خَيْرَ في الرُّؤْساءِ إِنْ لَمْ يَنْهَضوا ... بِالشَّرْقِ حَتَّى يَخْلُفَ الدَّاءَ الشِّفاءُ قالوا: حَوالَيْنا غَريبٌ رُبَّما ... يُبْدي رَغائبَ قَدْ تُعارِضُ ما نشَاءُ (¬6) قُلْنا: الرئيسُ الحُرُّ لا يثنِيهِ عَنْ ... إِصْلاح شَأْنِ الشَّعْبِ خَوْفٌ أو رَجاءُ ¬

_ (¬1) قاديان: بلدة في الهند قامت بها دعوة غلام أحمد، التي عرفت بالقاديانية. (¬2) غلام أحمد زعيم الطائفة القاديانية (1252 - 1326 هـ)، ولد في قاديان بالهند، ودفن فيها, وله مؤلفات في دعوته الباطلة. (¬3) الحِباء: العطاء. (¬4) المدارس: ويقصد بها المدارس التبشيرية التي يوجهها ويديرها الاستعمار، والتي انتشرت في مصر والعالم الإِسلامي داعية إلى غير رشاد. الامتراء: الشك. (¬5) أكبادنا: أي: أولادنا. برح الخفاء: وضح الأمر. (¬6) الغريب: يقصد به المستعمر إطلاقاً.

العرب والسياسة

[العرب والسّياسة] " كنت في قطار بضواحي برلين يرافقني مدير الأمور الشرقية بوزارة الخارجية، وكان يتحدث مع شاب ألماني باللغة الألمانية. ثم أقبل عليَّ، وقال لي: أليس هكذا يقول ابن خلدون: إن العرب أبعد الناس عن السياسة؟ فقلت: يريد: العربَ قبل دخولهم الإِسلام. وبهذه المناسبة نظمت هذه الأبيات". عَذِيرِيَ مِنْ فَتىَ أَزْرى بِقَوْمي ... وَفي الأَهْواءِ ما يَلِدُ الهُذاءَ (¬1) يَقولُ: العُرْبُ ظَلوا في جَفاءٍ ... وما عَرَفُوا السّياسةَ والدَّهاءَ سَلوا التَّاريخَ عَنْ حَكَمٍ تَملَّتْ ... رَعاياهُ العَدالةَ والرَّخاءَ (¬2) عَزوفِ النَّفْسِ عَنْ تَرَفٍ ذَكُورٍ ... لِعُقْبي مَنْ أَجادَ وَمَنْ أَساءَ (¬3) هُمامٍ كانَ سامِرُهُ وأَقْصَى ... بِلادٍ في مَهابَتِهِ سَواءَ (¬4) هُوَ الفاروقُ لمْ يُدْرِكْ مَداهُ ... أَميرٌ هَزَّ في الدُّنيا لِواءَ (¬5) ¬

_ (¬1) العذير: العاذر، يقال: عذر؛ أي: رفع عنه الذنب واللوم فيما صنع، أو على ما صنع، ويقال: من عذيري من فلان؟ ومعناه: أنه أهل للإيقاع به، فإن أوقعت به، كنت معذوراً. أزرى به: وضع منه، أو قصر به. الهذاء: القول الباطل. (¬2) تملى: استمتع، يقال: تمليت عمري: استمتعت فيه. (¬3) عزوف: يقال عزفت النفس عن الشيء: زهدت فيه، وانصرفت عنه، أو ملته، فهي عزوف عنه، العقبى: جزاء الأمر، الآخرة. (¬4) الهمام: الملك العظيم الهمة، والسيد الشجاع، وهو من أسماء الأسد. السامر: مجلس السمّار، يقال: أمسيت البارحة في سامر الحي، أي: في مجلس مسامرتهم. (¬5) الفاروق: (40 ق هـ، 23 هـ) أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وثاني الخلفاء الراشدين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وهو الفاروق، فرق به بين الحق والباطل".

قوس الغمام

قوس الغمام " قيلت في برلين عام 1327 هـ ". أَيَخْفى ضَميرُ المَرءِ يَوْمًا وَلَو سَما ... إلى الذُّروَةِ القُصوى ضُحًى ودَهاءَ إذا كَتَمَتْنا الشَّمْسُ آلوانَها ضُحى ... يَبوحُ بِها قَوْسُ الغَمامِ مَساءَ (¬1) حمرة الشّفق " قيلت في برلين عام 1327 هـ ". هَذا الدُّجى اغْتالَ النَّهارَ ودسَّهُ ... تَحْتَ التُّرابِ مُضَرَّحاً بِدِمائِهِ (¬2) ما حُمْرةُ الشَّفَقِ الَّتي تَبْدو سِوى ... لَطْخٍ مِنَ الدَّمِ طارَ نحو رِدائِهِ (¬3) ما ليل أرضي " قيلت في مصر عام 1361 هـ". إنْ لَمْ أَبِتْ أَحْدو إلى أَوْجِ الْعُلا ... هِمَماً فَلا طَلَعَتْ عَلَيَّ ذُكاءُ (¬4) ما لَيْلُ أَرْضي أَنْ يُقَطّبَ أُفْقُها ... وَعَلَيْهِ مِنْ نسجِ الْغُروبِ رِداءُ بَلْ لَيْلُها زَمَن يموتُ وَلَمْ يَكُنْ ... لِلْفِكْرِ أَوْ لِلْعِلْمِ فيهِ نَماءُ ¬

_ (¬1) قوس الغمام: وكذلك قوس السحاب، يحدث في الأفق عقب المطر، وألوانه مختلفة. (¬2) الدجى: الظلمة. (¬3) الشفق: العمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء الآخرة، أو إلى قريب العتمة. اللطخ: اليسير القليل من كل شيء. (¬4) أحدو: أسوق، يقالك حداً الإبل: ساقها وغنى لها فهو حادٍ. الذكاء: الشمس.

الأثرة بين الأصدقاء

الأثرة بين الأصدقاء سايَرْتُ خِلَّا في الهَجيرِ فَحادَ عَنْ ... ظِلَّ وآثَرَني بِبَرْدِ هَوائِهِ (¬1) فَأَبَيْتُ أَنْ أَرِدَ الظِّلالَ وَصاحِبي ... يَلْقى وَهيجَ الشَّمْسِ في غُلَوائِهِ (¬2) وَلَوِ احْتَسى الْماءَ الزُّعاقَ حَسَوْتُهُ ... عَبًّا ولَوْ جاءَ الفُراتُ بِمائِهِ (¬3) والوِدُّ إِنْ شابَتْهُ يَومًا أثرَةٌ ... ضَلَّتْ مَعالِمُ صِدْقِهِ وَصَفائِهِ (¬4) ¬

_ (¬1) الهجير: الهاجرة، شدة الحر. (¬2) وهيج الشمس: توقدها. الغُلَواء: أول الشباب، نشاطه وسرعته. (¬3) حسا الماء: شربه شيئاً بعد شيء. الزعاق: الماء المر الغليظ لا يطاق شربه. الفرات: الصافي. (¬4) الأثرة: الحال غير المرضية.

قافية الباء

قافية الباء تحية المجمع " قيلت في افتتاح جلسات "المجمع اللغوي" بالقاهرة؛ لتحية المجمع, والإشادة باللغة العربية، والتنويه بمآثرها، وشكر المعنيين بها". ما زِلْتَ تَقْتَنِصُ المُنى أَسْرابا ... وتُديرُ مِنْ خمرِ الصَّفا أكواباً (¬1) يُزْهى فِناؤكَ بالرِّمالِ كراحَةٍ ... لَبِسَتْ مِنَ الذَّهبِ المُذابِ خِضابا (¬2) فَعَلامَ تشكو الدهرَ شَكوى قاطن ... خَطَفَتْ يَدُ التِّرْحَالِ مِنْهُ صِحابا؟ أَوجَسْتُ رُعْبًا إِذْ رأَيتُ ركائِباً ... حملَتْ إلى مَرْسى السَّفينِ عِيابا (¬3) ولسَرْعَ ما طَلَعَتْ بُدورٌ والنَّوى ... تَرْنو لتقْذِفَ في الفؤادِ شِهابا (¬4) ¬

_ (¬1) اقتنص: اصطاد. (¬2) الفِناء: ما امتد من جوانب الدار، والساحة أمام البيت. الخضاب: ما يخضب به، وإذا أُطلق، دل على خضاب اللحية بالنسبة إلى الرجل، وعلى خضاب اليدين بالنسبة إلى المرأة، اختضب بالشيء: تلون به. (¬3) أوجس: أحس وأضمر. العياب: جمع العَيبة، وهي ما يجعل فيه الثياب. (¬4) لَسرعْ: أي: ما أسرعَ. النوى: البعد. رنا: نظر. الشهاب: شعلة من نار ساطعة، أو ما يرى كأنه كوكب انقض، وجمعه شُهُب.

صَفَرَ المُنبهُ للرَّحيلِ وَلَيْتَهُمْ ... سَمَّوْا وَغَى هذا الصفيرِ نُعابا (¬1) شَيَّعْتُ بالطَّرفِ السَّفينةَ شاخِصًا ... حَتَّى تَوارَتْ بالعُبابِ فَآبا (¬2) وإذا انْثَنى طَرْفي فَقلْبي لا يَرى ... غَيْرَ السَّفينةِ للقلوبِ مَآبا يا رامِياً عَنْ قَوسِ جالينوس هَلْ ... ألفَيْتَ للقَلْبِ الشَّجِيِّ طِبابا (¬3) هَذا الأسى تُذْكيهِ ذِكْرى رامَيةٍ ... وتزيدُهُ ذِكْرى العَقيقِ لِهابا (¬4) أَسْلو البِقاعَ سِوى تِهامةَ إنّها ... كانَتْ إذا خَبَروا البِلادَ لُبابا (¬5) هي هالةُ العُرْبِ الأُلى شادوا على ... هامِ النُّجومِ الزَّاهِراتِ قِبابا (¬6) وأَمَدَّهُمْ وَحيُ السّماءِ بِحِكْمَةٍ ... ساسوا بها الأَجسامَ والأَلْبابا إِنْ سُولموا كانوا الملائِكَ سُجَّداً ... أو حُورِبوا كانوا اللُّيُوثَ غِضابا ¬

_ (¬1) الوغى: الصوت والجلبة، ومنه قيل للحرب: (وغى)؛ لما فيها من الصوت والجلبة. النعاب: صوت الغراب، يقال: نعب الغراب: صوّت بالبين. (¬2) شيّع فلاناً: خرج معه ليودعه، ويبلغه منزله. الطرف: العين، ولا يجمع؛ لأنه في الأصل مصدر، فيكون واحداً وجمعًا، قال تعالى: {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43]. شاخص: الذي يفتح عينيه ولا يَطْرف. العباب: الموج. آب: رجع. (¬3) جالينوس: طبيب وحكيم يوناني (نحو 131 - 201 م)، له اكتشافات هامة في التشريح. الطباب: ما يطلب به. (¬4) تذكيه: أذكى: أوقد وأشعل. رامة: مكان في الطريق بين البصرة ومكة المكرمة. العقيق: وادٍ بظاهر المدينة المنورة. اللِّهاب: جمع اللهب، وهو لسان النار. (¬5) تهامة: مكة، وبلاد شمالي الحجاز. اللباب: المختار الخالص من كل شيء. (¬6) هالة: الدّارة حول القمر، جمع هالات.

عَرِّجْ على التَّاريخِ يُمْلِ عَلَيْكَ مِنْ ... خَطَراتِ هاتِيكَ النُّفوسِ عُجابا تَلْقى مَنابِرَ في صُدورِ مَحافلٍ ... تَجْري بِها نهرُ البَيان عِذابا تَلْقى مَجَر قَنا ومَجْرى ضُمرٍ ... خُلِقَتْ كما يَبْغي الكُماةُ عِرابا (¬1) ما ضَرَّ مَنْ مَلَكَتْ يداهُ صَوارِماً ... أَلَّا يَرُدَّ إلى الطُّغاةِ جَوابا (¬2) بَهَرَ الرَّشيدُ بِقَوْلهِ لِمُهَدِّدٍ: ... سَتَرى الجَوابَ كَتائباً وحِرابا (¬3) ¬

_ (¬1) قنا: جمع قناة، وهي الرمح. ضُمَّر: جمع ضامر، ويقصد بها الخيل. الكمأة: جمع الكمي: الشجاع. الخيل العراب: السالمة من الهجنة. (¬2) الصوارم: جمع صارم: السيف القاطع. (¬3) الرشيد: هارون بن محمد بن المنصور العباسي، خامس خلفاء الدولة العباسية في العراق (149 - 193 م) ولد بالري، وتوفي في "سناباذ" من قرى طوس. وكان بين هارون الرشيد والملكة ريني ملكة الروم عهد، حتى خلعت، وارتقى العرش نقفور الذي كتب إلى الرشيد: "من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مُقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البَيْدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقًا يحمل أضعافه إلينا، لكن ذلك لضعف النساء وحمقهن. فإذا قرأت كتابي، فاردد ما حصل لك من أموالها، وافتد نفسك بما تقع به المصادرة لك، وإلا، فالسيف بيننا وبينك". فلما قرأ الرشيد هذا الكتاب، استفزه الغضب حتى لم يقدر أحد أن ينظر إليه، وتفرق جلساؤه، ودعا بدواة، وكتب على ظهر الكتاب: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا بن الكافرة، والجواب ما تراه، لا ما تسمعه، والسلام". ثم حمل الرشيد من يومه على الروم، وهزمهم. الكتائب: واحدها الكتيبة، وهي القطعة المجتمعة من الجيش، وقيل: جماعة الخيل إذا أغارت من المئة إلى الألف. الحراب: جمع حربة. وهي آلة للحرب من الحديد قصيرة محددة الرأس.

قَلَمُ ابنِ يَحيى كانَ بَيْنَ حُماتِهِ ... يُسْدي نَعيماً أوْ يذيقُ عَذابا (¬1) ونَأوْا فَلَمْ يُسْعِدْهُ فَضْلُ بَيانِهِ ... حَتَّى تَوَسَّدَ بِالعَراءِ تُرابا والسَّيفُ في عَشْواءَ لَوْ لمْ يَسْتَضِئْ ... بِسَنَا اليَراعَةِ في الخُطوبِ لخَابا (¬2) فَهُما جَناحا الشَّعْبِ إذْ يَبْغي العُلا ... وإذا هُما فاتا كانَ ذُنابى (¬3) آهٍ تصدَّعَ ما بَناهُ الشَّرقُ مِنْ ... مَجْدٍ وأَوشَكَ أَنْ يَصيرَ يَبابا (¬4) عِفْتُ الحياةَ وكِدْتُ مِنْ أَسَفي عَلى ... مَجْدٍ تَصَدَعَ لا أُسيغُ شَرابا مَنْ ذا يُنممني بِلَهْجَةِ مُلْهَم ... نبَأ يُزيحُ عَنِ الحَشا أَوْصابا (¬5) أَنرى المِياهَ القُتْمَ تَحْتَ سَمائِنا ... شَفّافَةً، ونَرى الثِّمادَ عُبابا (¬6) وإذا صَفا وِرْدُ الحياةِ لأُمَّةٍ ... مَدَّ الفَلاحُ بأَرْضِها أَطْنابا (¬7) ¬

_ (¬1) ابن يحيى: عبد الحميد بن يحيى المعروف بالكاتب (... - 132 هـ) من أئمة الكتاب، وعالم بالأدب، أصله من قيسارية، وسكن الشام، وقتل في بوصير بمصر. حماة: جمع حامٍ، وهو الأسد. يسدي: يحسن ويصيب. (¬2) عشواء: ظلمة. اليراعة: القصبة التي يكتب بها. الخطوب: الشؤون والأمور الجليلة واليسيرة. (¬3) ذنابي: ذنب (¬4) آهٍ: اسم فعل مضارع بمعنى أتوجع. يباب: خراب. (¬5) الحشا: ما في البطن، جمع أحشاء. أوصاب: جمع وَصَب، وهو المرض. (¬6) القتم: جمع الأقتم، وهو الأسود. الثماد: الماء القليل لا مادة له. (¬7) الوِرْد: الماء الذي يورد. الأطناب جمع طُنُب، وهو حبل طويل يشد به سرادق الخباء.

مهْلا كَأَنِّي شِمْتُ بَرْقَ حَماسَةٍ ... بَيْنَ الجَوانِحِ فاطَّرَحْتُ عِتابا ولَمَحْتُ في شُبّانِنا وكُهولنا ... عَزْماً صَميماً لا يَهابُ صِعابا عَزْمٌ هُوَ الصَّمْصامُ إلَّا أَنَّهُ ... لمْ يَتَّخِذْ مِثْلَ السُّيوفِ قِرابا (¬1) لِيَطُلْ على الآمالِ لَيْل أَوْ تَقُمْ ... مِنْ دونها شُمُّ الجِبالِ عِقابا (¬2) عَهْدٌ عَلَيْنا أَنْ نُعِيدَ بِعَزْمَةٍ ... عُمَرِيَّةٍ هَرَمَ الزَّمانِ شَبابا (¬3) أَنا إنْ يئسْتُ قَضَيْتُ بُغْيَةَ شامِتٍ ... وَحَلا الهِجاءُ لِمَنْ يَرومُ سِبابا لَوْ أَنَّ يأُسَ النَّفْسِ صُوِّرَ طائِراً ... لَرَأَيْتُهُ بَيْنَ الطُّيورِ غُرابا رُمْنا السَّعادةَ في الحَياةِ فَلَمْ نَجِدْ ... غَيْرَ المَعارِفِ لِلسَّعادةِ بابا والعِلْمُ كاللَّبَنِ الغَريضِ يَطيبُ إِنْ ... أَنْقَيْتَ أَقْداحاً لَهُ وَوِطابا (¬4) لا خَيْرَ في عِلْمٍ وَعَتْهُ نَقيبَة ... كَشَفَتْ عَنِ الطَّبْعِ الذَّميمِ نِقابا (¬5) أَوَ ما تَرى شَهْدَ الغَمامِ يَمُرُّ إِنْ ... لاقَى مُراراً في الفَلا أَوْ صابا (¬6) ¬

_ (¬1) الصمصام: السيف الذي لا ينثني. القراب: الغمد. (¬2) عقاب: جمع عقبة، وهي مرقى صعب في الجبال. (¬3) عمرية: نسبة إلى سيدنا عمر بن الخطاب. (¬4) الغريض: يقال غَرَض الشيَء: اجتناه طرياً، والمقصود هنا باللين الغريض: أي: حديث العهد بالحلْب. الوطاب: جمع وطب، وهو سقاء اللبن، ويجمع كذلك على أوطب، وأوطاب. (¬5) النقيبة: النفس، والعقل، والمشورة، النقاب: القناع أو البرقع. (¬6) الشهد: العسل ما دام لم يعصر من شمعه. المرار: شجر مرّ من أفضل العشب. الصاب: شجر مرّ عصارته.

والعِلْمُ لَوْ لمْ تَحْتَضِنْهُ اللهْجةُ الـ ... ـفصْحى لَعَز على العُقولِ طِلابا وَمفاتِحُ العِرْفَانِ في أيدي الأُلَى ... راضوا البَيانَ خَطابةً وكِتابا والعُرْبُ قُدْماَ مَهَّدوا لحضارةِ الـ ... أُمَمِ الحُجورَ وفتَّحوا الأَبْوابا (¬1) حَضَنوا العُلومَ وأَنْعَشوها بَعْدَ أَنْ ... كادَتْ تَشُقُّ مِنَ الأَسى أَجْيابا واسْتَطْلعوا أَسْرارَها فَبَدَتْ كما ... يُبْدي المِزاج على الكُؤوسِ حَبابا (¬2) وتبوَّأتْ مِنْ لَهْجَةِ فَيْنانَة ... نُزُلاً كاَنْدِيَةِ الكرِامِ رِحابا (¬3) هِيَ لَهْجة حَظيَتْ بِنُطْقِ مُحمدٍ ... فَزَكا جَناها في اللُّغاتِ وَطابا (¬4) لَكِنْ عَرَتْها غَفْوَة وَقَرائِحُ الـ ... عُلَماءِ تَغْزو أَوْهُدًا وِطابا (¬5) مَسَحَتْ عَنِ الجَفْنِ النُّعاسَ يَروعُها ... أَنْ تُزْدَرى بينَ اللُّغَى وتُعابا (¬6) وَرأى رِجالُ العِلْمِ كيْفَ تَكامَلَتْ ... لَهَجاتُ قَوْم سايَرَتْهُ جِنَابا (¬7) فاسْتَنْكَفوا أَلاّ يَكونَ شِعارُهُمْ ... في الدرْسِ حَرْفَ الضَّادِ والإِعْرابا ¬

_ (¬1) الحُجور: جمع الحِجْر، وهو العقل. قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5]. (¬2) المزاج: ما يمزج به كالماء في الشراب. الحَباب: الفقاقيع التي تعلو الماء، قطرات الندى. (¬3) تبوأ المكان: اتخذه محله، وأقام به. فينانة: كثيرة الشعر؛ أي: غزيرة وواسعة. (¬4) زكا: نما، وزاد. الجنى: ما يجنى من الشجر ما دام غضاً. (¬5) عرا: ألمّ به. قرائح: جمع قريحة، وهي ملكة في نظم الشعر واستنباط العلم. أوهداً: جمع وَهْد، وهي الأرض المنخفضة. (¬6) راع: فزع. تزدرى: تُحتقر، ويستف بها. اللغى: جمع لغة، كما تجمع على لغات. (¬7) جانب الشيء: صار إلى جنبه وجنابه.

أيها الإنسان

نهَضوا كما تَبْغي الكَرامَةُ وانتضَوْا ... عَزْماً يَرُدُّ الرَّاسيَاتِ هَبابا (¬1) جَنَحوا إلى لُغةِ الفَصاحَةِ وانتقَوْا ... كَلِمًا كأّحْداقِ المَها خُلاَّبا (¬2) واسْتوْرَدوا العِلْمَ الحديث حِياضَها ... فَسَقَتْهُ بالكَأْسِ الدِّهاقِ رُضابا (¬3) ساروا عَلى نَهْجِ المقاييسِ الَّتي ... كانَتْ بِها وَلّادةً مِنْجابا (¬4) وَمَنِ اقْتَفَوْا نَهْجَ القياسِ تَصَيَّدوا ... ما لا يُحيطُ به اللِّسانُ حِسابا هي سِيرة عَقَدَتْ لِمِصْرَ زَعامَةً ... لِتُقيمَ قِسْطاً أَو تَقولَ صَوابا والقِسْطُ في رَأْي الحَكيمِ سِياسَةٌ ... ترعى الهُدى والعِلْمَ والآدابا [أيها الإنسان] أَمَا كَفاكَ ظِباء أَوْمَهاً بِرُبى ... حَتَّى تَقَنَّصْتَ آسادَ الشَرى بِزُبَى (¬5) ¬

_ (¬1) انتضى السيف: استله من غمده. الراسيات من الجبال: الثوابت الرواسخ. الهباب: دقاق التراب. (¬2) أحداق: جمع حدقة، وهي سواد العين الأعظم. المها: جمع المهاة، وهي البقرة الوحشية. خلّاب: يقال: خلبه؛ أي: سلب له عقله. (¬3) الحياض: جمع حوض، وهو مجتمع الماء. الدهاق: الكأس الممتلئة. الرضاب: الريق، فتات المسك. (¬4) ولادة: مبالغة في الوالدة. منجاب: من الرجال والنساء: من ولد النجباء. (¬5) الظباء: جمع ظبي، وهو الغزال للذكر والأنثى. المها: جمع المهاة، وهي البقرة الوحشية. ربى: جمع ربوة: ما ارتفع من الأرض. الشرى: مأسدة جانب الفرات يضرب بها المثل، ويكنى بها عن المكان الذي تكثر فيه الأسود. ربى: جمع زبية، وهي حفرة للأسد.

وَمَا قَنِعْتَ بما يَطْفو على لُجَجٍ ... فَغُصْتَ تَلْقُطُ دُرّاً تَحْتَها رَسَبا (¬1) أَلَسْتَ أَبدَعْتَ قَوْلاً تَسْتَبِنُ بِهِ ... ما في الضَّميرِ فَكانَ الثغْرَ والشَّنَبا (¬2) أَرْسَلْتَهُ زَمَناً فَلِمْ أَقَمْتَ له ... وَزْناً؟ كَانَ حَصَى ثُمَّ انْثَنى ذَهَباً؟ قَلَّبْتَ وَجْهَكَ بعْدَ الأَرْضِ في فَلَكٍ ... وَبِتَّ تَرْصُدُ مِنْهُ السَّبْعَةَ الشُّهُبا هَلاَّ تَفَقَّهْتَ عَنْها في حَقائِقِ ما ... وَراءَها وَجَلَوْتَ الشَكَّ والرِّيَبا مَشى اليَراع على القِرْطاسِ في مَهَلِ ... والرَّأْيُ يَنْزِلُ مِنْ أُفْقِ الحِجا خَبَبا (¬3) فَكانَ أَنْ زِدْتَ في الدِّيوانِ راقِمَةً ... تَخُطُّ في الطِّرْسِ خَطَّ البَرْقِ لَوْ كتَبا (¬4) صُغْتَ الحَديدَ مَطايا إذْ تَلَبَّثَتِ الـ ... ـجِيادُ أَوْ لَقِيتْ مِنْ سَيْرِها نَصَبا (¬5) واشْتَقْتَ نجوى أَليفٍ فاهْتَدَيْتَ إِلى ... ما يُمْتِعُ السَّمْعَ مِنْها أَيْنَما ذهبا (¬6) حَكى الصَّدى صَيْحَةً رَجَّتْ فَجِئْتَ بِما ... يَحْكي الْقَصائِدَ أَنَىّ شِئْتَ والخُطَبا ما ضاقَت الأَرْضُ يَوْماً عَنْ خُطاكَ لِما ... صَعَّدْتَ في الجَو تَحْكي الطَّيْرَ والسُّحُبا ¬

_ (¬1) لجج: جمع لجة وهي معظم البحر. (¬2) تستبين به: تستوضح به الشنب: ماء ورقة وعذوبة في الأسنان. (¬3) اليراع: جمع اليراعة، وهي القصبة، ويكنى بها عن القلم. الحجا: العقل والفطنة. الخبب: السرعة في العدو، مراوحة الفرس بين يديه ورجليه. (¬4) الراقمة: الآلة الكاتبة. (¬5) مطايا: جمع المطية، وهي الدابة تمطو في سيرها، ويقصد بها: السكك الحديدية. النصب: التعب. (¬6) الأليف: الصديق المؤانس. ويقصد بذلك؛ الهاتف.

تدريس صناعة الإنشاء

خَطَبْتَ دَهْراً وَلَم تُسْمِعْ سِوى مَلأٍ ... والْيَوْمَ تُسْمِعُ عُجْمَ الأَرْضِ والْعَرَبا (¬1) حُبُّ الحَياةِ اسْتثارَ العَزْمَ مِنْكَ إِلى ... طِب وَحَرْبٍ فكُنْتَ الْبُرْءَ والوَصَبَا (¬2) أَرْسَلْتَ في كُلِّ وادٍ رائداً فَدَرى ... بِحِكْمةِ الْبَحْثِ كُنْهَ الأَمْرِ والسَّبَبا (¬3) لكِنَّني ما دَرَيتُ الْيَوْمَ أَنَّكَ قَدْ ... أكمَلْتَ في نفسِكَ الأَخلاقَ والأَدَبا [تدريس صناعة الإنشاء] " من قصيدة قدمها الشاعر إلى نظّار جامع الزيتونة بتونس سنة 1328 هـ يطلب بها الاهتمام والعناية بدراسة مادة الإنشاء" (¬4). مَقامُكُمُ الجَديرُ باَنْ يُهابا ... وَمَطْلَبُنا الجَديرُ بأَنْ يُجابا أَرى بالجامِعِ السَّامي بُحوراً ... مِنَ الْعِرْفانِ زاخِرةً عِذابا (¬5) وَلَكنَّ الخَصاصَةَ في فُنونٍ ... تَهيجُ بِنا المَخاقَةَ أَنْ نُعابا (¬6) فَإنَّ صِناعَةَ الإِنْشاءِ خاسَتْ ... بِضاعَتُها فَلَمْ تَبْلُغْ نِصابا (¬7) وكَيْفَ يَعِزُّ والأَلْفاظُ فُصْحَى ... عَلَيْنا أَنْ نُعيدَ لها الشَّبابا ¬

_ (¬1) الملأ: الجماعة. المعجم: خلاف العرب. ويقصد الشاعر من هذا البيت: المذياع (الراديو). (¬2) البرء: الشفاء. الوصب: المرض. (¬3) الرائد: الرسول الذي يرسله القوم لينظر لهم مكاناً ينزلون فيه. ومنه قولهم: "الرائد لا يكذب أهله". (¬4) (¬5) الجامع السامي: جامع الزيتونة بتونس. (¬6) الخصاصة: الفقر. (¬7) خاست: تغيرت وفسدت. النصاب: الأصل، وأول كل شيء.

وَلا نَرْمي بسَهْمِ الْفِكْرِ إلَّا ... يَقولُ الْعَالِمونَ لَقَدْ أَصابا نُجَزدُ للْمَعالي سَيْفَ حَزْمٍ ... يُمَزِّقُ دونَ طَلْعَتِها الحِجابا ومَنْ صَرَفَ الْعِنايةَ في ارْتقاءٍ ... إلى أَعْلى الذُّرى اقْتَحَمَ الْعِقابا (¬1) ونُضْرِبُ عَنْ مَقالَةِ مَنْ نَعاها ... لِيُخْمِدَ مِنْ عَزائِمنا الْتهابا (¬2) يقولُ ابنُ العَميدِ لَها خِتام ... وَعِنْدَ فَواتِهِ نفضَتْ جِرابا (¬3) فَتِلْكَ شَهادَة مَسَحَ التَّغالي ... عَلَيْها مِنْ سَماجَتِهَ خِضابا (¬4) فَكَمْ مِنْ فِتْيَةٍ هَزُّوا يَراعاً ... وأَجْلَوا عَنْ مَباسِمِها النِّقابا (¬5) جَنَوْا مِنْ دَوْحِها ثَمراً لَذيذاً ... وأَجْرَوْا مِنْ عُصارتِهِ رُضابا (¬6) ¬

_ (¬1) العقاب: جمع عَقَبة: وهي المرقى الصعب في الجبل. (¬2) نعى: أخبر بالموت. (¬3) ابن العميد: (... - 360 هـ) محمد بن الحسين العميد بن محمد، تولى الوزارة في عهد ركن الدولة البويهي، من أئمة الكتاب والسياسة. قال الثعالبي: بدئت الكتابة بعبد الحميد (الكاتب)، وختمت بابن العميد، ولقب بالجاحظ الثاني في أدبه وترسله، ومات بهمذان. الجِراب: الوعاء. (¬4) لتغالي: يقال: تعالى الشجر: التف وعظم. السماحة: القبح. الخضاب: ما يخضب به. (¬5) اليراع: القصب، الواحدة يراعة، وأريد بها: القلم. أجلوا: كشفوا. المباسم: جمع مبسم، وهو الثغر. النقاب: القناع، أو البرقع. (¬6) الدوحة: الشجرة العظيمة، وتجمع على دوح. الرضاب: الريق، فتات المسك.

عبرات الأشجار

وَلا تَرْقَى شُؤونُ الشَّعْبِ إلَّا ... بأَقْلامٍ تُناقِشُه الحِسابا وتَكْشِفُ عن مُحيَّا الحَقِّ لَبْساً ... أَثارَ عَلى وَسامَتِهِ سَحابا (¬1) وما الحادي بِشِعْرِ أَبي فِراس ... وقَدْ جِسَّتْ أَنامِلُهُ الرَّبابا (¬2) بِأَعْذَبَ مِنْ صَدى قَلَمٍ تَهادى ... عَلى طِرْسٍ يَخُطُّ به كِتابا (¬3) عبرات الأشجار " قيلت في قرية لنداو، والثلج على الأشجار، وقد طلعت عليه الشمس، فأخذ يذوب، وقرية لنداو على بحيرة بودن بألمانيا". نسجَ الْغَمَامُ لِهَذه الأَشْجارِ مِنْ ... غَزْلِ الثُّلوجِ بَراقِعاً وَجَلابِبا (¬4) والشَّمْسُ تَبْعَثُ في الضُّحى بِأَشِعَّةٍ ... تَسْطو عَلى تِلْكَ الثِّيابِ نَواهِبا فَبَكَتْ لِكَشْفِ حِجابِها أَوَما تَرى ... عَبَراتِها بَيْنَ الْغُصونِ سَوَاكِبا (¬5) ¬

_ (¬1) اللَّبْس: اختلاط الظلام. الوسامة: أثر الحسن. (¬2) الحادي: الذي يسوق الإبل ويغني لها. أبو فراس الحمداني: (320 - 357 هـ) الحارث بن سعيد بن حمدان التغلبي، أمير وشاعر وفارس، وهو ابن عم سيف الدولة، سكن منبج في سورية، وجرح في معركة مع الروم، فاسروه سنة 351 هـ , وقتل في تدمر. وكان الصاحب بن عباد يقول: بدئ الشعر بملك، وانتهى بملك، ويعني: امرأ القيس، وأبا فراس. (¬3) الطرس: الصحيفة، جمع أطراس وطروس. (¬4) الغمام: السحاب، جمع غمائم. الغزْل: المغزول. الجلابب: أصلها الجلابيب، وقد حذفت الياء، جمع الجلباب: وهو ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء. (¬5) عبرات: جمع عَبرة، وهي الدمعة قبل أن تفيض.

ريح تنسف في روضة

ريح تنسف في روضة " قيلت في برلين". جادَ هذا الرَّوْضَ غَيْثٌ فَازْدَهى ... وَغَدا بُلْبُلُهُ يُطْري السَّحابا وتَمادى مُسْهِباً في مَدْحِهِ ... فحثَتْ في وَجْهِهِ الرِّيْحُ تُرابا (¬1) [وجه الموت غير كئيب] " قيلت على فراش المرض بالقاهرة سنة 1343 هـ ". أَقولُ فَلا أَرْتادُ غَيْرَ خَصيبِ ... وأَنْظِمُ لَكِنْ لا أُطيلُ نسَيبي (¬2) أَجِدُّ وإنْ رامَ النَّديمُ دُعابَةً ... فَلَمْ تَرَ غَيرَ الجِدِّ عَيْنُ رقيبي أَحُثُّ إلى داعي المَعالي مَطِيَّتي ... وَلَسْتُ إِذا يَدْعو الهوى بمُجِيبِ (¬3) ومَا بَرِحَتْ هَذي الحَياةُ تَروعُني ... بِكَبْوَةِ آمالٍ وَفَقْدِ حَبيبِ فَأَنْكَرْتُها لا الْبَدْرُ يَطْلُعُ مُؤْنسًا ... وَلا الرَّوْضُ يُسْليني بِنَفْحَةِ طيبِ وَما لَيْلُها إلَّا سَريرَةُ حاسِدٍ ... وما صُبْحُها إلَّا بَياضُ مَشيببِ (¬4) أَطَلَّ علَيَّ الموْتُ مِنْ خِلَلِ الضَّنا ... فآنَسْتُ وَجْهَ الموْتِ غَيْرَ كَئيبِ (¬5) ¬

_ (¬1) أسهب في الكلام: أكثر منه وأطال. حثا التراب: هاله بيده، ومعنى هذا البيت مقتبس من الحديث الشريف: "احثوا التراب في وجوه المداحين". (¬2) ارتاد الشيء: طلبه. النسيب: تشبيب الشاعر بالمرأة. (¬3) أحثَّ الفرس على العدو: صاح به. المطية: الدابة تمطو في مشيتها. (¬4) السريرة: السر الذي يكتم. المشيب: الثيب، وهو الشعر وبياضه. (¬5) الضنا: المرض والهزال، وسوء الحال.

شكر على تقريظ

وَلَوْ جَسَّ أَحْشائي لَخِلْتُ بَنانَهُ ... وإِنْ هالَ أَقْواماً بَنانُ طَبيبِ فَلا كانَ مِنْ عَيْشٍ أَرى فيهِ أُمَّتي ... تُساسُ بِكَفَّيْ غاشِمٍ وغَريبِ (¬1) [شكر على تقريظ] " عندما ألّف الشاعر كتابه "الخيال في الشعر العربي" أرسل إليه حضرة اللغوي الأستاذ الشيخ عبد القادر بن المبارك الجزائري قصيدة قرظ بها الكتاب، وهي المنشورة في الحاشية. وقد أجابه الشاعر بالقصيدة التالية سنة 1345 هـ " (¬2). ¬

_ (¬1) ساس الأمة: قام عليها. الغاشم: الظالم والغاضب. الغريب: المستعمر إطلاقاً. (¬2) نص قصيدة الأستاذ عبد القادر بن المبارك التي بعث بها إلى الشاعر: لمحمد الخضرالحسين التونسي ... سامي كتاب خيال شعر مؤنس يحوي فنون قوى المفكرة التي ... هي ربَّة المعنى الأغرّ الأنفس طالعته فظننت أن قد ضمني ... في جنَة الشعراء أبهى مجلس أُسرى إليه بي الخيال ودأبه ... أن يقطع الفلوات غير معرّس فتمثّلت لي ثروة الشعر التي ... هي سر إغناء الخيال المفلس ورأيت أفلاكاً كواكبها النهي ... ومقامها فوق الجواري الكنس وزمانها أسحار ليل مقمر ... في الطيب أو آصال يوم مشمس ونوابغ الشعراء فيها استعمروا ... وطناً بغير نبوغهم لم يحرس لاذوا به من غلظة الأرض التي ... لولا مزاج بارد لم توبس وهنالك "الخضْر اجتلى بخياله ... ما يجتلي الطيار فوق الأرؤس في جو شعر العرْب حلّق راسماً ... أسمى عروس شعور تلك الأنفس وعلى اتساع خيالهم وسمِّوه ... لم يبق في آفاقه من حندس فبدا خيال الشعر لي ببيانه ... كالجسم موصوفاً برأي مهندس =

يا رُبى تَرْفُلُ في حُسْنٍ وطَيبِ ... والضَبا تَخْفِقُ بالغُصْنِ الرطيبِ (¬1) هاجَ ذِكْراكِ شَذا الأُنْسِ الَّذي ... هَبَّ مِنْ أَرْدانَ واديكِ الخَصيبِ (¬2) هاجَ ذِكرى زَمَنٍ يَبْسِمُ في ... جِلقَ الْفَيْحاءِ بِالثَّغْرِ الشَّنيبِ (¬3) كَيْفَ أَسْلوهُ وَفي الْقَلْبِ لَهُ ... شَوْقُ مِهْيَارَ لِيَوْمٍ بالجَريبِ (¬4) ¬

_ = بل كاد من روح البيان يقول لي ... أنا جوهر فانظر إليَّ أو المس يسلو الأديب على نزاهته به ... عن مطربه وعن شموس الأكؤس ويكاد يغريه انسجام حديثه ... بالزهد في إستبرق أو سندس وكأن كل صحيفة من صحفه ... ضمت غذاء الروح للمتلمس صفحاته تسعون لذ سميرُها ... فيها مسامرة الخيال الكيس لم أنتقد إلاعلى خطأٍ جرى ... في طبعه وخلوه من فهرس فليحي رب يراعة في شرعها ... حتى الخيال حقوقه لم تبخس دهر يجود لعمري محسن ... فعلام يوصم بالبخيل وبالمُسي (¬1) الربى: جمع ربوة: ما ارتفع من الأرض. ترفل: تجر ذيلها، تتبخر. الصَّبا: ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. (¬2) أردان: جمع الزدن وهو أصل الكم. (¬3) جلق والفيحاء: من أسماء دمشق. الفيحاء: الواسعة من الدور. الشنيب: من به شَنَب؛ أي: ماء ورقة وبرد وعذوبة في الأسنان. (¬4) مهيار: مهيار بن مرزويه الديلمي (... - 428 هـ) شاعر كبير، وكاتب فارسي الأصل من أهل بغداد، وتوفي بها، جمع بين فصاحة العرب ومعاني العجم، درس على شيخه الشريف الرضي، وأسلم على يديه بعد أن كان مجوسياً. له ديوان مطبوع من أربعة أجزاء. الجريب: اسم مكان، وهذا البيت إشارة إلى قول مهيار: نظرة منك ويوم بالجريب ... حسب نفسي من زماني وحبيبي

مُهْدِيَ الشِّعْرِ الَّذي باكَرنَا ... في ضفافِ النِّيلِ بالْبُرْدِ الْقَشيبِ (¬1) أَنْتَ بَحْرُ اللّغَةِ الْفُصْحى وكَمْ ... جُدْتَ بالمَأْنوسِ مِنْها والغَريبِ فَلِماذا تَنْسُجُ الأَشْعارَ مِنْ ... حَبَبِ الْكَأْسِ وأَخْلاقِ الأَديبِ صُغْتَ (عَبْدَ الْقادرِ) التَّقْريظَ في ... طَرْزِ حَسَّانَ وإبداع حَبيبِ (¬2) لم أُجِدْ صُنْعًا ولا هَزَّتْ يَدي ... قَلَماً يَبْهَرُ بِالسِّحْرِ الْعَجيبِ وبديعُ السِّحْرِ في وِدٍّ صَفا ... وأَراكَ الحُسْنَ في وَجْهِ المَعيبِ خُضْتُ في بَحْرٍ خَيالٍ وأَنا ... مُوجِسٌ خِيفَةَ تَثْريبِ الرَّقيبِ (¬3) إِذْ خَيالُ الشِّعْرِ مِنْ مَرْعى الْفَتى ... وَلراعي ارْتادَ حالُ المَشيبِ (¬4) رادَهُ في سَحَرِ الْعُمْرِ وَما ... سَحَرُ الْعُمْرِ لِلَهْو بنَسيبِ (¬5) إنَّما عَلَّلْتُ نَفْساً راعَها ... ذلِكَ الْبَيْنُ بِمَرْآهُ الْكَئيبِ (¬6) ¬

_ (¬1) باكر: أتاه بُكرة. القشيب: الجديد، الأبيض، النظيف. (¬2) عبد القادر: (1304 - 1364 هـ) عبد القادر بن محمد المبارك الجزائري الدمشقي. أديب ولغوي، له مؤلفات عديدة. التقريظ: المدح. حسان: (... - 54 هـ) حسان بن ثابت الأنصاري، شاعر النبي - صلى الله عليه وسلم -، أدرك الجاهلية والإِسلام، وكان من سكان المدينة، وتوفي بها, له ديوان مطبوع. وحبيب: (188 - 231 هـ) أبو تمام حبيب بن أوس الطائي أحد أمراء الشعر والبيان، ولد في جاسم بسورية، وتوفي بالموصل، له ديوان مطبوع. (¬3) التثريب: العتاب واللوم. (¬4) اليراع: القصب، ويقصد به القلم. (¬5) راد الشيء: طلبه. السَّحَر: قبيل الصبح. النسيب: القريب. (¬6) راع: فزع. البين: الفرقة. ويشير هنا إلى مفارقته دمشق.

تمثال الأخلاء

وتأسَيْتُ بِذي الجِدِّ الَّذي ... يدخلُ الحِكْمَةَ مِنْ بابِ النَّسيبِ (¬1) أَمْحَضُ الأُستاذَ شُكْراً ساطِعاً ... بَيْنَ صافي الوِدِّ والشَّوْقِ المُذيبِ (¬2) وَسَلاماً مِنْ بَعيدٍ كُلَّما ... عَزَّ إلْقاءُ سَلامي مِنْ قَريبِ تمثال الأخلّاء حَنانيكَ ما التمْثالُ باعِثُ سَلْوَةِ ... إِذا غابَ عَنْ عَيْنِ الْمُحِبِّ حَبيبُ أُسيمُ بِهِ طَرْفي لأُطْفئَ لَوْعةً ... فَيَزْدادُ في قَلْبي المَشُوقِ لَهيبُ (¬3) الأخ الصديق " أبيات قالها في أخيه السيد محمد المكي بن الحسين أيام كانا بدمشق" (¬4). دَعَتْني إلى وِدِّه فِطْنَةٌ ... يُجيدُ بِها إِنْ سَأَلْتُ الجَوابا وَما بَيْنَ بُرْديهِ إلا أخٌ ... يُؤانِسُني إِنْ فَقَدْتُ الصِّحابا (¬5) أَرومُ عِتابا عَلَيْه وكَم ... تَفَرَّسَ ما رُمْتُهُ فَأَصابا ¬

_ (¬1) تأسى به: جعله أسوة. النسيب: تشبيب الشاعر بالمرأة. (¬2) محض: أخلص. (¬3) أسام إليه بطرقه: رماه به. الطرف: العين. (¬4) محمد المكي بن الحسين: (1299 - 1383 هـ) الأخ الأصغر للشاعر، من كبار علماء اللغة، ولد وتوفي بتونس. من آثاره: عادات عربية -أسماء لغوية- نوادر في اللغة -نوادر في الأدب - حكم وأخلاق عربية -أمثال عربية- كلمات للاستعمال. (¬5) البرْد: الثوب المخطط.

الأحرار

يَهُبّ على وَجْهِهِ خَجَلٌ ... فَيَصْفو ضَميري وأنْسى الْعِتابا الأحرار أَبَى الأحْرارُ أَنْ يَحْنُوا رُؤوساً ... عَلَى هَونٍ فَتَرْكَبُها العُيوبُ (¬1) وَقَالوا عِزَّةُ الأَوطانَ أَن لا ... يَقُومَ مِنَ العِدا فيها رَقيب وأَشقَى النَّاسِ أَحْرارٌ تَولَّى ... شُؤونهمُ عَلَى رَغْمٍ غريبُ فَلاذوا بِالقَنا إذْ لاذَ قَومٌ ... بِأَقْوالٍ يُنَمِّقُها الخَطيب ولا يَحْمي البلادَ سِوى اتّحادٍ ... يَشُدُّ عُراهُ إقْدامٌ مَهِيبُ في مجلس أدب بتونس " في مجلس ضم بعض الأدباء بتونس جرى فيه ذكر العاذل والرقيب". أَيَهْنَأُ عَيْشي وَيَحْلو الهَوى ... وَلي عاذِلٌ وَعَلَيْكُمْ رَقيبُ (¬2) فَيا لَيْتَ في فَمِ هذا الَّذي ... يَمُجّ المَلامَ حَصًى لا يَذوبُ (¬3) وَفي عَيْنِ ذاكَ الرَّقيبِ قَذًى ... يُلِمٌ بِها وَيحارُ الطَّبيبُ (¬4) في الدَّين " قيلت سنة ا 136 هـ ". أتكْسِبُ خَمْسًا وتُنْفِقُ سِتَاً ... ضَلَلْتَ لَعَمْري سَبيلَ الأَريبِ ¬

_ (¬1) بتصرف. (¬2) العاذل: اللائم. (¬3) مجّ الشراب من فيه: رمى به. (¬4) القذى: ما يقع في العين وفي الشراب من تبنة أو غيرها.

قطب رحى الحرب

هُوَ الدَّيْنُ إِنْ جِئتهُ فَارْتَقِبْ ... نهَارَ الذَّليلِ وَلَيْلَ الْكَئيبِ وَطَعْمُ الهَوانِ -وَما ذُقْتُهُ- ... أَمَرُّ مِنَ الْمَوتِ قَبْلَ المَشيبِ (¬1) قطب رحى الحرب حَياتُكَ مِرآةٌ وأَنْفَسُ ما تَرى ... حِسانٌ مِنَ الْعِرفانِ والْفِكْرُ خاطِبُ وما الْفِكْرُ إلَّا الرَّأْيُ تَقْدَحُ زَنْدَهُ ... فَتبْصِرُ ما أَخْفَتْ عَلَيْكَ الْغَياهِبُ (¬2) ورُبَّ امْرِئٍ ساواكَ بالرأْيِ وانْزَوَى ... خُمولًا وأَنْتَ المسْتَشارُ المحارِبُ (¬3) بِسَطْوَةِ حَزْمٍ واحْتِدامِ حَماسةٍ ... تُزاحُ خُطوب أَوْ تُتاحُ مآرِبُ (¬4) يُدَبِّرُ شَأنَ الحَرْبِ كُلُّ مَنِ ارْتَدى ... بَإِقْدامِ قَرْمٍ هَذَّبَتْهُ التَّجارِبُ (¬5) وقُطْبُ رَحاها مَنْ يُدبِّرُها وقَدْ ... عَلاهُ مِنَ النَّقْعِ المُثارِ سَحائِبُ (¬6) العيد مَا العيِدُ للشَّعْبِ في تَنْميق أثوابِ ... وَلاَ مُلاقَاةِ إخْوانٍ وأَصْحابِ وإنما العِيدُ أَنْ يُحيي بَصائِرَهُمْ ... بِنُورِ هَدْيٍ وعِرفانٍ وآدابِ ¬

_ (¬1) الهوان: الذل. وقول الشاعر: "وماذقته"؛ أي: طعم الهوان، دليل على سمو النفس وعلوها. (¬2) الزند: العود الذي تقدح به النار. الغياهب: الظلمات، واحدها الغيهب. (¬3) انزوى: انقبض. (¬4) احتدام: اشتداد واشتعال. الخطوب: جمع الخطب، وهو الأمر صغُر أو عظُم. (¬5) القَرْم: الفعل لم يمسه حبل، ولم يحمل عليه، السيد العظيم، جمع قروم. (¬6) القطب: سيد القوم الذي يدور عليه أمرهم. الرحى: الطاحون. النقع: الغبار.

ما بين السطور

ما بين السُّطور أُطالِعُ ما صاغَ الْبَليغُ فَأَقْتَني ... لآلِئَ لا أُحْصي لَهُنَّ حِسابا وَطَالعَهُ زَيْدٌ وعادَ يَقولُ لمْ ... أَجِدْ مِنْهُ بَحْراً بلْ وَجَدْتُ سَرابا (¬1) فَلَمْ يَرَ زيدٌ غَيْرَ ما في سُطوره ... وأَبْصَرْتُ مِنْ بينِ السُّطورِ كِتابا وأَنْكَدُ ما في الْعَيْشِ صُحْبةُ مَنْ يَرَى ... اللُّبابَ قُشورًا والْقُشورَ لُبابا ثوب المذنب كفن أَيَا مَنْ خاطَ لي ثَوْباً قَشيباً ... وَقَدْ مُلِئَتْ صَحائفُ مِنْ ذُنوبي أتصْنَعُهُ بِلا جَيْبٍ، وَهَذا ... يُعَدُّ لَدَى الرِّجاِل مِنَ الْعُيوبِ؟ فَقالَ: أَلَسْتَ في الموتَى، وَمَنْ ذا ... رأَى الأكفانَ تُصْنعُ بالجُيُوبِ؟ تقلّب الزمان لا تَغْلُ في مَرَحٍ إِذا ... بَسَمَ الزَّمانُ ورَحَّبا (¬2) وَتَلَقَّهُ بِتَجَلُّدٍ ... مَهْمَا جَفاكَ وَقَطَّبا هُوَ إِنْ تَصِفْهُ مُشَبِّهاً: ... كَالْمِنْجَنَوْنِ تَقَلُّبا (¬3) ¬

_ (¬1) البحر: ضد البر، قيل سمي به؛ لعمقه واتساعه. السراب: ما يشاهد نصف النهار من اشتداد الحر كأنه ماء، ويضرب به المثل في الكذب والخداع، يقال: "هو أخدع من السراب". (¬2) تغل: غلا في الأمر: جاوز فيه الحد. المرح: شدة الفرح والنشاط. (¬3) المنجنون: والمنجنين: الدولاب التي يستقى عليها.

إهابة

[إهابة] " قيلت بتونس في التذكير بإعانة بعثة الهلال الأحمر التركية التي مرت بتونس إلى طرابلس أيام الحرب الإيطالية سنة 1328 هـ ". رُدواعَلى مَجْدِنا الذّكْرَ الَّذي ذهبا ... يَكْفي مَضاجِعَنَا نَوْمٌ دَهَى حُقُبا (¬1) وَلا تَعودُ إلى شَعْبِ مُجادتهُ ... إِلاَّ إِذا غامَرَتْ هِمَّاتُهُ الشُّهُبا (¬2) حَياكُمُ اللهُ قَوْمي إِنَّ خَيْلَكُمُ ... قَدْ ضُمّرَتْ وَالسّباقُ الْيَوْمَ قَدْ وَجَبا (¬3) هَلْ جاءكمْ مِنْ حَديثِ الْقَوْم إِذْ هَجَروا ... ديِارَ مَنْ أَلِفوا والواديَ الخَصِبا (¬4) لَبَّوْا نِداءَ الضَّميرِ الحُرّ وَاقْتَحَموا ... لُجَّ الخِضَمّ الَّذي لاقَوْا بهِ نَصَبا (¬5) خاضُوا مَلاحِمَ جَيْشِ في طَرابُلُسٍ ... لِيَصْرِفُوا الهَمَّ عَنْ جَرْحاهُ والوَصَبا (¬6) وأَحْمَدُ النَّاسِ سَعْياً مَنْ يَمُدُّ إلى ... إسْعافِ جِيرَتهِ يَوْمَ الوَغى سَبَبا ¬

_ (¬1) دهاه: أصابه بأمر عظيم. الحُقْب: ثمانون سنة، ويقال أكثر من ذلك. (¬2) مجادته: عزته وشرفه. غامرت: قاتلت ولم تبال بالموت هماته: جمع همة، وهي العزم القوي. الشهب: شعلة من نار ساطعة أو كل مضيء متولد من نار. (¬3) ضمّرت: ضمَّر الخيل: ربطها وكثر ماءها وعلفها حتى تسمن، ثم قلل ماءها وعلفها مدة، وركضها في الميدان حتى تهزل. ومدة التضمير عند العرب أربعون يوماً. (¬4) القوم: يريد بهم أعضاء بعثة الهلال الأحمر التركية. (¬5) الخضم: البحر. النصب: التعب، وقد احتجزت السلطات الإيطالية آنذاك بعثة الهلال الأحمر التركية في عرض البحر الأبيض المتوسط، وأخذتهم من بأخرة فرنسية، وتدخلت حكومة فرنسا وأطلقت سراحهم. (¬6) الوصب: المرض.

هذا السَّبيلُ جَديرٌ أَنْ نَجودَ لَهُ ... بالمالِ كُلٌّ على مِقْدارِ ما كَسَبا لا خَيْرَ في أُمَّةٍ شَحَّتْ وما بَسَطَتْ ... أَكُفَّها بِعَطايا تَكْشِف النُّوَبا (¬1) والنَّفْسُ إنْ جَمَحَتْ نكبَحْ شَراسَتَها ... بِمُحْكَمِ الْقَوْلِ حَتَّى تُدْرِكَ الأَدَبا (¬2) فَلْيَبْسُطِ الْكَفَّ مَنْ كانَتْ عَواطِفُهُ ... مِثْلَ النَّسيمِ إذا ناجاهُ زَهرُ رُبى ولْيُحْجِمِ الطَّرْفَ مَنْ يَحْدُو به سَرَفٌ ... وَلْيَصْحُ مِنْ سُكْرِه مَنْ يعْشَق الذَّهَبا (¬3) تِلْكَ المَمَالِكُ تَرْنو حَوْلَنا لِتَرى ... نَوالَ تُونسُ ثَمْدًا كانَ أَمْ عَبَبا (¬4) وتلْكَ أَقْلامُ أَرْبابِ الفَصاحَةِ قَدْ ... هَبَّتْ لِتُلْقِيَ في تَمْجيدِكُمْ خُطَبا وفَوْقَ هذا جَزاءٌ لا نفادَ لَهُ ... واللهُ أَكْرَمُ مَنْ جازى ومَنْ وهَبا ¬

_ (¬1) شحت: بخلت. النُّوَب: جمع النُّوبة، وهي النازلة والمصيبة. (¬2) جمح الفرس براكبه: استعصى حتى غلب راكبه. نكبح: كبح الدابة باللجام: جذبها إليه، وضرب فاها به لتقف ولا تجري، وقيل: جذب عنانها حتى تصير منتصبة الرأس. (¬3) الطرف: العين. السرف: تجاوز الحد والاعتدال. (¬4) النوال: العطاء والنصيب. الثمد: الماء القليل الذي لا مادة به. العبب: المياه المتدفقة.

قافية التاء

قافية التاء [تقريظ] " قيلت في تقريط "السعيديات" ديوان الشاعر التونسي السعيد أبي بكر" (¬1). (أَبا بَكْرٍ) نَظَمْتَ وما مَدَحْتا ... فَهأَنذا أُقَرِّظُ ما نَظَمْتا (¬2) وَما التَّقريظُ إِلاَّ الشُّكْرُ يُهْدى ... عَلى ما صغْتَ مِنْ أَدَبٍ وصُنْتا ولسْتُ أَقولُ ذا دُرٌّ نضَيدٌ ... لأَنَّكَ ما الْتَقَطْتَ ولا نضدْتا (¬3) وَلسْتُ أَقولُ ذا زَهْرٌ أَنيقٌ ... لأَنَّكَ ما غَرَسْتَ ولا قَطَفْتا (¬4) ولستُ أَقولُ راحٌ في زُجاجٍ ... لأَنَّكَ ما عَصَرْتَ ولا سَبَكْتا (¬5) وقَدْ لَهَجوا بِقَوْلهِمُ: (بَديعٌ) ... (بَليغٌ) (فائِقٌ) حَتَّى سَئِمْتا (¬6) ¬

_ (¬1) سعيد أبو بكر (1317 - 1367 هـ) أديب وشاعر تونسي ولد في مكنين بالساحل التونسي، وتوفي بالعاصمة تونس. أصدر مجلة "تونس المصورة"، له ديوان "السعيديات" مطبوع، ومؤلفات أخرى. (¬2) قرظ فلاناً: مدحه وهو حي. (¬3) نضيد: نضد المتاع: جعل بعضه فوق بعض. (¬4) أنيق: حسن مُعْجب. (¬5) الراح: الخمر. سبك الذهب: أذابه، وخلصه من خبثه. (¬6) لهج بالشيء: أغري به، فثابر عليه.

"أَبا بَكْرٍ" أَرى شِعْراً عَبوساً ... فَأَذْكرُ سَيْفَ بِشْرٍ والسَّبَنْتَى (¬1) وَأَقْرَأُ تارةً شِعْراً رَصينًا ... أتنْحِتُهُ مِنَ الجَوْزاءِ نَحْتا تُجاهِدُ في سَبيلٍ يَبْتَغيها ... غَريبٌ غاشِم عِوَجاً وَأَمْتا (¬2) تُكافِحُهُ وَقدْ طَفَحَتْ يَداه ... بِعُسْفٍ يَمْلأُ الأَفْواهَ صَمْتا (¬3) وَلَيسَ الشِّعْرُ بالصَّمْصامِ يَلْوِي ... ذِراعَيْ مَنْ يَصُبُّ الهَوْنَ بَحْتا (¬4) بَلِ الشِّعْرُ الحَكيمُ ثِقافُ سُمْرٍ ... تُسَمِّيها الْقُلوبُ إِذا نطًقْتا (¬5) شُعورٌ فَائْتِلافٌ فَاتِّحادٌ ... فَعَزْمٌ يَسْحَتُ الإِرْهاقَ سَحْتا (¬6) "أَبا بَكْرٍ" أُعيذُكَ مِنْ خَيَالٍ ... يَروغُ عَنِ الهُدى ويَحوكُ بَيْتا وفي الشُّعَراءِ مَنْ ضاقَتْ خُطاهُ ... وَفاتَتْهُ الحَقائقُ وهي شَتَّى فَراحَ يَخالُ لَهْوَ الْقَوْلِ جِدّاً ... وَيَنْفُثُ في مَكانِ الرُّشْدِ بُهْتا (¬7) ¬

_ (¬1) بشر: بشر بن عوانة العبدي الذي أتى على ذكره بديع الزمان الهمذاني في المقامة البشرية، والذي عرض له أسد وهو يبتغي مهراً لابنة عمه، فثبت له وقتله. السبنتى: النمر. (¬2) الغريب: المستعمر إطلاقاً، ويريد هنا: المستعمرين الفرنسيين. الغاشم: الظالم والغاصب. الأمت: الوهن والضعف. (¬3) طفحت امتلأت. العسف: الظلم. (¬4) الصمصام: السيف لا ينثني. الهون: الهوان والذل. البحت الصِّرْف والخالص من كل شيء. (¬5) الثقاف: آلة تسوّى بها الرماح، السُّمْر: واحدها الأسمر، وهو الرمح. (¬6) سحت الشيء: استأصله. (¬7) ينفث: يرمي من فيه. البهت: الكذب.

كيف ألقى النعيم إن أنا مت

وشِعْرُ الْعُربِ ذو نظمٍ، فَرِفْقاً ... بِها إنْ شِئْتَ رِفْقًا واسْتَطَعْتا لَعَلَّ الذَّوْقَ لا يَسْلو نِظاماً ... تَزَحْزَحَ عَنْهُ بَعْضُ الْقَوْلِ بَغْتا (¬1) وكانَ قَريضُ "تونسُ" في صَفاءٍ ... وإبْداع يُضاهي الشُّهْبَ نَعْتا (¬2) فَلاقى مِنْ صُروفِ الدَّهْرِ عُسْفاً ... فَنَضبَ ماؤُهُ واغْبَرَّ نبتا (¬3) أَيَزْهى بُلْبُلٌ في كَفِّ طِفْلٍ ... يُمِضٌّ الْبُلْبُلَ الْغِرِّيدَ مَقْتا (¬4) وما هُوَ كالطَّليقِ يَميسُ تِيهاً ... ويَشْدو فَوْقَ أُمْلودٍ تَمتَّى (¬5) "أَبا بَكْر" أَخَذْتَ تُعيدُ مَجْداً ... هَوى فَابغ الأَناةَ إِليْهِ سَمْتا (¬6) وخَل الْبَخْتَ يَسْعى للِكُسالى ... وَسَمِّ الحَزْمَ والإِقْدامَ بَخْتا [كيف ألقى النّعيم إن أنا متّ (¬7)] رُمْتُ أَنْ أَفْقَهَ الحياةَ وأَدْري ... كَيْفَ آلقَى النَّعيمَ إِنْ أَنا مُتُّ قِيلَ: في الْغَرْبِ كل سِرٍّ تَجَلى ... بِبيانٍ وَكُلُّ صُلْبٍ يُفَتُّ ¬

_ (¬1) بغتاً: فجأة. (¬2) القريض: الشعر. يضاهي: يشابه النعت: الصفة. (¬3) العسف: الظلم. نصّب الماء: غار في الأرض. (¬4) يمض: يؤلم ويوجع. الغزيد: المطرب بصوته. (¬5) يميس: يتبختر. التيه: الصلف والكبر. أملود: الناعم من الناس والغصون. تمتَّى: تمطى. (¬6) هوى: سقط من علو إلى أسفل. الأناة: الحلم والوقار. السمت: الطريق. (¬7) مجلة "الهداية الإِسلامية" الجزء التاسع من المجلد الرابع عشر.

هاتِ يا مُسْعِدُ الحَقيبَةَ إِنِّي ... قَدْ عَزَمْتُ الرَّحيلَ وَالْعَزْمُ صَلْت (¬1) خُضْ بِنا رائِدَ السَّفينَةِ بَحْراً ... سادَ في مَتْنِهِ هُدُوٌّ وصَمْت (¬2) لا أَهابُ الخُطوبَ يَوْماً وَلَكِنْ ... خِفْتُ أَنْ يَسْبِقَ الهِدايةَ مَوْتُ فَحَمِدنا السُّرى غَداةَ هَبَطْنا ... بَلَداً عاشَ في رُباهُ "دِكَرْتُ" (¬3) وَقَضَيْتُ السِّنينَ مُسْتَقْصِياً في ... كُلُّ درْسٍ ما قالَ "رِسْطو" و"كنْتُ" (¬4) ودَعوني الدّكْتور بَلْ مَنَحُوني ... لَقَبَ الْفَيْلَسوفِ لمَّا نبغْتُ عُدْتُ لِلشَّرقِ والحَقائِبُ مَلأَى ... بِطُروسٍ أَوْدَعْتُها ما دَرَسْتُ (¬5) فَأَنا الْفَيْلَسوفُ، لكنَّني لم ... أَحْظَ في الْغَرْبِ باليَقينِ فَتِهْتُ رُبَ رأْيٍ نَصيبُهُ إِنْ أَنا أُبْـ ... ـديهِ بَيْنَ الهُداةِ نبذٌ ومَقْتُ (¬6) ¬

_ (¬1) مسعد: كنى به عن اسم علم، وهو المعاون والمساعد. الصلت: الرجل الماضي في الحوائج. (¬2) خاض الماء: مشى فيه. الرائد: الرسول الذي يرسله القوم لينظر لهم مكاناً ينزلون فيه، ويقصد هنا صاحب السفينة. (¬3) السرى: سير عامة الليل. رينيه ديكارت: (1596 - 1650 م) فيلسوف ورياضي فرنسي، له عدة اكتشافات هندسية وفيزيائية. (¬4) رسطو: أرسطو، أو أرسطاطاليس (384 - 312 ق. م) فيلسوف يوناني، له عدة مؤلفات في المنطق والطبيعيات والإلهيات والأخلاق. كنت: عمانوئيل كانت (1724 - 1804 م) فيلسوف ألماني، له مؤلفات فلسفية عديدة. (¬5) الطروس: جمع طِرس، وهي الصحيفة. (¬6) نبذَ الشيء من يده: طرحه، ورمى به. مقتَ: أبغض أشد البغض عن أمر قبيح.

تفريق الشعب

يا طَبيبَ الْقُلوبِ ما طُبُّ قَرْحٍ ... هُو رَيْبٌ يَغْشى الْقُلوبَ وَيعْتو (¬1) يُغْبَطُ المَرْءُ إِنْ يَكُنْ بَيْنَ جَنْبَيـ ... ـه رَواحٌ وفي مُحَيَّاهُ سَمْتُ (¬2) قالَ: في كُل آيةِ مِنْ كِتابِ الّلـ ... ـهِ لِلْحِكْمَةِ الْبَليغَةِ بَيْتُ هأَنَذا أتلو الْكِتابَ فألقى ... فيهِ روحَ الْيَقينِ أَنّى تَلَوْتُ لَوْ تَدَبَّرْتُ آيَهُ الْغُرَّ مِنْ قَبْـ ... ـل لِقا فَيْلَسوفهِمْ ما ضَلَلْتُ تفريق الشعب قالوا: يُصيبُ الشَّعْبَ صَدْعُ تَفَرّقٍ ... فَيَذوقُ مِنْ بَعْدِ الشِّقاقِ مَماتا قُلْنا: يموتُ الشَّعْبُ مَوْتَ جَهالَةٍ ... فَيَصيرُ مِنْ بَعْدِ المَماتِ فُتاتا [تحايا الود] " بعث الأديب التونسي الأستاذ محمد المأمون النيفر إلى الشاعر بقصيدة تنم عن عاطفة أدبية رقيقة، فكتب في مراسلته هذه الأبيات" (¬3). ¬

_ (¬1) القرح: ألم الجرح. عتا: استكبر. (¬2) غبط فلاناً: تمنى مثل حاله من غير أن يريد زوالها عنه. الرسل: وجدانك السرور الحادث من اليقين. السمت: هيئة أهل الخير. (¬3) مجلة "الهداية الإِسلامية" الجزء الرابع من المجلد الحادي عشر. وهذه أبيات من قصيدة الأديب محمد المأمون النيفر: أزف تحايا الود والبركات ... وأهدي سلاماً عاطر النفحات وأرسل طاقات الثناء جميلة ... منضدة الأوراد والزهرات إلى عالم أخباره ذاع صيتها ... وآثاره أضحت حديث رواة بصير بأدواء النفوس طبيبها ... إذا ما رماه حادث بشكاة وهذه أجزاء (الهداية) بيننا ... تدل على الإبداع في النظرات =

أَهَذِي تَحايا الوِدِّ والْبَرَكاتِ ... أَمِ الرَّوْضُ يُهْدي أَطْيَبَ النَّفَحاتِ؟ وهذا رَقيمٌ لَوْ بَدَوْتُ لَخِلْتُهُ ... وَقَدْ جادَ بالإِيناسِ لَحْظَ مَهاةِ (¬1) أَجَلْ هُو شِعْرٌ يَحْمِلُ الأُنْسَ مِنْ رُبى ... بلادٍ بِها قَضَّيْتُ صَدْرَ حَياتي (¬2) ذَكَرْتُ رُبى المرْسى الأَنيقَةِ والصَّبا ... تُذيعُ شَذا أَزْهارِها الْبَهِجاتِ (¬3) وَسَامِرَ آدابٍ حِسانٍ كأَنَّه ... راتِعُ ما بالقاعِ مِنْ ظَبِياتِ (¬4) ورَوْضَةَ عِلْم كُنْتُ أَجْني ثِمارَها ... وأَرْشِفُ مِنْها أَعْذَبَ اللَّهَجات (¬5) فَيا مُذْكِري عهْداً طَوَتْهُ يَدُ النَّوَى ... وأَذْكَتْ له في مُهْجَتي حَسَراتِ أُحَييِّكَ مِنْ مِصْرٍ تَحِيَّةَ والِدٍ ... تَبرُّ بِهِ الآصالَ والْغُدواتِ (¬6) ¬

_ = مثابة تحقيق، ومهبط حكمة ... وعنوان تدقيق ونبع عظات وروضة حسن قد تفتق زهرها ... وفاح فأحيا لي ربيع حياتي جزاك إله العرش أفضل ما جزى ... به ناصحاً عن نافع الخدمات ولا برح اللطف الخفي يحفكم ... وأنتم لدين الله خير حماة (¬1) الرقيم: الكتاب. بدوت: خرجت إلى البادية. اللحظ: باطن العين. مهاة: البقرة الوحشية. (¬2) يقصد الشاعر: تونس حيث ولد وعاش صدر حياته بها. (¬3) ربى: جمع ربوة: ما ارتفع من الأرض. المرسى: بلدة جميلة في ضواحي العاصمة تونس. الصبا: ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. تذيع: تظهر. (¬4) السامر: مجلس السفار. المراتع: واحدها المرتع، وهو مكان اللهو. القاع: أرض سهلة مطمئنة انفرجت عنها الجبال والآكام. ظييات: واحدها الظبية: وهي أنثى الغزال. (¬5) الروضة: عشب وماء، ويريد بها الشاعر جامع الزيتونة الذي تلقى فيه العلم. (¬6) تبرّ: تصدق. الآصال: واحدها الأصيل، الوقت بعد العصر إلى المغرب. =

الإيمان روح السعادة

بَعَثْتَ بِشِعْرٍ طارِفٍ لَمَعَتْ بِهِ ... مِنَ الأدَبِ الْمَوْروثَ خَيْرُ سِماتِ (¬1) أَراكَ ظَلَمْتَ الْغِيِدَ إِذْ صُغْتَ لُؤْلُؤًا ... ونَضَّدْتَهُ شِعْراً على صَفَحاتِ (¬2) وأَهدْيتَ طاقاتِ الثَّناءِ وَلَيْتَني ... مَلأْتُ يَدي مِنْ تِلْكُم الحَسَناتِ فَيا أَسَفاً لَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعُلا وما ... بَلَغْتُ مِنَ الْعِرْفانِ شَأُوَ لِداتِي (¬3) وآنسْتُ في روح الخِطابِ سَنا الهُدى ... وَبَعْضُ بني الأَمْجادِ غَيْرُ هُداةِ (¬4) وما أَبْصَرَتْ عَيْنايَ أَجْمَلَ مِنْ فَتىً ... يَخافُ مَقامَ اللهِ في الخَلَواتِ ولا خَيْرَ إِلاَّ في نُفوسٍ ترَشَّفَتْ ... لِبانَ التُّقى مِنْ حِكْمةٍ وعِظاتِ (¬5) فَأَحْمَدُ مِنْكَ الوِدَّ والْقَلَمَ الذي ... جَنى ليَ طاقاتٍ مِنَ الدَّعَواتِ ولا زِلْتَ مِثْلَ الْغُصْنِ يَنْمو بِمَنْبِتٍ ... كَريمٍ فَيُؤْتي أَطْيَبَ الثَّمَراتِ [الإيمان روح السّعادة] " قيلت في مستشفى الدمرداش بالقاهرة في شهر رمضان سنة 1365 هـ ". وَرَدْتَ مَناهِلَ الْعِرْفانِ طِفْلاً ... وواصَلْتَ الْعَشِيَّةَ بالغَداةِ (¬6) ¬

_ = الغدوات: واحدها الغدوة: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. (¬1) الطارف: المال الحديث المستحدث. (¬2) الغيد: جمع غيداء وهي المرأة الناعمة الأعطاف. (¬3) شأو: الأمد والغاية. اللدات: جمعِ لدة، وهو الذي ولد معك، وتربى معك. (¬4) هداة: جمع هادٍ. (¬5) ترشفت الماء: بالغت في مصه. اللِّبان: الرضاع. (¬6) مناهل: جمع منهل، وهو المورد، والشرب.

الضجر من كثرة الأسفار

فَأَفْنَيْتَ السّنينَ تُجيِلُ فِكْراً ... وَتَكْشِفُ عَنْ وُجوه المُعْضِلاتِ (¬1) عَلامَ أَراكَ تَحْذو حَذوَ غُمْرٍ ... فَتَزْهَدُ في التَّجَلُّدِ والأَناةِ (¬2) تَكادُ تَغوصُ في جَزَع إذا ما ... عَراكَ ضَنى وتَلْهَجُ بالشَّكاةِ (¬3) ولا فَخْرٌ لِغَيْرِ فَتىً يُضاهي ... بِصارِمِ عَزْمِهِ صَدْرَ الْقَنَاةِ (¬4) أَمَا اسْتَوْقَدْتَ مِنْ عِلْمٍ يَقيناً ... يَهونُ بِهِ لِقاءُ النَّائِباتِ (¬5) يَقين إِنْ طَوَيْتَ عَلَيْهِ صَدْراً ... قَبَضْتَ على السَّعادةِ في الحَياةِ يُرَوِّحُ عَنْكَ إِذْ يَشْتَدُّ خَطْبٌ ... وَما أَقْسى الخُطوبَ على الطُّغاةِ (¬6) هُوَ النُّورُ الَّذي يُذْكيهِ وَحْيٌ ... وَيرْبو مِنْ خُشوعِكَ في الصَّلاةِ (¬7) الضجر من كثرة الأسفار " قيلت في دمشق سنة 1338 هـ ". أَنا كأُسُ الْكَريمِ والأَرْضُ نادٍ ... والمَطايا تَطوفُ بي كالسُّقاةِ ¬

_ (¬1) المعضلات: واحدها المعضلة: المسألة المشكلة المستغلقة. (¬2) الغُمرْ: من لم يجرب الأمور. (¬3) تغوص: غاص في الماء: غطس، ونزل تحته. الجزع: ضد الصبر. الضنى: المرض والهزال وسوء الحال. (¬4) الصارم: السيف القاطع. القناة: الرمح. (¬5) النائبات: واحدها نائبة، وهي المصيبة. (¬6) الخطب: الأمر، صغُر أو عظُم. الطغاة: واحدها طاغ: وهو كل مجاوز حده في العصيان. (¬7) يربو: يزداد وينمو.

خواطر مريض

كم كُؤوسٍ هَوَتْ إلى الأَرْضِ صَرْعى ... بَيْنَ كَفٍّ تُديرُها واللهاةِ (¬1) فَاسْمَحي يا حَياةُ بي لِبَخيلٍ ... جَفْنُ ساقِيهِ طافحٌ بِسُباتِ (¬2) خواطر مريض " قيلت على فراش المرض بالقاهرة سنة 1350 هـ " (¬3). أَرَقٌ وَهَلْ يَبْغي الْقَريحُ سِوى السُّباتِ ... والْقَلْبُ خَفَّاقٌ كَقادِمَةِ الْقَطاةِ (¬4) لا تُرْهِقيني يا حَياةُ ضَنىً أَما ... يَكْفي خُطوبٌ كالأَسِنَّةِ في اللَّهاةِ (¬5) ما أَنْتِ مُلْقِيَةٌ بِسَلْمٍ أَقْتَني ... في ظِلِّه الضَّافي مَفاخِرَ رائعاتِ وإذا طَغى سَقَمٌ لِيُسْلِمَني إلى ... بَطْنِ الثَّرى أَيْقَظْتِ أَجْفانَ الأُساةِ (¬6) إنْ كُنْتُ مِرْقاةَ الْفَلاحِ لأُمَّةٍ ... ضَرَبَتْ بِسَطْوتهَا على أَيْدي الْبُغاةِ (¬7) فالمَوْتُ مِرْقاةُ الهَناءةِ يَوْمَ لا ... يُجْدِ الأُسارى مِنْ فِداءٍ أَوْ حُماةِ ¬

_ (¬1) اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم. (¬2) طافح: مليء. السبات: النوم، وأصله الراحة. (¬3) مجلة "الهداية الإِسلامية" الجزء الرابع من المجلد الحادي عشر. (¬4) القريح: الجريح. السبات: النوم، وأصله الراحة. القطاة: طائر في حجم الحمام. القادمة: ريشات في مقدم الجناح، والجمع قوادم. (¬5) الأسنة: جمع سنان، وهو نصل الرمح. اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم. (¬6) طغى: جاوز القدر والحد. السقم: المرض. الأساة: جمع الآسي، وهو الطبيب. (¬7) المرقاة: الدرجة.

سوسة العمر

سوسة العمر وغُلامٍ قَرَّبَ "السَّاعةَ" مِنْ ... أُذنِهِ يَسْمَعُ مِنْها النَّقَراتِ قالَ: ما في جَوْفِها؟ قُلْتُ له: ... سوسَةٌ تَقْرُضُ أيامَ حَياتي (¬1) معنى في أزجال البدو " قيلت في تونس عندما أنشد زجل تونسي وهو: "جات ظاهرة نادوا عليها ولّي ... وأبرق خَدْها قام الإِمام يصلي" * * * خَطَرَتْ فَلاحَ جَبينُها ... والنَّاسُ غَرْقَى في سُباتِ غَرَّ الإِمامَ فَخالهُ ... فَجْراً وأَحْرَمَ بالصَّلاةِ أحمد تيمور باشا تَقَاسَمَ قَلْبي صاحِبانِ وَدِدْتُ لَوْ ... تَمَلَّتْهُما عَيْنايَ طُولَ حَياتي (¬2) وَعَلَّلْتُ نفسي بالمُنى فَإذا النَّوى ... تَعُلُّ الحَشا طَعْناً بِغَيْرِ قَناةِ (¬3) فَأَحْمَدُ في مِصْرٍ قَضى وَمُحَّمدٌ ... بِتونسُ لا تَحْظى بِهِ لَحَظاتي (¬4) ¬

_ (¬1) السوسة: دودة تقع في الصوف والثياب والطعام والشجر، والجمع سوس. (¬2) تملت: استمتعت. (¬3) تعلّ: علّه: أي: سقاه السقية الثانية. القناة: الرمح. (¬4) أحمد: أحمد تيمور باشا (1288 - 1348 هـ) أديب ومؤرخ ولد وتوفي بالقاهرة، وله مؤلفات عديدة. قضى: مات. محمد: محمد الطاهر بن عاشور مفتي تونس =

رقة الطبع تزيد المودة صفاء

أَعيشُ وَملْءُ الصَدْرِ وَحْشَةُ مُتْرَفٍ ... رَمَتْهُ يَدُ الأَقْدارِ في فَلَواتِ رقّة الطّبع تزيد المودّة صفاء جَفا الصَّديقُ فناجَيْتُ الْفُؤادَ بِأَنْ ... يَبيتَ في جَفْوَةٍ تِلْقاءَ جَفْوَتهِ أَبي وقالَ: أَصُونُ الْعَهْدَ مُتَّئِداً ... فَرُبَّ وِدٍّ صَفا مِنْ بَعْدِ غُبْرَتهِ (¬1) عادَ الصَّديقُ فَأَصْفَى وِدَّهُ فَإذا ... حَديثُ نَجْوايَ مَنْسوخٌ بِرُمَّتِهِ (¬2) إِنْ تَلْقَ طَبْعاً رَقيقاً فَاغْرِسَنَّ بهِ ... مَوَدَّةً يُسْقَها مِنْ ماءِ رِقَّتِهِ ¬

_ = واحد أعلامها الكبار، كان صديقاً حميماً للشاعر منذ مطلع حياته، وكثيراً ما جاء ذكره في شعره. (¬1) أبي: امتنع. الغبرة: الغبار. (¬2) منسوخ: أي زائل، يقال: نسخ الشيء: أزاله. الرمة: قطعة من الحبل بالنية، ومنه قولهم: دفع إليه الشيء برمته، وأصله: أن رجلاً دفع إلى رجل بعيراً بحبل في عنقه، فقيل ذلك لكل من دفع شيئاً بجملته.

قافية الثاء

قافية الثاء [الانتصاف لعلم الشريعة] " قيلت بمناسبة تقليل بعض الجهال من شأن علوم الشريعة في مجلس بالقاهرة سنة 1341 هـ). أَغاظَ الحَسودَ الخِبَّ أَنْ بِتُّ مُقْبِلاً ... بِفِكْري على عِلْمٍ بَديعِ المباحِثِ (¬1) وأَوْجَسَ خَوْفاً أَنْ أَزيدَ بِهِ عُلا ... وذاكَ لَدى الحُسَّادِ إِحْدى الْكَوارِثِ فَغَضَّ مِنَ الْعِلْمِ الَّذي خُضْتُ بَحْرَهُ ... ولَقَّبَ مَنْ يَرْتادُهُ باسْمِ عابثِ يُحاوِل كَيْداً أَنْ يثبِّطَ هِمَّةً ... تَسامَتْ فَكانَ الْكَيْدُ بَعْضَ الْبَواعِثِ فَعادَ وَما في كَفِّهِ غَيْرُ خَيْبَةٍ ... كما أَخْفَقَتْ في الحَجِّ آمالُ رافِثِ (¬2) ¬

_ (¬1) الخب: الخدّاع. (¬2) الرافث: يقال: رفث؛ أي: أفحش. وهذا البيت إشارة لقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].

قافية الجيم

قافية الجيم الرأي النضيج يَهَبُ المُزْنُ في الْغَداةِ جُماناً ... مِنْ نَدًى للزُّهورِ ذاتِ الأَريجِ (¬1) وتُرينا شَمْسُ الضُّحى لُؤْلُؤاً مِنْ ... عَرَقِ الْغيدِ فَوْقَ خَدٍّ بَهيجِ (¬2) أَهُما عَلَّما الحِجا كَيْفَ يُلْقي ... في الْقَراطيسِ دُرَّ رَأَيٍ نَضيجٍ (¬3) زهرة الدّنيا أخلائي " قالها الشاعر في مصر عقب وداع بعض أصدقائه من تونس". يَوْمُ بَيْنٍ لَمْ أَذُقْ مِنْ قَبْلِهِ ... لَوْعَةً كالنَارِ حَرّاً وهِياجا (¬4) وَدَّعوا، والصُّبْحُ يَحْدو بالدُّجى ... حامِلاً مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ سِراجا (¬5) وَامْتَطَوْا سابِحِةً في الجَو لا ... لَقِيَتْ مِنْ أُخْتِها الرِّيحِ لَجاجا (¬6) ¬

_ (¬1) المزن: السحاب، أو ذو الماء. الجمان: واحدها جمانة، وهي حبة تُعمل من الفضة كالدرة. الندى: المطر. الأريج: الطيب. (¬2) الغيد: واحدها غيداء، وهي المرأة الناعمة اللينة الأعطاف. (¬3) الحجا: العقل. القراطيس: جمع قرطاس، وهي الصحيفة التي يكتب فيها. (¬4) البين: الفرقة. (¬5) يحدو: حدا الإبل: ساقها، وغنّى لها. الدجى: الظلمة. (¬6) سابحة: يقصد بها: الطائرة. اللجاج: التمادي في العناد والنزاع.

لم أكن بمداج

جِيرَةٌ أَصْفَيْتُهُمْ وِدّي وَلا ... يَجِدُ الْمَذْقُ مِنَ الوِدِّ رَوَاجا (¬1) قابَلوا وِدِّي بِوِدٍّ وَبَنَوْا ... مِنْ حِفاظِ الوِدِّ لِلْعَهْدِ سِيَاجا لا أُبالي إِنْ أَنا جاوَرْتُهمْ ... أَفُراتاً كانَ وِرْدي أَمْ أُجاجا (¬2) زَهْرَةُ الدُّنْيا أَخِلَّائي وَلَو ... شَفَّني الْبَيْنُ وَأَعيَاني عِلاجا لم أكن بمداج " قيلت في مستشفى فؤاد الأول بالقاهرة في ربيع الآخر سنة 1368 هـ). هُوَ ذا الضَّنى أَيْ جارتي يَنقَضُّ مِنْ ... بَيْنِ الجَوانِحِ في أَشَدِّ هِيَاجِ (¬3) يُدْلي الطَّبيبُ مَعَ الطَّبيبِ إلى الحَشا ... سَمَّاعَةً تَصِف انْحِرافَ مِزاجي فاجاهُمُ نَفَسٌ بِما أَشْكوهُ مِنْ ... وَجَعٍ وأَنْفاسُ الْعَليلِ تُناجي يَتَهامَسونَ بِلَهْجَةٍ لَمْ أَدْرِها ... فَإِخالُهُمْ هَمَسوا بِعُسْرِ عِلاجي فَلْتَذْكُريني -إنْ قَضَيْتُ- بِأَنّنَي ... أَرْعى الْعَشيرَ وَلَمْ أَكُنْ بِمُداجي (¬4) الشِتاء والرّبيع يُعيدُ الشِّتاءُ الْحَيَّ مَيْتاً، أَلا تَرى ... بِهِ الرَّوْضَ في كَفَنٍ مِنَ الثَّلْجِ مُدرَجا (¬5) وَتُرْجِعُ أيامُ الرَّبيعِ حَيَاتَهُ ... وتَكْسوهُ بُرْداً بالزُّهورِ مُدَبَّجا (¬6) ¬

_ (¬1) المذق: اللبن الممزوج بالماء، ويقصد: الود غير الصافي. الرواج: نفَاق السلعة. (¬2) الفرات: الماء العذب، الأُجاج: الماء المِلح المر. (¬3) الضنى: المرض والهزال. الجارة: ويقصد بها زوجته. (¬4) العشير: القبيلة، الصديق، القريب. المداجي: المداري. (¬5) مدرج: مطوي وملفوف. (¬6) البُرد: الثوب المخطط. مدبّج: مزيّن.

قافية الحاء

قافية الحاء [تهنئة بالقضاء] " قيلت في دمشق لتهنئة صديقه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عند ولايته القضاء بتونس سنة 1332 هـ ". بَسَطَ الهَناءُ عَلى الْقُلوبِ جَناحاً ... فَأَعادَ مُسْوَدَّ الحَياةِ صَباحا إِيهِ مُحَيَّا الدَّهْرِ إِنَّكَ مُؤْنسٌ ... ما افْتَرَّ ثَغْرُكَ باسِمًا وَضَّاحا (¬1) وَتَعُدُّ ما أَوْحَشْتَنا في غابِرٍ ... خالاً بِوَجْنَتِكَ الْمُضِيئَةِ لاحا (¬2) لَوْلا سَوادُ اللَّيْلِ ما ابْتَهَجَ الْفَتى ... إِنْ آنَسَ المِصْباحَ وَالإِصْباحا (¬3) ياطاهِرَ الهِمَمِ احْتَمَتْ بِكَ خُطَةٌ ... تَبْغي هُدًى وَمُروءَة وَسَماحا (¬4) سَحَبَتْ رِداءَ الْفَخْرِ واثِقَةً بِما ... لَكَ مِنْ فُؤادٍ يَعْشَقُ الإِصلاحا ¬

_ (¬1) إيه: اسم فعل أمر، ومعناه طلب الزيادة من حديث أو عمل، المُحيا: الوجه. افتر: تبسم وضحك ضحكا حسناً، وأبدى أسنانه. (¬2) الغابر: الماضي. (¬3) آنس: أبصر. الإصباح: الفجر. (¬4) الخطة: الأمر والطريقة. ويطلقها أهل الأندلس على أي منصب من مناصب الحكومة، فيقال: خطة الفتوى، وخطة التعليم.

يبغي الورد عذبا

سَتَشُدُّ بِالحَزْمِ الْحَكيمِ إِزارَها ... والحَزْمُ أَنْفَسُ ما يَكونُ وِشاحا (¬1) وتَذودُ بالعَدْلِ الْقَذى عَنْ حَوْضِها ... والْعَدْلُ أَقْوى ما يَكونُ سِلاحا (¬2) في النَّاسِ مَنْ ألقى قِلادنها إلى ... خَلَفٍ فَحَرَّمَ ما ابْتَغى وَأَباحا فَأَدرْ قَضاياها بِفِكْرِكَ إِنَّهُ ... فِكْرٌ يَرُدُّ مِنَ الْعَوِيصِ جِماحا (¬3) أَنْسى ولا أَنْسى إِخاءَكَ إِذْ رَمى ... صَرْف اللَّيالي بِالنَّوى أَشْباحا (¬4) أَسْلو ولا أَسْلو عُلاكَ وَلَو أتت ... لُبْنانُ تُهْدي نَرْجِساً فَيَّاحا (¬5) أَوَلَمْ نكُنْ كالفَرْقَدَيْنِ تَقَارَنا ... والصَّفْوُ يَمْلأُ بَيْنَنا أَقْداحا (¬6) يبغي الورد عذباً " قيلت على شاطئ البحر بالإسكندرية سنة 1361 هـ ". حَمامٌ غَرَّهُ بَحْرٌ خِضَمٌّ ... تُلاعِبُ مَوْجَهُ الحِيتانُ سَبْحا (¬7) ¬

_ (¬1) الإزار: الملحفة. الوشاح: شيء يشبه قلادة تلبسه النساء. (¬2) تذود: تطرد. القذى: ما يقع في العين أو الشراب من تبنة أو غيرها. الحوض: مجتمع الماء. (¬3) العويص: الأمر الصعب. الجماح: ركوب الرأس لا يثنيه شيء. (¬4) الصرْف: الحدثان والنوائب. النوى: البعد. (¬5) أسلو: سلا الشيء: نسيه، وذهل عن ذكره. الفيّاح: للمبالغة؛ أي: فيّاض بالعطاء الواسع الكثير. (¬6) الفرقدان: نجمان قريبان من القطب يهتدى بهما. (¬7) غرّه: خدعه. خضمّ: كثير العطاء.

عتاب على مزاح

يَحومُ عَلَيْهِ يَحْسَبُهُ زُلالاً ... وَلَما ذاقَهُ ألفاهُ مِلْحا (¬1) فَطارَ السِّرْبُ يَبْغي الوِرْدَ عَذْبًا ... وَلَوْ رَشَحَتْ بِهِ الْبَيْداءُ رَشْحا (¬2) فَصُنْ قَدَمَيْكَ عَنْ وِرْدٍ وَبيلٍ ... وَقُلْ للنَّفْسِ إِنْ عافَتْهُ: مَرْحَى (¬3) وَمَنْ يَظْفَرْ بِوِرْدٍ مُسْتَطابٍ ... فَوِرْدي آسِنٌ غَسَقاً وَصُبْحا (¬4) وَكَيْفَ يَطيبُ لي عَيْشٌ وَأَرْضي ... يَهُزُّ بِها الْعِدا سَيْفاً وَرُمْحا عتاب على مزاح " قالها في مصر سنة 1362 هـ عندما قال بعض الجالسين كلمة نابية عن أدب الدين على وجه المزاح". بُنَيَّ ألمْ تَرْشُفْ أَفاوِيقَ حِكْمَةٍ ... كما رَشَفَتْ قَطْرَ النَدى زَهْرَةُ الدَّوْحِ (¬5) وَمِثْلُكَ لا تَلْوِيهِ داعِيةُ الهَوى ... عَنِ السِّيرَةِ الْغَراءِ والْخُلُقِ السَّمْحِ ¬

_ (¬1) الزلال: العذب. (¬2) السرب: القطيع من القطا والظباء والوحش والخيل والحمر والنساء. البيداء: المفازة والفلاة. (¬3) صان: حفظ. الورد: الماء الذي يورد. وبيل: شديد. مرحى: كلمة تعجب تقال للرامي إذا أصاب. (¬4) مستطاب: استطاب الشيء: وجده طيباً. آسن: متغير. الغسق: دخول أول الليل حين يختلط الظلام. (¬5) ترشف: تمص. الأفاويق: الفيقة: اسم اللبن الذي يجتمع بالضرع بين الحلبتين. الحكمة: كل كلام موافق الحق، ووضع الشيء في موضعه، وصواب الأمر وسداده. الدوح: واحدها الدوحة، وهي الشجرة العظيمة.

رفقا بها

أُعيذُكَ بِالفُرْقانِ أَنْ تَحْكيَ امْرَأ ... يَغُضُّ مِنَ الدِّينِ الحَنيفيِّ بالمَزْحِ (¬1) وتُصْغي إلى نَجْوى الَّذي يَرْكبُ الخَنا ... وَيأْخُذُ أَهْلَ الشَّرْعِ بالطَّعْنِ والقَدْحِ (¬2) بَلَوْنا الهُدى بَعْدَ الهَوى فإذا الهَوى ... دُجُنَّةُ لَيْلٍ والهُدى فَلَقُ الصُّبْحِ (¬3) رفقاً بها " قالها في تونس بعد درس تعرض فيها أستاذه الشيخ سالم بو حاجب (¬4) إلى حكم التضحية بالظباء". مَدَّ في وَجْرَةَ الحِبالَةَ يَبْغي ... قَنَصًا والظِّباءُ تَرْتَعُ مَرْحى (¬5) صادها ظَبْيَة وَهَمَّ بِأَنْ يَصْـ .. ـرعَها كالخَروفِ في عيدِ أَضْحى قُلْتُ: رِفْقاً بِها وَلا تُرْهِقَنْها ... وَهيَ تَرْنو إلَيْكَ صَرْعاً وَذَبْحا (¬6) ¬

_ (¬1) أعيذك: أعاذه: دعا له بالحفظ. الفرقان: القرآن، وهو مصدر بالأصل. يغض الشيء: ينقص ويوضع من قدره. (¬2) النجوى: السرّ. الخنا: الفحش. الشرع: ما شرع الله تعالى لعباده. (¬3) الدجنّة: الظلمة، جمع دُجُنات. فلق الصبح: شقه بكشف الظلام عنه. (¬4) سالم بو حاجب: (1243 - 1342 هـ) من كبار علماء تونس وأساتذتها. تولى التدريس بجامع الزيتونة، ثم الفتيا سنة 1323 هـ. (¬5) الوجرة: موضع بينه وبين مكة والبصرة أربعون ميلاً، ليس فيها منزل، وهي مرتع الوحوش. الحبالة: المصيدة، جمع حبائل، ومنه الحديث الشريف: "النساء حبائل الشيطان". القنص: الصيد. الظباء: الغزلان. مرحى: جمع مَرِح: وهو شديد الفرح والنشاط. (¬6) ترنو: تديم النظر بسكون الطرف.

إغاثة قطاة

ما أَظُنُّ السِّكِّينَ تَرْضَى وَفيها ... حِدَةٌ أَنْ تَخُطَّ في الْجيدِ جُرْحا (¬1) خَلِّ عَنْها، فَعَيْنُها أَذْكَرَتْنا ... عَيْنَ أَسْماءَ وَهْيَ بالبشْر طَفْحى (¬2) [إغاثة قطاة] قَطاةٌ غَدَتْ تَطْوي الْفَلاةَ خَميصَةً ... إِلى رَوْضَةٍ طابَتْ وطَابَ صَباحُها (¬3) رَعَتْ كَلأً رَطْباً، حَسَتْ ماءً مُزْنَةٍ ... رَبا بَيْنَ أَحْناءِ الضُّلوعِ ارْتياحُها (¬4) وَعادَتْ تَشُقُّ الْجَوَّ وَهي تُطِلُّ مِنْ ... عُلاها عَلى بَيْداءَ لانَتْ رِيَاحُها رَمى النَابِلُ الخَتَالُ مِنْها قَوادِمًا ... ولَمْ يدْرِ رامي النَّبْلِ أَيْنَ مَطاحُها (¬5) ألمَّ بِها هَمُّ اغْتِرابٍ وَآذَنَتْ ... ذُكاءُ بِتَرْحالٍ فَطالَ نُواحُها (¬6) وَمَرَّ بِها لِسرْبٌ مِنَ الأُنْسِ طائرٌ ... فَصاحَتْ وَقَدْ أَجْدى عَلَيْها صِيَاحُها أُناشِدُكُمْ مَنْ ذا يُعيرُ جَناحَهُ ... مطَوَّحَةً في الْقَفْرِ قُدَّ جَناحُها (¬7) أَطيرُ إِلى زُغْبِ الْحَواصِلِ إِنَّها ... خِماصٌ وَأَخْشى أَنْ يَحينَ اجْتِيَاحُها (¬8) ¬

_ (¬1) الجيد: العنق. (¬2) البشْر: طلاقة الوجه. طفحى: ملأى. (¬3) قطاة: طائر في حجم الحمام. خميصة: جائعة، وتجمع على خمائص. (¬4) الكلأ: العشب. المزنة: المطرة. ربا: زاد ونما. الارتياح: السرور والنشاط. (¬5) النابل: صانع النبال. الختال: المخادع. القوادم: جمع القادمة، وهي عشر ريشات في مقدم الجناح. المطاح: مكان السقوط. (¬6) الذُّكاء: الشمس. (¬7) مطوحة: التي طُوِّح بها في الأرض، أي: ذهُب بها. قَدَه: قطعه مستأصلاً. (¬8) زُغب: جمع أزغب، وهو صغير الريش والشعر. الحواصل: جمع حوصلة، =

الرجاء أساس كل نجاح

ولا تَذْكُروا الصَّبَّ الَّذي اسْتَمْنَحَ الْقَطا ... جَناحاً فَأَنْذالُ الطُّيورِ شِحاحُها (¬1) فَمدَّ إليْها السِّرْبُ راحَةَ مُسْعِدٍ ... وَطارَ بِها حَتَّى حَماها مَراحُها (¬2) [الرّجاء أساس كلّ نجاح] سَحَبَ الْفَتى الْبَدوِيُّ ذَيْلَ مِراحِ ... يُزْهَى بِسَرْح في فَلاً ومَراحِ (¬3) أَلِفَ الْبُطولَةَ والسَّماحَ فَما لَهُ ... شَغَفٌ بِغَيْرِ بُطولةٍ وَسَماحِ لِلْبَدْوِ فيما كُنْتُ أَدْري الْفَضْلُ في ... نشءِ النُّفوسِ عَلى مِثالِ صَلاحِ لا راحَ غَيْرُ عَصيرِ مُزْنٍ رائِق ... لا نايَ غَيْرُ الْبُلْبُلِ الصَّدَّاحِ (¬4) لا تَخْطُرُ الْفَتَياتُ فيهِ بِزينَةٍ ... وَتَبرُّجٍ بَيْنَ الْبُيوتِ وِقاحِ مُنِيَ الْفَتى بِقَرينِ سُوءٍ يَرْتَدي ... ثَوْبَ النَّصيحِ بِغَدْوَةٍ وَرَواحِ (¬5) ما زالَ يَسْتَهْويهِ حَتَّى انْحَطَّ في ... أَرْضِ الحَضارَةِ بِالهوى المِلْحاحِ (¬6) قادَ النَّجائِبَ والحَقائِبُ مِلْؤُها ... ذَهَبٌ، دَنانيرٌ، وَحِلْيُ مِلاحِ (¬7) ¬

_ = وهي عند الطائر كالمعدة للإنسان. خماص: جِياع. الاجتياح: الإهلاك. (¬1) إشارة إلى قول الشاعر: أسرب القطا هل من يعير جناحه ... لعلي إلى من قد هويت أطير (¬2) مسعد: مساعد ومعاون. المَراح: الموضع يروح القوم منه وإليه. (¬3) المِراح: اسم من مرح: إذا بطر. (¬4) الراح: الخمر. المزن: السحاب. الناي: آلة من آلات الطرب، والجمع نايات. (¬5) القرين: المصاحب. (¬6) الملحاح: الكثير الإلحاح، ألح السائل في السؤال: ألحف وأقبل عليه مواظباً. (¬7) النجائب: واحدها النجيبة، وهي الكريمة الحسيبة من الإنسان والحيوان.

ألقى بِمصْرٍ رَحْلَهُ إِذْ أَدْبَرَتْ ... شَمْسُ الأَصيلِ بِوَجْهِها اللمَّاحِ (¬1) بَهَرَتْ لَواحِظَهُ المَصابيحُ الَّتي ... تُغْني إضاءَتُها عَنِ الإصباحِ وَبَدائِعٌ خَرَجَتْ بِطولِ حِسابِها ... عَنْ طاقَةِ الإِيماءِ والإفْصاحِ (¬2) وَاحْتَلَّ صَرْحا شامِخاً وَحَديقَةَ ... حَلِيَتْ بِزَهْرِ بَنَفْسَجٍ وأَقاحي (¬3) لَمْ يَحْرِ أَهْلُ النُّبْلِ أَيْنَ مَزارُهُ ... وَدَراهُ أَهْلُ بَطالَةٍ وطَلاحِ (¬4) فَتَهافَتوا يَتَصَيَّدونَ فُؤادهُ ... بِتَمَلُّقِ وخِلابَةٍ ومِزاحِ (¬5) واسْتَدْرَجوهُ إلى مَلاهٍ لَمْ يَعُدْ ... مِنْ بَعْدِ نشوَتها لِسيرَةِ صاحي صَرَفوهُ عَنْ وَجْهِ الرَّشادِ، فَتاهَ في ... وادٍ مِنَ اللَّهْوِ الأَثيمِ بَراح (¬6) رَكِبَ الهوى طَلْقاً، وأَصْبَحَ سَيْرُهُ ... هَدَفاً لِرَمْيةِ مُزْدَرٍ أَوْ لاحي فَسَلوا مَلاعِبَ مَيْسِرِ أَذْرى بِها ... بِدَرا وَعادَ بِخَيْبَةٍ وجُناحِ (¬7) ظَلَّ الْفَتى في سَكْرَةٍ وثَراؤُهُ ... يَنْهارُ بَيْنَ مَزاهِرٍ وقِداحِ ¬

_ (¬1) الأصيل: الوقت بعد العصر إلى المغرب. اللمّاح: اللامع. (¬2) الإيماء: الإشارة. (¬3) الصرح: القصر، كل بناء عال. الشامخ: طويل في السماء. (¬4) المزار: مكان الزيارة. طلاح: فساد. (¬5) التملق: التودد. الخلابة: الخديعة باللسان. (¬6) البراح: المتسع من الأرض لا زرع بها ولا شجر. (¬7) أذرى بها: ألقى بها كما يلقى الحب للزرع. البِدر: جمع البدرة: عشرة آلاف درهم. الجُناح: الإثم.

جناحان

حَتَّى تَبَدَّدَ تِبْرُهُ وَلُجَيْنُه ... كَكَثيبِ رَمْلٍ في مَهَبِّ رِيَاحِ (¬1) وانْفَضَّ مِنْ حَوْلِ الْفَقيرِ رِفاقُهُ ... وَجَزَوْهُ عَنْ إِقْبالِهِ بِطِماحِ (¬2) لا دِرْهَمٌ يُغْنيهِ مِنْ جوعٍ وَلا ... إِلْفٌ يُخَفِّفُ لَوْعَةَ الأَتْراحِ (¬3) كالطيْرِ يُنْسَلُ ريشُهُ أَفَيُرْتَجى ... لِلطَّيْرِ أَنْ يَحْيا بِغَيْرِ جَناحِ (¬4) ضاقَتْ عَلَيْهِ الأَرْضُ، والأَجْسادُ في ... نظرِ الْكَئيبِ مَقابِرُ الأَرْواحِ يَتَخَيَّلُ الظَّلْماءَ ثَوْبَ مَآتِمٍ ... وأَغانِيَ المِذْياعِ صَوْتَ نِياحِ (¬5) كادَ النَّشاؤُمُ بِالحَياةِ يُذيقُه ... طَعْمَ الرَّدى بِغرارِه السَّفَّاحِ (¬6) لَوْلا شُعورٌ مِنْ بَقايا فِطْرَةٍ ... لَهَوى كما يَهْوي صَريعُ رِماحِ هِيَ هَمْسَةٌ مِنْ فِطْرَةِ اللهِ الَّذي ... جَعَلَ الرَّجاءَ أساسَ كُلِّ نَجاحِ [جناحان] حِجًا في غِمارِ المُعْضِلاتِ سَبوحُ ... وعَزْمٌ إلى أَسْنى المَعالي طَموحُ (¬7) ¬

_ (¬1) التبر: الذهب. اللجين: الفضة. الكثيب: التل من الرمل. (¬2) الطماح: الكبر والفخر. (¬3) الإلف: العشير المؤانس. اللوعة: الحرقة. الأتراح: الأحزان. (¬4) ينسل: يسقط. (¬5) المآتم: جمع مأتم: نساء يجتمعن في الخير والشر، وغلب على الثاني. النياح: البكاء بصياح وعويل وجزع. (¬6) الردى: الهلاك. الغرار: حد السيف. (¬7) الحجا: العقل. المعضلات: واحدها معضلة، وهي المسألة المشكلة المستغلقة.

جَناحانِ لا تُرْقَى بِغَيْرِهِما الْعُلا ... وَمِنْ دونِ مَرْماها مَهامِهُ فِيحُ (¬1) ومَا أَسْوَأَ الْعُقْبى إذا ساسَ أُمَّةً ... عَلى الرغْمِ مَخْلوعُ الْعِذارِ جَموحُ (¬2) إذا وَلَّتِ الأَحْكامُ خابِطَ عَشْوَةٍ ... حَكى كَيْفَ يَهْذي في الْقَضاءِ سَطيحُ (¬3) وَيحْسَبُ ما لاشَيْءَ حَيّاً وَلَمْ يَكُنْ ... لِما خالَهُ في النَّاسِ جِسْمٌ ولا روحُ وَفي الشَّرِّ ما يَنْدَسُّ تحْتَ ظِهارَةٍ ... مِنَ الخَيْرِ لا لَوْنٌ يَنِمُّ ولا ريحُ (¬4) يَحوكُ الخَطيبُ الخَبُّ قَوْلاً صِباغُهُ ... أنيقٌ وما تَحْتَ الصِّباغِ قَبيحُ (¬5) ويَصْفو رُوَاءُ الماءِ وَالطَّعْمُ عَلْقَم ... وَيبْسِمُ ثِغْرٌ والْفُؤادُ قَريحُ (¬6) وَما كُلُّ ذي رَأْيٍ يُداري حَقيقَةً ... تَوارَتْ فَتَبْدو وَالْقِناعُ طَريحُ (¬7) وَمَنْ ذا يُعاني الصَّعْبَ لَوْلا رَجاءُ أَنْ ... يَطيبَ غَبوقٌ بَعْدَهُ وَصَبوحُ (¬8) ¬

_ (¬1) مهامه: جمع المهمه، والمهمهة: المفازة البعيدة. فيح: واسعة. (¬2) العقبى: الآخرة. العذار: ما سال من اللجام على خد الفرس، ويقال: "هو خليع العذار"؛ أي: يقول ويفعل، وما يبالي بشيء؛ كالدابة بلا رسن. جموح: يقال رجل جموح: يركب هواه، فلا يمكن رده. (¬3) خابط عشوة: العشوة هي الظلمة، ويقال للجاهل: هو خابط عشوة. سطيح: ربيع الذئبي كاهن اليمن المشهور. (¬4) يندس: يندفن. الظّهارة من الثوب: نقيض البطانة. (¬5) الخب: الخداع. أنيق: حسن معجب. (¬6) الرواء: حسن المنظر. العلقم: الحنظل، وكل شيء مر. قريح: جريح. (¬7) يداري: يلاطف. (¬8) الغبوق: ما يشرب بالعشي. الصبوح: ما يشرب بالغدوة.

ضَريحُ أَبِيِّ الضَّيْمِ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ ... وصَرْحُ الهَيُوبِ المُسْتَضامِ ضَريحُ (¬1) أَخُو الضَّيْمِ في الدنيا هُوَ الْمَيْتُ فَانْعَهْ ... وإنْ تَرَه يَغْدو بِها وَيروحُ لِكُلِّ امْرِئٍ شَأْنٌ، سَلوا فَيْلَسوفَهُمْ ... أَنيطَتْ بِهاتيكَ الشُّؤونِ شُروحُ؟ فَمِنْ ساحِبٍ ذَيْلَ المِراحِ وَلَوْ سَطا ... بِهِ مُسْتَبِدٌّ يَعْتَدي وَيبوحُ (¬2) سَميع إذا طَنَّ الذُّبابُ بِدُمْيَةٍ ... أَصَمُّ إذا ألقى العِظاتِ نَصوحُ (¬3) إلى مُطْرِقٍ يَرْنو بِعَيْنِ مُقَطّبٍ ... يَضيقُ عَلَيْهِ الأُفْقُ وَهْوَ فَسيحُ شَجِيٌّ كَأَنَّ الْقَلْبَ صُوِّرَ مِنْ أَسًى ... وغَذَّاهُ مِنْ جَفْنِ المَشوقِ سَفوحُ (¬4) يُصَمُّ إذا غَنّاهُ إسْحاقُ مُطْرِباً ... وُيصْغي إلى الخنْساءِ وَهيِ تَنوحُ (¬5) ¬

_ (¬1) الضريح: القبر. الضيم: الظلم. الصرح: القصر. الممرد: المشيد. الهيوب: الجبان. المستضام: الذي انتقص حقه. (¬2) المراح: اسم من مرح: إذا أشر وبطر. (¬3) الدمية: الصنم، والصورة المنقشة المزينة فيها حمرة كالدم. (¬4) الشجي: الحزين. المشوق: المشتاق. (¬5) إسحاق: (155 - 235 هـ) إسحاق بن إبراهيم الموصلي، من أشهر ندماء الخلفاء، وتفرد بصناعة الغناء، وهو عالم بالموسيقى واللغة والتاريخ والشعر، ولد وتوفي ببغداد، نادم الرشيد والمأمون والواثق العباسيين. الخنساء: (... - 24 هـ) تماضر بنت عمرو بن الحارث، الشاعرة المشهورة، أدركت الجاهلية والإِسلام فأسلمت، وقدمت مع قومها من بني سليم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أكثر شعرها وأجوده رثاؤها لأخويها صخر ومعاوية، وكانا قد قتلا بالجاهلية، لها ديوان مطبوع.

نهضة مصر

وَأَضيعُ رَأْيٍ ما يَلوحُ لِمُحْجِمٍ ... وَرَأْيُ أَخي العَزْمِ الصَّميمِ نَجيحُ (¬1) أَيَجْني ثِمارَ النَّخْلِ بالكَفِّ مُقْعَدٌ ... وَيَنْهَضُ في يَوْمِ الرِّهانِ طَليحُ؟ (¬2) نهضة مصر " قيلت وهو يشهد استعراض الجيش المصري يوم 28 المحرم سنة 1369 هـ ". دَمْعَةٌ كالثَّلْجِ بَرْداً مَجها ... في الْمَآقي فَرْطُ بِشْرٍ وارْتيَاحِ (¬3) إِذْ شَهِدْنا عَرْضَ جَيْشٍ مِنْ بَني ... مِصْرَ في أَسْنى عَتادٍ وسِلاحِ وَتَلَتْها دَمْعةٌ صَورَ لي ... حَرُّها أنْفاسَ مَكْسورِ الجَناحِ إِذْ ذَكَرْتُ المَغْرِبَ الْغارِقَ في ... لُجَجٍ سُودٍ مِنَ الْعَسْفِ الصُّراحِ (¬4) نهَضَتْ مِصْرُ إلى المَجْدِ وَما ... نهَضَتْ إِلَّا بِعَزْمٍ وَكِفاحِ أترى الْمَغْرِبَ يَوْمًا ناهِضًا ... لِلْعُلا بيْنَ سُيُوفٍ وَرِماحِ [ما أضيع البرهان عند المعاند!] تُريدُ رَفيقاً لا يَرى غَيْرَ ما تَرى ... وَيأبى الَّذي تأُباهُ وَهْوَ نَصوحُ ¬

_ (¬1) المحجم: الذي يكف عن الشيء وينكص هيبة منه. النجيح: الصواب في الرأي. (¬2) المقعد: المصاب الذي لا يستطيع القيام. الطليح: المتعب الهزيل. (¬3) مج: رمى. المآقي: جمع المؤقي والمأقي، وهو مجرى الدمع من العين. (¬4) المغرب: المغرب العربي: تونس والجزائر والمغرب. لجج: جمع اللجة، وهي الجماعة الكثيرة، ولجة الظلام. العسف: الظلم. الصراح: الخالص من كل شيء، المجاهرة.

وَغَيْرُكَ مُشْتاق إلى صاحِبٍ لَهُ ... حِجا كَسِراجِ الْكَهْرُباءِ لَمُوح (¬1) صَديقُكَ ثاني السَّاعِدَيْنِ وَرَأيهُ ... لِرَأْيِكَ في كُلِّ الأُمورِ كَفيحُ (¬2) وَما الخُلْفُ في الآراءِ بَيْنَكُما سِوَى ... دليلٌ على أَنِ الوِدادَ صَريحُ وَما هُوَ كالخُلْفِ الَّذي يَسْتَثيرُهُ ... عِنادٌ وَرَأْيٌ بِالصَّوابِ لَقوحُ (¬3) أَلا خَلياتي مِنْ حِوارِ مُعانِدٍ ... يَقولُ لِسانُ الأَعْجَمِيِّ فَصيحُ وَما وَعْدُ عُرْقُوبٍ بِيثرِبَ مُخْلِفاً ... ولا ماءً في أَرْضِ الْعِراقِ يَسيحُ (¬4) وطَلْعَةُ ذي الوَجْهَيْنِ وَضَّاحَةُ السَّنا ... وَطائِرُ مَنْ يَلْقى الْبَسُوسَ سَنيحُ (¬5) وُيطْري الَّتي تَلْهو وتُرْجِئُ غَزْلَها ... إلى أَنْ تَرى نَجْمَ الشِّتاءِ يَلوحُ (¬6) أَعِنْدَكَ بُرْهانٌ يَروضُ مُجادِلاً ... يَميحُ مَعَ الأَهْواءِ حَيْثُ تَميحُ! (¬7) ¬

_ (¬1) الحجا: العقل والفطنة. لموح: من لمح البرق والنجم؛ أي: لمع. (¬2) الكفيح: الكفؤ والنظير. (¬3) اللقوح: الناقة الحلوب، والمعنى هنا: الرأي المنتج. (¬4) عرقوب: رجل يثربي كان يضرب به المثل في الكذب والخلف، وفيه إشارة إلى البيت: وعدت وكان الخلف منك سجية ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب (¬5) البسوس: امرأة هاجت بسببها الحرب المنسوبة إليها بين بكر وتغلب أربعين سنة، حتى ضرب بها المثل في الشؤم، يقال: "أشأم من البسوس". (¬6) تلميح إلى البيت: إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة ... سهيل أذاعت غزلها في القرائب (¬7) يميح: يمشي يتبختر.

بلغ السيل الزبى

بلغ السّيل الزّبى إذا نُصِبَتْ بَين الدِّيارِ مَنابِرٌ ... تَقوم عَلَيْها الْغُرْبُ وهِيَ تَصيحُ (¬1) تُنادي لأِسْواقٍ تَموجُ خَلاعَةً ... وشُرطِيُّها في الرَّائِدينَ مَروحُ (¬2) فَقَدْ بَلغَ السَّيْلُ الزبَى وأَظَلَّنا ... زَمانٌ بِما يُرْضي الْكِرامَ شحيحُ (¬3) وَأَصْبَحَ طَعْمُ الْمَوْتِ حُلْواً وريحُهُ ... كأنْفاسِ زَهْرٍ بالرِّياضِ يَفوحُ (¬4) ¬

_ (¬1) الغُرْب: جمع غراب، وهو طائر كبير، يسمى الأسود منه: بالحاتم، يتشاءمون به، ويسمى الأبقع: بغراب البين. ويضرب به المثل في السواد والبعد والبكور والحذر. (¬2) الشُّرْطي: بسكون الراء، وفتحُها خطأ، والجمع شُرَط، وسمّوا بذلك؛ لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها، والشَرَطُ هي العلامة. مروح: من المرح، وهو شدة الفرح والنشاط. (¬3) الزبى: جمع زبية، وهي الرابية لا يعلوها ماء، ومنه المثل: "بلغ السيل الزبى"؛ أي: اشتد الأمر حتى انتهى إلى غاية بعيدة. شحيح: البخيل والحريص، جمع شِحاح وأشحة وأشحاء. (¬4) يفوح: يتضوع وينتشر.

قافية الخاء

قافية الخاء الشيوخ والفتيات " قالها في مجلس بمصر عندما جرى الحديث في تزوج الشيوخ بالفتيات". لاتَرْجُ مِنْ غادَةٍ فَتاةٍ ... تَبْني عَلَيْها وَأَنْتَ شَيْخُ (¬1) ما كُنْتَ تَلْقاهُ مِنْ، فَتاة ... وَللِشَّبابِ الْغَريضِ شَرْخُ (¬2) فَإنْ تَمَلَّيْتَها حَصاناً ... وَصادَها مِنْ غِناكَ فَخُّ (¬3) فَدارِها والْفُؤادُ يَحْنو ... عَطْفاً، وُيمْنى يَدَيْكَ تَسْخو ¬

_ (¬1) الغادة: المرأة الناعمة اللينة. تبني عليها: تتزوج وتدخل بها. الشيخ: من استبانت فيه السنّ، وظهر عليه الشيب، وقيل: من أربعين أو خمسين أو إحدى وخمسين إلى آخر عمره، وإطلاق الشيخ على الأستاذ والعالم وكبير القوم ورئيس الصناعة إنما هو باعتبار الكبر في العلم والفضيلة والمقام، ونحو ذلك. (¬2) الغريض: الماء الذي يورد باكراً، والطبري من اللحم، وكل أبيض طري، الشرح: أول الشباب، ويقال: هو في شرح الشباب؛ أي: في ريعانه. (¬3) تمليتها: عشت معها مستمتعًا بها. الحَصان: المرأة العفيفة، جمع حُصن وحَصانات. الفخ: آلة يصاد بها.

قافية الدال

قافية الدال فضل اللغة العربية " ألقيت في حفلة افتتاح الدورة السادسة لمجمع اللغة العربية بالقاهرة" (¬1). شبيهانِ: الهِلالُ إذا تَهادى ... وَفِكْرٌ باتَ يَرْتادُ السَّدادا (¬2) بَناتُ الْفِكْرِ آبِدَةٌ وَلَوْلا ... عِنانُ الْقَوْلِ لَمْ تُسْلِسْ قِيادا (¬3) رَعى اللهُ الأَديبَ يَرومُ مَعْنىَ ... فَيُسْعِدُهُ الْبَيانُ بِما أَرادا (¬4) أُبَجلُهُ وَلَوْ لَمْ يَأوِ ظِلّاً ... بَنى الْعَيْشُ الأَنيْقُ بِهِ وَشادا فَهاتِ السَّيْفَ يَخْطُرُ في مَضاءٍ ... وَخَلّ الْغِمْدَ عِنْدَكَ والنِّجادا (¬5) ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء السابع من المجلد الثاني عشر. (¬2) الهلال: غرة القمر حين يهله الناس. تهادى: مشى مشياً غير قوي متمايلا. السداد: الرشاد، الاستقامة. (¬3) آبدة: الأمر العظيم تنفر منه وتستوحش، جمع أوابد، وأُبَّد. العِنان: سير اللجام الذي تمسك به الدابة. سلس: كان منقاداً ليناً. القياد: مصدر، وهو ما يقاد به كالمقود، ويستعمل بمعنى الطاعة والإذعان. (¬4) رعى الله: حفظ الله. (¬5) مضاء: مصدر، يقال: مضى السيف مضاء؛ أي: قطع. الغمد: جفن السيف. النجاد: حمائل السيف.

وَينْزَعُ بي إلى الآدابِ وَجْدٌ ... إذا قُلْتُ اشْتَفى بالوَصْلِ زادا (¬1) فأنسى "مَعْبَداً" و"عُرَيْبَ" دَهْراً ... ولا أَنْسى "الْبَديع" ولا "الْعِمادا" (¬2) وأَسْلو الرَّوْضَ والوَرْقاءُ تَشْدو ... بِهِ وَالْغَيْثُ حاكَ لَهُ بِجِادا (¬3) ولا أَسْلو الطُّروسَ تَدورُ فيها ... رَحَى الْبَحْثِ ابْتِكاراً وَانْتِقادا وَلَمْ أَنْضُ الْقَريحَةَ في نسَيب ... وَلا عَذْلاً شَكَوْتُ وَلا بُعادا (¬4) فما أَهْوى سِوى لُغَةٍ سَقاها ... قُرَيْشٌ مِنْ بَراعَتِهِمْ شِهادا (¬5) ¬

_ (¬1) الوجد: المحبة. اشتفى: نال الشفاء. (¬2) معبد: (... - 126 هـ) معبد بن وهب، نابغة الغناء العربي في العصر الأموي، نشأ في المدينة، ورحل إلى الشام، واتصل بأمرائها. عريب: " 181 - 277 هـ " عريب المأمونية، شاعرة ومغنية وأديبة، ولدت ببغداد، ونشأت في قصور الخلفاء العباسيين، وقربها الخليفة المأمون حتى نشبت إليه، وتوفيت بسامراء. البديع: (358 - 398 هـ) بديع الزمان أحمد بن الحسين بن يحيى الهمذاني، أحد أئمة الأدب والشعر، ولد في همذان، وتوفي في هراة مسموماً، اشتهر بمقاماته، وله ديوان شعر، ورسائل مطبوعة. العماد: (1125 - 1200 م) عماد الدين الكاتب، مؤرخ وكاتب كبير، ولد في أصفهان، وعاش وتوفي بدمشق. له مؤلفات مطبوعة. (¬3) الورقاء: الحمامة. الغيث: المطر. البجاد: كساء مخطط من أكيسة الأعراب يشتملون به، جمع بُجد. (¬4) أنضى: أهزل وأخلق وأبلى. القريحة: ملكة الشاعر يقتدر بها على نظم الشعر. النسيب: التشبيب بالمرأة. العذَل: الملامة. (¬5) الشهاد: جمع الشهْد، وهو العسل ما دام لم يعصر شمعه.

أَداروا مِنْ، سَلاسَتِها رَحيقاً ... وهَزُّوا مِنْ جَزالَتِها صِعادا (¬1) وطَوَّقَها كِتابُ اللهِ مَجْدا ... وزَادَ سَنا بَلاغَتِها اتِّقادا تَصيدُ بِسِحْرِ مَنْطِقِها قُلوباً ... تُحاذِرُ كالجَآذِرِ أَنْ تُصادا (¬2) قَنَتْ حِكَماً رَوائِعَ لَوْ أَعارَتْ ... سَناها النَّارَ لَمْ تَلِدِ الرَّمادا (¬3) سَرَتْ كالمُزْنِ يُحْيي كُلَّ أَرْضٍ ... وُيبْهِجُها وِهاداً أَوْ نِجادا (¬4) وَما للهْجَةِ الْفُصْحى فَخارٌ ... إِذا لَمْ تَمْلأِ الدُّنْيا رَشادا وراع حِلى الْفَصاحَةِ غير عُرْبٍ ... فَحَثُّوا مِنْ قَرائِحِهِمْ جِيادا (¬5) تَخوضُ بَيانهَا الْفَياضَ طَلْقاً ... وكانَتْ قَبْلَهُ تَرِدُ الثِّمادا (¬6) وكَم ضاهى "ابْنُ فارِس" وَهو يُوري ... زِنادَ الشِّعْرِ وائِلَ أو إِيَادا (¬7) ¬

_ (¬1) السلاسة: الرقة والانسجام. الرحيق: الخمر. الجزالة: الفصاحة والمتانة. الصِّعاد: واحدها الصعدة، وهي القناة المستوية. (¬2) الجآذر: جمع الجؤذر، وهو ولد البقرة الوحشية، وتشبه به الحسان لجمال عينيه. (¬3) قنت: جمعت وكسبت. (¬4) المزن: المطر أو السحاب. الوهاد: جمع الوهد: الأرض المنخفضة. النجاد: جمع نجد، وهو ما ارتفع من الأرض. (¬5) الجياد: جمع جواد، وهو الفرس. (¬6) الفيّاض: للمبالغة في الكثرة. الثماد: الماء القليل لا مادة له. (¬7) ابن فارس: (329 - 395 هـ) أحمد بن فارس القزويني، إمام في اللغة والأدب، أصله من قزوين، وتوفي بالري، قرأ عليه البديع الهمذاني، والصاحب ابن عباد، وغيرهما، له تصانيف عديدة، ومطبوعة. يوري الزند: يخرج ناره. الزناد: جمع زنْد، وهو العود الذي يقتدح به النار. وائل: قبيلة عربية، بطن من ربيعة بن نزار =

أَتاها الْعِلْمُ يَرْسُفُ في كَسادٍ ... وخَطْبُ الْعِلْمِ أنْ يَلْقى كَسادا (¬1) فَأَلْفى مِنْ مَعاجِمِها عُباباً ... غَزيرَ النَّبْعِ لا يَخْشى نَفادا (¬2) فَأَوْدَعَها نَفائِسَهُ وأَضْحى ... شِعارُ الْعِلْمِ إِعْراباً وضَادا (¬3) عَذيري مِنْ زَمانٍ ظَلَّ يَجْني ... عَلى الْفُصْحى ليُرْهِقَها فَسادا حَثا في رَوْضِها الزَّاهي قَتاماً ... وَأَنْبَتَ بَيْنَ أَزْهُرِها قَتادا (¬4) وَلَوْلا أَنَّ هذا الذِّكرَ يُتْلى ... لَرَدَّ بَياضَ غُرَّتها سَوادا (¬5) أَجالَتْ طَرْفَها في كُلِّ وادٍ ... فَلَمْ ترَ في سِوى مَصْر مَرادا (¬6) فَتِلْكَ مَعاهِدُ الْعِرْفانِ تُدْني ... إِلَيْهِمْ خَيْرَ ما يَبْغونَ زادا ¬

_ = من العدنانية، وأشهر فروعها: بكر، وتغلب. إياد: قبيلة عربية من معد بن عدنان. (¬1) يرسف: يمشي مشي المقيد. الكساد: يقال كسد الشيء: أي لم ينفق لقلّة الرّغاب. الخطب: الشأن والأمر، صغُر أو عظُم. (¬2) ألفى: وجد. العباب: معظم السيل وارتفاعه وكثرته. النفاد: الانقطاع. (¬3) الإعراب والضاد: خص الشاعر الإعراب والضاد؛ لأن الإعراب هو ميزة اللسان العربي في المركبات، والضاد ميزة اللسان العربي في المفردات. (¬4) حثا: رمى. القتام: الغبار الأسود. القتاد: شجر صلب له شوك كالإبر، وفي المثل: "من دونه خرطُ القتاد". (¬5) الذكر: القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. الغرة: بياض في جبهة الفرس، ووجه الرجل. (¬6) الطرف: العين. المَراد: مكان زياد الإبل؛ أي: اختلافها في المرعى مقبلة مدبرة، وهو المكان الذي يُذهب فيه ويجاه.

وهذا مَجْمَعٌ يَحْمي تِلاداً ... وَيبْني طارِفا يَحْكي التِّلادا (¬1) كَاَنَّ عُكاظَ عادَ بِها اشْتِياقٌ ... إلى الْفُصْحى فَكانَ لَها مَعادا (¬2) جَرى ماءُ الحَياةِ بِوَجْنتَيْها ... فَهَنَّأْنا الْيَراعَةَ والمِدادا وقُلْنا لِلْمَنابِرِ: ذَكِّرينا ... عَلِيّاً حينَ يَخْطُبُ أَوْ زِيادا (¬3) فَيَا لُغَةَ النَّبِيِّ سَقاكِ عهْدٌ ... مِنَ الإِصْلاحِ يَنْتَظِمُ الْبِلادا (¬4) فَما مِنْ حاجَةٍ لِلْعِلْمِ إِلاَّ ... يُقيمُ لَها بِحِكْمَتهِ سِدادا (¬5) يَصونُ هِدايَةَ اللهِ اعْتزازاً ... بِها وأَضاعَها قَوْمٌ عِنادا تَراءى الزَّيْغُ يَنْفُضُ مِذْرَوَيهِ ... وَيمْسَحُ عَنْ لَوَاحِظِهِ رُقادا (¬6) ¬

_ (¬1) التلاد: المال القديم. الطارف: المال الحديث المستحدث. (¬2) عكاظ: من أسواق العرب في الجاهلية، يقع بين نخلة والطائف، ويبعد عن مكة المكرمة ثلاثة أيام، كانت القبائل تجتمع فيه مدة عشرين يوماً في شهر ذي القعدة من كل سنة، ويتناشد الشعراء فيه ما نظموا من الشعر. المعاد: المرجع والمصير. (¬3) عليٌ: (23 ق هـ - 40 هـ) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رابع الخلفاء الراشدين، ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصهره، واحد الأبطال والخطباء والعلماء بالقضاء، ولد بمكة وقتل بالكوفة. زياد: (1 - 53 هـ) زياد بن أبيه، أمير من الدهاة والقادة الفاتحين، ولد في الطائف، وولاه معاوية البصرة والكوفة وسائر العراق حتى توفي. (¬4) ينتظم: يقال: انتظم اللؤلؤ: تآلف في السلك واتسق، وانتظم الأمر: استقام. (¬5) السداد: ما تسد به الحاجة. (¬6) الزيغ: الشك، والجور عن الحق. المذروان: طرفا الإليتين، واحدهما مِذرى، ويقال: جاء ينفض مذرويه؛ أي: باغياً ومهدداً.

بكاء على مجد ضائع

وَمَنْ يَصُنِ الهُدى مُلِئَتْ يَداهُ ... نَجاحاً كلَّما اسْتورى زِنادا [بكاء على مجد ضائع] " قالها في دمشق سنة 1332 هـ , حين وجد للدولة العثمانية شيئاً من الضعف، ولقنصل فرنسا أمام قناصل الدول الأوربية شيئاً من النفوذ". بَيْنَ الجَوانِحِ هِمَّة ... تَسْمو إلى أَمَدٍ بَعيدِ (¬1) نهَضَتْ كما تَبْغي الْعُلا ... وَالعَزْمُ كالسَّيْفِ الْفَريدِ (¬2) أَدْمى فُؤادِيَ أَنْ أَرى الـ ... أَقْلامَ تَرْسُفُ في قُيُودِ (¬3) وأَرى سِياسَةَ أُمَّتي ... في قَبْضَةِ الخَصْمِ الْعَنيدِ فَهَجَرْتُ قَوْماً كُنْتُ في ... أَنْظارِهِمْ بَيْتَ الْقَصيدِ (¬4) وحَسِبْتُ هذا الشَّرْقَ لَمْ ... يَبْرَحْ على عَهْدِ الرَّشيدِ (¬5) يَسَعُ الجُهود إذا تَضا ... يَقَتِ الْبِلادُ على الجُهودِ وَيَقولُ يَوْمَ أَبُثُّهُ ... بَعْضَ الأَسى: هَلْ مِنْ مَزيدِ؟ ¬

_ (¬1) الجوانح: واحدها جانحة: الأضلاع تحت الترائب مما يلي الصدرة كالضلوع مما يلي الظهر. (¬2) الفريد: الواحد والمنفرد، والسيف الفريد: أي: لا نظير له. (¬3) ترسف: تمشي مشي المقيد. (¬4) بيت القصيد: يقال: بيت القصيدة؛ أي: أنفس أبياتها، وهو مثل في النادر والغريب، وتفضيل بعض الشيء على كله. (¬5) الرشيد: هارون الرشيد، مرت ترجمته.

زجاجات المصور

فَإذا المَجالُ كَأَنَّهُ ... مِنْ ضيقِهِ خُلُقُ الوَليدِ (¬1) زجاجات المصوّر " قيلت في برلين سنة 1335 هـ ". عَذرْتُكَ إِذْ صَوَّرْتَ في نفسِكَ الهُدى ... ضَلالاً وصَوَّرْتَ الضَّلالَ رَشادا فَإِنَّ زُجاجاتِ المُصَوِّرِ تَقْلِبُ الْـ ... سَّوادَ بَيَاضاً والْبَياضَ سَوادا رثاء وزير " من قصيدة قيلت في رثاء الوزير التونسي الشيخ محمد العزيز بو عتّور سنة 1325 هـ ". كُلُّ امْرِئٍ برَسولِ الْمَوْتِ مَوْعودُ ... وكُل أُنسٍ بِذاتِ الْبَيْنِ مَحْدودُ (¬2) فَأَحْزَمُ القَومِ مَنْ يَعْنو لَخالِقِهِ ... وَعَزْمُهُ بِعُرى الطَّاعاتِ مَشْدودُ (¬3) فَلَمْ يُثَبِّطْهُ عَنْ فِعْلِ التُّقى تَرَفٌ ... وَمُورِقٌ مِنْ خَصيب الْعَيْشِ أُمْلودُ (¬4) ليْسَ المُدامَةُ في رَأْيِ الحَكيمِ سِوى ... مَرارَةٍ قاءَها في الدَّنِّ عنْقودُ (¬5) سَيَنْجلي الْيَوْمَ ما لَمْ يَدْره فِئَةٌ ... بِالأَمْسِ والزُّهْدُ في الأَحْياءَ مَعْهودُ ¬

_ (¬1) الوليد: المولود حين يولد، ويضرب بخلقه المثل في الضيق. (¬2) الأُنس: ضد الوحشة. ذات البين: العداوة والبغضاء. (¬3) يعنو: يخضع. عرى: جمع العروة: ما يوثق به ويعول عليه. (¬4) ثبط: عوّق وبطّأ. مورق: الشجر ظهر ورقه. الأملود: الناعم من الغصون. (¬5) المدامة: الخمر. قاء: ألقى من فيه. الدن: الوعاء، جمع دنان.

الوفاء بعهد الصداقة

والشَّمْسُ لا يَقْدِرُ الرَّائي مَزِيَّتَها ... إلَّا إذا غَشِيَتْ أَنْوارَها السُّودُ (¬1) الوفاء بعهد الصّداقة " سأله بعض الأدباء: كيف كانت صلتكم بالشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تونس؟ فأجابه بهذه الأبيات". أَحْبَبْتُهُ مِلْءَ الْفُؤادِ وإنَّما ... أَحْبَبْتُ مَنْ مَلأَ الوِدادُ فُؤادهُ فَظَفِرْتُ مِنْهُ بِصاحِبٍ إنْ يَدْرِ ما ... أَشْكوهُ جافى ما شَكَوْتُ رُقادَهُ (¬2) وَدَرَيْتُ مِنْهُ كما دَرى منِّي فَتىً ... عَرَفَ الوَفاءُ نِجادَهُ وَوِهادَهُ (¬3) الصّداقة والعزلة أُريدُ أَخاً كالماءِ يَجْري على الصَّفا ... نقَيّاً فَيَصْفو لي على الْقُرْبِ والْبُعْدِ (¬4) وأَرْسَلْتُ لَحْظَ الْفِكْرِ في الْقَوْمِ ناقِدًا ... وَأَوْصَيْتُهُ أَلاَّ يُبالِغَ في النَّقْدِ فَلا ضَيْرَ في وِدٍّ تَغاضَيْتَ فيهِ عَنْ ... لَوَاذَع يَأْتيها الصَّديقُ بِلا عَمْدِ (¬5) فَعادَ وَكَمْ لاقى لِساناً مَماذِقاً ... وَمِنْ خَلْفِهِ قَلْبٌ خَلِيٌّ مِنَ الوِدِّ (¬6) ¬

_ (¬1) السود: الليالي. (¬2) جافى: ضد واصل وآنس. (¬3) النجاد: جمع نجد، وهو ما ارتفع من الأرض. الوهاد: جمع الوهد: الأرض المنخفضة. (¬4) الصفا: الصخرة الصلبة الملساء. (¬5) اللواذع: لواذع الكلام: ما قرص وآلم. (¬6) مماذق: غير مخلص، يقال: مذقَ الودَّ: أي: شابه بكدر، ولم يخلصه.

خلوا عداتي

وَلَوْلا ارْتيَاحي لِلنِّضالِ عَنِ الْهُدى ... لَفتَشْتُ عَنْ وادٍ أعيشُ بهِ وَحْدي خلوا عداتي " قيلت في مصر". خَلوا عِداتي يَمْلَؤونَ بِخَيْلِهِمْ ... وَبِرَجْلِهِمْ أكمَ الثَّرى وَوِهادَهُ (¬1) لا هَمَ في الدُّنْيا إذا ظَفِرَتْ يَدي ... بِأخٍ عَشِقْتُ ذَكاءَهُ ورَشادهُ أَصْفو لهُ أَمَدَ الحَياةِ وإنْ رَمى ... سَمْعي بِقَوْلٍ خادِشٍ ما اعْتادَهُ لَسْتُ المُقاطِعَ إنْ جَفا خِلٌّ وَلَمْ ... يَكُ قَطْعُ رابِطَةِ الوِدادِ مُرادهُ الجرس " قالها في برلين سنة 1335 عقب زيارة المرحوم محمد فريد، وإسماعيل لبيب". جَرَسٌ يَصيحُ كَحاجِبٍ ... طَلْقِ اللِّسانِ مُعَرْبِدِ (¬2) حيناً يَنوحُ كَموجَعٍ ... مِنْ لَطْمَةِ المُتَعَمِّدِ والآنَ رَنَّ كَمِزْهرٍ ... جَستْهُ أَنْمُلُ مَعْبَدِ (¬3) زارَ الصَّديقُ فَهَزَّهُ ... مِنْ بَعْدِ ضَغْطَةٍ جَلْمَدِ (¬4) ¬

_ (¬1) العداة: واحده العادي وهو العدو. الأكم: جمع أكمة: التل. (¬2) المعربد، والعربيد: مؤذي نديمه في سكره، والشرير. (¬3) أنمل: جمع أنملة، وهي رأس الإِصبع. معبد: نابغة الغناء العربي، وقد مرت ترجمته. (¬4) الجلمد: الرجل الشديد الصلب.

الهدى والضلال

والوِدُّ يَسْكُنُ في الحَشا ... لَكِنْ يُحَسُّ مِنَ الْيَدِ الهُدى والضّلال كأَنَّ شُعاعَ الشَّمس يَنْسابُ في الثَّرى ... وَيَطْوي بِساطاً مَدَّهُ اللَّيْلُ أَسْوَدا سَنا حُجَّةٍ يَسْطو على قَلْبِ جاحِدٍ ... فَيَأْخُذُهُ بَعْدَ الضَّلالِ إلى الهُدى الرّياء غش صاغَ النُّحاسَ مُذَهَّباً لِيَغُرَّ مَنْ ... يَبْغي حُلِيّاً منْ صَميمِ الْعَسْجَدِ كأَخي هَوَى طاغ يُحاوِلُ سَتْرَهُ ... عَنَّا بِسَمْتِ النَّاسِكِ المُتَعَبِّدِ (¬1) [عواطف الصّداقة] " بعد هجرة الشاعر من تونس إلى دمشق سنة 1331 هـ، بعث صديقه العلامة المرحوم محمد الطاهر بن عاشور، وهو قاضي القضاة بتونس، رسالة مصدرة بالأبيات المنشورة في حاشية هذه الصفحة، وقد أجابه بالقصيدة التالية". أَيَنْعَمُ لي بالٌ وأنتَ بَعيدُ ... وأَسْلو بِطَيْفٍ والمَنامُ شَريدُ إذا أَجَّجَتْ ذِكْراكَ شَوْقي أُخْضِلَتْ ... لَعَمْري بِدمْعِ المُقْلَتَيْنِ خُدُودُ (¬2) بَعُدْتُ وآمادُ الحَياةِ كثيرَةٌ ... وَلِلأَمَدِ الأسْمى عَلَيَّ عُهودُ (¬3) ¬

_ (¬1) السمت: هيئة أهل الخير. الناسك: العابد المتزهد. (¬2) أجّج: ألهب. اخضلت: ابتلت. (¬3) آماد: جمع أمد: الغاية. نص قصيدة العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: بعدت ونفسي في لقاك تصيد ... فلم يغن عنها في الحنان قصيد وخلفت ما بين الجوانح غصة ... لها بين أحشاء الضلوع وقود =

بَعُدْتُ بِجُثْماني وَروحي رَهينَةٌ ... لَدَيْكَ وَلِلْوِد الصَّميمِ قُيُودُ (¬1) عَرَفْتُكَ إذْ زُرْتُ الوَزيرَ وَقَدْ حنا ... عَلَيَّ بِإِقْبال وأَنْتَ شَهيدُ (¬2) فَكانَ غُروبُ الشَّمْسِ فَجْرَ صَداقَةٍ ... لَها بَيْنَ أَحْناءِ الضُّلوعِ خُلودُ لَقيتُ الوِدادَ الحُرَّ في قلبِ ماجِدٍ ... وَأَصْدَقُ مَنْ يُصْفي الوِدادَ مَجيدُ ألمْ تَرْمِ في الإِصْلاح عَنْ قَوْسِ ناقِدٍ ... دَرَى كَيْفَ يُرْعى طارِفٌ وَتَليدُ (¬3) وَقُمْتَ عَلى الآدابِ تَحْمي قَديمَها ... مَخافَةَ أَنْ يَطْغى عَلَيْهِ جَديدُ ¬

_ = وأضحت أماني القرب منك ضئيلة ... ومرّ الليالي ضعفها سيزيد أتذكر إذ ودعتنا صبح ليلة ... يموج بها أنس لنا وبرود وهل كان ذا رمزاً لتوديع أنسنا ... وهل بعد هذا البين سوف يعود ألم تر هذا الدهركيف تلاعبت ... أصابعه بالدر وهو نضيد إذا ذكرو اللود شخصاً محافظاً ... تجلى لنا مرآك وهو بعيد إذا قيل من للعلم والفكر والتقى ... ذكرتك إيقاناً بأنْك فريد فقل لليالي جددي من نظامنا ... فحسبك ما قد كان فهو شديد وكتب تحتها ما يتلو: (هذه كلمات جاشت بها النفس الآن عند إرادة الكتابة إليكم، فأبثها على علاتها، وهي وإن لم يكن لها رونق البلاغة والفصاحة، فإن الود والإخاء والوجدان النفسي يترقرق في أعماقها". (¬1) الجثمان: الجسم. (¬2) الوزير: محمد العزيز بوعتور (1240 - 1325 هـ) من كبار رجال السياسة والعلم في تونس. الشهيد: الحاضر والمطلع، والبيت إشارة إلى أول لقاء بين الشاعر والعلامة ابن عاشور. (¬3) الطارف: المال الحديث المستحدث. التليد: المال القديم.

خاتم خالقي

أَتَذْكُرُ إذْ كُنّا نبُاكِرُ مَعْهَداً ... حُمَيَّاهُ عِلْمٌ والسُّقاةُ أُسودُ (¬1) أتذْكُرُ إذْ كُنّا قَرينَيْنِ عِنْدَما ... يَحينُ صُدورٌ أَوْ يَحينُ وُرودُ (¬2) فَأَيْنَ لَيَالينا وأَسْمارُها الَّتي ... تُبَلُّ بِها عِنْدَ الظِّماءِ كُبودُ لَيَالٍ قَضَيْناها بِتُونسُ لَيْتَها ... تَعودُ وَجَيْشُ الْغاصِبينَ طَريدُ (¬3) خاتم خالقي وقائِلَةٍ: ما هذِهِ الشَّامَةُ الَّتي ... أَرى أَهِيَ الْقَرْحُ الَّذي مَرَّ عَهْدُهُ (¬4) فَقُلْتُ لها: الشَّيْطانُ يَزْعُمُ أَنَّهُ ... يُوَجِّهُني أَنَّى تَوَجَّهَ قَصْدُهُ وَمَهْما رَمى الشَّيْطانُ سَهْمَ غِوَايَةٍ ... يَكيدُ عِبادَ اللهِ أَخْفَقَ كَيْدهُ وَهذا الَّذي أَبْصَرْتِ خاتَمُ خالِقي ... لِيَشْهَدَ لي ما عِشْتُ أَنِّيَ عَبْدُهُ (¬5) ¬

_ (¬1) نباكر: نأتي بكرة. المعهد: جامع الزيتونة بتونس. الحميا: شدة الغضب وأوله، يعني هنا: النشاط. ويريد بالسقاة الأسود: أساتذة المعهد، وما كان لهم من مهابة وإجلال في قلوب المتعلمين. (¬2) القرين: لدة الرجل؛ أي: الذي ولد وتربى معه. الصدور: الرجوع عن الماء. الورود: بلوغ الماء. (¬3) جيش الغاصبين: الجيش الفرنسي الذي كان يحتل تونس قبل الاستقلال. (¬4) قائلة: الضمير يعود إلى زوجة الشاعر السيدة المرحومة زينب رحيم. الشامة: علامة تخالف البدن الذي هي فيه، وأثر سواد، وهي أثر عملية جراحية أجريت للشاعر في أعلى القفا سنة 1365 هـ بالقاهرة. (¬5) خاتم: الطابع تطبع به السمة، وكذلك حَلْي للإصبع، حُفر عليه اسمه اللابس أم لا. وفي هذا البيت إشارة لقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42].

أموت مجليا

أموت مجلِّياً أَبْدى الطَّبيبُ المُسْتَشارُ نَصيحَةً ... فَوَقَفْتُ مِنْها وَقْفَةَ المُتَرَدِّدِ قال: احْمِ فِكْرَكَ أَنْ يَروضَ أَوابِداً ... وَاقْنع بِما يَبْدو على ظَهْرِ الْيَدِ (¬1) فالفِكْرُ إنْ تُبْعِدْ مَداهُ وأَنْتَ في ... هذا الضَنى لاقَيْتَ حَتْفَكَ في الْغَدِ نفسي أَبَتْ لي أَنْ تَبيتَ قَريحَتي ... وَبرَاعَتي في نومَةِ الْمُتَبَلِّدِ (¬2) وَلأَنْ أَموتُ مُجَلِّياً خَيْرٌ لَها ... مَنْ أَنْ أَعيشَ عَلى الفِراش كَمُقْعَدِ (¬3) [بين المستشفى والمسجد] " قيلت في رمضان سنة 1371 هـ ". يا نُفوساً رُبيتْ في رَشَدِ ... لا تَغُرَّنْكِ حَياةُ النَّكَدِ (¬4) سَطَعَ الإِيمانُ في الْقَلْبِ كَما ... سَطَعَتْ بَهْجَةُ هذا الْعَسْجَدِ (¬5) وإذا ما فاتَكِ الرُشْدُ فَلا ... تَفْخَري يَوْماً بِنُبْلِ الْمَشْهَدِ (¬6) عَثَرَتْ بي هِمَمُ الدُّنْيا كما ... عَثَرَتْ بي فَرَسٌ في جَلْمَدِ (¬7) ¬

_ (¬1) الأوابد: جمع الآبدة، وهي القافية الشاردة، والأمر العظيم تنفر منه وتستوحش. ويريد بما يبدو على ظهر اليد: الأفكار السطحية. (¬2) القريحة: ملكة يقتدر بها على استنباط العلم والشعر بجودة الطبع. اليراعة: القلم. (¬3) المجلِّي: السابق في الحلبة. (¬4) الرشد: الهداية. النكد: الشؤم والعسر وقلة الخير. (¬5) العسجد: الذهب، وقيل: الجوهر كله؛ كالدر والياقوت. (¬6) المشهد: محضر القوم ومجتمعه، جمع مشاهد. (¬7) الجَلمد: الصخر.

لَسْتُ أَدْري أفؤادي عامِرٌ ... أَمْ خَلِيٌّ مِنْ خِصالِ السُّؤْدُدِ وَأَذاقَتْني اللَّيالي كَدَراً ... بَعْدَ ما احْلَوْلَتْ بِعَيْشٍ رَغِدِ صَرَعَتْني غَمْرَة ما حَلَّ بي ... مِثْلُها عُسْراً وَطولَ أَمَد خَفَقَتْ في الرَّأْسِ روح فَجْأَةً ... وهَوَى في الأَرْضِ حُرُّ الْجَسَدِ وَلِساني نسَيَ الْقَوْلَ وَفي ... أَرْجُلي قَيْدٌ كَقَيْدِ الْمُقْعَدِ فَحَسبْتُ الأَجَلَ المَحْتومَ لَمْ ... يَتَأَخَّرْ وَأَتَى في الْمَوْعِد بادَرَ المُسْعِفُ يُزْجي مَرْكَباً ... مَدَّ جِسْمي فيهِ مَدَّ المُلْحَدِ (¬1) رامَ بي الْقَصْرَ وآلقى فِتْيَةً ... وَرَدوا في الطِّبِّ أَصْفى مَوْرِدِ (¬2) نَقَروا الصَّدْرَ وجَسُّوا مَنْبَضاً ... وَانْقِراضُ الْعُمْرِ يُدْرى باليَدِ (¬3) وَاسْتَبانوا أَنَّ رَبَّ الْعَرْشِ قَدْ ... كَتَبَ الْمَحْيَا بِنابِ الأَسَدِ (¬4) عُدْتُ لِلدَّارِ الَّتي فارَقْتُها ... في مَساءِ الأَمْسِ مِنْ صُبْحِ غَدِ وَتَوَلاَّني أُساةٌ ها أَنا ... ذا أُلاقي يَوْمَهُمْ في أَسْعَدِ (¬5) وَصَفوا الدَّاءَ وَقالوا: طِبُّهُ ... مَطْعَم مُرٌّ وَوَخْزُ الْعَضُد ¬

_ (¬1) المسعف: الممرّض. يزجى: يدفع. المركب: طاولة ذات عجلات يوضع عليها المريض. المُلْحَد: القبر. (¬2) رام: أراد. القصر: مستشفى القصر العيني في القاهرة. (¬3) المنبض: منبض القلب حيث تراه ينبض. الانقراض: الهلاك. (¬4) المحيا: الحياة، قال تعالى:: {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية: 21]. (¬5) الأساة: جمع الآسي، وهو الطبيب.

ما رقمت يدي

كَمْ طَبيبٍ أَمَّهُ المَرْضى فَعا ... دوا بِلَيْلٍ مِثْلِ لَيْلِ الأَرْمَدِ (¬1) لَيْتَهُ يَفْقَهُ سِرّاً مُودَعًا ... في جَنى النَّحْلِ وَريقِ الأَسْوَدِ (¬2) وَاذا المَرْءُ اشْتَفى مِنْ عِلَّةٍ ... فَبِفَضْلِ الأَزَلِيِّ الصَّمَدِ قَوَّمَ الجِسْمَ بِمُسْتَشْفىً كما ... قُومَتْ أَفْكارُهُ بالمَسْجِدِ ما رقمت يدي غَلا في امْتِداحي مُلْهَجٌ بِمَحَبتي ... وأَسْرَفَ في ذمي المُصِرُّ على حقدِ (¬3) يَدُسُّ أَخو الحِقْدِ المَزايا وَرُبَّما ... طَلاها بأَصْباغِ الذُّنوبِ عَلى عَمْدِ وَلِلْحِبِّ عَيْنٌ أَبْتَني الْبَيْتَ مِنْ حَصىً ... فَتُبْصِرُهُ درا على الْقُرْبِ والبُعْدِ (¬4) رُوَيْدَكَ زِنْ بِالْقِسْطِ ما رَقَمَتْ يَدي ... عَلى وَرَقٍ تَخْبُرْ حَقيقَةَ ما عِنْدي (¬5) سائل في زورق عَهِدْتُ الذي يَسْعى عَلَى مَتْنِ زَوْرَقٍ ... إلى الرزْقِ يُدْلي نَحْوَه شَرَك الصَّيْدِ (¬6) ¬

_ (¬1) أمَّ: قصد. الأرمد: ما كان على لون الرماد. (¬2) جنى النحل: العسل. الأسود: العظيم من الحيات وفيه سواد، جمع أساود. (¬3) غلا: تصلب وشدد حتى جاوز الحد. ملهج: يقال ألهِج بالشيء: أي: أولع به، ولزمه. (¬4) الحِبّ: المحب. (¬5) رقمت: كتبت. تخبر: تعلم. (¬6) قال البيتين عندما وقع بصره على زورق يطوف به على جوانب السفينة التي أقلته من تونس إلى الإسكندرية سائل مقعد. انظر: كتاب "الرحلات" للإمام.

حسن العهد

وَذَا قانِصٌ في اليَمِّ يَرْمي إلى العُلا ... حُبالةَ أَقوالٍ فَتَظْفَرُ بِالقَصْدِ [حسن العهد] " بعث إليه صديقه الأديب الشيخ علي النيفر من تونس بالقصيدة المنشورة في الحاشية، وقد أجابه عليها بهذه الأبيات". رَعى اللهُ حُسْنَ الْعَهْدِ هَزَّ قَريحَةً ... فَأَلْقَتْ عَلَينا مِنْ حَلاها فَرائِدا (¬1) وَما الْكَلِمُ الْفُصْحى سِوى دُرَرٍ إذا ... تَلاقَتْ على الْقِرْطاسِ صارَتْ قَلاِئدا (¬2) ¬

_ (¬1) رعى: حفظ. الحلي: ما يزين به من مصنوع المعدنيات أو الحجارة الكريمة. الفرائد: جمع الفريدة: الجوهرة النفيسة. (¬2) الكلم: جمع الكلمة. القرطاس: الصحيفة التي يكتب فيها. القلائد: جمع القلادة: ما جعل في العنق من الحلي. وقلائد الشعر: البواقي على الدهر؛ أي: التي لا تزال محفوظة لا تنسى لنفاستها. * نشرت في مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الثاني والعشرين. نص قصيدة الأستاذ علي النيفر: أزج القوافي شرّداً وأوابدا ... لحمى يعج مكارماً ومحامدا وانخْ كرائمها لديه فساحُه ... ترعى القصيد ولا ترد القاصدا غيلُ الأعارب ملتقى أبطالهم ... وربيع مُسنتهم وحسبك رافدا حيث الرضا الخضر الحسين تخال ما ... يبديه من غرر البيان قلائدا حيث ابتنى في مصر للخضراء من ... عرفانه علماً يغيظ الحاسدا أعلى مناراً "للهداية" في مغا ... نيها فعاد به المغفل راشدا وبه "لوا الإِسلام" يخفق عاليا ... فأظل ممروراً وأدفاً صاردا قد أذكرانا منه صرح "سعادة" ... عظمى بتونس كان أعلى شائدا =

وَرُب قَصيدٍ هاجَ ذِكْرى تُثيرُ مِنْ ... تَباريحِ شَوْقٍ ما يُذيبُ الجَلامِدا (¬1) قَصيدٌ بدا مِنْ أُفْقِ أَرضِ نشأتُ في ... مِهادِ رُباها لا عَدِمْتُ الْقَصائِدا (¬2) أَبا الحَسَنِ اسْتَسْمَنْتَ ذا وَرَمٍ أَما ... تَرى عَزْمَهُ بَيْنَ الجَوانِحِ خامِدا (¬3) ¬

_ = و"الأزهر" المعمور حبَّر سفره ... حقباً وأطلع في سماه فراقدا ولكم به قد بثَّ علماً نافعاً ... نقع الغليل لمن أتاه واردا يحكي الذي أحيا به "زيتونة" الـ ... ـعرفان في علم أضاء معاهدا و"المجمع اللغوي" في مصر غدا ... فيه لما يعلي العروبة ماهدا وبحسبه أن راح يرأس "جبهة" ... لدفاع من ناوى المغارب صامدا ما زال يرأسها بعزمة أيَّدٍ ... في صحبة الأبرار يدأب ذائدا سبحان من أولاك علماً واسعاً ... وتقىَ وخلقاً مثل خيمك ماجدا يا فخر تونس يا ميمم من نأى ... عنها بمصر مهاجراً أو واردا يا أنس مغترب وموثل لاجئ ... وكفى بما شهد البرية شاهدا أهدي لكم مني تحية شائق ... لكريم خلقكم الهني مواردا ما زلت أذكرها بمصر مجالساً ... لكمُ علينا قد نثرن فرائدا أبقاك من رقاك أرفع رتبة ... وحباك في كل الأمور مراشدا وبقيت من كل الخطوب مسلَّماً ... لجميع ما ترجو وتأمل واجدا تونس 27 ذو القعدة 1368 هـ (¬1) الجلامد: جمع الجلمد، والجلمود: الصخر. (¬2) الأرض: يريد بها: تونس حيث ولد الشاعر. المهاد: الفراش والأرض. (¬3) أبا الحسن: الشيخ علي النيفر. من كبار أدباء تونس وعلمائها, ولد سنة 1318 هـ. وشب في وسط آل النيفر العلمي.

وَلا خَيْرَ فيمَن عادَ صارِمُ عَزْمِهِ ... كَهامًا وَيرْضى أَنْ يُسَمَّى المُجاهِدا (¬1) وأَطْرَيْتَ ظمْاَنَ اسْتَبانَ لِداتُهُ ... مَوارِدَ عِرْفانٍ وَضَلَّ المَوارِدا (¬2) نظًرْتَ بِعَيْنِ الوِدّ سيرَتَهُ فَما ... دَريتَ الَّذي تَدْريهِ لَوْ جِئْتَ ناقِدا حَمِدْنا سُراكُمْ يَوْمَ وافَيْتَ قادماً ... عَلى الطَّائِرِ المَيْمونِ لِلْحَجِّ قاصِدا (¬3) طَلَعْتَ عَلَيْنا وَاشْتياقي لِتونُسٍ ... يُقَلِّبُ جَمْراً بَيْنَ جَنْبَيَّ واقِدا فَأهْدَيْتَ طاقاتٍ مِنَ الأُنْس طالَما ... بَكَرْتُ لَها بَيْنَ الخَمائلِ ناشِدا (¬4) لَقيتُ بِلُقْياكَ الأَريبَ الَّذي حَكى ... بسيرته الحَسْناءِ جَدّاً وَوالِدا (¬5) ذَكَرْتُهُما عِنْدَ اللِّقاءِ، وَإِنَّما ... ذَكَرْتُ عُلوماً جَمَّةً ومَحامِدا وَلَمْ أَنْس أَنْ كانَ المُوَقَّرُ جَدُّكُمْ ... غَداةَ امْتِحاني مُسْتَشاراً وَشاهِدا (¬6) فَنَوَّهَ بي عَطْفاً وَتَنْويهُ مِثْلِهِ ... يُرَوِّجُ ذِكْراً مِثْلَ ذِكْريَ كاسِدا ¬

_ (¬1) كَهام: كليل، يقال كَهِم السيف: كلَّ. (¬2) أطريت: بالغت في المدح. لِدات: جمع لِدة: وهو الذي ولد معك وتربى. (¬3) السُّرى: سير عامة الليل. الطائر الميمون: يقال "سر على الطائر الميمون": دعاء للمسافر، ويقال: هو ميمون الطائر"؛ أي: مبارك الطلعة. (¬4) الطاقات: جمع الطاقة، وهي القدرة على الشيء. بكر: أتى بُكرة. الخمائل: جمع خميلة: الموضع الكثير الشجر. (¬5) الأريب: العاقل، والماهو، والبصير. (¬6) هو المرحوم العلامة الشيخ محمد الطيب النيفر القاضي المالكي في تونس لذلك العهد.

أنباء تونس

بِعَيْشِكَ حَدِّثْني عَنِ الْمَعْهَدِ الَّذي ... قَضَيْتُ بِهِ عَهْدَ الشَّبيبَةِ رائدا (¬1) حَظيتُ بأشْياخٍ مَلأْتُ الْفُؤادَ مِنْ ... تَجِلَّتِهِمْ لمَّا خَبِرْتُ الأَماجِدا بَيانُ أَديبٍ يَقْلِبُ اللَّيْلَ ضَحْوَةً ... وفِكْرَةُ نِحْريرٍ تَصيدُ الأَوابِدا (¬2) فَلَمْ يُرِني أَدْرى وأَنْبَلَ مِنْهُمُ ... رَحيلٌ طَوى بي أَبحُراً وَفَدافِدا (¬3) وَيَأبى قَريضي وَهْوَ ضَيْفُ حِماكَ أَنْ ... يَمُرَّ بِمَرْسَى المَهْدَوِيِّ مُحايِدا (¬4) فَلي في نقَاها جِيرةٌ كُنْتُ أَقْتَني ... طَرائِفَ مِنْ إيناسِهِمْ وَتَلائِدا (¬5) فَدَعْهُ يُحَيِّيهِمْ حِفاظاً لِعَهْدِهِمْ ... وَيأوي إلى مَغْناكَ في الطرْسِ عائِدا (¬6) القاهرة في محرم 1369 هـ أنباء تونس " قالها عندما زاره أديب قادماً من تونس". أَمُحَدّثي رُبّيتَ في الوَطَنِ الَّذي ... رُبِّيتُ تَحْتَ سَمائِهِ وَبَلَغْتُ رُشْدا ¬

_ (¬1) المعهد: جامع الزيتونة بتونس. الرائد: الرسول الذي يرسله القوم ينظر لهم مكاناً ينزلون فيه. (¬2) النحرير: الحاذق الماهر العاقل المجرب المتقن، البصير بكل شيء؛ لأنه ينحر العلم نحراً. الأوابد: جمع الآبدة، وهي القافية الشاردة. (¬3) الفدافد: جمع فدفد، وهي الفلاة. (¬4) مرسى المهدوي: بلدة في ضاحية تونس. (¬5) النقا: القطعة من الرمل. الجيرة: يعني بهم: صديقه العلامة المرحوم محمد الطاهر بن عاشور. (¬6) المغني: المنزل. الطرس: الصحيفة.

المعارف والصنائع

وَجَنَيْتَ زَهْرَ ثَقافَةٍ مِنْ رَوْضَةٍ ... كُنْتُ اجْتَنَيْتُ بَنَفْسَجاً مِنْها وَوَرْدا (¬1) هاتِ الحَديثَ فَإنّنَي أَصْبو إلى ... أَنْباءِ تُونسُ مِنْ صَميمِ الْقَلْبِ جدَّا [المعارف والصنائع (¬2)] أَيُعاتَبُ الزَّمَنُ الَّذي لا يُسْعِدُ ... وَبَنُوهُ في مَهْدِ الْبَطالَةِ هُجَّدُ (¬3) مَهْلا فَما هُوَ بالمَلومِ وَمَنْ رَمى ... سَهْمَ المَلامَةِ نَحْوَهُ فَمُفَنَّدُ (¬4) لَوْ أَفْرَغوا في وُسْعِهِ ما جَلَّ مِنْ ... عَمَلٍ لأَغْدَقَ فيهِ عَيْشٌ أَرْغَدُ (¬5) أَرَأَيْتَ كَيْفَ شَدَتْ بَلابِلُ سَعْدِهِ ... وَزَهَتْ بِبَهْجَتِها غُصونٌ مُيَّدُ (¬6) إذْ أَنفَقَ الأَسْلافُ في سُبُلِ الْعُلا ... أَقْصى الجُهودِ وَلَمْ يَفُتْهُمْ مَقْصَدُ (¬7) كُنَّا بَني الإِسْلامِ أَصْدَقَ لَهْجَةً ... وَأَصَحَّ عَهْداً بالوَفاءِ يُؤَكَّدُ ¬

_ (¬1) الروضة: جامع الزيتونة بتونس. (¬2) نشرت في العدد الحادي عشر من مجلة "السعادة العظمى" التي كان يصدرها الشاعر في تونس، وقد صدر العدد الأول منها في 16 محرم سنة 1322 هـ، حتى أغلقها المستعمر الفرنسي بعد صدور العدد الحادي والعشرين منها. وهي أول مجلة في بابها صدرت في تونس. (¬3) هجّد: جمع هاجد، وهو النائم. (¬4) الملامة: العذل. مفنّد: يقال فنّده: أي: خطّأ رأيه وضعّفه. (¬5) الوسع: الطاقة، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. أغدق: اتسع. أرغد: خصب. (¬6) ميّد: مائلة. (¬7) الأسلاف: جمع سلف، وهو كل من تقدمك من آبائك وقرابتك.

عَقَدَ التَّواخي في الدِّيانَةِ بَيْنَنا ... نَسَباً، قَرابَتُهُ أَشدُّ وَأَفْيَدُ ما سامَ ذو رَأيِ سَديدٍ مَطْلباً ... إلَّا غَدا بِيَدِ الْمَعونَةِ يُعْضَدُ (¬1) وَلَنا نُفوسٌ لَمْ تُنَطْ آمالُها ... إلَّا بِما هُو في المَعالي أَمْجِدُ تُنْضي عَزائِمَ كالسُّيوفِ صَرامَةً ... لَكِنْ لِوَفْرِ طِعانِها لا تُغْمَدُ (¬2) كُنَّا بُدورَ هِدايَةِ ما مِنْ سَنىً ... إلَّا وَمِنْ أَنْوارِها يَسْتَوقِدُ وإذا تَكامَلَ وَاسْتوى بَدْرٌ بَدا ... في أُفْقِ طَلْعَتِهِ السَّنِيةِ فَرْقدُ (¬3) كُنَّا بُحورَ مَعارِفِ ما مِنْ حِلًى ... إلَّا وَمِنْ أَغْوارِها يُتَصَيَّدُ ما صرْصَرَتْ أَقْلامُنا في مُهْرَقِ ... إلَّا رَأَيْتَ الدُّرَّ فيهِ يُنَضَّدُ (¬4) مِنْ كُلِّ مَعْنًى يَبْهَرُ الأَلْبابَ أَوْ ... نسجٍ يَقومُ لَهُ الْبَليغُ وَيَقْعُدُ وَيقومُ فينا لِلْخِطابَةِ مِصْقَعٌ ... فَتَرى بَناتَ الْفِكْرِ كَيْفَ تُوَلَّدُ (¬5) كُنَا جَلاءً للصُدورِ مِنَ الْقَذى ... وَلِواؤُنا بِيَدِ السَّعادَةِ يُعْقَدُ (¬6) ما صافَحَتْ راحاتُنا دَوْحاً ذَوى ... إلَّا وَأَيْنَعَ مِنْهُ غُصْنٌ أَغْيَدُ (¬7) ¬

_ (¬1) يعضد: ينصر ويعان. (¬2) تنضي: تسل. (¬3) السنية: الرفيعة. فرقد: نجم قريب من القطب الشمالي يهتدى به. (¬4) صر صرت: صاحت. المهرق: الصحيفة. (¬5) المصقع: البليغ ومن لا يرتج عليه في كلامه. (¬6) القذى: ما يقع في العين وفي الشراب من تبنة أو غيرها. (¬7) الدوح: جمع دوحة، وهي الشجرة العظيمة. أغيد: الناعم المتثنِّي.

وَمَنِ احْتَمى بِطِرافِنا السَّامي الذُّرا ... آوى إلى الحَرَمِ الَّذي لا يُضْهَدُ (¬1) لا يَمْتَري أَهْلُ التَّمَدُّنِ أَنَّهُمْ ... لَوْ لَمْ يَسيرُوا إثْرَنا لَمْ يَصْعَدُوا فَسَلوا مَتى شِئتمْ سَراتَهُمُ فَما ... مِنْ أُمَّة إلَّا لَنا فيها يَدُ (¬2) لا فَخْرَ في الدُّنيا بِغَيْرِ مَجادَةٍ ... تَعْنو لَها الأُمَمُ الْعِظامُ وتَسْجُدُ (¬3) لَكِنَّنا لَمْ نَرْعَ فيها حُرْمةً ... بِذِمامِها مِنَّا الرِّقابُ تُقَلَّدُ (¬4) أَخَذَتْ مَطِيَّاتُ الهَوى تَحْدو بِنا ... في كُلِّ لاغِيَةٍ كَسَاعَةَ نُوْلَدُ (¬5) حَتَّى انْزَوى مِنْ ظِلِّها المَمْدودِ ما ... فِيهِ مُقامٌ يُسْتَطابُ ومَقْعَدُ أَبْناءَ هذا العَصْرِ هَلْ مِنْ نَهْضَةٍ ... تَشْفي غَليلاً حَرُّهُ يَتَصَعَّدُ (¬6) هذي الصَّنائِعُ ذُلِّلَتْ أَدَواتُها ... وَسَبيلُها لِلْعالَمينَ مُمَهَّدُ وَكَذاكَ بَذْرُ الْعِلْمِ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ... وَدَنا جَناهُ فَما لَنا لا نَحْصُدُ (¬7) بِهِما جَرى الْقَوْمُ الَّذينَ اسْتُضْعِفوا ... مِنْ قَبْلُ شَوْطاً في التَّقَدُّمِ يَبْعَدُ (¬8) ¬

_ (¬1) الطراف: بيت من آدم. الحرم: ما يحميه الرجل ويقاتل عنه، وما لا يحل انتهاكه. يضهد: يقهر. (¬2) السراة: جمع السري، وهو السيد الشريف السخي. (¬3) مجادة: مصدر مجد؛ أي: كان ذا مجد، وهو العز والشرف. تعنو: تخضع وتذل. (¬4) الذمام: الحق. (¬5) المطية: الدابة تمطو في سيرها. اللاغية: اللغو. (¬6) الغليل: العطش، وقيل: شدته. (¬7) الشَّطْأُ: فراخ النخل والزرع، وقيل: ورقة. الجنى: ما يجنى من الشجر. (¬8) الشوط: الغاية، أو الجري مرة إلى الغاية.

فلسطين

أَفَلا نسَيرُ مَسيرَ ذي رُشْدٍ إلى ... آثارِ ما قدْ أَسَّسوهُ وشَيَّدوا فَلَطالما حَوَتِ الغَنائِمَ جَوْلَةٌ ... مِنْ رائِدِ النَّظَرِ الَّذي لا يَخْمُدُ (¬1) إنَّ المَعارِفَ والصَّنائِعَ عُدَّة ... بابُ التَّرَقِّي مِنْ سِواها مُوصَدُ فلسطين " كان أحد الأدباء بتونس بعث ببيتين إلى الشاعر مقترحاً تشطيرهما، فأجاب اقتراحه، وهذان البيتان مع التشطير". "وَخَبّرْهُمْ وأَنْتَ بِهِمْ خَبيرٌ" ... بِما فَعَلَتْهُ جالِيَةُ الْيَهودِ (¬2) وَذَكِّرْ آلَ يَعْرُبَ أَيْنَ كانوا ... "بِأَنَّ الذُّلَّ شِنْشِنَةُ الْعَبيدِ" (¬3) "وأَنَ نُفوسَ هذا الخَلْقِ تَأْبى" ... حَياة تَحْتَ سَيْطَرَةِ المَسودِ (¬4) وإنْ خَضَعَتْ لَها فَقَدِ اسْتَحَلَّتْ ... "لِغَيْرِ إِلِهها ذُلَّ السُّجودِ" [الحياة الاجتماعية] لَيْسَ الحَياةُ نَماءَ الجِسْمِ في أَمَدِ ... ولا الحِمامُ تَواري الجِسْمِ بالنَّفَدِ (¬5) إنَّ الحَياةَ هيَ الأَيَّام زاهِرةٌ ... وَلَيسَ بالمَوْتِ غَيْرُ الْعَيْشِ في نكدِ ولا يَطيبُ الْفَتى عَيْشاً إذا نسجَتْ ... في أَرْضِهِ مُزْنةٌ والنَّاسُ في جَرَدِ (¬6) ¬

_ (¬1) الرائد: اسم فاعل: الرسول الذي يرسله القوم لينظر لهم مكاناً ينزلون فيه. (¬2) الجالية: الجماعة جلت عن أوطانها ومنازلها. (¬3) الشنشنة: الخلق، أو الطبيعة، أو العادة. (¬4) المسود: ضد السيد. (¬5) الأمد: الغاية، المنتهى: الحِمام: قضاء الموت وقدره. النفد: الفناء والذهاب. (¬6) المزنة: القطعة من السحاب. الجرد: الفضاء لا نبات فيه.

وإنما الشَعْبُ أَفْرادٌ مُؤَلَّفَةٌ ... في هَيْئَةِ الفَرْدِ ذو قَلْبٍ وذو جَسَدِ أَمّا الْفُؤادُ فأَرْبابُ السِّياسَةِ إنْ ... هَمُّوا بِخَيْرٍ فباقي الجِسْمِ في رَشَدِ وإنْ ذَكَتْ أُمَّةٌ لانَتْ قِلادَتُها ... بِكَفّ قائِدِها في السَّهْلِ والسَّنَدِ (¬1) والْعِزّ في الدَّوْلَةِ العُظْمى إذا بُنِيَتْ ... عَلى أَساسٍ مِنَ الأَحْكامِ مُطَّرِدِ ولا عَواطِفَ إلَّا أنْ تُسَوِّيَ في ... إِجْرائِها نازِحَ الأَوْطانِ بِالوَلَدِ تَحْمي حُقوقَ بَني الإنسانِ قاطِبَةً ... لا يَعْتَدي أَحَدٌ مِنْهُمْ على أَحَدِ والْعَدلُ أَنْ يَلِجوا فَصْلَ الخُصومَةِ مِنْ ... بابِ المُساواةِ لا إيثارِ ذي حَفَدِ (¬2) وكيفَ يَرْجَحُ أَقْوام وَوَزْنهمُ ... فيما يُحَدُّ به الإنسانُ لَمْ يَزِدِ إِنَّ الرَّعِيَّةَ أَعْضاء مُساعِدَة ... لِلْمُلْكِ بالرَّأْي والأَمْوالِ والحَشَدِ (¬3) تِلْكَ الْعَظائِمُ لا تَشْتَدُّ أَزْمَتُها ... وَطْئاً إذا ضَرَبوا فيها يَداً بِيَدِ (¬4) كَذا المَشاكِلُ لا تَجْلو غَوامِضَها ... إلَّا بِمَجْلِسِ شُورى راسِخِ الْعُمُدِ فَمِنْ تَصادُمِ أَفْكارِ الرِّجالِ يُرَى ... بَرْقُ الحَقيقَةِ وَضَّاحاً لِذي رَصَدِ (¬5) ¬

_ (¬1) القِلادة: ما جعل في العنق من حلي. السند: ما قابلك من الجبل وعلا عن السطح. (¬2) الحفد: جمع حافد، وهو ولد الولد. (¬3) الحشد: الجماعة، وتجمع على حشود. (¬4) العظائم: جمع عظيمة، وهي الكبيرة والنازلة الشديدة. الأزمة: الشدة والقحط، والسنة الشديدة. وطئاً: مصدر وطئ: داس بقدمه. (¬5) الرصد: القوم يرصدون؛ كالحرس والخدم.

وَنَفْثَةُ الْقَلَمِ الرَّاقي لَها أثَرٌ ... أَشَد مِنْ أثَرِ النَّفَّاثِ في الْعُقَدِ (¬1) والْقَابِضونَ على أَمْرِ السِّياسَةِ لا ... يَسُرّهُمُ أَنْ تُرى الأَقْلامُ في صَفَدِ (¬2) يَسْمو بِهِمْ شَرَف الوِجْدانِ أَنْ يَضَعوا ... نِظامَهُمْ بِمكانِ الْعِيرِ والوَتِدِ (¬3) يَسوءُهُمْ أَنْ يَرَونا نائِمينَ عَلى ... صِماخِ آذانِنا في صورَةِ الجَمَدِ (¬4) لا نستَميتُ على أرضِ الخُمولِ ولا ... نرمي بِسَهْمِ مِنَ الأقْوالِ ذي أوَدِ (¬5) ولا يَطيشُ بِنا داعي الشَّجاعَةِ عَنْ ... رَسْمِ اعْتِدالٍ فَإِنَّ الحقَّ ذو جَلَدِ ¬

_ (¬1) النفثة: ما يخرج من القلم. النفَّاث: السخار، وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]؛ أي: من شر السواحر من النساء يعقدن عقداً من الخيوط، وينفثن عليها، أو: من شر النفوس. (¬2) الصفد: الوثاق. (¬3) العير: القافلة. الوتد: مارز في الأرض أو الحائط. (¬4) الصماخ: خرق الأذن الباطن الماضي إلى الرأس. الجمد: الثلج، الماء الجامد. (¬5) الأود: الاعوجاج.

قافية الذال

قافية الذال صيانة النفس عن الملق " قالها في مصر سنة 1364 هـ ". قالوا: رَكِبْتَ بالانْقِباضِ مِطيَّةً ... أَقْصَتْكَ عَنْ عَيْشِ الثَّرِيِّ لماذا؟ (¬1) قُلْتُ: انْقِباضي أَنْ أَصونَ النَّفْسَ عَنْ ... مَلَقٍ يُعاقِرُهُ الطَّغامُ لِواذا (¬2) إِنْ يَنْتَجِعْ فِئَةٌ بهِ وَبْلاً فَخُذْ ... إِخْذَ الْكِرامِ وَلَوْ نَجَعْتَ رَذاذا (¬3) ومِنَ السَّلامَةِ أَنْ أَصونَ الْوَجْهَ عَنْ ... مَلَقِ الَّذي اتَّخَذَ النِّفاقَ مَلاذا (¬4) ¬

_ (¬1) المطية: الدابة تمطو في سيرها. الثري: الكثير المال. (¬2) الملق: اللطف الشديد. عاقر: لازم. الطغام: أوغاد الناس. لواذاً: لاذ به لواذاً: استتر به واحتصن والتجأ. (¬3) ينتجع: يطلب. الوبل: المطر الشديد. الرذاذ: المطر الضعيف. (¬4) الملاذ: الحصن والملجأ.

قافية الراء

قافية الراء حياة اللغة العربية " قيلت في تونس سنة 1326 هـ ". بَصَري يَسْبَحُ في وادي النَّظَرْ ... يَتَقَصَّى أثَراً بَعْدَ أثَرْ (¬1) وَسَبيلُ الرُّشْدِ مَمْهودٌ لِمَنْ ... يَتَحامَى الْغُمْضَ ما اسْطاعَ السَّهَرْ (¬2) إنِّما الْكَونُ سجِلٌّ رُسِمَتْ ... فيهِ للأَفْكارِ آيٌ وَعِبَرْ (¬3) وإذا أَرْخى الدُّجى أَسْتارَهُ ... ظَفِرَ السَّمْعُ بِما فاتَ البَصَرْ لَسْتُ أَنْسى جُنْحَ لَيْلٍ خَفَقَتْ ... فيهِ بِالأَحْشاءِ أَنْفاسُ الضَّجَرْ قُمْتُ أَيسْعى لِتَقاضي سَلْوَةٍ ... وَمَطايا السَّعْيِ مِرْقاةُ الوَطَرْ (¬4) لَجَّ بي التَّسْهيدُ حتى أَوْشَكَتْ ... غُزَةُ الإصْباحِ أَنْ تَغْشى السَّحَرْ حَبَّذا ريحُ الصبا ريحاً جَرَتْ ... بِحَسيسٍ مِنْ أحاديثِ السَّمَرْ (¬5) ¬

_ (¬1) تقصى: بالغ في البحث. (¬2) الغُمض، والغِماض: النوم. اسطاع: استطاع. (¬3) آي: جمع آية، وهي العلامة. (¬4) المرقاة: الدرجة. الوطر: الحاجة. (¬5) الصبا: ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. الحسيس: الصوت الخفي، قال تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102].

فَحَدَتْ بي نَحْوَ نادٍ نَشَبوا ... في لِحاءٍ ولَجاجٍ مُنتشِرْ (¬1) وإذا الخَصْمانِ لَمْ يَهْتَدِيَا ... سُنَّةَ الْبَحْثِ عَنِ الحقِّ غَبَرْ (¬2) هذِهِ طائِفَةٌ تَشْدو بِما ... في لِسانِ الْعُرْبِ مِنْ فَضْلٍ ظَهَرْ وَجَفَتْهُ فِئَةٌ فاهْتَضَمُوا ... حَقَّهُ والجَهْلُ مَدْعاةُ الهَذَرْ (¬3) وتَراضَوْا بَعْدَ ذا أَنْ نَصَبوا ... حَكَمًا بَيْنَهُمُ فيما شَجَرْ (¬4) أَبْدع الْقَوْلَ وَقَدْ أَسْعَدَهُ ... لَهْجَةٌ فُصْحى وَجَأْشٌ مُسْتَقِرٌ (¬5) لُغَةٌ أُودع في أَصْدافِها ... مِنْ قَوانينِ الْهُدى أَبْهى دُرَرْ أَفَلَمْ يَنْسُجْ عَلى مِنْوالِها ... كَلِمُ التَّنْزيلِ في أسْمى سُوَرْ (¬6) لُغَةٌ تَقْطِفُ مِنْ أَغْصانِها ... زَهْرَ آدابٍ وأَخْلاق غُرَرْ هِيَ بَحْرٌ غُصْ على حِلْيتها ... فَلآلي الْبَحْرِ لَيْسَتْ تَنْحَصِرْ ضَرَبَتْ في كُلّ فَنٍّ ساحِرٍ ... مِنْ فُنونِ الْقَوْلِ بالسَّهْمِ الأَغَرْ (¬7) أَفَما أَحْسَسْتَ في أَجْراسِها ... رِقَّةً تُذْهِلُ عَنْ نَغْمِ الوَتَرْ ¬

_ (¬1) نشب: علق. اللِّحاء: النزاع. اللجاج: التمادي في العناد. (¬2) سنّة البحث: طريقته. غير: ذهب. (¬3) الهذر: سقط الكلام الذي لا يُعبأ به. (¬4) الحكم: الحاكم ومنفذ الحكم. شجر بينهم الأمر: تنازعوا فيه. (¬5) الجأش: رواع القلب إذا اضطرب عند الفزع. (¬6) المنوال: النسق والأسلوب. كلم التنزيل: كلام القرآن. (¬7) الأغر: الحسن.

وَرَقيقُ اللفْظِ يَسْري في الحَشا ... ما سَرَتْ نظرَةُ ظَبْيِ ذي حَوَرْ (¬1) لَفْظُها الجَزْلُ لهُ وَقْعٌ كَما ... يَقَعُ السَّيْفُ إذا السَّيْفُ خَطَرْ (¬2) وابْنُها المِنْطيقُ إِنْ زُجَّ بِه ... في مَجالِ الْقَوْلِ جَلّى وَبَهَرْ (¬3) يُبْرِزُ المَعْنى مَتى شاءَ على ... صُوَرِ شَأْنَ الْغَنِيِّ الْمُقْتَدِرْ ثُمَّ لا يُعْجِزُهُ السَّيْرُ على ... طَرْزِها في كُل مَعْنىً مُبْتَكَرْ (¬4) فاسْألِ التَّاريخَ يُنْبِئْكَ بِما ... أَنْجَبَتْ أَرْضُ قُرَيْشِ وَمُضَرْ (¬5) مِنْ خَطيبِ مِصْقَعٍ أوْ شاعِرٍ ... مُفْلِقِ يَسْحَبُ أَذْيالَ الفَخَرْ (¬6) ضَلَّ قَوْمٌ سَلَكوا في حِفْظِها ... سَبَباً أَوْهَنَ مِنْ حَبْلِ القَمَرْ (¬7) ¬

_ (¬1) الظبي: الغزال للذكر والأنثى. حور العين: اشتداد بياض بياضها وسواد سوادها. (¬2) الجزل: خلاف الركيك من الألفاظ. (¬3) المنطيق: البليغ. زج به: رمى به. جلّى: كشف. (¬4) الطرز: الهيئة. (¬5) قريش: قبيلة عربية نزلت مكة المكرمة في العصر الجاهلي، فتحضرت، ومنها كبار تجار القوافل بين جنوبي الجزيرة العربية إلى شمالها. ومن أهم فروعها: أمية ونوفل ومخزوم وهاشم وعدي. مضر: مضر بن نزار الجد الأعلى لفريق من القبائل العدنانية. (¬6) المصقع: البليغ، ومن لا يرتج عليه في كلامه. الشاعر المفلق: الذي يأتي بالعجائب في شعره. (¬7) السبب: الطريق. أوهن: أضعف.

كذلك كان في الدنيا علي

ألقِمَتْ في نُطْقِ قَوْمي أَحْرُفاً ... مِنْ لُغًى أُخْرى فَأَضناها الخَدَرْ (¬1) بَعْضُ مَنْ لَمْ يَفْقَهوا أَسْرارَها ... قَذَفوها بِمَوَات مُسْتَمِرْ (¬2) نفُروا مِنْها لِواذاً، وإذا ... جَفَّ طَبع المَرْءِ لَمْ تُغْنِ النُّذُرْ (¬3) ما زَكا تُفَّاحُ لُبْنانَ عَلى ... حَسَكِ السَّعْدانِ في ذَوْق مَذرْ (¬4) واسْتوى في نَظَرِ الأَعْشى ضُحىً ... زَهْرُ رَوْضٍ وَهَشيمُ المَحْتَظِرْ (¬5) [كذلك كان في الدنيا عليٌّ] " أقامت جمعية الهداية الإِسلامية بالقاهرة حفلة تأبين للمرحوم الأستاذ علي محفوظ الوكيل الأول للجمعية، وذلك يوم الخميس 15 محرم 1362 هـ , وقد افتتح الشاعر الحفلة بكلمة صدرت بها هذه الأبيات". هُما السَّهْمانِ يَشْتَبِهانِ مَرْمَى ... وَما كُلُّ السِّهامِ يَصيدُ عُمْرا وَما سَهْمُ المَنونِ كَسَهْمِ قَوْسٍ ... إذا جَرَيا إلى الأَهْدافِ قَسْرا (¬6) ¬

_ (¬1) ألقم الطعام: أكله سريعاً. لغى: جمع لغة. الخدر: الكسل والفتور. (¬2) الموات: ما لا روح فيه. (¬3) لواذاً: لاذ به لواذاً: استتر به واحتصن والتجأ. النذر: أنذر بالأمر نذراً: أعلمه وحذره من عواقبه قبل حلوله. (¬4) زكا: نما وزاد. حسك السعدان: نبت من أفضل مراعي الإبل، له شوك تشبه به حلمة الثدي، فيقال له: السعدانة. المنذر: الفاسد والخبيث. (¬5) الأعشى: الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار. الهشيم: النبات اليابس المتكسر. المحتظر: قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 31]؛ أي: أنهم قد بادوا وهلكوا، فصاروا كيبيس الشجر إذا تحطم. (¬6) المنون: الموت. قسر: أكره وقهر.

تشطير بيتين

فَسَهْمُ الْقَوْسِ كالْعَشْواءِ يَعْدو ... فَيُخْطِئُ مَرةً وُيصيبُ أُخْرى (¬1) وَلا تَرْمي المَنونُ بِغَيْرِ سَهْمٍ ... يَهُبُّ بِنَصْلِهِ وُيصيبُ نَحْرا (¬2) وأَحْزَمُ مَنْ رَأَتْ عَيْني أَريبٌ ... يُقَدمُ قَبْلَ أَنْ يَغْشاهُ ذُخْرا (¬3) ولا مِثْلَ امْرئٍ يَدْعو بِجِدٍّ ... إلى طُرُق السَّعادَةِ مُسْتَمِرّا تَلينُ بِهِ قُلوبٌ لَوْ مَدَدْتَ الـ ... ـبنَانَ يَجُسُّها لَلَمَسْتَ صَخْرا (¬4) يُذَكِّرُنا بِمَنْطِقِهِ وتُهْدي ... لَنا أَقْلامُهُ عِظَةً وَذِكْرى كَذلِكَ كانَ في الدُّنْيا عِليٌّ ... وَعاقِبَةُ التُّقى رُحْمى وبُشرى (¬5) تشطير بيتين " تشطير بيتين لأحد أدباء العراق، وها هما ذان مع التشطير". (سَيِّدَ الرُّسْلِ وَمَنْ بِعْثتهُ) ... سَطَعَتْ فانْقَلَبَ اللَّيْلُ نَهارا سُلِبَتْ أُمَّتُكَ الْعِز وَكَمْ ... (كَسَتِ الْكَوْنَ بَهاءً وَفَخارا) (قُمْ إلى النُورِ الَّذي جِئْتَ بهِ) ... والوَرى في غَسَقِ الجَهْلِ حَيَارى (¬6) تَلْقَ نارَ الْغَيِّ تَسْطو حَوْلَهُ ... (أَفَتَرْضى أَنْ يَصيرَ النُّورُ نارا) ¬

_ (¬1) العشواء: الناقة التي لا تبصر أمامها. (¬2) النصل: حديدة السهم. النحر: أعلى الصدر. (¬3) الأريب: الماهر البصير. الذخر: ما أعددته لوقت الحاجة إليه. (¬4) البنان: أطراف الأصابع، الواحدة بنانة. يجس الشيء: يمسه ليتعرفه. (¬5) العاقبة: آخر كل شيء، والجزاء بالخير. (¬6) الورى: الخَلْق. الغسق: دخول أول الليل حين يختلط الظلام.

حادي السفينة

حادي السّفينة حادِي سَفِينَتِنا اطْرَحْ مِنْ حُمولَتِها ... زادَ الوقودِ فَما في طَرْحِهِ خَطَرُ (¬1) وَخُذْ إذا خَمَدَتْ أَنْفاسُ مِرْجَلِها ... مِنْ لَوْعَةِ الْبَيْنِ مِقْباساً فَتَسْتَعِرُ [ابتغ العزة للشرق] " قيلت في عهد رياسة الشاعر لمشيخة الأزهر بالقاهرة". لا تُسامَى كُلَّما خُضْتَ غِمارا ... وإذا رُضْتَ جَواداً لا يُجارى (¬2) هاتِ مِنْ عَزْمِكَ ما تَرْقى بِه ... أُمَّةٌ هِيضَتْ جَناحاً وفَقارا (¬3) إِنْ يَصِحَّ الْعَزْمُ مِنْ قَوْمٍ فَلا ... يَلْتَقي شانِئُهُمْ إلَّا تَبارا (¬4) فَابْتَغِ العِزَّةَ لِلشَّرْقِ ولا ... تَرْجُ بِالبُغْيَةِ جاهاً أَوْ نُضارا (¬5) وَلِقاءُ المَوْتِ في ذَوْدِكَ عَنْ ... ساحِهِ يُكْسِبُ ذِكْراكَ فَخارا وبُغاةٌ فَتَحوا في صَفِّنا ... ثُغْرَةً أَنْ نبدِلَ الْعَطْفَ نِفارا (¬6) ¬

_ (¬1) أبيات قالها عند ميناء تونس سنة 1330 هـ، وقد أخذ الحنو إلى الوطن يتزايد. (¬2) تُسامى: تُبارى. الغِمار: جمع الغمر، وهو الماء الكثير، ومعظم البحر. راض الجواد: ذلَّلَه، وجعله مسخراً مطيعاً، وعلمه السير. (¬3) هيضت: كُسرت. الفَقَار: جمع الفقارة: الخرزة من خرزات الظهر. (¬4) الشانئ: المبغض. التبار: الهلاك. قال تعالى: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28]؛ أي: هلاكاً. (¬5) البغية: الحاجة. النضار: الذهب والفضة، والجوهر الخالص من التبر. (¬6) بغاة: جمع باغٍ وهو الظالم. النِّفار: الجُزع والتباعد.

حَسْبُنا ما فَتَّ في أَعْضادِنا ... مِنْ سُمومِ الْبَيْنِ بَثُّوها ضِرارا (¬1) سَلَبونا الرَّأْيَ حَتى أَصْبَحَتْ ... أَوْجُهُ الحُكْمِ مِنَ الشُّورى قِفارا (¬2) نَنْطِقُ الحَقَّ صُراحاً مَرةً ... فَنَرى هُجْراً مِنَ الْقَوْلِ مِرارا لا يَطيبُ الْعَيْشُ حَتى تَنْثَني ... خَيْلُهُمْ عَنْ مَطْلَعِ الشَّمْس عِثارا (¬3) فاسْأَلِ المَغْرِبَ كَيْفَ امْتَلَكوا ... بَعْدَ الاسْتِعمارِ زَرْعاً وعَقارا أَبْرَموا الْعَهْدَ وَلَمْ يُوفوا عَلى ... أَنَّهُمْ لاقَوْا كِراماً وخِيارا (¬4) وَرَعَيْنا مِنْهُمُ الْجارَ ولَو ... أَنْصَفونا حَمِدوا مِنَّا الجِوارا سَبقونا بِفُنونٍ وَعَلَتْ ... يَدهمْ في الحُكْمِ قَسْراً لا اخْتِيارا (¬5) وخِداعٌ حينَ وَلوا حَكَماً ... مُسْتَبِدّاً ودَعَوْهُ مُسْتَشارا أَنْشَؤوا فينا رِياضًا لَيْتَنا ... نَجْتَني مِنْ ناعِمِ الْغُصْنِ ثِمارا وَأَباحوا الشَّيْصَ مِنْ عَذْقٍ ذَوَى ... لِفَتىً فاقَ ذَكاءً وَوَقارا (¬6) ¬

_ (¬1) بثَّ: نشر وأذاع. (¬2) الشورى: اسم بمعنى التشاور. (¬3) عثاراً: يقال: عَثَر الفرس: زلَّ وكبا. (¬4) الخِيار: جمع الخير. (¬5) القسر: القهر والإكراه. (¬6) الشيص: تمر لا يشتد نواه، وقيل: حمل النخلة الذي لا نوى له، وهو رديء مذموم. العذق: النخلة بحملها.

وضَعوا للدَّرْسِ مِنْهاجاً وَلَمْ ... يَكُ في المِنْهاجِ ما يَشْفي الأُوارا (¬1) شَذَّ مِنّا فِئةٌ ساروا على ... أثَرِ المِنْهاج فارْتَدُّوا حَيَارى (¬2) مَدَّ هذا الشَّرْقُ باعاً واسْتَوى ... وأتى الْغَرْبَ فأَضناهُ وَجارا (¬3) كادَ يَنْسى الْمَجْدَ لَوْلا فِتْيَةٌ ... أَصْبَحوا مِنْ نشوَةِ الْعِلْمِ سُكارى بَحَثوا في مَكْمَنِ الْعِلْمِ وَلَمْ ... يَدَعوا مِنْه جِبالاً أَوْ بِحارا وَعَلَتْ أَعْناقُنا بَعْدُ فَيا ... طَالَما ظَلَّتْ مِنَ الْعَسْفِ قِصارا (¬4) وَشُعورٌ كَشُعاعِ الشَّمْسِ إنْ ... جالَ في أَرْضٍ يَميناً ويَسارا مَلأَ اللهُ بِهِ أَفْئِدَةً ... فَدَرَتْ كَيْفَ يَخونونَ الذِّمارا (¬5) ما عَلَيْنا لَوْ تَمادَوا في الْوَغى ... أَوْ أَرَوْنا مِنْ رَحى الحَرْبِ قَرارا (¬6) وَلَدى قَوْمي قَناً مُرْهَفَة ... وإذا رامُوا صُعوداً فَمَطارا (¬7) ¬

_ (¬1) المنهاج: الطريق الواضح. الأوار: حر النار والشمس. (¬2) شذ عن الجماعة: ندر عنهم وانفرد. حيارى: جمع حيران: الذي لم يدر وجه الصواب. (¬3) أضنى: أثقل. جارَ: ظلَم. (¬4) العسف: الظلم. (¬5) الأفئدة: جمع فؤاد، وهو القلب. الذمار: كل ما يلزمك حمايته وحفظه والدفاع عنه. (¬6) الوغى: الصوت والجلبة، والحرب لما فيها من الصوت والجلبة، رحى الحرب: حومتها. (¬7) القنا: جمع القناة: الرمح. مرهفة: المرققة الحد.

مناجاة الفكر

ونُفوسٌ سَئِمَتْ مِنْ تَرَفٍ ... وَتَعَشَّقْنَ الْقَتامَ المُسْتَثارا (¬1) لا رَعى اللهُ عُهوداً قَدْ كَسَتْ ... بِلَظى الضَّيْمِ صِغاراً وكِبارا (¬2) حاوَلوا أَنْ يَهْبِطَ الأَزْهَرُ مِنْ ... شاهِقٍ إذْ كانَ للدُّنْيا مَنارا تَنْبُعُ الحِكْمَةُ مِنْ صَدْرِ فَتىً ... لَبِسَ الرُّشْدَ شِعاراً وَدِثارا (¬3) مِنْ يَدٍ تُحْسِنُ صُنْعاً وحِجاً ... يَسْتَدِرُّ الْفِكْرَ لَيْلاً ونَهارا مناجاة الفكر أَسْهرُ اللَّيْلَ وَإنْ طالَ وَمَنْ ... يَعْشَقِ المَجْدَ يَلَذَّ السَّهَرا لَسْتُ مِمَّنْ يَفْقِدُ الأُنْسَ إذا ... أَصْبَحَ الرَّوْضُ كَئيباً أَغْبَرا (¬4) لَسْتُ آسى إِنْ مَضى لَيْلٌ وَما ... صاحِبٌ زارَ ولا طَيْفٌ سَرى (¬5) هُوَ ذا الْفِكْرُ يُناجيني مَتى ... رُمْتُ أُنْساً ضَحْوَةً أَوْ سَحَرا (¬6) يَتَسامى بي إلى أُفْقٍ أَرى ... في مَعالِيهِ السُّها والْقَمَرا (¬7) ¬

_ (¬1) القَتام: الغبار الأسود. (¬2) الضيم: الظلم جمع ضُيوم. (¬3) الشعار: ما تحت الدثار من اللباس، وهو ما يلي شعر الجسد. الدثار: الثوب الذي فوق الشعار. (¬4) أغبر: ما لونه الغبرة. (¬5) الطيف: الخيال الطائف في المنام. سرى: سار عامة الليل. (¬6) الضحوة: ارتفاع النهار بعد طلوع الشمس. السحر: قبيل الصبح. (¬7) السها: كوكب خفي من بنات نعش الصغرى.

على لسان قلم ناضل عن حق

لي يَراعٌ كُلَّما اسْتَهْدَيْتُهُ ... جَالَ في الطِّرسِ وَأَهْدى دُرَرا (¬1) فَلْيَكُنْ في النَّاسِ بُخْلٌ إِننَّي ... لَسْتُ مِمَّنْ يَشْتَكي بُخْلَ الوَرى (¬2) على لسان قلم ناضل عن حق " قيلت هذه الأبيات على لسان القلم الذي كان آخر أقلام استعملها الشاعر في الرد على كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين، وقد أهديت بقية القلم إلى خزانة المرحوم أحمد تيمور بالقاهرة". سَفَكَتْ دَمي في الطِّرْسِ أَنْمُلُ كاتِبٍ ... وَطَوَتْنِيَ المِبْراةُ إلَّا ما تَرى (¬3) ناضَلْتُ عَنْ حَقِّ يُحاوِلُ ذُو هَوًى ... تَصْويرَهُ للنَّاسِ شَيْئاً مُنْكَرا (¬4) لا تَضْرِبوا وَجْهَ الثَّرى بِبَقِيَّةٍ ... مِنَّي كما تُرْمى النَّواةُ وتُزْدَرَى (¬5) فَخِزانَةُ الأُسْتاذِ تَيْمورَ ازْدَهَتْ ... بِحِلًى مِنَ الْعِرْفانِ تُبْهِرُ مَنْظَرا (¬6) فأَنا الشَّهيدُ وَتلْكَ جَنَّاتُ الهُدى ... لا أَبْتَغي بِسِوى ذُراها مَظْهَرا (¬7) ¬

_ (¬1) اليراع: القصب، الواحدة يراعة، ويقصد بها: القلم. الطرس: الصحيفة، جمع أطراس وطروس (¬2) الورى: الخلق. (¬3) سفكت: صبّت. الطرس: الصحيفة. المبراة: السكين يبرى به القلم. (¬4) الهوى: العشق يكون في الخير والشر، ويقال: فلان من أهل الأهواء: أي: ممن زاغ عن الطريقة المثلى. المنكر: ما ليس فيه رضا الله. (¬5) الثرى: الأرض. النواة: عجمة التمر ونحوه؛ أي: حبه، أو بزره، جمع نوى ونويات. تزدرى: تُحتقر ويستخف بها. (¬6) تيمور: أحمد تيمور الكاتب والمؤرخ المعروف، وقد مرت ترجمته. (¬7) الشهيد: القتيل في سبيل الله. الذرى: جمع ذروة، والذروة من الشيء: أعلاه.

أنت بدر الضحى

أنت بدر الضّحى " قالها بمناسبة مجلسى ذكر فيه الفن المعروف في البديع باسم: "المراجعة"، والمراجعة: أن يحكي المتكلم مراجعة في القول، ومحاورة في الحديث بينه وبين غيره بأوجز عبارة، وأرشق سبك، وأسهل لفظ في بيت أو أبيات". وَعَدَ الخِلُّ أَنْ يَزورَ بِلَيْلٍ ... قُلْتُ: دَعْ لِلنَّهارِ هذا المَزارا (¬1) قالَ: إِنَّي أَخو الْبُدورِ وَمَنْ ذا ... يَتَمَلَّى أُنْسَ الْبُدورِ نَهارا قَلْتُ: لِلْقَلْبِ مُقْلَةٌ لا تَرَى إنْ ... زُرْتَ إِلَّا بَهاجَةً وازْدَهارا (¬2) أَنْتَ بَدْرُ الضُّحى فَإنْ غِبْتَ عُدْنا ... في ظَلامٍ والشَّمْسُ لَمْ تتَوارى (¬3) قالَ: هذا شِعْرٌ فَهاتِ قياساً ... يَتَحَنّى "أَرِسْطُ" منْهُ انْبِهارا (¬4) قُلْتُ: بَدْرٌ طِلاعُهُ الأُنْسُ أَنَّى ... لاحَ في رَوْنقِ الضُّحى لا يُبارى (¬5) شهر صوم وجهاد " أبيات ختم بها حديث رمضان المنشور في جريدة الأهرام بالقاهرة سنة 1365 هـ ". شَهْرُ صَوْمٍ وَجِهادٍ والْفَتى ... إنْ رَمى عَنْ قَوْسِ رُشْدٍ لا يُبارى ¬

_ (¬1) الخل: الصديق. المزار: الزيارة، أو موضعها. (¬2) بهاجة: بَهُج بهاجة: حَسُن. (¬3) الضحى: حين تشرق الشمس. تتوارى: تستتر. (¬4) تحنى: تعطف. أرسطو: مرت ترجمته. الانبهار: انقطاع النفس من الإعياء. (¬5) الطلاع من الشيء: ملؤه. يبارى: يقال: بارى فلاناً: عارضه.

قاذفات القنابل

أَنِّبِ النَّفْسِ إذا هَمَّتْ بِأَنْ ... تَقْضِيَ اليَوْمَ كما يَقْضي السُّكارى إِنَّما الحازِمُ مَنْ صامَ وَلَوْ ... لَمَحَ الْعِزَّةَ في النَّجْمِ لَطارا هِمَمٌ يَخْتَطُّها الْفِكْرُ دُجًى ... وَيَدُ الإصْلاحِ تَبْنيها نَهارا قاذفات القنابل وَلَقدْ ذَكَرْتُكِ في ظلامٍ آذَنَتْ ... بِخُطوبِهِ صَفَّارَةُ الإِنْذارِ (¬1) والطَّائِراتُ تَحومُ فَوْقَ رُؤوسِنا ... تَرْمي الحُتوفَ بِيَمْنَةٍ ويَسارِ (¬2) وَلَوِ اطَّلَعْتِ على الشَّظايا خِلْتِها ... شَرَرَ الجَحيمِ يَطيرُ كُلَّ مَطارِ فَعَلِمْتُ أَنَّ نَواكِ أَرْوَعُ لِلْحَشا ... مِنْ هَوْلِ مُحْرِقَةِ الجُسومِ بِنارِ التواضع والكبر أَرى مُثْمِرَ الأَغْصانِ يَدْنو مِنَ الثَّرى ... وعَاطِلُها يَبْغي بِهامَتِهِ الشِّعْرى (¬3) فَأَذْكُرُ إذْ يَهْوي الهُمامُ تَواضُعاً ... وَيَرْفَعُ مَسْلوبُ العُلا أَنْفَهُ كِبرا المحجر الصّحيّ بالمريجات " قيلت في المريجات بلبنان سنة 1335 هـ ". بَيْنَ المِرَيْجاتِ ما تَحْلو مَناظِرُهُ ... في الْعَيْنِ لكِنَّ نَفْسي مَسَّها ضَجَرُ (¬4) ¬

_ (¬1) أول من نهج هذا المنهج عنترة بن شداد إن صح ما ينسب إليه من قوله: ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمي (¬2) الحتوف: جمع الحتف، وهو الموت. (¬3) الثرى: الأرض. الشِّعرى: الكوكب الذي يطلع في الجوزاء، وطلوعه في شدة الحر. (¬4) المريجات: قرية في جبل لبنان.

البرد في الحديقة

والنَّفْسُ تَضْجَرُ مِنْ دارِ المُقامِ على ... رَغْمٍ وإنْ كانَ مِنْ سُمَّارِها الْقَمَرُ البرد في الحديقة " قالها في برلين سنة 1337 هـ ". هَزَّ النَّسيمُ غُصونَ الرَّوضِ في سَحَرٍ ... كما يَهُزُّ بَنانُ الْغادَةِ الوَتَرا (¬1) لَذَّ الحَفيفُ عَلى سَمْعِ الْغَمامِ أَمَا ... تَراهُ يَحْثو عَلى أَدْواحِهِ دُرَرا (¬2) القطار في غوطة دمشق " قالها عندما دخل القطار في بساتين دمشق لأول مرة سنة 1330 هـ ". لجَّ القِطارُ بِنا والنَّارُ تَسْحَبُهُ ... ما بَيْنَ رائِقِ أَشْجارٍ وأنْهارِ وَمِنْ عَجائِبِ ما تَدْريهِ في سَفَرٍ ... قَوْمٌ يُقادونَ لِلْجَنَّاتِ بِالنَّارِ الوفاء في اليسر والعسر مَسَّتِ الْعَيْشَ عَسْرَةٌ فَدَعِيها ... تَبْتَلي الصَّبْرَ ساعَةً وَتَمُرُّ جارَتي هَكَذا الزَّمانُ يُوَافِيـ ... ـــــــنا بِيَوْمٍ يَجْفو وَيَوْمٍ يَسُرُّ ما افْتَقَدْنا في الحالَتَيْنِ وَفاءً ... واحْتِفاءً بِهِ الْعُيونُ تَقَرُّ (¬3) أرى سفري أَرَى سَفَري شِعْراً ولَكِنْ بُيوتَهُ ... مُفَصَّلَةٌ في غير بَحْرٍ وفي بَحْرِ ¬

_ (¬1) البنان: أطراف الأصابع، الواحدة بنانة. الغادة: المرأة الناعمة اللينة الأعطاف. (¬2) الحفيف: صوت أغصان الأشجار. حثا التراب: هاله بيده. (¬3) الاحتفاء: المبالغة في الإكرام. تقر العين: تبرد سروراً.

عهد الشبيبة والمشيب

وَمَقْطَعُ عودي من بدائِعِهِ ألا ... تَرى عَجُزاً قد ردَّ فيه على صَدْري [عهد الشّبيبة والمشيب] " قالها بمناسبة خطاب جاءه من شقيقه المرحوم العلامة الشيخ زين العابدين حسين التونسي (¬1) يصف فيه حسن مناظر الربيع في دمشق، وطيب هوائه، ويدعوه إلى الزيارة". دَعَوْتَ إلى دِمَشْقَ وَفي فُؤادي ... لَها شَوْقٌ أَحَرُّ مِنَ الهَجيرِ (¬2) تَقولُ: حَنا الرَّبيعُ عَلى رُباها ... وَحاكَ طَنافِسَ الزَّهْرِ النَّضيرِ (¬3) وهَبَّ نَسيمُها الْفَيَّاحُ يُهْدي ... إلى أَرْجائِها أَذْكى عَبيرِ هَلُمَّ نُعِدْ عَهْداً مَليئاً ... بِما نَهْواهُ مِنْ عَيْشٍ غَريرِ (¬4) أَزَيْنَ الْعَابِدينَ لَمَحْتَ مِنِّي ... قُصوراً في اللِّقاءِ فَكُنْ عَذيري أَثَرْتَ بِمُهْجَتي ذِكْرى لَيَالٍ ... قَضَيْناها بِدُمَّرَ في حُبورِ (¬5) تَمَلَّينا سُلافَ الأُنْسِ صِرْفاً ... وَلا قَدَحٌ سِوَى أَدَبِ السَّميرِ (¬6) ¬

_ (¬1) زين العابدين حسين التونسي: (1888 - 1977 م) شقيق الشاعر، مربٍّ كبير، ولد في تونس، وتوفي بدمشق. له آثار لغوية ودينية مطبوعة. (¬2) الهجير: شدة الحر. (¬3) حنا: عطف. حاك: نسج. الطنافس: الواحدة طنفسة، وهي البساط. النضير: الذهب والفضة. (¬4) غرير: طيب. (¬5) دمر: منتزه في ضاحية غرب مدينة دمشق. (¬6) السلاف: ما سال من عصير العنب قبل أن يعصر. الصِّرْف: الخالص.

أمنية عليل

مَضى عَهْدُ الشَّبيبَةِ في صَفاءٍ ... وَرَنَّقَ كَأَسَنا عَهْدُ الْقَتيرِ (¬1) يَضيقُ الْباعُ عَنْ هِمَمٍ جِسامٍ ... فَيا وَيْلي مِنَ الْباعِ الْقَصيرِ وفَلَّ الدَّهْرُ عَزْماً كانَ يَسْطو ... عَلى الأَخْطارِ مَصْقولَ الأَثيرِ (¬2) أَعِدْ لي يا زَمانُ حُسامَ عَزْمٍ ... يُناهِضُ صَوْلَةَ الخَطْبِ الْعَسيرِ (¬3) وخَلِّ سِوايَ يَسْتَمْتِعْ بِعَيْشٍ ... حَلاَ بَيْنَ الخَوَرْنَقِ وَالسَّديرِ (¬4) أمنية عليل عَليلٌ وَمَا لي عِلَّةٌ غَيْرَ رَجْفَةٍ ... تَهُزُّ فُؤادي يَمْنَةً وَيسارا أَلَمَّتْ كَإِلمْامِ النَّذيرِ لِمَنْ طَغى ... وَلَمْ تَتَّخِذْ ذِكْرى المَصيرِ شِعارا (¬5) وَيالَيْتَهُ طُهْرٌ يُعيدُ صَحيفَتي ... كَما سَطَعَتْ شَمْسُ السَّماءِ نَهارا إذَنْ لا أُبالي أَنْ أُلاقِيَ مَصْرَعي ... وَأَلْبَسَ مِنْ تُرْبِ الضَّريحِ دِثارا (¬6) ¬

_ (¬1) رنّق: كدّر. القتير: أول ما يظهر من الشيب. (¬2) فلَّ: كسر وهزم. الأثير: وشي السيف وجوهره. (¬3) الحسام: السيف القاطع. الخطب: الأمر، صغُر أو عظُم. (¬4) الخورنق: موضع في العراق قرب النجف، سكنه بنو إياد، أقام فيه النعمان اللخمي قصراً أشاد بذكره شعراء الجاهلية. السدير: قصر في الحيرة قريب من الخورنق اتخذه النعمان الأكبر لبعض ملوك العجم. (¬5) النذير: الإنذار، والمنذر. الشعار: العلامة في الحرب والشعر، ويطلق على ما يمس الجسد من اللباس. (¬6) الضريح: القبر. الدثار: الثوب الذي فوق الشعار.

نجوم الأرض

أَأُوثِرَ عَيْشاً والعَدُوُّ بِأَرْضِنا ... يُشَيِّدُ حِصناً أَوْ يَخُطُّ مَطارا نجوم الأرض " قيلت بمناسبة ما ذكر في أحد المجالس في النوع المسمى في البديع بالمطابقة، والمطابقة هنا في الجمع بين الليل والنهار، والبياض والسمرة، والقبة الزرقاء (أي: السماء) والأرض". نُجومُ الْقُبَّةِ الزَّرْقاءِ تَبْدو ... بِلَيْلٍ في بَياضٍ وازْدِهارِ (¬1) وَسُمْرُ الْغيدِ مِنْ فَتَيَاتِ حامٍ ... نُجومُ الأَرْضِ تَخْطُرُ في النَّهارِ (¬2) [ذكرى] " بعث أمير شعراء تونس السيد الشاذلي خازندار (¬3) بقصيدة إلى الشاعر، فأجابه بالقصيدة التالية" (¬4). طالَ البَقاءُ وباعُ الْعَزْمِ في قِصَرِ ... فَما قَضَيْتُ بِهِ لِلْمَجْدِ مِنْ وَطَرِ ¬

_ (¬1) القبة الزرقاء: السماء. (¬2) حام: ابن نوح، منه تحدر الجنس الأسود، أو الحاميون. (¬3) محمد الشاذلي خازندار (1297 - 1372 هـ) أمير شعراء تونس، له ديوان مطبوع من جزأين، وله مسامرات وخواطر أدبية. (¬4) نص قصيدة أمير الشعراء الشاذلي خازندار: يزجى القوافيَ بين الأنجم الزهر ... تَحنانُ تونسنا الخضراء (للخضر) في كل منحًى لزيتونيِّ جامعه ... يعقوبُ يوسفَ يستأسيه للبصر وفي الشوارد من (مكيّه) أدب ... فيه استعادة ما للشيخ من أثر وللأخوة منه والبنوة في ... أبناء جلدته مستلفت النظر =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = و (للسعادة) فيما خط من صحف ... ذكرى تعيد لمثلي سالف العمر لي في البواكر من غرسي بروضتها ... ما استظهرته بنات الفكر من زهر للجانبين بها الذكرى تعيد لنا ... عهد الشباب ونيل الفخر من صغر سائل (سعادتنا العظمى) وثالثنا ... فيها (ابن عاشور) شيخ الجامع النضر ما بيننا نصف قرن برزخ فصلت ... فيه الحقائق واجتزناه بالصور يسائل (النيل) يا أستاذ (مجردة) ... فيم استبيح بك استئثار محتكر و (للكنانة) في الإيثار من قدم ... شواهد المبتدا في النحو والخبر ذرني وشأن الليالي في تحكمها ... فلست أجهل ما فيها من العبر راجعت ملهمتي في ما اهتممت به ... مما عليه عموم الناس من غير لا سيما ما عليه نحن من خطل ... ومن مَخازٍ ومن خُلْف ومن خَوَر برّاً وبحراً تولانا الفساد فما ... في القوم من خلق ترضى ولا سير أما الديانة فالموءودة انطمست ... آثارها وانمحت محواً من الزبر قالوا الصدور قبور للرفات وفي ... يوم القيامة نحييها لمنتظر زلوا وضلوا وحلوا كل رابطة ... وحللوا كل محظور من الكبر واستبدلوا الخالص الأزكى بزيفهم ... واستهدفوا في الهوى للمأزق الخطر لم تلق في المظهر القومي من أثر ... يرضيك مرآه من أنثى ومن ذكر ساد التنطع واسترعى بصائرهم ... فلا استنارة للأذواق والفكر عزّ التطيب واستعصى الشفاء فهل ... من رحمة تنقذ المرضى من الخطر لا يأسً عندي وللديان متجهي ... ما دام مثلك في الأزكى من البشر فلتحيَ يا أيها الأستاذ منتصراً ... للدين في ذروة التوفيق والظفر وهذه نزعتي فالخلق أجمعهم ... دون اعتقاد أولو الإفساد في نظري وما عليه الحياة اليوم من قلق ... يكفي دليلاً وتكفي ومضة الشرر فلنسع سعي الهداة الراشدين معاً ... أمّا النجاح فموكول إلى القدر

أَبيتُ سَبْعينَ عاماً والهَوى يَقِظٌ ... أرى بِمِرْآتِهِ الحَصْباءَ كالدُّرَرِ (¬1) وحُسْنُ ظَنِّكَ بي وارى نَقائضَ لا ... تَغيبُ عَنْ أَعْيُنِ النُّقَّادِ لِلسِّيَرِ (¬2) ولِلرَضا مَنْطِقٌ لَوْ شاءَ صَوَّرَ لي ... وَجْهَ الدَّميمَةِ مَنْحوتاً مِنَ الْقَمَرِ ماذا يَرى شاعِرُ الخضْراءِ في صِلَةٍ ... شَدَّتْ عُراها يَدٌ مَحْمودَةُ الأثرِ (¬3) ذَكَرْتَ عَهْداً ذَكَتْ آدابُهُ وَزَهَتْ ... كما زَهَتْ حِلْيَةٌ في سَيْفِ مُنْتَصِرِ نَسيتُ نفسيَ إِنْ أُنسيتُهُ وَلَهُ ... في طَيِّها صورَةٌ مِنْ أَبْهَجِ الصُّوَرِ ما زِلْتُ أَذْكُرُ ما خَطَّتْ يَمينُكَ في ... سِفْرِ السَّعادَةِ مِنْ آدابِكَ الغُرَرِ (¬4) ولمْ تَفُتْني قَوافٍ كُنْتَ تُرْسِلُ في ... يَوْمِ النِّضالِ بِها نَبْلاً مِنَ الشَّرَرِ (¬5) وأَنْفَعُ الشِّعْرِ ما هاجَ الحَماسَةَ في ... شَعْبٍ يُقاسي اضْطِهادَ الجائِرِ الأَشِرِ (¬6) لَوْ لَمْ أَخَفْ وَخْزَ تَثْريبٍ يَصولُ بهِ ... عَلَيَّ ناقِدُ شِعْري مِنْ بَني مُضَرِ (¬7) لَقُلْتُ: لا شِعْرَ إلّا في قَريحَةِ مَنْ ... يَبيتُ مِنْ شَقْوَةِ الأَوطانِ في سَهَرِ ¬

_ (¬1) سبعون عاماً: إشارة إلى سن صاحب الديوان بتاريخ نظم القصيدة. الحصباء: الحصى، والواحدة حَصبَة. (¬2) وارى: ستر وأخفى. (¬3) الخضراء: تونس. (¬4) السفر: الأثر. السعادة: مجلة "السعادة العظمى" التي أصدرها الشاعر بتونس. الغُرر: جمع الغرة: كل شيء ترفع قيمته. (¬5) القوافي: جمع القافية، وهي آخر كلمة تكون في البيت. النبل: السهام العربية. (¬6) الجائر: الظالم. الأشر: الذي يكفر بالنعمة. (¬7) التثريب: اللوم. مضر: ابن نزار الجد الأعلى لفريق من القبائل العربية العدنانية.

مَنْ ذا يُقيمُ على أرضٍ يُظَلِّلُها ... ضَيمٌ وُيحْسِنُ وَصْفَ الدَّلِّ والحَوَر (¬1) دَرَيتَ حَقًّا وما أَدْراكَ أنِّيَ مِنْ ... حَرِّ اشْتياقي إلى الخَضْراءِ في ضَجَرِ (¬2) أَقْبَلْتَ تَبْحَثُ عَنْ ذِكرى أَبيتُ لها ... في سَلْوَةٍ عُصِرَتْ مِنْ جَأْشِ مُصْطَبِرِ (¬3) وصُغْتَها كالصَّبا في رِقَّةٍ فَسَرَتْ ... والطَّلُّ بَلَّلَ زَهْرَ الرَّوْضِ في سَحَرِ (¬4) وافَتْ فَخِلْنا صَباحَ العيدِ حَنَّ لنا ... وَعادَ كَيْ نَتَمَلَّى الأُنْسَ في صَفَرِ (¬5) مَنْ لي بِأَنْ أَرِدَ الأَرْضَ الَّتي صدَرَتْ ... مِنْها وأَفْتَحَ في أَرْجائِها بَصَري (¬6) هُناكَ ما شِئْتَ مِنْ عِلْيم وَمِنْ أَدَبٍ ... وَمِنْ حَدائِقَ تُؤْتي أَطيبَ الثَّمَرِ أُسيمُ طَرْفِيَ (بالمرْسى) وشاطِئِها ... وأَحْتَسي بِلِقاها قَهْوَةَ السَّمَرِ (¬7) وَمِنْ نَفائِسِها أَنِّي صَحِبْتُ بِها ... مَنْ لَوْ كَدَرْتُ لَلاقَى بِالصَّفا كَدَري (¬8) ¬

_ (¬1) الضيم: الظلم. الدل: الدلال. الحور: اشتداد بياض وسواد العين. (¬2) الضجر: القلق من غم وضيق نفس مع كلام. (¬3) السلوة: النسيان. جأش: رواع القلب إذا اضطرب عند الفزع. (¬4) الصّبا: ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. الطلّ: أخف المطر وأضعفه، الندى. (¬5) صفر: الشهر المعروف في السنة الهجرية بعد المحرم. (¬6) يصور الشاعر في هذا البيت حنينه إلى تونس موطنه الأول. (¬7) المرسى: بلدة في ضاحية العاصمة تونس على البحر. (¬8) هذا البيت إشارة إلى ما كان بينه وبين العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من ود خالص.

كيف ينشق القمر

ما ضَرَّ (أَرْيانَةَ) الغَنّاءَ لَوْ قَرُبَتْ ... مِنْ مِصْرَ في نفحَةٍ مِنْ وَرْدِها العَطِرِ (¬1) نَصَحْتَ يا شاذِلِيُّ الْقَوْمَ في عَذَلٍ ... وغَيْرُكَ اخْتانَهُمْ في زِيِّ مُعْتَذِرِ (¬2) والنَّاسُ مَذْ درَجوا فَوقَ الثَّرى اخْتَلَفَتْ ... طُعومُهُمْ كاخْتِلافِ الشَّهْدِ والصَّبِر (¬3) تَفاوَتوا بِالنُّهى حَتَّى جَرُؤْتُ عَلَى ... رَهْطٍ وَبَرَّأْتُ مِنْهُمْ أُسْرَةَ الْبَشَرِ (¬4) هَذا دَرِيٌّ بِأَسْرارِ الأُمورِ فَلا ... يَرْمي إِلى هَدَفٍ إِلَّا عَلى حَذَرِ وذاكَ كالظِّلِّ يَقْفو الدَّهْرَ صاحِبَهُ ... والرَّأْيُ في خَطَلٍ والقَوْلُ في هَذَر (¬5) كُلٌّ لَهُ نزعَةٌ تَدْعو الحَكيمَ إلى ... ما يَنْتَقي في دُعاءِ الخَيْرِ مِنْ عِبَرِ (¬6) ما أَقْرَبَ الرُّشْدَ مِنْهُمْ والفَلاحَ إذا ... ما ساسَهُمْ مُحْكِمٌ لِلْوِرْدِ والصَّدَرِ (¬7) كيف ينشق القمر " قالها على شاطئ اسكندروتة سنة 1331 هـ ". لاحَ شَطْرُ البَدْرِ مِنْ فَوقِ الرُّبى ... وَلَهُ في الْبَحْرِ تِمْثالٌ أَغَرٌ (¬8) مَثَلٌ أُبْصِرُ في مِرْآتِهِ ... بِجَلاءٍ كَيْفَ يَنْشَقُّ القَمَرْ ¬

_ (¬1) أريانة: ضاحية من ضواحي تونس. (¬2) العذل: الملامة. (¬3) درجوا: مشوا. الشهد: العسل ما دام لم يعصر من شمعه. الصَّبِر: عصارة شجر مر. (¬4) الرهط: قوم الرجل وقبيلته. (¬5) يقفو: يتبع. الخطل: الكلام الفاسد الكثير. الهذر: سقط الكلام الذي لا يُعبأ به. (¬6) الحكيم: العالم صاحب الحكمة المتقن للأمور. (¬7) الورد: الماء الذي يورد. الصَّدَر: الرجوع عن الماء. (¬8) الربى: جمع ربوة، وهو ما ارتفع من الأرض. أغر: الحسن، والأبيض من كل شيء.

قافية الزاي

قافية الزاي " كم أخزى الهوى عرضاً! " رَأَتْ إِذْ كُنْتَ تَخْطِبُها غَراماً ... وَمِنْ بَعْدِ البِناءِ رَأَتْ نُشوزا (¬1) أَكانَتْ يَوْمَ خِطْبَتِها فَتاةً ... وصارَتْ إِذْ بَنَيْتَ بِها عَجوزا؟ هِيَ العُقْبَى لِمَنْ رَكِبَتْ هَواها ... وكَمْ أَخْزى الهَوى عِرْضاً عَزيزا (¬2) ولَوْ نَشَدَتْ أَخا خُلُقٍ مَجيدٍ ... بَنَتْ حِرْزاً لِعِصْمَتِها حَريزا (¬3) ¬

_ (¬1) البناء: يقال: بنى فلان على أهله: زفت إليه. النشوز: نشزت المرأة نشوزاً: استعصت على زوجها وأبغضته. (¬2) العقبى: جزاء الأمر، الآخرة. أخزى: أهان. (¬3) نشدت: طلبت. الحرز: الموضع الحصين. العصمة: المنع. الحرز الحريز: الحصن المنيع.

قافية السين

قافية السين خواطر في دمشق " قصيدة ألقاها الشاعر في حفلة وداع أقامها له نخبة من رجال النهضة الإصلاحية في دمشق سنة 1363 هـ " (¬1). وَلَدَتْكَ تَبْغي في الحَياةِ أَنيسا ... يَرْعى عُقولاً أَو يَقودُ خَميسا (¬2) ولَرُبَّ أُمٍّ أَمَّلَتْ في طِفْلِها ... هِمَمَ المُلوكِ فَقامَ يَحْدو العِيسا (¬3) فَكُنِ الهُمامَ يَخوضُ لُجَّةَ حِكْمَةٍ ... أَوْ يَرْتَدي سَيْفاً وَيَفْتَحُ خِيسا (¬4) وَلَدَتْكَ سَمْحَ النَّفْسِ لا تَدْري لِما ... وَضعوا السُّجونَ وأَرْسَلوا الجاسوسا (¬5) تَبْدو على فَمِكَ ابْتِسامَةُ زَهْرَةٍ ... جادَ الحَيا بُسْتانهَا المَأْنوسا (¬6) ¬

_ (¬1) نشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الثالث والرابع من المجلد السابع عشر. (¬2) الأنيس: المؤانس، وكل ما يؤنس به. الخميس: الجيش؛ لأنه خمس فرق: المقدمة، والقلب، والميمنة، والميسرة، والساقة. (¬3) العيس: الإبل البيض يخالط بياضها شقرة. (¬4) اللجة: معظم البحر. الخيس: غابة الأسد. (¬5) الجاسوس: المتتبع الأخبار. (¬6) جاد: تكرم. الحيا: الخصب.

وَقَضَيْتَ حيناً لا تُسِرُّ ضَغينَةً ... يَوْماً ولا تُبْدي الرِّضا تَدْليسا (¬1) وشَعَرْتَ مِنْ رُعْيا أَبيكَ بأَنَّ في ... أَبْناءِ قَوْمِكَ سائِساً ومَسوسا (¬2) يا لَيْتَ قَلْبَ أَبيكَ بَيْنَ ضُلوعِ مَنْ ... سَتَكونُ في يَوْمٍ له مَرؤوسا ما كُنْتَ تَفْقَهُ أَنَّ فَوْقَ الأَرْضِ مَجْـ ... ـــــــروماً عليهِ وَجارِماً غِطْريسا (¬3) فَظَنَنْتَها الْفِرْدَوسَ حتَّى أَبْصَرَتْ ... عَيْناكَ حَقَّ ضَعيفِهِمْ مَبْخوسا (¬4) يَسْطو القَوِيُّ على الضَّعيفِ وَرُبَّما ... صارَ الضَّعيفُ على القَوِيِّ رَئيسا حَبَسوا عَصيراً في الدِّنانِ وطَالما ... تَرَكوهُ في ظُلماتِها محبوسا (¬5) أَرأَيْتَ كَيْفَ سَطا على أَلْبابِهِمْ ... بِقَناً تُسَمَّى في الْبيَانِ كُؤوسا (¬6) ماذا أَبى لَكَ أَنْ تَعيشَ مُقَدَساً ... كَملائِكِ السَّبْعِ العُلا تَقْديسا (¬7) أُعْطيتَ مَطْلَعَ أَسْعَدٍ، فَحَذارِ أَنْ ... يَضَعَ الهَوَى بَدَلَ السُّعودِ نُحوسا (¬8) ¬

_ (¬1) الضغينة: الحقد. التدليس: كتمان عيب السلعة على المشتري. (¬2) رعيا أبيك: حفظه لك، وقيامه عليك. السائس: القائم على الأمر. مسوس: ضد السائس. (¬3) الغطريس: الظالم المتكبر المعجب. (¬4) الفردوس: الجنة، البستان. مبخوس: ناقص ومُعاب. (¬5) الدنان: جمع الدن، وهو الوعاء. (¬6) سطا: مال عليه ووثب. الألباب: العقول. القنا: جمع القناة: الرمح. (¬7) السبع العلا: السموات السبع. (¬8) السعود: جمع السعد: اليمن. النحس: نقيض السعد.

هِيَ فِطْرَةُ الخَلَّاقِ كالمِرْآةِ لا ... تَلْقى بِها عِوَجاً ولا تَدْنيسا (¬1) تَزْدادُ يُمْناً ما اتَّقَيْتَ، فإنْ دَنا ... مِنْها الخَنا كانتْ عليكَ بَسوسا (¬2) وَرِيتْ زِنادُ يَدٍ تُؤاسي بائِساً ... وَيدٍ تُحَطِّمُ للطُّغاةِ رُؤوسا وكَبتْ زِنادُ يدٍ غَدَتْ تَبْني لآ ... مالِ الدُّعاةِ المُصْلِحينَ رُموسا (¬3) يا مَنْ يَعوقُ الخَيْرَ لَسْتَ بفائتٍ ... يَوْماً وإنْ طالَ الزَّمانُ عُبوساً (¬4) نَرْثي لأِقْمارِ الدُّجى والأَرْضُ قَدْ ... طَمَسَتْ سَناها بِالخُسوفِ طُموسا (¬5) والأَرْضُ لولا هذهِ الأَقْمارُ لَمْ ... تَلْبَسْ لِأَيَّامِ الكُسوفِ دُموسا (¬6) في العَيْشِ آلامٌ وفي الاَلامِ ما ... يُدْني رَغائِبَ أَوْ يُزيحُ بُؤوسا شَدُّوا على الطِّفْلِ القِماطَ فَصاحَ مِنْ ... جَزَعٍ يَرومُ لِشِدَّةٍ تَنْفيسا (¬7) والْعُمْرُ يَأْبى أَنْ يَطوعَ لِفاصِدٍ ... يَنْفي دَماً مِنْ راهِشَيْهِ خَسيسا (¬8) ¬

_ (¬1) الفطرة: الخلقة التي خُلق عليها المولود. (¬2) اليُمن: البركة. الخنا: الفحش. البسوس: المرأة يتشاءم بها. (¬3) كبت: لم تور. الرموس: جمع الرمس: وهو القبر مستوياً مع سطح الأرض. (¬4) عبوساً: تقطيباً (¬5) الدجى: الظلمة، أو سواد الليل. طمس الشيء: محاه. الخسوف: ذهاب القمر. (¬6) الكسوف: استتار وجه الشمس المواجه للأرض، وذلك لحيلولة القمر بينهما. الدموس: اشتداد الظلام. (¬7) القماط: الحبل يشد به الأسير. التنفيس: يقال: نفّس عنه كربته: فرّجها ولطّفها. (¬8) الغُمر: من لم يجرب الأمور. الفاصد: الذي يشق العِرق. الراهشان: عرقان في باطن الذراعين. قال الشاعر: وحكّمت الحديد براهشيه ... فألفى قولها كذباً ومينا

والشَّهْمُ مَنْ عانى الخُطوبَ وراضَها ... فَغَدَتْ أَرَقَّ مِنَ النَّسيمِ مَسيسا ونفَاسَةُ الأَشياءِ في غاياتِها ... فاحْمَدْ رِماءَكَ إِنْ أَصَبْتَ نفَيسا (¬1) ضَلَّتْ سَبيلَ المَجْدِ نَفْسٌ فاخَرَتْ ... نَفْساً وَعَدَّتْ مَنْزِلاً ولَبوسا (¬2) كَمْ شَبَّ وَغْدٌ في الحلى وَمقامُه ... صَرْحٌ يَكادُ يُناطِحُ البِرْجيسا (¬3) لا فَخْرَ في الدُّنْيا بِغَيْرِ عَزائِمٍ ... تَفْري الحَديدَ ولا تَهابُ وَطيسا (¬4) وإذا الرَّوِيَّةُ أَيْقَظَتْ عَزْمَ الْفَتى ... مَلأَتْ مَعاليه الْفِخامُ طُروسا (¬5) أَفَتى دِمَشْقَ لَدَيْكَ ذِكْرى راحِلٍ ... لاَقى بِها التَّرْحيبَ والتَّأْنيسا تَرْتادُ رَوْضاً مُخْصِباً وهَزارُهُ ... يَشْدو على الغُصْنِ الأَنيقِ مَيوسا (¬6) تَجْني ثِماراً أَوْ تُمَتِّعُ ناظِراً ... وتَشُمُّ رَيَّا أَوْ تَلَذُّ حَسيسا (¬7) أَمّا نَعيمُ الرُّوحِ فهي هِدايَةٌ ... تَلْقى بِها وَجْهَ الحَياةِ أَنيسا هذا كِتابُ اللهِ يُبْدي للوَرى ... حِكَماً كما تُبْدي السَّماءُ شُموسا (¬8) ¬

_ (¬1) الرماء: الرمي. (¬2) لَبوس: ما يلبس. (¬3) الصرح: القصر، وكل بناء عال. البِرجيس: نجم، ويقال: إنه المشتري. (¬4) تفري: تقطع وتشق. الوطيس: التنور، ومنه قيل: حمي الوطيس؛ أي: اشتد الحرب. (¬5) الطروس: الصحائف. (¬6) الهَزار: العندليب. الميوس: المتبختر. (¬7) ريّا: الريح الطيبة. الحسيس: الصوت الخفي. (¬8) الورى: الخلق.

في الاعتقال

حُجَجٌ تذودُ عنِ النُّهى شُبَهاً ولوْ ... حامَ الجُحودُ بِها لَخَرَّ فَريسا (¬1) أَلقى زِمامَ سِياسةِ الدُّنيا إلى ... مَلأٍ رَعَوْهُ وَأَقْرَضوهُ نُفوسا (¬2) وأَقامَ سُوقاً لِلْمَكارِمِ ناشِراً ... فيها بِمِذْياعِ الْبَيانِ دُروسا لولا هُداهُ لَحارَ أَذْكى النَّاسِ في ... إِصْلاحِ أُمَّتِهِ وَعادَ يَؤوسا في الاعتقال " قيلت في رمضان سنة 1334 هـ وكان ذلك في عهد جمال باشا في دمشق". جَرى سَمَرٌ يَوْمَ اعْتُقِلْنا بِفُنْدُقٍ ... ضُحانا بهِ لَيْلٌ وَسامِرُنا رَمْسُ (¬3) فقالَ رَفيقي في شَقا الحَبْسِ: إنَّ في الْـ ... ــــحَضارَةِ أُنْساً لا يُقاسُ بهِ أُنْسُ (¬4) فَقُلْتُ له: فَضْلُ البَداوَةِ راجِحٌ ... وَحَسْبُكَ أَنَّ الْبَدْوَ لَيْسَ بِهِ حَبْسُ ¬

_ (¬1) النهى: جمع النهية: العقل. الفريس: القتيل. (¬2) الملأ: الأشراف، الجماعة. (¬3) الرمس: القبر مستوياً على وجه الأرض. (¬4) رفيق الحبس: الأستاذ سعدي ملاّ الذي كان سكرتيراً لشكري الأيوبي وقت الاعتقال، ثم أصبح رئيساً للوزارة اللبنانية.

قافية الشين

قافية الشين لحا الله الغواية رَأَوْا في كَفِّهِ ذَهَباً فَطاشُوا ... إِليْهِ وطالَ بَيْنَهُمُ الهِراشُ (¬1) كَأَنَّ التَّبْرَ نارٌ في ظَلامٍ ... وَهُمْ مِنْ حَوْلِ صُفْرَتِهِ فَراشُ (¬2) يُدارُ الْغَيُّ بينَ يَدَيْهِ صِرْفاً ... فَتَغْمُرُهُ الْبَشاشَةُ والهَشاشُ (¬3) وإنْ مَرَّ الرَّشادُ بِهِ تَثنَّتْ ... وَكَشَّتْ تَحْتَ بُرْدَتِهِ رَقاشُ (¬4) لَحا اللهُ الْغَوايَةَ مِنْ طَريقٍ ... يُنالُ بهِ طَعامٌ أَوْ رِياشُ (¬5) ¬

_ (¬1) الهراش: الخصام والقتال، وهو مستعار من هراش الكلاب، يقال: تهارشت الكلاب، واهترشت: تحرشت بعضها على بعض وتواثبت. (¬2) التبر: ما كان من الذهب غير مضروب، فإن ضرب دنانير، فهو عين. الفَراش: جمع الفراشة التي تهافت في السراج. (¬3) الغي: الضلال. الصِّرْف: الخالص. الهَشاش: الارتياح والخفة والنشاط. (¬4) كشَّت: عضت بفيها وانتزعت. الرقاش: الحية. (¬5) الغَواية: الغي. الرياش: لباس فاخر كريش الطائر في نعومته.

قافية الصاد

قافية الصاد التعليم الدّيني بمدارس الحكومة وجامعاتها كَمْ بَنى ساسَةُ العُلومِ بِمِصْرٍ ... مِنْ صُروحٍ رَصينَةٍ وَصَياصي (¬1) وَبَلَوْنا بُنْيانهَا فَلَمَسْنا ... ثَغْرَةً لَمْ يَسُدَّها كَفُّ راصي (¬2) وإذا فُلَّتِ القِلاعُ فَهاتوا ... فارِقاً بَيْنَها وبَيْنَ الخِصاصِ (¬3) حامِيَ الْعِلْمِ إِنَّ في الدِّينِ بَحْراً ... حافِلاً بِالحُلِيٍّ سَهْلَ المَغاصِ (¬4) يَرْفَعُ النَّفْسَ مِنْ جُحودٍ فَتَغْلو ... بالهُدى بَعْدَ شَقْوَةٍ وارْتِخاص (¬5) وُيريها نَهْجَ الْمَعالي سَويّاً ... غَيْرَ ناءٍ عَنْها ولا مُتَعاصِ ويَهُزُّ الأَرواحَ بالمُثُلِ الأَّبْـ ... ــــــكارِ هَزَّ الحُداةِ رَكْبَ الْقِلاصِ (¬6) ¬

_ (¬1) الصروح: جمع الصرح: القصر، وكل بناء عالٍ. الصياصي: جمع صيصة، وهي الحصن وكل ما امتُنع به. (¬2) الراصي: المحكم المتقن. (¬3) فُلَّت: أُحدث فيها خلل، ثُلمت. الخِصاص: جمع خُصّ: بيت من شجر أو قصب. (¬4) المغاص: موضع الغوص. (¬5) ارتخاص: ارتخص الشيء: عدّه رخيصاً. (¬6) الأبكار: جمع البكر: العذراء، وأول مولود لأبيه، وأول كل شيء. الحداة: =

هُوَ سَيْفٌ نَضاةُ كَفُّ حَكيمٍ ... لِيُذيقَ الطُّغاةَ حَرَّ الْقِصاصِ (¬1) جاءَ يَهْوي بِمِلْءِجَنْبَيْهِ هَدْياً ... وعُقولُ الأَنامِ في أَقْفاصِ فَكَّ عنْها الإِسارَ والخَيْرُ في أَنْ ... يَفْحَصَ الْعَقْلُ كُلَّ دانٍ وقاصِ (¬2) وحَياةُ الإنسانِ مَيْدانُ حَرْبٍ ... ما لَهُ عَنْ وُرودِها مِنْ مناصِ (¬3) وأخو الدِّينِ يَحْتَمي مِنْ أذاها ... بِحُسامٍ عَضْب ودِرْعٍ دِلاصِ (¬4) إنَّما الدِّينُ عِزَّةٌ وعَفافٌ ... يَصْرِفُ الطَّرْفَ عَنْ وُجوهِ المعاصي وحِجاجٌ مِثْلُ الْقَواضِبِ إنْ لَمْ ... يَكُ إلَّا الْيَقينُ وَجْهَ الخَلاصِ (¬5) وَقَوانينُ إنْ تَصَدَّتْ لَفَصْلٍ ... أَخَذَتْ بالقُلوبِ لا بالنَّواصي (¬6) لَوْ تَراءَتْ لِلْعَيْنِ يَوْماً لَقُلْنا ... هَلْ لِهذا الجُمانِ مِنْ قَنَّاصِ (¬7) وَكأَيِّنْ مِنْ حِكْمَةٍ لَوْ تَبَنَّتْ ... طَلْعَةَ الْبَدْرِ لَمْ يُصَبْ بانْتَقاصِ (¬8) ¬

_ = جمع الحادي: الذي يسوق الإبل، ويغني لها. القلاص: جمع القلوص: الشابة من الإبل. (¬1) نضا السيف: سلَّه. القصاص: أن يُفعل بالفاعل مثل ما فعل. (¬2) الداني: القريب. القاصي: البعيد. (¬3) المناص: الملجأ والمفر. (¬4) الحسام: السيف. عضب: قاطع. دلاص: ملساء لينة. (¬5) الحِجاج: جمع حُجة: البرهان. القواضب: جمع القاضب: السيف القطّاع. (¬6) النواصي: جمع ناصية: منبت الشعر في مقدّم الرأس. (¬7) الجمان: اللؤلؤ، الواحدة جمانة. القناص: الصيّاد. (¬8) تبنى: اتخذ ابناً.

فَمِنَ الخَيْرِ أَنْ يَشُبَّ على آ ... دابِهِ نَشْؤُنا بِغَيْرِ خِصاصِ (¬1) وَيْحَ نَشْءٍ مِنَ الصَّباءِ بِطانٍ ... وَمِنَ الرُّشْدِ والتُّقاةِ خِماصِ (¬2) حَامِيَ الْعِلْمِ أَقْرِضِ الشَّرْعَ حَظّاً ... فائِقاً مِنْ رِعايَةٍ واحْتِراصِ (¬3) والرَّئيسُ الهُمامُ مَنْ لا يُجاري ... شَهَواتِ الأَحْزابِ والأَشْخاصِ (¬4) يَتَوَخَّى الإصْلاحَ أنَّى تَبَدَّى ... بِجَلاءٍ لِفِكْرِهِ الغَوَّاصِ (¬5) ¬

_ (¬1) شبّ: صار فتياً. (¬2) الصَّباء: جهلة الفتوة. بطان: جمع بطين: العظيم البطن. خماص: جمع خميص: الضامر البطن. (¬3) الاحتراص: الحرص والاجتهاد. (¬4) الهمم: الملك العظيم الهمة، السيد الشجاع. (¬5) الغواص: من يغوص في البحر على اللؤلؤ ونحوه.

قافية الضاد

قافية الضاد المحبّة الصادقة " قالها تصويراً للصداقة الصحيحة". نُبِّئْتُ أَنَّكَ مُوجَعٌ ... فارْتاعَ قَلْبي وانْتَفَضْ (¬1) ما ضَرَّ لَوْ كُنْتُ الْمَريـ ... ـــــضَ وزالَ عن خِلِّي المَرَضْ (¬2) وَجَعُ الْقُلوبِ أَشَدُّ مِنْ ... وَجَعِ الجُسومِ إذا عَرَضْ لا خِلَّ إلَّا مَنْ يَببيـ ... ــــــتُ إذا مَرِضْتَ عَلى مَضَضْ (¬3) ¬

_ (¬1) نبئت: أُخبرت. ارتاع: فزع. (¬2) الخلّ: الصديق. (¬3) مضض: وجع المصيبة.

قافية الطاء

قافية الطاء العيد في برلين " قيلت في برلين سنة 1333 هـ، عندما أدركه عيد الفطر هناك". أَسِوارٌ مِنْ عَسْجَدٍ وجُمانٌ ... تَقْتَنيهِ الحِسانُ في الأَقْراطِ (¬1) أَمْ هِلالٌ حَفَّتْهُ في لَيْلَةِ الْعيـ ... ــــدِ نُجومٌ بِبَهْجَةٍ واغْتِباطِ هَذِهِ طَلْعَةُ الهِلالِ وَما لي ... لَمْ أَجِدْ في الْفُؤادِ بَعْضَ انْبِساطي يَوْمُ عيدٍ وَما تَفَتَّقَ كِمٌّ ... عَنْ أَنيسٍ ولا كَسَمِّ الخِياطِ (¬2) ما تَملَّى سَمْعي تَهانِئَ صيغَتْ ... في قُلوبٍ مَوْصولةٍ بِنيِاطي (¬3) أَيْنَ جِيراننُا، وأَيْنَ المُصلَّى، ... وخطيبٌ يَهْدي لِخَيْرِ صِراطِ (¬4) ¬

_ (¬1) العسجد: الذهب. الجمان: اللؤلؤ. الأقراط: جمع القرط: ما يعلق في شحمة الأذن من درة ونحوها. (¬2) الكِمّ: الغلاف الذي ينشق عن الثمر، غطاء الزهر. سم الخياط: ثقب الإبرة، قال تعالى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. (¬3) النياط: الفؤاد. (¬4) الصراط: الطريق.

يا منطقيا

أَيْنَ مِنَّي شَفيقَةُ الْقَلْبِ تُهْدي ... دَعَواتٍ مِثْلَ الظَّباءَ عَواطي (¬1) لَوْ تَقَاضَيْتُ في اغْتِرابِيَ أَمراً ... نَهَضَتْ هِمَّتي لَهُ ونَشاطي لأَدَرْتُ الْعِنانَ نَحْوَ دمَشْقٍ ... وَحَمِدْتُ السُّرى على الأَشْواطِ (¬2) يا منطقياً " قالها في مجلس أدب بمصر ذُكر فيه بيتان من النسيب ملمَّح بهما إلى مسألة منطقية" (¬3). يا مَنْطِقِيَّاً عِشْتَ أَحْقاباً وَلَمْ ... تَبْرَحْ تَقولُ لِمَنْ يَعي وُيخَطِّطُ (¬4) الشَّمْسُ كُلِّيٌّ وليسَ لَهُ سِوى ... فَرْدٍ يُصَعِّدُ في السَّماءِ وَيَهْبِطُ لَوْ آنَسَتْ عَيْناكَ طَلْعَةَ عِزَّةٍ ... لَدَرَيْتَ أَنَّكَ قَدْ تَقولُ فَتَغْلَطُ ¬

_ (¬1) شفيقة القلب: يقصد بها والدته المتوفاة بدمشق في رمضان سنة 1335 هـ. الظباء: الواحد ظبي، وهو الغزال. (¬2) السُّرى: سير عامة الليل. الأشواط: الواحد شوط: الجري مرة إلى الغاية. (¬3) البيتان هما قول الشاعر: ما للقياس الذي ما زال مشتهرا ... للمنطقيين في الشرطي تسديد أما رأوا وجه من أهوى وطرته ... الشمس طالعة والليل موجود (¬4) المنطقي: نسبة إلى المنطق، وهو الكلام. الأحقاب: الدهور.

قافية الظاء

قافية الظاء رثاء أبي حاجب " قال هذه الأبيات بمصر، عندما تلقى نبأ وفاة أستاذه العلامة الشيخ سالم أبي حاجب سنة 1339 هـ ". فَقَدتْ سَماءُ المَجْدِ بَدْراً عَزَّ أَنْ ... تَحظى بِرُؤْيَةِ مِثْلِهِ الأَلْحاظُ (¬1) بَدْرٌ سَناهُ هِدايَةٌ وَمعارفٌ ... وشُعاعُهُ الأَقْلامُ والأَلْفاظُ أَوْدى الحِمامُ "بسالمٍ" فَبَكاهُ مِنْ ... فَرْطِ الأَسى الْعُلَماءُ والوُعَّاظُ (¬2) لَمْ أَدْرِ إذْ نَعَقَ النَّعِيُّ أَراعني ... مَنْعاهُ أَمْ لَفَحَ الْفُؤادَ شُواظُ (¬3) يَلْقى حُماةُ النَّحْوِ في نَظَراتِهِ ... نَبْلاً إذا أَعْيا الحُماةَ حِفاظُ يَتَرَسَّمونَ بِهِ الخَليلَ كَأَنَّما ... شَهِدَتْهُ أَعْيُنُهُمْ وَهُمْ أَيْقاظُ (¬4) ¬

_ (¬1) الألحاظ: جمع لحظ: باطن العين. (¬2) الحمام: قضاء الموت وقدره. سالم: سالم بو حاجب: ومرت ترجمته. (¬3) نعق: صاح. النعي: الذي يأتي بخبر الموت. شواظ: لهب لا دخان فيه. (¬4) يترسمون: ينظرون ويتأملون. الخليل: (100 - 170 هـ) الخليل بن أحمد الفراهيدي، إمام اللغة والأدب، وواضع علم العروض، ولد ومات بالبصرة، وهو أستاذ سيبويه. له مؤلفات عديدة.

بين الشفقة والشوق

وكأَنَّ دَرْسَ الْفِقْهِ مَجْلِسُ مالِكٍ ... وكَأَنَّما دَرْسُ الْبَيانِ عُكاظُ (¬1) وَيغوصُ في دَرْسِ الحَديثِ على حُلًى ... غَفَلَتْ عَنِ اسْتِنْباطِها الحُفاظُ (¬2) وإذا تَسَنَّمَ لِلْخَطابَةِ مِنْبَراً ... لانَتْ قُلوبٌ كالصُّخور غلاظُ (¬3) رُحْمى له قد كانَ لي مِنْ عَطْفِهِ ... وَجَنى قَريحَتِهِ اللَّذيذِ حِظاظُ (¬4) بين الشفقة والشوق " قالها عند زيارة بعض الأصدقاء في تونس". وأَديبٍ أَيْقَظْتُهُ مِنْ رُقادٍ ... لِنَصيدَ الإيناسَ مِنْ أَلْفاظِهِ طابَ في جَفْنِهِ النُّعاسُ وَظنَّتْ ... رُفْقَةٌ أَنْ تَهيجَ نارُ اغْتِياظِه (¬5) وَصحا باسِماً وَحيَّا فَأَبْصَرْ ... نا سَنا الْبِشْرِ جالَ في أَلْحاظِهِ نَحنُ نهوى لَهُ الهَناءَةَ لَكِنْ ... حَرُّ شَوْقٍ دَعا إلى إيقاظِه ¬

_ (¬1) مالك: (93 - 179 هـ) الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة، وإليه تنسب المالكية، ولد وتوفي بالمدينة المنورة، له كتاب "الموطأ"، ومؤلفات أخرى. (¬2) غاص على المعاني: بلغ أقصاها حتى استخرج ما بَعُدَ منها. استنبط: استخرج. (¬3) تسنم: علا. المنبر: كان الأستاذ بو حاجب خطيباً بجامع "سبحان الله" في مدينة تونس. (¬4) حِظاظ: جمع حظ، وهو النصيب والجَذ. (¬5) الرفقة: الجماعة ترافقهم في سفرك. الاغتياظ: الغضب، وقيل: هو الغضب الكامن للعاجز.

قافية العين

قافية العين أعمار زائفة (¬1) نفِدَ العُمْرُ وفي الْقَلْبِ ارْتياعُ ... وارْتِجاعُ الْعُمْرِ ما لا يُسْتَطاعُ (¬2) مَثَلي لَمَّا انْقَضى دَهْرٌ وَلَمْ ... يَكُ لي فيهِ نُهوضٌ وارْتفاعُ طائِرٌ هِيضَ جَناحاهُ فَما ... دَأْبُهُ إلَّا جُثومٌ واضْطِجاعُ (¬3) مُرَّ يا سائِقُ بالسُّوقِ الَّتي ... تُعْرَضُ الأَعْمارُ فيها وتُباعُ عَلَّني أَبْتاعُ عُمْراً أُفْعِمَتْ ... مِنْهُ بالإحْسانِ أَعْوامٌ وسِاعُ (¬4) * * * قِيلَ: هذا عُمْرُ مُثْرٍ غَمَرَتْ ... ساحَهُ الْفِيحَ زُروعٌ وَرِباعُ (¬5) ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد الرابع عشر. (¬2) نفِد: فني وذهب. الارتياع: الفزع. (¬3) هِيض: كُسر بعد الجبور. جثوم: يقال: جثم الطائر: لزم مكانه فلم يبرح، أو وقع على صدره. (¬4) أفعم: ملأ. وِساع: جمع وسيع: ضد الضّيق. (¬5) مثرٍ: غني. الفيح: السعة. رِباع: جمع رَبعْ، وهي الدار بعينها حيث كانت.

قُلْتُ: عُمْرٌ مِلْؤُهُ الْبِرُّ وَكَمْ ... سَعِدَتْ فيهِ عُراةٌ وجِيَاعُ (¬1) فَإذا الإمْساكُ يُوحي حَوْلَهُ: ... ما لِهذا الْعُمْرِ في الإحْسانِ باعُ (¬2) * * * قيلَ: هذا عُمْرُ والٍ كانَ إنْ ... أَمَرَ الناسَ اسْتَكانوا وَأَطاعوا (¬3) قُلْتُ: عُمْرٌ كالسَّماءِ امْتَلأَتْ ... بِالنُّجومِ الزُّهْرِ يَعْلوها شُعاعُ فَإذا الإتْرافُ يُوحي حَوْلَهُ: ... هَمُّ هذا الْعُمْرِ لَهْوٌ وَرَتاعُ (¬4) * * * قيلَ: هذا عُمْرُ حَبْرٍ كانَ في ... بَيْتِهِ كُتْبٌ وفي الْكَفِّ يَراعُ (¬5) قُلْتُ: عُمْرٌ كَسَحابٍ غَيْثُهُ ... حِكْمَةٌ غَرَّاءُ أَوْ فَتْوى تُذاعُ فَإذا الأَهْواءُ توحي حَوْلَهُ: ... حَشْوُ هذا الْعُمْرِ خَبٌّ وابْتِداعُ (¬6) * * * ¬

_ (¬1) البِر: الخير والفضل والصلة. (¬2) الإمساك: البخل. الباع: قدر مدّ اليدين. (¬3) الوالي: الحاكم. (¬4) الإتراف: الترف، التنعم. الهَمُّ: ما همَّ به الرجل، أو أجال فكره لفعله وإيقاعه. الرتاع: الأكل والشرب في رغد وسعة. (¬5) الحبر: العالم الصالح. اليراع: القصب، ويقصد بها: القلم. (¬6) الأهواء: جمع الهوى: ميل النفس إلى الشهوة. الخبّ: الخداع. الابتداع: زيادة في الدين، أو نقصان منه بعد الإكمال.

قيلَ: هذا عُمْرُ راعٍ وُضِعَتْ ... تَحْتَ رَعْياهُ عُقولٌ وطِباعُ (¬1) قُلْتُ: عُمْرٌ يُرْتَجى مِنْهُ عُلا ... لِبَني الْعِلْمِ وَرُشْدٌ واجْتِماعُ فإذا الخَيْبَةُ توحي حَوْلَهُ: ... سِرُّ هذا الْعُمْرِ زَهْوٌ وَخِداعُ (¬2) * * * قيلَ: هذا عُمْرُ قاضٍ يُبْصِرُ الْـ ... ــــــــحَقَّ إذْ يَعْلو ادِّعاءٌ ودِفاعُ قُلْتُ: عُمْرٌ طالما زالَتْ بِهِ ... إِحَنٌ بَيْنَ خُصومٍ ونِزاعُ (¬3) فَإِذا الرَّشْوَةُ توحي حَوْلَهُ: ... شَأْنُ هذا العُمْرِ حَيْفٌ وطِماعُ (¬4) * * * قيلَ: هذا عُمْرُ أَسْتاذٍ رَوَى ... وَرأَى، والْعِلْمُ رَأْيٌ وسَماعُ قُلْتُ: عُمْرٌ مِثْلُ وادٍ مُمْرِعٍ ... طابَ في مَرْعاهُ لِلنَّاسِ انْتِجاعُ (¬5) فَإذا الْعَيُّ يُنادي حَوْلَهُ: ... فاتَ هذا الْعُمْرَ غَوْصٌ واخْتِراعُ (¬6) * * * قيلَ: هذاعُمْرُ داعٍ لِلتُّقى ... يَأْمُرُ النَّاسَ وَينْهى فَيُطاعُ ¬

_ (¬1) رعياه: رعايته وحفظه. (¬2) الزهو: الكذب، والكبر والتيه، والظلم. (¬3) الإحن: جمع الإحنة: الحقد والغضب. (¬4) الحيف: الجور والظلم. الطماع: الطمع. (¬5) الممرع: المخصب. الانتجاع: الرحيل في طلب الكلأ. (¬6) العي: يقال: عيَّ بأمره، وعن أمره: لم يهتد لوجه مراده، ولم يطق إحكامه.

قُلْتُ: عُمْرٌ كُلُّهُ خَيْرٌ وَلَمْ ... يَكُ في أوقاتِهِ وَقْتٌ مُضاعُ فَإذا الخُسْرُ يُنادي حَوْلَهُ: ... فاتَ ذا الْعُمْرَ امْتِثالٌ وارْتِداعُ * * * قيلَ: هذا عُمْرُ مَنْدوبٍ لأِنْ ... يَشْهَدَ الشُّورى وأراءً تُشاعُ قُلْتُ: عُمْرٌ يُنْقِذُ الحَقِّ إذا ... هاجَمَ الحَقَّ لُصوصٌ أَوْ سِباعُ فَإذا الْعَجْزُ يُنادي حَوْلَهُ: ... فاتَ هذا الْعُمْرَ نُطْقٌ واسْتِماعُ * * * قيلَ: هذاعُمْرُ ذي سَيْفٍ لَهُ ... طَعْنَةٌ نَجْلاءُ إنْ ثارَ النَّقاعُ (¬1) قُلْتُ: عُمْرُ الْعِزِّ، والأَبْطالُ إنْ ... هوجِمَ الْقَوْمُ دُروعٌ وقِلاعُ فَإذا الرُّعْبُ يُنادي حَوْلَهُ: ... فاتَ ذا الْعُمْرَ طِعانٌ وقِراعُ * * * قيلَ: هذا عُمْرُ ساعٍ مُعْوِلٍ ... ضاقَ عَنْ تَرْفيههِ كَفٌّ صَناعُ (¬2) قُلْتُ: عُمْرٌ حُفَّ بِالعُسْرِ وَمَنْ ... يَحْمِلُ الْكَلَّ كَريمٌ وشُجاعُ (¬3) فَإِذا السُّخْطُ يُنادي حَوْلَهُ: ... فاتَ هذا العُمْرَ صَبْرٌ واقْتِناعُ * * * ¬

_ (¬1) النقاع: جمع النقع، وهو الغبار. (¬2) المعول: كثير العيال. الصَناع: يقال: رجل صَناع اليدين: أي: حاذق في الصنعة. (¬3) الكلّ: اليتيم، الثقيل لا خير فيه، والضعيف.

تحية المقام النبوي ومناجاة الرسول

يا رَفيقاً طالَما أَفْصَحَ لي ... عَنْ خَبايا فَانْجَلى عَنْها الْقِناعُ لِمَ لا يُعْرَضُ في السُّوقِ سِوى ... عُمُرٍ لَمْ يَرْضَهُ إلّا الرَّعاعُ (¬1) قالَ: جَدَّ الجِدُّ، ما مِنْ عُمُرٍ ... ناصِعِ الطَّلْعَةِ في الدُّنْيا يُباعُ تحية المقام النّبوي ومناجاة الرّسول " من قصيدة ألقاها أمام المقام النبوي سنة 1331 هـ ". أُحَييِّكَ والآماقُ تُرْسِلُ مَدْمَعا ... كَأَنِّيَ أَحْدو بِالسَّلامِ مُوَدِّعا (¬2) وما أَدْمُعُ البُشْرى تَلوحُ بِوَجْنَةٍ ... سِوى ثَغْرِ صَبٍّ بالوِصالِ تَمتَّعا وَقَفْتُ بِمَغْنىً كانَ يا أَشْرَفَ الوَرى ... لِطَلْعَتِكَ الحُسْنى مَصيفاً ومَرْبَعا (¬3) فَذا مَوْقِفٌ لامَسْتُ فيهِ بِأَخْمَصي ... أَجَلَّ مِنَ الدُّرِّ النَّضيدِ وأَرْفَعا (¬4) وذلِكَ مَرْقى كُنْتَ تَصْدَعُ فَوقَهُ ... بِما حازَ في أَقْصى الْبَلاغَةِ مَوْقِعا وذاكَ مُصَلَّى طالَما قُمْتَ قانِتاً ... بِهِ، وَيَقومُ الصَّحْبُ خَلْفَكَ خُشَّعا (¬5) وَذي حُجْرةٌ كانَ الأَمينُ يَؤُمُّها ... بِوَحْيٍ فَكَانتْ للشَّريعَةِ مَنْبَعا وَأَرْوَعُ ما شَقَّ الْفُؤادَ بِحَسْرَةٍ ... وَهاجَ بِهِ الأَشْجانَ حَتّى تَقَطَّعا ¬

_ (¬1) الرَّعاع: السفلة من الناس، الواحد رعاعة. (¬2) الآماق: جمع المأق: مجرى الدمع من العين. (¬3) المغنى: المنزل. المصيف: المكان يقيمون فيه صيفاً. المربع: الموضع يُقام فيه في فصل الربيع. (¬4) الأخمص: القدم، أو ما لا يصيب الأرض من باطن القدم. (¬5) القانت: القائم بالطاعة الدائم عليها، والمصلّي.

تَخاذُلُ حالِ المُسْلِمينَ وما أَتى ... مِنَ الخَطْبِ في أَرْجائِهِمْ وتَجَمَّعا وما شَأْننُا إلَّا كَعِقْدٍ تَناثَرَتْ ... جَواهِرُهُ في سَطْحِ أَحْدَبَ أَنْزَعا (¬1) فَهذا يُحاذي في قَضاياهُ نَزْعَةً ... تَخُطُّ وَراءَ الحَقِّ للنَّاسِ مَرْتَعا (¬2) وهذا يَصوغُ الْقَوْلَ في قالَبٍ يُرى ... بِجَانِبِهِ قَوْلُ الشَّريعَةِ أَوسَعا وذاكَ يُنادي بالضَّلالةِ ماسِحاً ... بِصَبْغَةِ دينِ كَيْ يَغُرَّ ويَخْدَعا ونِمْنا على الآذانِ نومَةَ جاهِلٍ ... بِما يَضَعُ المُسْتَيْقِظونَ لِنُصْرَعا ولَمْ نَسْتَفِقْ للْقَوْمِ حتّى تَحَفَّزوا ... وَأَوْجَسَ كُلٌّ بَيْنَ جَنْبَيْهِ مَطْمَعا (¬3) ولَمْ نَسْتَفِقْ للْقَوْمِ إذْ كُلٌّ انتضَى ... لِيَظْفَرَ بِاسْتِعْبادِنا السَّيْفَ مَقْرَعا (¬4) ولمْ نستَفِقْ للقارِعاتِ وقَدْ جَنَتْ ... إلى مُهْجَةِ الإسْلامِ حتّى تَصَدَّعا (¬5) وفي النّاسِ مَنْ حاكَ الأَياسُ بصَدرِه ... فَجَرَّدَ أَفْراسَ الجِهادِ وأقْلَعا (¬6) ونَدْبٌ دَرى صَرْفَ اللَّيالي وأَنَّها ... تُزَلُّ بأَعْلامٍ وتُونِسُ بَلْقَعا (¬7) ¬

_ (¬1) الأنزع: الذي انحسر الشعر عن جانبي جبهته، والمقصود الأملس. (¬2) النزعة: نزع إلى الشيء: ذهب إليه، يقال: له نزعة إلى كذا. المرتع: الموضع الذي يتنعم فيه. (¬3) أوجس: أحس وأضمر. (¬4) انتضى السيف: استله من غمده. (¬5) القارعات: جمع القارعة وهي الداهية. (¬6) حاك: أثَّر وعمل. الأياس: القنوط. (¬7) الندب: السريع إلى الفضائل. تونس: أي: تؤنس، يقال: أنس به: ألفه، وسكن قلبه به. البلقع: الأرض القفر التي لا شيء فيها.

وما الود إلا عهود تراعى

فَقامَ عَلى جِدٍّ يُهيبُ بِقَوْمِهِ ... لِيَرْفَأَ فَتْقاً أَوْ يُشَيِّدَ مَصْنَعا (¬1) يَقولُ أُناسٌ إنَّما الدّينُ عَثْرَةٌ ... بِسابِلَةِ العُمْرانِ تَهْوي بِمَنْ سَعى (¬2) رَمى بِهِمُ التَّقْليدُ في إثْرِ مُلْحِدٍ ... ولم يكْشِفوا عن مِيسَمِ الحَقِّ بُرْقُعا (¬3) تجَلَّيْتَ في شَعْبٍ جَرى في عُروقِهِ ... دَمُ الكِبْرِ وارْتادَ الْغَوايَةَ إِمَّعا (¬4) تَجَلَّيْتَ والْبَغْضاءُ تَشْوي صُدورَهُمْ ... بِنارٍ فَأَصْلَتْها قُلوباً وأَضْلُعا فَلَقَّنْتَهُمْ كَيْفَ الطُّموحُ إلى العُلا ... إلى أَنْ عَلَوا فَوْقَ السِّماكَيْنِ مَطْلَعا (¬5) عَلَيْكَ سَلامُ اللهِ ما انْسَجَمَ الحَيَا ... وحَيَّا صَباحٌ بِالضِّياءِ وَوَدَّعا وما الودّ إلا عهود تُراعى نَشَدْتُ أَريباً يَجُسُّ الطِّباعا ... وَيكْشِفُ عَمَّا يَريب الْقِناعا (¬6) فَمَنْ لي بِهِ يَوْمَ يُبْدي أُناسٌ ... إِخاءً وَهُمْ يُضْمِرونَ الخِداعا قَضَيْتُ لَياليَّ في غِزَةٍ ... فَلَمْ أَعْرِفِ الخَبَّ إلَّا سَماعا (¬7) ¬

_ (¬1) رفأ: أصلح. (¬2) السابلة: الطريق المسلوكة. (¬3) الميسم: أثر الجمال، يقال: امرأة ذات مِيْسَم؛ أي: ذات حسن وجمال. البرقع: ما تستر به المرأة وجهها. (¬4) الإمَّع، والإمَّعَةَ: الرجل يتابع كل أحد على رأيه، ولا يثبت على شيء. (¬5) السماكان: كوكبان نيّران يقال لأحدهما: السماك الرامح، والآخر: السماك الأعزل. (¬6) نشدت: طلبت. الأريب: الماهر البصير. (¬7) الغرة: الأول من الشهر. الخب: الخدّاع.

خائنو أوطانهم

أُباهي بِأَنَّ عِدادَ الأُلى ... أَصاحِبُ يَزْدادُ ساعاً فَساعا أَبيتُ على عَهْدِهِمْ ساهِراً ... وما الْوِدُّ إلَّا عُهودٌ تُراعى ولَمْ أَكُ أَنْقُدُ خاطِبَ وُدٍّ ... كَما يَنْقُدُ النَاسُ تِبْراً مُباعا (¬1) ومَنْ عاشَ لاقى ابْتِسامَةَ خِلٍّ ... عَلى شَفَتَيْ مَنْ يَدُسُّ الْقِذاعا (¬2) ولَوْلا أَخٌ يَنْشُرُ الحُبَّ ما الْتَـ ... ـــــــقَيْنا على وَجْنَتَيْهِ شُعاعا (¬3) رأَيْتُ الهُدى أَنْ أَعيشَ وَحيداً ... ولا أَصْحَبُ الدَّهْرَ إلَّا الْيَراعا (¬4) خائنو أوطانهم عُجْتُ يَوْماً بِرياضٍ أَجْتَني ... عِبَراً مِمَّا أَرى أَو أَسْمَع (¬5) فَلَمَحْتُ الْفَأْسَ مُلْقاةً ومِنْ ... حَوْلها أَعْناقُ دَوْحٍ خُضَّعُ (¬6) دَوْحَةٌ تَلْحَظُها قائِلَةً ... والأَسى ساوَرَها والْفَزَعُ هذِهِ قاصِمَةُ الظَّهْرِ متى ... نزَلَتْ بِالدَّوْحِ حانَ المَصْرَعُ (¬7) فَأَجابَتْ جارَةٌ تُطْفِئُ مِنْ ... رَوْعِها والرَّوْعُ نارٌ تَلْذَعُ ¬

_ (¬1) التبر: الذهب. (¬2) القذاع: الخنا والفحش. (¬3) ما التقينا: أي: مدة التقائنا. (¬4) اليراع: القصب، ويعني به: القلم. (¬5) عاج: أقام. العبر: جمع العبرة: العظة يُتَّعظ بها. (¬6) الدوح: جمع الدوحة: وهي الشجرة العظيمة. (¬7) قاصمة: يقال: نزلت بهم قاصمة الظهر؛ أي: أصابهم الهلاك.

لم أذق طعم الذل

لا يَرُوعَنْكِ الحَديدُ الصُّلْبُ في ... أَرْضِنا يَنْحَطُّ أَوْ يَرْتَفِعُ فَهْوَ ما لَمْ يَلْقَ مِنْ أَعْوادِنا ... عَضُداً يُسْعِدُهُ لا يَقْطَعُ (¬1) قُلْتُ: مَرْحى! حِكْمَةٌ لَوْ ساغَها ... خائِنو أَوطانِهِمْ لارْتَدَعوا لم أذق طعم الذل إذا ما تَلاقَيْنا وطَرَفُكَ طامِحٌ ... إلى عِزَّةٍ أَطْرَقْتُ طَرْفي تَواضُعا وإنْ تَلْقَني يَوْماً وأَنْفُكَ شامخٌ ... رَأَيْتَ فَتىً بَيْنَ السِّماكَيْنِ طالِعا وما ذُقْتُ طَعْمَ الذُّلِّ لَكِنْ أَعافُهُ ... كما عِفْتُ سُمّاً في فَمِ الصِّلِّ ناقِعا (¬2) ولا أَرْتَدي بِالكِبْرِ أَسْحَبُ ذَيْلَهُ ... وَلَوْ جاءَ في أَسْمى الأَمانِيِّ طائِعا ¬

(¬1) العضُد: الساعد، وهو من المرفق إلى الكتف. وهنا بمعنى: الناصر والمعين. (¬2) الصل: الحية، وقيل: الحية الدقيقة الصفراء. سم ناقع: أي: بالغ قاتل ثابت.

قافية الغين

قافية الغين كرم الأصل " قالها في مصر سنة 1365 هـ تصويراً لحالة التلميذ الطيب المنبت". تَقَلَّدْتَ في صَدْرِ الحَياةِ عَزيمَةً ... وباكَرْتَ تَجْني الْعِلْمَ والْعَيْشُ رابغُ (¬1) فكنت ترى الأيام غُرّاً سواسياً ... كأسنان مشط ليس فيها زوائغ (¬2) وكُنْتَ تَخالُ النّاسَ طُرًّا مَلائِكاً ... لِكُلِّ امْرِئٍ بُرْدٌ مِنَ الطُّهْرِ سابِغُ وتَحْسَبُ مَنْ يَشْكو الزَّمانَ وأَهْلَهُ ... يُزَوِّرُ في تَخْيِيلِهِ وُيبالغُ سَمِيرُكَ سِفْرٌ والدُّروسُ حَدائقٌ ... وَإِنْ أَقْبَلَ الأُستاذُ فالبَدْرُ بازِغُ تُراوحُ بَيْنَ الدَّرْسِ والْبَيْتِ دائباً ... لِتُحْرِزَ ما يَصْبو إلَيْهِ النَّوابِغُ وَوَفَّيْتَ أَيَّامَ التَّلقِّي حُقوقَها ... فَرَأْيُكَ وَضَّاحٌ وقَولُكَ دامغُ وصِرْتَ تُصافي النَّاسَ أَنَّى لَقيتَهُم ... وقَلْبُكَ مِنْ سوءِ الأَظانينِ فارِغُ وحَسْبُ السُّرى في بُغْيَةِ الْعِلْمِ أَنَّها ... وَقَتْكَ فَلَمْ يَنْزَغْ فُؤادَكَ نازغُ (¬3) ¬

_ (¬1) تقلد السيف: احتمله، ووضع نجاده على منكبيه. رابغ: ناعم. (¬2) سواسياً: متساوية. (¬3) السرى: سير عامة الليل. نزغ: أفسد وأغرى.

وأَعْطَتْكَ ما فوْقَ الحُلِيِّ نَفاسَةً ... وهَلْ صاغَ كالإخْلاصِ في الوِدِّ صائِغُ (¬1) يَروعُكَ أَنْ يَنْدَسَّ بَيْنَ أُولي النُّهى ... ذِئابٌ عَوادٍ أَوْ أَفاعٍ لوادغُ (¬2) خُذِ الحَزْمَ لا يُلْهيكَ عَنْهُ ابْتِسامَةٌ ... ولا رائقٌ مِنْ زُخْرُفِ الْقَوْلِ سائغُ (¬3) ¬

_ (¬1) الصائغ: من حرفته أن يعمل حلياً من الذهب والفضة. (¬2) أولي النهى: أصحاب العقول. (¬3) سائغ: السهل المدخل من الطعام والشراب، ويقال: شراب سائغ: عذب.

قافية الفاء

قافية الفاء [مناجاة النفس] " خواطر سنحت للشاعر في مستشفى الروضة بالقاهرة حيث أقام به ستة عشر يوماً لإجراء عملية جراحية". مَسَّها سُقْمٌ، وفي الأَسْقامِ ما ... كانَ طُهْراً مِنْ ذُنوبٍ سالِفَهْ (¬1) تتلَقَّاهُ عَلى صَبْرٍ وإِنْ ... كانَ رَحْلاً لِمَنونٍ خاطِفَه (¬2) ثِقَةٌ مِنْها بِرُحْمى قادِرٍ ... ما لِكَرْبٍ مِنْ سِواهُ كاشِفَه (¬3) مَلأَ الْعالَمَ آياتٍ هِيَ الـ ... ــــــــزُّهْرُ والأَلبابُ أَيْدٍ قاطِفَه فاحْذَري أيَّتُها النَّفْسُ هَوًى ... يَسْتَرِقُّ الْعَقْلَ قَبْلَ الْعاطِفَه هُوَ ذا الْفُرْقانُ يُلْقي حِكَماً ... تَتَمَلاَّها فُهومٌ ثاقِفَه (¬4) عِصْمةٌ مِنْ كُلِّ ما تَكْبو بِهِ ... نَظراتُ الفَيْلَسوفِ القائِفَه (¬5) ¬

_ (¬1) مسها: الضمير عائد على نفس الشاعر. السقم: المرض. (¬2) الرحل: مركب للبعير. المنون: الموت. (¬3) كاشفة: أي كشف. (¬4) ثاقبة: حاذقة وفطنة. (¬5) تكبو: كبا لوجهه: انكب على وجهه. القائفة: مؤنث القائف، وهو من يعرف الآثار.

فَرِدي مَنْهَلَهُ في لَهَفٍ ... تَجِدي طِبَّ النُّفوسِ اللاَّهِفَه (¬1) هذِه الدُّنيا كِتابٌ فَاعْرِفي ... رَمْزَهُ إنْ لَمْ تَكوني عارِفَه مَعْرِضُ الأَضْدادِ تَلْقَيْنَ بِها ... دُرَّةَ التَّاجِ وأُخْرى زائِفه وَوُجوهاً حُرَّةً زاهِرَةً ... وَوُجوهاً في هَوانٍ خاسِفَه (¬2) وعُيوناً بالكَرى طافِحَة ... وعُيوناً بِدُموعٍ ذارِفَه (¬3) وَقُلوباً في المُنى راتِعَةً ... وقُلوباً بالمآسي واجِفَه (¬4) تَخْطُرُ السَّرَّاءُ في رَوْنَقِها ... فَإذا الْبَأْساءُ تَغْدو رادِفَه (¬5) إنْ جَنَتْكِ النَّحْلُ شَهْداً فَارْقُبي ... أَنْ تَرَيْ رُقطاً بِسُمٍّ زاحفَه (¬6) هِيَ سِلْمٌ حينَ تَلْقى خامِلاً ... لا يُنادَى لِخُطوبٍ آزِفَه (¬7) وَهْيَ حَرْبٌ حينَ تلقى ناهِضاً ... لا يَهابُ المُرْهَفاتِ القاصِفَه (¬8) يَسْلَمُ الْكوخُ وتَنْصَبُّ على الْـ ... ـــــحِصْنِ نارُ الطَّائِراتِ القاذِفَه وَضَعَ الشَّيطانُ فِيها نُصُباً ... مِنْ مَلاهٍ شاتِياتِ صائِفَه ¬

_ (¬1) اللاهفة: المظلومة المضطرة تستغيث وتتحسر. (¬2) خاسفة: ذهبت ضوءها وأظلمت. يقال: خسف القمر: ذهب ضوءه وأظلم. (¬3) الكرى: النعاس. (¬4) واجفة: مضطربة. (¬5) السرّاء: الرخاء. رادفة: تابعة. (¬6) الرُّقط: جمع رقطاء، ويقصد بها: الحية فيها سواد يشوبه نقط بياض، أو عكسه. (¬7) آزفة: قريبة. (¬8) المرهفات: جمع مرهف: محدد مرقق الحد؛ أي: السيوف.

فَاسْكُبي أَدْمُعَكِ الحُمْرَ على ... أُمَّةٍ ظَلَّتْ عَلَيْها عاكِفه وَيْحَ مَنْ يَطْغِيهِ عَيْشٌ رافِهٌ ... والحُمَيَّا بِالنَّدامى طائِفهَ (¬1) رُبَّ زَهْرٍ راحَ مِنْ خَمْرِ النَّدى ... ثَمِلاً فَاكْتَسَحَتْهُ العاصِفَه لِكِفاحِ الشَّرِّ قِسْطاسٌ فَإنْ ... لَمْ تُقيمي الوَزْنَ كُنْتِ الآسِفَه (¬2) يَصِفُ الطِّبُّ سُموماً لو عَدَتْ ... وَصْفَهُ كانَتْ سِهاماً جائِفَه (¬3) وأَناةٌ سَمْحَةٌ تَكْفيكَ في ... دَفْعِكَ الشَّرَّ سُيولاً جارِفَه (¬4) فارْشُقي عَنْ قَوْسِ حِلْمٍ تُطْفِئي ... نارَ غَيْظٍ مِنْ صُدورٍ راجِفَه (¬5) لا تَشُحِّي بِاسْم"غازٍ" عَنْ فَتىً ... ساسَ بِالحِلْمِ لُيُوثاً ناكِفَه (¬6) مَنْطِقٌ يَلْهَجُ بالحُسْنى وَلَوْ ... جَبَهَتْهُ اللَّهَجاتُ العاسِفَه (¬7) تَنْعِقُ الْغِرْبانُ والوَرْقاءُ في ... دَوْحِها المَيَّادِ تَشْدو هاتِفَه أَنا لَمْ أَنْسَ غَريباً زَجَّ في ... بَطْنِ وادينا جُنوداً سائِفَه (¬8) ¬

_ (¬1) الحميا: شدة الغضب وأوله. (¬2) القسطاس: الميزان. (¬3) عدت: جاوزت. الجائفة: الطعنة التي تبلغ الجوف. (¬4) الأناة: الحلم والوقار. (¬5) ارشقي: رشق: رمى. (¬6) ناكفة: نكف عنه: أنف منه وامتنع، فهو ناكف. (¬7) جبهته: قابلته. العاسفة: يقال: عسف الطريق: خبطه على غير هداية، والعسف: الظلم. (¬8) الغريب: المستعمر. زجّ: رمى. سائفة: أي: ذوي سيوف.

الصداقة وحرية الرأي

أَنْكَدُ النَّاسِ حَياةً أُمَّةٌ ... سَلَبَتْها الحُكْمَ أَيْدٍ حائِفَه (¬1) لايَروعَنْكِ سُيوفٌ وَقَناً ... مُشْرَعاتٌ وسَفينٌ ناسِفَه (¬2) مِنْكَ عَزْمٌ مُرْهَفُ الحَدِّ وَمِنْ ... قَدَرِ اللهِ صُروفٌ ساعِفَه (¬3) لا تَخالي خَيْرَها وَقْفاً عَلى ... عَسْجَدٍ يَهْمي كَعَيْنٍ واكِفَه (¬4) شَرُّ أَيَّامِكِ يَوْمٌ يَنْقَضي ... في سِوى مَعْرِفَةٍ أوْ عارِفَه (¬5) لايُباهي بِتَليدِ المَجْدِ مَنْ ... ظَلَّ يَوْماً لا يُبالي طارِفَه (¬6) أَيُّ فَضْلٍ لِحَياةٍ لايَرى ... ناقِدوها غَيْرَ بِئْرٍ نازِفَه (¬7) فَأْنَسي بِالعَيْشِ إِنْ مَدَّ التُّقى ... مِنْ حَوالَيْهِ ظِلالاً وارِفَه وَأْنَسي بِالمَوْتِ إِنْ أَصْبَحْتِ في ... أُفُقِ الْعَلْياءِ شَمْساً كاسِفَه الصّداقة وحريّة الرأي أَيَصْفو لي مِنَ الأَصْحابِ خِلٌّ ... لَهُ أَدَبٌ أَرَقُّ مِنَ السُّلافِ (¬8) ¬

_ (¬1) حائفة: جائرة وظالمة. (¬2) سفين: جمع سفينة، وهي المركب. (¬3) ساعفة: مساعدة. (¬4) يهمي: يسيل لا يثنيه شي. واكفة: سالت دموعها قليلاً. (¬5) العارفة: العطية والمعروف. (¬6) التليد: المال القديم. الطارف: المال الحديث المستحدث. (¬7) بئر نازفة: التي نُزح ماؤها. (¬8) الخل: الصديق. السلاف: ما سال من عصير العنب قبل أن يعصر.

كبر الهمة

أَهيمُ بِهِ الحَياةَ وَما هُيامي ... بِغَيْرِ الأَلْمَعِيَّةِ والْعَفافِ (¬1) يُناقِشُ أَوْ يُخالِفُ بَعْضَ رَأْيِي ... فَأبْهَجُ بِالنِّقاشِ وبِالخِلافِ وأُوثِرُ أَنْ أَكَونَ مُحِبَّ حُرٍّ ... فَحُرُّ الرَّأْيِ أَمْثَلُ مَنْ تُصافي كبر الهمّة يَرْمي الهُمامُ وما غَيْرَ العُلا هَدَفاً ... ولا يُباكِرُ إلَّا الرَّوضَةَ الأُنُفا (¬2) والنَّاسُ كالشِّعْرِ إنْ وافَيْتَ تَنْقُدُهُ ... أَلْفَيْتَ سَبْكَ الْقَوافي مِنْهُ مُخْتلِفا كَم بَيْنَ شَهْمٍ يَدوسُ الصَّعْبَ في شَمَمٍ ... وخامِلٍ باتَ في مَهْدِ الهوى دَنِفا (¬3) التلميذ العاق بَسَطْتَ شُعاعَ عِلْمِكَ في نُفوسٍ ... تَسوقُ إلَيْكَ ما اسْطاعَتْ حُتوفاً كَذا الأَقْمارُ تَكْسو الأَرضَ نوراً ... وَلَولا الأَرْضُ ما لَقِيَتْ خُسوفاً من عجيب السّحر يَزْعُمُ السَّاحِرُ زُوراً أَنَّهُ ... يَقْلِبُ السَّوْطَ حُساماً مُرْهَفا (¬4) وُيُرينا الحَبْلَ في تَخْيِيلِهِ ... ساعِياً فَوْقَ الثَّرى مُنْعَطِفا يَعْجَبُ المَرْءُ لِسِحْرٍ وأَرى ... فيهِ سِحْراً عَجَباً لَوْ أَنْصفا ¬

_ (¬1) الألمعية: الذكاء. (¬2) الهمام: الملك العظيم الهمة، السيد الشجاع. الروضة الأنف: لم يرعها أحد. (¬3) الدَّنِف: الذي ثقل من المرض أو العشق، ودنا من الموت. (¬4) السوط: ما يضرب به من جلد مضفور ونحوه. الحسام المرهف: السيف القاطع الرقيق.

نشوة الشعر

شَهْوَةٌ تَحْدو عَلى إثْمٍ فَإنْ ... قُضيَ الإثْمُ اسْتحالَتْ أَسفا وإذا ما لاذَ بِالصَّبْرِ انْثَنَتْ ... بَيْنَ جَنْبَيْهِ رَواحاً وَصَفا (¬1) نشوة الشّعر " قالها وقد رأى شخصاً في تونس أخذته هزة طرب عند سماعه قصيدة رائعة ينشدها ذو صوت جميل". هذا الْفَتى ثَمِلٌ فَقُلْ لِنَديمِهِ ... أَتَلَوْتَ شِعْراً أَمْ أَدَرْتَ سُلافا (¬2) هاتِ الَّذي رَقَّتْ حَواشي طَبْعِهِ ... وأَدِرْ مِنَ الشِّعْرِ الأَنيقِ قُحافا (¬3) تأْخُذْهُ نَشْوَةُ طافِحٍ مِنْ خَمْرَةٍ ... تَدَعُ الرَّواسي كالرِّياشِ خِفافا (¬4) ولَرُبَّما أَبْصَرْتَهُ مُتَرَنِّحاً ... ومُصَفِّقاً أَعْيَا اللَّهاةَ هُتافا (¬5) [معلّم الكشّاف] حَضَنَتْكَ ذاتُ قَوادِمٍ وخَوافي ... قَنعَتْ بِقُوتٍ في الحَياةِ كَفافِ (¬6) ¬

_ (¬1) الرَّواح: وجدانك السرور الحادث من اليقين. (¬2) الثمل: السكران. (¬3) الحواشي: الجوانب. القِحاف: جمع قِحف: إناء من خشب مثل قحف الرأس كأنه نصف قدح. (¬4) طافح: ملآن. الرواسي من الجبال: الثوابت الرواسخ. (¬5) المترنح: المتمايل من السكر وغيره. اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم، جمع لهوات ولهيات. (¬6) القوادم: جمع قادمة، وهي عشر ريشات في مقدم الجناح، وهي كبار الريش. الخوافي: صغار الريش، وهي تحت القوادم. القوت: ما يأكله الإنسان ويقتات به. الكفاف من القوت: ما كف عن الناس وأغنى.

تَحْنو عَلَيْكَ وما دَرَتْ مَنْ ذا الَّذي ... أَوحى إلَيها بِالحُنوِّ الضَّافي (¬1) حَتَّى سَرى في جِسْمِكَ الرُّوحُ الَّذي ... خَلاَّكَ تُطْرَحُ بِالسِّياجِ الْجافي (¬2) بارَحْتَ قَيْضاً كُنْتَ فيهِ مُحَجَّباً ... فَاللُّؤْلُؤُ المَكْنونُ في أَصْدافِ (¬3) أَلْفَيْتَ بَيْتَاً لا بساطَ بهِ سِوى ... لَقَطاتِ عَصْفٍ كالرِّياشِ خِفافِ (¬4) فَجَثَمْتَ لا مُسْتَحْنيِاً فَرْشاً ولا ... مُسْتَوْحِشاً مِنْ قِلَّةِ الأُلَّافِ (¬5) ووَقْفَتْ حَوْلَ الوَكْرِ تَرْقُبُ أَوْبَةً ... مِنْ ذاتِ طَوْقٍ تَغْتَدي وتُوافي (¬6) تُوليكَ إسْعافاً ورِفْقاً والَّذي ... سَوَّاكَ رَبُّ الرِّفْقِ والإِسْعافِ رَفَعَتْكَ حِكْمَتُهُ إلى طَوْرٍ أَبى ... لَكَ أنْ تَظَلَّ غَنيمَةَ الخُطَّافِ (¬7) راشَتْ جَناحَكَ فَانتُضيْتَ عَزيمةً ... وعَلَوْتَ تَكْشِفُ عَنْ قُرًى وَفَيافي (¬8) لَوْ أَنْصَفوكَ دَعَوكَ فيما بَيْنَهُم ... يَوْمَ الْفَخارِ: مُعَلِّمَ الْكَشَّافِ (¬9) ¬

_ (¬1) الضافي: السابغ. (¬2) السياج: ما أحيط به على شيء. الجافي: الغليظ. (¬3) القيض: القشرة العليا اليابسة على البيضة. (¬4) اللقطات: جمع اللقطة: الشيء تجده ملقى فتأخذه. العصف: ورق الزرع. (¬5) الألاف: جمع الإلف: العشير المؤانس. (¬6) الوكر: عش الطائر. الأوبة: الرجعة. ذات الطوق: الحمامة. (¬7) الطور: الحال، الهيئة. (¬8) راش السهم: ألزق عليه الريش. (¬9) الكشاف: يقال: كشف الشيء: أظهره، ورفع عنه ما يواريه.

منار بشاطئ نابلي

منار بشاطئ نابلي " قال هذين البيتين عند رسو السفينة بشاطئ "نابلي" وهو عائد من الآستانة إلى تونس سنة 1335 هـ ". كَأَنَّ مَناراً لاحَ في فَحْمَةِ الدُّجى ... ومَنْظَرُهُ المُحْمَرُّ يَبْدو ويَخْتَفي (¬1) حَشًا تَقْذِفُ الأَشْواقُ فِيهِ بِجِذْوَةٍ ... وآوِنَةً يَرْجو الوِصالَ فَتَنْطَفي (¬2) ¬

_ (¬1) فحمة الدجى: أي: شدة سواد الليل. (¬2) الجذوة: الجمرة الملتهبة، القبسة من النار.

قافية القاف

قافية القاف ذكرى المولد " قيلت في احتفال جمعية الهداية الإسلامية بذكرى المولد النبوي الشريف سنة 1359 هـ ". أَمِنْ خَفَقانِ أَفْئِدَةٍ رِقاقِ ... تَأَلَّقَتِ المَدامِعُ في المَآقي (¬1) إذا أَهْدَتْ يَدُ الإقْبالِ بُشْرى ... تَلَقَّتْها الضَّمائِرُ باخْتِناقِ (¬2) كما اهْتَزَّتْ غُصونٌ لاعَبَتْها ... جَنوبٌ باعْتِناقٍ وانْطِلاقِ (¬3) وأَرْشَفَها الرَّبيعُ نَدَى فَطابَتْ ... رُباها لاصْطِباحٍ واغْتِباقِ (¬4) لِلَيْلَتِنا الفَخارُ إذا اللَّيالي ... تَباهَتْ بالمَحاسِنِ وَالمَراقي (¬5) أشارَتْ بالمَغيبِ عَلى ذُكاءٍ ... وجاءَتْ بالكَواكِبِ في اتِّساقِ (¬6) ¬

_ (¬1) تألقت: لمعت. المآقي: جمع مأق: مجرى الدمع من العين. (¬2) الضمائر: القلوب والبواطن. اختفاق: خفقان. (¬3) الجَنوب: الريح المقابلة للشمال. (¬4) الاصطباح: شرب الصبوح. الاغتباق: شرب الغبوق. (¬5) المراقي: جمع المرقى والمَرقاة: الدرجة. (¬6) ذكاء: الشمس.

ومَدَّتْ في السَّماءِ الْبَدْرَ كَفًّاً ... تُديرُ الأُنْسَ بالكَأْسِ الدِّهاقِ (¬1) ولَوْ أَرْخَتْ ذُؤابَتَها لَقُلْنا ... خُذوا هذا السَّوادَ إلى الحِداقِ (¬2) ذَكَرْنا إذْ تَقَلَّدَتِ الْمَعالي ... حُساماً قَدْ تَهَيّأَ لامْتِشاقِ (¬3) ذَكَرْنا كَيْفَ لاحَ جَبينُ طه ... وَهَبَّ الْفَجْرُ يُؤْذِنُ بِانْبِثاقِ كأَنَّ الْفَجْرَ والميلادَ جاءا ... لإجْلاءِ الظَّلامِ على اتِّفاقِ أَلا مَنْ مُبْلِغٌ قَمراً تَوارى ... وساطِعُ نُورِهِ في النَّاسِ باقِ سَلاماً كالصِّبا مَرَّتْ بِرَوْضٍ ... وَلاقَتْها الْكَمائِمُ بانْفِتاقِ (¬4) أَرومُ مَديحَهُ وَإخالُ أَنَّي ... سَأَحْظى مِنْهُ بالسَّيْلِ الدُّفاقِ (¬5) فَيَبْهَرُني عُلاهُ كأَنَّ فِكْري ... تَوَثَّبَ وَهْو مَشْدودُ الوَثاقِ تَمَلَّى نورَهُ صَحْبٌ فَأَغْنَوْا ... غَناءَ النَّجْمِ في الظُّلَمِ الصِّفاقِ (¬6) نُفوسٌ أَخْصَبَتْ هَدْياً وَأَدْنَتْ ... إلى الدُّنْيا جَنىً عَذْبَ المَذاقِ تَحَلَّتْ بالمَكارِمِ وَهْيَ أَغْلى ... مِنَ الحَليِ المُخَبَّأِ في الحِقاقِ (¬7) ¬

_ (¬1) الكأس الدهاق: الممتلئة. (¬2) الذؤابة: الضفير من الشعر. الحداق: جمع حدقة: سواد العين الأعظم. (¬3) الامتشاق: امتشق السيف: استله؛ أي: أخرجه من غمده. (¬4) الصّبا: ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. (¬5) السيل الدفاق: الذي يملأ جنبي الوادي. (¬6) الظُّلَم: جمع ظلمة: ذهاب النور. الصِّفاق: جمع الصفيقة: الكثيفة. (¬7) الحِقاق: جمع الحق: الوعاء.

وتُؤْثِرُ غَيْرَها بالزَّادِ زُهْداً ... وتَقْنَعُ في المَعِيْشَةِ بِالرِّماقِ (¬1) ولا تَرْضى إذا خُطِبَتْ خِصالُ الْـ ... ـــــعُلا إلَّا بِغالِيَةِ الصَّداقِ (¬2) سَراةٌ أَحْكَموا الإِصْلاحَ عِلْماً ... وَهَبُّوا لِلْجِهادِ على وِفاقِ (¬3) دَعَوا والحُجَّةُ الْغَرَّاءُ تَهْدي ... إلى سُبُلِ الحَقائِقِ مَنْ تُلاقي وناَصَبَهُمْ خُصومُ الحَقِّ حَرْباً ... فَلاذوا بالمُثَقَّفَةِ الرِّقاقِ (¬4) وهَلْ يُجْدي الأَصَمَّ بَيانُ قُسٍّ ... وهَلْ يَشْفي أَخا الأَمْواتِ راقِ (¬5) فَكَمْ شَرَعوا الأَسِنَّةَ في كِفاحٍ ... وَكَمْ مَلَؤوا الأَعِنَّةَ في سِباقِ (¬6) وإنْ قاموا قُنوتاً لَمْ يُقاسُوا ... بِغَيْرِ مَلائِكِ السَّبْعِ الطِّباقِ (¬7) هُمُ الأَعْلامُ إنْ طَمَحَتْ نُفوسٌ ... إلى عَلْياءَ واسِعَةِ النِّطاقِ ¬

_ (¬1) الرماق: ما يسد الحاجة. (¬2) الصّداق: مهر المرأة. (¬3) السراة: سادة القوم ورؤساؤهم، جمع السريّ. (¬4) المثقفة: الرماح. (¬5) قس: (... - نحو 23 ق. هـ) قس بن ساعدة من بني إياد، أحد حكماء العرب، ومن كبار خطبائهم في الجاهلية، يقال: إنه أول عربي خطب متوكئاً على سيف أو عصا، وأول من قال في كلامه: "أما بعد". (¬6) الأعنة: جمع عنان: سير اللجام الذي تُمْسَك به الدابة. (¬7) القنوت: الطاعة والقيام في الصلاة والدعاء. السبع الطباق: السماوات السبع، مطابقة بعضها على بعض.

ولا أَدْري أَقَوْميَ في سُباتٍ ... فَأَرْجو صَحْوَهُمْ أَمْ في سِياقِ (¬1) فَأَشْياعُ الضَّلالِ الْيَوْمَ صالوا ... بِأَلْسِنَةٍ وأَقْلامٍ حِماقِ (¬2) وَهُمْ ما بَيْنَ إلْحادٍ وَقاحٍ ... وإلحادٍ تَقَنَّعَ بالنِّفاقِ (¬3) وإنْ شَؤُمَ النُّعاقُ فَما أَزاغُوا ... بِهِ الْفَتَيَاتِ أَشْأَمُ مِنْ نُعاقِ (¬4) فَمِنْ قِصَصٍ تُعاطي قارِئيها ... شَراباً دِيفَ بالسُّمِّ الزُّعاقِ (¬5) ومِنْ صُوَرٍ تُثيرُ هَوًى وتَحْدو ... نُفوساً كالبُدورِ إلى مُحاقِ (¬6) أَما لِشبابِ أَحْمَدَ أَنْ يَذودوا ... خُطوباً كالمَطاعِنِ في التَّراقي (¬7) وَيرْموا لِلسِّيادَةِ عَنْ قِسِيٍّ ... مِنَ الإيمانِ والتَّقْوى رِشاقِ (¬8) كَفَى ما قَدْ خَسِرْنا مِنْ شَبابٍ ... رَأَوْا سُوقَ الخَلاعَةِ في نفَاقِ (¬9) ¬

_ (¬1) السبات: النوم. السياق: نزع الروح. (¬2) الأشياع: الأتباع والأنصار. حماق: جمع أحمق. (¬3) الوقاح: ذو الوقاحة للذكر والأنثى. (¬4) النعاق: صياح الغراب. أزاغوا الشيء: أمالوه. (¬5) ديف: خُلط. الزّعاق: المر الغليظ. (¬6) المحاق: آخر الشهر القمري، أو ثلاث ليالٍ من آخره. (¬7) التراقي: جمع الترقوة: العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، أو أعلى الصدر. (¬8) القسي: جمع القوس. (¬9) نفَاق: يقال نفقت السلعة: أي: كثر طلابها.

ولقد ذكرتك

فَغادَوْها، وكَيْفَ تَرى فَراشاً ... تَهَافَتَ في لَظى النَّارِ الحِراقِ (¬1) وما لِلنَّفْسِ إنْ رَكِبَتْ هَواها ... وحَطَّتْ في المَجانَةِ مِنْ خَلاقِ (¬2) هِيَ الشَّكْوى يُرَدِّدُها لِسانٌ ... وما بَيْنَ الجَوانِحِ في احْتِراقِ ولقد ذكرتك " قالها في دمشق مجاراة لمن نظموا على هذا الأسلوب". ولَقَدْ ذَكَرْتُكَ في الدُّجى والجُنْدُ قَدْ ... ضَرَبوا على دَارِ الْقَضاءِ نِطاقا (¬3) وقُضاةُ حَرْبٍ أَرْهَفوا أَسْماعَهُمْ ... وصُدورُهُمْ تَغْلي عَلَيَّ حِناقا (¬4) والمُدَّعي يُغْري الْقُضاةَ بِمَصْرَعي ... وَيرى مُعاناتي الدِّفاعَ سِياقا (¬5) أَتَروعُ أهْوالُ المَنونِ مُتَيَّماً ... جَرَّعْتِهِ بَعْدَ الوِصالِ فِراقا أنت ريحانة الحياة " قالها عقب وداع أحد أصدقائه". قُلْتُ إذْ هَمَّ صاحِبي بِرَحيلٍ ... أَتُذيقَ الحَشا عَذابَ الحَريقِ أَنْتَ رَيْحانَةُ الحَياةِ إذا ما ... غِبْتَ عَنْ ناظِري غَصَصْتُ بِريقي ¬

_ (¬1) فغادوها: باكروها. نار حراق: لا تبقي شيئاً. (¬2) المجانة: الهزل. الخَلاق: النصيب الوافر من الخير. (¬3) دار القضاء: المحكمة. (¬4) قضاة حرب: الحكام العسكريون الذين حاكموا الشاعر في عهد جمال باشا بدمشق. (¬5) المدّعي: ممثل النيابة العامة، السياق: نزع الروح.

لم أضع للود حقا

فَابْقَ للأُنْسِ واتْرُكِ الْبَيْنَ يَحْدو ... بالأَعادي إلى مَكانٍ سَحيقِ [لم أضع للودّ حقاً] أَتَنَسَّمْتَ الصَّبا مِنْ "حاجِرٍ" ... حَادِيَ الأَيْنَقُ أَمْ شِمْتَ بُروقَهْ (¬1) عُجْ بِهِ نَشْفِ بِملْقى جِيرَةٍ ... ضَرَبوا الْخَيْمَ بِهِ نَفْساً مَشُوقَه (¬2) وإذا ما عاقَنا بُطْءُ السُّرى ... عَنْ صَبوحِ الوَصْلِ أَدْرَكْنا غَبوقَه (¬3) هاهُنا مَرْتَعُهُمْ، خُذْ بِيَدي ... وَدعِ الأَيْنُقَ في الرَّوضِ طَليقَه طالَ بي الْبَيْنُ إلى أنْ أَطْفَأَتْ ... نَظْرَةٌ مِنْ ساكِني الْبانِ حَريقَه (¬4) يا بُدوراً حُسْنُها ابْتَزَّ النُّهى ... وهَواها مَدَّ في الْقَلْبِ عُروقَه (¬5) عادتِ الأيامُ مِنْ هِجْرانِكُمْ ... ليَ خَصْماً بَعْدَ أنْ كانَتْ صَديقَه مِنْ دُجًى يَقْضيهِ جَفْني أَرَقاً ... وضُحًى يُلْبِسُهُ اللَّيْلُ غُسوقَه وكَفى جِسْمي نُحولاً أنْ تَخا ... لوهُ كالطَّيْفِ خَيالاً لا حَقيقَه لَمْ أُضِعْ لِلْوُدِّ حَقَّاً، أَفَما ... حانَ أَنْ يَرْعى الأَخِلاَّءُ حُقوقَه؟ ¬

_ (¬1) الحاجر: المنزل في البادية، والأرض المرتفعة ووسطها منخفض. الأنيق: جمع الناقة، وهي الأنثى من الإبل. شِمتُ البرق: نظرت إليه أين يقصد وأين يمطر. (¬2) الخيم: الخيمة: بيت تبنيه العرب من عيدان الشجر. (¬3) السرى: سير عامة الليل. الصبوح: كل ما أُكل أو شُرب غدوة. الغبوق: ما يشرب بالعشي. (¬4) البان: شجر ليّن القوام، الواحدة بانة. (¬5) ابتزّ الشيء: استلبه. النهى: العقل.

الرتيمة

[الرّتيمة] (¬1) ما النَّجْمُ تَجْري بهِ الأَفْلاكُ في غَسَقِ ... كالدُّرِّ تَقذِفُهُ الأَقْلامُ في نَسَقِ لَقَدْ سَلَوْتُ مُحَيَّا الْبَدْرِ إذْ طَلَعَتْ ... عَقيلَةُ الطَّرْسِ والأَجْفانُ في أَرَقِ وكُنْتُ أَرْشُفُ مِنْ جَدْوى بَلاغَتِها ... راحاً فَيَهْدَأُ ما في الجَأْشِ مِنْ قَلَق (¬2) تَخْشى إذا أَفْصَحَتْ عَمَّا تَوَهَّجَ مِنْ ... حَماسَةٍ أَنْ تَشُبَّ النَّارُ في الوَرَقِ ¬

_ (¬1) كان فضيلة الإمام الأكبر محمد الخضر حسين مقيماً في دمشق مع عائلته سنة 1338 هـ , وكان قد عزم على الارتحال منها إلى تونس، فكتب إليه الشاعر الكبير الأستاذ خليل مردم وزير خارجية سورية ورئيس المجمع العلمي بها في ذاك العهد كتاباً رقيقاً قال فيه: "إن من خير ما أثبته في سجل حياتي، وأشكر الله عليه، معرفتي إلى الأستاذ الجليل السيد محمد الخضر التونسي وإخوانه الفضلاء، وصحبتي لهم، فقد صحبت الأستاذ عدة سنين رأيته فيها الانسان الكامل الذي لاتغيره الأحداث والطوارئ، فما زلت أغبط نفسي على ظفرها بهذا الكنز الثمين حتى فاجأني خبر رحلته عن هذه الديار، فتراءت لي حقيقة المثل: "بقدر سرور التواصل، تكون حسرة التفاصل". فلم يعد لي إلا الرجاء بأن يكون لي نصيب من الذكر في قلبه، وحظ من الخطور على باله، لذلك فأنا أتقدم بهذه القصيدة الوطنية لتكون لي رتيمة عنده، وذكرى أحد المخلصين إليه، أمتع الله به، وأدام الكرامة، وكتب له السلامة في حله وترحاله". ثم أتبع الخطاب بقصيدة مطلعها: طيف للمياء ما ينفك يبعث لي ... في آخر الليل إن هوّمت أشجانا (¬2) الجأش: نفس الإنسان.

صرخة المغرب

فَأَلْبَسَتْها أَساليبَ النَّسيبِ، وَكَمْ ... ذاقَ الحَشا لَوْعَةً مِنْ ناعِسِ الحَدَقِ هِيَ "الرَّتيمَةُ" فيما قالَ مُبْدِعُها ... وَهَلْ يَغيبُ السَّنا عَنْ طَلْعَةِ الْفَلَقِ (¬1) إِنِّي عَلى ثِقَةٍ مِنْ أَنَّ ذِكْرَكَ لا ... يَنْفَكُّ مُرْتَسِماً في النَّفْسِ كالخُلُقِ وكَيْفَ أنْسى "خَليلاً" قَدْ تَضَوَّعَ في ... حُشاشَتي وُدُّهُ كالعَنْبَرِ الْعَبِقِ وفي الوَرى خَزَفٌ لَكِنْ تَبَرَّجَ في ... نَضارةِ الذَّهَبِ الصَّافي أوِ الوَرِقِ وَلَوْ عَصَرْتَ بِكَفِّ النَّقْدِ مُهْجَتَهُ ... لَما تَقاطَرَ غَيْرُ الضِّغْنِ والْمَلقِ (¬2) لا عَتْبَ إنْ ضاقَ باعي في الْقَريضِ فَلَمْ ... يُضئْ كما ضاءَتِ الجوْزاءُ في الأُفقِ فَإنَّ إحْساسِيَ الشِّعْرِيَّ أوشَكَ أَنْ ... يَجودَ بالنَّفَسِ الأَقْصى مِنَ الرَّمَقِ (¬3) لَمْ تُبْقِ لي حادِثاتُ الدَّهْرِ مِنْهُ سِوى ... أَثارَةٍ كَبَقايا الشَّمْسِ في الشَّفَقِ (¬4) [صرخة المغرب (¬5)] يَصْرُخُ المَغْرِبُ غَيْظاً واحْتِراقا ... صَرْخَةَ النَّاهِضِ لِلْمَوْتِ اشْتياقا لا تَلوموهُ إذا خاضَ الوَغى ... وَرَأَيْتُمْ دَمَهُ الْغَضَّ مُراقا (¬6) ¬

_ (¬1) الفلق: ما انفلق من عمود الصبح. (¬2) الملق: اللطف الشديد، الود. (¬3) الرمق: بقية الروح، جمع أرماق. (¬4) أثارة: بقية. (¬5) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الأول والثاني من المجلد التاسع عشر. (¬6) الوغى: الصوت والجلبة، والحرب؛ لما فيها من الصوت والجلبة. الغض: الطري، الطلعُ الناعم.

هُوَ يَلْتَذُّ الرَّدى إذْ يَسْكُبُ الـ ... ـــــضَّيْمُ في أَكْؤُسِهِ ماءً زُعاقا (¬1) أَوْفَدَ الشَّرْقُ رِجالاً طَبَّقوا ... أَرْضَهُ رُشْداً وعِلْماً ووِفاقا فَانْبَرَى يَسْمو بِجَنْبِ الشَّرْقِ في ... هِمَمٍ تَسْتَشْرِفُ السَّبْعَ الطِّباقا (¬2) شادَ بالعِرْفانِ والْعَدْلِ عُلاً ... عَقَدَت مِنْ أَدَبِ الدِّينِ نِطاقا واقْتَنى لِلذَّوْدِ عَنْ ساحَتِها ... مُرْهَفاتِ البِيضِ والخَيْلَ الْعِتاقا (¬3) وجرى الإصلاحُ في آفاقِهِ ... نازِفاً أَسْقامَهُ حَتّى أَفاقا (¬4) يَحْسَبُ الوافِدُ بِدْءاً أَنَّهُ ... جاءَ أَرْضَ الشَّامِ أَوْ وافى الْعِراقا أُمَّةٌ أَوْدَعَتِ التَّاريخَ ما ... بَهَرَ الأَحْفادَ مِنْ فَخْرٍ وَراقا وَصَلَ الأَحْفادُ مَجْداً تالِداً ... بِطَريفٍ فازْدَهى المَجْدُ اتِّساقا (¬5) راعَهَمْ جُنْدٌ غَريبٌ حَلَّ في ... أَرْضِهِمْ يَخْتَرِطُ الْبِيضَ الرِّقاقا (¬6) ¬

_ (¬1) الماء الزعاق: الماء المر الغليظ لا يطاق شربه. (¬2) استشرف الشيء: رفع بصره ينظر إليه، وبسط كفه فوق حاجبيه كالمستظل من الشمس. السبع الطباق: السموات السبع. (¬3) البيض: جمع الأبيض، وهو السيف. مرهفات: يقال: سيف مرهف؛ أي: محدّد مرقق الحد. العتاق: جمع العتيق: الرائع، الكريم من كل شيء. (¬4) النازف: نزف ماء البئر: أي: نزحه كله. أفاق فلان من مرضه: رجعت الصحة إليه، أو رجع إلى الصحة. (¬5) التالد: كل مال قديم. الطريف: المكتسب من المال (¬6) اخترط السيف: استله من غمده. البيض الرقاق: السيوف.

حَسِبَ الْبَغْيَ عَلَيْهِمْ خَمْرَةً ... فتَعاطاهُ اصْطِباحا واغْتِباقا (¬1) ذَكَروا عَهْدَ العُلا والحُرُّ مَنْ ... يَذْكُرُ الْعَهْدَ حِفاظاً وصَداقا (¬2) نَهَضوا نَهْض أُسودِ الْغَابِ لا ... يَعْرِفونَ الدَّهْرَ لِلذُّعْرِ مَذاقا ظَلَّتِ الحَرْبُ سِجالاً حِقْبَةً ... لَمْ يَنَمْ فيها الْفَريقانِ فُوَاقا (¬3) أَيُّ حَرْبٍ وَضَعَتْ أَوْزارَها ... أَيُّ أَمْنٍ مَدَّ في الأَرضِ رُواقا (¬4) بَيْنَ أَيْدٍ أَمْعَنَتْ في عَسْفِها ... وقُلوبٍ مُلِئَتْ مِنْهُ حِناقا (¬5) يَسْفِكُ الْباغي دِماءً ذَنْبُها ... أَنَّها تَغْلي إذا شَدَّ الخِناقا وطَغى في الأرْضِ حَتّى إنَّهُ ... هَمَّ بالدِّينِ خُسوفاً أوْ مُحاقا يَنْصِبُ الأَشْراكَ كَيْ يَصْرِفَ عَنْ ... حِكْمَةِ اللهِ قُلوباً وحِداقا لاذَ بالتَّجْنيسِ والقَوْمُ أَبَوْا ... خَوْفَ أَنْ يَصْلَوا بهِ النَّارَ الحِراقا (¬6) ¬

_ (¬1) الاصطباح: الشرب بالصباح. الاغتباق: الشرب بالعشي. (¬2) الصداق: إخلاص المودة والنصيحة. (¬3) حرب سجال: أي: سَجْلٌ منها على هؤلاء، وآخر على هؤلاء، يعني: أنها مرة لهم، ومرة عليهم. الحقبة: مدة لا وقت لها. الفواق: ما بين الحلبتين من الوقت؛ لأن الناقة تحلب، ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر، ثم تُحلب. (¬4) الأوزار: جمع الوزر: الحمل الثقيل. الرواق: بيت، وقيل: سقف في مقدم البيت. (¬5) العسف: الظلم. الحناق: جمع الحنق، وهو الغيظ، وشدة الاغتياظ. (¬6) التجنيس: فتح باب التجنيس بالجنسية الفرنسية. الحراق: التي لا تبقي شيئاً.

عدو الملق

وبَنُو المَغْرِبِ عُرْبٌ شِيَماً ... ولِساناً، لا ادِّعاءً وَاخْتِلاقا شادَ دونَ الشرقِ سَدّاً فغدا ... وَصْلُ ما بَيْنَ الشَّقيقَيْنِ افْتِراقا يَلْذَعُ الأكبادَ بالمُرِّ وقدْ ... يَلْمِسُ الآذانَ بالحُلوِ نِفاقا أُمَّةٌ أَعْهَدُها تَحْنو على ... سانِحِ الآراءِ تَبْغيهِ عِتاقا (¬1) فاسْأَلوا أقْلامَها ما خَطْبُها ... تَتَمَشَّى في القَراطيسِ رِقاقا (¬2) أَيُّها الدَّائِبُ في تَثْبيطِها ... وشُعوبٌ دونَها حازوا السِّباقا قَوَّضِ السَّدَّ الَّذي شَيَّدْتَهُ ... قَبْلَ أَنْ يَجْتابَهُ الْقَوْمُ اخْتِراقا (¬3) خُذْ إلى صَدْرِكَ كَفَّيْكَ وَدَعْ ... خَيْلَها تَعْدو إلى المَجْدِ انْطِلاقا وقُلِ الْفَصْلَ إذا حدَّثْتَها ... فَالرِّياءُ الْيَوْمَ لا يَلْقى نفَاقا (¬4) أَنْتَ تَبْغيها خُمولاً وإذا ... أَهَّبَتْ للصِّيت ضاعَفَتِ الوِثاقا (¬5) مَنْ عَذولي إنْ أَنا مَجَّدتُها ... يَوْمَ تَجْتاحُ قُيوداً ورِباقا (¬6) عدو الملق جِيرَةٌ كاتَمْتُهُم وُدِّي وما ... كَتْمُ وُدِّي قَبْلَهُمْ مِنْ خُلُقي (¬7) ¬

_ (¬1) العتاق: يقال: عتق العبد عتاقاً؛ أي: خرج عن الرق. (¬2) القراطيس: جمع القرطاس: الصحيفة. الرقاق: جمع الرقيق، وهو المملوك. (¬3) اجتاب: خرق. (¬4) الفصل: الحق من القول. النفاق.: نافق الشخص: أظهر خلاف ما يبطن (¬5) أهّبتْ للأمر: استعدت له. الصيت: الذكر الحسن. (¬6) العذول: الكثير الملامة. الرباق: جمع الرِّبق: حبل فيه عدة عرى تشد به البهم. (¬7) الجيرة: جمع الجار. كاتم الودَّ: كتمه.

عند ينبوع زغوان

إنَّما باحَ بهِ جَفْنٌ جَرى ... ساعَةَ الْبَيْنِ بِدَمْعٍ غَدَق (¬1) مَنْ عَذيري إنْ أَنا وَدَّعْتُهُمْ ... بِمَآقٍ كالْجَهامِ المُمْلِقِ (¬2) وانْثَنَوْا بَعْدَ النَّوى يُغْريهِمُ ... بِاللِّقا أَنِّي عَدُوُّ الْمَلَقِ (¬3) فَجَلَتْ طَلْعَتُهُمْ ما خَلَّفوا ... مِنْ تَباريحِ الأَسى والأَرَقِ (¬4) مِثْلَما تَجْلو بُدورٌ ظُلْمَةً ... ضَرَبَ اللَّيْلُ بها في الأُفُقِ عند ينبوع زغوان " زغوان: جبل قريب من مدينة تونس به عين دافقة، يجري ماؤها في أنابيب تحت الأرض إلى المدينة، وحول هذه العين قرية تسمى "زغوان"، وكان الشاعر قد زارها سنة 1331 هـ، وصعد أعلى الجبل الذي يتفجر منه الماء، وهناك نظم هذين البيتين". رَوَيْنا عَنِ الْماءِ الْمَعينِ بِتُونُسٍ ... أحاديثَ عَنْ يَنْبوعِ زَغْوانَ رائقَه وخالَجَني رَيْبٌ إلى أَنْ عَرَضْتُها ... على السَّنَدِ الْعالي فَكانَتْ مُطابِقَه (¬5) ¬

_ (¬1) البين: الفرقة. الغدق: الماء الكثير. (¬2) الجَهام: السحاب لا ماء فيه. المملق: الفقير. (¬3) الملق: اللطف الشديد. (¬4) الطلعة: الرؤية، أو الوجه. التباريح: كلف المعيشة في مشقة. (¬5) السند: ما قابلك من الجبل وعلا عن السفح، وفي هذا البيت تورية بالسند في الحديث، وهو طريق المتن، أو هو رواة الحديث، والعالي منه ما قلّت رجاله.

يا قطار

يا قطار " قيلت عند مسير القطار بعد وداع الأهل بدمشق مسافراً إلى الآستانة سنة 1334 هـ ". أُرَدِّدُ أَنْفاساً كَذاتِ الوَقودِ إِذْ ... رَمَتْني مِنَ الْبَيْنِ المُشِتِّ رَوَاشِقُ (¬1) وما أَنْتَ مِثْلي يا قِطارُ وإنْ نَأَى ... بِكَ السَّيْرُ تَغْشى بَلْدَةً وتُفارِقُ فما لَكَ تُلْقي زَفْرَةً بَعْدَ زَفْرَةٍ ... وَشَمْلُكَ إذْ تَطْوي الفَلا مُتنَاسِقُ ¬

_ (¬1) الرواشق: يقال: رشقه بالنبل وغيره: رماه به.

قافية الكاف

قافية الكاف الخلافة والانقلاب التركي " قالها بمناسبة إلغاء كمال أتاتورك (¬1) للخلافة الإسلامية، وإعلانه أن الحكومة لادينية سنة 1922 م ". ما خَطْبُ قَوْمٍ - طالَما وَصَلوكِ ... واعْتَزَّ باسْمِكِ عَرْشُهُمْ - هَجَروكِ (¬2) حَرَسوكِ أَحْقاباً وحَلَّقَ صِيتُهُمْ ... في الخافِقَيْنِ لأَنَّهُمْ حَرَسوكِ (¬3) كُنْتِ الوَقارَ على وُجوهِ غُزاتِهِمْ ... والأَمْنَ إِنْ نَظَروا بِعَيْنِ ضَحوكٍ كُنْتِ الْبُطولَةَ تَزْدَري نارَ الوَغى ... والنَّصْرَ يُعْقَدُ بالْقَنا المَشْبوكِ (¬4) ما زِلتِ سِمْطَ قِلادَةٍ خَرَزاتُها ... أُمَمٌ بِأَغْلى فِدْيةٍ تَفْديكِ (¬5) ¬

_ (¬1) مصطفى كمال (1881 - 1938 م) مؤسس الجمهورية التركية، وأول رئيس لها عام 1923 م، لقب بـ "أتاتورك" أي: أبو الأتراك. (¬2) الخطب: الشأن والأمر، صغُر أو عظُم. (¬3) الأحقاب: جمع الحُقْب: ثمانون سنة، ويقال أكثر من ذلك، والدهر، والسنة. الخافقان: المشرق والمغرب؛ لأن الليل والنهار يخفقان فيهما. (¬4) تزدري: تحتقر وتستخف. المشبوك: يقال شبك الشيء: أنشب بعضه في بعض وأدخله. ويقصد الشاعر هنا: اشتباك بعضها ببعض؛ لكثرتها. (¬5) السمط: الخيط الذي ينظم فيه الخرز واللؤلؤ.

تَصْبو إلى دُسْتورِكِ الأَحْرارُ إذْ ... يَضَعُ المَليكَ بِجانِبِ المَمْلوكِ (¬1) وَزَنَ الحُقوقَ فَما الثَّرِيُّ بِراجِحٍ ... في حُكْمِهِ يَوْماً على الصُّعْلوكِ حتّى تَحَكَّمَ فيهِ رَهْطٌ بَدَّلوا ... خَبَثَ الحَديدِ بِعَسْجَدٍ مَسْبوكِ (¬2) نَزَعاتُ وَسْواسٍ تَخَبَّطَهُمْ فَما ... لَبِثوا أَنِ اغْتَرُّوا بِوَحْيِ أَفُوكِ (¬3) حازوا مَناصِبَ أَفْرَغوا سُلْطانهَا ... فيما يَميدُ بِصَرْحِكِ الْمَسْموكِ (¬4) نَكَثوا بِما نَقَضوهُ مِنْ لَبنِاتِهِ ... عَهْدَ الرَّسولِ وأَغْضَبوا أَهْليكِ (¬5) هذا النُّشوزُ على الشَّريَعةِ مُؤْذِنٌ ... بِغُروبِ شَمْسِكِ بَعْدَ طولِ سُمُوكِ (¬6) هاجَ الشِّقاقُ وَفَثَّ في غُلَوائِهِ ... عَضُدَ اتِّحادِ شُعوبِكِ المَنْهوكِ (¬7) أَوْرى الزِّنادَ كما يُقالُ عِصابةٌ ... في الْغَرْبِ خَلْفَ سِتارِها الْمَهْتوكِ زادَ اللَّظى حَطَباً هَوى قَوْمِيَّةٍ ... غَشيَ الْقُلوبَ بِرَجْفَةِ المَوْعوكِ (¬8) ¬

_ (¬1) الدستور: يريد به: الشريعة الإسلامية الغراء. (¬2) الرهط: قوم الرجل وقبيلته. خبث الحديد: ما نفاه الكير. (¬3) الوسواس: الشيطان. أفوك: كاذب، ويعني به الشيطان. (¬4) يميد: يتحرك. المسموك: الطويل والمرفوع. (¬5) نكثوا: نقضوا ونبذوا. (¬6) النشوز: يقال: نشزت المرأة: استعصت على بعلها وأبغضته. سموك: ارتفاع. (¬7) فت عضده: كسر قوته، وفرّق عنه أعوانه. المنهوك: المصاب بالمرض والضنى. (¬8) القومية: أن ينتمي كل فريق من المسلمين إلى بلده وإقليمه وصنفه، وينسى لحمة الدين، وقد كان هذا سبب ضعف المسلمين وذهاب ريحهم.

عَبَرَ الخُصومُ "الدَّرْدَنيلَ" بُعَيْدَ ما ... كُسِيَتْ شَواطئُ بِالدَّمِ المَسفوكِ (¬1) هَبَطوا فَرُوقَ وقَصْرُ يَلْدِزَ مُطْرِقٌ ... وقِلاعُها بصُماتِها تَرْثيكِ (¬2) لَوْلا اخْتِلافُ مَطامِعٍ لَمْ يُقْلِعوا ... مِنْها ولَوْ فُدِيَتْ بِكُلِّ نَسيكِ (¬3) وَلَسُرْعَ ما نَهَضَتْ بِرَهْطٍ عَزْمَةٌ ... بارَتْ بِسَهْمٍ في الخِطارِ وَشيكِ (¬4) هِيَ عَزْمَةٌ قَوْمِيَّةٌ لَكِنَّها ... مَلْفوفَةٌ بِرِدائِكِ المَنْسوكِ (¬5) نادَوا "بِأَنْقَرَةَ" النَّفير وأَثْخَنوا ... في جُنْدِ مَنْ دَخَلوا بِزِيِّ شَريكِ (¬6) زَحَفوا ولا أَدْري سَريرَةَ قائدٍ ... فَذَكَرْتُ جُنْدَ اللهِ في اليَرْموكِ (¬7) رَحَلَ الطُّغاةُ وحَلَّ إِسْتَنْبولَ مَنْ ... صَدَحَتْ لَهُ الأَقْلامُ بِالتَّبْريكِ (¬8) قالوا: تَنَقَّذَها بِفَضْلِ شَهامَةٍ ... مِنْ بَعْدِ ما أَشْفَتْ على تُهْلوكِ (¬9) ¬

_ (¬1) الدردنيل: مضيق يقع بين شبه جزيرتي البلقان وآسيا الصغرى، ويصل بحر إيجة ببحر مرمرة. (¬2) فروق: إستنبول: عاصمة تركيا في عهد السلاطين العثمانيين حتى عام 1923 م. يلدز: قصر السلاطين والخلفاء في إستنبول حيث كانوا يقيمون. الصمات: السكوت. (¬3) النسيك: الذهب والفضة. (¬4) بارت: هلكت. الخطار: جمع الخطر: الإشراف على هلكة. وشيك: قريب وسربع. (¬5) المنسوك: الطاهر. (¬6) أنقرة: عاصمة تركيا. الجند: ويقصد بهم اليونان والإيطاليين. (¬7) القائد: يعني: كمال أتاتورك، وما كان يضمره من إلغاء الخلافة وجعل الحكومة لادينية. (¬8) التبريك: الدعاء بالبركة. (¬9) أشفت: أشرفت. التهلوك: الهلاك.

على ضريح صلاح الدين

ناطوا بهِ أَمَلَ النُّهوضِ بِدَولَةٍ ... رَمَتِ الثَّرى بِجَناحِها المَفْكوكِ نَهَضَ الزَّعيمُ وما رَعى عَهْدَ الَّتي ... لَوْلا اسْمُها ما صالَ صَوْلَ مُلوكِ (¬1) بَرَحَ الخَفاءُ وَحادَ وهُو مُظفَّرٌ ... نَشْوانُ عَنْ مِنْهاجِها المَسْلوكِ (¬2) عَذَروهُ إذْ أَقْصى الخِلافَةَ جانباً ... وَمَحا اسْمَها لِيُزيلَ غَيْنَ شُكوكِ (¬3) ما بالُ قِسْطاسِ الشَّريعَةِ ضاعَ في ... أُفُقِ السِّياسَةِ ضَيْعَةَ المَتْروكِ؟! والْقَوْمُ قَوْمُ "مُحَمَّدٍ" إنْ زُحْزِحوا ... عَنْ هَدْيِهِ اقْتَحَموا شِعابَ النُّوكِ (¬4) وهُداهُ حِصْنٌ لا أَريكَةُ مُتْرَفٍ ... وزَئيرُ لَيْثٍ لا صِيَاحُ دُيُوكِ (¬5) [على ضريح صلاح الدين (¬6)] " قالها بمناسبة زيارته لضريح المجاهد العظيم السلطان صلاح الدين الأيوبي (¬7) في دمشق سنة 1363 هـ ". لَوْ لَمْ تُبَلِّغْكَ الحَياةُ مُناكا ... لَكَفاكَ أَنَّكَ قَدْ قَهَرْتَ عِداكا ¬

_ (¬1) يريد بذلك: الشريعة الإسلامية. (¬2) برح الخفاء: وضح الأمر، وزالت خفيته. (¬3) الغين: الغيم. (¬4) الشعاب: جمع الشِعب: الطريق في الجبل. النوك: جمع الأنوك: الأحمق وقيل العاجز الجاهل. (¬5) الأريكة: سرير منجد مزين في قبة أو بيت. (¬6) نشرت في مجلة "الهداية الإسلامية "- الجزآن الخامس والسادس من المجلد التاسع عشر. (¬7) يوسف بن أيوب بن شاذي الملقب بالملك الناصر (532 - 589 هـ) , ولد بتكريت، وتوفي بدمشق، من أشهر ملوك الإسلام، وصاحب الفتوحات الخالدة، وللمصنفين كتب كثيرة في سيرته.

لَكَ سِيرةٌ كادَتْ تُمَثَّلُ للنُّهى ... بَشَراً يُنافِسُ في الْعُلا أَمْلاكا (¬1) وَمَفاخِرٌ يَوْمَ اسْتغاثَ الشَّرْقُ مِنْ ... خَطَرٍ أَلَمَّ ولَمْ يُجِرْهُ سِواكا صَرَخوا النَّفيرَ وأَطْمَعوا أَحْشادهُمْ ... في ثَلِّ عَرْشِكَ واقْتِحامِ حِماكا (¬2) حَمَلوا الصَّوارِمَ والْقَنا بِحَماسَةٍ ... وأَتَوْا مَيادينَ الْقِتالِ وشِاكا (¬3) قُلْتُ "الجِهادَ" فَماجَ حَوْلَ لِوائِكَ ... السَّامي فَيَالِقُ لا تَهابُ عِراكا (¬4) وَلَقيتَهُمْ بِعَزيمةٍ لا تَنْثَني ... والرَّأْيُ نِبْراسٌ يَؤمُّ خُطاكا (¬5) وإذا البُطولَةُ عُزِّزَتْ بِدِرايَةٍ ... كانَتْ لإنْقاذِ الشُّعوبِ مِلاكا (¬6) عادوا بِخَيْبَةِ آمِلٍ وتَملّأَتْ ... مِنْ مُجْتَنى النَّصْرِ المُبينِ يَداكا (¬7) عادوا وَلَمْ يُخْلِدْ بِهِمْ وَهْنٌ إِلى ... يَأْسٍ وظَلُّوا يَفْتِلونَ شِباكا (¬8) حَتَّى إذا أَخَذَ الْكَرى بِجُفُونِنا ... زَحَفوا وما لاقَوا قَناً كَقَناكا (¬9) ¬

_ (¬1) النهى: العقل. الأملاك: جمع المَلْك: صاحب المُلْك. (¬2) النفير: القوم ينفرون للقتال. الأحشاد: جمه الحشد: الجماعة يحتشدون. ثل: هدم. (¬3) الصوارم: جمع الصارم: السيف القاطع. القنا: الرماح. وشاك: جمع وشيك: القريب والسريع. (¬4) ماج: اختلط. الفيالق: جمع الفيلق: الجيش العظيم. (¬5) النبراس: المصباح. (¬6) المِلاك: قوام الأمر الذي يملك به. (¬7) تملأت: امتلأت. المجتنى: ما يجنى من الشجر. (¬8) يفتلون شباكاً: أي: ينصبون المكائد. (¬9) الكرى: النعاس.

السواك

أَوَ ما سَمِعْتَ رَطانَةَ الإفْرَنجِ مِنْ ... حَوْلِ الضَّريحِ تَخوضُ في ذِكْراكا (¬1) وكَأَنَّني بِكَ قَدْ هَمَمْتَ بِوَثْبَةِ الْـ ... أَسَدِ الهَصورِ لَوِ اسْتَطَعْتَ حَراكا جاسُوا المَدائِنَ والقِفارَ وَأَرْصَدوا ... في كُلَّ وادٍ غاشِماً فَتَّاكا (¬2) يا لَيْتَني أَدْري وَمِثْلُكَ يُقْتَدى ... بِمثالِهِ بَيْنَ الوَرى ويُحاكى أَيُتاحُ للشَّرْقِ المُعَذَّبِ ذائِدٌ ... يَرْمي ويَبْلُغُ في النِّضالِ مَداكا؟ السّواك " قالها بمناسبة مذاكرة أدبية انجزّ فيها قول مهيار: يغتدي مسواكها ريحانة بعد السواك". بَدا الثَّغْرُ النَّضيدُ وقَدْ حَنَوْتِ ... بَناناً كاللُّجَيْنِ عَلى سِواكِ (¬3) وَلَوْ نَدَّاهُ رِيقُكِ وَهْوَ شَهْدٌ ... وَلاقى ثَغْرَ مَخْلوقٍ سِواكِ لَقالَ على الْبَديهَةِ: هَلْ سَمِعْتُمْ ... خَلايا الشَّهْدِ تُدْعى بالأَراكِ (¬4) ثلج في السّحر " قيلت في برلين سنة 1337 هـ ". تَطاوَلَ هذا اللَّيْلُ والجَوُّ مُزْبِدٌ ... تَضيقُ بأَمواجِ الثُّلوجِ مَسالِكُهْ (¬5) ¬

_ (¬1) الرطانة: الكلام بالأعجمية. (¬2) المدائن: جمع المدينة. أرصدوا الرقيب: نصبوه في الطريق. (¬3) النضيد: يقال: نضد المتاع: جعل بعضه فوق بعض، ومعنى الثغر النضيد: أي: تنضدت الأسنان فيه من الحسن. البنان: الأصابع أو أطرافها. اللجين: الفضة. (¬4) الشهد: العسل ما دام لم يعصر من شمعه. الأراك: شجر من الحَمْض يستاك بقضبانه، الواحدة أراكة. (¬5) مزبد: قاذف بالزبد.

طباب الشرق

كأَنيَّ أُذيبُ الصُّبْحَ بالحَدَقِ الَّتي ... يُقَلِّبُها وَجْدي وتلْكَ سَبائِكُهْ طباب الشّرق يَدُ المُحْتَلِّ تُسْعِدُنا عَلى أَنْ ... نَروضَ الفِكْرَ بالسَّهَرِ الدِّراكِ (¬1) وَنوقِظَ لِلْعَظائِمِ رُمْحَ عَمْرٍو ... إِذا أَزْرى بِنا رُمْحُ السِّماكِ (¬2) يُثيرُ بِبَغْيِهِ في كُلِّ يَوْمٍ ... حَفائِظَ مُضهَدٍ وصُراخَ شاكي (¬3) يَقولُ: أُجيرُ قَوْمَكَ مِنْ هَلاكٍ ... وَرَفْعُ لِوائِهِ عَيْنُ الهَلاكِ يُوارِبُ إِذْ يُعاهِدناُ مُسِرّاً ... مَآرِبَ في دَهاءٍ واحْتِباكِ (¬4) عُهودٌ إنْ تَوَسَّمَها أَريبٌ ... رأَى الْغِرْبانَ تَنْعَبُ في صِكاكِ (¬5) فما لِلشَّرْقِ يَرْسُف في وَثاقٍ ... وهذا الْغَرْبُ يَمْرَحُ في فِكاكِ (¬6) ¬

_ (¬1) الدراك: المتلاحق والمتصل. (¬2) رمح عمرو: نسبة إلى عمرو بن معدي كرب بن ربيعة (... - 21 هـ) فارس اليمن، وصاحب الغارات، يضرب المثل برمحه وسيفه، وفد على المدينة سنة 9 هـ، وأسلم، شهد اليرموك والقادسية، وأخبار شجاعته كثيرة، وله شعر جيد. أزرى: عاب. رمح السماك: في السماء سماكان: السماك الرامح، وهو نجم يقدمه نجم مستطيل الشعاع يقولون: هو رمحه، والسماك الأعزل، سمي كذلك؛ لأنه لا سلاح معه كما كان مع الرامح. (¬3) الحفائظ: جمع الحفيظة: الحمية والغضب. المضهد: المقهور. (¬4) يوارب: يداهي ويخاتل. الاحتباك: إحكام الأمر وإتقانه. (¬5) توسم الشيء: تخيله وتفرسه. نعب الغراب: صاح. الصكاك: جمع الصَّك: الكتاب. (¬6) يرسف: يمشي مشي المقيد. الوثاق: ما يشد به من حبل ونحوه.

ليتني ما عرفتك

هُما شَطْرانِ في بَيْتٍ، وبُعْداً ... لِشِعْرٍ غَيْرِ مُلْتَئِمِ الحِياكِ (¬1) طِبابُ الشَّرقِ في خَطَراتِ شَهْمٍ ... وجَمْرِ حَماسَةٍ في القَلْبِ ذاكي (¬2) ليتني ما عرفتك " قيلت بعد وداع إحدى مربيات منزله بتونس قاصداً الشرق سنة 1331 هـ ". جارَتي مُنْذُ ضَحْوَةِ الْعُمْرِ عُذراً ... لأَخي خَطْرَةِ نأَى عَنْهُ بَيْتُكْ (¬3) قالَ يَوْمَ الوَداعِ وَهو يُعاني ... سَكْرَةَ الْبَيْنِ: لَيْتَني ما عَرَفْتُكْ (¬4) [رثاء] " نظم الشاعر هذه الأبيات في رثاء زوجته السيدة زينب التي توفيت بالقاهرة عام 1372 هـ، وكانت بارة صالحة". أَعاذِلُ غُضَّ الطَّرْفِ عَنْ جَفْنِيَ الْباكي ... فَخَطْبٌ رَمى الأكبادَ مِنِّي بأَشواك (¬5) ولي جارَةٌ أَوْدى بِها سَقَمٌ إلى ... نَوًى دون مَنْآها المُحيطِ بِأَفْلاكِ (¬6) أَيا جارَتا عَهْدُ اللِّقاءِ قَدِ انْقَضى ... وصَمْتُكِ إذْ أَدعوكِ آخِرُ مَلْقاكِ أَجارةُ هذا طائرُ المَوتِ حائِمٌ ... لِيَذْهَبَ مِنْ زَهْرِ الحَياةِ بِمَجْناكِ (¬7) ¬

_ (¬1) الحياك: النسيج. (¬2) الطِّباب: ما يُطبُّ به. ذاكي: متقد. (¬3) الضحوة: ارتفاع النهار، ويقصد الشاعر: مطلع شبابه. (¬4) سكرة البين: شدة الفراق وهمه. (¬5) العاذل: اللائم. (¬6) الجارة: ويعني بها: زوجته. النوى: البعد. (¬7) طائر الموت: أي: الموت. حائم حول الشيء: دائر به.

وكَيفَ يَرومُ الصَّحْبُ مِنِّي تَصَبُّراً ... ومَركَبَةٌ حَدْباءُ أَرْسَتْ بِمِيناكِ (¬1) وكنْتُ أُلاقي كُلَّما جِئْتُ مُؤنِساً ... فَمالي أُلاقي الْيَوْمَ صَيْحةَ مَنْعاكِ حَنانَيْكِ هَلْ ساءَتْكِ مِنِّي خَليقَةٌ ... فَأَنْكَرْتِ دُنيانا وآثَرْتِ أُخْراكِ (¬2) وكُنْتُ أُعَزِّي النَّفْسَ مِنْ قَبْلُ أَنَّني ... أَفوتُ قَريرَ المُقْلَتَيْنِ بِمَحْياكِ (¬3) ولَمْ أَدرِ ما طَعْمُ المَنونِ فَذُقْتُهُ ... مَساءَ لَفَظتِ الرُّوحَ والعَيْنُ تَرْعاكِ هَوى بِكِ بَيْنٌ لَسْتُ أَرْجو وَرَاءَهُ ... زَماناً يَجودُ الدَّهرُ فيهِ بِمَرْآكِ فَهَيْهاتَ أنْ أَنْساكِ ما عِشْتُ والأَسَى ... يَموجُ بِقَلْبي ما جَرَتْ فيهِ ذِكْراكِ (¬4) وهَيْهاتَ لا أَنْسى مَواطنَ كُنْتِ لي ... مُسَلِّيَةً لا أُنْسَ إِلَّا بِمَغناكِ (¬5) ولَوْلاكِ لَمْ أَقْضِ الْيراعةَ حَقَّها ... كَأَنَّ نسَيبجَ الْفِكْرِ حِيكَ بِيمُنْاكِ (¬6) لَقَدْ صُنْتِ في الحالَيْنِ عَهْداً فَلا أرى ... لَدى عُسْرَةٍ إلَّا انْطلاقَ مُحَيَّاكِ (¬7) وأَنْتِ الَّتي حَبَّبْتِ لي الْعَيْشَ بَعْدَما ... سَئِمْتُ فَطيبُ العَيْشِ بَعْضُ مَزْاياكِ وإنْ سامَني يَوْمٌ شَكاةً تَدَفَقَّتْ ... دُموعُكِ مِنْ جَفْنٍ يُخالُ هُوَ الشَّاكي (¬8) ¬

_ (¬1) المركبة الحدباء: النعش. (¬2) حنانيك: تحن عليَّ مرة بعد أخرى. الخليقة: الطبيعة. آثرت: فضَّلت. (¬3) قرير المقلتين: من السرور. المحيا: الحياة. (¬4) هيهات: اسم فعل بمعنى بَعُدَ. (¬5) مسلية: يقال سلّى فلاناً عن همه: كشفه عنه، وجعله يسلوه. المغنى: المنزل. (¬6) قضى الشيء: صنعه بإحكام. اليراعة: القصبة، ويقصد بها القلم. (¬7) في الحالين: أي: اليسر والعسر. (¬8) الشكاة: المرض.

يُجافي الْكَرى عَيْني إذا مَسَّكِ الضَّنى ... وَيَرْتاحُ ما بَيْنَ الحَنايا لِمَنْجاكِ (¬1) تَمُرُّ بِنا الايَّامُ مَوْصولَةَ الْمُنى ... فَما ضَرَّنا أَلاَّ نكَونَ كَأَمْلاكِ لَياليكِ أيَّامٌ بِمَنْزِلةِ اللِّوى ... وَمَطْلَعُ أَقْمارِ السَّماءِ بِمَأْواكِ (¬2) أَجارةُ لَوْ شاهَدْتِ كَيْفَ وَقَفْتُ في ... مَزارِكِ لكِنْ ما ظَفِرْتُ بِنَجْواكِ (¬3) إذاً لَرَأَيْتِ الحُزْنَ يَصْلَى بِنارِهِ ... حَشاً وكَأَنَّ الحُزْنَ شُدَّ بأَسْلاكِ (¬4) وعُدْتُ إلى البَيْتِ الكَئيبِ كأَنَّني ... خُلِقْتُ فَريداً لَسْتُ أَعْرِفُ إلاَّكِ أَغَصُّ بِشَجْوٍ كُلَّما مَرَّ مَوْضعٌ ... حَلَلْتِ بهِ، والنَّفْسُ مِرْآةُ سِيماكِ (¬5) وَيبْعَثُ أَشْجاني هَديرُ حَمامةٍ ... تَنوحُ كأَنَّ الطَّيرَ في الجَوِّ تَنْعاكَ أَجولُ بِفِكْري أَبْتَغي ليَ قُرْبَةً ... أَمُتُّ بِها عِنْدَ الدُّعاءِ بِرُحْماكِ تَجَرَّعْتُ مُرَّ الصَّبْرِ عَلِّي أَراهُ في ... حِسابي، وعُقْبايَ السَّليمَةُ عُقْباكِ (¬6) فَطوبى لَكِ القُرْبى لَدى اللهِ مِنَّةٌ ... ونُزْلٌ كَريمٌ في مَنازِلِ نُسَّاكِ (¬7) ¬

_ (¬1) الكرى: النعاس. الضّنى: المرض والهزال، سوء الحال. (¬2) اللوى: اللواء. المأوى: كل مكان يأوي إليه شيء ليلاً أو نهاراً. (¬3) المزار: موضع الزيارة، ويقصد الشاعر: المقبرة. النجوى: السرّ. (¬4) يصلى: يشوي. (¬5) الشجو: الهم والحزن. (¬6) العقبى: جزاء الأمور. (¬7) الطوبى: الغبطة والسعادة والحسنى. المنة: الإحسان، المعروف.

قافية اللام

قافية اللام صقر قريش (¬1) خَلِّ نَفْسَ الحُرِّ تَصْلَى النُّوَبا ... لا تُبالي (¬2) لَيْسَتِ الأَخْطارُ إلَّا سَبَبَاً ... لِلْمَعالي (¬3) * * * يا مُكِبّاً بَيْنَ ظَبيٍ أَدْعَجَا ... وَمَهاةِ (¬4) إنَّما الهِمَّةُ في حِجْرِ الحِجا ... كالنَّباتِ (¬5) أَفَلا تَذْبُلُ إِذْ تَقْضي الدُّجى ... في سُباتِ فَإذا بِتَّ تُجاري الكَوْكَبا ... في مَجالِ ¬

_ (¬1) نشرت هذه القصيدة في مجلة "البدر" التونسية، الجزء الثالث من المجلد الثالث، كما نشرت في مجلة "الهداية الإسلامة" الجزء السابع من المجلد الثامن. (¬2) النوّب: جمع النوبة: النازلة والمصيبة. (¬3) السبب: ما يتوّصل به إلى غيره. (¬4) الظبي: الغزال للذكر والأنثى. أدعج: شدة سواد وبياض العين. المهاة: البقرة الوحشية. (¬5) الحِجْر: الحضن. الحِجا: العقل والفطنة.

كُنْتَ كالضَّرْغامِ يَمْشي الهَيْدَبى ... لَلنِّزالِ (¬1) * * * ما لهذي السَّمْهَرِيَّاتِ فَخارْ ... في الحِرابْ (¬2) غَيْرُ عَزْمٍ هَزَّهُ حامي الذِّمارْ ... بِالتِهابْ (¬3) أَتَرى الرَّامِحَ ذا قَلْبٍ يَغارْ ... فَيُهابْ (¬4) جَرَّ في الآفاقِ رُمْحاً سَلْهَبَا ... بِاخْتِيالِ (¬5) وهُوَ كالأَعْزَلِ لا يَلْقى الظُّبا ... والعَوالي * * * رُبَّ كِنٍّ لا نُسَمِّيهِ عَرينا ... في البَيانِ (¬6) والَّذي يَحْميهِ لا يَلْوِي جَبينا ... عَنْ طِعانِ يَحْطِمُ الطَّاغِيَ لا يُبْقي مَهينا ... في هَوانِ وهِزْبَرُ الْغابِ يَعْدو خَبَبا ... في الدِّغالِ (¬7) ¬

_ (¬1) الضرغام: الأسد. الهيدبى: نوع من أنواع المشي لدى الخيل فيه جد. (¬2) السمهريات: جمع السمهريّ: الرمح الصلب. الحراب: جمع الحربة: وهي آلة دون الرمح. (¬3) الذمار: ما يلزمك حمايته والذود عنه. (¬4) الرامح: نجم. (¬5) السلهب: الطويل. (¬6) الكِنُّ: البيت، ويجمع على كنان وأكنة. العرين: مأوى الأسد. (¬7) الهزبر: الأسد. الخبب: مراوحة الفرس بين يديه ورجليه، وقيل: السرعة.=

عَضَّهُ الجُوعُ فَمدَّ المِخْلَبا ... لاغْتيالِ * * * عاشِقَ العَلْياءِ خُضْ في لُجَجِ ... مِنْ رِماحْ وتَرَشَّفْ مِنْ عَصيرِ المُهَجِ ... لا جُناحْ (¬1) يَضْحَكُ المُلْكُ بِثَغْرٍ بَهِجِ ... كالصَّباحْ إنْ نَكى الخَصْمُ فَماجوا هَرَبا ... كالثَّعالي (¬2) وابْتِغاءُ السِّلْمِ مِنْ باني الزُّبى ... كالمُحالِ (¬3) * * * خاطِرُ الْيَأْسِ لَدى باغي الْعُلا ... غَيْرُ سائِغْ إنْ تَوَخَّى عَبْقَرِيٌّ أَمَلا ... فَهْوَ بالِغْ وحَياةُ الصَّقْرِ سارَتْ مَثَلا ... لِلنَّوابِغْ (¬4) ¬

_ = الدغال: جمع الدغل: الشجر الكثير الملتف. (¬1) الجُناح: الإثم. (¬2) نكى: قهر بالقتل والجرح. الثعالي: جمع ثعالة: أنثى الثعلب. (¬3) الزّبى: جمع الزبية: الرابية لا يعلوها ماء. (¬4) الصقر: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك (113 - 172 هـ) الملقب بصقر قريش، ويعرف بالداخل، مؤسس الدولة الأموية في الأندلس، ولد في دمشق، وتربى في خلافة أعمامه حتى سنة 132 هـ، عندما سقطت خلافة الأمويين على أيدي العباسيين، فقصد أفريقيا، وبلغ به علو الهمة إلى إنشاء ملك جديد لبني أمية في الأندلس. ولقبه أبو جعفر المنصور بلقب "صقر قريش"، ولقب بالداخل؛ =

إذْ بَدا في "ديرِ حَنّا" وشَبا ... كالهِلالِ (¬1) ولَيالي الشَّامِ في عَهْدِ الصِّبا ... كاللآلي * * * ذاقَ في الخامِسِ مِنْ صَدْرِ سِنيهْ ... مَضَضا (¬2) والرَّدى سَيْفٌ بِكَفٍّ لا تَتيه ... يُنْتَضى (¬3) أَرْهَفَ الحَدَّ وأَوْدى بأَبيه ... حَرَضا (¬4) هَلْ ذَوَتْ زَهْرَتُهُ حتى هَبا ... في كَلالِ (¬5) إنَّ في نَفْسٍ تَسامَتْ حَسَبا ... خَيْرُ والِ * * * أَبْصَرَ الجَدُّ بِهِ روحَ الهُمامْ ... بادِيا (¬6) ¬

_ = لأنه أول من دخل الأندلس من ملوك الأمويين، وكان حازماً شجاعاً شاعراً عالماً. وتوفي بقرطبة ودفن في قصرها. (¬1) دير حنا: حيث ولد صقر قريش بالشام. شبا: علا؛ أي: نما وترعرع. (¬2) المضض: وجع المصيبة. (¬3) الردى: الهلاك. لاتتيه: لا تضل عن الطريق. (¬4) أرهف السيف: رققه، فهو مرهف. الحرض: يقال: حرض: كان مضنى مرضاً وسقماً. (¬5) هبا: مات. الكلال: التعب والإعياء. (¬6) الجدُّ: هشام بن عبد الملك (71 - 125 هـ) ولد وتوفي في دمشق، وبويع ملكاً للدولة الأموية في الشام سنة 105 هـ , وقد تربى صقر قريش في ظل حزمه ونعمته. =

كالشَّذا يُنْبِئُ عَنْ زَهْرِ الْكِمامْ ... هادِيا (¬1) وتُريكَ الشَّمْسُ في قَوْسِ الغَمامْ ... ماهِيا حَفَّهُ عَطْفاً كما تَسْري الصَّبا ... باعْتِلالِ (¬2) ويَدٌ ظَلَّتْ تُحابي الأَنْجُبا ... لم تُغالِ (¬3) * * * ضَرَبَ الخَطْبُ على المُلْكِ الأَثيلْ ... مُحْدِقا (¬4) كَمْ دَهى السَّفَّاحُ مِنْ حُرٍّ نبَيلْ ... مُرْهِقا (¬5) وجَرى المَنْصورُ في هذا السَّبيلْ ... مُوبِقا (¬6) ¬

_ = الهمام: الملك العظيم الهمة، السيد الشجاع. (¬1) الشذا: قوة ذكاء الرائحة. الكمام: جمع الكِمّ: غطاء الزهر. (¬2) الصّبا: ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. (¬3) لم تغال: لم تجاوز الحد، لم تبالغ. (¬4) الملك الأثيل: الأصيل؛ أي: الدولة الأموية. (¬5) السفاح: أبو العباس عبد الله بن محمد (154 - 136 هـ) أول خلفاء الدولة العباسية، ولد بالشراة بين الشام والمدينة. وكان جباراً من الدهاة، عظيم الانتقام، ولقب بالسفاح؛ لكثرة ما سفح من دماء الأمويين. وتوفي في مدينة الأنبار. (¬6) المنصور: أبو جعفر عبد الله بن محمد (95 - 158 هـ) ثاني الخلفاء العباسيين، ولد في الحميمة من أرض الشراة قرب معان، وولي الخلافة بعد وفاة أخيه السفاح، وهو باني مدينة بغداد، وأول من عني بالعلوم من ملوك العرب، توفي ببئر ميمون محرماً بالحج، ودفن في الحجون بمكة المكرمة. الموبق: المهلك.

ذَهَبَتْ عُصْبَتُهُ أَيْدي سَبا ... في نَكالِ (¬1) وتَداعى عَرْشُهُ مُنْتَحِبا ... للزَّوالِ * * * حَدَّقَ الصَّقْرُ بِرَأْيٍ لا عَجِلْ ... لا حَسيرْ (¬2) وانْبَرى يَطوي الْفَلا يَطْوي الأَمَلْ ... في الضَّميرْ كَكَمِيٍّ فَرَّ مِنْ وَقْعِ الأَسَلْ ... لِيُغيرْ (¬3) عَمِيَتْ عَنْهُ عُيونُ الرُّقبا ... والمَوالي راحَ كالشَّمْسِ تَؤُمُّ المَغْرِبا ... بارْتحالِ * * * جَمْرَةُ الأَضغانِ في ذاكَ الوَطَنْ ... لافِحَهْ (¬4) كَمْ قُلوبٍ بِتَباريحِ الإحَنْ ... طافِحَهْ (¬5) فُرْصَةٌ ظَلَّتْ على وَجْهِ الزَّمَنْ ... سانِحَهْ ¬

_ (¬1) أيدي سبا: أي: تبددوا تبدداً لا اجتماع بعده، نسبة إلى سبأ؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - أرسل على تلك الأرض السيل، فأغرقها وأذهب جناتها، فانتزح سبأ وقومه، وتبددوا في البلاد، فضرب بهم المثل. النكال: ما يجعل عبرة للغير. (¬2) حسير: يقال: حسر البصر: كلَّ وانقطع من طول المدى. (¬3) الكِميّ: الشجاع، أو لابس السلاح. الأسل: الرماح. (¬4) الأضغان: جمع الضِّغن: الحقد. (¬5) تباريح الشوق: توهجه. الإحن: جمع الإحنة: الحقد والغضب.

إنما الْفُرْصَةُ تُدْني الأَرَبا ... بارْتِجالِ والْفَتى يَرْقُبُها مُحْتَسِبا ... لِلَّياليِ * * * نَفَضَ البُرْدَيْنِ مِنْ نَقْعِ السَّفَرْ ... في (مَلِيَلهْ) (¬1) ما لَهُ جُنْدٌ سِوى الرَّأْيِ الأَغَرْ ... والْفَضيلَهْ بَثَّ لُسْناً نَفَثَتْ نَفْثَ السَّحَرْ في الخَميلَه دَعْوَةٌ حَلَّ لَها الشَّعْبُ الحُبا ... بِاحْتِفالِ (¬2) يَرْتَجي عِزًّا وعَدْلاً ذَهَبا ... في ضَلالِ * * * آبَ (بَدْرٌ) بِفُؤادٍ يَتَأَلَّقْ ... كالجُمانِ (¬3) إذْ رَمى عَنْ قَوْسِ داهٍ وتَفوَّقْ ... في الرِّهانِ وَرأَى غُصْنَ الأَماني كَيفَ أَوْرَقْ ... في تَداني آنَ لِلصَّمصامِ أَنْ يَنْتَصِبا ... للصِّقال (¬4) ¬

_ (¬1) البُرْد: ثوب مخطط. النقع: الغبار. مليلة: مدينة بالمغرب قرب سبتة على ساحل البحر. (¬2) الحُبا: جمع الحبوة ما يحتبي به الرجل من عمامة أو ثوب. (¬3) بدر: مولى "صقر قريش" ونصيره الذي رافقه في رحلته من الشام إلى المغرب. الجمان: الفضة. (¬4) الصمصام: السيف لا ينثني. الصقال: يقال: صقل فلاناً بالسيف: ضربه به وأدّبه.

وَلِغالي الدَّمِ أَنْ يَنْسَكِبا ... بِابْتِذالِ * * * نهَضَ الصَّقْرُ ولا صَيْدَ سِوى ... تاجِ مُلْكِ يَتَهادى بَعْدَ شَجْوٍ وَنَوى ... بَيْنَ أَيْكِ (¬1) يَسْبِكُ السِّيرَةَ في نَهْجٍ سُوى ... خَيْرَ سَبْكِ عَبَرَ الْبَحْرَ يَشُقُّ الحَبَبا ... في جَلالِ (¬2) أقْبَلَ الأَبْعَدُ يَتْلو الأقْرَبا ... وَيُوالي * * * زَجَّ بِالجُنْدِ حَوَالَيْ "قُرْطُبَهْ" ... في اتِّساقِ (¬3) وَغَدا يُوسُفُ مِمّا كَرَبَهْ ... في خِناقِ (¬4) هُوَ صَبٌّ كَيْفَ يَلْوي الرَّقَبَهْ ... لِلْفِراقِ هالَهُ الخَطْبُ غَداةَ اقْتَرَبا ... لِلْقِتالِ ¬

_ (¬1) الشجو: الهم والحزن. النوى: البعد. الأيك: جمع الأيكة: الشجر الملتف الكثير. (¬2) الحبب: معظم الماء. (¬3) قرطبة: مدينة في الأندلس على الوادي الكبير، أصبحت عاصمة الدولة الأموية عام 756 م، وفيها قصر الزهراء. (¬4) يوسف: يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب الفهري، تولى إمارة الأندلس سنة 129 هـ حتى دخول صقر قريش.

لاذَ بِالرَّأْيِ فَأَكْدى وَكَبا ... في خَبالِ (¬1) * * * خالَ ما نَمَّقَ كَيْداً يَرْشُقُهْ ... كَسِهامِ لا يَبيعُ المَجْدَ شَهْمٌ يَعْشَقُهْ ... بِالحُطامِ (¬2) لا تُسَلِّيهِ فَتاةٌ تَرْمُقُهْ ... بِابْتِسامِ فَأَراهُ الصَّقْرُ بَرْقاً خُلَّبا ... في المَقالِ (¬3) وأَراهُ الأَحْوَذِيَّ القُلَّبا ... بَالفَعالِ (¬4) * * * هَجَمَ الدَّاخِلُ في وَجْهِ الزَّعيمْ ... كائِدا (¬5) فَطَوى ما خَلْفَهُ طَيَّ الظَّليمْ ... شارِدا (¬6) وَاقْتَفى آثارَهُ الجَيْشُ النَّظيمْ ... صائِدا رامَ "غَرْناطَةَ" يَبْغي مَرْكَبا ... لِلنِّضالِ (¬7) ¬

_ (¬1) كبا: انكبّ على وجهه. الخبال: الهلاك. (¬2) الحطام: ما تكسر من اليبس. (¬3) الخُلَّب: السحاب لا مطر فيه، والأصل برق السحاب. (¬4) الأحوذي: الحاذق المشمر للأمور، القاهر لها، لا يشذ عليه شيء. (¬5) الداخل: عبد الرحمن الداخل. (¬6) الظليم: المظلوم. وتراب الأرض المظلومة. (¬7) غرناطة: مدينة في الأندلس، احتلها المرابطون عام 1090 م، واتخذها محمد بن =

أَمَلٌ أَبْرَقَ حيناً وَخَبا كالذُّبالِ (¬1) * * * أَغْمَدَ السَّيْفَ وَمَدَّ العُنُقا ... لِلسَّلامْ (¬2) فَأَراهُ الصَّقْرُ عَزْماً ذَلِقا ... لايَنامْ (¬3) أَحْرَزَ ابْنَيْهِ لِيَأْبى الرَّهَقا ... في الذِّمامِ (¬4) كانَ في النَّاسِ زَعيماً فَاحْتَبى ... بِاعْتِزالِ لَمْ يُطِقْ -كالطِّفْلِ- صَبْراً إذْ نبَا ... عَنْ فِصالِ (¬5) * * * تَبَّ لَيْلٌ شَدَّ فيهِ المِئْزَرا ... لانْتِقامِ (¬6) ¬

_ = نصر مؤسس سلالة بني الأحمر عاصمة له عام 1235 م، وأهم آثارها قصر الحمراء. (¬1) خبا: طفئ وخمد. الذبال: جمع الذبالة: الفتيلة. (¬2) لما حاصر (صقر قريش) مدينة غرناطة، وهي آخر ما التجأ إليه يوسف الفهري، اضطر هذا الأخير إلى طلب الصلح، فصالحه بشروطه المشهورة التي منها: وضع ابنيه عند الصقر رهن إخلاصه الدائم. (¬3) الذلق: الحادّ. (¬4) أحرز: ألجأ. الرهق: حمل الإنسان على ما لا يطيقه. (¬5) نبا: تجافى وتباعد. الفصال: فطم المولود وفصله عن أمه. (¬6) تبّ: هلك وخسر. المئزر: الإزار. الانتقام: إن يوسف لم تطب له حياة الراحة، فلم تصل سنة 141 هـ حتى نقض العهد معتزاً بعشرين ألفاً من البربر، فالتحق بطليطلة، إلا أن الصقر قام له إلى أن جيء له برأسه.

وَامْتَطى رَأْياً عَقيماً أَغْبَرا ... كالجَهامِ (¬1) لَيْتَهُ ما انْسَلَّ لَيْلاً وانْبَرى ... في احْتِدامِ (¬2) في مَغاني آلِ هُودٍ وَثَبا ... لِلصِّيالِ (¬3) هَزَّ جِذْعَ الأَمْنِ أَلْقى الطُّنَبا ... في اخْتِلالِ (¬4) * * * أَرْهَقَ ابْنَيْهِ جَفاءً وَهَفا ... لِلرِّياسَهْ (¬5) ما تَحامى أَنْ يَكونا هَدَفا ... لِلسِّياسَهْ رَكِبَتْ مِنْ قَتْلِ هَذا سَرَفا ... في الشَّراسَهْ (¬6) وَطَوَتْ هَذا لِيَبْقى حُقُبا ... في اعْتِقالِ (¬7) سَلْ بِهِ إذْ فَرَّ ماذا ارْتَكَبا ... مِنْ مُحالِ * * * قَذَفَتْ نارُ الوَغى في "مارِدَهْ" ... بِالشَّرارِ (¬8) ¬

_ (¬1) العقيم: لا تقبل الولد، ولا تلد. الجَهام: السحاب لا ماء فيه. (¬2) انسل: انطلق في استخفاء. انبرى: اعترض. الاحتدام: شدة الغيظ. (¬3) المغاني: جمع المغنى: المنزل. الصيال: السطو، والقهر، المواثبة. (¬4) الطنب: حبل طويل يشد به سرادق البيت، الوتد. (¬5) هفا: أسرع. (¬6) السرف: الإسراف. (¬7) الحقب: ثمانون سنة، وقيل أكثر من ذلك، الدهر. (¬8) ماردة: بلدة واسعة في الأندلس تابعة إلى قرطبة.

أَشْرَعَ الصَّقْرُ قَناةً سائِدَهْ ... بِانْتِصارِ أَطْلَقَ الْفِهْرِيُّ رِجْلاً جاهِدَهْ ... في الْفِرارِ (¬1) لَحِقَ المَوْتُ بِهِ واعَجَبا ... لِلنِّصالِ تُنْهِضُ الحَتْفَ إذا ما نَشَبا ... في عِقالِ (¬2) * * * بَلَغَ الصَّقْرُ مِنَ العِزِّ أَشُدَّهْ ... وَاسْتوى لَبِسَ الحَزْمَ لِمَنْ صاعَرَ خَدَّهْ ... وَالْتَوَى (¬3) هُوَ لَوْلا بَأْسُهُ يَحْرُسُ بَنْدَهْ ... لا نْطَوَى (¬4) سارَ بالأُمَّةِ شَوْطاً عَجَبا ... في اعْتِدالِ لايُرى أَسْرى بِها أَوْ أَوَّبا ... في مَلالِ (¬5) * * * بَعَثَ الْعِرْفانَ مِنْ مَرْقَدِهِ ... في رُواءِ وَعَلَتْ عُنْقُ الهُدى في عَهْدِهِ ... كاللِّواءِ رَدَّتِ الشِّرْكَ مَواضي جِدِّهِ ... في انْزِواءِ ¬

_ (¬1) الفهري: أي: يوسف الفهري. (¬2) نشب: عَلِق. العقال: حبل يعقل به البعير في وسط ذراعه. (¬3) صاعر خده: أماله عن النظر إلى الناس تهاوناً من أكبر. (¬4) البند: العَلَم الكبير. (¬5) الملال: السآمة والضجر.

نَفَثَتْ في "شَرْلُمانَ" الرَّهَبا ... كالسَّعالي (¬1) هابَها "المَنْصورُ" يَخْشى الْغَلَبا ... في السِّجالِ (¬2) * * * لَقِيَ العُمْرانَ مَقْصوصَ الجَناحْ ... خامِلا راشَهُ فَانْسابَ في تِلْكَ البِطاحْ ... جائِلا (¬3) يَضْبِطُ الشَّكْوَى كَخَصْرٍ في وِشاحْ ... عادِلا يَمْتَطي المِنْبَرَ يُلْقي خُطَبا ... ذاتَ بالِ يَقْدِمُ النَّاسَ إماماً مُجْتَبى ... بِابْتِهالِ (¬4) * * * رَحِمَ اللهُ الفَتى أَنْضى العِتاقْ ... في العُلا (¬5) وَغَدا إنْ عُدَّ فُرْسانُ السِّباقْ ... أَوَّلا ¬

_ (¬1) شرلمان: شارل الكبير (472 - 814 م) ملك الإفرنج، حاول الاستيلاء على إسبانيا، ففشل فىِ سرقسطة سنة 778 م. السعالي: جمع السعلاة: الغول، أو أنثى الغول. (¬2) السّجال: يقال: الحرب بينهم سجال: أي: سجلٌ منها على هؤلاء، وآخر على هؤلاء، يعني: أنها مرة لهم: ومرة عليهم. (¬3) راش السهم: ألزق عليه الريش. (¬4) المجتبى: المختار من صفوة الناس. (¬5) العتاق: جمع العتيقة: الفرس الكريم. رحم الله الفتى: توفي الأمير عبد الرحمن الداخل بقرطبة سنة 172 هـ بعد أن ملك الأندلس لأبنائه، فتوارثه من أعقابه تسعة عشرة أميراً إلى أن أسقطتهم الثورة العسكرية سنة 422 هـ.

تحية الوطن

شَرِبَ الحِكمَةَ بالْكَأْسِ الدِّهاقْ ... عَلَلا (¬1) عَزْمُهُ كالفَجْرِ يَفْري الْغَيْهَبا ... في تَعالي (¬2) فَهْوَ جُنْدِيٌّ سِياسِيٌّ رَبا ... في كَمالِ [تحيّة الوطن (¬3)] " قالها أيام مقدمه من الشام إلى مصر سنة 1339 هـ متشوقاً إلى تونس ومن فارقهم بها من الأصدقاء". ما لِيَ لا أَلْمَحُ مِنْ ذي الجَمالْ ... سِوى الخَيالْ (¬4) أَلَمْ يَكُنْ يُدْني قُطوفَ الوِصالْ ... بِلا مَلالْ الشَّوْقُ ألْقى مُهْجَتي في نِضال ... ماضي النِّصالْ ماذا تَرى والهَجْرُ فِيما يُقالْ ... داءٌ عُضالْ * * * يا مَوْطِني لَمْ أَنْسَ عَهْدَ الشَّبابْ ... عَذْبَ الرِّضابْ (¬5) وَرَيْثَما شَمَّرَ يَبْغي الذَّهابْ ... صاحَ الْغُرابْ بِنَّا وخُضْنا في غِمارِ الصِّعابْ ... بِلا حِسابْ ¬

_ (¬1) الدهاق: الكأس الممتلئة. (¬2) يفري: يشق ويقطع. الغيهب: الظلمة. (¬3) نشرت في مجلة "الهداية الاسلامية" - الجزء الرابع من المجلد العاشر. (¬4) ذو الجمال: يقصد به الشاعر وطنه تونس الخضراء. (¬5) الرضاب: الريق، لعاب النحل.

بَيْني وَبَيْنَ المَجْدِ عَهْدٌ يُهابْ ... فَلا عِتابْ فَصَمْتَ بي يا بَيْنُ عِقْدَ الرِّفاقْ ... بَعْدَ انْتِساقْ (¬1) وقُمْتَ تَنْعي عِنْدَ شَدِّ الوَثاقْ ... يَوْمَ التَّلاقْ (¬2) مَلْقى رِفاقي في لَيالي المُحاقْ ... مِثْلُ الفِراقْ (¬3) إنْ فاتَني مَرْآهُمُ بِالحِداقْ ... فَالْوُدُّ باقْ (¬4) * * * حَيَّا رُبى تونُسَ ذاتِ الزُّهورْ ... عَهْدُ السُّرورْ وافْتَرَّ في طَلْعَةِ تِلْكَ الْقُصورْ ... أُنْسُ الْبُدور ما الأُنْسُ في أَقْداحِ راحٍ تَدورْ ... ما بَيْنَ حُورْ إنَّ الَّتي تَلْفَحُنا في الصُّدورْ ... نارُ الْغَيُورْ * * * يا شاطِئَ الْمَرْسى إلامَ الهُجودْ ... فُكَّ الْقُيودْ (¬5) ¬

_ (¬1) الانتساق: انتظام الأشياء بعضها مع بعض. (¬2) عند شد الوثاق: أي: عندما حيل بيني وبين صحابتي، كأنني أصبحت في أسر البين مشدود الوثاق. (¬3) ليالي المحاق: ويريد بها الشاعر: السنوات التي تسلط بها المستعمر على تونس، وسلب حريتها، وظلم شعبها.0. (¬4) الحداق: جمع الحدقة: سواد العين الأعظم. (¬5) المرسى: بلدة في ضواحي تونس فيها منتزهات تجمع بين منظر البحر الأبيض =

وكُنْ كَما كُنْتَ لِعَهْدِ الجُدودْ ... غِيلَ الأُسودْ (¬1) يَمْرَحُ فيكَ العِزُّ بَيْنَ الجُنودْ ... ضافِي البُرودْ فَأَنْتَ لا تُزْهى بِتَلْحيْنِ خُودْ ... وَنَقْرِ عودْ (¬2) يا مَعْهَداً يَثْمُلُ فيهِ الْكِرامْ ... بِلا مُدامْ (¬3) وابْتَسَمَتْ أَزْهارُهُ في نِظامْ ... بِلا كِمامْ نَهَضْتَ تَحْدو بالنُّفوسِ العِظامْ ... إلى الأَمامْ أَقْلامُكَ الحُرَّةُ تَرْعى الذِّمامْ ... ولا تَنامْ يا نَسْمَةً ماستْ كَشارِبِ راحْ ... قَبْلَ الصَّباحْ (¬4) والطَّلُّ أَصْفى مِنْ دُموعِ المِلاحْ ... فَوْقَ الوِشاحْ (¬5) هُبِّي وجُرِّي في النَّوادي الفِساحْ ... ذَيْلَ المِراحْ (¬6) ¬

_ = والحدائق الأنيقة. وطالما تمتع الشاعر بالتنزه فيها، إذ هي مقر صديقه منذ عهد طلب العلم العلامة المرحوم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور. الهجود: النوم. (¬1) الغِيل: الشجر الكثير الملتف، ويقصد به: العرين. (¬2) الخود: الحسنة الخَلْق. (¬3) المعهد: جامع الزيتونة بتونس الذي تلقى فيه الشاعر العلم إلى أن تولى التدريس فيه. يثمل: يسكر. (¬4) ماست: تبخترت وتمايلت. (¬5) الطل: أخف المطر وأضعفه، الندى. (¬6) المراح: شدة الفرح والنشاط.

هي ملقى الضدين

هُبِّي وَهاتي نَفْحَ أُنْسٍ قَراحْ ... يَشْفي الجِراحْ (¬1) [هي ملقى الضدين (¬2)] كُنْ عَذيري إنْ كُنْتَ يَوْماً عَذولا ... لِفَتىً إذْ يَوَدُّ مَوْتاً عَجولا مَسَّهُ في الحَياةِ ضَيْرٌ فَأَلْقَى ... في هِجاءِ الحَياةِ قَوْلاً ثَقيلا (¬3) رُبَّ خَطْبٍ دَهى امْرَأً وتَلَقَّا ... هُ بِعَزْمٍ فَكانَ ذِكْراً نبَيلا ونَعيمٍ وافاهُ عَفْواً وَما أَوْ ... لاهُ شُكْراً فَعادَ شَرّاً وَبيلا (¬4) هِيَ مَلْقى الضِّدَّيْنِ حَيْثُ تَرى فيـ ... ــــــها بَغيضاً تَرى هُناكَ خَليلا تَبْعَثُ الشَّمْسُ في الهَجيرِ لَهيباً ... فَتُذيعُ الصَّبا نَسيماً عَليلا (¬5) وتُرينا الآفاقُ فَحْمَةَ لَيْلٍ ... فَتُرينا السَّماءُ بَدْراً جَميلا ويَراعُ الْبَليغِ يُرْسِلُ إنْ شا ... ءَ زُعافاً وَإنْ يَشَأْ سَلْسَبيلا (¬6) زادَ أَكْبادَنا الزُّعاقُ غَليلاً ... فَشَفى النِّيلُ والفُراتُ الْغَليلا (¬7) ¬

_ (¬1) القراح: الذي لا يشوبه شيء. (¬2) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الخامس عشر. (¬3) الضير: الضر. (¬4) الشر الوبيل: الشديد. (¬5) الهجير: نصف النهار، شدة الحر. الصَّبا: ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. (¬6) الزعاف: يقال: سم زعاف: قاتل سريعاً. السلسبيل: الماء السهل المساغ. (¬7) الزعاق: الماء المر الغليظ لا يطاق شربه. الغليل: العطش.

جذوة أو زهرة

يَخْفُقُ الْقَلْبُ رَوْعَةً مِنْ غَشومٍ ... هَزَّ رُمْحاً أَوْ سَلَّ سَيْفاً صَقيلا وتَقَرُّ الْعُيُونُ في مَوْطِنٍ قَدْ ... بَسَطَ الأَمْنُ فيهِ ظِلًّا ظَليلا مُلْتَقَى وَحْشَةٍ وَأُنْسٍ وَإنْ لَمْ ... يَكُ وَقْتُ الإيناسِ فيها طَويلا أترى الْفَيْلَسوفَ يَدْري لِماذا ... كانَ حَظُّ السُّرورِ مِنْها ضَئيلا جذوة أو زهرة وافَتْ تُسائِلُني وَلَمْ يَسْتَفْتِني ... مِنْ قَبْلُ في فَنِّ النَّسيبِ سَؤولُ قالَتْ: يَقولُ أَبو فِراسٍ في الهوى ... "حُلْوٌ ومُرٌّ" هَلْ لَدَيْكَ دَليلُ (¬1) قُلْتُ المَحَبَّةُ في فُؤادي جَذْوَةٌ ... إنْ لَمْ يَجُدْ لي باللِّقاءِ خَليلُ (¬2) وإذا الْتَقَيْنا فَالْمَحَبَّةُ زَهْرَةٌ ... يَذْكو شَذاها والنَّسيمُ عَليلُ الدَّيْنُ سُمٌّ يا غامِساً يَدَهُ في الدَّيْنِ إنَّكَ قَدْ ... غَمَسْتَها في صَديدٍ خِلْتَهُ عَسَلا (¬3) والدَّيْنُ لِلْمالِ سُمٌّ ناقِعٌ فَإذا ... ما انْدَسَّ في ثَرْوَةٍ أَوْدى بِها عَجِلا هذي السّفينة هَذي السَّفينَةُ تَفْري الْمَوْجَ جَارِيَةً ... لِمُسْتَقَرٍّ لَها كَيْ تَدْرَأَ الْكَلَلاَ ¬

_ (¬1) أبو فراس: مرت ترجمته. وهذا البيت إشارة إلى قول أبي فراس: خليليّ ما أحلى الهوى وأمرّه ... وأعلمني بالحلو منه وبالمرّ (¬2) الجذوة: القبسة من النار، والجمرة الملتهبة. (¬3) الصديد: ما يسيل من الجرح من قيح.

الشعور طليعة الفلاح

وأَذْكَرَتْني بِمِسْراها إلى جَبَلٍ ... قَوْلَ الْخَليفَةِ يا سَارِيَّةُ الْجَبَلا الشُّعُور طليعة الفلاح " من قصيدة قالها الشاعر أيام الحرب العظمى في دمشق سنة 1334 هـ , وهي من القصائد التي كان يدعو بها إلى اتحاد العرب والترك". وَإنْ ساوَرَتْ بَعْضَ الْقُلوبِ ضَغينَةٌ ... وعادَتْ مِنَ الْبَغْضاءِ كالحَشَفِ الْبالي (¬1) فَقَدْ يَسْتَفيقُ الصَّبُّ مِنْ سَكْرَةِ الهوى ... وَتخْضَلُّ أَزْهارُ الرُّبى بَعْدَ إمْحالِ (¬2) وكَمْ عَبَثَتْ ريحُ الخِلافِ بِوَحْدَةٍ ... وَلَمْ تُبْقِ مِنْ بُنْيانِها غَيْرَ أَطْلالِ فَلاحَ شُعورٌ وَهْوَ أَسْعَدُ طالِعٍ ... يَلُمُّ شُعوثاً تَحْتَ وارِفِ أَظْلالِ (¬3) شُعورٌ فَعِلْمٌ فَاتِّحادٌ فَقُوَّةٌ ... فَعَزْمٌ فَإقْدامٌ فَإحْرازُ آمالِ لَنا هِمَمٌ تَسْمو إلى الْعِلْمِ رِفْعَةً ... وَهِمَّاتُ بَعْضِ النَّاسِ تَصْبو إلى الْمالِ وَلَوْ قِيلَ في طِرْسِ الْغَزالَةِ حِكْمَةٌ ... عَرَجْنا بِأبْكارٍ وعُدْنا بِآصال (¬4) حبّ الوطن وَطَني عَلّمْتَني الحُبَّ الَّذي ... يَدَعُ الْقَلْبَ لَدى الْبَيْنِ عَليلا لا تَلُمْني إنْ نَأَى بي قَدَرٌ ... وغَدا الشَّرْقُ مِنَ الْغَرْبِ بَديلا ¬

_ (¬1) الضغينة: الحقد. الحشف: أردأ التمر، واحده حشفة. (¬2) تخضل: تبتلّ. (¬3) الشعث: انتشار الأمر وخلله. (¬4) الطرس: الصحيفة. الغزالة: الشمس؛ لأنها تمد حبالاً كأنها تغزل.

في كل شيء له آية

عَزْمَةٌ قَدْ أَبْرَمَتْها هِمَّةٌ ... وَجَدَتْ لِلْمَجْدِ في الظَّغْنِ سَبيلا (¬1) أنا لا أَنْسى على طُولِ النَّوى ... وَطَناً طابَ مَبيتاً وَمَقيِلا (¬2) في يَميني قَلَمٌ لايَنْثَني ... عَنْ كِفاحٍ وَيرى الصَّبْرَ جَميلا (¬3) هُوَ ذا طاعِنْ بِهِ خَصْمَكَ مِنْ ... قَبْلِ أَنْ تَخْتَرِطَ السَّيْفَ الصَّقيلا (¬4) في كل شيء له آية يَعْجَبُ النَّاسُ في الحَياةِ وأَقْضي ... عَجَبي مِنْكَ أَنْ ضَلَلْتَ السَّبيلا أَنْتَ تَرْتابُ أَنْ يُدَبِّرَ أَمْرَ الْـ .... ــــكَوْنِ مَنْ جَلَّ مُلْكُهُ أَنْ يَزولا وتَخالُ الوُجودَ وَقْفاً على ما ... تُبْصِرُ الْعَيْنُ بُكْرَةً وأَصيلا وكأَيَّنْ في الكَوْنِ مِنْ آيةٍ إنْ ... كُنْتَ تَبْغي إلى الْيَقينِ وُصولا كُلُّ ما أَبْصَرَتْهُ عَيْناكَ لَيْلاً ... أَوْ نَهاراً يُملي عَلَيْكَ دَليلاً الذّل في البطالة لا يَرْتَجي العِزَّ شَعْبٌ ظَلَّ في وَسَنٍ ... مِنَ الْبَطالَةِ لا سَعْياً ولا أَمَلا (¬5) فالدُّرُّ يَسْمو إلى جيدِ الْفَتاةِ وَإنْ ... حامَ النُّعاسُ على أَجْفانِها نَزَلا (¬6) ¬

_ (¬1) الظعن: السير. (¬2) النوى: البعد. (¬3) يرى الصبر جميلا: ويريد بذلك الصبر على الكفاح. (¬4) اخترط السيف: سلّه من غمده. (¬5) الوسن: النعاس، والحاجة. (¬6) نزلا: إشارة إلى عادة نزع الحلي عند النوم.

من أديب إلى فقيه

من أديب إلى فقيه سَبَتْ مِنّا الْبَصائِرَ بِنْتُ كَرْمٍ ... فَقُلْتَ: الخَمْرُ تَسْتَدْعي نكَالا (¬1) وَحينَ سَبَتْ بَناتُ الشِّعْرِ مِنَّا ... نُهًى سَمَّيْتَها الْخَمْرَ الحَلالا من الفقيه إلى الأديب بَناتُ الشِّعْرِ تَسْبي مِنْكَ لُبّاً ... وتَرْفَعُهُ إلى أُفُقٍ تَعالى وَبِنْتُ الْكَرْمِ تَنْهَبُهُ وَتَغْشَى ... بِهِ دِمَناً وَأَنْدِيَةً رُذالا (¬2) [ذكرى المولد النّبوي] " قيلت في الاحتفال بالمولد النبوي سنة 1348 هـ ". حَيِّ ذاكَ الْبَدْرَ بالزَّهْرِ النَّظيمِ ... وامْلأِ الجَفْنَ بِمرآهُ الوَسيمِ إنَّهُ يَحْكي مُحَيَّا المُصْطفى ... إذْ بَدا بَيْنَ المُصَلّى والحَطيمِ (¬3) إنْ تَكُنْ يا بَدْرُ تَزْهو بِسَناً ... يُرْشِدُ السَّارِيَ في اللَّيْلِ الْبَهيمِ (¬4) فَسَنا أَحْمَدَ يَهْدي أُمَماً ... ويُريها سَنَنَ الْعِزِّ المُقيمِ عُجْ بِرَوْضٍ باكَرَ الطَّلُّ بِهِ ... دَوْحَ وَرْدٍ هَزَّهُ كَفُّ النَّسيمِ (¬5) تَلْقَ في الرَّوضِ شّذاً يُشْبِهُ ما ... لِنَبِيِّ اللهِ مِنْ خُلْقٍ كَريمِ ¬

_ (¬1) سبى: أسر. بنت الكرم: الخمر. النكال: ما يجعل عبرة للغير. (¬2) الدمن: جمع الدمنة: آثار الدار. الرذال: جمع الرذل: الرديء من كل شيء. (¬3) الحطيم: جدار حِجْر الكعبة. (¬4) الساري: الذي يسير عامة الليل. البهيم: الأسود. (¬5) عجْ: يقال: عاج بالمكان: أقام به.

إنْ تَكُنْ يا رَوْضُ يَزْهوكَ جَنىً ... هُوَ زَهْوُ الْعَيْنِ أَوْ عِطْرُ الشَّميم فِلِطهَ كَلِمٌ يَسْلو بِها ... عاشِقُ الحِكْمَةِ عَنْ كُلِّ نَعيمِ إنْ تَرَ العَضْبَ بِيُمْنى بَطَلٍ ... هَزَّهُ بَيْنَ قَتيلٍ وَكليمِ (¬1) فاذْكُرِ الْعَزْمَ الَّذي لاقى بِهِ ... خاتَمُ الرُّسْلِ أَذى كُلِّ زَنيمِ (¬2) غَيْرَ أَنَّ الْعَضْبَ يَقْضي مُرْغَماً ... في الوغى حاجَةَ جَبّارٍ نَهيمِ (¬3) يا خَصيماً لِهُدى أَحْمَدَ ما ... لِخَصيمِ الْحَقِّ مِنْ قَلْبٍ سَليمِ دُونَكَ التَّاريخُ لا تُبْقي مَدًى ... في حَديثٍ إنْ تَشأْ أَوْ في قَديمِ هَلْ رأى النَّاسُ كِتاباً عَجَباً ... مِثْلَ ما يُتْلى مِنَ الذِّكْرِ الحَكيمِ؟ وَيْحَ قَوْمٍ سَحَرَتْ أَعْيُنَهُمْ ... هذِهِ الدُّنْيا بِمَرْعاها الوَخيمِ (¬4) غَرِقوا في لَهْوِها واتَّخَذوا ... مِنْ مُوالاةِ الهوى أَشْقى نَديمِ نَكَروا الْقُرْآنَ بالذَّوقِ الَّذي ... يُؤْثِرُ الذَّرَّ على الدُّرِّ اليَتيمِ (¬5) دَعَوُا الإلْحادَ إصْلاحاً وَهَلْ ... يَعْرِفُ الإصْلاحَ ذُو ذَوْقٍ سَقيمِ ورَسولُ اللهِ هادٍ لِلْعُلا ... مُنْذِرٌ عاقِبَةَ الْفِعْلِ الذَّميمِ مَثَلٌ أَعْلى لِنَفْسٍ جَمَعَتْ ... سَطْوَةَ الْعَادِلِ في أُنْسِ الحَليمِ ¬

_ (¬1) العضب: السيف القاطع. الكليم: الجريح. (¬2) الزنيم: الدعيُّ اللئيم. (¬3) النهيم: ذو النهم: وهو إفراط الشهوة في الطعام. (¬4) ويح: كلمة ترّحم وتوَجعُّ، وقيل: هي بمعنى وَيْل. الوخيم: غير موافق. (¬5) الذّر: صغار النمل.

عِزَّةٌ قَعْساءُ في أَسْنى تُقىً ... هِمَّةٌ شَمَّاءُ في قَلْبٍ رَحيمِ (¬1) هُوَ إذْ يُرْهِفُ حَدًّا لِلَّذي ... عاثَ أَوْ يَأْذَنُ في حَرْبِ الْخَصيمِ (¬2) لم يُرِدْ إلَّا سَلاماً سائِداً ... واعْتِزازاً لِذَوي الدِّينِ القَويمِ إنْ تَكُنْ تَعْجَبُ فاعْجَبْ لِيَدٍ ... لَبِسَتْ قُفَّازَ أَفَّاكٍ أَثيمِ (¬3) كَتَبَتْ تَزْعُمُ مِنْ شَقْوَتها ... أَنَّهُ لَمْ يَكُ بِالشَّخْصِ العَظيمِ عَلِّموها أَنَّهُ أعْظَمُ مَن ... سَارَ في النَّاسِ على هذا الأَديمِ (¬4) صاحِبَ الرَّوضَةِ في طَيْبَةَ نَمْ ... آمِناً طُغْيانَ ذا الخَطْبِ الجَسيمِ (¬5) إنَّ في الشَّرْقِ رِجالاً نهَضوا ... يَقْرَعونَ الخَطْبَ بالْعَزْمِ الصَّميمِ لا يُبالونَ إذا ما جاهَدوا ... غَضَبَ الغاشِمِ أَوْ كَيْدَ اللَّئيمِ قَدَّسَ اللهُ ثَرى قَبْرِكَ ما ... نَفَحَ الْقُرْآنُ بِالْهَدْيِ العَميمِ (¬6) وأَقامَ العِلْمَ آياتٍ عَلى ... أَنَّهُ تَنْزيلُ خَلاَّقٍ حَكيمِ ¬

_ (¬1) عزة قعساء: أي: ثابتة منيعة. (¬2) عاث في الشيء: أفسده. الخصيم: المخاصم. (¬3) اليد: يريد بذلك: ما كتبه علي عبد الرازق في جريدة "السياسة" بالقاهرة يوم 12 ربيع الأول 1346 هـ، وقد رد عليه صاحب الديوان بمحاضرة تحت عنوان: "العظمة". انظر كتابه: "محمد رسول الله وخاتم النبيين". (¬4) الأديم: الأرض. (¬5) طيبة: اسم المدينة المنورة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام -. (¬6) العميم: التام من كل شيء.

افتتاح مؤتمر المجمع اللغوي

[افتتاح مؤتمر المجمع اللغوي] " قصيدة ألقاها الشاعر في افتتاح مؤتمر "المجمع اللغوي" بالقاهرة في 26 يناير كانون الثاني 1941". نَهَضَ الْقِطارُ فَأَوْمأوا بِسَلامِ ... وجَرى بِهِمْ طَلَقاً بِغَيْرِ زِمامِ (¬1) بانوا فَما بالي فَقَدْتُ حُشاشَتي ... أَمَضَى بِها في الرَّكْبِ فَرْطُ هُيَامِ (¬2) عَجَباً لِروحٍ فارَقَتْ جَسَدَ امْرِئٍ ... يَقْظانَ لَمْ يُرْشَقْ بِسَهْمِ حِمامِ (¬3) طَوَتِ النَّوى عَهْداً يَطوفُ سُقاتُهُ ... بِكُؤوسِ أُنْسٍ لا كُؤوسِ مُدامِ (¬4) رُضْتُ الْقَريضَ لَعَلَّني أَسْلو بِهِ ... ذِكْراهُمُ وأَغيبُ عَنْ آلامي (¬5) فَصَحَوْتُ مِنْ شَجَنٍ إلى شَغَفٍ بِما ... في نُطْقِ يَعْرُبَ مِنْ سَنىً وَوِسامِ (¬6) هِيَ لَهْجَةٌ شَبَّتْ بِأَرْضِ بَداوَةٍ ... فَيْحاءَ بَيْنَ الأُسْدِ والآرامِ (¬7) لَكِنَّها وَسِعَتْ عُلومَ "أَرِسْطُ" بَلْ ... وَسَعِتْ حَضارَةَ فارِسٍ والشَامِ (¬8) ¬

_ (¬1) طلقاً: يقال طَلِق طلَقاً: تباعد. الزمام: المقود. (¬2) الحشاشة: بقية الروح في المريض والجريح، وقيل: رمق من حياة النفس. (¬3) الحِمام: قضاء الموت وقدره. (¬4) المدام: الخمر. (¬5) راض المهر: ذلَّلَهُ. القريض: الشعر. (¬6) الشجن: الهم والحزن. الشغف: أقصى الحب. السنى: الضوء. الوسام: الحسن. (¬7) الآرام: جمع الرئم: الظبي الخالص البياض. (¬8) أرسط: أرسطو: مرت ترجمته.

اللَّفْظُ أَصْفى مِنْ حَبابِ سُلافَةٍ ... قَدْ لَثَّموا إبْريقَها بِفَدامِ (¬1) لَوْ أنَّ خَوْداً تَسْتَعيرُ الحَلْيَ مِنْ ... صَوْغِ ابنِ بُرْدٍ أَوْ أَبي تَمَّامِ (¬2) أَسَرَتْ أُسوداً قَدْ تَحامَوا قَبْلَها ... أَنْ يُؤسَروا بِصَبابَةٍ وَغَرامِ ولَرُبَّ مُتَّئِدٍ يُصاعرُ خَدَّهُ ... مُتَجافِياً عَنْ مُطْرِبِ الأَنْغامِ حَيَّتْهُ رَوْضاتُ الْبَيانِ بِباقَةٍ ... مِعْطارَةٍ مِنْ زَهْرِها الْبَسَّامِ فَصَبا إلى الآدابِ مَنْ لَمْ يُصْبِه ... تَلْحينُ زِرْيابٍ وَسَجْعُ حَمامِ (¬3) أَذْكى خَطيبُ الْجَيْشِ فيهِ حَماسَةً ... أَهْوَتْ بِراحَتِهِ إلى الصَّمْصامِ (¬4) نَطَقَ الْكِتابُ بِها فَأفْحَمَ أَلْسُناً ... لَمْ تُبْلَ قَبْلُ بِوَصْمَةِ الإفْحامِ (¬5) وتَأَلَّقَتْ حِكَمُ النَّبِيِّ كَأَنَّها ... شُهُبُ السَّماءِ تَشُقُّ بَحْرَ ظَلامِ ¬

_ (¬1) السلافة: الخمر. الفدام: المصفاة تجعل على فم الإبريق ليصفى بها ما فيه، وخرقة تشدها العجم والمجوس على أفواهها عند السقي. (¬2) الخود: الحسنة الخَلْق. ابن برد: بشار بن برد (95 - 167 هـ) أشعر المولدين، كان ضريراً، نشأ في البصرة، وأدرك الدولتين الأموية والعباسية، ودفن بالبصرة، له ديوان شعر مطبوع. أبو تمام: مرت ترجمته. (¬3) صبا: مال وحنَّ. زرياب: علي بن نافع (... - 230 هـ) نابغة الموسيقى في عصره، مولى المهدي العباسي، كان حسن الصوت، سافر إلى الأندلس، ولقيه عبد الرحمن ابن الحكم، وتوفي بقرطبة. (¬4) الصمصام: السيف الذي لا ينثني. (¬5) الكتاب: هو القرآن الكريم. أفحم: أسكت بالحجة.

سادَ الهَوى وَسَما لِواءُ المُلْكِ ما ... بَيْنَ السُّيوفِ الْغُرِّ والأقْلامِ الدِّينُ يَعْلو بِانْتِضاءِ يَراعَةٍ ... والمُلْكُ يَعْلو بِامْتِشاقِ حُسامِ (¬1) بُعْداً لِيَوْمٍ نامَ فيهِ حُماتُها ... وَرَمَتْ صُروفٌ وَجْههَا بِرَغامِ (¬2) مُنِيَتْ بِلَحْنٍ واللِّسانُ مُلَحَّنٌ ... ما لَمْ تَرُضْهُ عُلومُها بِلِجامِ (¬3) لَوْ جَسَّ "جالِينوسُ" مَنْبَضَ قَلْبِها ... لِيُحِسَّ ما تَشْكُو مِنَ الأَسْقامِ (¬4) أَلْفى ذُبولَ الظَّامِئاتِ وَأَحْرُفاً ... كادَتْ تَزيغُ بِها إلى إعْجامِ (¬5) مَنْ ذا يَغارُ على بَيانِ الْعُرْبِ مِنْ ... أَيْدٍ تُواري شَمْسَهُ بِقَتامِ (¬6) يا مَجْمَعاً نِيطَتْ بِهِ هِمَمٌ تُبا ... هي الزَّهْرَ في أَفْلاكِها وتُسامي هذِي شُعوبُ الشَّرْقِ تَنْظُرُ وَهْيَ في ... أَوطانِها الْقُصوى بِعَيْنِ حَذامِ (¬7) ¬

_ (¬1) اليراعة: القصبة، ويريد بها: القلم. الحسام: السيف القاطع. (¬2) الرغام: التراب. (¬3) اللحن: الخطأ في الإعراب. ملحّن: أي: مصاب باللحن. اللجام: ما يجعل في فم الفرس من الحديد من الحكمتين والعذارين والسير. (¬4) جالينوس: مرت ترجمته. (¬5) الإعجام: عدم الإفصاح بالكلام. (¬6) القتام: الغبار الأسود. (¬7) حذام: حذام بنت الريان، جاهلية يمانية (... - ...) يضرب بها المثل في صدق الخبر. وينسب لزوجها قوله: إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام

بكاء على قبر

تَرْنو إلَيْكَ بِمُقْلَةٍ نَقَّادَةٍ ... عَرَفَتْ وُجوهَ النَّقْضِ والإِبْرامِ (¬1) فَلْنَقْضِ لِلْفُصْحى لُبانَةَ دَوْحَةٍ ... قَذَفَ الهَجيرُ غُصونَها بِضِرامِ (¬2) وَلْنَسْقِ ظامِئَها عَصيرَ دِرايَةٍ ... إذْ كانَ لا يُسْقى عَصيرَ غَمامِ ما أَشْبَهَ الآمالَ يَوْمَ يَخونُها ... عَزْمٌ بِأَضْغاثٍ مِنَ الأَحْلامِ (¬3) يَحْلو النِّضالُ ولا نِضالَ أَلذُّ مِنْ ... تَنْقادِ آراءٍ بِغَيْرِ خِصامِ (¬4) هِيَ كالسَّحائِبِ: هَذِهِ وَطْفاءُ إنْ ... سَنَحَتْ، وَتِلْكَ تَمُرُّ مَرَّ جَهامِ (¬5) والرَّأْيُ يَخْلُصُ بالنِّقاشِ الحُرّ مِنْ ... صَدَإِ الخُمولِ ولُبْسَةِ الإبْهامِ وَجَآذِرُ الأَفْكارِ لا تَرِدُ الحِمى ... ما لَمْ تُسَسْ بِرَوِيَّةٍ وَنِظامِ (¬6) [بكاء على قبر] " قالها صاحب الديوان في رثاء والدته سنة 1335 هـ ". قَطَّبَ الدَّهْرُ فَأَبْدَيْتُ ابْتِساما ... وانْتَضى الخَطْبُ فَما قُلْتُ سَلاماً (¬7) ¬

_ (¬1) النقض: يقال: نقض البناء: هدمه. الإبرام: يقال: أبرم الشيء: أحكمه. وكلمتا (النقض والإبرام) مصطلح قانوني يطلق على اسم المحكمة العليا التي تبت بالأحكام القضائية بصورة نهائية. (¬2) اللبانة: الحاجة. الهجير: نصف النهار، شدة الحر. الضرام: ما اشتعل من الحطب. (¬3) أضغاث أحلام: أحلام ملتبسة لا يصح تأويلها؛ لاختلاطها. (¬4) تنقاد الآراء: بيان الصحيح منها والمردود، يقال: انتقد الدراهم: أخرج منها الزيف. (¬5) الوطفاء: السحابة الوطفاء: المسترخية لكثرة مائها. الجهام: السحاب لا ماء فيه. (¬6) الجآذر: جمع الجؤذر: ولد البقرة الوحشية. (¬7) قطّب: زوّى ما بين عينيه.

لَسْتُ أَدْري أَنَّ في كَفَّيْكَ يا ... دَهْرُ رُزْءاً يَمْلأُ الْعَيْنَ ظَلاما (¬1) لَسْتُ أَدْري أَنَّكَ الْقَاذِفُ في ... مُهْجَتي ناراً ومُذْكيها ضِراما فَإذا الْعَيْنُ تَرى مِنْ كَثَبٍ ... كَيْفَ تَلْقى نَفْسيَ الأُخْرى حِماما كَيْفَ تُخْفيها أَكُفٌّ في الثَّرى ... كَيْفَ تَحْثو فَوْقَها التُّرْبَ رُكاما (¬2) أَوْدَعوها قَعْرَ لَحْدٍ ضَرَبوا ... فَوْقَهُ مِنْ لازِبِ الطِّينِ خِتاما (¬3) ياسُقاةَ التُّرْبِ ماءً هاكُمُ ... عَبَراتي إِنَّ في الجَفْنِ جِماما (¬4) أَفَلا يَبْكي الْفَتى نازِحَةً ... سَهِرَتْ مِنْ أَجْلِهِ اللَّيْلَ وَناما وانْثَنَتْ تُرْشِفُهُ مِنْ أَدَبٍ ... مُذْ لَها عَنْ لَبَنِ الثَّدْيِ فِطاما (¬5) "بِنْتَ عَزُّورَ" لَقَدْ لَقَّنْتِنا ... خَشْيَةَ اللهِ وأَنْ نَرْعى الذِّماما (¬6) وَدَرَيْنا مِنْكِ أَنْ لا نَشْتَري ... بِمَعالينا مِنَ الدُّنْيا حُطاما (¬7) ¬

_ (¬1) الرزء: المصيبة. (¬2) الركام: الرمل المتراكم فوق بعضه. (¬3) اللازب: اللازم الثابت؛ أي: الطين المتماسك. الختام: الطين يختم به على الشيء. (¬4) الجِمام: الماء أكثر واجتمع. (¬5) رشف: الماء: مصه بشفتيه. (¬6) بنت عزور: السيدة البارة المرحومة حليمة السعدية بنت الشيخ مصطفى بن عزور، والدة الشاعر، ومن الشهيرات بالتقى والعلم والصلاح، ولدت بتونس سنة 1270 هـ , وتوفيت بدمشق سنة 1335 هـ. الذمام: الحق والحرمة. (¬7) الحطام: ما تكسر من اليبس، ويقصد الشاعر: مال الدنيا وزخرفها.

وَدَرَيْنا مِنْكِ أَنَّ اللهَ لا ... يَخْذُلُ الْعَبْدَ إذا الْعَبْدُ اسْتَقاما (¬1) وَدَرَيْنا كيْفَ لا نَعْنو لِمَنْ ... حارَبَ الحَقَّ وإِنْ سَلَّ الحُساما (¬2) كُنْتِ نوراً في حِمانا مِثْلَما ... نَجْتَلي الْبَدْرَ إذا الْبَدْرُ تَسامى أَفَلَمْ تُحْييهِ بالقُرْآنِ في ... رِقَّةِ الخاشِعِ ما عِشْتِ لِزاما كُنْتِ لي رَوْضَةَ أُنْسٍ أَيْنَما ... سِرْتُ أَهْدَتْ نَفْحَ وَرْدٍ وخُزامى (¬3) كانَ لي مِنْ قَلْبِكِ الطَّاهِرِ في ... كُلِّ يَوْمٍ دَعْوَةٌ تَجْني المَرْاما كانَ لي مِنْكِ إذا أَشْكو النَّوى ... كُتُبٌ تَحْمِلُ عَطْفاً وسَلاما ضاعَ مِنِّي أَنْ أُجيلَ الطَّرْفَ في ... وَجْهِكِ الرَّيّانِ بِشْراً واحْتِشاما إنَّ في هذا التَّنائي قَسْوَةً ... جَعَلَتْ مَرآكِ بِالعَيْنِ حَراما لَهْفَ قَلْبٍ باتَ لايَرْجو لِقا ... ءَكِ إلَّا أَنْ يَرى الطَّيْفَ مَناما فَادْخُلي في سَلَفٍ قُمْتِ عَلى ... هَدْيِهِ الحَقِّ وأَحْسَنْتِ الْقِياما (¬4) واسْعَدي نُزُلاً إلى المَلْقى إلى ... يَوْمِ لا نَخْشى عَلى الأُنْسِ انْصِراما (¬5) ¬

_ (¬1) خذل الرّجلَ: ترك نصرته وإعانته. (¬2) نعنو: عنا له: خضع وذل. (¬3) الخزامى: نبت زهرةٍ أطيب الأزهار نفحة، ويتمثل به في الطيب. (¬4) السلف: كل من تقدم من آبائك وقرابتك. (¬5) النزل: ما هيئ للضيف أن ينزل عليه. الانصرام: الانقطاع.

الشعر كالبيداء

الشّعر كالبيداء " قيلت في تونس". لا خَيْرَ فيمَنْ جَفَّ طَبْعاً واشْتَرى ... بِلَطائِفِ الأُدَباءِ كَأْسَ مُدامِ والشِّعْرُ كالبَيْداءِ: هَذا مَهْمَهٌ ... قَفْرٌ، وهَذا مَرْتَعُ الآرامِ (¬1) [مساعي الورى شتّى] " أبيات من قصيدة هنّأ الشاعر بها صديقه العلامة المرحوم الطاهر بن عاشور عند ولايته التدريس في جامع الزيتونة بتونس سنة 1323 هـ ". مَساعي الوَرى شَتّى وكُلٌّ لَهُ مَرْمى ... ومَسْعى ابْنِ عاشُورٍ لَهُ الأَمَدُ الأَسْمى (¬2) فَتًى آنَسَ الآدابَ أَوَّلَ نَشْئِهِ ... فَكانَتْ لَهُ رُوحاً وكانَ لَها جِسْما (¬3) وَما أَدَبُ الإنْسانِ إلَّا عَوائِدٌ ... تَخُطُّ لَهُ في لَوْحِ إحْساسِهِ رَسْما (¬4) فَتىً شَبَّ في مَهْدِ النَّعيمِ ولَمْ تَنَلْ ... زَخارِفُهُ مِنْ عَزْمِهِ المُنْتَضى ثَلْما وفي بَهْجَةِ الدُّنيا وخُضْرَةِ عَيْشِها ... غُرورٌ لِباغي المَجْدِ إنْ لم يَفُقْ حَزما وشادَ على التَّحْقيقِ صَرْحَ عُلومِهِ ... فَما اسْطاعَ أَعْداءُ النُّبوغِ لَهُ هَضْما ¬

_ (¬1) المهمه: المفازة البعيدة، والبلد المقفر، والجمع مهامه. الآرام: جمع الرئم: الظبي الخالص البياض. (¬2) الأمد: الغاية، المنتهى. (¬3) آنس: أبصر، وعلم. (¬4) العوائد: جمع العادة: ما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المقبولة، وتجمع على عادات وعوائد.

ومَنْ شَدَّ بالتَّفْويضِ لله أَزْرَهُ ... ومَدَّ شِباكَ الجِدِّ صادَ بِها النَّجْما وذي خُطَّةُ التَّدْريسِ تَوْطِئَةٌ لأَنْ ... نَراهُ وَقِسْطاسُ الحُقوقِ بِهِ يُحْمى (¬1) رَجاءٌ كَرَأْيِ العَيْنِ عِنْدَ أُولي الحِجا ... يُوافيهِ كالمَعْطوفِ بالفاءِ لا ثُمَّا بَلَونا حُلَى الأَلْفاظِ في سِلْكِ نُطْقِهِ ... فَلَمْ يُلْفِ صافي الذَّوْقِ في عَقْدِها جَشْما (¬2) وَفي النَّاسِ مِهْذارٌ تَراهُ يَلوكُها ... بِلَهْجَتِهِ لَوْكَ المُسَوَّمَةِ اللُّجْما (¬3) بِطانَةُ صَدْري صُوِّرَتْ مِنْ إخائِكُمْ ... وَجاءَ بَنانُ الخُلْدِ يَرْقُمُها رَقْما (¬4) وإنِّي أَرى بابَ المُداجاةِ ضَيقِّاً ... فَلا يَسَعُ النَّفْسَ الَّتي كَبُرَتْ هَمَّا (¬5) وإنْ شِمْتَ في نَسْخِ القَريضِ تَخاذُلاً ... وآنَسْتَ في مَغْزى فَواصِلِهِ وَصْما (¬6) فَزَهْرَةُ فِكْري لا تَطيبُ عُصارةً ... إذا نَفَثَ الإيحاشُ في أَضْلُعي سُمَّا أَلَمْ تَرَ أَزْهارَ الرُّبى حينما نَأَتْ ... أفانينُها كانَ الذُّبولُ لَها وَسْما ¬

_ (¬1) القسطاس: الميزان. (¬2) الجشم: الثقل والكلفة. (¬3) المهذار: يقال: هذر كلامه: أكثر في الخطأ والصواب، فهو مهذار. اللهجة: اللسان، اللغة. المسوّمة: الخيل التي عليها علامة. (¬4) البطانة من الشيء: خلاف ظاهره. يرقمها رقماً: يكتبها كتابة. (¬5) المداجاة: المداراة. (¬6) شمت: نظرت، يقال: شام البرقَ: نظر إليه أين يقصد، وأين يمطر. الوصم: العيب والعار.

كأني دينار

كأني دينار " قيلت عند سفره من دمشق". كأَنِّيَ دينارٌ وَجِلَّقُ راحَةٌ ... تُنافِسُ في الإِنْفاقِ راحَةَ حاتِمِ (¬1) فَكَمْ سَمَحَتْ بي للرَّحيلِ، وَلَيْتَني ... ضَرَبْتُ بِها الأَوْتادَ ضَرْبَةَ لازِمِ (¬2) [الملك الطبيعي أو راعي الغنم] " قيلت في قرية (ويزن دورف) بضواحي برلين". تَقَلَّدَ المُلْكَ بَيْنَ الضَّالِ والسَّلَمِ ... وهَبَّ يَفْتَحُ مِنْ غَوْرٍ إلى عَلَمِ (¬3) فَعَرْشُهُ رَبْوَةٌ حاكَتْ خَميلَتَها ... يَدُ الْغَمامَةِ إِذْ جادَتْ بِمُنْسَجِمِ (¬4) وتاجُهُ الشَّمْسُ تَبْدو فَوقَ مَفْرِقِهِ ... تاجٌ مَصونٌ بِلا جُنْدٍ وسَفْكِ دَمِ (¬5) سِراجُهُ الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ يُرْسِلُ مِنْ ... عَلْيائِهِ بِسَناً يَنْسابُ في الظُّلَمِ والظَّبْيُ يَرْقُمُ في طِرْسِ الْفَلاةِ خُطاً ... أَحْلَى لِناظِرِهِ مِنْ جَوْلَةِ الْقَلَم (¬6) صَفَتْ مَناظِرُ غُدْرانٍ فَكانَ لَهُ ... فيها مَزايا جَلاها صاقِلُ النَّسَمِ ¬

_ (¬1) جلق: دمشق: حاتم: حاتم الطائي (... - 46 هـ) يضرب المثل بجوده، عاش في الجاهلية فارساً شاعراً. مات في عوارض (جبل في بلاد طيء). (¬2) اللازم: الثابت. (¬3) الضال والسلم: من أشجار البادية. الغور: ما انحدر من الأرض، ويقابله النجد، والقعر من كل شيء. العلم: الجبل الطويل. (¬4) الخميلة: الشجر الكثير الملتف حيث كان. (¬5) المفرق: وسط الرأس، وهو الذي يفرق فيه الشعر. (¬6) الظبي: الغزال للذكر والأنثى. الطرس: الصحيفة.

فقدوا أحلامهم

وآلةُ الطَّرَبِ الحُمْلانُ تَرْتَعُ في ... خِصْبٍ فَيُسْمَعُ مِنْها أَطْيَبُ النَّغَمِ (¬1) عَيْناهُ: ذي سارَقَتْ جَفْنَ المَها نَظَراً ... وتِلْكَ ناظِرَةٌ شَزْراً إلى الأَجَمِ (¬2) لَمْ يَتَّخِذْ سامِراً يُوحي إِلَيْه بِما ... يَهْوى ويَخْضِبُ بَعْضَ الحَقِّ بِالْكَتَمِ (¬3) ومَا امْتَطى مَرْكَباً كَيْلا يُضايقَ في ... مَسيرِهِ نَفَسَ الْعَجْفاءِ والْهَرَمِ (¬4) ومَنْ تَولَّى زِمامَ الأمْرِ في مَلإٍ ... لَمْ يَغْلُ إنْ ساسَهُمْ سَعْياً عَلى قَدَمِ فقدوا أحلامهم طافَ بِالكَأْسِ عَلى نُدْمانِهِ ... لاِغْتيالِ الهَمِّ فيما زَعَما (¬5) لم يُمِتْ هَمًّا ولَمْ يَغْتَلْ نُهًى ... ما بُغاةُ الخَمْرِ إلَّا في عَمى (¬6) فَقَدوا أَحْلامَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ ... يَسْفِكوا مِنْ أَكْؤسِ الخَمْرِ دَما لَوْ فَحَصْتُمْ أَنْفُساً هَمَّتْ بأَنْ ... تُطْفِئَ الْعَقْلَ رَأَيْتُمْ لَمَما (¬7) ¬

_ (¬1) الحملان: جمع الحمل: الصغير من أولاد الضأن. (¬2) المها: جمع المهاة: البقرة الوحشية. الشزر: نظر الغضبان بمؤخر العين، أو النظر عن يمين وشمال. الأجم: جمع الأجمة: الشجر الكثير الملتف، وهي مأوى الأسد. (¬3) السامر: مجلس السمار. الكتم: نبت يخلط بالحناء، ويخضب به الشعر، فيبقى لونه، ويريد الشاعر بذلك: ما يخفي وجه الحق. (¬4) العجفاء: المهزولة. (¬5) الندمان: جمع النديم: وهو المنادم والمجالس على الشرب. (¬6) النهى: جمع النهية: العقل. (¬7) اللمم: الجنون الخفيف، أو طرف من الجنون.

مروحة الروح

سَنَرى فيها حُلوماً عِنْدَما ... نبُصِرُ الأَحْلامَ حَلَّتْ في الدُّمى (¬1) مروحة الرّوح " أبيات قالها الشاعر جواباً على بيتين (¬2) بعث بهما إليه صديقه الشيخ محمد المقداد الورتاني من تونس صحبة مروحة على وجه الهدية". يا أَخا الآدابِ صُغْتَ الشِّعْرَ مِنْ ... كَلِمٍ يَعْذُبُ في سَمْعٍ وفَمْ وَدَرَيْتَ الحَرَّ في مِصْرَ إذا ... أَقْبَلَ الصَّيْفُ تَلَظَّى واحْتَدَمْ (¬3) فَتَخَيَّرْتَ لِأَنْ تُهْدِيَ لي ... مِنْ بِلادِ النَّخْلِ مِهْداءَ النَّسَمْ (¬4) أَنا في حَرٍّ مِنَ الشَّوْقِ فَما ... طِبُّ حَرٍّ الشَّوْقِ إنْ شَوْقٌ أَلَمْ طِبُّهُ النَّاجِعُ مَلْقاكَ ألا ... تَبْتَغي مِصْرَ سَبيلاً لِلْحَرَمْ (¬5) هَذِهِ مِرْوَحَةُ الرُّوحِ وَدعْ ... سَعَفَ النَّخْلِ إلى لَحْمٍ وَدَمْ (¬6) ¬

_ (¬1) الحلوم: جمع الحلم: العقل. الدمى: جمع الدمية: الصورة المنقوشة المزينة. (¬2) البيتان هما: مروحة من تونس ... إلى الأعزّ الأخضر نسيمها يهدي له ... أزكى سلام عطر (¬3) تلظى: تلهب. احتدمَ: اشتد. (¬4) بلاد النخل: تونس حيث يكثر في جنوبها النخيل. المهداء: الذي من عادته أن يهدي. (¬5) الناجع: المؤثر. مصر سبيل للحرم: أي: طريق بين تونس ومكة المكرمة لأداء فريضة الحج، وفي هذا البيت دعوة لزيارة القاهرة. (¬6) السعف: جريد النخل وورقه.

برقية الشوق

برقيّة الشّوق " قالها أثناء رجوعه من الآستانة إلى تونس سنة 1330 هـ، وقد مرت به الباخرة بالقرب من شاطئ (المرسى) حيث كان يقيم صديقه المرحوم العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور". قَلْبي يُحَيِّيكَ إذْ مَرَّتْ سَفينَتُنا ... تُجاهَ واديكَ والأَمْواجُ تَلْتَطِمُ تَحِيَّةً أَبْرَقَ الشَّوْقُ الشَّديدُ بِها ... في سِلْكِ وِدٍّ بأَقْصى الرُّوحِ يَنْتَظِمُ إحضار الأرواح " بيتان خاطب الشاعر بهما صديقه الأستاذ خير الدين الزركلي (¬1) بدمشق عندما تليت عليه قصيدة بليغة من نظمه". يا مُحْضِراً في بُرْدِ شِعْرٍ رائِعٍ ... روحَ ابْنِ بُرْدٍ وَهْوَ يَلْفِظُ بالحِكَمْ (¬2) مَنْ عَلَّمَ الشُّعَراءَ أَنْ يَتَحَضَّروا ... روحاً تَرَدَّى جِسْمُها ثَوْبَ الْعَدَمْ الرّجاء تعلة " قالها بمناسبة ورود بيتين لعلي بن الجهم (¬3) في مجلس أدب". أُوَدِّعُ جِيراناً لِفُرْقَةِ لَيْلَةٍ ... بِلَوْعَةِ مَنْ هَمُّوا بِفُرْقَتِهِ عاما ¬

_ (¬1) خير الدين الزركلي: صاحب كتاب "الأعلام". (¬2) البُرْد: ثوب مخطط. ابن برد: الشاعر بشار: مرت ترجمته. (¬3) علي بن الجهم: (... - 249 هـ) شاعر رقيق الشعر من أهل بغداد، كان معاصراً لأبى تمام، غضب عليه المتوكل العباسي، فنفاه إلى خراسان، وانتقل إلى حلب، وقتل وهو في طريقه للغزو مع جماعة. والبيتان هما قوله: يا غائباً بكتابه ووصاله ... هل يرتجى من غيبتيك إياب لولا التعلل بالرجا لتقطعت ... نفس عليك شعارها الأوصاب

الندامى

أُشَيِّعُهُمْ بِالطَّرْفِ أَرْجو الْتِفَاتَةً ... تُريني وُجوهاً كالْبُدورِ وِساما (¬1) وَلِلنَّفْسِ إذْ يَنْأَى الأَحِبَّةُ رَوْعَةٌ ... تُثيرُ شجوناً في الحَشا وَسِقاما ولَولا رَجائي والرَّجاءُ تَعِلَّةٌ ... لِأَوْبَتِهِمْ كانَ الوَداعُ حِماما (¬2) النّدامى تُديرُ على الرّفاقِ كُؤوسَ خَمْرٍ ... وتَدْعوهُمْ بِمَجْلِسِكَ النَّدامى (¬3) وإنْ عَضُّوا الأَنامِلَ بَعْدَ صَحْوٍ ... فَإنَّ اللهَ يَغْفِرُ لِلنَّدامى (¬4) ذر الخُمول ذَرِ الخُمولَ وَلُذْ بِالْعِزِّ مُعْتَصِماً ... بِاللهِ كَيْ تَتَوَقَّى جِيْدَكَ الْقَدَمُ (¬5) فالشِّيحُ يَحْطِمُهُ دَوْسُ الثَّعالِبِ إذْ ... لَمْ يَعْلُ هَاماً وتَنْجو الضّالُ والسّلَمْ (¬6) في الحبس غَلَّ ذا الحَبْسُ يَدي عَنْ قَلَمٍ ... كانَ لا يَصْحو عن الطِّرْسِ فَنَاما ¬

_ (¬1) الوسام: جمع الوسيم: الحسن الوجه. (¬2) التعلة: ما يتعلل به من طعام أو غيره. الحِمام: قضاء الموت وقدره. (¬3) الندامى: جمع الندمان: بمعنى النديم: المنادم والمجالس على الشرب. (¬4) الندامى: جمع ندمان بمعنى نادم: التائب والآسف على ما فعل. (¬5) قالها بعد أن سمع في أحد الدروس أيام التعليم بيتين، وهما: عذ بالخمول ولذ بالذل معتصما ... بالله تنج كما أهل النهى سلموا فالريح تحطم إن هبت عواصفها ... دوح الثمار وينجو الشيح والرتم (انظر: كتاب "الرحلات" للإمام). (¬6) الشيح: نبات ترعاه المواشي.

نخوة

هَلْ يَذُودُ الغَمْضُ عَنْ مُقْلَتِهِ ... أَوْ يُلاقي بَعْدَهُ الْمَوْتَ الزُّؤاما أَنَا لَوْلا هِمَّةٌ تَحْدو إلى ... خِدْمَةِ الإسْلام آثَرْتُ الحِمَاما لَيْسَتِ الدُّنْيا وما يقسُمُ من ... زَهْرِها إلَّا سَراباً أو جَهاما (¬1) نخوة تَبْغي اللّيالي أَنْ تَفُلَّ حُسامي ... وتَصُدَّ وَجْدي بالعُلا وغَرامي (¬2) طَفِقَتْ تَحُثُّ خُطى الْمَطِيَّةِ بَعْدَما ... أَلْقَتْ لها أَيْدي النَّوى بِزمامِ (¬3) أتَخَالُني أبْلى بِسَلْوَةِ خَامِلٍ ... ما شَطَّ عَنْ وَطَني الأَنيسِ مُقَامي العَزْمُ مَا بَيْنَ الجَوانِحِ مُرْهَفٌ ... والْمَجْدُ أَنّى سِرْتُ فَهوَ أَمامي والسَّهْمُ يَصْدُرُ راغِماً وُيريكَ مِنْ ... جَلَدٍ تَرَنُّمَ ظافِرٍ بِمَرامِ لَولا السُّرى لَمْ تَرْشُفِ النَّكْباءُ مِنْ ... نَفَحاتِ ثَغْرِ الزَّهْرَةِ البَسَّامِ كَمْ مِنْ يَدٍ بَيْضاءَ طَوَّقَني بِها ... حَادِي الرِّكابِ إلى رُبوعِ الشّام وأَلَذُّها سَمَرٌ يُذَكِّرُني البَها ... وابنَ الْعَميدِ إلى أبي تَمّامِ (¬4) ¬

_ (¬1) الجهام: السحاب لا ماء فيه. (¬2) تفل: تثلم. (¬3) طفق يفعل كذا: ابتدأ وأخذ. (¬4) البها: البهاء زهير (581 - 656 هـ) شاعر رقيق، ولد بمكة، واتصل بالملك الصالح أيوب بمصر، وتوفي بها. وله ديوان شعر مطبوع، ترجم إلى الإنكليزية نظماً. ابن العميد: مرت ترجمته. أبو تمام: مرت ترجمته.

قافية النون

قافية النون مشاهداتي في الحجاز (¬1) أَلِمَجْدٍ لا يَنالُ القاطِنينْ ... وَدَّعَ الصَّحْبَ وَحَيَّا الظَّاعِنينْ (¬2) شامَ في وِجْهَتِهِ يُمْناً وَلَوْ ... زَجَرَ الطَّيْرَ لَمَرَّتْ باليَمينْ (¬3) لا تَلومَا في النَّوى مَنْ هاجَهُ ... لِلنَّوى لا عِجُ شَوْقٍ في الكَنينْ (¬4) شاقَهُ الْبَيْتُ وَقَبْرُ المُصْطَفى ... ورُبوعُ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينْ (¬5) سارَ شَوْطاً وَهْوَ لا يَدْري أَفي ... حُلُمٍ أَمْ في زَمانٍ لا يَخونْ ذَكَرَ "الخِضْرَ" و"موسى" إذْ أَتى ... مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ مُرْتادَ السَّفينْ (¬6) ¬

_ (¬1) نشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد الخامس. (¬2) الظاعن: السائر. (¬3) شام البرق: نظر إليه من أين يقصد وأين يمطر. اليمن: البركة. زجر الطير: تفاءل به، يقال: فلان يزجر الطير: أي: يعافها: وهي أن يرمي الطائر بحصاة، أو أن يصيح به، فإن ولاه في طيرانه ميامنة، تفاءل به، وإن ولاه مياسرة، تطيرّ منه. ونرى الشاعر يقول: لو زجر الطير، فهو لم يزجرها؛ لأن ذلك ضرب من الطيرة المنهي عنه. (¬4) النوى: البعد. الكنين: المستور، ويراد به: القلب والضمير. (¬5) شاقه الحب: شوقه إليه. البيت: الكعبة المشرفة بيت الله الحرام. (¬6) الخضر: صاحب النبي موسى عليه السلام. موسى: النبي موسى عليه السلام. =

رَكِبَ "الطَّائِفَ" يَطْوي الْبَحْرَ في ... جَذَلٍ والْبَحْرُ كالشَّيْخِ الرَّزينْ (¬1) وإذا هَبَّتْ جَنوبٌ طَرَدَتْ ... ما يُلاقيهِ النَّدامى مِنْ شُجونْ (¬2) هُمْ سُكارى ما احْتَسَتْ آذانُهُمْ ... حِكْمَةَ الْقُرْآنِ في نُطْقٍ رَصينْ وَدَلَوا مِنْ "رابِغٍ" فَاسْتَبَقوا ... يَذْكُرونَ اللهَ جَهْراً مُحْرِمينْ (¬3) في بَياضٍ ناصِعٍ تَحْسَبُهُمْ ... بادِئَ الرَّأْيِ زُهوراً في الغُصونْ رَسَتِ الطَّائِفُ في "جُدَّةَ" لا ... بَرِحَتْ "جُدَّةُ" في حِصْنٍ حَصينْ (¬4) رَحَلوا في جُنْحِ لَيْلٍ وَأَتَوا ... مَكَّةَ الْغَرَّاءَ مِنْ نَحْوِ الحَجونْ (¬5) في رِضا اللهِ خُطاً خاضوا بِها ... في حَصًى يَغْبِطُهُ الدُّرُّ المَصونْ دَخَلوا بَيْتاً حَرامَاً يَسْتَوي ... فيهِ ذو التَّاجِ ومُغْبَرُّ الجَبينْ شاهَدوا الكَعْبَةَ وَهْناً فَجَرَتْ ... عَبَراتُ الْبِشْرِ مِنْ بَعْضِ الجُفونْ (¬6) ¬

_ = مجمع البحرين: ملتقى مجرى بحري فارس والروم. (¬1) الطائف: اسم الباخرة التي ركبها صاحب الديوان من السويس إلى جدة. (¬2) الجنوب: ريح تقابل الشمال، ومنه: "إذا جاءت الجنوب جاء معها خير وتلقيح". (¬3) رابغ: بلدة على البحر الأحمر في الطريق بين جدة والمدينة المنورة، يحرم منها الحجاج القادمون من الشام ومصر والمغرب. المحرم: أحرم الحاج أو المعتمر: دخل في عمل حُرم عليه به ما كان حلالاً. (¬4) جدة: مدينة على البحر الأحمر، وهي ميناء مكة المكرمة، وباب الحجاج إليها بحراً، وقد أسسها سيدنا عثمان بن عفان، وبها قبر ينسب إلى حواء أم البشر. (¬5) الحجون: جبل بأعلى مكة المكرمة، عليه مدافن أهلها. (¬6) الوهن: نحو نصف الليل، أو بعد ساعة منه.

مُقْلَةُ الدُّنْيا فَإِنْ أَبْصَرْتَها ... في سَوادٍ فَعُيونُ الْغِيدِ جُون (¬1) لَثَموا مِنْ رُكْنِها الأَيْمَنِ ما ... لَثَمَتْهُ شَفَتا طهَ الأَمينْ (¬2) هِيَ بَيْتُ اللهِ إنْ طافوا بِها ... وَهُمُ أَضْيافُ رَبِّ الْعالَمينْ وَرَدوا "زَمْزَمَ" يَشْفونَ بها ... ظَمَأَ الأَكْبادِ حيناً بَعْدَ حينْ (¬3) لَوْ شَفى "عَمْرُو بْنُ كُلْثومٍ" بِها ... غُلَّهُ عافَ خُمورَ الأنْدَرِينْ (¬4) صَعِدوا "المَرْوَةَ" مِنْ بَعْدِ"الصَّفا" ... وَسَعَوا لله سَبْعاً راجِلينْ (¬5) وَقَفوا في "عَرَفاتٍ " مَوْقِفاً ... يَطْرَحُ الآثامَ مِنْ ماضي السِّنينْ (¬6) إنَّ دَهْراً طافَ ساقِيهِ بِما ... تَشْتَهي أَنْفُسُهُمْ غَيْرُ ضَنينْ ¬

_ (¬1) مقلة الدنيا: الكعبة المشرفة وهي مجللة بالسواد، شبهها الشاعر بعين الدنيا. الجون: جمع الجوْن: السود. (¬2) الركن الأيمن: الركن اليماني من أركان الكعبة، وهو إلى جهة المغرب. (¬3) زمزم: هي البئر المعروفة داخل الحرم المكي، قيل: سميت بها لكثرة مائها، يقال: ماء زمزم، وزمزام، وقيل: هو اسم علم لها. (¬4) عمرو بن كلثوم: (... - 40 ق هـ) شاعر جاهلي، ولد في شمال جزيرة العرب، ومات في الجزيرة الفراتية. وكان عزيز النفس فاتكاً شجاعاً. (¬5) الصفا والمروة: يمتد المسعى بين الصفا والمروة إلى الجهتين الشرقية والجنوبية من المسجد الحرام، وكل منهما عبارة عن سطح مرتفع يصعد إليه بمدرجات قليلة العدد، وبه الميلان الأخضران. قال تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]. (¬6) عرفات: مكان اجتماع الحجيج، ويبعد عن مكة المكرمة نحو خمسة وعشرين ميلاً.

هَبَطوا "جَمْعاً" وَقَدْ سادَ الدُّجى ... وحَدَوْا منْها المَطايا مُصْبِحينْ (¬1) هَلْ دَرَى المَشْعَرُ إذْ عاجوا بِهِ ... أَنَّهُمْ جُنْدُ إمامِ المُرْسَلينْ (¬2) نزلوا "خَيْفَ مِنىً" حَيْثُ رَمَوْا ... بالحَصى سَبْعاً عَلى وَجْهِ اللَّعينْ (¬3) وأَتَوْا "أُمَّ القُرى" فَاطَّوَّفوا ... ثُمَّ عادوا "لِمنىً" في العائِدينْ (¬4) رَكَعوا في مَسْجِدِ الخَيْفِ وَهَلْ ... أَحْرَزوا فيهِ ثَوابَ الخاشِعينْ (¬5) وَقَضَوْا حَقَّ "مِنىً" وَارْتَحَلوا ... بَعْدَ أَنْ أَذَّنَ بالعَصْرِ أَذينْ (¬6) سَلْ "ثَبِيراً" ما لَهُ ظَلَّ بِها ... مُلْقِيَ الرَّحْلِ وقَدْ بانَ الْقَطينْ (¬7) أَفَلا يَحْمِلُ ما نَحْمِلُهُ ... لِرُبى طَيْبَةَ مِنْ شوْقٍ مَكينْ دَعْ "ثَبيراً" قاسِيَ الْقَلْبِ فَهَلْ ... تلْفَحُ الأَشْواقُ صَخْراً فَيَلينْ ¬

_ (¬1) جمع: هي المزدلفة: وسمي جمعاً؛ لاجتماع الناس فيه. الدجى: الظلمة. (¬2) المشعر: المشعر الحرام، قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]، وقيل: إن المزدلفة كلها المشعر الحرام. ومعنى المشعر: معلم للعبادة. (¬3) خيف منى: سفح الجبل فيها. اللعين: إبليس. (¬4) أم القرى: من أسماء مكة المكرمة. (¬5) مسجد الخيف: مسجد في منى، وفي الحديث الشريف: "صلّى في مسجد الخيف سبعون نبيًّا منهم موسى". وبه المحراب والمنبر الذي خطب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬6) الأذين: المؤذن. (¬7) ثبير: جبل بمكة المكرمة، سمي كذلك باسم رجل من هذيل مات فيه, فعرف به، وكان فيه سوق في الجاهلية كسوق عكاظ. القطين: القاطن.

هَذِهِ مَكَّةُ ما لِلشَّمْسِ في ... صُفْرَةٍ تَحْكي بِها وَجْهَ الحَزينْ أَتُرينا والنَّوى قَدْ أَزِفَتْ ... كَيْفَ تَصْفَرُّ وُجوهُ النَّازِحينْ بَلْدَةٌ عُظْمى وَفي آثارِها ... أَنْفَعُ الذِّكْرى لِقَومٍ يَعْقِلونْ شَبَّ في بَطّحائها خَيْرُ الوَرى ... وشَبا في أُفْقِها أَسْمَحُ دِينْ (¬1) إِنْ عَزَمْنا النَّأْيَ عَنْها فالضَّرو ... راتُ قَدْ تُنْئي خَديناً عَنْ خَدين (¬2) * * * سائِقَ السَّيَّارَةِ انْهَضْ نَغْتَنِمْ ... فُرصَةً نَرْقُبُها مُنْذُ سِنينْ خُضْ بِها الْبِيدَ على سَلْعٍ فَلي ... حاجَةٌ في أَرْضِ سَلْعٍ وشُؤونْ (¬3) بَيْنَ لَيْلٍ مِثْلِ أَحْداقِ المَها ... ونَهارٍ مِثْلِ نَوْرِ الياسَمينْ (¬4) أَحْمَدُ الإدْلاجَ والتَّأْوِيبَ إذْ ... أَرَيَاني خَيْرَ ما تَهْوى الْعُيونْ (¬5) أَمْتَعا طَرْفي بِمَرْأَى رَوْضَةٍ ... أَوْدَعوا تُرْبَتَها خَيْرَ دَفينْ رَوْضَةٌ يَصْبو إلَيْها كُلُّ مَنْ ... عَرَفَ الحَقَّ وبالحَقِّ يَدينْ ¬

_ (¬1) بطحاء مكة: ما بين جبليها المسميين بالأخشبين، وهما: أبو قبيس، والأحمر، وذلك صميم مكة، ومن كان يسكن البطحاء هم المحض واللباب من قريش، وكان دونهم من يسكن الظواهر من مكة. شبا: أضاء. أسمح دين: الإسلام. (¬2) الخدين: الصاحب والصديق. (¬3) سَلْع: جبل في ظاهر المدينة. (¬4) المها: جمع المهاة: البقرة الوحشية. (¬5) الإدلاج: السير أول الليل، وربما استعمل للسير آخر الليل. التأويب: السير جميع النهار.

شادَها الهادي عَلى أُسِّ التُّقى ... وَتلا القُرْآنَ فيها جِبْرَئينْ (¬1) حَرَمٌ كَمْ سُقِيَتْ حَصْباؤُهُ ... في دُجى اللَّيْلِ دُموعَ القانِتينْ (¬2) فَاسْألوا المِحْرابَ عَنْ بَدْرِ الهُدى ... إذْ هَوى يَسْجُدُ في ماءٍ وَطينْ (¬3) مَعْهَدُ الحِكْمَةِ لا يَنْبُتُ في ... دَوْحِهِ إِلَّا الدُّعاةُ المُصْلِحونْ مِدْرَسٌ لِلْحَرْبِ لَمْ يَرْمِ العِدا ... قَطُّ إِلَّا بِالكُماةِ الفاتِحينْ (¬4) ثُكْنَةٌ لِلْجُنْدِ والْقَضْبِ إذا ... لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الحَرْبِ الزَّبونْ (¬5) حُجُراتٌ مُلِئَتْ طُهْراً أما ... عَمَّرَتْها أُمَّهاتُ المُؤْمِنينْ لُقِّنَتْ فيها حُقوقٌ أَنْقَذَتْ ... رَبَّةَ المَنْزِلِ مِنْ أَسْرٍ يَشينْ ¬

_ (¬1) جبرئين: جبريل - عليه السلام -. (¬2) الحرم: الحرم النبوي الشريف، ومعنى الحرم: ما لا يحل انتهاكه. الحصباء: الحصى، الواحدة حصبة. القانت: القائم بالطاعة، والدائم عليها، والمصلي. (¬3) يسجد في ماء وطين: في هذا البيت يلمح الشاعر لما ورد في "صحيح البخاري " عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، قال: اعتكفنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشر الأوسط من رمضان، فخرج صبيحة عشرين، فخطينا، وقال: " ... إني رأيت أني أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فليرجع "، فرجعنا، وما في السماء قزعة (قطعة من السحاب)، فجاءت سحابة، فمطرت حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) المِدْرس: الموضع الذي يدرس فيه. الكماة: جمع الكمي: الشجاع. (¬5) القَضب: ما قطعت من الأغصان للسهام والقسي، ويقصد بها: السلاح والعتاد الحربي. حرب زبون: يدفع بعضها بعضاً من الكثرة.

هأَنَذا في مُقامٍ مُؤْنِسٍ ... كَسَنا الْبَدْرِ مَهيبٍ كالعَرينْ (¬1) فَسَلاماً في حُضورٍ بَعْدَما ... كادَ يُزْجِيهِ على البُعْدِ حَنينْ * * * جِئْتَ يا مُخْتارُ والْعَالَمُ في ... لَيْلِ جَهْلٍ وضَلالٍ ومُجونْ (¬2) فَمَحَوْتَ الهَزْلَ بالجِدِّ كَما ... ذُدْتَ لَيْلَ الغَىِّ عَنْ صُبْحِ اليقينْ وَأَقَمْتَ العِلْمَ صَرْحاً شامِخاً ... وصَرَعْتَ الجَهْلَ طَعْناً في الوَتينْ (¬3) سُسْتَ أَقْواماً فَساسُوا أُمَماً ... بِيَدِ الإِنْصافِ في حَزْمٍ وَلِينْ وقَضَوْا فيها بِشَرعٍ قَيِّمٍ ... فَأَرَوْها كَيْفَ يَقْضي الْعادِلونْ "خاتَمَ الرُّسْلِ" أَلَمْ يَأْتِكَ ما ... حَلَّ بالأُمَّةِ مِنْ خَطْبٍ مُهينْ وَيْلَها مِنْ مُرْهِقٍ في عَلَنٍ ... وَخَؤونٍ في ثِيابِ النَّاصِحينْ (¬4) لَيْتَ قَوْماً وَرِثوا هَدْيَكَ لَمْ ... يُغْمِضوا عَنْ مُوبقاتِ المُتْرَفينْ (¬5) لَيْتَ قَوْماً وَرِثوا الرَّايَةَ قَدْ ... فَطِنوا لِلدَّاءِ والدَّاءُ كَمينْ (¬6) * * * ¬

_ (¬1) مهيب: يخافه الناس. العرين: مأوى الأسد. (¬2) المجون: الهزل: يقال: مجن الرجل مجوناً: كان لا يبالي قولاً وفعلاً. (¬3) الوتين: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه. (¬4) المرهق: الحاكم الظالم الجائر الذي يحمّل الأمة ما لا تطيق. الخؤون: الخائن. (¬5) الموبقات: المعاصي. (¬6) الكمين: الداخل في الأمر لا يفطن له.

دِينُكَ الوَضَّاءُ ثارَتْ حَوْلَهُ ... غُبْرَةٌ مِنْ شُبُهاتِ الْمُبْطِلينْ (¬1) مِنْ يَدٍ تَرْميهِ في رَأْدِ الضُّحى ... ويَدٍ تَرْميهِ مِنْ خَلْفِ الدُّجونْ (¬2) ولَهُمْ في كُلِّ وادٍ قَلَمٌ ... ولِسانٌ لاصْطِيادِ الغافِلينْ كَمْ أزاغوا عَنْ عَفافٍ وهُدًى ... مِنْ بَناتٍ طاهِراتٍ وَبَنينْ لَمْ يَرُعْنا يا أَبا القاسِمِ مِنْ ... جَوْلَةِ الغَيِّ دَوِيٌّ وَطَنينْ (¬3) إنَّ في الشَّرْقِ شَباباً أَيْقَنوا ... أَنَّكَ الدَّاعي إلى الحَقِّ المُبينْ إنَّ أَسْنى المَجْدِ في شَعْبٍ إذا ... سامَهُ الخَصْمُ أَذًى لا يَسْتَكينْ وَقَفوا يَرْمونَ أَعْداءَ الهُدى ... بِنِبالٍ قَوْسُها الْعِلْمُ المَتينْ يَعْشَقونَ الْبَذْلَ في الخَيْرِ إذا ... عَشِقَ الْمالَ طَغامٌ مُوسِرونْ (¬4) يُؤْثِرونَ المَوْتَ في عِزٍّ على ... أَنْ يَعيشوا تَحْتَ إرْهاقٍ وهُوْنْ (¬5) وإلى الحَضْرَةِ ما حُمِّلْتُهُ ... مِنْ تَحِيَّاتِ شبابٍ ناهِضينْ * * * ¬

_ (¬1) الغبرة: الغبار. (¬2) رأد الضحى: وقت ارتفاع الشمس وانبساط الضوء في الخمس الأول، وذلك شباب النهار. الدجون: جمع الدجن: إلباس الغيم الأرض وأقطار السماء، ويقصد بذلك: الظلمات. (¬3) أبو القاسم: النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) الطغام: أوغاد الناس، الواحد والجمع فيه سواء. (¬5) الهون: الخزي.

رضيت عن اغترابي

أَيُّ وِرْدٍ لَمْ يُكَدِّرْ صَفْوَهُ ... صَدَرٌ ما الدَّهْرُ إلَّا مِنْجَنونْ (¬1) أَزْمَغَ الرَّكْبُ رَحيلاً لَمْ يَكُنْ ... مِنْهُ بُدٌّ، والضَّروراتُ فُنونْ فَوَقَفْنا لِوَداعٍ، والأَسى ... يَلْذَعُ الآماقَ بِالدَّمْعِ السَّخينْ (¬2) أَفَلا نَأْسى عَلى عَهْدٍ أَتى ... وَتَوَلَّى وَهْوَ مَقْطوعُ القَرينْ (¬3) نَضِرٌ كالرَّوْضِ حَلَّاهُ النَّدى ... بِجُمانٍ صِيغَ مِنْ ماءٍ مَعينْ (¬4) * * * يا حِمًى وَدَّعْتُهُ والشَّمْسُ قَدْ ... وَدَّعَتْ وَالْتَحَقَتْ بِالرّاحِلينْ هَلْ لَنا عَوْدٌ كَعَوْدِ الشَّمْسِ مِنْ ... قَبْلِ أَنْ يَصْرِفَنا عَنْكَ المَنونْ (¬5) وسَلاماً كُلَّما رَتَّلْتُهُ ... قالَتِ الدُّنْيا وَمَنْ فيها: أَمينْ (¬6) [رضيت عن اغترابي] " قالها بعد قدومه من الشام إلى مصر سنة 1341 هـ ". رَضيتُ عَنِ اغْتِرابي إِذْ لَحاني ... فَتًى لا يَنْظُرُ الدُّنيا بِعَيْني (¬7) ¬

_ (¬1) الورد: الإشراف على الماء، والماء الذي يورد. الصّدَر: الرجوع عن الماء. المنجنون: الدولاب الذي يستقى عليها، وهي مؤنثة. (¬2) السخين: الحار. (¬3) القرين: المقارن. (¬4) الجمان: اللؤلؤ، الواحدة جمانة. المعين: الجاري. (¬5) المنون: الموت. (¬6) أمين: آمين: اسم فعل معناه: استجب. (¬7) لحاني: لامني.

يَقولُ: تُقيمُ في مِصْرٍ وَحيداً ... وَفَقْدُ الأُنْسِ إحْدى المَوْتَتَيْنِ أَلا تَحْدو المَطِيَّةَ نَحْوَ أَرْضٍ ... تُعيدُ إِلَيْكَ أُنْسَ الأُسْرَتَيْنِ (¬1) وَعَيْشاً ناعِماً يَدَعُ الْبَقايَا ... مِنَ الأَعْمارِ بِيضاً كاللُّجَيْنِ (¬2) وقَوْمٌ أَمْحَضوكَ النُّصْحَ أَمْسَوْا ... كَواكِبَ فى سَماءِ الْمَغْرِبَيْنِ (¬3) فَقُلْتُ لَهُ: أَيَحْلو لي إيابٌ ... وَتِلْكَ الأَرْضُ طافِحَةٌ بِغَيْنِ (¬4) وما غَيْنُ البِلادِ سِوى اعْتِسافٍ ... يُدَنِّسُها بِهِ خَرِقُ الْيَدَيْنِ (¬5) فَعَيْشُ رافِهٌ فيها يُساوي ... إذا أنا سُمْتُهُ خُفَّيْ حُنَيْنِ (¬6) أَحِنُّ إِلى لَياليها كَصَبٍّ ... يَحِنُّ إلى لَيالي الرَّقْمَتَيْنِ (¬7) ¬

_ (¬1) الأسرتان: أسرة والده من آل الحسين، وأسرة والدته من آل عزوز من أشراف العائلات التونسية. (¬2) اللجين: الفضة. (¬3) المغربان: ويقصد بهما المغرب الأدنى تونس، والمغرب الأوسط الجزائر، إذ أن عائلة الشاعر تقيم في القطرين. (¬4) الغين: الغيم، تلميح إلى الاستعمار الفرنسي آنذاك. (¬5) الاعتساف: يقال: اعتسف الأمر: ركبه بلا تدبير ولا روية. خَرِقُ اليدين: من لا يحسن الصنعة. (¬6) الرافه: الرغد والخصب. خفي حنين: إشارة إلى المثل "رجع بخفي حنين"، وقصته معروفة. (¬7) الرقمتان: روضتان بناحية الصَّمّان، ومنها قول القاضي عياض: رأت قمر السماء فذكرتني ... ليالي وصلها بالرقمتين

عذاب الصامتين

وَمَطْمَحُ هِمَّتي في أَنْ أَراها ... تُسامي في عُلاها الفَرْقَدَيْنِ (¬1) عذاب الصّامتين صُغْتُ بِالنَّارِ سُيوفاً لَمْ يَكُنْ ... صَوْغُها إلّا لِكَبْحِ المُجْرِمينْ قَبَضَتْ أَيْدٍ على هاماتِها ... وانْتَضَتْها نُصْرَةً لِلظَّالِمينْ (¬2) أَطْفِئِ النَّارَ فَإِسْعادُ أُولي الْـ ... ــــبَغْيِ طَعْنٌ في ظُهورِ المُصْلِحينْ لَوْ يَحولُ الْبَغْيُ طَيْراً لَمْ يَصِرْ ... غَيْرَ بُوْمٍ في حِسابِ الزَّاجِرينْ (¬3) إنْ يَحُمْ في أرْضِ قَوْمٍ سادِراً ... لَقِيَ الْقَوْمُ عَذابَ الصَّامِتينْ (¬4) وَيْحَهُمْ لَوْ نَهَضوا حَتَّى رَأَوْا ... عُنُقَ الْبَاطِلِ مَقْطوعَ الوَتينْ أسمع جعجعة ولا أرى طحنا " قيلت للنصح بترك الهذيان في مجالس أهل الفضل". أَتَى زَيْدٌ وأَسْرَفَ في هُذاءٍ ... تَضيقُ بِهِ صُدورُ السَّامِرينا (¬5) يُحَدِّثُنا فَلا يَرْوي غَريباً ... ولا يُبْدي لَنا رَأْياً رَصينا ¬

_ (¬1) الفرقدان: نجمان قريبان من القطب الشمالي يهتدي بهما (¬2) الهامات: جمع الهامة: رأس كل شيء. (¬3) البوم: طائر يسكن الخراب، يضرب به المثل في الشؤم. الزاجر: زجر الطير: تفاءل به فتطير فنهره. (¬4) السادر: الذي لا يهتم ولا يبالي بما صنع. (¬5) الهذاء: هذى الرجل: تكلم بغير معقول لمرض أو غيره، والاسم الهذاء.

كلانا ناظر وردا

كَمِثْلِ رَحًى تُجَعْجِعُ طولَ لَيْلٍ ... ولا تُلْقي على ثُفْلٍ طَحينا (¬1) كلانا ناظر ورداً " قالها بمناسبة ما جرى في بعض المجالس من المذاكرة في معنى البيتين المشار إليهما في هذه الأبيات التالية". أَنْشَدَتْنا شِعْرَ لَهْفانٍ عَلى ... وَصْلِ لَيْلى وَلَيالي الرَّقْمَتَيْنِ (¬2) قُلْتُ: خَلِّي ذِكْرَ مَنْ قالَ وَلَمْ ... يُبْرِزِ المَعْنى: رَأَتْ بَدْراً بِعَيْني واذْكُري يَوْمَ تَلاقينا عَلى ... رَبْوَةٍ والماءُ صافٍ كاللُّجَيْنِ غادَةٌ تَرْنو إلى وَرْدِ الرُّبى ... وفَتىً يَلْحَظُ وَرْدَ الوَجْنَتَيْنَ أحمد الظعن " قيلت على لسان قلم أهداه لأحد الكتاب بعد عودته من برلين سنة 1334 هـ ". أطْوي المَراحِلَ مِنْ "بَرْلينَ" في أَمَلٍ ... لَمْ يَجْنِ زَهْرَتَهُ كَفُّ الَّذي قَطَنا (¬3) فَأَحْمَدُ الظَّعْنَ إِنَّ الظَّعْنَ أَظْفَرَني ... بِأَنْمُلٍ تَخْدِمُ الإسْلامَ والوَطَنا (¬4) الزّيارة دعامة الصّداقة لي صَديقٌ أَلْقاهُ يَوْماً فَيَوْماً ... في احْتِفاءٍ وَما شَعَرْنا بِغَبْنِ (¬5) ¬

_ (¬1) الرحى: الطاحون. الثفل: جلد يبسط فتجعل الرحى فوقه، فتطحن باليد ليسقط عليه الدقيق. (¬2) اللهفان: المتحسر. (¬3) المراحل: جمع المرحلة: المسافة التي يقطعها المسافر في اليوم. (¬4) الظعن: السير. الأنمل: جمع الأنملة: رأس الأصبع. (¬5) الغبن: الخديعة.

ننجي الوطنا

غابَ عَنَّا ثَلاثَةً فَعَتِبْنا ... خَوْفَ أَنْ يُبْتَلى الوِدادُ بِوَهْنِ وإذا رُمْتَ للصَّداقَةِ حِصْنا ... فَعِتابُ الصَّديقِ أَمْنَعُ حِصْنِ قالَ: أَخْشَى إذا وَصَلْتُ لِقاءً ... بِلِقاءٍ أَنْ يَسَأَمَ الخِلُّ مِنِّي قُلْتُ: أَصْفَيْتُكَ الوِدادَ لأَخْلا ... قٍ سِماحٍ كأَنَّها ماءُ مُزْنِ (¬1) فَإذا ما سَئِمْتُ مَلْقاكَ فَايْقِنْ ... أَنَّني قَدْ سَئِمْتُ لَحْظي وجَفْني ننجي الوطنا طالَ لَيْلي ولِما طالَ وَلَمْ ... أَشْكُ هِجْرانَ حَبيبٍ أَوْ ضَنى (¬2) فَكَأَنَّ الصُّبْحَ طِرْفٌ جامِحٌ ... سارَ شَوْطاً نَحْوَنا ثُمَّ انْثَنى (¬3) أَرَقٌ يَمْلأُ أَجْفاني وقَد ... مُلِئَتْ أجْفانُ غَيْري وَسَنا أتَرى اللَّيْلَ سَواداً غَرِقَت ... فيهِ آفاقٌ وَوارى أَعْيُنا؟ أمْ تُرى الصُّبْحَ بَياضاً خَطَّهُ ... في جَبينِ الْكَونِ وَضَّاحُ السَّنا؟ (¬4) لَمْ نَزَلْ في غَسَقٍ مُذْ هَزَّ في ... أَرْضِنا الطَّاغي بُنوداً وقَنا (¬5) ¬

_ (¬1) المزن: السحاب. (¬2) الضنى: المرض والهزال وسوء الحال. (¬3) الطِّرف: الكريم من الخيل. وكذلك الكريم الأطراف من الآباء والأمهات. الجامح: اسم فاعل، الذكر والأنثى فيه سواء، ويجمع على جوامح، يقال: جمح الفرس: ركب رأسه لا يثنيه شيء. (¬4) السنا: الضوء الساطع، والمراد به، الشمس. (¬5) البنود: جمع البند: العلم الكبير.

خانها الحراس

وَصَباحي يَوْمَ نَطْوي بَنْدَهُ ... بِيَدِ الْقَهْرِ وَنُنْجي الوَطَنا خانها الحرّاس " قالها في واقعة حال بالآستانة". يا رِياضاً خانَها الحُرَّاسُ إذْ ... غَرِقَتْ أَعْيُنُهُم في وَسَنِ (¬1) سَرَقَتْ ريحُ الصَّبا مِنْكَ شَذاً ... طابَ وانْسابَتْ بِهِ في الدِّمَنِ (¬2) على طريقة حديث عنقاء " قالها بمناسبة مذاكرة أدبية جرى فيها قول أبي سهل في طالع قصيدة: حديث عنقاء صب أدرك الأملا". حَديثُ عَنْقاءَ شَعْبٌ أَنْقَذَ الوَطَنا ... ولَمْ يَسُلَّ سُيوفاً أَوْ يَهُزَّ قَنا (¬3) والعِزُّ يَجْعَلُ أَرْضي رَوْضَةً أُنُفاً ... فَإِنْ أَناخَ بِها ضَيْمٌ غَدَتْ دِمَنا (¬4) وَلَيْسَ يَلْدِزُ والبُرْدُ الْقَشيبُ إذا ... ما ساسَنا الخَصْمُ إلَّا الْقَبْرَ والكَفَنا (¬5) ¬

_ (¬1) الوسن: شدة النوم. (¬2) الدمن: جمع الدمنة: آثار الدار. (¬3) العنقاء: طائر معروف الاسم مجهول الجسم لا يعرف، ويراد بحديث عنقاء: الأمر لا حقيقة له، قال الشاعر: الجود والغول والعنقاء ثالثة ... أسماء أشياء لم توجد ولم تكن، وقال آخر: ثلاثة ليس لها وجود ... الغول والعنقاء والودود. (¬4) الروضة الأنف: التي لم يرعها أحد. أناخ: أنزل. الضيم: الظلم. (¬5) يلدز: قصر السلاطين العثمانيين في الآستانة. القشيب: الجديد.

الدعاء للميت خير من تأبينه

عُسْفُ العِدا دَرَنٌ فاسْكُبْ عَلَيْهِ دَماً ... مِنَ الدِّماءِ الْغَوالي تَغْسِلُ الدَّرَنا (¬1) ولا يَروعَنْكَ جُنْدٌ شَنَّ غارَتَه ... على الْبُغاثِ فَلاقى الجُبْنَ والوَهَنا (¬2) إنَّ الصُّقورَ إذا انْقَضَّتْ تُنافِحُ عَنْ ... أَوْكارِها لَمْ تَهَبْ جُنْداً ولا ثُكَنا (¬3) وسيَرةُ الحُرِّ إذْ يُبْلى بِطاغِيَةٍ ... يَسومُهُ رَهَقاً أَنْ يَهْجُرَ الوَسَنا (¬4) وُيسْرِحَ الطَّرْفَ في غَوْرٍ وفي عَلَمٍ ... ويُنْفِذَ السَّهْمَ إنْ سِرًّا وَإنْ عَلَنا (¬5) يَبْغي الحَياةَ فَإِنْ ضاقَتْ عَلى الهِمَمِ الْـ ... ــــكُبْرى فَما هُوَ مِمَّنْ يَعْشَقُ الزَّمَنا الدّعاء للميّت خير من تأبينه " قيلت في مستشفى فؤاد الأول بالقاهرة في ربيع الآخر سنة 1368 هـ ". تُسائِلُني هَلْ في صِحابِكَ شاعِرٌ ... إذا مُتَّ قالَ الشِّعْرَ وَهْوَ حَزينُ فَقُلْتُ لها: لا هَمَّ لي بَعْدَ مَوْتَتي ... سِوى أَنْ أَرى أُخْرايَ كَيْفَ تَكونُ وما الشِّعْرُ بِالمُغْني فَتيلاً عَنِ امْرِئٍ ... يُلاقي جَزاءً والجَزاءُ مُهينُ (¬6) وَإنْ أَحْظَ بالرُّحْمى فَما لِيَ مِنْ هَوًى ... سِواها، وأَهْواءُ النُّفوسِ شُجونُ ¬

_ (¬1) العسف: الظلم. الدرن: الوسخ. (¬2) البغاث: طائر لا يصاد ولا يُرغب في صيده، شرار الطير. (¬3) الثكن: جمع الثكنة: مركز الأجناد ومجتمعهم على لواء صاحبهم، وإن لم يكن هناك لواء ولا علم. (¬4) الرهق: حمل الإنسان على ما لا يطيقه. (¬5) الغور: ما انحدر من الأرض. العلم: الجبل الطويل. (¬6) الفتيل: حبل دقيق من خزم أو ليف أو غيره.

من برلين إلى دمشق

فَخَلِّي فَعولُنْ فاعِلاتٌ تُقالُ في ... أُناسٍ لَهُمْ فَوْقَ التُّرابِ شُؤونُ وَإنْ شِئْتِ تَأْبيني فَدَعْوَةُ ساجِدٍ ... لَهُ بَيْنَ أَحْناءِ الضُّلوعِ حَنينُ (¬1) [من برلين إلى دمشق] " قيلت في دمشق عند رجوعه من ألمانيا سنة 1337 هـ ". سَئِمْتُ، وَما سَئِمْتُ سِوى مُقامي ... بِدارٍ لا يَروجُ بِه بَياني (¬2) فَأَزْمَعْتُ الرَّحيلَ، وفَرْطُ شَوْقي ... إلى بَرَدَى تَحَكَّمَ في عِناني بَكَرْتُ إلى القِطارِ فَسارَ تَوًّا ... إلى مَرْسى السَّفينِ كَأُفْعُوانِ (¬3) نَهَضْتُ على السَّفينَةِ في رِفاقٍ ... سَلَوْتُ بِأُنْسِهِمْ نُوَبَ الزَّمانِ وقَضَّيْنا بِها عِشْرينَ يَوْماً ... فَلَمْ نَلِجِ الْبِلادَ ولا المَواني تُقَلِّبُها الْعَواصِفُ كَيْفَ شاءَتْ ... وتَقْذِفُها بأَمْواجٍ سِمانِ أَلا بُعْداً لِما تُذْكيهِ ريحٌ ... عَلى الدَّأْماءِ مِنْ حَرْبٍ عَوانِ (¬4) رَسَتْ بِمياهِ لُنْدُنَ وَهْيَ قُصْوى ... فَلا بَشَراً نُحِسُّ ولا المَغاني (¬5) وَوافاها الْعريفُ ومُسْعِدوهُ ... سِراعاً في زَوارِقَ كالْهِجانِ (¬6) ¬

_ (¬1) التأبين: الثناء على الميت. (¬2) يروج: يقال: راجت السلعة: أي: نفقت. (¬3) مرسى السفين: ميناء هامبورغ بألمانيا. (¬4) الدأماء: البحر. حرب عوان: هي الحرب التي قوتل فيها مرة بعد أخرى. (¬5) لندن: عاصمة إنكلترا. قصوى: بعيدة. المغاني: جمع المغنى: المنزل. (¬6) العريف: القيم بأمر القوم الذي عرف بذلك. الهجان من الإبل: البيض الكرام.

وأَبْصَرْنا جَفاءً في وُجوهٍ ... مُقَطِّبَةٍ وأَحْداقٍ رَواني فَقُلْ لِلإنْكليزِ صَرَعْتَ خَصْماً ... وحُزْتَ السَّبْقَ في يَوْمِ الرِّهانِ فَخَلِّ الشَّرْقَ يَنْهَضُ مُسْتَقِلًّا ... فَما هُوَ بِاليَؤُوسِ ولا الجَبانِ * * * أَرُبَّانَ السَّفينَةِ قِفْ مَلِيًّا ... نُؤَبِّنُ فاتِحاً ثَبْتَ الجَنانِ (¬1) كَأَنَّ رِيَاحَ هذا الصُّبْحِ مَرَّتْ ... بِأَرْواحٍ تَنَعَّمُ في الجِنانِ (¬2) أَرى جَبَلاً تَسَنَّمَهُ قَديماً ... دُعاةُ الحَقِّ والسُّنَنِ الحِسان (¬3) وَساسُوا أرضَ أَنْدَلُسٍ بِعَدْلٍ ... كما صَنَعوا بِأَرْضِ القَيْرَوانِ وما اْنْقَلَبَتْ إلى الإسْبانِ إلِّا ... عَلى أَيْدي الْمَزاهِرِ والقيِانِ عَبَرِنا الدَّرْدَنيلَ ضُحًى وجِئْنا ... فَروقَ وقَدْ تَهاوَتْ في هَوانِ (¬4) لَمَحْتُ عَلى الوُجوهِ بِها كُسوفاً ... وكِدْتُ أَرى التَّجَهُّمَ في المَباني يَميسُ بأَرْضِها الحُلَفاءُ سَكْرى ... وإنْ لَمْ يَحْتَسوا بِنْتَ الدِّنانِ (¬5) ولَمْ أَعْهَدْ بِها إِلَّا حُصوناً ... كَسَتْها رَوْعَةَ السَّيْفِ الْيَماني * * * ¬

_ (¬1) الفاتح: طارق بن زياد. الجَنان: القلب. (¬2) الجِنان: جمع الجنة: الحديقة ذات الشجر. (¬3) تسنَّم الشيء: علاه. (¬4) فروق: إستانبول. (¬5) بنت الدنان: الخمر.

بَرِحْتُ فَروقَ مَأْسوفاً وهذي ... رُبى أَزْميرَ حالِكَةُ الدِّجانِ (¬1) يَجوسُ خِلالَها اليُونانُ مَرْحى ... مِراحَ الفُرْسِ يَوْمَ المِهْرَجانِ (¬2) فَيا نَكَدي يَسوسُ الخَصْمُ أَمْري ... وكُنْتُ أَذَقْتُهُ حَرَّ الطِّعانِ * * * قَصَدْتُ إلى الشَّآمِ ولَسْتُ أدْري ... أَيَقْسُو أَمْ يَلينُ بِها زَماني وللإفرَنْجِ في بَيْروتَ عَيْنٌ ... يُسَمّى مَنْ يُساجِلُهُمْ بِجاني (¬3) وَصَلْتُ إلى طَرابُلُسٍ وَحِيداً ... أُعانِي بِالتَّنَكُّرِ ما أُعَاني (¬4) يَشينُ قِبابَها عَلَمٌ غَريبٌ ... وَذاكَ عَلامَةُ الوَطَنِ الْمُهانِ هَلُمَّ حَقيبَتي لأِحُطَّ رَحْلي ... فَنَفْحُ زُهورٍ جِلَّقَ في تَداني فَخُضْ بي أَيُّها الحادي رُبَاها ... وَأَلْقِ عَصا التَّرَحُّلِ غَيْرَ وانيٍ (¬5) حَلَلْتُ بِها وَلَمْ أَفْقِدْ نَدَامَى ... عَلى أَدَبٍ وعَيْشاً في لِيانِ (¬6) ولِلأَقْدارِ في الدُّنْيا صُروفٌ ... طَوَيْتُ على الحَديثِ بِها لِساني (¬7) ¬

_ (¬1) أزمير: مرفأ في تركيا على بحر إيجه. الدِّجان: جمع الدّجين: إلباس الغيم الأرض وأقطار السماء. (¬2) المِراح: التبخر والاختيال. (¬3) العين: الجاسوس. ساجل: بارى وفاخر وعارض. (¬4) طرابلس: مدينة ساحلية في لبنان. (¬5) الواني: الضعيف البدن. (¬6) ليان: رخاء العيش ونعيمه. (¬7) الصروف: جمع الصرْف: حدثان الدهر ونوائبه.

على النيل

على النّيل عَبَرْتُ عَلى جِسْرٍ أَرى النَّيلَ تَحْتَهُ ... إلى رَوْضَةٍ فاشْتَقْتُ مَنْهَلَ زَغَوانِ (¬1) صِراطٌ وفِرْدَوْسٌ وسَلْسَالُ كَوْثَرٍ ... وما قَيْظُ أَشْواقي سِوى وَهْجِ نيرانِ أزمير لأَزْميرَ شَكْلٌ كالهِلالِ مَقَوَّسٌ ... وَلَكِنْ لَهُ في مُنْتَهى البَحْرِ أَلوانُ وَأَحْسَبُهُ الشَّكْلَ الَّذي اخْتَطَفَ النُّهى ... لِقَوْمٍ فَقَالوا: في الكَواكِبِ سُكَّانُ ¬

_ (¬1) زغوان: نهر في تونس.

قافية الهاء

قافية الهاء تحية دمشق سنة 1356 هـ (¬1) زارَها بَعْدَ نَوًى طالَ مَداها ... فَشَفى قَلْباً مُجِدّاً في هَواها (¬2) راحَ نَشْوانَ ولا راحٌ سِوى ... أَنْ أَرى الشَّامَ وَحَيَّاهُ شَذاها (¬3) نَظرَةٌ في ساحِها تُذْكِرُهُ ... كَيْفَ كانَ الْعَيْشُ يَحْلو في رُباها ما شَكا فيها اغْتِراباً، وإذا ... حَدَّثَّتْهُ النَّفْسُ بالشَّكْوى نَهاها مَنْ يَحُثُّ العِيسَ في البِيدِ إلى ... بَرَدَى يَحْمَدُ لِلعيسِ سُراها (¬4) فَهُنا قامَتْ نَوادي فِتْيَةٍ ... تَبْلُغُ النَّفْسُ بِمَلْقاهُمْ مُناها أَدَبٌ يَزهو كَزَهْرٍ عَطِرٍ ... أَرْشَفَتْهُ السُّحْبُ مِنْ خَمْرٍ نَداها خُلُقٌ لَوْ نَصَحَ الخَوْدَ بِهِ ... ناصِحٌ لَاتَّخَذَتْ مِنْهُ حُلاها (¬5) ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد العاشر. (¬2) النوى: البعد. (¬3) الراح: الخمر. (¬4) العيس: الإبل البيض يخالط بياضها شقرة، أو ظلمة خفية، الواحد أعيس، والواحدة عيساء، ويقال: هي كرام الإبل. بردى: نهر في دمشق. السُّرى: سير عامة الليل. (¬5) الخوْد: الحسنة الخَلْق.

مَلؤوا "جِلَّقَ " أُنْساً فَأَرى ... لَيْلَها طَلْقَ المُحَيَّا كَضُحاها (¬1) شَدَّ ما لاقَوْا خُطوباً فَانْتَضَوْا ... مُرْهَفاتِ الْعَزْمِ طَعْناً في لَهاها (¬2) عِزَّةُ الأُمَّةِ في نَشْءٍ إذا ... نَشَبَتْ في خَطَرٍ كانوا فِداها وَجَناحا فَوْزِها اسْتِمْساكُها ... بِهُدى اللهِ وإرْهافُ قَناها هِيَ عَيْنٌ والهُدى إنْسانُها ... فَإذا ما فَسَقَتْ لاقَتْ عَماها (¬3) رَتِّلِ الذِّكرَ مَلِيَّاً تَرَهُ ... يَغْرِسُ الحِكْمَةَ أَوْ يَجْني جَناها أطْلَقَ الأَفْكارَ مِنْ أَصْفادِها ... فَمَضَتْ تَرْعى الثُّرَيّا وسُهاها (¬4) خُضْ عُلومَ الْكَوْنِ أَحْقاباً وسِرْ ... في سَماها إنْ تَشَأْ أَوْ في ثَراها (¬5) لا تَرى في الدِّينِ إلَّا مُغْرِياً ... بِحُلاها أَوْ مُزيحاً لَقَذاها (¬6) ذَكَّرونا سَلَفاً قامَ عَلى ... خُطَّةٍ غَرَّاءَ والدَّهْرُ طَواها (¬7) أُمَّةٌ يُذْكي التُّقى غَيْرَتَها ... مِثْلَما يُذْكي النَّدى نارَ قِراها (¬8) ¬

_ (¬1) جلق: دمشق. (¬2) اللهى: جمع اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم. (¬3) الإنسان: المثال الذي يرى في سواد العين. (¬4) الأصفاد: جمع الصفد: الوثاق الذي يشد به الأسير. الثريا: سبعة كواكب في عنق الثور، سميت بذلك؛ لكثرة كواكبها مع ضيق المحل. السها: كوكب خفي من بنات نعش الصغرى. (¬5) الأحقاب: جمع الحُقب: ثمانون سنة، وقيل: أكثر من ذلك، الدهر. (¬6) القذى: ما يقع في العين وفي الشراب من تبنة أو غيرها. (¬7) السلف: كل من تقدمك من آبائك وقرابتك، والجمع أسلاف. (¬8) الندى: الجود. القرى: الضيافة.

سرق الغمام

شَرَفٌ لَوْ آنَسَتْهُ الشَّمْسُ في ... أُفْقِهِ الأَعْلى لَظَنَّتْهُ أَباها أَوَ يُجْدي مَجْدُ أَسْلافٍ إذا ... غَرِقَتْ أَجْفانُ خَلْفٍ في كَراها (¬1) أُمَّةٌ تَلْهو بِذِكْرى تالِدٍ ... عَنْ طَريفٍ لَمْ تَرِمْ عَهْدَ صِباها (¬2) فَابْعَثوها هِمَماً تَسْمو كَما ... سَمَتِ الجَوْزاءُ تَزْهو في سَناها (¬3) ما الفَخَارُ الحَقُّ إلَّا نَهْضَةٌ ... أَحْكَمَ الإيمانُ والْعِلْمُ عُراها سرق الغمام سَرَقَ الغَمامُ الْيَوْمَ ظِلّي بَعْدَ أَنْ ... رَسَمَتْهُ في "لنداو" شَمْسُ ضُحاها ويَدُ الرّحيلِ تَخَطَّفَتْ مِنْ "جِلَّقٍ" ... جِسْمِي وأَبْقَتْ مُهْجَتي بُرباها فَأَنا خَيالٌ والبُحَيْرَةُ مُقْلَةٌ ... لَكِنْ تَطاولَ بِالخَيالِ كَراهَا [ها هنا شمسُ علوم] " عاد الشاعر من ألمانيا سنة 1334 هـ إلى الآستانة، وكان خاله العلامة الشيخ محمد المكي بن عزوز (¬4) قد توفي بها قبل قدوم صاحب الديوان بنحو شهرين، فزار قبره. وبهذه المناسبة قال هذه القصيدة". رُبَّ شَمْسٍ طَلَعَتْ في مَغْرِبٍ ... وتَوارى في ثَرى الشَّرْقِ سَناها ¬

_ (¬1) الكرى: النعاس. (¬2) التالد: المال القديم. الطريف: المكتسب من المال. (¬3) الجوزاء: برج في السماء. (¬4) محمد المكي بن عزور: (1270 - 1334 هـ) عالم محدث مؤرخ فقيه أديب، ولد في "نفطة" بتونس، وولي القضاء والإفتاء بنفطة، ثم رحل إلى الآستانة، فتولى تدريس الحديث في "دار الفنون ومدرسة الواعظين"، وتوفي بالآستانة، له مؤلفات عديدة في سائر العلوم.

هاهُنا شَمْسُ عُلومٍ غَرَبَتْ ... بَعْدَ أنْ أبْلَتْ "بِتِرْشِيشَ" ضُحاها (¬1) بِفُؤادي لَوْعَةٌ مِنْ فَقْدِها ... كُلَّما أَذْكُرُهُ اشْتَدَّ لَظاها فَقِفا لَمْحَةَ طَرْفٍ نقتَني ... عِبَراً مِنْ سِيرَةٍ طابَ شَذاها أَيُّها الرَّاحِلُ قَدْ رَوَّعْتَنا ... بِفِراقٍ حَرَمَ الْعَيْنَ كَراها لَكَ نَفْسٌ سَرَّحَتْ هِمَّتَها ... في مَراعي الْعِلْمِ مِنْ عَهْدِ صِباها صاعَرَتْ لِلَّهْوِ خَدًّا وَرَأَتْ ... في ذُرى الْعَلْياءِ أَهْدافَ هَواها تَتَباهى الْبيضُ في يَوْمِ الوَغى ... بِظُباً مُرْهَفَةٍ لا بِحُلاها (¬2) وحِجاً أَشْرَفَ مِنْ عَلْيائِهِ ... يَجْتَلي زُهْرَ الدَّيَاجي وسُهاها (¬3) غِبْتُ في ذِكْرى لَيالٍ غَضَّةٍ ... وَثَبَ الدَّهْرُ عَليْها فَطَواها إذْ رُبى "نَفْطَةَ" تُزْهى في حُلى ... زَهْرِها الرَّيَّانِ مِنْ خَمْرِ نَداها (¬4) وظِلالٍ بَيْنَ دَوْحٍ ناضِرٍ ... ونُهورٍ يَبْهَرُ الكَأْسَ صَفاها وطُيورُ الأَيْكِ في أَغْصانِها ... تَخْطَفُ السَّمْعَ بِأَنْغامِ لُغاها (¬5) بَيْنَ هاتيكَ الرُّبى لَقَّنْتَنا ... أدَبَ الْعُرْبِ كِتاباً وَشِفاها ¬

_ (¬1) ترشيش: اسم قديم من أسماء تونس. (¬2) البيض: جمع الأبيض: السيف. الوغى: الحرب. الظبا: جمع الظبي: حد السيف. مرهف: محدد مرقق الحد. (¬3) الحِجا: العقل. السها: كوكب خفي من بنات نعش الصغرى. (¬4) نفطة: بلدة في الجريد من أعمال تونس. الريان: ضد العطشان. (¬5) الأيك: الشجر الكثيف الملتف، الواحدة أيكة. لغى: جمع لغة.

وتَرَحَّلْتَ إلى تونُسَ في ... نِعْمَةِ الْمَغْبوطِ إِقْبالاً وَجاها (¬1) صُغْتَ بِالتَّدْريسِ أَطْواقاً شَبا ... دُرُّها بالجامِعِ السَّامي فتاها (¬2) أَيْنَما كُنْتَ تَداعَتْ أُمَمٌ ... تَتَمَلّى رَوْضَةً يَحْلو جَناها مِنْ عُلومِ اللُّغَةِ الْفُصْحى إلى ... حِكْمَةِ الشَّرْعِ إلى عِلْمٍ سِواها (¬3) لُغَةُ الْعُرْبِ ثِقافٌ لِلنُّهى ... وعُلومُ الدِّينِ نِبْراسُ هُداها (¬4) وتَفاءَلْتَ فَأزْمَعْتَ النَّوى ... و (بإِسْتانْبولَ) أَلْقَيْتَ عَصاها (¬5) أَلَقِيتَ الأُنْسَ في أَرْجائِها ... مِثْلَما تَلْقى بِها ريحَ صَباها؟ زُرْتُ مَغْناكَ ومِنْ سُمَّارِكَ الْـ ... ـــقَلَمُ الْباحِثُ في سُنَّةِ (طهَ) (¬6) ورِجالٌ بَعَثوا أَرْواحَهُمْ ... في قَراطيسَ تُناجي مَنْ وَعاها لَمْ تَعِشْ فيها غَريباً فَقَرا ... بَةُ أَهْلِ النُّبْلِ أَحْكَمْتَ عُراها ¬

_ (¬1) المغبوط: الذي يتمنى الإنسان مثل حاله من غير أن يريد زوالها عنه؛ لما أعجبه منه، وعظم عنده. (¬2) شبا: أضاء. (¬3) علم سواها: كان العلامة محمد مكي بن عزوز عارفاً بعلم الفلك، وله فيه مؤلف مطبوع، إضافة إلى رسوخه في علوم الشريعة، وعلوم اللغة العربية. (¬4) الثقاف: آلة من خشب تسوى بها الرماح. النبراس: المصباح، ويجمع على نباريس. (¬5) ألقى عصاه: بلغ موضعه، وأقام واطمأن وترك الأسفار، وكانت رحلته إلى الآستانة سنة 1318 هـ. (¬6) المغنى: المنزل.

دقاقة الأعناق

عَرَّجَ النَّاعي عَلى أَنْدِيَةٍ ... كُنْتَ إنْ وافَيْتَها قُطْبَ رَحاها (¬1) ودَرَتْ "دارُ الْفُنونِ" النَّعْيَ مِنْ ... صُبْحِها الطَّالِعِ في لَوْنِ دُجاها (¬2) طِبْ مُقاماً "يا بْنَ عَزُّوزٍ" فَقَدْ ... كُنْتَ تُعْطي دَعْوَةَ الحَقِّ مُناها دقاقة الأعناق " قالها في مصر بمناسبة بلوغه الستين". قَضَيْتَ سِتِّيْنَ عاماً في الحَياةِ وَهَلْ ... قَضَّيْتَ يَوْمَيْنِ مِنْها في رِضا اللهِ فَلا يَغُرَّنْكَ أَقْلامٌ وأَلْسِنَةٌ ... تَقولُ إنَّكَ ذو عِلْمٍ وذو جاهِ وما أُبَرِّئُ نَفْسي والهَوى يَقِظٌ ... بَيْنَ الجَوانِحِ وَهْوَ الآمِرُ النَّاهي وافَتْكَ دَقّاقَةُ الأَعْناقِ مُنْذِرَةً ... فَأرْعِها بانْتِباهٍ سَمْعَ أَوَّاهِ (¬3) سِواكَ جاوَزَها في صَبْوَةٍ فَهَوى ... في حَمْأَةٍ مِنْ حَياةِ السَّادِرِ اللاَّهي (¬4) فَانْهَضْ إذا ما لَمَحْتَ الخَيْرَ في عَمَلٍ ... وخَلِّ "سَوْفَ" لِعَزْمٍ خامِلٍ واهِ [إلى الحاكم المسلم] رُزِقْتَ جاهاً فَخَلِّ العِزَّ يَحْميهِ ... والْعِزُّ حِصْنٌ وتَقْوى اللهِ تَبْنيهِ ¬

_ (¬1) قطب الرحى: سيد القوم الذي يدور عليه أمرهم. (¬2) دار الفنون: معهد أنشأته الحكومة العثمانية بالآستانة يدرس فيه علوم الدين والعربية، وكان العلامة ابن عزوز مدرس علم الحديث في المعهد. (¬3) دقاقة الأعناق: هي العشر السنين ما بين الستين والسبعين من عمر الإنسان، وهكذا يسميها العرب. الأواه: الموقن، أو الدّعاءِ أو الرحيم الرقيق. (¬4) الصبوة: جهلة الفتوة. الحمأة: الطين الأسود المنتن. السادر: الذي لا يهتم ولا يبالي بما صنع.

قُلِّدْتَ حُكْماً ومِنْهاجُ السِّياسَةِ أَنْ ... تَرْعى الشَّريعَةَ فيما أَنْتَ قاضِيهِ أنْتَ الهُمامُ الَّذي يَقْضي اللَّياليَ في ... صَحْوٍ مِنَ الحَزْمِ لا في سَكْرَةِ التِّيهِ (¬1) وَلَسْتَ أنتَ كَزَيْدٍ إنْ يُصِبْ هَدَفاً ... أَوْ لا يُصِبْ، قَلَّ لاحِيهِ ومُطْريهِ (¬2) بَلْ أَنْتَ كالبَدْرِ يَدْري النَّاسُ قاطِبَةً ... لَوْ حادَ طَرْفَةَ عَيْنٍ عَنْ مَعاليهِ يَجْتابُ سيرَتَكَ النُّقادُ في مَلإٍ ... أَو في طُروسٍ بِلَوْمٍ أَوْ بِتَنْبيهِ (¬3) والشَّعْبُ كالدَّوْحِ يَسْتَمْري الْغَيُورُ لَهُ ... أَخْلافَ مُزْنَةِ عِرْفانٍ فَيُحْيِيهِ (¬4) ولا فَلاحٌ إذا ما قَيَّدَتْهُ يَدٌ ... عَنِ النُّهوضِ إلى أَقْصى أمانيهِ ومَنْ يُذِقْهُ رَحيقَ الأَمْنِ يَرع لَهُ ... حُسْنَ الوَلاءِ وبالأَرْواح يَفْديهِ وما الوَلاءُ سِوى مُهْرٍ لِهِمَّةِ مَنْ ... يَرى سَماءَ الهُدى أَعْلى مَراقيهِ فَإنْ تَضَعْ لَبنِاتٍ في بِناءِ عُلاً ... تَنافَسَ الْقَوْمُ في إنْجازِ باقيهِ وإنْ نهَضْتَ لِخَصْمٍ يَوْمَ مَلْحَةٍ ... كانوا الأَسِنَّةَ طَعْناً في تَراقِيهِ (¬5) حُلَى السِّياسة حِلْمٌ إذْ يَزِلُّ فَتًى ... لا يَعْرِفُ النَّاسُ شَرّاً في مَساعيهِ ¬

_ (¬1) الهمام: الملك العظيم الهمة، السيد الشجاع. التيه: الصلف والكبر، الضلال. (¬2) اللاحي: اللائم. المطري: المادح، والذي يثني على الناس. (¬3) يجتاب: يقطع ويخرق. (¬4) يستمري: يستدر. أخلاف: جمع خِلْف: حلمة ضرع الناقة. المزنة: القطعة من السحاب به ماء. (¬5) الملحمة: الوقعة العظيمة القتل في الفتنة. التراقي: جمع الترقوة: العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين.

الكرمة

وإنْ تَبارى وُلاةٌ فَالفَخارُ لِمَنْ ... يَسوسُ حُرّاً بإصْلاحٍ وتَوْجيهِ وللرَّئيسِ عُيونٌ مِنْ بِطانتَهِ ... تَفْري الظَّلامَ وتُوري ما انْطَوى فيهِ (¬1) أَوْفى البِطانَةِ عَهْداً مَنْ يُبَلِّغُ ما ... دَراهُ مِنْ غَيْرِ تَزْويرٍ وتَمْويهِ والْعَبْقَرِيَّةُ والشُّورى إذا التَقَتا ... عَلى بِساطِكَ قَرَّتْ عَيْنُ رائيهِ (¬2) يَسْتَطْلِعُ المُسْتَشيرُ الرَّأْيَ يَرْدُفُهُ ... صَفاءُ أَفْئِدَةٍ كانَتْ تُجافيهِ (¬3) تَسودُ بالحُكْمِ أَحْقاباً وذلِكَ ما ... أَعْني إذا قُلْتُ: لَيْتَ اللهَ يُبْقيهِ والخُلْدُ لِلصِّيتِ والرَّأْيِ الَّذي ازْدَهَرَتْ ... بِهِ الصَّحائِفُ واسْتَدَّتْ مَراميهِ (¬4) الكرمة مِنْ بَديعِ الْكَوْنِ أَيْدٍ غَرَسَتْ ... دَوْحَةً في تُرْبَةٍ طابَ ثَراها تَتَحَسَّى لَبَنَ الْمُزْنِ إلى ... أَنْ تَجَلَّتْ كَعَروسٍ في حُلاها (¬5) تُرْسِلُ الْعُنْقودَ ما أَشْبَهَهُ ... بِالثُّرَيَّا وَهْيَ تُزْهى في دُجاها يَرْشُفُ الْبائِسُ في الْقَوْمِ كَما ... يَرْشُفُ المُتْرَفُ مِنْ شَهْدِ لَماها (¬6) هَلْ رَعى الإنْسانُ عَهْدَ اللهِ في ... دَوْحَةٍ تُطْعِمُهُ حُلْوَ جَناها ¬

_ (¬1) تفري: فرى الشيء فرياً: قطعه وشقه. (¬2) قرت العين: بردت سروراً، وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوقة إليه. (¬3) يردف: يتبع. (¬4) الصيت: الذكر الحسن ينتشر بين الناس. استدت: انتظمت واستقامت. (¬5) تتحسى: تشرب شيئاً بعد شيء. المزن: السحاب ذو المطر. (¬6) اللمى: سمرة في باطن الشفة، أو شربة سواد فيها، وذلك مما يستحسن.

في مصنع الزجاج

قَلَبَ الْعَذْبَ إلى مُرٍّ وَكَمْ ... قَلَبَ الخَيْرَ إلى شَرٍّ فَتاها (¬1) حَبَسَ الخَمْرَةَ حَتّى عَجَزَتْ ... وَاسْتَبانَ الْغَوْلُ فيها وتَناهى (¬2) مَلأَ الإبْريقَ والكَأْسَ وما ... صَبَّ في أَحْشائِهِ إلَّا عَتاها (¬3) فَهْوَ سَكْرانٌ فَلا تَسْمَعُ في ... نُطْقِهِ إلَّا هُذاءً وسِفاها (¬4) في مصنع الزجاج " قيلت في دمشق سنة 1332 هـ ". إنَّ هذا الزُّجاجَ يُصْنعُ كَأْساً ... لِيَبيتَ الحَليمُ مِنَّا سَفيها وَيصوغُ الدَّواةَ مِنْ بَعْدِ كَأْسٍ ... لِيَصيرَ الجَهولُ حَبْراً نبَيها (¬5) فَهْوَ كالفَيْلَسوفِ يَنْفُثُ غَيًّا ... ثُمَّ يَأْتي بِما يَرُوقُ الْفَقيها (¬6) إفحام العَذول قالَ العَذولُ، وقَدْ مَحَضْتُ مَوَدَّتي ... مَنْ يَزْدَهي في نَخْوَةٍ وأَلِفْتُ قُرْبَهْ (¬7): أَتُحِبُّهُ وَقَدِ ازْدَهاهُ تَعَظُّمٌ؟ ... فَأَجَبْتُهُ: لَوْلا التَّعَظُّمُ لَمْ أُحِبَّهْ ¬

_ (¬1) تاه: صلف وتكبر وضلّ. (¬2) عجزت: صارت عجوزاً، والعجوز: الخمر. الغول: السكر. (¬3) العتاه: نقص العقل. (¬4) الهذاء: التكلم بغير معقول لمرض أو غيره. السفاه: الجهل. (¬5) الحبر: العالم الصالح. (¬6) ينفث: يرمي من فيه. الغي: الضلال والانهماك في الجهل. (¬7) العذول: الكثير اللوم. محضت: أخلصت.

كفى المرء نبلا

كفى المرء نبلاً " تشطير بيت اقترحه عليه أحد الأدباء في تونس". "فَمَنْ ذا الَّذي تُرْضى سَجَاياهُ كُلُّها" ... فَلَمْ يَلْقَهُ بِالعَذْلِ يَوْماً مُراقِبُهْ (¬1) فَقُلْ لِلَّذي يُحْصي عُيوبَ ذَوي الْعُلا: ... "كَفى المَرْءَ نُبْلاً أَنْ تُعَدَّ مَعايِبُهْ" [ويحها من ساعة] كُنْتَ تَخْشى اللهَ في السِّرِّ فَما ... لَكَ تَرْعى حَوْلَ نارٍ مُحْرِقَهْ (¬2) أَخَلا الْقَلْبُ مِنَ التَّقْوى وَقَدْ ... كانَ بالتَّقْوى كشَمْسٍ مُشْرِقَهْ لا يَغُرَّنَّكَ عَيْشٌ رَغِدٌ ... وَزُهورٌ في الرُّبى مُتَّسِقَهْ ومُنىً يُسْعِدُها الجاهُ فَلا ... تَجِدُ الأبْوابَ يَوْماً مُغْلَقَهْ لا يَغْرَّنْكَ مَديحٌ رائِقٌ ... تَتَعاطاهُ شِفاهٌ لَبِقَهْ (¬3) رُبَّ صيتٍ سارَ في النَّاسِ وَما ... هُوَ إلَّا كَلِمٌ مُخْتَلَقَهْ (¬4) يُمْهِلُ اللهُ نُفوساً طالَما ... قَذَفَ الجَهْلُ بِها في موبِقَهْ (¬5) وَيْحَها مِنْ ساعَةٍ لَوْ سَأَلَتْ ... عِنْدَها الأَمْنَ لَعادَتْ مُخْفِقَهْ (¬6) ¬

_ (¬1) السجايا: جمع السجية: الخلق والطبيعة. (¬2) ترعى: تسرخ وتأكل. (¬3) اللبقة: اللينة، اللطيفة الظريفة. (¬4) الصيت: الذكر الحسن الذي ينتشر في الناس. الكلم: الكلمات. (¬5) الموبقة: المهلكة. (¬6) ويح: كلمة ترحم وتوجع.

تقدير الأدب والألمعية

أَفْلَحَتْ نَفْسٌ تُناجي رَبَّها ... وَهْيَ مِنْ أَسْرِ هَواهَا مُطْلَقَهْ تقدير الأدب والألمعية أُحِبُّكَ حُبَّ الأَديبِ الَّذي ... صَفا ذَوْقُهُ وتَسامى حِجاهُ (¬1) وكَمْ تاقَ سَمْعي إلى سَمَرٍ ... لَذيذٍ فَيَلْقى لَدَيْكَ مُناهُ (¬2) وإنْ تَطْوِ عَنَّا حَديثَكَ لَمْ ... نَجِدْ نَشْوَةَ الأُنْسِ فيما سِواهْ مرقاة العلا نَبَتَتْ نَفْسُكَ في وادي هُدًى ... وشَفَتْ مِنْ مَنْهَلِ الْعِلْمِ صَداها (¬3) واكْتَسَتْ بالحَمْدِ أَسْنى حُلَلٍ ... أَوْرَثَتْها في الوَرى عِزًّا وَجاها (¬4) تِلْكَ مِرْقاةُ العُلا والنَّفْسُ إنْ ... أَحْرَزَتْها بَلَغَتْ أَقْصى مُناها (¬5) أَتَراها أَمِنَتْ عاصِفَةً ... مِنْ هَوًى تُطْفِئُ بِالعَصْفِ سَناها يَصْرِفُ اللهُ الهوى عَنْ أَنْفُسٍ ... جَعَلَتْ طاعَتَهُ قُطْبَ رَحاها (¬6) القلب كالرّحى لا تُخْلِ نَفْسَكَ مِنْ فِكْرٍ تَجولُ بِهِ ... في الصَّالِحاتِ فَحَبْسُ الْفِكْرِ يُضْنيها ¬

_ (¬1) الحجا: العقل والفطنة. (¬2) تاق: اشتاق. (¬3) المنهل: المورد. الصدى: العطش الشديد. (¬4) الورى: الخلق. (¬5) المرقاة: الدرجة. (¬6) قطب الرحى: أي: السيد الذي يدور عليه الأمر.

والْقَلْبُ إنْ لَمْ يَدُرْ يَوْماً عَلى رَشَدِ ... دارَتْ عَلَيْهِ هُمومٌ عَزَّ راقيها (¬1) مِثْلُ الرَّحى إنْ تُدِرْها وَهْيَ خاوِيةٌ ... مِنَ الطَّعامِ فَإنَّ الطَّحْنَ يُرْديها (¬2) ¬

_ (¬1) الرَشد: الهداية. الراقي: من يصنع الرقية. (¬2) الرَّحى: الطاحون.

قافية الواو

قافية الواو هي فطرة " قيلت محاورة لمن أطلق في تفضيل عهد المشيب على عهد الشبيبة". سَمَّيْتَ يا هَذا الشَّبيـ ... ـــــَبةَ سَكْرَةً والشَّيْبَ صَحْوَا وَأَتَيْتَ في التَّمْثيلِ بِدْ ... عاً وَهْوَ لِلأُدباءِ سَلْوى (¬1) أَمَّا أَنا فَرَأَيْتُ في ... بَعْضِ الشَّبابِ عُلاً وَتَقْوى وَرَأَيْتُ رَأْيَ الحَقِّ في ... بَعْضِ الشُّيوخِ هَوًى وَلَهْوا نَفْسانِ: تَحْمِلُ هَذِهِ ... كَدَراً، وتَحْمِلُ تِلْكَ صَفْوا هِيَ فِطْرَةٌ بِيَدَيْكَ فَاصْـ ... ــــــــبُغْها كَما تَبْغي وتَهْوى (¬2) تَزْكو إذا انْسَجَمَتْ بِها ... مِنْ مُزْنَةِ الْعِرْفانِ جَدْوى (¬3) وتَحورُ أَنَّى ساوَرَتـ ... ــــــها مِنْ جَليسِ السَّوْءِ نَجْوى (¬4) ¬

_ (¬1) البدْع: المبتدع. السلوى: كل ما سلّاك. (¬2) الفطرة: الصفة التي يتصف بها كل موجود في أول زمان خلقته. (¬3) المزنة: القطعة من السحاب به ماء. الجدوى: المطر العام، أو الذي لا يعرف أقصاه. (¬4) تحور: تنقص. ساور: واثب. النجوى: السر.

قافية الياء

قافية الياء لوعة الفراق قِفْ بِنا يا حادِيَ الرَّكْبِ مَلِيَّا ... فَالصَّبا أَهْدَتْ لَنا أَطْيَبَ رَيّا (¬1) قِفْ مَلِيًّا هُوَ ذا الرَّبْعُ الَّذي ... كُنْتُ قَدْ أَوْدَعْتُهُ قَلْباً شَجِيّاً (¬2) لَسْتُ أَدْري أَرَعَوْا بَعْدَ النَّوى ... عَهْدَنا أَمْ أَحْدَثوا في الْعَهْدِ شَيّا قِفْ عَسى أَنْ أَجْنِيَ الأُنْسَ الَّذي ... كُنْتُ أَجْنيهِ غُدُوًّا وعَشِيّا حَسْبُنا في الْعَيْشِ أَنَّا لا نَرى ... بَيْنَنا قَلْباً مِنَ الوُدِ خَلِيّا وأحاديثٌ هِيَ الرَّاحُ الَّتي ... مَجَّها في الدَّنِّ عُنْقودُ الثُّرَيّا (¬3) رَوَّعَ الْبَيْنُ فُؤاداً لا يُرى ... فَزِعاً يَوْمَ يُلاقي الْمَشْرَفِيَّا (¬4) وبَدا الصُّبْحُ عَبوساً بَعْدَما ... كُنْتُ أَلْقى لَيْلَهُمْ طَلْقَ الْمُحَيَّا (¬5) ¬

_ (¬1) المليّ: الساعة الطويلة من النهار. الريّا: الريح الطيبة. (¬2) الشجي: الحزين. (¬3) الراح: الخمر. مجّ الشراب: رمى به من فيه. الدن: الوعاء. (¬4) البين: الفرقة. المشرفي: السيف. (¬5) المحيا: جماعة الوجه.

رثاء المرحوم تيمور باشا

قِيلَ لي الطَّيْفُ أَنيسٌ، قُلْتُ ما ... تَرَكَ الوَجْدُ كَرًى في مُقْلَتَيّا (¬1) عَلِموا التِّمْثالَ يُذْكي في الحَشا ... لَوْعَةَ الشَّوْقِ فَأَهْدَوْهُ إلَيَّا لَيْسَ لي مِنْ سَلْوَةٍ عَنْهُمْ وَلَوْ ... بِتُّ طُولَ اللَّيْلِ لِلْبَدْرِ نَجِيّا (¬2) [رثاء المرحوم تيمور باشا (¬3)] أَهَذا الدُّجى والصُّبْحُ ما زالَ خافِيا ... أَمِ الصُّبْحُ وافى حائِلَ اللَّوْنِ داجِيا (¬4) أُقَلِّبُ وَجْهي في الحَياةِ فَلا أَرى ... لَذيذاً وكانَ الْعَيْشُ بالأَمْسِ زاهِيا حَمامَةَ وادي النِّيلِ راعَ حُشاشَتي ... هُتافُكِ إذْ أَرْسَلْتِهِ الْيَوْمَ شاجِيا سَقى دَوْحَكِ الوَسْمِيُّ وَهْناً فَما لَنا ... نَرى غُصنَهُ الْمَيَّادَ أَغْبَرَ ذاوِيا (¬5) لَحى اللهُ صَوْتَ الهَاتِفِ الْيَوْمَ إنَّهُ ... نُعابُ غُرابٍ يَقْرَعُ السَّمْعَ جافِيا (¬6) أَصاخَ لَهُ صَحْبي فَأَنْبَأَ بِالَّتي ... تَشُبُّ الأَسى بَيْنَ الجَوانِحِ طاغِيا (¬7) نَعى عَبْقَرِيَّ الشَّرْقِ تَيْمورَ فاغْتَدى ... لِمَنْعاهُ قَلْبُ الشَّرْقِ كالقَرْحِ دامِيا ¬

_ (¬1) الوجد: المحبة. الكرى: النعاس (¬2) النجي: من تسارّه. (¬3) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد الثاني. (¬4) الدجى: الظلمة. (¬5) الوسمي: مطر الربيع الأول، سمي به؛ لأنه يسم الأرض بالنبات. الوهن: نحو نصف الليل، أو بعد ساعة منه. (¬6) الهاتف: آلة الهاتف المعروفة، وقد بلغ الشاعر نبأ الوفاة بواسطته. (¬7) أصاخ: استمع وأصغى. تشب: توقد.

لماذا يبكي الطفل ساعة ولادته؟

حَنانَيْكَ عَزِّ الْعِلْمَ والمَجْدَ والهُدى ... فَقَدْ كانَ عَلَّاماً مَجيداً وَهادِيا (¬1) تَرَحَّلَ بالتَّقْوى وأَبْقى وَراءَهُ ... ثَناءً كَنَفْحِ المِسْكِ يَسْطَعُ ذاكِيا رَعى اللهُ قَبراً، بَلْ رَعَى اللهُ رَوْضَةً ... تبوَّأها مَنْ كانَ لِلْعَهْدِ راعِيا لماذا يبكي الطفل ساعة ولادته؟ " قالها الشاعر في الآستانة". كَمْ لَيالٍ مَضَتْ وَلَمْ تَكُ شَيّا ... فَلِما صِرْتَ نامِيَ الجِسْمِ حَيّا؟ (¬2) كُنْتَ في ظُلْمَةٍ فَوافَيْتَ نوراً ... تَتَمَلَّاهُ بُكْرَةً وَعَشِيّا (¬3) أَكْرَمَتْ نُزْلَكَ الحَياةُ وَأَبْدَتْ ... لَكَ يَوْمَ الوِلادِ وَجْهاً سَنيّا (¬4) فَعَلامَ اسْتَقْبَلْتَها بِنَحيبٍ؟ ... إنَّ في ذا النَّجيبِ سِرًّا خَفِيّا (¬5) مَنْ يُلاقي الْبَشْيرَ في هَذِه الدَّارِ ... فَسَرْعانَ ما يُلاقي النَّعِيّا (¬6) كّيْفَ يَصْفو عَيْشُ الأريبِ وَقَدْ جا ... وَرَ قَوْماً ضَلُّوا الصِّراطَ السَّوِيَّا والهوى كالغُرابِ إنْ أَلِفَ النَّفْـ ... ـــــسَ رَأَيْتَ النَّعيمَ مِنْها قَصِيّا ¬

_ (¬1) حنانيك: تحنن عليَّ مرة بعد أخرى. (¬2) فلما صرت: يريد: فلم صرت؟ إذ المقام للاستفهام، وقد جاء إثبات ألف "ما" في مثل هذا في الشعر. (¬3) تتملاه: تتمتع به. يقال: تملّى فلان عمره: استمتع به. (¬4) النُّزْل: ما هيئ للضيف أن ينزل عليه؛ أي: رزقه وقراه. (¬5) النحيب: رفع الصوت بالبكاء. (¬6) البشير: المبشر. النعي: الناعي الذي يأتي بخبر الموت.

بطل الريف

فَاصْرِفِ النَّفْسَ عَنْ هَواها إذا ما ... رُمْتَ عَيْشاً مِنَ الهُمومِ نَقِيّا بطل الريف " قالها بعد عودته من مقابلة بطل الريف الأمير محمد عبد الكريم الخطابي (¬1) على ظهر الباخرة بميناء السويس في منتصف ليلة السبت 11 رجب سنة 1366 هـ ". قُلْتُ لِلشَّرْقِ وَقَدْ قامَ عَلى ... قَدَمٍ يَعْرِضُ أَرْبابَ الْمَزايا: أَرِني طَلْعَةَ شَهْمٍ يَنْتَضي ... سَيْفَهُ الْعَضْبَ ولا يَخْشى المَنايا (¬2) أَرِنيها، إنَّني مِنْ أُمَّةٍ ... تَرْكَبُ الْهَوْلَ ولا تَرْضى الدَّنايا فَأَراني بَطَلَ الرِّيفِ الَّذي ... دَحَرَ الأَعْداءَ فارْتَدُّوا خَزايا (¬3) غَضْبَةٌ حَرَّاءُ هَزَّتْهُ لأِنْ ... يُنْقِذَ المَغْرِبَ مِنْ أيْدي الرَّزايا (¬4) شَبَّ حَرْباً لَوْ شَدَدْنا أَزْرَها ... لأَصابَتْ كُلَّ باغٍ بِشَظايا (¬5) ¬

_ (¬1) زعيم قبائل الريف بالمغرب (1882 - 1963 م) شن حرباً دامية ضد الأسبان من أجل التحرير، نفاه الفرنسيون إلى إحدى جزر المحيط، واستطاع الفرار من سجانيه الفرنسيين عام 1947 م بينما كان يمر بقناة السويس في طريقه إلى منفى جديد بفرنسا، وكان الشاعر أول من استقبله في بورسعيد، وتوفي بالقاهرة. (¬2) العضب: السيف القاطع. (¬3) دحر: طرد وأبعد. الخزايا: جمع خزيان، يقال: خزي منه: استحى منه. (¬4) حراء: ساخنة. الرزايا: جمع الرزيئة: المصيبة، ويقال: الرزية -بالإدغام-. (¬5) الأزر: القوة، الظهر.

أنت صدر أينما كنت

أنت صدر أينما كنت شَرَفٌ كالشَّمْسِ في رَأْدِ الضُّحى ... وثَناءٌ كَشَذا المِسْكِ الذَّكِيِّ (¬1) غايَةٌ مِضْمارُها الْغَوْصُ عَلى ... دُرُرِ الْعِلْمِ بِفِكْرِ الأَلْمَعِيِّ (¬2) فَاطْلُبِ الحِكْمَةَ ما عِشْتَ وَدع ... زُخْرُفَ الدُّنْيا لِغُمْرٍ أوْ غَبِيٍّ (¬3) لا تَضِقْ صَدْراً إذا لاقاكَ مِنْ ... مَجْلِسِ الْقَوْمِ جَفاءُ الجاهِلىِّ أَنْتَ صَدْرٌ أَيْنَما كُنْتَ وإنْ ... جَلَسَ الأَذْنابُ في صَدْرِ النَّدِيِّ (¬4) الألمعيّ دَعَوْكَ الأَلْمَعِيَّ فَقُلْتُ خَلُّوا ... لِطُلَّابِ الْعُلا اسْمَ الأَلْمَعِيِّ (¬5) وَأَمَّا مَنْ يَبيعُ عُلاً بِلَهْوٍ ... فَما في ثَوْبِهِ غَيْرُ الْغَبِيِّ أسرب القطا أَسِرْبَ القَطا والْبَيْنُ أَقْصى مَغانِيا ... تَمَلَّيْتَ أُنْساً في رُباها لَيالِيا (¬6) ¬

_ (¬1) رأد الضحى: وقت ارتفاع الشمس وانبساط الضوء في الخمس الأول، وذلك شباب النهار. (¬2) المضمار: الموضع. (¬3) الغُمْر: من لم يجرب الأمور، الجاهل الأبله، جمع أغمار. (¬4) الندي: مجلس القوم ومتحدثهم. (¬5) الألمعي: الذكي المتوقد. (¬6) السرب: الجماعة من النساء والبقر والقطا. القطا: جمع القطاة: طائر في حجم الحمام، صوته قطا .. قطا. المغاني: جمع المغنى: المنزل.

العمر وعاء

أَحِنُّ إلى المَغْنى الأَنيسِ وأَيْنُقي ... تَجوبُ لِمَلْقاهُ الْقُرى والْفَيافِيا (¬1) أَعِرْني جَناحاً فالمَسالِكُ وَعْرَةٌ ... وَأَخفافُ تلْكَ الْعِيسِ أَمْسَتْ دَوامِيا (¬2) أَعِرْني جَناحاً كَيْ أُلِمَّ بِجيرةٍ ... وشَمسٍ تَهادى في السَّماءِ كما هِيا فَقالَ: أَعِشْتَ الدَّهْرَ في رأَسِ شاهِقٍ ... وَما زِلْتَ عَنْ مَجْلَى الحَضارَةِ نائِيا! (¬3) مِنَ الإِنسِ أَسْرابٌ تَطيرُ كأَنَّها ... بُروقٌ إذا مَرَّتْ تَشُقُّ الدَّياجِيا فَكُنْ طائِراً لا يَسْتَعيرُ قَوادِماً ... -إذا رامَ مَغْنىً قاصِياً- أَوْ خَوافِيا (¬4) العُمر وعاء عَهِدْتُكَ في الثَّقافَةِ عَبْقَرِيّا ... وَرَأْيُكَ يَكْشِفُ الأَمَدَ الْقَصِيّا (¬5) ونَفْسُكَ لا تُطيعُ هَوًى إذا ما ... غَزا الأَهْواءُ قَلْباً سَمْهَرِيّا (¬6) ¬

_ (¬1) الأينق: جمع الناقة: الأنثى من الإبل. الفيافي: جمع الفيفي والفيفاء والفيفاة: المكان المستوي، وقيل: المفازة لا ماء فيها. (¬2) الأخفاف: جمع الخف: وهو للبعير والنعام بمنزلة الحافر لغيرها. العيس: الإبل البيض يخالط بياضها شقرة، ويقال هي كرام الإبل، الواحد أعيس، والواحدة عيساء. (¬3) المجلى: مقدمة الرأس. (¬4) القوادم: عشر ريشات في مقدم الجناح، وهي كبار الريش، الواحدة قادمة. الخوافي: ريشات إذا ضم الطائر جناحيه خفيت، وقيل: هي الأربع اللواتي بعد المناكب. (¬5) الأمد: الغاية والمنتهى. القصي: البعيد. (¬6) السمهري: الرمح الصلب.

عَلامَ صَمَدْتَ في وادٍ تلاقي ... عَلى جَنبَاتِهِ لَغْواً وَغَيَّا (¬1) وآذاناً تَصامَمُ عَنْ رَشادٍ ... إذا هَزَّ الطُّغاةُ الْمَشْرَفِيّا (¬2) فَمَهْما اسْطَعْتَ مِنْ مَرْمَى فَعَرِّجْ ... عَلَيْهِ ولا تَني ما دُمْتَ حَيّا (¬3) فَعُمْرُ المَرْءِ في الدُّنْيا وِعاءٌ ... عَزيزٌ حينَ يَمْلَؤهُ حُلِيّا وما حُلْيُ الحَياةِ سِوى صُنوفٍ ... مِنَ الحُسْنى حَلَتْ في العَيْنِ رِيّا (¬4) ¬

_ (¬1) اللغو: ما لا يعتد به من كلام وغيره. الغي: الضلال والانهماك في الجهل. (¬2) المشرفي: السيف. (¬3) تني: تضعف وتفتر وتكل. (¬4) الحسنى: العاقبة الحسنة، النظر إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- الرِيّ: المنظر الحسن.

14 - نقض كتاب في الشعر الجاهلي

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (14) «نَقْضُ كِتَابِ فِي الشِّعْرِ الجَاهِلي» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة " نقض كتاب في الشعر الجاهلي" هذا الكتاب: أثر خالد من الآثار الرائعة للإمام الأكبر محمد الخضر حسين - رضوان الله عليه -, أزاح به ستاراً من الزيف عن أغلاط علمية وتاريخية. لقد ألقى طه حسين محاضرات "في الشعر الجاهلي" على طلاب كلية الآداب في الجامعة المصرية بالقاهرة، ثم جمع تلك المحاضرات في كتاب يقع في مئة وثلاث وثمانين صفحة، وأسماه: "في الشعر الجاهلي". فأهاج به الرأي العام الإسلامي منذ اللحظة الأولى لصدوره، فتناوله العلماء والكتاب والأدباء في شتى الأقطار الإسلامية بالرد والتفنيد، ووضعت عدة كتب في النقد، وقدمت عدة بلاغات إلى النيابة العمومية في مصر ضد مؤلف الكتاب. ليس مهماً أن نذكر في هذه المقدمة تفصيل تلك الحادثة، وما رافقها من استقالة طه حسين من الجامعة بعد مصادرة الكتاب، وليس من غايتنا أن نسرد سرداً ما دار من مناقشات حادة بين الأنصار والخصوم؛ فقد أشبعتها أقلام المؤلفين بحثاً وتنقيباً. بل المهم عندنا أن كتاب "في الشعر الجاهلي" قد حكم عليه المسلمون بحكم قاطع، وقد نفذ ذلك الحكم في ميدان الحق.

لقد نهج الإمام محمد الخضر حسين في كتابه أسلوباً رائعاً في النقض؛ حيث ينقل الفقرة أو الفقرات التي يريد نقدها بحروفها، وكما صدرت عن منشئها، ثم يورد النقض؛ مما يجعل الكتاب قائماً بنفسه، فيسهل على القارئ تحقيق البحث، وفهم ما تدور عليه المناقشة، وهو أسلوب نهجه في كل الردود التي كتبها. ومن الجدير بالإشارة أن هذا الكتاب هو نقض لكتاب "في الشعر الجاهلي" المطبوع عام (1342 هـ - 1926 م) بمطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة. وأن أرقام الصفحات الواردة في النقض تعود إلى الطبعة المذكورة. ولا بأس أن نورد ما ذكره العلامة محمد الفاضل بن عاشور من كبار علماء تونس في كثير من مجالس العلم والمحاضرات، ومما سمعته منه بالذات: أن الدكتور طه حسين أسر له في إحدى لقاءاته معه "أن رد الشيخ محمد الخضر حسين من أهم الردود، وأشدها حجة". ومن الأمانة في العلم القول: إنني ارتأيت -وآمل أن أكون قد أصبت- وضع عناوين فرعية للبحوث التي تناولها الكتاب؛ تسهيلاً للقارئ، ولا سيما في حال رغبته الرجوع إلى نبذة معينة، أو فقرة من البحث محددة. وقد راعيت في انتقاء العنوان الفرعي أن يكون مستمداً من المادة ذاتها، بل - وزيادة في الحرص - أن يكون وارداً بنصه في السطور اللاحقة به. وإتماماً للفائدة من هذا الكنز الزاخر، فقد أردفته بملحق موجز يتضمن الأعلام والأماكن التي وردت في الكتاب، ورتبتها حسب حروف المعجم. فإذا صادف القارئ أثناء المطالعة اسم علم أو مكان، فسيجد ترجمته في الملحق، وتحت الحرف الذي يبتدئ به الاسم.

إن الكتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" يعتبر بحق من المراجع الهامة لدراسة الأدب الجاهلي، فلا عجب أن يحظى بهذه المكانة العلمية المرموقة لدى أوساط الباحثين والمفكرين وطلاب العلم. والله نسأل السداد والتوفيق. علي الرّضا الحسيني

مقدمة الإمام محمد الخضر حسين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين نهضت الأمم الشرقية فيما سلف نهضة اجتماعية ابتدأت بطلوع كوكب الإسلام، واستوثقت حين سارت هدايته سيرها الحثيث، وفتحت عيون هذه الأمم في طريقة الحياة المثلى. سادت هذه النهضة، وكان لها الأثر الأعلى في الأفكار والهمم والآداب، ومن فروعها: نهضة أدبية لغوية جعلت تأخذ مظاهرها العلمية لعهد بني أمية، واستوت على ساقها في أيام بني العباس. أمسِكْ بيدك كتب التاريخ والأدب ملتمساً الحقيقة بذكاء موزون، وقلب سليم، فلا أحسبك تصدر عنها إلا بنفس مطمئنة لإِجلال أولئك الذين درسوا أدب اللغة، وخاضوا في فنونه، فأمتعوا البحث، وكانوا القدوة الحسنة في حسن التصرف وحكمة البيان. تمتع الشرق بنهضته الاجتماعية والأدبية حقباً، ثم وقف التعليم عند غاية، وأخذ شأناً غير الشأن الذي تسمو به المدارك، وتنمو به نتائج العقول، فإذا غفوة تدبّ إلى جفون هذه الأمم، ولم تكد تستفيق منها إلا ويد أجنبية تقبض على زمامها. هبَّ بعض أولي الحكمة منا يقلبون وجوههم في العلل التي مست أمم الشرق، فقعدت بهم سنين عدداً، وبعثوا أقلامهم من مراقدها تصف

هذه العلل، وتنذر الناس موتة اليأس والجبن والخمول، وتلقي عليهم دروساً في أسباب الحياة ووسائل الخلاص. التفت الشرق إلى ما كان في يده من حكمة، وإلى ما شاد من مجد، والى من شبَّ في مهده من أعاظم الرجال. أخذ ينظر إلى ماضيه ليميز أبناؤه بين ما هو تراث آبائهم، وبين ما يقتبسونه من الغرب، وليشعروا بما كان لهم من مجد شامخ، فتأخذهم العزة إلى أن يضموا إلى التالد طريفاً، وليذكروا أنهم ذرية أولئك السراة، فلا يرضوا أن يكونوا للمستبدين عبيداً. أنشأ أولو الأحلام الراجحة من الزعماء والكتّاب، يأخذون بما يظهر من جديد صالح، ولا ينكثون أيديهم من قديم نافع، فاستطاعوا بهذه الحكمة والروية أن يسلكوا قلوب الأمة في وحدة، ويخطوا بها إلى حياة العلم والحرية والاستقلال. نظر إلى هذه النهضة الزاكية من لا يرغبون في تقدم هذه الأمم إلى خلاصها ولو خطوة، وعرفوا أن بايدي هذه الأمم كتاباً فيه نظم اجتماعية، وآيات تأخذ في شرط إيمانهم به ألاّ يلينوا لسلطة شأنها أن تسوسهم على غير أصوله، فما كان من هؤلاء القوم الذين يستحلون إرهاق الأمم، إلا أن يبتغوا الوسيلة إلى فتنة القلوب وصرفها عن احترام ذلك الكتاب، والغاية تقويض بناء هذه الوحدة السائرة بنا إلى حياة سامية، وعزّ لا يبلى. فسقت طائفة عن أدب الإِسلام، وأرهفت أقلامها لتعمل على هذه الخطة الخاذلة، غير مبالية بسخط الأمة، ولا متحرجة مما سينطق به التاريخ من وضع يدها في يد خفية، لا شأن لها إلا نصب المكايد لأمة كان لها العزم النافذ، والكلمة العليا.

تلهج هذه الطائفة باسم حرية الفكر، وهي لا تقصد إلا هذا الفن الذي أكبت عليه صباحها ومساءها، وهو النَّيل من هداية الإسلام، والغضّ من رجال جاهدوا في سبيله بحجة وعزم وإقدام. يكفي شاهداً على رياء هؤلاء الرهط: أنهم يقيمون مآتم يندبون فيها حرية الفكر، ثم ينصرفون ويقولون فيما يكتبون: للحكومة أن ترهق الشعب، وترغمه على ما تراه أمراً لائقاً. ولو سبق ظنك إلى أن مؤلف كتاب "في الشعر الجاهلي" هو عينهم الناظرة، وسهمهم الذي يرمون به في مقاتل أمتهم الغافلة، لخليت بينك وبين هذا الظن؛ إذ ليس لي على هذه الظنون الغالبة من سبيل. فالقلم الذي يناقش كتاب "في الشعر الجاهلي" إنما يطأ موطئأ يغيظ طائفة احتفلت بهذا الكتاب، وحسبته الطعنة القاضية على الإسلام وفضل العرب. [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا] [الأحزاب: 25]. محمّد الخضر حسين

محمد الخضر حسين

محمّد الخضر حسين سفكتْ دمي في الطرس أنملُ كاتبٍ ... وطوتني المبراة إلا ما ترى ناضلتُ عن حق يحاول ذو هوى ... تصويره للناس شيئاً منكرا لا تضربوا وجه الثرى ببقية ... مني كما تُرمى النواة وتزدرى فخزانة الأستاذ تيمور ازدهت ... بحلى من العرفان تبهر منظرا فأنا الشهيد وتلك جنات الهدى ... لا أبتغي بسوى ذراها مظهرا "أبيات من ديوان "خواطر الحياة" للإمام قالها على لسان آخر قلم استعمله في تحرير الرد على كتاب "في الشعر الجاهلي"، وأهديت بقيته إلى خزانة المرحوم أحمد تيمور باشا".

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. هذا طرز من نقد كتاب "في الشعر الجاهلي" طريف، سيألفه الناس لهذا العهد، وسيألفه أبناء الأجيال القابلة من بعد، وأكاد أثق بأن الدكتور طه حسين سيلقاه ساخطاً عليه، وبأن فريقاً من أشياعه سيزورّون عنه ازوراراً، ولكني -على الرغم من سخط ذاك، وازورار هؤلاء- أريد أن أذيع هذا النقد؛ فرِضا الحقيقة خير من رضا الناكب عنها، وإقبال مريدها أجلّ من إقبال المظاهر عليها. وقع تحت نظري هذا الكتاب، وكنت على خبرة من حذق مؤلفه في فن التهكم -ولو بالقمر إذا اتسق- والتشكيك -ولو في مطلع الشمس الضاربة بأشعتها في كل واد- فأخذت أقرؤه بنظر يزيح القشر عن لبابه، وينفذ من صريح اللفظ إلى لحن خطابه، وما نفضت يدي من مطالعة فصوله، حتى رأيتها شديدة الحاجة إلى قلم ينبه على علاّتها، ويرد كل بضاعة على مستحقيها. وما هو إلا أن ندبت القلم لقضاء هذا المأرب، وسِداد هذا العوز، فلم يتعاص عليّ. وقد ارتأيت ألا أنقد فقرة أو فقرات إلا بعد أن أنقلها بحروفها، وأحكيها

كما صدرت من منشئها، وإن كان موضع البحث يتوقف على جمل سلفت، ولم نتعرض لمناقشتها، أتينا بها في تلخيص ضابط للمعنى الذي لا يتهيأ فهم المناقشة إلا به، حتى يكون كتابنا هذا قائماً بنفسه، ويستقيم للقارئ أن يدخل في البحث وهو على استبانة من أمره. يحتوي الكتاب المعروض للنقد ثلاثة كتب، ويحتوي كل كتاب طائفةً من الفصول. وقد أبقينا كتبه وفصوله على نسقها، فنضع الكتاب والفصل بموضعه، ثم نأخذ في فحص ما يدخل تحت عنوانه من فقرات. وإنا لا نغمض لذلك الكتاب في مقال ينهبه، أو غمز في الإسلام يستعذبه؛ فإن وجدتنا نحاوره في نهب أو غمز، فإنا لم نخرج عن دائرة نقده، ولم نتجاوز حد الباحث عن مقتضيات لفظه، فإن كان في فمك ملام، فمُجَّه في سمعه، فهو الذي ألقى على سمعك نحواً من حديث قوم لا يتدبرون.

الكتاب الأول

الكِتابُ الأَوَّلُ - تمهيد. - منهج البحث. - مرآة الحياة الجاهلية في القرآن لا في الشعر الجاهلي. - الشعر الجاهلي واللغة. - الشعر الجاهلي واللهجات.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا] [الأحزاب: 25] (صدق الله العظيم)

تمهيد

تَمهيد * قيمة البحث العلمي: قال المؤلف في (ص 1): "هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل، وأكاد أثق بأن فريقاً منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقاً آخر سيزورّون عنه ازوراراً. ولكني -على سخط أولئك، وازورار هؤلاء- أريد أن أذيع هذا البحث، أو بعبارة أصح: أريد أن أقيده، فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلى طلابي في الجامعة، وليس سراً ما تتحدث به إلى أكثر من مئتين". جِدة النحو من البحث لا تكفي لإعلاء شأن التأليف، وإحرازه في نفوس القراء موقع القبول، وإنما يرجح وزن الكتاب بمقدار ما يتجلّى فيه من حكمة النظر، وصدق المقدمات، ووضوح النتيجة. ولو نعت المؤلف هذا البحث بكونه نافعاً أو صائباً، لقلنا: تخيله نافعاً أو صائباً، فجرى في نعته على حسب ما وقع إلى ظنه، ووجدنا لبراءته من تعمّد الزور مخرجاً، ولكنه وصفه بالجدّة، ولم يأل جهداً في الاغتباط بهذا الوصف حتى ضاق به القلم ذرعاً، وانزوت عنه نفوس القراء سآمة. كنا نتمنى أن يهتدي المؤلف إلى نحو من البحث "لم يألفه الناس عندنا من قبل"، وقد أبت الليالي أن تسمح بهذه الأمنية، فلم يكن منه إلا أن أغار

إعجاب المؤلف ببحثه

على كتب عربية، وأخرى غربية، فالتقط منها آراء وأقوالاً نظمها في خيوط من الشك والتخيل، وقال: "هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد". * إعجاب المؤلف ببحثه: قال المؤلف في (ص 1): "ولقد اقتنعت بنتائج هذا البحث اقتناعاً ما أعرف أني شعرت بمثله في تلك المواقف المختلفة التي وقفتها من تاريخ الأدب العربي، وهذا الاقتناع القوي هو الذي يحملني على تقييد هذا البحث، ونشره في هذه الفصول، غير حافل بسخط الساخط، ولا مكترث بازورار المزورّ". ينبئنا المؤلف بأنه قنع بنتائج هذا البحث، وأن هذه القناعة التي لا يعرف أنه شعر بمثلها هي التي دفعته إلى تقييد هذا البحث ونشره، غير حافل بسخط ساخط، ولا مكترث بازورار مزورّ، وننبئه بأن هشام ابن عمر الغوطي أنكر محاصرة عثمان وقتله (¬1)، وأن هشاماً وعبّاداً أنكرا وقعة الجمل، ومحاربة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لمن خالفه (¬2)، وأطلقا ألسنتهما بهذا الإنكار، أو قيداه في الدفاتر غير حافلين بسخط ساخط، ولا مكترثين بازورار مزورّ. فإعجاب الرجل ببحثه، وإيمانه به إيماناً لا يعرف أنه شعر بمثله، لا يكسبان البحث ذرة من قوة، ولا يدنياه من الحقيقة فتيلاً. ¬

_ (¬1) "المواقف". (¬2) "البحر المحيط" للزركشي.

الحجة وصدق اللهجة

* الحجة وصدق اللهجة: قال المؤلف في (ص 1): "وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث -وإن أسخط قوماً، وشق على آخرين-، فسيرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل، وقوام النهضة الحديثة، وذخر الأدب الجديد". كم كتاب صنع ليطعن حقاً، وكم كتاب صنع ليمحو أدباً، ولا يعجز أحد من صانعي هذه الكتب أن يقول: وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قوماً، فسيرضي هذه الطائفة المستنيرة. ويأتي في وصف هذه الطائفة على كل ما تحمله اللغة من ألقاب المديح والإِطراء، ولكن الذي يعجزه، ولا يهتدي إليه طريقاً: أن يصدق اطمئنانه، ويأخذ كتابه في نفوس الطائفة المستنيرة مأخذ الرضا؛ فإن هذه الطائفة إنما تقاد بزمام الحجة، وصدق اللهجة، لا بكلمات تحرّف عن مواضعها، وشُبه من الباطل تخرج في غير براقعها. * وجوه البحث الأدبي: ذكر المؤلف تناول الناس لمسألة القديم والجديد، وما اشتد فيها من اللجاج بينهم، ورأى أن المختصمين أنفسهم لم يتناولوا المسألة من جميع أطرافها؛ لأنهم لم يكادوا يتجاوزون فنون الأدب من نثر وشعر، والأساليب التي تصطنع في هذه الفنون والمعاني والألفاظ التي يعبر بها الكاتب أو الشاعر عن عواطف نفسه، أو نتيجة عقله. ثم قال في (ص 2): "ولكن للمسألة وجهاً آخر لا يتناول الفن الكتابي أو الشعري، وإنما يتناول البحث العلمي عن الأدب وتاريخ فنونه".

البحث في علم المتقدمين

يذهب النظر في بحث الأدب إلى وجوه مختلفة، ومرجع هذه الوجوه إما إلى الألفاظ وتأليفها، وإما إلى المعاني وكيفية تصويرها، وإما إلى غرض غير اللفظ والمعنى، وهو البحث عن الأدب وتاريخ فنونه. وقد اعترف المؤلف بأن الناس تناولوا البحث في الغرضين الأولين، وزعم أنهم لم يتجاوزوهما إلى الغرض الثالث، وسيزعم أنه أول من خاض غماره، ونفض بالنقد غباره. والقائم على العلوم الأدبية يشهد بأن الناس لم يقصروا نظرهم على نقد الشعر من ناحية ألفاظه ومعانيه، بل تجاوزوهما إلى البحث في صلته بمن يعزى إليهم، وسيضطر المؤلف إلى نقل شيء من آثار بحثهم الذي قعدت به الظروف عن أن يتخطاه ويقول صواباً. * البحث في علم المتقدمين: قال المؤلف في (ص 2): "نحن بين اثنين: إما أن نقبل في الأدب وتاريخه ما قال القدماء، لا نتناول ذلك من النقد إلا بهذا المقدار اليسير الذي لا يخلو منه كل بحث، والذي يتيح لنا أن نقول: أخطأ الأصمعي أو أصاب، ووفق أبو عبيدة أو لم يوفَّق، واهتدى الكسائي أو ضلّ الطريق؛ وإِما أن نضع علم المتقدمين كله موضع البحث. لقد أنسيت، فلست أريد أن أقول: البحث، وإنما أريد أن أقول: الشك، أريد ألا نقبل شيئاً مما قال القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبت، إن لم ينتهيا إلى اليقين، فقد ينتهيان إلى الرجحان". ما برح الناس في القديم والحديث يبحثون في العلوم ما استطاعوا، ويقلبون أنظارهم في الفنون كيف أرادوا. وليس هناك خطة لا يلوي الباحث عنها، أو حدود لا يتجاوزها. وما على العلماء النقّاد إلا أن يكونوا لهؤلاء

البحث العلمي بين مذهبي المناقشة والنقد

الكتّاب بالمرصاد، ويعرضوا أقوالهم على قانون العلم الصحيح، فإما أن يرجح وزنها، فيرفعوا لها ذكراً، وإما أن يطيش وزنها، فينسفوها بالحجج الرائعة نسفاً. فللمؤلف وغير المؤلف أن يقول: أخطأ الأصمعي، ولم يوفَّق أبو عبيدة، وضلَّ الكسائي. وله أن يضع علم المتقدمين كله موضع البحث أو الشك، على شرط أن يتحرى في بحثه أو شكه أدباً يشهد بأنه ينشد حقيقة، ويسعى وراء علم. وستفضي إليك الفصول الآتية أن المؤلف حريص على إرضاء عاطفته، ولو ذهب الأدب والمنطق إلى غير لقاء. * البحث العلمي بين مذهبي المناقشة والنقد: قال المؤلف في (ص 3): "المذهب الأول يدع كل شيء حيث تركه القدماء، ولا يناله بتغيير ولا تبديل، ولا يمسه في جملته وتفصيله إلا مساً رفيقاً. أما المذهب الثاني، فيقلب العلم رأساً على عقب. وأخشى إن لم يمح أكثره أن يمحو منه شيئاً كثيراً". هما مذهبان: مذهب المتابعة، أو المناقشة في دائرة ضيقة، وهي ما سماه المؤلف: مساً رفيقاً، ومذهب نقد النظرية أو الرواية حتى تقوم على وجهها الحق، أو تسقط في جرف الباطل، وهذا المذهب معروف لعلماء الشرق، ولقوة فريق منهم على العمل به استطاعوا أن يزيحوا عن الفلسفة القديمة كثيراً من أوهامها، وينقوا الشريعة من أقوال زائفة تخلط بحقائقها، وينقدوا آداب اللغة فيكشفوا عن نصيب وافر من مصنوعها. ولا مزية لمن يحدّث الناس عن مذهب يقلب العلم رأساً على عقب، وإذا وازنوه بمن لم يمسوه في جملته وتفصيله إلا مساً رفيقاً، وجدوه لا يرجح عنهم إلا بأنه

دراسة الشعر الجاهلي

يطلق حول كل مبحث بخاراً، ويثير فوق كل صحيفة غباراً. * دراسة الشعر الجاهلي: قال المؤلف في (ص 3): "بين يدينا مسألة الشعر الجاهلي نريد أن ندرسها، وننتهي فيها إلى الحق، فأما أنصار القديم، فالطريق أمامهم واضحة معبدة، والأمر عليهم سهل يسير. أليس قد أجمع القدماء من علماء الأمصار في العراق والشام وفارس ومصر والأندلس على أن طائفة كثيرة من الشعراء قد عاشت قبل الإسلام، وقالت كثيراً من الشعر؟ أليس قد أجمع هؤلاء العلماء أنفسهم على أن لهؤلاء الشعراء أسماء معروفة محفوظة مضبوطة يتناقلها الناس، ولا يكادون يختلفون فيها؟ أليس قد أجمع هؤلاء العلماء على أن لهؤلاء الشعراء مقداراً من القصائد والمقطوعات حفظه عنهم رواتهم وتناقله عنهم الناس، حتى جاء عصر التدوين، فدوّن في الكتب، وبقي منه ما شاء الله أن يبقى إلى أيامنا؟ وإذا كان العلماء قد أجمعوا على هذا كله، فرووا لنا أسماء الشعراء وضبطوها، ونقلوا إِلينا آثار الشعراء وفسروها، فلم يبق إلا أن نأخذ ما قالوا راضين به، مطمئنين إليه. فإذا لم يكن لأحدنا بد من أن يبحث وينقد ويحقق، فهو يستطيع هذا دون أن يجاوز مذهب أنصار القديم". لا مراء في أن للأمة الجاهلية قسطاً من الشعر، فإن الشعراء الذين اعتنقوا الإسلام؛ كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة، ومتمم بن نويرة، والنابغة الجعدي، ولبيد، وكعب بن زهير، لم يبتدعوا هذا المنظوم ابتداعاً، بل اقتدوا فيه على أثر رجال سبقوهم بحين من الدهر، وكان هؤلاء الرجال على طبقات لا يزال الشعر ينتقل فيها من طبقة إلى

أخرى حتى بلغ المنزلة التي ظهر بها شعر هؤلاء الإسلاميين. ومما لا يحسن النزاع فيه أن يكون لأولئك الشعراء أسماء معروفة لدى قبائلهم وغير قبائلهم؛ إذ لا يقف شعر الشاعر البليغ عند حدود قبيلته، بل الشأن أن يتجاوزها إلى قبائل أخرى، فيسير الشعرُ، ولا يكاد اسم قائله يتأخر عنه إلا قليلاً. ومن الثابت أن العرب في الجاهلية كانوا يفرغون عنايتهم في حفظ الأشعار وإنشادها، ويرفعون مقام الشاعر إلى ما ليس بعده مرتقى. وهذا ما يقتضي أن يبقى من قصائد أولئك الشعراء ومقطوعاتهم مقدار تحفظه الرواة، وتتناقله عنهم الناس؛ حرصاً على ما فيه من حكمة وبلاغة. وإذا كان للجاهلية شعر، وكان لشعرائهم أسماء، وكانت عناية العرب بالشعر تستدعي حفظه وتداوله على ألسنة الرواة طبقة بعد أخرى، لم يبق إلا النظر في نسبة الشعر إلى شعراء بأعينهم، وفي مبلغ الثقة بهذه النسبة، وذلك ما نخوض في بحثه عندما يقع المؤلف في الحديث عنه. يدّعي المؤلف أن هاهنا فريقاً يقال لهم: أنصار القديم، وعزا إليهم مذهباً قال عليه: إنه رسم للأدب دائرة، وحجر على الباحث مجاوزتها. ونحن لا ندري ما هذا المذهب، ومن هؤلاء الأنصار، ولا نفهم إلا أن الرهط الذي وضع يده في يد المؤلف عرف أن بيانه يضيق عن قضاء ما في نفسه من مآرب، فالتجأ إلى اختراع ألقاب يحسبها كافية في استدراج أبناء الشرق إلى تلك المآرب، فقال: "قديم"، و"جديد"، و"أنصار القديم"، و"أنصار الجديد"، حتى سمّوا الداعي إلى العفاف: "رجعيا"، وسمّوا الخلاعة: "تجدداً".

التوسع في البحث وحريته

* التوسع في البحث وحريته: قال المؤلف في (ص 3): "فالعلماء قد اختلفوا في الرواية بعض الاختلاف، وتفاوتوا في الضبط بعض التفاوت، فلنوازن بينهم، ولنرجح رواية على رواية، ولنؤثر ضبطاً على ضبط، ولنقل: أصاب البصريون، وأخطأ الكوفيون، ووفق المبرّد، ولم يوفق ثعلب. ولنذهب في الأدب وفنونه مذهب الفقهاء في الفقه بعد أن أغلق باب الاجتهاد؛ وهذا مذهب أنصار القديم، وهو المذهب الذائع في مصر، وهو المذهب الرسمي أيضاً، ومضت عليه مدارس الحكومة وكتبها ومناهجها على ما بينها من تفاوت واختلاف". لا نعرف في الأدب مذهباً يضع الباحث في قيد، فللمؤلف أن لا يقف عند ترجيح رواية على رواية، وإيثار ضبط على ضبط، والحكم للبصريين على الكوفيين، والانتصار للمبرد على ثعلب، وله أن يقول: كلتا الروايتين مصطنعة، وكلا الضبطين تحريف، والبصريون والكوفيون جميعاً في عماية، والمبرّد وثعلب كلاهما محروم من التوفيق، وله أن يقطع الصلة بين كل شعر وقائله، وأن ينفي الشعراء قاطبة من الأرض، وليس عليه إلا أن يأتي البحث من طرقه المعقولة، ولا ينسى حكمة القرآن في قوله: [وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ] [يوسف: 76]. وأكاد لا أثق بأن المؤلف يعتقد بوجود مذهب أدبي ينكر التوسع في البحث إلى ما يستطيع العالم التحرير، ولا أراه إلا أنه صمم على أن يتنحّى عن الأدب في بعض المواضع، ويقضي مأرب الطعن في الإسلام. وحيث عرف أن المؤمنين يأبون أن يسمعوا صوت الجاهل على دينهم، رأى أن يحمي تلك الأقوال اللاذعة بما ينادي به في طالع كتابه من أن في الأدب

لباب الأدب وموضوعه

مذهباً لا يرضى عن حرية الفكر، وأن لهذا المذهب أنصاراً ينظرون إلى كل بحث جديد نظراً شزراً، حتى إذا لقي كتابه من أولي العلم حذراً، أمكنه أن يخيل للناس أن المحترسين منه إنما ينتصرون لمذهب الأدب القديم ... * لباب الأدب وموضوعه: قال المؤلف في (ص 4): "ولا ينبغي أن تخدعك هذه الألفاظ المستحدثة في الأدب، ولا هذا النحو من التأليف الذي يقسم التاريخ الأدبي إلى عصور، ويحاول أن يدخل فيه شيئاً من الترتيب والتنظيم، فذلك كله عناية بالقشور والأشكال، لا يمس اللباب ولا الموضوع". يخال قرّاء هذه الجملة أن المؤلف سيقيم الشاهد بهذا الكتاب على أن سبيل الكاتبين في آداب اللغة قبله لا يمر إلا بالقشور والأشكال، وأنه هو الذي غاص في البحث حتى مسَّ اللباب والموضوع، فيقرؤون الكتاب بقلوب مستبشرة، وأذهان متيقظة، فإذا هو ينتقل من حديث استعاره من كتب ادعى عليها أنها لم تعدُ القشور والأشكال، أو من كتب حسب أن بينها وبين أدباء الشرق حجاباً مستوراً، إلى حديث انفلت عن شرائط الإنتاج، إلى نفي خبر الصادق نفياً ما له به من سلطان، وفي خلال هذا وذاك مُكاء على أنصار القديم، وتصدية لأحلاف الجديد. ذلك ما يسميه المؤلف: لباب الأدب وموضوعه، وهنالك انقلب رأس الأدب على عقبه. * باب البحث الأدبي ما يزال مفتوحاً: قال المؤلف في (ص 4): "هم لم يغيروا في الأدب شيئاً، وما كان لهم أن يغيروا فيه شيئاً، وقد أخذوا أنفسهم بالاطمئنان إلى ما قال القدماء، وأغلقوا على أنفسهم في الأدب باب الاجتهاد كما أغلقه الفقهاء في الفقه،

اللذة في اعتناق الحكمة

والمتكلمون في الكلام". من الحقائق ما لا يسعى إليه الباحث إلا على مسالك الظنون، ولا يجد السبيل إلى أخذه بما فوق الاحتمال الراجح، وأكثر مباحث تاريخ الأدب من هذا القبيل، فتغيير الأدب على معنى البحث في نسبة قصيدة أو بيت إلى شاعر، لا يزال بابه مفتوحاً على مصراعيه، وأما تغييره بقلب رأسه على عقبه، فإن الأقلام التي يمكنها أن تعمل في سبيله لم تنبت بعد. فلسنا ممن يدعي أن في مؤلفات الأدب تبياناً لكل شيء، أو يبرئها من أن تكبو في بعض المباحث، أو تنطوي بعض رواياتها على دَخَل، فذلك ما لا يستطاع الخلاص منه، وهذا صاحب كتاب "في الشعر الجاهلي" على الرغم من قبضه على منهج "ديكارت"، ونعيه الاطمئنان إلى ما يقوله القدماء، قد اطمأن في كثير من هذا النحو الجديد من البحث إلى ما يرويه صاحب "الأغاني" وغيره، وسنريك أن في تلك الروايات ما لا يقبله إلا ذو عاطفة ثائرة. * اللذة في اعتناق الحكمة: تحدث المؤلف عن أنصار الجديد، ووصف الطريق أمامهم بأنها معوجة ملتوية ذات عقبات لا تكاد تحصى. وهم لا يكادون يمضون إلا في أناة وريث. ثم قال في (ص 5): "ذلك لأنهم لا يأخذون أنفسهم بإيمان ولا اطمئنان، أو هم لم يرزقوا هذا الإيمان والاطمئنان؛ فقد خلق الله لهم عقولاً تجد في الشك لذة، وفي القلق والاضطراب رضاً. وهم لا يريدون أن يخطوا في الأدب خطوة حتى يتبينوا موضعها، وسواء عليهم وافقوا القدماء وأنصار القديم،

الشك .. خفته وشدته

أم كان بينهم وبينهم أشد الخلاف". البحث في الرأي أو الرواية دأب كل عالم نقّاد، وما البحث إلا أثر الشك في صحة الرأي، أو صدق الرواية، والشك قد يكون ذريعة للعلم، وقد ينحدر بصاحبه في جهالة، وربما تلجلج فيه القلب، فلا يجد متقدماً عنه ولا متأخراً. والأول محمود العاقبة، والثاني والثالث لا خير فيهما، والأنواع الثلاثة حرج في الصدر، وعنت للضمير، وهيهات أن تجد النفوس في واحد منها لذة؛ إذ لا لذة إلا في اعتناق الحكمة. قد نغمض للمؤلف في زعمه أن في الشك لذة؛ أو نحمل كلمته على أنها ضرب من الشعر؛ فقد يعمد الخيال إلى معنى يختص بحقيقة، وينقله إلى بعض وسائلها. ولا نكتمه أننا منذ الآن لا نعدّه في أنصار الجديد؛ لأن هذه النعوت التي شرح بها حالهم لا تنطبق على سيرته في البحث، فأنصار الجديد لا يكادون يمضون إلا في أناة ورَيْث، وهو لا يكاد يمضي إلا في عجل واندفاع، كأنه لا يحس بأن الطريق أمامه معوجة ملتوية ذات عقبات لا تكاد تحصى، وأنصار الجديد لا يأخذون أنفسهم بإيمان ولا اطمئنان، وهو لا يعثر في رواية تخدش سيرة رجل من عظماء الشرق، أو ترمي أحداً بزيغ العقيدة، إلا قبض عليها بكلتا يديه، وآمن بها إيماناً جامداً، ولو رواها مسيلمة عن فاختة!. * الشك .. خفته وشدته: قال المؤلف في (ص 5): "هم لا يطمئنون إلى ما قال القدماء، وإنما يلقونه بالتحفظ والشك، ولعل أشد ما يملكهم الشك حين يجدون من القدماء ثقة واطمئناناً".

مسألة الشعر الجاهلي

نسي المؤلف ميزة أنصار الجديد الذين "لا يكادون يمضون إلا في أناة وريث"، فيمر في البحث على عجل، ويخطو فيه الخطوة قبل أن يتبين موضعها. من مبلغٌ "ديكارت" عن أنصار مذهبه أن "أشد ما يملكهم الشك حين يجدون من القدماء ثقة واطمئناناً"؟!. إن المؤلف ينساب في مبالغات يغبطه عليها الشعراء، ولا أدري كيف يخف شك الباحث في الأمر حيث يرى القدماء على شيء من التردد فيه، ويشتد شكه حين يجدهم على ثقة منه، واطمئنان له؟! من المحتمل أن تكون ثقتهم بالأمر نازلة في نظر الباحث منزلة العدم، فتكون حال شكه عندها مساوية لحال شكه عند ترددهم في الأمر، أو إهمالهم النظر فيه، وليس من المعقول أن تكون ثقتهم واطمئنانهم للأمر علة لإثارة شك فوق الشك الذي يجده عند ترددهم في الأمر، أو انصراف أذهانهم عنه. * مسألة الشعر الجاهلي: قال المؤلف في (ص 5): "هم يريدون أن يدرسوا مسألة الشعر الجاهلي، فيتجاهلون إجماع القدماء على ما أجمعوا عليه، ويتساءلون: أهناك شعر جاهلي؟ فإن كان هناك شعر جاهلي، فما السبيل إلى معرفته؟ وما هو؟ وما مقداره؟ وبم يمتاز من غيره؟ ويمضون في طائفة من الأسئلة يحتاج حلها إلى روية وأناة، وإلى جهود الجماعات العلمية، لا إلى جهود الأفراد". لأنصار الجديد أن يتجاهلوا ما أجمع عليه القدماء، أو يتساءلوا عن أنباء الشعر الجاهلي حتى يصوغوا من حلقات أسئلتهم سلسلة لا يأتي النظر على آخرها. ولا باع في الأسئلة؛ فإنها معان يقرب مأخذها، وألفاظ يسهل النطق بها، وإنما فضل الكاتب أن يتفقه في المسائل، ويمتعك بالجواب عنها

عناية القدماء بشؤون العرب

حتى تطمئن وترضى. ونحن لم نر المؤلف -وهو اللهج بالمذهب الجديد- قد حل شيئاً من هذه الأسئلة، ما خلا السؤال الأول، وهو قولهم: أهناك شعر جاهلي؟ فإنه حرر في بعض الفصول الآتية أن للجاهلية شعراً يُتلى، ولم يبحث في سائر المسائل، فيرينا السبيل إلى معرفة الشعر الجاهلي، أو يشرح حقيقته، أو يفصل مقداره، أو يأتي على مميزاته. وكأنه رأى الطريق دونها ملتوية، فأنكر هذا الشعر الجاهلي حتى لا يجهد نفسه في حل هذه الأسئلة ويشقى ... * عناية القدماء بشؤون العرب: قال المؤلف في (ص 5): "هم لا يعرفون أن العرب ينقسمون إلى باقية وبائدة، وعاربة ومستعربة، ولا أولئك من جرهم، وهؤلاء من ولد إسماعيل، ولا أن امرأ القيس، وطرفة، وابن كلثوم قالوا هذه المطولات، ولكنهم يعرفون أن القدماء كانوا يرون ذلك، ويرون أن يتبينوا أكان القدماء مصيبين، أم مخطئين؟ ". عني القدماء بشؤون العرب، وذهبوا بالبحث عنها في كل ناحية، فإذا القرآن يلقي شيئاً من أنبائهم، والقائمون على الأخبار يتناقلون الحديث عن أنسابهم، وبعض وقائعهم، ووعاة الأدب يحملون قسماً من منظومهم ومنثورهم، فأخذوا ما تلقوه وهم على بينة من مصادره المتفاوتة المراتب، فأنزلوا هذه المصادر فيما يليق بها من يقين أو ظن، أو شكّ أو وَضْع، ولشدَّ ما سردوا أسانيدهم وفتحوا بصرك في طرق روايتهم، ووقفوا بك على منتهى علمهم، ولم يكتموك وجوه نقدهم. فمن الميسور عليك أن تعرف أن هذا يوثق به في التاريخ واللغة، وذاك يعوّل عليه في اللغة دون التاريخ، والآخر

الثورات الفكرية

لا يقضي في التاريخ ولا علوم اللغة وطراً. وإنكار انقسام العرب إلى بائدة وياقية، وعاربة مستعربة، مما عثر عليه المؤلف فيإ ذيل مقالة في الإسلام"، وستسمع كلام الذيل، وبحث الباقية والبائدة، والعاربة والمستعربة في فصل غير بعيد. * الثورات الفكرية: قال المؤلف في (ص 6): "والنتائج اللازمة لهذا المذهب الذي يذهبه المجددون عظيمة جليلة الخطر، فهي إلى الثورة الأدبية أقرب منها إلى أي شيء آخر، وحسبك أنهم يشكون فيما كان الناس يرونه يقيناً، وقد يجحدون ما أجمع الناس على أنه حق لا شك فيه". الثورات الفكرية من الحوادث التي عرفها التاريخ في أطواره، وقد أرانا ثوّاراً راشدين، وآخرين مبطلين، فداعي الأمة الغاوية إلى حكمة قائمٌ بثورة فكرية، ومخاتل النفوس الغافلة ليجعل مكان رشدها غيّاً عاملٌ على ثورة فكرية. وإذا كانت الثورة الفكرية تحسن تارة، وتسيء تارة أخرى، وجب أن نتساءل عن الثورة التي يرمي إليها المؤلف: هل هي ثورة أدبية خالصة، أم هي ثورة تضع رأسها تحت راية الأدب، وتكُنّ في صدرها ما لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم؟. واحتفال المؤلف بالشك فيما يراه الناس يقيناً، وعدّه في جملة الغنائم التي يسوقها المذهب الجديد، يُشعر بأن الغرض صرف الناس عما يرونه يقيناً، ولو إلى الشك الذي لا يغني من العلم شيئا. * تغيير التاريخ: قال المؤلف في (ص 6): "فهم قد ينتهون إلى تغيير التاريخ، أو ما اتفق

الطعن والغمز

الناس على أنه تاريخ، وهم قد ينتهون إلى الشك في أشياء لم يكن يباح الشك فيها". من الجائز على الثقافة الجديدة أن تلد بشراً سوياً، فينتهي إلى تغيير التاريخ، أو ما اتفق الناس على أنه تاريخ. وإذا كان مبلغها في ابتداع طريق البحث ما يمثله المؤلف في هذا الكتاب، رأينا أنفسنا مضطرين إلى اعتقاد أنها لم تبلغ أشدها، ولم يأن لها أن تلد ذلك البشر القدير على تغيير ما اتفق الناس على أنه تاريخ. أستغفر الله! لست ممن يقضي بحكم الفرد على الجماعة، فقصور يد المؤلف عن تغيير ما اتفق الناس على أنه تاريخ، لا يكفي شاهداً على أن تلك الثقافة مقضي عليها بالإفلاس، أو أن مذهبها مضروب على غير أساس، فإن كثيراً ممن درسوا القياس المنطقي لا يهتدون إلى تأليف أقيسة ذات مقدمات محكمة، ونتائج صادقة، ولعل المؤلف قتل المذهب الجديد خبرة، ولم يرزق القوة والحذق في تطبيقه. * الطعن والغمز: قال المؤلف في (ص 6): "أحب أن أفكر، وأحب أن أبحث، وأحب أن أعلن إلى الناس ما أنتهي إليه بعد البحث والتفكير، ولا كره أن آخذ نصيبي من رضا الناس عني، أو سخطهم عليّ حين أعلن إليهم ما يحبون أو يكرهون". يعرف كل من قرأكتاب "في الشعر الجاهلي" أن ليس فيه ما يثير سخط الناس سوى ما كان طعناً في الإسلام صراحة أو غمزاً، وما عدا هذا، إنما هو الخطأ، أو الشذوذ الذي اعتاد أهل العلم سماعه في طمأنينة، وتقويمه برفق وأناة، إذن فالآراء التي يقول المؤلف: إنه سيعلنها إلى الناس على

الدعاية إلى غير سبيل المؤمنين

الرغم من سخطهم، إنما هي آراء الطعن والغمز، وأما ما هو عائد إلى الأدب وتاريخه، فقد سبقه إليه أو إلى أمثاله كتّاب آخرون، ولم يروا أنفسهم في حاجة إلى التبجح باحتمال الأذى في سبيل إعلان الرأي، ولا إلى اتهام الناس بأنهم يسخطون لتحقيق المباحث الأدبية، ومن الناس من تلقّى مؤلفاتهم بالرضا، ومنهم من ناقشها في سكينة ونفَس مستريض. * الدعاية إلى غير سبيل المؤمنين: قال المؤلف في (ص 7): "وإذن، فلأعتمد على الله، ولأحدثك بما أحب أن أحدثك به في صراحة وأمانة وصدق، ولأجتنب في هذا الحديث هذه الطرق التي يسلكها المهرة من الكتّاب، ليدخلوا على الناس ما لم يألفوا في رفق وأناة، وشيء من الاحتياط كثير". كأني بالمؤلف يبتسم لقوله: فلأعتمد على الله، وكأني بك تبتسم لقوله: ولأحدثك في صدق وأمانة، ونحن نبتسم لقوله: ولأحدثك في صراحة، وادعائه أنه اجتنب طرق المهرة من الكتّاب حيث يدخلون على الناس ما لم يألفوا في رفق واحتياط، والواقع أنه سطا حول القرآن ومقام النبوة بلسان غليظ، وأبى قلمه أن يسلو حرفة الغمز، فسلك في كثير من المواضع طرق المهرة من الكتّاب في صوغ عبارات ظاهرها البحث في الشعر الجاهلي، وباطنها الدعاية إلى غير سبيل المؤمنين، ولو صح أن تعصر هذه العبارات، لتقاطر من خلالها قذف فاحش، وفسوق كثير. * نظرية الشك في الشعر الجاهلي: قال المؤلف في (ص 7): "وأول شيء أفجؤك به في هذا الحديث: هو أني شككت في قيمة الشعر الجاهلي، وألححت في الشك، أو قل:

ألحَّ عليّ الشك، فأخذت أبحث وأفكر، وأقرأ وأتدبر حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إلا يكن يقيناً، فهو قريب من اليقين، ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعراً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء". كان الدكتور (مرغليوث) قد ادعى أن الشعر الجاهلي مزوّر ومصنوع، وتعرض لهذا البحث في مجلة الجامعة الآسيوية الملكية سنة 1916 م (ص 397)، وفي مادة "محمد" من "دائرة معارف الأديان والعقائد"، وفي كتابه "محمد" المطبوع سنة 1905 م (ص 6). وممن تصدى للرد عليه السر (تشارلس جيمس ليل) في مقدمة ترجمة "المفضليات" المطبوعة سنة 1918 م. ثم عاد الدكتور (مرغليوث)، وكتب في مجلة الجامعة الآسيوية الملكية الصادرة سنة 1925 م مقالاً مسهباً أتى فيه على الشُّبه التي جرّت إلى نظرية الشك في الشعر الجاهلي، فابتدأه بقوله: "بدأ المسلمون في حوالي نهاية العصر الأموي يدّعون وجود شعر جاهلي عربي، ولم يكتفوا بذلك حتى زعموا أنهم جمعوا الجزء الأعظم منه". وأنهاه بقوله: "أما الجواب عن الشعر الجاهلي: هل هو يرجع إلى عهد عتيق، أو أنه إسلامي؟ فخير ما يسلك الإحجام عنه؛ لأن الأدلة الموجودة أمامنا موقعة في حيرة". فالمؤلف أغار على نظرية الشك في الشعر الجاهلي، ولم يفترق عن (مرغليوث) إلا في تسليمه بأن هناك شعراً جاهلياً، فأخذ أصل النظرية، وأقوى الشُّبه التي استند إليها (مرغليوث)، وجعل يقول لك: هو أني شككت في الشعر الجاهلي، ويداعبك بقوله: ألححت في الشك، أو قل: ألحّ علي الشك. والحديث في صدق وأمانة خير من هذه المداعبة.

توارد طه حسين ومرغليوث

* توارد طه حسين ومرغليوث: قال المؤلف في (ص 7): "إنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين، وميولهم، وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين". قال الدكتور مرغليوث بعد أن ساق من الشعر الجاهلي أمثلة تحتوي معاني دينية: "والحقيقة أن الدين الوحيد الذي كان هؤلاء الشعراء يدينون به إنما هو الإسلام". وقال في موضع آخر: "إن الشعراء لم يكونوا ألسنة الوثنية، بل كانوا مسلمين في كل شيء، وليسوا بجاهليين إلا اسماً". توارد المؤلف و (مرغليوث) على هذا المعنى، بيد أن المؤلف يفوق على الثاني بنكتة، وهي أنه سيقول: إن هذا الشعر الجاهلي يمثل الجهل والغباوة، والغلظة والخشونة، والعرب في الجاهلية كانوا أصحاب علم وذكاء وعواطف رقيقة، وقال هنا: إن هذه الأشعار إسلامية تمثل حياة المسلمين. إذاً تكون حياة العرب قبل الإسلام في نظر المؤلف أرقى من حياتهم بعد أن صاروا مسلمين. وليس لهذا معنى سوى أن المؤلف قد يمسخ الحقائق لا عن خلل في التفكير، ولا عن اندفاع مع العاطفة، وإنما يمسخها ليضحك القرّاء حتى لا يساموا. * ما بقي من الشعر الجاهلي: قال المؤلف في (ص 7): "وأكاد لا أشك في أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جداً لا يمثل شيئاً، ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي". سيعقد المؤلف فصولاً مطولة بزعم أنها مقدمات تنتج أن الشعر

مس شعور الأمة المسلمة

الجاهلي، أو كثرته المطلقة لا تمثل شيئاً، ولا تدل على شيء، وسنناقشه في تلك الفصول حتى لا يبقى بيده سوى أن في الشعر الجاهلي تزويراً، وهو ما لا يختلف فيه القديم والجديد، أما أن يكون التزوير قد استحوذ على الشعر الجاهلي بأسره، أو أتى على الكثرة المطلقة؛ بحيث يكون الصحيح قليلاً جداً لا يمثل شيئاً، ولا يدل على شيء، فدعوى لا تتكئ على رواية، ولا يقوم بجانبها برهان. * مس شعور الأمة المسلمة: قال المؤلف في (ص 7): "وأن أقدّر النتائج الخطرة لهذه النظرية، ولكني مع ذلك لا أتردد في إثباتها وإذاعتها". ليس لهذه النظرية من نتائج خطرة لو أن المؤلف تحدث عن نشأتها، وأتى على الوجوه التي لفتت نظر (مرغليوث) إليها، ثم إن شاء زاد عليها ما يراه مؤكداً لها، أو منقحاً لبعض أطرافها. والدليل على أن النظرية في نفسها لا تأتي بنتائج خطرة: أن إنكار الناس لم يتوجه إلى أصلها، وإنما هو إنكار هاجته أقواله المقتضبة لمسِّ شعور الأمة المسلمة، ونوع آخر من الإنكار أثاره في نفوس بعض الكتّاب أن رأوا المؤلف يضع يده على نظرية لم يهبها له مخترعها. * إنكاره شعر امرئ القيس: قال المؤلف في (ص 7): "ولا أضعف أن أعلن إليك وإلى غيرك من القراء: أن ما تقرؤه على أنه شعر امرئ القيس، أو طرفة، أو ابن كلثوم، أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء". يقول المؤلف هنا: إن ما يقرأ على أنه شعر لهؤلاء الشعراء الذين من

جواب على سؤال

جملتهم امرؤ القيس ليس منهم في شيء، ثم تمضي في الكتاب إلى أن يدخل بك في الحديث عن امرئ القيس، فإذا هو يقول: "إن أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس ليس من امرئ القيس في شيء"، فلا تدري: أهو ينكر شعر امرئ القيس برمته؛ كما هو الظاهر من قوله هنا: إن ما تقرؤه على أنه شعر لامرئ القيس ليس منه في شيء، أو هو ينكر أكثره فقط على ما يصرح به قوله فيما بعد: "إن أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس ليس منه في شيء"؟ وستقف فيما تقرؤه من فصل: (الشعر الجاهلي واللغة) على ما يحكم بأن المؤلف ابتلي بالتناقض في شعر امرئ القيس، حكماً مسمَّطاً. * جواب على سؤال: قال المؤلف في (ص 8): "وستسألني: كيف انتهى بي البحث إلى هذه النظرية الخطرة؟ ولست أكره أن أجيبك على هذا السؤالي، بل أنا لا أكتب ما أكتب إلا لأجيبك عليه، ولأجل أن أجيبك عليه إجابة مقنعة يجب أن أتحدث إليك في طائفة مختلفة من المسائل". صور المؤلف شخصاً ماثلاً بين يديه، وأنطقه بسؤال لا يخطر إلا على بال النائم عن الحركة الأدبية، ونشأة نظرية الشك في الشعر الجاهلي نوماً عميقاً، ثم جعل إجابته المقنعة في أن يتحدث إليه في طائفة مختلفة من المسائل. وقد تحدث بعد تلك الفقرة عن هذه الطائفة المختلفة من المسائل في نحو صحيفة، وهي ملخص المباحث المعقود عليها كتابه، وقد فاته أن يذكر أعظم وسيلة ابتغاها إلى هذه النظرية الخطرة، وهي إلمامه بمقالتي (مرغليوث) وما دار بينه وبين خصومه من المناقشة.

اليهودية والمسيحية في بلاد العرب

* اليهودية والمسيحية في بلاد العرب: انبرى المؤلف في إجابتك المقنعة، وطفق يحدثك ببعض ما يحشره في الفصول الآتية من مباحث. حتى قال في (ص 8): "ثم يجب أن أحدثك عن اليهود في بلاد العرب قبل الإِسلام وبعده، وما بين اليهود هؤلاء وبين الأدب العربي من صلة، ويجب أن أحدثك بعد هذا عن المسيحية، وما كان لها من الانتشار في بلاد العرب قبل الإسلام وما أحدثت من تأثير في حياة العرب العقلية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية، وما بين هذا كله وبين الأدب العربي والشعر العربي من صلة". تفهم من هذه الفقرات أن المؤلف سيتحدث عن اليهود في بلاد العرب قبل الإسلام، ولا تدري ماذا يريد أن يأتي في حديثه عنهم؛ لأنه أجمل في العبارة إجمالاً، وتفهم منها أنه سيتحدث عن المسيحية، وأن حديثه عنها من جهة انتشارها وتأثيرها في حياة العرب العقلية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية، ولا تكاد تشك في أنه سيمشي في هذا البحث خطوات، إن لم تكن واسعة، فمقتصدة، وإذا بلغت في مطالعة الكتاب موضع الحديث عن اليهود والنصارى في بلاد العرب قبل الإسلام، وجدت الحديث عنهما متقارباً، فقد ذكر أن اليهود استعمروا جزءاً غير قليل من بلاد الحجاز، وأن اليهودية جاوزت الحجاز إلى اليمن، واستقرت حينا عند سراتها، وأنها استتبعت حركة اضطهاد للنصارى في نجران. ثم ذكر أن المسيحية انتشرت انتشاراً قوياً في بعض بلاد العرب فيما يلي الشام حيث كان المناذرة، وفي نجران من بلاد اليمن. وقال: "تغلغلت النصرانية إذن كما تغلغلت اليهودية

البحث الفني اللغوي

في بلاد العرب". فلم يزد في حديثه على أن كلاً من اليهودية والمسيحية انتشرتا في جزء غير قليل من بلاد العرب، ولم يُرك كيف أثرت المسيحية في حياة العرب العقلية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأدبية، حتى تدرك الوجه في إجماله عنوان الحديث عن اليهود، وتفصيله عنوان الحديث عن المسيحية. فالمؤلف إما أنه لا يلتفت إلى ما وراءه، ونسي ما وعدك به في هذه الفقرات من أنه سيحدثك عن تأثير المسيحية في بلاد العرب عقلياً واجتماعياً واقتصادياً وأدبياً، وإما أنه لم يهتد في ذلك إلى شواهد يسوقها على منهج (ديكرت)، وإما أن يكون له في الاحتفال بعنوان المسيحية مأرب لو شئت أن تسميه تملقاً لذي سلطان، لم تكن مخطئاً. * البحث الفني اللغوي: قال المؤلف في (ص 9): "ولكني - مع ذلك - لن أقف عند هذه المباحث؛ لأني لم أقف عندها فيما بيني وبين نفسي، بل جاوزتها، وأريد أن أجاوزها معك إلى نحو آخر من البحث أظنه أقوى دلالة، وأنهض حجة من المباحث الماضية كلها. ذلك هو: البحث الفني واللغوي". يعترف المؤلف -على وجه الظن- بأن هذا البحث الفني اللغوي أقوى دلالة، وأنهض حجة على عدم إمكان أن يكون هذا الشعر المنسوب لامرئ القيس وغيره هو منهم في شيء، وسنريك أن هذا البحث الفني اللغوي أخذه برمته من مقال (مرغليوث). ولولا أن المؤلف يمضي في التعسف إلى غير أجل، لقصرنا المناقشة على هذا البحث الأقوى، وأريناه مصرعه؛ لعله يلوي على غيره من المباحث الضعيفة، فيفتل أعناقها من وراء ستار، ولكنه

الاستشهاد بالشعر على تفسير القرآن

امرؤ لا يرمي الشبهة من يده، ولو أثخنتها الحجة الدامغة، فلا بد من أن نأتي على قويه وضعيفه حتى تشهد "هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل" أن المؤلف كئيراً ما يقوده الخيال أسراً، وتسيطر عليه العاطفة فلا يعصي لها أمراً. * الاستشهاد بالشعر على تفسير القرآن: قال المؤلف في (ص 9): "وينتهي بنا البحث إلى نتيجة غريبة، وهي أنه لا ينبغي أن يستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن وتأويل الحديث، وإنما ينبغي أن يستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله". لم تكن هذه النتيجة غريبة إلا عند من يتناول البحث خطفاً، ولا يمشي فيه على روية وأناة، وقد أنكر بعض أهل العلم - فيما سلف - على من يتوقف من النحويين في تقرير ألفاظ القرآن على شاهد عربي، ومن هؤلاء: فخر الدين الرازي حيث يقول في "تفسيره الكبير": "إذا جوّزنا إثبات اللغة بشعر مجهول عن قائل مجهول، فجواز إثباتها بالقرآن العظيم كان أولى، وكثيراً ما أرى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريرها ببيت مجهول، فرحوا به. وأنا شديد التعجب منهم؛ فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلاً على صحته، فلأن يجعلوا ورود القرآن دليلاً على صحته كان أولى". وأنكر أبو محمد بن حزم على من لا يمضي في الاحتجاج بظاهر القرآن، فقال في كتاب "الفصل": "ولا عجب أعجب ممن إن وجد لامرئ القيس، أو لزهير، أو لجرير، أو الحطيئة، أو الطرمّاح، أو لأعرابي أسدي أو تميمي، أو من سائر أبناء العرب لفظاً في شعر أو نثر، جعله في اللغة، وقطع به، ولم

عدم رسوخ المؤلف في أصول اللغة

يعترض فيه، ثم إذا وجد لله تعالى خالق اللغات وأهلها كلاماً، لم يلتفت إليه، ولا جعله حجّة، وجعل يصرفه عن وجهه". وسيأتي هذا البحث في فصل آخر، ونذكِّرك بالمواضع التي يحق للمفسّر أن يستشهد فيها بالشعر العربي جاهلياً وإسلامياً. * عدم رسوخ المؤلف في أصول اللغة: قال المؤلف في (ص 9): "أريد أن أقول: إن هذه الأشعار لا تثبت شيئاً، ولا تدل على شيء، ولا ينبغي أن تتخذ وسيلة إلى ما اتخذت وسيلة إليه من علم بالقرآن والحديث، فهي إنما تكلفت واخترعت اختراعاً؛ ليستشهد بها العلماء على ما كانوا يريدون أن يستشهدوا عليه". ادعى المؤلف آنفاً أن هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس وغيره من شعراء الجاهلية ليس منهم في شيء، وقال: إن البحث سينتهي به إلى أن هذا الشعر لا ينبغي أن يستشهد به على تفسير القرآن وتأويل الحديث، واتسع في الكلام حتى قال في هذا الموضع: إن تلك الأشعار لا تثبت شيئاً، ولا تدل على شيء، ونفى أن يتخذ وسيلة إلى علم القرآن والحديث، وعلل هذا بأنها اخترعت ليستشهد بها العلماء على ما كانوا يريدون أن يستشهدوا عليه. اندفاع المؤلف في البحث على هذا النحو المتخاذل ناشئ عن عدم الرسوخ في أصول اللغة من جهة، وعدم أخذ البحث بضبط وانتباه من جهة أخرى. سيذكر المؤلف أن لانتحال الشعر الجاهلي أسباباً غير التعصب للدين؛ مثل: السياسة، والقومية، والتعصب للقبيلة. والانتحال للاستشهاد على

تفسير القرآن وتأويل الحديث إنما هو ضرب من التعصب للدين. فلماذا يُنفى عن الشعر المنتحل للسياسة أو القومية، أو التعصب للقبيلة، أو لغرض ديني غير الاستشهاد في علم القرآن والحديث، أن يثبت شيئاً، أو يدل على شيء؟!. إن الشعر الذي يصطنعه عربي يحتج بكلامه لما يستشهد به في علوم اللغة، وتقرير أصولها وأحكامها، ومثل هذا: أن المؤلف سيلقي على الفرزدق تهمة اصطناع أبيات من معلقة امرئ القيس، والفرزدق ممن يصح الاستشهاد بشعره في المسائل اللغوية. فمن المعقول والمنقول صحة التمسك بمثل تلك الأبيات في تحقيق عبارة لغوية، وإن فاتها أن تدل على شيء من حياة امرئ القيس ونزعته الأدبية، بل يصح الاستشهاد بها في تفسير القرآن وتأويل الحديث؛ حيث لم تنتحل من أجل هذا الاستشهاد، وستجد مزيداً على هذا البحث حيث تدعو إليه مناسبة أخرى.

منهج البحث

منهج البحث * الخروج عن الأدب والطعن في الإسلام: قال المؤلف في (ص 11): "أحب أن أكون واضحاً جلياً، وأن أقول للناس ما أريد أن أقول لهم دون أن اضطرهم إلى أن يتأولوا، أو يتمحلوا، ويذهبوا مذاهب مختلفة في النقد والتفسير، والكشف عن الأغراض التي أرمي إليها". شق المؤلف للقراء عن صدره، وأراهم ما فيه من نية الخروج عن الأدب إلى الطعن في الإسلام، وقد عرف أن من الصراحة ما لا يجد في النفوس منفذاً، فجنح في كثير من المواضع إلى استعمال الجمل التاريخية أو الأدبية في قضاء مآرب الدعاية، ونشر فيها روح التنكر للحق، لكيما تسلك هذه الروح في قلوب المستضعفين من الناس، وتبقي بها أثراً، دون أن يشعروا بما ينويه المؤلف في نشرها. فالمؤلف قد اضطر الناس -بما يبثه في كتابه من أرواح غير طيبة- إلى أن ينتقدوا ويكشفوا عن الأغراض التي يرمي إليها، ولو احتملوا هذا اللون من التعب، وحملوا عليه وزر الرد والدفع والمناقشة. * منهج ديكارت: قال المصنف في (ص 11): لا أريد أن اصطنع في الأدب هذا المنهج

تجرد الباحث من كل علم سابق

الفلسفي الذي استحدثه (ديكارت) للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث". من المتحزبين لمنهج ديكارت "من استخرج منه نتائج على هوى ذوقه، وبنى عليه مذاهب بعيدة عنه مثل: (مالبرنش) و (سبينوزا)، و (فردلا)، ومنهم من اقتصر على التمسك بأفكار (ديكرت)، والاعتماد على نظامه؛ ليحاموا عن الحقيقة الدينية والأدبية؛ مثل: (أرنود)، و (بوصويه)، و (فنلون)، وبعضهم اتخذه عثرة في سبيل العقائد مثل: (بايل) " (¬1). وإذا سبق لأناس أن أشربوا حب منهج (ديكارت)، واستخرجوا منه نتائج على هوى أذواقهم، أو اتخذوه عثرة في سبيل العقائد، وجب علينا ألا ننخدع لما وعد به المؤلف من أنه سيصطنع هذا المنهج الفلسفي، وحق علينا أن نحترس من أن يتبع خطوات (سبينوزا)، فيفرغ لنا نتائج في قالب شهواته، أو يقتدي على آثار (بايل)، فيمد في طريق العقائد الصحيحة أسلاكاً شائكة. * تجرد الباحث من كل علم سابق: قال المؤلف في (ص 11): "والناس جميعاً يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي: أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلواً تاماً". إذا كان منهج (ديكارت) يرجع إلى أن الشك أساس الفلسفة وتعرّف الحقائق، وألّا يسلم بشيء إلا بعد أن يفحصه العقل، فإن هذا المنهج ليس ¬

_ (¬1) "دائرة المعارف" للبستاني (8: 728).

بالغريب عند علماء الشرق، فالذين يدخلون في المباحث النظرية لا يستعملون إلا عقولهم غير قليل، وممن صرح بهذا المسلك: أبو حامد الغزالي حيث قال في "المنقذ من الضلال": "إن اختلاف الخلق في الأديان والملل، ثم اختلاف الأمة في المذاهب وكثرة الفرق، بحر عميق، غرق فيه الأكثرون ... ولم أزل في عنفوان شبابي - منذ راهقت البلوغ إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين - أقتحم لجة هذا البحر ... وأتفحص عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة؛ لأميز بين محق ومبطل، ومستن ومبتدع .. وقد كان العطش إلى درك الحقائق دأبي وديدني ... وحتى انحلت رابطة التقليد وانكسرت عني العقائد الموروثة". وقد أفصح عن مثله الفيلسوف ابن خلدون، وحث على العمل عليه في التاريخ بوجه خاص حين قال في "مقدمته": "فهو (التاريخ) محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلات والمغالط؛ لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع؛ لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط".

وقال فيها أيضاً (¬1): "فإذاً يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة، وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد، والنحل والمذاهب، وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق، أو بون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل، ومبادئ ظهورها، وأسباب حدوثها، ودواعي كونها، وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعباً لأسباب كل حادث، واقفاً على أصول كل خبر. حينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها، وجرى على مقتضاها، كان صحيحاً، وإلا، زيفه، واستغنى عنه". ولا بدع أن ينبت الشرق رجالاً لا يستقبلون المطالب العلمية إلا بعقولهم، فإن من يتلو القرآن - ولو بغير تدبر - يعرف أن من مقاصد الإسلام: بعث العقول من مراقد الخمول، وتحريرها من أسر التقليد، فتراه يدعو بالبرهان وبيان الحكمة، غير مقتصر على الموعظة والمعجزات المشهودة، ويطالب ذوي الآراء المبتدعة بالحجة، ويذم كل من قلد في عقيدة ما له بها من سلطان. والآيات المتضافرة في هذا المعنى قد نفخت في العقول روح التفكير، وانطلقت بها تخوض في كل علم، وتبحث في كل واقعة. فالمذهب الذي يرى للباحث أن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه، لا يسخط ¬

_ (¬1) (ص 23).

حرية البحث والاستقصاء في الأدب العربي القديم

عليه رجل الدين الذي كان بالعقل حفياً، ورفع العلم والحكمة مكاناً علياً، وإنما يزدرون الكاتب يحسب أن تصور هذا المذهب يكفي وسيلة إلى التهجم على كل علم، فيمشي في غير سبيل، ويدلج بغير دليل، ثم يزعم بملء فمه أنه أحاط بما لم يحط به أحد من قبله. * حرية البحث والاستقصاء في الأدب العربي القديم: قال المؤلف في (ص 12): "فلنصطنع هذا المنهج حين نريد أن نتناول أدبنا العربي القديم وتاريخه، وقد برأنا أنفسنا من كل ما قيل فيهما من قبل، وخلصنا من هذه الأغلال الكثيرة الثقيلة التي تأخذ بأيدينا وأرجلنا ورؤوسنا، فتحول بيننا وبين الحركة الجسمية الحرة، وتحول بيننا وبين الحركة العقلية الحرة أيضاً". ليس في الأدب العربي أغلال تشد على طلابه، فتحول بينهم وبين حركاتهم الحرة، جسمية كانت أو عقلية، وطالما تناولته أنظار ذهبت في البحث كل مذهب، فأماطت عن طريقه أذى كثيراً، ثم أبقت باب النقد من ورائها مفتوحاً على مصراعيه، فمن ساعده قانون البحث على طرح قسم آخر من حسابه، بسطوا له وجهاً رحباً، ونسجت له ألسنتهم الصادقة شكراً خالداً. فللمؤلف أن يحرك جسمه وعقله كيف يشاء، وله أن يتناول أدبنا العربي القديم وتاريخه بالبحث والاستقصاء، وله أن يستقبلهما بعد أن يبرئ نفسه من كل ما قيل فيهما من قبل، وما عليه إلا أن يعلم أن للبحث في العلوم قوانين لا يسع "ديكارت" إلا أن يؤمن بها، وأن من وراء جدران الجامعة المصرية أقلاماً تغار على الحقيقة أكثر من غيرته على الشك فيما يراه الناس حقاً.

نسيان القومية والدين

* نسيان القومية والدين: قال المؤلف في (ص 12): "يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتنا، وننسى ديننا وكل ما يتصل به، وأن ننسى ما يضادّ هذه القومية وما يضاد هذا الدين. يجب ألا نتقيد بشيء، ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح". قال المتنبي: عجباً له حفظ العنان بأنمل ... ما حفظها الأشياء من عاداتها فنقد هذا البيت عبد القاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز" حيث قال: كان ينبغي أن يقول: ما حفظ الأشياء من عاداتها؛ لأن المعنى على أنه ينفي الحفظ عن أنامله جملة، وإضافته الحفظ إلى ضميرها في قوله: "ما حفظها الأشياء" يقتضي أن يكون قد أثبت لها حفظاً. فنقول على هذا المثال: كان ينبغي للمؤلف أن يقول: وننسى الأديان؛ لأنه يريد أن يضع في أذهان القراء أنه أصبح عن الدين في ناحية، والإِضافة في قوله: "ديننا" تقتضي أن يكون قد أثبت لنفسه ديناً. ولا نتجاوز هذا إلى نقد الإضافة في قوله: "قوميتنا"؛ لأنا لا نريد نقد المؤلف، وإنما نريد نقد كتاب "في الشعر الجاهلي". * محاباة وإرضاء العواطف المضادة للدين: قال المؤلف في (ص 12): "ذلك أننا إذا لم ننس قوميتنا وديننا، وما يتصل بهما، فسنضطر إلى المحاباة، دارضاء هذه العواطف". لو نسي المؤلف قوميته ودينه، لما تطوح في البعد عن الحقائق إلى

العلم لا يعترض حقائق الدين

هذه الغاية، ولكنه ربط قلبه بعواطف تضاد هذه القومية وهذا الدين، فاضطر إلى محاباتها وإرضائها، وستناجيك الفصول الآتية بسطوة هاتيك العواطف، وما نفشت فيه من أدب وتاريخ. * العلم لا يعترض حقائق الدين: قال المؤلف في (ص 12): "وهل فعل القدماء غير هذا؟ وهل أفسد علم القدماء شيء غير هذا؟ ". للقدماء عواطف دينية، وأخرى قومية، وقد تأخذ عاطفة العقيدة أو القومية من خف وزنه، فيقول ما ليس بحق، أما الذين أوتوا العلم الراسخ والاستقامة، فإن الذي يتقصى أثرهم بذكاء وإنصاف يقف على أنهم كانوا يطلقون أعنة النظر في كل بحث، ويأخذون أنفسهم بالأدلة من محسوس أو معقول. وهذه مؤلفاتهم في العلوم النظرية من إلهيات وكونيات، أو في العلوم السمعية من شرعيات وأدبيات، تشهد بأنهم كانوا في حرية الفكر والتحري في الرواية بالمنزلة التي تجعلهم أساتذة العالم ونجوم هدايته. كانوا يستقبلون البحث بعقولهم، ولم يروا أنفسهم في حاجة إلى التجرد من دينهم؛ لأن حقائقه الناطقة لا يعترضها العلم في كبير أو صغير، ولو فرضنا أن إتقان البحث يتوقف على التجرد من الدين، وصنعوا ما صنع المؤلف عند أخذه في هذا النحو الجديد من البحث، لعادت بهم أحلامهم الراجحة إلى لباس التقوى، ولم يرزأهم العلم من دينهم شيئاً، ولم يرزأهم دينهم من العلم نقيراً.

التعصب للحقيقة

* التعصب للحقيقة: قال المؤلف في (ص 12): "كان القدماء عرباً يتعصبون للعرب، أو كانوا عجماً يتعصبون على العرب، فلم يبرأ علمهم من الفساد؛ لأن المتعصبين للعرب غلوا في تمجيدهم وإكبارهم، فأسرفوا على أنفسهم، وعلى العلم؛ لأن المتعصبين على العرب غلوا في تحقيرهم وإصغارهم، فأسرفوا على أنفسهم، وعلى العلم أيضاً". خذ مثلاً من الأمثلة التي يضربها المؤلف للدلالة على أن عاطفته استولت على قلمه، وإذا ظهرت العاطفة على القلم، فلا تسمع إلا غلواً في القول، وجحوداً لكثير من الحقائق. هل رأيت كاتباً شرقياً أو غربياً، بقي على دينه أو تجرد منه، احتفظ بقوميته أو تبرأ منها، يساعده قلمه وقد تصدى لبحث علمي أن يقول: كان القدماء عرباً يتعصبون للعرب، أو كانوا عجماً يتعصبون على العرب، ألا يقوى عقله أمام هذه العاطفة على أن يزحزح القلم قليلاً، ولو إلى أن يقول: كان من القدماء عرب، وكان منهم عجم. في القدماء عرب يتعصبون للحقيقة أكثر مما يتعصبون لقوميتهم، وفي القدماء عجم يتعصبون على الزور والبهتان أكثر مما يتعصبون على العرب، وهذان الفريقان لم يسرفوا على أنفسهم أو على العلم، ولم يغلوا في تمجيد العرب، وما همّوا بتحقيرهم، وهم معظم من قاموا ببحث العلوم وتدوينها. ولسنا في حاجة إلى سرد أسماء هؤلاء، وبسط القول فيما قدموه للشرق من علم قيّم، وعمل صالح، إذ لا بد لهذه الطائفة المستنيرة من أن يدرسوا تاريخ سلفهم، ويدركوا مغزى الكلمات التي يصُبّها أمثال المؤلف في آذانهم.

دراسة القدماء من المسلمين للعلوم

* دراسة القدماء من المسلمين للعلوم: قال المؤلف في (ص 12): "كان القدماء مخلصين في حب الإسلام، فأخضعوا كل شيء لهذا الإسلام وحبهم إياه، ولم يعرضوا لمبحث علمي، ولا لفصل من فصول الأدب، أو لون من ألوان الفن إلا من حيث إنه يؤيد الإسلام ويعزه، ويعلي كلمته، فما لاءم مذهبهم هذا، أخذوه، وما نافره، انصرفوا عنه انصرافاً". درس القدماء من المسلمين علوماً شتى، ولم يتلقوها كما يتلقاها الإمَّعة من الرجال بمتابعة وتقليد، فخاضوا غمارها، وسابقوا واضعيها في الوقوف على أسرارها، وأبصروا فيها حقاً وباطلاً، ولم يقتصروا في علمهم بالحق حقاً على دليل موافقته للدين، ولا في معرفتهم للباطل باطلاً على دليل مخالفته له، بل كانوا يترسمون في ذلك منهج المنطق الصادق، ويقرعون الحجة النظرية بمثلها، وعدم ارتدادهم عن الإسلام لا يدل على أنهم أخضعوا له كل شيء، وإنما هو الدين القيم يخضع له الحق بنفسه، ولا يحوم الباطل في ناحيته. وأما العلوم الأدبية، فربما كان الباعث لهم على وضعها وتدوينها تمهيد الوسائل إلى فهم الكتاب والسنّة، ثم انطلقوا في فنونها إلى ما لا تمس إليه حاجة الإسلام في حال. وأخذها من حيث إنها تؤيد الإسلام وتعزّه وتعلي كلمته لا يستدعي تحريفها عن مواضعها، أو خلطها بما ليس من قبيلها؛ فإن في الحقائق المؤيدة للإسلام لغناء عن محاولة تأييده بالزور والانتحال. وعلى المؤلف حرج فيما رمز إليه بقوله: "لهذا الإسلام"؛ فإن الناس يعتقدون - وما اعتقدوا إلا حقاً - أن من خدم الإسلام خدم السياسة الرشيدة،

المتعصبون على الإسلام

والمدنية المبصرة، والإنسانية الكاملة. * المتعصبون على الإسلام: قال المؤلف في (ص 13): "أو كان القدماء غير مسلمين؛ يهوداً أو نصارى أو مجوساً أو ملحدين، أو مسلمين في قلوبهم مرض، وفي نفوسهم زيغ، فتأثروا في حياتهم العلمية بمثل ما تأثر المسلمون الصادقون، تعصبوا على الإسلام، ونحوا في بحثهم العلمي نحو الغضّ منه، والتصغير من شأنه، فظلموا أنفسهم، وظلموا الإسلام، وأفسدوا العلم، وجنوا على الأجيال المقبلة". العلوم إما عائدة إلى العقل، وما كان المسلمون ليقلدوا فيها يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو ملحداً أو مسلماً، ولو كان ناسكاً تقياً، وإما عائدة إلى الشرع، وهذه إما أن تكون رواية، والرواية لا يتلقونها إلا من مسلم بلوا سيرته، فكانت مظهر الصدق والعدالة، وإما أن تكون استنباطاً، والذين استنبطوا، وتقلد الجمهور مذاهبهم كانوا على ذكاء واستقامة؛ بحيث لا يدرج بينهم متعصب على الإسلام ينحو نحو الغفمنه والتصغير من شأنه. وقد وضعوا فوق هذا موازين يعرف بها صحيح الرواية من سقيمها، ويميز بها خالص الآراء من رديئها. وإما أن تكون أدباً أو تاريخاً، وهذه الفنون -وإن أخذ منهم نقدها وتمحيصها أقل مما أخذ من العلوم الشرعية- قد أقاموا لها معالم تهتدي بها الأجيال المقبلة، وتكفيهم شر أولئك المتعصبين، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن الجوزي قد نقدا صاحب "الأغاني" الذي يستمد منه المؤلف أدبه، وعلموا الأجيال المقبلة أنه لا يوثق بروايته، ولا يعول عليه في تحقيق علم أو تاريخ.

التفريق بين العقل والقلب

ولا أحسب أمة يوجد فيها أمثال هؤلاء النبغاء، يروج بينها ما يضعه المتعصبون على الإسلام للتصغير من شأنه دون أن يجد ناقداً ومفنداً. * التفريق بين العقل والقلب: قال المؤلف في (ص 13): "ولو أن القدماء استطاعوا أن يفرقوا بين عقولهم وقلويهم، وأن يتناولوا العلم على نحو ما يتناوله المحدثون، لا يتأثرون في ذلك بقومية ولا عصبية ولا دين، ولا ما يتصل بهذا كله من الأهواء، لتركوا لنا أدباً غير الأدب الذي نجده بين أيدينا، ولأراحونا من العناء الذي نتكلفه الآن". كأن لم يبق في المؤلف رمق من احترام التاريخ، فأخذ يتحدث عن القدماء في هذه النزعة المتناهية غلواً يشبه غلو اللعّانين في الأسواق! في القدماء من استطاعوا أن يفرقوا بين عقولهم وقلوبهم، وفي المحدثين من تضاءلت عقولهم حتى تفانت تحت سلطان أهوائهم، ولكن المؤلف لا يصدق أن أحداً فرق بين قلبه وعقله حتى يخرج على الدين ولو في كل بحث مرة أو مرتين. وليس من الميسور أن تجادله بالتي هي أحسن ما دام قانعاً بأن كل من يعتنق ديناً قامت الآيات البينات على صحته، لم يضع بين عقله وقلبه حاجزاً، وأن من يسوق الشاهد من "الأغاني" ونحوه، دون أن يبحث في رواته، ويدري صحة طريقه، فذلك الذي جعل بين عقله وقلبه سداً لا تستطيع العاطفة أن تظهره، ولا تستطيع له نقباً. * لا تثريب على القدماء: قال المؤلف في (ص 13): "فلندع لوم القدماء على ما تأثروا به في

الغض من العرب والنعي على الإسلام

حياتهم العلمية مما أفسد عليهم العلم". حكى التاريخ أن أفراداً قصر في الفهم باعهم، أو قلَّ من أدب النفس نصيبهم، فأساؤوا التصرف في العلم لأهواء شتى، وشهد قبل هذا بأن الجهابذة من القدماء نظروا، فأحكموا النظر، ورووا، فصدقوا في الرواية، وأنهم تصدوا بأنفسهم إلى إصلاح ما يلحق العلم من آفة الاحتيال، أو سوء التأويل. فلا تثريب على القدماء، وإنما التثريب على تلك الفئة التي لا تخلو من أمثالها العصور، حتى العصر الذي أزبد فيه كتاب "في الشعر الجاهلي" وأرغى. * الغض من العرب والنعي على الإسلام: قال المؤلف في (ص 13): "ولنجتهد في ألا نتأثر كما تأثروا، وفي ألا نفسد العلم كما أفسدوه. لنجتهد في أن ندرس الأدب غير حافلين بتمجيد العرب، أو الغض منهم، ولا مكترثين بنصر الإسلام، أو النعي عليه". يعد المؤلف قراء كتابه بأنه سيجتهد في ألا يتأثر كما تأثر القدماء، وفي ألا يفسد العلم كما أفسدوه، وقد خانه قلمه، ولم يستطع أن يجني لنا من حديثه المسهب ثمرة. قال المؤلف: إنه سيجتهد في درس الأدب غير حافل بتمجيد العرب، ولا مكترث بنصر الإسلام، وقد صدق القراء، وقال ما لا يخطر على قلوبهم سواه. وقال: إنه سيجتهد في درس الأدب غير حافل بالغض من العرب، ولا مكترث بالنعي على الإسلام، وهذه الجملة لا تكاد تلتقي مع الواقع؛ فإن المؤلف احتفل بالغض من العرب منذ خلعوا الجاهلية من أعناقهم،

الدين والعلم

واكترث بالنعي على الإسلام، وألحف في هذا النعي حتى ركب من التعسف ما أفسد عليه علمه، وجعله يتشبث بقصص لا يسيغها المذهب الجديد. * الدين والعلم: قال المؤلف في (ص 14): "ولا معنيين بالملاءمة بينه ويين نتائج البحث العلمي والأدبي". يرمز المؤلف بهذا إلى ما يكتبه صراحة من أن الدين والعلم على خلاف، وهي كلمة يضاهي بها قول فئة تجادل بغير بينة، وتقضي على غير نظام. للعقل أحكام قاطعة، وهي ما تستند إلى يقينيات؛ كالمشاهدات والمتواترات، وللعقل أحكام غير قاطعة، وهي ما تستند إلى ظن، وقد رفع الله الظنون بعضها فوق بعض درجات، فمن الظن ما يقوى فيوشك أن يكون علماً، ومن الظن ما يضعف فيكون شكاً، وقوة الظن وضعفه يرجعان إلى تفاوت الأمارات والدلائل التي توجده وتربيه في النفس. وليس في قبيل العلم أو الظن الذي يكاد يكون علماً ما يعترض نصوص الدين في قليل أو كثير، وإذا وجد في الظنيات البعيدة عن حدود العلم ما يعترض قرآناً أو سنّة، آثرنا العمل على ما في القرآن والسنّة الثابتة، وتركنا أمثال هذه الظنون يموج بعضها في بعض، ويتقلب فيها أصحابها إلى يوم الفصل. وما تسميه هذه الفئة البائسة علماً، وتزعم أن الدين على خلافه، لا يخرج عن هذا الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً. ومن المكايد التي تنصبها هذه الفئة لاقتناص المستضعفين من الناس: أن يقولوا في غير خجل: إن الدين يتلقنه القلب، أما العلم فمورده العقل،

عثرة في طريق العقائد

والقلب غير العقل، ويمكن في زعمهم اطمئنان الإنسان إلى عقيدتين متناقضتين، يطمئن إلى إحداهما بقلبه؛ لأنها واردة من ناحية الدين، ويطمئن إلى أخراهما بعقله؛ لأنها انساقت إليه بالدلائل العلمية. ولا يلتبس على ذكي أو غبي أن مرمى حديثهم هذا إنما هو سلخ النفوس من كل ما أرشد إليه الدين من علوم إلهية أو أدبية أو اجتماعية. * عثرة في طريق العقائد: قال المؤلف في (ص 14): "فإن نحن حررنا أنفسنا إلى هذا الحد، فليس من شك في أننا سنصل ببحثنا العلمي إلى نتائج لم يصل إلى مثلها القدماء". وقع إلينا أن من مريدي (ديكارت) من توسل بمذهبه إلى استخراج نتائج على هوى ذوقه، ومنهم من اتخذه عثرة في طريق العقائد. ونزعة المؤلف ترمي إلى أنه يجري على هذا الأثر، ولا ينشد إلا هذه الغاية، وها هو ذا قد أسهب في كتابه ما شاء أن يسهب، ولم يضع يده على نتيجة، ما خلا عثرات يلقيها في سبيل العقائد، وأقوال يفصلها على قياس أهوائه، وموعدك بحث الفصول القادمة، وما أنت من بحث هذه الفصول ببعيد. * لا تصلح لمنهج ديكارت إلا البصيرة النافذة: قال المؤلف في (ص 14): "فأنت ترى أن منهج (ديكارت) هذا ليس خصباً في العلم والفلسفة والأدب فحسب، وإنما هو خصب في الأخلاق والحياة الاجتماعية أيضاً". إن منهج (ديكارت) كمثل منطق (أرسطو) لا يخرج العقل من غسق الجهالة أو الحيرة إلى وضح اليقين أو الرجحان، وإنما يرسم خطة التفكير،

منهج ديكارت لا يحمي المؤلف من المناقشة

والسير في هذه الخطة موكول إلى ذكاء الباحث وأمانته، فإذا كان عقل الباحث غير موزون، أو كان حظه من الإخلاص هضيماً، لا يروع الناس إلا أن يقول ما يستعيذ منه (ديكارت)، ويتهانف (¬1) منه الذين أوتوا الحكمة "الجديدة". وحسبك شاهداً على أن هذا المنهج لا تصلح له إلا البصيرة الخالصة النافذة: أن أحد دعاته، وهو (سبينوزا) قد ابتغاه وسيلة إلى نظرية "الحلول"، وهي نظرية ذاهبة في السخافة إلى مكان سحيق. * منهج ديكارت لا يحمي المؤلف من المناقشة: قال المؤلف في (ص 14): "وأنت ترى أني غير مسرف حين أطلب منذ الآن إلى الذين لا يستطيعون أن يبرؤوا من القديم، ويخلصوا من أغلال العواطف والأهواء، حين يقرؤون العلم، أو يكتبون فيه، ألا يقرؤوا هذه الفصول. فلن تفيدهم قراءتها إلا أن يكونوا أحراراً حقاً". إني غير مسرف حين أطلب منذ الآن إلى الذين يستطيعون أن ينقدوا الجديد، ويخلصوا من أغلال التقليد، حين يقرؤون العلم، أو يكتبون فيه، أن يقرؤوا تلك الفصول، فقد تفيدهم قراءتها؛ إذ يجدون فيها المثل الأجلى لتهافت الديكارتيين على ما يسميه المناطقة: تناقضاً أو تخيلاً. والوجه الذي يخرج منه مقلّدة هذا المنهج إلى ما يؤاخذهم عليه العلم، هو أن واضعه يجعل من أركانه عدم التسليم بشيء إلا أن يكون واضحاً لدى العقل، ومن هنا يمكن لغير المخلص، إنكار بعفالحقائق بزعم إبهامها، ¬

_ (¬1) التهانف: الضحك باستهزاء.

وعدم إيضاح أمرها، كما يمكنه تقرير شيء من الباطل بإيهام أنه فحصه، فكان حقيقة واضحة. فمنهج (ديكارت) لا يحمي المؤلف من أن يناقشه الأحرار حقاً، فيوضحوا حقيقة أنكرها، أو يفضحوا زوراً ادعى أنه حق لا غبار عليه.

مرآة الحياة الجاهلية في القرآن لا في الشعر الجاهلي

مرآة الحياة الجاهلية في القرآن لا في الشعر الجاهلي * دراسة الحياة الجاهلية: افتتح المؤلف هذا الفصل بمؤانسة الذين يكلفون بالأدب العربي القديم، فأخذ يؤامنهم من الخوف على الحياة الجاهلية، ويعدهم بأنه لا يقطع الطريق بينهم وبين هذه الحياة التي يجدون في درسها لذة علمية وفنية. ثم قال في (ص 15): "فأزعم أني سأستكشف لهم طريقاً جديدة واضحة، قصيرة سهلة، يصلون منها إلى هذه الحياة الجاهلية، أو بعبارة أصح: يصلون منها إلى حياة جاهلية لم يعرفوها، إلى حياة جاهلية قيمة مشرقة ممتعة، مخالفة كل المخالفة لهذه الحياة التي يجدونها في المطولات وغيرها مما ينسب إلى الشعراء الجاهليين". لا عجب أن يخيل إلى المؤلف أن الناس سيلاقون ذلك البحث بإعجاب وتقليد، ولا يلبثون أن يلتقطوا كل شعر جاهلي حواه كتاب لغة أو أدب، ويضربوا به ثبج هذا البحر، ولا عجب أن يرق لحال الذين يكلفون بالأدب العربي القديم، ويهدئ فزعهم على الحياة الجاهلية، بما يبادرهم به من أن كتابه لا ينوي محو أثرها وحرمانهم من التمتع بمشاهدتها. وإن تعجب، فعجب له يدعي في غير مزاح أنه استكشف للحياة الجاهلية طريقاً جديدة، ثم لا يكون منه إلا أن يذكر في بيان هذه الطريق الجديدة

القرآن لم يات مؤرخا ولا مادحا

كتاب الله الذي درسه أولو حكمة لم يأت المؤلف حتى الآن بأثر قيم يجعله شيئاً مذكورًا في حسابهم. ماذا صنع علماء العربية، ومن أفرغ قريحته في تفسير القرآن منهم؟ ألم يتفقه أولئك الحكماء في معاني الكتاب العزيز؟! وهل كانت الحياة الجاهلية المقتبسة من القرآن غير المعاني التي يفصلها هؤلاء العلماء عند تفسير آية تحكي شيئاً من شؤون أولئك الجاهليين، أو ترد عليهم بعض أقوالهم؟. فعلماء الشرق درسوا الحياة الجاهلية فيما صح من أشعارهم، وفيما يقصه القرآن من أقوالهم وأفعالهم. نعم، هم لم يعرفوا الحياة الجاهلية في الصورة التي سيلفقها المؤلف، ولا يريدون أن يعرفوها إلا أن تنقلب عقولهم شهوات، وعلومهم شكوكاً وتخرصات. * القرآن لم يات مؤرخاً ولا مادحاً: قال المؤلف في (ص 15): "فإذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية، فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير؛ لأني لا أثق بما ينسب إليهم، وإنما أسلك إليها طريقاً أخرى، وأدرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته، أدرسها في القرآن؛ فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي". احتوى القرآن نبذة من أنباء الجاهلية جاءت في سبيل النعي على بعض عقائدهم الضالة؛ كالشرك بالله، ومبتدعاتهم الخاسرة؛ كعبادة الأوثان، وعوائدهم الممقوتة؛ كوأد البنات، وآرائهم الجامدة؛ كقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 22]. وما جاء عنهم في هذا الصدد لا ينفي أن يكون فيهم ذكاء وبلاغة وحكمة

شعراء عصر النبوة

وشيء من مكارم الأخلاق؛ لأن القرآن لم ينزل لتمجيدهم، أو ليكون مرآة لحياتهم، وإنما هو كتاب نزل لتقويم العقائد، وتهذيب الأخلاق، وتنظيم الصلة بين الخالق والمخلوق، وإماطة الأذى عن طريق الحياة الاجتماعية الراقية. وهذا يستدعي توجهه إلى ما في الأمم من نقص ليكمله، أو فساد ليصلحه، وهذا يقتضي ألا يعرج على ما يدل أو يشعر بشيء من محاسن العرب إلا قليلاً. فالمقتصر في تاريخ العرب قبل الإسلام على القرآن إنما يأخذ صورة خالية من تلك المزايا التي لم يهملها القرآن إنكاراً لها، وإنما سكت عنها؛ لأنه لم يأت مؤرخاً ولا مادحاً. فدعوى أن القرآن يمثل "حياة جاهلية قيمة مشرقة" إنما يهجم عليها من لا يدري أن للمباحث العلمية وقاراً ترتجف أمامة كل لاغية. * شعراء عصر النبوة: قال المؤلف في (ص 16): "وأدرسها في شعر هؤلاء الشعراء الذين عاصروا النبي وجادلوه". الشعراء الذين شهدوا عصر النبوة أربع طوائف، منهم من كان يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يحثّ على محاربته، وهذه الطائفة صنفان: صنف استمر بحالته الجاهلية؛ كأبي عزة الجمحي، وصنف عاد إلى الإسلام؛ كعبد الله ابن الزبعرى. ومنهم من لم يسمع عنه شعر في هجاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو الإغراء عليه، وهذه الطائفة صنفان أيضاً: صنف لبس هدى الإسلام؛ كحسان بن ثابت، وصنف لم يعرف له إسلام؛ كالأعشى ميمون بن قيس.

الحياة الجاهلية في الشعر الأموي

وعبارة المؤلف صريحة في أنه يثق بشعر الذين جادلوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتتناول الصنفين الأولين فقط، ومقتضى هذا: أنه يعتمد في حياة الجاهلية شعر أبي عزة الجمحي، وعبد الله بن الزبعرى، ولا يعتمد فيها شعر حسان والأعشى، وهذا من تعسفاته التي لا يجد لها القارئ رائحة ولا طعمًا. ثم إن درسه الحياة الجاهلية في شعر الذين جاؤوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقضي عليه بأن يدرسها في شعر المخضرمين؛ كحسان، ولبيد، والنابغة الجعدي، بالأحرى. ولعل كلمة: "وجادلوه" إنما زينتها له العاطفة، ودفعتها على حين غفلة من الفكر، فأخذت في الفقرة موقعاً لا يليق بها. * الحياة الجاهلية في الشعر الأموي: قال المؤلف في (ص 16): "وفي شعر هؤلاء الشعراء الذين جاؤوا بعده، ولم تكن نفوسهم قد طابت عن الآراء والحياة التي ألفها آباؤهم قبل ظهور الإسلام، بل أدرسها في الشعر الأموي نفسه، فلست أعرف أمة من الأمم القديمة استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب، ولم تجدد فيه إلا بمقدار كالأمة العربية". من الشعر ما يشتمل على وصف أمر، أو حكاية واقعة، ومنه ما يعبّر عن معان في نفس الشاعر؛ كالحب والبغض، والسرور والحزن، والرغبة في الشيء والنفور منه. وله بعد هذا المعنى الذي تدل عليه الألفاظ بحسب وضعها معنى آخر يذهب إليه الناظر من طريق الاعتبار؛ كطرز تفكير الشاعر، ومبلغ جودة قريحته وقوة خياله، وسموّ بلاغته وآداب خطابه. وهذا القسم بسائر مدلولاته لا يستفاد من الشعر، إلا أن تكون نسبته لقائله صحيحة.

الشماخ عاصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يجادله!

وهنالك معنى ثالث، وهو أن الناظر في شعر كثير يعزى إلى شعراء أمة في عصر أو عصور، يمكنه أن يستفيد من مجموع هذه الأشعار معاني عامة، ويثبتها للأمة في جملتها، ومثَل هذا آداب خطابها، ومبلغ فصاحتها، وقوة تعقلها، وسعة تخيلها، وكيفية تنقلها من معنى إلى معنى، ومن غرض إلى غرض، إلى ما يشاكل هذا من تصرفها في الكلام بنحو الرقة والجزالة، والإيجاز والإطناب. وإذا كان الشعر الأموي إنما يمثل من حياة الجاهلية هذا المعنى الدائر حول آداب اللغة، فإن الشعر الذي ينسب للأعشى وزهير والنابغة وطرفة، ويدّعي المؤلف أو غيره انتحاله، يمثل هذا المعنى أيضاً بمقدار ما يمثله شعر الفرزدق وجرير، حيث كان مصطنعوه من شعراء العهد الأموي. * الشماخ عاصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يجادله! قال المؤلف في (ص 16): "فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي، أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلى طرفة وعنترة والشماخ وبشر بن أبي خازم". إذا جعل المؤلف موضوع كتابه البحث عن الشعر الجاهلي، فما خطبه يذكر الشماخ بن ضرار، وقد أدرك الإسلام، وشهد وقعة القادسية، وتوفي في غزوة موقان لعهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؟. فإن كان عذر المؤلف في التعرض للشماخ أنه نشأ في الجاهلية، أفسد عليه هذا الاعتذار تصريحه بأنه يدرس الحياة الجاهلية في شعر الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - وجادلوه، وشعر الشعراء الذين جاؤوا بعده، والشماخ عاصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه لم يجادله، ولا أحسب عدم مجادلته علة تقتضي رفع الثقة

نظرية: أن القرآن أصدق مرآة لحياة الجاهلية

بشعره إلا في رأي الفاسق عن أمر (ديكارت)، ومن ذا الذي يقبل الفرق بين الشماخ وأبي عزّة الجمحي، فلا يثق بما ينسب إلى الأول، ويضع ثقته فيما ينسب إلى الثاني؟! ولا ينفع المؤلف أن يوجد أشخاص يدعون بهذا الاسم ولهم شعر، فالشماخ بن ضرار هو صاحب الديوان، وهو المشهور في كتب الأدب والتراجم، وليس لغيره أثر في الأدب يهيئه إلى أن يذكر في جانب عنترة، وبشر بن أبي خازم. * نظرية: أن القرآن أصدق مرآة لحياة الجاهلية: أخذ المؤلف يصور نظرية أن القرآن أصدق مرآة لحياة الجاهلية، وجعل يورد أشياء ألفها الناس من قبل، وعلى الرغم من وضوحها، لم تستطع أن تعقد صلة بينها وبين هذه الصورة التي انساب فيها قلمه وطغى. ذكر المؤلف أن العرب أعجبوا بالقرآن؛ لأنهم فهموه، ووقفوا على أسراره، وإنما فهموه؛ لما بينهم وبينه من الصلة، وهي كونه كتاباً عربياً، وانصرف من هذا إلى أن في القرآن رداً على الوثنيين واليهود والنصارى والصابئة والمجوس، وأن لأصحاب هذه الملل والنحل فرقاً في بلاد العرب تمثلهم، وأن هذه الفرق هي التي كانت تعارض القرآن حين هاجم دياناتهم، وخرج من هذا إلى أن القرآن حيث يتحدث عن الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب النحل والديانات، إنما يتحدث عن العرب، وعن نحل وديانات ألفها العرب، وكان يلقى من المعارضة والتأييد بقدر ما لهذه النحل والديانات من السلطان على نفوس الناس، إذاً القرآن "يمثل لنا حياة دينية قوية تدعو أهلها إلى أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال"، وادّعى بعد هذا أن القرآن يمثل الأمة العربية في حياة عقلية قوية، إلى حياة سياسية

القرآن ليس جديدا كله على العرب

متصلة بالسياسة العامة، إلى حضارة راقية. ولنعد إلى مناقشته فيما عرضناه عليك ملخصاً، وإليك المناقشة: قال المؤلف في (ص 16): "قلت: إن القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية، وهذه القضية غريبة حين تسمعها، ولكنها بديهية حين تفكر فيها قليلاً". يعرف كل من قرأ القرآن، أو استمع إلى قراءته، أنه تحدث عن قوم جاهليين، فيأخذ في نفسه صورة لحياة أولئك القوم على قدر ما دلت عليه الآية صراحة أو إيماء، مطابقة أو اقتضاء. فإن أراد المؤلف أن في القرآن ما يدل على شيء من حياة الجاهلية، فالقضية بديهية، ولا حاجة إلى أن نفكر فيها قليلاً أو كثيراً، وإن قصد أن في القرآن حياة جاهلية مشرقة ممتعة، فالقضية خيالية لا يمتاز في إدراك سرها الأذكياء عن الأغبياء. * القرآن ليس جديداً كله على العرب: قال المؤلف في (ص 16): "وليس من اليسير، بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديداً كله على العرب، فلو كان كذلك، لما فهموه، ولا وعوه ولا آمن به بعضهم، ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر، إنما كان القرآن جديداً في أسلوبه، جديداً فيما يدعو إليه، جديداً فيما شرع للناس من دين وقانون، ولكنه كان كتاباً عربيًا، لغته هي اللغة الأدبية التي يصطنعها الناس في عصره". شأن هذه الفقرات أن توضع في كتاب يبعث به إلى قوم لا يدرون ما اللغة العربية، ولم يسمعوا من القرآن ولو آية، ومن المحتمل أيضاً أن تقال على وجه التنبيه للأطفال الذين أخذوا يترددون على المكاتب الأولية. أما أنها تلقى في كلية الآداب، أو تدرج في "نحو من البحث عن تاريخ الشعر

حديث القرآن عن الديانات

العربي جديد"، فذلك ما لا يجد له الذوق مساغاً. ثم إن قول المؤلف: "وليس من اليسير، بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن ... إلخ" يضع في ذهن القارئ أن أحداً من الناس قال: كان القرآن جديداً كله على العرب، وأن هذا القائل هو الذي وثب عليه المؤلف بالتكذيب، وطعنه بحجة أنه لو كان كذلك، لما فهموه، ولا وعوه، ولم يقل أحد: إن القرآن جديد كله على العرب، فإن كان المؤلف يريد أن يوهم طلابه في الجامعة أنه القوي على دحض أقوال القدماء، فخير له من هذا أن يريهم الطعن في أقوال حقيقية، وآراء لا تزال قائمة. * حديث القرآن عن الديانات: ذكر المؤلف أن القرآن يرد على الوثنيين واليهود والنصارى والصابئة والمجوس. ثم قال في (ص 17): "وهو لا يرد على يهود فلسطين، ولا على نصارى الروم ومجوس الفرس وصابئة الجزيرة وحدهم، وإنما يرد على فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد العربية نفسها". يضع المؤلف بعض الكلم في غير مواضعها، فتكبو بها الجملة في لبس أو تدافع، كما قال في هذه الجمل: إن القرآن لا يرد على يهود فلسطين ونصارى الروم وصابئة الجزيرة وحدهم، وهذه الفقرة تقتضي أنه يرد عليهم، ولا يخصهم بالرد، بل يتناول به غيرهم. ثم قال: وإنما يرد على فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد العربية، وهذه الفقرة المصدرة بأداة الاختصاص تدل على أن الرد مقصور على الفرق التي كانت تمثلهم في البلاد العربية. والحقيقة أن القرآن إذا تحدث عن أهل ملة، فحديثه عائد إلى ما يتقلدونه

القرآن برهان هداية وسعادة

من عقائد أو شعائر، وسواء عليه أكان الظاهرون بهذه التقاليد عرباً، أو غير عرب، وإذا ورد بعض الآيات خطابًا لفريق من العرب، فلأمر اقتضى خطابهم؛ كأن يعترضوا الدعوة بأذى، أو يجادلوا على غير بينة. * القرآن برهان هداية وسعادة: قال المؤلف في (ص 17): "ولولا ذلك، لما كانت له قيمة ولا خطر، ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه، وضحوا في سبيل تأييده بالأموال والحياة". لا يتحامى المؤلف من أن ينشر في أذهان طلابه بالجامعة ظنوناً غير صادقة، فيفرض خصومة ناشبة، ويمثل قلمه في موقف الهجوم والطعن. يخيل إلى قارئ هذا البحث أن الناس لا يفقهون أن في بلاد العرب فرَقًا من اليهود والنصارى والوثنيين داخلون فيما يتحدث به القرآن عن أصحاب هذه الديانات، حتى يحسب أن المؤلف انفرد بمعرفة هذه الفرق حيث أخذ يستدل على وجودها بمثل قوله: ولولا ذلك، لما كانت له قيمة ولا خطر، ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه. لماذا لا تكون للقرآن قيمة إلا حيث يرد على فرق في البلاد العربية تمثل هذه النحل والديانات؟ أفلا تكون له قيمة لو اتفق أن الأمة العربية كلها من الدهريين الذين يقولون -فيما ينبئنا القرآن-: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. فيدعو أصحاب هذه النحلة، ثم يتعرض لإصلاح ما في غيرها من النحل والديانات التي لا يوجد في بلاد العرب من يمثلها؟ بلى! ولكن المؤلف يريد أن يناجي الذين في قلوبهم مرض؛ بأن ليس للقرآن قيمة ولا شأن إلا

الهجوم على الإسلام تحت ستار البحث العلمي

حيث يرد على الفرق التي تقيم في البلاد العربية. وما معنى أن مؤيديه لم يحفلوا به إلا لأنه رد على فرق في البلاد العربية تمثل هذه النحل والديانات؟. أليس من الممكن، بل من اليسير أن يحفلوا به لأنهم أولو فطر سليمة، وبصائر نيّرة، والقرآن نور يمشي بين أيدي أوليائه؟ ولماذا حفلت به الأمم غير العربية؛ كالفرس والترك والهنود والبربر، وقسم عظيم من أوربّا؟ فهل احتفلوا به، وجاهدوا في سبيله لأنه يرد على فرق في البلاد العربية، أو فرق في أقطارهم تمثل هذه النحل والديانات؟ كلا! إنما يحفل بالقرآن من يحفل به؛ لأنه برهان هداية وسعادة، ولأن في حججه ما يقف في لهاة المعاند للحق "لا يرتقي صدراً منها ولا يرد". * الهجوم على الإسلام تحت ستار البحث العلمي: قال المؤلف في (ص 17): "أفترى أحداً يحفل بي لو أني أخذت أهاجم البوذية أو غيرها من هذه الديانات التي لا يدينها أحد في مصر؟ ولكني أغيظ النصارى حين أهاجم النصرانية، وأهيج اليهود حين أهاجم اليهودية، وأُحفظ المسلمين حين أهاجم الإسلام. وأنا لا أكاد أعرض لواحد من هذه الأديان حتى أجد مقاومة الأفراد، ثم الجماعات، ثم مقاومة الدولة نفسها: النيابة، والقضاء". يقتضب المؤلف هذه الجمل وأمثالها ليذروها كالرماد في عيون السذّج، ويخيل إليهم أنه لم يهاجم الإسلام بأشد ما يهاجم به دين تعتنقه أمة ذات عزّة وحجة وبيان.

القرآن تحدث عن العرب وغيرهم

هل يتربص فرصة تمكنه من أن يطعن في الإسلام بأكثر مما طعن فيه اليوم؟ وهل فوق تكذيب القرآن، وقذف مقام النبوة بالاحتيال على عقول العرب هجوم؟! وهل بعد الغمز في نسب الرسول الأعظم شيء يخوض قلوب المسلمين بالحفيظة والامتعاض؟!. قد اتخذ اسم البحث العلمي كستار يعمل من ورائه ما لا يسوّغه قانون الاجتماع، وسدله على جانب من البحث، ويقي جانب آخر مكشوفًا حتى عجز رهطه أن يمدوا عليه طرفاً من ذلك الستار المستعار. وستراه كيف يهاجم الإسلام على طريق يسميه بحثاً وما هو ببحث، وإنما هو الطعن الذي يدع في النفوس ألمًا، ولا تجد له في العلم أو الأدب أثراً. * القرآن تحدث عن العرب وغيرهم: قال المؤلف في (ص 18): "فأنت ترى أن القرآن حين يتحدث عن الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب النحل والديانات إنما يتحدث عن العرب، وعن نحل وديانات ألفها العرب". تحدث القرآن عن أمم من غير العرب؛ كالقبط، ويهود مصر وفلسطين، وذكر قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وقد تعرض لنحل هؤلاء الأقوام، وقصّ علينا جدالهم لرسلهم، ومحاجّة الرسل -عليهم السلام - لتلك الأمم التي ليست من العرب في قبيل. فالقرآن لا يراد منه إصلاح حال العرب وحدهم، وليس من نحلة باطلة أو عقيدة مبتدعة إلا وفي أصوله ما يمحو أثرها، ويقطع دابرها. ويكفي الكتاب الذي يخاطب البشر جميعاً أن يتحدث عن أصول الديانات والنحل بحديث يعرف به حال ما يشتق منها، أو يتمثل في بعض صورها.

الشعر الديني في الحياة الجاهلية

* الشعر الديني في الحياة الجاهلية: قال المؤلف في (ص 18): "فأما هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين، فيظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة، أو كالبريئة من الشعور الديني القوي العاطفة الدينية المسلّطة على النفس، والمسيطرة على الحياة العملية، وإلا فأين تجد شيئاً من هذا في شعر امرئ القيس أو عنترة؟! أو ليس عجيباً أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين؟! ". هذه الشبهة مما استلبه المؤلف من مقال (مرغليوث)؛ حيث يقول: "تجد في هذه الأشعار ما يبعث على الدهشة، فشعراء كل أمة يشرحون دينهم وعقائدهم شرحًا واضحاً، والمخطوطات العربية مملوءة بذلك، ففي كل مخطوطة نجد اسم معبود أو أكثر، وأشياء تتعلق بعباداتهم ... وقلّما نعثر في هذه الأشعار على شيء يتعلق بالدين إلا نادراً". وقد تعرض جرجي زيدان في "تاريخ آداب اللغة العربية" (¬1) إلى هذه الشبهة وما يدفعها، فقال: "أما العرب، فيخالفون العبرانيين من حيث الشعر الديني؛ لأنه لم يكن عندهم في الجاهلية كما كان عند العبرانيين، ولا يعقل أنهم خالفوا إخوانهم فيه، ولا بد أنهم نظموا الأشعار، وخاطبوا بها هبل واللات والعزّى وغيرها، واستعطفوها، وصلّوا إليها، وتخشعوا لها، ولكن منظوماتهم في هذا الموضوع ضاعت في ثنايا الأجيال؛ لعدم تدوينها، ولاشتغالهم عنها بالحماسة والفخر بسبب الحروب التي قامت بينهم قبل الإسلام. فلما جاء الإسلام، أغضى الرواة عنها؛ لأنها وثنية، والإِسلام يمحو ما كان قبله". ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 56).

دلالة القرآن على العرب

وقال الأستاذ (أدور براونلش) في ردّه (¬1) على (مرغليوث): "لاحظ العلماء أن الشعر الجاهلي قلّما دل على شيء من دين العرب قبل الإسلام، وقد ذكر بعضهم في سبب ذلك: أن علماء المسلمين يرفضون من الشعر ما يخالف الدين الإسلامي، ويروون سائره، وهذا مما يثق الإنسان بوقوعه". وخلاصة الجواب: أن معظم شعر العرب كان في الفخر والحماسة، وأن المسلمين صرفوا عنايتهم عن رواية الشعر الذي يمثل ديناً غير الإسلام، ولا سيما دين اللات والعرى، وعلى الرغم من هذا كله، وصلت إلينا بقية من الشعر الذي يحمل شيئاً من الروح الديني، تجده في كتاب "الأصنام" لابن الكلبي وغيره. * دلالة القرآن على العرب: قال المؤلف في (ص 19): "ولكن القرآن لا يمثل الحياة الدينية وحدها، وإنما يمثل شيئاً آخر غيرها لا نجدها في هذا الشعر الجاهلي، يمثل حياة عقلية قوية، يمثل قدرة على الجدال والخصام أنفق القرآن في جهادها حظأ عظيماً، أليس القرآن قد وصف أولئك الذين كانوا يجادلون النبي بقوة الجدال والقدرة على الخصام والشدة في المحاورة؟ ". دلالة القرآن على ما عند العرب من دهاء وبراعة في الكلام مما تعلمه المؤلف من القدماء، ثم انقلب يرميهم بسبة الجهل به، وهذا الجاحظ يقول في كتاب "البيان" (¬2): "وذكر الله تعالى حال قريش في بلاغة المنطق ورجاحة ¬

_ (¬1) "مجلة الأدبيات الشرقية" عدد أكتوبر 1926 م. (¬2) (ج 1 ص 5).

الجاهليون المجادلون

الأحلام وصحة العقول، وذكر العرب وما فيها من الدهاء والنكراء والمكر، ومن بلاغة الألسنة واللدد عند الخصومة، فقال: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19]. ثم ذكر خلابة ألسنتهم واستمالتهم الأسماع بحسن منطقهم، فقال: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4]. ثم قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204]. مِع قوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة: 205]. فهذا مما يرفع الثقة بزعم المؤلف أنه صاحب نظرية "أن في القرآن مرآة للحياة الجاهلية". * الجاهليون المجادلون: قال المؤلف في (ص 25): "وفيما كانوا يجادلون ويخاصمون ويحاصرون؟ في الدين، وفيما يتصل بالدين في هذه المسائل المعضلة التي ينفق الفلاسفة فيها حياتهم دون أن يوفقوا إلى حلها: في البعث، في الخلق، في إمكان الاتصال بين الله والناس، في المعجزة، وما إلى ذلك". تظهر قوة العقل من ثلاث جهات: أولها: طريق الجدل في الآراء العلمية المستندة إلى التجارب، أو قياس النظير على النظير. ثانيها: طريق الجدل في الآراء المستندة إلى حجج العقل؛ كالبحث فيما وراء الطبيعة. ثالثها: الحديث في شؤون الأفراد والجماعات.

ونحن نعلم أن ذكاء الناس ونبوغهم يختلف في هذه الطرق اختلافاً كثيراً، فمنهم من يجيدون النظر في الطريق الأول أو الثاني، حتى إذا أخذوا بالحديث في الطريق الثالث، كانوا بمنزلة قوم لا يبصرون، ومنهم من تظهر ألْمعيتهم في الطريق الثالث، ولا يكادون يصرفون أنظارهم في الطريق الأول أو الثاني إلا رأيتهم كالأنعام أو أضلّ سبيلاً. والقرآن يصف أولئك الجاهليين بشيء من العلم بهذه الحياة، فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7]. وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204]. وهذا العلم يرجع إلى بعض شؤون الأفراد والجماعات، وما دخل تحت تجاربهم من السنن الكونية. ويصفهم -مع هذا- بسعة العارضة، واللدد في الخصومة اللذين هما أثر من آثار المهارة في هذا الفن من العلم، وقد يستحق هذا الوصف من يأخذ الشُّبه التي تعرض لمن له حظ من النباهة الفطرية، ويلقيها في زخرف من فصاحة، وحلية من بيان، حتى إذا طلعت الحجة، ذهب زخرف الفصاحة وحلية البيان، وبقي قصر النظر، أو خطل الرأي مكشوفاً بارزًا. وصف القرآن أولئك الجاهليين المجادلين بشيء من العلم بهذه الحياة، والمهارة في فن الجدل، ونعى عليهم الجهل بأمر البعث والخلق، والصلة بين الخالق والمخلوق، وضعف بصيرتهم عن إدراك المعجزة، وما إلى ذلك من مذاهب مطموسة الأثر، وآراء لا منشأ لها إلا الأذواق المعتلة والشهوات الطاغية، ولمثل هذا تجده لا يصفهم بخلابة البيان، أو العلم بظاهر من هذه الحياة، إلا نقم عليهم خطل الآراء فيما لا يقع تحت أبصارهم أو تجاربهم، ونعى عليهم سفهها في تزيين بعض قبائحهم،

منزلة الشعر الجاهلي

وضعفها عن تقويم أهوائهم كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]. وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة: 204 - 205]. وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4]. ففي الجاهليين المجادلين ذكاء، وفيهم حذق في صناعة البيان، ولكنهم لم يتجاوزوا بهما ظاهرًا من هذه الحياة. * منزلة الشعر الجاهلي: قال المؤلف في (ص 25): "أفتظن قوماً يجادلون في هذه الأشياء جدالاً يصفه القرآن بالقوة، ويشهد لأصحابه بالمهارة، أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة بحيث يمثلهم لنا هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين؟! كلا! لم يكونوا جهالاً ولا أغبياء، ولا غلاظاً ولا أصحاب حياة خشنة جافية، وإنما كانوا أصحاب علم وذكاء، وأصحاب عواطف رقيقة، وعيش فيه لين ونعمة". لولا أن الشعر الجاهلي من الذاع الذي يعترض القارئ في كل سبيل، لقلنا: إن المؤلف تصدى للبحث فيه، ولم يستمع إلى شيء منه سوى قطع ذات نسج مرذول، ومعان مرمية على قارعة الطريق، ولاغترفنا من موارده الصافية، وأدرنا على قراء هذه الصحائف كأساً دهاقاً. في الشعر الجاهلي معان سامية، وحكمة صادقة، ومن يقرؤه خالي

الذهن من كل ما قيل فيه، يقضي العجب من ذكاء منشئيه، وسعة خيالهم، وإقصائهم النظر في تأليف المعاني، والتصرف في فنون الكلام. يبخس المؤلف قيمة الشعر الجاهلي، ويريد أن يجعله مثال الجهل والغباوة والخشونة، وهذا جرجي زيدان، وهو عربي لا يقل في تذوق الشعر عن هذا المؤلف، قد عرف كيف يستدل بهذا الشعر على أن العرب لم يكونوا أصحاب جهالة وهمجية، فقال في "تاريخ آداب اللغة العربية" (¬1): "قد يتبادر إلى الذهن أن أولئك البدو كانوا أهل جهالة وهمجية؛ لبعدهم عن المدن، وانقطاعهم للغزو والحرب، ولكن يظهر مما وصل إلينا من أخبارهم: أنهم كانوا كبار العقول، أهل ذكاء ونباهة، واختبار وحنكة، وأكثر معارفهم من ثمار قرائحهم، وهي تدل على صفاء أذهانهم، وصدق نظرهم في الطبيعة وأحوال الإنسان مما لا يقل عن نظر أعظم الفلاسفة، فإن قول زهير بن أبي سلمى في معلقته: "رأيت المنايا خبط عشواء، إلى قوله: "وإن خالها تخفى على الناس تعلم" لا يقل شيئاً على أحكام أكابر الفلاسفة". وإن كنت ترغب في أن تنظر إلى العاطفة كيف تتقلب بالأفكار والأذواق تقلّب الرياح بخفيف الزنة يقع في مهبّها، فهذا المؤلف يقول: إن الجاهليين أرقى عقولًا، وأوسع علماً، وأرق عاطفة، وألين عيشًا من أن يمثلهم هذا الشعر الجاهلي، وذلك الدكتور (مرغليوث) يرى أن هذا الشعر أحكم صنعة، وأعلى بلاغة من أن يقوله أولئك الرعاع؛ حيث قال في المقال المشار إليه آنفاً: "فهل من المعقول أن البدو الجهلاء غير المتمدنين يكون لهم شعر بهذه الدرجة من البلاغة والرقي؟! ". ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 29).

طبقة المستنيرين وطبقة العامة

والحقيقة أن هذا الشعر لم يكن بأدنى من منزلة الجاهليين في العلم والذكاء والعاطفة ولين العيش كما يقول المؤلف، ولم يكن بالمنزلة التي تقصر عنها قرائحهم، ولا تبلغها فصاحتهم كما يقول (مرغليوث)، بل هو الشعر الملائم لحالتهم من كل ناحية. وقد رد الأستاذ (أدور براونلش) على (مرغليوث) في هذا المعنى، وسنسوق وجوه رده عليه في غير هذا المقام. * طبقة المستنيرين وطبقة العامة: بعد أن احتاط المؤلف في وصف الجاهليين بالعلم والذكاء والعواطف والعيش اللين، ونبه القراء على أن هذا الوصف لا يقع على جميعهم، وأنهم كغيرهم من الأمم القديمة، وكثير من الأمم الحديثة ينقسمون إلى طبقتين: قال في (ص 20) مبيناً هاتين الطبقتين: "طبقة المستنيرين الذين يمتازون بالثروة والجاه والذكاء والعلم، وطبقة العامة الذين لا يكاد يكون لهم من هذا كله حظ". أتى المؤلف في بيان الاستنارة على أربع مزايا: الثروة، والجاه، والذكاء، والعلم، وقد يقف القارئ في فهم الاستنارة ولا يدري: أهي هذه الأمور الأربعة؛ بحيث لا استنارة إلا لذي ثروة وجاه وذكاء وعلم؟ ومقتضى هذا: أن العالم الذكي إذا لم تكن له ثروة، نزل إلى طبقة العامة، وحُرم الدخول في طبقة المستنيربن، أم الاستنارة محصورة في هذه المزايا، فمن تجرد منها كان من طبقة العامة، ومن حاز قسطاً منها كان من طبقة المستنيرين؟ ومقتضى هذا التأويل: أن صاحب الثروة والجاه القائم عليها مستنير، ولو هوى به الجهل والغباوة إلى درك سحيق. والصواب: أن الاستنارة إنما هي

ليس في القرآن ما يخالف العلم الصحيح

العلم وحصافة العقل، أما الثروة والجاه، فلا يدخلان في حقيقتها، ولو أتياها على منهج (ديكارت)، وطرق لهما (مرغليوث) أبوابها باليمين والشمال. * ليس في القرآن ما يخالف العلم الصحيح: قال المؤلف في (ص 20): "والقرآن يحدثنا عن جفوة الأعراب وغلظتهم، وإمعانهم في الكفر والنفاق، وقلة حظهم من العاطفة الرقيقة التي تحمل على الإيمان والتدين. أليس هو الذي يقول: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [التوبة: 97]؟ ". يشير المؤلف في هذه الفقرة إلى المكيدة التي نصبها رهطه لهدم الإيمان وشرائع الإسلام؛ حيث يزعمون أن الإيمان والدين تتلقاه العواطف، وأن العلم تتناوله العقول، ويقولون دون أن تحمر وجوههم خجلًا: إن الواحد منهم يحمل اعتقادين متناقضين: أحدهما ديني تعتنقه العاطفة. وثانيهما علمي ينضوي تحت لواء العقل، يقولون هذا وهم لا يريدون إلا جحود حقائق الدين ومحو أثره من النفوس جملة. ألا إن الدين الذي يخاطب العقل، ويدعو خصومه إلى تحكيم العقل والعلم، ويرفع شأن العقل والعلم، لا يقبل ذلك التأويل في حال، ولا ترضى عقائده وأحكامه وآدابه إلا أن تأخذ أرسخ مكانة في العقل. اقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: [فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ] [الحشر: 2]. وقوله: [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ] [البقرة: 179]. وقوله: [وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ] [الملك: 10]. وقوله: [لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] [البقرة: 73]. وقوله: [قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] [البقرة: 111].

العرب في عهد النبوة

وقوله: [وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ] [الأنعام: 83]. وقوله: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ] [الحج: 3]. وقوله: [إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا] [النجم: 28]. وقوله: [وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] [الإسراء: 36]. هذا ما يصرح به القرآن، وهذا ما يعتقده المسلمون قاطبة، وهذا ما تشهد به العقول التي تميز العلم من الظن، وتفرق بين الحق والباطل، فمن سمّى نفسه مسلمًا، ثم قال: إن في القرآن ما يخالف العلم الصحيح، فقد غمس لسانه في حمأة النفاق؛ لكي يستطيع العبث بالدين، واختلاس العقيدة السليمة من قلوب أبناء المسلمين وهم لا يشعرون. * العرب في عهد النبوة: قال المؤلف في (ص 21): "فالقرآن إذاً يمثل الأمة العربية على أنها كانت كغيرها من الأمم القديمة، فيها الممتازون المستنيرون الذين كان النبي يجادلهم ويجاهدهم، وفيها العامة الذين لم يكن لهم حظ من استنارة أو امتياز، والذين كانوا موضوع النزل بين النبي وخصومه، والذين كان النبي يتألفهم بالمال أحياناً". قال المؤلف آنفاً: إن المستنيرين هم أصحاب الثروة والجاه والعلم والذكاء، ثم عاد إلى التقسيم، وجعل مناطه الأمة العربية، ووصف المستنيرين بأنهم الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجادلهم ويجاهدهم، وجعل العامة هم الذين كانوا موضع النزاع بين النبي - عليه الصلاة والسلام - وخصومه، والذين كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يتألفهم بالمال أحياناً. تضع هذه الفقرات في نفوس القراء أن النبي - صلوات الله عليه - كان

في جانب، وأن أولئك المستنيرين من العرب كانوا في جانب آخر، وأن العامة كانوا ما بينهما يغالبهم النبي - عليه السلام - في طائفة منهم، فيأخذهم إلى الإسلام، ويغالبونه في أخرى، فيضعونها في حزبهم. ولأمر ما رسم المؤلف للعرب في عهد النبوة هذه الصورة المختزلة. والواقع أن العرب كانوا -لعهد نزول القرآن- على فريقين: الأول: فريق استحب جاهليته على الإسلام، وهؤلاء طبقتان: طبقة كانت على مهارة في تصريف الكلام، والتقلب في فنون الجدل والخصام، وطبقة لا تفهم من القول إلا صريحاً، ولا تعي من الحجج إلا ما كان عليه آباؤها الأولون. والآخر: فريق ابتغى الإسلام ديناً، وهؤلاء طبقتان أيضاً: طبقة ذات عقول راجحة، وأخرى ذات فطر سليمة، ولكنها دون الطبقة الأولى في قوة الحجة والخبرة بدقائق الأشياء. والقرآن كما يمثل الطبقتين الأوليين، يمثل هاتين الطبقتين أيضاً في مثل قوله: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ] [النساء: 83]. ولا أراني في حاجة إلى أن أسوق أسماء بعض الرجال الذين عرفوا باستنارة العقل لذلك العهد، واعتنقوا الإسلام بسريرة نقية، وكان لهم في حمايته والدعوة إلى سبيله مواقف مشهودة، وسيرة أصفى من طلعة القمر ليس دونها سحاب. يحشر المؤلف قلمه في الحديث عن تاريخ عهد النبوة، فيمشي في غير طريق. ولا ندري: أقصا هذا الانحراف، أم هو ناشئ عن عدم درس

العرب قبل الإسلام

ذلك التاريخ بروية وأناة؟ يصف المؤلف العامة بأنهم الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألفهم بالمال، والمعروف في تاريخ ذلك العهد أنه - عليه الصلاة والسلام - يتألف الفريق الذين يسميهم المؤلف: مستنيرين وممتازين، ومن هؤلاء أبو سفيان الذي يلقبه المؤلف بزعيم قريش وحازمها، وابنه معاوية الذي أصبح مثلاً لنباهة الرأي والدهاء في السياسة، وفي "صحيح البخاري": "بعث علي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذهيبة، فقسمها بين أربعة: الأقرع بن حابس، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الطائي، وعلقمة بن علاثة العامري، فغضبت قريش والأنصار، قالوا: يعطي صناديد أهل نجد، ويدعنا؟! قال - صلى الله عليه وسلم -: إنما أتألفهم". ولم يقل أحد من أهل العلم: إن التأليف بالمال كان لطبقة العامة الذين لم يكن النبي- عليه الصلاة والسلام - يجادلهم ويجاهدهم، بل ترى بعضهم يجعل المؤلفة قلوبهم أشراف العرب كما قال صاحب "الكشاف": "هم أشراف من العرب كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستألفهم على أن يسلموا". ومنهم من يجعلهم طائفتين كما قال الشهاب القسطلاني في "شرح الجامع الصحيح": "هم قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة، فيستألف قلوبهم، أو أشراف يرقب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم". * العرب قبل الإسلام: قال المؤلف في (ص 21): "والقرآن لا يمثل الأمة العربية متدينة مستنيرة فحسب، بل هو يعطينا منها صورة أخرى يدهش لها الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في درس الحياة العربية قبل الإسلام، فهم يعتقدون أن العرب كانوا قبل الإسلام أمة معتزلة تعيش في صحرائها، لا تعرف العالم

الخارجي، ولا يعرفها العالم الخارجي". ادّعى المؤلف -فيما سلف- أنه استنبط من القرآن شيئاً خفي على القدماء، وهو أن للأمة العربية ديناً، وفيها طبقة مستنيرة، وادّعى في هذا الموضع: أنه انتزع من القرآن صورة أخرى، ووصفها بأنها ستدهش الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في درس الحياة الجاهلية، وسيعرض هذه الصورة المدهشة في قوله: إن العرب قبل الإسلام أصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة، متأثرة بها، مؤثرة فيها. ابتدأ في تقرير هذه النظرية بدعوى أن الذين تعودوا أن يعتمدوا على الشعر الجاهلي، يعتقدون أن العرب في جاهليتهم كانوا في عزلة وانقطاع عن العالم الخارجي، لا يسمعون عنه خبراً، ولا يعرف لهم شأناً. وهل يصدّق أحد أن من يدرسون الشعر الجاهلي يتصورون العرب أمة معتزلة في صحراء من الأرض، لا تعرف عما وراء حدودها من أحوال الأمم شيئاً؟ ومن أين يأتيهم هذا التصور، وهم يجدون في هذا الشعر الجاهلي والأخبار المتصلة به ما يحدثهم بأن من الشعراء -وهم زعماء القبائل- من كانوا يسافرون إلى الشام، وإلى اليمن، بل إلى فارس، وإلى القسطنطينية، تجد هذا في شعر عمرو بن كلثوم، وامرئ القيس، وأمية بن أبي الصلت، والأعشى ميمون بن قيس. هم يعرفون أشياء تبرئهم من أن يتصوروا العرب أمة ملقاة في فلاة من الأرض، ألم يدرسوا قول عمرو بن كلثوم: وكأس قد شربت ببعلبكّ ... وأخرى في دمشق "اللّذ تلينا" (¬1) ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. وفي الديوان: "وقاصرينا".

أو لم يدرسوا قول امرئ القيس: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له: لا تبك عيناك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا أو لم يقرؤوا أن أبا الصلت، أو أمية بن أبي الصلت رحل إلى سيف ابن ذي يزن ليهنئه بالانتصار على الحبشة، وأنشد بين يديه قصيدته التي يقول فيها: فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً ... في رأس غمدان داراً منك محلالاً وقال فيها: من مثل كسرى وسابور الجنود له ... أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا بلى! وقرؤوا أن الأعشى كان "يفد على ملوك فارس، ولذلك كثرت الفارسية في شعره" (¬1). وقرؤوا أن النعمان بن المنذر وفد على كسرى بطائفة من فصحاء العرب: أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، والحارث بن عباد البكري، وعمرو بن الشريد، وخالد بن جعفر، وعلقمة بن علاثة، وقيس ابن مسعود، وعامر بن الطفيل، وعمرو بن معدي كرب، والحارث بن ظالم. وقرؤوا أن قابوس بن المنذر الأكبر بعث إلى كسرى بن هرمز بعديّ ابن زيد وإخوته، فكانوا في كتّابه يترجمون. وإذا كان هذا الشعر والأخبار المتصلة به من قبيل المصطنع في نظر المؤلف، فذلك بحث آخر لا يعنيه المؤلف في هذا المقام، فهم على أي حال لا يتصورون العرب في ذلك الانقطاع البعيد كما يدّعي عليهم، ولا يستطيعون ¬

_ (¬1) "الشعر والشعراء" لابن قتيبة (ص 137).

الشعر الإسلامي أرقى من الشعر الجاهلي

أن يتصوروهم في هذا الاتصال الشديد الذي يحاول تخييله إلى قراء كتابه. * الشعر الإسلامي أرقى من الشعر الجاهلي: قال المؤلف في (ص 21): "وهم يبنون على هذا قضايا ونظريات، فهم يقولون: إن الشعر الجاهلي لم يتأثر بهذه المؤثرات الخارجية التي أثرت في الشعر الإسلامي، لم يتأثر بحضارة الفرس والروم، وأنىّ له ذلك؟! لقد كان يقال في صحراء لا صلة بينها وبين الأمم المتحضرة". كأنَّ المؤلف ينكر أن يكون الشعر في الإسلام أرقى من الشعر زمن الجاهلية، ويحاول جحود المزية التي امتاز بها شعر الإسلاميين؛ من كثرة إبداع المعاني، والذهاب في الخيال إلى ما تنجذب له الألباب سحراً، وتخفق به الأفئدة طرباً، تلك المزية التي أحرزها الشعر الإسلامي لأسباب من أشدها أثراً هذه المدنية التي انقلب إليها العرب بفضل أدب الإسلام، واختلاطهم بالأمم، وشهود الحواضر حيث يرحلون وحيث يقيمون. وقد كتب علماء الأدب في وجوه ارتقاء الشعر وأسباب إحكامه وإبداعه، فأجادوا النظر، وأمتعوا البحث. وإليك صفوة ما كتبوا؛ حتى يستبين لك الفصل بين الشعر الجاهلي، والشعر الذي أنشئ في الإسلام. يهيئ الناشئ إلى إجادة النظم أن يعيش في بقعة جيدة الهواء، أنيقة المناظر، وأن يشب بين قوم انتبذوا في الفصاحة مكاناً قصيًا، "فقلما برع في المعاني من لم تنشئه بقعة فاضلة، ولا في الألفاظ من لم ينشأ بين أمة فصيحة" (¬1). ¬

_ (¬1) "المناهج الأدبية" لحازم.

ثم هو لا يبرع في هذه الصناعة إلا أن تكون له قوة حافظة، وقوة مائزة، وقوة صانعة. بالحافظة القوية يجد في نفسه صوراً كثيرة منتظمة واضحة، فيتأتى له أن يتناول منها ما شاء بأقل ملاحظة؛ "فإن المنتظم الخيالات كالناظم الذي تكون عنده أنماط الجواهر مجزأة محفوظة المواضع عنده، فإذا أراد أي حجر شاء، على أي مقدار شاء، عمد إلى الموضع الذي يعلمه فيه، فأخذه منه ونظمه" (¬1). وبالقوة المائزة يتخير ما يلائم الغرض من تلك الصور والخيالات، أو من الألفاظ والأساليب. وبالقوة الصانعة يؤلّف ما تخيره من الصور المناسبة والألفاظ اللائقة، حتى تجيء المعاني آخذًا بعضها برقاب بعض، وتجيء الألفاظ والأساليب في وضاءة وأحسن تقويم. تختلف طبقات الشعراء على قدر اختلاف حظوظهم في هذه المهيئات والأسباب، فمن رزق جميعها، كان بالمنزلة العليا، ومن قل نصيبه فيها، وجدته على قدر ما فاته منها، فإما في الوسط، وإما في الدرجة الدنيا. وإذا كانت هذه أصول إبدل الشعر، وارتفاع شأن الشاعر، فلنعقد موازنة بين العرب في الجاهلية، والعرب بعد الإسلام. لا نتحدث عن المناخ من حيث هواؤه ومناظره الطبيعية؛ فإن مناخ العرب في الجاهلية هو مناخهم بعد الإسلام، أو قريب منه، ولا نتحدث ¬

_ (¬1) "المناهج الأدبية".

عن القوة الحافظة أو المائزة أو الصانعة، فتلك مزايا يتداولها الفريقان، فلا فضل فيها لجاهلي على إسلامي، ولا لإسلامي على جاهلي إلا أن يشاء الله. وإنما نلقي النظر في هذه الموازنة على أمرين يتفاضل بهما شعر الأفراد والطبقات، وهما: غزارة مادة الفصاحة، وكثرة ما يقع عليه نظر الناشئ من الصور الغريبة. إذا كان الشعراء يتفاضلون بما يملكون من مواد الفصاحة، فإن اللغة العربية أخذت بالإسلام هيئة غير هيئتها الأولى، واتسع نطاقها لأسباب شديدة الأثر، ومن هذه الأسباب ما تراه في القرآن من نظم رائع وأسلوب حكيم، فالقرآن نهج في إرشاده ومواعظه أساليب لا يعهدها الفصحاء من قبل، وهذه حقيقة لا تستدعي إقامة شاهد، فقد أقر بها المؤلف نفسه في قوله: "إنما كان القرآن جديداً في أسلوبه"، وممن خاض هذا البحث، ونبه على تأثير القرآن والحديث النبويّ في رقي الشعر: العلامة ابن خلدون في "مقدمته" (¬1)، فسدد النظر، وأصاب المرمى. ومما يدخل في هذه الأسباب: أن اجتماع العرب على اختلاف قبائلهم في هيئة أمة واحدة، جعل اللغة الأدبية التي هي لغة قريش تقتبس من لغات القبائل الأخرى أكثر مما كانت تقتبسه قبل الإسلام، فالطفل الذي يشبّ في بيئة هذه اللغة بعد امتلائها بالألفاظ الأنيقة والأساليب الفائقة، يكون محفوفًا من موارد الفصاحة بأكثر مما يتلقنه الطفل النابت في الجاهلية حيث لم يتسع نطاق اللغة إلى هذه الغاية القصوى. ¬

_ (¬1) (ص 8).

اتصال العرب بالروم والفرس

وإذا كان الشعراء يتفاضلون بمقدار ما يرتسم في نفوسهم من الصور الغريبة، فإن العرب دخلوا بالإسلام في مدنية زاخرة وحضارة منتظمة، ولا يستطيع أحد السبيل إلى دعوى أن اختلاطهم بالأمم، وشهودهم الحواضر بعد الإسلام كحالهما زمن الجاهلية إلا أن يكون معتزلاً الأدب والتاريخ، هو لا يعرفهما، وهما لا يعرفانه. وإذا كان في شعراء الجاهلية من سافر إلى بعض الحواضر، واتصل بالأمم الأخرى، فذلك لا يجعله بمنزلة الناشئ في مدنية منتظمة؛ إذ الصور الغريبة التي تقع إلى حافظة الناشئ في حضارة ونظام تكون أكثر وأوضح وأبقي. * اتصال العرب بالروم والفرس: قال المؤلف في (ص 21): "كلا! القرآن يحدثنا بشيء غير هذا، القرآن يحدثنا بأن العرب كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم، بل كانوا على اتصال قوي، قسمهم أحزاباً، وفرّقهم شيعاً، أليس القرآن يحدثنا عن الروم، وما كان بينهم ويين الفرس من حرب انقسمت فيه العرب إلى حزبين مختلفين: حزب يتابع أولئك، وحزب يناصر هؤلاء؟ أليس في القرآن سورة تسمى: سورة الروم، وتبتدئ بهذه الآيات: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم: 1 - 5]؟. الذي تدل عليه هذه الآيات أن الروم غلبتها أمة في حرب، وأنهم سينتصرون على الأمة التي غلبتهم، ويغلبونها بعد قليل من السنين، وفي اليوم الذي ينتصر فيه الروم على هذه الأمة يفرح المؤمنون بنصر الله. ولو

رحلة الشتاء والصيف

وقف المؤلف على حد الآية، لم يفهم أكثر من هذا، ولكن الخطاب كان موجهًا إلى قوم بلغهم نبا تلك الحرب، ففهموا أن الأمة التي غلبت الروم هي أمة الفرس، وفهموا أنها ستقع في حرب معها، وبكون الروم هم الغالبين. فالآية لا تدل بصريحها على أن الحرب وقعت بين الروم وفارس، ولا تدل على أن العرب انقسموا إلى حزبين مختلفين: حزب يشايع الروم، وحزب يناصر الفرس، وهذا كله إنما يذكره المفسرون أخذًا من سبب النزول. إذاً لم يأخذ المؤلف معنى اتصال العرب بالأمم الأخرى من القرآن مباشرة، وإنما أخذه من أيدي المفسرين. إذن يكون القدماء عرفوا هذا المقدار من الاتصال بين العرب وأمتي الروم والفرس، ولم يختص المؤلف في فهم الآية بشيء زائد على ما رووه أو فهموه. * رحلة الشتاء والصيف: قال المؤلف في (ص 22): "لم يكن العرب إذن كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلي معتزلين، فأنت ترى أن القرآن يصف عنايتهم بسياسة الفرس والروم. وهو يصف اتصالهم الاقتصادي بغيرهم من الأمم في السورة المعروفة: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش: 1، 2]. وكانت إحدى هاتين الرحلتين إلى الشام حيث الروم، والأخرى إلى اليمن حيث الحبشة أو الفرس". يدل القرآن على أن لقريش رحلتين: إحداهما في الشتاء، والأخرى في الصيف، ومن وقف على فهم الآية وحدها، لا يدري أين يرحلون في الشتاء، ولا أين يرحلون في الصيف، ومن المحتمل أن تكون رحلتهم إلى

عجز المؤلف

حيث تقيم بعض القبائل الأخرى؛ كقيس، أو تميم. ولكن المفسرين بحثوا في طريق الرواية، فعرفوا أن رحلتهم الشتائية كانت إلى اليمن، ورحلتهم الصيفية كانت إلى الشام. إذاً لم يفهم المؤلف من القرآن أن لقريش اتصالًا اقتصاديًا بالروم والحبشة أو الفرس، وإنما تلقنه من المفسرين أو المؤرخين. ثم إن الآية وردت على قدر الحكمة التي استدعت ورودها، ودارسو الشعر الجاهلي يعرفون ما دلت عليه الآية بتفصيل، إذ يجدون في هذا الشعر وما يتصل به من الأخبار أن هاشمًا وعبد شمس والمطلب ونوفلاً كانوا يسمون: المتجرين، فهاشم كان يؤالف ملك الشام، فأمن به في تجارته إلى الشام، وعبد شمس كان يؤالف إلى الحبشة، والمطلب كان يرحل إلى اليمن، ونوفل كان يرحل إلى فارس، وفي هؤلاء الإخوة يقول شاعرهم: يا أيها الرجل المحوّل رحله ... هلّا نزلت بآل عبد منافِ الآخذون العهد من آفاقها ... والراحلون لرحلة الإيلاف فإن عاد المؤلف وقال: إني لا أثق بهذا الشعر، ولا بما يتصل به من خبر، قلنا له: لا تخلط قولاً بآخر، فإنك تقول عليهم في هذا الموضع: إنهم يتصورون العرب في عزلة وانقطاع؛ لأن الشعر الجاهلي يمثلهم كذلك، فأريناك أن ما بين أيديهم من الشعر يضع في نفوسهم الصورة التي ترميهم بجهلها، أما كون الطريق الذي جاءت هذه الصورة من ناحيته صحيحاً أو خرباً، فذلك ما لم يخطر له ذكر في هذا المقام. * عجز المؤلف: قال المؤلف في (ص 22): "وسيرة النبي تحدثنا أن العرب تجاوزوا بوغاز باب المندب إلى بلاد الحبشة، ألم يهاجر المهاجرون الأولون إلى هذه

البلاد؟ وهذه السيرة نفسها تحدثنا بأنهم تجاوزوا الحيرة إلى بلاد الفرس، وبأنهم تجاوزوا الشام وفلسطين إلى مصر، فلم يكونوا إذن معتزلين، ولم يكونوا إذن بنجوة من تأثير الفرس والروم، والحبش والهند، وغيرهم من الأمم المجاورة لهم". عنوان الفصل الذي يخوض فيه المؤلف: "مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن"، وقد ذهب فيه إلى أنه اطلع في القرآن على أن العرب قبل الإسلام كانوا على دين، وكانت فيهم طبقة ذات ثروة وجاه، وذكاء وعلم، أو طبقة كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يجادلهم ويجاهدهم، ثم ادّعى أن الذين يدرسون الحياة العربية في هذا الشعر الجاهلي يعتقدون أن العرب قبل الإسلام كانوا أمة معتزلة عن العالم الخارجي، وادّعى أن القرآن يعطي صورة ستدهشهم، وهي أن العرب كانوا على اتصال قوي بمن حولهم من الأمم، وأورد في بيان مأخذ هذه الصورة آية {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1، 2]، وآية {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1]. فإذا كان موضوع الفصل "مرآة الحياة الجاهلية تلتمس في القرآن"، وكان موضوع البحث الأخير أن القرآن يعطي صورة يدهش لها الذين يعتقدون أن العرب كانت أمة معتزلة، فما وجه الاستدلال بما في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي ليست بقرآن؟ ثم لماذا يذكر في نتيجة البحث: أن العرب لم يكونوا بنجوة من تأثير الهند، ولم يأت ذكر للهند فيما استشهد به من القرآن أو السيرة، أو أقوال المفسرين؟. عجز المؤلف عن انتزل هذه الصورة المدهشة من القرآن وحده، فأضاف إليها نبذة من السيرة، وأخرى من أقوال المفسرين، ولم يكفه هذا

المؤلف وعد وأخلف

التصرف حتى زاد عليها شيئاً من عنده، وهو قوله: "والهند، وغيرهم من الأمم المجاورة لهم". إذاً منهج (ديكارت) لم يكن كمنطق (أرسطو) يحتم على الباحث أن يراعي المقدمات، ويفصل النتيجة على قدرها، بل يبيح له أن يقيم قنطاراً من النتائج على مثقال من المقدمات. * المؤلف وعد وأخلف: قال المؤلف في (ص 23): "وإذا كانوا أصحاب علم ودين، وأصحاب ثروة وقوة وبأس، وأصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة، متأثرة بها، مؤثرة فيها، فما أخلقهم أن يكونوا أمة متحضرة راقية، لا أمة جاهلة همجية! ". قد عرفت أن المؤلف لم يزد في هذا الفصل على أن امتشق مقالة الجاحظ في دلالة القرآن على رجاحة أحلام العرب ودهائهم، وقوتهم في الجدل، وتحدث عن دينهم، فلم يزد على ما يعرفه كل أحد من أن في العرب وقت نزول الوحي أدياناً مختلفة. ولم يأت في الاستشهاد على أنهم أصحاب سياسة تتصل بالسياسة العامة إلا بآيتين، مع ما يضاف إليهما من بيان أسباب النزول: أولاهما: تدل على أن حرباً وقعت بين الروم والفرس بمقربة من بلاد العرب، ولم يلبث نبأ هذه الحرب أن وقع إلى قريش. وأنت تكاد تثق بأن الجماعات النازلة في أواسط إفريقية قد بلغها نبأ الحرب الناشبة بين إيطاليا وطرابلس الغرب، ولم يخف عليها أيضاً نبأ الحرب القائمة بين الريفيين وأسبانيا، بَلْهَ الحربَ التي كانت تشتعل بين دول شتى. ويعلمون أن إيطاليا منساقة بمطامع الاستعمار، وأن الريفيين يريدون خلع ربقة الاستعباد من

أعناقهم. إذاً تكون هذه الجماعات كلها أصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة، متأثرة بها، مؤثرة فيها. ثانيتهما: آية يؤخذ منها أن لقريش رحلتين: إحداهما إلى اليمن، والأخرى إلى الشام. وهما رحلتان تجاريتان يوجد أمثالهما لتلك الجماعات المتوغلة في صحراء إفريقية، وإنما ذكرهما القرآن في مساق الامتنان على قريش؛ حيث إن حبل الأمن في الجزيرة مضطرب، والسبل تكاد تغص بقطاعها، وهم يتقلبون بأموالهم في البلاد جنوبًا وشمالًا دون أن تمتد إليهم الأيدي بسوء. إذاً لانكسر ما بأيدينا من مرآة للحياة الجاهلية، فإن المؤلف وعدنا فاخلفنا، ولم يستطع أن يستكشف للحياة الجاهلية صورة ممتعة أو مدهشة. * * *

الشعر الجاهلي واللغة

الشعر الجاهلي واللغة * تعرّف اللغة الجاهلية: ذكر المؤلف في طالع هذا الفصل: أن هناك شيئاً يمنعه من التسليم بصحة الكثرة المطلقة من الشعر الجاهلي، وأن هذا الشيء أبلغ في إثبات ما يذهب إليه. ثم قال: إذن هذا الشعر الذي لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه، وخرج إلى تعريف اللغة بمعناها المتردد على آذان المبتدئين من طلابها. ثم عاد فقال في (ص 24): "إن هذا الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية. ولنجتهد في تعرّف اللغة الجاهلية هذه ما هي؟ أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قيل فيه؟ ". لعلك تقرأ هذه الفقرة، فيقع في ظنك أن المؤلف سيتعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي؟ وسيقف بك على جلية أمرها، حتى تعرف ماذا كانت في العصر الذي تزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه؟ حتى إذا قايستها باللغة الأدبية المستعملة في صدر الإسلام، ظهرت لك مميزات هذه عن تلك. والواقع أنك تقرأ هذا الفصل الموضوع في نحو ست صفحات، فتجده لم يتعرف اللغة الجاهلية، ولا يستطيع أن يتعرفها، وقصارى ما فعل

القحطانية والعدنانية

أن قال لك ما سمع الناس يقولون من أن البحث الحديث أثبت خلافاً قوياً بين لغة حمير ولغة عدنان، وحكى قول أبي عمرو بن العلاء: ما لسان حمير بلساننا، ولا لغتهم بلُغتنا. ثم نكث يده من البحث، ومدها إلى "ذيل مقالة في الإسلام"، وقبض قبضة من أقواله المصطنعة لدعاية غير إسلامية، وبثها في هذا الفصل؛ بزعم أن لها صلة بهذا النحو الجديد من البحث، وبعد أن صحا من نشوة الطعن والغمز، تذكّر أن الفصل لبحث "الشعر الجاهلي واللغة"، فالقى كلمة سلبية زعم أنها نتيجة البحث، وهي: أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية، ولا يمكن أن يكون صحيحاً، ثم رجع إلى ما سمعه عن البحث الحديث، وشهادة أبي عمرو بن العلاء، وأعادهما عليك تارة أخرى. فلم يتعرف المؤلف اللغة الجاهلية هذه ما هي كما زعم، ولا ماذا كانت في العصر الجاهلي، ولم يسمع طالب الآداب بالجامعة إلا أن أبا عمرو بن العلاء والبحث الجديد قالا: إن بين اللغتين اختلافاً، وكان الأليق بقوله: "ولنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي" أن يعرف أمثلة من مميزاتها، ويضرب تلك الأمثلة في هذا الفصل؛ حتى يخلص طلاب الجامعة من تقليده؛ فإن طلاب الجامعات أرفع شأناً من أن يعوَّدوا على سيرة التلميذ الذي يثق بكل ما ينطلق به لسان محدّثه ثقة عمياء. * القحطانية والعدنانية: ذكر المؤلف أن الرواة يذهبون إلى أن العرب ينقسمون إلى: قحطانية، وعدنانية. ثم قال في (ص 25): "وهم متفقون على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله فطروا على العربية، فهم العاربة، وعلى أن العدنانية قد

اكتسبوا العربية اكتساباً". لم يتفق الرواة على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله، فمن الرواة من يجعل شأنهم العدنانية، وهم الذين يذهبون إلى أنهم من ولد إسماعيل - عليه السلام -، وممن ذكر الخلاف: ابن حزم في كتاب "الجمهرة"، فقال: "فعدنان من ولد إسماعيل بلا شك في ذلك، إلا أن تسمية الآباء بينه وبين إسماعيل قد جهلت، وتكلم قوم بما لا يصح، فلم نتعرض لما لا يقين فيه، وأما قحطان، فمختلف فيه، ولد من هو؟ فقوم قالوا: من ولد إسماعيل - عليه السلام -، وهذا باطل بلا شك ... فصح بهذا أن من العرب من ليس من ولد إسماعيل". وقال عماد الدين بن كثير في "تاريخه": "وقيل: إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل - عليه السلام -، والصحيح المشهور أن العرب العاربة قبل إسماعيل". ومن الرواة القائلين بأن قحطان من ولد إسماعيل: الزبير بن بكار، ففي "فتح الباري" للحافظ ابن حجر: "وزعم الزبير بن بكار: أن قحطان من ذرية إسماعيل". ومن هؤلاء الرواة ابن الكلبي. قال المبرد في كتاب "نسب عدنان وقحطان": "ونسب ابن الكلبي قحطان إلى إسماعيل عليه السلام". ومن الرواة من يجعل يعرب بن قحطان كإسماعيل - عليه السلام -، انتقل لسانه من السريانية إلى العربية، ففي مادة "برع" من كتاب "الجمهرة" لابن دريد (¬1): ¬

_ (¬1) (ج 6 ص 346).

أول من تكلم بالعربية

"وسمي يعرب بن قحطان؛ لأنه أول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية". وقال ابن خلدون في "تاريخه": "وليس بين الناس خلاف في أن قحطان أبو اليمن كلهم، ويقال: إنه أول من تكلم بالعربية، ومعناه من أهل هذا الجيل الذين هم العرب المستعربة، اليمنية، وإلا، فقد كان للعرب جيل آخر، وهم العرب العاربة، ومنهم تعلّم قحطان تلك اللغة العربية ضرورة، ولا يمكن أن يتكلم بها من ذات نفسه". وإذا كان من الرواة من يذهب إلى أن القحطانية كالعدنانية من ولد إسماعيل، ومنهم من يقول: إن يعرب بن قحطان أول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية، ومنهم من يقول: إن أول من تكلم بالعربية قحطان نفسه، فأين اتفاقهم على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله؟!. * أول من تكلم بالعربية: قال المؤلف في (ص 25): "وهم يروون حديثاً يتخذونه أساسًا لكل هذه النظرية، خلاصته: أن أول من تكلم بالعربية، ونسي لغة أبيه: إسماعيل ابن إبراهيم". هذا الخبر رواه ابن سلام الجمحي في "طبقات الشعراء"، مع التردد في أن راويه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا. وأول ما يخطر بالبال: أن مراد المؤلف من النظرية التي اتخذوا هذا الخبر أساسًا لها، قوله فيما يعزوه إلى الرواة: "إن العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتساباً، كانوا يتكلمون لغة أخرى هي العبرانية أو الكلدانية، ثم تعلموا لغة العرب العاربة، فمحيت لغتهم الأولى من صدورهم، وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة".

وأنت قد قرأت هذا الخبر المرويّ في "طبقات الشعراء"، وهو لا يدل إلا على أن إسماعيل نسي لغة أبيه إبراهيم، ومقتضاه: أن العدنانية الذين هم من ذريته قد خلقوا ينطقون بالعربية، وليسواهم الذين "محيت لغتهم الأولى من صدصرهم، وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة". فإن قال المؤلف في تأويل حديثه: إن هذا من قبيل وصف القبائل بما جرى لآبائهم، قلنا له: أنت إذن تريد من النظرية التي جعلت هذا الخبر أساسًا لها: أن إسماعيل - عليه السلام - عرف من لغة العرب ما لم يكن يعرف، فنشأ أبناؤه العدنانيون على النطق باللغة العربية، ولكونهم نبتوا من أصل غير عربي سموا مستعربة. وتنحل هذه النظرية إلى أن نسب العدنانية متصل بإسماعيل، وأن إسماعيل أول من تكلم بالعربية من آبائهم. والشطر الأول من النظرية قائم على أساس أوثق من هذا الخبر الذي لا يعرفه المحدثون، وهو مجموع الآيات والأحاديث، أو ما استفاض على ألسنة العرب قبل الإسلام. أما الشطر الثاني منها، وهو أن إسماعيل أول من تكلم بالعربية، فهو جار على طبيعة اتصاله بقبيلة عربية، وإقامته بين ظهرانيهم، ومن الأحاديث الواردة في هذا المعنى (¬1) حديث: "أول من فُتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل"، والمراد بالعربية المبينة: هذه اللهجة الفصحى التي نزل بها القرآن، لا اللغة العربية. ومتى صح الحديث، لم يمانع من أن تكون هذه اللغة المبينة تمشت بعد عهد إسماعيل على سنّة الرقي، واتسعت حسب تجدد المعاني واختلاف الأذواق، فيما تستحسنه من صوغ الجمل وابتدل الأساليب. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن.

اللغة القحطانية واللغة العدنانية

* اللغة القحطانية واللغة العدنانية: قال المؤلف في (ص 25): "على هذا كله يتفق الرواة، ولكنهم يتفقون على شيء آخر أيضاً أثبته البحث الحديث، وهو أن هناك خلافاً قوياً بين لغة حمير "وهي العرب العاربة"، ولغة عدنان "وهي العرب المستعربة"، وقد روي عن أبي عمرو بن العلاء: أنه كان يقول: ما لسان حمير بلساننا، ولا لغتهم بلغتنا". أخذ المؤلف يذكر الشاهد الأقوى على اصطناع الشعر الجاهلي، وهو أن اللغة القحطانية غير اللغة العدنانية، والشعر المنسوب إلى بعض شعراء اليمن لا يختلف عن شعر العدنانية، وهذا مما استشهد به (مرغليوث) قبله، وكاد أثق بأن المؤلف استعاره منه، قال (مرغليوث) في مقاله المنشور في "مجلة الجامعة الآسيوية": "هنا دليل لغوي واضح من هذه الأشعار، وهو أنها كلها مكتوبة بلهجة القرآن"، وقال: "إذا فرضنا أن الإسلام أرغم قبائل جزيرة العرب على توحيد لغتهم بتقديمه مثالاً أدبياً لا يقبل الجدل في جودته وعلو شأنه، وهو القرآن، فمن الصعب اعتقاد أن يوجد قبل هذا العامل الحيوي لغة عامة لقبائل الجزيرة تختلف عن لغات المخطوطات الأثرية، إن لهجة كل قبيلة تمتاز بمفرداتها ونحوها، وإننا لنجد جميع المخطوطات في هذه الأنحاء مرسومة بلغة أخرى غير لغة القرآن". لا ننازع فيما دلت عليه الآثار المخطوطة من أن اللغة القحطانية كانت كلغة أجنبية عن العدنانية، كما أن (مرغليوث) والمؤلف لا ينازعان في أن اللغتين اشتد الاتصال بينهما بعد ظهور الإسلام، وأصبحتا كلغة واحدة. والذي نراه قابلاً لأن يكون موضع جدال بيننا وبين (مرغليوث) والمؤلف،

هو حال الاختلاف بين اللغتين في عهد يتقدم ظهور الإسلام بعشرات من السنين، فنحن لا نرى ما يقف أمامنا إذا قلنا: إن الاختلاف بين اللغتين قد خف لذلك العهد، وزال منه جانب من الفوارق، ولم تبق القحطانية من العدنانية بمكان بعيد. والذي جعل اعتقادنا يدنو من هذه النظرية وهي خافضة جناحها: أن قبول اللغة القحطانية لأن تتحد مع اللغة العدنانية بعد ظهور الإسلام لا يكون إلا عن تقارب وتشابه هياهما لأن يكونا لغة واحدة؛ فإن انقلاب لغة إلى أخرى تخالفها في مفرداتها وقواعد نحوها وصرفها ليس بالأمر الميسور، حتى يمكن حصوله في عشرات قليلة من السنين. يقولون: إن بعض هذه المخطوطات كان من آثار المئة الخامسة بعد المسيح، وهذا لا يخدش فيما نراه قريباً، بل لا يقف في سبيلنا أن يكون هؤلاء المنقبون قد عثروا على أثر مخطوطافي أواسط المئة السادسة بعد المسيح، فاللغتان كانتا في تباعد، والشواهد قائمة على أنهما قد أخذتا في التقارب من قبل أن يطلع في أفقهما كوكب الإسلام. ومن السهل علينا أن نفهم أن تقرب اللغة القحطانية من اللغة العدنانية لم تبتدئ به قبائلها في عهد واحد، بل سبقت إليه القبائل المجاورة للعدنانية، ثم أخذ يتدرج فيما وراءها من القبائل رويداً رويداً إلى أن أدركها الإسلام، فخطا بها تلك الخطوة الكبرى، فالوقوف على أثر مخطوط قبل الإسلام بنحو مئة سنة أو ما دونها، إنما يدل على أن سكان الناحية التي انطوت على هذا الأثر لم يزالوا على لسان حمير القديم، وهذا لا ينفي أن يكون غيرها من القبائل القحطانية قد ارتاضت ألسنتهم بلغة تشبه اللغة العدنانية في نحوها وصرفها،

وتختلف عنها في قسم من الألفاظ المفردة أسماء أو أفعالاً. ومن الممكن القريب أيضاً أن يكون أهل المكان الذي عثر فيه على هذه المخطوطات الأثرية ينطقون باللغة القريبة من اللغة العدنانية، ولكنهم استمروا في الكتابة على لغتهم التي كانت اللسان الرسمي لسياستهم أو ديانتهم، وقد حكى التاريخ لهذا الوجه نظائر تسمو به إلى درجة القبول. فاللغة البابلية تفرعت إلى عدة لغات، من بينها اللغة الآرامية، وبقيت مع هذا الاختلاف لغة الكتابة إلى أن قامت اللغة الآرامية مقامها في السياسة والتجارة. وكذلك يقول جرجي زيدان في الحديث عن الأنباط: "أما لسانهم الذي كانوا يتفاهمون به، فإنه عربي مثل أسمائهم، ولا عبرة بما وجدوه منقوشًا على آثارهم باللغة الآرامية؛ فإنها لغة الكتابة في ذلك العهد مثل اللغة الفصحى في أيامنا، وذلك كان شأن الدول القديمة بالشرق، ولا سيما فيما يتعلق بالآثار الدينية أو السياسية" (¬1). ومما يلائم هذا البحث: أنك تجد في السيرة النبوية أمثلة من أقوال زعماء اليمانيين الوافدين على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتراها قريبة من اللغة العدنانية، أو مماثلة لها من جهة قواعد الصرف والنحو، ولا أريد باقوال هؤلاء الزعماء ما يحكيه المؤرخ بقصد إفادة معانيه كما يحكي لك كلاماً أعجمياً بلفظ عربي مبين، بل أريد بها: ما يحكيه الرواة قصداً إلى بيان لهجتهم وأسلوب حديثهم. ومن هذه الأمثلة خطبة طهفة بن أبي زهير (¬2) النهدي حين وفد على ¬

_ (¬1) "العرب قبل الإسلام" (ص 79). (¬2) منسوب إلى نهد قبيلة باليمن.

النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال يشكو إليه الجدب: "يا رسول الله! أتيناك من غوري تهامة بأكوار الميس (¬1)، ترتمي بنا العيس، نستحلب الصبير (¬2)، ونستخلب الخبير (¬3)، ونستعضد البرير (¬4)، ونستخيل الرهام (¬5)، ونستحيل (¬6) الجهام، من أرض غائلة النطاء (¬7)، غليظة الوطاء، قد نشف المدهن (¬8)، ويبس الجعثن (¬9)، وسقط الأملوج (¬10)، ومات العسلوج (¬11)، وهلك الهدي (¬12)، ومات الودي (¬13)، برئنا إليك يا رسول الله من الوثن والعنن (¬14) وما يحدث الزمن، لنا دعوة الإسلام وشرائع الإسلام ما طما البحر وقام تعار (¬15)، ولنا نعم همل أغفال ¬

_ (¬1) شجر صلب يعمل منه رحال الإبل. (¬2) السحاب. (¬3) العشب، واستخلابه: احتشاشه بالمخلب؛ أي: المنجل. (¬4) ثمر الأرك. (¬5) الأمطار الضعيفة؛ أي: نتخيل الماء في السحاب القليل. (¬6) السحاب الذي فرغ ماؤه، والمعنى: لا ننظر إلى السحاب في حال إلا إلى جهام. (¬7) البعد. (¬8) الغدير. (¬9) أصل النبات. (¬10) ورق الشجر. (¬11) الغصن. (¬12) ما يهدى إلى الحرم من النعم، ثم أطلق على الإبل، وإن لم تكن هدياً. (¬13) فسيل النخل. (¬14) الباطل. (¬15) اسم جبل.

ما تبل ببلال، ووقير (¬1) كثير الرَّسل (¬2)، قليل الرِّسل (¬3)، أصابتها سنة حمراء مؤزلة (¬4) ليس لها علل ولا نهل". وتجد خطاب مالك بن نمط الهمداني يجري على هذا النحو. ويروي أصحاب الحديث والسيرة أيضاً بعض كتب كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث بها إلى نواحي اليمن مصوغة في مثال كلامهم، وهي لا تكاد تخرج عن نمط هذه الخطبة المضروبة مثلاً. وقد يسوق علماء اللغة شذرًا من هذه الأحاديث، كما حكى الأزهري في كتاب "التهذيب" عن وائل بن حجر: أنه قال: كتب لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا جلب ولا جنب ولا وراط، ومن أجبى فقد أربى". ومما يلفت نظرك إلى أن لغة القبائل اليمانية أخذت تتصل باللغة العدنانية قبل عامل الإسلام: أنك تطالع تاريخ العهد المتصل بالإسلام، أو الأيام التي جعلت القبائل اليمنية تفد على مقام النبوة، فتفهم من روح التاريخ -على اختلاف مصادره، وتباين طرقه-: أن العدنانيين والقحطانيين لم يكونوا في حاجة عندما يتحاورون إلى مترجم ينقل حديث أحدهما إلى الآخر، ولو كانت اللغتان مختلفتين في المفردات، وقواعد النحو والصرف، لم يسهل على العدناني أو القحطاني فهم لغة الآخر، إلا أن يأخذها بتعلم، أو مخالطة غير قليلة. ¬

_ (¬1) القطيع من الغنم. (¬2) التفرق. (¬3) اللبن. (¬4) آتية بالأزل؛ أي: القحط.

أطوار اللغة العربية

وأما ما حكاه المؤلف عن أي عمرو بن العلاء، فقد مسه بالتحريف مساً رفيقًا، وعبارة أبي عمرو الواردة في كتاب "الطبقات" للجمحي: "ما لسان حمير وأقاصي اليمن لساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا"، فالمؤلف حوّل قوله: "ولا عربيتهم بعربيتنا" إلى قوله: "وما لغتهم بلغتنا"؛ لقصد المبالغة في الفصل بين اللغتين، وليصرف ذهن القارئ عن أن يفهم من قول أبي عمرو: "ولا عربيتهم بعربيتنا" أن تلك اللغة عربية، وإنما تختلف عن العدنانية اختلافاً يسوغ له أن يقول: "وما لسان حمير وأقاصي اليمن لساننا". ومس المؤلف عبارة أبي عمرو بالتحريف مرة أخرى، فقد حذف قوله: "أقاصي اليمن"؛ حتى لا يأخذ منها القراء أن لغة غير الأقاصي، وهي القبائل المجاورة للقبائل المضرية، ليس بين عربيتها وعربية مضر هذا الاختلاف. وصفوة المقال في هذا البحث: أن اللغة القحطانية تقربت من اللغة العدنانية في عهد قبل الإسلام، وصارت تحاذيها في أكثر مفرداتها، وقواعد نحوها وصرفها، ولنا في شعر القحطانيين نظرة أخرى سنلقيها إليك في أمد قريب. * أطوار اللغة العربية: قال المؤلف في (ص 25): "إذا كان أبناء إسماعيل قد تعلموا العربية من أولئك العرب الذين نسميهم العاربة، فكيف بَعُد ما بين اللغة التي كان يصطنعها العرب العاربة واللغة التي كان يصطنعها العرب المستعربة، حتى استطاع أبو عمرو بن العلاء أن يقول: إنهما لغتان متمايزتان، واستطاع العلماء المحدثون أن يثبتوا هذا التمايز بالأدلة التي لا تقبل شكاً ولا جدلاً". انقاد المؤلف إلى هذه الشبهة بما ادعاه سابقًا من اتفاق الرواة على أن

اتصال نسب العدنانية بإسماعيل - عليه السلام -

القحطانية عرب منذ خلقهم الله، ثم بتخيله أن اللغة العربية ذات لون واحد لا يمكنها أن تخرج في هيئات متقاربة أو متباعدة، وهو في كلا الأمرين بعيد عن التحقيق. أما الأول، فإن كثيراً من الرواة يذهبون إلى أن القحطانية تنتمي إلى أصل غير عربي، ومن هؤلاء من يسميهم المتعربة، ومنهم من يسميهم المستعربة، ويعلل هذه التسمية بأنهم صاروا إلى حال لم يكن عليه أهل نسبهم، وهي اللغة العربية (¬1). وأما الثاني، فإنا لا ندّعي أن طور اللغة العربية لأوائل عهد القحطانية هو طورها الذي تعرف به في ألسنة العدنانية، فقد تكون هذه اللغة لعهد العرب البائدة وللعهد الأول للقحطانية لا تزال في طورها الذي يمكن أن تتشعب به إلى لغتين ذات فوارق في نحوها وصرفها، وإلى لهجات لا تختلف إلا بمفرداتها، وكيفية النطق ببعض حروفها، وليس في البحث الحديث ما يمنع من أن تكون اللغة القحطانية شعبة من شعب العربية الأولى، وليس في البحث الحديث ما يمنع من أن تأخذ اللغة العربية في ألسنة العدنانية شأناً أرقى وأبين من شأنها في ألسنة القحطانية، فمن الممكن الميسور أن يتلقن إسماعيل - عليه السلام - من قبيلة قحطانية اللغة العربية التي لا تزال قابلة للتشعب إلى لغات ولهجات، ثم تأخذ في ألسنة أبنائه العدنانيين هيئة غير هيئتها القحطانية. * اتصال نسب العدنانية بإسماعيل - عليه السلام -: قال المؤلف في (ص 26): "والأمر لا يقف عند هذا الحد، فواضح ¬

_ (¬1) "تاريخ ابن خلدون" (ج 2 ص 46).

ورود اسم في القرآن دليل على وجوده التاريخي

جداً لكل من له إلمام بالبحث التاريخي عامة، وبدرس الأساطير والأقاصيص خاصة: أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أوسياسية". في استطاعة كل أحد أن يأتي إلى أي واقعة يقصها التاريخ، ويتلو عليها هذه الكلمات لا ينقص منها حرفاً، فيدعي أنه ملم بالبحث التاريخي عامة، وبالأساطير خاصة، ثم يشير إلى الواقعة بأنها نظرية متكلفة مصطنعة، ويذهب في تعليل تكلفها واصطناعها ما شاء، ولكن باحثاً غير المؤلف يقدر واجبات البحث العلمي ونتائجه، فلا تجده يمس واقعة بتهمة الاصطناع إلا بعد أن يملأ يده بالدليل الطاعن في صحتها. يريد المؤلف من النظرية المتكلفة المصطنعة: مسألة اتصال نسب العدنانية بإسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام -، وقد أخذ من هنا يتحفز ليعلن الطعن في القرآن بكلام استرق سمعه من "ذيل مقالة في الإسلام بها". * ورود اسم في القرآن دليل على وجوده التاريخي: قال المؤلف في (ص 26): "للتوارة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المستعربة". ورود اسمي إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - في القرآن يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، واخباره عنهما بأمر يكفي للدلالة على وقوعه، وهو بالطبيعة يكفي هذه الأمم التي خالط قلوبها الإيمان بأن الرسول المؤيد بالآيات البينات لا يقول على الله إلا الحق، أما الذين لم يبصروا بدلائل نبوته،

قصة إسماعيل - عليه السلام -

ولم يقلبوا وجوههم في سيرته، فليس من شأنهم الاكتفاء بخبر القرآن، ولا أن يدلهم ورود اسم شخص فيه على وجوده التاريخي، فلم يكن لهذه الكلمة المستعارة من "ذيل مقالة في الإسلام" وجه يشفع لورودها في هذا النسق، فإن المسلمين حقاً يزدرونها، وغير المسلمين لا ينتفعون بها، ولا نرى لها من شأن غير إغواء النفوس التي لم تبلغ في إدراك الحقائق أشدها. قصة إسماعيل وإبراهيم كانت تدور بين العرب أيام جاهليتهم، ثم ساقها القرآن على وجه محكم، وبيان ساطع، ومن حاول الجهر بإنكار ما تتداول نقله أمة، ويقرره كتاب تدين بصدقه أمم، كان حقاً عليه أن يسلك مسلك ناقدي التاريخ، فيبين للناس كيف كان نبأ الواقعة مخالفاً للمعقول أو المحسوس، أو التاريخ الثابت الصحيح، ولكن المؤلف لم يسلك في إنكار هذه القصة طريقة نقد التاريخ، فيحدثنا لماذا لم يسعها عقله، أو كيف وقع حسه على ما يبطلها، أو من أين سمع أن مؤرخاً قبل صاحب "ذيل مقالة في الإسلام" قال ما يناقضها؟! إذن لم يكن مع المؤلف سوى عاطفة غير إسلامية تزوجت تقليداً لا يرى، فحملت بهذا البحث، وولدته على غير مثال. * قصة إسماعيل - عليه السلام -: قال المؤلف في (ص 26): "ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى، وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية، ويبثون فيه المستعمرات".

قلنا لكم: إن يد المؤلف تجول في بعض كتب شرقية، فيقطف منها ما يلائم ذوقه، ويضعه في كتابه على أنه وليد فكره، ونتيجة بحثه، وهذا البحث مما تعلق فيه المؤلف بذيل "مقالة في الإسلام"، وإليك ما قال صاحب الذيل (¬1): "وحقيقة الأمر في قصة إسماعيل: أنها دسيسة لفقتها قدماء اليهود للعرب تزلفًا إليهم، وتذرعًا منهم إلى دفع الروم عن بيت المقدس، أو إلى تأسيس مملكة جديدة في بلاد العرب يلجؤون إليها، فقالوا لهم: نحن وأنتم إخوة، وذرية أبي واحد". لم يأخذ المؤلف في البحث مأخذ ذي أناة، ينظر إلى ما عنده من أدلة أو أمارات، أو شبه مثيرة للشك، ويفصل العبارة على مقداره، فصاحب "الذيل" يقول: وحقيقة الأمر في قصة إسماعيل أنها دسيسة لفقتها قدماء اليهود، والمؤلف يقول: ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة، وأنت إذا قرأت ما كتبه، وفحصته الكلمة بعد الأخرى، لم تجد لديه ما يساعده على دعوى أنه مضطر إلى الاعتقاد بأن في القصة نوعاً من الحيلة، فهذه القصة تعرّض لها القرآن، وكان لها ذكر عند العرب قبل نزوله، فالذي يسهل عليه الحكم بكونها دسيسة أو حيلة، ويدعي الاضطرار إلى أن يراها حيلة، هو الذي يجد في التاريخ الموثوق بصحته ما يصرح بأن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام - لم يهاجرا إلى مكة، أو يصرح بأن العرب لم يكونوا ذرية إسماعيل - عليه السلام -، أو يجد في سياق القصة ما يخالف حساً أو عقلاً، أو سنّة من سنن الله في الخليقة، وكل ذلك لم يكن، وغاية ما فعل المؤلف: أنه اجتذب أصل البحث من كتاب "الذيل"، ¬

_ (¬1) (ص 8).

الحروب بين العرب واليهود

ووقع اختياره على العلة الاستعمارية، فتشبث بها، وزاد عليها ملاحظة الحروب العنيفة التي شبت بين اليهود والعرب، وجعل أيام تلك الحروب أقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه فكرة وضع القصة. هذا مبلغ علمه من التاريخ، وهذا ما اكتفى به في دعوى اضطراره إلى الاعتقاد بأن في القصة نوعاً من الحيلة. وقد نظر جرجي زيدان في المسألة من وجهتها التاريخية البحتة، وتعرض في كتاب "العرب قبل الإسلام" (¬1) لما جاء في التوراة والقرآن، ثم قال: "وليس لدينا مصادر أخرى تنافي هذه الرواية، أو تؤيدها". وهذه الكلمة أقصى ما يقوله الباحث غير المسلم متى وقف على جانب من الإنصاف، ولكن المؤلف يقصد التشفي من غيظه على دين لا يرضى عن الإباحية المتهتكة. زعم المؤلف أن اليهود اخترعوا هذه القصة لتأكيد الصلة بينهم وبين العرب، ثم قال: إن فيها نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين الإسلام واليهودية، والقرآن والتوراة، ويعني بهذا: أن محمداً - عليه الصلاة والسلام - اتخذها أيضاً وسيلة إلى عقد الصلة بين الإسلام واليهودية، وبين القرآن والتوراة؛ ليأخذ الأمة اليهودية بزمام الاحتيال إلى اعتناق الدين الذي قام يدعو إليه، وهو الإسلام. وسنعرج على هذا الرأي في مناقشة الفقرات الآتية؛ لأن المؤلف أعجب به، وطفق يعيده على قراء كتابه مرة بعد أخرى. * الحروب بين العرب واليهود: قال المؤلف في (ص 26): "فنحن نعلم أن حروباً عنيفة شبت بين ¬

_ (¬1) (ص 164).

هؤلاء اليهود المستعمرين، وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد، وانتهت إلى شيء من المسالمة والملاينة، ونوع من المحالفة والمهادنة. فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهود أبناء أعمام". قد عرفت أن هذا الرأي غنمه المؤلف حين غزا "ذيل مقالة في الإسلام"، غير أن صاحب "الذيل" يقول: إن اليهود قالوا للعرب: نحن وأنتم إخوة، وذرية أبي واحد، وكأن المؤلف لم ترقه هذه العبارة، فحولها إلى زعم أنهم قالوا لهم: نحن وأنتم أبناء أعمام. دخل اليهود البلاد العربية محاربين مستعمرين، وبعد أن ألقت الحرب أوزارها، وانعقدت بينهم وبين العرب مسالمة ومحالفة ومهادنة، اصطنعوا هذه القصة التي تجعل العرب واليهود إخوة كما يقول صاحب "الذيل"، أو أبناء أعمام على ما يقول المؤلف!. يخطر هذا التعليل على قلب من لم يدرس طبائع الأمم عامة، وطبيعة الأمة العربية خاصة، أو درسها، ولكنه يتغابى عنها في كل حين يدعوه ذوقه وهواه إلى أن يصطنع له حديثاً، ولا يجد مندوحة من التغابي عنها أو الانسلاخ منها. لم يكن العرب في زعم المؤلف أو صاحب "الذيل" يعرفون الأصل الذي ينتمون إليه، حتى حاربهم اليهود، أو طمعوا في نجدتهم، فاصطنعوا لهم أصلاً ربطوا به قبائلهم، وهو إسماعيل أخو إسحاق بن إبراهيم -عليهم السلام -. لنقل: إن العرب كانوا يجهلون الأصل الذي ينتمون إليه، وإنهم بلغوا الغباوة أن تصنع لهم الجالية اليهودية نسباً، فيقبلوه على اختلاف قبائلهم،

ولنا أن نتساءل: هل كان هؤلاء العرب يؤمنون بنبوة إبراهيم وإسماعيل قبل اتصالهم بهذه الجالية؟ أم كانوا يسمعون بها ولا يؤمنون؟ أم كانوا لا يسمعون بها ولا يؤمنون؟. فمان كانوا يؤمنون بها، فالإيمان إنما يكون عن علم شيء من تاريخ حياتهما، وأقل واجب في هذا السبيل معرفتهم أين بعثا، وأين كان مقامهما؟ وإذا كانوا يتلقون عن آبائهم حديث إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام -، وفرضنا أن إسماعيل لم يكن نزل بمكة، ولا عاش بها طول حياته أو أكثرها، فمن الصعب على تلك الجالية أن تعبث بعقول أمة كاملة، وتحولها إلى الاعتقاد بغير ما عرفته خلفاً عن سلف دون أن تأتيهم بسلطان مبين. وإن كانوا يسمعون بنبوتهما ولا يؤمنون، أولا يسمعون بها ولا يؤمنون، فمن الجليّ الواضح أن شرف إبراهيم وإسماعيل وسمعتهما الفاخرة إنما اكتسباها من النبوة، وإذا كان العرب لا يؤمنون بنبوتهما، فهم لا يسلّمون لهما هذا الشرف حتى يسرعوا إلى قبول ما تزوّره لهم الطائفة المستعمرة، فلا بد من أن يضاف إلى حديث الاحتيال: أن الجالية اليهودية أقنعتهم بصحة نبوة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام - حتى وثقا بما لهما من شرف المنزلة وسمو القدر، ورأوا أن ربط نسبهم بإسماعيل يزيد في فخرهم ورفعة شأنهم. وإذا كان في إمكان الجالية اليهودية أن تقنعهم بنبوة إبراهيم وإسماعيل، فلماذا لم تقنعهم بما هي أحرص على إقناعهم به، وهو نبوة موسى - عليه السلام - فتكون بينها وبينهم قرابة دينية، وهي أشد صلة وأدعى إلى التآلف والسكينة؟.

الإسلام بريء من هذا السخف والهزل

ولا ندري لماذا لم يعدّ المؤلف هذه الحروب العنيفة أسطورة، مع قيام رواية بجانبها تقول: "إن السريانيين واليونان طردوا اليهود من بلادهم، فقابلهم بنو إسماعيل بالترحيب، وتهوّد منهم كثير؛ لما رأوه في كتب اليهود القديمة من التعظيم للإِله الذي اهتدى إليه الخليل - عليه السلام - لعباته" (¬1)؟ * الإسلام بريء من هذا السخف والهزل: قال المؤلف في (ص 27): "ولكن الشيء الذي لا شك فيه، هو أن ظهور الإسلام، وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب، قد اقتضى أن تثبت الصلة الوثيقة المتينة بين الدين الجديد، وبين الديانتين القديمتين: ديانة النصارى، واليهود، فأما الصلة الدينية، فثابتة واضحة، فبين القرآن والتوراة والأناجيل اشترالثاني الموضوع والصورة والغرض، كلها ترمي إلى التوحيد، وتعتمد على أساس واحد هو الذي يشترك فيه الديانات السماوية السامية. لكن هذه الصلة الدينية معنوية عقلية يحسن أن تؤيدها صلة أخرى مادية ملموسة أو كالملموسة بين العرب وأهل الكتاب، فما الذي يمنع أن تستغل هذه القصة قصة القرابة المادية ين العرب العدنانية واليهود". يقول المؤلف فيما سلف: إن في القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين الإسلام واليهودية، والقرآن والتوراة، ويقول هنا: إن الخصومة بين الإسلام والوثنية قد اقتضت إثبات صلة بين الدين الجديد والديانتين القديمتين، ثم جعل القصة مستغلة لعقد صلة مادية بين العرب وأهل الكتاب. ¬

_ (¬1) "خلاصة تاريخ العرب" لسيديو (ص 38) طبعة مصر 1359 هـ.

فالقصة جاءت في القرآن على وجه الحيلة في إثبات الصلة بين الإسلام واليهودية، وجاعت في القرآن لإثبات الصلة بين الدين الجديد، وهو الإسلام، والديانتين اليهودية والنصرانية، وجاءت في القرآن لإثبات صلة مادية بين العرب وأهل الكتاب. هكذا يقول المؤلف! ويقول صاحب "ذيل مقالة في الإسلام": "ولما ظهر محمد، رأى المصلحة في إقرارها، فأقرها، وقال للعرب: إنه إنما يدعوهم إلى ملة جدهم هذا الذي يعظمونه من غير أن يعرفوه". تابع المؤلف صاحب "الذيل" في زعمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد أمامة هذه القصة المزورة دائرة على ألسن العرب، فابتغاها وسيلة في بث الدعوة إلى هذا الدين الجديد، غير أنهما اختلفا في تصوير الغاية من تقريره لهذه القصة، فصاحب "الذيل" يزعم أنه أقرها لاستمالة العرب بإراءتهم أنه يدعوهم إلى ملة جدّهم الذي يعظمونه بقلوب لم تعرفه، والمؤلف أراد التظاهر بأنه لا يمشي خلف صاحب "الذيل" في كل رأي، فأخذ يتحسس لعله يلمس وجهاً غير وجه صاحب الذيل، حتى وقع خاطره على تخيل: أن النبي -عليه الصلاة والسلام - أتى بالقصة في القرآن لاستمالة أهل الكتاب من اليهود والنصارى حيث اشتدت الخصومة بينه وبين الوثنيين. لا يهمنا كثيراً التنقيب عن مصادر الآراء، والخوض في أن المؤلف اعتصرها بفكره، أو تناولها على حين غفلة أو موت من أهلها، والذي يعنينا كثيراً إنما هو نقد الآراء نفسها حتى ينجلي أمرها، ويمتاز حقها من باطلها. تعرضت التوراة لذكر إسماعيل - عليه السلام - ولم تأت على أبوته للعرب بصراحة، وإنما جاء فيها خطاباً لإبراهيم - عليه السلام -: "وأما

إسماعيل، فإني أجعله أمة؛ لأنه نسلك"، وجاء في حديثها عنه: "وسكن في برية فاران"، وفاران جبال بالحجاز، قال المرتضى في "شرح القاموس": وإليها ينسب أبو الفضل بكر بن قاسم الفاراني المتوفى سنة 277 هـ، وفرج ابن سهل الفاراني المتوفى سنة 238 هـ. وغير العرب يقولون: إنها برية، أو جبل عند العقبة في جزيرة سيناء. وقد سلك جرجي زيدان مسلك التوفيق بين القولين، فقال في "تاريخ العرب قبل الإسلام": "ويسهل تطبيق الروايتين متى علمنا أن جبال مكة أو جبال الحجاز تسمى أيضاً: "فاران"، فيكون المراد: أن البرية التي أقام فيها إسماعيل برية الحجاز، أو أنه أقام حيناً في سينا، ثم خرج إلى الحجاز، وسكن هناك، وتزوج" (¬1). وذكرت التوراة أن إسماعيل حضر لدفن أبيه إبراهيم - عليه السلام -، فقالت: "ودفنه إسحاق وإسماعيل ابناه في مغارة المكفيلة"، وليس في هذا ما يعترض قصة هجرته ونزوله بمكة؛ لأن التوراة كما قال جرجي زيدان: "لم تذكر إسماعيل بعد خروجه من بيت أبيه إلا عند حضوره دفنه على عادتها من الاختصار فيما يخرج عن تاريخ أمة اليهود أو ديانتها". وإذا لم يوجد في المنقول ما ينفي هجرة إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز، تبينا أن المؤلف إنما دخل لإنكار القصة من طريق العاطفة المضادة للإسلام وحدها، ولم يزد على أن غمرها بالإنكار، وادعاء أن اليهود اصطنعتها للعرب، ولم يزد على أن اتهم صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم - باستغلالها واتخاذها حيلة لتأليف أهل الكتاب. فحديث المؤلف عن هذه القصة يرجع إلى معنى أن اليهود اصطنعوها ¬

_ (¬1) "تاريخ العرب قبل الإسلام" (ص 164).

احتيالاً على العرب، وأن الرسول الأمين محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بها في القرآن احتيالاً على اليهود، وإذا بُلي المؤلف بإخراج القصة في ألوان من الحيل، أفلا يعذر آخر إن قال: إن صبغ المؤلف للقصة بألوان الاحتيال نوع من الاحتيال على عقائد السذج من قراء كتابه أو طلاب دروسه في الجامعة؟!. أيحتال أطيب البريّة سريرة، وأبهرهم حجة على اليهود بقصة خرجت من مصنع تزويرهم! كلّا! إن القرآن ليدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، وليست القصة المزورة من الحكمة في شيء، وليس في القصة المزورة موعظة حسنة، ومن يتلو القرآن بتدبر، وينظر السيرة النبوية في مرآتها الصادقة، يعلم أن الإسلام بريء من هذا السخف والهزل، وما كان لمثل المؤلف أن يجعل سيرته أو سريرته قياساً لرسل الله الأكرمين. نحن نعلم أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قد وجد من قومه الذين يشاركونه في آبائه الأقربين صدورًا مطوية على عداء، وألسنة مبسوطة بالكيد والأذى، ووجد من قوم لا يتصل نسبهم بإسماعيل ولا بإبراهيم إيماناً وطاعة وتأييداً، فلا نستطيع أن نفهم كيف يخطر على باله أن يأتي في القرآن بقصة القرابة بين العرب واليهود احتيالاً على أهل الكتاب، وهي قرابة قديمة العهد، بعيدة الأثر، تكاد تشبه القرابة بين العرب وأكثر من في الأرض حيث يتفقان في جد أعلى هو نوح - عليه السلام -، وليس ببعيد من صاحب هذه الفلسفة الغريبة أن يقول: إن قصة آدم الواردة في القرآن مستغلة لعقد الصلة الوثيقة المتينة بين الدين الجديد، والديانات وغير الديانات الكائنة على وجه البسيطة؛ لأن في القصة صلة ملموسة أو كالملموسة، وهي

مكانة مكة في قلوب العرب

القرابة بين العرب وسائر البشر!. * مكانة مكة في قلوب العرب: قال المؤلف في (ص 27): "وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح؛ فقد كانت في أول هذا القرن قد انتهت إلى حظ من النهضة السياسية والاقتصادية ضمن لها السعادة في مكة وما حولها، وبسط سلطانها المعنوي على جزء غير قليل من البلاد العربية الوثنية، وكان مصدر هذه النهضة وهذا السلطان أمرين: التجارة من جهة، والدين من جهة أخرى". رأى المؤلف فيما سلف أن القصة مصنوعة بيد اليهود تأليفاً للعرب يوم عقدوا معهم صلحًا بعد حروب عنيفة، ورأى هنا أن قريشاً مستعدة لقبول هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح؛ حيث إن نهضتها السياسية الاقتصادية تدعوها إلى البحث عن أصل تاريخي قديم متصل بالأصول التاريخية الماجدة، وزعم أنها لم تجد مانعاً من قبول هذه الأسطورة، واستنبط من هذا أن القصة حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام. فالقصة صنعها اليهود للعرب يوم حروبهم العنيفة تأليفاً لهم! والقصة صنعت قبيل الإسلام يوم قام العرب يبحثون عن أصل تاريخي قديم!. ولم يصرح المؤلف في حديث هذا الرأي بمن لقنها قريشاً، فلا ندري هل اصطنعها قريش بأنفسهم، أم اصطنعها لهم اليهود المستعمرون مساعدة لأهل دين "يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية"!. عرف المؤلف أن التاريخ طافح بالشواهد على أن لمكة بين بلاد العرب ميزة ظاهرة، ولها في قلوب العرب حرمة بالغة، والناس يرون أن هذه المنزلة

احترام العرب لمكة يتصل بعهد إسماعيل وإبراهيم

المحترمة قد أحرزتها مكة من عهد إسماعيل وإبراهيم - عليهما السلام -، فبدا له أن يضع لقصة إسماعيل وإبراهيم عهداً قريباً، ورأى نفسه مضطراً إلى وضع يده على شيء يزعم أنه السبب في اصطناعها، فمكث غير بعيد، وجاءك يقول: إن قريشاً كانت في أول القرن السابع للمسيح على حظ من النهضة السياسية الاقتصادية، وزعم أن قصة إسماعيل وإبراهيم وليدة هذه النهضة، ثم انطلق يتحدث عن مصدر نهضة قريش، وانظر ماذا ترى!. * احترام العرب لمكة يتصل بعهد إسماعيل وإبراهيم: قال المؤلف في (ص 28): "فأما التجارة، فنحن نعلم أن قريشاً كانت تصطنعها في الشام ومصر وبلاد الفرس واليمن وبلاد الحبشة. وأما الدين، فهذه الكعبة التي كانت تجتمع حولها قريش، ويحج إليها العرب المشركون في كل عام، والتي أخذت تبسط على نفوس هؤلاء المشركين نوعاً من السلطان قوياً، والتي أخذ هؤلاء العرب المشركون يجعلون منها رمزًا لدين قوي، كأنه كان يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية من ناحية، والمسيحية من ناحية أخرى". ندع المؤلف يسمي ذلك النوع من التجارة كيف يشاء، وننظر فيما يذهب إليه بعد من أن الكعبة كانت موضع احترام العرب الوثنيين من قبل أن تصطنع لهم قصة إسماعيل وإبراهيم - عليهما السلام -؛ لأنه يجعل سيادة قريش الدينية من مصادر هذه النهضة السياسية، ويجعل النهضة السياسية باعثًا على تلفيق هذه القصة. فإذا كان العرب المشركون يحجون إلى الكعبة في كل عام، وليس لديهم شعور بقصة إسماعيل وإبراهيم، فما هو الأمر الذي بعث قلوبهم على احترام

هل حاولت قريش توجيه وحدة سياسية؟

هذه البنيَّة؟ وما هو السائق لهم إلى أن يؤموا مكة في كل عام رجالاً وركباناً؟ فسنّة الله في الخليقة تقتضي ألا يتفق قبائل شتى على احترام بقعة، وحط الرحال إليها في كل عام إلا لعامل خطير يكون له هذا الأثر الكبير، ولا بد أن يكون هذا العامل مذكورًا على ألسنة تلك القبائل تتناقله أجيالهم طبقة بعد أخرى. وإذا أطلقنا البحث في الروايات المحكمة، أو الأساطير الملفقة، لم نجد بها سوى أن تلك الحرمة التي يحملها العرب لمكة تتصل بعهد إسماعيل وإبراهيم. فمن يدعي أن لتلك الحرمة سبباً آخر، فعليه بيانه، وعلينا حسابه. والمؤلف على الرغم من كونه يهاجم بهذا البحث ديناً تفلّ السيوف القاطعات ولا تُفَلُّ حججه، لم يتعرض لسبب إقبال العرب على مكة بالاحترام والتعظيم، ولم يزد على أن ذكر أن قريشاً تجتمع حولها، والعرب المشركون يحجون إليها. وإذا سلمنا أن الباعث للعرب في القديم على احترام مكة والحج إليها غير قصة إسماعيل وإبراهيم، فما هو العامل القوي الذي استطاع التأثير على عقول تلك القبائل بأسرها حتى تحولت عما كانت تتصور من وجه احترام الكعبة إلى اعتقاد أنها من بناء إسماعيل وإبراهيم؟ فانقلاب قبائل من عقيدة إلى أخرى واقعة خطيرة، وشأنها أن تتلمح، ولوفي الأساطير والأسمار. * هل حاولت قريش توجيه وحدة سياسية؟ قال المؤلف في (ص 28): "فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية، ونهضة دينية وثنية. وبحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجه في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة تقاوم الروم والفرس

البحث عن أصل تاريخي قديم

والحبشة ودياناتهم في البلاد العربية". قال (سيديو) (¬1) في "تاريخ العرب": "كان بين الإسماعيلية والقحطانية تنافس المعاصرة المؤدي إلى اختلاف الكلمة، ثم مالوا إلى الوحدة السياسية لتوفر أسبابها من إغارة الحبشة عليهم بمكة، واتحادهم في الأخلاق والعوائد"، ولعلك تطالب المؤلف بأثر تاريخي يشهد بأن قريشاً حاولت توجيه وحدة سياسية وثنية تقاوم تدخل الأمم المجاورة لها وديانتها، فلا تجد لديه وثيقة على هذه النهضة سوى هذه الكلمة التي رماها (سيديو) في "تاريخه". أما نحن، فنتيقن أن العرب على اختلاف قبائلها تمقت السلطة الأجنبية، وتطمح إلى أبعد غاية في الحرية، ولكنا لم نجد في تاريخ الجاهلية ما يدل على أن قريشاً أو زعماء قريش سعوا في وحدة عربية تقف في وجه السياسة الأجنبية. نعم، قرأنا في ذلك التاريخ أن حروباً شبت بين قريش وهوازن قبل البعثة المحمدية بنيف وعشرين سنة، وهي المسماة بأيام الفجار، ولعلها كانت في سبيل هذه النهضة العاملة على وحدة السياسة العربية!. * البحث عن أصل تاريخي قديم: قال المؤلف في (ص 28): "وإذا كان هذا حقاً -ونحن نعتقد أنه حق-، فمن المعقول جداً أن تبحث هذه المدنية الجديدة لنفسها عن أصل تاريخي قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التي تتحدث عنها الأساطير". قد رأيت المؤلف كيف اقتدى بصاحب "الذيل" في دعوى أن القصة من صنع اليهود المستعمرين، ثم بدًا له أن يحدث طلاب الجامعة بباعث آخر ¬

_ (¬1) (ص 35).

مقابلة الحجة باللغو

على وضع القصة، وهو أنها صنعت لقريش يوم نهضت نهضتها السياسية القائمة على نهضتها الاقتصادية الدينية، وأخذت تبحث عن أصل قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة، وقد لبس الكتمان هنا، فلم ينمّ على من أسرّ إلى قريش بهذه الضالة التي قاموا ينشدونها، وقال لهم: إنكم من ذرية إسماعيل ابن إبراهيم. وربما كان هذا من أسرار كتابه التي لا يفضي بها إلا إلى المتعلقين بأذياله، فاسألوهم إن كانوا ينطقون. * مقابلة الحجة باللغو: قال المؤلف في (ص 28): "وإذن، فليس ما يمنع قريشاً من أن تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم، كما قبلت "رومة" قبل ذلك، ولأسباب مشابهة أسطورة أخرى صنعها لها اليونان تثبت أن روما متصلة بإينياس بن بريام صاحب طروادة". يريد المؤلف أن يقابل الجد بالهزل، والحجة باللغو، يريد من هذه الأمم التي تعقل أكثر مما يعقل أن تضع قصة اليونان مع روما في وزان آيات تقوم بجانبها دلائل النبوة المتجلية في حياة أكمل الخليقة من حكمة في التشريع إلى استقامة في الأعمال، إلى بلاغة في الأقوال، إلى عدل في القضاء، إلى رشد في السياسة، إلى صدق اللهجة، إلى صرامة العزم، إلى حسن السمت، إلى رونق الحياء، إلى ما جدع أنف الباطل، إلى ما قوض عروش الجبابرة، إلى ما قلب العالم رأساً على عقب، وموجز القول: أن كل حلقة في سلسلة حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - معجزة؛ فإن أساليب دعوته، ومظاهر حكمته لا يربطها بالأمية وغير الأمية إلا من له الخيرة في أن يمنح البشر ما لا تعهده البشرية.

أمر الطعن في هذه القصة

هذه النبوة الساطعة، والهداية المحفوفة بالآيات من كل ناحية، هي التي خطر على بال المؤلف أن يزلزل أركانها بحكاية أسطورة يونانية! يجعلون لروما تاريخاً خرافياً، وتاريخياً حقيقياً، والحقيقي يبتدئ من سنة 753 قبل المسيح، وقصة (إينياس) داخلة في دور التاريخ الخرافي، وقال ناقدوها: إنها صادرة من أرباب الخر افات والخزعبلات. وقصة إسماعيل لا يسهل على المؤلف أن يجعلها من هذا القبيل، إلا إذا آنس في نفسه قوة على نقض الأساس الذي قامت عليه، وهي رسالة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو لا يستطيع أن يسل من هذا الأساس لبنة ما دام قلمه لا يمشي إلا وقع في كبوة، ولا يطعن إلا رجع بنبوة. {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 15 - 16] * أمر الطعن في هذه القصة: قال المؤلف في (ص 29): "أمر هذه القصة إذن واضح. فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام، واستغلها الإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضاً. وإذن، فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عند ما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى". أمر الطعن في هذه القصة إذن واضح، فهو حديث العهد ظهر قبيل كتاب "في الشعر الجاهلي"، واستغله كتاب "في الشعر الجاهلي" لسبب اقتصادي وديني غير إسلامي، ولم تقبله الثقافة الشرقية لسبب ديني وسياسي أيضاً، وإذن، فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل به عند ما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى.

الاختلاف بين اللغة العدنانية والقحطانية

* الاختلاف بين اللغة العدنانية والقحطانية: قال المؤلف في (ص 29): "وإذن، فنستطيع أن نقول: إن الصلة بين اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلم بها العدنانية، واللغة التي كانت تتكلمها القحطانية في اليمن إنما هي كالصلة بين اللغة العربية، وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة". كنا وضعنا بين يديك أن الاختلاف بين العدنانية واللغة القحطانية لم يكن في العصر القريب من ظهور الإسلام بعيداً إلى الغاية التي يخيلها إليك المؤلف، وقلنا لك: إن هضم اللغة العدنانية للغة القحطانية بعد الإسلام بأمد غير بعيد، يدل على أن الفوارق بينهما أخذت تذوب منذ عهد الجاهلية، وهذا لا تعترضه الآثار المخطوطة باللغة المخالفة للعدنانية في نحوها وصرفها، ولو دلت بتاريخها على أنها رسمت قبل الإسلام بعهد قريب؛ إذ قصارى ما تدل عليه: أن لغة أهل المكان المنطوي عليه ذلك الأثر، أو اللهجة التي جرت عليها عادة الكتابة لم تتخلص من مميزاتها الشديدة، ولا يعترضه أيضاً قول أبي عمرو بن العلاء: "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا"؛ فإنه يصدق حيث يكون بين لغة حمير وأقاصي اليمن، وبين لغة عرب عدنان اختلاف في بعض المفرادت، وشيء يسير من القواعد النحوية، وهذا الاختلاف سمّاه ابن جني في كتاب "الخصائص" (¬1): بعداً، وأثبت -مع هذا البعد- أنها لغة عربية، فقال: "ويكفي من هذا ما تعلمه من بُعد لغة حمير من لغة بني نزار"، ثم قال: "غير أنها لغة عربية قديمة". ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 427).

العاربة والمستعربة

* العاربة والمستعربة: قال المؤلف في (ع 29): "وإن قصة العاربة والمستعربة، وتعلم إسماعيل العربية من جرهم، كل ذلك حديث أساطير، لا خطر له، ولا غناء فيه". من الأمة العربية أقوام يدور حديثهم في الجزيزة، ويتناقل المؤرخون أثراً من أخبارهم؛ كعاد وثمود وطسم وجديس وجرهم، ولم يبق على وجه الجزيرة من ينتمي إلى هذه القبائل، وقد ذكر القرآن بعضها. كعاد وثمود، وقال في شأنهما: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم: 50 - 51]. وهؤلاء يسمونهم: البائدة؛ لعدم بقاء جماعة معروفة تنتمي إليهم في البلاد العربية. ويمتد بجنوب الجزيرة قبائل يقال لها: القحطانية، وبشمالها قبائل أخرى يقال لها: العدنانية، ووجدوا في كل من هاتين الأمتين رجالاً لهم عناية بأنساب القبائل، فأخذوا عنهم ما يذكرونه في أصل بني قحطان، وسمّوهم: المتعربة، وتلقوا منهم: أن هذه القبائل العدنانية تتصل بإسماعيل، فسمّوهم: المستعربة، وما تأيد من هذه الأخبار بقرآن، أو بحث حديث يستند إلى محسوس، حل منا محل العلم، وما كان حظه النقل عن أولئك الرواة فقط، نافاه حس أو عقل، أو سنة كونية، رددناه على ناقله خاسئاً، وإن لم يناف شيئاً من هذه الأصول، قصصناه عالمين بمبلغه من الظن، ودوّناه إلى أن نظفر بما نضعه في محله من أنباء هي أرجح منه وأقوى. * الشعر القحطاني والعدناني: قال المؤلف في (ص 29): "والنتيجة لهذا البحث كله تردنا إلى الموضوع

الذي ابتدأنا به منذ حين، وهو أن هذا الشعر الذي يسمونه: الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية، ولا يمكن أن يكون صحيحاً؛ ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئاً كثيراً من الشعر الجاهلي قوماً ينتسبون إلى عرب اليمن، إلى هذه القحطانية العاربة التي كانت تتكلم لغة غير لغة القرآن، والتي كان يقول عنها أبو عمرو بن العلاء: إن لغتها مخالفة للغة العرب، والتي أثبت البحث الحديث أن لها لغة أخرى غير لغة العربية". قد عرفت أن المؤلف نحا بعبارة أبي عمرو بن العلاء نحواً من التحريف؛ ليجد فيها من الشاهد لرأيه ما لا يجده حين يوردها على وجهها. وقلنا لك مرة، بل مرتين: إن أبا عمرو لا يريد إلا أن بينها وبين العدنانية اختلافاً، وذلك ما لا ينكره قديم أو جديد، ولم يقل: إن لغة اليمن مخالفة للغة العربية، بل سمى لغتهم عربية، وقال: وما عربيتهم بعربيتنا. وخضنا فيما يدل عليه البحث الحديث، وانتهينا إلى أنه لا يعترض الاعتقاد بأن فوارق اللغة القحطانية كانت حوالي القرن الأول قبل الإسلام خفيفة إلى حد أن قبلت الخروج في زيّ العدنانية بعده بسهولة. هذا شأن الاختلاف بين اللغتين، أما تشابه الشعر القحطاني والعدناني، فله سبيل غير هذا السبيل، والرأي الذي يوافق إجماع الروايات، ويؤيده النظر، ولا يعترضه البحث الحديث: أن الشعراء في جنوب الجزيرة وشمالها أصبحوا من قبْل الإسلام ينظمون الشعر بلهجة واحدة، أو متقاربة، وإليك البيان: من الواضح الذي تستحي أن تعزوه إلى كتاب، أو تقيم عليه شاهداً: أن لغة قريش كانت أفصح لغات العرب قاطبة، وسبب هذا التفوق: موقع

سوق عكاظ وذي المجاز ومجنّة من ديارهم؛ إذ كانت القبائل تفد عليها في موسم الحج، وتتخذ فيها معرضًا لمصنوعات القرائح، ونوادي للتفاخر بالأحساب والأنساب، أو التقاذف بالوعيد والهجاء، وهذا ما يضع لغات العرب بين يدي قريش، فتلقط منها ما يستخفه السمع، ويتسوغه الذوق، ومن المعقول أن تكون هذه المحافل الأدبية أفادت لغة قريش، وزادتها فصاحة على فصاحتها، وتقدمت بها على سائر لغات العرب شوطًا بعيداً. وإذا قامت في قلب الجزيرة لغة قبضت على أعنة الفصاحة، وكان للناطقين بها مظهر من مظاهر السؤدد، فمن سنّة تقليد الأفضل والأجود أن تنزل القبائل إلى محاكاة لهجة قريش، ونسج الكلام على منوالها، وأول من يسبق إلى هذا الشأن ذوو الفكر المنتج، والخيال الواسع، والمعاني الغزيرة، وهم الخطباء والشعراء. فتقارب الشعراء في اللهجة جاء من جهة محاكاتهم بالشعر أفصح لهجة وأشهرها بين القبائل، وهي لغة قريش. قال أبو إسحاق الشاطبي في "شرح الخلاصة" (¬1): "فإن الحجازي قد يتكلم بغير لغته، وغيره يتكلم بلغته، وإذا جاز للحجازي أن يتكلم باللغة التميمية، جاز للتميمي أن يتكلم باللغة الحجازية، بل التميمي بذلك أولى". ومما قال في توجيه هذه الأولوية: "أن الحجازي أفصح، وانقياد غير الأفصح لموافقة الأفصح أكثر وقوعًا من العكس". فرغبة الشعراء في أن يكون لشعرهم جولة في البلاد العربية بأسرها، ووجود لهجة تشهد القبائل موطنها، وتألفها أسماعهم، وترتاح لها نفوسهم، ¬

_ (¬1) حكاه البغدادي في "خزانة الأدب" (ج 2 ص 134).

مما يحمل هؤلاء البلغاء على أن يحتذوا في شعرهم حذو هذه اللهجة الفائقة المألوفة. فإذا قرأنا هذه المطولات، ورأينا فيها مطولة لشاعر كندي، ومطولات لشعراء من ربيعة، ولم نشعر فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافاً في اللهجة، أو تباعدًا في اللغة، فالسبب ما لوحنا إليه من أن الاختلاف في أصله يسير، وأن هناك ما يسوق الشعراء إلى أن يتحروا بالشعر أفصح اللهجات، وأكثرها وقعًا على الأسماع. ونحن نعلم أن قبائل اعتنقت الإسلام، وفيها بقية من حضارة، وعلم بالكتابة، فلا يصح أن يبلى شعرها الذي قيل في عهد جاهليتها، فلا بد أن ترث منه نصيباً مفروضًا، وأن يبقى في يدها ولو الشعر الذي قرب عهده، ولم يتوغل في الجاهلية أكثر من مئة سنة، ومن هؤلاء الذين تقلدوا الإسلام، ويجب أن يكونوا عارفين بلهجة شعرائهم، من شهدوا يوم أصبحت العرب أمة واحدة، وحين بدأت القبائل تراجع مآثر شعرائها، ومفاخر أحسابها. ولا يخلو هؤلاء اليمانون العارفون بلهجة شعرائهم إما أنهم اشتركوا في هذا السباق، وقدموا للناس أشعار سلفهم بلهجتها الأولى، ولو فعلوا ذلك، لرأينا له في التاريخ أثراً، أو يحدثنا عنه التاريخ، وإن لم يرو لنا منه قافية، كما حدثنا عن أسد بن ناعصة المشبب بخنساء، وقال: إنه "كان صعب الشعر جداً، وقلما يروي شعره لصعوبته (¬1) "، وإما أن يكونوا قد طرحوا ما بأيديهم من الشعر القديم، ودخلوا السباق بشعر صاغوه في لهجة قريش، وعزوه إلى شعرائهم الأقدمين، ومن البعيد جداً أن يعدموا في هذا ¬

_ (¬1) "التهذيب" للأزهري، مادة (نعص).

للشعر لغة غير لغة الكلام

الحال من يعرفون لهجة أولئك الشعراء، ويدرون الفرق بينها وبين لهجة قريش، فيفسدون عليهم صنيعهم، ويحثون في وجوههم الإنكار بملء أفواههم، وواقعة أدبية أو لغوية كهذه لا تمر على الناس من غير أن يضعوها في يد التاريخ تبدو لنا، ولو في شبح ضئيل. ومما يتعذر قبوله أيضاً أن يضع غير اليمانين أشعاراً في لهجة قرشية، ويعزوها إلى القدماء من شعراء اليمن دون أن يجدوا من اليمانين، أو ممن يعرف لهجة شعراء اليمانين من ينكر صنيعهم، ويناضلهم بحجة أن هذا الشعر غير منطبق على لهجة أولئك الشعراء. وانصباب العرب في الحروب والفتوحات إنما يصلح أن يكون علة لضياع الكثير أو الأكثر من شعرهم، أما أنه يذهب بأثره جملة، فواقعة لا يؤمن بها إلا من يكون "على حظ عظيم جداً من السذاجة". فالمعقول أن الاختلاف بين اللغة القحطانية واللغة العدنانية قبل الإسلام بعشرات من السنين لم يكن كحاله في العصور الغابرة، وأن الشعر كان يظهر في لهجة يسير عليها شعراء القبيلتين للأسباب التي سقناها آنفاً، وإذا فرض أن ينحو شاعر نحو لهجته، فأيسر شيء على الرواة تغييره إلى اللهجة الأدبية العامة، وسنعود إلى البحث تارة أخرى. * للشعر لغة غير لغة الكلام: قال المؤلف في (ص 30): "ولكننا حين نقرأ الشعر الذي يضاف إلى شعراء هذه القحطانية في الجاهلية، لا نجد فرقاً قليلاً ولا كثيراً بينه وبين شعر العدنانية. نستغفر الله! بل نحن لا نجد فرقاً بين لغة هذا الشعر ولغة القرآن. فكيف يمكن فهم ذلك وتأويله؟ أمر ذلك يسير، وهو أن هذا الشعر

الذي يضاف إلى القحطانية قبل الإسلام ليس من القحطانية في شيء، لم يقله شعراؤها، وإنما حمل عليهم بعد الإسلام لأسباب مختلفة سنبينها حين نعرض لهذه الأسباب التي دعت إلى انتحال الشعر الجاهلي في الإسلام". قد جئناك بتفصيل القول في أن للشعر لغة غير لغة الكلام، وأقمنا هذا الرأي على ما يتفق مع الرواية المتضافر عليها في الصدر الأول، وأومأنا إلى أن البحث الحديث لا يعترضه في قليل ولا كثير، وهذا الدكتور (مرغليوث) يقول في صدر مقاله المنشور في "مجلة الجمعية الآسيوية الملكية": "لا نجد في المخطوطات الأثرية شيئاً من الشعر بالرغم من وجود مدنية عالية". فلا موضع لعجب المؤلف إذا لم يجد فرقاً قليلاً ولا كثيراً بين شعر القحطانية وشعر العدنانية. وأما ما يقوله من أنه لا يجد فرقاً بين لغة هذا الشعر ولغة القرآن؛ فإن أراد أنه يوافق لغة القرآن في قواعد نحوها وصرفها، وكثير من مفرداتها، فذلك ما لا يناقشه فيه أحد، وسره ما كنا بصدد الحديث عنه من أن الاختلاف بين اللغتين أصبح ضئيلًا، وأن لغة الشعر والخطابة بين العرب غير اللغة المستعملة في مخاطباتهم العادية، ولا ننسى أن اللغة التي نزل بها القرآن، وكان البلغاء في الجاهلية يحتذونها، هي لغة أساسها لغة قريش، وسائر بنائها قائم من لغات شتى.

الشعر الجاهلي واللهجات

الشعر الجاهلي واللهجات * إنكار القبائل والأنساب: قال المؤلف في (ص 31): "على أن الأمر يتجاوز هذا الشعر الجاهلي القحطاني إلى الشعر الجاهلي العدناني نفسه. فالرواة يحدثوننا أن الشعر تنقل في قبائل عدنان، كان في ربيعة، ثم انتقل إلى قيس، ثم إلى تميم، فظل فيها إلى ما بعد الإِسلام؛ أي: إلى أيام بني أمية حين نبغ الفرزدق وجرير، ونحن لا نستطيع أن نقبل هذا النوع من الكلام إلا باسمين؛ لأننا لا نعرف ما ربيعة وما قيس وما تميم معرفة علمية صحيحة؛ لأننا ننكر أو نشك على أي تقدير شكاً قوياً في قيمة هذه الأسماء التي تسمى بها القبائل، ونعتقد، أو نرجح أن هذا كله أقرب إلى الأساطير منه إلى العلم اليقين". يقول بعض الكاتبين في تاريخ الأدب؛ كابن سلام الجمحي: كان الشعر في الجاهلية في ربيعة، ثم تحول إلى قيس، ثم آل إلى تميم، واستقر بها. يقولون هذا، وهم يريدون أن أقدم من عرفوا بالشعر الجيد كانوا في ربيعة، مثل: مهلهل، وطرفة، والمتلمس، والحارث بن حلزة، والأعشى، ثم ظهر في قيس شعراء فائقون؛ كالنابغتين الذبياني والجعدي، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد، والحطيئة، ثم أصبح أكثر البارعين في الشعر من بني

تميم إلى عهد الفرزدق وجرير، وفي شعراء تميم أوس بن حجر، وعلقمة ابن عبدة، ومالك ومتمم ابنا نويرة. سمع المؤلف هذا الحديث، فعرض لنفسه حال لم يدر هل هو إنكار، أو شك، وقد توجه هذا الإنكار أو الشك إلى أن هناك قبيلة تسمى ربيعة، وأخرى تسمى قيساً، وثالثة تسمى تميماً، ثم توجه هذا الحال الذي هو إنكار أو شك إلى قيمة الأنساب التي تصل بين الشعراء، وبين أسماء هذه القبائل. أما الإنكار أو الشك في أن هناك قبائل تسمى بهذه الأسماء، فلا يمكنك علاجه إلا إذا استطعت أن تعالج أصم ينكر أن في الأصوات مزعجًا، وآخر لذيذاً. وأما الإنكار أو الشك في نسبة هؤلاء الشعراء إلى هاتيك القبائل، فمنشؤه: أن المؤلف لا يقدر عناية العرب بالمحافظة على أنسابها، ويضعها بالموضع اللائق بها من البحث، ولا يزيد بهذا إغلاق باب البحث في أنساب الشعراء أو غيرهم، بل أعني: أنه متى أجمع علماء التاريخ على أن الحارث ابن حلزة -مثلاً- من ربيعة، أو أن الأعشى من قيس، أو أن الفرزدق من تميم، وثقنا بهذا الطريق العلمي، وليس لنا أن ننكر أو أن نشك في هذه الأنساب، إلا أن يقع في أيدينا ما يحل عقدة ذلك الإجماع. أما سلسلة النسب التي تصل الشاعر باسم القبيلة، فقد يحف بها من الشواهد ما يلحقها بالظنون الراجحة، وكثير من هذا النوع ما يذكرونه على أنه رُوي، وتحدث به، فيدونونه وهم عارفون بقيمته التاريخية، ويقرؤه الناس دون أن يضلوا به، أو يضعوه في سلك العلم، أو الظن القريب منه؛

اختلاف لغات العرب العدنانية

لأنهم لا يبنون عليه إرثاً أو مصاهرة أو مناصرة. فإن أراد المؤلف أن يتعاظم أمام طلابه في الجامعة بأنه يشك أو ينكر حيث يتيقن أهل العلم أو يتفقون، فقد تصوَّر هذه الطائفة القليلة المستنيرة بمكان البله والغباوة. وإذا ضل عن المؤلف الطريق العلمي لمعرفة أنساب هؤلاء الشعراء، فليمش إليه على الطريق الذي عرف به أن في قبائل العرب قبيلة يقال لها: كندة، وأن عبد الرحمن الأشعث هو ابن محمد الأشعث، وأن محمد الأشعث هو ابن الأشعث، وأن الأشعث هو ابن قيس، وأن نسب آل الأشعث يتصل بقبيلة كندة (¬1). ومن بديع منطق المؤلف أن يتماثل الطريقان إلى الغاية، فيرضى عن أحدهما، ويسخط على الآخر، كان إنكاره أو شكه اختياري يستدعيه متى يشاء، ويصرفه في الوقت الذي يريد!. * اختلاف لغات العرب العدنانية: ذكر المؤلف أن مسألة النسب لا تعنيه الآن، وأنه سيعرض لها إذا اقتضت مباحث هذا الكتاب أن يعرض لها. ثم قال في (ص 31): "إنما المسألة التي تعنينا الآن، وتحملنا على الشك في قيمة هذه النظرية -نظرية تنقل الشعر في قبائل عدنان قبل الإسلام - مسألة فنية خالصة. فالرواة مجمعون على أن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة، ولا متفقة اللهجة قبل أن يظهر الإِسلام فيقارب بين اللغات المختلفة، ويزيل كثيراً من تباين اللهجات. وكان من المعقول أن تختلف لغات العرب العدنانية، وتتباين لهجاتها قبل ظهور الإسلام". ¬

_ (¬1) تحدث بهذا في (ص 134 - 137).

تختلف لهجات القبائل العربية اختلافاً لا يخرجها عن أن تعد لساناً واحداً، وأن يكون هذا اللسان ذا قوانين تجري في هذه اللهجات بأسرها. تختلف في معاني بعض الكلمات، أو بتغاير بعض حروفها، أو هيئتها من حركة وسكون، أو صفتها كالإمالة والتفخيم، أو بقلبها، أو بالزيادة فيها، أو النقص منها، وتختلف في حروف معدودة بالإعراب والبناء، وبإعمال بعض الأدوات وإهمالها. ولا تزال هذه الوجوه من الاختلاف محفوظة في كتب اللغة والنحو، بيد أن علماء العربية قد يعزون الكلمة أو اللهجة إلى القبيلة المختصة بها، وربما ذكروا أنها لغة من غير عزو إلى قبيلة بعينها. ولم تشتد عنايتهم بذكر اسم القبيلة عند كل كلمة ترد على وجهين أو وجوه؛ لأنهم أصبحوا ينظرون إلى هذه اللهجات بمرآة عامة هي اللغة العربية، فصارت تلك الحروف على اختلاف وجوهها وأحوالها- مندرجة تحت اسم هذا العنوان الشامل، ولهذا تسمعهم يجعلون للمتكلم الخيار في أن ينطق بأي حرف شاء، وعلى أي وجه اتفق له، وهو معدود في كل حال ناطقاً بالعربية. قال ابن فارس بعد أن ذكر الوجوه التي تختلف بها لغات العرب: "وكل هذه اللغات مسماة منسوبة لأصحابها، لكن هذا موضع اختصار، وهي وإن كانت لغة قوم دون قوم، فإنها لما انتشرت، تعاورها كلٌّ (¬1) ". وقال ابن جني في كتاب "الخصائص": "اللغات على اختلافها كلها حجة، والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ". وقال أبو حيان في "شرح التسهيل": "كل ما كان لغة لقبيلة صحّ القياس عليه". ¬

_ (¬1) "الصاحبي" (ص 22).

العزلة العربية

فلغات العرب العدنانية تختلف على حسب الوجوه التي أومانا إليها، وهذا الاختلاف المعقول لا يجد فيه المؤلف دليلاً أو شبه دليل على أن الشعر الجاهلي مختلق، وإن ساقه هنا بتوهم أنه قائم مقام مقدمتين صادقتين لا مردَّ لهذه الدعوى عن أن تكون وليدتيهما، وقد أريناك فيما سلف نوعاً من الأسباب التي تجعل هذا الاختلاف قليل الظهور في أشعار الفصحاء، وسيوافقك البحث بعد هذا بما يدحر هذه الشبهة عن سبيلك. * العزلة العربية: قال المؤلف في (ص 32): "ولا سيما إذا صحت النظرية التي أشرنا إليها آنفاً، وهي نظرية العزلة العربية، وثبت أن العرب كانوا متقاطعين متنابذين، وأنه لم يكن بينهم من أسباب المواصلات المادية والمعنوية ما يمكن من توحيد اللهجة". أتدري ما هي نظرية العزلة التي أشار إليها آنفاً، وودّ في هذا الفصل أن تصح، وتستقيم له؟ هي تلك النظرية التي رماها على كتاف "الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي من درس الحياة العربية قبل الإسلام"، وشن عليها الغارة بنكير لا هوادة فيه، وكنا قد أمطناها عنهم ببيان أن في الشعر الجاهلي نفسه ما يدل على أنهم كانوا يتصلون بالأمم المجاورة لهم بمقدار. أنكر المؤلف نظرية العزلة العربية حين رآها تعترض ما أراده من أن للجاهليين اتصالاً بالعالم الخارجي! ووذ في هذا الفصل أن تستقيم له؛ لأنها تؤيد نظرية عدم التقارب بين لغات القبائل العربية!. ولعله يعود فيقول: إنما أنكر اعتزال العرب للأمم الأخرى، وأما حالهم

لغة أدبية منذ عهد الجاهلية

فيما بينهم، فالتقاطع والتباعد، ويلزمه على هذا التاويل أن يكون العرب الواقفون على سياسات الأمم الأجنبية إنما هم النازلون بأطراف الجزيرة؛ لأن القبائل النازلة في أحشاء الجزيرة لا يمكنها أن تتصل بالفرس والروم والحبشة ومصر، إلا أن تجوس خلال من يجاورها، أو يجيء على طريقها من القبائل الأخرى. وليس بمستبعد على مثل المؤلف أن يقول لك في صراحة وعجل: إن تلك القبائل كانت على مدنية شائقة، وكانت تمتطي طيارات تمخر بها في الجو حتى تتصل بالأمم الأجنبية، ولا تلقى في سبيلها شخصاً من قبيلة أخرى عربية، تفعل ذلك حذراً من أن تتقارب لهجاتها، ويتماثل شعرها!.، * لغة أدبية منذ عهد الجاهلية: قال المؤلف في (ص 32): "فإذا صح هذا، كان من المعقول جداً أن تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها، ومذهبها في الكلام، وأن يظهر اختلاف اللغات، وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل الذي قيل قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة، ولهجات متقاربة، ولكننا لا نرى شيئاً من ذلك في الشعر العربي الجاهلي". هذه الشبهة علقت بذهن المؤلف فيما علق من مقال (مرغليوث)، وهي مطرودة بنظرية وجود لغة أدبية يحتذيها الشعراء على اختلاف قبائلهم منذ عهد الجاهلية، وهذا لا يقوله أنصار القديم وحدهم، بل يقوله كثير ممن هم أخلص لمذهب الجديد، وأعرق فيه من المؤلف، فهذا البستاني يقول في "دائرة معارفه" (¬1): "وكان أشد الخلاف بين أهل نجد والحجاز، وأهل ¬

_ (¬1) (ج 10) مادة (شعر).

اليمن الحميريين، وكانوا كلهم مولعين بقول الشعر، وأرادوا أن تبقى الاتصالية في الأخبار والأحوال بين قبائلهم على اختلافها، ولم يكن لهم كتب يدونون فيها الوقائع بحيث يفهمها الجميع، فأجمع الشعراء على أن ينظموا شعرهم بألفاظ فصيحة مشهورة شائعة بين كل القبائل، وبذلك اشتركت ألفاظ اللغة العربية، وشاعت بمنطوق واحد، وتقررت من الجميع". وهذا (سيديو) يقول في "خلاصة تاريخ العرب" (¬1): "كان بين الإسماعيلية والقحطانية تنافس المعاصرة المؤدي إلى اختلاف الكلمة، ثم مالوا إلى الوحدة السياسية ... ورأو الأشعار وسيلة لانتشار فخارهم في بحيث (¬2) جزيرة العرب، وسبيلًا لوصول أعمالهم العجيبة، ومآثرهم إلى ذراريهم، فأحبوها، وعكفوا عليها، لكن كلام مؤلفي نجد والحجاز لم يفهمه مؤلفو اليمن، بل لم تتفق قبائل بلد واحد على لغة واحدة، إلا أن شعراء العرب الموكول إليهم اختراع لغة أعم من تلك اللغات رُويت أشعارهم في كل جهة، فتعينت الألفاظ المعدة للدلالة على الأفكار والتصورات، فإن العشائر المستعملة للعبارات المختلفة للدلالة على فكرة واحدة متى سمعت قول الشاعر، اختارته في ذلك الموضوع، وفهمت مع ذلك فوائد التمدن، فلذ! قابلت الأمة العربية هذه الابتكارات العقلية بالاعتبار، وأنشؤوا في عكاظ والمجنة وذي المجاز للمفاخرة بالشعر مجالس حافلة خالية من التحكم على النفوس". وقال الدكتور (تشارلس ليال) في مقدمة "المفضليات" بعد أن أمتع ¬

_ (¬1) (ص 36). (¬2) كذا في الأصل وفي المرجع.

الرد على (مرغليوث): "إنه مما لا شك فيه أنه وجد بجزيرة العرب قديماً، كما يوجد اليوم في كثير من أنحاء الجزيرة، لهجات وفروق عظيمة، ولكنا نرى فرق اللهجات في لغة الشعر قليلاً -إلا في أشعار طيء-، ومعناه: أن لغة الشعر في أنحاء الجزيرة صارت واحدة، ومجموعة لغات الشعر الجاهلي، وكثرة المترادفات العظيمة إنما وجدت في الشعر بامتصاص تدريجي، وبذلك نشأت لغة شعرية هضمت لهجات القبائل المختلفة. ولا محالة أن هذا يستغرق زمناً يكون المشتغلون فيه لوضع هذه اللغة الشعرية وأوزانها في أقصى ما يمكن من العزم". ثم قال: "ويظهر لنا أن هنالك أثراً من الصحة للرواية القائلة بأن سوقًا سنوية كانت تعقد في الأشهر الحرم بجوار مكة، ويتنافس فيها الشعراء بمآثر الفصاحة، وأن مثل هذه المجتمعات والأسواق هي المدرسة التي رقت الشعر وأسلوبه، وأحكمت قواعده". وفي "دائرة المعارف الإسلامية" الإنكليزية: "نتساءل: كيف أمكن الشعراء -وأكثرهم أميون- أن يوجدوا لغة أدبية واحدة؟ فعلوا ذلك رغبة منهم في انتشار أشعارهم بين جميع القبائل، وهم إما أن يكونوا قد استعملوا كلمات وجدت في جميع لهجات القبائل بسبب الصلات التجاربة بين القبائل المختلفة فأتى الشعراء وهذبوها، وإما أنهم اختاروا بعض لهجمات خاصة، فأصبحت هذه اللهجة لغة الشعر". وفيها: "كان جميع شمال جزيرة العرب في أوائل القرن الخامس للميلاد لهم لغة واحدة، وهي لغة الشعر، ويمكننا القول بأنها نشأت تدريجياً بمناسبات واختلاطات بين القبائل المختلفة؛ مثل: هجرة القبائل في طلب المرعى، وحجهم السنوي إلى أماكنهم المقدسة أمثال مكة وعكاظ، ويظهر أن هذه اللغة استقت من لهجات كثيرة". وقد أخذ (أدور براونلش) في رد هذه الشبهة على (مرغليوث) بتسليم

اللهجة المتماثلة والأوزان المتشابهة في المطولات

لغة الجنوب مخالفة للغة العربية، وذهب إلى أن اللغة الأدبية وحدت لهجات القبائل الشمالية، ولم يمنع مع هذا أن ينظم أناس من القحطانيين أشعاراً بهذه اللغة؛ لأن كثيراً منهم يتكلمون باللغتين، فقال: "إن اختلاف الشعر العربي عن نصوص المخطوطات الموجودة في جنوب بلاد العرب لا يدل إلا على أمر واحد، وهو أن سكان هذه الممالك الجنوبية لا نصيب لهم في صنع الشعر العربي، على أن هذا لا ينفي اشتراك بعض أشخاص منهم في وضع الشعرة لأن كثيراً من سكان جنوب بلاد العرب كانوا يتكلمون باللغتين قبل أن يظهر عامل التوحيد الإسلامي بأزمان عظيمة". ثم قال: "إن اختلاف لغة جنوب بلاد العرب عن لغة الشماليين ليست بالأمر المستغرب، ولا سيما إذا علمنا أن لغة الجنوب ليست بلهجة عربية، بل هي لهجة سامية، بينما لهجات العربية الشمالية المختلفة أمكن توحيدها في لغة أدبية راقية". فهؤلاء الباحثون المتمرنون على منهج (ديكارت)، قد قرروا نظرية وجود لغة أدبية زمن الجاهلية، إلا أن من هؤلاء من يجعلها للعرب قاطبة عدنانية وقحطانية، ومنهم من يجعلها للقبائل العدنانية، ولا يمنع مع هذا أن ينظم بعض القحطانيين في هذه اللغة أشعاراً؛ حيث إن فيهم من هو قائم على اللغتين. وعلى أي حال، لا يستقيم لأحد أن ينكر شعراً يعزى لقيسي، أو رَبَعي، أو كِندي لمجرد ما يوجد بين لغات هذه القبائل أو لهجاتها من اختلاف. * اللهجة المتماثلة والأوزان المتشابهة في المطولات: ذكر المؤلف المطولات أو المعلقات، وأصحابها: وقال في (ص 33): "تستطيع أن تقرأ هذه القصائد السبع دون أن تشعر

فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافاً في اللهجة، أو تباعداً في اللغة، أو تبايناً في مذهب الكلام. البحر العروضي هو هو، وقواعد القافية هي هي، والألفاظ مستعملة في معانيها كما تجدها عند شعراء المسلمين، والمذهب الشعري هو هو". لا يشعر القارئ في هذه المطولات بشيء يشبه أن يكون اختلافاً في اللهجة؛ لأن للشعر والخطابة منذ عهد الجاهلية لغة واسعة النطاق، بعيدة ما بين الأطراف. وليس كل ما تسمعه فيما يصوغه الفصحاء من شعر أو نثر هو لغة قبيلة واحدة، بل هو مستخلص من لغات شتى، وفي هذه اللغة الضارية في نواحي الجزيرة يمينًا ويسارًا نزل القرآن، وتفقهت فيه سائر القبائل، حتى القحطانية، من غير أن يحتاجوا في فهمه إلى ترجمان، ومن يسمّي هذه اللغات المهذبة لغة قريش، فلأن لغة قريش كانت المبدأ الذي شبت عليه هذه اللغة، وأخذت تجتني من لغات القبائل ما يخف وقعه على السمع والذوق واللسان، فأنت إذا قرأت قصيدة من هذه المطولات، قد تمر على كثير من لهجات القبائل، ولكنك لا تشعر بها؛ لأنها أصبحت بفضل هذه اللغة سائرة في شعر كندة وربيعة وقيس وتميم؛ كسيرها في شعر قريش. ومن آثار وحدة اللغة الأدبية هذه المترادفات الفائقة كثرة، وهذه الكلمات التي تنقلها من معنى إلى معنى أو معان، وهذه الألفاظ التي يحق لك أن تنطق بها في هيئات متعددة، وقد تكون هذه الأوزان الشعرية متفرقة في لهجات القبائل، ووقع اختيار الفصحاء عليها، وأخذوا ينسجون في النظم على مثالها، فلا عجب أن تظهر هذه المطولات في لهجة متماثلة، وأوزان متشابهة، وأن

أثر اختلاف القبائل في الشعر

تكون ألفاظها مستعملة في معانيها كما نجدها عند شعراء المسلمين. * أثر اختلاف القبائل في الشعر: قال المؤلف في (ص 33): "كل شيء في هذه المطولات يدل على أن اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيراً ما. فنحن بين اثنتين: إما أن نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان في اللغة، ولا في اللهجة، ولا في المذهب الكلامي، وإما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل، وإنما حمل عليها حملًا بعد الإسلام. ونحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى. فالبرهان القاطع قائم على أن اختلاف اللغة واللهجة كان حقيقة واقعة بالقياس إلى عدنان وقحطان، يعترف القدماء أنفسهم بذلك؛ كما رأيت أبا عمرو بن العلاء، ويثبته البحث الحديث". لتختلفِ اللغات، لتتباين اللهجات، ليكن البعد بين اللغات واللهجات مثل ما بين مطلع الشمس ومغربها، ليقم على اختلافها سبعون برهاناً، لتكن براهينها أجلى من الشمس في رونق الضحى. والذي لا يهتدي المؤلف إلى نفيه سبيلاً هو قيام لغة أدبية باسطة أشعتها في كل ناحية، ولا سيما بعد أن كانت قَدُومه القاسية إحدى الضاربات في أساس نظرية العزلة العربية. أما ما يدعيه من أن اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيراً ما، فناشئ من قلة خبرته بحقيقة نوع يسمى المترادف، وآخر يسمى المشترك، وثالث يستعمل على وجهين، أو وجوه، والألفاظ المترادفة والمشتركة وذات الوجوه المتعددة موجودة في الشعر الجاهلي، وهي من تأثير اختلاف القبائل ولغاتها؛ لأن "العرب كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم، بل كانوا على اتصال قوي"، و"لم يكن العرب كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلي

تعدد القراءات في القرآن واختلافها

معتزلين"، و"إذا كانوا أصحاب علم ودين، وأصحاب ثروة وقوة وبأس، وأصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة، متأثرة بها، مؤثرة فيها، فما أخلقهم أن يكونوا" على أتصال فيما بينهم، وأن تتربى على ألسنتهم لغة ينطق بها فصحاؤهم إذا ألقوا خطبة، أو نظموا شعراً. * تعدد القراءات في القرآن واختلافها: قال المؤلف في (ص 33): "وهناك شيء بعيد الأثر لو أن لدينا أو لدى غيرنا من الوقت ما يمكننا من استقصائه، وتفصيل القول فيه، وهو أن القرآن الذي تلي بلغة واحدة، ولهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة، حتى كثرت قراءاته، وتعددت اللهجات فيه، وتباينت تبايناً كثيراً". ثم قال: "ولسنا نشير هنا إلى هذه القراءات التي تختلف فيما بينها اختلافاً كثيراً في ضبط الحركات، سواء كانت حركات بنية، أو حركات إعراب. لسنا نشير إلى اختلاف القراء في نصب "الطير" في الآية: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10]. أو رفعها، ولا إلى اختلافهم في ضم الفاء أو كسرها في الآية: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]. ولا إلى اختلافهم في ضم الحاء أو كسرها في الآية: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22]. ولا إلى اختلافهم في بناء الفعل للمجهول أو للمعلوم في الآية: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 2 - 3].

لا نشير إلى هذا النحو من اختلاف الروايات في القرآن، فتلك مسألة معضلة نعرض لها ولما ينشأ عنها من النتائج إذا أتيح لنا أن ندرس تاريخ القرآن". الكتاب عنوانه "في الشعر الجاهلي"، ولكن مؤلفه أولع كثيراً بوثبات فجائية يقع بها على الطعن في القرآن، فيضاهي قول الذين تساقطوا على عدائه، والصد عن سبيله من قبل. هل من أدب الدرس أن يسوق المعلم بنفسه مسألة لم يضطره البحث إلى ذكرها، ثم يقول لطلابه: تلك مسكلة معضلة نعرض لها من بعد؟! وهل يليق بذي علم يؤلف في الشعر الجاهلي، أن يكب على كتب الدعاة إلى غير الإسلام، وينبشها ليستخرج من شبهها ما يلصقه بأذهان هذه الناشئة قبل أن تشتد في الدفاع عن الحقائق قناتها؟!. إنك لتجد أولئك الدعاة يتوسلون باختلاف القراءات إلى قذف القرآن بالاختلاف أو التحريف، وكذلك فعل المؤلف؛ حيث نقرّ في القراءات، ولم يبال أن تكون شاذة، والتقط منها بعض آيات بدًا له أن في اختلاف قراعتها ما يلبس حقائق الإسلام بالريبة، فأوردها في نسق، ورماها بالإعضال، وما هي بمعضلة على أحد، ولكن المؤلف يعجب بالشبهة أكثر من الحجة، ويؤثر لهوالحديث على الحكمة، والمسألة بحثها العلماء وقرروها على وجه خالص من كل شائبة، وهو إذا عرض لها ولما ينشأ عنها من النتائج، لا يقول فيها إلا كما قال في الشعر الجاهلي. وأنتم تعلمون أنه لم يزد على أن نهب واضطرب، ثم افتخر وهجا. جاء في السنّة الصحيحة ما يثبت تعدد القراءات لعهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويشهد بأن تلك الوجوه كانت تتلقى بطريق الرواية عنه، ومن هذه الدلائل حديث

"الجامع الصحيح" للإمام البخاري عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يُقرئنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: كذبت؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أرسله، اقرأ يا هشام"، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كذلك أنزلت"، ثم قال: "اقرأ يا عمر"، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كذلك أنزلت"، ثم قال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه". وفي "الجامع الصحيح" للإمام البخاري أيضاً: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف". فالحديث ناطق بتعدد القراءات، وصريح في أن هذه القراءات المختلفة متلقاة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وموقوفة على السماع. وليس في هذا ما يعثر في قانون المنطق، أو يضايق العقل في شبر من مجاله الفسيح، وهل يصعب على الذي يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، أن يفهم أن أحد أولئك الملائكة نزل على أحد هؤلاء الرسل بكتاب من تلك الكتب، وبلّغه بعض آياته على وجهين أو وجوه مختلفة في أوقات متعددة؟! واختلاف القراءات على نوعين: أولهما: اختلاف القراءتين في اللفظ مع اتفاقهما في المعنى، ومن هذا

النوع ما يرجع إلى اختلاف اللغات؛ كقراءتي {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] بالصاد، و (السراط) بالسين، إلى ما يشاكل هذا من نحو الإظهار والإدغام، والمد والقصر، وتحقيق الهمز وتخفيفه. والحكمة في هذا تيسير تلاوته على ذوي لغات مختلفة، "فلو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته، وما جرى عليه اعتياده طفلاً وناشئاً وكهلاً، اشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ثم لم يمكنه ذلك إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للبيان وقطع للعادة، فأراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- بلطفه ورحمته أن يجعل لهم متسعاً في اللغات ومتصرفاً في الحركات" (¬1). ومن هذا النوع ما لا تختلف فيه اللغات، وإنما هما وجهان، أو هي وجوه تجري في الفصيح من الكلام؛ نحو: (وما عملت أيديهم)، و {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس: 35] وهذا النوع وارد على سنة العرب من صرف عنايتها إلى المعاني، ونظرها إلى الألفاظ نظر الوسائل، فلا ترى بأساً في إيراد اللفظ على وجهين أو وجوه، ما دام المعنى الذي يقصد بالخطاب باقياً في نظمه، ومأخوذاً من جميع أطرافه، وفي هذا توسعة على القارئ، وعدم قصره على حرف، ولا سيما حيث كان محجوراً عليه أن يغير الكلمة عن القرآن، ويحيد بها عن وجهها المسموع (¬2). ثانيهما: اختلاف في اللفظ والمعنى، مع صحة المعنيين كليهما، وحكمة هذا: أن تكون الآية بمنزلة آيتين وردتا لإفادة المعنيين جميعاً؛ ¬

_ (¬1) "مشكل القرآن" لابن قتيبة. (¬2) من أثر تعدد القراءات حفظ كثير من طرق البيان وضروب اللهجات، وإن لم يكن القصد من القرآن تعليم اللغة، وتقرير أساليب خطابها وفنون بيانها.

أثر اختلاف اللهجات في الشعر

كاختلاف قراءتي (مالك يوم الدين) بالألف، و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] بغير ألف، فقد أفادت إحدى القراءتين أن الله مالك يوم الدين يتصرف فيه كيف شاء، وأفادت الأخرى أنه ملكه الذي يحكم فيه بما يريد. أما اختلاف اللفظ والمعنى، مع تضاد المعنيين، فهذا لا أثر له في القرآن، قال أبو محمد بن قُتيبة في "مشكل القرآن": الاختلاف نوعان: اختلاف تغاير، واختلاف تضاد، فاختلاف التضاد لا يجوز، ولستَ واجده -بحمد الله- في شيء من كتاب الله، واختلاف التغاير جائز. ثم ضرب لهذا النوع من الاختلاف أمثلة من الآيات، وأتى في بيان جوازه على ناحية أن كلاً من المعنيين صحيح، وأن كل قراءة بمنزلة آية مستقلة، ولا جرم أن يكون هذا الاختلاف فنّاً من فنون الإيجاز الذي يسلكه القرآن في إرشاده وتعليمه. والآيات التي سردها المؤلف، منها ما يرجع إلى اختلاف اللغات؛ كآية: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22]. ومنها ما يفيد معنيين كل منهما مستقيم، كآية: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]. ومنها ما جاء على وجهين، كل منهما فصيح عربية؛ كآية: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10] أما آية: {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] فنكتفي في الجواب عنها بأن قراءتها بالبناء للمعلوم شاذة، والشاذ ليس بقرآن، وما علينا ألّا يكون له معنى مستقيم. * أثر اختلاف اللهجات في الشعر: قال المؤلف في (ص 34): "إنما نشير إلى اختلاف آخر في القراءات يقبله العقل، ويسيغه النقل، وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها لتقرأ القرآن كما

أوزان الشعر التي دونها الخليل

كان يتلوه النبي وعشيرته من قريش، فقرأته كما كانت تتكلم، فأمالت حيث لم تكن تميل قريش، ومدت حيث لم تكن تمد، وقصرت حيث لم تكن تقصر، وسكنت حيث لم تكن تسكن، وأدغمت أو أخفت أو نقلت حيث لم تكن تدغم ولا تخفي ولا تنقل. فهذا النوع من اختلاف اللهجات له أثره الطبيعي اللازم في الشعر في أوزانه وتقاطيعه وبحوره وقوافيه بوجه عام". كل نوع من اختلاف القراءات الثابتة يقبله العقل، ويسيغه النقل، وقد أريناك أن ما لا يقبله العقل، وهو اختلاف القراءتين المؤدي إلى تنافي المعنيين، غير موجود في القرآن، ولا يستطيع المؤلف وشركاؤه أن يظفروا له بمثل: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. وأما ما يقوله من أن لهذه اللهجات أثرها الطبيعي اللازم في أوزان الشعر وتقاطيعه وقوافيه، فمقتضى إتقان البحث أن يضرب مُثُلاً من هذه اللهجات، وترى طلابه بالجامعة كيف لا تجد في هذه الأوزان والقوافي ما يصلح لأن يكون مظهراً لآثارها الطبيعية. * أوزان الشعر التي دوَّنها الخليل: قال المؤلف في (ص 34): "ولسنا نستطيع أن نفهم كيف استقامت أوزان الشعر وبحوره وقوافيه كما دونها الخليل لقبائل العرب كلها، على ما كان بينها من تباين اللغات، واختلاف اللهجات". لا يستطيع المؤلف أن يفهم كيف استقامت هذه الأوزان لقبائل العرب كلها مع تباين لغاتهم، واختلاف لهجاتهم! وهذه الشبهة من فصيلة شبهة (مرغليوث) التي أوردها في مقالة إنكار الشعر الجاهلي بقوله: "إن أول من

وضع هذه الأوزان الشعرية، وادعى أنه انتزعها من أشعار القبائل العربية: الخليل بن أحمد المتوفى سنة 170 هـ، وقد قام أحد معاصريه، وألف كتاباً أبطل به عمل الخليل" (¬1)، وقد تعرض (أدور براونلش) في رده على (مرغليوث) لهذه الشبهة، فقال: "وما ذكره (مرغليوث) من أن بعضهم نقض على الخليل صنعه في أوزان الشعر، فإنا بمراجعة كتاب الإرشاد نجد الذي ألف في النقض على الخليل لم يجد من العلماء قبولًا، أو -في الأقل- لم يجد قبولًا من ياقوت، وابن درستويه اللذين عدا (برزخاً) كاذباً، وبهذا سقطت شبهة (مرغليوث) كأن لم تكن". أما شبهة المؤلف التي هي أخت شبهة (مرغليوث)، أو ابنة عمها، فتزاح من ساحة هذا البحث بأن الأوزان التي دونها الخليل ليست بالعدد القليل حتى يستبعد أن تكون أشعار هذه القبائل دائرة عليها، فالخليل جعل أصولها خمسة عشر وزناً، وهي: الطويل، والمديد، والبسيط، والوافر، والكامل، والهزج، والرجز، والرمل، والخفيف، والمنسرح، والسريع، والمضارع، والمقتضب، والمجتث، والمتقارب. وزاد عليها الأخفش وزناً آخر يسمونه: المتدارك، أو الخبب. فالمجموع ستة عشر وزناً، وإذا لاحظت ما يكرونه على أنه فروع لهذه الأصول مما يسمونه: مجزوءًا، ومشطورًا، ومنهوكًا، ثم ما يدخلها من علل وزحافات جائزة أو مستحسنة، ارتفع حسابها إلى ما لا يضيق عن أي لغة أو لهجة عربية. ¬

_ (¬1) الإرشاد "معجم الأدباء" (ج 2 ص 366).

لهجات العرب والأوزان الشعرية

* لهجات العرب والأوزان الشعرية: قال المؤلف في (ص 35): "وإذا لم يكن نظم القرآن، وهو ليس شعراً، ولا مقيدًا بما يتقيد به الشعر، قد استطاع أن يستقيم في الأداء لهذه القبائل، فكيف استطاع الشعر، وهو مقيد بما تعلم من القيود، أن يستقيم لها، وكيف لم تحدث هذه اللهجات المتباينة آثارها في وزن الشعر وتقطيعه الموسيقي؛ أي: كيف لم توجد صلة واضحة بين هذا الاختلاف في اللهجة، وبين الأوزان الشعرية التي كانت تصطنعها القبائل؟ ". إن كان المؤلف يكتب لأولي الألباب، فأولو الألباب لا ينزلون إلى فهم ما يقوله، إلا أن يأتي إلى الفوارق بين لهجات العرب، ويريهم كيف يأبى بعض هذه اللهجات أن يفرغ في الأوزان التي استقرأها الخليل. والفوارق التي ذكرها في القراءات مما تحتمله هذه الأوزان جميعاً، فإن أراد فوارق غيرها، واعتذر بأنه لا يعرفها، فخير له أن يكتم هذا البحث حتى يقف عليها، وتكون ملموسة له، أو كالملموسة، ثم يتحدث بها على بينة، ويجد يومئذ من أولي الأبصار سامعًا وظهيرًا. * القرآن لم يفرض على العرب لغة واحدة: أورد المؤلف سؤالاً ملخصه: أن اللهجات استمرت قائمة بعد القرآن، وفي هذا العهد كانت القبائل تتعاطى الشعر، وإذا استقامت لهم أوزانه، مع اختلاف اللهجات بعد الإسلام، فما الذي يمنع من أن تستقيم لهم في العصر الجاهلي؟. ثم قال كالمجيب عن هذا السؤال في (ص 35): "ولست أنكر أن اختلاف اللهجات كان حقيقة واقعة بعد الإِسلام، ولست أنكر أن الشعر قد استقام

للقبائل كلها رغم هذا الاختلاف. ولكني أظن أنك تنسى شيئاً يحسن ألا تنساه، وهو أن القبائل بعد الإسلام قد اتخذت للأدب لغة غير لغتها، وتقيدت في الأدب بقيود لم تكن لتتقيد بها لو كتبت أو شعرت في لغتها الخاصة؛ أي: أن الإسلام قد فرض على العرب جميعاً لغة عامة واحدة، وهي لغة قريش، فليس غريبًا أن تتقيد هذه القبائل بهذه اللغة الجديدة في شعرها ونثرها، في أدبها بوجه عام. لم يكن التميمي أو القيسي حين يقول الشعر في الإسلام يقوله بلغة تميم أو قيس ولهجتها". قال المؤلف فيما سلف (¬1): "قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة"، وقال هنا: "إن الإسلام قد فرض على العرب جميعاً لغة واحدة هي لغة قريش"، والخبير بحقائق الإسلام يعرف أن القرآن أو الإسلام لم يفرض على العرب لغة واحدة، واختلاف القراءات القائم على اختلاف اللهجات شاهد صدق على أن الإسلام لم يكلف القبائل بترك لهجاتها، ولم يحملها على لغة "النبي وعشيرته من قريش". والواقع أن الوحدة العربية التي استحكمت حلقاتها بهداية الإسلام، وكون أكثر القائمين بالدعوة إلى هذه الهداية، والممثلين لسياستها ينطقون باللغة التي نزل بها القرآن، وكون القرآن أصبح متلواً بكل لسان، هذه الأسباب الثلاثة ذهبت بجانب عظيم من اختلاف اللهجات، وأصبحت اللغة الجارية على ألسنة العرب تقارب لهجة القرآن، فمان أراد المؤلف بفرض القرآن وفرض الإسلام هذا المعنى، وأغضينا عن هذا التعبير الذي يوهم طلاب الجامعة أن الإسلام يفرض على الناس لغة واحدة، كان معنى جوابه: أنه وجد سبب طبيعي لتوحيد تلك ¬

_ (¬1) (ص 33).

اللهجات أو تقاربها، وهو واقعة الإسلام. ونحن نعرف ما للإسلام من تأثير في تقارب اللهجات، وهذا لا يمنع من أن يكون سبب آخر طبيعي قد وجد قبل ظهور الإسلام، فساق ذوي العقول المنتجة من هذه القبائل إلى أن يشتركوا في لغة يصوغون فيها الأشعار والخطب مسجعة أو مرسلة، وقد ذكرناك بسبب يصح أن يكون السائق إلى هذه اللغة الأدبية، وهو فصاحة لسان قريش، وتلك المجامع التي كانت تنعقد حوالي مكة، وتؤمها القبائل للتفاخر بالأحساب، أو التنافس في حلبة البيان. ضرب المؤلف لذلك الجواب ثلاثة مُثُل: أولها: أن الدوريين كانت لهم لهجة وأوزان دورية، ولما ظهرت أثينا على البلاد اليونانية عامة، عدلوا عن لهجتهم وأوزانهم إلى اصطناع اللهجة والأوزان اليونانية، والنثر الأتيكي. ثانيها: أن لكل إقليم في فرنسا لغة ذات قوام خاص، ومع ذلك، فأهل الإقليم إذا أرادوا أن يظهروا آثاراً أدبية، يعدلون عن لغتهم الإقليمية إلى اللغة الفرنسية. ثالثها: أن في مصر لهجات وأوزاناً مختلفة، ومع هذا، فإن من ينظم الشعر الأدبي، ويكتب النثر الأدبي يعدل عن لهجته الإقليمية إلى هذه اللغة لغة قريش ولهجتها. وقد أخذت المؤلف عند ضرب هذا المثل نشوة فاتح البلاد بعد حروب عنيفة، فافتتحه بقوله في (ص 37): "وأنا أشعر بالحاجة إلى أن أضرب مثلاً آخر قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي؛ لأنهم لم يتعودوا مثله من الباحثين عن تاريخ الأدب". لندع البحث في هذه الجملة من جهة صلتها بنفس كاتبها، ودلالتها

على ازدهائه بما يسميه رأياً له، وإن كان مطروحاً في كل سبيل، ولا يحتاج الأحداث في فهمه إلى تلقين، وإنما نعرض لبحثها من حيث صلتها بالمثل الذي ألقاها في صدره؛ فإن إهمال نقدها من هذا الوجه "قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي؛ لأنهم لم يتعودوا مثله من" الناقدين للحديث الذي يتغنى صاحبه بمديحه قبل أن يصل إلى آذان قرائه. هل من أحد يقرأ أو يستمع إلى من يقرأ، لا يدري أن اللهجة التي يقال فيها الشعر، وتؤلف فيها الكتب غير اللهجة التي يتحاور بها الناس في شؤونهم الخاصة أو العامة؟! ومن ذا الذي يقرأ، أو يسمع مقالاً أو إعلانًا في هذه الصحف السيارة، أو قصيدة لأحد أدباء العصر، فلا يفرق بين لهجتها واللهجة التي يتحدث بها السوقة، أو ينظم بها بعض الأميين ما يسمونه: "زجلاً"؟. فإن قال المؤلف: إنهم يدركون هذا الفرق، ولكنهم لا يستطيعون كما أستطيع ضربه مثلاً لحال العربية الفصحى مع بقية اللهجات بعد ظهور الإسلام، قلنا: إن ربط حال اللغة الفصحى في هذا العصر بحالها يوم ساد الإسلام، قد يحفل به الأطفال الذين لم يأخذوا في أذهانهم غير البديهيات، أما الذين يدرسون الأدب العربي، فلا أحسبهم يحفلون به، فضلاً عن أن يدهشوا له، فقد جالوا في نتائج عقول راقية، وألفوا من الآراء المستنبطة بحكمة وروية ما لا يُبقي لأمثال هذا الحديث في أعينهم قيمة ولا خطراً. ولعل المؤلف رأى بعض طلابه في الجامعة العتيقة يقابلون ما كان من نوع هذا الحديث بالتصدية، فتخيل أنّ كل من يسمع حديثاً كهذا تقع به الدهشة على وجه الأرض أنَّى كان قائماً، ولم يستطع أن يكتم هذا الخيال،

لغة قريش ولهجتها في البلاد العربية

فقال: "اضرب مثلاً آخر قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي؛ لأنهم لم يتعودوا مثله من الباحثين عن تاريخ الأدب"!. وهذا الحديث المدهش -على سذاجته، وعدم توقف استنباطه على قريحة جيدة- قد وقع إلى أذن المؤلف ما يشابهه يوم تلي عليه مقال الدكتور (مرغليوث) المنشور في "مجلة الجمعية الآسيوية" حيث يقول: "نسلم أن سطوة الإسلام أرغمت قبائل جزيرة العرب على توحيد لغتهم بتقديمه مثالاً أدبيًا لا يقبل الجدل في جودته وعلو شأنه، وهو القرآن، ولهذا نظائر، فإن فتوحات رومة عملت بإيطاليا وبلاد الغول وإسبانيا مثل ذلك، ولكن من الصعب قبول فكرة أن يكون قبل هذا العامل الحيوي لغة عامة لقبائل الجزيرة، تختلف عن لغات المخطوطات، وتشمل جميع الجزيرة". * لغة قريش ولهجتها في البلاد العربية: قال المؤلف في (ص 38): "فالمسألة إذن هي أن نعلم: أسادت لغة قريش ولهجتها في البلاد العربية، وأخضعت العرب لسلطانها في الشعر والنثر قبل الإسلام أم بعده؟ أما نحن، فنتوسط ونقول: إنها سادت قبيل الإِسلام، حين عظم شأن قريش، وحين أخذت مكة تستحيل إلى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية، ولكن سيادة لغة قريش قبيل الإسلام لم تكن شيئاً يذكر، ولم تكن تتجاوز الحجاز". يعترف المؤلف بأن لسان قريش أحرز سيادة لعهد الجاهلية، ثم يزعم أن هذه السيادة لم تمتد في عصر الجاهلية إلا قليلاً عئر عنه بقبيل الإسلام، وقد شعر بأن المقدر لطور من أطوار الأمم يحتاج إلى بيان بدئه وأصل

نشاته، فذكر أن مبدأ تلك السيادة الحينُ الذي عظم فيه شأن قريش، وأخذت مكة تستحيل فيه إلى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية. متى أخذت قريش في نهضة عربية ترمي إلى مقاومة السياسة الأجنبية؟. حدثنا التاريخ: أن أحد ملوك الحبشة باليمن خرج بجيش قبل البعثة النبوية بنحو أربعين سنة، وأقبل يشق البلاد العربية حتى نزل بالحرم ليهدم البيت الحرام، ولولا حماية الله، لأصبحت الكعبة خاوية على عروشها. حدثنا التاريخ: أن حرباً وقعت بين الفرس وبعض القبائل العربية في صدر البعثة النبوية، وهي المسماة بيوم ذي قار، ولم نتلمح من خلال هذه الواقعة أو من ورائها صلة بين تلك القبائل، وهؤلاء القائمين بنهضة سياسية عربية. فإن كان المؤلف لا يصدق بخبر هذا اليوم، فليأتنا بحديث أوثق منه سندًا يشهد بأن قريشاً قامت قبيل الإسلام بحركة ترمي إلى وحدة عربية سياسية. لا نطالبه باثبات أن قريشاً دخلت، أو اشتركت في حرب مع أمة أجنبية، ولا نطالبه بإثبات أنها كانت تأتي إلى مثل "أولئك الذين قاموا يجادلون النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوة الجدال، والقدرة على الخصام، والشدة في المحاورة"، وترسل منهم وفودًا يطوفون في البلاد، ويعقدون بين القبائل وحدة سياسية عربية، بل نطالبه بأيسر من هذا كله، وهو أن هذه القبائل كانت تحج البيت الحرام في كل عام، ويتسابق شعراؤها وخطباؤها في حلبة البيان، فهل يستطيع أن يأتينا ببيت من قصيدة، أو فقرة من خطبة قام بها قرشي، أو غير قرشي، يدعو بها

الاستشهاد بالشعر الجاهلي في القرآن والحديث

إلى "وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية"؟. ولعل المؤلف لا يجد في تاريخ العرب قبل الإسلام سوى أن لمكّة حرمة، وللغة قريش فضل فصاحة، فمن اعترف للسان قريش بسيادة في الجاهلية، وأراد أن يضع مبدأ لهذه السيادة، فليبحث عن منشأ تلك الحرمة، ثم ليبحث عن العصر الذي أخذت فيه لغة قريش زخرفها، فإن هو اهتدى إلى ذينك الأمرين سبيلاً، أمكنه تقدير زمن تلك السيادة تقديراً يتلقاه جهابذة التاريخ بارتياح. * الاستشهاد بالشعر الجاهلي في القرآن والحديث: قال المؤلف في (ص 38): "ولندع هذه المسألة الفنية الدقيقة التي نعترف بأنها في حاجة إلى تفصيل وتحقيق أوسع وأشمل مما يسمح لنا به المقام في هذا الفصل إلى مسألة أخرى ليست أقل منها خطرًا، وإن كان أنصار القديم سيجدون شيئاً من العسر والمشقة؛ لأنهم لم يتعودوا هذه الريبة في البحث العلمي، وهي أناّ نلاحظ أن العلماء قد اتخذوا هذا الشعر الجاهلي مادة للاستشهاد على ألفاظ القرآن والحديث، ونحوهما، ومذاهبهما الكلامية. ومن الغريب أنهم لا يكادون يجدون في ذلك مشقة ولا عسراً، حتى إنك لتحس كان هذا الشعر الجاهلي إنما قدّ على قدّ القرآن والحديث؛ كما يقد الثوب على قدر لابسه، لا يزيد ولا ينقص عما أراد طولاً وسعة، إذن، فنحن نجهر بأن هذا ليس من طبيعة الأشياء، وأن هذه الدقة في الموازنة بين القرآن والحديث والشعر الجاهلي لا ينبغي أن تحمل على الاطمئنان إلا الذين رزقوا حظاً من السذاجة لم يتح لنا مثله. إنما يجب أن تحملنا هذه الدقة في الموازنة على الشك والحيرة، وعلى أن نسأل أنفسنا: أليس يمكن

أن لا تكون هذه الدقة في الموازنة نتيجة من نتائج المصادفة، وإنما هي شيء تكلف وطلب، وأنفق فيه أصحابه بياض الأيام وسواد الليالي؟ ". كانت سوق الأدب في البلاد العربية قائمة، وبضاعة الشعر نافقة. قرائح ترسل المعاني نظمًا، وقلوب سرعان ما تحيط به حفظًا. ويساعد القرائح على ما تصدر من الشعر، والقلوب على ما تعي من بدائعه، أن ليس هناك علوم كثيرة، وفنون شتى تتجاذب القرائح، ويذهب كل منها بنصيب من الفكر، أو يحوز ناحية من القلب. فعلى الباحث في تاريخ الأدب أن يدرس حال العرب كأنه يعيش بين ظهرانيهم، ولا يتسرع إلى إنكار أن تصدر ربيعة أو قيس أو تميم من الشعر في عصر أكثر مما تصدر الشام أو مصر أو العراق في مثله. على أن إقامة الشاهد في تفسير القرآن غير موقوف على الشعر الجاهلي، بل يتناوله العلماء من شعر من نشؤوا في الإسلام؛ كالفرزدق، وجرير، والأخطل، وعمر بن أبي رييعة. ومن التفت في تاريخ الأدب يميناً وشمالاً، ونظر إلى كثرة من نبت في البلاد العربية من الشعراء جاهلية وإسلامًا، عجب لفقدهم الشاهد لكلمة غريبة في القرآن، أو وجه من وجوه إعرابه، أشدَّ من عجبه لوقوع يدهم عليه كلما نقبوا عنه، فمن النظر الخاسئ أن نحكم على هذه الشواهد بالاصطناع، وندخل إلى الحكم عليها من باب موازنتها للمستشهد عليه بزعم أن هذه الموازنة منافية لطبيعة الأشياء. فإذا كان القرآن وارداً بلسان عربي مبين، وكانت المواضع التي يحتاج في بيانها إلى الشاهد معدودة، وكان الشعر العربي في ثروة طائلة، أفيصدق أحد أن سوق بيت يطابق المعنى المستشهد عليه مناف لطبيعة الأشياء!. الصواب أن نذهب في نقد هذه الشواهد من نواح غير هذه الناحية؛

كجهة النظر في حال الراوي، أوجهة الذوق الذي تقلب في فنون الشعر، وعرف طرز كل عصر ونزعة كل شاعر. ونحن لا ننكر أن يكون فيما يساق للاستشهاد على تفسير القرآن شعر مختلف ينبه عليه أهل الدراية بفن الأدب من قبل، أو ينقده مؤرخ، أو أديب مطبوع من أهل هذا العصر، والذي لا يقبله الراسخون في العلم أن يطرح هذا الشعر الذي يدخل في تفسير آية أو حديث لمجرد الدقة في الموازنة بينه وبين الآية أو الحديث. يعلم الذين يدرسون التفسير والحديث بحق: أنّ ما يستشهد به في هذين العلمين ليس بالكثير الذي لو ثبت اصطناعه، صحت دعوى أن هذا الشعر الذي ينسب إلى الجاهلية ليس منهم في شيء، فهذا تفسير "الكشاف" الذي يعد من أكثر التفاسير حملاً للشواهد اللغوية إنما يحتوي نحو ألف بيت، وفي هذه الشواهد كثير من أشعار المخضرمين؛ كحسان، ولبيد، والنابغة الجعدي، والإسلاميين؛ كرؤبة، والفرزدق، وجرير، والعجاج، وذي الرمة، وأبي تمام، وأبي الطيب، والمعري، وغيرهم. ثم إن كثيراً من الشواهد المعزوّة للجاهلية تجدها في هذه المطولات التي يستحي المؤلف أن يقول: إنها اصطنعت لأجل أن ينتزع منها شاهد على القرآن أوالحديث، وما لم يكن من هذه المطولات تجده وارداً في قصائد أخرى يصعب ادعاء أن تكون اختلقت لأجل ما تحتوي عليه من البيت المحتاج إليه في الاستشهاد. فلو بحث المؤلف هذه الشواهد بروية، لوجد الشعر الجاهلي -الذي يحتمل أن يكون مصطنعاً لأجل الاستشهاد على القرآن- مقداراً لو ثبت

شواهد ابن عباس - رضي الله عنه -

وضعه- لم يكن له أثر في الدلالة على أن الشعر الجاهلي مزوّر مصنوع. * شواهد ابن عباس - رضي الله عنه -: خرج المؤلف بعد هذا إلى الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنه -، وأتى على قصة نافع بن الأزرق، ووسمها بميسم الوضع، ولم يستند في هذا الحكم إلا إلى أن تصديقها من السذاجة، وأن أهل الفقه لا يشكون في وضعها. ومرمى كلامه إلى إنكار أن يبلغ ابن عباس في حفظ الشعر منزلة تخوّله أن يجيب عن نحو مئتي مسألة في التفسير، ويسوق على كل مسألة بيتاً من الشعر، ثم ردد الغرض الداعي إلى وضعها على وجوه، وهي: إثبات أن ألفاظ القرآن كلها مطابقة للفصيح من لغة العرب، أو إثبات أن عبد الله بن عباس كان من أقدر الناس على تأويل القرآن، ومن أحفظهم لكلام العرب الجاهليين، أو إفادة معاني طائفة من ألفاظ القرآن في صورة قصة. ثم خفف من غلوائه شيئاً، وقال في (ص 40): "ولعل لهذه القصة أصلاً يسيراً جداً، لعل نافعاً سأل ابن عباس عن مسائل قليلة، فزاد فيها هذا العالم، ومدّها حتى أصبحت رسالة مستقلة يتداولها الناس". ليس بالبعيد عن ابن عباس أو غيره ممن يصرف ذهنه إلى رواية الشعر، أن يحفظ منه ما يحتوي نحو مئتي بيت تصلح للاستشهاد على تفسير طائفة من ألفاظ القرآن، وليس بالغريب أن يكون ابن عباس، أو ذو ألمعية كابن عباس، قد بلغ في سرعة الخاطر، وجودة الذاكرة أن يحضره البيت الصالح للاستشهاد عندما تطرح إليه المسألة، فقد رأينا من بعض أساتيذنا ما يجعل هذه القصة حادثاً غير خارق لسنّة الله في الخليقة، كنا نرى أستاذنا أبا حاجب يحفظ من الشعر الفصيح ما يجعله قادراً على أن يضرب منه المثل للمعاني

والوقائع التي تخطر في الحال، وتكاد لا تسأله عن معنى لفظ غريب، أو وجه من الإعراب، إلا أتاك بالشاهد على البداهة، أو بعد تأمل قريب، وقد يقول قائل: إن هذا الشأن أيسر من شأن ابن عباس؛ لأن ذلك الأستاذ قد حفظ تلك الشواهد من مثل "التسهيل"، و"المغني"، و"تاج العروس"، وغيرها من الكتب التي تربط الشواهد بمسائلها. أما قصة ابن عباس فيظهر منها أنه يتناول الشاهد من بين ذلك الشعر الكثير، ويضعه على المسألة مثلما يصنع المجتهدون في علم اللغة، وذلك يحتاج إلى بحث وأناة، فالجواب عن نحو مئتي مسألة بمثل تلك السرعة فيه غرابة تلفت النظر إلى القصة، أو تقدح الريبة في صحتها. هذا البحث مقبول، ولكني أريد أن أقول: إن هذه الغرابة وحدها لا تكفي في الحكم على القصة بالوضع، فمن المحتمل أن يكون ابن عباس ممن يقضي جانباً من وقته في التماس الشواهد على تفسير الغريب من القرآن، حيث رأى الناس مقبلة، أو محتاجة إلى هذا النوع من العلم، فيكون جوابه عن مسائل ابن الأزرق نتيجة بحث سابق، وتأمل غير قليل، فلا غرابة أن يلقم ابن الأزرق الجواب عقب كل مسألة يطرحها عليه. وإذا كانت الغرابة لا تكفي للقطع باصطناع هذه القصة، فلنذهب في البحث عنها من جهة الرواية، لعلنا نجد في البحث من هذه الجهة هدى. روى ابن الأنباري في كتاب "الوقف والابتداء" نبذة منها بسند يتصل بمحمد بن زياد اليشكري عن ميمون بن مهران. وميمون بن مهران ثقة، ولو اطردت القصة مارة على رجال من مثله إلى ابن الأنباري، لم نجد مانعاً من دخولها في تاريخ الأدب الصحيح، ولكن محمد بن زياد اليشكري مطعون

قصتا البنات السبع

في أمانته، قال ابن معين: كان ببغداد قوم كذابون يضعون الحديث، منهم: محمد بن زياد، وقال أحمد بن حنبل بعد أن وصفه بوضع الحديث-: ما كان أجرأه! يقول: حدّثنا ميمون بن مهران في كل شيء. وروى الطبراني في "معجمه الكبير" قطعة منها على طريق جويبر عن الضحّاك بن مزاحم، والضحّاك بن مزاحم لم يلق ابن عباس، وهو في نفسه موثوق به عند قوم، مضعف عند آخرين، وأما جويبر، فمعدود من الضعفاء، سئل عنه علي بن المديني، فضعفه جداً، وقال: جويبر أكثرَ على الضحاك، روى عنه أشياء مناكير. وروى هذه المسائل الجلال السيوطي في كتاب "الاتقان" بسند يبتدئ بشيخه ابن هبة الله محمد بن علي الصالحي، وينتهي إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وفي هذا السند رجال يوثق بروايتهم، ولكنك تجد من بينهم آخرين نقدهم علماء الحديث، وطرحوهم إلى طائفة وضّاع الأحاديث؛ كمحمد بن أسعد العراقي المعروف بابن الحكم، وعيسى بن يزيد بن دأب الليثي. ومتى لم نجد في طريق رواية القصة ما يثبت على النقد، أصبحت القصة من قبيل ما يروي لفائدته الأدبية، وضعفت عن أن تستقل بالدلالة على معنى تاريخي لا شبهة فيه. * قصتا البنات السبع: ادعى المؤلف أن التكلف والانتحال للأغراض التعليمية الصرفة كان شائعاً معروفاً في العصر العباسي، وقال: لا أطيل، ولا أتعمق في إثبات هذا، إنما أحيلك إلى كتاب "الأمالي" لأبي علي القالي، وإلى ما يشبهه من الكتب.

ثم قال في (ص 41): "سترى -مثلاً- بناتاً (¬1) سبعاً اجتمعن، وتواصفن أفراس آبائهن، فتقول كل واحدة منهن في فرس أبيها كلاماً عربياً ومسجوعاً يأخذه أهل السذاجة على أنه قد قيل حقاً، في حين أنه لم يقل، وإنما كتبه معلم يريد أن يحفظ تلاميذه أوصاف الخيل، وما يقال فيها، أو عالم يريد أن يتفيهق، ويظهر كثرة ما وعى من العلم. وقل مثل ذلك في سبع (¬2) بنات اجتمعن وتواصفن المثل الأعلى للزوج الذي تطمع فيه كل واحدة منهن، فأخذن يقلن كلاماً غريباً مسجوعاً في وصف الرجولة والفتوة، والتعريض والتلميح إلى ما تحب المرأة من الرجل". لا يعنينا أن تبقى قصتا البنات السبع في هذا الأدب القديم، أو تطرحا من حسابه، وتذهبا كما ذهب أولئك البنات عيناً وأثراً، والذي يعنينا نقده هنا: أن المؤلف يكاد يذهب إلى أن ما يذكر في تاريخ الأدب قسمان: ما هو ثابت قطعاً، وما هو مكذوب لا محالة، والمعروف أن من بين هذين القسمين قسمًا يقف فيه المؤرخ المحقق، فلا يستطيع أن يقول عليه: إنه موثوق بصحته، ولا يستطيع أن يصفه بالكذب الذي لا مرية فيه، وشأنه فيما يقضي عليه بالكذب قضاء فاصلًا أن يذكر الطريق الذي وصل منه إلى معرفة اصطناعه، والمؤلف حكم على حديث البنات، ولم يأت بدليل أو أمارة على اختلاقه، ما عدا وصفه له بأنه كلام غريب مسجوع، إذاً، لم ينكره المؤلف إلا لأنه ¬

_ (¬1) كذا في كتاب الشعر الجاهلي، وفي "الأمالي" لأبي علي القالي (ج 1 ص 187): "اجتمع خمس جوار من العرب، فقلن: هلممن نصف خيل آبائنا ... ". (¬2) كذا في كتاب الشعر الجاهلي، وفي "أمالي القالي" (ج 1 ص 16): "قالت عجوز من العرب لثلاث بنات لها: صفن ما تحببن من الأزواج ... ".

غريب مسجوع، واشتمال الكلام على الغرابة والسجع غير كاف في الحكم عليه بالاختلاق. أما الغرابة، فإن المعزوّ إليهن هذا الحديث عرب، والألفاظ من نوع اللغة المستعملة في محاوراتهم ومسامراتهم، وقد تكون غريبة بالنسبة إلى الناشئ في غير عهدهم؛ حيث لا تلاقيه هذه الكلمات في كلام فصحائهم إلا قليلاً. وأما السجع، فنحن نعلم أنه أقرب منالاً، وأيسر من صناعة الشعر، بل هو أدنى مأخذًا من الرجز. والتواتر شاهد بأن في الناس من يقول الشعر أو الرجز على البداهة، ومتى صحّ ارتجال الكلام الموزون، لم يكن في الحديث الجاري على أسلوب السجع غرابة تدعو إلى الحكم عليه بالاصطناع، ومن المحتمل أن يكون الفتيات كالفتيان يتدربن لذلك العهد على طريقة السجع حتى ينقاد لهن، ويجري على ألسنتهن كما يجري عليها المرسل من القول، ونحن لا نذهب إلى أن مثل هذه القصة داخل في التاريخ الموثوق بصحته؛ لأن طريق روايتها لا يكفي في الدلالة على أنها وقعت حقاً، ونرى -مع هذا- أن الباحث الحكيم، وهو الذي يفصل الحكم على قدر البحث، لا يقول على حديث: "إنه لم يُقل" إلا أن يأتي في بحثه بما يستدعي هذا الحكم القاطع، وقد عرفتم أن المؤلف إنما وضع حكمه على غرابة الكلام وسجعه، وهما جائزان على العربي القح، فلا تدخل هذه القصة وأمثالها في قبيل ما يحكم عليه بأنه كذب لا محالة، ولا تتعدى في نظر المؤرخ المحقق موقع الظن الذي يسوغ له تدوينها لينتفع بما فيها من أدب، وليتألف من مجموع أخبارها ما يكون كالمرآة ينظر فيه كيف كان حال المرأة في الجاهلية.

ختام الكتاب الأول

* ختام الكتاب الأول: قال المؤلف في (ص 41): "ولكني بعدت عن الموضوع فيما يظهر، فلأعد إليه لأقول ما كنت أقول منذ حين، وهو أن من الحق علينا لأنفسنا وللعلم أن نسأل: أليس هذا الشعر الجاهلي الذي ثبت أنه لا يمثل حياة العرب الجاهليين، ولا عقليتهم، ولا ديانتهم، ولا حضارتهم، بل لا يمثل لغتهم، أليس هذا الشعر قد وضع وضعاً، وحمل على أصحابه حملًا بعد الإسلام؟ أمّا أنا، فلا كاد أشك الآن في هذا. ولكننا محتاجون بعد أن ثبتت لنا هذه النظرية أن نتبين الأسباب المختلفة التي حملت الناس على وضع الشعر وانتحاله بعد الإسلام". ختم المؤلف الكتاب الأول بهذه الفقرات، وكأنه آنس في نفسه الفوز على "أنصار القديم"، فدارت في رأسه نشوة، وانطلق يمزح معك بقوله: "ولكني بعدت عن الموضوع فيما يظهر". يقول هذا، وهو لا يشعر بما تصنع الأقلام فيما تركه خلفه من آراء منهوبة، ومعان لا توجد إلا في خياله. يقول المؤلف: إن من الحق علينا أن نسال: أليس هذا الشعر الجاهلي الذي ثبت أنه لا يمثل حياة العرب الجاهليين، ولا عقليتهم، ولا ديانتهم، ولا حضارتهم، بل لا يمثل لغتهم. ادعى المؤلف فيما سلف أن الجاهليين كانوا في علم وذكاء وقوة عقل فوق ما يمثله هذا الشعر الجاهلي، ولم يفرغ على هذه الدعوى دليلاً غير الآيات الدالة على أنهم كانوا يجادلون النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحاورونه في الدين، وفيما يتصل بالدين من تلك المسائل المعضلة، التي ينفق فيها فلاسفة أمثال المؤلف حياتهم دون أن يوفّقوا إلى حلها. وقد جاذبناه أطراف المناقشة

هنالك، وأريناك رأي العين أن هذا الشعر الجاهلي أنفس بضاعة تفاخر بها أمة ذات ذكاء فطري، وتفكير لا يستمد من دراسة أو تعليم. وقد تساءل قبل المؤلف (مرغليوث)، وجرجي زيدان عن هذا الشعر الجاهلي: لماذا لم يمثل ديانة العرب؟. أما (مرغليوث)، فقد اتخذ قلة اشتمال الشعر الجاهلي على الآثار الدينية؛ كما اتخذه المؤلف شاهداً على أن هذا الشعر ليس من الجاهلية في شيء، وأما جرجي زيدان، فلكونه أصبر على البحث من المؤلف، وأعرفُ بحال الشرق من (مرغليوث) أجاب عن هذا السؤال بما قصصناه عليكم، وخلاصته: أن حال العرب لذلك العهد ليست كحال من يعنى في شعره بكثرة التعلق بالمعاني الدينية، وأن المسلمين لم يكونوا ممن يرغب في نقل شعر يحتوي على آثار ديانات يرونها غير مستقيمة، وليس بمستنكر عليهم أن يحيدوا بروايتهم عن بيت أو أبيات يظهر فيها أثر نحلة أو ديانة قاموا بالدعوة إلى شرع يريد الظهور عليها، وعلى الرغم من عدم احتفالهم برواية هذا النوع من الشعر، فقد بقي له أثر في بعض الكتب الأدبية أو التاريخية. يقول المؤلف: إن هذا الشعر لا يمثل حضارتهم، ولم يبحث في هذا الموضع، ولا فيما سلف عن هذه الحضارة حتى يظهر أمرها، ويوازن بينها وبين هذا الشعر ليعلم: هل هو ملائم لتلك الحضارة، أم غير ملائم لها؟ ولم يكن منه فيما سبق سوى أنه كان يدخل هذا المعنى في أثناء حديثه عن قوة عقليتهم، واستنارتهم، وعلمهم بالسياسة؛ كقوله: كانوا أصحاب عيش فيه لين ونعمة، وقوله: وإذا كانوا أصحاب علم ودين وسياسة، فما أخلقَهم أن يكونوا أمة راقية! وكذلك كان يدخل في أثناء الحديث اسم الثروة دون أن

يدل على أسبابها، أو يأتي على شيء من آثارها. والصواب: أن من ينظر في هذا الشعر الجاهلي بشيء من التدبر، وينظر في حضارة القبائل التي عاش فيها أولئك الشعراء بأي مرآة شاء، وعلى أي مطلع تسنى له، لا يستطيع أن يدرك تفاوتًا بين هذا الشعر وتلك الحضارة، إلا إذا اشتد حرصه على أن يقول: إن هذا الشعر ليس من الجاهلية في شيء. فهذا الشعر الجاهلي يمثل من الحضارة ما يمثله شعر الإسلاميين قبل أن تلبس البلاد العربية ثوب الحضارة الذي نسجه فاتحو بلاد قيصر وكسرى، ولا ينبغي لأحد أن يزعم أن الحضارة في الجاهلية كانت أجلى مظاهر، وأوفى وسائل من حضارة العرب لعهد ظهور الإسلام. يقول المؤلف: إن هذا الشعر لا يمثل لغتهم، وهو إنما يبني هذا القول على نظرية العزلة العربية، ونظرية جهلهم وغباوتهم وتوحشهم، ولو نظر إلى أن في الأمة العربية علماً وذكاء، ونظر إلى أنها كانت ترتبط بصلة التعارف، وتعقد مجامع تشهدها القبائل على اختلاف أوطانها، لسهل عليه أن يفهم كيف تكوّنت على طول الأيام لغة أدبية تتناولها ألسنة البلغاء حين تنطلق في شعر أو خطابة. فالشعر الجاهلي يمثل اللهجة التي يتحراها الشعراء لتضرب قصائدهم في اليمين واليسار، وتسير مسير المثل، لا تقف في واد، ولا يختص بها قوم دون آخرين. وقد يظهر على لسان الشاعر أثر من لهجته الخاصة، وربما غيّره الرواة إلى اللهجة الأدبية من غير أن يخسر وزن القصيدة حرفاً. يقول المؤلف: ولكننا محتاجون بعد أن ثبتت هذه النظرية أن نتبين

الأسباب التي حملت على وضع الشعر، وهذا صريح في أنه انتهى من تقرير النظرية، وأنه نثل كنانته وكنانة (مرغليوث) في الاستشهاد عليها، وإنما يريد بعد هذا أن يبحث في الأسباب الحاملة على الانتحال، ونحن محتاجون بعد أن سقطت هذه النظرية أن نناقشه في بحث هذه الأسباب؛ لأنه رمى فيه عن القوس التي رمى عنها في هذه النظرية البائسة، وليس من اللائق أن ندعه يضرب في غير مفصل، ويمشي في غير طريق، وإنه ليعزّ علينا أن تضع هذه الطائفة القليلة من المستنيرين أقدامها على أثره، فتستبدل بالصالح من مألوفها جديداً لا خير فيه.

الكتاب الثاني أسباب انتحال الشعر

الكتاب الثاني أسباب انتحال الشعر - ليس الانتحال مقصوراً على العرب. - السياسة وانتحال الشعر. - الدين وانتحال الشعر. - القصص وانتحال الشعر. - الشعوبية وانتحال الشعر. - الرواة وانتحال الشعر.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44 - 45] (صدق الله العظيم)

ليس الانتحال مقصورا على العرب

ليس الانتحال مقصوراً على العرب * الاطلاع على تاريخ الأمم القديمة: ذكر المؤلف في بدء هذا الفصل: أنه يجب على الباحث أن يتعود درس تاريخ الأمم القديمة؛ ليفهم تاريخ الأمة العربية على وجهه. وقال: إذا كان هناك شيء يؤخذ به الذين كتبوا تاريخ العرب وآدابهم، فلم يوفقوا إلى الحق فيه، فهو أنهم لم يلمّوا إلمامًا كافياً بتاريخ هذه الأمم القديمة، أو لم يخطر على بالهم أن يقارنوا بين الأمة العربية والأمم التي خلت من قبلها. ثم قال في (ص 43): "والحق أنهم لو درسوا تاريخ هذه الأمم القديمة وقارنوا بينه وبين تاريخ العرب، لتغير رأيهم في الأمة العربية، ولتغير بذلك تاريخ العرب أنفسهم". الاطلاع على تاريخ الأمم القديمة يفيد في درس تاريخ العرب وآدابهم، وهذا الاطلاع إنما يفيد الباحث الذي يستقبل الحقيقة بنظر مستقل، وقلب خالص من التحيز إلى ناحية، فإن كان المطلع على تاريخ الأمم القديمة يحمل فكرًا غير منتظم، أو كان يحمل للأمة العربية ازدراء وجفاء، كان اطلاعه شراً من عدم اطلاعه، وكذلك حال وسائل الخير إذا وقعت إلى يد لم تكن مستعدة لأن تعمل صالحاً.

إن الذي يتلقى تاريخ الأمم القديمة كما يتلقاه القرطاس بسذاجة، أو بما معه من بحث وتعليل، لا ينتظر منه أن يتناول تاريخ العرب وآدابهم، فيجيد النظر، ويحسن القياس، وينبت في الأدب نباتًا حسناً، فإذا ضم إلى عجزه عن التفكير الصحيح نزعة شعوبية، ثم ترامى على قياس الوقائع بأشباهها، رأيت الواقعة العربية تقاس على الواقعة اليونانية أو الرومانية في حال أن الواقعتين يفترقان مبدأ، ويختلفان أثراً. وهذا كتاب "في الشعر الجاهلي" قد خاض في تاريخ الأدب العربي، ومؤلفه مُلمّ بجانب من تاريخ اليونان والرومان، ولم يأت هذا الكتاب بقياس مقبول، أو رأي محدث سليم، ونحن لا نرى سبباً لعدم توفقه سوى أن مؤلفه يبحث في غير رفق وأناة، ويحرص على أن يهضم حق العرب بعد الاسلام. هل يجد المطلع على تاريخ اليونان والرومان أثراً يتصل بموضوع الشعر الجاهلي أكثر من أن شعراً كثيراً اصطنع في هاتين الأمتين، وحمل على القدماء من شعرائهم، أو على شعراء خياليين؟ وهل يستطيع الباحث الملمّ بذلك التاريخ أن يبني على هذا الأثر شيئاً سوى إمكان أن يكون رواة الشعر الجاهلي قد نظموا شعراً، وعزوه إلى القدماء زوراً وكذباً؟. أنصار القديم يسلمون باحتمال أن يكون في هذا الشعر الجاهلي ما هو مختلق مصنوع، بل يقولون: إن من هذا الشعر ما هو مختلق لا محالة. وإذا لم يكن لإلمامهم بتاريخ اليونان والرومان أثر في قضية الشعر الجاهلي، سوى أن يخطر على بالهم احتمال أن يكون هذا الشعر مصنوعاً كالشعر المعزو إلى قدماء اليونان والرومان، فإن علماء اللغة والأدب قد انتهوا إلى هذه الغاية قبل أن يعلموا أن من شعر تينك الأمتين ما هو محمول على قدمائهم، وشاهد

مقارنة بين الأمم الثلاث: العربية، واليونانية، والرومانية

هذا: أنهم ينقدون ما يقع إليهم من الأشعار، ويتساءلون عن طريق روايتها، فلا يصح في أي أدب أو منطق أن يُعدّ قبولهم لكثير من هذا الشعر عدم توفق إلى الحق، أو أنه ناشئ عن عدم إلمامهم بتاريخ هذه الأمم القديمة إلماماً كافياً. * مقارنة بين الأمم الثلاث: العربية، واليونانية، والرومانية: ثم أخذ المؤلف يذكر الأمة اليونانية، والأمة الرومانية، ويعقد بينهما وبين الأمة العربية ما يشبه المقارنة، وهو أن كلاً من هذه الأمم تحضّر بعد بداوة، وخضع في حياته الداخلية لصروف سياسية مختلفة، وانتهى إلى نوع من التكوين السياسي دفعه إلى تجاوز حدوده الطبيعية، وبسطِ سلطانه على الأرض. ثم قال في (ص 44): "وفي الحق أن التفكير الهادئ في حياة هذه الأمم الثلاث ينتهي بنا إلى نتائج متشابهة، إن لم نقل متحدة. ولم لا؟ أليست هذه الإشارة التي قدمناها إلى ما بين هذه الأمم الثلاث من شبه تكفي لتحملك على أن تفكر في أن مؤثرات واحدة أو متقاربة قد أثرت في حياة هذه الأمم، فانتهت إلى نتائج واحدة أو متقاربة؟ ". في استطاعتنا أن نناقش هذه الجمل كما جاءت في غير صراحة، ولكن القلم لا يرغب حين يخوض بحثاً علمياً أن يمتطي المواربة، أو يكلم الناس رمزاً، فلنطو الستار الذي سدله المؤلف، وجلس يتحدث من ورائه، فقد ينزع محارب الحقيقة إلى الكنايات البعيدة، والإيماء الخفي، حتى يحوك مقالُه في بعض النفوس دون أن يجد في طريقه زاجراً، ولا يرضى الذائد عن سبيلها إلا أن يضع الغرض على ظاهر يدك، ويريك المعنى في مرآة نقية،

فإما أن تقبل، وإما أن تأبى. يذهب المؤلف إلى أن شأن العرب حين فتحوا الممالك، وقاموا على سياسة الأمم، لا يختلف عن شأن الأمتين اليونانية والرومانية في المؤثرات والنتائج، يقول هذا، وهو يقصد إلى أن يجحد ما للإسلام وشريعته من مزية أو أثر في تلك النهضة العربية؛ لأنه يزعم أن مؤثراتها ونتائجها متحدة، أو متقاربة مع مؤثرات ونتائج نهضة لم تقم على أساس شريعة سماوية. وقد تعرض لهذه المؤثرات المشتركة بين الأمم الثلاث، فاذا هي تحضّر بعد بداوة، وصروف سياسية مختلفة، وتكوين سياسي انتهى بها إلى تجاوز الحدود الطبيعية. أما النتائج الواحدة أو المتقاربة، فهي بسط السلطان على الأرض، ثم إن اليونان تركو افلسفة وأدبًا، والرومان تركوا تشريعاً ونظاماً، والعرب تركوا أدباً وعلماً وديناً. لا نخالف التاريخ في أن الوقائع تقوم على أسباب، ولا نعارضه في أن تكون الأسباب ذاهبة في الغابر كسلسلة لا يعلم مبدأها إلا مبدع الخليقة، والتاريخ أيضاً لا يخالفنا في أن من الأسباب ما يخفى على الباحث، ومن الأسباب ما يلحظه الباحث في صورة لا تنطبق على صورته الثابتة. فمن المحتمل أن المؤلف لم يدرك بعض أسباب النهضة العربية، أو أنه تخيله في غير صورته الواقعة، ولا سيما بعد أن عرفتم أن إلمامه بجانب من تاريخ اليونان أو الرومان لم يحمه من أن يضع في كتابه رأياً ذا عوج، أو خيالة في ثوب حقيقة. لا يلتبس على أحد أن هذه الأمم تحضرت بعد بداوة، وأتت عليها صروف سياسية مختلفة، ثم انتهى بها تكوينها السياسي إلى بسط سلطتها

في الأرض. وهل اشتراكها في هذه الأطوار العامة يكفي لتحقيق أن مؤثراتها ونتائجها واحدة أو متقاربة؟. ذلك ما نريد بحثه في كلمة نفصلها على مقدار ما يذكّرك بانحراف المؤلف عن الواقع، ويريكه كيف يخرج عن نظام البحث؛ ليقضي وطر الدعوة إلى غير هداية القرآن. يكاد الذين يدرسون تاريخ الأمم لا يختلفون في أن فتح العرب لهذه الممالك كان أمراً عجباً. وشهودُ هذا لا يأخذهم عدّ، وإنما أسوق منهم شاهدين: أحدهما غربي، والآخر شرقي، وكلاهما لا يتهم بأنه تحدث عن عاطفة، أو محاباة للإسلام. بسط في دواعي العجب من ذلك الانقلاب البديم (لوثروب ستودارد) في"حاضر العالم الإسلامي" (¬1)؛ حيث قال: "كاد يكون نبأ نشوء الإسلام النبأ الأعجب الذي دوّن في تاريخ الأعصار، ظهر الإسلام في أمة كانت من قبل ذلك العهد متضعضعة الكيان، وبلاد منحطة الشأن، فلم يمض على ظهوره عشرة عقود، حتى انتشر في نصف الأرض ممزقاً ممالك عالية الذرا، مترامية الأطراف، وهادمًا أديانًا قديمة كرت عليها الحقب والأجيال، ومغيراً ما بنفوس الأمم والأقوام، وبانياً عالماً متراصَّ الأركان، هو عالم الإسلام". وقال: "كلما زدنا استقصاءً باحثين في سر تقدم الإسلام وتعاليه، زادنا ذلك العجب العجاب بهرًا، وارتددنا عنه بأطراف حاسرة". ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 1) تعريب عجاج أفندي نويهض.

وتعرض جرجي زيدان في كتاب "تاريخ التمدن الإسلامي" لما أخذ الناس من العجب لهذه النهضة العربية الاسلامية حين قال: "للكتّاب وأهل النقد بحث طويل، وجدال عنيف في الأسباب التي ساعدت العرب على فتح بلاد الروم والفرس، وقهر القياصرة والأكاسرة برجال يكاد عددهم لا يزيد على عدد حامية مدينة من مدن أولئك، مع ما كان عليه العرب يومئذ من سذاجة المعيشة، وقلة الدربة في فنون الحرب، وضيق ذات اليد، وضعف العدة، والروم والفرس أعظم دول الأرض يومئذ، وعندهما العدة والرجال، والحصون والمعاقل، وزد على ذلك: أن العرب - فضلاً عن قلتهم وسذاجة أحوالهم -, فقد جاؤوا مهاجمين في بلاد لا يعرفونها، ولا نصير لهم، وأغرب من ذلك كله: أنهم فتحوا المملكتين جميعاً في مدة لا تتجاوز بضع عشرة سنة". هؤلاء الذين عجبوا لمظهر الأمة العربية في صدر الإسلام قد درسوا تاريخ اليونان والرومان، ولو كانت المؤثرات والنتائج في هذه الأمم واحدة أو متقاربة، لما تلقوا نبأ الحركة العربية بعجب وانبهار، ولما جرى للكتّاب وأهل النقد بحث طويل وجدال عنيف في الأسباب التي ساعدت العرب على قهر القياصرة والأكاسرة. ثم إن هؤلاء الكتّاب قد بعثوا أنظارهم في البحث عن أسباب هذه النهضة العربية، ولم يستطيعوا إلا أن يحوموا حول المؤثر الأكبر، وهو الروح الذي بثه الإسلام في صدور العرب، والنُّظُم التي أخذ بها أعمالهم - قال (ستودارد): "كان لنصر الإسلام هذا النصر الخارق عوامل ساعدت عليه، أكبرها: أخلاق العرب، وماهية تعاليم صاحب الرسالة وشريعته، والحالة العامة

التي كان عليها الشرق المعاصر لذلك العهد". وقال جرجي زيدان: "إن العرب أصبحوا بعد الإسلام غير ما كانوا عليه قبله، كانوا قبائل مشتتة مبعثرة، فأصبحوا أمة واحدة بقلب رجل واحد". وذكر أسباباً أخرى من جملتها: اعتقادهم بالقضاء والقدر، وعدل المسلمين ورفقهم وزهدهم، ثم قال: "وكان لتلك المناقب تأثير عظيم، ومن هذا القبيل التسوية بين طبقات الناس رفيعهم ووضيعهم"، وعطف على هذا استبقاء الناس على أحوالهم، وقال: "كان العرب إذا فتحوا بلدًا، أقروا أهله على ما كانوا عليه من قبل، لا يتعرضون لهم في شيء من دينهم أو معاملاتهم، أو أحكامهم المدنية أو القضائية، أو سائر أحوالهم". فالواقع ينفي أن تكون المؤثرات في حياة الأمم الثلاث واحدة أو متقارية. وليس التحضر بعد البداوة، وصروف السياسات المختلفة، والتكوين السياسي الدافع إلى فتح البلاد إلا أطوارًا عامة، ولا بد من البحث في سبب التحضر بعد البداوة، وفي أساليب تلك السياسات المختلفة، وفي كنه هذا التكوين السياسي؛ فإن الأمم إذا اختلفت في سبب تحضرها، أو في صروف سياستها، أو في شخصية تكوينها السياسي، لا تكون نتائج حياتها واحدة أو متقاربة. ولعل القارئ يفهم رجحان حياة العرب على حياة اليونان والرومان من تسوية المؤلف بينهما في المؤثرات والنتائج؛ فإن ما يحمله للأمة العربية المسلمة، يدعوه إلى أن يغير تاريخها، ولو في أذهان طلابه في الجامعة، فإذا جعل نتائج حياة العرب مماثلة لنتائج حياة اليونان والرومان، فذلك الشاهد على أن فضل حياة العرب واضح، وأنه لو وجد كفة العرب تساوي

تكرار الشكوى من أنصار القديم

كفة تينك الأمتين، أو ترجح عنها بقليل، لصاغ البحث في غير هذه الصورة، ونحا بالعبارة نحو الغض من العرب، وإنزالهم إلى الدرجة السفلى. يقول المؤلف: إن المؤثرات في حياة الأمم واحدة أو متقاربة، وتجده حين يتحدث عن النتائج يبتدئها بتجاوز الحدود الطبيعية وبسط السلطان على الأرض، ثم يصله بالتراث الذي تتركه الأمة، وهو بالنسبة لليونان فلسفة، وللرومان تشريع ونظام، وللعرب أدب وعلم ودين. فالدين في زعمه كالفلسفة اليونانية والتشريع الروماني يصح أن يعد في نتائج تلك المؤثرات المتحدة أو المتقاربة، ويصح أن يسمّى تراثاً تركه العرب كما تركوا علماً وأدباً. ليس الدين من نتائج التحضّر بعد بداوة، أو صروف السياسات المختلفة، أو التكوين السياسي الدافع إلى فتح البلاد، وإنما هو هداية سماوية أطلت شمسها على أفق عربي، ثم ألقت أشعتها هكذا وهكذا، وما كانت الصلة بين العرب وهذا الدين إلا صلة الإيمان والجهاد في سبيله، وقد انعقدت هذه الصلة بينه وبين أمم أخرى ليست بالعدنانية، ولا القحطانية، وإنما هي العقول الراجحة تبصر الحقائق محمولة على سواعد الحجج، فلا تقعد حتى تعتنقها. * تكرار الشكوى من أنصار القديم: قال المؤلف في (ص 44): "ولسنا نريد أن نترك الموضوع الذي نحن بإزائه للبحث عما يمكن أن يكون من اتفاق أو افتراق بين العرب واليونان والرومان، فنحن لم نكتب لهذا، وإنما نريد أن نقول: إن هذه الظاهرة الأدبية التي نحاول أن ندرسها في هذا الكتاب، والتي يجزع لها أنصار القديم جزعًا شديداً، ليست مقصورة على الأمة العربية".

منهج ديكارت، ومنهج ابن خلدون

لا يفتأ المؤلف يشكو إليكم أشخاصاً يسميهم: أنصار القديم، ويدعي عليهم: أنهم يجزعون جزعًا شديداً لهذه الظاهرة الأدبية، التي يحاول أن يدرسها في هذا الكتاب. وهذا ما دعاه إلى أن يقصّ عليكم شيئاً من تاريخ اليونان والرومان؛ حتى لا يخالط ظنكم أنه رمى الأمة العربية بوصمة لم ترم بها أمة من قبلها. ولسنا على ثقة من أن في أهل الأدب من يجزع جزعاً شديداً أو هيناً لظاهرة أدبية. فإن جزعوا، فلاتخاذه البحث في هذه الظاهرة جسراً يعبر منه إلى طعن في الدين ما له به من شبهة أو سلطان، وإن جزعوا، فإنما يجزعون إشفاقًا على تلك الفطر السليمة يحدثها على غير نظام، ويطبعها على عادة البحث الذي يهوي برأس الحقيقة إلى عقبها، ويرفع عقبها إلى مكان الرأس، وإن شاقك أن تشاهد أمثال هذه الصورة النادرة، فادرس كتاب "في الشعر الجاهلي" وأنت خالي الذهن من كل ما قيل فيه. * منهج ديكارت، ومنهج ابن خلدون: عاد المؤلف إلى الحديث عن منهج (ديكارت): وقال في (ص 45): "ولا بد أن نصطنعه في نقد آدابنا وتاريخنا كما اصطنعه أهل الغرب في نقد آدابهم وتاريخهم، ذلك أن عقليتنا نفسها قد أخذت منذ عشرات من السنين تتغير وتصبح غربية، أو قل: أقرب إلى الغربية منها إلى الشرقية، وهي كلما مضى عليها الزمن، جدت في النفس، وأسرعت في الاتصال بأهل الغرب". ألم يكن من أدب الأستاذ أن يربي نفوس التلاميذ على عزة ونخوة،

ومن أسباب عظمة النفس ومقامرتها في الشرف: شعورها بأنها غصن من شجرة نبتت نباتًا حسنا، وآتت كلها ضعفين. إن شعور نشئنا بما كان للشرق من حلوم راجحة، وحياة علمية زاهرة، ليجعلهم من سمو الهمة وقوة العزم بمكان لا تحظى به نفوس يقال لها: انسلخي من شرقيتك، إنها مرذولة، اخرجي في صبغة غربية، إنها أخذت الكمال من جميع أطرافه. ولا أقصد بانكار نزعة المؤلف أن نشعر الناشئ بأن الشرق في غنى عن الغرب، أو أن نذكر الشرق بكثر مما تسعه الحقيقة، فإن الأول صد عن سبيل الرقي، والثاني جناية على التاريخ، وعلى ما يسميه الأخلاقيون أو اللغويون: صدقاً وأمانة. يسرنا من أستاذ في الجامعة أو في غير الجامعة أن يتحدث عن (ديكارت)، ومنهج (ديكارت)، وعن الثمرات التي جناها أهل العلم من سيرهم على منهج (ديكارت)، ونكره مع هذا أن يغلو الأستاذ في جحود ما كان للشرق من عبقرية، حتى يتناهى به الغلو إلى أن يسمي الثقافة: عقلية غربية. تدرس الأمم الراقية تاريخها؛ لأنه علم، وتُعنى بدرسه؛ لأنه يفضي إلى أبنائها بما كان لسلفهم من مآثر فاخرة، فيدخلون معترك هذه الحياة بشعور سام، وهمم يصغر لديها كل خطير، أما المؤلف، فإنه يدسّ في محاضراته فقرات شأنها الإزراء بأي قومية شرقية، وقد نفذت هذه الدسيسة في نفر حتى تيسر لها أن تجمع في نفوسهم بين المهانة والغرور. لا نمتري في أن المؤلف درس مقدمة ابن خلدون، ولو كان فيه روح من إخلاص، لم ينصرف عن هذا الحديث حتى ينبه على منهج ذلك

الفيلسوف، ولكنه لا يرغب في أن تشعر تلك الطائفة القليلة بذلك المقال؛ لأنه لا يستطيع بعد شعورهم هذا أن يريهم منهج (ديكارت) في صورة المبتكر الذي لم ينسج على مثال، ولا يستقيم له أن يسمّي الثقافة وتحقيق البحث: عقلية غربية. أوردنا ذلك المنهج في (صفحة 37). وقد زاده صاحبه إيضاحاً بقوله: "فإن النفس إذا كانت في حال الاعتدال في قبول الخبر، أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، صاذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة، قبلت ما يوافقه من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله". ثم فصل القول في أسباب الكذب، فقال: "ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً: الثقة بالناقلين، وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. ومنها: الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه، فيقع في الكذب. ومنها: توهم الصدق، وهو كثير، وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين. ومنها: الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع؛ لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع، فينقلها المخبر كما رآها، وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه. ومنها: تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلَّة والمراتب بالثناء والمدح، وتحسين الأحوال، وإشاعة الذكر بذلك، فيستفيض الإخبار بها على غير حقيقة" (¬1). وإذا ضممت هذا إلى ما نقلناه عنه آنفا، رأيت منهجاً متى سلكه الباحث ¬

_ (¬1) "المقدمة" (ص 29).

العبقرية لا وطن لها

بذكاء وإخلاص، بلغ في تحقيق تاريخ العرب وآدابهم الغاية التي ليس بعدها مرتقى. * العبقرية لا وطن لها: قال المؤلف في (ص 45): "وإذا كان في مصر الآن قوم ينصرون القديم، وآخرون ينصرون الجديد، فليس ذلك إلا لأن في مصر قوماً قد اصطبغت عقليتهم بهذه الصبغة الغربية، وآخرين لم يظفروا منها بحظ، أو لم يظفروا منها إلا بحظ قليل. وانتشار العلم الغربي في مصر وازدياد انتشاره من يوم إلى آخر، واتجاه الجهود الفردية والاجتماعية إلى نشر هذا العلم الغربي، كل ذلك سيقضي غداً أو بعد غد بن يصبح عقلنا غربياً". لا يفوت أحداً أن في الغرب علماً وثقافة، واختيار أسلوب في البحث والتأليف، وذلك شأن كل أمة تجد من زعمائها أو أمرائها من يأخذون بأيديها إلى نهضة علمية ضافية. والذي نلفت له نظر القرّاء: ألا يأخذهم الاعتقاد بتفوق الغرب علماً وثقافة إلى أن يُطرقوا أمام كل رأي أو مقال يصدر من غربي حقاً، أو غربي تقليدًا، وحقيق عليهم أن يحتفظوا بألمعيتهم، ويناقشوا الآراء الغربية، أو المدعية أنها من نسل عقلية غربية، ولا يمنحوها من الاحترام ما يحجم بهم عن نقدها، والبحث عن منشئها، وما يترتب عليها من النتائج، ثم لا يترددوا في أن يحكموا عليها بالصحة أو البطلان حكماً لازباً. ولا يقصد المؤلف حين يلهج بمنهج (ديكارت)، ويشير إلى أن عقليته أصبحت غربية، إلا التأثير على طلابه في الجامعة حتى يصغوا إلى حديثه كأن على رؤوسهم الطير، ويتلقوا آراءه بالتصديق والخضوع.

المستقبل للحقائق والحجج

في الغرب علم، وأساليب بحث وتأليف، وليس في يد الغرب أن يهب لك ذوقًا أو عقلاً لا يمشي في البحث إلا على صراط مستقيم. وهذا (مرغليوث)، وهو غربي عقلاً ومولداً، قد يورد آراء لا تلقى في الشرق إلا من يردها بالحجة على عقبها خاسئة. فإن كان للعلوم الغزيرة وطن؛ فإن العبقرية لا وطن لها. * المستقبل للحقائق والحجج: قال المؤلف في (ص 46): "وإذا كان قد قدر لهذا الكتاب ألا يرضي الكثرة من هؤلاء الأدباء والمؤرخين، فنحن واثقون بأن ذلك لن يضيره، ولن يقلل من تأثيره في هذا الجيل الناشئ. فالمستقبل لمنهج (ديكارت)، لا لمناهج القدماء". عرف هؤلاء الأدباء والمؤرخون منهج (ديكارت) من قبل أن يخلق كتاب "في الشعر الجاهلي"، ولاقوه بطمأنينة وارتياح؛ لأنه المنهج الذي يسير عليه كل راسخ في العلم، وإذا لم يرضوا عن ذلك الكتاب، فلأن مؤلفه ينطق بغير حجة، ويحكي آراء في لهجة مستنبط، ويستعير للطعن في الإسلام لقب باحث، ويتخذ اسم منهج (ديكارت) حبالة لصيد الأغبياء. فنحن واثقون بأن نقد ذلك الكتاب، وافتضاح ما فيه من كيد وخطأ سيقلل تأثيره في الجيل الناشئ. فالمستقبل للحقائق والحجج، لا للتغني باسم الجديد، وأنصار الجديد.

السياسة وانتحال الشعر

السياسة وانتحال الشعر بنى المؤلف ما كتبه تحت هذا العنوان على الهجاء الذي دار بين قريش والأنصار لعهد النبوة، وبين قريش والأنصار لعهد معاوية بن أبي سفيان، ثم على تأثير العصبية في الحياة السياسية، وقد خاض في هذا الموضوع كتاب لا يخفى على المؤلف مكانه، وهو "تاريخ آداب اللغة العربية" لجرجي زيدان، فقال (¬1): "وقد راج الهجو السياسي في العصر الأموي؛ لاحتياج ولاة الأمور إليه بسبب الانقسام الذي قام بين الأحزاب المختلفة، وهو الهجو السياسي، وقد بدأت المهاجاة في الإسلام بين شعراء النبي وأعدائه القرشيين، ثم صارت بين المهاجرين والأنصار، أو هي بين قريش واليمن، وكان لكل من الجانبين شعراء يردون عنهم الهجاء بأشد منه، وكان المسلمون يحفظون ما يقوله هؤلاء من المهاجاة، وينشدونه، كل طائفة تنتصر لأصحابها، وبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فنهى عنه، وقال: "في ذلك شتم الحي بالميت، وتجديد الضغائن". فلما أفضى الأمر إلى معاوية، اقتضت سياسته ومصلحته أن يجدد تلك الضغائن، فجعل يغري الشعراء على الطعن بالأنصار؛ لأنهم أصحاب علي بن أبي طالب خصمِه. وكان يفعل ذلك تحت طي الخفاء، ومن الذين أغراهم على ذلك الطعن: الأخطل الشاعر التغلبي المشهور، ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 243).

العرب لم يستطيعوا الخلوص من الدين

فعظم ذلك على الأنصار، خصوصاً لأنه نصراني، واستعان به معاوية على المسلمين، فغضب متكلم الأنصار وشاعرهم، وهو يومئذ النعمان بن بشير، ودخل على معاوية، وأنشده قصيدة في الدفاع عن الأنصار مطلعها: "معاوي إن لم تعطنا الحق تعترف" ... إلخ. ثم تخلص إلى الفخر بأعمال الأنصار وأنسابهم، وختم القصيدة بالطعن على خلافة معاوية". وقال: "وتحولت المهاجاة بين الأنصار والمهاجرين إلى المشاتمة بين بني هاشم وبني أمية، وانتشر ذلك في المملكة الإسلامية". سقنا هذه المقالة؛ ليكون القراء على بينة من الأساس الذي عقد عليه المؤلف هذا الفصل. * العرب لم يستطيعوا الخلوص من الدين: ذكر المؤلف أن العرب خضعوا لمثل ما خضعت له الأمم الأخرى من المؤثرات الداعية إلى انتحال الشعر والأخبار، وأن أهم هذه المؤثرات: الدين، والسياسة. ثم قال في (ص 47): "فقد أرادت الظروف ألا يستطيع العرب منذ ظهر الإسلام أن يخلصوا من هذين المؤثرين في لحظة من لحظات حياتهم في القرنين الأول والثاني". لو قدر للمؤلف أن يكتب في علم الحساب أو الهندسة، لما طاب له الانصراف عن الحديث، حتى يرمي إلى ناحية الإسلام، أو رجال الإسلام بكلمة يمن بها على أوليائه من غير المسلمين. يقول المؤلف: أرادت الظروف ألا يستطيع العرب أن يخلصوا من مؤثر

ظهور العرب على العالم بالإسلام

الدين، وهو يعلم أن معنى الخلوص من الشيء: النجاة، والسلامة منه، ولا عجب أن يخيل المؤلف الإسلام في صورة ما ينبغي للناس أن ينجوا بأنفسهم من تأثيره؛ فإنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا ما يؤذي العقلية التي "أخذت منذ عشرات من السنين تتغير، وتصبح غربية". * ظهور العرب على العالم بالإسلام: قال المؤلف في (ص 47): "هم مسلمون لم يظهروا على العالم إلا بالإسلام، فهم محتاجون إلى أن يعتزوا بهذا الإسلام، ويرضوه ويجدوا في اتصالهم به ما يضمن لهم هذا الظهور، وهذا السلطان الذي يحرصون عليه، وهم في الوقت نفسه أهل عصبية، وأصحاب مطامع ومنافع، ويلائموا بينها وبين منافعهم ومطامعهم ودينهم". لم يظهر العرب على العالم إلا بالإسلام، وهم محتاجون إلى أن يعتزوا به ويرضوه، وكانوا يجدّون في اتصالهم به، ليقينهم بأن هذا الاتصال يضمن لهم الظهور والسلطان والسعادة في الآخرة والأولى. وكثير من رجال هذه الأمة النجيبة أرضَوا الإسلام، وجدوا في اتصالهم به من قبل أن يظهروا على العالم، ومن قبل أن يكون له سلطان، بل أرضوه، وجدّوا في اتصالهم به يوم كانوا يلقون من الذين أشركوا أذى كثيراً، ويوم كانوا يقاسون مضض الغربة عن أوطانهم، ويوم كانوا يخافون أن يتخطفهم الناس. فالتاريخ يشهد بأن في العرب رجالاً أنفقوا في سبيل الإسلام كل ما استطاعوا من قوة، وسيرتهم تنطق بأنهم أقاموا الدعوة إليه بعقيدة أنه هداية ومنبع سعادة، وسواء عليهم بعد ذلك الجهاد الحق أن يعيشوا به أعزّاء، أو يموتوا شهداء، فإذا أرضى أولئك الرجال الإسلام، فإنما أرضوا الإنسانية،

الدين والسياسة عند العرب

وإذا جدوا في الاتصال به، فإنما يجدّون في الاتصال بالفضيلة، ولكن المؤلف لا ينظر إلى الفضيلة وآداب الإنسانية الراقية بعين تقدرها. فما كان للمؤلف أن يرمي العرب بهذه العبارة المطلقة الشائنة، وما كان له أن يخيل إلى قراء كتابه أن العرب لم يجدّوا في اتصالهم بالإسلام إلا رغبة في الظهور، وحرصًا على السلطان، فإن في الإسلام حجة وحكمة تأخذان ذوي الفطر السليمة والعقول السامية إلى أن يتصلوا به ويرضوه، ولو نسلت عليهم الخطوب من كل حدب، أو سخط عليهم أمثال هؤلاء الذين أخذت عقليتهم "منذ عشرات من السنين تتغير، وتصبح غربية". * الدين والسياسة عند العرب: قال المؤلف في (ص 48): "فخليق بالمؤرخ السياسي أو الأدبي أو الاجتماعي أن يجعل مسألة الدين والسياسة عند العرب أساسًا للبحث عن الفرع الذي يريد أن يبحث عنه من فروع التاريخ. وسترى عندما نتعمق بك قليلاً في هذا الموضوع أننا لسنا غلاة، ولا مخطئين". لم يوضح المؤلف وجه التأثر بالسياسة حتى يعلم القارئ أن هذا المعنى يختص بالعرب، أو هو شأن كل جماعة تساس بسلطان، وإذا كان دأب العرب خاصة، فهل هو عارض لهم في بعض أطوارهم السياسية، أم هو مظهر لم ينفكوا عنه منذ قامت لهم الدولة في الإسلام؟ ومن شأن المخلص في بحثه ألا يؤذي تاريخ أمة بحديث يبهمه، وكلام يلوي رأسه على ذنبه. تتأثر الأمة بالسياسة على معنى أن يكثر فيها الطامحون إلى الرياسة؛ كالملك والوزارة وقيادة الجيش ونحوها، وذلك ما يبعث على التنافس، وبذل المستطاع في سبيل الوصول إليها، وتختلف الطرق التي يسلكها هؤلاء

المتنافسون في كونها مشروعة أو غير مشروعة، والأخذ في نيلها بالطرق المشروعة خصلة مالوفة، وسعي لا بأس به، وفي العرب من وضعت مقاليد السياسة في يده دون أن يبذل في سبيلها درهما، أو ينتضي حسامًا، وذلك شأن الخلفاء الراشدين، فإن أردت أن تجعل لأبي بكر الصديق، أو علي بن أبي طالب سيفًا مسلولًا، فإنما هو الدفاع عن نظام الأمة، أو عن تلك الرياسة التي تدير شؤونها بحكمة وعدالة، والواقع أن هذا الضرب من التأثر بالسياسة لم يكن له في عهد الخلافة الرشيدة مظهر، وهو العهد الذي يمثل روح الإسلام، وينطبق على مبادئه من كل ناحية. تتأثر الأمة بالسياسة على معنى: أن يبالغ القابضون على سياستها في التعرض لشؤون الأفراد، واستعمالهم فيما يعود على ولايتهم بالبقاء، ولو بغير حق، ومن طبيعة السياسة المستبدة أن يتزلف لها الناس بالملق رهبة من بطشتها، أو رغبة في أن ينالهم قسط من سرفها. وهذا المعنى لا يستطيع المؤلف أن يصف به العرب لعهد الخلفاء الراشدين، أو من ساروا على مبادئ الإسلام بإطلاق؛ كعمر بن عبد العزيز. وقد وجد هذا الضرب من التأثر بالسياسة في كثير من الدول التي تجعل دينها الرسمي الإسلام، عرباً كانوا أو غير عرب، كما يوجد في غير المسلمين، حتى الأمم التي يملأ المؤلف قلبه بإجلالها، فإننا نرى سياستها تستعمل أقلامًا في تغيير تاريخ بعض الأمم، وفك عرا وحدتها، وقلب أخلاقها وجميع مميزاتها إلى ما يجعلها تحت تلك السياسة كالأنعام أو أضلّ سبيلاً. أما تأثر العرب بالدين، فلأن الإسلام عقيدة وآداب، وشريعة وسياسة، وقد أخذ العرب في يقينهم صحة تلك العقائد، ووضاعة تلك الآداب، وعدالة

الإسلام عقيدة وشريعة ونظام

تلك الشريعة، وحكمة تلك السياسة، فلا بدع أن يكون للإسلام تأثير في آدابهم ومعاملاتهم، وأخلاقهم وسياستهم، ولا سيما بعد أن أبصروا بأعينهم يد النائم في المسجد تتناول تاج كسرى، وتضرب به بين لابتي يثرب، وتطوي سلطان قيصر عن ممالك بعيدة ما بين المناكب. فاجعل مسألة الدين عند العرب يوم أدهشوا العالم أساسًا للبحث عن الفرع الذي تريد أن تبحث عنه من فروع التاريخ، ولا تكن كمؤلف كتاب "في الشعر الجاهلي" من المغالين أو المخطئين. * الإسلام عقيدة وشريعة ونظام: ذكر المؤلف أن النبي - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه كانوا بمكة مستضعفين، وأن الجهاد بينهم وبين قريش وأوليائهم كان جدليًا خالصاً، وأن النبي - عليه السلام - كاد يقوم بهذا الجهاد الجدلي وحده، وكان كلما بلغ حظاً من إفحام قريش، انتصر له فريق من قومه حتى تكؤن له حزب ذو خطر، ولم يكن هذا الحزب سياسياً يطمع في ملك، ولا تغلب، ولا قهر، أو لم يكن ذلك في دعوته، وانتهى به الحديث إلى الهجرة. ثم قال في (ص 49): "ولكنا نستطيع أن نسجل مطمئنين أن هذه الهجرة قد وضعت مسألة الخلاف بين النبي وقريش وضعاً جديداً، جعلت الخلاف سياسياً يعتمد في حَلِّه على القوة والسيف، بعد أن كان من قبل دينياً يعتمد على الجدل والنضال بالحجة ليس غير". وقال: "فليس من شك إذن أن الجهاد بين النيي وقريش قد كان دينياً خالصاً ما أقام النبي في مكة. فلما انتقل إلى المدينة، أصبح هذا الجهاد دينياً وسياسياً واقتصادياً، وأصبح موضوع النزاع بين قريش والمسلمين ليس مقصوراً على أن الإسلام حق أو غير حق،

بل هو يتناول الأمة العربية، أو الحجازية على أقل تقدير لمن تذعن، والطرق التجارية لمن تخضع". نشأ محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - في بيئة تعبد الأصنام نشأة رشد وصدق وعفاف، وقد آمن بنبوته رجال من كبار قومه يعرفونه كيف ولد، وكيف شبّ، وأين يذهب، ومن أين يجيء، ولو لم يعرفوه رشيداً صادقاً عفيفًا، لذكروا ما يعرفونه له من هفوة أو هفوات، وكانت هذه الذكرى عرضة في سبيل إيمانهم، وسلاحاً يقفون به في وجه دعوته، فإيمان كثير من عظماء عشيرته الذين هم على كثب من سيرته يرقبونها بكرة وأصيلاً، يشهد بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - شبّ في طهر واستقامة، وصدق لهجة وأناة. قضى محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين حجة في سيرة تلألأ صدقاً ووفاء وتؤدة، فإذا هو بعد الأربعين يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة، لا يهاب جبارًا، ولا يحابي قريباً، ولا يبالي أن يتهكم به غير حليم. أبصر أولئك القومُ الذين يعترف المؤلف بذكائهم ودهائهم واستنارتهم تلك الآيات المحكمات حقاً، فكانوا كلما استطاعت طائفة منهم أن تخلص من أهوائها، وما وجدت عليه آباءها، اطمأنت إلى دعوته، وانتصرت لما آمنت به، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب. لم يدخر المشركون وسعاً في أذى المؤمنين، حتى ألجؤوا فريقاً منهم إلى الهجرة، وأخذوا يأتمرون في شأن الرسول - عليه الصلاة والسلام -, وقد تعرض القرآن لهذه المؤامرة، وحكى الآراء التي دارت بين المؤتمرين فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

خرج - عليه الصلاة والسلام - على حين غفلة من أولئك الملأ الذين ائتمروا به، خرج ولا رفيق له من أصحابه سوى أبي بكر، وتواريا في غار ثور حذراً من أن تقع عليهما عين مشرك، وكذلك رسل الله يأمنون ويحذرون، وقد أتى القرآن على هذه الواقعة في آية: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. وإسناد الإخراج في الآية إلى الذين كفروا؛ لأنهم تصدوا إلى ما يقتضي خروجه، وهو إذايتهم له بأشد مما كانوا يصنعون. نزل الرسول - صلوات الله عليه - المدينة، وحوله حزب استيقن أن هذه الدعوة حق، ووطّد نفسه لكل ما يلاقيه في سبيلها من خطوب، ولم يكن يخفى على الرسول - عليه السلام - أن أشد الناس عداوة لهذه الدعوة، وأجمعهم قوة على محاربتها: مشركو قريش، وإذا كان عبدة الأوثان في مكة هم أشد الناس داعية إلى محاربة دين الحق، بل كانوا أول من بسطوا أيديهم إلى أوليائه بالسوء والأذى، كان من مصلحة هذه الدعوة أن تبتدئ بعمل الوسائل لإخلاء مكة وبناء إبراهيم وإسماعيل من رؤوس تسجد للّلات والعزّى، وقلوب لا تضمر لحماة هذه الدعوة إلا شراً. فالرسول - عليه السلام - وحزبه الطامح إلى السعادة الخالدة، لم ينتضوا سيفاً، أو يهزوا أسلاً، أو يرموا نبلاً؛ ليظفروا بملك، أو ليستأثروا بسلطة، كما يحاول المؤلف أن يصوره لقراء كتابه. والحق أن الإسلام عقيدة وشريعة ونظام، ولا بد لهذه الحقائق من حماية، ولا حماية إلا بقوة وسلطان. وإذا كان من مقاصد الإسلام إنشاء دولة تجري على قانون شريعته،

مكافحة الهجائين بسلاحهم

وتتحرى نظام سياسته، فالنبي - عليه السلام - وحزبه من المهاجرين والأنصار، إنما يجاهدون في سبيل هذه المبادئ والمقاصد التي نزل بها القرآن في أحسن تقويم، فمحاربة المسلمين للمشركين يومي بدر وأحد لا يقصد بها إلا ظهور الإسلام، ونشر مبادئه، ونفاذ أوامره، وإذا نالت. أحد هؤلاء المجاهدين إمارة، أو حياة ناعمة، فتلك سنّة الله في الذين يجاهدون فينتصرون. * مكافحة الهجَّائين بسلاحهم: انقاد المؤلف بزمام المناسبة إلى الحديث عما أحدثته الهجرة النبوية من العداوة بين مكة والمدينة، أو بين قريش والأوس والخزرج بعد أن توثقت صلات الود بينهما، وذكر أن الشعر اشترك في هذه العداوة مع السيف، وأن شعراء الأنصار وشعراء قريش وقفوا يتهاجون. ثم قال في (ص 50): "ويجب أن يكون هذا الهجاء قد بلغ أقصى ما يمكن من الحدة والعنف؛ فإن النبي كان يحرض عليه، ويثيب أصحابه، ويقدمهم، ويعدهم، مثل ما كان يعد المقاتلين من الأجر والمثوبة عند الله، ويتحدث أن جبريل كان يؤيد حسّاناً". لم يجئ الإسلام ليلقي بين القبائل عداوة، ولا ليطلق ألسنة الشعراء بالهجاء، ولكنه فتح بصائر الأوس والخزرج، فرأوا أبا جهل وشيعته في عماية، وتمنوا رشدهم، فاستحبوا العمى على الهدى، وإذا كانت القبيلتان تتفقان في الجاهلية على ضلالة، وتقتربان في شقاء، فإن اختلافهما بالهداية خير من ذلك الاتفاق، وتباعدهما بالسعادة أفضل من ذلك الاقتراب. أما الهجاء، فالناس يعلمون ما للشعر من الاتصال بالنفوس، وما له من الأثر في استهواء القلوب، ولما جعل المشركون يسطون على مقام النبوة

إسلام أبي سفيان

بالهجاء، ويتخذونه سلاحاً لمحاربة دين الحق، كان من الحكمة البينة أن يكافَح أولئك الهجاؤون بسلاحهم، فأذن الرسول - صلوات الله عليه - لحسّان بن ثابت وغيره أن يجازي تلك السيئة بمثلها، وأخبر أن جبريل يؤيد حسانًا، وكذلك كانت العاقبة للذين انتصروا من بعد ما ظُلموا. فليس من الصواب أن يخلى السبيل لتلك الأشعار الطاعنة، فتطرق كل أذن، وتحوم على كل قلب، دون أن تقف أمامها قوة تعمل على مثالها، فتكف بأسها، وتنفض عن الصدور وساوسها. وما مثل تلك الأشعار الغاوية إلا كمثل ما يكتبه دعاة الإباحية اليوم من الطعن في الدين وتقويض بناء الفضيلة، أفيحق لحملة الأقلام الناصحة أن ينزووا في بيوتهم، ويدعوا هذه الطائفة تنفث من سموم غوايتها ما يفتك بالآداب والأعراض؟!. أما تأييد جبريل لحسّان، فقد أخبر به من قامت الآيات البينات على صدقه، والمؤلف لا ينازع في أن عدم رؤية الشيء ليس دليلاً على عدم وجوده. * إسلام أبي سفيان: ذكر المؤلف أن قريشاً جاهدت بالسنان واللسان، والأنفس والأموال، ولكنها لم توفق. ثم قال في (ص 51): "وأمست ذات يوم وإذا خيلُ النبي قد أظلت مكة، فنظر زعيمها وحازمها أبو سفيان، فإذا هو بين اثنتين: إما أن يمضي في المقاومة، فتفنى مكة، وإما أن يصانع ويصالح، ويدخل فيما دخل فيه الناس، وينتظر لعل هذا السلطان السياسي الذي انتقل من مكة إلى المدينة،

ومن قريش إلى الأنصار أن يعود إلى قريش، وإلى مكة مرة أخرى". سار النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى فتح مكة في عشرة آلاف مجاهد بعد أن نبذ إليهم العهد على سواء، نزل بمرّ الظهران، فخرج أبو سفيان يلتمس الخبر، فاخذه حرس عليهم عمر بن الخطاب، وأتوا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانت العاقبة أن أصبح مسلمًا، وتألفه - عليه السلام - بقوله: "من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن"، وكان يتألفه بالمال، ويذهب كثير من الرواة إلى حسن إسلامه، ومما يستدلون به على هذا: أنه شهد فتح الطائف، وهنالك فقئت إحدى عينيه بسهم أصابها من يد الأعداء، وشهد بعدها وقعة حنين، ثم وقعة اليرموك لعهد عمر بن الخطاب، ولو كان منافقاً، لقعد مع الخالفين، ولم يضق به الحال أن يلتمس عذراً، لا سيما إذ كانت السلطة العسكرية لذلك العهد لا تأخذ الناس إلى الجندية قهرًا، ولا تعاقب البُلُط (¬1) أو المتأخرين عن صفوف الحرب بالفصل بين الرؤوس والأعناق. ويضاف إلى هذا: أن المنافق قلما استطاع أن يتصل بقوم ليسوا بأغبياء، ويعاشرهم حينًا من الدهر دون أن تظهر سريرته في لحظاته وبين شفتيه، وهذا شأن كل من يحمل سريرة سوداء؛ فإنه لا يملك مردّها، ويقوى على شد وكائها زمناً طويلاً. فلو كان أبو سفيان منافقاً، لم يخفَ حاله على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة المستنيرين المخلصين، ولو وُسم أبو سفيان بين هؤلاء بميسم النفاق، لكان أثره في التاريخ أوضح، وروايته أقوى. وقد تمرد على النفاق نفوس نشأت ¬

_ (¬1) الفارّون من المعسكر.

في خمول، ولا يسهل على الذي يكبر في زعامة كأبي سفيان أن يقضي سنين في كفر يحوطه الكتمان من كل ناحية. لندع المؤلف يتحدث عن أبي سفيان بما يشاء، فإنه يجد في بعض الكتب أثراً يساعده على أن يمس عقيدته وإخلاصه، وقد اعتاد التمسك بالروايات التي يكثر بها سواد المنافقين والمتهتكين، وإن كانت هباء، وإنما نريد مناقشته في شيء آخر وراء إخلاص أبي سفيان. يقول المؤلف عن أبي سفيان: "وإما أن يصانع ويصالح، ويدخل فيما دخل فيه الناس، لعل هذا السلطان السياسي الذي انتقل من قريش إلى الأنصار أن يعود إلى قريش مرة أخرى". نحن على يقين من أن المؤلف لم يتلق بطريق الرواية الصحيحة أو المصنوعة أن أبا سفيان احتمل هذه المصانعة رجاء أن ينتقل هذا السلطان السياسي من الأنصار إلى قريش. وإنما يحاول التشبه بفلاسفة التاريخ المستنبطين، وما هذا الاستنباط إلا من سقط المتاع الذي يقول له المؤرخ بيده هكذا، ويبعده عن ساحة تلاميذه؛ لأنه ناشئ عن عامل غير عامل الفكر، أو عن فكر لا يتمتع باستقلاله. ينظر المؤرخ يوم فتح مكة، فيجد القائد الأعلى للجند الفاتح من صميم قريش، ويجد كثيراً من هذا الجند لا يمت للأوس والخزرج بنسب، وآخرين لا تزال بيوتهم التي ولدتهم بها أمهاتهم قائمة في بطحاء مكة، ولا يزال آباؤهم أو إخوانهم يغدون من هذه البيوت القائمة وإليها يروحون، وما الأوس والخزرج إلا فرقة من جند تألف حول ذلك القائد القرشي، فالسلطان يوم فتح مكة في يد قريش، ومن البعيد أن يخطر على بال أبي

الخلافة حقيقة شرعية

سفيان أنه في يد تلك الفرقة التي تسمّى: الأنصار حتى يقول؛ لعل هذا السلطان يعود إلى قريش، ولو قال المؤلف: لعل هذا السلطان الذي انتقل من عبدة الأوثان إلى عبّاد من خلق الأوثان أن يعود إلى عبدة الأوثان، لكان خطؤه قريباً، وشبهته محتملة. * الخلافة حقيقة شرعية: قال المؤلف في (ص 51): "ولعل النبي لو عُمّر بعد فتح مكة زمناً طويلاً، لاستطاع أن يمحو تلك الضغائن، وأن يوجه نفوس العرب وجهة أخرى؛ ولكنه توفي بعد الفتح بقليل، ولم يضع قاعدة للخلافة، ولا دستورًا لهذه الأمة التي جمعها بعد فرقة. فأي غرابة في أن تعود هذه الضغائن إلى الظهور، وفي أن تستيقظ الفتنة بعد نومها، وفي أن يزول هذا الرماد الذي كان يخفي تلك الأحقاد؟ ". تحدث النبي - عليه السلام - عن الإمامة والإمام في أحاديث يرويها البخاري ومسلم وغيرهما، وقد شرع القرآن للخلافة قاعدة في قوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. وزادها النبي - عليه السلام - بياناً؛ إذ ترك للأمة حريتها في انتخاب من ترى فيه الكفاية للقبض على مقاليد أمرها، حتى تكون السيرة المقتدى بها في كل عهد، أما طريقة أخذ الآراء، فموكولة إلى اجتهاد أهل الحل والعقد، ككل مصلحة أرشد إليها الإسلام، وفوض في وسائلها إلى اجتهاد الآراء. فالخلافة حقيقة شرعية، ونظام كافل لحياة الأمة الاسلامية، ومن يدرس التاريخ بروية وأناة، يدرك بوضوح أن الخلافة رفعت الشرق مكاناً

عاليًا، وأنه لم يفقد سيادته ومنعته إلا حين اختل نظامها، وسارت في غير سبيلها، وليس في سنّة الخلافة ما تضيق عنه الدساتير المعقولة، أو يمس الحرية المطمئنة، ولعل الذين عجلوا إلى التنكر لها لم يجدوا في مخيلاتهم إلا شبح الخلافة المشربة بروح استبدادية، ولو بحثوا فيها من حيث حقيقتها المشروعة، ونظروا سيرتها يوم مثلها الصلّيق أو الفاروق، لوجدوا في سعة نطاقها ما يحفظ حقوق الأمم، ويطابق مقتضيات كل عصر. ترك النبي - عليه الصلاة والسلام - القرآن، وما يُبينه من عمل متواتر، أو حديث صحيح، وفي القرآن وما يبينه من السنّة أحكم دستور لقوم يعقلون. لم يرد الإسلام أن يضع الناس في حرج، فيرسم لهم نظم الإدارة، أو يبين لهم دستورًا على نمط هذه الدساتير التي تتغير على حسب العصور، وتختلف باختلاف البلاد، والذي يليق بحكمة التشريع السماوي أن ينص على بعض الأحكام القائمة على مصالح ثابتة عامة، ويضع أصولاً عالية يستنبط منها كل شعب ما يطابق مصالحه، ويلائم عوائده. وهذا ما يفهمه الراسخون في العلم، وهذا ما يسير عليه الأئمة المجتهدون. فلو عُمّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة زمناً طويلاً، لم يزد على بناء هذا التشريع لبنة، ولم يبدُ له أن يسن دستوراً كدساتير هذه الدول لا يلبث أن تكبر عنه بعض العصور، فيكون غُلّاً في أعناقها، أو تصغر عنه، فيكون ثوباً فضفاضاً. أما الضغائن التي ظهرت، والفتن التي استيقظت، فلم يكن منشؤها نقصًا في التشريع كما يزعم المؤلف، بل سببها قلة العلم بالتشريع، وعدم القدرة

خلافة أبي بكر قائمة على رضا الأمة

على التطبيق، أو تغلب الأهواء؛ إذ لا عصمة إلا لأنبياء الله المصطفين. * خلافة أبي بكر قائمة على رضا الأمة: قال المؤلف في (ص 52): "وفي الحق أن النبي لم يكد يدع هذه الدنيا، حتى اختلف المهاجرون من قريش، والأنصار من الأوس والخزرج في الخلافة أين تكون؟ ولمن تكون؟ وكاد الأمر يفسد بين الفريقين لولا بقية من دين وحزم نفر من قريش، ولولا أن القوة المادية كانت إذ ذاك لقريش، فما هي إلا أن أذعنت، الأنصار، وقبلوا أن تخرج منهم الإدارة إلى قريش". القوة المادية: الجند والسلاح والمال، ولم يكن هناك جيش تحت إمارة وزير أو قائد قرشي، وإنما هي الأمة تنفر للجهاد، وعندما تضع الحرب أوزارها يعود كل واحد إلى حرفته. ولم يكن هناك خزائن للسلاح مفاتيحها بيد رجل من قريش، بل كان سلاح كل أحد في يده، أو في بيته، ولم يكن السلاح الذي بأيدي قريش أجود من السلاح الذي كان يحمله الأنصار وسائر القبائل العربية. أما المال فقد روى أبو عبيد القاسم بن سلام في "كتاب الأموال" عن الحسين بن محمد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقبل مالاً عنده ولا ببيته، قال أبو عبيدة: يعني: إن جاء غدوة، لم ينتصف النهار حتى يقسمه. وروى أبو داود عن عوف بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه الفيء، قسمه في يومه. إذاً، لم يكن هناك مال للأمة تحت يد أمير قريش. فإن قال المؤلف: أريد من القوة المادية: أن قريشاً أكثر من الأنصار عدداً أو أنصاراً، قلنا: الرواية الموثوق فيها تقول: إن المجتمعين في سقيفة

مقتل سعد بن عبادة الأنصاري

بني ساعدة طرحوا مسألة الخلافة على بساط الشورى، فاختلف المؤتمرون: أين تكون الخلافة؟ ولمن تكون؟ واشتدت رغبة سعد بن عبادة في أن يتقلد الإمارة على الأنصار، ولما احتدم الجدال، بسط عمر بن الخطاب يده، وبايع أبا بكر، فتتابع الحاضرون من المهاجرين والأنصار على مبايعته، ولم يتخلف عنها سوى سعد بن عبادة، ثم عقد اجتماع عام في المسجد، فتوارد الناس على مبايعته، وتوانى عنها علي بن أبي طالب حينًا، ثم أقبل وبايع ووفَّى. والرواية تصرح بن الأوس جنحوا إلى ولاية أبي بكر، وتتابعُ الخزرج على مبايعته دليل على أنهم لا يجدون في صدصورهم حرجاً من خلافته، ويروى أن أول من قام من الأنصار وبايع أبا بكر خزرجي يقال له: بشير بن سعد، وهو أبو النعمان بن بشير. فالظاهر أن عمر لم يمد يده إلى المبايعة إلا بعد أن تراءى له أن أكثر الآراء متوجهة إلى اختيار أبي بكر، وسمى مبايعته: فلتة؛ لأنه بادر إليها قبل أن تخرج تلك الآراء في صراحة على ما هو المعهود في نظام الشورى، وعذره في هذه المبادرة: أن بعض الأنصار أسرف في الجدل، وهمّ بما لا تحمد عقباه. فخلافة أبي بكر لم تعقد بمبايعة عمر، بل تقررت بآراء الأغلبية الساحقة، ولم تقع تحت تأثير جند يتحفز، أو سلاح يشهر، أو مال يبذل، وإذا فرض أن في المهاجرين أو الأنصار من بايعوا متابعة للكثرة السائدة، أو حذراً من سخطها، فمثل هذا لا يخرج خلافة أبي بكر عن أن تكون قائمة على رضا الأمة. * مقتل سعد بن عبادة الأنصاري: قال المؤلف في (ص 52): "وظهر أن الأمر قد استقر بين الفريقين،

وأنهم قد أجمعوا على ذلك، لا يخالفهم فيه إلا سعد بن عبادة الأنصاري الذي أبى أن يبايع أبا بكر، وأن يبايع عمر، وأن يصلي بصلاة المسلمين، وأن يحج بحجهم، وظل يمثل المعارضة قوي الشكيمة ماضي العزيمة، حتى قتل غيلة في بعض أسفاره". قلنا لكم: إن المؤلف متى وقع نظره على رواية تمس سياسة العرب بعد الإسلام، ضرب منهج (ديكارت) برجله، وكان أجرى إليها من الماء في صبب. يقول المؤلف: إن سعد بن عبادة قتل غيلة في بعض أسفاره، وسيقول في (ص 71): إن السياسة قتلته، ويشير إلى أن الباعث على قتله عدم إذعانه بالخلافة لقريش. لم يذكر المؤرخون؛ كابن جرير، وابن الأثير، وابن خلدون، ولا الحفّاظ الكاتبون في التعريف بأحوال الصحابة؛ كابن حجر، وابن عبد البر، والذهبي، وجمال الدين المزي رواية أن سعد بن عبادة قتل غيلة بيد السياسة، وإنما تجدها في مثل "شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة" حين قال: "ويقول قوم: إن أمير الشام كمّن له من رماه ليلاً إلى الصحراء، فقتله؛ لخروجه عن طاعة الإمام". وابن أبي الحديد على مذهب الشيعة، والأقرب أن تكون هذه الرواية شيئاً يزعمه بعض غلاتهم. ونحن لا نشك في هذه الرواية، ونبحثها بقلب خال من كل ما قيل في موت سعد بن عبادة. لم ترد هذه الرواية في الكتب المبسوطة في التاريخ، أو في التعريف بأحوال الصحابة، وهذا أمارة على أنها لم تدخل في دائرة العلم التي جاس

المقيمون من قريش والأنصار

خلالها هؤلاء الحفّاظ والمؤرخون، ولا تجد من هؤلاء إلا من يذكر أن سعدًا مات حتف أنفه، أو يذكر ما يزعم من أن الجن قتلته، ومنهم من يحكي أن سبب موته النهش، كما قال ابن قتيبة في "المعارف": "ويقال: إنه نُهش (¬1)، وهو الصحيح". وردت هذه الرواية في بعض كتب لا يؤخذ ما ترويه من الأخبار المتصلة بسياسة أبي بكر أو عمر إلا بالتحفظ والاحتراس، ثم إن ابن أبي الحديد لم يسندها إلى قوم بأسمائهم، فلا ندري من هؤلاء القوم، وما مبلغ نصيبهم من الصدق أو البهتان، ولا ندري أيضاً من هذا الأمير الذي كمن لسعد بن عبادة حتى رماه فقتله، وهم يختلفون في تاريخ وفاة سعد، فقيل: في خلافة أبي بكر سنة إحدى عشرة، وقيل: في خلافة عمر سنة أربع عشرة، أو خمس عشرة، أو ست عشرة. انصب المؤلف على هذه الرواية، لأنها وصمة في سيرة الخلافة الرشيدة، وأعرض عن الرواية التي تقول: "وتتابع القوم على البيعة، وبايع سعد" (¬2)؛ لأنها تجعل خلافة أبي بكر منعقدة بإجماع، وتنفي أن يكون هناك من يمثل المعارضة قوي الشكيمة ماضي العزيمة. * المقيمون من قريش والأنصار: قال المؤلف في (ص 52): "وانصرفت قوة قريش والأنصار إلى ما كان من انتقاض العرب على المسلمين أيام أبي بكر وعمر، وإلى ما كان ¬

_ (¬1) نهشته الحية: لسعته. (¬2) "تاريخ ابن جرير" في الحديث عن سنة 11.

إنشاد حسان للشعر في المسجد النبوي

من الفتوح أيام عمر. ولكن المقيمين من أولئك وهؤلاء في مكة والمدينة، لم يكونوا يستطيعون أن ينسوا تلك الخصومة العنيفة التي كانت بينهم أيام النبي، ولا تلك الدماء التي سفكت في الغزوات". خشي المؤلف أن يقول: إن قريشاً والأنصار لعهد أبي بكر وعمر لم ينسوا تلك الدماء المسفوكة في الغزوات، فيقال له: ما بالهم امتزجوا وظهروا في قلب رجل واحد، واندفعوا في حروب أهل الردة، وفتح بلاد الروم وفارس، لا يعنيهم أن يكون الخليفة قرشياً، ولا يفرقون بين أن يكون أمير الجيش قرشياً أو أنصاريًا؟ لهذه الحجة الدامغة استثنى المؤلف أولئك المجاهدين الفاتحين، وعرج على هؤلاء المقيمين يرميهم بالانطواء على الضغائن، ولا داعي له ولا بينة يضطرانه إلى قذف تلك النفوس المتآلفة إلا حرصه على أن يكسو تاريخ عهد أبي بكر وعمر لوناً قاتمًا. * إنشاد حسان للشعر في المسجد النبوي: قال المؤلف في (ص 53): "وقد ذكر الرواة أن عمر مرّ ذات يوم، فإذا حسان في نفر من المسلمين ينشدهم شعراً في مسجد النبي، فأخذ بأذنه، وقال: أرغاء كرغاء البعير؟ قال حسان: إليك عني يا عمر، فوالله! لقد كنت أنشد في هذا المكان من هو خير منك، فيرضى، فمضى عمر، وتركه. وفقه هذه الرواية يسير لمن يلاحظ ما قدمنا من أن الأنصار كانوا موتورين، وأن عصبيتهم كانت لا تطمئن إلى انصراف الأمر عنهم، فكانوا يتعزون بنصرهم للنبي، وانتصافهم من قريش، وما كان لهم من البلاء قبل موت النبي، وما أفادوا بألسنتهم من مجد". وعد المؤلف بأنه سيمشي في البحث على منهج (ديكارت)، فقلنا:

سيرة عمر بن الخطاب متجلية

عوج في التاريخ سيقوّم، وتزوير في الرواية سينجلي، فإذا هو يهجم على ما يقصه التاريخ بلسان لا عقدة فيه، ويحرفه إلى معان ليس بينها وبين اللفظ صلة إلا على طرف لسانه. قصة حسّان وردت في كتب الأدب على مثال ما قصها المؤلف نفسه، وقد رأيتم بأعينكم كيف خاض في أحشائها، وركض بين بدايتها ونهايتها، ثم خرج منها بادعاء أن حسّان كان ينشد من شعره الذي هجا به مشركي قريش، وأن عمر استاء من ذلك الصنيع، وأخذته الحمية لقريش أن أخذ بأذن حسّان معنفًا له عن تعرضه لقريش بإنشاد ذلك الهجاء. وها هي تلك القصة ماثلة بين أيديكم، فلا تدل بمنطوقها، ولا بلحن خطابها إلا على أن حسان كان ينشد شعراً في المسجد بصوت جهير، والناس حوله، فكره عمر أن تقام هذه الحفلة في المسجد الذي هو معدّ للعبادة. ولم يذكر في القصة نوع الشعر، ولحسان قصائد غير ما هجا به قريشاً، فقد قال في الجاهلية شعراً كثيراً، وقال في الإسلام ما ليس بهجاء، والشاهد من القصة على أن عمر إنما كره إلقاء الشعر في المسجد على تلك الهيئة: قول حسان: لقد كنت أنشد في هذا المكان من هو خير منك، فيرضى، ولو كان حسان ينشد شعراً في هجاء قريش، لم يمض عمر ويتركه، وهو الذي نهى الناس أن ينشدوا شيئاً من مناقضة الأنصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شتم الحي بالميت، وتجديد للضغائن. * سيرة عمر بن الخطاب متجلية: قال المؤلف في (ص 53): "وكان عمر قرشياً تكره عصبيته أن تُزدرى قريش، وتنكر ما أصابها من هزيمة، وما أُشيع عنها من منكر".

كتابة الأنصار لأشعارهم

كان عمر قرشياً مسلماً يكره له أدبه أن تزدرى قريش، كما يكره له أن تزدرى الأوس والخزرج، وقيس وتميم، ويكره له ذلك الأدب أن يزدرى عبد الله بن عمر كما يكره له أن يزدرى سلمان الفارسي، وبلال الحبشي. أما أنه ينكر ما أصاب قريشاً من هزيمة، وقد كان من أحرص الناس على هزيمتها، فذلك ما لا تحتمله إلا عقلية "أقرب إلى الغربية منها إلى الشرقية". يسهل على المؤلف أن يضع إصبعه في سيرة يزيد بن معاوية، أو حماد الرواية؛ لأنه يجد في التاريخ الصحيح أو الباطل ما يعبر به إلى الحديث عنهما بغلو وإغراق، ثم لا يعدم أذنا تصغي إليه، أو قلبا يتلهى به، أما عمر بن الخطاب، فإن سيرته متجلية تحت نبراس من التاريخ الصحيح، لا يستطيع القلم أن يغير منها لوناً، أو يسومها كيدًا، وإن ركب منهج (ديكارت)، وتناول زاده من حقيبة (مرغليوث). * كتابة الأنصار لأشعارهم: حكى المؤلف قصة عبد الله بن الزبعرى، وضرار بن الخطاب، حين قدما المدينة، وذهبا إلى أبي أحمد بن جحش، وطلبا منه أن يدعو لهما حسّان لينشداه وينشدهم، فجاء حسان، وأخذا ينشدانه عما قالت قريش في الأنصار، ولما فرغا، استوى كل منهما على راحلته، ومضيا إلى مكة، وذهب حسان مغضباً إلى عمر، وقص عليه الخبر، فأرسل عمر من ردهما، وقال لحسان: أنشدهما ما شئت، فأنشدهما حتى اشتفى. ثم قال المؤلف في (ص 54): "وقال عمر -فيما يحدثنا صاحب "الأغاني"-: قد كنت نهيتكم عن رواية هذا الشعر؛ لأنه يوقظ الضغائن، فأما إذا أبوا، فاكتبوه. وسواء أقال عمر هذا، أم لم يقله، فقد كان الأنصار

حديث عن العصبيات

يكتبون هجاءهم لقريش، ويحرصون على ألا يضيع". حديث أن الأنصار كانوا يكتبون أشعارهم مما حدثه به صاحب "الأغاني" في رواية هذه القصة نفسها، وقد طوى المؤلف الرواية دونه، وأتاك به في صورة ما لا شك فيه؛ ليكون قبولك له أسرع، وثقتك به أشد. وإذا كتب الأنصار أشعارهم، فليس من المتعين أن يكون حرصهم على كتابتها من جهة أنهم "يجدون في ذلك من اللذة والشماتة ما لا يشعر به إلا صاحب العصبية القوية". فمن المحتمل أن يكون الذين كتبوها إنما يريدون الاحتفاظ بها؛ لأنها نتيجة أعمال فكرية، وكل إنسان يعز عليه إهمال آثاره، أو آثار قومه الأدبية، ومن المحتمل أن يحرصوا على كتابتها؛ لأنها آثار تشهد بأنهم جاهدوا في إعلاء كلمة الإسلام بكل ما ملكوا من بسالة وبلاغة، ومن الملائم لسيرة عمر بن الخطاب - متى صحت الرواية- أن يكون إذنه لهم بكتابتها نظراً إلى هذا الوجه الذي يجعلها أمراً مشروعاً. * حديث عن العصبيات: قال المؤلف في (ص 54): "ولما قتل عمر، وانتهت الخلافة بعد المشقة إلى عثمان، تقدمت الفكرة السياسية التي كانت تشغل أبا سفيان خطوة أخرى، فلم تصبح الخلافة في قريش فحسب، بل أصبحت في بني أمية خاصة. واشتدت عصبية قريش، واشتدت عصبية الأمويين، واشتدت العصبيات الأخرى بين العرب، وقد هدأت حركة الفتح، وأخذ العرب يفرغ بعضهم لبعض، وكان من نتائج ذلك ما تعلم من قتل عثمان، وافتراق المسلمين، وانتهاء الأمر كله إلى بني أمية بعد تلك الفتن والحروب". استنبط المؤلف من تاريخ أبي سفيان: أنه حين أظلته خيل النبي - عليه

السلام - بمكة، دخل فيما دخل فيه الناس، وهو يرجو أن ينتقل هذا السلطان من الأنصار إلى قريش، لناع للمؤلف هذا الاستنباط، ولا نحرجه بالسؤال عن الطريق الذي ألهمه: أن أبا سفيان أسلم على رجاء أن يعود السلطان السياسي إلى قريش مرة أخرى، وأنه لولا هذا الرجاء، لما آثر المصالحة والمصانعة على المضي في المقاومة؛ فإن لمثل المؤلف هواتف لا تحوم على خاطر الذي يستقبل البحث خالي الذهن من كل ما قيل فيه. وإنما نريد أن نبحث عن مبلغ العصبية في عهد عثمان - رضي الله عنه -، فالذي يظهر أن المؤلف اشتد في الحديث عنها أكثر من اشتدادها. ميل الرجل إلى قومه وعشيرته أمر مغروز في الطبيعة؛ كحبه أباه وابنه وأخاه، وهي فطرة لا يمكن اقتلاعها من نفوس البشر ما داموا بشراً، بل لا ينبغي العمل على محوها؛ لأنها من أقوى وسائل العمران، وأشد البواعث على التعاون والتناصر، ولكنها قد تزيغ وتطغى، فتنقلب وسيلة دمار، وداعية تخاذل وتقاطع، وهذه الطبيعة الزائغة الطاغية هي التي حمل عليها الإسلام، وقعد لها كل مرصد، وأنفق في تقويمها قسطاً وافرًا من حكمه الرائعة، ومواعظه الحسنة. يحث الإسلام على إيثار العشيرة بخير لا يعود على غيرهم بشرّ، ويأذن بنصرتهم حين يسامون ضيمًا، أو يجاهدون في سبيل حق، والذي يكرهه، ويريد تطهير الصدور من خبثه: أن يعمل الرجل على نفع رهطه، ولو ألقى برهط غيره في شقاء، وأن يقف في صفوفهم، أو يغمض الطرف ولو أبصرهم يرمون حبات القلوب البريئة بالسهام النافذة، أو الكلمات اللاسعة. والتحيز للعشيرة بالمعنى الأول مأذون فيه شرعاً، ومرضي عنه عقلاً،

وهذا هو الذي يوجد في عهد النبوة، وفي عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، أما التحيز للقومية بمعنى نصرة العشيرة وإن كانت ظالمة، والحرص على نفعها وإن جرّ غيرها إلى أذى، فلا أحسب أحداً يستطيع أن يرمي به الأمة في عهد الخلفاء الثلاثة. قد توجد حمية الجاهلية في أفراد قليلة، كما يوجد النفاق والإلحاد، ولكن الإخاء والائتلاف السائد يغمر هذه الحمية الشاذة، ويمنع المؤرخ من أن يجعلها طورًا من أطوار الأمة، وكذلك فعل الفيلسوف ابن خلدون في "تاريخه" (¬1) حين قال: "كان لبني عبد مناف في قريش جُمل من العدد والشرف لا يناهضهم فيها أحد من سائر بطون قريش، وكان فخذاهم بنو أمية وبنو هاشم، إلا أن بني أمية كانوا أكثر عدداً من بني هاشم، وأوفر رجالاً، والعزة إنما هي بالكثرة، ولما جاء الإسلام، دهش الناس لما وقع من أمر النبوة والوحي، ونسي العصبية مسلمهم وكافرهم، أما المسلمون، فنهاهم الإسلام عن أمر الجاهلية، وأما المشركون، فشغلهم ذلك الأمر العظيم عن شأن العصائب، وذهلوا عنها حينًا من الدهر إلى أن ملك معاوية، واتفقت الجماعة على بيعته عندما نسي الناس شأن النبوة والخوارق، ورجعوا إلى أمر العصبية والتغالب، وتعين بنو أمية للغلب على مضر وسائر العرب". فمن ينظر إلى تاريخ المسلمين لعهد الخليفة الثالث من الطرق الموثوق بها، يجد العصبية مغلوبة على أمرها، ويكاد التحيز إلى القبيلة لا يتجاوز حدوده المشروعة، ويتفقه في هذا من درس سيرة ذلك العهد في كتب علماء ¬

_ (¬1) (ج 3 ص 2) ببعض اختصار.

العصبية في عهد معاوية ويزيد

الحديث، الذين هم أعرف بنقد الأخبار، وأهدى إلى الحقائق من مؤرخين كثيرين يجمعون إلى الرشد سفهاً، وإلى الجد لهواً ولعباً، فأمثال هذه القصص التي تجدها في كتب أهل الخلاعة، أو من عرفوا بنزعة التشيع إلى قبيل، لا تجدها في كتب من زاولوا نقد الآثار، وأسقطوا من حسابها زوراً كثيراً. اقرأ سيرة عثمان -مثلاً- في "تاريخ ابن جرير الطبري"، أو مؤلفات أبي بكر بن العربي مثل: "العواصم والقواصم"، و"عارضة الأحوذي"، اقرأها في أمثال هذه الكتب، فإنك تنصرف عنها برأي أخف وأهون من الرأي الذي يحدثك به هذا الذي يتبع أذناب الروايات الواهية أو المصنوعة، وتقع يده على رجس غير قليل. * العصبية في عهد معاوية ويزيد: قال المؤلف في (ص 55): "في ذلك الوقت تغيرت خطة الخليفة السياسية، أو بعبارة أدق: فشلت هذه الخطة التي كان يختطها عمر، وهي منع العرب أن يتذاكروا ما كان بينهم من الضغائن في الإسلام. وعاد العرب إلى شرّ مما كانوا فيه في جاهليتهم من التنافس والتفاخر في جميع الأمصار الإِسلامية، ويكفي أن أقص عليك ما كان من تنافس الشعراء من الأمصار وغيرهم عند معاوية، ويزيد بن معاوية؛ لتعلم إلى أي حد عاد العرب في ذلك الوقت إلى عصبيتهم القديمة". رفعت العصبية رأسها في أيام معاوية، واستوت جالسة، أو انتصبت قائمة لعهد ابنه يزيد، وعاد كثير من العرب إلى بعض الشرّ الذي كانوا فيه في جاهليتهم، وهو التفاخر بالأنساب، والنظر إلى ذوي القربى بغير العين

تشبيب عبد الرحمن برملة

التي ينظر بها إلى الأباعد، وإيثار أولئك بالمنافع، وإن كان هؤلاء أحق بها، أو أحوج إليها، وتقليدهم الأعمال، وإن كان غيرهم أقوم عليها، وهذه السيرة تستدعي بطبيعتها تنافراً بالقلوب، واسترخاء عقدة الإخاء، وتكوّن حزباً أو أحزاباً معارضة. وقد أدركنا الأمة العربية وهي متصلة بالخلافة العثمانية اتصال الأنامل بالراحة، حتى قام نفر في الآستانة يوقدون نار العصبية التركية، فطارت شرارة منها إلى البلاد العربية، وسرعان ما سرت في قلوب الفتيان، وظهروا في أحزاب معارضة، ولم يتوفق رجال الدولة إلى أن يسوسوهم بحكمة، وكانت العاقبة ما كنا نسمع، وما كنا نرى. على الرغم من تلك الفتنة الساهرة أيام معاوية ويزيد، لم تكن العواطف الدينية والآداب الإسلامية ملقية السلم إلى تلك الأهواء، وتاركة جماحها يذهب إلى غير منتهى، ويكفي أن أذكرك بن تلك الأمة -على ما مسها من طائف العصبية- قد سكنت تحت راية معاوية، ثم ابنه يزيد، وكانت تجاهد تحت رايتهما، وتفتح البلاد بكل ما تملك من إقدام وإخلاص، وهذا أبو أيوب -وهو من الأنصار- قد سار لفتح قسطنطينية في جيش، وعلى رأسه راية يزيد بن معاوية. فالعصبية نهضت لعهد معاوية ويزيد، ولكنها وجدت مقاوماً خفف من ويلاتها، ولم يتركها إلى أن يُجَنَّ جنونها، وتفقد شعورها كما كانت في الجاهلية، وهو أدب الإسلام. * تشبيب عبد الرحمن برملة: قال المؤلف في (ص 55): "ولعلك قرأت تلك القصة التي تخبرنا

بأن عبد الرحمن بن حسان شبب برملة بنت معاوية؛ نكاية ببني أمية". قصة تشبيب عبد الرحمن برملة رواها صاحب "الأغاني"، ولم يقل: "نكاية ببني أمية"، ولا أحسب هذه الكلمة إلا من طينة الاستنباطات التي يصعد إليها المؤلف على سلم العاطفة، وتشبيب الرجل بالمرأة يكون من داعية صبابة، ويكون لرفع قيمة الشعر، أو التطلع إلى فخر، ويكون نكاية بأبيها أو أخيها وحده، والظاهر، أن تشبيب عبد الرحمن برملة -إن صحّ- لا يُحمل إلا على مثل هذين الباعثين؛ وقد ذكر صاحب "الأغاني" نفسُه أن معاوية قال لعبد الرحمن: ألم يبلغني أنك تشبب برملة؟ قال له: بلى، ولو علمت أن أحداً أشرف لشعري منها، لذكرته. فإن لم يرض المؤلف عن هذا الوجه، ورآه من الاعتذار الذي يراد به التخلص، فليكن ذلك التشبيب للنكاية بيزيد، فقد حكى الجمحي في "طبقاته": أن يزيد وعبد الرحمن كانا يتقاولان الشعر حتى استعلاه عبد الرحمن. ومما يجعل أصل القصة في وهن: أن صاحب "الأغاني" حدثنا تارة أخرى بأن تشبيب عبد الرحمن كان بأخت معاوية، لا بابنته، وأن يزيد قال لمعاوية: إنه شبّب بعمتي. يتواضع المؤلف إلى الروايات التي توافق هواه، ولا يكفيه أن تكون واهية محفوفة بالريبة من كل جانب، حتى يعمد إلى أن يستنبط منها ما لا يخطر على خيال الباحث الرصين. كل أنصاري يشبب بأموية، أو يهجو أموياً، فللنكاية ببني أمية، وكل قرشي يشبب بأنصارية، أو يهجو أنصارياً، فللنكاية بالأنصار. فالعصبية ثائرة، والفتنة غاشمة. إذاً، هذا الشعر الجاهلي منتحل، وليس من الجاهلية في شيء!.

يزيد بن معاوية

* يزيد بن معاوية: قال المؤلف في (ص 55): "وأما يزيد، فقد كان صورة لجدّه أبي سفيان، كان رجل عصبية وقوة وفتك، وسخط على الإسلام، وما سنّه للناس من سنن". يصف المؤلف يزيد بالسخط على الإسلام، وما سنه للناس من سنن، وهذا أحد آراء في يزيد بن معاوية، ومنهم من كان يزعم أنه من الخلفاء الراشدين، وكلا القولين باطل يعلم بطلانه كل عاقل (¬1). فلم يكن يزيد ملكاً ملحداً، ولا خليفة راشداً، بل كان ملكاً يأخذه الهوى بالإثم، وقد يلقي به الغضب في سياسة عرجاء، ومن يخلص نفسه من شهوة تكثير المارقين، ويجردها من داعيتي التعصب للأمويين، أو التحامل عليهم، ثم ينظر في تاريخ يزيد من كل ناحية، يصل إلى أنه لم يكن من الملوك الراشدين، ولا يستطيع أن يحكم عليه بأنه من قوم لا يؤمنون. فالمؤلف يرمي أبا سفيان ويزيد بالسخط على ما سنّه الإسلام من سنن، ويستند في هذا إلى استنباط أشبه شيء بالسراب، أو قصة يتفق المحققون على وضعها، وكان حقاً عليه ألا يحرمهما من التأويل الذي ابتغاه لنفسه، ولم يتق وصمته الخلقية، وسقطته العلمية، وهو أن الإيمان بالقرآن، والتكذيب به قد اجتمعا له في وقت واحد، فهو مسلم بقلبه، جاحد بعقله، واعتقاد أن النقيضين لا يجتمعان، إنما يوجد في أدمغة أنصار القديم. * وقعة الحرَّة: قال المؤلف في (ص 55): "وأنت لا تنكر أن يزيد هو صاحب وقعة ¬

_ (¬1) ابن تيمية في "منهاج السنة" (ج 2 ص 247).

الحرة التي انتهكت فيها حرمات الأنصار في المدينة، والتي انتقمت فيها قريش من الذين انتصروا عليها في بدر، والتي لم تقم للأنصار بعدها قائمة. ولأمر ما يقول الرواة حين يقصون وقعة الحرة: إنه قد قتل فيها ثمانون من الذين شهدوا بدراً؛ أي: من الذين أذلوا قريشاً". يعلم كل من له إلمام بالتاريخ: أن سبب وقعة الحرة: سخط طائفة عظيمة من المسلمين على سيرة يزيد، واشترك في هذا السخط فريق من الأنصار، وفريق من قريش، وكان على رأس قريش: عبد الله بن مطيع بن الأسود القرشي العدوي، وعلى رأس الأنصار: عبد الله بن حنظلة الأنصاري، ثم إن قائد جيش يزيد، وهو مسلم بن عقبة حين أرهق أهل المدينة، وأسرف في قتلهم، لم يميز قرشياً من أنصاري، فالحرب وقعت بين جيش يزيد وجماعة المسلمين القاطنين بالمدينة، وقائد هذا الجيش الذي أسرف في الفتك بأهل المدينة، هو الذي سار بالجيش نفسه إلى محاربة ابن الزبير القرشي ومن معه من آل مكة القرشيين. يحكي المؤلف عن الرواة: أنه قتل في وقعة الحرة ثمانون من الذين شهدوا بدراً، وليس في كتب التاريخ ما يصدق هذه الرواية، فمن المؤرخين من لم يتعرضوا لإحصاء القتلى بهذه الواقعة؛ كابن جرير، وابن الأثير، ومنهم من ذكروا عددهم في إجمال، ولم يعرجوا على ذكر أهل بدر، كما صنع ابن الجوزي في "المنتظم"، والصفدي في "الوافي بالوفيات"؛ حيث قالا: إن القتلى يوم الحرة سبع مئة من وجوه الناس؛ من قريش، والأنصار، والمهاجرين، ووجوه الموالي، ومن لا يعرف عشرة آلاف. وتعرض لذكر أهل بدر صاحب كتاب "الإمامة والسياسة"، فقال: "وذكروا أنه قتل يوم

أمانة صاحب "الأغاني"

الحرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانون رجلاً، ولم يبق بدري بعد ذلك، ومن قريش والأنصار سبع مئة، ومن سائر الناس عشرة آلاف"، وهذه الرواية لا تشهد للمؤلف في ادعائه أن الثمانين من أهل بدر. * أمانة صاحب "الأغاني": قال المؤلف في (ص 56): "ولست في حاجة إلى أن أقص عليك هذه القصة الأخرى التي تمثل لنا عمرو بن العاص، وقد ضاق ذرعًا بالأنصار، حتى كره اسمهم هذا، وطلب إلى معاوية أن يمحوه، واضطر النعمان بن بشير، وهو الأنصاري الوحيد الذي شايع بني أمية إلى أن يقول: يا سعدُ لا تجب الدعاء فما لنا ... نسبٌ نجيب به سوى الأنصار نسبٌ تخيّره الإله لقومنا ... أثقلْ به نسباً على الكفار إن الذين ثووا ببدرٍ منكم ... يوم القليب هم وقود النار وقد سمع معاوية هذا الشعر، فلام عمرًا على تسرعه ليس غير". هذه القصة ذكرها صاحب "الأغاني"، وأول ما تجيء الريبة من ناحيته؛ فإن الكاتبين في التعريف بحياته يصفونه بالتشيع (¬1)، ومنهم من يقول: كان ظاهر التشيع، والمتشيع يضيق ذرعاً بعمرو بن العاص ومعاوية، ويكره اسمهما، ويضاف إلى هذا: أن أهل العلم طعنوا في أمانته، قال ابن الجوزي في "المنتظم": "ومثله لا يوثق بروايته؛ فإنه يصرح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب ¬

_ (¬1) انظر: "معجم الأدباء" لياقوت، و"عيون التواريخ" لابن شاكر، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان، و"الكامل" لابن الأثير.

قصيدة حسان في مدح الزبير

"الأغاني"، رأى كل قبيح ومنكر". ونقل ابن شاكر في "عيون الأخبار": أن ابن تيمية يضعفه، ويتهمه في نقله، ويستهول ما يأتي به. ونرى صاحب "معجم الأدباء" ينقل من كتاب "الغرباء" أحدِ مؤلفات أبي الفرج أشياء يحكيها أبو الفرج عن نفسه، فتجد فيها تهتكاً، واعترافاً بالفسوق. وإذا كان الرجل يجفو طائفة، ويضم إلى هذا الجفاء عدم استقامة، فلا تحفلْ بما يرويه من حديث يقدح في سيرتهم، وصاعر له خدك، إلا أن تكون ذا هوى، وتجده مصبوباً في قالب هواك. * قصيدة حسان في مدح الزبير: ساق المؤلف قصة الزبير حين مر بنفر من المسلمين، وحسان ينشدهم، وهم غير حافلين به، فلامهم على ذلك، فمدحه حسان بقصيدته: أقام على عهد النبي وهديه ... حواريه والقول بالفعل يعدل وبعد أن أورد المؤلف القصيدة، وهي تحتوي تسعة أبيات: قال في (ص 57): "فانظر إلى هذين البيتين في أول المقطوعة كيف يمثلان ذكر حسان لعهد النبي، وحزنه عليه، وأسفه على ما فات الأنصار من موالاته لهم، وإنصافه إياهم. ولكن بقية هذه الأبيات تدعو إلى شيء من الاستطراد لا بأس به؛ لأنه لا يتجاوز الموضوع كثيراً، فقد يظهر من قراءة هذه الأبيات أنه قد قصد بها إلى الإلحاح في مدح الزبير، وإحصاء مآثره. وقد يظهر أن في آخرها ضعفاً لا يلائم قوة أولها". ثم قال المؤلف: "وقد روى هذه القصة نفر من آل الزبير، ومن أحفاد عبد الله بن الزبير بالدقة، أفنستبعد أن تكون عصبية الزبيريين قد مدت هذه الأبيات وطولتها، وتجاوزت بها ما كان قد أراد حسان من الاعتراف بالجميل إلى ما كانت

تريد العصبية الزبيرية من تفضيل الزبير على منافسيه، أو على منافسي ابنه عبد الله بنوع خاص". المؤلف في حاجة إلى جلب شواهد على أن العصبية القرشية تنظر إلى الأنصار بعين عابسة، وفي حاجة إلى جلب شواهد على أن حرفة اصطناع الشعر رائجة، ولما وقف على قصيدة حسان هذه، ورأى في البيتين الأولين منها إيماء إلى أن من رجال قريش من لم يرع عهد الأنصار، أو عهد حسان بنوع خاص، رغب في أن يقضي بالقصيدة الوطرين، فآمن بالبيتين؛ لأنهما يدلان في نظره على تنكر قريش للأنصار، وجحد بسائرها، ليزداد شاهداً على أن التعصب للقبيلة أو العشيرة باعث على اصطناع الشعر، وإضافته إلى بعض الأقدمين. القصيدة في تسعة أبيات كما في كتاب "الأغاني"، وجاءت في ثمانية أبيات فقط كما في كتابي "الإصابة" لابن حجر، و"الاستيعاب" لابن عبد البر. والبيت المزيد في رواية "الأغاني" قوله: ثناؤك خيرٌ من فعال معاشر ... وفعلك يابن الهاشمية أفضلُ وأنت إذا جمعت نظرك على ما اتفقت عليه الروايات، وجدت نسج الأبيات متماثلاً، والروح الذي يتخللها واحداً، فالبيتان اللذان اعترف بهما المؤلف هما: أقام على عهد النبي وهديه ... حواريه والعدل بالفعل يعدل أقام على منهاجه وطريقه ... يوالي ولي الحق والحق أعدل والبيات التي يرميها بالاصطناع:

قصيدة النعمان بن بشير

هو الفارس المشهور والبطل الذي ... يصول إذا ما كان يومٌ محجّل إذا كشفت عن ساقها الحربُ حشَّها ... بأبيض سباقٍ إلى الموت يُرقل وإن امرأً كانت صفيةُ أمه ... ومن أسدٍ في بيتها لمرفل له من رسول الله قربى قرابة ... ومن نصرة الإسلام مجد مؤثل فكم كربة ذبَّ الزبير بسيفهِ ... عن المصطفى والله يعطي فيجزل فما مثله فيهم ولا كان قبله ... وليس يكون الدهر ما دام يذبل ومن لا يقصد قصدَ المؤلف، يرى أن هذه الأبيات رميت عن القوس التي رمي عنها البيتان الأولان، وأنهما لا يتفاوتان إلا كما تتفاوت أبيات القصيدة في البلاغة أو المتانة، مع العلم بن مصدرها قريحة واحدة. من المعقول أن يأسف حسان على ما فات الأنصار من ولاء النبي - عليه الصلاة والسلام - لهم، ولكن البيتين لا يمثلان هذا الأسف، ولا يزيدان على أن يمثلا ارتياحه لما صنع الزبير، وحمده على إقامته على عهد الرسول - عليه السلام -, فإن كان هناك شيءآخر، فهو التعريض بمن لم يشملوه بمثل هذا العطف والعناية. فالبيتان صالحان لأن يقولهما حسان، ولم يخطر على باله حال الأنصار مع قريش. ولا سيما حين يكون هؤلاء النفر الذين لم ينشطوا لسماع إنشاده من الأنصار أنفسهم. * قصيدة النعمان بن بشير: ذكر المؤلف قصة النعمان بن بشير حين غضب من هجاء الأخطل للأنصار، وخاطب معاوية في هذا الشأن بقصيدة يقول في طالعها: معاوي إن لم تعطنا الحق تعترف ... لحى الأزد مشدوداً عليها العمائمُ

ميل الأنصار إلى علي وتأييده

وبعد أن سرد المؤلف القصيدة المروية في "الأغاني" (¬1) أيضاً، قال في (ص 60): "فظاهر جداً أن هذه الأبيات الثلاثة الأخيرة على أقل تقدير حملت على النعمان بن بشير حملاً، حملها عليه الشيعة". القصيدة لا توجد في ديوان النعمان بن بشير، وإنما ألحقها به ناشره نقلًا عن كتاب "الأغاني"، وقد حكى القصة المبرّد في "الكامل" (¬2)، وقال: فقال النعمان: معاوي إلا تعطنا الحق تعترف ... لحى الأزد مشدوداً عليها العمائم أيشتمنا عبد الأراقم ضِلَّةً ... وماذا الذي تجدي عليك الأراقم فمالي ثأر دون قطع لسانه ... فدونك من ترضيه عنك الدراهم ولم يزد على هذه الأبيات الثلاثة، فللمؤلف أن يعد ما زاد عليها من المصنوع على النعمان بن بشير، ولعله لا يفعل؛ مخافة أن يفوته شعر يعزى لأنصاري، وفيه روح عصبية هائجة. * ميل الأنصار إلى علي وتأييده: ثم قال المؤلف في (ص 60): "ومع أننا نعلم أن الأنصار حين أخطأهم الحكم، فاضطغنوا على قريش، مالوا بطبيعة موقفهم السياسي إلى تأييد الحزب المناوئ لبني أمية، فانضموا إلى علي". إذا كان علي بن أبي طالب أتقى قلباً، وأقوم سيرة، وأجمع لشروط الخلافة من معاوية، أفلا يكون ميل الأنصار إلى تأييده ناشئاً عن علمهم بأنه ¬

_ (¬1) (ج 14 ص 126). (¬2) (ص 102) طبع أوربا.

تهاجي ابن حسان وابن الحكم

أحق بالخلافة وأولى؟ لماذا نجتهد في أن تلطخ سرائرهم بمقاصد غير شريفة، ونجعل العلة في تحيزهم إلى جانب علي - رضي الله عنه - اضطغانهم على قريش حين أخطأهم الحكم؟ أليسوا هم الذين مالوا إلى تأييد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونصروه على قريش؟ والسيرة "تحدثنا بأن صلات المودة كانت قوية بين قريش وبين الأوس والخزرج قبل أن يهاجر النبي إلى المدينة" (¬1)؟ وإذا مالوا إلى تأييد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء الثلاثة بعده بدافع الإيمان، أفلا يسبق إلى الظن أن ميلهم إلى تأييد على إنما كان على بينة وإخلاص طوية؟. نحن لا نعتقد للأنصار أو المهاجرين العصمة، ولا ننكر على أحد أن يخوض في تاريخ عصرهم بكل ما يملك من وسائل النقد، وإنما ندعو الباحث إلى التثبت في الرواية، والتأني في الاستنباط؛ حتى لا يأتي مثل هذا الذي يأتيه المؤلف، فيظلم التاريخ قبل أن يظلمهم، ويفسد على نفسه نظام البحث قبل أن يفسد على طلابه عقليتهم. * تهاجي ابن حسان وابن الحكم: تعرض المؤلف لقصة عبد الرحمن بن حسان، وعبد الرحمن بن الحكم، وتهاجيهما، وذكر ما ينقل عن الأنصار، وما ينقل عن قريش في سبب هذا التهاجي. ثم قال في (ص 61): "وليس من شك في أن هذه القصة خيال كانت تتفكه به الأنصار وقريش بعد أن هدأت نار الخصومة العملية بينهما، وأن ما يرويه صاحب "الأغاني" عن أصل هذه المهاجاة بعيد كل البعد عن النساء. ¬

_ (¬1) كتاب "في الشعر الجاهلي" (ص 50).

عقوبة الشاعرين جزاء تهاجيهما

كانا صديقين يتصيدان بأكلُب لهما، فقال القرشي لصاحبه: ازجركلابك إنها قلطية ... بُقع ومثل كلابكم لم تصطد فرد عليه ابن حسان: من كان يأكل من فريسة صيده ... فالتمر يغنينا عن المتصيد إنا أناس ريقون وأمكم ... ككلابكم في الولغ والمتردد حزناكم للضبّ تحترشونه ... والريق يمنعكم بكل مهنّدِ وعظم الشر بين الصديقين من ذلك اليوم". لعلك تقرأ هذه الجمل، فينساق ذهنك إلى أن صاحب "الأغاني" لم يعرج على السبب الذي اعتمده المؤلف، وأن المؤلف استمده من كتاب غير "الأغاني"، والواقع أن صاحب "الأغاني" -بعد أن حكى ما يعزى إلى الأنصار وقريش في سبب تهاجي الشاعرين- قال: وأما هشام بن الكلبي، فإنه حدّث عن خالد د سحاق ابني سعيد بن العاص: أن سبب التهاجي بينهما: أنهما خرجا إلى الصيد بأكلب لهما في إمارة مروان، فقال ابن الحكم لابن حسان: "ازجر كلابك ... إلخ" (¬1). والمؤلف يأخذ في بعض الأحيان بهذه الطريقة، وهي أنه يقطع الرواية عن "الأغاني"، ويأتيك ببقية الحديث في صورة المعروف في غيرها، حتى لا تعده ضيفاً ثقيلاً يأوي إليها كلما احتاج إلى رواية تبلّ صدى عاطفته. * عقوبة الشاعرين جزاء تهاجيهما: أراد المؤلف ألا يبقي صبابة من حديث عبد الرحمن بن الحكم، ¬

_ (¬1) (ج 13 ص 151).

وعبد الرحمن بن حسان، فملأ نحو صحيفتين بحكاية بعث معاوية إلى سعيد ابن العاص يأمره بضرب كل واحد من الشاعرين مئة سوط جزاء تهاجيهما، وتعطيل سعيد أمر معاوية إلى أن خلفه مروان بن الحكم، فنفذ الأمر في عبد الرحمن بن حسان دون أخيه، وأبيات كتب بها عبد الرحمن بن حسان إلى النعمان بن بشير يشكوه فيها ما صنع مروان، وقصيدة النعمان التي خاطب بها معاوية في هذا الشأن، وبعث معاوية إلى مروان بتنفيذ أمره في أخيه عبد الرحمن بن الحكم أيضاً. ثم قال في (ص 64): "ولقد يستطيع الكاتب في التاريخ السياسي أن يضع كتاباً خاصاً في هذه العصبية بين قريش والأنصار، وما كان لهما من التأثير في حياة المسلمين أيام بني أمية، لا نقول: في المدينة ومكة ودمشق، بل نقول: في مصر وإفريقيا والأندلس. ويستطيع الكاتب في تاريخ الأدب أن يضع سفرًا مستقلاً فيما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام، وفي الشعر الذي انتحله الفريقان على شعرائهما في الجاهلية". لا جناح على الرجل يعطف على قبيلته، ويحرص على أن يكون لهم مجد، وأن يكون لهذا المجد ذكر سائر، فهذا أمر تنساق إليه النفس بفطرتها، وقد قلنا: إن هذه الخصلة متى سارت على منهج الاعتدال، فحملت صاحبها على القيام بمصالح عشيرته، أو ذكر مآثرهم الحميدة، دون أن يتعرض لغيرهم بسوء، لا تعد من الحمية الممقوتة، ولا العصبية التي يريد الإسلام محوها. وليس في تلك القصة على طولها وعرضها ما يقع في عين الموضوع،

وهو العصبية المشتدة بين قريش والأنصار، فمعاوية أمر بعقوبة الشاعرين: القرشي، والأنصاري، وسعيد بن العاص لم يجر العقوبة على واحد منهما، ومروان قد يكون انتقم لعبد الرحمن بن الحكم من جهة كونه ابن أبيه الحكم، لا من جهة أنه من قريش، وقد يفعل مثل هذا من يكون خالي الذهن من معنى التعصب للقبيلة، وشكاية عبد الرحمن إلى ابن بشير من قبيل الالتجاء إلى ذي وجاهة وقربى؛ ليرفع عنه مظلمة، وخطاب النعمان بن بشير لمعاوية عرض لقضية اضطهد فيها مروان عامله رجلاً من الأنصار، وإن سمّي مثل هذا تعصبًا، فهو من نوع التعصب المقبول، وقد انتهت الرواية بأن معاوية كتب إلى مروان بتنفيذ أمره في عبد الرحمن بن الحكم، فنفذه، ولم يعص له أمراً. وفي الأبيات التي قيل: إن النعمان خاطب بها معاوية، ذكر ليومي بدر وفتح مكة، وإراءته الأنصار في كثرة عدد، وعزّة جانب، ولا حرج في رفع الشكاية بهذا الأسلوب إذا ألجأ إليه حال الدفاع، ولم يرتجف له قلب السياسة حمقاً، وتجنّ له يدها بطشاً. ومن المحتمل القريب أن تكون قصة تهاجي ابن الحكم وابن حسان قصيرة ذات لون واحد، فأصبحت في كتاب "الأغاني" ذات ذيول وألوان مختلفة، وزادها المؤلف بتصرفه أصباغًا غريبة، وقد أوردها المبرّد في "الكامل" (¬1) بلون واحد، وجمل لا تشير إلى قصيدتي ابن حسان وابن بشير، فساق ثلاثة أبيات لابن حسان يهجو بها عبد الرحمن بن الحكم، ثم قال: ¬

_ (¬1) (ص 149) طبع أوربا.

"فكتب معاوية إلى مروان أن يؤدبهما، وكانا قد تقاذفا، فضرب عبد الرحمن ثمانين، وضرب أخاه عشرين، فقيل لابن حسان: قد أمكنك من مروان ما تريد، فأشد بذكره، وارفعه إلى معاوية، فقال: إذاً والله! لا أفعل، وقد حدني كما تحد الرجال الأحرار، وجعل أخاه كنصف عبد. فأوجعه بهذا القول". لا ينكر أحد أن الحمية المتطرفة ظهرت في عهد بني أمية، ولا يسلم أحد أنها بلغت بالعرب إلى مثل ما كانوا عليه من جاهليتهم، فضلاً عن أن يكون شراً منه، وهذا المؤلف يحكي أن معاوية لم يحد عن مبدأ المساواة حين أمر بتأديب القرشي والأنصاري، وحين أمر عامله بأن يضرب أخاه الأموي مقدار ما ضرب ابن حسان، وهل يستطيع المؤلف أن يقيم لنا شاهداً على أن عصبية قريش أو الأمويين في الإسلام بلغت عُشر عصبية هذه الدول أو الأمم التي يود أن يكون له في جوفه قلب آخر يملؤه باحترامها، ورأس ثان يهوي به ساجداً لعظمتها!. إن من هذه الأمم، أو الدول القابضة على شمال أفريقية من يعتدي على حياة الوطني، ولا يقضى عليه ولو بالسجن بضعة أيام، وإذا أنعمت النظر في عصبية هذه الدول أو الأمم، وقايسته بعصبية قريش الخارجة عن حد الاعتدال، وجدت بين العصبيتين فرقاً يكاد يشبه الفرق بين الحرية والاستبداد، أو العدالة والاضطهاد. وقد كانت عصبية الجاهلية تشبه في شدتها وآثارها عصبية هذه الأمم التي يقدس لها المؤلف، ولا تمتاز عنها بشيء إلا أنها كانت تخرج في غير نظام، بل رأينا سبعين مرة كيف تحمى عصبية المدنية، ويتخبطها الغضب، فتظهر في خلقتها الشوهاء، وتصبح أشبه بعصبية الجاهلية

العصبية في بني أمية

من الغراب بالغراب. لا نطيل القول في الاستشهاد على أن المؤلف لا يقيم للكلام وزناً أو حسابًا، ويكفي القارئ دليلاً على أنه لا يستطيع أن يضع كتاباً ضخمًا في العصبية بين قريش والأنصار، أنه طاف على أبواب "الأغاني"، ولم يستطع أن يحدثك في هذا الفصل حديثاً يدنيك من نظرية أن العرب عادوا بعد عمر ابن الخطاب إلى شر مما كانوا فيه في جاهليتهم. وهو لا يستطيع أن يضع سفراً مستقلاً فيما كان لهذه العصبية من التاثير في الشعر الذي انتحله الفريقان على شعرائهم في الجاهلية، إلا أن تغمض فيما يحدثك به من روايات موضوعة، وآراء يخذل بعضها بعضاً. * العصبية في بني أمية: قال المؤلف في (ص 65): "وأنت تعلم حق العلم أن هذه العصبية هي التي أزالت سلطان بني أمية؛ لأنهم عدلوا عن سياسة النبي التي كانت تريد محو العصبيات، وأرادوا أن يعتزوا بفريق من العرب على فريق، قووا العصبية، ثم عجزوا عن ضبطها، فأدالت منهم، بل أدالت من العرب للفرس". جاء الإسلام بمحو العصبيات، وهي إنما تمحى بالسيرة التي تمثل هدايته ومبادئه، وقوام هذه السيرة أمران: التعليم، والعدالة. كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يقوم على أدب الأمة وتعليمها؛ كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. وكانت أحكامه وسياسته - عليه الصلاة والسلام - تمثل العدل والمساواة في أحكم صورة. وبعاملي التعليم والعدل ذهبت عصبية الجاهلية بين المهاجرين

والأنصار، وارتبطت قلوبهم بأشد ما ترتبط به القلوب من الإلفة والإخاء، قال تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. وقال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]. وقال في وصف الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. فالعصبية تضعف بقوة ذينك العاملين، وتقوى بضعفهما. وفي كل أمة نفوس لا تقبل الأدب، أو لا تأخذها السياسة العادلة إلى حسن الطاعة، فلا غنى لأولي الأمر من أن يضبطوا سياستهم بالحزم، وكذلك كان الخلفاء الراشدون يشربون سياستهم من العزم والاحتراس بمقدار ما يقتضيه حال الأمة، حتى أواخر عهد الخليفة الثالث، وقد أصبح لينه أكثر من لين الخليفتين قبله، فانتهز عبد الله بن سبأ اليهودي ذلك اللين فرصة، وسعى في طائفة وقعت في مكيدته إلى فتنة يوقدونها باسم الدين تارة، وباسم السياسة تارة أخرى، حتى نزلوا وأراقوا دم الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. كان قتل هذا الشيخ البريء من عصبية بني أمية سبباً لإذكاء هذه العصبية، ولكن حرصهم على الخلافة، وأخذهم بمقاليدها، جعلهم يكتمون أنفاس هذه العصبية في كثير من صروف سياستهم، ولعلك لا تستطيع أن ترى لها مظهراً إلا حيث يلمحون يداً تعمل على تقويض سلطانهم. فعصبية بني أمية كانت فاسقة عن أمر الإسلام من ناحية، ومغلوبة لسلطانه من ناحية أخرى، وهذا ما ساعدها على أن تبلغ من العمر ما لا تبلغه

رواية الشعر الجاهلي

دولة ذات عصبية جاهلية لو بسطت يدها على أمم أكثر من قبيلتها عدداً، وليست أقل منها علماً وخلقاً. للعصبية أثر في سقوط دولة بني أمية، وكبر سبب في سقوطها ذلك الحزب الذي يرى أن بني هاشم أحق بالخلافة، وأخذ يبدو تارة، ويحتجب تارة أخرى، حتى وقعت الدولة في ترف، وفقدت الرجال القوامين على الحروب، وبعدت عن خطة الخلافة الرشيدة، فنهض هذا الحزب، وسرعان ما جمع حوله شعوباً وقبائل تنقم على تلك الدولة خلل سياستها، فافتكّ منها الخلافة، ووضعها في أيدي بني العباس. فدولة بني أمية -على ما كان فيها من عصبية أو هوى- قد خدمت الإسلام بفتوحات واسعة، وكان لكثير من رجالها مآثر عمرانية فاخرة، ولا تنس أن من رجال تلك الدولة من يبرأ من العصبية، ولم يأت في سياسته على ناحيتها؛ كعمر بن عبد العزيز، ومنهم من كان يغمرها بالهمم الكبيرة، والقيام على كثير من المصالح العامة؛ كالوليد بن عبد الملك. فنسبة سقوط دولة بني أمية إلى العصبية وحدها، من نوع المبالغة التي لا تقبلها المباحث العلمية، ودعوى أن العرب وقعت بعد عمر بن الخطاب في أشد مما كانوا عليه في جاهليتهم، لا تصدر إلا ممن يريد إذاية هذه الأمة الكريمة، وجحود ما كان لها من مزية وفضل، حتى على هذه الدول الغربية التي يود المؤلف أن يكون له لسان آخر وقلم ثان يصرفهما في سبيل الدعوة إلى ما ينفعها. * رواية الشعر الجاهلي: قال المؤلف في (ص 65): "وقد أرادت الظروف أن يضيع الشعر

الجاهلي؛ لأن العرب لم تكن تكتب شعرها بعد، وإنما كانت ترويه حفظاً. فلما كان ما كان في الإسلام من حروب الردة، ثم الفتوح، ثم الفتن، قتل من الرواة والحفاظ خلق كئير. ثم اطمأنت العرب في الأمصار أيام بني أمية، وراجعت شعرها، فإذا كثره قد ضاع، وإذا أقلّه قد بقي". بحث (مرغليوث) في طريق تلقي هذا الشعر الجاهلي، فقال: أول ما نسأل عنه: طريق وصول هذا الشعر إلى الرواة؛ هل هو الرواية حفظاً، أم الكتابة؟ والرأي الأول هو الذي يذهب إليه الجمهور، وينقلون عن الخليفة الثاني: أنه قال: "تشاغل العرب عن الشعر وروايته في صدر الإسلام بالجهاد، ولما جاءت الفتوح، واطمانت العرب، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤُولوا إلى ديوان مدوّن، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك، وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم منه كثير". ثم قال (مرغليوث) منتقداً هذا المقال الذي يعزى إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "من العبث نسبة هذا القول للخليفة الثاني؛ لأن زمن السلم لم يحن إلا في عهد الأمويين؛ أي: بعد موته بثلاثين سنة". ثم قال: "وبقاء قصائد تروى حفظاً غير متيسر، إلا إذا كان هنالك أشخاص وظيفتهم حفظها، وتعليمها لغيرهم باستمرار، وليس لدينا أي دليل على أن هنالك أشخاصاً يقومون بهذه الوظيفة، كما أنه من المستحيل أن ينجوا من حروب الفتوحات الإسلامية الأولى". وهذان النقدان من صنف آراء "كتاب في الشعر الجاهلي". والأول مدفوع بأنه يكفي في صحة المقال فتح الشام والعراق والفرس ومصر، وذلك كله مما تم في عهد الخليفة الثاني، وقد اقتصر في المقال على هذا، فقال:

"وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم" (¬1)، وحيث أصبحت هذه الممالك مع الجزيرة العربية في أمن وسلم، فلا شيء يمنع المقيمين بها من الرجوع إلى الشعر، وصرف الهمة في روايته، ونحن نرى أن رواية الأشعار لم تنقطع حتى في الأيام التي استعرت فيها نار الحرب بين المسلمين ومشركي الجزيرة، وغاية ما طرأ على الرواية: أن خمل سوقها، وذهل أكثر الناس عنها، وليس الشعر بعمل يدوي حتى يقال: إن العرب نكثوا أيديهم منه جملة، ووضعوها في قبضة الحسام والعنان، وإنما هو عمل اللسان، فيصح أن يكون سلوة النازح عن وطنه، وسمر من يبطئ عنه نعاسه، وليس من البعيد أن يتناشدوه قبيل الزحف، وعقب الظفر، ففي الشعر ما يحمل على الثبات، وفي الشعر ما يلقي بالنفوس في معترك المنايا، وفي الشعر ما يقلب الجبان بطلًا لا يرهب الردى. وأما قول (مرغليوث): إن رواية الأشعار حفظاً لا تتيسر إلا إذا كانت وظيفة أشخاص يقومون عليها باستمرار، فمنشؤه الذهول عن عناية العرب بالشعر، وشغفهم بروايته، حتى أصبحت صناعة بالغة من الرواج إلى أن لا يحتكرها فريق معلوم، ودعواه أن الحروب الأولى حصدت كل من يروي شعراً عن الجاهلية، ملقاة على غير بينة، بل على غير روية، إذ من البديهي أن الحروب لم تسحق الجيوش الفاتحة على بكرة أبيها، فمن الجائز أن يبقى في هؤلاء الجنود الظافرين من يروون شعراً كثيراً، ولا سيما حيث نلحظ أن الرواية لا ينقطع معينها، ولا يسكن ريحها، ولو بين القوم الذين يصلون نار الحرب بكرة وعشيّا، قال الإمام عليّ في خطبة خطبها أهل الكوفة: "إذا ¬

_ (¬1) "مزهر" (ج 2 ص 237).

تركتكم، عدتم إلى مجالسكم حلقاً عزين، تضربون الأمثال، وتناشدون الأشعار". ثم قال (مرغليوث): "إن القرآن قد ذمّ الشعراء في قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 224 - 225]، وهذا الذم يكون من أقوى الدواعي إلى الانصراف عن الشعر وتناسيه، وهناك سبب آخر، وهو أن أكثر الأشعار الجاهلية كانت تشتمل على مفاخر قومية، وحيث كانت غاية الإسلام توحيد الأمة العربية -وقد أفلح في ذلك-، كان بالطبع يحتم على الناس تناسي كل قول يثير الأضغان، ويهيج الأحقاد". ذمُّ القرآن للشعراء قد فهمه أهل العلم على الشعر المشتمل على زور، أو مناهضة حق، وما عداه، فمأذون في إنشاده، قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: "إن من الشعر حكمة" (¬1). وقال: "أصدق كلمة قالها الشاعر: كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل" (¬2). ومن الثابت أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يتناشدون الأشعار. فقد أخرج ابن أبي شيبة بسند حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: لم يكن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منحرفين، ولا متماوتين، وكانوا ينشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه، دارت حماليق عينيه. وروي من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: كنت أجالس أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي في المسجد، فيتناشدون الأشعار، ويذكرون حديث الجاهلية. ¬

_ (¬1) "الجامع الصحيح" للبخاري. (¬2) "الجامع الصحيح" للبخاري.

وأخرج أحمد، والترمذي وصححه، من حديث جابر بن سمرة، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتذاكرون الشعر، وحديث الجاهلية عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا ينهاهم، وربما يبتسم (¬1). ولا يمنع الإسلام من إنشاد أشعار تشتمل على مفاخر قومية، إلا أن تنطوي على هجاء يتأذى منه بعض السامعين؛ كالأشعار التي نهى عمر بن الخطاب عن إنشادها. ثم تصدى (مرغليوث) للبحث في الطريق الثاني -وهو الكتابة-، فقال: "بقي لدينا أن يقال: إنها كانت تنقل على طريق الكتابة، ولو صح زعم أن هذه القصائد كانت عندما تنشد، ويعجب الناس بها، يكتبونها، ويسألون عن منشئها، لكان من البديهي أن تنقل صور هذه الصحائف، وتباع حتى يستفيد منها أربابها". الشعر الجاهلي مرويّ بطريق الحفظ، ومن الجائز أن تصل بعض الأشعار إلى الرواة على طريق الكتابة، والقصيدة تكتب في صحيفة أو صحيفتين، ولم يكن لأمثال هذه الصحف المفرقة قيمة ورواج، حتى يذكر التاريخ أنها كانت تباع، ويستفيد منها أربابها. ثم قال (مرغليوث): "طالما جرى ذكر الكتابة في هذه القصائد، حتى إن بعض الشعراء ذكرها في شأن أشعاره نفسها، فالحارث بن حلزة ذكر (في البيت 67) من معلقته عقد معاهدات مسطورة على مهارق" (¬2). ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (ج 10 ص 411). (¬2) يعني قوله: حذر الجور والتعدي وهل ينـ ... ـقض ما في المهارق الأهواء

ويقول شاعر من هذيل: فيها كتاب ذبر (¬1) لمقترئ ... يعرفه البهم ومن حشدوا ويقول شارحوها: أراد بذلك الكتابة الحميرية على جريد النخل. ومن المروي: أن شاعراً اسمه قبيصة كتب على سرجه شعراً. كما أن ذا رعين أحد ندماء ملك حمير كتب لهذا الملك بيتين (¬2)، بيد أن نوع الكتابة غير معروف. وذو جدن ملك حمير الذي كشفت جتته الضخمة في صنعاء، وجد على رأسه لوح مسطور عليه شعر بلغة عربية فصحى (¬3)، وغالب الظن أنه هو الذي سطر هذه الأشعار. والشاعر لقيط نظم شعراً عنوانه: كتاب في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إيادِ والشعر في تحذيرهم من حملة يدبرها ملك الفرس ضدهم (¬4). ¬

_ (¬1) الذبر: الكتابة بالحميرية على العسيب. (¬2) هما: ألا من يشتري سهراً بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين فإن تك حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإِله لذي رعين (أغاني) (ج 20 ص 8). (¬3) "الأغاني" (ج 4 ص 38)، والمكتوب في اللوح سجع، وأورد له في (ص 37) بيتين: ما بال أهلك يا رباب ... خزراً كأنهم غضاب إن زرت أهلك أو عدوا ... وتهر دونهم كلاب (¬4) "الأغاني" (ج 20 ص 24).

وأنشد شاعر جاهلي قطعة من كتاب أملاه عليه آخر كما في "ديوان هذيل" (¬1). ثم قال: "إذاً، من الممكن صحة نسبة هذا الشعر إلى الجاهليين؛ حيث نفرض أنها كانت تكتب، وتنشر بانتظام، ولكن وجود أدبيات مسطورة قبل الإسلام بقلم حميري، أو بخط آخر، يناقض نصوص القرآن حين يقول للعرب: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} [القلم: 37] القلم: 37، ويقول: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور: 41]. ولو أن الشعر الجاهلي كان محفوظاً في كتاب، لثبت أن للجاهليين جملة كتب مهمة، وسؤال القرآن وإنكاره يدل على عدم وجودها". وقد تعرض (إدور براونلش) إلى هذه الشبهة في مقاله الصادر في "مجلة الأدبيات الشرقية"، ودفعها بما هو حق واضح، فقال: "القرآن يقول لأهل مكة: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ}، و (مرغليوث) يرى أن هذا حجة قوية على أن الشعر الجاهلي في عهد محمد - صلوات الله عليه - لم يكن موجوداً، أو على الأقل لم يكن مدونًا، وإلا، لأجابه الخصوم بقولهم: نعم، وأروه جملة دواوين. ولكن لا يريد القرآن بنفي الكتاب عن أهل مكة أيّ كتاب كان، وإنما يريد: نفي كتاب مثل القرآن في معانيه، أو على الأقل يكون قريباً منه". ¬

_ (¬1) (ص 115)، والشعر: وإني كما قال مملي الكتا ... ب في الرق إذ خطبه الكاتب يرى الشاهد الحاضر المطمئـ ... ـن الأمر ما لا يرى الغائب

فشبهة (مرغليوث) مدفوعة بأن القرآن إنما ينفي عن المشركين أن يكون لهم كتاب حكمة وهداية، وهذا لا يناقضه أن تكون لهم أشعار مخطوطة تحتوي على غزل أو فخر، أو مديح أو هجاء، أو وقائع حروب. وصفوة البحث: أن الشعر العربي كان يُتلقى بالرواية حفظاً، ومن المحتمل أن يصل شيء منه إلى الرواة على طريق الكتابة، فقد رأيتم المؤلف يعترف بما رواه صاحب "الأغاني" من أن الأنصار كانت تكتب أشعارها، وحكى ابن جني في "الخصائص" (¬1): أن النعمان بن المنذر أمر، "فنسخت له أشعار العرب في الطنوج، قال: وهي الكراريس، ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إنّ تحت القصر كنزاً، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار". ولكن (مرغليوث) رأى ابن جني يسند هذه القصة إلى حمّاد الرواية، فقال: "إذا كان مصدر هذه الرواية حمادًا الرواية، فإنه لم يقصد بها إلا أن يظهر للناس أنه يعرف من أشعار الجاهلية ما لا يعرفه غيره". وقد أورد ابن سلام في "طبقات الشعراء" ما يوافق هذه القصة، ولم يسندها إلى راوٍ بعينه، فقال: "وقد كان عند النعمان بن المنذر منه - الشعر- ديوان فيه أشعار الفحول، وما مدح به هو وأهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان، أو ما صار منه". فمن يعتدّ بهذه الآثار يرى أن من الشعر العربي ما وصل إلى الرواة على طريق الكتابة، فإن لم تكن بالغة مبلغ ما يعبأ به، فإن اعتياد العرب ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 393).

قريش وانتحال الشعر

لرواية الشعر حفظاً، واتساعهم في الحفظ إلى غاية بعيدة، يقوم مقام كتابته، إلا أن يلحقه تغيير بعض الكلمات، أو ترتيب بعض الأبيات، أو نسيان شيء منها. يروى عن ذي الرمة: أنه قال لعيسى بن عمر: اكتب شعري، فالكتاب أحبّ إلي من الحفظ؛ لأن الأعرابي ينسى الكلمة قد سهر في طلبها ليلته، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشدها. * قريش وانتحال الشعر: قال المؤلف في (ص 65): "وليس هذا شيئاً نفترضه نحن، أو نستنبطه استنباطاً، وإنما هو شيء كان يعتقده القدماء أنفسهم. وقد حدثنا به محمد ابن سلام في كتابه "طبقات الشعراء"، وهو يحدثنا بأكثر من هذا، يحدثنا بأن قريشاً كانت أقل العرب شعراً في الجاهلية، فاضطرها ذلك إلى أن تكون أكثر العرب انتحالاً للشعر في الإسلام". أخذ المؤلف يبحث عن حتف كتابه بقلمه، فقد جعل يعترف بأن القدماء وجهوا عنايتهم إلى هذا الشعر الجاهلي، وتناولوه بالنقد من جهة نسبته إلى من يعزى إليهم، وتحدثوا في هذا بالإجمال تارة، وبالتفصيل تارة أخرى، وسنبسط البحث عن عنايتهم بنقد الشعر من هذه الجهة في مقالة أخرى، وإنما نريد مناقشته فيما نقله من كتاب "الطبقات"، وتخيَّله حجة قائمة. إذا قال القدماء: إن قريشاً كانت أقل العرب شعراً، فهم لا يقولون هذا إلا بعد موازنتهم بين أشعار القبائل، ولا بد أن تكون هذه الموازنة بين ما وثقوا بصحة نسبته إليهم، وإذا كان الفصحاء من الشعراء لا يبعدون عن عهد النبوة بأكثر من عصر أو عصرين، فنظراً لعناية العرب بأنسابهم، ومعرفة

رواية ابن إسحق

أخبار رجالهم، لا يستطيع قريش أن يخلقوا رجلاً غير شاعر، وينحلوه شعراً لم يقله؛ إذ لا بدّ أن يكون هذا الشعر المنتحل معزوًا إلى رجال عرفوا بنظم الشعر؛ كعبد الله بن الزبعرى، وأبي عزة الجمحي، ونحوهما، والأشعار التي تنسب إلى من له شعر متداول يسهل على الحاذق في صناعة نقد الشعر تمييز حقها من مصنوعها، ثم إن ابن سلام نفسه يكاد يجعل ما انتحلته قريش في معنى مباراة الأنصار وحسان، فقد قال في "الطبقات" (¬1): "وقريش تزيد في أشعارها تريد بذلك الأنصار، والرد على حسان". وإذا كان المنتحل من شعر قربش يعود بجملته أو بمعظمه إلى مفاخرة الأنصار ومهاجاتهم، فإن ابن هشام قد نبَّه في "السيرة" على قسم كبير منه، ويحكي أن أهل العلم بنقد الشعر أنكروه، ووصفوه بالاصطناع. وإذا ثبت أن العلماء بنقد الشعر قد وضعوا شعر قريش تحت أنظارهم، وقلبوا فيه أذواقهم، وقاسوه بما عرفوا من أسلوب الشاعر، وما يناسب حال بلاغته، فالذي يغلب على الظن أن الباقي من شعر قريش بعد المطروح في "سيرة ابن هشام" وغيرها من كتب الأدب هو شعر ثابت النسبة إلى من يعزى إليهم، ونستمر على هذا الظن حتى يعمد المؤلف أو غيره إلى شعر بعينه، وينفيه عن صاحبه ببينة. * رواية ابن إسحق: حكى المؤلف ما يراه ابن سلام من أن الرواة المصححين لم يحفظوا لطرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص إلا قصائد بقدر عشر، وأنه حُمل عليهما شعر كثير. ¬

_ (¬1) (ص 62).

ثم قال في (ص 66): "ولكن ابن سلام لا يقف عند هذا الحد، بل هو ينقد ما كان يرويه ابن إسحاق وغيره من أصحاب السير في الشعر يضيفونه إلى عاد وثمود، ويؤكد أن هذا الشعر منحول مختلق. وأي دليل على ذلك أوضح من هذه النصوص القرآنية التي تثبت أن الله قد أباد عاداً وثمود، ولم يبق منهم باقية؟! ". هذه شواهد يسوقها المؤلف على أن القدماء من علماء الأدب بذلوا مجهودهم في نقد الشعر الجاهلي، وأنهم ذهبوا في نقده مذاهب شتى، ألا ترى ابن سلام كيف جعل في الرواة مصححين، وهم الذين ينقدون ما يعزى إلى الشعراء من نظم، فيحفظون ما صحت نسبته إليهم، وينفضون أيديهم مما عداه؟ أو لا ترى الرواة كيف كشفوا عن حال ما يرويه ابن إسحاق، وأسقطوا جزءاً كبيراً من هذه الأشعار المنتحلة؟! قال ابن سلام: "وممن هجّن الشعر وأفسده، وحمل كل غثاء: محمد بن إسحاق مولى آل مخرمة ابن المطلب بن عبد مناف، وكان من علماء الناس بالسير، فنقل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، إنما أوتى به، فأحمله، ولم يكن له ذلك عذراً، فكتب في السير من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط، وأشعار النساء فضلاً عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر، ومن رواه منذ ألوف من السنين؟ والله يقول: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم: 50 - 51]. وقال في عاد: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8]. وقال ابن النديم في وصف ابن إسحاق أيضاً: "ويقال: كان يُعمل له

القدماء ونقد الشعر

الأشعار، ويُسأل أن يدخلها في كتابه في السيرة، فيفعل، فضمّن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر، وأخطا في النسب الذي أورده في كتابه، وكان يحمل عن اليهود والنصارى، ويسميهم في كتبه: أهل العلم الأول، وأصحابُ الحديث يضعفونه، ويتهمونه". فقد عرف علماء الأدب شأن ابن إسحاق، وبفضل ما لديهم من روية وأناة نظروا إلى قلة أمانته، أو تسرعه إلى حمل ما يؤتى به من الأشعار، وجعلوا نسبة ما يرويه من الشعر إلى شخص معين لاغية، ولم يتخذوه وسيلة إلى الطعن فيما يرويه غيره من الشعر، بل وجهوا إلى كل واحد من الرواة نظراً خاصاً، وتناولوا كل ما يرد عليهم من الشعر بنقد مستقل. * القدماء ونقد الشعر: قال المؤلف في (ص 67): "وسنعرض بعد قليل لهذا النحو من البحث من شعر عاد وثمود، وغير عاد وثمود، ولكننا إنما ذكرناه الآن؛ لنبين كيف كان القدماء يتبينون كما نتبين، ويحسون كما نحس: أن هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين أكثره منحول، لأسباب منها السياسي، ومنها غير السياسي، كان القدماء يتبينون هذا، ولكن مناهجهم في النقد كانت أضعف من مناهجنا، فكانوا يبدؤون، ثم يقصرون عن الغاية". يقول المؤلف هذا، وهو يحسب أن نظرية الشك في الشعر الجاهلي ستبقى معزوة إليه، وأن الناس لا يشعرون بما كتبه الباحثون من قبله، ولو نظر إلى صلته بهذا البحث نظراً عادلاً، لكبر في فمه أن يقول: "ولكن مناهجهم في النقد كانت أضعف من مناهجنا". القدماء ألّفوا في نقد الشعر جملاً عامة؛ كما تال ابن سلام -بعد ذكر

أثر السياسة في اصطناع الشعر الجاهلي

اْبيات نسبت إلى النابغة-: "وأنا منها في شك، ولكنه قلَّ ما لا شك فيه"، وكشفوا الستار عن حال رجال حتى لا يعول على روايتهم في شيء ينفردون به، كما صنعوا فيما حدثوك به عن ابن إسحاق، وابن دأب، وغيرهما، ثم تناولوا بالنقد المفصَّل كثيراً من أشعار عُزيت لأشخاص معينين، ففتحوا للنقد طرقاً أقلّ ما يستحقون بها الخلاص من أذى التطاول الذي يدّعيه الطيش، وينازعه فيه الغرور. ونحن لا ندعي أن القدماء أتقنوا تاريخ الأدب من كل جانب، ولا نكره للناشئ الألمعي أن يبحث فيما صدر عنهم من رأي، أو مرّ عليهم من رواية، ولكن المؤلف يرفع مناهجه على مناهجهم، وهو بالطبيعة لا يريد غير هذه المظاهر التي خرج فيها كتاب "في الشعر الجاهلي". ومن أشد الحيف على الذين أوتوا العلم أن تجعل هذه المظاهر الهازلة خيراً مما صنعوا. * أثر السياسة في اصطناع الشعر الجاهلي: قال المؤلف في (ص 67): "ومهما يكن من شيء، فإن هذا الفصل الطويل ينتهي بنا إلى نتيجة نعتقد أنها لا تقبل الشك، وهي أن العصبية، وما يتصل بها من المنافع السياسية قد كانت من أهم الأسباب التي حملت العرب على انتحال الشعر، وإضافته إلى الجاهليين، وقد رأيت أن القدماء قد سبقونا إلى هذه النتيجة". عقد المؤلف الفصل في نحو عشرين صحيفة قضاها في الحديث عن أمر كتب فيه القدماء والمحدثون، وهو شأن العصبية في صدر الإسلام وعهد الأمويين وما كان من التهاجي بين بعض شعراء الأنصار وآخرين من قريش، والتوى في أثناء هذا الحديث إلى آراء قد عرفت مصدرها، وأخرى ناجتك

الشك في صحة الشعر الجاهلي

بسريرتها، ورجعتَ بها إلى صف دون الصف الذي وضعها فيه صاحبها. ولم يستطع المؤلف أن يضرب في هذا الفصل الطويل مثلاً لشعر جاهلي اخترعته نزعة سياسية، وذلك ما يقتضيه عنوان الفصل "السياسة وانتحال الشعر"، وقد أدرك أنه لم يجر في حديثه تحت هذا العنوان، ولم يأت بمقدمات تنتج أن في الشعر الجاهلي ما اصطنع لغاية سياسية، فقال: "ينتهي بنا إلى نتيجة نعتقد أنها لا تقبل الشك، وهو أن العصبية وما يتصل بها من المنافع السياسية قد كانت من أهم الأسباب التي حملت العرب على انتحال الشعر، وإافته إلى الجاهليين". فالقدماء ذكروا في أسباب انتحال الشعر للجاهليين: العصبية القومية، ومن أراد أن يقرر أن من الشعر الجاهلي ما افتعل لغرض سياسي، ويضع لذلك عنوانًا يكتبه بأحرف ممتازة، فليأت ولو بمثل أو مثلين واضحين، ويريح القارئ من أقوال لا تقع في عين الموضوع، فضلاً عما فيها من صبغ بعض الوقائع بألوان لا تلائمها. فالواقع أن السياسة اغترفت من قرائح الشعراء مديحًا أو هجاء، أما أن يكون لها أثر في اصطناع شعر جاهلي، فذلك ما لم يسق له المؤلف في طول هذا الفصل وعرضه شاهداً، وهو ما ينتظره كل من يقرأ عنوانه: "السياسة وانتحال الشعر". * الشك في صحة الشعر الجاهلي: قال المؤلف في (ص 67): "ونحن لا نقف عند استخلاص هذه النتيجة وتسجيلها، وإنما نستخلص منها قاعدة علمية، وهي أن مؤرخ الآداب مضطر حين يقرأ الشعر الذي يسمى جاهلياً، أن يشك في صحته، كلما رأى شيئاً

من شأنه تقوية العصبية، أو تأييد فريق من العرب على فريق". إن أراد من الشك ذلك الاحتمال الذي يحوك في النفس، فيحملها على البحث، ويرسي بها على حال يرتضيه العلم، فهو مبدأ كل ناقد نحرير، ولا يحتاج إلى هذه المقدمات الممدودة على آراء ملقوطة، وقصص لا يُدرَى مبلغها من الصحة. صان أراد من الشك معنى إلغائه، وعدم الثقة به، فمما لا يسيغه العلم أن يطعن في نسبة شعر، وتقطع صلته من قائله لمجرد ما فيه من تقوية عصبية، أو تأييد فريق على فريق.

الدين وانتحال الشعر

الدين وانتحال الشعر أتى المؤلف في صدر الفصل على أن العواطف والمنافع الدينية، ليست أقل من العواطف والمنافع السياسية أثراً في تكلف الشعر وانتحاله، وإضافته إلى الجاهليين، وزعم أن هذا الانتحال المتأثر بالدين ربما ارتقى إلى أيام الخلفاء الراشدين. ثم قاد في (ص 69): "ولو أن لدينا من سعة الوقت وفراغ البال ما يحتاج إليه هذا الموضوع، للهونا وألهينا القارئ بنوع من البحث لا يخلو من فائدة علمية أدبية قيمة، وهو أن نضع تاريخًا لهذا الانتحال المتأثر بالدين". رأيتم المؤلف كيف عقد فصلاً تحت عنوان: "السياسة وانتحال الشعر"، ولم يستطع أن يسوق في ذلك الفصل الطويل شعرًاا نتحل لدل سياسي، وأضيف إلى الجاهليين، وها هو ذا يعقد فصلاً آخر تحت عنوان: "الدين وانتحال الشعر"، ثم لا تجدونه يضرب لكم مثلاً صحيحاً فوق ما عرفتموه من ضروب الشعر التي تحدث عنها الأقدمون. يقول المؤلف: ربما ارتقى عصر الانتحال المتأثر بالدين إلى أيام الخلفاء الراشدين. ولعل القراء يتيقنون حرص المؤلف على تشويه سمعة العرب لعهد أولئك الخلفاء بوجه خاص، فلا يفوتهم أنه لو لمست يده شعراً انتحل لذلك العهد، لطار به فرحًا، وكتبه كما كتب عنوان الفصل بأحرف ممتازة.

وحشوُه هذا الفصلَ بما تقرؤونه من لهوالحديث، دليل على أنه لو ملك من سعة الوقت وفراغ البال أكثر من هذا الذي يملك، لم يزد على أن يلهو أو يلهي القراء بنوع من البحث لا يخرج عن هذه الدعاية المتصلة بالمعمل الذي خرج منه "ذيل مقالة في الإسلام دا، ثم لا يخلو من تحريف حقائق تاريخية، أو أدبية قيمة. أنكر المؤلف في (ص 69) كل ما يروى من الشعر الذي قيل في الجاهلية ممهدًا للبعثة النبوية، وكل ما يتصل به من الأخبار، وزعم أنها "تروى لتقنع العامة بأن علماء العرب وكهانهم، وأحبار اليهود ورهبان النصارى كانوا ينتظرون بعثة نبي عربي يخرج من قريش أو من مكة". كان لحماة حقائق الإسلام في المناظرة موقفان: موقف مع المخالفين، وهؤلاء إنما كانوا يناضلونهم في أصول العقائد، ويحاكمونهم إلى النظر والحجج العقلية البحتة. وموقف مع موافقيهم في الأصول، ومناظرة هؤلاء إنما تكون في ظل تلك الأصول، فتجري المناظرة في نظام، وتنتهي في الغالب بسلام. وقد خرج في هذا العصر طائفة يقولون بأفواههم: إنهم مسلمون بقلوبهم، جاحدون بعقولهم، فإذا أنكروا رواية، أو فرعًا يتصل بالدين، لا تدري أتحاصرهم تحت ظل الأصول المقررة، أم ترجع بهم إلى النظر الصرف، وتعود بهم إلى البحث في الإيمان بالله وكتبه ورسله؟. ينكر المؤلف كل ما يروى من الشعر والأخبار الممهدة للبعثة النبوية، وإنكارها على هذا الوجه إنما تسمعه ممن ربط قلبه على نفي النبوة، إذ ليس من المحتمل عنده أن يقال فيها شعر، أو يرد عنها خبر قبل أن يدعيها صاحبها.

شياطين الشعراء

أما الذين يعتقدون بأن نبوة أفضل الخليقة حق، فمن الجائز عندهم أن يسبقها شعر، أو خبر يتصل بها، وشأنهم أن يفحصوا ما يرد في هذا الصدد، ويضعونه بمنزلته من الوضع أو الضعف أو الصحة، وكذلك فعل علماء الإسلام، فحكموا على جانب مما كان من هذا القبيل بالوضع؛ كالأخبار والأشعار المعزوّة إلى قس بن ساعدة. * شياطين الشعراء: قال المؤلف في (ص 70): "فقد يظهر أن الأمة العربية لم تكن أمة من الناس الذين ينتسبون إلى آدم ليس غير، وإنما كان لإزاء هذه الأمة الإنسية أمة أخرى من الجن كانت تحيا حياة الأمة الإِنسية، وتخضع لما تخضع له من المؤثرات، وتحس مثلما تحس، وتتوقع مثلما تتوقع، وكانت تقول الشعر، وكان شعرها أجود من شعر الانس، فأنت تعرف قصة عبيد وهبيد، وأنت تعرف أن الأعراب والرواة قد لهوا بعد الإِسلام بتسمية الشياطين الذين كانوا يلهمون الشعراء قبل النبوة وبعدها". ينقل الرواة ومن يكتبون في الأدب العربي أن الشعراء في الجاهلية يقولون، أو يقال عليهم: إن لهم قرناء من الجن يلهمونهم الشعر. وممن روى هذا: الجاحظ، وسمّاه زعماً، فقال في "كتاب الحيوان" (¬1): "يزعمون أن مع كل فحل من الشعراء شيطاناً يقول ذلك الفحل على لسانه الشعر، ويقولون: اسم شيطان المخبل عمرو، واسم شيطان الأعشى مسحَل (¬2) "، ¬

_ (¬1) (6 ص 77). (¬2) (ج 6 ص 69).

ونقل عن أبي إسحاق النظام كلاماً في أصل هذا الزعم ومنشئه، حتى قال: "ومما زادهم في هذا الباب، وأغراهم به، ومدّ لهم فيه: أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابياً مثلهم، صالا غبيًا لم يأخذ نفسه قط بتمييز ما يوجب التكذيب أو التصديق أو الشك، ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط، وأما أن يلقوا راوية شعر، أو صاحب خبر، فالرواة عندهم كلما كان الأعرابي أكذب في شعره، كان أظرف عندهم، وصارت روايته أغلب، ومضاحيك حديثه أكثر". وممن تعرض لهذا من الكتاب المتقدمين على المؤلف: جرجي زيدان في "تاريخ آداب اللغة العربية"، فقال: "كان العرب يعتقدون أن لكل شاعر شيطاناً يوحي إليه المعاني، حتى لقد يتوهم الشاعر منهم أنه رأى شيطانه، وخاطبه، وأوحى إليه". وقال: "ومن غريب اعتقادهم في شياطين الشعراء: أن للشعر شيطانين، يدعى أحدهما: الهوبر، والآخر: الهوجل، فمن انفرد به الهوبر، جاد شعره، وصحّ كلامه. ومن انفرد به الهوجل، فسد شعره. وزاد ادعاؤهم ذلك حتى سموا شيطان كل شاعر باسم خاص به، فكان شيطان الأعشى يسمّى مسحل". وتعرض لهذا أيضاً الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتاب "آداب لغة العرب"؛ إذ عقد فصلاً في شعر الجن، فقال: "والقصاصون إنما قلدوا في ذلك الأعراب أيضاً، وذهبوا مذاهبهم، فللأعراب شعر كثير يزعمونه للجن، ويعقدون له الأخبار، وقد تناقله عنهم الرواة، وتظرفوا به في الأحاديث، وأمثلته كثيرة". فمزاعم بعض الناس لرؤية الجن، وتلقيهم الأشعار عنهم، مما كتب

وجود الجن حقيقة

فيه القدماء والمحدثون، وهذا عبد القادر البغدادي صاحب "خزانة الأدب" تكلم عن قصيدة: أتوا ناري فقلت: منون أنتم؟ ... فقالوا: الجن، قلت: عموا ظلاما وقصيدة: أتوا ناري فقلت: منون أنتم؟ ... فقالوا: الجن، قلت: عموا صباحا وقال: الأولى نسبت إلى سمير بن الحارث الضبي، والثانية منسوبة إلى جذع بن سنان الغساني، ثم قال: "وكلا الشعرين كذوبة من أكاذيب العرب". فلم يكن المؤلف هو الذي عقل بطلان ما يزعم من أن للشعراء شياطين يلهمونهم الشعر، بل نبه عليه أناس من قبل أن يخلق (ديكارت)، ويوضع منهج (ديكارت). إذاً، لا تعد هذه النظرية في حساب ما وصل المؤلف إلى استطلاعه على منهج (ديكارت). * وجود الجن حقيقة: قال المؤلف في (ص 70): "وفي القرآن سورة تسمى: "سورة الجن"، أنبأت بأن الجن استمعوا للنبي وهو يتلو القرآن، فلانت قلوبهم، وًامنوا بالله ورسوله، وعادوا فأنذروا قومهم، ودعوهم إلى الدين الجديد، وهذه السورة تنبئ أيضاً بأن الجن كانوا يصعدون في السماء يسترقون السمع، ثم يهبطون وقد ألموا إلمامًا يختلف قوة وضعفاً بأسرار الغيب، فلما قارب زمن النبوة، حيل بينهم ويين استراق السمع، فرجموا بهذه الشهب، وانقطعت أخبار السماء عن أهل الأرض".

وجود الجن حقيقة دلت عليها الآيات المحكمات، وليس في استطاعة من لا يؤمن بهذه الآيات أن يقيم دليلأ على نفيهم، ولو أصبحت عقليته غربية بحتة! وبُعث (ديكارت)، فابتدع له منهجًا أقرب من هذا المنهج وأجلى. إن العقل وحده لا يستطيع أن يثبت كائناً يقال له الجن، كما أنه لا يستطيع نفيه بحجة، فوجود هذا الكائن خارج في نفسه عن حد الواجب والممتنع، وماذا بعد الواجب والممتنع إلا الإمكان؟ وما كان من قبيل الممكن في نفسه قد يدل على تحققه ما قام البرهان على صدقه، وهل بعد نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - من برهان؟! وإن شئت مزيد غَوص في هذه النظرية، فإليك السبيل: إن للعلم الذي يعبر عنه باليقين معنيين: أحدهما: ما ثبت على وجه لا يجيز العقل خلافه، ولو في صورة الاحتمال المجرد؛ كالاعتقاد بأن الكل أكبر من الجزء، وأن لهذا العالم صانعاً حكيماً. فكل ما يتهافت من الاحتمالات المخالفة لهذا الاعتقاد يجد من الدلائل النظرية ما يطرده، ولا يبقي له في ساحة التعقل باقية. ثانيهما: اعتقاد بأمر لا يقوم في جانب خلافه احتمال يستند إلى مأخذ دليل أو أمارة، ولكن الاحتمالات المجردة عن المقتضيات ليس للعقل قوة على دفعها. وتجرد الاحتمال المقابل للمعلوم من الدلائل والأمارات لا يكفي في امتناع وقوعه، وجعل هذا المعلوم أمراً لا يتحول أو يطرأ عليها تغيير، بل لا بد من إقامة دليل خاص على أن هذا الأمر المعلوم أمر حتم، وأن خلافه ضرب من المحال الذي لا تتصور العقول وقوعه بوجه. واليقين بالنظريات

التجريبية لا يخرج عن هذا النوع الذي لا يرتفع عنه إمكان التغيير، بل قد تغيره يد الإبداع عند ما تريد إقامة المعجزة على سنّة غير مألوفة. أتى على الإنسان حين من الدهر، وهو يعتقد أن الضياء الساطع في ظلام الليل لا يكون إلا من طلعة القمر، أو من لهب النار، فإذا آنس تحت جناح الليل نوراً يتألق بمكان بعيد، لم يرتب في أنه بهرة قمر، أو شعلة نار، وهذا الاعتقاد لا يبلغ في اليقين درجة اعتقاده بأن العرض؛ كالحمرة والبياض لا يستقل بنفسه، فإن هذا الاعتقاد الأخير مبني على أن ماهية العرض تقتضي بطبيعتها ألّا تبرز إلى الخارج إلا في محل وهو الجرم، فيدرك العقل بالضرورة أن البياض أو السواد لا ينفرد عن المادة، ويقضي بذلك قضاء لا يحوم حوله احتمال، وأما يقينه بأن ذلك الضياء نار أو قمر، فقائم على التجربة فقط، فلا يخلو من احتمال أن يكون الضوء غير قمر أو نار، إلا أنه احتمال لم يكن له في العهد المتقدم وجه من النظر حتى يحل من اليقين الذي عقدته التجربة، وقد أصبح ذلك الاحتمال اليوم متحققاً في العيان حيث انضم إلى القمر والنار عنصر من عناصر الإنارة، وهي الكهرباء. فلو لم يخترع الفيلسوف التنوير بالنار، وكان فيما نقل من معجزات الرسل إنارة بعض الأجرام من غير أن تمسه النار، لقال الذين في قلوبهم مرض: إن الإنارة إنما تنشأ عن لهب النار، ولا سبيل إلى تحقق الأثر متى فقد سببه. زعم بعض المرتابين في المعجزات: أن قطع المسافة البعيدة كما بين المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة أمر لا يحتمله الإمكان، ولا يتقبله العقل، ولو ناظرتهم في وجه الامتناع عقلاً، لم يكن منهم سوى

أن يحيلوك على المشاهدة، ويقولوا: إنا نرى أن أسرع الأجسام تنقلاً يقضي في قطع تلك المسافة ليالي وأيامًا. وهذا الأمر الذي كانوا يذكرونه بوصف المحال قد كشف العلم الصحيح عن إمكانه، وأخرجه للناس في جملة الكائنات المبصرة. وإذا تمكن المخلوق باختراع الطيارة أن يجعلك تقطع المسافة البعيدة في مدة وجيزة، فماذا يكون شأن قدرة الخالق التي هي أبدع تقديراً، وأحكم صنعاً؟!. وكان أشباه الفلاسفة يعتقدون أن الوزن من خصائص ما يوصف بالخفة والثقل من الأجسام، وقالوا: لا نفهم لوزن الأعراض معنى؛ إذ ليس من المعقول تناولها من معروضاتها، ووضعها في كفة ترتفع تارة، وتنخفض مرة أخرى، وما راعهم إلا أن صنع الفيلسوف ميزان الحرارة والبرودة، وأراهم أن وزن الأعراض من قبيل الممكنات، وأن للوزن طرقاً غير ما تعرفه الباعة في الأسواق. يهون علينا أن يقف عبّاد الطبيعة موقف المطالب ببرهان على وجود الخالق، أو إثبات الرسالة، ولكن الذي يثير العجب في نفوسنا، ويحشرهم في زمرة المستضعفين من الرجال والولدان، أن يخرجوا في زي الفلاسفة، ويمسحوا ألسنتهم بطلاء من المنطق، ثم لا يلبثوا أن يصفوا كل ما لا تناله حواسهم بكونه محالًا، ويزعموا أن صدر الفلسفة يضيق عن احتماله، كأن دائرة الإمكان والفلسفة لا تسع إلا ما يرد إليها من طريق الحس والتجربة. كشف فيلسوف هذا العصر الغطاء عن كعير من الحقائق التي كانت أذناب الفلاسفة تعجل إلى إنكارها، ولا تبالي أن تلقبه باسم ما لا يكون. ولو قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: إن في هذا الماء الذي

حديث القرآن عن الجن

تشربون حيواناً يذهب ويجيء، وولد هذا المؤلف قبل اختيل المرآة المكبرة "مكرسكوب"، لقال في كتابه هذا: فقد يظهر أن الماء العربي لم يكن من المياه التي تشرب في البلاد الأخرى ليس غير، وإنما كان بإزاء هذا الماء النقي من كل شيء ماء يحمل حيواناً يذهب ويجيء، ويطفو ويرسب، تفتح فيه الأبصار ولا تراه، وتلمسه اليد ولا تحس به، وتصغي إليه الأذن فلا تسمع له حسيساً!. يعتقد كل مسلم بحقيقة الجن، وينادي كثير من أهل العلم بانكار رؤيتهم، إلا أن تكون معجزة لرسول، قال ابن حزم في كتاب "الفصل" (¬1): "فمن ادعى أنه يراهم أو رآهم، فهو كاذب، إلا أن يكون من الأنبياء- عليهم السلام -، فذلك معجزة لهم". * حديث القرآن عن الجن: قال المؤلف في (ص 70): "فلم يكد القصّاص والرواة يقرؤون هذه السورة وما يشبهها من الآيات التي فيها حديث عن الجن، حتى ذهبوا في تأويلها كل مذهب، واستغلوها استغلالًا لا حد له، وأنطقوا الجن بضروب من الشعر، وفنون من السجع". كتب الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في هذا المعنى حين قال: "والغرائب من هذا النمط كثيرة، وما نراها استفاضت في الإسلام إلا بعد ما ذكره جهلة المفسرين وأهل القصص ممن تكلموا في تفسير ما ورد في القرآن الكريم من الإشارة إلى الجن، أو ما جاء من ذلك في الحديث الشريف" (¬2). ¬

_ (¬1) (ج 5 ص 12). (¬2) "تاريخ آداب العرب" (ج 1 ص 378).

أشعار الجن؟

* أشعار الجن؟ قال المؤلف في (ص 71): "وكذلك قالت الجن شعراً رثت فيه عمر ابن الخطاب: أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتز العضاه بأسوق إلخ الأبيات الخمسة ... والعجب أن أصحاب الروالِات مقتنعون بأن هذا الكلام من شعر الجن، وهم يتحدثون في شيء من الإنكار والسخرية بأن الناس قد أضافوا هذا الشعر إلى الشمّاخ بن ضرار". هذا الشعر نسبه ابن سلام إلى جزء بن ضرار، فقال فىِ "الطبقات" (¬1): "وجزء هو الذي يقول يرثي عمر بن الخطاب: "جزى الله خيراً من أمير وباركت". ويقول ابن قتيبة في كتاب "الشعر والشعراء" (¬2): "وجزء الذي يقول في عمر بن الخطاب: عليك سلام من أمير وباركتْ ... يد الله في ذاك الأديم الممزقّ وقال ابن دريد في كتاب "الاشتقاق" (¬3): "وجزء هو الذي رثى عمر بن الخطاب بالأبيات التي يقول فيها: "عليك سلام من أمير وباركت ... إلخ". وقال صاحب "ديوان الحماسة": "وقال الشمّاخ يرثىِ سيدنا عمر بن ¬

_ (¬1) (ص 29). (¬2) (ص 179). (¬3) (ص 174).

النبي - صلى الله عليه وسلم - مكتوب في التوراة والإنجيل

الخطاب"، وأورد هذا الشعر، قال شارحه التبريزي: "وقال أبو رياش: الذي عندي أنه لمزرد أخيه، وقال أبو محمد الأعرابي: هو لجزء بن ضرار". فأولئك علماء الأدب يعزون الأبيات إلى جزء، أو مزرد، أو الشمّاخ، ولا يتعرضون لعزوها إلى الجن، فضلاً عن أن يتهكموا بمن يعزوها إلى الشمّاخ، وصاحب "الأغاني" عزاها إلى جزء بن ضرار، ثم ذكر الرواية التي تقول: إنها من نوح الجن على ابن الخطاب، ولم يتحدث في شيء من السخرية بأن الناس أضافوها إلى الشمّاخ. فلو لم يكن للمؤلف مأرب غير البحث في العلم، لما رأيته يقبض على الروايات الواهية، وينسبها إلى أصحاب الروايات كأنها الأمر الذي انتهى إليه بحثهم، وتواردت عليه كلمتهم. * النبي - صلى الله عليه وسلم - مكتوب في التوراة والإنجيل: ذكر المؤلف: أن القصّاص والمنتحلين اعتمدوا على القرآن فيما رووا وانتحلوا من الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلى الأحبار والرهبان. ثم قال في (ص 72): "فالقرآن يحدثنا بأن اليهود والنصارى يجدون النبي مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، وإذن، فيجب أن تخترع القصص والأساطير، وما يتصل بها من الشعر؛ ليثبت أن المخلصين من الأحبار والرهبان كانوا يتوقعون بعثة النبي، ويدعون الناس إلى الإيمان به، حتى قبل أن يظل الناس زمانه". نبَّأ الكتاب المنزّل أن النبي - عليه الصلاة والسلام - مكتوب في التوراة والإنجيل، ويصدق بهذا النبأ من ألقى نظره في دلائل النبوة حتى امتلأت نفسه يقينًا بأن هذا القرآن بلاع للناس، وقد درست طائفة مستنيرة التوراة والإنجيل،

محمد - صلى الله عليه وسلم - صفوة الإنسانية

وأتوا منهما بنصوص لا تأويل لها إلا هذا النبي الذي قلب ليل الجهالة والغواية نهار حكمة وهداية. ومن أقرب هؤلاء الباحثين عهداً: الدكتور محمد توفيق صدقي فقد تناول هذا البحث في كتاب "دين الله في كتب أنبيائه" (¬1)، وكتاب "نظرة في كتب العهد الجديد" (¬2). أما ما زاد على القرآن من الآثار الواردة في هذا الصدد، فمنها ما هو أسطورة، ومنها ما هو قصص واهية، ومنها ما جاءت به رواية قائمة، وإن استطاع المؤلف أن يسلك إلى الطعن في أمثال هذه الرواية سيرة علمية، فدونه وإياها، فإن للنبوة آيات أخرى لا تنالها أيدي الطاعنين. * محمد - صلى الله عليه وسلم - صفوة الإنسانية: قال المؤلف في (ص 72): "فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي، وأن تكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية". يرسل المؤلف قلمه على الحقائق، فيخمش وجوهها، ويضريه على أعاظم الرجال، فينال من أعراضها، وقد اشتد به هذا الخلق حتى أصبح الناس يعدون إنحاءه على مقام بالعيب أمارة على رفعته، وكادوا يجعلون ثناءه على الشخص داعياً إلى الريبة في سيرته. ¬

_ (¬1) من (ص 117 - 134). (¬2) (ص 77، 78).

ألا ترون إلى ذلك القلم كيف تطوح به الغرور إلى أن يحوم على مقام أكمل الخليقة، فيقذف نحوه بما تملي عليه تلك الروح النازعة إلى غير هدى؟!. قنع الناس بأن محمداً - صلوات الله عليه - صفوة بني هاشم، بل صفوة الإنسانية؛ لأن صحيفة حياته أباع صحيفة طويت بوفاة صاحبها، ولأن ما جرى على يده ولسانه من حكمة وإصلاح، لم يأت بمثله إنسان تقدمه، أو إنسان جاء من بعده. ويرى الناس أن بني هاشم صفوة قريش، وأن قريشاً صفوة كنانة، وأن كنانة صفوة ولد إسماعيل، وقنعوا بهذا؛ للحديث المروي في "صحيح الإمام مسلم"، والمسموع من أصدق الناس لهجة، وهو: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". فلو وجه المؤلف غمزه إلى المفاضلة بين بني هاشم ومن بعدهم، لقلنا: أنكر حديثاً، ولم نؤاخذه إلا على مهاجمة الحديث بالإنكار المجرد من البحث العلمي مثلما يهاجمه الصم الذين لا يعقلون، ولكنه لم يقنع بأن ينكر حديثاً في "صحيح مسلم"، ولم يشف ظمأه أن يرمي ساحة القرآن بالكذب، فجعل يضع غمزه في عقيدة أن النبي - عليه الصلاة والسلام - صفوة بني هاشم. وحرصُه على بثّ هذه المغامز في كتابه -دون أن تكون لها صلة بالبحث العلمي- شاهد على أنه يكتب تحت تأثير عاطفة، تريد الانتقام من الإسلام الذي قضى على العقيدة الخاسرة، والشهوة الباغية، وجعل مكان الغي رشداً، وبدل السفه أدباً.

انتحال البطون القرشية للأخبار والأشعار

* انتحال البطون القرشية للأخبار والأشعار: تحدث المؤلف بأن القصّاص يضيفون إلى أسرة النبي- عليه الصلاة والسلام - ما يرفع شأنهم، ويثبت تفوقهم على قومهم، وعلى العرب. وأن هذا القصص يستتبع الشعر، وأتى على أن التنافس كان يشتد بين بني أمية وبني هاشم، وأن الخصومة بين قصاص هذين الحزبين كانت تشتد، وأن الروايات والأخبار والأشعار كان تكثر، وذكر أن هذا الأمر لا يقتصر على بني أمية وبني هاشم، بل تشاركهم فيه الارستقراطية القرشية كلها. ثم قال في (ص 73): "وإذن، فالبطون القرشية على اختلافها تنتحل الأخبار والأشعار، وتغري القصاص وغير القصاص بانتحالها". يمرّ القاريء الملمّ بصناعة المنطق على هذه الجملة، فيقع في ظنه أن المؤلف استخلصها كالنتيجة من مقدمات سابقة، فيرجع البصر فيما تقدمها من حديث، فلا يظفر- ولو بشاهد- على أن البطون القرشية على اختلافها انتحلت الأخبار والأشعار، وأغرت القصاص وغير القصاص بانتحالها. هل عدّ المؤلف بطون قريش بطناً فبطناً، وضرب لكل بطن مثلاً يرينا كيف انتحل خبراً، أو شعراً، أو أغرى القصّاص وغير القضاص بانتحاله؟ هل جاء المؤلف برواية تثبت أن بطون قريش على اختلافها تنتحل الأخبار والأشعار، وتغري القصّاص وغير القصّاص بانتحالها؟. لم يفعل المؤلف هذا ولا ذاك، إذن، هذه العبارة الواسعة إنما هي دعوى أخرجها في صورة نتيجة، وما هي بنتيجة. * قصة أبي بكر بن عبد الرحمن: قال المؤلف في (ص 74): "ولست في حاجة إلى أن أضرب لك

الأمثال، فأنت تستطيع أن تنظر في "سيرة ابن هشام" وغيرها من كتب السير والتاريخ، لترى من هذا كله الشيء الكثير. وأن أضرب لك مثلاً واحداً يوضح ما ذهبت إليه من أن بطون قريش كانت تحث على انتحال الشعر منافسة للأسرة المالكة، أموية كانت أو هاشمية". وذكر هذا المثل، فقال: "تحدث صاحب "الأغاني" بإسناد له عن عبد العزيز بن أبي نهشل، قال: قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - وجئته أطلب منه مغرماً-: يا خال! هذه أربعة آلاف درهم، وأنشد هذه الأبيات الأربعة، وقل: سمعت حساناً ينشدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وساق المؤلف القصة المعروفة في "الأغاني" (¬1)، وهي تنتهي بأن أبا بكر قال لعبد العزيز بن أبي نهشل: قل أبياتاً تمدح بها هشاماً -يعني: ابن المغيرة-، وبني أمية، فقال الأبيات العشرة المبدوءة ببيت: ألا لله قوم و ... لدت أخت بني سهم ولما جاءه بها، قال له أبو بكر: قل: قالها ابن الزبعرى، قال: فهي الآن منسوبة في كتب الناس إلى ابن الزبعرى. سرد المؤلف القصة، وقال: "فانظر إلى (أبي بكر بن) (¬2) عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، كيف أراد صاحبه على أن يكذب، وينتحل الشعر على حسان، ثم لا يكفيه هذا الانتحال حتى يذيع صاحبه: أنه سمع حساناً ينشد هذا الشعر بين يدي النبي، كل ذلك بأربعة آلاف درهم". ثم قال: "فيتفقان آخر الأمر على أن ينحل الشعر عبد الله بن الزبعرى شاعر قريش. ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 30) طبع بولاق. (¬2) ساقطة من قلم الناسخ لكتاب (في الشعر الجاهلي).

ومثل هذا كثير". إذا عثر المؤلف على قصة مصوغة في مثال رغبته، نسي (ديكارت)، ولعن منهج (ديكارت)، وًاخذ يحدثك بها حديث من شهدها بأذن تسمع، وقلب يفقه، ويد تلمس، وانطلق يبني عليها، وشمتنبط منها حتى يرضى. القصيدة منسوبة في كتب الناس إلى عبد الله بن الزبعرى، ونقل صاحب "الأغاني" بسنده إلى محمد بن طلحة: أن عمر بن أبي ربيعة قائلها (¬1)، ونقل بسنده أيضاً عن (عبد العزيز بن أبي نهشل) أنه هو الذي قالها، وعزا إلى أبي بكر بن عبد الرحمن ما عزا. ما وقف المؤلف على قصة أبي بكر هذا ومن يسميه (عبد العزيز بن أبي نهشل) حتى اعتنقها باليمين والشمال، وضمها إلى أشباهها مطوية على تحريفها الذي وقعت فيه نسخة "الأغاني"، وكذلك يفعل من يحاول التطاول على أمة جعل الله منزلتها فوق السماكين. هل وجد أستاذ الآداب بالجامعة في غير هذه النسخة من الأغاني أن في الشعراء من يسمى (عبد العزيز بن أبي نهشل)؟ هو لا يعرف شيئاً عن هذا الذي يسميه (عبد العزيز بن أبي نهشل) سوى أن في نسخة "الأغاني" التي وقعت بين يديه أن صاحب هذا الاسم حكى قصة تحط من شأن أبي بكر بن عبد الرحمن، وتشتمل على انتحال شعر، وعزوه إلى ابن الزبعرى. ورد في سند هذه القصة من كتاب "الأغاني" ما نصه: "عن عبد العزيز ابن أبي ثابت، عن محمد بن عبد العزيز بن أبي نهشل، عن أبيه ... إلخ"، ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 31).

ففهم المؤلف أن محمد بن عبد العزيز روى عن أبيه عبد العزيز بن أبي نهشل: أنه قال له أبو بكر بن عبد الرحمن: يا خال! هذه أربعة آلاف ... إلخ. ولو كانت القصة ثابتة على هذا المساق، لكان في الشعراء من يسمى: عبد العزيز بن أبي نهشل؛ وفي الصحابة من يسمى بهذا الاسم أيضاً، ولكنك تبحث دواوين الشعر وكتب الأدب، فلا تجد شاعراً يسمى (عبد العزيز بن أبي نهشل)، وتفحص الكتب المبسوطة في إحصاء أسماء الصحابة واستقصاء آثارهم، فلا تجد صحابياً يسمّى: عبد العزيز بن أبي نهشل. وأصل العبارة في نسخ مخطوطة (¬1): "عن محمد بن عبد العزيز، عن ابن أبي نهشل، عن أبيه"، وكذلك جاءت في نسخة "الأغاني" التي نقل منها المؤلف، حين أعاد صاحب "الأغاني" الحديث عن القصة في (ص 31) بسند آخر ينتهي أيضاً إلى محمد بن عبد العزيز، عن ابن أبي نهشل. وإذا وضعنا هذه القصة وسندها على محكّ النقد، اعترضنا في قبولها أمران: أولهما: أن السند يدور على عبد العزيز بن عمران، وهو ابن أبي ثابت، وقد توارد أهل العلم على الطعن في روايته. قال يحيى بن معين في شأنه: "ليس بثقة، إنما كان صاحب شعر، ورأيته ببغداد، كان يشتم الناس، ويطعن في أحسابهم، ليس حديثه بشيء". وقال الحافظ أبو يحيى الذهلي: "عليّ بدنة (¬2) إن حدثت عنه حديثاً"، وضغفه جداً. وقال البخاري: "منكر الحديث، ¬

_ (¬1) النسخة التيمورية، ونسخة مصطفى فاضل بدار الكتب (رقم 8 أدب م). (¬2) ناقة أو بقرة تنحر بمكة - "المعجم المدرسي" للأستاذ زين العابدين التونسي.

الشعر المنسوب لآدم - عليه السلام -

لا يكتب حديثه". وقال ابن أبي حاتم: "امتنع أبو زرعة من قراءة حديثه، وترك الرواية عنه". وقال ابن حبان: "يروي المناكير على المشاهير". فشهادة هؤلاء الأعلام بعدم الثقة بما يرويه عبد العزيز بن أبي ثابت من الحديث، تجعلنا في ريبة من هذه القصة التي تخالف ما في كتب الناس. ثانيهما: أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث كان من سادات التابعين، وأحد الفقهاء السبعة المشار إليهم بالعلم والتقوى، وقد تضافرت كلمة أهل الحديث والمؤرخين على وصفه باستقامة السيرة، ولم يمسه قلم أحد بسوء، وكان لكثرة صيامه وصلاته يسمّى: راهب قريش، وكان عبد الملك ابن مروان يكرمه، ويقول: إني لأهم بالسوء أفعله باهل المدينة، فأذكر أبا بكر، فاستحيي منه. فشهرة أبي بكر بالعلم والاستقامة إلى هذه المنزلة، تبعدنا من قبول قصة ترميه بمحاولة شاعر على أن يحدِّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذباً. بل المظنون في رجل كأبي بكر بن عبد الرحمن أن يترفع عن هذه السخافة البادية في القصة، ويستغني عن فخر الجاهلية بما آتاه الله من علم وتقوى، وحسب وجاه. وإذا جاءت رواية على خلاف ما في كتب الناس، وكان الراوي غير ثقة، وكانت سيرة هذا الذي تحدث عنه الراوي المتهم بعيدة عن وصمة ما ينسب إليه، لم يبق لهذه الرواية الشاذة إلا أن تسقط غير مأسوف عليها. * الشعر المنسوب لآدم - عليه السلام -: ذكر المؤلف: أن من تأثير الدين في انتحال الشعر: ما يضيفه الرواة إلى أخبار الأمم القديمة؛ كعاد وثمود، وقال: إن ابن سلام قد كفاه نقده

الاستشهاد على القرآن بالشعر

حين أثبت أن هذا وما يشبهه مما يضاف إلى تبع وحمير موضوع منتحل. ثم قال في (عى 76): "وابن إسحاق، ومن إليه من أصحاب القصص لا يكتفون بالشعر يضيفونه إلى عاد وثمود وتبع وحمير، وإنما هم يضيفون الشعر إلى آدم نفسه، فهم يزعمون أنه رثى هابيل حين قتله أخوه قابيل. ونظن من الإطالة والإِملال أن نقف عند هذا النحو من السخف". هذا الشعر الذي ينسب إلى آدم - عليه السلام - قد أنكره كثير من أهل العلم. فهذا صاحب الكشاف يقول في شأنه: "هو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون". وقال الرازي: "ولقد صدق صاحب "الكشاف" فيما قاله؛ فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة، لا يليق إلا بالحمقى". وأورد هذا الشعر سبط ابن الجوزي في "مرآة الزمان"، وقال: "هذا ما ذكره الثعلبي، وهو شعر ركيك مزحوف، وقد أنكر ابن عباس هذا الشعر، وقال: من قال: إن آدم قال شعراً، فقد كذب على الله ورسوله". وإذا كان علماء الأدب والتفسير قد نبهوا على أن الشعر المضاف إلى آدم وعاد وثمود وتبع وحمير منحول مصطنع، فلا مزية للمؤلف في حديثه هذا إلا أنه ساق الكلام في صورة تضع في نفس القارئ أن شعرآدم لم يتعرض لإنكاره أحد من قبله. * الاستشهاد على القرآن بالشعر: عاد المؤلف إلى الحديث عن الشعر الذي يستشهد به الرواة والمفسرون على ألفاظ القرآن ومعانيه. حتى قال: "فحرصوا على أن يستشهدوا على كل كلمة من كلمات القرآن بشيء من شعر العرب، يثبت أن هذه الكلمة القرآنية عربية، لا سبيل إلى الشك في عربيتها".

وقال في (ص 77): "وإنما نعيد شيئاً واحداً، وهو أننا نعتقد أنه إذا كان هناك نص عربي لا تقبل لغته شكاً ولا ريبًا، وهو لذلك أوثق مصدر للغة العربية، فهو القرآن. وبنصوص القرآن وألفاظه يجب أن يستشهد على صحة ما يسمونه الشعر الجاهلي، بدل أن نستشهد بهذا الشعر على نصوص القرآن. ولست أفهم كيف يتسرب الشك إلى عالم جاد في عربية القرآن واستقامة ألفاظه وأساليبه ونظمه على ما عرف العرب أيام النبي من لفظ ونظم وأسلوب". لم يستشهد العلماء على كل كلمة من كلمات القرآن بشيء من شعر العرب؛ فإن أغلب كلامه ظاهر لا يحتاج في تقرير معناه أو وجه إعرابه إلى شاهد، وقد سبقت لنا كلمة في هذا الصدد، ونقلنا لكم ما قال الرازي وابن حزم فيما أنكراه على بعض النحاة من الاستشهاد على القرآن بالشعر، أو توقفهم في الاستشهاد بالقرآن، وإنما نعيد شيئاً واحداً، وهو أن إنكار الاحتجاج بالشعر على القرآن رأي قديم، وزعم المؤلف أنه الصانع له تغييرٌ في تاريخ أدب اللغة العربية، وما كان لأستاذ الآداب أن يغير تاريخها إلى حد أن يأخذ الرأي الذي نشأ في المئة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة، ويجعله ابن المئة الرابعة عشرة. وليس التصرف في تاريخ الآراء بأقل جناية من أن يدَّعي لطلابه: أن الرازي، أوابن حزم، أو أبا بكر بن الأنباري من علماء هذا العصر، وأنهم لا زالوا أحياء يرزقون. يقول أبو بكر الأنباري (¬1): "قد جاء عن الصحابة والتابعين كثيراً الاحتجاجُ ¬

_ (¬1) "الإتقان" (ج 1 ص 119).

على غريب القرآن ومشكله بالشعر، وأنكر جماعة لا علم لهم على النحويين ذلك، وقالوا: إذا فعلتم ذلك، جعلتم الشعر أصلاً للقرًان. قالوا: وكيف يجوز أن يحتج بالشعر على القرآن، وهو مذموم في القرآن والحديث؟ ". ثم قال؛ "وليس الأمر كما زعموه من أنا جعلنا الشعر أصلاً للقرآن، بل أردنا تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3]. وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]. وإن شئت حديثاً يزيدك ثقة بما قال أبو بكر بن الأنباري في جواب جماعة لا علم لهم، فإليك الحديث: في القرآن كلمات ذات معان مفردة يعرفها الجمهور من الناس، وهذه الكلمات لا يحتاج مفسر الآية إلى الاستشهاد عليها بشيء من الشعر أو النثر. وفي القرآن كلمات ذات معان متعددة، ومن هذه المعاني ما هو معروف متداول في الاستعمال، ومنها ما ليس كذلك، فإذا اقتضت البلاغة في نظر المفسر أن يحمل مثل هذه الكلمات على معنى غير المعنى المعروف لدى الجمهور، احتاج إلى الاستشهاد بمنظوم أو منثور تكون دلالته على هذا المعنى واضحة، حتى لا يتردد في قبول التفسير من لم يقف على أن هذه الكلمة قد تستعمل عربية في غير ما هو مألوف لدى الجمهور. وفي القرآن كلمات غريبة يحتاج المفسر عند بيان معناها إلى الاستشهاد بشيء من كلام العرب، حتى يعلم طالب العلم أن التفسير لم يخرج عن حدود اللسان العربي، فيطمئن إلى صحة التفسير، لا إلى أن القرآن عربي، فإن هذا لا يشك فيه أحد مطلق الرجلين يطوف أنى شاء، ويلتقي بمن شاء.

من يحق له أن يفسر القرآن؟

وفي القرآن آيات تحتمل أوجهاً من الإعراب، ومن الواضح أن معنى الآية يختلف باختلاف وجه إعرابها، فقد يختار المفسر من الإعراب وجهاً يراه أليق بالبلاغة، أو أثبت بحكمة المعنى، ويكون هذا الوجه من الإعراب يستند إلى حكم عربي غير معهود لبعض أهل العلم، فيخشى إنكارهم لأن يكون هذا الوجه صحيحاً عربية، فيعمد إلى دفع هذا الإنكار بإقامة شاهد من لسان العرب على صحة ما ذهب إليه من الإعراب. فالاستشهاد بالشعر على القرآن قائم على دصل معقولة، أما أن المستشهد يخطئ أو يصيب، يأتي بالمثل الصادق أو ينتحله، فذلك بحث آخر سنفصله لك في مقالة أخرى. * من يحق له أن يفسر القرآن؟ قال المؤلف في (ص 77): "وإنما هناك مسألة أخرى، وهي أن العلماء وأصحاب التأويل من الموالي بنوع خاص لم يتفقدا في كثير من الأحيان على فهم القرآن، وتأويل نصوصه، فكانت بينهم خصومات في التأويل والتفسير. وعن هذه الخصومات نشأت خصومات أخرى بين الفقهاء وأصحاب التشريع". من يحق له أن يفسر القرآن طائفتان: طائفة لم تبلغ درجة الإجتهاد في الأحكام الشرعية؛ كشيبويه، والزجاج، والزمخشري، وطائفة بلغت درجة الاجتهاد؛ كالأئمة الأربعة، ومن المأخوذ في شروط المجتهد: أن يكون بمكانة راسخة في علوم اللسان؛ بحيث يتفقه في معنى الآية بنفسه، ويفصل الحكم على مقتضى علمه، ومتى وجد اختلافاً في حكم لغوي، جرد نظره لاستطلاع الحقيقة، ولا يقف وقفة الحائر، أو يستند إلى أحد الآراء على غير بينة.

المعتزلة والشعر الجاهلي

وإدراك الفقيه منزلة الاجتهاد في علم اللسان العربي لا يستدعي زماناً واسعا جداً، حتى يقال: إن اشتراطه إقامةٌ لعقبة كؤود في سبيل الاجتهاد في الأحكام، فإن الذي يقتضي بحثاً متواصلاً، وزمانًا قد يأتي على معظم العمر، هو التوغل في هذه العلوم، وتقصي آثارها، ثم التوسع في بسط أدلتها، وتفصيل أحكامها، وهذا أمر زائد على إحراز ملكة قوية، وبصيرة نافذة، يرجع إليها عند الحاجة إلى تحقيق بحث، أو تفصيل خلاف. فلا يصح أن تكون خصومات المجتهدين الذين سماهم المؤلف: أصحاب التشريع، ناشئة عن خصومات أصحاب التأويل من الموالي أو غير الموالي؛ فإن المجتهد لا يشق بتأويل غيره، وإنما يبني الحكم على ما يفهمه من الآية بنظر مستقل. * المعتزلة والشعر الجاهلي: انساب المؤلف يتحدث عن كثرة ما ينتحل العلماء من الشعر الجاهلي. وق الذي (ص 78): "فالمعتزلة يثبتون مذاهبهم بشعر العرب الجاهليين، وغير المعتزلة من أصحاب المقالات ينقضون آراء المعتزلة معتمدين على شعر الجاهليين، وما أرى إلا أنك ضاحك مثلي أمام هذا الشطر الذي رواه بعض المعتزلة؛ ليثبت أن كرسي الله الذي وسع السماوات والأرض هو علمه، وهذا الشطر هو قول الشاعر "المجهول طبعاً": "ولا بكرسيّ (¬1) علم الله مخلوق". ¬

_ (¬1) كذا في كتاب "الشعر الجاهلي"، ولعله تحريف من الناسخ، والصواب: "يكرسئ" بصيغة الفعل.

رواية الجاحظ للشعر

يقول ابن قتيبة في التأويل: "وفسروا القرآن بأعجب تفسير، يريدون أن يردوه إلى مذاهبهم، ويحملوا التأويل على نحلهم، فقال فريق منهم في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} [البقرة: 255]؛ أي: علمه، وجاؤوا على ذلك بشاهد لا يعرف، وهو قول الشاعر: "ولا يكرسئ علم الله مخلوق". وقال الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتاب "تاريخ آداب اللغة العربية": "وهنا ضرب ثالث من الشواهد نشأ في القرن الثالث، وهو ما يولده بعض المعتزلة والمتكلمين للاستشهاد به على مذاهبهم، وكانت رواية الشعر فيهم يومئذ عامة"، وساق على هذا كلام ابن قتيبة الملقى إليك آنفاً، وأضاف إليه مثالاً آخر من كتاب الحيوان للجاحظ. لا نريد أن نقول: إن هذا مما نقده أهل العلم قبل المؤلف، ولا نريد أن نبحث في أن المؤلف يعرف لهذا الغرض مثالاً غير هذا الذي ذكره الأستاذ الرافعي، أم لا يعرف، وإنما أريد أن أقول: إن المؤلف يدعي أن المعتزلة يعتمدون على آراء الجاهليين، ثم يسوق الشاهد، ويصف قائله بأنه "المجهول طبعًا" كما قال ابن قتيبة: "بشاهد لا يعرف". وإذا لم يذكروا القائل باسمه، وكانت عادتهم الاستشهاد بالشعر العربي، جاهليًا كان أو إسلاميًا، فمن أين علم المؤلف أنهم نسبوا هذا الشاهد إلى الجاهليين؟. * رواية الجاحظ للشعر: تحدث المؤلف بأن كذب أصحاب العلم على الجاهليين كثير. ثم قال في (ص 79): "لأمر ما كان البدع في العصر العباسي عند فريق

من الناس أن يرد كل شيء إلى العرب، حتى الأشياء التي استحدثت، أو جاء بها المغلوبون من الفرس والروم وغيرهم. وإذا كان الأمر كذلك، فليس لانتحال الشعر على الجاهليين حد. وأنت إذا نظرت في "كتاب الحيوان" للجاحظ، رأيت من هذا الانتحال ما يقنعك ويرضيك". لم يكن أهل العلم يأخذون الشعر على أنه جاهلي من كل من يكتبه في كتاب، أو ينشده في مجلس، بل كانوا يفرقون بين هذا الذي يرويه الثقات، أو تتعدد مآخذه؛ كالمفضّليات والمعلّقات، وبين ما يرويه أناس نقدوهم، فلم يجدوهم على ثقة، ومن هذا النوع ما ينفرد بروايته الجاحظ؛ فإنهم كانوا يعدون أحاديثه وأدبه مما يستعان به على السمر، قال أبو منصور الأزهري في مقدمة "تهذيبه" يصف الجاحظ: "وكان أوتي بسطة في لسانه، وبيانًا عذبًا في خطابه، ومجالًا واسعاً في فنونه، غير أن أهل المعرفة بلغات العرب ذمّوه، وعن الصدق دفعوه، وأخبر أبو عمرو الزاهد: أنه جرى ذكره في مجلس أحمد بن يحمى، فقال: "اعزبوا عن ذكر الجاحظ؛ فإنه غير ثقة، ولا مأمون"، وينبئك بن من هذه الأشعار العربية ما لا يثقون بروايته، ويعدونه فيما يسمر به عند الملوك ونحوهم: قول ابن سلام -بعد أن ساق بيتين ينسبان إلى لبيد-: "ولا اختلاف في هذا أنه مصنوع، تكثر به الأحاديث، ويستعان بها على السمر عند الملوك، والملوك لا تستقصي". فيما يرويه الجاحظ في نحو "كتاب الحيوان" من الشعر، وينفرد بروايته، لا يثق به أهل العلم، ولا يبنون عليه تاريخاً، ولا يعولون عليه في تقرير حكم، أو قاعدة لغوية، وإنما يقرؤونه من حيث إنه أدب، وهو من أدب اللسان، وإن كان معزوّاً إلى غير قائله.

دين الإسلام هو ملة إبراهيم - عليه السلام -

* دين الإسلام هو ملة إبراهيم - عليه السلام -:. ذكر المؤلف أن لتأثير العواطف الدينية في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين فنوناً، وأن ما تحدث به من قبل فنونها الهينة، ويريد الآن أن يتحدث عن أعظم هذه الفنون كلها، وهو هذا النوع الذي ظهر عندما استؤنف الجدال في الدين بين المسلمين وأصحاب الملل الأخرى، ولا سيما اليهود والنصارى. ثم قال في (ص 80): "وذهب المجادلون في هذا النوع من الخصومة مذاهب لا تخلو من غرابة، نحب أن نشير إلى بعضها في شيء من الإيجاز. أما المسلمون، فقد أرادوا أن يثبتوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي، وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحقال في أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل. فليس غريباً أن نجد قبل الإسلام قوماً يدينون بالإِسلام، أخذوه من هذه الكتب السماوبة التي أوحيت قبل القرآن". يصرح القرآن بأن إبراهيم - عليه السلام - بنى البيت الحرام، وأن العرب النازلين حول مكة من ذريته، وأن لهذا الرسول شريعة، وأن شريعته وشريعة الإسلام تتحدان في التوحيد الخالص، وبعض الأحكام والآداب، ولاتحاد الملتين في العقائد والآداب نطقت الآيات بأن دين الإسلام هو ملة إبراهيم - عليه السلام -، فقال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]. وقال: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران: 95]. وقال: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [الأنعام: 161].

معنى الحنيفية

فمعنى أن للإسلام أولية في بلاد العرب ثابت بنص القرآن، لا أن المسلمين يريدون إثباته. والقرآن أيضاً يقول: إن الدين الإِسلامي هو الدين الحقال في أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل، فقد رأيتموه كيف يسمّي دين الإِسلام: ملة إبراهيم -عليه السلام -، ورأيتموه يقول لمحمد - صلوات الله عليه -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89]. ثم هو يسوق قصص الأنبياء من قبل، ويأتي في بيان ما يدعون إليه على ما يدعو إليه الإِسلام من التوحيد الخالص، واختصاص الخالق بالعبادة، واعتقاد أن غير الله لا يملك ضراً ولا نفعاً، إلى ما يشاكل هذا من آداب رفيعة وأخلاق فاضلة. فهذا الذي يعزوه المؤلف لإرادة المسلمين إنما يقوله القرآن، والمؤلف يريد نفيه، وليس له على هذا النفي من حجة غير ما تعلّمه من قدماء الجاحدين من نحو التهكم والإنكار الذي يأتيك عارياً من كل حجة وشبهة تشبه أن تكون حجة. * معنى الحنيفية: قال المؤلف في (ص.8): "القرآن يحدثنا عن هذه الكتب، فهو يذكر التوراة والإنجيل، ويجادل فيهما اليهود والنصارى، وهو يذكر غير التوراة والإنجيل شيئاً آخر هو صحف إبراهيم، هو هذه الحنيفية التي لم نستطع إلى الآن أن نتبين معناها الصحيح". اتفقت الأديان الثلاثة على نبوة إبراهيم - عليه السلام -، ودل القرآن؛

توحيد الله وإفراده بالعبادة

بما يحكيه من محاجته لقومه، وما يأتي عليه من آداب شريعته: أنه كان يدعو إلى التوحيد، ومكارم الأخلاق، ولهذا المعنى سمّي حنيفاً؛ أي: مستقيماً، وكذلك سميت ملته: الحنيفية، نسبة إلى الحنيف، وهو المستقيم، وكل نبي حنيف، وكل شريعة سماوية حنيفية، وإنما سمي إبراهيم - عليه السلام - حنيفاً، وملته حنيفية؛ تنبيهاً على خطأ من يدعون أنهم على ملة إبراهيم، وهم يعملون على شاكلة غير مستقيمة، ولذلك ترى القرآن يصفه بقوله: [حَنِيفًا] [آل عمران: 95]، ويتبع هذا الوصف بقوله: [وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ] [آل عمران: 95]. فإن أراد المؤلف أنه لم يستطع أن يتبين معنى الحنيفية من القرآن، فالقرآن ينادي على هذا المعنى، ويعبر عنه بأفصح بيان، وإن أراد أنه لم يستطع أن يتبينه من ناحية غير ناحية القرآن، فليدعه إلى ما لا يستطع أن يتبينه؛ كالعلوم الرياضية والطبيعة. * توحيد الله وإفراده بالعبادة: قال المؤلف في (ص 80): "فقد أخذ المسلمون يردون الإِسلام في خلاصته إلى دين إبراهيم، هذا الذي هو أقدم وأنقى من دين اليهود والنصارى". القرآن هو الذي يرد الإِسلام في خلاصته إلى دين إبراهيم - عليه السلام -، والأديان السماوية تشترك في الدعوة إلى توحيد الله، وإفراده بالعبادة، وهي من هذه الجهة متماثلة، لا يفضل فيها دين على آخر، ولا يقال: إن ديناً أنقى من دين، إلا حيث ينظر إلى خلوصه من تحريف يطمس الطريق إلى معرفة حقائقه، وإنما تتفاضل الأديان بكثرة ما فيها من حكمة وموعظة، وبسعة

الإسلام لم يجدد دين إبراهيم - عليه السلام -

ما ينطوي تحت أصولها الاجتماعية من مصالح الأمم، وتتفاوت بما يدل على صدق المبعوث بها من آيات خالدة. * الإِسلام لم يجدد دين إبراهيم - عليه السلام -: قال المؤلف في (ص 81): "وشاعت في العرب أثناء ظهور الإِسلام ويعده فكرة أن الإِسلام يجدد دين إبراهيم. ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور، ثم أعرضت عنه لما أضلّها به المضلّون، وانصرفت إلى عبادة الأوثان". القرآن هو الذي ينبئنا بأن الإِسلام يهدي إلى الدين الحقال في كان عليه إبراهيم وغيره من الأنبياء، وإذا ذكر إبراهيم -عليه السلام فلأنه أقدم الرسل الذين لم يزل في الأمم من ينتمي إلى شريعتهم، أو لأن نبوته يعترف بها اليهود والنصارى والوثنيون من العرب جميعاً، أو لأن الإِسلام يوافق آداب شريعته أكثر مما يوافق التوراة والإنجيل. فدعوى المؤلف أن تجديد الإِسلام لدين إبراهيم - عليه السلام - فكرة شاعت في العرب أثناء ظهور الإِسلام، إنما هي نزعة من لا يرعى للتاريخ حقاً، ولا يرى للدين حرمة، وكذلك يفعل من يحيى أن خلفه أو بين يديه طائفة تلذ هذه النغمة، وإن كانوا من قوم لا يعلمون. ذكر المؤلف ما جاءت به الرواية من أن أفراداً من العرب قبل البعثة تحدثوا بما يشبه الإِسلام. وقال في (ص 81): "وتأويل ذلك يسير، فهم أتباع إبراهيم، ودين إبراهيم هو الإِسلام. وتفسير هذا من الوجهة العلمية يسير أيضاً، فأحاديث هؤلاء الناس قد وضعت لهم، وحملت عليهم حملاً بعد الإِسلام، لا لشيء،

المعاني الدينية في الشعر الجاهلي

إلا ليثبت أن للإسلام في بلاد العرب قدمة وسابقة". شأن الباحث بجد ألا يكتفي في إنكار رواية أو روايات بدعوى أنها وضعت وضعاً، وحملت حملاً، ثم يسمّي هذه الدعوى تفسيراً لها من الوجهة العلمية. والمؤلف يفعل هذا؛ لأن العلم في نظر هذه الطائفة القليلة التي تدق له الهواء بالتصدية إنما هو أن يقول فيتهكم، والتهكم في نظر هؤلاء السذج خير من العلم؛ وأشد وقعًا على أذواقهم من سبعين برهاناً. إنكار المؤلف لأن يبقى أثر لدين إبراهيم - عليه السلام - في بلاد العرب، مبني على إنكار وجود إبراهيم، أو هجرته وهجرة إسماعيل إلى مكة، وقد عرفت أن هذا الإنكار لم يقم على بحث واستدلال، وإنما هو وليد نزعة لست أعلم بنشأتها وصابغ قلب المؤلف بعصفرها من هؤلاء القراء. أما الذين يريدون أن يكونوا في البحث على بينة، فإنهم يضعون هذه الأشعار وما يتصل بها من الأخبار موضع النقد، فما وجدوا في رواته، أو في ألفاظه، أو في معانيه ما يدل على وضعه، أو يجر إلى ريبة، اطّرحوه، أو ارتابوا في أمره، وما وجدوه سليماً من كل جانب، قبلوه، وتناقلوه. * المعاني الدينية في الشعر الجاهلي: قال المؤلف في (ص 80): "وعلى هذا النحو تستطيع أن تحمل كل ما تجد من هذه الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلى الجاهليين، والتي يظهر بينها وبين ما في القرآن من الحديث شبه قوي أو ضعيف". من شاء أن ينظر إلى قاعدة تمتد إلى غير نهاية، ولا تتصل بما يمسكها أن تزول إلا إرادة هذا المؤلف، فلينظر إلى هذه الفقرة التي تمثل قلماً يشتهي أن يكتب، فينتكس، ويرمي بالحديث في غير قياس.

كل شعر أو خبر أو حديث يضاف إلى الجاهليين، ويكون بينه وبين آية من القرآن شبه قوي أو ضعيف، فهو مصنوع!. أليس من الجائز أن ينطق العرب بحكمة، فيأتي القرآن بهذه الحكمة على وجه أبلغ وأرقى؟!. أمن الحق أن ننكر أن العرب قالوا مثلاً: "القتل أنفى للقتل" لمجرد شبهه بقول القرآن: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]؟!. أو من الحق أن ننكر أن زهيراً قال: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلَّم لأن له شبهاً قوياً أو ضعيفاً بقول القرآن: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]؟!. فإن أراد المؤلف من الشبه: المعاني الدينية، قلنا: هو إذاً يحدثنا برأي (مرغليوث) كأنه يأبى أن يبقي له في ذلك المقال باقية. أورد (مرغليوث) شبهة خلو الأشعار المعزوّة إلى الجاهليين من الصبغة الدينية، وقد سقناها إليكم مع ما يدفعها، ثم قال: نعم، نجد شعراء الجاهليين يقسمون كثيراً في أشعارهم، ولكن كل أيمانهم الواردة في دواوينهم هي بالله، وذكر أن كثيراً من هذه الأشعار تشتمل على عقيدة التوحيد التي تنسب التصرف إلى الله، وعلى أشياء إنما يذكرها القرآن، وأورد شواهد شتى. وقد تعرض المستشرق (إدور براونلش) في مقاله الصادر في "مجلة الأدبيات الشرقية" (¬1) للبحث في هذه الشبهة، فقال: "إن لغة الشعر كانت ¬

_ (¬1) عدد أكتوبر سنة 1926.

معينة ومحصورة، ولهذا قال (كاسكل) في كتابه المسمّى: "البحث في الشعر العربي الجاهلي" (¬1): إن الشعر لم يذكر اسم معبود لقبيلة، بل اكتفى بذكر الحظ والطالع والتمائم؛ لأنها كانت معتقدهم جميعاً". واسم الله، وإن لم يكن بمعنى التوحيد الوارد في الإِسلام، كان فوق أرباب جميع القبائل، ولا يختلفون في الاعتقاد به، راجع كتاب (ولهوزن) المسمّى: "بقايا الوثنية العربية" (¬2)، وعليه: فليس من المستغرب أن نرى اسم الله كثيراً ما يذكر في لغة الشعر الجاهلي، وليس لنا أن نعد البيت مزوراً لمجرد اشتماله على ذكر الله، أو الإله. أما الأبيات التي ذكرت فيها عبارات قرآنية، والتي ذكر لنا منها (مرغليوث) بعض الأمثال، فيصح لنا أن نأخذ فيها بملاحظة (الورد) في كتابه "حقيقة الشعر الجاهلي" (¬3)، و (ليال) في ملاحظته على شعر عمرو بن قميئة، وهي: "يجب علينا أن نفحص موضع البيت من القصيدة؛ لنعلم صلتها بأقوال الشاعر المنسوبة إليه". ثم قال: "ليس من الممكن أن أذكر كل المواضع التي ذكرها (مرغليوث)، وقال: إنها إسلامية، فللإنسان أن يدققها ويفندها". ولعلك تزداد خبرة بن المؤلف يملأ حوصلته من كتب المستشرقين، ويرفع بها رأسه متطاولاً على الشرقيين تطاول من لا يبالي عاقبه الافتضاح. وسنتعرض لهذا البحث تارة أخرى؛ فإن المؤلف أعاده فيما تحدث به عن شعر عبيد. ¬

_ (¬1) (ص 54) طبع سنة 1926. (¬2) (ص 184) سنة 1887. (¬3) (ص 27).

شعر أمية بن أبي الصلت

* شعر أمية بن أبي الصلت: طعن المؤلف في القرآن بملء فمه، وعلى قدر ما يرضي شركاءه، وتذكر -والشيء بالشيء يذكر-: أن المستشرق (كليمان هوار) كان قد زعم في فصل نشرته له "المجلة الآسيوية": أنه استكشف مصدراً جديداً للقرآن وهو شعر أمية بن أبي الصلت. أسهب المؤلف في حديث ذلك المقال، ونفخ فيه من روح تلك الدعاية المبيتة، وإنما خالفه في وثوقه بصحة هذا الشعر المنسوب إلى أمية بن أبي الصلت. ومن رغبت إليه نفسه في أن يريها باطلين يتباريان في الهجوم على حق، فلينظر إلى حديث (هوار)، والمؤلف عن شعر أمية بن أبي الصلت. يشق (هوار) بصحة ما يعزى إلى أمية بن أبي الصلت من الشعر، ويزعم أنه من المصادر التي امشمد منها النبي - عليه الصلاة والسلام - القرآن. ورأى المؤلف أن الاعتراف بصحة الشعر المعزؤ إلى أمية يضر بنظرية إنكار الشعر الجاهلي، وهو له في تقرير هذه النظرية مآرب ترجح على مارب القول بأن من مصادر القرآن شعر أمية بن أبي الصلت، ولا سيما بعد أن حدّثك بلسان المستشرقين: "أن القرآن تأثر باليهودية والنصرانية، ومذاهب أخرى بين بين كانت شائعة في البلاد العربية وما جاورها". فالمؤلف لم يخالف (هوار) في زعم أن شعر أمية من مصادر القرآن، إلا بعد أن أراك أنه في غنى عن شعر أمية، بما قصه عليك من تأثر القرآن باليهودية والنصرانية، ومذاهب أخرى بين بين. ولا ندري كيف غاب عن المؤلف أن يوافق (هوار) في صحة شعر أمية حتى يستفيد شبهة على القرآن، ثم ينكره؛ جمعاً لشمل نظرية الشك في الشعر

شبهة أن للقرآن مصادر من اليهودية والنصرانية

الجاهلي، وما عليه إلا أن يقول لتلك الطائفة القليلة المستنيرة: اعتقدوا أن هذا شعر أمية بقلوبكم حتى تتنكر للقرآن، وأنكروه بعقولكم حتى ينتظم شمل نظرية الشك في الشعر الجاهلي! وإذا وجد في أبناء الأربعين من تقبّل منه مثل هذا الهذيان، وتحدث به في مجلس ينبغي ألّا تسمع فيه لاغية، أفلا يقبله الأطفال الذين يخرج لهم المنكر من طريق الحق، فيضربون أيمانهم على شمائلهم، ويرجّون له الهواء بالتصدية رجّا؟!. * شبهة أن للقرآن مصادر من اليهودية والنصرانية: ما يقوله المستشرقون، ويحكيه عنهم المؤلف؛ من أن للقرآن مصادر، هي: اليهودية، والنصرانية، ومذاهب بين بين، ليس بشبهة جديدة، ولا هو "من النتائج العلمية القيمة" التي انتهوا إليها على مناهج النظر الصحيح. لا نزدري الغربيين وعلومهم الغزيرة، وإجادتهم النظر في الماديات، وما تنتظم به مرافق الحياة ووسائل العمران الذي نشهده بأبصارنا، ونلمسه بأيدينا، ولكنهم لم يبلغوا أن يمتازوا بالثقافة في كل علم حتى المباحث التي لا يتوقف إدراك حقائقها إلا على ذكاء الباحث، وصفاء بصيرته. فإن كان المؤلف يضع قلبه بين أصابع المستشرقين، ويملأ جرابه من حقائب المستشرقين، ويستهوي تلك الطائفة باسم المستشرقين، فإن للناس بصائر تأبى لهُم أن يُقلدوهم في الفرق بين الحق والباطل، والفصل في أسباب السعادة والشقاء، ولا سيما بعد أن رأوا فيهم صفواً وكدراً، ونظاماً وخللاً، وأدباً وسفهاً، وذكاءً وبلهًا، وسلاسة وتعسفاً. من درس حال الثقات من علماء الحديث والآثار، لا يمتري في أنهم يروون الأحاديث والآثار بأمانة، ولا يخطر على بالهم أن يكتموا من السيرة

النبوية صغيراً أو كبيراً. دخل في الرواية الوضع لأسباب بسطناها في مقدمة "المغني عن الحفظ"، أما أن يعمد الرواة إلى أن يحذفوا من السيرة النبوية ما وقع إلى أسماعهم، فذلك ما لا يتصوره العارف بحقيقة الرواية. فمن توجه قصده إلى شيء يتصل بالسيرة النبوية، فليبحث عنه في كتب الآثار، وتاريخ عهد النبوة، فإنه يجد فيها الموثوق بروايته ما أمكن للجاهلين والمنافقين إلصاقه بأكمل الخليقة، ويرى قواعد أهل الحديث كيف تعمل في الروايات، فتدفع هذه الرواية إلى اليمين، والأخرى إلى الشمال. ليس في الروايات صحيحها وأساطيرها أثر يدل على أن النبي - عليه الصلاة والسلام - بارح مكة قبل البعثة، وغاب عن قومه، إلا ما روي من خروجه مع عمه أبي طالب إلى الشام خطرة، وسفره في تجارة لخديجة بنت خويلد خطرة أخرى. فلا يستقيم لأحد ادعاء أنه تعفم القراءة، ودرس التوراة والإنجيل مدة مغيبه عن مكة وقومُه لا يشعرون، فإن لسفر التجارة أياماً معدودة لا تكفي لدرس ديانة أو ديانتين، لا سيما بعد أن تطّرح منها أوقات الاشتغال بشأن التجارة، وما حال المسافرين للتجارة منا ببعيد. ولا يصح لأحد أن يدعي أنه - عليه الصلاة والسلام - تعلم كتب اليهود والنصارى، ومذاهب بين بين في مكة، وعلى مرأى من قومه، إذ لو وقع شيء من هذا، لم يجيء في القرآن آيات تصفه بعدم القراءة والتلقي من البشر، ولو جاءت هذه الآيات، وكان قد تعلم من يهودي أو نصراني، لم يجد من قومه وعشيرته الذين رأوه يقرأ ويتعلم أنصاراً إلى الله يؤمنون به، ويجلسون بين يديه كأنما على رؤوسهم الطير.

ولا يصح أن يكون - عليه الصلاة والسلام - قد تعلَّم كتب اليهود والنصارى، ومذاهب بين بين في خلوة، وعلى حين غفلة من قومه، فإن تلقي بعض الكتب في خفاء قد يمكن للرجل الغريب في مدينة لا يعرفه فيها إلا بضعة أشخاص يلاقونه في الشهر، أو في الأسبوع، أو في اليوم مرة أو مرتين، أما رجل ذو عشيرة، وذو مزايا تلفت له الأنظار، وتجذب له القلوب؛ كمحمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ينشأ في بلدة لها طرق محدودة، وبيوت معدودة كمكة، فليس من المقبول أن يتمكن من التردد على مواطن يختلي فيه بيهودي أو نصراني دون أن يشعر به أحد من قومه أو عشيرته الأقربين. وليس من المعقول أن يقال: قد وقعت إلى يده نسخة من التوراة، وأخرى من الإنجيل؛ لأنهما لم يخرجا إلى لسان العرب بعد، ولا يقرؤهما إلا من درس اللغة العبرية، ولو درس النبي - عليه الصلاة والسلام - تلك اللغة، وعرف كيف يقرأ حروفها الهجائية، لما عرج القرآن على وصفه بالأمية، ولما ظل النبي - صلوات الله عليه - يتلو آياتها، والناس يشهدون ويؤمنون. إن رجلاً له أولو قربى يجاورونه، وطائفة من غيرهم يعرفونه أو يصادقونه، لا يمكنه أن يتعلم علماً أو لساناً دون أن يشعر له أحد منهم، ولو اجتهد في أن يكتم أمره، ويسد في وجوههم كل سبيل. هذا شأنه قبل البعثة، أما زعمُ تعلّمه لما في التوراة والإنجيل، ومذاهب بين بين بعد قيامه بالدعوة، فبطلانه أشد بداهة، إذ لا يلائم حكمه القائم بتلك الدعوة المؤزّرة بكل جد وحزم أن يجادل اليهود والنصارى، ويشتد بينه وبينهم الخصام، ثم يطلب لديهم علم التوراة والإنجيل، ولو طلب لديهم ذلك، لأقام في سبيل دعوته عقبة كؤوداً، فقد أصبح بعد ظهوره

بالدعوة مرموقاً بكل لحظ، مشاراً إليه بكل كان، ولا سيما بعد أن استجاب له طائفة يجلسون إليه بالعشيّ والإبكار. ومن الباطل على البداهة أن يأخذ علوم هذه الأديان عمّن أسلم من أهلها، ثم يجيء بها في القرآن على أنها وحي يوحى، ولو جرى شيء من هذا، لكان سبباً لارتداد الطائفة التي أخذ عنها، أو الطائفة التي سمعته يحاورها، ولو وقع ارتداد على هذا الوجه، لوجدنا له في الرواية أثراً. قصّ علينا القرآن قول بعض الذين أشركوا: إنه ساحر، وقول آخرين: إنه مجنون، وقول طائفة ثالثة: إنه شاعبر، وأضاف إلى هذا قول بعضهم [إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ] [النحل: 103]، وأورد هذه المزاعم استخفافاً بأقوال يعلم العارفون بنشأة النبي - عليه الصلاة والسلام - وأطوار حياته أنها إفك مفترى، كما يعلم الذين أوتوا الحكمة والروية أن صاحب هذه الآيات الباهرات، والسيرة التي تتمخض الأيام بما يشبهها، بريء من أن يقول على شيء: هو من عند الله، وما هو من عند الله. ولو كان المقام للبحث عن دلائل النبوة، لأتيناك بالحقال في تتسلل من ساحته هذه المطاعن والمغامز لواذاً. ولو سلمنا أن ما جاء في القرآن من الأحكام والأنباء المتصلة بالتوراة والإنجيل قد يكفي فيه لقاء الصدفة، أو الاستماع إلى من يتحدث به على قارعة الطريق، لكان في دلائل النبوة ما يصدع بأن تلقّي النبي - عليه الصلاة والسلام - بعْض هذا القرآن من لدن بشر، غير واقع، وغير محتمل لأن يكون. قد يجيء القرآن على وجه التذكرة والموعظة بنبأ يعلمه الناس من قبل، ولكنه لا يقول إلا حقاً، ولا يحكي إلا واقعاً، ومن زعم أنه يعظ بالقصص

قصة النهي عن رواية شعر أمية بن أبي الصلت

الباطلة، فإنما هو الطعن بمكيدة، والله لا يهدي كيد الخائنين. ولا بأس بأن يكون القرآن موافقاً للتوراة والإنجيل في بعض الشراع أو الأنباء، بل تكون هذه الموافقة حجّة على صدق الدعوة، وعلى أن هذه الأحكام أو القصص من بقايا الوحي الذي نزل على موسى وعيسى - عليهما السلام -، وإنما يخل بصحة الكتاب أن يشرع أحكاماً وسنناً لا ترضى العقول الراجحة عن حكمتها، أو يأتي بقصة تردها الطرق العلمية من حس أو عقل، أو رواية قاطعة، والقرآن بريء من مخالفة الطرق العلمية، ومن كل وجه يخلّ بالحكمة، إلا في نظر من يرى أن السعادة في الخلاعة، وأن راحة الضمائر في الجحود بمبدع الخليقة. * قصة النهي عن رواية شعر أمية بن أبي الصلت: ذكر المؤلف: أنه يقف من شعر أمية وقفته من شعر الجاهليين جميعاً، وأنه يشك في صحة شعره؛ كما شك في صحة شعر امرئ القيس، والأعشى، وزهير، ولم يكن لهم من النبي موقف أمية. ثم قال في (صحيفة 84): "ثم إن هذا الموقف يحفلني على أن أرتاب في شعر أمية بن أبي الصلت؛ فقد وقف أمية من النبي موقف الخصومة، هجا أصحابه، وأيد مخالفيه، ورثى أهل بدر من المشركين. وإن كان هذا وحده يكفي لينهى عن رواية شعره، وليضيع هذا الشعر كما ضاعت الكثرة المطلقة من الشعر الوثني الذي هُجي فيه النبي وأصحابه". لا يكتفي المؤلف بالبحث عن الروايات الشاذة والموضوعة، فيحشرها في هذا الكتاب، حتى يضيف إليها استنباطات لا تجيء من ناحية التعقل، ولا يكتفي بهذه الاستنباطات حتى يضع بجانبها روايات لم تشتمل عليها

صحيفة، وقد رأيتم كيف قال لكم في الحديث عن واقعة الحرّة: إنه قتل فيها ثمانون من أهل بدر. وآخرُ من مات من أهل بدر سعد بن أبي وقاص (¬1)، وقد توفي قبل وقعة الحرّة لإجماع، لم يكتف المؤلف بهذه الجنايات العلمية، فحاول أن يستنبط شيئاً في النهي عن رواية شعر أمية؛ ليثبت أن هذا الشعر المعزّو إلى أمية ليس منه في شيء، يقول هذا، وفي "الجامع الصحيح" للإمام مسلم: عن عمرو بن الشريد عن أبيه، قال: ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فقال: "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ " قلت: نعم. قال: "هيه". فأنشدته بيتاً. فقال: "هيه"، حتى أنشدته مئة بيت. فهذا الحديث الصحيح يدل على أن النبي - صلوات الله عليه - سمع شعر أمية، واستحسنه، واستزاد المنشد منه حتى بلغ مئة بيت، ولم يرد أثر في النهي عن رواية شعره إلا ما يوجد في مثل كتاب "الأغاني" من أنه - عليه الصلاة والسلام - نهى عن رواية القصيدة التي رثى بها أمية قتلى قريش في وقعة بدر. ولو صحّ هذا الأثر، لكان النهي مقصوراً على هذه القصيدة، أو يأخذ معها ما فيه هجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، أما أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره قد نهى عن رواية شعر أمية بإطلاق، فمن أحاديث المؤلف التي لا يشهد بها واقع، ولا يقتضيها معقول. على أنا نجد هذه القصيدة -التي يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن روايتها- واردة في بعض كتب السير والمغازي، وقد رواها ابن هشام في نحو ثلاثين بيتاً، وقال: "تركنا منها بيتين نال فيهما من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). ¬

_ (¬1) "فتح الباري" للحافظ ابن حجر (ج 7 ص 222). (¬2) "السيرة" (ج 2 ص 64).

انتحال شعر أمية بن أبي الصلت

* انتحال شعر أمية بن أبي الصلت: قال المؤلف في (ص 86): "ونحن نعتقد أن هذا الشعر الذي يضاف إلى أمية بن أبي الصلت وإلى غيره من المتحنفين الذين عاصروا النبي، أو جاؤوا قبله إنما انتحل انتحالاً. انتحله المسلمون ليثبتوا -كما قلنا- أن للإسلام قدمة وسابقة في البلاد العربية". جاءت الرواية الصحيحة بأن أمية كان يصوغ شعره في شيء من التوحيد، وفي رواية الإِمام مسلم لحديث عمرو بن السَّبِّريد المسوقة آنفاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حين سمع شعر أمية: "كاد ابن أبي الصلت أن يسلم"، فما يروى من شعر يعزى إلى أمية، وفيه تحنف، محتمل لأن يكون ثابتاً عنه، وليس من أدب البحث التسرع إلى الحكم بانتحاله لمجرد ما فيه من التحنف، وإنما ينظر فيه كشعر خال من هذا المعنى، فإن لم نصل إلى الطعن في نسبته إلى أمية من طريق اللفظ أو المعنى أو الرواية, جاز لنا أن نكتبه في ديوان أمية، ونقول عند إنشاده: هذا الشعر لأمية. * الإِسلام والسيف والجزية: تحدث المؤلف عن حال اليهود، واستعمارهم جزءاً من البلاد العربية، ثم تحدث عن النصارى، وكيف انتشرت ديانتهم في بعض بلاد العرب. ثم قال في (ص 87): "ويظهر أن قبائل من العرب البادين تنصرت قبل الإِسلام بأزمان تختلف طولاً وقصراً. فنحن نعلم -مثلاً-: أن تغلب كانت نصرانية، وأنها أثارت مسألة من مسائل الفقه. فالقاعدة أنه لا يقبل من العربي إلا الإِسلام أو السيف، فأما الجزية، فتقبل من غير العرب. ولكن تغلب

قبلت منها الجزية، قبلها عمر فيما يقول الفقهاء". يتحدث المؤلف في مسائل دينية؛ ليظهر للقراء أنه درس الشريعة؛ حتى يطمئنوا لما يقوله عن الإِسلام في غير إخلاص. يقول المؤلف: القاعدة أنه لا يقبل من العربي إلا الإِسلام أو السيف. يقف القارئ في هذه الفقرة وقفة متردد، ولا يدري هل هذا المؤلف يتكلم في الدين مجتهداً لنفسه، أو مقلداً لذوي الاجتهاد، أو كاجنبي يحكي قاعدة في الإِسلام، وليس له به صلة اجتهاد أو تقليد؟. نحن نعلم أن ليس للمؤلف من صلة اجتهاد أو تقليد بالإِسلام؛ لأن كلاً من الاجتهاد والتقليد لا يقوم إلا على الإيمان بالقرآن، وشرط هذا الإِيمان أن يدخل من ناحية العقل، لا أن يذهب من اليد أو الأذن إلى القلب رأساً، وقد رأيتم المؤلف كيف يعبث حول القرآن، والقرآن قول فصل وما هو بالهزل، إذاً ليس هو بذي اجتهاد، ولا ذي تقليد. وإذا كان يتكلم في الدين بلسان أجنبي عن الدين، فالأجنبي لا يقرر قاعدة يعزوها إلى الإِسلام إلا أن يكون مجمَعاً عليها، أو تكون من المواضيع التي تواردت عليها كلمة الجمهور. وأنت إذا نظرت إلى قاعدة المؤلف، وهو أن العربي لا يقبل منه إلا الإِسلام أو السيف، لم تجدها فيما أجمعوا عليه، ولا فيما تواردت عليه كلمة الجمهور. فالشافعية يقولون: تقبل من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجمًا (¬1)، والحنفية يقولون: لا يقبل من مشركي العرب إلا الإِسلام أو السيف، وتقبل من أهل الكتاب من العرب ومن سائر كفار ¬

_ (¬1) "فتح الباري" للحافظ ابن حجر.

الإسلام إصلاح لكل مزاج منحرف

العرب الجزية (¬1)، والحنابلة يقولون: تقبل من أهل الكتاب والمجوس، عرباً كانوا أم عجماً (¬2). والمروي عن مالك: أن الجزية تقبل من جميع المخالفين إلا من مشركي العرب، وقال ابن القاسم: إذا رضيت الأمم كلهم بالجزية، قبلت منهم (¬3). وكذلك يقول الأوزاعي، وفقهاء الشام (¬4). فهؤلاء معظم الأئمة يذهبون إلى أن العرب من أهل الكتاب تقبل منهم الجزية، والقول بأن العربي لا تقبل منه الجزية ولو كان كتابيأ إنما هو رأي أحد الفقهاء، ويعزى إلى أبي يوسف (¬5)، فلا يصح لأجنبي يتحدث عن الإِسلام أن يعبر عنه بالقاعدة. ومتى كان بنو تغلب نصارى، فقبول الجزية منهم وارد على القاعدة، وهي قبولها من أهل الكتاب، عرباً كانوا أم عجماً. * الإِسلام إصلاح لكل مزاج منحرف: قال المؤلف في (ص 87): "تغلغلت النصرانية إذن كما تغلغلت اليهودية في بلاد العرب، وكبر الظن أن الإِسلام لو لم يظهر، لانتهى الأمر بالعرب إلى اعتناق إحدى هاتين الديانتين، ولكن الأمة العربية كان لها مزاجها الخاص الذي لم يستقم لهذين الدينين، والذي استتبع ديناً جديداً أقل ما يوسف به أنه ملائم ملاءمة تامة لطبيعة الأمة العربية". ¬

_ (¬1) "أحكام القرآن" للجصاص. (¬2) "المغني" لابن قدامة. (¬3) "العارضة" لأبي بكر بن العربي. (¬4) "نيل الأوطار" (ج 7 ص 267). (¬5) "روح المعاني" (ج 3 ص 394) ط الأميرية.

تقسيم الشعر الجاهلي

سبر المؤلف مزاج الأمة العربية، فوجده لا يستقيم ليهودية ولا لنصرانية، وظنّ ظناً أكبر أن هذه الأمة ذات المزاج الخاص، لولا الإِسلام، لانتهى بها الأمر إلى إحدى هاتين الديانتين، فمزاج الأمة العربية لم يستقم لليهودية ولا للنصرانية، ولو لم يظهر الإِسلام، لصار مزاجها مستقيماً لإحداهما!. لا يكتفي المؤلف بأن يضع فلسفته في الواقعات، ويذهب في تأويلها إلى غير ممكن، فجعل يفرض انتفاء الواقع، ويخبرك ماذا يكون عند انتفائه! لندعه يتخيل أن الإِسلام لم يظهر، ويتلهى بالحديث عن مستقبل الأمة العربية، ثم يهبها إلى أي دين شاء، فالإِسلام ظهر، والأمة العربية اعتنقته، وسواء عليها أيرضى المؤلف عنها، أم لا يرضى. يزعم المؤلف أن الدين الجديد "يعني: الإِسلام" استتبعه مزاج الأمة العربية، وإنما الإِسلام إصلاح لكل مزاج منحرف، وحقائق يألفها كل ذي بصيرة، وقد اعتنقته أمم غير العرب، ولم يكن تقويمه لأمزجتها بأقل من تقويم مزل الأمة العربية، وما كانت ملاءمته لمداركها السامية بأضعف من ملاعصته لمدارك الأمة العربية، ولم يكن انتشاره بينها بأدنى سرعة من انتشاره بين الأمة العربية، ولم يكن هذا الانتشار معزوّاً إلى كلمة السيف؛ لأن سيف الإِسلام لا يكره الناس على الإِيمان، وإنما يُشهر لحماية الدعوة، وبسط العزّة، ولا عزة إلا بسلطان، أما الدين، فإنما كان يلج في القلوب من طريق القرآن، والدعوة بالحكمة، ومن سيرة الذين يمثلون هدايته تمثيلاً صحيحاً. * تقسيم الشعر الجاهلي: قال المؤلف في (88): "فالأمر كذلك في اليهود والنصارى، تعصبوا

شعر عدي بن زيد

لأسلافهم من الجاهليين، وأبوا إلا أن يكون لهم شعر كشعر غيرهم من الوثنيين، وأبوا إلا أن يكون لهم مسجد وسؤدد كما كان لغيرهم مسجد وسؤدد أيضاً، فانتحلوا كما انتحل غيرهم، ونظموا شعراً أضافوه إلى السموأل بن عادياء، وإلى عدي بن زيد، ولغيرهم من شعراء اليهود والنصارى". قسم المؤلف الشعر الجاهلي كما يشاء، فالشعر المعزوّ إلى الوثنيين انتحله المسلمون، والشعر المعزوّ إلى من كانوا على دين اليهودية انتحله اليهود، والشعر المعزوّ إلى من كانوا يتقلدون النصرانية انتحله النصارى! يقول هذا في هيئة من كان حاضراً مع اليهود، أو مع النصارى حين انتحلوا لشعرائهم، وجاءك توًا يحدثك بما صنعوا! ومن العجب: أن داعية مذهب الشك يتيقن حيث لا يجد الناس إلى اليقين منفذاً!. هل ذكر المؤلف الطريقال في عرف به أن اليهود هم الذين وضعوا الشعر المعزوّ إلى السموأل وغيره من اليهود، وأن النصارى هم الذين وضعوا الشعر المعزوّ إلى عديّ بن زيد وغيره من النصارى؟ وهل لديه من دليل على ما يقول سوى أن أولئك وهؤلاء يشتركون في اليهودية أو النصرانية؟. وإذا كان المسلمون نحلوا الشعر للوثنيين عصبية للقبيلة، فلماذا لم يكن الناحل لمن كان يهودياً أو نصرانياً أحد ذريته، أو أبناء قبيلته من المسلمين؟ ولعل المؤلف ألقى شعر السموأل على اليهود، وشعر عديّ على النصارى؛ مخافة أن يغضبوا إذا هو لم يضرب لهم في هذا الانتحال بسهم. * شعر عديّ بن زيد: قال المؤلف في (ص 88): "ورواه القدماء أنفسهم يحسون شيئاً من هذا، فهم يجدون فيما ينسب إلى عديّ بن زيد من الشعر سهولة وليناً لا يلائمان

العصر الجاهلي، فيحاولون تعليل ذلك بالإقليم، والاتصال بالفرس، واصطناع الحياة الحضرية التي كان يصطنعها أهل الحيرة". نظر القدماء في شعر عديّ بن زيد، ووجدوا فيه سهولة، وعللوا هذه السهولة بوجه معقول، ونقدوه من حيث نسبته إلى عديّ، فعرفوا أن فيه مصنوعاً كثيراً، ونبهوا في كتبهم على هذا كله، قال ابن سلام في "طبقات الشعراء": "وعديّ بن زيد كان يسكن الحيرة ومراكز الريف، فلان لسانه، وسهل منطقه، فحمل عليه بشيء كثير، وتخليصه شديد، واضطرب فيه خلف، وخلط فيه المفضل فأكثر، وله أربع قصائد روائع، وله بعدهن شعر حسن". وذكروا في مميزات شعره أن فيه ألفاظاً ليست بنجدية، قال المرزباني في "كتاب الموشح": "إن الذي قعد بعديّ بن زيد عن شأو الشعراء ألفاظه الحيرية، وأنها ليست بنجدية. وعن المفضل؛ قال: كانت الوفود تفد على الملوك بالحيرة فكان عدفي بن زيد يسمع لغاتهم، فيدخلها في شعره". وروى صاحب "الموشح" عن الأصمعي: أنه قال: "عديّ بن زيد، وأبو دؤاد الإيادي لا تروي العرب أشعارهما؛ لأن ألفاظهما ليست بنجدية". وقال صاحب "الأغاني": لا تروي الرواة شعرهما؛ لمخالفتهما مذاهب الشعراء. فالقدماء نقدوا شعر عديّ بن زيد من هذه الوجوه التي رأيتم، وإنما انفرد عنهم المؤلف بشيء لم يصلوا إليه، على الرغم من كونهم أقرب إلى عهد الانتحال منه، وهو أنه نسب ما حمل على عديّ من الشعر إلى النصارى، وليس له من شاهد سوى الرغبة في أن يضرب للشعر المنحول تحت تأثير عاطفة الدين مثلاً.

انتحال ولد السموأل للشعر

* انتحال ولد السموأل للشعر: قال المؤلف في (ص 89): "ويحدثنا صاحب "الأغاني" بأن ولد السموأل انتحلوا قصيدة قافية أضافوها إلى امرئ القيس، وزعموا أنه مدح بها السموأل حين أودعه سلاحه في طريقه إلى قسطنطينية. ونرجح نحن أن ولد السموأل هم الذين انتحلوا هذه القصيدة التي تضاف للأعشى، والتي يقال: إنه مدح بها شرحبيل بن السموأل في قصته المشهورة مع الكلبي". هذا أبو الفرج الأصبهاني ينقد القصيدة القافية المضافة إلى امرئ القيس، وهذا المؤلف ينقد القصيدة الرائية المضافة إلى الأعشى، وقد أمكنتك الفرصة من أن توازن بين نقد القدماء، ونقد عباد منهج (ديكارت). يقول أبو الفرج في كتاب "الأغاني": "فقال امرؤ القيس: طرقتك هندٌ بعد طول تجنّب ... وهناً ولم تك قبل ذلك تطرقُ وهي قصيدة طويلة، وأظنها منحولة؛ لأنها لا تشاكل كلام امرى القيس، والتوليد فيها بيّن، وما دوّنها في ديوانه أحد من الثقات، وأحسبها مما صنعه دارم لأنه من ولد السموأل، ومما صنعه من روي عنه من ذلك، فلم تكتب هنا". فأبو الفرج يقول: "أظن"، و"أحسب"، ثم يذكر لك مستندات ظنه أن القصيدة منتحلة، وهي عدم مشاكلتها لكلام امرئ القيس، وظهور التوليد فيها، وأنه لم يدونها أحد من الثقات في ديوانه. والمؤلف يقول لك: ونرجح نحن أن ولد السموأل هم الذين انتحلوا هذه القصيدة الرائية التي تضاف للأعشى. يخبرك بما ترجح عنده من انتحال

دون أن يكلف نفسه ذكر الوجه الذي يستند له في هذا الترجيح؛ كأن قلوب القراء طوع بنانه، يرجح الشيء، فتعتقده راجحاً، وينكره، فتعده منكراً. ولعلك تزداد خبرة بقيمة حديثه عن القدماء، وقوله: "ولكن مناهجهم في البحث أضعف من مناهجنا".

القصص وانتحال الشعر

القصص وانتحال الشعر شغل المؤلف هذا الفصل بالحديث عن القصص، فذكر أنه وجدت طائفة تقوم بالقصص، وتعرّض للفرق بين القصص الإِسلامي والقصص اليوناني، وتكلم عن مصادر القصص، ثم انتقل إلى أن القصص لا يزدان إلا بالشعر، وأن القصّاص وضعوا شعراً كثيراً، وأنهم كانوا يستعينون بأفراد ينظمون لهم القصائد، وينسقونها، ثم خرج إلى زعم: أن الناس يعتقدون أن كل عربي شاعر بفطرته، ورجع يعيد حديث ابن إسحاق، وعاد وثمود وحمير وتبع. وذكر أن العلماء الذين فطنوا لأثر القصص في انتحال الشعر قد خدعوا أيضاً، وأورد أبياتاً وأمثالاً وأخباراً على أنها مصنوعة، وختم الفصل بكليات تكاد تأتي على كل ما روي عن العرب قبل الإِسلام. عقد الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتاب "تاريخ آداب العرب" فصلاً بحث فيه عن القصص وأطواره بحثاً شيقاً، ولأمر ما عرّج المؤلف في أوائل هذا الفصل على ما كتب الأستاذ الرافعي، فذكر في (ص 90): أن الذين درسوا تاريخ الأدب لم يقدروا القصص قدره، وقال: "لا أكاد أستثني منهم إلا الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، فهو قد فطن لما يمكن أن يكون من تأثير القصص في انتحال الشعر، داضافته إلى القدماء، كما فطن لأشياء أخرى قيمة، وأحاط بها إحاطة حسنة في الجزء الأول من كتابه "تاريخ آداب

العناية بدرس فن القصص

العرب". ولكن الأستاذ الرافعي أبى إلا أن ينقد كتاب "في الشعر الجاهلي"، ويكف بأسه، ومن لا يدري ما الإيمان ولا الإخلاص، قد يجيء على باله أن يشتري سكوت المؤمنين المخلصين بكلمة مديح وإطراء. والمؤلف كان ينظر في فصله هذا إلى فصل الأستاذ الرافعي، وإلى ما كتبه جرجي زيدان في "تاريخ آداب اللغة العربية"، وفي كتاب "العرب قبل الإِسلام"، وسنريكم بعض ما مد إليه عينه؛ كما أريناكم مواقع نظره من كتب أخرى. * العناية بدرس فن القصص: قال المؤلف في (ص 91): "نقول: إن هذا الفن قد تناول الحياة العربية الإِسلامية من ناحية خيالية خالصة. ونعتقد أن الذين يدرسون تاريخ الأدب العربي لو أنهم عنوا بدرس هذا الفن عناية علمية صحيحة، لوصلوا إلى نتائج قيمة، ولغيروا رأيهم في تاريخ الأدب". ما يدخل في دائرة الأدب من منثور أو منظوم، قد يورده منشئه أو راويه على أنه قصص خيالي؛ كالمقامات، والحكايات المصنوعة على لسان حيوان أو جماد، وقد يورده على أنه أمر واقع، وهذا ما كان علماء الأدب يبحثونه؛ ليميزوا صحيحه من مصنوعه، ولهم بعد البحث ثلاثة أحوال: فإما أن يطمئنوا إلى صحته، ويضعوه بمكان العلم، وإما أن يصلوا إلى أنه مصنوع، ويطرحوه إلى جانب الخيال، وقد يتوعر أمامهم الطريق لمعرفة أن هذا المنثور أو المنظوم حقيقة أو مصطنع، وإذا لم يتضح لهم وجه الحكم عليه بالانتحال، يروونه نظراً إلى ما يحتويه من عبرة أو أدب، وإن لم يكونوا على ثقة من صحته. وهذا النوع هو الذي يمكن تغيره من احتمال الصحة إلى اعتقاد أنه

القرآن يهدي للتي هي أقوم

منتحل، وبالنظر إلى هذا النوع يمكن تغيير الرأي في تاريخ الأدب. من الجائز أن تكون العناية بدرس فن القصص تساعد على العلم باصطناع الأخبار التي كانت محتملة للصحة في نظر القدماء، ولكن المؤلف ممن يتظاهر بمعرفة فن القصص، ونراه حين يحكم بانتحال شعر شاعر أو عصر، أو بأخبار شخص أو جيل، لا يزيد على الإنكار المجرد، وإذا تجاوزه، فإلى شُبه قد تخطر على بال من لم يعن بدرس فن القصص عناية علمية صحيحة. فسلوك المؤلف في نقد الأشعار والقصص هذه الطريقة الساذجة، يجعلنا في ريبة من أن العناية بدرس فن القصص تغير الرأي في تاريخ الأدب إلى أصوب مما كان عليه. * القرآن يهدي للتي هي أقوم: جعل المؤلف يفرق بين القصص الإِسلامي، والقصص اليوناني. حتى قال في (ص 91): "وإن الأول لم يجد من عناية المسلمين مثلما وجد الثاني من عناية اليونان، فبينما كان اليونان يقدسون "الإلياذة"، و"الأوديسا"، ويعنون بجمعهما وترتيبهما، وإذاعتهما عناية المسلمين بالقرآن، كان المسلمون مشغولين بالقرآن وعلومه عن قصصهم هذا". إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، يهدي إلى الحرية الصادقة، إلى العدالة الناصعة، إلى المساواة الخالصة، فيه آداب نفسية، وسنن اجتماعية، وقوانين قضائية، ونظم سياسية، وقد نهض بالمسلمين يوم كانوا يقرؤونه بتدبر، حتى بلغ بهم من العزّة ما رفعهم فوق من يقدّسون "الإلياذة"، و"الأوديسا"، وغيرهم من الأمم درجات. إن القرآن لا يمنع أحداً من أن يتمتع في هذه الحياة بلذائذ لا تأخذ

نظرة علماء العربية إلى الأدب

من شهامته، ولا يعتدي بها على حق، ولا يحجر على أحد أن يرسل نفسه في أنس طاهر، أو يلهو في غير باطل، وإنما يريد الصعود بهذه الأمم إلى أجلى مظاهر السعادة، وأرقى طور في هذه الحياة. جاء القرآن في هذه الحكمة، وفي هذه الهداية، وقام المؤلف يعمل على شاكلة رجل تستوي في نظره فحمة الليل وغزة الصباح، فلا يكاد يأخذ في حديث، إلا خرج منه إلى العبث حول القرآن. * نظرة علماء العربية إلى الأدب: قال المؤلف في (ص 92): "وفي الحق أن الأدب العربي لم يدرس في العصور الإِسلامية الأولى لنفسه، وإنما درس من حيث هو وسيلة إلى تفسير القرآن وتأويله، واستنباط الأحكام منه". قال المؤلف هذا، وعينه تنظر إلى قول الأستاذ الرافعي في "تاريخ آداب العرب" (¬1): "وكانوا جميعاً إنما يطلبون رواية الأدب للقيام به على تصير ما يشتبه من غريب القرآن والحديث". ولكن المؤلف يجعل درسهم للأدب من حيث إنه وسيلة لفهم القرآن هو الذي صرف أصحاب الجد من المسلمين عن القصص الذي "يتقرب من نفس الشعب، ويمثل له أهواعه وشهواته ومثله العليا". والحق أن علماء العربية -وإن نظروا إلى الأدب كوسيلة من وسائل فهم القرآن والحديث- كانوا يبحثون فيه على طريقة أوسع مما يستدعيه غرض التوسل به إلى فهم الكتاب والسنّة، ويكاد الناظر في العلوم الأدبية ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 292).

وضع الأحاديث

يحسب أن القائمين عليها إنما يرمون إلى غاية أوسع، وهي الاحتفاظ بأصول هذه اللغة الراقية وآدابها. فعلماء العربية كانوا يرون أن الاحتفاظ بمعاني التنزيل ومقاصد الشريعة في الاحتفاظ بعلوم اللغة وآدابها، وكانوا -مع هذا- يطلقون أعنتهم في البحث إلى ما يسعه الإمكان، وكان درسهم لآداب اللغة ناظرين إلى أنها وسيلة من وسائل فهم الكتاب الحكيم، لا يقل فائدة عن درسهم لها من حيث إنها آداب لغة راقية. أما عدم احتفال أصحاب الجد من المسلمين بالقصص، فلعلهم كانوا يرون أن في القرآن والحديث، وآثارِ الذين أتوا الحكمة الصادقة ما لو تناوله خطيب، أو محاضر يعرف مزل من يخاطب، ويدري أين يضع بيانه، لرأى الناس أمة يمكنها أن تزن بالواحد منها مدّة من هؤلاء الذين يقرؤون القصص صباحاً، ويشهدون مجامعها عشياً. * وضع الأحاديث: ذكر المؤلف أن للقصص أربعة مصادر: أولها: القرآن، وما يتصل به من الأحاديث والروايات. ثانيها: ما كان يأخذه القصاص عن أهل الكتاب. ثالثها: ما كانوا يستقونه من الفرس. رابعها: ما يمثل نفسية الأنباط والسريان ومن إليهم من الأخلاط. ولا يستطيع المؤلف أن ينسج على منوال الباحث الذي يسوق حديثه إلى غاية واحدة، فانصرف من ذكر المصدر الثاني. إلى أن قال في (ص 94): "وليس ينبغي أن ننسى هنا تأثير أولئك اليهود والنصارى الذين أسلموا، وأخذوا يضعون الأحاديث، ويدسونها مخلصين

الشركة القصصية

أو غير مخلصين". مزية علماء الإِسلام في نقد رواة الحديث أوضح من نار على يفاع، ولم يكتفوا في قبول الحديث بتحقق عدالة الراوي، وذهب بهم الاحتياط إلى قواعد أحكموها؛ ليزنوا بها الحديث نفسه، ويستضيئوا بها في تمييز الصحيح من المصنوع. وضع بعض الزنادقة أحاديث ليذهبوا ببهاء حكمة الإِسلام، ووضع بعض الأغبياء أحاديث ليزيدوه خيراً وشاهدَ كمالٍ فيما يزعمون، وبفضل ما عني به العلماء من نقد الرواة، والاحتياط لقبول الأحاديث، بقيت الشريعة محفوظة مما يصنع الماكرون، ومفصولة مما يضيفه إليها أصدقاؤها الجاهلون. وإذا بقي من تلك الأحاديث ما يخطر على ألسنة العامة، وأشباه العامة من الخطباء، فذلك خلل التعليم، وعيب السكوت في موضع النهي عن المنكر، وما إصلاح ذلك الخلل، وعلاج هذا العيب من حماة العلم وأنصار الحق ببعيد. * الشركة القصصية: أعاد المؤلف ما تحدث به ابن سلام عن ابن إسحاق: ثم قال في (ص 95): "أليس من الحق لنا أن نتصور أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يتحدثون إلى الناس فحسب، وإنما كان كل واحد منهم يشرف على طائفة غير قليلة من الرواة والملفقين، ومن النظام والمنسقين، حتى إذا استقام لهم مقدار من تلفيق أولئك، وتنسيق هؤلاء، طبعوه بطابعهم، ونفخوا فيه من روحهم، وأذاعوه بين الناس". انساب المؤلف يتحدث عن القصص، حتى سرت إليه العدوى من

القصّاص، ومسه طائف من الخيال، فجعل يفرض أن هناك شركة مؤلفة باسم القصّاص، ولهذه الشركة مصانع لعمل الأخبار والأشعار، وكل واحد من أعضائها يقوم على مصنع من هذه المصانع، حتى إذا تهيأ مقدار في مصنع التلفيق، بعث به إلى مصنع التنسيق، وبعد أن ينسق في هيئة قصة أو شعر، يأتي أعضاء الشركة القصصية، ويطبعونه بطابعهم، وينفخون فيه من روحهم، ثم يأذنون بإصداره، فيحمل كل عضو ما استطاع، أو ما طاب له، ويذيعه بين الناس. يسمّي المؤلف هذا الحديث الملفق المنسق فرضا، ويزعم أن لديه نصا يجيز له هذا الافتراض، وهو قول ابن إسحاق: "لا علم لي بالشعر، إنما أوتى به، فأحمله". توجد هذه الشركة، ويبقى أمرها سراً مكتوماً إلى أن يجيء المؤلف بعد ألف سنة، فيجد رمزها في قول ابن إسحاق: "وإنما أوتى به، فأحمله". عبارة ابن إسحاق خاصة بالشعر، وقد جاءت الرواية بأنه هو الذي كان يقترح على بعض الشعراء أن يضعوا له أشعاراً تناسب بعض أخبار السيرة. روى الحافظ الذهبي في "ميزان الاعتدال": أن أبا عمرو الشيباني يقول: رأيت أبا إسحاق يعطي الشعراء الأحاديث يقولون عليها الشعر، ونقل عن أبي بكر الخطيب: أن أبا إسحاق كان يرفع إلى شعراء وقته أخبار المغازي، ويسألهم أن يقولوا فيها الأشعار؛ ليلحقها بها. ذلك شأن ابن إسحاق، وقد عرف به بين علماء عصره، ودعوى أن هناك شركة ذات أعضاء وطابع، ولها مصانع للتلفيق، وأخرى للتنسيق،

الشعر في "سيرة ابن هشام"

تحتاج إلى أمارة أوضح دلالة من كلمة قالها ابن إسحاق؛ ليبعد عن نفسه تبعة اصطناع الشعر. فالمؤلف يتخيل أشياء، ويطمئن لها، ويشغلك بالحديث عنها, ولا عجيب أن يطمئن لما يتخيل، فقد حكى أبو عثمان الجاحظ: أنه رأى حجّاماً بالكوفة يحجم بنسيئة إلى الرجعة؛ لشدة إيمانه بها. وإذا كان المؤلف يستخرج من كلمة ابن إسحاق أن هناك شركة قصصية، ويتحدث عنها بما سمعتم، فماذا يكون حالنا حين نرى هذه الكتب التي تؤلف، والمقالات التي تنشر، والمحاضرات التي تلقى، والمجالس التي تعقد، وكلها تنطق بلسان المتهالك في الحقد على الإِسلام؟! "أفليس من الحق لنا أن نتصور أن هؤلاء" الملحدين المائقين "لم يكونوا يتحدثون إلى الناس فحسب، وإنما كان كل واحد منهم يشرف على طائفة غير قليلة من الرواة والملفقين، والنظام والمنسقين، حتى إذا استقام لهم مقدار من تلفيق أولئك، وتنسيق هؤلاء، طبعوه بطابعهم، ونفخوا فيه من روحهم، وأذاعوه بين الناس"؟!. * الشعر في "سيرة ابن هشام": قال المؤلف في (ص 96): "وأنت تدهش إذا رأيت هذه الكثرة الشعرية التي تنبثّ فيما بقي لنا من آثار القصّاص. فلديك في "سيرة ابن هشام" وحدها دواوين من الشعر". للمؤلف أن يسمّي ما احتوته سيرة ابن هشام من الشعر: دواوين، ولنا أن نسميها: نصف ديوان؛ فإن كل ما في السيرة من شعر لا يتجاوز نصف ديوان ابن الرومي، أو نصف ديوان مهيار.

الأمة العربية ليست كلها شاعرة

* الأمة العربية ليست كلها شاعرة: قال المؤلف في (ص 96): "وكثرة هذا الشعر الذي صدر عن المصانع الشعرية في الأمصار المختلفة أيام بني أمية وبني العباس كانت سبباً في نشأة رأي يظهر أن القدماء كانوا مقتنعين به، وأن الكثرة المطلقة من المحدثين ليست أقل به اقتناعاً، وهو أن الأمة العربية كلها شاعرة، وأن كل عربي شاعر بطبعه وسليقته، يكفي أن يصرف همه إلى القول، فإذا هو ينساق إليه انسياقاً". لا أرى أحداً يعتقد أن كل عربي شاعر بطبعه وسليقته، وإنما هي أسباب نظم الشعر تهيأت لهم، وسيّرته بألسنتهم، حتى صاغوه في كثير من المعاني المبذولة، والمخاطبات المعتادة. ومن هذه الأسباب ما يرجع إلى سعة اللغة؛ من كثرة المترادفات، وأضراب المجاز والكنايات، ومنها ما يرجع إلى سعة الخيال، وحرية الفكر المكتسبتين من حياتهم في أوطان لا تعلوها سلطة قاهرة، أو قوانين مرهقة. ويضاف إلى هذا: ما ثبت بطرق لا تحوم عليها ريبة، من أن العرب يكبرون الشعر، ويرفعون الشاعر إلى أسمى منزلة، وإحراز الشعر لهذه الحظوة مما يدفع الأذكياء منهم إلى التنافس في إجادة صنعه، ويدعو العامة إلى الاقتداء بهؤلاء، ولو على وجه التشبه بهم في إلقاء الكلام مقيداً بالوزن والقافية. فليس كل العرب، ولا أكثرهم يقول الشعر الذي يغوص على حكمة، أو يأخذ في الخيال مذهباً، وليس ببعيد أن يكون كثرهم على استعداد لإيراد الكلام في صور النظم المنتهي بقافية، ولا سيما حيث تكون معرفة الطبقات بمفردات اللغة وأصول تأليفها متقاربة.

وكيف يقتنع القدماء وأكثر المحدثين بن الأمة العربية كلها شاعرة، وهذا ابن سلام يقول عن إسحاق: "فكتب في السير من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط"؟. وما كانوا يرون أن كل عربي يصرف همه إلى القول، فإذا هو ينساق إليه انسياقاً، فهذا ابن جني يقول في كتاب "الخصائص": (¬1) "وليس جميع الشعر في القديم مرتجلاً، بل قد يعرض لهم فيه الصبر عليه، والملاطفة له، والتلوم على رياضته وإحكام صنعته نحو ما يعرض لكثير من المولدين". وروى الأصمعي في شرح ديوانه: أن ذا الرمة يقول: "من شعري ما ساعدني فيه القول، ومنه ما أجهدت فيه نفسي (¬2) ". وروى أن زهيرًا كان ينظم القصيدة في شهر، وينقحها في سنة، وكانت تسمى قصائده: حوليات زهير (¬3). ويروون عن العجاج أنه قال: لقد قلت أرجوزتي التي أولها: "بكيت والمحتزن البكي" وأنا بالرمل، فانثالت عليَّ قوافيها انثيالاً، وإني لأريد اليوم دونها في الأيام الكثيرة، فما أقدر عليه. وقال الفرزدق: أنا عند الناس أشعر الناس، وربما مرت علي ساعة ونزعُ ضرسي أهون علي من أن أقول شعراً. إذا كان القدماء هم الذين رووا لنا هذه الآثار الدالة على أن من العرب من لم يقل الشعر قط، وأن منهم من ينظم القصيدة في شهر، أفيسوغ اتهامهم ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 330). (¬2) "خزانة الأدب" (ج 1 ص 379). (¬3) "خزانة الأدب" (ج 1 ص 376).

بأنهم يعتقدون أن الأمة العربية كلها شاعرة؟!. ولعل المؤلف استند فيما اتهم به القدماء إلى مقال أنشاه الجاحظ في بيان مزايا العرب، داليك بعض هذا المقال (¬1): "وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكرة، ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو لبعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراع، أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف همه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتاتيه المعاني إرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً". ونحن ندفع هذا بأنه كلام الجاحظ، وليس الجاحظ إلا واحداً من القدماء، وإن سلمنا أن الجاحظ هو كل القدماء، فهو إنما يرد على الشعوبية، فكان مقاله بمنزلة خطبة، أو قصيدة أنشئت للمديح والفخر، وهم يجيزون في فن المديح من المبالغة ما لا يجيزون مثله للكاتب الذي يبحث في التاريخ. ثم إن الجاحظ لم يقل: كل عربي شاعر، وإنما قال: كل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، ويكفي لصدق هذا أن يكون شاعرهم ينظم ارتجالاً، ومن يخطب ولا يشعر يلقي الخطبة ارتجالاً، ويشهد بما نصف قوله في كتاب "البيان والتبيين" (¬2): "وفي الشعراء من يخطب، وفيهم من لا يستطيع ¬

_ (¬1) البيان والتبيين. (¬2) (ج ص 117).

شعر الإمام علي

الخطابة، وكذلك حال الخطباء في قرض الشعر". وقال: يندر في العرب من لا يستطيع الشعر (¬1). ولا يبقى في كلام الجاحظ بعد هذا إلا المبالغة في قوله: كل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال. حيث أضاف الحالة الغالبة على العرب، وهي البديهة والارتجال إلى كل ما لهم من قول منظوم أو منثور. * شعر الإمام علي: قال المؤلف في (ص 97): "ولدينا نصوص قديمة تدلنا على أن العرب لم يكونوا جميعاً شعراء، فكثيراً ما حاول العربي قول الشعر فلم يوفق إلى شيء. وقد طُلب إلى النبي في بعض المواقف التي احتاج المسلمون فيها إلى الشعر أن يأذن لعليّ في أن يقول شعراً يرد به على شعراء قريش، فأبى النبي أن يأذن له؛ لأنه لم يكن من ذلك في شيء، وأذن لحسّان". يحكم المؤلف بخطأ القدماء -علمائهم وعامتهم- في رأي، ويستشهد على تخطئتهم بنصوص قديمة لا يمكن تناولها إلا من أيديهم!. وما استشهد به من قصة علي - رضي الله عنه - لا يجديه في الموضوع نقيراً؛ إذ متى وجد الاعتقاد بأن كل عربي شاعر، فمعناه أن كل عربي يستطيع الإتيان بالكلام منظوماً، وهذا لا يستلزم القدرة على التصرف في المعاني، وقوة الخيال في مناظرة الشعراء البارعين ومفاخرتهم، ثم إن الشعراء الممتازين يتفاوتون في قوة العارضة، وحكمة الأسلوب، والتلاعب بالمعاني. فمن الجائز أن يكون عدول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن علي بن أبي طالب إلى حسّان بن ثابت؛ ¬

_ (¬1) "البيان والتبيين" (ج 2 ص 164).

الشعر المنسوب إلى قائل غير معروف

لأن علياً لم تكن منزلته في الشعر بالتي تؤهله لأن يقف أمام الشعراء الذين هاموا في كل واد، وذهبوا في صناعة الشعر كل مذهب. وهذا ما نفهمه من مساق القصة نفسها، فإن طلب الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن لعلي في أن يقول شعراً، يومئ بطرف غير خفي إلى أن له في نظم الشعر سابقة. واتفق الرواة على أن للإمام علي شعراً، وإنما يختلفون في مقدار ما ينسب له، فمنهم من يبلغ به إلى ديوإن (¬1)، ومنهم من يرجع به إلى بيتين، قال المازني: لم يصح أنه تكلم بشيء من الشعر غير هذين البيتين وهما: تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربّك ما بروا ولا ظفروا فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات ودقين لا يعفو لها أثر وقال المبرد في "الكامل": ومن شعر علي الذي لا اختلاف فيه: يا شاهد الله عليَّ فاشهد ... إني على دين النبي أحمد من شك في الله فإني مهتد وهذا النظم وإن كان من الرجز قريب المأخذ، يدل على أن صوغه الكلام في غير الرجز من الأوزان ليس ببعيد. * الشعر المنسوب إلى قائل غير معروف: قال المصنف في (ص 97): "فهذا أضفت إلى ما قدمنا: أنك تجد كثيراً من الشعر يضاف إلى قائل غير معروف، بل غير مسمّى، فتراهم يقولون مرة: قال الشاعر، وأخرى: قال الأول، وثالثة: قال الآخر، ورابعة: قال رجل ¬

_ (¬1) يقال: إن هذا الديوان للشريف المرتضى صاحب الدرر والغرر "حسن الصحابة" (ص 102).

من بني فلان، وخامسة: قال أعرابي، وهلم جرّا- نقول: إذا لاحظت هذا كله، عذرت القدماء والمحدثين إذا اعتقدوا أن العرب كلهم شعراء". ثم قال: "وإن أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى غير قائل، أو إلى قائل مجهول، إنما هو شعر مصنوع موضوع انتحل انتحالاً لسبب من هذه الأسباب التي نحن بإزائها، ومنها القصص". قد يضاف الشعر المصنوع إلى قائل غير معروف، أو غير مسمّى، وقد يظن الذي يقرأ شيئاً من كتب الأدب ترويحاً للخاطر، وتسلية للنفس: أن هذا الشعر غير مصنوع. أما أهل العلم، فإنهم لا يثقون بما يمر على أسماعهم من شعر ينسب إلى قائل غير معروف، أو غير مسمّى، وإنك لتجدهم يأخذون في شرط الاحتجاج بالشعر أن يكون قائله معروفاً بأنه عربي فصيح، فهذا ابن الأنباري يقول في كتاب "الإنصاف": "لا يجوز الاحتجاج بشعر أو نثر لا يعرف قائله؛ مخافة أن يكون ذلك الكلام مصنوعاً، أو لمولَّد، أو لمن لا يوثق بكلامه". وأورد ابن النحاس في "التعليقة" بيتاً استشهد به الكوفيون على جواز إظهار "أن" بعد "كي"، وقال في ردّه: إن هذا البيت لا يعرف قائله. وأورد شطر بيت استشهد به الكوفيون أيضاً على جواز دخول اللام في خبر "لكن"، وقال في ردّه عن هذا البيت: لا يعرف قائله، ولا أوله، ولم يذكر منه إلا هذا، ولم ينشده أحد ممن وثّق في اللغة، ولا عُزي إلى مشهور بالضبط والإتقان. وأورد الفراء شاهداً على خفض ياء المتكلم في نحو كاتبيَّ، فردّه الزجّاج، وقال: ليس يعرف قائل هذا الشعر من العرب، ولا هو مما يحتج به في كتاب الله تعالى. وكثيراً ما يهمل المؤلفون اسم قائل البيت المستشهد به، إما لشهرته، أو لأنه مروي لشاعرين، أو لنسيانه وقت التأليف، مع الوثوق بأنه مسموع من العرب، وكتاب سيبويه مملوء

الشعر الصادر عن العرب

بالشواهد التي لم تضف إلى قائل باسمه، وكان أكثرها معروفاً لعلماء العربية في عصره. قال الجرمي: "نظرت كتاب سيبويه، فهذا فيه ألف وخمسون بيتاً، فأما الألف، فقد عرفت أسماء قائليها، فأثبتها، وأما الخمسون فلم أعرف أسماء قائليها". والتحقيق: أن الشعر الذي يعرف قائله يحتجون به في اللغة، ويعتدّون به في التاريخ، وما لا يعرف قائله، ويسمع من عربي مطبوع يحتجون به في اللغة، ولا شأن له في التاريخ إلا حيث ينظر فيه من وجهة أدبية عامة، وما لا يعرف قائله، ويرويه غير الفصيح بفطرته يطرحونه جانباً، ولا يعولون عليه في لغة ولا تاريخ، إلا أن ينشد في سمر، أو مجلس أنس؛ لأنه أدب، وكذلك كانوا يفعلون. فقول المؤلف: إن أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى غير قائل، أو إلى قائل مجهول، مصنوع موضوع انتحل انتحالاً، إن أراد الشعر المسوق في الكتب على أنه من أدب اللسان، فما يدعيه محتمل، والناس يقرؤون هذا النوع من الشعر، ولا يأخذون أنفسهم بشرط الثقة من صحته. وإن أراد ما تحتويه كتب اللغة أو النحو من الشواهد، فهذا كثره معزوّ في الواقع إلى قائله، وبعض ما لم يسمّ قائله قد سمعه الثقات من العرب الذين يحتج بمنطوقهم، فلا يضره ألّا يعرف قائله، بل لا يقدح في الاستشهاد به أن لو كان هذا العربي الناطق به انتحله انتحالاً. * الشعر الصادر عن العرب: قال المؤلف في (ص 98): "كرة هذا الشعر الذي احتاج إليه القصّاص

إنكار رواية ابن إسحاق للشعر

لتزدان به قصصهم من ناحية، وليسيغها القراء والسامعون من ناحية أخرى، خدعت فريقاً من العلماء، فقبلوها على أنها صدرت عن العرب حقاً". هذا ينظر إلى قول الأستاذ الرافعي في "تاريخ آداب العرب" (¬1): "فلما كثر القصّاصون وأهل الأخبار، اضطروا من أجل ذلك أن يضعوا الشعر لما يلفقونه من الأساطير، حتى يلائموا بين رقعتي الكلام، وليحدروا تلك الأساطير من أقرب الطرق إلى أفئدة العوام"، ولكن الأستاذ الرافعي لم يقل: خدعت فريقاً من العلماء، أو قبلوها على أنها عربية حقاً؛ فإن شأن أهل العلم ألا يقبلوها شعراً على أنه صادر عن العرب حقاً، إلا أن يأمنوا لروايته، ويملؤوا أيديهم من الوثوق بصحته، ولكنهم قد يقبلون شعراً، ويتناقلونه على أنه أضيف إلى العرب حقاً، لا على أنه صادر عنهم حقاً، وقد كان المؤلف يستشهد بقصص وشعر لم يرهما إلا في كتاب "الأغاني"، فهل قبل تلك القصص على أنها وقعت حقاً، وأن تلك الأشعار صدرت عن أربابها حقاً؟ لئن كان ذلك شأنه، فأقلّ ما يصفه به القراء: أنه من هذا الفريقال في ينخدع، ويقبل الشعر على أنه صادر من العرب حقاً. * إنكار رواية ابن إسحاق للشعر: ذكر المؤلف أن بعض العلماء فطنوا لما في هذا الشعر من تكلف، أو سخف وإسفاف، وفطنوا إلى أن بعضه يستحيل أن يكون قد صدر عمن ينسب إليهم، وعدّ في سلك هؤلاء العلماء: محمد بن سلام. وقال في (ص 98): "وآخرون غير ابن سلام أنكروا ما روى ابن إسحاق ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 375).

مقدرة القدماء على النقد

وأصحابه القصّاصون، نذكر منهم: ابن هشام الذي يروي لنا في "السيرة" ما كان يرويه ابن إسحاق، حتى إذا فرغ من رواية القصيدة، قال: وأكثر أهل العلم بالشعراء، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة، أو ينكرها لمن تضاف إليه". هذا الشعر الذي رواه ابن إسحاق قد أفرغ العلماء فيه أنظارهم، فنقدوا ابن إسحاق نفسه، وقد سقنا إليكم آنفاً شيئاً من أقوال علماء الأدب في شأنه، وتناوله النقاد من علماء الحديث، فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه، ومنهم من طعن في صدقه وأمانته، وكادوا يتفقدن على عدم الثقة بما يرويه من الشعر. قال ابن معين: "ما له عندي ذنب إلا ما قد حشا في السيرة من الأشياء المنكرة المنقطعة، والأشعار المكذوبة" (¬1). إذاً، ما يرويه ابن إسحاق من الشعر مرتاب في صحته، وقد نفى ابن هشام وغيره قسماً عظيماً منه، ودخل في حساب المنتحل المصنوع، والباقي لا يبرح مكان الريبة إلى أن ينقده المؤلف أو غيره بنظر هادئ، ويرينا كيف اهتدى إلى أنه مصنوع انتحل انتحالاً. ومن الشعر الذي رواه ابن إسحاق، ولم يتعرض لنقده ابن هشام قصيدة: "يا راكباً إن الأثيل مظنة" المنسوبة لقتيلة ابنة النضر، فقد قال الزبير بن بكّار في "النسب": "إن بعض أهل العلم ذكر أنها مصنوعة" (¬2). * مقدرة القدماء على النقد: قال المؤلف في (ص 99): "ولكن هؤلاء العلماء الذين فطنوا لأثر ¬

_ (¬1) "ميزان الاعتدال" للحافظ الذهبي. (¬2) "الطبقات الكبرى" لابن السبكي (ج 1 ص 133).

القصص في انتحال الشعر خدعوا أيضاً؛ فلم يكن صناع الشعر جميعاً ضعافاً، ولا محمقين، بل كان منهم ذو البصيرة النافذة، والفؤاد الذكي، والطبع اللطيف، فكان يجيد الشعر، ويحسن انتحاله وتكلفه، وكان فطناً يجتهد في إخفاء صنعته، ويوفّق من ذلك إلى الشيء الكثير". يعرف الناس أن في العلوم قطعيات، وفيها ظنيات تتفاوت. ومن الظن ما يقوى حتى يقرب من اليقين، ومنه ما يضعف، فيكاد يتصل بالشك. ويعلمون أن من أصول العلم ما لا يعتد به إلا إذا قام على يقين، ومنها ما يكفي فيه الظن القريب من العلم، ومنها ما يكفي فيه احتمال الثبوت، ولو لم يرجح على الشك إلا بمثقال ذرة، والعلوم الأدبية لا تأبى أن يكون في مسائلها شيء من هذا القبيل. فإذا قبل بعض أهل العلم شعراً يضاف إلى العرب، فليس معنى هذا القبول أنهم تيقنوا أو ظنوا ظناً قريباً من العلم أن هذه الإضافة صحيحة، بل لأنهم نقدوه، فلم يتراء لهم دليل على وضعه، وأصبح احتمال الوضع إزاء احتمال الصحة أخف وزناً. وإذا خطر على بالهم أن يكون الراوي ماهراً في التظاهر بالاستقامة، وبارعاً في تقليد الشعر العربي إلى حيث يخفى على الناقد النحرير، أعرضوا عن هذا الخاطر؛ لأنه يفضي إلى رفض كل أثر أدبي لم يجيء من طرق متعددة. يعلم كثير الملاحظة لما يؤثر عنهم في نقد الشعر: أنهم كانوا يرددون أنظارهم في الأشعار القديمة والحديثة، حتى يتربى لطائفة منهم أذواق تفرق بين شعر هذا العصر وذاك العصر، وتميز بين نسج النابغة -مثلاً-، ونسج حسّان بن ثابت، وتدرك أن هذا أرسلته القريحة بفطرتها، وهذا عمدت إلى

أن تحاكي به طريقة شاعر بعينه. وهذا الطريق من النقد لا يسهل على كل من حفظ الأشعار، أو بحث في غريبها وإعرابها، وإنما يستطيعه في كل عصر طائفة درست منشآت البلغاء، وتقلبت في فنون البيان أطواراً، وألقت على منظوم كل شاعر نظرات خاصة، حتى تعرف نزعته، وتدري كيف يأخذ في تأليف الألفاظ، وفي أيّ صورة يركبها، فيستطيع المضي في هذا الطريق من النقد أمثال: الأصمعي، والجاحظ، وأبي الفرج الأصبهاني، وإذا قالوا في وصف أحد أهل العلم كما قالوا في أبي الخطاب الأخفش: "وكان أعلم الناس بالشعر، وأنقدهم له" (¬1)، فإنما يقصدون -فيما أحسب- هذا الفن من النقد بوجه خاص. وإذا كان القدماء في هذه المقدرة على صناعة النقد، وأضفنا إليها عنايتهم بالنظر في حال الراوي، ذهبنا في ظننا أن هذا الشعر الذي يعزوه الرواة الثقات إلى الجاهلية، ولم ينقدوه بنظر خاص أو بوجه عام، هو من الجاهلية في شيء، وأريد من الوجوه العامة للنقد أمثال طعنهم في أمانة بعض الرواة، وتنبيههم على عدم الثقة بنسبة شعر إلى من قدم عهده في الجاهلية، فكل ما ينسب لقديم العهد في الجاهلية يعد في نظرهم مرتاباً فيه، بل قد يسميه بعضهم: منحولاً، وشاهد هذا: أنهم قالوا: إن سيبويه قد يمتنع من تسمية الشاعر؛ لأن بعض الشعر يروى لشاعرين، وبعضه منحول لا يعرف قائله؛ لقدَم العهد به (¬2)، وقد عرفتم أن سيبويه وغيره يستشهدون بهذا النوع من ¬

_ (¬1) "الموشح" (للمرزباني). (¬2) "الخزانة" (ج 1 ص 178).

قصة الزباء

الشعر حيث يسمع من العرب الخلّص، وما يسمع من العربي القحّ لا يتوقف الاستشهاد به على معرفة اسم قائله في الواقع. * قصة الزبّاء: قال المؤلف في (ص 101): "وقلْ مثل هذا في هذا الشعر الذي يضاف إلى جذيمة الأبرش، وفي كل ما يتصل بجذيمة وصاحبته الزبّاء، وابن أخته عمرو بن عديّ، ووزيره قصير. فليس لهذا كله إلا أصل واحد، وهو تفسير طائفة من الأمثال ذكرت فيها أسماء هؤلاء الناس كلهم أو بعضهم". قال المؤلف هذا، ثم ساق الأمثال الواردة في القصة، متجاهلاً أن الناس نقدوها من قبله، وقد طرحها بعضهم إلى القصص الملفقة أو المشوهة. اقرأ العدد العاشر من السنة الأولى لمجلة "المشرق"، تجد به رسالة في تاريخ سلطانة تدمر: زينوبيا، أو الزباء، لأحد اليسوعيين، وتجده يقول في الحديث عنها: "غير أن أخبارها المتداولة بين العامة ليست إلا أقاصيص من حديث خرافة، لا تكاد تطابق ما ينبئنا عنه التاريخ الصحيح، وقد اعتنى بجمع تلك الحكايات (كوسين دي برسفال) في كتاب "تاريخ عرب الجاهلية"، فذكر فيه كل ما أورده مؤرخو العرب في شأن ملكة تدمر، واختلقوه في سيرتها من ضروب الخرافات وأنواع الترهات". وتعرض في تعليق بأسفل الصحيفة إلى الأمثال التي استخرجها العرب من قصة الزباء. وقال جرجي زيدان في كتاب "العرب قبل الإِسلام" (¬1): وللباحثين مناقشات في الزبّاء هذه: هي زينوبيا ملكة تدمر، أم هي غيرها؟ وممن يرى أنها غيرها المستشرق ¬

_ (¬1) (ص 89).

أخبار العرب وآدابهم

الإنكليزي (ردهوس)، وله في ذلك رسالة ضافية. فالقصة تناولها كتاب الغرب والشرق، والمؤلف يحدثك بها في هيئة نحو من البحث جديد. * أخبار العرب وآدابهم: قال المؤلف في (ص 103): "والرواة أشد انخداعاً حين يتصل الأمر بالبادية اتصالاً شديداً، وذلك في هذه الأخبار التي يسمونها: أيام العرب، أو أيام الناس، فهم سمعوا بعض هذه الأخبار من الأعراب، ثم رأوها تقص مفصلة مطولة، فقبلوا ما كان يروى منها على أنه جد من الأمر". كذلك قال جرجي زيدان في كتاب "تاريخ آداب اللغة العربية": "إذا أمعنا النظر فيما خلفه العرب من أخبارهم وآدابهم، وجدناه لا يخلو من التمثيل بأعم معانيه .... وقد وصل إلينا في قالب القصص والحقائق التاريخية، لكن كثره في نظرنا موضوع، أو كان له أصل، فوسعوه وطولوه ونمقوه؛ ليكون عبرة أو قدوة في الموقف المطلوب". لا أحسب أولئك الذين كانوا يتوهمون أن المؤلف باحث جديد إلا قوماً يستمعون إليه، وهم عن كتب الأدب القديم والحديث غافلون. * حرب البسوس: قال المؤلف في (ص 104): "فحرب البسوس، وحرب داحس والغبراء، وحرب الفساد (¬1) وهذه "الأيام" الكثيرة التي وضعت فيها الكتب ¬

_ (¬1) كذا في كتاب الشعر الجاهلي، ولا نعرف في أيام العرب ما يسمى يوم الفساد، ولعلها محرفة عن يوم النسار، أو الفجار.

عاد وثمود

ونظم فيها الشعر ليست في حقيقة الأمر -إن استقامت نظريتنا- إلا توسيعاً وتنمية لأساطير وذكريات كان العرب يتحدثون بها بعد الإِسلام". ذكر جرجي زيدان في كتاب "تاريخ آداب اللغة العربية" مجموعة عمر ابن شبة التي سماها: الجمهرة، وقال: "هي تشتمل على حوادث عديدة، أكثرها وقع بين ربيعة وغيرهم، لكن المطالع يتبين من مواقف كثيرة: أن هذه الأخبار متوسطة بين التاريخ والقصة"، ثم ذكر أن من تلك المجموعة: حرب البسوس، وقال: "وهي قصة قائمة بنفسها، استغرقت مئة صفحة كبيرة، يتخللها حوادث عنترية، وحماسات ومبارات ومناشدات، وغير ذلك"، ثم قال: "ومن هذا القبيل: كتاب بكر وتغلب ابني وائل، وفيه خبر كليب وجسّاس، والقصة أقرب إلى التاريخ منها إلى الرواية؛ لأنها تشتمل على وقاع لها ذكر في التاريخ، وقد زاد فيها المؤلف قصائد وتفاصيل نظنها خيالية". وهل يبقى بعد هذا لقول المؤلف: "إن استقامت نظريتنا" من قيمة!. * عاد وثمود: كتب المؤلف في القصص، ولم يأت بجديد، وإنما مدّ يده إلى ما تحدَّث به الكتّاب من قبله، وسماه نظرية له، ثم انهال علينا بكليات عرضُها ما بين اليمامة وحضر موت. فقال في (ص 104): "كل ما يروى عن عاد وثمود، وطسم وجديس، وجرهم والعماليق موضوع لا أصل له". المقدار الذي قصه القرآن في هذا السبيل؛ كخبر عاد وثمود، قد جاء محمولاً على سواعد الحجج الناطقة بنبوة محمد - عليه الصلاة والسلام -،

تبع وحمير وسيل العرم

وما يقبل من ناحية هذه الحجج إنما يأخذ من النفوس مأخذ المقطوع بصحته، ولا يستطيع العلم والمنطق لمخالفته طلباً. أما ما جاء من طريق الرواية، فذلك منتهى ما وصلت إليه أيدي الرواة، فما لاحت فيه أمارة الوضع، طرحوه، وما لم يروا في نقده وجهاً يقتضي إنكاره، دوّنوه وتناقلوه. وللمؤلف أن يبحث فيما سكتوا عنه، وينقده بطريق علمي غير هذه الآراء التي جمع شملها بعد شتات، وغير هذه الكليات المرمية عن غير بحث واستقراء. وقد تحدث قبله جرجي زيدان عن مثل عاد وثمود، فقال في كتاب "العرب قبل الإِسلام" (¬1): "وأكثر مبالغات العرب في القبائل البائدة، حتى سبق إلى أذهان المحققين من غير المسلمين أنها موضوعة، ولولا ورود بعضها في القرآن والحديث، لقال المسلمون ذلك أيضاً. على أن ورود أسمائها وبعض أخبارها في كتب اليونان وغيرهم أثبت وجودها، وجاءت الاكتشافات الأثرية بما يؤيد ذلك، مع إظهار المبالغة في روايات العرب". * تبع وحمير وسيل العرم: قال المؤلف في (ص 104): "وكل ما يروى عن تبع وحمير، وشعراء اليمن في العصور القديمة، وأخبار الكهان، وما يتصل بسيل العرم، وتفرق العرب بعده، موضوع لا أصل له". أما تبع، فقد قال ابن خلدون: "وفي أنساب التبابعة تخليط واختلاف، لا يصح منها ومن أخبارها إلا القليل" (¬2). وتكلم جرجي زيدان في تاريخ ¬

_ (¬1) (ص 9). (¬2) (ج 2 ص 44).

تبع وحمير، ثم قال: "وأكثره مبالغ فيه، وبعضه أقرب إلى الخرافات منه إلى الحقائق" (¬1). هذا كلام القدماء والمحدثين في تبع وحمير، وقد فضلهم المؤلف بصوغ العبارة في قالب الكلية؛ كأنه كان على مسمع ومرأى من تلك العصور القديمة، ثم بعث اليوم من مرقده، وعرف أن كل ما يروى عن تبع وحمير لا يوافق شيئاً مما كان يَسمع وَيرى!. وأما سيل العرم، فقد ذكره الله تعالى في القرآن، وقد شاهد الهمداني في أوائل القرن الرابع للهجرة أنقاض سد العرم، "وكان يقرأ المسند ويفهمه، فوصف تلك الأنقاض مع تطبيقها على قول القرآن، وهذان القولان أصدق ما جاء عن خبر هذا السد، وأكثر مطابقة لما وجده النقابون الذين اكتشفوا آثار ذلك الخزان في القرن الماضي" (¬2). ولو اعتاد المؤلف البحث عن الحقائق بإخلاص، لتحامى أن يحكم عن تاريخ أمة بأن جميعه موضوع لا أصل له، وأنت إذا نثلت كنانته، لم تجد عنده من شبهة سوى ظهور الوضع في بعضه، أو في كثير منه. * * * ¬

_ (¬1) "العرب قبل الإِسلام" (107). (¬2) "العرب قبل الإِسلام" (ص 51).

الشعوبية وانتحال الشعر

الشعوبية وانتحال الشعر يرجع حديث المؤلف في هذا الفصل إلى نتيجتين: الأولى: أن الشعوبية انتحلوا من الشعر ما فيه عيب للعرب، وغضّ منهم. والثانية: أن الذين كانوا يعتنون بالرد على الشعوبية قد أجابوهم بلون من الانتحال. أما النتيجة الأولى، فإنك لا تجد لها في حديثه سوى مقدمتين: أولاهما: أنه وجد على ظهر الأرض طائفة تبغض العرب يقال لها: الشعوبية. والثانية: أن في الشعوبية شعراء، منهم: أبو العباس الأعمى، وإسماعيل ابن يسار، فيكون تأليف القياس هكذا: بعض الناس شعوبية، وبعض الشعوبية شعراء، وكل شاعر شعوبي ينتحل شعراً جاهلياً، النتيجة: الشعوبية من أسباب انتحال الشعر الجاهلي. إذاً عنوان "الشعويية وانتحال الشعر" عنوان مستقيم، ولكن القائم على قانون المنطق يرى أن انتحال الشعر الجاهلي غير لازم للشعوبية، لا عقلاً، ولا عادة، ولم يقم المؤلف دليلاً على التلازم بينهما، بل لم يأت برواية تدل على أن بعض الشعوبية انتحل شعراً جاهلياً.

قصة إسماعيل بن يسار

وأما النتيجة الثانية، فليس لها من مقدمات، سوى أن طائفة كالجاحظ انتصروا للعرب، وردوا على الشعوبية، وأوردوا في هذا الصدد شعراً جاهلياً، وقد قلنا لكم: إن علماء العربية يعدون الجاحظ ممن لا يوثق بروايتهم، فإذا انفرد لإنشاد شعر جاهلي، نقلوه على وجه الأدب، دون أن يعولوا عليه في لغة أو تاريخ. ولا حق لنا مع هذا أن نسمي ما يرويه مصنوعاً ومنتحلاً لمجرد وقوعه في سبيل الرد على الشعوبية، بل لا بد من النظر فيه كشعر لم يقع في سياق الرد على هذه الطائفة، إذ من المحتمل أن يقوم الشعر الثابت وحده بالرد عليهم، ولا يحتاج إلى أن يضم إليه اختلاق وانتحال. * قصة إسماعيل بن يسار: ذكر المؤلف: أن إسماعيل بن يسار من الطائفة التي تزدري العرب، وتستغلّ ما بينهم من الخصومات السياسية لحاجاتها وأهوائها، ووقف يتلو على القراء قصة تشهد بأنه أصيل في بغض بني أمية. فقال في (ص 108): "فاستأذن يوماً على الوليد بن عبد الملك، فأخره ساعة، حتى إذا أذن له، دخل عليه يبكي". وساق القصة الواردة في الجزء الرابع (¬1) من كتاب "الأغاني" حتى أتى على آخرها. كنا نحسب أن من يؤلف كتاباً يملؤه بازدراء أهل العلم، ولا يفتأ يرميهم بعدم التثّبت في الرواية، يأخذ نفسه بالتحفظ من الوقوع في مثل ما يشهِّرهم به. ولكن المؤلف بلي بقلم أينما يوجهه لا يأتي بخير، فالقصة ¬

_ (¬1) (ص 120).

شعر الأعشى، وعدي بن زيد

مأخوذة من "الأغاني"، وصاحب الأغاني يقول: "استأذن إسماعيل على الغمر بن يزيد بن عبد الملك يوماً، فحجبه ... إلخ"، وإذا كان الوليد بن عبد الملك لا يسمّى "الغمر"، والغمر بن يزيد لا يسمّى: "الوليد"، كان المؤلف مخطئاً في زعمه: أن واقعة إسماعيل كانت مع رجل يسمّى: "الوليد ابن عبد الملك". * شعر الأعشى، وعدي بن زيد: قال المؤلف عن الشعوبية ما شاء أن يقول، واغترف من كتاب "الأغاني" قصصًا عن أبي العباس الأعمى، وإسماعيل بن يسار، وقصارى ما تدل عليه هذه القصص: أن الأول كان يهجو آل الزبير، وأن الثاني كان يبغض آل مروان، وله شعر يفخر فيه بالأعاجم، وزعم أنه وصل بهذا إلى ما كان يريده من تأثير الشعوبية في انتحال الشعر، ولكنه لم يستطع أن يضرب لك مثلاً يريك كيف انتحلت الشعوبية شعراً جاهلياً، فضاق بمنهج (ديكارت) ذرعاً، وجهل على هذه القوانين التي ترسم للباحث حدوداً، وأخذ يحدثك عن الموالي. ويقول لك في (ص 111): "فهم أنطقوا العرب بكثير من نثر الكلام وشعره، فيه مدح للفرس، وثناء عليهم، وتقرب منهم. وهم زعموا لنا: أن الأعشى زار كسرى، ومدحه، وظفر بجوائزه، وهم أضافوا إلى عديّ بن زيد، ولقيط بن يعمر، وغيرهما من إياد والعباد كثيراً من الشعر فيه الإشادة بملوك الفرس وسلطانهم وجيوشهم". انظروا إلى أنصار الجديد كيف لا يحترمون ما تسمونه صدقاً، ولا يتألمون من أن يتحدثوا عما يتخيلونه، ويسوقوه إليكم في صورة ما لا يشكون في

أبيات أبي الصلت بن ربيعة

وقوعه! قولوا للمؤلف: بأي أذن سمعت، أم بأيّ ذوق أدركت أن الموالي هم الذين اصطنعوا هذا النثر الذي فيه مدح لكسرى، أو ثناء على الفرس؟. إذا كان الأعشى شاعراً، وجاءت كتب التاريخ والأدب بأنه كان يتردد على ملوك الفرس، أفلا يكفي هذا أمارة على أنه كان يلقي بين أيديهم شعراً، وأن هذا الشعر يشتمل على مديح وثناء؟!. وإذا كان عديّ بن زيد شاعراً، وحدثنا التاريخ بأنه كان يتردد على كسرى، ويتولى الكتابة العربية في ديوانه، أفنستبعد مع هذا أن يأتي في شعره شيء من الثناء على كسرى أو سلطانه؟!. لقد سُلِّطَ هذا المؤلف على شعر الأعشى، فأعطى قسطاً منه إلى اليهود، وقسطاً إلى الموالي، وسُلِّط على شعر عدّي بن زيد، فجعله مقسّماً على النصارى والموالي، ذهب أولئك بشطر منه، وذهب هؤلاء بالشطر الآخر!. إن الذي يريد أن ينفي هذا الشعر عن الأعشى، وعدّي بن زيد، يحتاج إلى أن يدَّعي أنهما اسمان خياليان، أو أنهما لم يكونا شاعرين، أو أنهما لم يتصلا بكسرى، فلا الأعشى تمكّن من زيارته، ولا عدّي بن زيد عمل في دولته. وقد أدرك الأعشى عهد البعثة، ولم يكن عديّ بن زيد منها ببعيد، وقد تواردت كتب التاريخ والأدب على أنهما كانا يفدان على كسرى، فهل للمؤلف أن يناقش في هذا على طريقة النظر الصحيح؟!. * أبيات أبي الصلت بن ربيعة: قال المؤلف في (ص 11): "وهم أنطقوا شاعراً من شعراء الطائف بأبيات رواها الثقات من الرواة على أنها صحيحة لا شك فيها، وهي أبيات

تضاف إلى أبي الصلت بن ربيعة، وهو أبو أمية ابن أبي الصلت المعروف. وقد يكون من الخير أن نروي هذه الأبيات وهي: "لله درهم من عصبة خرجوا" وسرد منها سبعة أبيات تنتهي بقوله: "شيبا بماء فعادا بعد أبوالا" ثم قال: "وقد زاد ابن قتيبة في أوله هذه الأبيات، وهي أبلغ في الدلالة على ما نريد أن ندل عليه، وهي: لن يطلب الوتر أمثالُ ابن ذي يزنٍ ... لجج في البحر للأعداء أحوالا أتى هرقل وقد شالت نعامته ... فلم يجد عنده القول الذي قالا ثم انتحى نحو كسرى بعد تاسعة ... من السنين لقد أبعدت إيغالا حتى أتى ببني الأحرار يحملهم ... أنك عمري لقد أسرعت قلقالا ثم قال المؤلف: "فانظر إليه كيف قدم الفرس على الروم في أول الشعر، وعلى العرب في سائره". إن كان في أول الشعر تقديم للفرس على الروم، فليس في سائره تقديمهم على العرب. أما قوله: "ما إن ترى لهم في الناس أمثالا" فإنما هي مبالغة الشاعر الذي لا يحبس نفسه في حدود الحقيقة، وقد تكون هذه الكلمة تستعمل لذلك العهد -مثلما نستعملها اليوم- للمبالغة في مدح المتحدث عنه من غير قصد إلى تفضيله على كل من سواه، أنستبعد من أبي الصلت -وهو شاعر- أن يقدم هذه الكلمة البالغة في المديح إلى

أبيات إسماعيل بن يسار

أمة ساعدت ابن ذي يزن على طرد طائفة كانت تسعى في قسم من بلاد العرب فساداً؟! وهذا المؤلف -وهو غير شاعر- قد فضل العقلية الغربية على عقلية قومه، ومن فضلت عقليته على آخر، فقد فضلته، أو كدت تفضله عليه في كل شيء، إذن، ينتظر من الجيل القابل أن يذهب إلى أن كتاب "في الشعر الجاهلي" ليس من الدكتور طه حسين في شيء، وإنما أنطقه به بعض المستشرقين. والبيت الأول من الأبيات المأخوذة من كتاب "الشعر والشعراء" وقع في ذلك الكتاب محرّفاً، ونقله أستاذ آداب العرب في الجامعة على تحريفه هكذا: "لن يطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن" وصوابه: "ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن" كما ورد في "تاريخ ابن جرير"، و "سيرة ابن هشام"، و"كتاب الأغاني"، وهو المناسب لمقام التهنئة والمديح، وورد في كتاب الأغاني (¬1) برواية أخرى لا تناقض هذا المعنى، وهي: "لا يطلب الثأر إلا كابن ذي يزن" * أبيات إسماعيل بن يسار: قال المؤلف في (ص 112): "ومن الخير أن نروي أبياتاً قالها إسماعيل ابن يسار في الفخر بالفرس، فسترى بينها وبين الشعر الذي يضاف إلى أبي الصلت ما يحمل على شيء من الشك والريبة. قال: ¬

_ (¬1) (ج 6 ص 75).

إني وجدّك ما عودي بذي خور ... عند الحفاظ ولاحوضي بمهدوم وسرد الأبيات الثمانية الواردة في الجزء الرابع (¬1) من كتاب "الأغاني". تقرأ الأبيات المعزّوة إلى أبي الصلت، وأبيات إسماعيل بن يسار، فتجد الشبه بينهما في شطرين: أحدهما: قول أبي الصلت: "من مثل كسرى وسابور الجنود له" وقول ابن يسار: "من مثل كسرى وسابور الجنود معا" والمشابهة على هذا النحو قد تقع بين الشعرين اللذين يختلف قائلهما، ويسمونه: سرقة، أو استعانة، أو يجعلونه من قبيل توارد الخواطر، متى علم أن أحد الشاعرين لم يطلع على ما نظم الآخر، وليس من اللائق أن يجعل مثل هذا سبباً لإعطاء الشعر المتقدم إلى صاحب الشعر المتأخر. وشطر أبي الصلت جاء كذلك في رواية المؤلف، أما رواية ابن قتيبة في "الشعر والشعراء"، فهي: "من مثل كسرى وباذان (¬2) الجنود له". ورواية ابن جرير في "تاريخه": "من مثل كسرى شاهنشاه الملوك له". وقد سرد ابن هشام في "السيرة" أبيات أبي الصلت، ولم يأت فيها بهذا البيت جملة، وقال: هذا ما صح له مما روى ابن إسحاق منها. ولم يجئ هذا البيت أيضاً في رواية "الأغاني"، وهو على تسليم ثبوته لا يملك من القوة أن يخرج القصيدة من شعر أبي الصلت، ويدخلها في حساب إسماعيل بن يسار. ¬

_ (¬1) (ص 125). (¬2) آخر من قدم اليمن من ولاة العجم.

أما (ثاني الشطرين)، فهو قول أبي الصلت: "بيضاً جحاجحة غرّاً مرازبة" وقول ابن يسار: "جحاجحٌ سادة بلج مرازبة" وقد عرفت أن تشابه القصيدتين في شطر أو شطرين أو أكثر لا يدل على أنهما بنتا قريحة واحدة، وإنما هو الاختلاس، أو الاسترفاد، أو توافق الخواطر، ولو كان اتفاق الشعرين في شطر أو بيت يجيز إضافة السابق إلى ناظم الشعر التالي، لكانت إضافة أبيات أبي الصلت إلى النابغة أولى؛ فإن آخر بيت فيها وهو: تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ ... شيبا بماءٍ فعادت بعد أبوالا مروي في شعر يُعزى إلى النابغة، وقد أراد ابن هشام نفيه من شعر أمية، وإلحاقه بالنابغة، فقال: إلا آخرها بيتاً، فإنه للنابغة في قصيدة له. وقضى به صاحب "الأغاني" (¬1) لأبي الصلت، وقال: إنما أدخله النابغة في قصيدة له على جهة التضمين. ولم يكن بعد هذين الشطرين وجه شبه بين أبيات أبي الصلت وأبيات ابن يسار سوى أن كلا الشعرين مصنوع في بحر الطويل، ومشتمل على شيء من مدح الفرس، ومراعى فيه مقاييس اللغة، وهذه أحوال عامة لا ييلغ التماثل فيها أن ترد به الرواية, وينقل به الشعر من أبي الصلت إلى إسماعيل ابن يسار. ¬

_ (¬1) (ج 16 ص 71).

واقعة ذي قار

* واقعة ذي قار: قال المؤلف في (ص 113): "ثم من هنا هذه الأيام والوقائع التي كانت للعرب على الفرس، والتي تحدث النبي عن بعضها، وهو يوم ذي قار". ينظر القارئ بدقة أو بسذاجة، فلا يجد من مناسبة لهذه الفقرة التي يتهجم بها المؤلف على حضرة صاحب الرسالة، إلا أن ينبت في نفوس طلابه أو قراء كتابه نباتاً سيئاً. ألا يسعه إنكار يوم ذي قار دون أن يقول بعبارته الصريحة: إن النبي تحدث عنه؟! ألا يكون القارئ على حق إذا فهم أن المؤلف اتخذ اسم البحث في العلم برقعاً يغمز ويطعن من ورائه حتى يرضى، وأن هذا البرقع قد ينزاح، فلا يبقى شيء سوى طعن القدم الذي يلذ فتنة القلوب المطمئنة بالإيمان؟. ربما يكون المؤلف قد رأى هذا الأثر في كتب الأدب أو التاريخ, فأضافه إلى الحضرة النبوية كالواثق بصحة روايته، ثم جعل واقعة اليوم كذباً، فالمؤلف يؤمن بهذه الكتب إذا روت حديثاً أو خبراً يبدو له أن يتوكأ عليه في طعن أو غمز، ويرميها بالزور والبهتان إذا نقلت أثراً صالحاً للعرب أو الإِسلام. تشعبت أهواء المؤلف، فتركت أقواله في تخاذل بعيد، فيوم ذي قار من هذه الأيام الموضوعة لإجابة الشعوبية بلون من الانتحال، ويوم ذي قار تحدث عنه النبي! فيوم ذي قار اختلق لعهد الشعوبية، وتحدث عنه النبي قبل اختلاقه. هذا معنى كلامه إن كان يتحدث في تاريخ آداب العرب بلغتهم، وعلى ما تقتضيه قواعد نحوهم وبيانهم، فإن زعم أنه ينطق على الناس بما لا ينطق

علماء اللغة والأدب والكلام والفلسفة

به ذو الجدّ منهم، قلنا له: لا تتعرض لمقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تنطق في هزل أو غير يقظة، فما نحن بتأويل منطق الهزل أو الهذر بعالمين. وقعت واقعة ذي قار بعد ظهور الإِسلام، ومن المؤرخين من يذكر لها وقتاً مسمّى، وهو السنة الثالثة للبعثة (¬1). وإذا احتمل بعض الأخبار المتصلة بها أن يكون مصطنعاً، فإن مجموع الأخبار والأشعار الواردة في طرق شتى، تفيد أن أصل الواقعة، وانتصار العرب على العجم مما لا شك فيه، ونسبة حديث هذا اليوم إلى العرب المضطرين إلى أن يجيبوا الشعوبيين بلون من الانتحال، مدفوعة بن كثيراً من أخباره مروية في "تاريخ ابن جرير"، و"العقد الفريد" عن شعوبي، وهو أبو عبيدة معمر بن المثنّى، فلولا أن خبر ذلك اليوم ثابت على وجه لا يتمكن الشعوبي من إنكاره، لما كان من رواته أبو عبيدة الذي سيعده المؤلف في طبقة صنّاع الأخبار المزرية بشأن الأمة العربية. * علماء اللغة والأدب والكلام والفلسفة: قال المؤلف في (ص 114): "ولعلك تلاحظ أن الكئرة المطلقة من العلماء الذين انصرفوا إلى الأدب واللغة والكلام والفلسفة، كانوا من العجم الموالي، وكانوا يستظلون بسلطان الوزراء والمشيرين من الفرس أيضاً". وبعد أن زعم أن غاية هؤلاء العلماء استحالت من إثبات سابقة الفرس في السلطان إلى ترويج السلطان الذي كسبوه أيام بني العباس، قال: "ومن هنا كان هؤلاء العلماء والمناظرون أصحاب ازدراء للعرب، ونعي عليهم، وغض من أقدارهم". ¬

_ (¬1) "تاريخ ابن خلدون".

في علماء اللغة والأدب للعهد الذي يتحدث عنه المؤلف كثير من العرب، مثل: الخليل بن أحمد، وأبي عمرو بن العلاء، والمفضل الضبي، والأصمعي، ومحمد بن سلام الجمحي، والمبرّد، وابن دريد، وفيهم كثير من بلاد العجم، وليسوا بموال؛ كالزجاجي، وأبي عمرو الهروي، وابن درستويه، وأبي حنيفة الدينوري. وفيهم كثير من الموالي، مثل: سيبويه، والكسائي، والفرّاء، وابن الأعرابي، وأبي عمرو الشيباني. وأنت إذا تقصيت آثار هؤلاء وأمثالهم ممن خدموا اللغة العربية وآدابها بالرواية والتأليف، لا تجد بها سوى روح علمية سامية، ومن قلة الإنصاف في البحث أن يقال عنهم: إنهم كانوا يزدرون العرب، ويغضون من أقدارهم، ولو تبينت هذا الذي جاء به المؤلف لم تجد له من شبهة سوى أن يقول: إن أصلهم عجم، وفي العجم شعوبية، أو يمد يده إلى رجال "حديث الأربعاء"، ويضم طائفة منهم إلى أبي عبيدة، ثم يقول لك: هؤلاء يمثلون الكرة المطلقة من العلماء الذين انصرفوا إلى الأدب واللغة. لا يدري القارئ" ما وجه هذا الحديث عن علماء الكلام والفلسفة في هذا الفصل المعقود للشعوبية وانتحال الشعر، ولا أحسب أحداً يمشي في البحث على هذه الهيئة إلا حيث ينسى الغاية التي يرسمها عنوان الفصل، وينحرف عنها أذرعاً ليقضي حاجة أخرى. قد يوجد في علماء الكلام والفلسفة مثل أبي عبيدة في علماء الأدب واللغة، أما دعوى أن الكثرة المطلقة من الموالي، وأن هذه الكثرة تبغض العرب، أو تستحل الافتراء عليها، فليس للمؤلف بها من سلطان إلا محاولته لأن يصنع لذلك العهد تاريخاً يحمل مساوي لا ترى بينها سريرة طيبة، أو سيرة حسنة.

أبو عبيدة معمر بن المثنى

* أبو عبيدة معمر بن المثنى: قال المؤلف في (ص 114): "فأما أبو عبيدة معمر بن المثنى الذي يرجع العرب إليه فيما يروون من لغة وأدب، فقد كان أشد الناس بغضًا للعرب، وازدراء لهم، وهو الذي وضع كتاباً لا نعرف الآن إلا اسمه وهو: (مثالب العرب) ". كأنَّ المؤلف لا يؤمن بأن أحداً يبغض شخصاً أو حزباً أو شعباً دون أن يفتري عليه كذباً، ونحن نعرف في الشرق والغرب أناساً انعقدت بيننا وبينهم صلة الصداقة والصحبة، وربما كانوا يبغضون أشخاصاً أو جماعات بغضَ المؤلف للعرب بعد الإِسلام، ولكنهم يقدرون فضيلة الصدق، ويحتفظون بلباس المروءة، فلم نلمح في سيرتهم ما يقرب من أمثال هذه المبالغات أو المبتدعات التي يصوغها كتاب "في الشعر الجاهلي"، ويدسها في التاريخ, وهي لا تقبل أن تلجَ في التاريخ حتى يلجَ الجمل في سمِّ الخياط. أنستبعد أن يكون أبو عبيدة من قَبيل هؤلاء الذين يبغضون ولا يفترون، ونذكر اسمه في أسباب انتحال الشعر، دون أن نبحث في سيرته بأناة؟!. قد نقد أبا عبيدة أناس يزنون الرجال بالقسطاس المستقيم، وأذاعوا نتيجة نقدهم له، فقالوا: "كان الغالب عليه الشعر والغريب وأخبار العرب. وكان مخلّاً بالنحو، كثير الخطأ، وكان -مع ذلك- مغرًى بنشر مثالب العرب، جامعاً لكل غثّ وسمين، وهو مذموم من هذه الجهة، وموثوق به فيما يروي عن العرب من الغريب" (¬1). ¬

_ (¬1) أبو منصور الأزهري في مقدمة كتاب "التهذيب".

علماء الموالي والإسلام

فقد حدثوك عن أبي عبيدة بأنه شعوبي يبغض العرب، وينشر مثالبهم، وأروك أنه يجمع في أخبار العرب غثاً وسميناً؛ حتى لا تتلقى كل ما يرويه في هذا الشأن على أنه واقع حقاً، وقالوا لك: إنه ثقة فيما يرويه عن العرب من الغريب، حتى لا ترتاب فيما يجيئك على طريقه من كلم يعزوها إليهم، فقد بلوه وألفوه لا يقول في اللغة كذباً. قالوا: إن أبا عبيدة أوسع علماء عصره رواية لأيام العرب وأخبارها، وأنه كان يجمع الغثّ والسمين، ولم يقولوا كما قال المؤلف: إنه الذي يرجع إليه العرب فيما يروون من لغة وأدب؛ فإن هذا التعبير ظاهر في أن سند اللغة والأدب إنما يتصل به، والواقع أن علماء اللغة والأدب الذين تقدموا أبا عبيدة، أو عاصروه في الطلب، وتلقت عنهم طبقة من بعدهم، ليسوا بقليل، ومن هؤلاء: الخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، وأبو عمرو بن العلاء، والمفضل الضبّي، وأبو زيد الأنصاري والأصمعي، وسيبويه، والكسائي، وأبو عمرو الشيباني، وابن الأعرابي، وأمثالهم. وأخبار أيام العرب كانت تروى من قبل أبي عبيدة، فقد وصفوا قتادة ابن دعامة السدوسي بأنه كان عالماً بأنساب العرب وأيامها، وقالوا: لم يأتنا عن أحد من علم العرب أصح من شيء أتانا عن قتادة (¬1). وقتادة هذا من الرجال الذين أخذ عنهم شيوخ أبي عبيدة. * علماء الموالي والإِسلام: قال المؤلف في (ص 114): "وأما غير أبي عبيدة من علماء الموالي ¬

_ (¬1) "المزهر" (ج 2 ص 171).

ومتكلميهم وفلاسفتهم، فقد كانوا يمضون في ازدراء العرب إلى غير حد، ينالونهم في حروبهم، ينالونهم في شعرهم، ينالونهم في خطابتهم، وينالونهم في دينهم أيضاً. فليست الزندقة إلا مظهراً من مظاهر الشعوبية". من يقف على الحالة العلمية للعهد الأول، ويلم بحياة الرجال القائمين بها من عرب وعجم، يعرف صحة قول ابن خلدون في مقدمته: "إن حملة العلم في الإِسلام أكثرهم العجم"، ويدري بعد هذا: أن الكثرة المطلقة من أولئك العجم كانوا برآء من هذا الذي يدسه المؤلف في صدور طلاب العلم بالجامعة. يقول المؤلف: إن الكثرة المطلقة من العلماء الذين انصرفوا إلى الأدب واللغة والكلام والفلسفة كانوا من العجم الموالي. ويقول: كان هؤلاء العلماء والمناظرون أصحاب ازدراء للعرب، ونعي عليهم، وغضّ منهم، ثم يصف هذه الكثرة المطلقة المؤلَّفة من العجم الموالي بأنهم كانوا يمضون في ازدراء العرب إلى غير حد، وأنهم كانوا ينالون العرب في حروبهم وشعرهم، وخطابتهم ودينهم. قد سردنا عليك أسماء طائفة من هذه الكثرة المطلقة التي يرميها المؤلف بوصمة عدم الإخلاص للعرب أو الإِسلام، ويذهب به الافتيات على التاريخ إلى أن يقول لك: ينالونهم في دينهم. ومن ذا يصدق بن أمثال سيبويه، وأبي عبيد القاسم بن سلام، والكسائي، والفرّاء، وابن الأعرابي، وأبي عمرو الشيباني تنال ألسنتهم أو أقلامهم من دين الإِسلام؟!. ولم تكن الكثرة في علماء الكلام والفلسفة للموالي، وإنما الكثرة المطلقة للعجم، وليس كل العجم موالي، ومن العجم أو الموالي من لا يفضِّل

أعجمياً على عربي إلا بالتقوى. وهذا ابن قتيبة -وهو فارسي- قد كان من أشد أنصار العرب، وأوسعهم بياناً في الرد على الشعوبية، وذلك الجاحظ -وهو من الموالي- قد أنفق "ما يملك من قوة ليثبت أن العرب يستطيعون أن ينهضوا لكل هذه المفاخر الأعجمية، وأن يأتوا بخير منها" (¬1). وليس الإِسلام دين العرب وحدهم، وإنما هو أدب الإنسانية، ونظام الحياة الراقية، وفي العجم والموالي من نصحوا له نصحَ العرب، فجاهدوا في إعلاء كلمته، وأنفقوا ما أوتوا من قوة في بيان حكمته، ولا يغضّ منه إلا من نشأ على غير روية، وأصبح الشر من طرف لسانه قريباً. ليست المسألة نظرية محضة حتى يسهل على المؤلف أن يتحدث فيها باجتهاده المطلق، وإنما هي مسألة تاريخية، والمسائل التاريخية لا يترك فيها المنقول إلى غير منقول. يحكي التاريخ: أن طائفة قامت تنادي بالمساواة بين الشعوب، فسمّوا: "أهل التسوية"، وسمّوا: "الشعوبية"، وربما يغلو بعض أفراد من هذه الطائفة، فيذهب إلى ازدراء العرب، والغضّ من شأنهم، ولا يبلغ ازدراء العرب إلى أن يكون زندقة، وما هو إلا كازدراء التميمي أو الأنصاري لقريش، لا يتجاوز أن يكون هوى غالباً، أو عصبية عمياء، وقد يصف التاريخ بهذه النزعة بعض أشخاص؛ كأبي عبيدة، وإسماعيل بن يسار، وسهل بن هارون. ولا تتعدى هذه الطائفة أن تنال العرب في بعض عوائدهم وشؤونهم القومية، وأكثر ما تمشي في ذمهم إلى أيام جاهليتهم، ولا تجدها تضرب إلى ¬

_ (¬1) كتاب "في الشعر الجاهلي" (ص 115).

ساحة الدين ولو خطوة؛ لأن العجمي والعربي أصبحا فيه على سواء. وحدثنا التاريخ في مقام منفصل عن المقام الذي حدثنا فيه عن الشعوبية: أن هناك طائفة كانت تتظاهر بأنها "تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، وهي منطوية على زندقة، وقد حمل التاريخ أسماء أفراد كانوا يتهمون بهذه النحلة، والزنادقة في كل عصر مظهر الفسوق والمجون، وأول رذيلة يركبون غاربها رذيلة الاختلاق وسوء التأويل، هم يعرفون أن في الإِسلام حكمة وحجة، وأنه أنشأ رجالاً يمثلون الاستقامة والعبقرية في أسمى مظاهرهما، فيصرفون همهم إلى إراءة حقائقه في غير صبغتها، صالى الحديث عن تاريخ رجاله بمبالغات أو مبتدعات هم برآء منها. يضطرب المؤلف فيما يكتب؛ لأنه يحب أن يغير حقائق التاريخ، والحقائق لا تتغير بالأقوال المنسوجة على نظام يقول فيما سلف: إن الأدب العربي لم يدرس في العصور الإِسلامية الأولى لنفسه، وإنما درس من حيث هو وسيلة إلى تصير القرآن وتأويله، واستنباط الأحكام منه ومن الحديث. ويضاهي هذا قولهُ يصف الأمة العربية في رواية "حديث الأربعاء": "كانت تنجذب إلى الوراء بحكم الدين، وبحكم اللغة التي لم تكن كغيرها من اللغات، وإنما كانت لغة دينية، فالاحتفاظ بأصولها وقواعدها، والاحتياط في صيانتها من التطور وآثاره السيئة واجب ديني، لا سبيل إلى جحوده" (¬1). يقول هذا وذاك، ثم لا يجد مانعاً من أن يقول لك: إن الكثرة المطلقة ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 11).

الشعوبية والزندقة

من علماء الأدب واللغة من الموالي، وإن هؤلاء الموالي كانوا ينالون العرب في دينهم. فعلماء الأدب كانوا يدرسون الأدب لفهم الكتاب، والسنّة، والكثرة المطلقة من علماء الأدب واللغة كانون يطعنون في ذلك الكتاب، وتلك السنّة! ولعلهم كانوا يجعلون الأدب وسيلة إلى فهمهما؛ لأنهم مسلمون بقلوبهم، وينالون منهما نكاية بالعرب؛ لأنهم غير مسلمين بعقولهم، ومتى استقامت للمؤلف نظرية توزيع الآراء والعقائد على العقول والقلوب، تمكن من أن يجمع الإيمان والكفر في نفس، أو يريك البياض والسواد في نقطة!. * الشعوبية والزندقة: قال المؤلف في (ص 144): "وليس تفضيل النار على الطين، وإبليس على آدم، إلا مظهراً من مظاهر الشعوبية الفارسية التي كانت تفضل المجوسية على الإِسلام". الشعوبية طائفة تنفي فضل العرب على غيرهم، أو تبغض العرب، وتفضل العجم، وقد يتحقق هذا المعنى في نفولص قوم مسلمين. والزندقة خلل في العقل، ومرض في القلب، وقد يختل عقل العربي، ويعتل قلبه، فترى عربياً زنديقاً، كما ترى شعوبياً مسلماً. وقد يجمع الرجل بين إنكار الدين وبغض العرب، فيكون زنديقاً شعوبياً، ولكل واحدة من هاتين النزعتين آثار خاصة، فآثار الشعوبية: جحود فضل العرب، أو تتبع مثالبهم، وآثار الزندقة: التهكم بالشرائع، والطعن في حكمتها. وتفضيل النار على الطين وإبليس على آدم ينسبونه إلى بشار بن برد. إذا صحت نسبته إليه، فهو أثر من آثار الزندقة، والزندقة غير الشعوبية.

خير العلم ما حمل عن أهله

* خير العلم ما حمل عن أهله: قال المؤلف في (ص 116): "ونحن نعلم حق العلم أن الخصومة حين تشتد بين الفرق والأحزاب، فأيسر وسائلها الكذب. كانت الشعوبية تنتحل من الشعر ما فيه عيب للعرب، وغضّ منهم". لا نفتح باب البحث مع المؤلف في قوله: إن الخصومة إذا اشتدت بين الأحزاب فأيسر وسائلها الكذب، فقد كان قلم المؤلف مستعملاً في هذا السبيل، وليس الذي يحدثك عن شيء أجهدَ فيه خياله كمن ينظر إليه بمكان بعيد، "وخير العلم ما حمل عن أهله". وإنما نشك في أن الشعوبية انتحلت من الشعر ما فيه عيب للعرب، وغضّ منهم، ويزداد شكّنا حينما نقرأ هذا الفصل المعد لهذا الغرض، ولا نجد لانتحال الشعوبية مثلاً قائماً، ولو كان تحت يد المؤلف أمثال قريبة، لما تجاسر على أبيات أبي الصلت، أو أمية بن أبي الصلت، وحاول إلحاقها بإسماعيل بن يسار. * انفراد الجاحظ بالرواية: قال المؤلف في (ص 116): "إن الخصومة بين العرب والعجم دعت العرب وأنصارهم إلى أن يزعموا أن الأدب العربي القديم لا يخلو، أو لا يكاد يخلو من شيء تشتمل عليه العلوم المحدثة، فإذا عرضوا لشيء مما في هذه العلوم الأجنبية، فلا بد من أن يثبتوا أن العرب قد عرفوه، أو ألموا به، أو كادوا يعرفونه ويلمون به. ومن هنا لا تكاد تجد شيئاً من هذه الأنواع الحيوانية التي عرض لها الجاحظ في كتاب "الحيوان" إلا وقد قالت العرب فيه شيئاً قليلاً أو كثيراً، طويلاً أو قصيراً، واضحاً أو غامضاً، يجب أن يكون للعرب قول في كل شيء، وسابقة في كل شيء".

نعْرض هذه الجمل على أنظار القراء؛ ليزدادوا خبرة بأن قلم المؤلف يقع في مبالغات يغبطه عليها الشعراء. للعرب في الجاهلية نصيب من العلم، ومبلغ من الحكمة، ولا نرى في هذا الشعر الذي يعزى إليهم شيئاً فوق ما يسعه علمهم، أو تبلغه حكمتهم، ولا تحسبوا المؤلف وقف على أشعار تضاف إلى الجاهلية، وهي تشتمل على معان من هذه العلوم المحدثة، ولعلكم تنثلون كنانته، فلا تجدون فيها سوى أن الجاحظ يقول في كتاب "الحيوان" (¬1): "وكل معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة، وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين، إلا ونحن قد وجدنا قريباً منه في أشعار العرب والأعراب، ومن أهل لغتنا وملتنا, ولولا أن يطول الكتاب، لذكرت لك الجميع". فهذا هو الذي يحوم عليه المؤلف -فيما أحسب- وقد رأيتم أن كلام الجاحظ يختص بباب معرفة الحيوان، ويتناول الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها، وقلنا فيما سلف: إن أهل العلم لا يعدون الجاحظ فيمن يوثق بما انفردوا بروايته. ذهب المؤلف في أوائل كتابه إلى أن هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين يمثلهم في جهل وغباوة، وغلظة وخشونة، ويقول: إنهم كانوا أصحاب علم وذكاء، وأصحاب عواطف رقيقة، وعيش فيه لين ونعمة. وقال: إنهم كانوا أمة متحضرة راقية، لا أمة جاهلة همجية. وإذا كانوا أصحاب ¬

_ (¬1) (ج 3 ص 83).

علم وذكاء، وكانوا أمة متحضرة راقية، فلماذا ينكر شعراً يضيفه إليهم بعض الرواة، ويرده بعلّة أنه ينبئ عن علم وذكاء، وحضارة راقية؟ وما الذي يعوقهم عن أن يعرفوا من أحوال الحيوان قريباً مما سمعه الجاحظ من الفلاسفة أو قرأه في كتب الأطباء؟!.

الرواة وانتحال الشعر

الرواة وانتحال الشعر تحدث المؤلف في هذا الفصل عن حال الرواة من جهة قلة الثقة بهم، وما كانوا يضعونه من الشعر، وينحلونه لبعض القدماء، وأورد في هذا أشياء تذكر في كتب الأدب، وقد بحث في رواة الشعر من هذه الناحية الأستاذ الرافعي في "تاريخ آداب العرب" (¬1)، وجرجي زيدان في "تاريخ آداب اللغة العربية" (¬2) و (مرغليوث) في مقاله المنشور في "مجلة الجمعية الآسيوية". وإنما امتاز المؤلف عن هؤلاء الباحثين بمبالغات ومغالطات لا بأس بمرور القلم عليها. * رواة الأدب: ذكر المؤلف: أنه مضطر إلى أن يقف عند الأسباب التي تتصل بأشخاص أولئك الذين نقلوا أدب العرب، ودوّنوه. وقال في (ص 118): "وهؤلاء الأشخاص هم الرواة. وهم بين اثنتين: إما أن يكونوا من العرب، فهم متأثرون بما كان يتأثر به العرب. وإما أن يكونوا من الموالي، فهم متأثرون بما كان يتأثر به الموالي من تلك الأسياب ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 375). (¬2) (ج 2 ص 110).

العامة. وهم على تأثرهم بهذه الأسباب العامة متأثرون بأشياء أخرى هي التي أريد أن أقف عندها وقفات قصيرة". عرف القراء الأسباب التي يومئ إليها المؤلف، وهي ما كان بصدد الحديث عنه من دواع سياسية ودينية، وقصصية وشعوبية، وقد زعم هنا أن أمر الرواة دائر على هذه الأسباب، فما من راو إلا وهو متأثر بشيء منها؛ لأنه يقول: هم بين اثنتين: إما أن يتأثروا بما تتأثر به العرب، وإما أن يتأثروا بما تتأثر به الموالي، ويريد من التأثر -بطبيعة السياق-: الوجه الذي يحمل على صنع الشعر، وعزْوِه إلى الجاهلية، ومعنى هذا: نفي أن يكون لطائفة من الرواة خطة ثالثة، وهي ألا يتأثروا بشيء من هذه الأسباب تأثراً يستهينون معه بموبقة الافتراء على الناس كذباً، وهذه مبالغة لا تأويل لها إلا أن المؤلف يحب أن يكون هذا الشعر الجاهلي منحولاً، ويحاول أن يسد عليك كل طريق تخرق بها هذه النظرية، وتظن أن يكون هذا الشعر من الجاهلية في شيء. نحن نعلم أن قسماً عظيماً من أهل العلم لم يتأثروا بالدين هذا التأثر الذي يجعل وزر الكذب أمراً هينا، ومن هذا القبيل أولىك الرواة الذين ينقدون ما يضاف إلى مقام النبوة، وقد ينفونه من الحديث، ولو اشتمل على شيء من الحكمة أو الموعظة أو المعجزة، ونعلم أن قسماً عظيماً يطلبون العلم لفضيلته، ولا تلين قناتهم لأن يتصرفوا في الحقيقة، ولو جلبت عليهم السياسة بخيلها ورجلها، أو وضعت في أيمانهم الصفراء، وفي شمائلهم البيضاء. ونعلم أن في الموالي من ينشأ على آداب راقية، فلا يجد في صدره حاجة مما أوتي العرب من مجد أو سعادة، فضلاً عن أن يستخف وزر الكذب،

حديث الأربعاء

ويقول على ألسنتهم ما لا يعلمون. فمن الجائز القريب أن يوجد في رواة الأدب من يعاقب هذا الذي يقال له: الكذب، ويأبى أن يضع شيئاً منه على طرف لسانه، ولعلنا نريك أن هذا الجائز القريب كان أمراً واقعاً. * حديث الأربعاء: قال المؤلف في (ص 118): "ولعل أهم هذه المؤثرات التي عبثت بالأدب العربي، وجعلت حظه من الهزل عظيماً: مجون الرواة، وإسرافهم في اللهو والعبث، وانصرافهم عن أصول الدين وقواعد الأخلاق إلى ما يأباه الدين، وتنكره الأخلاق، ولعلي لا أحتاج بعد الذي كتبته مفصلاً في الجزء الأول من "حديث الأربعاء" إلى أن أطيل في وصف ما كان فيه هؤلاء الناس من اللهو والمجون". ينزع المؤلف في يوم الأربعاء، وفي غير يوم الأربعاء إلى أن يتحدث عن المتهتكين، ويكثر سوادهم، فإذا كان في أمة من الناس نفر خاضوا في فجور، أحبّ أن يريك الأمة كلها فاسقة ماجنة. نعلم أن المبالغة فن من فنون البلاغة، ونعلم أنها لا تكون مقبولة إلا أن يشعرك صاحبها بأنها مبالغة، أما إذا ألقاها عليك في صورة الحقيقة المحضة، فإنها تسمى باسم ما لا يلتقي مع الصدق على لسان. يحدثك المؤلف عن الرواة في هيئة الباحث الذي لا يطوي صدره على شيء، فيقسمهم شطرين: شطر يندفع للكذب بما تتأثر به العرب، وشطر يندفع له بما تتأثر به الموالي، ثم يأتي بعبارة تتناول الفريقين، ويصفهم بالمجون والانصراف عن الدين وقواعد الأخلاق.

حماد الراوية، وخلف الأحمر

يحيلنا المؤلف على كتابه "حديث الأربعاء"، فإذا هو يلعن منهج (ديكارت)، ويمثل بالأدب والتاريخ تمثيل من يعتقد أن الأسماع في صمم، وأن العيون في سبات، وأن الأقلام والأنامل لا يلتقيان. ولولا أن في نشئنا الطيب من يقرؤه قبل أن يدرس التاريخ الصحيح، لقلنا للكتّاب: اضربوا عن نقده صفحاً؛ فإن انكشاف أمره في قراءته. ندع حديث الأربعاء إلى أجل قريب، ولكل أجل كتاب، ونكتفي بأن نقول لك: إن في الرواة أصحاب لهو ومجون، وفي الرواة أصحاب جد ومروءة، وفي الكتاب باحث بأناة، وفي الكتاب باحث بداعية هوى، والهوى يستولي على فؤاد الرجل، كالزجاجة الفاحمة يضعها على بصره، فيرى الأشياء كلها في لون قاتم. * حمّاد الراوية، وخلف الأحمر: قال المؤلف في (ص 119): "فلست أذكر هنا إلا اثنين، إذا ذكرتهما، فقد ذكرت الرواية كلها، والرواة جميعاً: فاما أحدهما، فحمّاد الراوية. وأما الآخر، فخلف الأحمر". لم يكن حمّاد وخلف مرجع الرواية كلها، ولا أن الطعن فيهما طعن في الرواية جميعاً، فقد كان في عهدهما من رواة الشعر من لم يأخذ عنهما؛ كأبي عمرو بن العلاء، والمفضل بن محمد الضبي، وكلاهما ممن أخذ عنه الكوفيون والبصريون. قال أبو منصور الأزهري في مقدمة "تهذيبه" يصف أبا عمرو بن العلاء: "أخذ عنه البصريون والكوفيون من الأئمة الذين صنفوا الكتب في اللغات، وعلم القرآن، والقراءات، وكان أعلم الناس بألفاظ العرب، ونوادر كلامهم، وفصيح أشعارهم".

القدماء من الزنادقة وإخوانهم في هذا العصر

وكذلك المفضل الضبي ثقة: "كان أوثق من روى الشعر من الكوفيين، وكان يختص بالشعر، وقد روى عنه أبو زيد شعراً كثيراً" (¬1)، وهذه "المفضليات"، وهي نحو مئة وعشرين قصيدة، قد جاءت من طريق المفضل الذي روي عنه أنه قال: قد سلّط على الشعر حمّاد الراوية، فأفسده. ثم إن الطبقة التي خلفت من بعد هؤلاء ث كأبي زيد الأنصاري، وسيبويه، والكسائي، كانوا يروون عن فصحاء الأعراب، من أفواههم إلى أسماعهم، ولا يكون هناك خلف، ولا حمّاد. والمؤلف انخدع في هذه الكلمات بأمثالها من مقال (مرغليوث)، وقد قال المستشرق (تشارلس لايل) في ردها: "نرى الفرق بين حمّاد والمفضل في نظر الرواة عظيماً، وأن ما جمعه المفضل بعيد عن الشك وتزوير حمّاد، ولا يوجد سبب معقول يجعل حمّاداً مثال المنابع الأخرى التي مر بها الشعر العربي حتى وصل إلى التدوين". * القدماء من الزنادقة وإخوانهم في هذا العصر: ذكر المؤلف صداقة حمّاد الراوية لحمّاد عجرد، وحمّاد الزبرقان، ومطيع بن إياس، وصداقة خلف لوالبة بن الحباب، وأستاذيته لأبي نوّاس. وقال في (ص 119): "وكان هؤلاء الناس جميعاً في أمصار العراق الثلاثة مظهر الدعابة والخلاعة، ليس منهم إلا من اتُّهم في دينه، ورمي بالزندقة، يتفق على ذلك الناس جميعاً. لا يصفهم أحد بخير، ولا يزعم لهم أحد صلاحاً في في دين أو دنيا". ¬

_ (¬1) "مراتب النحويين" لأبي الطيب اللغوي، نسخة بالخزانة التيمورية.

تطالع تاريخ القدماء من الزنادقة، فتجده مطابقاً من أكثر الوجوه لحال إخوانهم في هذا العصر، يقول الجاحظ وغيره في تلك الطائفة: كانوا يجتمعون على الشراب، ويأتون المنكر، ويدعون إلى غير العفاف، وإذا رأيت طائفتهم الجديدة على هذا المثال من الهزل والفسوق، وتزيين التهتك في أعين الشباب، قلت: ما أشبه الليلة بالبارحة!. تقرأ فيما يتحدث به عن أولىك القدماء: أن يونس بن فروة: "كان كتب كتاباً لملك الروم في مثالب العرب وعيوب الإِسلام بزعمه" (¬1). وقد أصبحنا نرى من أوليائهم في هذا العصر من يصرف همه بعد الطعن في الإِسلام إلى التنكر لمجد العرب، والاحتيال على إراءة رجال هذه الأمة في صورة مشوهة!. والقرامطة "طائفة من المجوس راموا عند شوكة الإِسلام تأويل الشرائع على وجوه تعود إلى قواعد أسلافهم، ولهم في الدعوة مراتب: الذوق، وهو تفرس حال المدعو: هل هو قابل للدعوة، أم لا؟ ثم التأنيس باستمالة كل واحد بما يميل إليه من زهد وخلاعة، ثم التشكيك في أركان الشريعة" (¬2). ويحاكيهم في هذا أولياؤهم من ملاحدة هذا العصر؛ فإنهم يختبرون حال المدعو، فإن أنسوا منه جهالة أو غباوة، عرضوه على شيء من هذه الكتب التي تلبس حق الإِسلام بالباطل، والتي اغترف منها المؤلف في هذا ¬

_ (¬1) "الحيوان" للجاحظ (ج 4 ص 143). (¬2) السيد في "شرح المواقف" (ج 8 ص 389).

رواية المفضل الضبي

الكتاب غرفات، ثم يأخذونه بالتأنيس، ويستميلونه بما تهوى نفسه من متاع هذه الحياة. وتلجأ هذه الفئة أيضاً إلى التشكيك في أركان الشريعة، وتحاول بكل صفاقة أن تحرف الكلم عن مواضعه. وإن كان فرق بين هؤلاء وأولئك، فهو أن القدماء لم يجدوا في الإلحاد منافع مادية تحملهم على التضامن والصدق في الزندقة، وقد نبهنا المؤلف لهذا الفارق في "حديث الأربعاء" (¬1) حين قال في شيء من الأسف: "وليس أدل من هذا على أن هؤلاء الزنادقة لم يكونوا صادقين في زندقتهم، فلو أن هناك صلة دينية متينة تجمع بينهم حقاً، وتكون منهم أقلية ممتازة متضامنة، لما أساء بعضهم إلى بعض، ولما سعى بعضهم في بعض، ولما استعدى بعضهم على بعض السلطان". وفي هذه الجمل مغزى لو قدر حماة الأدب وعشاق الفضيلة عاقبته، لم تبلغ هذه الأقلية الممتازة حالاً يجعلنا نشعر بالفرق بينها وبين أولئك القدماء. * رواية المفضل الضبّي: ساق المؤلف شيئاً مما قاله الرواة في حمّاد، وخلفٍ، ومصادقتهما لطائفة من الزنادقة، وأتى على ما أتى عليه (مرغليوث) من صنعهما الأشعار، وإضافتها إلى العرب. ثم قال في (ص 120): "فأما حمّاد، فيحدثنا عنه راوية من خيرة رواة الكوفة هو المفضّل الضبي: أنه قد أفسد الشعر إفساداً لا يصلح بعده أبداً"، إلى قول المفضّل: "فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب الرجل، ويدخله ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 202).

قصيدة الحطيئة في مدح أبي موسى

في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك؟! ". تعرض لبحث هذه الرواية المستشرق (تشارلس لايل) في مقدمة "المفضليات"، فقال: "ربما دخل في هذه الرواية شيء من التحريف، وإذا فرضنا صحتها، كان من واجبنا ألا ننسى أن حمّاداً كان معاصراً للمفضّل، وربما كان أصغر سناً منه، وكان المفضل -بلا شك- عالماً واسع الاطلاع، وكان أكثر كفاية لإظهار أي شعر مصنوع، ثم إن الرواة من العرب الذين يقال: إن حمّاداً قد زوّر فيما رواه عنهم، لا يفوت المفضّل أن يكون قد تلقى منهم هذه المحفوظات. وقصارى ما تدل عليه تلك الرواية: أن حمّاداً زاد في الأشعار العربية ما يماثلها في اللغة والعواطف. وإذا كان الحال هكذا، فكيف نستطيع الحكم على هذا الشعر بالانتحال؟ هذا الحكم لا يتيسر إلا لرجل عرف الأصل، وأدرك المنحول، ومن ذا يكون أدرى بذلك من المفضل؟! ". * قصيدة الحطيئة في مدح أبي موسى: ذكر المؤلف قصة حمّاد في دخوله على بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وإنشاده إياه قصيدة للحطيئة في مدح أبي موسى، وقول بلال له: ويحك! يمدح الحطيئة أبا موسى، ولا أعرف ذلك، وأنا أروي شعر الحطيئة! ولكن دعها تذهب في الناس. وقال في (ص 121): "وقد تركها حمّاد، فذهبت في الناس، وهي في ديوان الحطيئة. والرواة أنفسهم يختلفون، فمنهم من يزعم أن الحطيئة قالها حقاً".

قصة حماد مع المهدي

القصة رواها صاحب "الأغاني" (¬1)، وساقها (مرغليوث) في الغرض الذي ساقها إليه المؤلف، والقصيدة مروية في ديوان الحطيئة، وقد شرحها في جملة الديوان أبو سعيد السكري، وتعرض لسبب إنشاد الحطيئة لها. وصاحب "الأغاني" بعد أن ذكر قصة بلال وحمّاد، قال: وذكر المدائني: أن الحطيئة قال هذه القصيدة في أبي موسى، وأنها صحيحة، قالها فيه، وقد جمع جيشاً للغزو، فوصله أبو موسى، فكتب إليه -عمر - صلى الله عليه وسلم - يلومه على ذلك، فكتب له: إني اشتريت عرضي منه بها. ولما ولي بلال بن أبي بردة، أنشده إياها حمّاد الراوية، فوصله أيضاً. والمدائني هو أبو الحسن علي بن محمد الذي قال عنه أبو العباس ثعلب: من أراد أخبار الإِسلام، فعليه بكتب المدائني (¬2). فالجمحي والمدائني كانا في عصر، وقد اختلفت روايتهما في قصيدة الحطيئة، فهل كان ترجيح المؤلف لرواية الجمحي قائماً على موازنة وروية؟ أم هو تقليد (مرغليوث)، والحرص على تكثير وقائع الانتحال؟!. * قصة حمّاد مع المهدي: قال المؤلف في (ص 121): "وكان يونس بن حبيب يقول: العجب لمن يروي عن حمّاد، كان يكسر، ويلحن، ويكذب. وثبت كذب حمّاد في الرواية للمهدي، فأمر حاجبه، فأعلن في الناس أنه يبطل رواية حمّاد". أورد (مرغليوث) قصة حمّاد مع المهدي في هذا السياق، وقدح في صحة هذه القصة المستشرق (تشارلس لايل)؛ بأن حمّاداً توفي سنة 155، ¬

_ (¬1) (ج 2 ص 50). (¬2) "الأنساب" للسمعاني.

خلف ووالبة بن الحباب

وكما في تاريخ ابن خلكان، أو في سنة 156 وكما في "الفهرست" لابن النديم، والقصة يلقب فيها المهدي أمير المؤمنين، والقصر المذكور في هذه القصة إنما بناه المهدي بعد تقلده للخلافة، وهو لم يجلس على عرش الخلافة إلا في سنة 158 هـ. ولهذا النقد قسط من الوجاهة؛ فإنك تجد في القصة أن الخادم خرج، وقال: يا معشر من حضر من أهل العلم! إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمّاداً بعشرين ألف درهم؛ لجودة شعره، وأبطل روايته؛ لزيادته. وتجد فيها أن حمّاداً والمفضّل دخلا على المهدي في داره بعيساباذ. وفي "تاريخ ابن جرير الطبري": أن المهدي بني في سنة 164 بعيساباذ الكبرى قصراً من لبن إلى أن بني قصره الذي بالآجر، وسماه: قصر السلامة. * خلف ووالبة بن الحباب: قال المؤلف في (ص 121): "فأما خَلَف، فكلام الناس في كذبه كثير. وابن سلام ينبئنا بأنه كان أفرس الناس ببيت شعر، ويتحدثون أنه وضع لأهل الكوفة ما شاء الله أن يضع لهم، ثم نسك في آخر أيامه، فأنبأ أهل الكوفة بما كان قد وضع لهم من الشعر؛ فأبوا تصديقه". يقول المؤلف: كلام الناس في كذب خَلَف كثير، ويورد شاهداً على هذا جملة يختطفها من حديث ابن سلام، ويقطعها عن قرينتها الشاهدة بصحة ما يرويه خلف، ونص عبارة ابن سلام في "الطبقات": "أجمع أصحابنا: أنه كان أفرس الناس ببيت شعر، وأصدقه لساناً، كنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبراً، أو أنشدنا شعراً، ألا نسمعه من صاحبه"، ومحمد بن سلام أخذ عن خلف، وكان ثقة جليلاً. إذن هو يعني بقوله: أفرس الناس ببيت شعر: جودة

نظره في معاني الأبيات، وحسن بيانه لما يقصد الشعراء، وفي "أساس البلاغة": "فرس: صار ذا رأي وعلم بالأمور"، وفي "اللسان": "رجل فارس بالأمر؛ أي: عالم به بصير". والرواية التي تصف خلفاً بانتحال الشعر تقول: إنه اعترف بما كان ينتحله، وبينّه للناس، وقد جاءت الرواية بن له شعراً حمله عنه أبو نواس، وأقرب الظن أن يكون هذا الشعر المنتحل قد أضافه إلى شعره الذي أخذ عنه في حياته، ولا شك أن هذا الذي رواه عنه الكوفيون، وأبوا تصديقه في انتحاله، قد عرفه البصريون، وتحاموا أن يرووه لمن عزاه إليهم. وشأن الرواة الثقات من الكوفيين أن يرتابوا في هذا الشعر الذي قال لهم راويه: إنه منحول، ولم يجدوا له في رواية غيره أثراً. أما صداقة خلف لوالبة بن الحباب التي لوَّح بها المؤلف إلى الطعن في روايته، فقد يكون والبة يكتم زندقته عن خلف، ولا يكاشفه بها؛ فقد كان الزنادقة -بطبيعة الحال- يتظاهرون بالإِسلام، بل تجد في الكتب التي تسوق شيئاً من أخبارهم أن بعضهم كانوا يخفضون رؤوسهم بالركوع والسجود، ويراؤون بالإمساك عن شهوات بطونهم حين يشهدون شهر رمضان، حكى صاحب "الأغاني" عن علي بن القاسم: أنه قال: كنت آلف إياس بن مطيع، فعنفني في عشرته جماعة، وقالوا لي: إنه زنديق، فأخبرته بذلك، فقال: وهل سمعت مني، أو رأيت شيئاً يدل على ذلك؟ أو هل وجدتني أخلّ بالفرائض في صلاة أو صوم؟ فقلت له: والله! ما اتهمتك، ولكن خبرتك بما قالوا. فقد يكون خلف ألِف والبة؛ لأنه لم يسمع منه، ولم ير شيئاً يدل

الراوية أبو عمرو الشيباني

على زندقته، ولم يجده يخل بالفرائض في صلاة أو صوم، وقد يشعر خلف بزندقة والبة، ولا يقطع صلته به ما دام والبة يكتم زندقته، ويدع مجونها وغمزها إلى أن يخلو إلى مطيع بن الناس، ويونس بن أبي فروة، وحمّاد بن الزبرقان. وأما الطعن في خلف بأستاذيته لأبي نواس، فلا ندري ماذا نقول فيه؟! وشأن أهل العلم أن يتصدوا للإنفاق مما عندهم، فيتعرض للأخذ عنهم البر والفاجر، ولا تزر وازرة وزر أخرى. * الراوية أبو عمرو الشيباني: قال المؤلف في (ص 121): "وهناك راوية كوفي لم يكن أقل حظاً من صاحبيه هذين في الكذب والانتحال، كان يجمع شعر القبائل، حتى إذا جمع شعر قبيلة، كتب مصحفاً بخطه، ووضعه في مسجد الكوفة. ويقول خصومه: إنه كان ثقة لولا إسرافه في شرب الخمر، وهو أبو عمرو الشيباني. ويقولون: إنه جمع شعر سبعين قبيلة". يرمي المؤلف أبا عمرو الشيباني بالكذب والانتحال، ويقول لك: إن خصومه يقولون: إنه كان ثقة، خصوم الرجل الذين كانوا على مرأى منه ومسمع أبت ضمائرهم أن تصفه بغير الثقة، وهذا المؤلف الذي لم يلق من أثر أبي عمرو إلا ما نقله خصومه أو مريدوه، يأبى لسانه إلا أن يصفه بالكذب والانتحال! سلوا المؤلف عما استند إليه من قذف هذا الراوية، الذي يقول عنه خصومه: إنه ثقة، سلوه، فلا جواب له إلا أن أبا عمرو روى شعراً جاهلياً، والشعر الجاهلي كعنقاء مغرب، لا يحوم إلا في خيال بعيد. سلوه عما استند إليه في شهادته على أبي عمرو بأنه كان يشرب الخمر،

إيجار الراوية نفسه للقبائل

فإنه سيحيلكم على كتب تقول لبهم: إنه كان يشرب النبيذ، والفرق بين النبيذ والخمر معروف بين الفقهاء، والأدباء. ولعل المؤلف يدري هذا الفرق، واستبدل في عبارته النبيذ بالخمر؛ لأنه يعمل ليغير التاريخ، والعامل على تغيير التاريخ يسوغ له في منهج (ديكارت) أن يضع الكلمة بدل أخرى إذا كانت أوفى وأنهض بالغرض الذي يغير من أجله التاريخ!. الخمر معروفة، وهي محرمة بالكتاب والسنّة والإجماع، والنبيذ ما يتخذ من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير، ولا يسكر إلا الكثير منه، وقد اختلف العلماء في المقدار الذي لا يسكر من النبيذ، وفتاوى أهل العراق فيه مشهورة، وفي القائلين بحرمته من لا يوجب فيه حداً، ولا يرى للمحتسب أن يؤدب على المجاهرة به. ولسنا بصدد البحث عن النبيذ من وجهة نظر الشارع، فإن مسألته الخلافية مبسوطة بأدلتها وأقيستها في كتب الأصول والفروع، وإنما أريناكم أن المؤلف لا يبالي أن يخلع من عنقه طوق الأمانة، ويضع الخمر موضع النبيذ. * إيجار الراوية نفسه للقبائل: قال المؤلف في (ص 122): " و"أكبر الظن أنه كان يأجر نفسه للقبائل، يجمع لكل واحدة منها شعراً يضيفه إلى شعرائها. وليس هذا غريباً في تاريخ الأدب، فقد كان مثله كثيراً في تاريخ الأدب اليوناني والروماني". يريد المؤلف أن نستبدل بتاريخ رجال الأدب أقيسة يركِّبها لنا على تاريخ اليونان والرومان! أبو عمرو الشيباني "يقول خصومه: إنه كان ثقة" (¬1). ¬

_ (¬1) كتاب "في الشعر الجاهلي" (ص 121).

الراوية أبو عمرو بن العلاء

وشهادة خصومه مطابقة لشهادة مريديه، ويقول الرواة: إنه قرأ دواوين الشعر على المفضّل الضبي (¬1)، وكان المفضّل مختصاً بعلم الشعر، وأوثق من رواه من الكوفيين. إيْجار عالم كأبي عمرو نفسه للقبائل في عمل يستدعي الاتصال بطائفة من الشعراء، ليس بالأمر الذي يقع دون أن يشعر به أحد من خصومه أو منافسيه، وهل يمكن أحداً اليوم مناجاة بعض الشعراء على أن يضعوا له قصائد يضيفها إلى قوم آخرين، فينفقوا أوقاتا طويلة في إنشاء هذه الدواوين، ويبقى أمرها مطوياً عن سائر الناس، ولا تلقط نبأه أذن واعية؟. ليس من السهل علينا أن نصدق أن عملاً أدبياً تشترك فيه طائفة من أولي الأدب، وتدفع عنه القبائل أجوراً، وبذهب خبره تحت أطباق الثرى. * الراوية أبو عمرو بن العلاء: قال المؤلف في (ص 122): "والعجب أن رواةً لم تفسد مروءتهم، ولم يعرفوا بفسق ولا مجون ولا شعوبية، قد كذبوا أيضاً، فأبو عمرو بن العلاء يعترف بأنه وضع على الأعشى بيتاً: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا" وقال (مرغليوث): من المعاصرين لخلف أبو عمرو بن العلاء، وقد اعترف أنه زاد بيتاً في شعر الأعشى، والعجب له إذ لم يزد فيه أكثر من بيت!. القصة رواها ابن جنّي في "الخصائص"، فقال: حدثنا بعض أصحابنا ¬

_ (¬1) مقدمة "التهذيب" لأبي منصور الأزهري.

يرفعه: أن أبا عمرو بن العلاء قال: ما زدت في شعر العرب إلا بيتاً واحداً، يعني: ما يروى للأعشى من قوله: "وأنكرتني ... إلخ البيت". وهذه الرواية -على فرض صحتها- لا تدل إلا على أمانة أبي عمرو الثابتة بإجماع الرواة. قال ابن جنّي بعد حكايته ما سلف: أفلا ترى إلى هذا البدر الباهر، والبحر الزاخر، كيف تخلّصه من تبعات هذا العلم، وتحرّجه، حتى إنه لما زاد -فيه على سعته وانتشاره- بيتاً واحداً، وفّقه الله تعالى للاعتراف به؟!. وجاءت القصة في "مراتب النحويين" لأبي الطيب اللغوي على وجه لا يصرح بأنه هو الذي زاده في شعر الأعشى، ولفظه: "ومما كتب به إليّ أبو روق الهمذاني البصري، قال: أخبرني الرياشي عن ابن مناذر، قال: قال أبو عمرو: أنا قلت: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا فألحقه الناس في شعر الأعشى، وكان سيد الناس، وأعلمهم بالعربية والشعر ومذاهب العرب". وقد يمس قلبك بالريبة في أصل القصة أمران: أحدهما: أن الأصمعي يقول في الحديث عنه: "وكان نقش خاتمه: إن امرأً دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور وهذا البيت له، وكان رجلاً صالحاً، ولا نعرف له شعراً إلا هذا البيت" (¬1). والأصمعي من أشهر الرواة الذين أخذوا عن أبي عمرو، فيخطر على البال أن بيت: "وأنكرتني ... إلخ" لو كان أبو عمرو هو الذي زاده ¬

_ (¬1) "مراتب النحويين" لأبي الطيب.

الأصمعي واصطناع الشعر

في بيت الأعشى، واعترف به، لكان من شأن الأصمعي أن يطلع عليه، ولا يقول: ولا نعرف له شعراً غير هذا البيت. ثانيهما: أن بعض أهل الأدب يعزو وضع البيت إلى حمّاد، قال ابن عبد ربه في "العقد الفريد": إن حمّاد الراوية يقول: ما من شاعر إلا قد حققت في شعره أبياتاً، فجازت عنه، إلا الأعشى -أعشى بكر-، فإني لم أزد في شعره قط غير بيت: فأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا * الأصمعي واصطناع الشعر: قال المؤلف في (ص 122): "ويعترف الأصمعي بشيء يشبه هذا". تواردت كلمة الرواة على أن الأصمعي كان ثقة فيما يروي، صدوقاً فيما يقول. وبلغ به الورع حيث يتحامى أن يفسر كلمة في القرآن؛ حذراً من أن يخطئ المعنى، ويسيء التأويل. قال أبو الطيب اللغوي في "مراتب النحويين": لم ير الناس أحضر جواباً ولا أتقن لما يحفظ من الأصمعي، ولا أصدق لهجة منه. وقال ابن جني في "الخصائص": فأما إسفاف من لا علم له، وقول من لا مسكة به: إن الأصمعي كان يزيد في كلام العرب، فكلام غير معبوء به. وكان أبو زيد، وأبو عبيدة يخالفان الأصمعي، ويناوئانه كما يناوئهما، فكلهم كان يطعن علي صاحبيه بأنه قليل الرواية, ولا يذكره بالتزيد (¬1). وُيبعد الأصمعيَّ من تهمة اصطناع الشعر، وإضافته إلى الجاهليين: أنه ¬

_ (¬1) "مراتب النحويين" لأبي الطيب.

معانقة الكذب للزندقة

لم يكن معدوداً في قبيل الشعراء، قال ابن عبد ريه في "العقد الفريد": وكان الخليل بن أحمد أدرى الناس بالشعر، ولا يقول بيتاً، وكذلك كان الأصمعي، وقيل للأصمعي: ما يمنعك من قول الشعر؟ قال: نظري لجيده. * معانقة الكذب للزندقة: قال المؤلف في (ص 122): "ويقول اللاحقي: إن سيبويه سأله عن إعمال العرب فَعِلاً، فوضع له هذا البيت: حَذِرً أموراً لا تضير وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار" قال سيبويه في "الكتاب" (¬1): ومما جاء على فَعِل: قول الشاعر: "حذر أموراً ... إلخ"، وقد طعن بعض أهل العلم في الاستشهاد بهذا البيت، فأضافه بعضهم إلى اللاحقي، وأضافه آخر إلى ابن المقفع (¬2). واختلاف هذه الرواية قد هيأ السبيل لطائفة من النحاة أن يقولوا: إن سيبويه رواه عن بعض العرب، وهو ثقة لا سبيل إلى رد ما رواه (¬3)، وكان لهم فيما يتهم به اللاحقي وابن المقفع من الزندقة وجه لرد ما يدعيه على سيبويه، والكذب إذا رأى الزندقة، هام بها صبابة، ولم يرض إلا بمعانقتها. * فصحاء الأعراب: تحدث المؤلف عن الأعراب الذين يرحل إليهم رواة الأمصار ليسألوهم عن الشعر والغريب، وزعم: أن هؤلاء الأعراب لما أحسوا ازدياد حرص ¬

_ (¬1) (ص 58). (¬2) "شرح ابن يعيش للمفصل". (¬3) "شرح ابن يعيش للمفصل" (ص 828).

الأمصار على هذه البضاعة، انحدروا إلى الأمصار في العراق خاصة، فنفقت بضاعتهم. ثم قال في (ص 123): "فأخذ هؤلاء الأعراب يكذبون، وأسرفوا في الكذب". ذكر بعض المؤلفين -كابن النديم في "الفهرست"- أسماء طائفة من فصحاء الأعراب الذين نزلوا من البادية إلى الحضر، ولم يرموهم بالكذب، فضلاً عن الإسراف فيه، فما كان أولئك الأعراب إلا كسائر الطوائف يكون فيها الألمعي، والغبي، والثقة، وغير الثقة، وقد رأينا في الباحثين الذين هم أعرف بأحوال هؤلاء الأعراب من المؤلف من يصف بعضهم بالثقة والعلم، قال أبو الطيب اللغوي في الحديث عمن روى عنهم أبو زيد، وأبو عبيدة، والأصمعي: "وعن جماعة من ثقات الأعراب وعلمائهم، مثل: أبي مهدية، وأبي طفيلة، وأبي البيداء، وأبي خيرة واسمه إياد بن لقيط، وأبي مالك عمرو بن كركرة صاحب النوادر من بني نمير، وأبي الدقيش الأعرابي، وكان أفصح الناس، وليس الذين ذكرنا دونه، وقد أخذ الخليل عن هؤلاء، واختلف إليهم" (¬1). وقال في الحديث عن أبي عمرو الشيباني: "ومن أعلمهم باللغة، وأحفظهم، وأكثرهم أخذاً عن ثقات الأعراب: أبو عمرو إسحاق ابن مرار الشيباني" يقول الرواة عن طائفة: إنهم ثقات، ويقول المؤلف عنهم: إنهم مسرفون في الكذب، ومن لم يتابعه على هذه الشهادة، أخرجه من حساب "هذه الطائفة القليلة من المستنيرين"!. ¬

_ (¬1) "مراتب النحويين".

قصة داود وأبي عبيدة

* قصة داود وأبي عبيدة: قال المؤلف في (ص 124): "ويحدثنا ابن سلام عن أبي عبيدة: أن داود بن متمم بن نويرة ورد البصرة فيما يقدم له الأعراب، فأخذ أبو عبيدة يسأله عن شعر أبيه، وكفاه حاجته، فلما فرغ داود من رواية شعر أبيه، وكره أن تنقطع عناية أبي عبيدة به، أخذ يضع على أبيه ما لم يقل، وعرف ذلك أبو عبيدة". نصُّ ابن سلام في "الطبقات" حاكياً قول أبي عبيدة: "فلما نفد شعر أبيه، جعل يزيد في الأشعار، ويضعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علينا، علمنا أنه يفتعله". لو كنا نرضى بطريقة المؤلف إذ يذكر الواقعة، ويلحق بها ألفاً، ويذكر بضعة أشخاص فسّاق، ويجعلهم مثال أمة كاملة، لسبقناه إلى إيراد هذه القصة، وقلنا: إن الرواة كانوا يميزون كل شعر منحول؛ فإن أبا عبيدة عرف الشعر الذي نحله داود بن متمم أباه. ولكنا لا نرغب في هذا الضرب من الاستدلال، ولا نحمّل الأشياء فوق ما تطيق، ولا نقول سوى أن القصة تدل على أن في الناس من يفتعل الشعر، ويضيفه إلى أبيه، وتدل -مع هذا- على أن في الرواة من ينقد الشعر، ويفرق بين الصحيح والمصنوع. ونذكّر المؤلف بقصة أخرى تشبه قصة داود وأبي عبيدة: وهي أن الأغلب العجلي كان له ولد ينحله شعراً، قال خلف في الحديث عن الأغلب: "وكان من ولده إنسان يصدق في الحديث والروايات، ويكذب عليه في شعره" (¬1). ولو ¬

_ (¬1) "الموشح" (ص 223).

انتحال الشعر وتلفيقه في حياة المسلمين

سردنا في هذا الصدد سبعين قصة، لما دلت على شيء أكثر من أن في الشعر العربي انتحالاً، وهذا أمر يستوي في العلم به صغار القراء وكبارهم. * انتحال الشعر وتلفيقه في حياة المسلمين: قال المؤلف في (ص 124): "كل شيء في حياة المسلمين في القرون الثلاثة الأولى كان يدعو إلى انتحال الشعر وتلفيقه، سواء في ذلك الحياة الصالحة حياة الأتقياء والبررة، والحياة السيئة حياة الفساق وأصحاب المجنون". جاء الإِسلام لينبت على ظهر هذه البسيطة رجالاً يمثلون الأحلام الراجحة، والسيرة القيمة، وتلقاه القوم الذين ملؤوا أعينهم بمشاهدة سيرة الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم -، وأعلام نبوته، فكانوا المثل العالي لصدق اللهجة، ومضاء العزيمة، وحسن النظر في السياسة، وإذا ظهر العالم الإِسلامي بعد ذلك العهد في حال غير ملتئم، فإنما هو زمامه يقع في أيد تديره على غير بصيرة. وإذا ظهرت طائفة من المسلمين في حال تنبو عنها عين الأديب أو العالم، فإنما هي نفوسهم لم تكن على أثارة من هداية القرآن. لم يكن المسلمون في الاستقامة والصدق كالحلقة المفرغة، والعارفون بتاريخ صدرهم الأول لا يقبلون هذا الذي يقوله المؤلف من أن كل شيء في حياة المسلمين كان يدعو إلى انتحال الشعر وتلفيقه، وكبر جناية على التاريخ والمنطق أن يقال: إن كل شيء في حياة الأتقياء والبررة في تلك القرون كان يدعو إلى انتحال الشعر وتلفيقه؛ فإن مغزى هذا: أنه ليس هناك أتقياء ولا بررة، ولكن التاريخ يحدثنا بأن الذين كانوا يحيون حياة الأتقياء والبررة غير قليل، ويحدثنا علم النفس بأن التقي البارّ لا يتأثر بشيء من تلكم الأسباب تأثراً يدعو إلى اصطناع شعر، وإضافته إلى غير قائله.

نقد الرواية والرواة

* نقد الرواية والرواة: قال المؤلف في (ص 124): "وقد قدمنا: أن هذا الكذب والانتحال في الأدب والتاريخ لم يكونا مقصورين على العرب، وإنما هما حظ شائع في الآداب القديمة كلها". وقع الانتحال في الشعر العربي، وقد كفانا القدماء معظم شرّه، وإليك كلمة تذكرك بما صنعوا في نقد الرواية والرواة: يرجع النظر في رواية الشعر إلى جهتين: أولاهما: جهة ما يترتب عليها من إثبات لغة، أو تقرير قاعدة، ومطمح أنظار العلماء في هذا أن يثقوا بن المروي صدر من عربي فصيح، ولا يعنيهم بعد هذا أن يكون قائلُ البيت امرأ القيس، أو ابن ميّادة، أو ما بينهما من جاهليين داسلاميين، ولا يمس غرضَهم بسوء أن يكون البيت منحولاً متى تلقوه من عربي مطبوع، ولهذا تجدهم يستشهدون بالبيت مع اختلاف الرواة في قائله. ثانيهما: جهة صلة الشعر بقائله، وصحة نسبته إليه. يقوم النظر في الجهة الأولى على أساس يجعل اللغة ونحوها وبيانها بمنعة من أن ينالها كاتب بفساد أو تحريف؛ فإن أهل العلم يوم قاموا لتدوين اللغة وتقرير قواعدها، وجدوا ألسنة العرب على لهجتها الأولى، ولم تزل مأخوذة باللغة الفصحى، فكانوا يتلقون شعرها ونثرها ممن يتكلمون بفطرهم العربية الخالصة، سواء أنشؤوا الكلام من أنفسهم، أو رووا لك ما قال غيرهم. فمدار ما يعتد به في إثبات كلمة، أو تقرير قاعدة لغوية: على أن

يسمعه الثقة من عربي فصيح. ومن هنا عني علماء العربية بالبحث عن حال الرواة، وفصلوا القول فيما يرجع إلى الثقة بهم، أو الطعن في ذممهم، وجعلوا علماء اللغة طبقتين: طبقة من يوثق بهم، ويطمأن إلى روايتهم؛ كالخليل بن أحمد، وأبي عمرو بن العلاء، والمفضل الضبّي، والأصمعي، وسيبويه، والكسائي، والنضر بن شميل، وأبي عمر والشيباني، وأبي سعيد البغدادي، وأبي الخطاب الأخفش، والفرّاء، وأبي زيد الأنصاري، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وابن الأعرابي، وطبقة لم يكونوا على استقامة، ولم يثق الناس بما ينفردون بروايته؛ كالجاحظ، وأبي بكر بن دريد، وأبي عمرو المعروف بغلام ثعلب، ومنهم من يثقون بروايته، ويرمونه بشيء من الغفلة في الرأي، كما وصف أبو منصور الأزهري في مقدمة "تهذيبه" محمدَ بن مسلم الدينوري. أما الجهة الثانية، وهي صلة الشعر بقائله، فقد نظر فيها المحققون من الرواة على وجه تشد آثاره بأنه كان دقيقًا قيماً، وقد سمعتم قول ابن سلام فيما يزيده بعض الرواة من الأشعار: "وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك، ولا ما وضع المولدون. وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل البادية من ولد الشعراء، أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الإِشكال". ولا أحسبهم إلا أنهم كانوا يصرفون في نقد هذا الذي يشكل عليهم بعض الإشكال أشدَّ عنايتهم، وبهذا عرفوا ما ينحله ولد متمم بن نويرة، وما ينحله ولد الأغلب العجلي. وقال يحيى بن سعيد القطّان: إن رواة الشعر ساعة ينشدون المصنوع، ينتقدونه، ويقولون: هذا مصنوع (¬1). ¬

_ (¬1) "ذيل أمالي القالي" (ص 105).

ومن أثر نظرهم في هذا الوجه من النقد: أنهم ينبهونك للشعراء الذين حمل عليهم شعر كثيرة كبشر بن أبي خازم، والأغلب العجلي، وعبيد، وعلقمة؛ وينكرون القصيدة تارة، وينكرون البيت منها، أو الأبيات تارة أخرى. وقد ينفون من شعر الشاعر كل ما يرويه راوٍ بعينه؛ كما أنكر صاحبُ "الأغاني الشعرَ الذي يورده ابن الكلبي لدريد بن الصمة، وقال: إن التوليد بيّن فيه (¬1). وقد تختلف الروايات في نسبة الشعر إلى قائله، فيذهبون في ترجيح إحداها مذاهب تشهد بأنهم كانوا يعنون بهذه الحجة، ويصرفون إليها من مجهودهم قسطاً كبيراً. وقد أشرنا فيما سلف إلى أن لهم في معرفة انتحال الشعر طريقتين: طريقة النقل؛ كقول الجاحظ في أبيات تنسب لأوس بن حجر: أخبرني أبو إسحاق: أنها لأسامة صاحب روح بن أبي همام، وهو الذي كان ولَّدها، وكما يقول ابن سلام في بيتين يرويهما الناس لأبي سفيان بن الحارث: أخبرني أهل العلم من أهل المدينة: أن قدامة بن عمر الجمحي قالها، ونحلها أبا سفيان. ثانيتهما: طريقة العلم بحال الشاعر؛ كنسجه الذي يمتاز به عمن عداه، مثلما قال الأصمعي في شعر ينسب لامرئ القيس: امرؤ القيس لا يقول مثل هذا، وأحسبه للحطيئة. أو من جهة مخالفته لشيء عرف عنه في حياته؛ كما أنكر الأصمعي أن يكون بيت: ¬

_ (¬1) "الأغاني" (ج 9 ص 19).

فتوسع أهلها أقطاً وسمناً ... وحسبك من غنىً شبعٌ وريّ لامرئ القيس؛ لأنه لا يلتئم مع حال من يطلب الملك ويقول: ولو أنما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليلٌ من المالِ ولكنما أسعى لمجد مؤثلٍ ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي ولا ننكر مع هذا أن يمر على الثقة النقاد شيء من الشعر، فينتبه لانتحاله من يجيء من بعده، ومثال هذا قصيدة قيس بن الحدادية التي رواها أبو عمرو الشياني، وأوردها صاحب "الأغاني" في ترجمة قيس، وقال: هذه القصيدة مصنوعة، والشعر بيّن التوليد. ويخفف التبعة عن أبي عمرو: أنه روى القصيدة في سياق قصة صدرها بقوله: "وزعموا". وصفوة المقال أن الشعر الذي يرويه أولئك الثقات النبهاء، ولم يمسه أحد منهم بنقد، فإننا نقبله على أنه شعر من نسبوه إليه إلى أن تقوم على انتحاله بيّنة.

الكتاب الثالث الشعر والشعراء

الكتاب الثالث الشعر والشعراء - قصص وتاريخ. - امرؤ القيس. - علقمة. - عبيد. - عمر بن قميئة. - مهلهل. - جليلة. - عمرو بن كلثوم. - الحارث بن حلزة. - طرفة بن العبد. - المتلمس.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ] [البقرة: 204 - 205] (صدق الله العظيم)

قصص وتاريخ

قصص وتاريخ * السخط على الرأي: قال المؤلف في (ص 125): "نظن أن أنصار القديم لا يطمعون منا في أن نغير لهم حقائق الأشياء، أو أن نسمي هذه الحقائق بغير أسمائها، لنبلغ رضاهم، ونتجنب سخطهم". عرف القراء أن ما تحدث المؤلف بإنكاره، أو الشك فيه من أخبار أو شعر جاهلي، قد سبقه إليه قوم آخرون، وقرأ الأدباء ما كتبه أولئك الباحثون، ولم يسخطوا عليه. وإذا لم يسخطوا على الرأي عند صدمته الأولى، أفيسخطون عليه حين يردده قلم المؤلف بعد أن ألفوا سماعه؟! وقد قلنا فيما سلف: إن الناس لم يغضبوا لما تحدث به في هذا الكتاب إلا حين مد يده إلى مطاعن، ورمى بها إلى ناحية الإِسلام في هيئة ينبذها أدب الاجتماع جانباً!. * نية الانحراف عن الأدب: قال المؤلف في (ص 125): "ولن نستطيع أن نسمي حقاً ما ليس بحق، وتاريخاً ما ليس بتاريخ. ولن نستطيع أن نعترف بأن ما يروى من سيرة هؤلاء الشعراء الجاهليين، وما يضاف إليهم من الشعر تاريخ يمكن الاطمئنان إليه، أو الثقة به". يقع في ذهن القارئ أن في مصر طائفة تحمل الكاتب على أن يسمّي

القابض على الماء

ما ليس بحق حقاً، وأن يسمّي ما ليس بالتاريخ تاريخاً، وأن هذه الطائفة هي التي تتراءى للمؤلف عند كل بحث، فتأخذه لوثة، ويقبل على هذه الخيالات إقبال المشير بسبابته، يريها أنه لا يمتثل أمرها, ولا يبالي نهيها. وشأن الكاتب لإخلاص أن يجيل نظره، ويطلق قلمه، وإذا انتهى به البحث إلى الرأي، حفّه بأدلته، وأذاعه بين الناس، فإما أن يمكث في الأرض، وإما أن يذهب جفاء. ولو لم يكن في نية المؤلف الانحراف عن الأدب إلى غايات مؤذية، لما أنطق كتابه بمثل هذه الجمل التي لا تتقدم بالبحث خطوة، ولا يكون بها عند ذوي العقول الراجحة وجيهاً. * القابض على الماء: قال المؤلف في (ص 125): "وإنما كثرة هذه كلها قصص وأساطير لا تفيد يقيناً، ولا ترجيحاً، وإنما تبعث في النفوس ظنوناً وأوهاماً، وسبيل الباحث المحقق أن يستعرضها في عناية وأناة، وبراءة من الأهواء والأغراض، فيدرسها محللاً ناقداً، مستقصياً في النقد والتحليل". ليس في هذا شيء زائد على المنهج المقرر لتحقيق ما يرجع إلى الرواية والتاريخ، وليست المزية في تصوير المنهج، وإنما المزية في العمل عليه بجد واستقامة، وقد رأيتم المؤلف كيف يجد الخبر أو الشعر مفصلاً على قدر بغيته، فيغمره بالتصديق من كل وجه، وأنت لو استعرضته بعناية وأناة، لسقط من يدك، ولم يبق فيها من أثره إلا مقدار ما يبقى من الماء في يد القابض على الماء. * عناية العرب برواية الشعر وإنشاده: قال المؤلف في (ص 126): "ذلك أن أخبار الجاهليين وأشعارهم لم

تصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة، وإنما وصلت إلينا من هذه الطريق التي تصل منها القصص والأساطير: طريق الرواية والأحاديث، طريق الفكاهة واللعب". يعرف القراء ما كان للعرب من العناية برواية الشعر وإنشاده، لا يمتاز بذلك الرجال عن الغلمان، ولا الطبقة المستنيرة عن طبقة العوام، وكانوا يتنافسون في هذا المجال، وكادوا لا يعرفون فناً من فنون العلم سواه. جاء الإِسلام، فقلت هذه العناية، وضعف أمر هذا التنافس، بمعنى أن قسماً عظيماً ممن شأنهم العناية بالشعر، والتنافس في روايته، شغلوا بالجهاد، أو صرفوا هممهم إلى التفقه في الدين، ولكن الطبقة التي عنيت بالأشعار أيام جاهليتها قد بقي منها عدد وافر إلى العهد الذي راجعت فيه رواية الشعر شبابها. ترى من هذا القبيل الشعراء الذين عاشوا حيناً في الجاهلية، وحينًا في الإِسلام؛ كلبيد، وسويد بن أبي كأهل، وحسّان، والنابغة، والحطيئة، ومتمم ابن نويرة، والشماخ، ونهشل بن حرّى. وإذا كنا نرى للشعراء الإِسلاميين والمحدثين عناية بحفظ أشعار من تقدمهم، فلا شك أن هؤلاء المخضرمين كانوا يحملون من شعر الجاهليين أوقاراً يتلقاها عنهم الناس إلى أوائل عهد الدولة الأموية. ومن المستفيض في كتب الأدب: أن للشعراء رواة يصحبونهم، ويروون عنهم أشعارهم، كما كان عبيد راوية للأعشى، وكان الحطيئة راوية زهير وآل زهير. واستمرت هذه العادة في الإِسلام، فكان هدبة راوية الحطيئة، وجميل راوية هدبة.

كلحم خنزير ميت، حرام في حرام

وإذا كان الشعراء الذين يضاف إليهم هذا الشعر الجاهلي إنما يبعدون عن عهد الإِسلام بنحو عصر، وكانت العناية برواية الشعر وإنشاده في القبائل والحواضر بالغة متواصلة، فليس بمستنكر أن يصح معظم هذا الشعر الذي يضيفه الرواة الثقات إلى الجاهليين، ولا يكون من المنحول في شيء. * كلحم خنزير ميت، حرام في حرام: قال المؤلف في (ص 126): "القرآن وحده هو النص القديم الذي يستطيع المؤرخ أن يطمئن إلى صحته، ويعتبره مشخصاً للعصر الذي تلي فيه". المؤرخ الذي يؤمن بنبوة من نزل عليه القرآن، لا يسعه إلا أن يعتبر ما جاء في القرآن من أنباء الأمم واقعاً على نحو ما تنطق به آياته المحكمات، والعصر الذي تلي فيه ذلك الكتاب والعصور الخالية، تقف تجاه هذا الإيمان على سواء. وقد شهدنا المؤلف كيف اشتد حرصه على أن يمس القرآن بخدشة، وما كان منه إلا أن فلّى "ذيل مقالة في الإِسلام"، ووقعت يده على أذى مخلوق في شكل يلائم ذوقه، فانقلب يرمي به نحو قصة إبراهيم وإسماعيل - سلام الله عليهما -، والباطل الملقوط خفية كلحم خنزير ميت، حرام في حرام. * نوبة أنصار القديم وأنصار الجديد: ذكر المؤلف أن لكل أمة تاريخاً صحيحاً، وتاريخًا منتحلاً. ثم قال في (ص 127): "ولسنا ندري لم يريد أنصار القديم أن يميزوا الأمة العربية والأدب العربي من سائر الأمم والآداب؟ ومَن الذي يستطيع أن يزعم أن الله قد وضع القوانين العامة لتخضع لها الإنسانية كلها إلا هذا

حديث قيس بن الملوح

الجيل الذي كان ينتسب إلى عدنان وقحطان؟ ". يزعم المؤلف: أن طائفة يسميها: أنصار القديم يسوءها تقسيم تاريخ الأمة العربية وأدبها إلى صحيح ومنحول، والمعروف لدى القراء: أن القدماء والمحدثين يجمعون على أن للأمة العربية وآدابها تاريخاً صحيحاً، وتاريخاً منتحلاً، وكم أنكر المؤرخون من حوادث! وكم من منظوم حكم عليه نقاد الأدب بالتوليد والانتحال!. ما كان لأستاذ في الجامعة أن يلهج بسخف إنما تلهج به أقلام لا تفصل بين الحق والباطل، ولا تفرق بين الحجة والشبهة، وإنما تعرف الجديد والقديم، وتدعو إلى الجديد وإن كان سماً ناقعاً، وتتهكم بالقديم وإن كان قمراً ساطعاً. ليس ببعيد أن يكون المؤلف من هذه الفئة التي ترى اسم الجديد بمنزلة البرهان على أن المسمّى به حق، وترى اسم القديم كافياً في الدلالة على أنه باطل ث فإن نوبة "أنصار الجديد" و"أنصار القديم" تكاد تحضره عند كل حديث. * حديث قيس بن الملوّح: ذكر المؤلف أن للعرب خيالهم الشعري، وأن هذا الخيال أثمر هذه القصص والأساطير التي تروى عن العصر الجاهلي والإِسلامي. ثم قال في (ص 127): "وقد رأيت في فصولنا التي سميناها: "حديث الأربعاء": أنا نشك في طائفة من هذه القصص الغرامية التي تروى عن العذريين وغيرهم من العشاق في العصر الأموي". أنكر جماعة من الرواة حديث قيس بن الملوح "مجنون ليلى"، وقالوا:

الطيب والخبيث في كتب الأدب

إن الشعر المعزوّ إليه كله مولّد، وقال بعضهم: إنه اسم مستعار لا حقيقة له (¬1). وقال جرجي زيدان في "تاريخ آداب اللغة العربية" (¬2): "ومما وضعه العرب من عند أنفسهم أيضاً قصص العشاق العذريين ونحوهم". وقال: "وأخبار العذريين في العفة أكثرها موضوع، وقد أجمع الرواة على أن أخبار مجنون ليلى موضوعة، ويراد بها: تمثيل العفة مع الثبات على الحب، وقس على ذلك أكثر ما يروونه من هذا النوع" (¬3). فنظرية الشك في طائفة من هذه القصص الغرامية قد أذاعها جرجي زيدان من قبل، ولكن المؤلف يجد في صدره حاجة مما يؤتى هؤلاء المحدثون، فيغبطهم حتى في نظرية شك لا يضرهم فقدها, ولا ينفعه أن يضيفها الناس إليه. * الطيب والخبيث في كتب الأدب: قال المؤلف في (ص 127): "ويجب حقاً أن نلغي عقولنا -كما يقول بعض زعماء السياسيين- لنؤمن بأن كل ما يروى لنا عن الشعراء والكتّاب والخلفاء والقواد والوزراء صحيح؛ لأنه ورد في كتاب "الأغاني"، أو في كتاب الطبري، أو كتاب المبرّد، أو في سفر من أسفار الجاحظ". هذه الكلمة مما يلقى في كل سبيل، وليست من النوع الذي يُعزى إلى زعيم سياسي، ولعل المؤلف أحس بابتذالها كما أحسسنا، فلم يحرص ¬

_ (¬1) انظر "الأغاني" (ج 2 ص 167). (¬2) (ج 2 ص 295). (¬3) (ج 1 ص 58).

أداة حاكية، وكتب ومقالات متحركة

على أن يقطع نسبها من ذلك الزعيم، ويجرها إليه. يعرف الأدباء والعلماء أن في هذه الكتب طيبّاً وخبيثاً، ويتمنون لمطالعها أن ينقدها بحكمة وأناة، ويهتزون طرباً لباحث ماز فيها خبيثاً عن طيب، وإذا رآهم المؤلف ينقلون عنها تاريخاً أو أدباً، فها هو ذا يرجع إليها فيما يحتاج إليه من أدب أو تاريخ، وإذا قال: إنهم يأخذون منها أشياء، ولا ينقدونها كما أنقدها، قلنا له: قد أخذت منها آثاراً لم تحس باصطناعها، وأخرى لم تشعر بتحريفها. * أداة حاكية، وكتب ومقالات متحركة: قال المؤلف في (ص 128): "لأنصار القديم أن يرضوا لأنفسهم بهذا النحو من أنحاء الحياة العلمية، أما نحن، فنأبى كل الإباء أن نكون أدوات حاكية، وكتباً متحركة، ولا نرضى إلا أن تكون لنا عقول نفهم بها، ونستعين بها على النقد والتمحيص في غير تحكم ولا طغيان". يخرج المؤلف للتردد على مثل هذه الجمل الداخلة في استطاعة كل كاتب؛ ليتخذ منها شاهداً على أن له عقلاً يستعين به على النقد والتمحيص! لا نستبعد أن يكون لتلاوة هذه الجمل سرّ يظهر أثره في نفوس الطائفة التي يسميها: مستنيرة. وإنما الذي نراه لائقاً بمن يبحث وهو على ثقة من حسن تصرفه، وقوة حجته، أن يسترسل فبم الموضوع، ويأخذ البحث بالنقد والتمحيص، فلا يسع القراء إلا أن يشهد وابن له عقلاً ينقد ويمحص، ولا خير في مؤلف يدّعي أنه يأبى أن يكون أداة حاكية أو كتاباً متحركاً، وأنت إذا قلبت نظرك فيما يؤلّف، وجدته يشهد بملء صفحاته على أن صاحبه أداة حاكية، وكتب ومقالات متحركة.

الملكات الناقدة

* الملكات الناقدة: تحدث المؤلف عمن يسميهم: أنصار القديم. وقال في (ص 129): "فما بالهم يصطنعون ملكاتهم الناقدة بالقياس إلى المعاصرين، ولا يصطنعونها بالفياس إلى القدماء". لا يزال الذين أوتوا رسوخاً في العلم يفحصون كل رواية، أو أي رأي تقع عليه أنظارهم، وهذا شأنهم في كل عصر، ولكن الرسوخ في العلم يدور على ما يتهيأ لطلاب العلم من حسن نظام التعليم، ومن الظروف المساعدة لهم على أن تكون هممهم كبيرة، وجدّهم متواصلاً. ننظر إلى ماضي الشرق، فنرى العصور والبيئات التي يجري فيها التعليم على طريقة التحقيق، كانت تنبت رجالاً مجتهدين في كل علم تناله أيديهم، وعلوم الشريعة والاجتماع واللغة والفلسفة في هذا الاجتهاد سواء، فالمئة الثامنة -مثلاً- أخرجت كثيراً ممن اصطنعوا ملكاتهم الناقدة بالقياس إلى القدماء. ثم بليت الحالة العلمية بخمول، ولم تجد أيدياً قوية تنهض بها إلى أن يتنافس في مثلها المتنافسون، فلا عجب إذا لم بقص علينا التاريخ بعد ذلك القرن أسماء رجال كثير يصطنعون ملكاتهم الناقدة في صورة بارزة. فاصطناع الملكات الناقدة يتبع غزارة العلم، وانتظام أسلوب التعليم، فكل من غاص في علم، ومشى في مباحثه على نظام، فلا بدّ من أن يصطنع ملكته الناقدة بالقياس إلى القدماء، وربما خرج من ناحية التعليم غير المنتظم رجال يتصرف في معلوماتهم الذكاء الفطري، فينظمها، ثم ينهض بهم إلى أن يضعوا كل رأي أو رواية تحت النظر، ولا يقبلوا منها إلا ما ثبت على النقد والتمحيص.

نقد خرافات في أفواه العجائز

* نقد خرافات في أفواه العجائز: قال المؤلف في (ص 130): "وزعموا أن الرجل من الأجيال القديمة كان من الطول والضخامة والقوة، بحيث كان يغمس يده في البحر، فيأخذ منه سمكاً، ثم يرفع يده في الجو، فيشويه في جذوة الشمس، ثم يهبط بيده إلى فمه، فيزدرد شواءه ازدراداً". يتواضع المؤلف إلى نقد خرافات لم يبق لها أثر إلا في أفواه العجائز حين يؤانسون الأطفال، مرت علينا سنون، وقصة عوج بن عنق أو "عوق" غائبة عنا، لا نلمحها إلا في بعض كتب قديمة تسوقها في معرض الإِنكار، ولم يكن يخطر على بالنا أنها ستحيا بعد أن أقبرت وأصبحت عظاماً نخرة، ثم تتجول في نوادي الأدب إلى أن تشهد محاضرات أستاذ لآداب اللغة العربية في الجامعة. كتب القدماء في إنكار هذه الأسطورة وأمثالها، وجعلوا هذا من أساطير القصّاص الذين يقولون ما لا يعلمون، قال الفيلسوف ابن خلدون في "مقدمة تاريخه" (¬1): "وربما يتوهم كثير من الناس إذا نظروا إلى آثار الأقدمين، ومصانعهم العظيمة، مثل: إيوان كسرى، وأهرام مصر، وحنايا المعلقة (¬2) وشرشال بالمغرب: أنها كانت بقدرهم متفرقين أو مجتمعين، فيتخيل أجساماً تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير في طولها وقدرها؛ لتناسب بينها وبين القدر التي صدرت تلك المباني عنها .. وإنما هذا رأي أولع به القصّاص عن قوم عاد وثمود والعمالقة"، وساق قصة عوج التي تحدث بها المؤلف، ¬

_ (¬1) (ص 288). (¬2) في حوالي مدينة تونس.

قوة الحافظة عند القدماء والمعاصرين

وأنحى عليها بالإنكار. * قوة الحافظة عند القدماء والمعاصرين: قال المؤلف في (ص 130): "فهل تظن أن الذين يثقون بخلف، وحمّاد، والأصمعي، وأبي عمرو بن العلاء، يثقون بهم لشيء غير ما قدمت لك؟ كلا! كان هؤلاء الناس أحسن من المعاصرين أخلاقاً، وأقل منهم ميلاً إلى الكذب، كانوا أذكى منهم أفئدة، كانوا أقوى منهم حافظة، كانوا أثقب منهم بصائر، لماذا؟ لأنهم قدماء؛ لأنهم كانوا يعيشون في هذا العصر الذهبي! أليس العصر العباسي عصراً ذهبياً بالقياس إلى هذا العصر الذي نعيش فيه؟! ". لم يكن رأي أهل العلم في هؤلاء الرواة إلا على نحو ما يسعه تاريخ حياتهم، فيجيزون على خلف أن يكون صنع أشعاراً، ونحلها طائفة من الشعراء، ثم أناب، وبيّن ما نحل من الشعر، ويرون أن حمّاداً لم يكن صادقاً في كل ما يرويه، وأن أبا عمرو بن العلاء، والأصمعي كانا على صدق فيما يرويان، وأنّ صدقهما لا يمنع من أن يطلع باحث ذو أناة على أن شعراً منحولاً دخل فيما روياه. ولم يغب عن الناس حال تلك المبالغات التي تدخل في تقدير محفوظات القدماء، وإذا كان ما يحفظه أولئك الرواة من الشعر أكثر مما يحفظ أدباء هذا العصر وعلماؤه، فلأنهم كانوا ينفقون مجهودهم في هذا السبيل، ولو أن قويّ الحافظة في عصرنا يصرف شبيبته في حفظ اللغة والشعر كما يصرفون، ويعرف أن لعمله قيمة كما عرفوا، لكان نصيبه منهما لا يقل عن نصيب حماد، أو أبي عمرو، أو خلف، أو الأصمعي.

عقول المحدثين والقدماء

ولا ندري من هذا الذي يعتقد أن خلفاً، أو حمّاداً، أو أبا عمرو، أو الأصمعي أذكى من المعاصرين أفئدة! ولم يقع من الناس سوى أنهم يرجعون إليهم وإلى أمثالهم في أمر كانوا يقومون عليه، ولا طمع في الوصول إليه من غير طريقهم، وهو هذا الشعر العربي. والناس يعرفون تاريخ العصر العباسي، وما كان فيه من جد وهزل، وتقوى وفجور، وإذا سمّوه ذهبياً بالقياس إلى هذا العصر، فلأن الأمة كانت ذات عز وسلطان، تعزم فتقدم، وتقول فتفعل، وكيفما كان حالها، فإن أعداءها يهابون سطوتها، وحرام عليهم أن يطؤوا موطئاً يغيظها، وأدنى شيء يجعله ذهبياً هو أن فاقدي الفضيلة؛ كبعض رجال "حديث الأربعاء"، لم يجدوا طريقاً إلى أن يتصلوا بالعدوة ليتخذ من أقلامهم سلاحاً يحارب به هذا الإسلام، الذي يأبى لأهله إلا أن يعيشوا أعزاء، أو يموتوا شهداء. * عقول المحدثين والقدماء: قال المؤلف في (ص 131): "كان القدماء يكذبون كما يكذب المحدثون، وكان حظ القدماء من الخطأ أعظم من حظ المحدثين؛ لأن العقل لم يبلغ من الرقي في تلك العصور ما بلغ في هذا العصر، ولم يستكشف من مناهج البحث والنقد ما استكشف في هذا العصر". يعلم الناس من هذه النظم المادية والفنون الحيوية أن المحدثين أوسعوا دائرة هذه العلوم، وحققوا أشياء كانت غامضة، واستكشفوا أموراً كانت مجهولة، وهذا لا يدل على أن العقول التي وضعها الله في أدمغة المحدثين أكبر من عقول القدماء، وإنما هي سنّة ترقي العلوم والفنون، وأن يبني المتأخر على الأساس أو الحجر الذي يضعه المتقدم، ولو أخذنا نبغاء هؤلاء المحدثين،

وحشرناهم في بعض العصور المتقدمة، لم يأتوا بأحسن مما أتى به نبغاء ذلك العصر، ولم يكن نصيبهم من المؤلف إلا أن يجعل حظهم من الخطأ أكثر من حظه، ويقول عنهم: إن مناهجهم في النقد أضعف من مناهجنا. لا ينازع أحد في أن المحدثين قطعوا في هذه العلوم شوطاً واسعاً، وأظهروا لها آثاراً أكثر مما أظهر القدماء؛ والذي نقف في بحثه، ولا نمضي عليه في حين غفلة، هو أن المباحث والآراء التي لا تقوم على وسائل مادية محضة؛ كآداب الاجتماع، وعلم ما وراء الطبيعة، ونقد أدب اللسان، لم يبلغ المؤلف وأمثاله من المحدثين أن يكونوا أبصر بها وأصوب نظراً من أولئك القدماء.

امرؤ القيس

امرؤ القيس * قبيلة امرئ القيس: ابتدأ المؤلف هذا الفصل بالحديث عن امرئ القيس. وقال في (ص 132): "مَن امرؤ القيس؟ أما الرواة، فلا يختلفون في أنه رجل من كندة. ولكن مَن كندة؟ لا يختلف الرواة في أنها قبيلة من قحطان، وهم يختلفون بعض الاختلاف في نسبها، وفي تفسير اسمها، وفي أخبار سادتها. ولكنهم على كل حال يتفقون على أنها قبيلة يمانية". يزعم المؤلف أنه سيغيّر تاريخ العرب، والتغيير فنون، ومن فنونه هذا الذي يقوله هنا من أن الرواة اتفقوا على أن كندة قبيلة يمانية، يحكي هذا الاتفاق في حال أن كتباً كثيرة تنطق بأن طائفة كانت تذهب إلى أن كندة قبيلة عدنانية، فهذا ابن الكلبي يقول في كتاب "الافتراق": "وكان لجنادة بن معدّ الغمرُ: غمر ذي كندة وما صاقبها، وبها كانت كندة دهرها الأول، ومن هنالك احتج القائلون في كندة ما قالوا، لمنازلهم في غمر ذي كندة، يعني: من نسبهم في عدنان" (¬1). وهذا البكري يقول في "معجم ما استعجم": "وكندة ابن ثور من جنادة، ومن نسَب كندة في معد يقول: ثور بن عفير بن جنادة ¬

_ (¬1) "معجم ياقوت" في اسم (الغمر).

ترجمة امرئ القيس

ابن معد، قال عمر بن أبي ربيعة: إذا سلكت غمر ذي كندة ... مع الركب قصداً لها الفرقد" * ترجمة امرئ القيس: أخذ المؤلف يذكر اختلاف الرواة في اسم امرئ القيس، واسم أبيه، واسم أمه، واختلافهم في أن له ولداً، أو كان عقيماً. ثم قال في (ص 133): أوأي شيء أيسر من أن نأخذ ما اتفقت عليه كثرة الرواة على أنه حق لا شك؟ وكثرة الرواة قد اتفقت على أن اسمه جندح ابن حجر، ولقبه امرؤ القيس، وكنيته أبو وهب، وأمه فاطمة بنت ربيعة، على هذا اتفقت كثرة الرواة. وإذا اتفقت الكثرة على شيء، فيجب أن يكون صحيحاً، أو على أقل تقدير يجب أن يكون راجحاً. أما أنا، فقد أطمئن إلى آراء الكثرة، أو قد أراني مكرهاً على الاطمئنان لآراء الكثرة في المجالس النيابية وما يشبهها. ولكن الكثرة في العلم لا تغني شيئاً؛ فقد كانت كثرة العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها، وظهر أن الكثرة كانت مخطئة. وكانت كثرة العلماء ترى كل ما أثبت العلم الحديث أنه غير صحيح. فالكثرة في العلم لا تغني شيئاً". لا ندري في أي بحث، أو في أي فن يحسن المؤلف أن ينطق، فيقول صواباً، يريد أن يخيل إلى الطائفة التي يسميها مستنيرة: أن أهل العلم في الشرق، يرجعون إلى الترجيح بالكثرة عند اختلاف الآراء، أو تعدد الروايات، وهذا التخييل غير مطابق للحقيقة، وهمم أهل العلم أكبر من أن تنحط إلى هذه الخطة المبتذلة. المعلوم إما معقول؛ كحدوث العالم، أو مشاهد؛ كالألوان والأصوات.

أما المعقول، وهو ما يكتسب بالأدلة النظرية، فلا يترجح فيه رأي الأكثرية على الأقلية عند عالم نحرير، وكثيراً ما تكون الأقلية في هذا القسم على حق، وتكون الأكثرية على باطل. وأما المشاهد، وهو ما يدرك بنحو السمع والبصر، فقد يحدثك عنه جمع كثير استوفى شرط التواتر، فيكون العلم الحاصل من هذا الحديث يقينياً، ويسقط بجانبه خبر الأقلية بلا مرية ولا نزل. فإن لم يستوف كل من الجمعين شرط التواتر، ترجح خبر أوفرهما صدقاً ونباهة، وإن كان أقلهما عدداً، فإن تساويا في الصدق والنباهة الكافية في ضبط حال المخبر عنه، وكان أحد الجانبين أكثر من الآخر عدداً، فهذا ما يمكن أن يكون موضع نظر أو خلاف، ومن فروع هذا: اختلاف الفقهاء في ترجيح بينة على أخرى بأكثرية شهودها، وكذلك اختلف الأصوليون في ترجيح الأخذ بحديث على الأخذ بحديث آخر؛ لأكثرية رواته. ومن يذهب إلى أن للكثرة أثراً في الترجيح، يعتمد على أن ظنّ موافقة الكثرة للحقيقة يكون أقوى، واحتمال وقوع الغلط أو الكذب على العدد الكثير أبعد من احتمال وقوعه في العدد القليل. ولا ننسى أن المسألة مفروضة فيما لا يمكن الوصول إليه إلا من طريق الرواية، ولا يجد الناظر لتقديم أحد الخبرين على الآخر وجهاً غير هذه الكثرة. وإذا رجعنا إلى علماء العربية، وجدناهم ينظرون في الترجيح إلى ثقة الراوي، فإن لم يجدوا لها ولا لغيرها من المرجحات سبيلاً، عادوا إلى الترجيح بكثرة الرواة كما يفعل جمهور الأصوليين. وخلاصة هذا: أن الأقوال إما أن تكون من قبيل الرأي، والترجيح

امرؤ القيس وعبد الرحمن بن الأشعث

فيها إنما يرجع فيه إلى الأدلة النظرية، وإما أن تكون من قبيل الرواية، وهذا هو الذي يمكن أن يُرجح فيه جانب الكثرة على جانب القلة. وقد رأيت المؤلف كيف خلط في حديثه بين الرواية والرأي، وحشر كثرة الآراء في المجالس النيابية، ونظرية كروية الأرض في موضع الكلام عن الترجيح بالكثرة فيما لا يمكن الوصول إليه إلا من طريق الرواية. * امرؤ القيس وعبد الرحمن بن الأشعث: أراد المؤلف أن يضع قصة امرئ القيس في معمل فلسفته الممتازة، فحام على تاريخ كندة في الإسلام، ووقع على أسرة الأشعث بن قيس، وأخذ يقص كيف وفد من كندة وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى رأسه الأشعث، وكيف ارتدت كندة، وكيف تاب الأشعث، واشترك في فتح الشام، وفتح الفرس، وتولى عملاً لعثمان، وظاهر علياً على معاوية، ثم انتقل إلى الحديث عن ابنه محمد بن الأشعث، وذكر اعتماد زياد عليه في أخذ حجر بن عدّي الكندي، وعرج على قتل معاوية لحجر بن عدّي هذا في نفر من أصحابه، وانتقل إلى سيرة عبد الرحمن بن الأشعث، وثورته بالحجّاج، وخلعه لعبد الملك، ووقوعه في يد عامل الحجّاج، وانتهاء واقعته بقتل نفسه. عقد المؤلف مشابهة بين امرئ القيس وعبد الرحمن بن الأشعث، وزعم أن عبد الرحمن ثار منتقماً لحجر بن عدّي، كما أن امرأ القيس قام مطالباً بثأر أبيه، وذكر في وجه الشبه: أن كلاً منهما طامع في الملك، متنقل في البلاد، مستعين بملك: امرؤ القيس بقيصر، وعبد الرحمن بملك الترك، وأن كلاً منهما غدر به الملك الذي التجأ إليه، ويتشابهان في أن كلاً منهما مات في طريقه عائداً من بلاد الملك الذي التجأ إليه.

ثم قال في (ص 137): "أليس من اليسير أن نفترض، بل أن نرجح: أن حياة امرئ القيس كما يتحدث بها الرواة ليست إلا لوناً من التمثيل لحياة عبد الرحمن استحدثه القصّاص إرضاء لهوى الشعوب اليمانية في العراق، واستعاروا له اسم الملك الضلّيل اتقاء لعمال بني أمية من ناحية، واستغلالاً لطائفة يسيرة من الأخبار كانت تعرف عن هذا الملك الضلّيل من ناحية أخرى؟ ". ونحن نلقي عليك واقعة عبد الرحمن بن الأشعث في تلخيص وإيجاز، لتعلم أن بينها ويين قصة امرئ القيس من الفرق ما لا يجتمعان به إلا في مخيلة تتراكم فيها صور الأشياء على غير نظام. يذكرون أن الحجّاج كان يبغض عبد الرحمن بن الأشعث، ويقول: ما رأيته قط، إلا أردت قتله، وكان عبد الرحمن يعرف هذه السريرة من الحجّاج، ويقول: أنا أزيله عن سلطانه. كان الحجّاج والياً على العراق وخراسان وسجستان، فجهز جيشاً لفتح بلاد (رتبيل) ملك الترك، وبعثه تحت راية عبد الرحمن. سار عبد الرحمن بالجيش حتى دخل في طرف من بلاد (رتبيل)، ثم عقد الرأي مع الجيش على أن يرجئوا التوغل في البلاد إلى العام المقبل، وبلغ الحجّاج ما عزم عليه عبد الرحمن من هذه الهدنة، فأمره بالمضي في سبيل الفتح، وهدده بالعزل إذا هو لم يفعل، فائتمر عبد الرحمن والجيش الذي تحت قيادته بخلع الحجّاج، ثم نادوا بخلع عبد الملك، وبايعوا عبد الرحمن، وأقبلوا إلى العراق. دارت حروب بين عبد الرحمن والحجّاج كانت عاقبتها أن انقلب

عبد الرحمن منهزماً إلى سجستان. لحق بكرمان، فلقي من عامله بها نزلاً مهيَّأً، ثم رحل إلى "زرنج" (¬1) فتنكر له عامله هنالك، وأغلق باب المدينة دونه، فانصرف إلى "بست"، وكان عامله عليها عياض بن هيمان، فاستقبله، ثم أوثقه في غفلة من قومه؛ لينال به عند الحجّاج قرباً وسلاماً، وكان (رتبيل) قد ركب لاستقبال عبد الرحمن، فنزل على "بست"، وهدد عياضاً، فأطلق سبيله، وحمله إلى بلاده، وأنزله في جواره. تتابعت كتب الحجّاج إلى (رتبيل) في أن يبعث إليه عبد الرحمن، وكان من أثر هذه الكتب، وما تحمله من ترغيب وترهيب: أن بعث (رتبيل) بعبد الرحمن مقيداً إلى عمارة بن تميم؛ ليضعه في يد الحجّاج، فرمى عبد الرحمن بنفسه من سطح قصر، فهلك، وأرسل عمارة برأسه إلى الحجّاج. نرى عرض هذه القصة على وجهها التاريخي كافياً لنقض ما يزعمه المؤلف من المشابهة بينها وبين قصة امرئ القيس، ومن أن قصة امرئ القيس موضوعة رمزاً لها. وأول ما يخطر لك: أن عبد الرحمن بن الأشعث لم يقم للأخذ بثأر حجر بن عدّي، وتستبعد هذا الذي يدعيه المؤلف من جهة أن القرابة بين عبد الرحمن وحجر لم تكن من الشدة بحيث تحمل على الخوض في محاربة دولة ذات شوكة انتقاماً لها؛ فإن عبد الرحمن إنما يلتقي بحجر في الأب الخامس، وهو معاوية بن جبلة، ويضاف إلى هذا: أن القاتل لحجر معاوية ابن أبي سفيان، وصاحب الدولة يوم ثورة عبد الرحمن عبد الملك بن مروان، ويزاد على هذا: أن قتل معاوية لحجر كان في سنة 51 هـ، وثورة عبد الرحمن ¬

_ (¬1) مدينة سجستان.

شعر امرئ القيس

على عبد الملك كانت في سنة 81 هـ، وثلاثون سنة تمر على الواقعة شأنها أن تخفف من تغيظ النفس لها إلى حد ألا يبقى فيها من أثر الغيظ ما يدفع إلى اقتحام الأهوال، والخطار بالحياة في فتنة عمياء. ويبدو لك بعد هذا: أن ابن الأشعث إنما طلب الملك بالجيش الذي كان تحت قيادته، ولم يستعن عليه بملِك كما يزعم المؤلف، والذي وقع في (رتبيل) أنه استقبله بعد عودته في هزيمة ويأس من الملك الذي طمع فيه، ولم يرج منه ابن الأشعث أكثر من أن يحميه ويؤامنه من سطوة الحجّاج. * شعر امرئ القيس: تحدث المؤلف بأن شعر امرئ القيس ينقسم إلى قسمين: أحدهما يتصل بهذه القصة، فشأنه شأنها في الانتحال، وأنه شعر إسلامي لا جاهلي، ثانيهما لا يتصل بهذه القصة، وإنما يتناول فنوناً من القول مستقلة من الأهواء السياسية والحزبية. ثم قال في (ص 138): "فامرؤ القيس هو الملك الضلِّيل حقاً، نريد: أنه الملك الذي لا يعرف عنه شيء يمكن الاطمئنان إليه. هو ضلُّ بن ضلٍّ كما يقول أصحاب المعاجم اللغوية". وبعد أن عقد مشابهة بينه وبين (هوميروس) الشاعر اليوناني، قال في (ص 139): "ونحن نذهب هذا المذهب نفسه في تفسير هذه الأخبار والأشعار التي تمس تنقل امرئ القيس في قبائل العرب، فهي محدثة انتحلت حين تنافست القبائل العربية في الإسلام، وحين أرادت كل قبيلة وكل حي أن تزعم لنفسها من الشرف والفضل أعظم حظ ممكن". لعلك عرفت أن ما يزعم المؤلف من أن قصة امرئ القيس رمز إلى

قصيدة امرئ القيس في السموأل

واقعة ابن الأشعث قول مرغوب عنه، وهو إلى المزح أقرب منه إلى الجد، وما لنا إلا أن ننظر في تحقق شخصية امرئ القيس، ثم ننظر في مبلغ الثقة بأن هذا الشعر صادر عنه. يجد الباحث في كتب الأدب والتاريخ روايات متفرقة، وآثاراً مختلفة، تدل على أن شاعراً من كندة يقال له: امرؤ القيس. وربما يكون كل رواية أو أثر بانفراده محتملاً لأن يرتاب فيه، ولكن مجموعة هذه الروايات والآثار تلقي في نفسك الثقة بأن امرأ القيس كان شاعراً جاهلياً، وأن له شعراً يدور بين الناس. أما هذا الشعر المضاف إليه، فقد نقده علماء الأدب، ونفوا عنه قسماً ذكروا أنه محمول عليه، نفوا عنه أبياتاً من قصائد، وقد ضربنا فيما سلف، وسنضرب لهذا الصنيع مثلاً، وارتابوا في قصائد بجملتها، فتجدهم يوردون القصيدة، ويقولون لك: ويقال: هي لبشر بن أبي خازم، أو لأسامة البجلي، أو لعبد الله بن عبد الرحمن السلامي، أو لأبي دؤاد الإيادي، أو لرجل من كندة، أو لرجل من بني النمر يقال له: ربيعة بن جشم، أو لعمرو المرادي. نقدوا شعر امرئ القيس جهد استطاعتهم، فنفوا ما قام الدليل من رواية أو نظر على أنه منحول، وكفّوا عن البقية؛ لأنها جاءت على طريق الثقات، لم يجدوا لقطع صلتها عنه وإلحاقها بالمصطنع من سبيل. * قصيدة امرئ القيس في السموأل: قال المؤلف في (ص 139): "وقد أحسّ القدماء بعض هذا، فصاحب "الأغاني" يحدثنا أن القصيدة القافية التي تضاف إلى امرئ القيس على أنه قالها بمدح السموأل حين لجأ إليه منحولة، نحلها دارم بن عقال، وهو من

قصيدة الأعشى في شريح بن السموأل

ولد السموأل. وأكبر ظننا أن دارم بن عقال لم ينحل القصيدة وحدها، وإنما نحل القصة كلها، وانتحل ما يتصل بها أيضاً: نحل قصة ابن السموأل الذي قتل بمنظر من أبيه حين أبى تسليم أسلحة امرئ القيس". يصف القدماء الشعر بالانتحال مستندين إلى نقل موثوق به، أو نظر يصحبه ذوق سليم، وحكمهم على قصيدة، أو قصائد من شعر امرئ القيس لا يجعلونه وسيلة إلى إنكار كل ما يضاف إليه، أو يذهبون به إلى أن هذا الشعر الذي يعزى إلى الجاهليين ليس من الجاهليين في شيء. أعاد المؤلف الحديث عن قصيدة امرئ القيس في السموأل، وتنبيه صاحب "الأغاني" على انتحالها، وقال: إن دارماً نحل القصة، وما يتصل بها جميعاً، وقد مشى في هذا وراء جرجي زيدان، والفارق بينهما: أن المؤلف حسِبَك من الطائفة التي يسميها مستنيرة، فلم يزد على أن جعل هذا الزعم أكبر ظنه، أما جرجي زيدان، فقد حدثك في هيئة الباحث في العلم؛ حيث قال في "آداب اللغة العربية" (¬1) يصف السموأل: "وحديثه مع امرئ القيس الشاعر والأدرع أشهر من أن يذكر، حتى يتبادر إلى الذهن أن العرب وضعوا ذلك الحديث، أو بالغوا فيه على سبيل التمثيل؛ ترغيباً في الوفاء؛ فإن الطبيعة تأبى على الرجل أن يضحي ابنه في سبيل الوفاء، ولا نقول: إن ذلك مستحيل، لكنه بعيد الحدوث". * قصيدة الأعشى في شريح بن السموأل: قال المؤلف في (ص 139): "نحل قصة الأعشى الذي استجار بشريح ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 147).

قصة ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية

ابن السموأل، وقال فيه هذا الشعر المشهور: شريح لا تتركني بعد ما علقت ... حبالك اليوم بعد القد أظفاري" ثم سرد القصيدة في ثلاثة عشر بيتاً. المعروف في طريق نقد الشعر: أن يستند الناقد إلى رواية، أو تاريخ ينفيه عمن نسب إليه، أو يستبين بالنظر الصحيح أن هذا الشعر لا يلتئم من حيث معانيه أو صناعته بحال الشاعر، أو العصر الذي أنشد فيه. بين يدي المؤلف قصيدة، وشاعر، وممدوح، فقال: إن هذه القصيدة منحولة، ولم يأتنا برواية تنسبها إلى غير الأعشى، أو بتاريخ يدل على أن الأعشى وشريحاً لم يلتقيا في عصر، أو يذكر وجهاً يعرف به قراء كتابه كيف لا يصح أن تكون هذه القصيدة من نظم الأعشى، وقصارى ما فعل بهذه القصيدة: أن قاسها على قصيدة امرئ القيس التي نقدها صاحب الأغاني، وساق الوجوه التي جعلته يرتاب في نسبتها إلى امرئ القيس. يذهب المؤلف في نقد الشعر هذا المذهب الذي ترونه بأعينكم، ثم يقول في غير أناة: إن مناهج القدماء في نقد تاريخ الأدب أضعف من مناهجنا!. * قصة ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية: قال المؤلف في (ص 140): "ثم كانت هذه القصة سبباً في انتحال قصة أخرى هي قصة ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية، وما يتصل بها من الأشعار". من الجائز أن يكون في الأخبار المتصلة بقصة ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية ما ليس بثابت، ولا سيما ما يحكيه الرواة أنفسهم بنحو قولهم:

امرؤ القيس: يمني الأصل، نجدي المولد والنشأة

"ويقال"، أو "زعموا"، أو: "وذكروا". أما أصل القصة، فقد تواردت عليه الروايات، وما تتوارد عليه الروايات لا ينساب إلى الحكم عليه بالانتحال وهو أعزل من البينة إلا من يخف على لسانه أن يقول ما لا يمليه عليه العقل. وليست الروايات العربية وحدها تذهب إلى أن امرأ القيس رحل إلى القسطنطينية مستنجداً بملك الروم على بني أسد، فإنك تجده في كتاب "شعراء النصرانية" (¬1) معزوّاً إلى تاريخ الروم. وإليك ما في الكتاب: "وقد جاء ذكر امرئ القيس في تاريخ الروم مثل: "نونوز"، و"بركوب"، وغيرهما، وهم يسمونه: قيساً، وقد ذكروا أنه قبل وروده على قيصر "يوستينيانس" أرسل إليه وفداً يطلب منه النجدة على بني أسد، وعلى المنذر ملك العراق .. ثم أخبر المؤرخون المومأ إليهم: أن امرأ القيس لم يلبث أن سار بنفسه إلى قسطنطينية ... قد ذكر "نونوز" المؤرخ أن "يوستينيانس" قلده إمرة فلسطين، إلا أنه لم يسع في إصلاح أمره، وإعادة ملكه، فضجر امرؤ القيس، وعاد إلى بلده، وكانت وفاته نحو سنة 565 م، أصابه مرض كالجدري في طريقه كان سبب موته". * امرؤ القيس: يمنيّ الأصل، نجدي المولد والنشأة: ذكر المؤلف ملاحظة، قال في التهويل بها: "لا أدري كيف يتخلص منها أنصار القديم، وهي أن امرأ القيس -إن صحت أحاديث الرواة- يمنيّ، وشعره قرشي اللغة، فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز؟! ". ثم قال في (ص 142): "سيقولون: نشأ امرؤ ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 35).

القيس في بني أسد، وكانت أمه من بني تغلب، وكان مهلهل خاله، فليس غريباً أن يصطنع لغة عدنان، ويعدل عن لغة اليمن. ولكننا نجهل هذا كله، ولا نستطيع أن نثبته إلا من طريق هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس، ونحن بشك (¬1) في هذا الشعر، ونصفه بأنه منتحل. وإذاً، فنحن ندور: نثبت لغة امرئ القيس التي نشك فيها بشعر امرئ القيس الذي نشك فيه". لسنا في حاجة إلى إعادة البحث في مقدار الفرق بين لغة اليمن ولغة نجد والحجاز قبل الإسلام بنحو عصر؛ فإن امرأ القيس يمني الأصل، نجدي المولد والنشأة، قال ابن قتيبة في كتاب "الشعر والشعراء" (¬2) يذكر امرأ القيس: هو: "ابن حجر بن عمرو الكندي، وهو من أهل نجد من الطبقة الأولى، وهذه الديار التي وصفها في شعره كلها ديار بني أسد". يقول الرواة: إن امرأ القيس يمنيٌّ نشأ في نجد، والمؤلف يخرج على أدب البحث، فيؤمن لهم بأنه يمني، ويتعاصى عن قبول أن يكون نشأ في نجد، يقسم كلامهم شطرين، فيؤمن بشطر، ويكفر بشطر؛ حتى يجد الوسيلة إلى مجادلتهم، أو مغالطتهم بأن لغة اليمن غير لغة عدنان، وأن هذا الشعر الذي يعزى إلى امرئ القيس مصوغ في لسان عدناني مبين. ومن البديهي أن الذي يتصدى لمجادلة من يقولون: امرؤ القيس يمني نشأ في نجد، وليس له علم بهذا الشاعر من غير طريقهم، إما أن يصدقهم في يمنيته ونشأته في نجد، وإما أن يكذبهم في الأمرين كليهما، فهذا الدوران ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، ولعلها محرفة عن "نشك". (¬2) (ص 37).

شعر امرئ القيس في أخواله

الذي يشكوه المؤلف إنما وقع فيه من جهة أنه قَبِلَ من الرواة أن يكون امرؤ القيس يمنياً، وأبى لهم أن تكون نشأته في نجد!. * شعر امرئ القيس في أخواله: تعرض المؤلف لما يقوله بعض الرواة من أن امرأ القيس ابن أخت مهلهل، وكليب، وذكر حرب البسوس. ثم قال في (ص 143): "فمن العجيب ألا يشير امرؤ القيس بحرف واحد إلى مقتل خاله كليب، ولا إلى بلاء خاله مهلهل، ولا إلى هذه المحن التي أصابت أخواله من بني تغلب، ولا إلى هذه المآثر التي كانت لأخواله على بني بكر". لا ندري من ذا يقول للمؤلف: إن ما يعزى إلى امرئ القيس، أو إلى أي شاعر عربي هو كل ما صنعته قريحته من منظوم، وإذا جمع بعضُ الرواة منظوم أحد الشعراء، فإنما يجمع المقدار الذي انتهى إليه، فمن الجائز أن يكون امرؤ القيس قد أشار في شعر آخر إلى مقتل خاله كليب، وبلاء خاله مهلهل، والمحن التي أصابت أخواله، والمآثر التي كانت لهم، وذهب هذا الشعر مع الرواة الذين قتلوا في حروب الردة، أو الفتن، أو الفتوح، والمؤلف نفسه يحكي عن أبي عمرو بن العلاء: أنه كان يقول: ما بقي لكم من شعر الجاهلية إلا أقله، ولو جاءكم وافراً، لجاءكم علم وشعر كثير (¬1). وإذا فرضنا أن هذا الشعر الذي بين أيدينا هو كل ما جادت به قريحة امرئ القيس، وجارينا المؤلف في رأيه أن الشاعر لا بدّ أن يأخذ في شعره ¬

_ (¬1) كتاب "في الشعر الجاهلي" (ص 66).

معلقة امرئ القيس

حروباً لم يشهدها، ويذكر فيه مقتل خاله إن قتل، وبلاءه إن أبلى، لما ترتب على هذا أثر أكثر من أن تكون رواية أن امرأ القيس ابن أخت مهلهل وكليب رواية باطلة، وطرحُ هذه الرواية التي تجيء في بعض كتب الأدب أقرب إلى المعقول من طرح هذا الشعر الذي يقول الرواة الثقات: إنه لامرئ القيس. * معلقة امرئ القيس: قال المؤلف في (ص 144): "وهذا البحث ينتهي بنا إلى أن أكثر هذا الشعر الذي يضاف لامرئ القيس ليس من امرئ القيس في شيء، وإنما هو محمول عليه حملاً، ومختلق عليه اختلاقاً". ذهب المؤلف في بعض الصحف من كتابه (¬1) إلى أن هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون له. ومقتضى تمسكه بأن امرأ القيس يمني مولداً ونشأة، وأن لغة قحطان نازلة من لغة عدنان منزلة اللغات غير العربية: أن يكون جميع هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس منحولاً، فإنا لم نجد شيئاً منه على غير اللغة التي ينظم فيها شعراء نجد والحجاز. ولكن المؤلف يقول في هذه الصحيفة: إن البحث يتتهي به إلى أن أكثر هذا الشعر ليس من امرئ القيس في شيء، ومعنى هذا: أن في الشعر المضاف إلى امرئ القيس شعراً هو منه في شيء، وأظن أن المؤلف سيجد كثيراً من المشقة والعناء ليحل هذه المشكلة. وأقبل المؤلف على المعلَّقة، وذكر أنه لا يعرف قصيدة يظهر فيها التكلف ¬

_ (¬1) (ص 9).

أكثر مما يظهر في هذه القصيدة، وأنه لا يحفل بقصة تعليق هذه القصائد السبع أو العشر؛ لأنها نشأت في عصر متأخر جداً، ولا يثبتها شيء في حياة العرب وعنايتهم بالآداب. ثم قال في (ص 144): "ولكننا نلاحظ أن القدماء أنفسهم يشكّون في بعض هذه القصيدة، فهم يشكون في صحة هذين البيتين: ترى بعَر الأرآم في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حبّ فلفلِ كأني غداة البينِ يوم تحملوا ... لدى سمرات الحي ناقف حنظلِ وهم يشكون في هذه الأبيات: وقربة أقوامٍ جعلت عصامها ... على كاهل مني ذلول مرحل" وسرد المؤلف الثلاثة الأبيات بعدها. القدماء وأنصار القديم هم الذين أنكروا رواية تعليق هذه القصائد على الكعبة، ومنهم من لم يرض عن رواية تعليقها في الدفاتر أيضاً، وقالوا: إنما سمّيت معلقات؛ لعلوقها بأذهان صغارهم وكبارهم، ومرؤوسيهم ورؤسائهم، وذاك لشدة عنايتهم بها، ولعل هذا أحسن وجه في تسميتها معلقات. وإنا لنجد في تاريخ الأدب آثاراً قديمة تشهد بصحتهما، ففي "اختيار المنظوم والمنثور" (¬1): "روي أن معاوية أمر الرواة أن ينتخبوا قصائد يرويها ابنه، فاختاروا له اثنتي عشرة قصيدة؛ منهن: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" "لخولة أطلال ببرقة ثهمد" ¬

_ (¬1) تأليف أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر المتوفى سنة 280 هـ.

"أمن أم أوفى دمنة لم تكلّم" "آذنتنا ببينها أسماء" "عفت الديار محلها فمقامها" "ألا هبّي بصحنك فاصبحينا" "إن بدّلت من أهلها وحوشا" "بسطت رابعة الحبل لنا" "يا دار ميّة بالعلياء فالسند" "يا دار عبلة بالجواء تكلّمي" وبعد أن تكلم أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر عن هذه القصائد، قال: "ولولا شهرة هذه القصائد، وكثرتها على أفواه الرواة وأسماع الناس، وأنها أول ما يتعلم في الكتاب، لذكرناها". والمروي عن المفضّل الضبّي: أن العرب كانوا يسمون القصائد السبع: السموط، ذكر صاحب "جمهرة أشعار العرب" امرأ القيس، وزهيراً، والنابغة، والأعشى، ولبيداً، وعمرو ابن كلثوم، وطرفة، ثم روى عن المفضّل الضبّي: أنه قال: "هؤلاء أصحاب السموط، فمن قال: إن السبع لغيرهم، فقد خالف ما أجمع عليه أهل العلم والمعرفة". ذكر المؤلف: أن القدماء يشكّون في صحة بعض أبيات من معلقة امرئ القيس، أما البيتان الأولان، وهما: "ترى بعر الأرآم ... إلخ"، فهما من رواية أبي عبيدة، ولم يروهما الأصمعي، وقال: الأعراب ترويهما. ونقل عنه أبو جعفر أنهما من المنحول. وفي "كتاب التصحيف والتحريف"

اختلاف الرواة في ألفاظ القصيدة

للعسكري: أن أبا الوثيق يضيف البيت الثاني من هذين البيتين، وهو: "كأني غداة البين ... إلخ" لابن خذام. وأما أبيات "وقربة أقوام ... إلخ"، فقد رواها بعض الرواة. وقال الأصمعي، وأبو عبيدة، ويعقوب بن السكيت، وغيرهم: إنها ليست منها، قال التبريزي: وزعموا أنها لتأبط شراً. ونقد الرواة للقصيدة، وتمييز هذه الأبيات الستة بالانتحال، يدل على أن أصلها ثابت النسبة لامرئ القيس أكثر مما يدل على انتحال القصيدة بأسرها. * اختلاف الرواة في ألفاظ القصيدة: قال المؤلف في صفحة (145): "وهم -بعد هذا- يختلفون اختلافاً كثيراً في رواية القصيدة: في ألفاظها، وفي ترتيبها، ويضعون لفظاً مكان لفظ، وبيتاً مكان بيت. وليس هذا الاختلاف مقصوراً على هذه القصيدة، وإنما يتناول الشعر الجاهلي كله، وهو اختلاف شنيع يكفي وحده لحملنا على الشك في قيمة هذا الشعر". اختلاف الرواة في ألفاظ القصيدة ناشئ عن أمرين: أحدهما: أن الراوي قد يعمد إلى البيت ثطق به الشاعر على لغته، فيغير منه الكلمة إلى ما يوافق لغته. ثانيهما: أن الراوي قد تسقط منه الكلمة على وجه النسيان، فيجتهد لأن يضع مكانها كلمة تؤدي معناها أو تقاربها، وما كانوا يرون في هذا من بأس ما دام الغرض الذي يرمي إليه الشاعر قائماً. ومن المحتمل أن يكون الشاعر نفسه قد أنشد البيت على وجهين، أو

أبيات لامرئ القيس

وجوه في أوقات مختلفة، فقد يبدو له أن كلمة أليق من كلمة، أو تسقط من حافظته الكلمة التي أنشأ عليها القصيدة أولاً. وأما اختلاف الرواة في ترتيب الأبيات في بعض القصائد، فلا يظهر للاستشهاد به على انتحالها وجه سائغ، وقد رد هذه الشبهة المستشرق (تشارلس لايل) في مقدمة "المفضليات"، فقال: "إن في كثير من هذه الأشعار كلمات، أو أشطار أبيات منقولة عن محلها. وهذا شيء طبيعي في أشعار لم تدوّن قط، بل كانت مروية حفظاً، ينقلها المتأخر عن المتقدم، وليس في هذا التغيير معنى للتزوير، ونجد في آخر بعض القصائد أبياتاً -يعني: أن الراوي لم يعرف محلها، فوضعها في الآخر-, وهذا أيضاً لا يدل على الاختلاق بحال". فالمؤلف يلقط الشبهة، ويدع جوابها؛ لأنه لا يولي وجهه شطر الحقيقة حيثما كانت. * أبيات لامرئ القيس: قال المؤلف في (ص 146): "ونظن أن أنصار القديم لا يخالفون في أن هذين البيتين قلقان في القصيدة، وهما: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطَّى بصُلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل فقد وضع هذان البيتان للدخول على البيت الذي يليهما، وهو: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل وهذان البيتان أشبه بتكلف المشطر والمخمس منهما بأي شيء آخر".

ليس ببعيد من أنصار القديم أن يخالفوا في أن هذين البيتين قلقان، ويروا أنهما بالنظم المألوف أشبه منهما بتكلف المشطر والمخمس. وقد يستدلون على براءتهما من هذا القلق والتكلف بأنهما مرّا على فصحاء العرب ونقاد الأدب، ولم يحسوا منهما بشيء من هذا الذي يرميهما به المؤلف، وربما ساقوا من كتب الأدب ما يشهد بأن هذه الأبيات كانت تقع منهم موقع الإعجاب، ويضربون لها أرجلهم طرباً. حكى المرزباني في كتاب "الموشح" (¬1): أن مَسلمة بن عبد الملك أنشد قول امرئ القيس: وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل إلى قوله في البيت الخامس لها: "بأمراس كتّان إلى صمّ جندل", فضرب الوليد برجله طرباً. وأورد الباقلاني في كتاب "الإعجاز" هذه الأبيات الثلاثة، وقال: إنهم يعدونها من محاسن القصيدة، وكان بعضهم يعارض هذا بقول النابغة: كليني لهمّ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ ... وليس الذي يتلو النجوم بآيب وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء، فقدم أبيات امرئ القيس، واستحسن استعارتها. والباقلاني -على وقوفه لهذه الأبيات موقف الناقد بكل ما لديه من نظر وذوق- لم يغمزها إلا من جهة استعارتها، فوصفها بالتكلف، ¬

_ (¬1) (ص 31).

تقسيم القصيدة إلى ثلاثة أقسام

وليس التكلف في هذه الأبيات سوى المبالغة في الخيال، وهي لا تنفي أن يكون صاحب الشعر جاهلياً، فإن للمبالغة في الخيال مثُلاً واردة في الأشعار المعزوّة إلى الجاهليين. وليس في هذه الأبيات بعد هذا سوى ما يسمونه: "التضمين"، وهو عدم استقلال البيت بإفادة المعنى، وله أمثلة في الشعر الجاهلي، ومن علماء الأدب من يفصل فيه القول، ولا يعد النحو الواقع في مثل: "أقول له لما تمطى" من عيوب الشعر. ولا نعني بهذا البحث أن يكف المحدثون عن نقد الشعر الذي وقع تحت أنظار القدماء من خلص العرب، أو نبغاء الأدب، ووصل إلينا سالماً من أثر نقدهم، فإن من الجائز ألا يتناولوا البيت بالنقد حتى يلوح لهم ما فيه من مغمز خفي، ومن الجائز أن يلوح لهم، وشمتهينوا به، فلا يلقنوه غيرهم، ومن المحتمل أن يتحدثوا به، ولا تحمله إلينا هذه الكتب الباقية مما تركوا، وإنما أقصد أن الوجه الذي تعرض به المؤلف لهذه الأبيات، لا ينهض بدعوى أنها ملصقة باصل القصيدة حتى يرجو من أنصار القديم ألا يخالفوه. * تقسيم القصيدة إلى ثلاثة أقسام: ذكر المؤلف أنه فرغ من الشعر الذي لا اختلاف في أنه دخيل، وزعم أنه يستطيع أن يرد القصيدة إلى أجزائها الأولى، وقسّمها ثلاثة أقسام: أحدها: وصف اللهو مع العذارى، وما فيه من فحش، وقال فيه: هذا أشبه أن يكون من انتحال الفرزدق منه بأن يكون جاهلياً. ثانيها: وصف امرئ القيس لخليلته، وزيارته إياها، وتجشمه ما تجشم للوصول إليها، وتخوفها الفضيحة حين رأته، وخروجها معه، وتعفيتهما

آثارهما بذيل مرطها، وما كان بينهما من لهو، وقال: هذا أشبه بشعر عمر بن أبي ربيعة منه بشيء آخر، وزعم أن الذي أضافه إلى امرئ القيس راوٍ متأثر بهذا الشاعر. ثالثها: ما هو من قبيل الوصف، ولا سيما وصف الفرَس والصيد، وقال في هذا: وأكبر الظن أن هذا الوصف فيه شيء من ريح امرئ القيس، ولكن من ريحه ليس غير. لا أحسب القراء في حاجة إلى أن يسمعوا منا كلمة في مناقشة هذا الحديث؛ فان عوجه ملموس باليمين واليسار، ومن شاء أن نفتح له باب النقد، فإليه كلمة تريه ما في ذلك التقسيم من خطأ مبين: يقول المؤلف في (ص 146): "ولنسرع إلى القول بأن وصف اللهو مع العذارى وما فيه من فحش أشبه بأن يكون من انتحال الفرزدق منه بأن يكون جاهلياً". ثم ذكر قصة الفرزدق حين انتهى إلى غدير فيه نساء يستحممن، وقصّ عليهن قصة امرئ القيس، وأنشدهن: ألا ربّ يومٍ لك منهن صالح ... ولا سيما يوم بدارة جلجل ثم قال: "والذين يقرؤون شعر الفرزدق، ويلاحظون فحشه وغلظته، وأنه قدير على هذا الفحش، وعلى هذه الغلظة، لا يجدون مشقة في أن يضيفوا إليه هذه الأبيات". يزعم المؤلف أن هذا القسم الأول من انتحال الفرزدق، ثم لا يستند في هذا الزعم إلا إلى أن فيه فحشاً وغلظة يشبهان فحش الفرزدق وغلظته. وتشابهُ الشعرين في الفحش والغلظة يحتمل هذا الذي يقوله المؤلف من أن

الشعر المعزوّ إلى الأول نحله إياه الشاعر الثاني، ويحتمل وجهاً آخر، وهو أن يكون الشاعر الثاني جرى على سنّة الشعراء من متابعة المتأخر للمتقدم في بعض المعاني أو الأساليب، وحملُ التشابه بين شعر الفرزدق وامرئ القيس على هذا الوجه أقرب إلى القبول؛ لأنه الملائم للرواية، ولأن المؤلف لم يقم دليلاً تاريخياً على أن سيرة امرئ القيس تبرأ من هذا الفحش، ومن هذه الغلظة، ولن يستطيع لهذا الدليل طلباً. ومما يجعلنا نستبعد أن ينحل الفرزدق امرأ القيس شيئاً من شعره: أن الفرزدق لم يكن من قبيلة كندة، ولا أن امرأ القيس من تميم. ثم إنا نجد في تاريخ الأدب قصصاً تنطق بأن الفرزدق كان حريصاً حرص المؤلف على أن ينهب ما تلده أفكار غيره من الرجال، ويجره إليه. روى المرزباني في كتاب "الموشح": أن أبا عمرو بن العلاء لقي الفرزدق في المِرْبد، فقال له: يا أبا فراس! أحدثت شيئاً؟ فقال: خذ، وأنشده: كم دون ميّه من مستعمل قذف ... ومن قلاة بها تستودع العيس فقال له أبو عمرو: هذا للمتلمِّس، فقال: اكتمها، فلضوالُّ الشعر أحبُّ إليّ من ضوالّ الابل. وفي "خزانة الأدب" للبغدادي: أن الفرزدق نحل نفسه بيتين من شعر ابن ميّادة (¬1). وذكر صاحب "الأغاني": أنه انتحل أربعة أبيات من قصيدة لذي الرمة (¬2)، وأنشد بيتاً على أنه من شعره، فقال حمّاد: هذا لرجل من اليمن (¬3). فالذي يرغب في أن يكاثر بما ليس من نتائج قريحته، ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 78). (¬2) (ج 16 ص 116). (¬3) (ج 5 ص 165).

الحديث عن القسم الثاني من القصيدة

شأنه ألا ينحل غيره شعراً، ويقتل خبره جحوداً، حتى لا يجد له الرواة -على شدة تحسسهم- أثراً. * الحديث عن القسم الثاني من القصيدة: تحدث المؤلف عن القسم الثاني من قصيدة امرئ القيس. وقال في (ص 147): "فهذا النحو من القصص الغرامي في الشعر فن عمر بن أبي ربيعة، قد احتكره احتكاراً، ولم ينازعه فيه أحد، ولقد يكون غريباً حقاً أن يسبق امرؤ القيس إلى هذا الفن، ويتخذ فيه هذا الأسلوب، ويعرف عنه هذا النحو، ثم يأتي ابن أبي ربيعة، فيقلده فيه، ولا يشير أحد من النقاد إلى أن ابن أبي ربيعة قد تاثر بامرئ القيس، مع أنهم قد أشاروا إلى تأثير امرئ القيس في طائفة من الشعراء في أنحاء من الوصف، فكيف يمكن أن يكون امرؤ القيس هو منشئ هذا الفن من الغزل، الذي عاش عليه ابن أبي ربيعة، والذي كون شخصية ابن أبي ربيعة الشعرية، ولا يعرف له ذلك؟ ". يقع تشابه بين شعرين، فيدعي المؤلف أن الشعر المعزوّ إلى المتقدم منحول: نحله بعض من تأثر بالشاعر المتأخر. وإذا قلت: لماذا لا يكون الشاعر المتأخر اقتدى في ذلك الأسلوب أو الفن بالشاعر المتقدم؟ قال لك: لو كان السابقَ إلى هذا الفن امرؤ القيس، لأشار أحد النقاد إلى أن ابن أبي ربيعة تأثر بامرئ القيس، وحيث لم يبلغه أن ناقداً أشار إلى هذا التأثر، كان القسم الثاني من "قفا نبك" منحولاً: نحله بعض المتأثرين بشعر عمر ابن أبي ربيعة. الرواة يتلقون هذا القسم من القصيدة على أنه شعر امرئ القيس، فإذا

الحديث عن القسم الثالث من القصيدة

كان بينه وبين شعر عمر بن أبي ربيعة تشابه واضح، فمن مقتضيات هذا أن يعتقدوا أن امرأ القيس سابق إلى هذا الفن، وإذا أدركوا أن امرأ القيس سابق إلى هذا الفن، فعدم إشارتهم إلى تأثيره في عمر بن أبي ربيعة إنما يكون لذهول ونحوه، ولا يدل على أنه انتحل في عهد ابن أبي ربيعة، أو من بعده. * الحديث عن القسم الثالث من القصيدة: تحدث المؤلف عن القسم الثالث من "قفا نبك"، وزعم أن اللغة تضطره إلى أن يقف فيه موقف التردد. وقال في (ص 148): "فالظاهر أن امرأ القيس كان قد نبغ في وصف الخيل والصيد والسيل والمطر، والظاهر أنه قد استحدث في ذلك أشياء كثيرة لم تكن مألوفة من قبل، ولكن أقال هذه الأشياء في هذا الشعر الذي بين أيدينا؟ أم قالها في شعر آخر ضاع وذهب به الزمان، ولم يبق إلا الذكرى، وإلا جُمل مقتضبة أخذها الرواة، فنظموها في شعر محدث نسقوه ولفقوه وأضافوه إلى شاعرنا القديم؟ هذا مذهبنا الذي نرجحه". ثم قال: "وكبر الظن أن هذا الوصف الذي نجده في المعلقة، وفي اللامية الأخرى فيه شيء من ريح امرئ القيس، ولكن من ريحه ليس غير". امرؤ القيس كان شاعراً يجيد وصف الخيل والصيد والسيل والمطر، واستحدث في ذلك أشياء كثيرة، ولكنه قالها في شعر ضاع وذهب به الزمان، وإنما بقيت منه الذكرى، وجمل مقتضبة نظمها الرواة في شعر محدث، وأضافوها اليه!!!. قال الرواة: إن امرأ القيس يمني نشأ في نجد، فقال المؤلف لهم: هو

امرؤ القيس و (هوميروس)

يمني لم ينشأ في نجد، قالوا: امرؤ القيس أجاد في وصف الخيل ونحوها، فقال لهم: أجاد في وصف هذه الأشياء، ولكن في شعر غير هذا الذي تضيفونه إليه، ولا ندري لماذا اعترف بأن امرأ القيس يجيد وصف الخيل والصيد في حال أن الرواة لا يستندون في هذا إلا إلى الشعر الذي قال عنه: إنه منحول! وإذا أنكر هذا الشعر الذي تناقله الرواة، لم يكن مضطراً إلى هذا الاعتراف الذي لا يزيد حديثه إلا خيالاً، والذي أوقفه موقفاً جعله يقول: إن هذا الشعر فيه شيء من ريح امرئ القيس ليس غير!. * امرؤ القيس و (هوميروس): قرأ المؤلف -كما حكى في (ص 138) -: أن شاعراً يونانياً يقال له: (هوميروس) قد تنقل في البلاد، وأثقل الناس تاريخه بأشياء مزوّرة، فأراد أن يقيسه بشاعر عربي، ويقول في هذا الشاعر العربي ما قاله مؤرخو الآداب اليونانية في (هوميروس)، فوقع اختياره على امرئ القيس. فمؤرخو الآداب اليونانية لا يشكون الآن في أن شخصية (هوميروس) "قد وجدت حقاً، وأثرت في الشعر القصصي حقاً، وكان تأثيرها قوياً باقياً، ولكنهم لا يعرفون من أمرها شيئاً يمكن الاطمئنان إليه، وإنما ينظرون إلى هذه الأحاديث التي تروى، كما ينظرون إلى القصص والأساطير لا أكثر ولا أقل" (¬1). والمؤلف يريد أن يحاكي كلامهم في (هوميروس)، فقال: إنه يرجح، بل يكاد يوقن بأن امرأ القيس قد وجد حقاً. وبقي عليه ما قالوه من أن ¬

_ (¬1) كتاب "في الشعر الجاهلي" (ص 138).

امرؤ القيس وعلقمة

(هوميروس) أثّر في الشعر القصصي حقاً، فأراد أن يجعل لامرئ القيس تأثيراً في فن من فنون الكلام، حتى يكون الشاعر العربي محاذياً للشاعر اليوناني حذو النعل للنعل، ورأى نفسه قد ذهب إلى أن لغة امرئ القيس من هذه اللغة الأدبية بمنزلة لغة أجنبية، فاكتفى بأن جعل لشخصية امرئ القيس تأثيراً في وصف الخيل ونحوها، ولكن تأثيرها بالروح التي بقيت في جمل مقتضبة أخذها الرواة، فنسقوها، وأضافوها إليه! ولم يحدثنا المؤلف عن هذه الجمل المقتضبة: هل وصلت إلى الرواة في لغتها اليمنية التي يعدها المؤلف بمنزلة لغة أجنبية، أم جاءتهم في هذه اللغة الأدبية التي يسميها: لغة قريش؟!. * امرؤ القيس وعلقمة: عرَّج المؤلف على القصيدة التي يروى: أن امرأ القيس قالها في مباراة بينه وبين علقمة، وهي: "خليلي مرّا بي على أم جندب" وقال في (ص 149): "نجزم نحن بأنها منتحلة انتحالاً". خاض المؤلف في انتحال هذه القصيدة، كان الرواة أجمعوا على إضافتها إلى امرئ القيس، وقد سبقه طائفة إلى إنكارها، وممن نشر رأي هذه الطائفة: المرزباني في كتاب "الموشح" (¬1) حين ساق مباراة امرئ القيس وعلقمة، ثم قال: "وقد روى هذا الحديث أيضاً ابن الكلبي، ورواه أيضاً عبدالله بن المعتز، وذكره فيما أنكر من شعر امرئ القيس". ¬

_ (¬1) (ص 30).

وينبئك باختلاف الرواة في شأن هذه المباراة: أن أحمد بن عبيد يقول: كان ابن الجصّاص وحمّاد يرويان: "ذهبت من الهجران في كل مذهب" لامرئ القيس، وكان المفضّل يرويها لعلقمة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) "شرح ابن الأنباري للمفضليات" (ص 765).

علقمة

علقمة * معاصرة امرئ القيس لعلقمة: انتقل المؤلف إلى الحديث عن علقمة: فقال في (ص 155): "فأما علقمة، فلا يكاد الرواة يذكرون عنه شيئاً إلا مفاخرته لامرئ القيس، ومدحه ملكاً من ملوك غسان ببائيته التي مطلعها: طحا بل قلبٌ في الحسان طروبُ ... بُعيد الشباب عصرَ حان مشيبُ وإلا أنه كان يتردد على قريش، ويناشدها شعره، وإلا أنه مات بعد ظهور الإسلام؛ أي: في عصر متأخر جداً بالقياس إلى امرئ القيس الذي مهما يتأخر، فقد مات قبل مولد النبي، والذي نرى نحن أنه عاش قبل القرن السادس، وربما عاش قبل القرن الخامس أيضاً". يقول الرواة: إن امرأ القيس كان معاصراً لعلقمة، وإنه كان في منتصف المئة السادسة عائشاً، والمؤلف ينكر هذه المعاصرة، ويرى أنه عاش قبل القرن السادس، أو قبل القرن الخامس أيضاً. شأن الباحث المستقيم ألا ينكر ما يقوله الرواة حتى يقدم بين يدي إنكاره بيّنة، والمؤلف لا يرغب في أن يأتي ببينة، كأنه لا يحتفل بتاريخ هذا الأدب إلى حد أن ينكر ما تتوارد عليه الروايات، دون أن يثير حول هذا الإنكار ولو شبهة يمكنه أن يسميها مستنداً.

عبيد

عبيد * عبيد بن الأبرص: انتقل المؤلف إلى حديث عبيد بن الأبرص، وأخذ يذكر ما ألصق به من أساطير؛ كاسم شيطانه، وما له من أحاديث مع الجن. وقال في (ص 151): "ولكن كل ما نقرأ من أخبار عبيد لا يعطينا من شخصيته شيئاً، ولا يبعث الاطمئنان إلا في أنفس العامة، أو أشباه العامة". لعلك لا تجد تاريخ عصر أو تاريخ رجل خالصاً من أن يدخله الاختلاق، سالماً من أن تضاف إليه مزاعم إنما تتقبلها العامة أو أشباه العامة، ولكن الذين أوتوا العلم والألمعية في كل عصر، هم الذين ينقدون الأخبار، ويميزون الخياليات مما يجري على سنّة الله في الخليقة. وقد نبه العلماء على كثير من هذه المزاعم، وما كل من يحكي خبراً يعد مطمئناَ إليه، قال الجاحظ في هذا الشأن: "ولم أعب الرواية، وإنما عبت الإيمان بها، والتوكيد لمعانيها، فما أكثر من يروي هذا الضرب على التعجب منه، وعلى أن يجعل الرواية سبباً لتعرف الناس حق ذلك من باطله" (¬1). ومن أخبار عبيد ما يقول صاحب "الأغاني" فيه: "وهو خبر مصنوع ¬

_ (¬1) كتاب "الحيوان" (ج 1 ص 86).

قول ابن سلام في شعر عبيد

يتبين التوليد فيه". ومنها ما عزاه إلى شرقي بن القطامي، وشرقي بن القطامي معروف بين أهل العلم والأدب بأنه "كان كذّاباً" (¬1)، وأنه "كان صاحب سمر" (¬2)، فما يروى عنه إنما يطرح على بساط السمر، ولا يأخذه الناس على أنه تاريخ صحيح. ومنها ما يرويه عن ابن الكلبي، وابن الكلبي معدود فيمن لا يوثق بروايته (¬3)، وقالوا: إنما هو صاحب سمر. فأهل العلم الذين يضيفون إلى نباهتهم العلم بأحوال من يروي عنهم صاحب الأغاني، هم أبعد الناس عن قبول هذا الذي يتحدث به عن عبيد. * قول ابن سلام في شعر عبيد: انصرف المؤلف للحديث عن شعر عبيد، وأتى على قول ابن سلام في "الطبقات": إنه لم يبق من شعر عبيد وطرفة إلا قصائد بقدر عشر. ثم قال في (ص 151): "ولكنه يحدثنا في موضع آخر أنه لا يعرف له إلا قوله: أقفر من أهله ملحوبُ ... فالقُطَبيات فالذَّنوب ثم يقول ابن سلام: ولا أدري ما بعد ذلك. ولكن رواة آخرين يروون هذه القصيدة كاملة". يقول ابن سلام: لا أعرف لعبيد إلا قوله: أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب ¬

_ (¬1) "الفهرست" لابن النديم. (¬2) "طبقات الأدباء" لابن الأنباري (ص 43). (¬3) "منهاج السنّة" (ج 3 ص 19).

قصيدة عبيد

ومن المحتمل أن يكون معنى كلامه: أنه لا يعرف له إلا هذه القصيدة، وأشار إليها بذكر طالعها، ثم هو لا يدري ما وراءها من الشعر المعزوّ إليه، ومن المستبعد أن يقول ابن سلام: إن الرواة المصححين لم يحفظوا لعبيد وطرفة إلا قصائد بقدر عشر، ثم يقول: إنه لا يعرف لعبيد إلا هذا البيت الذي هو مطلع قصيدته. * قصيدة عبيد: قال المؤلف في (ص 152): "ويكفي أن نقرأ هذه القصيدة التي قدمنا مطلعها لنجزم بأنها منتحلة لا أصل لها. وحسبك أن يثبت فيها وحدانية الله، وعلمه، على نحو ما يثبتها القرآن فيقول: والله ليس له شريك ... علّام ما أخفت القلوب القصيدة غير منسوجة على وزن منتظم، ولا يزيد العرب على أن يعدوه عيباً، ويسمّى بالرّمل، قال المرزباني في كتاب "الموشح" (¬1): "والرمل عند العرب كل شعر ليس بمؤلف البناء، ولا يجدون فيه شيئاً إلا أنه عيب، وقد ذكر الأخفش أنه مثل قوله: أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب وربما سمّوه: "التخليع". قال قدامة بن جعفر في كتاب "نقد الشعر" (¬2): "من عيوب أوزان الشعر: "التخليع"، وهو أن يكون قبيح الوزن، قد أفرط قائله في تزحيفه". وضرب لهذا أمثلة منها قول عبيد: ¬

_ (¬1) (ص 25). (¬2) (ص 68).

والمرء ما عاش في تكذيب ... طول الحياة له تعذيب وقال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر في "اختيار المنظوم والمنثور" يصف هذه القصيدة: "لم يقل أحد في وزنها وعروضها، ولا على مثالها إلا ذو الأصبع العدواني، وما قاربها، ولا دنا منها". لعل المؤلف لا ينكر القصيدة من ناحية اختلال وزنها، فإنه سيدهشك في الحديث عن مهلهل، ويعد في أسباب إنكاره لقصيدة "أليلتنا بذي حسم" استقامة وزنها، وإطراد قافيتها. وأما بيت: "علّام ما أخفت القلوب" فقد التقط (مرغليوث) أبياتاً من هذا النوع، وفي هذا المعنى، وساقها في مقاله المنشور في مجلة "الجمعية الآسيوية الملكية" مستشهداً بها على أن هذا الشعر لم يصدر عن العرب قبل الإسلام. وقد سبق القدماء إلى نقد الشعر الجاهلي من هذا الوجه، فإذا رأوا بيتاً فيه شيء من روح القرآن، أو احتوى معنى يختص بالإسلام، ارتابوا فيه، وذهبوا به مذهب المنحول. أورد ابن قتيبة قصيدة للبيد ذكر أنه قالها قبل الإسلام، وفي آخر القصيدة: وكل امرئ يوماً سيعلم سعيه ... إذا كشفت عند الإله المحاصلُ ثم قال: "هذا البيت يدل على أنه قيل في الإسلام، وهو شبيه بقول الله -تبارك وتعالى- {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات: 10]، أو كان لبيد قبل إسلامه

الكيد للحقيقة والتاريخ

يؤمن بالبعث والحساب، ولعل البيت منحول" (¬1). وبيت: هي الخمر تكنّى بأم الطلا ... كما الذئب يكنّى أبا جعده يُعزى إلى عبيد بن الأبرص، وربما وجد في بعض النسخ من ديوانه، وقد ذهب المعري في "رسالة الغفران" إلى أنه منحول، فقال: "والذي أذهب إليه: أن هذا البيت قيل في الإسلام بعد أن حرّمت الخمر". فالقدماء يعنون بنقد الشعر الجاهلي من هذه الناحية، وحيث جاز أن تكون القصيدة في أصلها ثابتة، وأن التزوير إنما يقع في بيت منها، أو أبيات، يأخذون إلى المنحول ما دخلته الريبة، ويذرون ما عداه معزواً إلى صاحبه حتى يطلعوا له على وجه من هذه الوجوه الدالة على التزوير. فبيت: "والله ليس له شريك" إنما يحمل الاعتقاد بالإله، وما يجب له من صفة العلم، ومن يسلم أن عبيد بن الأبرص لم يكن من أصحاب هذه العقيدة، فأقصى ما يبني على هذا المعنى أن يكون البيت منحولاً، ولا يسري حكمه إلى القصيدة بأسرها، ولعل هذا البيت لم يتفق عليه رواة القصيدة، فقد رويت في "جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد، ولم يجئ هذا البيت في روايتها. * الكيد للحقيقة والتاريخ: قال المؤلف في (ص 153): "وقد رأيت من هذه الإلمامة القصيرة بهؤلاء الشعراء الثلاثة -امرئ القيس، وعبيد، وعلقمة-: أن الصحيح من شعرهم لا يكاد يذكر، وأن الكثرة المطلقة من هذا الشعر مصنوعة، لا تثبت شيئاً، ¬

_ (¬1) "الشعر والشعراء" لابن قتيبة (ص 153).

قصيدتان لعلقمة

ولا تنفي شيئاً بالقياس إلى العصر الجاهلي". لم يأت المؤلف في حديثه عن هؤلاء الشعراء الثلاثة بتتيجة زائدة على ما وصل إليه علماء الأدب من قبله، وهو أن فيما يضاف إليهم من الشعر منحولاً كثيراً، وسواء ألمَّ بهؤلاء الشعراء إلمامة قصيرة، أم ألمّ إلمامة طويلة، لا ينتظر منه أن يأتي إلى شعر اتفق الرواة على صحته، ويلقي إليك من فكره كلاماً يقنعك بأنه منحول، نقول هذا بعد أن رأيناه -فيما سلف- لا يكتب إلا وهو ينظر إلى كتاب، أو مقال، أو ذيل، وإذا خرج عنها، فإلى حرفة الكيد للحقيقة، أو التاريخ. * قصيدتان لعلقمة: قال المؤلف في (ص 152): "لا نستثني من ذلك إلا قصيدتين اثنتين لعلقمة: الأولى: "طحا بك قلب للحسان طروب". الثانية: "هل ما علمت وما استودعت مكتوم". فقد يمكن أن يكون لهاتين القصيدتين نصيب من الصحة، مع شيء من التحفظ في بعض أبيات القصيدة الثانية، ولكن صحة هاتين القصيدتين لا تمس رأينا في الشعر الجاهلي، فقد رأيت أن علقمة متأخر العصر جداً، وأنه مات بعد ظهور الإسلام، ورأيت أيضاً أنه كان يأتي قريشاً، ويعرض عليها شعره". إذا كانت القاعدة التي يقيم عليها المؤلف رأيه في صحة نسبة الشعر الجاهلي إلى قائله أن يموت الشاعر بعد ظهور الإسلام، وأن يأتي قريشاً، ويعرض عليها شعره، فالأعشى مات بعد ظهور الإسلام، وكان يأتي كل

سنة سوق عكاظ (¬1)، وذلك معنى إتيانه قريشاً، وعرض شعره عليها، والشمّاخ مات بعد ظهور الإسلام، بل اعتنق الإسلام، وقد كان بالطبيعة ينشد قريشاً شعره، فلماذا لم يستثن المؤلف شيئاً من شعرهما، وعدَّهما في صدر كتابه ممن لا يعتمد على شعرهم في درس الحياة الجاهلية؟!. يقول المؤلف: وصحة هاتين القصيدتين لا تمس رأينا في الشعر الجاهلي. ولعله نسي -وأمثاله لا ينسون كثيراً- ما كتبه تحت عنوان: الشعر الجاهلي واللهجات حين قال: "من المعقول جداً أن تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها، ومذهبها في الكلام، وأن يظهر اختلاف اللغات، وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل، الذي قيل قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة، ولهجات متقاربة (¬2) "، ومن المعروف أن علقمة من بني تميم، والقصيدتان اللتان استثناهما، ورضي بقبولهما لا يخرجان عن هذه اللغة الأدبية التي يسميها: لغة قريش. فقبوله لهاتين القصيدتين ينقض أساس ذلك الفصل الذي وجد له من الحديث ما يملأ نحو عشر صفحات. * * * ¬

_ (¬1) "خزانة الأدب" (ج 3 ص 211). (¬2) "في الشعر الجاهلي" (ص 32).

عمرو بن قميئة

عمرو بن قميئة * عمرو بن قميئة، مهلهل، جليلة: تحدث المؤلف في هذا الفصل عن هذين الشاعرين، وهذه الشاعرة، فابتدأ بحديث عمرو بن قميئة، وتعرض للوجه الذي يذكرونه في تسميته بالضائع. ثم قال في (ص 155): "قال الرواة: إن ابن قميئة عُمّر طويلاً، وعرف امرأ القيس، وقد انتهت به السن إلى الهرم، ولكن امرأ القيس أحبّه، واستصحبه في رحلته رغم سنه. قال ابن سلام: إن بني أقيش كانوا يدعون بعض شعر امرئ القيس لعمرو بن قميئة، وليس هذا بشيء. وفي الحق أن هذا ليس بشيء، فإن هذا الشعر لا يمكن أن يكون لعمرو بن قميئة، كما لا يمكن أن يكون لامرئ القيس، فهو شعر محدث محمول". يختلف الرواة الذين كانوا يلاقون أقواماً من كندة، وأقواماً من قيس في أن هذا الشعر هل هو لكندي يقال له: امرؤ القيس، أو لقيسي يقال له: عمرو بن قميئة، ويرجّح الثقات من هؤلاء الرواة أنه لامرئ القيس، ونحن نعلم من سيرتهم في نقد الشعر: أنهم لا يرجحون نسبته إلى شاعر على نسبته إلى آخر إلا لوجوه تعتمد في الترجيح. ولكن المؤلف يقول: إن هذا الشعر لا يمكن أن يكون لعمرو بن قميئة، كما لا يمكن أن يكون لامرئ القيس،

قصة ابن قميئة وقصيدته في عمه

وإذا كان تاريخ الأدب يُعيَّر بمثل هذه الكلمة الساذجة، فمن الجائز أن يأتي آخر ويقول: وفي الحق أن ما قاله المؤلف ليس بشيء، فلا يلبث الأدب أن يعود إلى تاريخه القديم. * قصة ابن قميئة وقصيدته في عمه: أتى المؤلف بقصة عمرو بن قميئة، وقصيدته التي يعتذر بها لعمه. ثم قال في (ص 157): "ونظن أن النظر في هذه القصة، وفي هذه القصيدة يكفي ليقتنع القارئ بأننا أمام شيء منتحل متكلف، لا حظّ له من صدق". القصة واردة في كتاب "الأغاني" (¬1)، ولم يكن في سياقها ما يقتضي المبادرة إلى إنكارها، كما أن طريق روايتها لا يبلغ من الشدة أن يفيد علماً، أو ظناً قريباً منه، فهي محتملة لأن تكون واقعة، وراويها أبو عمرو الشيباني، ومؤرج، وهذا يرويها عن جماعة كثيرة من قيس بن ثعلبة قبيلة عمرو بن قميئة، ولو كان السند بيننا وبين مؤرج متصلاً متيناً، لكنا من صحة القصة على ظن قريب؛ لأن مؤرجاً ممن يوثق بروايته، وتلقيه لها عن جماعة من قبيلة عمرو يدل على أن القصة دائرة على ألسنتهم، مستفيضة فيما بينهم. أما القصيدة فقد حكم المؤلف بانتحالها مستنداً إلى أن فيها سهولة وليناً، وإذا لم يكن يعرف من عمرو بن قميئة إلا اسمه، فما أدراه أنه لا ينظم في سهولة ولين؟ * أبيات لابن قميئة: تعرض المؤلف إلى الشعر الذي يقال: إن عمرو بن قميئة أنشأه لما ¬

_ (¬1) (ج 16 ص 164).

العودة لقصة حرب البسوس

تقدمت به السن، وجاوز التسعين. وقال في (ص 157): "ويزعم الشعبي، أو من روى عن الشعبي: أن عبد الملك بن مروان تمثل به في علته التي مات فيها". ثم ساق المؤلف الشعر في سبعة أبيات. هذا مروي في كتاب "الأغاني" (¬1). أما قصة إنشاء عمرو بن قميئة للأبيات، فرواها أبو الفرج عن ابن الكلبي، وأما تمثل عبد الملك بن مروان بها في علته، فرواه عن الهيثم (¬2) بن عديّ، وما يقرؤه أهل العلم لهذين الراويين لا يلحقونه بالتاريخ الصحيح، ولا يأخذ منهم مأخذ الظن الراجح، وإذا حكوه، فلأنه من أدب الشعر أو النثر. * العودة لقصة حرب البسوس: عاد المؤلف يلهج بقصة حرب البسوس، ولم ينس أن ينبهك على أنه غير ساذج حتى يسلم بما يتحدث به الرواة من أمرها الطويل العريض، ولكنه اعترف بأن خصومة عنيفة كانت بين القبيلتين، وأن هذه الخصومة سفكت فيها الدماء، وكثرت فيها القتلى. ثم قال في (ص 159): "على أن بعض الرواة كانوا يظهرون كثيراً من الشك فيما كانت تتحدث به بكر وتغلب من أمر هذه الحروب". إذا كان المؤلف يعلم أن من الرواة من كان يظهر كثيراً من الشك في ¬

_ (¬1) (ج 16) أخبار عمرو بن قميئة. (¬2) اجتمع المحدثون والأدباء على وصفه بالكذب. انظر: "لسان الميزان" لابن حجر (ج 6 ص 209)، و"البيان" للجاحظ (ج 2 ص 10).

حديث هذه الحروب، أفلا يكفكف من غلوائه حين ينسب إلى الرواة باطلاق: أنهم كانوا يقبلون ما يروى من أيام العرب، أو أيام الناس على أنه جد من الأمر! أو لا يخفف من نزقه حين يسمي القول بأن في حرب البسوس توسيعاً: نظرية له؟!. حرب البسوس وردت في الجزء الرابع (¬1) من كتاب "الأغاني"، وتجد في مساقها ما ينبئك بأن القوم أعرف بطرق العلم، وأرفع من هذه المنزلة التي يلصقهم بها المؤلف في شيء من الازدراء: تجد في مساقها بعد أن يذكر لك اسم الراوي كلمة: "يزعم"، و"يزعمون"، وتجد مع هذا نقداً صريحاً، وإنكاراً لبعض ما تحتويه القصة من أخبار. وكيفما كان مسلكهم في هذه الأخبار، فإنه لا يليق بالمؤلف أن يباهي بنظرية دخول الوضع في حرب البسوس، فقد سبقه إلى هذه النظرية جرجي زيدان في "تاريخ آداب اللغة العربية" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) (ص 140). (¬2) (ج 2 ص 293).

مهلهل

مهلهل * مهلهل: ذكر المؤلف قول ابن سلام: إن العرب كانت ترى أن مهلهلاً كان يتكثر، ويدّعي في شعره، وزعم أن مهلهلاً لم يتكثر، أو لم يدع، وإنما تكثرت تغلب في الإسلام، وادعت. وقال في (ص 160): "ولم تكتف بهذا الانتحال، بل زعمت أنه أول من قصد القصيد، وأطال الشعر. ثم أحست ما نحس الآن، أو أحسه الرواة أنفسهم، وهو أن في هذا الشعر اضطراباً واختلاطاً، فزعمت، أو زعم الرواة: أنه لهذا الاضطراب والاختلاط سمّي مهلهلاً؛ لأنه هلهل الشعر. والهلهلة الاضطراب. ويستشهد ابن سلام على هذا بقول النابغة: أتاك بقول هلهل النسج كاذب وليس من شك في أن شعر مهلهل مضطرب فيه هلهلة واختلاط". شاعر نشأ في عصر جاهلي، ليس في البيئة التي عاش فيها عناية بالكتابة، وإنما ينقل حديثه وأشعاره الناس الذين شهدوا عصره، ويتلقاها من بعدهم فمن بعدهم إلى عصر التدوين، وكل أهل العلم أو أشباه أهل العلم لا يفوتهم أن أخباراً هذا شأنها لا تخلو من إضافات، أو إعطائها لوناً غير لونها الموافق للحقيقة، ومن الذي لا يشعر بأنه يطمئن إلى أن قصيدة: "السيف أصدق أنباءً

من الكتب" لأبي تمام أكثر مما يطمئن إلى أن قصيدة: "خليلي لا تستعجلا أن تزوّدا" لعمرو بن قميئة؟. وهذا ما دعا الثقات النبهاء من الرواة أن نقدوا تلك الأشعار من جهة نسبتها إلى قائليها، وما لم يبد على طريقه أثر الاختلاق، ولم يلقوا في نفس الشعر ما ينبو به عن أن يكون لمن نسب إليه، رووه على هذا الوجه، وتلقاه الناس عارفين بمبلغ هذه النسبة من قوة أو ضعف. وما ذكره المؤلف من أن مهلهلاً مأخوذ من الهلهلة، وهي الاضطراب، شيء يقوله بعض الرواة، ويذهب آخرون إلى أن هذا الاسم مأخوذ من الهلهلة، وهي رقة نسج الثوب، ويقولون: سمّي مهلهلاً؛ لأنه أول من رقق الشعر، وتجنب الكلام الغريب الوحشي (¬1)، فهما روايتان، وقد تخير المؤلف منهما الرواية التي تساعده على أن يداعب القراء. هذا وقد نظر الرواة النبهاء في شعر مهلهل، ولم يقبلوه مطوياً على ما فيه من مصنوع، ونبهوا على هذا بكلمات عامة؛ كقول الأصمعي: "وأكثر شعره محمول عليه (¬2) ". وتراهم ينقدون أبياتاً بعينها؛ كما قال الأصمعي أيضاً: "إن هذا البيت الذي يروى لمهلهل مصنوع محدث، وهو قوله: انبضوا معجس القسي وأبرقْنا ... كما توعد الفحول الفحولا فقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: لم أر أكثر حفظاً وفهماً منه، نعم، هذا من قديم المولد (¬3) ". ¬

_ (¬1) "الموشح" (ص 74). (¬2) "الموشح" للمرزباني. (¬3) "الموشح" (ص 196).

المتقدمون من الشعراء

وبلوغهم في نقد شعر مهلهل هذا المبلغ، يجعلنا على ظنّ من أن هذا المقدار الذي يرويه الثقات لمهلهل بعيد عن أن يكون من المحمول عليه. * المتقدمون من الشعراء: قال المؤلف في (ص 161): "ويحسن أن نظهرك على شيء من شعر مهلهل؛ لترى كما نرى أنه لا يمكن أن يكون أقدم شعر قالته العرب". وساق قصيدة: أليلتنا بذي حُسم أنيري ... إذا أنت انقضيت فلا تحوري ثم قال: "أليس يقع من نفسك موقع الدهش، أن يستقيم وزن هذا الشعر، وتطرد قافيته، وأن يلائم قواعد النحو وأساليب النظم، لا يشذ في شيء، ولا يظهر عليه شيء من أعراض القِدم، أو مما يدل على أن صاحبه هو أول من قصد القصيد، وطول الشعر؟ أليس يقع في نفسك هذا كله موقع الدهش، حين تلاحظ معه سهولة اللفظ ولينه، وإسفاف الشاعر فيه إلى حيث لا تشك أنه رجل من الذين لا يقدرون إلا على مبتذل اللفظ وسوقيه؟ ". لا يعرف لإنشاء الكلام الموزون بداية، ولم يتفقوا في شاعر على أنه أقدم من نظم القصيد، وقد اختلفوا في أول من أطال الشعر، فادعت كل قبيلة لشاعرها أنه الأول: "ادعت اليمانية لامرئ القيس، وبنو أسد لعبيد ابن الأبرص، وتغلب لمهلهل، وبكر لعمرو بن قميئة، والمرقش الأكبر، وإياد لأبي دؤاد، وزعم بعضهم أن الأفوه الأودي أقدم من هؤلاء، وأنه أول من قصّد القصيد" هكذا يقول عمر بن شبة في "طبقات الشعراء"، ثم قال: "وهؤلاء النفر المدّعى لهم التقدم في الشعر يتقاربون. لعل أقدمهم لا يسبق

الهجرة بمئة سنة أو نحوها". وإذا كانوا معترفين بأن أصل نظم الشعر سابق على هؤلاء بقرون، وكان الذي ادعي لمهلهل إنما هو إطالة الشعر، لم يكن من الموقع في دهشة أن يستقيم وزن ما يقوله مهلهل، وتطرد قافيته، وأن يلائم قواعد النحو وأساليب النظم، بل الذي يقع في نفوسنا موقع الدهش أن يطعن في نسبة شعر إلى عربي قحّ بأنه مستقيم الوزن، مطرد القافية، ملائم لقواعد النحو! ولم يصف المؤلف أعراض الشعر لعهد إطالته، حتى ننظر إلى هذه القصيدة المعزوّة إلى مهلهل كيف لم تقم بها هذه الأعراض. يذهب المؤلف إلى زعم اصطناع القصيدة من ناحية سهولتها ولينها، وهو مدفوع بأنه لا يعرف مهلهلاً، ولم يثبت له شيئاً من الشعر صعباً خشناً، حتى يتبيّن أن هذا الشعر السهل اللين لم يكن من منظومه. وأما ما رماها به من الإسفاف، فكلمة هو قائلها، والقصيدة لائقة بمقام شاعر بليغ، وهذا الأصمعي يقول: لو قال مهلهل مثل قوله: "أليلتنا بذي حسم أنيري" خمس قصائد، لكان أفحلهم. * * *

جليلة

جليلة قال المؤلف في (ص 162): "ولكنا لا نريد أن نترك مهلهلاً دون أن نضيف إليه امرأة أخيه جليلة، التي رثت كليباً -فيما يقول الرواة- بشعر لا ندري أيستطيع شاعر أو شاعرة في هذا العصر الحديث أن يأتي بأشد منه سهولة وليناً وابتذالاً، مع أننا نقرأ للخنساء، وليلى الأخيلية شعراً فيه من قوة المتن وشدة الأسر، ما يعطينا صورة صادقة للمرأة العربية البدوية". وساق بعد هذا قصيدة جليلة في أحد عشر بيتاً. قصة جليلة والأبيات التي سردها المؤلف واردة في كتاب "الأغاني" مروية عن شرقي بن القطامي، وإذا كانت روايتها تدور على شرقي، فأهل العلم ينظرون إليها بمنزلة الأسمار، ويأخذونها حرصاً على ما فيها من حلية أدبية. وسواء علينا أوجد لروايتها سند غير ابن القطامي، أم لم يوجد، فالقصيدة ليست على ما يصف المؤلف من الابتذال، فإنك تجد فيها نظماً محكماً، ومعاني سامية، وأبياتها تختلف بحسب روايتها في المقدار، وترتيب بعض الأبيات. وعلى أي حال كانت، لا يصح لأستاذ الآداب أن يصف بالابتذال وضعف الأسر هذا الشعر: يا قتيلاً قوّض الدهر به ... سقف بيتيَّ جميعاً من علِ ورماني فقدُه من كثبٍ ... رمية المصمى به المستأصَل

هدم البيت الذي استحدثته ... وسعى في هدم بيتي الأول مسّني فقدُ كليبٍ بلظى ... من ورائي ولظًى مستقبلي ليس من يبكي ليومين كمن ... إنما يبكي ليوم ينجلي يشتفي المدرك بالثأر وفي ... دركي ثأري ثكل المثكل ليته كان دمي فاحتلبوا ... دركاً معه دمي من أكحلي ولا ندري كيف غاب عن المؤلف أن يشفق على هذه الثكلى، ويترك لها من هذا الشعر ولو ريحه، فهلّا قال كما قال في قسم من "قفا نبك": فيه شيء من ريح جليلة، ولكن من ريحها ليس غير!. ولا عجب أن يتصور المؤلف، أو يصور تاريخ العرب على غير وجهه الحق، ولا عجب ألا يبصر ما في حقائق الإسلام من وضاءة وحكمة، فإنه أصبح غريباً عن العرب والإسلام، والغريب -كما يقولون- أعمى، وإنما العجب من أستاذ الآداب أن ينقد الشعر بما لا ينقده به ذوو الأذواق السليمة!.

عمرو بن كلثوم

عمرو بن كلثوم ابتدأ المؤلف بحديث عمرو بن كلثوم، وذكر أنه أحيط بطائفة من الأساطير، وحكى قصة مهلهل في أمره لزوجته بوأد ابنته ليلى التي يقال: إنها أم عمرو بن كلثوم، وحديث الهاتف الذي أنشده في منامه بيتين يومئ بهما إلى أن ليلى ستلد فتى يكون له شأن، وأتى بما يزعم من أن أتياً أتى ليلى وهي حامل بعمرو، وأتاها وقد مرت على ولادته سنة، وينشدها في المرتين وهي نائمة شعراً ينوه فيه بشأن الجنين والرضيع. هاتان القصتان من النوع الذي يتحدث به الناس في السمر، ولا يذهبون به مذهب التاريخ الموثوق به، فهما يناديان على أنفسهما بالاصطناع، ولا سيما حين ترى صاحب "الأغاني" يرفع سندهما إلى رجل من بني تغلب لم يذكر اسمه (¬1)، فللمؤلف أن يشغل وقته بنقد هذا السخف متى كان غرضه تمرين الأطفال على نقد الأساطير، أما الطلبة الذين يصلون إلى أن يترددوا على الجامعة، فإنهم عن هذا النقد المبتذل السوقي لفي شغل. * قصيدة عمرو بن كلثوم: قال المؤلف في (ص 165): "وسواء أكان عمرو بن كلثوم شخصاً ¬

_ (¬1) (ج 9 ص 181).

من أشخاص التاريخ، أم بطلاً من أبطال القصص، فإن القصيدة التي تنسب إليه لا يمكن أن تكون جاهلية، أو لا يمكن أن تكون كثرتها جاهلية". تردد المؤلف في أن المنحول من القصيدة جميعها، أو كثرتها، وسيذهب في (ص 172) إلى أنها منحولة بجملتها، وهذا هو الذي يلتئم مع الدليل الذي يسميه دليلاً فنياً، وهو اختلاف اللهجات، فإن القصيدة مصبوبة في لهجة هي هذه اللهجة التي تتماثل فيها أشعار البلغاء. ونحن نرجح أن تكون القصيدة جاهلية، إذ ليس في ألفاظها أو معانيها ما يجعلها بموضع الريبة، ما عدا اختلاف الروايات في بعض أبياتها، وسننظر في شأنه قريباً، ونرجح أن تكون لعمرو بن كلثوم؛ لأن الرواة ينسبونها إليه، ولم يقم في سبيل هذه النسبة ما يقطعها، ويضاف إلى هذا: أنّا نجد في كتب الأدب آثاراً تدل على أن القصيدة كانت مستفيضة على ألسنة بني تغلب، كبارِهم وصغارِهم، قال ابن قتيبة في كتاب "الشعر والشعراء": "وكان ابن كلثوم قام بها خطيباً فيما كان بينه وبين عمرو بن هند، ولشغف تغلب بها، وكثرة روايتهم لها قال بعض الشعراء: ألهى بني تغلب عن كل مكرمةٍ ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لفخر غير مسؤوم وجاء هذا في كتاب "الأغاني" (¬1) أيضاً، فقال أبو الفرج: "وبنو تغلب تعظمها جداً، ويرويها صغارهم وكبارهم حتى هُجوا بذلك، قال بعض شعراء بكر بن وائل: "ألهى بني تغلب" البيتين. ¬

_ (¬1) (ج 9 ص 181).

قصة قتل عمرو بن كلثوم لعمرو بن هند

ويقولون بعد هذا: إنه كان قام بها خطيباً بسوق عكاظ، وقام بها في موسم مكة (¬1). وهذه الآثار ليست بأقل قيمة من الأثر الذي أخذ به المؤلف في أن علقمة كان يتردد على قريش، ويعرض عليها شعره. فالقصيدة سالمة من دواعي الريبة، والرواة يشهدون بأنها لابن كلثوم، وهذه الآثار تدل على أنها كانت مستفيضة على ألسنة بني تغلب، فهي لعمرو ابن كلثوم لا تخرج عن حوزه حتى يقيم (مرغليوث)، أو حتى يقيم المؤلف على اصطناعها بينّة. * قصة قتل عمرو بن كلثوم لعمرو بن هند: ساق المؤلف قصة قتل عمرو بن كلثوم لعمرو بن هند، وما يذكره بعض الرواة في سبب هذا القتل. وقال في (ص 166): "أليس هذا لوناً من الأحاديث التي كان يتحدث بها القصّاص يستمدونها من حاجة العرب إلى المفاخرة والتنافس؟ بلى! وقصيدة عمرو بن كلثوم نفسها نوع من هذا الشعر الذي كان ينتحل مع هذه الأحاديث". القصة التي حكاها المؤلف جاعت في كتاب "الأغاني" (¬2) مروية عن ابن الكلبي عن شرقي بن القطامي، وإذا كان هذا مبلغها من الرواية، فهي لا تعدو أن تكون من الأسمار، وأهل العلم لا يدخلون مثل هذا في التاريخ الموثوق به، وقد رواها بعض شراح المعلقات عن أبي عمرو الشيباني أيضاً، وهي بعد هذا محتملة لأن تكون واقعة، بل الظاهر أن أصلها، وهو قتل عمرو بن ¬

_ (¬1) "أغاني" (ج 9 ص 182). (¬2) (ج 9 ص 182).

اختلاف الرواة في أبيات من قصيدة ابن كلثوم

كلثوم لعمرو بن هند كان أمراً واقعاً؛ فإن هذه الحادثة كانت مذكورة في عهد جرير والأخطل، وأشار إليها الأخطل في قوله: أبني كليبٍ إن عَمَّيَّ اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا ولم يمض وقتئذ على عهد عمرو بن كلثوم وعمرو بن هند إلا نحو مئة سنة، وقتل ملك كعمرو بن هند واقعة عظيمة، شأنها أن يبقى ذكرها دائراً في النوادي، مستفيضاً على الألسنة، ولا يتضاءل في هذه المدة إلى أن يكون أمراً منسياً، حتى تدعيه تغلب لأحد عظمائها بالباطل، ثم لا يقوم بالإنكار عليها خصمها الذي هو أحرص الناس على ألا يكون لها أثر من فخر، وأبعد من هذا أن يموت ذلك الملك حتف أنفه، وتزعم تغلب أنه مات قتيلاً، وأن قاتله أحد زعمائه. وحيث لم يقم وجه للريبة في أصل القصة، وهو قتل عمرو بن كلثوم لعمرو بن هند، عرّج عليه العلامة ابن خلدون في "تاريخه" (¬1) فقال في الحديث عن عمرو بن هند: "فتك به في رواق بين الحيرة والفرات عمرو بن كلثوم سيد تغلب، ونهبوا حياءه". ومن يسلم أن تلك القصة المفضلة لا تأخذ الظن المعتد به في التاريخ، لا يلزمه أن يذهب في القصيدة التي يرويها الثقات من النبهاء إلى أنها مصطنعة؛ فإن الباحث بجدّ، لا يعمد إلى الخبر يرد عن الرجل من طريق واهية، ويلحق به خبراً آخر لم يدخل عليه من هذا الطريق. * اختلاف الرواة في أبيات من قصيدة ابن كلثوم: ذكر المؤلف شك الرواة في بعض قصيدة عمرو بن كلثوم، واختلافهم ¬

_ (¬1) (ج 2 ص 301).

ألا لا يجهلن أحد علينا

في بعض أبياتها. وقال في (ص 166): "وأولئك وهؤلاء لا يختلفون في إنطاق عمرو ابن عدّي بالبيتين: صددت الكأس عنّا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وما شرُ الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا من الرواة من لم ينطق بهذين البيتين عمرو بن عدي، وهو من يعزوهما إلى عمرو بن معدي كرب أحد الشعراء المخضرمين المتوفى في آخر خلافة عمر - رضي الله عنه -، ذكر صاحب الأغاني البيتين، وقال: "قد زعم بعض الرواة أن هذا الشعر لعمرو بن معدي كرب"، وساق على هذا ما يرويه الهيثم بن عديّ عن ابن عباس من أن: "هذا الشعر لعمرو بن معدي كرب في ربيعة ابن نصر اللخمي" (¬1). ومن الرواة من يرجح أن يكونا لعمرو بن عديّ، ويقول: إن ابن كلثوم أدخلهما في قصيدته (¬2). وسواء أكان البيتان لابن عديّ، وأدخلهما ابن كلثوم في قصيدته، أم نحلهما ابن كلثوم بعضُ الرواة، فإن ورودهما في القصيدة وشأنهما ظاهر لا يسري إلى سائر القصيدة بالاصطناع، وربما كان نقدهما من دلائل صحة ما لا يختلف الرواة في أنه لعمرو بن كلثوم. * ألا لا يجهلن أحد علينا: قال المؤلف في (ص 167): "وستجد فيها أبياتاً تمثل إباء البدوي ¬

_ (¬1) (ج 14 ص 73). (¬2) "خزانة الأدب" (ج 3 ص 498).

للضيم، واعتزازه بقوته وبأسه؛ كقوله: ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا قلت: إن هذا البيت يمثل إباء البدوي للضيم، ولكني أسرع فأقول: إنه لا يمثل سلامة الطبع البدوي، وإعراضه عن تكرار الحروف إلى هذا الحد الممل: ألا لايجهلنْ أحدٌ علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا فقد كثرت هذه الجيمات والهاءات واللامات، واشتد هذا الجهل حتى ملّ". مَن الذي يقرأ هذا البيت، ويجد له في النطق عسراً، أو في الذوق ثقلاً، أو في النفس مللاً؟ إن هذا البيت سهل على اللسان، خفيف على الذوق، طريف في النفس، والتكرار في ذاته لا يخدش وجه الفصاحة، وإنما مرجعه الذوق السليم، فهو الذي يقضي بسوء أثره، أو حسن موقعه من الكلام، وقد بسط البحث وحققه على هذا الوجه الشيخ عبد القاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز"، وضرب أمثلة للتكرار الذي لا يمس فصاحة الكلام، ومن هذه الأمثلة: وجهلٌ كجهل السيف والسيفُ منتضىً ... وحِلْمٌ كحلم السيف والسيفُ مغمد ولعل بعض أشياع المؤلف يذهب إلى أنّ من لم يرم هذا البيت بقلة الفصاحة، فذوقه غير سليم، فنقول لهم: اقرؤوا البيت خالية أذهانكم من كل ما قاله صاحبكم فيه، ثم انظروا ماذا ترون؟!. نحن نعلم أن الذوق هو الذي يستفتى في شأن التكرار، ولهذا لم نعب

كيف كان شعراء ربيعة يتحدثون؟

قول المؤلف في (ص 8): "أن أجيبك على هذا السؤال، بل أنا لا أكتب ما أكتب إلا لأجيبك عليه، ولأجل أن أجيبك عليه إجابة مقنعة يجب". ولو فرضنا أن التكرار في البيت ثقيل معيب، فمن الذي يقول: إن العربي القحّ لا يكبو في بيت من الشعر يحسبه خفيفاً على الذوق، وهو على الذوق ثقيل؟ فالمؤلف يزعم أن القصيدة مصطنعة، والبيت غير فصيح. ولا ينازع في أن منشئها عربي فصيح، فالعلّة التي يذكرها في نظم العربي لهذا البيت المكروه يصح لنا أن نذكرها حين ننسب الشعر لابن كلثوم، ولا أحسبه يقول: إن صانع القصيدة أتى بهذا البيت غير الفصيح نكاية بابن كلثوم. ولو فرضنا أن التكرار في البيت مكروه، وأن العربي القح لا يخونه ذوقه، فيقول ما تنبو عنه الأذواق السليمة، لكان من المعقول أن يحكم باصطناع البيت وحده، ولا يسري حكمه إلى القصيدة بجملتها. * كيف كان شعراء ربيعة يتحدثون؟ قال المؤلف في (ص 167): "ومهما يكن من شيء، فإن قصيدة ابن كلثوم هذه من رقة اللفظ وسهولته، ما يجعل فهمها يسيراً على أقل الناس حظاً من العلم باللغة العربية في هذا العصر الذي نحن فيه. وما هكذا كانت تتحدث العرب في منتصف القرن السادس للمسيح، وقبل ظهور الإسلام بما يقرب من نصف قرن. وما هكذا كانت تتحدث ربيعة خاصة في هذا العصر الذي لم تسد فيه لغة مضر، ولم تصبح فيه لغة الشعر. بل ما هكذا كان يتحدث الأخطل التغلبي الذي عاش في العصر الأموي؛ أي: بعد ابن كلثوم بنحو قرن. واقرأ هذه الأبيات، وحدثني: أتطمئن إلى جاهليتها؟ "، وساق المؤلف نحو

اثنين وثلاثين بيتاً من معلقة ابن كلثوم، وقال: "أمتن من هذه القصيدة وأرصن، قصيدة الحارث من حلّزة". شأنُ الباحث الذي يريد نفي قصيدة عن عصر، ويذهب إلى نفيها من ناحية مخالفتها لأسلوب ذلك العصر: أن يشرح هذا الأسلوب، ويرسم صورته في أذهان طلابه، ويقيم البيّنة على أن هذه الصورة صادقة، هكذا يفعل الباحث المستقيم، ولكن المؤلف ينفي قصيدة: "ألا هبّي" عن منتصف القرن السادس للمسيح، بزعم أن العرب أو ربيعة ما كانت تتحدث هكذا، ولم يخطر على باله أن يقول كلمة تصور طريقة الحديث في ذلك العهد، وتثبت أن هذه السهولة لا تطوع بها ألسنتهم في حال. نحن والمؤلف في عدم معرفة طرز حديث ذلك العهد على سواء، وليس بين أيدينا سوى هذا الشعر الذي يقول الرواة: إنه مما تحدثت به ربيعة في منتصف القرن السادس للمسيح، وليس من أدب البحث أن نقول لهم: هذا لا يشبه حديث ربيعة في ذلك العهد، إلا أن نعرف من طريق آخر كيف كان شعراء ربيعة يتحدثون.

الحارث بن حلزة

الحارث بن حلزة حكى المؤلف قصة الحارث بن حِلِّزَة مع عمرو بن هند، وإلقائه معلقته بين يديه، وجاء في خلال القصة: أنه اعتمد على قوسه، وارتجل هذه القصيدة. ثم قال في (ص 170): "ويكفي أن تقرأ هذه القصيدة؛ لترى أنها ليست مرتجلة ارتجالاً، وإنما هي قصيدة نظمت، وفكر فيها الشاعر تفكيراً طويلاً، ورتب أجزاءها ترتيباً دقيقاً". انقاد المؤلف إلى هذا النقد بيد جرجي زيدان، حيث قال في "تاريخ آداب اللغة العربية": "يزعمون أنه قالها ارتجالاً، وذلك بعيد؛ لأنه ذكر فيها عدة من أيام العرب عيَّر ببعضها بني تغلب تصريحاً، وعرض ببعضها لعمرو ابن هند، فهي من قبيل الملاحم في وصف الوقائع". ونقدُ جرجي زيدان هذا الذي اقتدى على أثره المؤلف، إنما يجيء على الرواية التي تقول: إنه ارتجلها ارتجالاً، ولكنك تقرأ القصة في شرح ابن الأنباري للمعلقات، فتجد فيها ما هو صريح في أنه لم يرتجلها -كما تقول تلك الرواية- بين يدي عمرو بن هند ارتجالاً، تقرأ في ذلك الشرح: "وقال الحارث بن حلزة لقومه: إني قد قلت خطبة، فمن قام بها، ظفر بحجته، وفلج على خصمه، فروّاها ناساً منهم، فلما قاموا بين يديه، لم يرضهم، فحين علم أنه لا يقوم بها أحد مقامه، قال لهم: والله! إني كره أن آتي

الأقواء في بيت لابن حلزة

الملك، فيكلمني من وراء سبعة ستور، وينضح أثري بالماء إذا انصرفت عنه، غير أني لا أرى أحداً يقوم بها مقامي، فأنا محتمل ذلك لكم". فهذه الرواية تنفي أن يكون الحارث ارتجل القصيدة بين يدي عمرو ابن هند، وليس فيها ما يدل على أن القصيدة مقولة في غير تفكير وأناة. * الأقواء في بيت لابن حلّزة: قال المؤلف في (ص 170): "وليس فيها من مظاهر الارتجال إلا شيء واحد هو هذا الإقواء الذي تجده في قوله: فملكنا بذلك الناس حتى ... ملك المنذر بن ماء السماء فالقافية كلها مرفوعة إلا هذا البيت، ولكن الإقواء كان شيئاً شائعاً حتى عند الشعراء الإسلاميين الذين لم يكونوا يرتجلون في كل وقت". لم يتفق الرواة على هذا البيت من القصيدة، ولم يأت في النسخة التي كتب عليها التبريزي، ولا النسخة التي كتب عليها أبو عبدالله الزوزني، وإنما هو شيء يرويه الأصمعي عن حرد بن المسمعي، حكى ابن الأنباري في "شرح المعلقات" عن الأصمعي: أنه قال: "أنشدني هذا البيت حرد بن المسمعي، وقال: لا يضرّه إقواؤه، قد أقوى النابغة في قصيدته الدالية، وعاب عليه أهل المدينة، فلم يغيره". * المقايسة بين قصيدتين: قال المؤلف في (ص 171): "نقول: إن قصيدة الحارث أمتن وأرصن من قصيدة ابن كلثوم. وقد نظمتا في عصر واحد، إن صح ما يقول الرواة، فهما مسوقتان إلى عمرو بن هند، فاقرأ هذه الأبيات للحارث، وقارن بينها في اللفظ والمعنى، وبين ما قدمنا لك من شعر عمرو". وساق المؤلف من

القصيدة ثمانية أبيات أولها: ملك أضرع البرية لا يو ... جد فيها لما لديه كفاء ثم قال: "وانظر إلى هذه الأبيات يعيّر فيها الشاعر تغلب بإغارات كانت عليهم لم يتتصفوا لأنفسهم من أصحابها"، وساق تسعة أبيات أولها: أعلينا جناح كندة أن يغـ ... ـنم غازيهم ومنّا الجزاءُ ثم قال: "فأنت ترى أن بين القصيدتين فرقاً عظيماً في جودة اللفظ وقوة المتن وشدة الأسر، على أن هذا لا يغيّر رأينا في القصيدتين، فنحن نرجح أنهما منتحلتان، وكل ما في الأمر أن الذين كانوا ينتحلون كانوا كالشعراء أنفسهم يختلفون قوة وضعفاً وشدة وليناً". الذي يعمد إلى قصيدتين مما يعزى إلى الجاهلية، ويتحدث في تزويرهما، شأنه لا يدخل في بحث سهولة النظم ومتانته إلا إذا قرر للشعر الجاهلي خطة من هاتين الخطتين، ثم يسقط القصيدتين من ناحية مخالفتهما للخطة المعهودة في شعر الجاهليين، وقد نفى المؤلف قصيدة عن عمرو بن قميئة، وأخرى عن مهلهل، وثالثة عن جليلة، واستعان على هذا النفي بما في هذه القصائد من سهولة ولين، وكنا حسبنا ساعتئذ أن ميزة الشعر الجاهلي في نظره أن يخرج في رصانة ومتانة، وعندما انتقل إلى الحديث عن قصيدة الحارث بن حلزة، وأخذ ينعتها بالرصانة والمتانة، سبق ظنّنا إلى أنه سيكفّ عنها بأسه، ويدعها لصاحبها كما سمحت نفسه بأن ترك قصيدتين: "طحا بك قلب"، و"هل ما علمت" لعلقمة، وما لبثنا أن انقلب على تلك الرصانة والمتانة، وساقها مساق السهولة واللين، وقال: الرصين المتين كالسهل اللين، كلاهما منحول، ليس من الجاهلية في شيء!.

يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرماً ... وإنما خطرات من وساوسه وإذا كانت المتانة كاللين لا تحمي الشعر من الرمي بالتزوير، فما هو الداعي إلى المقايسة بين القصيدتين من هذه الناحية؟ لا يبقى لهذه المقايسة وجه سوى أن المؤلف يريد أن يريك شاهداً على أنه ينقد الشعر، ويستطيع أن يميز لينه من خشنه.

طرفة بن العبد

طرفة بن العبد * مطلع قصيدة طرفة: حكى المؤلف قصة طَرَفَة والمتلمِّس، وما جرى لهما مع عمرو بن هند، وأقبل يتحدث عن طرفة، ويعيد قول ابن سلام في طرفة وعبيد: إنه لم يبق من شعرهما إلا قصائد بقدر عشر، ورجع يذكر ما حمل عليه عبارة ابن سلام من أنه لا يعرف لعبيد إلا بيتاً واحداً. ثم قال في (ص 174): "فأما طرفة، فقد عرف له المطولّة، وروي مطلعها هكذا: لخولةَ أطلالٌ ببرقةَ ثَهمدِ ... وقفت بها أبكي وأبكي إلى الغدِ" مطلع هذه القصيدة ورد بروايتين: إحداهما هذه التي اختارها ابن سلام، وثانيتهما رواية الأصمعي، وهي: لخولة أطلال ببرقة تهمد ... تلوح كباقي الوشمِ في ظاهر اليدِ ومن شرّاح المعلّقات من يتعرض للروايتين، ويتناولهما بالشرح واحدة بعد أخرى، وقد عرفت أن اختلاف الروايات في بعض أبيات القصيدة، لا يساعدك على أن تتخذه دليلاً أو شبيهاً بالدليل على أن نسبة هذا الشعر الجاهلي مزورة، وقصارى الارتياب أو الإنكار أن يمس القصيدة في موضع الاختلاف، ولا يتعداه إلى ما لا خلاف فيه.

سهولة الألفاظ وغرابتها في الشعر الجاهلي

* سهولة الألفاظ وغرابتها في الشعر الجاهلي: قال المؤلف في (ص 174): "وأنت إذا قرأت شعر طرفة، رأيت فيه ما ترى في أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين، ولا سيما المضريين منهم، من متانة اللفظ وغرابته أحياناً، حتى لتقرأ الأبيات المتصلة، فلا تفهم منها شيئاً دون أن تستعين بالمعاجم. ولكنك تلاحظ أن هذا الشعر أشبه بشعر المضريين منه بشعر الربعيين، وذكر أن الربعيين يتفقون في السهولة التي تبلغ الإسفاف، وأنه لا يستثنى من شعرهم إلا قصيدة الحارث ابن حلزة، ثم قال: دافكيف شذ طرفة عن شعراء ربيعة جميعاً، فقوي متنه، واشتد أسره، وآثر من الإغراب ما لم يؤثر أصحابه، ودنا شعره من شعر المضريين؟! ". الألفاظ التي يتألف منها شعر طرفة واردة في كلام غيره من منظوم العرب ومنثورهم، وورودها في غير شعر طرفة دليل على أنها مألوفة الاستعمال لذلك العهد، وإذا كانت حروفاً عربية، وكانت من قبيل ما يأخذ به الفصحاء أشعارهم وخطبهم، لم يكن دخولها في شعر طرفة بمستنكر، كما أن أخذها في القصيدة مواقع متقاربة، وهي من الألفاظ العربية الصريحة، لا يثير في نفس الناظر ريبة، وإن لم يكثر استعمالها في المخاطبات أو المنشآت الأدبية كثرة استعمال السيف والرمح، والعلم والجهل، والقلب واللسان، والسماء والأرض، فما يجئ في شعر طرفة من هذه الأبيات التي نستعين على فهم بعض كلماتها بالمعاجم كقوله: أمون كألواح الأران نصأتها ... على لاحب كأنه ظهر برجد قد كان خطابها موجهاً إلى قوم يفهمونها لأول ما يسمعونها، كما

يفهم الناس اليوم قوله: إذا القوم قالوا مَن فتى خلت أنني ... عُنيت فلم أكسل ولم أتبلّدِ ولا ننكر مع هذا أن توصف الكلمة في عهدهم بالغرابة حيث لا تكون كثيرة الدوران في محاوراتهم، أو حيث تكون لغة قبيلة لم تتناولها الفصحاء من سائر القبائل، فيخفى فهمها على كثير من العرب أنفسهم. ولا يبقى بعد هذا سوى النظر في اختلاف شعراء الجاهلية، حيث يذهب بعضهم في شعره إلى السهولة، فيصوغه من الكلمات الكثيرة الدوران في منشآت الفصحاء ومحاوراتهم، ويذهب آخرون إلى أن يدخلوا في نسجه شيئاً من هذه الكلمات الغريبة قليلاً أو كثيراً. لا ننظر إلى الشعر في صدر الإسلام، أو في عهد الدولة الأموية، أو حين أخذت اللغة هيئة غير هيئتها الفطرية؛ فإن اختلاف الشعراء لهذه العصور في سهولة الألفاظ وغرابتها غني عن إقامة الشاهد والمثال، بل لا نذهب بالقارئ مذهب الإسهاب، فنسوق إليه شواهد من الشعر الجاهلي الذي قال عنه المؤلف: إنه منتحل انتحالاً. وإنما ننظر في الشعر الجاهلي الذي عفا عنه المؤلف، ولم يجعل على الناس من حرج في أن يضيفوه إلى قائله الجاهلي الصريح. قد كف المؤلف يده في فصل سلف عن قصيدتين لعلقمة، ورفع من قلبه الشك فيهما، وأنت حين تقرؤهما تجد فيهما سهولة شعر مهلهل، وامرأة أخيه جليلة، وعمر بن كلثوم، وتجده يقول في البائية: منعمة ما يستطاع كلامها ... على بابها من أن تزار رقيبُ إذا غاب عنها البعل لم تفش سره ... وترضى إياب البعل حين يؤوب

فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهن عجيب ولو كنا نتحدث إلى غير ذي أذواق سليمة، ونستطيع الإغضاء عن الحقيقة، لرمينا القول كما يرميه المؤلف، وقلنا: في هذه الأبيات مع السهولة إسفاف. وتجد في هاتين القصيدتين الأبيات أو الأشطار المشبّعة بالغرابة؛ كقوله في الميمية: سقى مذانب قد زالت عصيفتها ... حَدورها من أتيّ الماء مطموم وقوله: يظلّ بالحنظل الخطبان ينقفه ... وما استطف من التنوم مخذوم وقوله: إذا تزغم من حافاتها ربع ... حنت شغاميم في حافاتها كوم وقوله: "جلذية كافان الضحل علكوم" وقوله في البائية: "له فوق أصواء المتان علوب" فإن كان الجاهلي لا ينظم الشعر سهلاً، ففي شعر علقمة ما يفهمه السوقة حين يجري على لسان المارّ في قارعة الطريق. وإن كان الجاهلي لا ينظمه غريباً، ففي شعر علقمة ما لا يفهمه طالب العلم إلا أن يستعين عليه بمثل "لسان العرب"، أو "القاموس". وإن كان الجاهلي لا يأخذ في

أبيات طرفة في وصف الناقة

شعره بالسهولة تارة، وبالغرابة أخرى، ففي شعر علقمة السهل اللين، وفيه ما لا يفهمه المؤلف إلا أن يستعين عليه بالمعاجم. * أبيات طرفة في وصف الناقة: قال المؤلف في (ص 175): "وانظر في هذه الأبيات التي يصف بها الناقة: وإني لأمضي الهمّ عند احتضاره ... بعوجاءَ مِرْقالٍ تروح وتغتدي وسرد ستة أبيات بعدها. ثم قال: "وهو يمضي على هذا النحو في وصف ناقته، فيضطرنا إلى أن نفكر فيما قلناه من قبل من أن أكثر هذه الأوصاف أقرب إلى أن يكون من صنعة العلماء باللغة منه إلى أي شيء آخر". دعوى أن هذا الشعر من صنع علماء اللغة ليس بالمستحيل الذي يأباه العقل في كل حال، ولكنه لا يزال في رأينا بعيداً، ولا سيما حيث لم يشده المؤلف برواية، أو رأي يجعل نظم طرفة لهذا الشعر شيئاً نكراً. اللفظ والأسلوب عربي فصيح، ووصف العرب للناقة والفرس في أشعارهم سنّة جارية، وتفاوت أبيات القصيدة في السهولة والغرابة معروف في كثير من أشعار الجاهليين والإسلاميين. إذاً لا غرابة في أن تكون هذه الأبيات الواردة في وصف الناقة لطرفة بن العبد. * الحديث عن اللهو واللذة والإلحاد: قال المؤلف في (ص 176): "ولكن دع وصفه للناقة، واقرأ: ولست بحلال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد

وسرد بعده ثمانية أبيات من القصيدة، وأثنى على هذه الأبيات من ناحية نسجها. وقال: "وامض في قراءة القصيدة، فستظهر لك شخصية قوية ومذهب في الحياة واضح جلي: مذهب اللهو واللذة يعمد إليهما من لا يؤمن بشيء بعد الموت، ولا يطمع في الحياة إلا فيما تتيح له من نعيم بريء من الإثم والعار على ما كان يفهمها عليه هؤلاء الناس: وما زال تشرابي الخمور ولذتي ... وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي" وتلا بعد هذا البيت ثمانية أبيات من القصيدة، ونفى عن هذه الأبيات أن تكون متكلفة، أو منتحلة، أو مستعارة، وأخذ يتحدث عنها في هيئة الطائر فرحاً من وقوعه عليها، وذكر أن فيها شخصية "ظاهرة البداوة، واضحة الإلحاد، بينّة الحزن واليأس، والميل إلى الإباحة في قصد واعتدال"، وانثنى يتحدث عن صاحب هذه الشخصية، ووصفه بالصدق في يأسه وحزنه وميله إلى هذه اللذات. ثم قال: "وإنما الذي يعنيني: أن هذا الشعر صحيح، لا تكلّف فيه ولا انتحال، وأن هذا الشعر لا يشبه ما قدمنا في وصف الناقة، ولا يمكن أن يتصل به، وأن هذا الشعر من الشعر النادر الذي نعثر به من حين إلى حين في تضاعيف هذا الكلام الكثير الذي يضاف إلى الجاهليين، فنحس حين نقرؤه أنا نقرأ شعراً حقاً فيه قوة وحياة وروح". أخذت المؤلف لوقوعه على هذا الشعر هزة ارتياح، فأطلق قلمه في وصفه وتقريظه، كأنه المثل الأعلى لما تجود به القرائح، ويبدع تنسيقه البيان.

المعروف في سنّة البحث: أن الكاتب إذا دعاه الموضوع إلى التعرض لمنثور أو منظوم، وجدته يتناول الحديث عنه من الناحية الملائمة لهذا الموضوع، ويملك نفسه عن أن يأتيه من ناحية لا تلتقي مع البحث في سبيل. والمؤلف لا يأخذ بهذه السنّة، على الرغم من استنارتها، ودلالتها على رسوخ الكاتب في العلم الذي يبحث فيه. يفاتحك هذا المؤلف بالحديث عن الشعر الجاهلي في هيئة الباحث المخلص، فتظن به خيراً، وتلقي إليه سمعك وأنت شهيد، ثم لا يلبث في البحث بضعة أسطر حتى يخرج بك إلى أن يقضي حاجة أخرى، وما هي إلا طعن في هداية، أو تشويه حقيقة، أو ارتياح للخروج عن فضيلة. يتحدث المؤلف في هذا الفصل عن شعر طرفة من ناحية نسبة هذا الشعر إليه، حتى وصل إلى أبيات: "فما زال تشرابي الخمور ولذتي"، وكان نظام البحث يقضي عليه أن يخوض في هذه الأبيات من الجهة المتصلة بإضافتها إلى طرفة، ولكنه لم يتمالك أن نبذ الموضوع وراء ظهره، وأقبل يحدثك عن مذهب اللهو واللذة، وعما في هذا الشعر من شخصية واضحة الإلحاد، وما فيه من إباحة قال عنها: إنها مقتصدة معتدلة، وجعل يصف صاحب هذه الشخصية بأنه صادق في ميله إلى هذه اللذات التي يؤثرها، وأسف إذ لم يعثر على مثل هذا الشعر فيما يضاف إلى الجاهليين إلا نادراً، ولإعجابه بمعاني هذا الشعر، أخذ يحثو عليه المدح بملء فمه، ويقول لك: إنه شعر حق، فيه قوة وحياة وروح. ولم يكفه أن يتسلل من مقام البحث إلى الحديث عن اللهو واللذة والإلحاد، فصاح قائلاً لك وهو في نشوة من هذا الحديث: "وليس يعنيني أن يكون طرفة قائل هذا الشعر"، يقول هذا، وهو لم يسق الأبيات إلا بمناسبة البحث في أن طرفة قال هذا الشعر، أو لم يقله.

نقد الرواة لشعر طرفة

* نقد الرواة لشعر طرفة: خلع المؤلف لقلمه العذار، فطرب في حديث الإلحاد والإباحة ما شاء. ثم قال في (ص 178): "وإذاً، فأنا أرجح أن في هذه شعراً صنعه علماء اللغة، هو هذا الوصف الذي قدمنا بعضه، وشعراً صدر عن شاعر حقاً، هو هذه الأبيات وما يشبهها، ولسنا نامن أن يكون في هذه الأبيات نفسها ما دس على الشاعر دساً، وانتحل انتحالاً. فأما صاحب القصيدة، فيقول الرواة: إنه طرفة. ولست أدري: أهو طرفة أم غيره؟ بل لست أدري: أجاهلي هو أم إسلامي؟ وكل ما أعرفه هو أنه شاعر بدوي ملحد شاكّ". يجوز في حق الملحد متى كان بدوياً أن يصف الناقة على نحو وصفها في قصيدة: "لخولة أطلال"، فليس بالبعيد أن تكون أبيات الإلحاد والإباحة صادرة من القريحة التي وصفت الناقة، وقد قال الرواة: إن هذا الملحد الذي وصف الناقة يقال له: طرفة بن العبد، وقد رأينا هؤلاء الرواة يتحدثون عن شعره حديث المجدّ في بحثه، فقالوا: إن الصحيح منه قليل، وأنكروا بعض قصائد طرحت عليه؛ كقصيدة: تكاشرني كرهاً كأنك ناصح ... وعينك تبدي أن صدرك لي جوّ فقد نقدوها، ونفوها عنه، وقالوا: إنها لا تدخل في مذهبه، ولا تقاربه (¬1). وجروا على هذا السبيل في أبيات تضاف إلى هذا الشاعر؛ كبيت: أسعد بن مال ألم تعلموا ... وذو الرأي مهما يقل يصدق ¬

_ (¬1) "أغاني" (ج 11 ص 104).

فقد حقق أنها مصنوعة على طرفة، وإنما هي لبعض العباديين (¬1). وألقوا على هذه المعلقة نظراً خاصاً، فدلوا على موضع اختلاف الروايات، ونبهوا على ما جاء زائداً في رواية؛ كبيت: جمالية وجناء تردي كأنها ... سفنجة تبرى لأزعر أربد ورووا لنا ما يدل على أن هذه القصيدة كانت معروفة في الجاهلية، ومنظوراً إليها بعين الإكبار والإعجاب، وهو أن عدة من شعراء الجاهلية عارضوها، فما أتوا بمثلها ولا شبهها (¬2). فبلوغهم في نقد شعر طرفة هذا المبلغ يبعدنا عن قبول هذا الذي يزعمه المؤلف، ويخفف على ألسنة الأدباء أن يقولوا عند إنشاد شيء من هذه القصيدة: قال طرفة بن العبد. وكان المؤلف زهي بأبيات اللهو والإلحاد، وملكه حال جعله يقول عن صاحب القصيدة: ولست أدري: أهو طرفة أم غيره؟. وكان مقتضى دليله اللغوي أن يدري أنه غير طرفة، ولكن هذا الدليل اللغوي قد نقضه بقصيدتي علقمة، ومناقضة الكاتب للدليل يورده على المسألة أمارة على أنه سمعه من ناحية، وأقبل يحكيه في ناحية أخرى، ولو توّلاه بقريحته، وعالجه بفكره، لما أدركه نسيانه على عجل، وشأن أمثال المؤلف أن يكونوا أبعد الناس عن النسيان. * * * ¬

_ (¬1) "كتاب سيبويه" (ج 1 ص 237). (¬2) "اختيار المنظوم والمنثور" لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر.

المتلمس

المتلمّس انتقل المؤلف إلى الحديث عن شعر المتلَمِّس. وقال في (ص 178): "ومن غريب أمره: أن التكلف فيه ظاهر، ولا سيما في القافية، فيكفي أن تقرأ سينيته التي أولها: يا آل بكر ألا لله أمكم ... طال الثواء وثوب العجز ملبوس لتحس تكلف القافية. على أن هذه القصيدة مضطربة الرواية، فقد يوضع آخرها في أولها، وقد يروى مطلعها: كم دون ميّة من مستعمل قذف ... ومن فلاة بها تستودع العيس" نقرأ في كتب الأدب الراقية: "أن أبا عمرو بن العلاء يقول: لقيت الفرزدق في المربد، فقلت: يا أبا فراس! أحدثت شيئاً؟ فقال: خذ، ثم أنشدني: كم دون ميّة من مستعمل قذف ... ومن فلاة بها تستودع العيس فقلت: سبحان الله! هذا للمتلمس؛ فقال: اكتمها، فلضوالُّ الشعر أحب إليّ من ضوالّ الإِبل" (¬1). ¬

_ (¬1) "الموشح" للمرزباني.

لا نريد أن نستشهد بهذا على أن القصيدة معدودة من مختار الشعر، وأنها مما يرغب البلغاء في أن تكون من بنات قرائحهم، ولكن شهرة القصيدة في عهد الفرزدق وأبي عمرو بن العلاء تدل على أن منشئها عربي فصيح، وإذا كان العربي الفصيح قد يتكلف القافية، فليكن طرفة من هذا القبيل، ولا يكون تكلف القافية في هذه القصيدة أمارة على أنها محمولة عليه. وأما اضطراب الرواية بوضع آخرها في أولها، فإن دل على شيء، فهو قدم عهد القصيدة بالنظر إلى عهد التدوين. قال المؤلف في (ص 179): "وللمتلمس قصيدة أخرى ليست أجود ولا أمتن من هذه، ولعلها أدنى منها إلى الرداءة، وهي التي مطلعها: ألم تر أن المرء رهن منية ... صريع لعافي الطير أو سوف يرمس فلا تقلبن ضيماً مخافة ميتة ... وموتن بها حراً وجلدك أملس ويقول فيها: وما الناس إلا ما رأوا وتحدثوا ... وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا" ساق المؤلف هذا البيت الأخير على الوجه الذي انتقده علماء الأدب؛ لأنه أقرب إلى ما يرمي به القصيدة من الرداءة. قال أبو هلال: الرواية الجيدة ما رواه أبو عمرو: وما البأس إلا حمل نفسي على السرى ... وما العجز إلا نومة وتشمس فجعل البأس بإزاء العجز، والسرى بإزاء القعود، فأما قوله في الرواية الأولى: فما الناس إلا كذا، وما العجز إلا كذا، فغير جيد (¬1). ¬

_ (¬1) "شرح الحماسة" للتبريزي (ج 2 ص 103).

المتلمس أحد شعراء بني ضبيعة

* المتلمس أحد شعراء بني ضبيعة: قال المؤلف في (ص 179): "وأكبر الظن أن كل ما يضاف إلى المتلمّس من شعر- أو كثره على أقل تقدير- مصنوع، الغرض من صنعته: تفسير طائفة من الأمثال، وطائفة من الأخبار، حفظت في نفوس الشعب عن ملوك الحيرة وسيرتهم في هؤلاء الأخلاط من العرب وغير العرب الذين كانوا يسكنون السواد، ولا أستبعد أن يكون شخص المتلمس نفسه قد اخترع اختراعاً تفسيراً لهذا المثل الذي كان يضرب بصحيفة المتلمس، والذي لم يكن الناس يعرفون من أمره شيئاً". بعض الرواة صنع هذا الشعر ليفسر طائفة من الأمثال، وطائفة من الأخبار، وبعض الرواة وجدوا الناس يضربون المثل بصحيفة المتلمس، وهم لا يعرفون منْ هذا المتلمس، ولا يدرون ما هذه الصحيفة، فصوروا رجلاً وضعوا عليه اسم المتلمس، وجعلوه من بني ضبيعة، وفي عهد عمرو بن هند، ونظموا أشعاراً أضافوها إليه، ولفقوا له قصة مع عمرو بن هند، وقرنوه في القصة بطرفة بن العبد، واصطنعوا له ولداً سمّوه: عبد المدان، وقالوا عن هذا الولد: إنه أدرك الإسلام، وكان شاعراً، ومات في بصرى، ولا عقب له (¬1)! تصنع طائفة من الرواة جميع هذا لتفسر المثل المضروب بصحيفة المتلمس!. ننظر فيما يضيفه الرواة إلى المتلمس من أخبار وأشعار، وأقل ما نستفيده من مجموعها: أن شاعراً كان في عهد عمرو بن هند يقال له: المتلمس، ¬

_ (¬1) "الجمهرة" لابن حزم، و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة، وإنما اختلفت النسخ في كتابة اسمه، وأكثرها على أنه عبد المدان.

وأنه هو صاحب الصحيفة المضروبة بين الناس مثلاً، وقد تجيء الريبة أو الانتحال إلى شيء من هذه الأخبار المتصلة به، وأهل العلم أنفسهم يروونها بتحفظ، وتجدها في شرح ابن الأنباري للمعلّقات مصدرة بمثل: "يقال"، و"زعموا"، و "فيما يقال"، و "فيما يزعمون". أما الشعر الذي يعزوه إليه الرواة من غير أن يرتاب فيه واحد منهم، ومن غير أن تعرض فيه شبهة لغوية أو تاريخية، فإنا نأخذه على ظن أنه للمتلمس، ولا جناح علينا أن نقول عند إنشاده: قال المتلمس أحد شعراء بني ضبيعة.

نتيجة البحث

نتيجة البحث * طريقة المؤلف في درس الشعر الجاهلي: قال المؤلف في (ص 180): "ونحن لم نقصد في هذا الكتاب إلى أن ندرس الشعراء، ولا إلى أن نحلل شعرهم، وإنما قصدنا إلى أن نبسط رأينا في طريقة درس هذا الشعر الجاهلي، وهؤلاء الشعراء الجاهليين. وقد بلغنا من ذلك ما كنا نريد". الطريقة التي سنها المؤلف لدرس الشعر الجاهلي وهؤلاء الشعراء الجاهليين، ليست بالتي تضع في شرطها عليك أن تكون ألمعية، ولا بالتي تدعوك إلى رعاية قانون البحث، أو نظام الفكر، وقصارى ما تأخذ عليك في عهدها: أن تنظر إلى ما في نفسك من حاجة أو عاطفة، ثم تطلق لقلمك أن تقول في هذا الشعر وهؤلاء الشعراء ما يقضي هذه الحاجة، أو يرضي هذه العاطفة. وإن شئت أن تكون مشابهاً للمؤلف في سيرته مشابهةَ الغراب للغراب، فصوّر في فاتحة بحثك طائفة ستلقى ما تكتبه ساخطة عليه، وأخرى بجانبها ستزْوَرّ عنه ازوراراً، وسِّم الطائفتين: أنصار القديم، ثم اقبض من هذه الأمة الكثيرة قبضة، ولو صغيرة، وأفضْ عليها بقدر ما يسعك البيان مدحاً وإطراء، وقلْ للقراء: هؤلاء أنصار الجديد، وسيرضون عن هذا الكتاب، فعلى غيرهم

العفاء، ولا تمد في البحث خطوة حتى تحدث القراء عن منهج (ديكارت)، فإن أنباءه ما برحت عامية عن أنصار القديم، وما فتئت غامضة عن أنصار الجديد، وابسطْ يدك معاهداً للقراء على أنك ستستقيم على هذا المنهج، ولا تحيد عنه إصبعاً، وإن وضعت الشمس في يمينك، والقمر في يسارك، ثم اطوِ في نفسك أنك ستذهب مغرباً، وتدع هذا المنهج يذهب مشرقاً. وأقبلْ على بعض كتب عربية مثل كتاب "الأغاني"، وكتاب "الحيوان" للجاحظ، والتقطْ منها ما يعينك على قضاء تلك الحاجة، أو إرضاء تلك العاطفة، وانصرفْ منها إلى كتب يلقيها بعض المخالفين كالعثرات في سبيل هداية القرآن، وانتزع من كلماتها الجافية ما يلائم مسلكك، وسقه إلى القراء في هيئة من يروي قولاً، أو يحكي رأياً، وإن شئت، فاصدع به على أنه وليد فكرك، وألبسه من الجهل على حضرة أكمل الخليقة ثوباً خشناً، ولا تبال شعور هذه الأمم الإسلامية، وإن كان دين دولتها الإسلام. وولّ وجهك شطر ما يكتبه المستشرقون في أدب اللغة، واقلبه إلى العربية، وأخرجه في صورة ما أنتجته قريحتك. وقدم بين يديه، أو ائت من ورائه بجمل تتطاول بها على القدماء، وتتباهى بها على أنصار القديم، فإن ذلك أبلغ وسيلة إلى إبعاد الظنون عن جولة يدك، وسقوط أمانتك. فإن أنت صنعت هذا كله، فقد استقام لك القياس، وجئت به مستوفي الشرائط، فاحمل عليه من النتائج ما دعتك إليه الحاجة، أو نزعت بك إليه العاطفة؛ لأنك تكتب لطائفة بلهاء، تنطق عليها بالسخف، فتضرب أيمانها على شمائلها طرباً. هذه طريقة درس الشعر الجاهلي والشعراء الجاهليين، وقد بلغ المؤلف من ذلك ما كان يريد.

نتيجة البحث

* نتيجة البحث: ختم المؤلف كتابه بملاحظتين: الأولى: أن هذا الدرس الذي قدمه ينتهي له إلى نتيجة إلا تكن تاريخية صحيحة، فهي فرض يحسن الوقوف عنده، والاجتهاد في تحقيقه. وقال في (ص 180) شارحاً هذه النتيجة: "وهي أن أقدم الشعراء فيما كانت تزعم العرب، وفيما كان يزعم الرواة، إنما هم يمنيون، أو ربعيون، وسواء أكانوا من أولئك، أو من هؤلاء، فما يروى من أخبارهم يدل على أن قبائلهم كانت تعيش في نجد والعراق والجزيرة؛ أي: في هذه البلاد التي تتصل بالفرس اتصالاً ظاهراً، أو التي كان يهاجر إليها العرب من عدنان وقحطان على السواء. وإذاً، فنحن نرجح أن هذه الحركات التي دفعت أهل اليمن من ناحية، وأهل الحجاز من ناحية أخرى إلى العراق والجزيرة ونجد، في عصور مختلفة، ولكنها لا تكاد تتجاوز القرن الرابع للمسيح، قد أحدثت نهضة عقلية وأدبية، لما كان من اختلاط هذين الجنسين العربيين فيما بينهما، ومن اتصالهم بالفرس. ومن هذه النهضة نشأ الشعر، أو قل إذا كنت تريد التحقيق: ظهر الشعر، وقوي، وأصبح فناً أدبياً. وقد ذهب هذا الشعر، ولم يبق منه شيء إلا الذكرى، ولكن لم يكد يأتي القرن السادس للمسيح، حتى تجاوزت هذه النهضة أقطار العراق والجزيرة ونجد، وتغلغلت في أعماق البلاد العربية نحو الحجاز، فمسّت أهله. ومن هنا ظهر الشعر في مضر ومن إليهم من أهل البلاد العربية الشمالية. فالشعر كما ترى يمني قوي حين اتصلت القحطانية بربيعة، ولكنا لم نعرفه، ولم نصل إليه إلا حين تغلغل في البلاد العربية، وأخذته مضر عن ربيعة".

تتلخص هذه النتيجة في ست جمل: 1 - أقدم الشعراء يمنيون أو ربعيون. 2 - قبائل هؤلاء الشعراء كانت تعيش في نجد والعراق والجزيرة. 3 - اتصال القحطانية بربيعة أحدث نهضة أدبية. 4 - هذه النهضة تجاوزت العراق والجزيرة ونجداً، وتغلغلت نحو الحجاز. 5 - الشعر الناتج من اتصال القحطانية بربيعة ذهب، ولم تبق منه إلا الذكرى. 6 - الشعر يمنيّ قوي حين اتصلت اليمانية بربيعة. أما الجملة الأولى، فلا ندري ما هو الطريق الذي دخلت منه إلى هذه النتيجة! والذي نعرفه من هذا الكتاب: أن المؤلف لا يرى لأسماء هذه القبائل قيمة، وينكر أو يشك في قيمة الأنساب التي تصل بين الشعراء، وأسماء هذه القبائل، فقد قال فيما سلف: "لا نعرف ما ربيعة وما قيس وما تميم معرفة علمية صحيحة، أي: لأننا ننكر، أو نشك على أقل تقدير شكاً قوياً في قيمة هذه الأسماء التي تسمّى بها القبائل، وفي قيمة الأنساب التي تصل بين الشعراء، وبين أسماء هذه القبائل، ونعتقد أو نرجح أن هذا كله أقرب إلى الأساطير منه إلى العلم اليقين" (¬1). وإذا كان المؤلف لا يعرف ربيعة، وينكر أو يشك في قيمة هذا الاسم، وفي أنساب من يعزون إليها من الشعراء، فكيف يدخل في نتيجة بحثه شيئاً ¬

_ (¬1) كتاب "في الشعر الجاهلي" (ص 31).

ينكره أو يشك فيه؟! ولعل المؤلف كان على ذكر من هذا الذي نحكيه عنه، فاحتاط لنفسه، وأضاف هذه النظرية، وهو أن أقدم الشعراء يمنيون، أو ربعيون إلى زعم العرب أو الرواة، ولكن هذا الاحتياط لا يبرئه من تبعة إدخال المزعوم في نتيجة يدعي أن الدرس المتقدم قد انتهى به إليها. وأما الجملة الثانية، وهي أن قبائلهم كانت تعيش في نجد والعراق والجزيرة، فهو الموافق للرواية، ولا ندري ماذا يفعل المؤلف في امرئ القيس، فقد رجّح أنه وجد حقاً، وأنه كان شاعراً يمنياً، وأبى للرواة أن يكون قد نشأ في نجد، وامرؤ القيس يمني، عدّه العرب أو الرواة في أقدم الشعراء، وما يروى من أخباره يدل على أن أسرته كانت تعيش في نجد، فما الذي يمنع المؤلف من الاعتراف بأن أسرته من هذه القحطانية التي هاجرت إلى نجد، واتصلت بربيعة؟. وأما الجملة الثالثة، وهي أن اتصال القحطانية بربيعة أحدث نهضة أدبية، فمحتمل، غير أن قبوله يتوقف على إثبات أن القحطانية سبقوا ربيعة إلى نظم الشعر. وأما الجملة الرابعة، وهي أن هذه النهضة تجاوزت نجداً والعراق والجزيرة، وتغلغلت نحو الحجاز، ففيها شيء من ريح ما يقوله الرواة من أن الشعر كان في ربيعة، وانتقل إلى قيس، ثم تحول إلى تميم، "ولكن من ريحه ليس غير". وأما الجملة الخامسة، وهي أن الشعر الناتج عن النهضة القحطانية الربعية قد ذهب، ولم تبق منه إلا الذكرى، فمردودة على عقبها؛ بأن الرواية المستفيضة على ألسنة الثقات وغيرهم تتلو علينا منظومات في هذه اللغة

شعر مضر واليمن وربيعة

الأدبية، وتشهد بأن هذه المنظومات مُثُل من شعر ربيعة في عهد الجاهلية، وما يدّعيه المؤلف من أن شعرهم ذهب ضائعاً، وأن هؤلاء الرواة أجمعوا على باطل، فحديث مطرود من ساحة القبول حتى يأتي صاحبه، ولو بمثل من هذا الشعر الضائع، أو يقيم الشاهد على ضياعه، وما حشره في الفصول الماضية كالمستدل على هذه الدعوى قد رأيتموه كيف ذهب، ولم يبق منه شيء غير الذكرى. وأما الجملة السادسة، وهي أن الشعر يمنيٌّ قوي حين لصلت القحطانية بربيعة، فلا وجه لجعلها نتيجة ينتهي إليها الدرس المتقدم؛ فإن المؤلف لم يبحث في الفصول السابقة، ولا في هذه الملاحظة أيضاً عن أولية الشعر بحثَ أهل العلم حيث يوردون مقدمات معلومة أو مظنونة، ويصوغون النتيجة بمقدارها. * شعر مضر واليمن وربيعة: قال المؤلف في (ص 181): "فلنا في شعر مضر رأي غير رأينا في شعر اليمن وربيعة؛ لأننا نستطيع أن نؤرخه، ونحدد أوليته تقريباً، ولأنا نستطيع أن نقبل بعض قديمه، دون أن تحول بيننا وبين ذلك عقبة لغوية عنيفة". وقال: "إن الشعراء الجاهليين من مضر قد أدركوا الإسلام كلهم، أو أكثرهم، فليس غريباً أن يصح من شعرهم شيء كثير". من يقرّ هنه الجمل يسبق إلى ظنه أن الشعراء الذين أتى عليهم المؤلف، وحجز عنهم هذا الشعر الذي يُعزى إليهم، أو قال: لا أدرس الحياة الجاهلية في شعرهم، كلهم من ربيعة، ولكنه بحث في شعر عبيد بن الأبرص، وهو من بني أسد، وبنو أسد من مضر، ويحث في شعر علقمة، وهو من بني تميم،

هدم الآراء الحائرة والأقوال الخادعة

وتميم من مضر، وقال: لا أدرس الحياة الجاهلية في شعر النابغة وزهير، وكلا هذين الشاعرين من قيس، وقيس من مضر. وإذا كانت النتيجة إنما هي إنكار شعر اليمن وربيعة وحدهما، فما باله يمشي في الفصول السابقة على إنكار الشعر الجاهلي بإطلاق، فيقول: "إن هذا الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية" (¬1). وقال: "إن هذا الشعر الذي يسمونه: الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية، ولا يمكن أن يكون صحيحاً" (¬2). ونحن نظن أن المؤلف وأنصاره "سيجدون كثيراً من المشقة والعناء في حل هذه المشكلة". وأما العقبة اللغوية، فقد عرفت أن الذي أقامها هو المستشرق (مرغليوث)، ووقف المؤلف في هذه العقبة يحسبها عنيفة، وما برح يصوّت بأنها عنيفة، وما هي بعنيفة، ولكن تقليد الغربيين في الآراء السخيفة عنيف. * هدم الآراء الحائرة والأقوال الخادعة: انتقل المؤلف إلى الملاحظة الثانية، فقال: "الثانية: أن الذين يقرؤون هذا الكتاب قد يفرغون من قراءته، وفي نفوسهم شيء من الأثر المؤلم لهذا الشك الأدبي الذي نردده في كل مكان من الكتاب. وقد يشعرون مخطئين أو مصيبين، بأننا نتعمد الهدم تعمداً، ونقصد إليه في غير رفق ولا لين، وقد يتخوفون عواقب هذا الهدم على الأدب العربي عامة، وعلى القرآن الذي يتصل به هذا الأدب خاصة". ¬

_ (¬1) (ص 24). (¬2) (ص 29).

سبيل أهل العلم في الشعر الجاهلي

إن الذين يقرؤون كتابنا هذا، قد يفرغون وفي نفوسهم شيء من أثر الارتياح لهذا النقد الأدبي الذي نعالج به كل مكان من كتاب "في الشعر الجاهلي"، وقد يشعرون مصييين بأننا نتعمد هدم تلك الآراء الحائرة، والأقوال الخادعة، ونقصد إليه في غير رفق ولا لين. وقد يتخوف شركاء المؤلف عواقب هذا الهدم على دعايتهم الخاسئة عامة، وعلى كتب أستاذ الجامعة التي تتصل بهذه الدعاية خاصة. * سبيل أهل العلم في الشعر الجاهلي: قال المؤلف في (ص 182): "فلهؤلاء نقول: إن هذا الشك لا ضرر منه، ولا بأس به، لا لأن الشك مصدر اليقين ليس غير، بل لأنه قد آن للأدب العربي وعلومه أن تقوم على أساس متين، وخير للأدب العربي أن يزال منه في غير رفق ولا لين ما لا يستطيع الحياة، ولا يصلح لها أن يبقى مثقلاً بهذه الأثقال التي تضر أكثر مما تنفع، وتعوق عن الحركة أكثر مما تمكن منها". الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين ثلاثة أنواع: أحدها: ما لا يختلف الرواة في نسبته إلى قائل، ولم نلمح في لفظه أو معناه ما يخدش هذه النسبة المجمع عليها، فهذا صالح لأن يستشهد به في اللغة، ولأن يؤخذ به في استطلاع حياة الجاهلية؛ حيث يكتفى في مثل هذا بمراتب الظنون قوية أو ضعيفة. ثانيهما: ما يخالف في نسبته إلى قائله بعض الرواة المعتدّ بخلافهم، ويذهب إلى أنه منحول، وهذا إن جاء من طريق عربي مطبوع، بقي صالحاً للاستشهاد به في اللغة من غير خلاف، ولكنه يقصر عن أن يريك من حياة

نفي الشعر الجاهلي لا يمس القرآن بسوء

الجاهلية أثراً واضحاً، فإن لم يتلق هذا المنحول من عربي فصيح، (وهو النوع الثالث)، لم يعتد به في اللغة، أو حياة الجاهلية، وإنما يروى لما فيه من حكمة أو بلاغة. ولعل المؤلف لا يدري هذا السبيل الذي يسير عليه أهل العلم في الشعر الجاهلي، فنزع به قلمه هذه النزعة الشائنة، وأراد أن يجعل لشكّه قيمة، ويضعه موضع الأساس الذي ستقوم عليه علوم الأدب العربي. * نفي الشعر الجاهلي لا يمس القرآن بسوء: قال المؤلف في (ص 182): "ولسنا نخشى على هذا القرآن من هذا النوع من هذا الشك والهدم بأساً، فنحن نخالف أشد الخلاف أولئك الذين يعتقدون أن القرآن في حاجة إلى الشعر الجاهلي لتصح عربيته، وتثبت ألفاظه. نخالفهم في ذلك أشد الخلاف؛ لأن أحداً لم ينكر عربية النبي فيما نعرف، ولأن أحداً لم ينكر أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه تتلى عليهم آياته. وإذا لم ينكر أحد أن النبي عربي، وإذا لم ينكر أحد أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه، فأي خوف على عربية القرآن من أن يبطل هذا الشعر الجاهلي، وهذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين؟! ". لا يخطر على بال أحد أن نفي الشعر الجاهلي من الأرض يمس القرآن بسوء؛ فإن العلماء الذين قاموا على تفسير مفرداته قد رجعوا في بيانها إلى شعر أو نثر سمعوه من العرب الخلّص، وسواء عليهم أكان هذا الشعر أو النثر صدر من الإسلاميين، أم كان مضافاً إلى الجاهليين بحق أو بغير حق. وهذا حال ما يتمسكون به في قواعد النحو، فإن هذه القواعد لن تزال ثابتة، ولو قامت الآيات البينات على أن هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين

عربية القرآن حكم مسمط

كله أنشئ بعد ظهور الإسلام. والمؤلف لم يدرس اللغة وأصولها وأدبها ببصيرة صافية، وفكرة متيقظة، فحسب أن الشك في الشعر الجاهلي يسري إلى الشك في معاني القرآن، وقواعد النحو والبيان، فدبت يده إلى ما كتبه المستشرق (مرغليوث)، وأفرغ ما يستطيع من التشكيك في هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين، وجرى في خياله أنه بلغ من الكيد للقرآن والعربية الفصحى ما كان يتمنّى، فلبسه الغرور، وجعل يداجي أهل القرآن، ويقول كالمخفف من فزعهم: فأيّ خوف على عربية القرآن من أن يبطل هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين؟ وقد لوحنا فيما سبق إلى المواضع التي يحق لمفسر القرآن أو الحديث أن يأخذ في تحقيقها بشواهد من كلام العرب الفصيح. * عربية القرآن حكم مسمّط: قال المؤلف في (ص 183): "وليس بين أنصار القديم أنفسهم من يستطيع أن ينازع في أن المسلمين قد احتاطوا أشد الاحتياط في رواية القرآن وكتابته ودرسه وتفسيره، حتى أصبح أصدق نص عربي قديم يمكن الاعتماد عليه في تدوين اللغة العربية وفهمها". القرآن محفوظ في الصدور منذ عهد النبوة، وليس من أنصار القديم، ولا من أنصار الجديد أيضاً من يستطيع أن ينازع في أن المسلمين قد احتاطوا في جمعه وكتابته وتفسيره، وليس في العارفين بفنون التفسير من ينازع في أن من معاني حروفه أو وجوه تأويله ما يليق بالمفسر أن يقيم عليه الشاهد من كلام العرب؛ لأنه أنزل بلسان عربي مبين، فهم لا يقصدون بإقامة الشاهد تصحيح عربية القرآن؛ فإن عربيته حكم مسمَّط، وإنما يقيمون الشاهد لتقرير

عناية المسلمين بالشعر

المعنى، أو تصحيح وجه الإعراب الذي يختارونه في التأويل. * عناية المسلمين بالشعر: قال المؤلف في (ص 183): "وهم لم يحفلوا برواية الشعر، ولم يحتاطوا فيها، بل انصرفوا عنها طائعين أو كارهين، ولم يراجعوها إلا بعد فترة من الدهر، وبعد أن عبث النسيان والزمان بما كان قد حفظ من شعر العرب في غير كتابة ولا تدوين". للعرب شغف بنظم الشعر وروايته، ولم يكن لديهم من العلوم ما يشغل قرائحهم عن نظمه، ولا أذهانهم عن حفظه، إلا حين طلع عليهم الإسلام، فأقبل أقوام منهم على التفقة في الدين، وحفظ القرآن ورواية الحديث. ثم إن الأمة العربية تهيأت لأن تبسط شعاع هذه الهداية في مشارق الأرض ومغاربها، فتدفقوا ولا قوة لهم إلا إيمان يتلألأ في قلوبهم، وإلا حكمة تنير لهم السبيل أينما ذهبوا، ففتحوا البلاد، وجعلوا الأيام تلد كارهة أو طائعة من بدائع الإصلاح ما لم تتمخّض به الدنيا في عهد اليونان أو الرومان. نحن نعلم هذا كله، ومن الغلط أو المغالطة أن نعد هذه النهضة الخطيرة ماحية للشعر الجاهلي من ألسنتهم، نازعة له من قلوبهم، وإنما شأنها أن تخفف من عنايتهم به، وتصرف هؤلاء المجاهدين في كثير من الأوقات عن إنشاده وروأيته، ومن البديهي أن الأمة لم تكن لذلك العهد كلها مجاهدة، بل كان فيها الأعمى والأعرج والمريض، والمرأة، والمعذرون من الأعراب، ولا يستطيع المؤلف أن يقيم الشاهد على أن هذه الأصناف من الناس انصرفت عن الشعر جملة، بل لا يستطيع أن يقيم الشاهد على أن أولئك المجاهدين انصرفوا عنه الانصراف الذي يخول للمؤلف أن يقول: إن هذا الشعر الجاهلي

إننا أمة بحث ونظر

ليس من الجاهلية في شيء، ولو شئنا أن نرجع إلى هذه الكتب القديمة التي تعنى بشؤون الأدب، لوجدنا فيها آثاراً تقول: إن زعيم أولئك المجاهدين عمر بن الخطاب كان أعلم الناس بالشعر، ولا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر. وتخبر هذه الآثار بأنه أنشد بين يديه قصيدة عبدة بن الطيب الطويلة التي على اللام، وقصيدة أبي قيس بن الأسلت التي على العين، وشعر لزهير، وكان يتلقى بعض أبيات هذا الشعر الجاهلي بالتعجب أو الإعجاب، وجاءت الرواية بأن هذا المجاهد العظيم قال وهو على المنبر: "أيها الناس! تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم؛ فإن فيه تفسير كتابكم" (¬1). وهذا سبيل واسع، ولسنا في حاجة إلى أن نذهب فيه إلى أبعد من هذه الغاية التي انتهينا إليها. * إننا أمة بحث ونظر: قال المؤلف في (ص 183): "أما نحن، فمطمئنون إلى مذهبنا، مقتنعون بأن الشعر الجاهلي أو كثرة هذا الشعر الجاهلي لا تمثل شيئاً، ولا تدل على شيء إلا ما قدمنا من العبث والكذب والانتحال، وأن الوجه -إذا لم يكن بد من الاستدلال بنص على نص- إنما هو الاستدلال بنصوص القرآن على عربية هذا الشعر، لا بهذا الشعر على عربية القرآن". قطع المؤلف عنا حديثه بهذه الكلمة التي تنكر الشعر الجاهلي، وليست هذه الكلمة إلا سلالة تلك الشبه الكثيرة الصخب والتلاطم، وهي على ما ينعتها به الناس من صفاقة وتخاذل لم تنشط قريحة المؤلف لأن تستنبط ¬

_ (¬1) "الموافقات" لأبي إسحاق الشاطبي (ج 2 ص 5) طبع تونس.

مثلها، وإنما كان يتتبعها من هاهنا وهاهنا كما يصنع بعض ذوي الأفكار العقيمة من أنصار القديم، وأقوى هذه الشبه دلالة -كما يقول المؤلف- ذلك الذي يسميه: الدليل الفني اللغوي، وهو إنما دبّ إليه على حين غفلة من الناس، وسلَّه من مقال نشرته "مجلة الجمعية الآسيوية" للمستشرق (مرغليوث). لا يعنينا أن يكون المؤلف أغار على ذلك المقال، أو أن خاطره وقع على ما وقع عليه خاطرُ هذا المستشرق كما يقع الحافر على الحافر؛ فإن النظرية في نفسها ساقطة، وشُبهها كما رأيتم خاسئة، والبحث الفني اللغوي الذي يبتدئ باختلاف اللغة العدنانية واللغة القحطانية، وينتهي باختلاف لغات القبائل العدنانية في نفسها، يكفي في سقوطه فرضُ أن تنشأ بين هذه اللغات المختلفة لغة يأخذ بها الشعراء والخطباء ألسنتهم، وقيام هذه اللغة الأدبية بين ذوي لغات تتفرع عن أصل واحد، ويرتبط أقوامها بصلة الجوار، وتبادل المرافق، والتقارب في العادات والآداب، يكاد يكون فرضه ضربة لازب، ولا سيما حيث انهالت الروايات الموثوق بها من كل جانب، وفتحت أفواها شاهدة بأنه كان أمراً واقعاً، ومن آثار شهادتها: هذه القصائد التي تروى لشعراء كندة وربيعة، وقيس وتميم. وقد بسطنا مناقشة هذا الدليل الفني في الفصول الماضية، على أن المؤلف قد نقض شطره، بل نقض أساسه من قبل أن نناقشه، فتقبّل قصيدتين لعلقمة، وعلقمة من تميم، وقال: إن أكثر هذا الشعر الذي يضاف لامرئ القيس محمول عليه، ومعناه: أن الأقل من هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس اليمني من نسج قريحته، وليس فيما يضاف إلى علقمة أو امرئ القيس إلا ما هو مصوغ في هذه اللغة الأدبية.

وأما ما تحدث به المؤلف بعد هذا الدليل الذي هو في ظنه "أنهض حجة"، فمنه ما لا يدل على شيء، ولا يثبت شيئاً، ومنه ما لا يدل على أكثر من أن في هذا الشعر الجاهلي ما هو مختلق اختلاقاً، ولن تجد له على انتحال هذا الشعر كله أو كثرته المطلقة من دليل، أو ما فيه رائحة دليل. يريد المؤلف أن يلقي في نفوس تلك الطائفة القليلة: أنه الداهية الذي ينال من الإسلام حتى يرضى، وما عليه إلا أن يقول كما قال في هذه الصحيفة: إنه يؤمن بعربية القرآن، ويجعل نصوصه مقبولة الشهادة على هذا الشعر الجاهلي. يقول هذا، وقد خادعته نفسه إذ خيلت له أن هذه الأمم الإسلامية تبلغ من السذاجة، ومن رؤيتها له بالمكان الأرفع، أن تطير فرحاً لرضاه عن القرآن، وتواضعه إلى أن يعتد بنصوصه، ويقبل شهادتها على أشعار الجاهلية الأولى. إننا أمة بحث ونظر: نذهب مع العلم كل مذهب، ولا نقف لحرية الفكر في طريق، وإنما نحن بشر، والبشر تأبى قلوبهم إلا أن تزدري أقلاماً تثب في غير علم، وتحاصر في غير صدق، وإنما نحن بشر، والبشر تأبى لهم أقلامهم إلا أن تطمس على أعين الكلمات الغامزة في شريعة محكمة أو عقيدة قيمة. {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44 - 45]. (انتهى الكتاب والحمد لله رب العالمين)

تراجم الأعلام

تراجم الأعلام - أ - - ابن أبي حاتم (240 - 327 هـ): عبد الرحمن بن محمد، كان مقيما في الري، من حفاظ الحديث. من آثاره: الجرح والتعديل - التفسير - علل الحديث. - ابن أبي الحديد (586 - 655 هـ): عبد الحميد بن هبة الله، ولد في المدائن، وتوفي ببغداد، عالم في التاريخ والأدب. من آثاره: شرح نهج البلاغة - الفلك الدائر. - ابن أبي شيبة (159 - 235 هـ): عبدالله بن محمد، الكوفي، حافظ للحديث. من آثاره: شرح نهج البلاغة - الفلك. - ابن أبي شيبة (156 - 239 هـ): عثمان بن محمدٍ الكوفي، حافظ للحديث. من آثاره: المسند - التفسير. - ابن الأثير (555 - 630 هـ): علي بن محمد، ولد في إحدى قرى الموصل وتوفي بالموصل. مؤرخ وكاتب. من آثاره: الكامل في التاريخ. - ابن إسحق (... - 151 هـ): محمد بن إسحق، من أهل المدينة، وتوفي ببغداد، حافظ للحديث. من آثاره: السيرة النبوية - الخلفاء - المبدأ. - ابن الأعرابي (150 - 231 هـ): محمد بن زياد، من أهل الكوفة، وتوفي

بسامراء، راوية وعالم باللغة. من آثاره: تاريخ القبائل - النوادر. - ابن الأنباري (271 - 328 هـ): أبو بكر بن محمد بن القاسم، ولد في الأنبار، وتوفي ببغداد، عالم باللغة والأدب والشعر والتاريخ. من آثاره: الأمثال - الوقف والابتداء - غريب الحديث - شرح معلقة زهير. - ابن تيمية (661 - 728 هـ): أحمد بن تيمية الحراني، ولد بخران، وتوفي بدمشق، فقيه ومحدث. من آثاره: الفتاوى - الجوامع. - ابن جرير (224 - 310 هـ): محمد بن جرير الطبري، ولد في آمل طبرستان، وتوفي ببغداد، مؤرخ ومفسر. من آثاره: جمع البيان في تفسير القرآن. - ابن جني (... - 392 هـ): عثمان بن جنّي، إمام في النحو، ولد في الموصل وتوفي ببغداد. من آثاره: الخصائص - سر الصناعة - اللمع. - ابن الجوزي (508 - 597 هـ): عبد الرحمن بن علي، ولد وتوفي ببغداد، مؤرخ وفقيه حنبلي. من آثاره: المنتظم في تاريخ الأمم - الأذكياء وأخبارهم. - ابن حجر (773 - 852 هـ): أحمد بن علي، أصله من عسقلان بفلسطين، ولد وتوفي بالقاهرة، حافظ الإسلام في عصره. من آثاره: فتح الباري في شرح صحيح البخاري - الإصابة في تمييز الصحابة - تقريب التهذيب. - ابن حزم (384 - 456 هـ): علي بن أحمد، ولد في قرطبة، وتوفي ببادية لبلة بالأندلس، مؤرخ وفقيه ومحدث. من

آثاره: جمهرة الأنساب - الناسخ والمنسوخ - الفصل في الملل والأهواء والنحل. - ابن خلدون (732 - 808 هـ): ولي الدين عبد الرحمن، ولد بتونس، وتوفي بالقاهرة، مؤرخ وفيلسوف وعالم اجتماعي. من آثاره: العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر. - ابن خلكان (608 - 681 هـ): أحمد بن محمد، ولد في أربل قرب الموصل وتوفي بدمشق، مؤرخ. من آثاره: وفيات الأعيان. - ابن درستويه (258 - 347 هـ): عبدالله بن جعفر، توفي ببغداد، من علماء اللغة. من آثاره: معاني الشعر - أخبار النحويين - نقض كتاب العين. - ابن دريد (223 - 321 هـ): محمد بن الحسن، ولد بالبصرة، وتوفي ببغداد، إمام في اللغة والأدب. من آثاره: الاشتقاق - المقصور والممدود - الجمهرة - أدب الكاتب. - ابن الرومي (221 - 283 هـ): علي بن العباس بن جريح، شاعر، ولد ومات ببغداد. له ديوان مطبوع. - ابن الزبير القرشي: انظر: الزبير بن البكار. - ابن الزبير (627 - 708 هـ): أحمد بن إبراهيم، من العرب الداخلين إلى الأندلس، مؤرخ ومحدث، ولد في جيان، وتوفي بغرناطة. من آثاره: صلة الصلة - البرهان في ترتيب سور القرآن. - ابن سلام الجمحي (155 - 232 هـ): محمد بن سلام، راوية وعالم بالأخبار. من

أهل البصرة، وتوفي ببغداد. من آثاره: طبقات الشعراء - بيوتات العرب - غريب القرآن. - ابن شاكر (... -764 هـ): محمد بن شاكر، ولد في داريا من ضواحي دمشق، وتوفي بدمشق، مؤرخ وأديب. من آثاره: فوات الوفيات - عيون التاريخ. - ابن عباس (3 ق. هـ - 68 هـ): عبدالله بن عباس، صحابي جليل، ولد بمكة وتوفي بالطائف، لازم النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه الأحاديث الصحيحة، له في "الصحيحين" 1660 حديثاً. - ابن عبد البر (368 - 463 هـ): يوسف بن عبدالله، ولد بقرطبة، وتوفي بشاطبة بالأندلس، مؤرخ وحافظ للحديث. من آثاره: الاستيعاب - الدرر في اختصار المغازي والسير - العقل والعقلاء. - ابن عبد ربه (245 - 327 هـ): أحمد بن محمد، من أهل قرطبة، شاعر وأديب. من آثاره: العقد الفريد. - ابن السبكي (727 - 771 هـ): عبد الوهاب بن علي، ولد في القاهرة، وتوفي بدمشق، مؤرخ وقاض. من آثاره: طبقات الشافعية الكبرى - جمع الجوامع. - ابن فارس (329 - 395 هـ): أحمد بن فارس، إمام في اللغة والأدب، أصله من قزوين، وتوفي بالري. من آثاره: مقاييس اللغة - المجمل - الصاحبي - جامع التأويل. - ابن قتيبة (213 - 276 هـ): عبدالله بن مسلم، ولد وتوفي ببغداد، إمام في الأدب. من آثاره: أدب الكاتب - عيون الأخبار - مشكل القرآن - الشعر والشعراء.

ابن الكلبي (... - 204 هـ): هشام بن محمد بن السّائب، ولد وتوفي بالكوفة، من علماء التفسير والأنساب والأخبار. من آثاره: الأصنام - جمهرة الأنساب - ملوك الطوائف. - ابن معين (158 - 233 هـ): يحيى بن معين، ولد قرب الأنبار في العراق، وتوفي بالمدينة حاجاً، إمام بالحديث والحفظ. من آثاره: التاريخ، وهو مرتب على حروف المعجم. - ابن المقفع (106 - 142): عبدالله بن المقفع، توفي بالبصرة، من أئمة الكتاب، وأول من عني بترجمة المنطق. من آثاره: كليلة ودمنة - الأدب الصغير - اليتيمة. - ابن مناذر (... - 198 هـ): محمد بن مناذر اليربوعي، شاعر من أهل البصرة، مدح البرامكة، توفي في مكة. - ابن ميادة (... - 140 هـ): الرماح بن الأبرد، شاعر نجدي، مدح الأمويين، واشتهر بنسبته إلى أمه ميادة. - ابن النحاس (627 - 698 هـ): محمد بن إبراهيم، ولد في حلب، وتوفي بالقاهرة، إمام في اللغة. من آثاره: إملاء على كتاب المغرب لابن عصفور. - ابن النديم (... - 385 هـ): محمد بن إسحق، مؤرخ ثقة من أهل بغداد. من آثاره: الفهرست - التشبيهات. - ابن هشام (... - 213 هـ): عبد الملك بن هشام، ولد في البصرة وتوفي بالقاهرة، مؤرخ وعالم بالأنساب. من آثاره: السيرة النبوية - القصائد الحميرية. - أبو إسحق الشاطبي (... - 790 هـ): إبراهيم بن موسى، إمام مالكي من أهل

غرناطة. من آثاره: الموافقات - أصول النحو - شرح الخلاصة. - أبو إسحق النظام (185 - 221 هـ): إبراهيم بن سيّار، من أهل البصرة، وإليه تنسب الفرقة من المعتزلة (النظامية). - أبو أيوب الأنصاري (... - 52 هـ): خالد بن يزيد، صحابي جليل شجاع تقي، شهد العقبة ويدر وأحد والخندق، دفن في أصل حصن القسطنطينية في غزوة يزيد بن معاوية لها. - أبو بكر الأنباري: انظر: ابن الأنباري. - أبو بكر الخطيب (392 - 463 هـ): أحمد بن علي البغدادي، ولد وتوفي ببغداد، حاظ ومؤرخ. من آثاره: تاريخ بغداد - البخلاء - الأسماء والألقاب. - أبو بكر الصديق (51 ق. هـ - 13 هـ): عبدالله بن أبي قحافة، أول الخلفاء الراشدين وأول من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الرجال، ولد بمكة وتوفي بالمدينة. - أبو بكر بن العربي (468 - 543 هـ): محمد بن عبدالله بن محمد المعافري، ولد في إشبيلية، وتوفي بفاس، قاض وفقيه. من آثاره: عارضة الأحوذي - قانون التأويل - العواصم والقواصم. - أبو تمام (190 - 231 هـ): حبيب بن أوس، ولد بجاسم في حوران، وتوفي بالموصل، شاعر فحل، من آثاره: ديوان الحماسة - فحول الشعراء. - أبو جهل (... - 2 هـ): عمرو بن هشام بن المغيرة، من أشد أعداء الإسلام، قتل في وقعة بدر.

- أبو حاجب (1243 - 1342 هـ): سالم بن عمر بوحاجب، من علماء تونس ومن أفاضلها، ومن أساتذة مؤلف الكتاب. - أبو حامد الغزالي (450 - 505 هـ): محمد بن محمد الغزالي، ولد ومات في طوس بخراسان. حجة الإسلام، فقيه وفيلسوف وصوفي. من آثاره: إحياء علوم الدين - تهافت الفلاسفة - المنقذ من الضلال. -أبو حيان (654 - 745 هـ): محمد بن يوسف، ولد في غرناطة، ومات بمصر، إمام اللغة والتفسير والحديث. من آثاره: البحر المحيط- طبقات نحاة الأندلس - تحفة الغريب - شرح التسهيل. - أبو الخطاب الأخفش (... -177 هـ): عبد الحميد بن عبد المجيد، من علماء اللغة، وهو أول من فسر الشعر تحت كل بيت. - أبو دؤاد الإيادي (160 - 240 هـ): أحمد بن فرح، عالم بالأخبار والأنساب ولد في قنسرين، وتوفي ببغداد، اتصل بعدد من الخلفاء واستشاروه. - أبو حنيفة الدينوري (... -282 هـ): أحمد بن داود، عالم بالرياضيات ومؤرخ. من آثاره: المعارف - الأخبار الطوال - النبات - الجبر والمقابلة. - أبو داود (202 - 275 هـ): سليمان بن الأشعث، أصله من سجستان، وتوفي بالبصرة، إمام الحديث في عصره. من آثاره: السنن. - أبو زيد الأنصاري (... -214 هـ): سعيد بن أوس، عالم بالنحو واللغة من أهل البصرة. - أبو سفيان (57 ق. هـ - 31 هـ): سعيد بن أوس، عالم بالنحو واللغة وأبلى

بلاء حسناً بعد إسلامه، والد معاوية رأس الدولة الأموية. - أبو طالب (85 ق. هـ - 3 ق. هـ): عبد مناف بن عبد المطلب، والد علي - رضي الله عنه -، وعم النبي - صلى الله عليه وسلم -. - أبو عبدالله الزوزني (... - 486 هـ): حسين بن أحمد، قاض وأديب من أهل زوزن بين هراة ونيسابور. من آثاره: شرح المعلقات السبع - المصادر. - أبو عبيد القاسم بن سلام (157 - ولد في هراة، وتوفي بمكة، عالم بالحديث 224 هـ): والأدب والفقه. من آثاره: غريب الحديث - أدب القاضي - المذكر والمؤنث. - أبو عبيدة (110 - 209 هـ): معمر بن المثنى، ولد ومات بالبصرة، لغوي ومن حفاظ الحديث. من آثاره: نقائض جرير والفرزدق، مجاز القرآن - مآثر العرب. - أبو علي القالي (288 - 356 هـ): إسماعيل بن القاسم، ولد في منار جرد في الجررة بسورية، وتوفي بقرطبة، حافظ للحديث واللغة والأدب. من آثاره: النوادر المعروف بأمالي القالي - البارع - المقصور والممدود. - أبو عمر الزاهد (261 - 344 هـ): محمد بن عبد الواحد، من أئمة اللغة، ولد وتوفي ببغداد ويلقب: (غلام ثعلب). من آثاره: المداخل - اليواقيت - أخبار العرب. - أبو عمرو الشيباني (94 - 206 هـ): ولد ومات بالكوفة، لغوي، من، آثاره: اللغات - النوادر - غريب الحديث - الخيل. - أبو عمرو بن العلاء (70 - 154 هـ): زبان بن العلاء، من أئمة اللغة والأدب، ولد بمكة وتوفي بالكوفة.

- أبو الفرج الأصبهاني (284 - 356 هـ): علي بن الحسين، ولد في أصبهان، ونشأ ومات ببغداد، من آثاره: الأغاني - أيام العرب - أعلام الأدب والتاريخ واللغة. - أبو منصور الأزهري (282 - 370 هـ): محمد بن أحمد بن الأزهر، ولد وتوفي في هراة بخراسان، إمام في اللغة والأدب. من آثاره: التهذيب - تفسير القرآن. - أبو النواس (146 - 198 هـ): الحسن بن هانئ، ولد في الأهواز، وتوفي ببغداد، شاعر ماجن. له ديوان مطبوع. - أحمد بن أبي طاهر (204 - 280 هـ): أحمد بن طيفور، مؤرخ وكاتب، ولد وتوفي ببغداد. من آثاره: المنثور والمنظوم - تاريخ بغداد. - أحمد تيمور باشا (1288 - 1348 هـ): أحمد بن إسماعيل بن محمد تيمور، أديب ومؤرخ، ولد وتوفي بالقاهرة. له مؤلفات عديدة. - أحمد بن حنبل (164 - 241 هـ): أحد الأئمة الأريعة، ولد ببغداد، وطلب العلم في كثير من البلاد الإسلامية. من آثاره الغزيرة: المسند - التاريخ - الناسخ والمنسوخ - التفسير. - أحمد بن يحيى: انظر: ثعلب. - الأخطل (19 - 90 هـ): غياث بن غوث، شاعر أموي من بني تغلب، أكثر من مدح ملوك أمية. له ديوان مطبوع. - الأخفش: انظر: أبا الخطاب الأخفش. - أدور براونلش (1861 - 1926 م): أدورد غرنفيل براون، مستشرق إنكليزي. له مؤلفات بالإنكليزية منها: فهارس المخطوطات الإسلامية في جامعة كمبردج.

- أرسطو (384 - 322 ق. م): فيلسوف يوناني، تتلمذ على أفلاطون. من آثاره: الأورغانون في المنطق - النفس - الكون والفساد. - أرنود (1882 - 1939 م): أرند جان فنسنك، مستشرق هولندي، كان أستاذ اللغة العربية في جامعة ليدن. من آثاره: المعجم المفهرس هفلظ الحديث النبوي. -الأزهري: انظر: أبا منصور الأزهري. - أسد بن ناعصة (... - ...): شاعر جاهلي، كان. يدعي أنه قاتل عنترة العبسي. - إسماعيل بن يسار (... - نحو 130 هـ): النسائي، أصله من فارس، شاعر، اشتهر بتعصبه للعجم، وفد على عبد الملك بن مروان، ومدحه. - الأصمعي (122 - 216 هـ): عبد الملك بن قريب، ولد ومات بالبصرة، لغوي ورا وية. من آثاره: الإبل - الأضداد - الأنساب - الأصمعيات. - الأعشى ميمون بن قيس (... - 7 هـ): شاعر جاهلي، وأحد أصحاب المعلقات. مات في اليمامة. - الأغلب العجلي (... - 21 هـ): شاعر راجز معمَّر من ربيعة، أدرك الجاهلية والإسلام، مات في واقعة نهاوند. - الأفوه الأودي (... - نحو 50 ق. هـ): صلاءة بن عمر بن مالك، شاعر يماني جاهلي، كان قائداً في الحرب وحكيماً في الشعر. - الأقرع بن حابس (... - 31 هـ): من أشراف العرب في الجاهلية، أسلم مع وفد تميم، وشهد حنين وفتح مكة والطائف. واستشهد بالجوزجان.

- ب -

- أكثم بن صيفي (.. - 9 هـ): من حكماء العرب في الجاهلية - قصد المدينة مع وفد من قومه يريدون الإسلام، فمات في الطريق. - الإلياذة: ملحمة هوميروس أعظم شعراء اليونان، قسمها علماء الإسكندرية أربعة وعشرين جزءاً. ترجمت إلى معظم اللغات, ومنها العربية. - امرؤ القيس (نحو 130 - 80 ق. هـ): جندح بن حجر، شاعر جاهلي، وأحد أصحاب المعلقات، ولد بنجد ومات بأنقرة. له ديوان مطبوع. - أمية بن أبي الصلت (... - 5 هـ): شاعر جاهلي من أهل الطائف، ومن شعراء الطبقة الأولى. - الأوديسا: ملحمة هوميروس أعظم شعراء اليونان، والأرجح أنه عاش في القرن الثامن قبل الميلاد. - الأوزاعي (88 - 157 هـ): عبد الرحمن بن عمرو، من الزهاد الفقهاء، ولد في بعلبك، وتوفي ببيروت. من آثاره: السنن - المسائل. - أوس بن حجر (... - نحو 2 ق. هـ): شاعر تميم في الجاهلية وشعره حكمة، عاش طويلاً. - ب - - الباقلاني (... - 403 هـ): محمد بن الطيب، قاض، ولد في البصرة ومات ببغداد. من آثاره: إعجاز القرآن. - البخاري (194 - 256 هـ): محمد بن إسماعيل، ولد في بخارى قرب سمرقند، الحافظ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صاحب "الصحيح" المعروف باسمه.

- ت -

- بدر: قرية صغيرة قرب المدينة جرت فيها غزوة بدر الكبرى في 17 رمضان عام 2 هـ. وانتصر فيها المسلمون وهم قلة على كثرة قريش. - البستاني (1264 - 1301 هـ): سليم بن بطرس، ولد في عبية، ومات في بوارج بلبنان. من آثاره: دائرة المعارف. - حرب البسوس: نسبة إلى اسم المرأة التي تذكر الروايات أنها السبب في نشوب الحرب بين قبيلتي بكر وتغلب. - بشار بن برد (95 - 167 هـ): شاعر وخطيب، نشأ في البصرة ومات بها. له ديوان مطبوع. - بشر بن أبي خازم (... - نحو 92 ق. هـ): شاعر جاهلي أسدي من نجد، قتل في غزوة مع بني وائل. - بشير بن سعد (... - 12 هـ): صحابي شهد بدراً، قتل يوم عين النمر مع خالد بن الوليد. - البغدادي: انظر: عبد القادر البغدادي. - بلال الحبشي (... - 20 هـ): مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحد السابقين للإسلام، توفي بدمشق. - بوصويه (1627 - 1714): أديب فرنسي كان مطراناً على بلدة مو. - ت - - تأبط شراً (... - نحو 80 ق. هـ): ثابت بن جابر، شاعر عداء من فتاك العرب في الجاهلية، من أهل تهامة، قتل في بلاد هذيل. - التبريزي (421 - 502 هـ): يحيى بن علي، أصله من تبريز، وتوفي ببغداد، إمام في اللُّغة والأدب. من آثاره: شرح

- ث -

ديوان الحماسة لأبي تمام - شرح المعلقات السبع - شرح سقط الزند. - الترمذي (209 - 279 هـ): محمّد بن عيسى، إمام وحافظ للحديث، من أهل ترمذ ومات بها. من آثاره: الجامع الكبير - شمائل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - العلل. - تشارلس جيمس ليل (1845 - 1920 م): مستشرق إنكليزي، عمل في العلوم الشرقية في وطنه خمسين عاماً، نشر عدة كتب بالعربيّة، وكان أحد رؤساء "المجلة الآسيوية" الإنكليزية. - تميم: قبيلة امتدت حتى الساحل الشرقي لبلاد العرب، وجنوباً حتى الدهناء، ووصلت ضفاف الفرات، تحالفت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونبغ فيها عدد من الشعراء. - ث - - ثعلب (200 - 291 هـ): أحمد بن يحيى، ولد ومات ببغداد، إمام الكوفيين في اللُّغة والنحو. من آثاره: الفصيح - معاني القرآن والقراءات - اختلاف النحويين. - الثعلبي (... - 427 هـ): أحمد بن محمد، من أهل نيسابور، مفسر، صنف كتاب "التفسير الكبير"، وله كتاب "العرائس". - ج - - جابر بن سمرة (... - 74 هـ): صحابي نزل الكوفة، وتوفي في ولاية بشر بالعراق. - الجاحظ (163 - 255 هـ): عمر بن بحر، أحد أئمة الأدب، ولد ومات

- ح -

بالبصرة. من آثاره: الحيوان - البيان والتببين - البخلاء. - جذيمة الأبرش (... - نحو 343 ق. هـ): جذيمة بن مالك، ثالث ملوك الدولة التنوخية في العراق، قتلته الزباء. - جرجي زيدان (1287 - 1332 هـ): مؤرخ وقصاص عربي، ولد في بيروت، ومات بالقاهرة، له آثار عديدة. - الجرمي (... - 225 هـ): صالح بن إسحق، فقيه وعالم باللغة والنحو، من أهل البصرة. من آثاره: السير - غريب سيبويه. - جرير (28 - 115 هـ): جرير بن عطية، شاعر أموي، ولد ومات في اليمامة. له ديوان مطبوع. - جرير بن ضرار: شاعر مخضرم من غطفان، له قصيدة في رثاء عمر بن الخطاب. - الجلال السيوطي (849 - 911 هـ): عبد الرّحمن بن اْبي بكر، إمام وحافظ ومؤرخ وأديب، نشأ في القاهرة، وتوفي بها. له نحو 500 أثر. - جميل بثينة (... - 82 هـ): جميل بن عبد الله بن معمر، شاعر من عشاق العرب، أصله من وادي القرى بالمدينة، وتوفي بمصر. له ديوان مطبوع. - ح - - حاجب بن زرارة (... نحو 3 هـ): من سادات العرب في الجاهلية، أدرك الإسلام وأسلم. - الحارث بن حلزة (... - نحو 50 ق. هـ): شاعر جاهلي من أهل العراق، وأحد أصحاب المعلقات.

- خ -

- الحارث بن ظالم (... - نحو 22 ق. هـ): من فتاك العرب المشهورين في الجاهلية، كان سيد غطفان، وراح يطوف بالبلاد حتى وصل الشّام، وقتل في حوران. - الحارث بن عباد البكري) ... - نحو 50 ق. هـ): حكيم وشاعر جاهلي، وقعت في أيامه حرب البسوس. - الحجاج (45 - 95 هـ): الحجاج بن يوسف الثقفي، قائد وداهية وخطيب، ولد في الطائف، ومات بواسط في العراق، ولاه عبد الملك بن مروان مكة والمدينة والطائف والعراق. - حسان بن ثابت (... - 54 هـ): شاعر إسلامي، ولد ومات في المدينة المنورة، دافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهجا قريشاً وشعراءها. له ديوان مطبوع. - الحطيئة (... - نحو 30 هـ): جرول بن أوس، شاعر أدرك الجاهلية والإسلام، اشتهر بالهجاء. له ديوان مطبوع. - حماد الراوية (95 - 155 هـ): حماد بن سابور، ولد في الكوفة ومات في بغداد، عالم بأيام العرب وأشعارهم وأخبارهم. - حماد عجرد (... - 161 هـ): حماد بن عمر، شاعر من أهل الكوفة من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية. قتل بالأهواز. - حمير: قبيلة يمنية، كان لها دولة في وسط اليمن عاصمتها ظفار حتى ظهور الإسلام، وما زالت حتى اليوم في اليمن قبيلة تسمى بهذا الاسم. - خ - - خالد بن جعفر (... - نحو 30 ق. هـ): شاعر جاهلي فارس كان سيد هوازن، قتله الحارث بن ظالم.

- د -

- خالد بن العاص (... - 14 هـ): صحابي، كان الثالث أو الرابع من الداخلين في الإسلام، حضر فتح مكة وتبوك، قتل قرب دمشق في وقعة مرج الصفر. - خديجة بنت خويلد (68 - 3 ق. هـ): زوجة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الأولى، ولدت بمكة، وتوفيت فيها. - الخزرج: قبيلة عربية كانت تسكن المدينة، وتعرف مع قبيلة الأوس بالأنصار، وقد جاهدتا لقيام دولة الاسلام. - خلف الأحمر (... - نحو 185 هـ): خلف بن حيان، شاعر وراوية من أهل البصرة، من آثاره: جبال العرب. وله ديوان مطبوع. - الخليل بن أحمد (100 - 170 هـ): ولد ومات بالبصرة، من أئمة اللغة والأدب، وواضع علم العروض. من آثاره: العين - معاني الحروف - العروض. - الخنساء (... -24 هـ): تماضر بنت عمرو، شاعرة من أهل نجد أدركت الجاهلية والإسلام، وأسلمت، اشتهرت برثائها لأخويها صخر ومعاوية. - د - - دريد بن الصمة (... - 8 هـ): شاعر شجاع من هوازن، قتل يوم حنين. - ديكارت (1569 - 1960 م): رينيه ديكارت، فيلسوف وعالم رياضي فرنسي، أقام فلسفته على الشك المنهجي، توفي بالسُوَيْد. - ذ - - الذهبي (673 - 748 هـ): محمّد بن أحمد، ولد وتوفي بدمشق، حافظ ومؤرخ. من آثاره التي تقارب المئة: دول

- ر -

الإسلام - طبقات الحفاظ - تارخ الإسلام الكبير. - ذو الرمة (77 - 117 هـ): غيلان بن عقبة، شاعر من مضر، توفي بأصبهان. له ديوان مطبوع. - ر - - الراعي (... - 90 هـ): عبيد بن حصين، شاعر، كان راعي إبل من أهل بادية البصرة. - رؤبة (... - 145 هـ): رؤبة بن عبد الله العجاج، أقام في البصرة وتوفي بالبادية، إمام في اللغة. له ديوان رجز مطبوع. - الرياشي (... - 145 هـ): العباس بن الفرج، من أهل البصرة، وقتل فيها، راوية ولغوي. من آثاره: الخيل - الإبل - ما اختلفت أسماؤه من كلام العرب. - ز - - الزبير بن بكار (172 - 256 هـ): ولد بالمدينة، وتوفي بمكة، راوية وعالم بأنساب العرب وأخبارهم. من آثاره: أخبار العرب وأيامها - الموفقيات. - الزجّاج (241 - 311 هـ): إبراهيم بن السري، من علماء اللغة والنحو، ولد ومات ببغداد. من آثاره: معاني القرآن - الاشتقاق - الأمالي. - الزمخشري (467 - 538 هـ): محمود بن عمر، إمام في اللغة والآداب والتفسير، ولد في زمخشر من قرى خوارزم، وتوفي في جرجانية من قراها. من آثاره: الكشاف - أساس البلاغة - المفضل.

- س -

- زنوبيا (... - 358 ق. هـ): الزباء بنت عمرو، صاحبة تدمر، وملكة الشام والجزيرة في العصر الجاهلي. توفيت في تيبور. - زهير بن أيي سلمى (... -13 ق. هـ): من الشعراء الحكماء في الجاهلية، كان مقيماً في نجد. له ديوان مطبوع. - زيد الطائي (... - 9 هـ): زيد بن مهلهل، كان شاعراً خطيباً شجاعاً في الجاهلية، لقب "زيد الخيل" لكثرة خيوله. وفد على النبي بن مع وفد طيء، وأسلموا، وسماه: "زيد الخير". زين العابدين التونسي: ولد في تونس عام 1888 م. ورحل إلى دمشق وما زال مقيماً فيها. عالم ومربٍّ, شقيق الإمام الأكبر محمد الخضر حسين. من آثاره: المعجم المدرسي - المعجم في النحو والصرف - دروس الوعظ والإرشاد - الدين والقرآن القانون الإلهي - المعجم في الكلمات القرآنية. - س - - سبينوزا (1632 - 1677 م): باروخ اسبينو فيلسوف هولندي من أسرة يهودية، استقر بلاهاي. من آثاره: كتاب الأخلاق. - سعد بن أبي وقاص (23 ق. هـ - 55 هـ): مالك بن أهيب، صحابي وفاتح، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأحد العشرة المبشرين بالجنة.

- سعد بن عبادة (... - 15 هـ): صحابي من أهل المدينة، كان سيد الخزرج، توفي بحوران، شهد أحد والخندق. - سعيد بن العاص (3 - 59 هـ): صحابي، تولى ولاية المدينة إلى أن توفي، وأحد الذين كتبوا المصحف لعثمان - رضي الله عنه -. - سقيفة بن ساعدة: اجتمع فيها الأنصار والمهاجرون بالمدينَة المنورة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لاختيار خلف له. - سلمان الفارسي (... - 36 هـ): صحابى، أصله من أصبهان، وتوفي بالمدائن. قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "سلمان منا أهل البيت". - السموأل (... - نحو 65 ق. هـ): السموأل بن غريض بن عادياء، شاعر جاهلي من الحجاز يضرب به المثل في الوفاء. له ديوان مطبوع. - سهل بن هارون (... - 173 هـ): كاتب وحكيم، فارسي الأصل، تولى رئاسة خزانة الحكمة ببغداد في عهد المأمون، من آثاره: الإخوان - المسائل - ثعلة وعفرة. - سوق عكاظ: من أسواق العرب في الجاهلية، بين نخلة والطائف وذي مجاز، تجتمع فيه العرب للمبايعة، وإنشاد الشعر من أول ذي القعدة حتى العشرين منه كل عام. - سيبويه (148 - 180 هـ): عمرو بن عثمان، إمام النحاة، ولد في إحدى قرى شيراز، وتوفي بالأهواز، صنف كتابه في النحو. - سيديو (1808 - 1875 م): لويس بيير سيديو، مستشرق فرنسي، ولد ومات بباريس، من آثاره: خلاصة تاريخ العرب.

- ش -

- سيف بن ذي يزن (110 - 50 ق. هـ): من ملوك العرب اليمانين ودهاتهم، ولد وتوفي بصنعاء. - ش - - شرقي بن القطام (... - ...): الوليد بن الحصين، من أهل الكوفة، أديب وعالم بالأنساب، اتصل بالخليفة المنصور. - الشماخ (... -22 هـ): معقل بن ضرار، شاعر مخضرم، توفي في غزوة موقان. جمع بعض شعره في ديوان مطبوع. - الشهاب القسطلائي (... - 923 هـ): أحمد بن محمّد القسطلاني، عالم بالحديث، ولد وتوفي بالقاهرة. من آثاره: إرشاد الساري - المواهب اللدنية. - ص - - الصديق: انظر: أبا بكر الصديق. - الصفدي (696 - 764 هـ): صلاح الدين خليل بن أيبك، أديب ومؤرخ، ولد في صفد بفلسطين، وتوفي بدمشق. من آثاره: الوافي بالوفيات - جنان الجناس - دمعة الباكي. - ض - - ضرار بن الخطاب (... - 13 هـ): فارس شاعر، صحابي، أسلم يوم فتح مكة، واستشهد في وقعة أجنادين. - الضحاك بن مزاحم (... - 105 هـ): مفسر ومؤدب للأطفال. له كتاب في التفسير. - ط - - الطائف: من أقدم مدن الحجاز على بعد 120 كيلو متر من مكة، أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها مدة، تشتهر

- ع -

بالكروم والرمان والحدائق. - الطبراني (260 - 360 هـ): سليمان بن أحمد، من العلماء المحدثين، ولد بطبرية. من آثاره: ثلاثة معاجم في الحديث - التفسير - دلائل النبوة. - طرفة بن العبد (نحو 80 - 60 ق. هـ): شاعر جاهلي، ولد في بادية البحرين وقتل شاباً، له ديوان مطبوع. - الطرماح (... - نحو 80 هـ): الطرماح بن حكيم بن الحكم، شاعر ولد بالشام، ورحل إلى العراق وخراسان. له ديوان مطبوع. - طه حسين (1889 - 1973 م): ولد في إحدى قرى مركز "مغاغة" بصعيد مصر. كان أستاذاً في الجامعة المصرية، ووزيراً للمعارف. له مؤلفات أدبية عديدة. - ع - - عامر بن الطفيل (75 ق. هـ - 11 هـ): فارس وشاعر، من سادات الجاهلية، ولد بنجد، له ديوان مطبوع. - عبد الرحمن بن أبي بكر (... - 53 هـ): عبد الرحمن بن عبد الله، صحابي من أشجع رجال قريش وأرماهم بسهم، توفي في مكة. - عبد الرحمن بن الأشعث (... - 85 هـ): من الأمراء القادة، خاض وقائع مع الحجَّاج، وقتله (رتبيل) في سجستان. - عبد الرحمن بن حسان (6 - 104 هـ): شاعر أنصاري من أهل المدينة، وتوفي بها، وهو ابن الشاعر حسان بن ثابت. - عبد القادر البغدادي (1030 - 1093 هـ): عبد القادر بن عمر، ولد في بغداد وتوفي بالقاهرة، أديب ومؤرخ. من آثاره: خزانة الأدب - شرح شواهد الشافية.

- عبد القاهر الجرجاني (... - 471 هـ): من أهل جرجان، ألف في اللغة والنحو والبلاغة، من آثاره: أسرار البلاغة - دلائل الإعجاز - إعجاز القرآن. - عبد الله بن حنظلة (2 - 63 هـ): عبد الله بن عبد عمرو، من التابعين الشجعان، نشأ يتيماً، وقتل يوم الحرة. - عبد الله بن رواحة (... - 8 هـ): صحابي من شعراء الجاهلية والإسلام، شهد غزوات بدر وأحد والخندق والحديبية، واستخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة في إحدى غزواته. استشهد في موقعة مؤتة. - عبد الله بن الزبعرى (... - 15 هـ): من شعراء قريش في الجاهلية، كان شديداً على المسلمين حتى فتح مكة، ثم أسلم ومدح النبي - صلى الله عليه وسلم -. - عبد الله بن سبأ (... - نحو 40 هـ): رأس الطائفة السبئية، وكانت تقول بألوهية علي. أصله من اليمن، نفاه علي إلى المدائن. - عبد الله السلامي (... - 374 هـ): عبد الله بن موسى، شاعر من أهل بغداد، اشتغل بالحديث والتاريخ والأدب. صنف كثيراً في التواريخ ونوادر الحكام. - عبد الله بن عمر (10 ق. هـ - 73 هـ): عبد الله بن عمر بن الخطاب، كان جريئاً شجاعاً، ولد ومات في مكة، غزا إفريقيا مرتين، له في "الصحيحين" 2630 حديثاً. - عبد الله بن مطيع الأسود (... - 73 هـ): شجاع من رجال قريش، استعمله ابن الزبير على الكوفة، وقتل مع ابن الزبير في مكة في حصار الحجاج.

- عبد الملك بن مروان (20 - 86 هـ): من خلفاء بني أمية، نشأ في المدينة، فقيه واسع العلم، حازم، وتوفي بدمشق. - عبيد بن الأبرص (... - نحو 25 ق. هـ): شاعر من مضر، داهية وحكيم جاهلي، عاصر امرأ القيس، وقتله النعمان بن المنذر، له ديوان مطبوع. - عثمان بن عفان (47 ق. هـ - 35 هـ): ثالث الخلفاء الراشدين، بذل أكثر ماله في سبيل الإسلام، قتل في المدينة صبيحة عيد الأضحى. - العجاج (... - نحو 90 هـ): عبد الله بن رؤبة، راجز جاهلي، دخل في الإسلام، وعاش إلى أيام الوليد بن عبد الملك. - عدي بن زبد (... - نحو 35 ق. هـ): شاعر جاهلي من أهل الحيرة، وقتل سجيناً فيها. - العزى: من أكبر أصنام قريش، كان معبده بين مكة والطائف. هدمه خالد بن الوليد بأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -. - عكاظ: انظر: سوق عكاظ. - علقمة بن عبدة (... - نحو 75 ق. هـ): شاعر جاهلي كان معاصراً لامرئ القيس. له ديوان مطبوع. - علقمة بن علامة العامري (... - نحو 20 هـ): كان من أشراف قومه بالجاهلية، ثم أسلم، ولاه عمر بن الخطاب حوران. - علي بن أبي طالب (33 ق. هـ 40 هـ): ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصهره، وأول الناس إسلاماً بعد خديجة، ورابع الخلفاء الراشدين، ولد بمكة، وتوفي مقتولاً بالكوفة.

- علي بن حمزة الكسائي (... - 189 هـ): ولد بباجمشا بالعراق، وتوفي برنيوبه بجوار الري، من أئمة النحو واللغة، صار إمام الكوفيين ومؤسس مدرستهم، وأحد القراء السبعة. من مؤلفاته: معاني القرآن - الحروف - القراءات والنوادر. - علي بن عمر (1168 - 1258 هـ): عالم زاهد صوفي من بلدة "طولقة" في القطر الجزائري، دفن فيها، وله زاوية مشهورة لتعليم القرآن والعلوم الإسلامية. - عمر بن أبي ربيعة (23 - 93 هـ): عمر بن عبد الله، شاعر غزلي من قريش، غزا في البحر، فاحترقت السفينة، ومات بها. - عمر بن الخطاب (40 ق. هـ - 23 هـ): ثاني الخلفاء الراشدين، وأول من لقب بأمير المؤمنين، صدرت عدة مؤلفات بترجمته. - عمر بن شبه (172 - 262 هـ): عمر بن زيد، شاعر ومؤرخ وراوية وحافظ للحديث، من أهل البصرة، وتوفي بسامراء. من آثاره: الشعر والشعراء - مقتل عثمان - الأغاني. - عمر بن عبد العزيز (61 - 101 هـ): الخليفة الأموي العادل التقي، ويقال عنه: خامس الخلفاء الراشدين تشبيهاً بهم. ولد بالمدينة، وتوفي بدير سمعان من أرض المعرة. - عمرو بن العاص (50 ق. هـ - 43 هـ): أحد قادة العرب وسادتهم، أسلم في هدنة الحديبية، فتح بلاداً عديدة وتوفي بالقاهرة. - عمرو بن قميئة (180 - 85 ق. هـ): شاعر جاهلي، أقام بالحيرة مدة، وخرج مع امرئ القيس إلى قيصر، ومات بالطريق. له ديوان مطبوع.

- ف -

- عمرو بن كلثوم (... - نحو 40 ق. هـ): شاعر جاهلي شجاع، ومن أعز الناس نفساً، أشهر شعره معلقته، ومات في الجزيرة. - عمرو بن معدي كرب (... - 21 هـ): فارس اليمن، وفد على المدينة وأسلم، له شعر جيد، هاجر إلى العراق وتوفي على مقربة من الري. - عنترة العبسي (... - نحو 22 ق. هـ): عنترة بن عمرو، شاعر فارس من أهل نجد، كان شجاعاً جواداً مغرماً بابنة عمه عبلة، فقلَّ أن تخلو له قصيدة من ذكرها، له ديوان مطبوع. - عمرو بن عدي (... - ...): أول من ملك العراق من بني لخم في الجاهلية، وكانت إقامته بالحيرة وتوفي بها. - عوف بن مالك (... - 73 هـ): صحابي من الشجعان، نزل حمص وسكن دمشق، روى 67 حديثاً. - عيسى بن عمر (... - 149 هـ): إمام في اللغة من أهل البصرة، من آثاره: الجامع - الإكمال، في النحو. - عيسى بن يزيد بن دأب الليثي (... - 171 هـ): شاعر وخطيب من أهل الحجاز، عالم بالأنساب وراوية. - ف - - الفاروق: انظر: عمر بن الخطاب. - فخر الدين الرازي (544 - 606 هـ): محمد بن عمر بن الحسين، لقب بشيخ الإسلام، درس على كبار علماء الري، وتوفي في هراة. من آثاره: تفسير القرآن - شرح الإشارات والتنبيهات. - الفرّاء (144 - 207 هـ): يحيى بن زياد، من أئمة اللغة، وإمام

- ق -

الكوفيين، ولد بالكوفة، وتوفي في طريق مكة. من آثاره: المقصور والممدود - المذكر والمؤنث. - الفرزدق (... - 110 هـ): همام بن غالب، شاعر فحل من أهل البصرة، توفي في بادية البصرة. له ديوان مطبوع. - ق - - قابوس بن المنذر الأكبر (... - نحو 42 ق. هـ): من ملوك الحيرة في العراق زمن الجاهلية. - القادسية: بلدة في العراق جرت بالقرب منها معركة انتصر فيها العرب على الفرس عام 636 م. - قتادة السدوسي (61 - 118 هـ): قتادة بن دعامة، من أهل البصرة، مفسر وحافظ ولغوي، كان أعمى أكمه، مات بواسط. - قتيلة بنت النضر (... - نحو 20 هـ): شاعرة من قريش أدركت الجاهلية والإسلام، أسلمت بعد مقتل والدها، توفيت في خلافة عمر. - قدامة بن جعفر (... - 310 هـ): ولد وتوفي ببغداد، كاتب بليغ. من آثاره: الخراج - نقد الشعر - نزهة القلوب. - قس بن ساعدة (... - نحو 23 ق. هـ): حكيم جاهلي من بني إياد، أول عربي خطب متكئاً على سيف أو عصا. - قصير (... - نحو 325 ق. هـ): قصير بن سعد اللخمي، من الدهاة في الجاهلية، صاحب جذيمة الأبرش ملك العراق. - قيس بن الحدادية (... - ...): قيس بن منقذ، شاعر جاهلي من خزاعة، كان شجاعا، تبرأت منه قبيلته لغاراته، فنسب إلى أمه من بني الحداد، قتل في إحدى الغارات.

- ك -

- قيس بن مسعود (... - ...): من بني ذهل بن شيبان، كان عاملاً لكسرى هرمز، له بعض الشعر، حبسه كسرى حتى مات. - قيس بن الملوح (... - نحو 80 هـ): مجنون ليلى، شاعر غزلي من أهل نجد، أشتهر بحبه ليلى بنت سعد. له ديوان مطبوع. قيصر: اتخذه (اوكتافيوس) في روما اسماً له، وجرى خلفاؤه الأباطرة على اتخاذ هذا الاسم. - ك - - الكسائي (... - 189 هـ): علي بن حمزة، ولد بالكوفة وتوفي بالري، إمام في النحو واللغة، وأحد القراء السبعة. من آثاره: معاني القرآن - القراءات النوادر - الحروف. - كعب بن زهير (... - 26 هـ): شاعر جاهلي من أهل نجد، أدرك الإسلام، ومدح النبي - صلى الله عليه وسلم -. - كعب بن مالك (... - 55 هـ): شاعر مخضرم، دافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأسلم قبل الهجرة. - كليمان هوارت (1854 - 1927 م): مستشرق فرنسي ولد بباريس، ألف عدة كتب بالفرنسية والعربية. - كوسين دي بيرسفال (1759 - 1835 م): جان جاك كوسان دي بيرسفال، مستشرق فرنسي، ألف كتباً بالعربية والفرنسية، ترجم إلى الفرنسية سورة الفاتحة. - ل - - اللات: أحد أصنام العرب الكبرى ويرمز للشمس، حطم بعد فتح مكة.

- م -

- اللاحقي (... - 200 هـ): أبان بن عبد الحميد، شاعر من أهل البصرة، اتصل بالبرامكة ومدحهم. نظم "كليلة ودمنة" شعراً، وكان من شعراء الرشيد. - لبيد (... - 41 هـ): لبيد بن ربيعة، أحد شعراء المعلقات المخضرمين، مات بالكوفة، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم. له ديوان مطبوع. - لقيط بن يعمر (... - نحو 250 ق. هـ): شاعر جاهلي من أهل الحيرة، قتله كسرى سابور. - م - - مالبرانش (1638 - 1715): نقولا مالبرانش، فيلسوف فرنسي، يرى تعليل كل شيء حتى الأجسام بوجود الله والوحي. من آثاره: البحث عن الحقيقة. - مالك بن نمط الهمذاني (... - ...): صحابي شاعر من رؤساء همدان، كان يلقب بذي المشعار. - مالك بن نويرة (... - 12 هـ): فارس شاعر جاهلي، أدرك الإسلام وأسلم، مات مقتولاً. - المبرد (210 - 286 هـ): محمّد بن يزيد، ولد ومات ببغداد، عالم باللُّغة والنحو والأدب والتفسير. من آثاره: الكامل - المقتضب - معاني القرآن. - المتلمس (... - نحو 50 ق. هـ): جرير بن عبد العزى، شاعر جاهلي من أهل البحرين، خال طرفة بن العبد، مات ببصرى في سورية. له ديوان مطبوع. - متمم بن نويرة (... - نحو 30 هـ): صحابي شاعر سكن المدينة في أيام عمر، اشتهر برثائه لأخيه مالك بقصائد نالت الإعجاب.

- المتنبي (303 - 354 هـ): أبو الطيب أحمد بن محمد بن الحسين، شاعر حكيم، ولد بالكوفة، وقتل في دير العاقول قرب بغداد. له ديوان مطبوع. - محمد بن أسعد العراقي المعروف بابن الحكيم (484 - 567 هـ): نشأ ببغداد، وتوفي بدمشق، واعظ من فقهاء الحنفية. من آثاره: تفسير القرآن - شرح المقامات للحريري - شرح شهاب الأخبار. - محمد توفيق صدقي (1298 - 1338 هـ): طبيب مصري له دراسات إسلامية، وأبحاث دينية هامة. من آثاره: دين الله في كتب أنبيائه - نظرة في كتب العهد الجديد. - محمد بن طلحة (... - 36 هـ): صحابي، ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماه باسمه، قتل يوم الجمل. - محمد المكي بن الحسين (1299 - 1383 هـ): من كبار علماء اللغة، ولد وتوفي بتونس، وهو شقيق الإمام الأكبر محمد الخضر حسين مؤلف هذا الكتاب. من آثاره: عادات عربية - أسماء لغوية - نوادر في اللغة - نوادر في الأدب - حكم وأخلاق عربية - أمثال عربية - كلمات للاستعمال. - محمد المكي بن عزوز (1270 - 1334 هـ): محمد المكي بن مصطفى بن عزوز، ولد بنفطة، وتوفي بالآستانة، قاض وفقيه وباحث. وهو خال مؤلف هذا الكتاب. من آثاره: السيف الرباني - أصول الحديث - عمدة الأثبات. - المخبَّل (... - ...): ربيعة بن مالك، شاعر من تميم، ومن مخضرمي الجاهلية والإسلام، عاش طويلاً، ومات في خلافة عمر أو عثمان.

- المختار بن أبي عبيد (1 - 67 هـ): شجاع من أهل الكوفة ومن الثائرين على بني أمية، استولى على الكوفة وقتل فيها، وكان يقال له: "كيسان"، وإليه تنسب الطائفة الكيسانية من الشيعة. - المدائني (135 - 225 هـ): علي بن محمد، راوية ومؤرخ من أهل البصرة، وتوفي ببغداد، له تصانيف كثيرة في المغازي والسيرة النبوية والخلفاء والفتوحات. - المدينة المنورة: مدينة بالحجاز اتخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - مركزاً للدعوة الإسلامية، وتوفي ودفن بها. وهي ثاني مدينة مقدسة بعد مكة المكرمة. - المرزباني (297 - 384 هـ): محمّد بن عمران، عالم بالأخبار ومؤرخ، ولد وتوفي ببغداد. من آثاره: الموشح - المفيد - معجم الشعراء. مرعُليوث (1858 - 1940 م): دافيد صموئيل، مستشرق إنكليزي، ومن أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، ولد وتوفي بلندن. كان أستاذاً للعربية في جامعة أكسفورد، وترأس تحرر مجلة الجمعية الآسيوية الإنكليزية، ونشر عدداً من المؤلفات العربية. - مروان بن الحكم (2 - 65 هـ): ولد بمكة وتوفي بدمشق. أحد خلفاء الدولة الأموية. - مزرد (... - نحو 10 هـ): مزرد بن ضرار بن حرملة، فارس شاعر جاهلي، أدرك الإسلام وأسلم، اشتهر بالهجاء وهو الأخ الأكبر للشماخ. - الإمام مسلم (204 - 261 هـ): مسلم بن الحجاج، ولد بنيسابور، وتوفي

ظاهرها. إمام الحديث وحافظه. من آثاره: صحيح مسلم، جمع فيه اثني عشر ألف حديث - المسند الكبير. - مسلم بن عقبة (... - 63 هـ): قائد شجاع من الدهاة في العصر الأموي، توفي في طريقه إلى مكة لمحاربة ابن الزبير. - مصطفى صادق الرافعي (1297 - 1356 هـ): أديب وكاتب وشاعر مصري، ولد وتوفي بطنطا بمصر. من آثاره: تاريخ آداب العرب - تحت راية القرآن في الرد على طه حسين في الشعر الجاهلي. - مصطفى بن عزوز (1220 - 1283 هـ): من الشيوخ الأعلام الصالحين، أصله من بلدة "البرج" في الجزائر، واستوطن "نفطة" في الجنوب التونسي، وأسس زاويته الشهيرة فيها. وهو جد مؤلف هذا الكتاب لجهة الأم. - مطيع بن إياس (... - 166 هـ): شاعر ماجن، ولد بالكوفة، وتوفي بالبصرة. - معاوية بن أبي سفيان (20 ق. هـ - 60 هـ): ولد في مكة، ومات بدمشق، مؤسس الدولة الأموية، وأحد دهاة العرب، يضرب المثل بحلمه، أسلم يوم فتح مكة، وأصبح أول خليفة أموي، واتخذ دمشق عاصمة له. - المعري (363 - 449 هـ): أبو العلاء أحمد بن عبد الله، شاعر فيلسوف، ولد ومات في معرة النعمان. من آثاره: رسالة الغفران - سقط الزند. وله ديوان مطبوع. - المفضل الضبي (... - 168 هـ): راوية وعالم بالأدب من أهل الكوفة. من آثاره: الأمثال - المفضليات - معاني الشعر.

- ن -

- مهلهل (... - نحو 100 ق. هـ): عدي بن ربيعة من تغلب، شاعر جاهلي من نجد، وهو خال امرئ القيس. - مهيار (... - 428 هـ): مهيار بن مرزويه الديلمي، شاعر، فارسي الأصل. ولد وتوفي ببغداد. له ديوان مطبوع. - ميمون بن مهران (37 - 117 هـ): نشأ في الكوفة، وكان قاضياً ثقة في الحديث، كثير العبادة، استوطن الجزيرة الفراتية. - مؤرِّج السدوسي (... - 195 هـ): مؤرج بن عمرو، ولد وتوفي بالبصرة، عالم باللغة والأنساب. من آثاره: جماهير القبائل - حذق نسب قريش. - ن - - النابغة الجعدي (... - نحو 50 هـ): قيس بن عبد الله، من فحول الشعراء المخضرمين، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم. جمعت شعره المستشرقة الإيطالية (ماريا نلينو). - النابغة الذبياني (... - نحو 18 ق. هـ): زياد بن معاوية، شاعر جاهلي من أهل الحجاز. كانت تضرب له قبة من جلد أحمر بسوق عكاظ، فتقصده الشعراء، وتعرض عليه الأشعار. له ديوان مطبوع. - نافع بن الأزرق (... - 65 هـ): من ضجعان العصر الأموي، فقيه إليه تنسب فرقة الأزارقة، قتل على مقربة من الأهواز. - النعمان بن بشير (2 - 65 هـ): صحابي من أهل المدينة، روى له البخاري ومسلم 124 حديثاً، كان قاضياً بدمشق، وولاه معاوية حمص. وقيل: إنّه قتل يوم مرج راهط.

- هـ -

- النعمان بن المنذر (... - نحو 15 ق. هـ): أشهر ملوك الحيرة في الجاهلية، توفي في خانقين سجيناً. - نهشل بن حَرِّي (... - نحو 45 هـ): شاعر مخضرم أدرك الجاهلية وأسلم، وصحب علياً في حرويه. وكان من خير بيوت بني دارم. - هـ - - هدبة (... - نحو 50 هـ): هدبة بن خشرم، شاعر وراوية من أهل بادية الحجاز بين تبوك والمدينة، وقتل بالمدينة. - هشام بن حكيم (... - بعد: 15 هـ): صحابي جليل أسلم يوم فتح مكة، كان يتنقل في البلدان للهداية والنصيحة والترغيب والترهيب. - هوميروس: أعظم شعراء اليونان، نظم الإلياذة والأوديسا، والمرجح أنه عاش في القرن الثامن قبل الميلاد. - و - - وائل بن حجر (... - نحو 55 هـ): من أقيال حضر موت، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه الأحاديث. - والبة بن الحباب (... - نحو 170 هـ): شاعر غزل ماجن من أهل الكوفة، هاجى بشاراً وأبا العتاهية فغلباه، ولما توفي رثاه أبو نواس. - الوليد بن عبد الملك (48 - 96 هـ): من ملوك الدولة الأموية في الشام، توفي بدير مران من غوطة دمشق. - ي - - ياقوت (574 - 626 هـ): ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي، مؤرخ ولغوي وأديب، أصله من الروم، وتوفي

بحلب، من آثاره: معجم البلدان - إرشاد الأريب. - يحيى بن سعيد القطان (120 - 198 هـ): من أهل البصرة ومن حفاظ الحديث. - اليرموك: نهر من فروع الأردن، ويصب في بحيرة الحولة، حدثت إلى جانبه موقعة انتصر فيها العرب على البيزنطيين عام 636 م. - يزيد بن معاوية (25 - 64 هـ): ثاني ملوك الدولة الأموية في الشام، توفي بحوارين من أراضي حمص. - يعقوب بن السكيت (186 - 244 هـ): إمام في اللغة والأدب، توفي ببغداد. من آثاره: إصلاح المنطق - الألفاظ - الأجناس - سرقات الشعراء. - يونس بن حبيب (94 - 182 هـ): إمام نحاة البصرة في عصره. من آثاره: اللغات - الشعراء - الأمثال - معانى القرآن.

15 - نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (15) «نَقْضُ كِتَابِ الإسْلامِ وَأصُوْلِ الحكمِ» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة أصول الحكم في الإِسلام، ومفهوم الدولة الإِسلامية، موضوع التف حوله الداني والقاصي، وجذب إليه كثيراً من المفكرين والباحثين والكتاب، سواء من الذين أنعم الله عليه بنعمة الإِسلام، أو الذين تصدوا للرسالة الخالدة، ولم يزدهم فحيحهم إلا خساراً. ومكان الإمام محمد الخضر حسين من هذا الموضوع في عصره، مكان القطب من الرحى؛ فهو الشهاب الثاقب على كل شيطان مارد يتخيل أن في صرح الإِسلام ثلمة يمكن خرقها، أو شبهة ينفخ في رمادها لتستعر الفتنة؛ إرضاء لشهوته وشهوات من ينطق باسمهم، ويكتب بقلمهم. ولا غرابة أن يتخذ أولئك عبداً من عبدان بلد إسلامي، ارتدى الجبة والعمامة شعاراً، وسلك في غفلة من الوقت طريق القضاء الشرعي. نقول: لا غرابة أن يقع اختيار الدوائر المعادية للإسلام على شيخ أزهري معمم، جمع بين صفتي العالم الأزهري، والقاضي الشرعي؛ لأنه صيد ثمين، وأي صيد أفضل من عربي له زي إسلامي، ويخفي في صدره العداوة للإسلام؟!. إن ضلالة فصل الدين عن السياسة ما زالت -وستظل- الشغل الشاغل لأعداء الإِسلام، يروجون لها بما أوتوا من وسائل النشر والإذاعة

والرؤيا، التي فتحت أبوابها على الرحب والسعة، ووضعت بين أيديهم قدراتها الفنية الحديثة. وما هذا الذي يطرق اَذاننا صباح مساء كل يوم من تسميات يلصقونها بالإِسلام، ويطيرون بها كل مطار، ويعقدون لها الاجتماعات والمؤتمرات في السر والعلن، ويصنعون لها دمى متحركة، تنطق باسمهم، وتتراقص على صفحات المجلات والصحف بخيوط يمسكون بها خوف أن تقع، ويلبسونها أسماء عجيبة غريية، فهناك: "لمستشار"، و "الباحث الجامعي الحر"، و"الدكتور العميد" إلخ المسميات التي يحاولون أن يضلوا بها الناس، فيضحكونهم، وإذا هم وأفكارهم وأموالهم سراب في سراب. ولعل قصة كتاب "الإِسلام وأصول الحكم" الذي وضعه في القاهرة "القاضي الشرير والشيخ الأزهري" علي عبد الرازق، وما أوحاه الشيطان إليه من أفكار، والشيطان يوحي إلى أوليائه، أو ما أوحاه إليه أولئك الذين يتخذون أمثاله شعاراً للضلالة والإفساد، لعل قصة هذا الكتاب مثال للمكائد الخبيثة التي تنصب للإسلام في وكر خبيث. لنضرب صفحاً عما قيل من أن الكتاب صناعة قلم غير مسلم، وأن اسم علي عبد الرازق لم يكن إلا زينة لقبيح الكتاب، ولنضرب عرض الحائط كل إطراء وثناء وتشجيع تقاطر من دول الغرب وأبالسته وجامعاته ومستشرقيه على الكتاب، وشيخ الكتاب، لندع الأقوال الزائغة عن الحق تموت غيظاً، ولا يجدي نباحها فتيلاً فإن في الانتشار الواسع للإسلام في العالم، وتمسك أهله به، وحرصهم عليه، والدفاع عنه بالمال والروح، صفعة على وجه أولئك الذين يزعمون أن الإِسلام في طريق الاندثار. والحق يقال: إن الإِسلام يزداد

قوة ومنعة يوماً بعد يوم، ولا تزيده معاول الهدم إلا شموخاً وانتصاراً. لندع الأباطيل الآنفة جانباً. وكنا نرجو ونأمل أن لا يعود إلى الكتاب وسواده وضلالاته، ولكنهم عادوا فعدنا، بل بلغت بهم القِحَة أن ترجموه إلى اللغات الأجنبية، وجعلوا منه في جامعات أوربا مرآة الإِسلام ونظراته في الحكم. ورأينا شرار الناس يسارعون إليه، ويحرصون على طباعته، فصدرت طبعات في القاهرة، وبيروت، والجزائر، ولعل هناك طبعات في بلدان أخرى لم نطلع عليها. وطرحت في الأسواق على نطاق شاسع، وبأبخس الأثمان. وسعى خفافيش الظلام وخبثاء الكتّاب مجدداً إلى تناول الكتاب في الصحافة اليومية، والمجلات الأسبوعية؛ ليدافعوا عن أفكار الكاتب من جديد. حقَّقت كتاب الإمام محمّد الخضر حسين "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم"، وأصدق القارئ أنني ترددت في طبعه مرة بعد مرة، وقلت في نفسي: كتاب الإمام في المكتبات العمومية محفوظ لمن يهمه البحث، ولِمَ أطرحه في الأسواق، فأعيد مغالطات علي عبد الرازق إلى الأذهان؟ أما كفى الإِسلام مئات الأقلام الطاعنة فيه شرقاً وغرباً تحت أستار متنوعة، وعناوين مختارة، تخفي وراءها الكفر والإلحاد؟!. ولكنهم عادوا فعدنا، والحق أجدر أن يتبع، وإذا جاء الحق، زهق الباطل، ومن هنا لبّينا دعوة الحق، وللحق دعوة تستجاب. "تناول هذا الكتاب نقض ما جاء في كتاب "الإِسلام وأصول الحكم" مما يخالف المبادئ الإِسلامية، ويحود عنها، بطريقة تدل على رسوخ قدم الأستاذ السيد محمّد الخضر في العلوم الإِسلامية والعربية، وتضلعه منها تضلعاً يجعله في صفوف كبار العلماء الباحثين الذين يعرفون كيف يصلون بالقارئ

إلى الحق الناصع في رفق وسهولة، دون أن يرهقوا ذهنه، أو يحرجوا صدره. فأدلة ناصعة، ولغة بيّنة، وقصد في التعبير من غير غموض أو إبهام، وأدب صريح، وخلق متين، يدل على أن صاحبه ممن تأدبوا بالأدب الإِسلامي، وتشبعوا به، وفهموا معنى قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، ثم حسن ترتيب وتنسيق في المناقشة وسوق الأدلة لا يدع في نفس القارئ مجالاً للشك، ولا يترك شبهة تتردد في صدره دون أن يقضي عليها قضاء نهائياً. كل ذلك في تواضع العالم الصادق النظر، النزيه الغرض، الذي لا يقصد من بحثه ودله إلا إحقاق الحق، وإزهاق الباطل" (¬1). وخير تقديم وتقريظ للكتاب: أن يقدم ويقرظ نفسه بنفسه، وكتابة الإمام محمد الخضر حسين مرآة لقلم بليغ، ونفس طاهرة، وعقل حصيف، وكتاباته جوامع الحكم، وحكم بالغات صيغت باللفظ العذب والسبك الجيد، إذا تليت على الأسماع، ركنت إليها النفوس؛ لطهارتها وصدقها، وإذا قرأها القارئ، عاش في روضة علمية ساحرة. إن الإمام محمد الخضر حسين عالم جليل، يغرف العلم من بحر لا ساحل له، ويعتبر كتاب "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم" أهم المراجع للرد على كتاب علي عبد الرازق، وإذا فرح الضالّون المضلّون بكتاب "الشيخ القاضي الشرعي"، فقد فرح المؤمنون الصادقون بكتاب الإمام الصالح. وشتان بين الضلال والهدى، وبين الشر والخير!. ¬

_ (¬1) مجلة "المكتبة" شهرية أدبية تبحث عن المؤلفات وقيمتها العلمية - الجزء الثاني من السنة الثانية الصادر في رمضان - 1344 هـ.

ونشير في هذه المقدمة الموجزة: أن كتاب النقض في طبعته الأولى جاء خالياً من عناوين البحوث والتعليقات، ومن أجل التسهيل والتيسير على الباحث والقارئ أخذنا العناوين من فهرس الكتاب في طبعته الأولى، ووضعنا كل عنوان في موضعه من الكتاب. والحمد لله على الهدى ودين الحق، والحمد لله على نعمة الإِسلام. علي الرّضا الحسيني

مقدمة للإمام محمد الخضر حسين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة للإمام محمّد الخضر حسين أحمد الله على الهداية، وأسأله التوفيق في البداية والنهاية، وأصلّي وأسلّم على سيدنا محمد المبعوث بأكمل دين وأحكم سياسة، وعلى آله وصحبه وكل من حرس شريعته بالحجّة أو الحسام وأحسنَ الحراسة. وقع في يدي كتاب "الإِسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، فأخذت أقرؤه قراءة من يتغاضى عن صغائر الهفوات، ويدرأ تزييف الأقوال بالشبهات. وكنت أمر في صحائفه الأولى على كلمات ترمز إلى غير هدى، فأقول: إن في اللغة كناية ومجازاً، ومعميات وألغازاً؛ ولعلها شغفته حباً حتى تخطّى بها المقامات الأدبية إلى المباحث العلمية. وما نشبت أن جعلت المعاني الجامحة عن سواء السبيل تبرح عن خفاء، وتناديها قوانين المنطق، فلا تعبأ بالنداء. وكنت -بالرغم من كثرة بوارحها- أصبِّر نفسي على حسن الظن بمصنفها، وأرجو أن يكون الغرض الذي جاهد في سبيله عشر سنين حكمة بالغة، وإن خانه النظر، فأخطأ مقدماتها الصادقة. وما برحت أنتقل من حقيقة وضّاءة ينكرها، إلى مزية مجاهد خطير يكتمها، حتى أشرفت على خاتمته، وبرزت نتائجه، وهي أشبه بمقدماته من الماء بالماء، أو الغراب بالغراب. فوّق المؤلف سهامه في هذا الكتاب إلى أغراض شتى، والتوى به البحث

من غرض إلى آخر، حتى جحد الخلافة، وأنكر حقيقتها، وتخطى هذا الحد إلى الخوض في صلة الحكومة بالإِسلام، وبعد أن ألقى حبالاً وعصياً من التشكيك والمغالطات، زعم أن النبي - عليه السلام - ما كان يدعو إلى دولة سياسية، وأن القضاء وغيره من وظائف الحكم ومراكز الدولة ليست من الدين في شيء، وإنما هي خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها. ومسَّ في غضون البحث أصولاً لو صدق عليها ظنه، لأصبحت النفوس المطمئنة بحكمة الإِسلام وآدابه مزلزلة العقيدة، مضطربة العنان. كنا نسمع بعض مزاعم هذا الكتاب من طائفة لم يتفقهوا في الدين، ولم يحكموا مذاهب السياسة خبرة، فلا نقيم لها وزناً، ولا نحرك لمناقشتها قلمًا، إذ يكفي في ردها على عقبها صدورها من نفر يرون الحطّ في الأهواء حرية، والركض وراء كل جديد كياسة. كنا نسمع هذه المزاعم، فلا نزيد أن نعرض عمّن يلغطون بها حتى يخوضوا في حديث غيرها. أما اليوم، وقد سرت عدواها إلى قلم رجل ينتمي للأزهر الشريف، ويتبوأ في المحاكم الشرعية مقعداً، فلا جرم أن نسوقها إلى مشهد الأنظار المستقلة، ونضعها بين يدي الحجّة، وللحجّة قضاء لا يستأخر، وسلطان لا يحابي ولا يستكين. لا أقصد في هذه الصحف إلى أن أعجم الكتاب جملة، وأغمز كل ما ألاقيه فيه من عوج؛ فإن كثيراً من آرائه تحدثك عن نفسها اليقين، ثم تضع عنقها في يدك، دون أن تعتصم بسند، أو تستتر بشبهة، وإنما أقصد إلى مناقشته في بعض آراء يتبرأ منها الدين الحنيف، وأخرى يتذمر عليه من أجلها التاريخ الصحيح، ومتى أميط اللثام عن وجه الصواب في هذه المباحث الدينية التاريخية،

بقي الكتاب ألفاظاً لا تعبر عن معنى، ومقدمات لا تتصل بنتيجة. والكتاب مرتب على ثلاثة كتب، وكل كتاب يحتوي على ثلاثة أبواب، وموضوع الكتاب الأول: الخلافة والإِسلام، وموضوع الكتاب الثاني: الحكومة والإِسلام، وموضوع الكتاب الثالث: الخلافة والحكومة في التاريخ. وطريقتنا في النقد أن نضع في صدر كل باب ملخصَ ما تناوله المؤلف من أمهات المباحث، ثم نعود إلى ما نراه مستحقاً للمناقشة من دعوى أو شبهة، فنحكي ألفاظه بعينها، ونتبعها بما يزيح لَبْسها، أو يحل لُغزها، أو يجتثها من منبتها. وتخيَّرنا هذا الأسلوب؛ لتكون هذه الصحف قائمة بنفسها، ويسهل على القارئ تحقيق البحث، وفهم ما تدور عليه المناقشة، ولو لم تكن بين يديه نسخة من هذا الكتاب المطروح على بساط النقد والمناظرة. محمّد الخضر حسين

الكتاب الأول

الكتاب الأول

الباب الأول

الباب الأول * ملخص الباب: تعرض المؤلف في فاتحة هذا الباب إلى معنى الخلافة، وأورد ما قاله بعض علماء الإِسلام في تعريفها، وأردفه بنقل كلمات أهل العلم في الحثّ على نصح الخليفة، ولزوم طاعته، وأضاف إليها كلمة من خطبة تعزى لأبي جعفر المنصور (¬1)، وصاغ خلال ذلك، وعقب ذلك جملاً صوّر بها منزلة الخليفة في نظر المسلمين؛ بزعم أنها منتزعة من تعريفهم للخلافة، أو مما يقولونه في الندب إلى طاعة الأمراء، ولم يتمالك بعد هذا أن طالب المسلمين بأن يبينوا له مصدر تلك القوة التي أفاضوها على الخليفة، وخرج في البحث إلى دعوى: أن للمسلمين في سلطة الخليفة مذهبين: أحدهما: أنها مستمدة من سلطان الله. وثانيهما: أنها مستمدة من الأمّة. ¬

_ (¬1) عبد الله بن محمد بن علي بن العباس، أبو جعفر المنصور، ثاني خلفاء بني العباس، ولد في الحميمة قرب معان (95 - 158 هـ = 714 - 775 م)، توفي بمكة المكرمة، ودفن في الحجون، وقال في خطبته المشار إليها: "أيها الناس! إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه" "العقد الفريد" (الجزء الرابع ص 161).

مناقشة المؤلف في جمل أوردها للدلالة على أن المسلمين يتغالون في احترام الخليفة

وضرب المثل لهذين المذهبين بمذهبي "هبز" الألماني، "ولوك" الإنكليزي. * مناقشة المؤلف في جمل أوردها للدلالة على أن المسلمين يتغالون في احترام الخليفة: افتتح صاحب الكتاب البحث بحكاية كلمات وردت في تعريف الخلافة، وهي قول الشيخ عبد السلام (¬1): "رياسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقول البيضاوي (¬2): "الإمامة عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول - عليه السلام - في إقامة القوانين الشرعية، وحفظ حوزة الملة". وقول ابن خلدون (¬3): "الخلافة هي: حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية، والدنيوية الراجعة إليها". ثم أخذ ينحت في تفسير هذه الكلمات جملاً تشعر - بما انطوت عليه من غلو وإسهاب -: أن منشئها سيتخذها سلّماً لدعوى إفراط المسلمين في إكبار مقام الخليفة، وتوسيع سلطته. وإليك نبذة من هذه الجمل ذات الكلمات المطلقة، والمعاني المكررة: ¬

_ (¬1) عبد العزيز بن عبد السلام (577 - 660 هـ = 1181 - 1262 م) فقيه شافعي، ولد بدمشق، وتوفي بالقاهرة. (¬2) عبد الله بن عمر البيضاوي (... - 685 هـ = ... = 1286 م) مفسر، قاض، ولد في المدينة البيضاء قرب شيراز بفارس، وتوفي بتبريز. من مؤلفاته: "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" المعروف بتفسير البيضاوي. (¬3) عبد الرحمن بن محمد، ابن خلدون (732 - 808 هـ = 1332 - 1406 م)، ولد بتونس، وتوفي بالقاهرة، عالم اجتماعي له مؤلفات عديدة أشهرها: "العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر".

قال المؤلف في (ص 3): "فالخليفة عندهم ينزل من أمته بمنزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المؤمنين، له عليهم الولاية العامة، والطاعة التامة، والسلطان الشامل". ثم قال: "وعليهم أن يحبوه بالكرامة كلها؛ لأنه نائب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس عند المسلمين مقام أشرف من مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن سما إلى مقامه، فقد بلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق من البشر". شغل المؤلف مقدار صحيفتين أو أزيدَ بتكرار معان تعدّ من المعلومات الموضوعة على ظاهر اليد؛ ليلمح بتأكيد إلى أن المسلمين يقررون لمقام الخلافة سلطاناً ومكانة فوق ما يستحقه رئيس حكومة عادلة، ثم هو لم يقف في بيان عبارات أولئك العلماء على حد ما تحتمله ألفاظهم؛ كما هو شأن طلاب الحقيقة بإنصاف، بل أخذ يرمي الكلم على عواهنه، ويعدل عن الألفاظ المطابقة إلى غيرها من الألفاظ التي ربما قدحت في الذهن معاني غير صحيحة. فعلماء الإِسلام يقولون: تجب طاعة الخليفة فيما يأمر به من معروف. والمؤلف يقول: له عليهم الطاعة التامة، فيحذف ما اشترطوه للطاعة من الاقتصار بها على المعروف، ويضع بدله كلمة تذهب بها إلى أن تتناول الطاعة العمياء. وهم يقولون: "يجب أن يكون مكرماً بين الناس -أي: غير مهان-؛ ليكون مطاعاً" (¬1). والمؤلف يقول: وعليهم أن يحبوه بالكرامة كلها! فيصرف القلم عن تعليلهم الذي يأخذ به المعنى قوة الحقائق، ويضع مكانه لفظ الشمول الذي يذهب بنفس القارئ إلى أقصى غاية. ¬

_ (¬1) "مطالع الأنظار" (ص 470) طبع الآستانة.

وهذا النوع من التصرف في أقوال أهل العلم مما يغمز في أمانة صاحبه. وقد يغمض عنه الطرف في المقالات الأدبية، أو في مقام الوعظ، أما الباحث في العلم، فإنه حقيق بأن يؤاخذ به، وبالأحرى حيث يكون بصدد بيان رأي أو حكم انتصب لمناقشته أو نقضه. وأعجب من هذا قوله بعد: لأنه نائب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس عند المسلمين مقام أشرف ... إلخ؛ فإنه ساق هذه الكلمة مساق التعليل لما عزاه إلى المسلمين في حق الخلافة، ومقتضى نسج الكلام: أن المسلمين يرون أن الخليفة بلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق من البشر. وهذه الكلمات إنما هي من مصنوعات قلم المؤلف، وعليها طابع مبالغته الشعرية. والميزان الذي يرجع إليه المسلمون في المفاضلة بين البشر إنما هي الأعمال الصالحة المشار إليها بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. فمنزلة القائد الخطير ينقذ الأمة من سطوة عدو هاجم، والعالم الحكيم يحميها من ضلالات مبتدع خليع، هي أسمى في نظر المسلمين من صف له الخليفة إذا لم يكن له من العمل ما يساوي عملهما في عظيم الأثر، وشرف الغاية. ولم يزد أولئك العلماء أن قالوا في الخليفة: إنه نائب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا لا يقتضي أن يقال: سما إلى مقام رسول الله - عليه السلام - وبلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق. ولو جرينا على هذا الضرب من الاستنتاج، لقلنا: قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، فداود - عليه السلام - سما إلى مقام الألوهية، أو بلغَ الغاية التي لا مجال فيها لمخلوق. وهذا الضرب من الاستنتاج باطل بالبداهة، فليكن ما صنعه المؤلف خارجاً عن الأقيسة الصادقة.

بحث في قولهم: طاعة الأئمة من طاعة الله

* بحث في قولهم: طاعة الأئمة من طاعة الله: وجاء المؤلف بعد هذا بقطع التقطها مما قيل في احترام الخليفة، ومحض النصيحة له، وحيث إنه أتى بها كمقدمات، بني عليها استعظام القوة التي توضع في يد الخليفة، واستنكارها حسبما انجرّ إليه البحث في (ص 6)، وجب أن نطارحه الحديث فيما يراد منها، أو في أهلية قائليها, لأن يوثق بهم، أو يحتج بأقوالهم. قال المؤلف عازياً إلى "حاشية الباجوري (¬1) على الجوهرة": "عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ظاهراً وباطناً". وعلله بقول أبي هريرة (¬2) أخذاً من "العقد الفريد": "إن طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله". نتحدث مع المؤلف فيما عزاه إلى أبي هريرة، فنذكره بأن "العقد الفريد" كتاب أدب، لا يليق برجل يبحث في موضوع ديني أن يستند إلى شيء مما ينقله ذلك الكتاب عن صحابي أو غيره. وإذا أباح لنفسه الاستشهاد بما بين دفتي "العقد الفريد"، فلا يحق له بعد هذا أن يعمد إلى أحاديث في "صحيحي البخاري ومسلم" يراها واقفة في سبيل بعض اَرائه، فيقول: لنا أن ننازع في صحتها. وأصل خبر أبي هريرة في الصحيفة التي رمز إليها المؤلف من "العقد الفريد": "لما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، أمرنا بطاعة الأئمة، وطاعتهم من طاعة الله، وعصيانهم ¬

_ (¬1) (ص 3). (¬2) عبد الرحمن بن صخر الدوسي، أبو هريرة، صحابي جليل (21 ق. هـ - 59 هـ = 602 - 679 م)، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - 5374 حديثاً. توفي بالمدينة المنورة.

بحث في قولهم: النصح للأئمة لا يتم إيمان إلا به

من عصيان الله". وقد تصرف المؤلف في الخبر بحذف كلمة "أمرنا". ولفظ أمرنا في قول الصحابي إما أن يجعل الخبر حديثاً نبوياً كما هو رأي جمهور أهل العلم؛ إذ الظاهر أن الآمر هو صاحب الشريعة، وإما أن يبقى محتملاً لأن يكون الآمر بعض الخلفاء والأمراء، وعلى كلا المذهبين، فأبو هريرة راوٍ إما لحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإما لأثر عن بعض الخلفاء أو الأمراء. وقد جاء في معنى خبر أبي هريرة حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، وهو: "من أطاعني، فقد أطاع الله، ومن عصاني، فقد عصى الله، ومن أطاع أميري، فقد أطاعني، ومن عصى أميري، فقد عصاني". وليس في هذا الحديث ولا ذلك الخبر ما يدعو إلى غرابة، ما دمنا نعلم أن الأمير الذي يقال: إن طاعته من طاعة الله، وعصيانه من عصيان الله، هو الأمير المسلم الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وكذلك تكون طاعته ظاهراً وباطناً؛ لأنه لم يكن سوى لسان يعبر عن أحكام الشريعة الثابتة بنص جلي، أو استنباط صحيح. * بحث في قولهم: النصح للأئمة لا يتم إيمان إلا به: قال المؤلف في (ص 4) عازياً إلى "العقد الفريد": "فنصح الإمام، ولزومُ طاعته فرض واجب، وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلا به، ولا يثبت إسلام إلا عليه". ساق المؤلف هذه الجملة، ولا داعي لمساقها -فيما يظهر- إلا أن يطلع قراء كتابه على مقالة للمسلمين، تجعل تمام الإيمان وثباتَ الإِسلام موقوفين على نصح الإمام ولزوم طاعته. وهذا في رأيه موضع غرابة وإنكار, فإنه أورده في نسق ما رتب عليه قوله في (ص 6): "كان واجباً عليهم إذا أفاضوا على

بحث في قولهم: السلطان ظل الله في الأرض

الخليفة تلك القوة ... إلخ". ونص عبارة "العقد الفريد" في الصحيفة التي رمز إليها: وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة "، قالوا: لمن يا رسول الله؛ قال: "لله ورسوله، ولأولي الأمر منكم". فنصح الإمام ولزوم طاعته فرض واجب، وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلا به، ولا يثبت إسلام إلا عليه. فصاحب "العقد الفريد" أورد العبارة كالبيان للحديث النبوي، وهو بيان لا غبار عليه؛ لأنه إذا كانت النصيحة للأمراء معدودة في حقائق الدين، وبالغة مبلغ ما يقرن بالنصح لله ورسوله، كانت بلا ريب من قبيل ما لا يكمل إيمان إلا به، ولا يستقيم إسلام إلا عليه. ولا يبقى معنى سوى أن "العقد الفريد" كتاب أدب، لا يحلّ لنا الاعتماد عليه في شيء من المباحث الشرعية، فلا بد من الرجوع إلى كتب السنّة؛ لنعلم مبلغ هذا الحديث من الصحة. وهو مروي في "صحيح مسلم (¬1) " عن تميم الداري (¬2)، ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدين النصيحة"، قلنا: لمن؛ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم". * بحث في قولهم: السلطان ظل الله في الأرض: قال صاحب الكتاب في (ص 4): "وجملة القول: أن السلطان خليفة ¬

_ (¬1) مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، إمام في الحديث (204 - 261 هـ = 820 - 875 م)، ولد بنيسابور، وتوفي بظاهرها. أشهر مؤلفاته: "صحيح مسلم"، جمع فيه اثني عشر ألف حديث. (¬2) تميم بن أوس بن خارجة الداري، أبو رقية، صحابي جليل (... - 40 هـ = ... - 660 م)، كان يسكن المدينة، وتوفي بفلسطين.

مناقشة المؤلف في زعمه: أن ولاية الخليفة عند المسلمين كولاية الله ورسوله

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أيضاً حمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده. ومن كان ظل الله في أرضه، وخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فولايته عامة ومطلقة، كولاية الله تعالى، وولاية رسوله الكريم". أورد المؤلف هذه الجمل على طريق الحكاية لما يقول المسلمون، وهو غير مؤمن بها، ثم أضاف إليها أسفل الصحيفة نبذة من خطبة ألقاها أبو جعفر المنصور بمكة، وموضع إنكاره منهاة كما دلّ عليه في (ص 7): قوله في مستهلها: "إنما أنا سلطان الله في أرضه"، ودل في تلك الصحيفة أيضاً على عدم رضاه عن قولهم: "ظل الله الممدود". فقوله: حمى الله في بلاده، لم يعزه المؤلف إلى قائل بعينه، ومعناه قريب المأخذ، بعيد عن مواقع اللبس، فإن الحمى يقال على المكان الذي يحميه الشخص، ويمنع غيره من أن يدانيه، فيرجع إلى معنى: الحرم، والكنف، ومعنى كون السلطان حمى الله: أنه الحرم الذي يأمن به كل خائف، والكنف الذي يضرع إليه كل ذي خصومة. وقوله: وظله الممدود على عباده، ليس بمستنكر" إذ قد روي في معناه حديث نبوي، وهو: "السلطان ظل الله في الأرض"، والمعنى: أنه يدفع الأذى عن الناس كما يدفع الظل أذى حر الشمس (¬1). * مناقشة المؤلف في زعمه: أن ولاية الخليفة عند المسلمين كولاية الله ورسوله: وقوله: فولايته عامة ومطلقة؛ كولاية الله تعالى، ورسوله الكريم. ¬

_ (¬1) "النهاية" لابن الأثير (مادة: ظل).

هذا من مبالغاته التي تضع للخلافة في نفوس المستضعفين من الناس صورة مكروهة، ولو كان المؤلف يمشي في بحثه على صراط سوي، لتحرى فيما ينطق به عن المسلمين أقوالهم المطابقة، وهم لم يقولوا: إن ولاية الخليفة عامة ومطلقة كولاية الله؛ فإن الله يفعل ما يشاء فيمن يشاء، ولا يسأل عما يفعل، والخليفة مقيد بقانون الشريعة، ومسؤول عن سائر أعماله، وكذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له خصائص لا يحوم عليها الطير، ولا يبلغها مدى البصر، منها: أن تصرفاته نافذة، ولا تتلقَى إلا بالتسليم، وتصرفات الخليفة قد تقابل بالمناقشة والنقض والإنكار، فإن عني بالعموم والإطلاق: مجردَ تناولها للرقاب والأموال والأبضاع (¬1)، قلنا له: إن نزاهة البحث، والأخذ فيه بفضيلة الإنصاف، يقضيان عليه بطرح هذه العبارة المرهقة بالعموم والإطلاق، وتشبيه المخلوق بالخالق؛ {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17]. قال المؤلف عازياً إلى "طوالع الأنوار"، وشرحه "مطالع الأنظار": "ولا غرو أن يكون له حق التصرف في رقاب الناس وأموالهم وأبضاعهم". قطف المؤلف هذه الجملة من أصلها، وأطلقها خالية من الروح التي تجعلها حكمة جلية، فإن صاحب "المطالع" إنما ألقاها في نسق التعليل لأخذ العدالة شرطاً من شروط الإمامة، فقال: الرابعة: أن يكون عدلاً؛ لأنه يتصرف في رقاب الناس، وأموالهم، وأبضاعهم. وقال شارحه في "المطالع": لو لم يكن -يعني: الإمام- عدلاً، لم يؤمَن تعديه، وصرْف أموال الناس في مشتهياته، وتضيع حقوق المسلمين. فالمراد من التصرف في الأموال والرقاب والأبضاع: التصرف بحق، ¬

_ (¬1) الأبضاع: البُضْع: الزواج، وعقده، والمهر، والجمع: بضوع، وأبضاع.

وهو التصرف بنحو القضاء، أو بعمل مشروع؛ كاستخلاص الأموال المفروضة، وحمل الناس على أمر الجندية، وولاية نكاح من لا ولي لها. ثم ذهب المؤلف في نحو من صحيفة يكيل للخليفة من إطلاق اليد، وسعة السلطان، ما كففنا طغيان بعضه فيما سلف، وسنتولى تهذيب بعضه فيما يأتي، وقد شعر وهو منفلت العنان؛ بأن الحقيقة تصيح به من كل جانب، وتضرب بأشعتها على رأس قلمه، فوقف بمقدار ما اعترف بأن الخليفة عند المسلمين مقيد بحدود الشرع، ثم انقلب يصف السبيل التي رسمتها الشريعة بكلام له باب باطنه فيه النقد، وظاهره من قبله الرضاء. وإنما قلت: باطنه فيه النقد, لأنه سيصرح بإنكار الخلافة، وإنكار أن يكون للإسلام شأن في السياسة، دون أن تأخذه فيما أنكر أناة أو هوادة. ثم قال في (ص 5): "نعم. هم يعتبرون الخليفة مقيداً بقيود الشرع، ويرون ذلك كافياً في ضبطه يوماً إن أراد أن يجمح، وفي تقويم ميله إذا خيف أن يجنح". يرى المسلمون أن الخليفة مقيد بقانون الشريعة على الوجه الذي سنحدثك عنه في نقض الكتاب الثاني، وأن الإِسلام قرر لهم من الحقوق أن تقوم حول الخليفة أمة من الذين أوتوا العلم، يتقصَّون أثره، فيأمرونه بالمعروف إن تهاون، وينهونه عن المنكر إن طغا، فإذا ركب غارب الاستبداد، وأعياهم تقويم أوده، خلعوه غيرَ مأسوف عليه. وقد كان بعض الخلفاء يرعى هذا الحق بصدق؛ كما أن الأمة في الصدر الأول كانت تعمل عليه بقوة، فانتظمت السياسة، وأشرق محيَّا العدالة، وقامت قاعدة المساواة على وجهها.

من أين يستمد الخليفة سلطته؟

قال المؤلف في (ص 6): "قد كان واجباً عليهم إذ أفاضوا على الخليفة كل تلك القوة، ورفعوه إلى ذلك المقام، وخصّوه بكل هذا السلطان، أن يذكروا لنا مصدر تلك القوة التي زعموها للخليفة، أنِّي جاءته، ومن الذي حباه بها، وأفاضها عليه؟ ". ألقى المؤلف هذا السؤال المشبع بالإنكار بعد أن قرر على لسان المسلمين واجبات الخليفة، وكساها صبغة غير الصبغة التي فطرها الله عليها، ولم يخرج هذا السؤال على قارئ الكتاب فجأة حتى يتلجلج لسانه في الجواب عنه دهشة، بل روح الصحف السابقة، والثوب الفضفاض الذي كانت تتبرج فيه جملها، يُشعران بأن المؤلف سيذهب في أمر الخلافة مذهب الجاحدين، ويتبع غير سبيل المسلمين، وقد عرفت إذ ناقشناه في أقواله ومنقولاته: أن الإِسلام لم يجع في أمر الخليفة ببدع من القول، ولم يملكه سلطة تبخيس المسلمين شيئاً من حريتهم، أو تجعله يتصرف في شؤونهم حسب أهوائه، فالقوة المشروعة للخليفة لا تزيد على القوة التي يملكها رئيس دولة دستورية، وانتخابه في الواقع إنما كان لأجلٍ مسمّى، وهو مدة إقامته قاعدة الشورى على وجهها، وبذله الجهد في حراسة حقوق الأمة، وعدم وقوفه في سبيل حريتها. * من أين يستمد الخليفة سلطته؟ قال المؤلف في (ص 7): "على أن الذي يستقرئ" عبارات القوم المتصلة بهذا الموضوع، يستطيع أن يأخذ منها بطريق الاستنتاج: أن للمسلمين في ذلك مذهبين: المذهب الأوّل: أن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى، وقوته من قوته".

الاستمداد من سلطان الله وقوته يجيء لمعنيين: أحدهما: الاستمداد بطريق الاستقامة والعدل، وهو معنى صحيح، وحقيقة واقعة، ومن شواهده: قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، فالخليفة قد يستمد من سلطان الله وقوته، متى كان طيب السريرة، مستقيم السيرة، ينفق العزيز من أوقاته في إصلاح شؤون الأمة، ولا يألو جهداً في الدفاع عن حقوق البلاد بحكمة وثبات. ثانيهما: الاستمداد من قوة الله وسلطانه بطريق غيبي، ليس له من سبب سوى كونه خليفة، وهذا ما يقصد المؤلف إلى جعله أحد مذهبين في الإِسلام، وقد جاءت هذه الدعوى مكبّة على وجهها، ولم يسعفها المؤلف بما يبلّ ظمأها. قال المؤلف في (ص 7): "ذلك رأي تجد روحه سارية بين عامة العلماء، وعامة المسلمين أيضاً، وكل كلماتهم عن الخلافة ومباحثهم فيها تنحو ذلك النحو، وتشير إلى هذه العقيدة". شدّ ما عُنينا بأمر الخلافة، وأنفقنا في مطالعة الكتب الممتعة بالبحث عنها نظراً طويلاً، ووقتًا واسعاً، فلم نعثر -مع هذا- على كلمة تنبئ -ولو بطريق التلويح-: أن سلطان الخليفة مستمد من سلطان الله، وقصارى ما يستنتج من كلماتهم عنها، ومباحثهم فيها: أن الله أوجب على الناس إقامة إمام، وأن ولايته تنعقد إما بمبايعة أهل الحل والعقد، وإما بعهد من الخليفة قبله، وأنه إذا سعى في السياسة فساداً، كان للأمة انتزاع زمام الأمر من يده، ووضعه في يد من هو أشد حزماً، وأقوم سبيلاً.

والذي يؤخذ بطريق الاستنتاج: أن المؤلف عرف أن للغربيين في سلطة الملك مذهبين، فابتغى أن يكون للمسلمين مثلهما، ولما لم يجد في كلام أهل العلم عن الخلافة ما يوافق، أو يقارب القول بأن سلطان الخليفة مستمد من سلطان الله، تلمسه في المدائح من الشعر أو النثر، وادعى أنه ظفر ببغيته، وساقها كالشواهد على تقرير مذهب ليس له بين الراسخين في العلم من مبتدع ولا تبيع. ولا أظن المؤلف يجد في مباحث الخلافة ما يشتم منه رائحة هذا المذهب، ويتركه إلى الاستشهاد بأقوال الشعراء، أو كلمات صدرت على وجه المبالغة في الثناء. ولو رمى هذا المذهب على كتف الفرقة الغالية من الشيعة، لكان له في بعض مقالاتهم متكأ، ولكن حديث هذه الطائفة لا مساس له بالخلافة التي طرح عليها بحثه، وسلقها بكلماته الحداد. قال المؤلف في (ص 7): "وقد رأيت -فيما نقلنا لك آنفاً-: أنهم جعلوا الخليفة ظل الله تعالى، وأن أبا جعفر المنصور زعم أنه سلطان الله في أرضه". إذا جعلوا الخليفة ظل الله تعالى، فللحديث المروي: "السلطان ظل الله"، وسبق شرحه بأنه خرج مخرج التشبيه، حيث إنه يدفع الأذى عن الناس كما يدفع الظل أذى حر الشمس عمن يأوي إليه، وإضافته إلى الله لأنه أمر بإقامته وإطاعته، وأين هذا من معنى استمداد السلطان من سلطان الله؟!. وقول أبي جعفر المنصور أنه "سلطان الله في أرضه" لا صلة له بالمعنى الذي يتحدث عنه المؤلف، وتأويل معناه -كما عرفت-: أن الله أمر بإقامة السلطان وطاعته، ومن هذه الجهة يصح إضافته إلى الله، وبالأحرى حيث يكون قائما على حراسة شرعه، ويسير في سياسة الناس على صراط مستقيم،

فإن لم يكن المنصور على هذه السيرة، فغاية ما يقال عنه: أنه سمّى نفسه سلطان الله، وهو غير صادق في هذه التسمية. قال المؤلف في (ص 7): "وكذلك شاع هذا الرأي، وتحدث به العلماء والشعراء منذ القرون الأولى، فتراهم يذهبون دائماً إلى أن الله - جل شأنه - هو الذي يختار الخليفة، ويسوق إليه الخلافة". يعرف العلماء أن بين الخالق - جلّ شأنه - وأمر الخلافة صلة القضاء والقدر، وذلك معنى لا يختص بالخلافة، بل يتحقق في كل ما يحدث في الكون من محبوب ومكروه، وهناك معنى آخر زائد عن القضاء والقدر، وهو الإرادة بمعنى: المحبة والرضا، وهذا أيضاً يتعلق بكل ما فيه خير وصلاح، ولا يتعلق بأمر الخلافة إلا بتفصيل، وهو أنْ يقال: متى كان الخليفة مستقيماً عادلاً، كانت ولايته خيراً وصلاحاً، وصح أن يقال: وقعت بإرادة الله؛ أي: محبته ورضاه، وإن كان جائراً فاسقاً عن أمر ربه، كانت ولايته شراً وفساداً، واستحقت أن يقال عليها: إنها لم تكن محبوبة لله، ولا مختارة عنده، وممن نبه على حقيقة هذه الإرادة واختصاصها بما هو خير ومأمور به: أبو إسحاق الشاطبي (¬1) في "موافقاته"، وشيخ الإِسلام ابن تيمية (¬2) في "رسالة الأمر والإرادة" (¬3). فدعوى أن العلماء يذهبون دائماً إلى أن الله هو الذي يختار ¬

_ (¬1) إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (... - 790 هـ = ... - 1388 م)، أصولي حافظ من أهل غرناطة. (¬2) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام (661 - 728 هـ = 1263 - 1328 م) الإمام، وشيخ الإِسلام، ولد في حران، وانتقل إلى دمشق، وتوفي معتقلاً في قلعتها. (¬3) (ص 262).

مناقشة المؤلف فيما استشهد به من أقوال الشعراء

الخليفة، ويسوق إليه الخلافة، لا نجد في أقوال العلماء ما يحوم عليها، وما هي إلا كلمة سقطت من قلم المؤلف قبل أن تأخذ حظها من البحث وإمعان التفكير. * مناقشة المؤلف فيما استشهد به من أقوال الشعراء: قال المؤلف في (ص 7): "على نحو ما ترى في قوله: جاء الخلافة أو كانت له قَدَراً ... كما أتى ربّه موسى على قَدَرِ وقول الآخر: ولقد أراد الله إذْ ولاكها ... من أمة إصلاحَها ورشادَها وقال الفرزدق: هشامُ خيارُ الله للناس والذي ... به ينجلي عن كلِّ أرضٍ ظلامُها وأنت لهذا الناس بعد نبيهم ... سماءٌ يرجّى للمحول غَمامُها" البيت الأول من قصيدة لجرير (¬1) يهنئ بها عمر بن عبد العزيز (¬2) بالخلافة، ولو كان المؤلف يقدر الخلفاء المستقيمين حق قدرهم، لأتينا في الاستشهاد على صحة معنى هذا البيت؛ بأن جريراً أنشده بين يدي عمر بن عبد العزيز بعد أن قال له: اتق الله يا جرير، ولا تقل إلا حقاً، وأقره عليه. ¬

_ (¬1) جرير بن عطية بن حذيفة، من تميم (28 - 110 هـ = 650 - 728 م) أكبر شعراء عصره، ولد ومات في اليمامة. (¬2) عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي الدمشقي القرشي (61 - 101 هـ = 681 - 720 م) من الخلفاء الصالحين، ولد بالمدينة المنورة، وتوفي بدير سمعان من أرض المعرة.

أما حيث يقول في (ص 36): "إن الخلافة نكبة على الإِسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد"، فنخشى أن يعد إقرار عمر بن عبد العزيز لجرير على هذا البيت شرارة من تلك النكبة، أو قطرة من ذلك الينبوع، فلا مندوحة حينئذٍ عن أن ندخل إلى نقض كلامه من باب تحرير معنى البيت وشرحه على مقتضى الاستعمال العربي. قوله: "جاء الخلافة أو كانت له قدراً" وقعت "أو" هنا موقع الواو، وفي رواية: "إذ كانت له قدراً (¬1) ". وهذا الشطر وارد على ما يفيده قوله تعالى: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه: 40]. ومعنى الآية: جئت على قدر قدرتُه لأن كلمك وأستنبئك غيرَ مستقدم وقته المعين، ولا مستأخر (¬2). وعلى مقتضى هذا التفسير يكون معنى: "جاء الخلافة أو كانت له قدرًا": أنه جاء الخلافة على القدر الذي قدره الله لها، ويراد بهذا: أنه نالها بغير تعب ولا معاناة، قال الدماميني في "شرح المغني" (¬3): "كانت له قدراً": كانت مقدرة، لا سعي له فيها. فليس في البيت الذي أنشد بين يدي عمر بن عبد العزيز ما يدل على أن الله اختاره خليفة، وساق إليه الخلافة، إلا على معنى القدر الذي لا يغادر حادثاً من حوادث الكون إلا أتى عليه. ¬

_ (¬1) مبحث "أو" من كتاب "المغني" لابن هشام. (¬2) تفسير البيضاوي. (¬3) مبحث "أو".

وأما البيت الثاني، وبيت الفرزدق (¬1)، فلا حرج علينا أن نطوي بساط المناقشة دونهما؛ إذ المسألة تقرير مذهب في أحد المباحث العلمية أو الدينية، وحق هذا المقام ألا يوثق فيه بأقوال الشعراء، بعد أن عرفنا في فن البديع أن كلامهم ينقسم إلى؛ مبالغة، وإغراق، وغلوّ، ومع هذا الوجه الكافي في طرحهما من حساب تلك الشبه الواهية نقول: إن معنى البيتين لم يكن ناشئاً عن عقيدة خاصة في الخليفة والخلافة، وإنما هو مبني على العقيدة العامة؛ من أن ما كان خيراً وصلاحاً، تتعلق به الإرادة على وجه الرضا والمحبة، وهذا ما يدعيه الشاعران في ولاية ممدوحيهما، وقد يقولان ذلك وهما يعتقدان أن مدحهما غير مطابق للواقع، وأين هذا من تلك الدعوى الواسعة، وهي الاعتقاد بأن الله هو الذي يختار الخليفة؟! ولو تعلّم المؤلف تأويل الأحاديث، وتلا قوله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20]، وقوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]، وقوله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 101] لم يلتبس عليه قول الشاعر: "إذ ولّاكها"، أو يجره إلى شبهة أقرب إلى العدم من سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. قال المؤلف في (ص 8): "ولقد كان شيوع هذا الرأي وجريانه على الألسنة، مما سهل على الشعراء أن يصلوا في مبالغاتهم إلى وضع الخلفاء في مواضع العزة القدسية، أو قريباً منها، حتى قال قائلهم: ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ ... فاحكمْ فأنت الواحد القهارُ ¬

_ (¬1) هَمَّام بن غالب. بن صعصعة التميمي (... - 110 هـ = ... -728 م) من فحول الشعراء، من أهالي البصرة، وتوفي في باديتها.

وقال طُرَيح (¬1) يمدح الوليدَ بن يزيد (¬2): لوقلت للسيل دع طريقك والمو ... جُ عليه كالهضب يعتلج لساخ وارتد أو لكان له ... في سائر الأرض عنك منعرج" قبض المؤلف قبضة من أثر جرجي زيدان (¬3)، ونبذها في كتاب "الإِسلام وأصول الحكم". اقرأ كتاب "تاريخ التمدن الإِسلامي" (¬4) تجده تعرض إلى ما حدث من الغلو في احترام الخلفاء أيام الدولة العباسية، ثم قال: "فلا غرو إذا سموا الخليفة في أيام المتوكل: ظل الله الممدود بينه وبين خلقه، أو قالوا قول ابن هانئ (¬5) للمعز الفاطمي (¬6): ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ ... فاحكم فأنت الواحد القهّار" ¬

_ (¬1) طُرَيْح بن إسماعيل بن عبيد بن أسيد الثقفي، أبو الصلت (... - 165 هـ = ... - 781 م) شاعر الوليد بن يزيد الأموي، وخليله. (¬2) الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان (88 - 126 هـ = 707 - 744 م) من ملوك الدولة المروانية بالشام. (¬3) جرجي بن حبيب زيدان (1278 - 1332 هـ = 1861 - 1914 م) منشئ مجلة "الهلال" بمصر، ولد في بيروت، وتوفي بالقاهرة. (¬4) من "مؤلفات جرجي زيدان" (جـ 4 ص 182). (¬5) محمد بن هانئ بن محمد بن سعدون الأزدي الأندلسي (326 - 362 هـ = 938 - 973 م) من شعراء الأندلس وأشعرهم. ولد في إشبيلية. وقتل في (برقة). (¬6) معد بن إسماعيل (319 - 365 هـ = 931 - 975 م) صاحب مصر وأفريقية، ولد بالمهدية، وتوفي بالقاهرة.

فهذا البيت ينسب إلى ابن هانئ (¬1)، كما ترى، ونسبه المعري (¬2) في "رسالة الغفران" (¬3) إلى شاعر يدعى بابن القاضي، فقال: "حضر شاعر يعرف بابن القاضي بين يدي ابن أبي عامر (¬4) صاحب الأندلس، فأنشده قصيدة أولها: ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ ... فاحكم فأنتَ الواحدُ القهّارُ ويقول فيها أشياء، فأنكر عليه ابن أبي عامر، وأمر بجلده ونفيه". فعلى رواية المعرّي خرج البيت على أن يكون خطاباً لخليفة كما يدّعي المؤلف. وعلى كلا الروايتين، لم يكن هذا الغلوّ في الوصف من أثر الاعتقاد بأن الخليفة -أو الأمير- يستمد سلطانه من سلطان الله، وإنما هو انحلال عقدة الإيمان بالله، ينضم إليه الإغراق في التملق وحب العاجلة، فينحدر الشاعر في مديحه طلق العنان، خالعاً على ممدوحه من ألقاب العظمة والقوة ¬

_ (¬1) قال ابن العماد في "شذرات الذهب" (جزء 1، ورقة 276 مخطوط دار الكتب المصرية): كان ابن هانئ كثير الانهماك في الملاذ متهماً بمذهب الفلاسفة، ولما اشتهر عنه ذلك، نقم عليه أهل إشبيلية، وساعت المقالة في حق الملك بسببه، واتهم بمذهبه أيضاً. وقال في "العبر": كان منغمساً في الملذات والمحرمات، متهماً بدين الفلاسفة. (¬2) أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري (363 - 449 هـ = 973 - 1057 م) شاعر فيلسوف، ولد ومات في معرة النعمان. (¬3) من أشهر كتب المعري (ص 154). (¬4) محمد بن عبد الله بن عامر (326 - 392 هـ = 938 - 1002 م) أمير الأندلس، والمعروف بالمنصور، أصله من الجزيرة الخضراء، ومات في مدينة سالم.

ما يتخطى به إلى مقام الألوهية. وقد وقع مثلُ هذا من عضد الدولة (¬1) في قوله يصف نفسه: مُبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح مَن فاق البَشَرْ عضدُ الدولة وابنُ ركنها ... ملكُ الأملاك غلّابُ القدر (¬2) فالحقُّ أن علة هذا النوع من الشعر، إنما هي تجرد النفس من طبيعة الحياء والأدب مع الخالق، ينضم إليه داعي الطمع أو الفخر أو التباهي بالحذق في صناعة البيان. قال أبو بكر بن العربي (¬3) في كتاب "الأحكام" (¬4): إن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حد الصدق إلى الكذب، ويسترسلون في القول حتى يخرجهم إلى البدعة والمعصية، وربما وقعوا في الكفر من حيث لا يشعرون، ألا ترى إلى قول بعضهم: ولو لم تلامس صفحةَ الأرض رجلُها ... لما كنت أدري علّة للتيمّم وهذا كفر صراح نعوذ بالله منه. وأما بيتا طريح، فأراد بهما المبالغة في مدح الوليد بالسطوة ونفاذ ¬

_ (¬1) فناخسرو بن الحسن بن بويه الديلمي (324 - 372 هـ = 926 - 982 م) الملقب عضد الدولة. توفي ببغداد، ودفن بالنجف. (¬2) "معاهد التنصيص" (ص 348). (¬3) محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي (468 - 543 هـ = 1076 - 1148 م) قاض وحافظ للحديث. ولد في إشبيلية، وتوفي قرب فاس. (¬4) (ج 2 ص 120).

الكلمة، حتى ادعى أنه لو أمر السيل الجارف بالانصراف عن طريقه، لم يسعه إلا الإذعان لأمره، والخضوع لسلطانه، ولا يصح أن يعد مثل هذا من أثر الاعتقاد بأن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله، وإنما هو من نوع الغلو الذي يرتكبه الشعراء في أكثر فنون الكلام؛ من غزل ومديح وهجاء وحماسة. قال المؤلف في (ص 8): "وأنت إذا رجعت إلى كثير مما ألف العلماء، خصوصاً بعد القرن الخامس الهجري، وجدتهم إذا ذكروا في أول كتبهم أحد الملوك أو السلاطين، رفعوه فوق صف البشر، ووضعوه غير بعيد من مقام العزة الإلهية". بدا للمؤلف أن يبتدع للمسلمين في سلطان الخليفة مذهباً لا يعرفونه، ولما لم يجد في مباحث الخلافة ما ينبئ به، ولو بطريق التلويح أو الاقتضاء، صمّم أن يقرره، وصمّم على أن يعزوه لعامة العلماء، وعامة المسلمين، وعندما أفضت النوبة إلى تلاوة المستندات، قام ينشد من شعر جرير، والفرزدق، وابن هانئ، وطريح، وغيرهم، كأنه يبحث في حكم لغوي، أو سر من أسرار البيان، ولعله انتبه إلى أن ما أنشده من الشعر أقل من أن يثير شبهة، وأوهى من أن يستهوي النفوس إلى ظن، فأخذ ينبش عما يقوله العلماء في مديح الخلفاء من نثر، عسى أن يجدهم انفلتوا في هذا الصدد، وحام بهم الإغراق والغلوّ على نحو ما مر لأولئك الشعراء، فلم تقع يده إلا على بعض جمل نسجت على منوال السرف في مديح ملوك ليسوا بخلفاء، وما كان إلا أن أتى بما يوسع نطاق الدعوى، حتى يدخل تحت جناحيها الخلافة والملك، ويهيئ للاستشهاد بتلك الجمل موضعاً، فقال: "وجدتهم إذا

ذكروا في أول كتبهم أحد الملوك أو السلاطين، رفعوه فوق صف البشر إلخ"، وضرب المثل لهذا جملاً انتزعها من خطبة نجم الدين القزويني (¬1) في أول "الرسالة الشمسية"، وجملاً من خطبة شارحه قطب الدين الرازي (¬2). وأخرى من خطبة "حاشية السيالكوني" (¬3) على ذلك الشرح. ونناقش المؤلف في هذا الصنيع من ناحيتين: إحداهما: أن المقال معقود للبحث في سلطان الخليفة، وهؤلاء إنما يصفون ملوكاً ليسوا بخلفاء. وثانيهما: أن هذه الكلمات خرجت مخرج المبالغة في المديح والإطراء، وليس هذا من أثر الاعتقاد بأن سلطان الملك مستمد من سلطان الله، وإنما علته أحوال نفسية؛ كالرغبة في إحراز جاه، أو الحرص على متاع هذه الحياة. ومما ينبه على هذا: أن كلمات المديح والثناء كثيراً ما تجري على ألسنة قوم، وقلوبهم تتبرأ منها. ¬

_ (¬1) علي بن عمر بن علي الكاتبي القزويني، نجم الدين (650 - 675 هـ = 1203 - 1277 م) عالم منطقي وحكيم. من مؤلفاته "الشمسية" رسالة في قواعد المنطق، من أهل الري، وتوفي بدمشق. من مؤلفاته "تحرير القواعد المنطقية في شرح الشمسية". (¬2) محمد بن محمد الرازي، قطب الدين (694 - 766 هـ = 1295 - 1365 م) عالم بالحكمة والمنطق. (¬3) "حاشية على القطب على الشمسية" تأليف عبد الحكيم بن شمس الدين الهندي السيالكوني البنجابي (... - 1067 هـ = ... - 1656 م) من أهل سيالكون التابعة للاهور.

الفرق بين مذهب (هبز) وحق الخليفة في الإسلام

* الفرق بين مذهب (هبز) وحق الخليفة في الإِسلام: قال المؤلف في (ص 11): "ويكاد المذهب الأول يكون موافقاً لما اشتهر به الفيلسوف (هبز)؛ من أن سلطان الملوك مقدس، وحقهم سماوي". يقول "هبز" (¬1): إن كل فرد في المملكة يجب أن تكون إرادته خاضعة لسلطان الحكم، وخضوع الحاكم لأي فرد من أفراد الرعية مخالف لمقتضى الطبيعة، والنزوع للخروج عن إرادة الحاكم أو ردها يعتبر ثورة وتمرداً، والدين يجب أن لا يخضع لإرادة الحاكم. هذا مذهب "هبز" الذي يحاول المؤلف ضربه مثلاً لمذهب عامة العلماء، وعامة المسلمين في سلطان الخليفة. أقم الوزن بالقسط، تر "هبز" يقول: إن كل فرد يجب أن تكون إرادته خاضعة لسلطان الحاكم، وعلماء الإِسلام يقولون: لا يطاع الحكم إلا حين يأمر بحق. وهو يقول: خضوع الحاكم لأي فرد من أفراد الرعية مخالف لمقتضى الطبيعة، وعلماء الإِسلام يقولون: على الحاكم أن يخضع لأدنى الناس منزلة، متى أمره بمعروف، أو نهاه عن منكر. وهو يقول: ردّ إرادة الحاكم يعتبر ثورة أو تمرداً، وعلماء الإِسلام يقولون: إذا أراد الحاكم أن يدير شأنا من شؤون الأمّة على غير مصلحة، أو يفصل في قضية على وجه يخالف قانون العدل، فلا حرج على الأمة أن تردّ إرادته بطريق الحكمة، ولا يصح له أن يعد مقاومتهم لهذه الإرادة ثورة أو تمرداً. قال أحد أمراء بني أمية لبعض التابعين: أليس الله أمركم أن تطيعونا في ¬

_ (¬1) "دائرة المعارف الألمانية" لمير (ج 9 ص 391).

قوله {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]؟ فأجابه بقوله: أليس قد نُزعت عنكم الطاعة إذا خالفتم الحق بقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [النساء: 59] (¬1). ويقول "هبز": الدين يجب أن يخضع لإرادة الحاكم، وعلماء الإِسلام يقولون: يجب على الحاكم أن يخضع لقانون الإِسلام نصاً أو استنباطاً، وعليه أن يخلي السبيل للطوائف المخالفة تتمتع بالحرية في أديانها وإقامة شعائرها، ولا يحل له أن يعترضها بحال. * * * ¬

_ (¬1) "فتح الباري" لابن حجر (ج 13 ص 91).

الباب الثاني حكم الخلافة

الباب الثاني حكم الخلافة تعرض المؤلف في هذه الباب لحكم الخلافة، وما جرى فيه من اختلاف، وحكى كلام ابن خلدون في انعقاد الإجماع على الوجوب، وشذوذ بعض الطوائف عنه. ثم نقل الدليل النظري على وجوبها من كتاب "القول المفيد" للأستاذ الشيخ محمد بخيت (¬1)، وتخلص بعد هذا إلى إنكار أن يكون في الكتاب أو السنّة دليل على الوجوب، وأخذ يتكلم في تفسير بعض آيات ليبين عدم اتصالها بشيء من أمر الإمامة. ثم أخذ يناقش الأستاذ السيد محمد رشيد رضا (¬2) في أحاديث استشهد بها على وجوب الخلافة، فأومأ إلى الارتياب في صحتها، وذهب يتأولها على وجه غريب، ويسوق على هذا التأويل أمثلة ليست جارية على قانون المنطق في كثير ولا قليل. * الإجماع على نصب الإمام: المناقشة: قال المؤلف في (ص 12): "ولكنهم لا يختلفون في أنه -يعني: نصب ¬

_ (¬1) محمد بخيت بن حسين المطيعي (1271 - 1354 هـ = 1865 - 1935 م) فقيه ومفتي مصر. ولد في بلدة المطيعة باسيوط. (¬2) محمد رشيد بن علي رضا (1282 - 1354 هـ = 1865 - 1935 م) من علماء الحديث والتفسير، ولد في القلمون، وتوفي بالقاهرة.

الإمام - واجب على كل حال، حتى زعم ابن خلدون أن ذلك مما انعقد عليه الإجماع". لم ينفرد ابن خلدون بحكاية الإجماع على نصب الإمام، بل تضافر عليها كثير من علماء الكلام؛ كالعضد (¬1) في "المواقف"، والسعد (¬2) في "المقاصد"، وإمام الحرمين (¬3) في "غياث الأمم"، وغيرهم. وقال ابن حزم (¬4) في كتاب "الفصل" (¬5): اتفق جميع أهل السنّة، وجميع المرجئة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، ما عدا النجدات من الخوارج (¬6)؛ فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة، وإنما عليهم أن ¬

_ (¬1) عبد الرحمن بن عبد الغفار، عضد الدين الإيجي (... -756 هـ = ... - 1355 م) عالم بالأصول والمعاني والعربية. من أهل "إيج" بفارس، وتوفي مسجوناً في كرمان. من مؤلفاته: "المواقف". (¬2) مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، سعد الدين (712 - 793 هـ = 1312 - 1390 م) إمام في العربية والمنطق. ولد في تفتازان من بلاد خراسان، وتوفي بسمرقند. من مصنفاته: "مقاصد الطالبين". (¬3) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، الملقب بإمام الحرمين (419 - 478 هـ = 1028 - 1085 م) من علماء الشافعية، ولد في "جوين" من نواحي نيسابور، وتوفي بقرية "بشتغال" في نيسابور. من مؤلفاته "غياث الأمم والتياث الظلم". (¬4) علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري (384 - 456 هـ = 994 - 1064 م) من علماء وأئمة الأندلس. ولد بقرطبة، وتوفي في بادية لبلة بالأندلس. من مؤلفاته: "الفصل في الملل والأهواء والنحل". (¬5) (ج 4/ ص 87). (¬6) أصحاب نجدة بن عامر الحروري أحد بني حنيفة.

التباس حاتم الأصم بحاتم الصوفي على المؤلف

يتعاطوا الحق بينهم. ثم قال: وقول هذه الفرقة ساقط، يكفي في الرد عليه إجماع كل من ذكرنا على بطلانه. فقول المؤلف: "حتى زعم ابن خلدون أن ذلك مما انعقد عليه الإجماع "عبارة يصوغها من لم يطلع على الإجماع محكياً في غير "مقدمة ابن خلدون"، أو من يريد أن يضع في نفس القارئ" عقيدة: أن هذا الإجماع إنما جاء حديثه في تلك المقدمة. ولا أدري لماذا اختار هذه العبارة، وهو يشعر بأنه سينجر به البحث في (ص 15 و 21) إلى الاعتراف بأن الإجماع محكي في كتاب "المواقف". * التباس حاتم الأصم بحاتم الصوفي على المؤلف: نقل المؤلف في (ص 12) قول ابن خلدون: "وقد شذّ بعض الناس، فقال بعدم وجوب هذا المنصب رأساً، لا بالعقل، ولا بالشرع، منهم: الأصم من المعتزلة". وقال في أسفل الصحيفة معرفاً بالأصم: "حاتم الأصم الزاهد المشهور البلخي". التبس على المؤلف حال الاسم المعتزلي، (¬1) وهو أبو بكر عبد الرحمن ابن كيسان، بحاتم الأصم الصوفي (¬2)، وقد ذكره السيد في "شرح المواقف"، والسعد في "شرح المقاصد" بلقب أبي بكر، وذكره إمام الحرمين في كتاب "غياث الأمم" باسمه عبد الرحمن بن كيسان، وجمع أحمد بن يحيى المرتضى ¬

_ (¬1) عبد الرحمن بن كيسان، أبو بكر الأصم، فقيه من المعتزلة (... - نحو 225 هـ = ... - نحو 840 م). (¬2) حاتم بن عنوان المعروف بالأصم (... - 237 هـ = ... -851 م) مشهور بالورع والزهد، من أهل بلخ، وتوفي في واشجرد.

في "طبقات المعتزلة" بين اسمه ولقبه، فقال: أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم (¬1). قال المؤلف في (ص 13): "لم نجد- فيما مرّ بنا من مباحث العلماء الذين زعموا أن إقامة الإمام فرض - من حاول أن يقيم الدليل على فرضيته بآية من كتاب الله الكريم". استدل بعض أهل العلم على الإمامة بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. وقد نقل المؤلف نفسه الاستدلال بهذه الآية عن ابن حزم. وأوردها سعد الدين التفتزاني في "شرح المقاصد" (¬2)، فقال: وقد يتمسك بمثل قوله تعالى: {أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من مات ولم يعرف إمامه، مات ميتة جاهلية"؛ فإن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضي وجوب الحصول. وقال صاحب "مطالع الأنظار" (¬3) بعد أن قرر الدليل النظري على وجوب الإمامة: قيل: صغرى هذا الدليل عقلية من باب الحسن والقبح، وكبراه أوضح عقلاً من الصغرى، والأولى أن يعتمد فيه على قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. وهذه النصوص تريك قيمة قول المؤلف: لم نجد من حاول أن يقيم الدليل على فرضيته بآية من كتاب الله الكريم. ¬

_ (¬1) انظر باب: ذكر المعتزلة من كتاب "المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل" (ص 32) مطبعة المعارف النظامية. بحيدر أباد سنة 1316 هـ. (¬2) (ص 202). (¬3) (ص 468) طبع الآستانة.

الفرق بين القاعدة الشرعية والقياس المنطقي

* الفرق بين القاعدة الشرعية والقياس المنطقي: قال المؤلف في (ص 14): "ولكن المنصفين من العلماء، والمتكلفين منهم، قد أعجزهم أن يجدوا في كتاب الله تعالى حجة لرأيهم، فانصرفوا عنه إلى ما رأيت من دعوى الإجماع تارة، ومن الالتجاء إلى أقيسة المنطق وأحكام العقل تارة أخرى". سمى المؤلف طريق الاستدلال الذي نحاه الأستاذ الشيخ محمد بخيت، ومن تقدمه من علماء الكلام: قياساً منطقياً، وحكماً عقلياً، وهذا مما يخيل إلى القارئ أن هذا الضرب خارج عن الأدلة الشرعية، والتحقيق أنه راجع إلى الأدلة السمعية، ويشهد بهذا قولهم: إن نصب الإمام عندنا واجب سمعاً؛ لوجهين: الوجه الأول: الإجماع، والثاني: هذا الدليل الذي اختار المؤلف أن يسميه: حكماً عقلياً. وإن شئت بيان ما صرف عنه المؤلف عبارته -من أن ذلك الاستدلال قائم على نظر شرعي-، فإليك البيان: يعتمد استنباط الأحكام على نظرين: أحدهما: يتعلق بالأدلة السمعية التي يقع منها الاستنباط، وثانيهما: يرجع إلى وجود الدلالات المعتد بها في الاستعمال. أما الأدلة السمعية، فهي الكتاب، والسنّة، والإجماع. وأما وجوه الد لالات، فدلالة بالمنطوق، ودلالة بالمفهوم، ودلالة بالمعقول. ويندرج في دلالة المعقول ما يسمونه بالقياس. فانحصرت الأدلة الشرعية العالية في الكتاب والسنّة والإجماع والقياس. وهناك أدلة أخرى ترجع إلى هذه الأصول العالية، وهي: القواعد

ترجيح حمل "أولي الأمر" في الآية على الأمراء

المقطوع بصحتها؛ كقاعدة: "الضرر يزال"، و "المشقة تجلب التيسير"، و"العادة محكمة"؛ فإن مثل هذه القواعد لم يقررها العلماء بمحض العقل، بل رجعوا في كل قاعدة إلى استقراء موارد كثيرة من كليات الشريعة وجزئياتها، حتى تحققوا قصد الشارع إليها، وأصبحت بمنزلة الخبر المتواتر في وقوعها موقع اليقين الذي لا تخالجه ريبة. قال أبو إسحق الشاطبي في "موافقاته": إن المجتهد إذا استقرأ معنى عاماً من أدلة خاصة، واطرد له ذلك المعنى، لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تظهر، بل يحكم عليها -وإن كانت خاصة- بالدخول تحت عموم المعنى؛ كالمنصوص بصيغة عامة. فالذين يستدلون على وجوب نصب الإمام بأن ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم عن الباطل وازع، يفضي إلى تبدد الجماعة، وإضاعة الدين، وانتهاك حرمة الأموال والنفوس والأعراض، إنما يطبقون قاعدة شرعية، وهي قاعدة: "الضرر يزال"، أو قاعدة: "ما لا يتم الواجب المطلق إلا به، وكان مقدوراً، فهو واجب". * ترجيح حمل "أولي الأمر" في الآية على الأمراء: قال المؤلف في (ص 15): "وغاية ما يمكن إرهاق الآيتين به أن يقال: إنهما تدلان على أن للمسلمين قوماً منهم ترجع إليهم الأمور، وذلك معنى أوسع كثيراً، وأعم من تلك الخلافة بالمعنى الذي يذكرون، بل ذلك معنى مغاير الآخر، ولا يكاد يتصل به ". عبّر بالإرهاق؛ ليخيل إليك أن حمل أولي الأمر في الآيتين على قوم ترجع إليهم الأمور، هو من باب صرف اللفظ إلى ما فيه عسر وتكلف. لندع

مناقشته في آية: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء: 83] جانباً، فإن الصواب ما قاله المحققون من أن المراد بها: كبار الصحابة البصراء في الأمور، ونأخذ بأطراف الحديث معه في آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فنقول: إن حمل الآية على الأمراء راجح من وجوه: أحدها: سبب النزول، ففي "صحيح الإمام البخاري"، رواية عن ابن عباس: أن: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} نزلت في عبدالله بن حذافة بن قيس بن عدي (¬1)؛ إذ بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سرية. ثانيها: ورودها بعد آية: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. قال ابن عيينة (¬2): سألت زيد بن أسلم (¬3) عن قوله تعالى: {أطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ]، ولم يكن أحد بالمدينة يفسر القرآن بعد محمد ابن كعب مثله، قال: اقرأ ما قبلها، تعرف، فقرأت: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، فقال: هذه في الولاة (¬4). ¬

_ (¬1) عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي القرشي (... - نحو 33 هـ = ... - نحو 653 م) صحابي جليل، وتوفي بمصر. (¬2) سفيان بن عيينة بن ميمون (107 - 98 هـ = 725 - 814 م) محدث واسع العلم، وحافظ ثقة، ولد بالكوفة، وتوفي بمكة المكرمة. (¬3) زيد بن أسلم العدوي العمري (... - 136 هـ = ... - 753 م) مفسر وفقيه من أهل المدينة. (¬4) "فتح الباري" (ج 13 ص ا 9) مطبعة الخشاب.

هل نأخذ أحكام الدين عن المستر أرنولد؟!

ثالثها: تعقيبها بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [النساء: 59]؛ فإن الخطاب للمؤمنين عامةً، ومن بينهم أهلُ الحل والعقد من العلماء، وشأن عامة المؤمنين أن ينازعوا أولي الأمر في بعضى تصرفاتهم، وليس لهم أن ينازعوا العلماء فيما يصدرونه من الفتاوى؛ إذ يراد من العلماء: المجتهدون، ومن أين لغيرهم من عامة الأمة أن ينازعهم في تقرير حكم، أو العرف كيف يرده معهم إلى كتاب الله وسنّة رسوله. وإذا ترجح حمل الآية على الأمراء، لم تكن دلالتها على أن للمسلمين قوماً ترجع إليهم الأمور، مما يستحق أن يسمّى إرهاقاً. وقول المؤلف: "وذلك معنى أوسع كثيراً، وأعم من تلك الخلافة" مما نتلقاه بتسليم، ولا يفوت الآية مع هذا أن تبعث من ناحية عمومها ما يشد ركن الإمارة العامة، ويعزز شواهدها على الوجه الذي سنقص عليك تحريره عندما يقتضيه الحال. وأما قوله: "بل ذلك معنى يغاير الآخر، ولا يكاد يتصل به"، فمن الكلم المبهم الذي لا ينطق به الباحث عن الحق دون أن ينفخ فيه روحاً من الشرح والبيان، اللهم إلا أن ينوي محاربة الخلافة، ولو بهمزات التشكيك فيما يعده الناس من مؤيدات سلطانها. * هل نأخذ أحكام الدين عن المستر أرنولد؟! قال المؤلف في (ص 15): "وإذا أردت مزيداً في هذا البحث، فارجع إلى"كتاب الخلافة" للعلامة السير تومس أرنولد (¬1)، ففي الباب الثاني والثالث ¬

_ (¬1) توماس ووكر أرنولد (1280 - 1349 هـ = 1864 - 1930 م) مستشرق إنكليزي من لندن، من مؤلفاته: "الخلافة".

معنى {ما فرطنا في الكتاب من شيء}

منه بيان ممتع مقنع". بحثنا عن هذا الكتاب في كثير من المكاتب لنطلع على ما انفرد به العلامة الإنكليزي في تحرير حكم الخلافة، فلم نهتد السبيل لإحراز نسخة منه. وما سلوناه إلا حين ذكرنا أن المؤلف قد أحاط بذينك البابين خُبراً، وعرفنا من نظره إلى الخلافة بعين عابسة: أنه لا يجد فيهما ما يشد عضده على تقويض صرحها، إلا وينقله دون أن يكتفي بالإحالة. ولو أحالنا المؤلف على كتاب السير أرنولد في بحث تاريخي، أو اجتماعي له مساس بالخلافة، لأخذ منا الأسف على أن فاتنا الاطلاع عليه ماخذاً بليغاً، ولكنه أحالنا على كتاب السير أرنولد في تحقيق حكم شرعي، فقلنا: لعله أراد الجد بشيء من الهزل، أو إخراج أحكام الشريعة من دائرة الراسخين في علومها. يجب أن تكون قيمة الأحكام الشرعية في نظر المؤلف فوق هذا التقدير، وما ينبغي له أن يخيل إلينا أنا في حاجة إلى الاقتداء بعقول الغربيين حتى في أمور الدين من واجب وحرام. وإذا كان المؤلف يدري أن للشريعة أصولاً ومقاصد لم يدرسهما السير أرنولد حق دراستهما، فإن إحالتنا على كتابه ليست سوى عثرة في سبيل البحث تعترض السذَّج من الأحداث، فتكبو بهم في تردد وارتياب. * معنى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]: قال المؤلف في (ص 16): "إنه لعجيب أن تأخذ بيدك كتاب الله الكريم، وتراجع النظر فيما بين فاتحته وسورة الناس، فترى فيه تصريف كل مثل، وتفصيل كل شيء من أمر هذا الدين {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} , ثم

لا تجد فيه ذكراً لتلك الإمامة العامة، أو الخلافة. إن في ذلك لمجالاً للمقال". في القرآن بيان كل شيء من أمور الدين، وأحكام الوقائع، وليس معنى هذا التبيان أنه يذكر أحكام الأشياء على وجه التفصيل، حتى إذا رجعنا إليه في قضية، ولم نجد لها حكماً مفصلاً، خالطت قلوبنا الريبة من حكمها الذي دلت عليه السنّة، أو انعقد عليه إجماع أهل العلم، أو شهدت به القواعد المسلَّمة. وإنما معنى تبيانه لكل شيء: أنه أتى بكليات عامة، وهي معظم ما نزل به، وفصّل بعض أحكام، وأحال كثيراً من آياته على بيان السنّة النبوية، ثم إن الكتاب والسنّة أرشدا إلى أصول أخرى؛ كالإجماع، والقياس، وغيرهما من القواعد المستفادة من استقراء جزئيات كثيرة؛ كقاعدة: "المصالح المرسلة" وقاعدة: "سد الذرائع" قال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب "الموافقات": تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي (¬1) ... فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية، وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وهي الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، ومكمل كل واحد منها، وهذا كله ظاهر أيضاً، فالخارج من الأدلة عن الكتاب هو: السنّة، والإجماع، والقياس، وجميع ذلك إنما نشأ عن القرآن (¬2). فإن لم ينص القرآن على حكم الخلافة، فإن في أيدينا من طرق تبيانه السنّة والإجماع والقياس، والقواعد التي لا يأتيها الريب من بين يديها ولا من خلفها. ¬

_ (¬1) (ج 2 ص 139) الطبعة التونسية. (¬2) (ج 2 ص 195).

لماذا لم يحتج بعض علماء الكلام في مسألة الخلافة بالحديث؟

* لماذا لم يحتج بعض علماء الكلام في مسألة الخلافة بالحديث؟ قال المؤلف في (ص 16): "ولو وجدوا لهم في الحديث دليلاً، لقدموه في الاستدلال على الإجماع". لما انتقل مبحث الخلافة إلى علم الكلام، ودارت المناظرة فيها مع طائفة ألقت عليها شيئاً من صبغة العقائد، رأى أهل العلم أن هذه الطائفة لا يكف بأسها، ويسد عليها طرق المشاغبة إلا بالأدلة الحاسمة، ولهذا وقعت عنايتهم على الاحتجاج بالإجماع، والقواعد النظرية الشرعية؛ لكونهما من قبيل ما يفيد العلم. ومن لم يستند من علماء الكلام في هذا المبحث إلى الحديث، فلأنه اكتفى بذينك الدليلين، أو لأن أخبار الآحاد في نفسها لا تتجاوز مراتب الظنون، ولا يكبر على ذوي الأهواء الغالبة أن ينسلخوا منها، ويخترعوا منفذاً للطعن في صحتها، أو صرفها عن وجه دلالتها. قال المؤلف في (ص 18): "لا نريد أن نناقشهم في صحة الأحاديث التي يسوقونها في هذا الباب، وقد كان لنا في مناقشتهم في ذلك مجال فسيح". لا ندري ما هو الميزان الذي يرجع إليه المؤلف في قبول الحديث وعدم قبوله، حتى ننظر كيف ينفتح أمامه مجال فسيح للطعن في حديث: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، وقد جاء في "صحيحي البخاري (¬1) ومسلم"، وحديث: "من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية"، وحديث: ¬

_ (¬1) محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري (194 - 256 هـ = 810 - 870 م) الحافظ للحديث، صاحب "الجامع الصحيح" المعروف بصحيح البخاري، ولد في بخارى، وتوفي في "خرتنك" من قرى "سمرقند".

"من بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخَرُ ينازعه، فاضربوا عنق الآخر"، وكلا الحديثين في "صحيح الإمام مسلم". تفضل المؤلف بطرح المناقشة في صحة هذه الأحاديث، ونحن نعلم أنه لو دخل في المناقشة، لا يخلو حاله من سبيلين: فإما أن يذهب إلى الطعن فيها من الطرق التي أحكم السلف وضعها، وميزوا بها صحيح الأخبار من سقيمها، ولا نمتري حينئذٍ في أنه سينقطع به القول دون أن يمسها بوهن، أو يزحزحها عن مرتبتها فتيلاً، وإما أن يأخذ للطعن فيها مذهباً يبتدعه لنفسه، فلا نراه إلا أن يخلقه من طينة هذه الآراء المترددة في ريبها، الفاتنة للنفوس الزاكية عن أمر ربها. ولعل الواقع أنه رمى هذه الكلمة محافظة على خطة التشكيك، متى حبط عمله في رواية: "أعطوا ما لقيصر لقيصر"، وما جرى على شاكلتها. قال المؤلف في (ص 18): "ثم لا نناقشهم في المعنى الذي يريده الشارع من كلمات: إمامة، وبيعة، وجماعة إلخ، وقد كانت تحسن مناقشتهم في ذلك؛ ليعرفوا أن تلك العبارات وأمثالها في لسان الشرع لا ترمي إلى شيء من المعاني التي استحدثوها بعد، ثم زعموا أن يحملوا عليها لغة الإسلام". من ذا يصدق أن المؤلف أبصر هؤلاء العلماء ارتكبوا في تفسير البيعة والإمام والجماعة خطة جهل وضلال، ويترك مناقشتهم في ذلك التفسير إلى التشبث بمغالطات يملك أمثالها من أحب أن يقول: إن هذا النهار ليل، أو إن باقلاً (¬1) أفصحُ من سَحبان؟! (¬2). ¬

_ (¬1) باقل الإيادي: جاهلي، يضرب بعيّة المثل. والمثل: "أعيا من بأقل". (¬2) سحبان بن زفر بن إياس الوائلي (... - 54 هـ = ... - 674 م) يضرب به المثل=

وماذا أعجل المؤلفَ عن أن يبين للناس خطأ أهل العلم في فهم البيعة والجماعة والإمام، وما باله لم ينفق ساعة من نهار في شرح ثلاثة مفردات، أو أربعة، ينكث بها الأيدي من التمسك بأحاديث يصعب عليه الطعن في صحتها، أو تحريفها عن وجه دلالتها؟ يستخف المؤلف أحيانا بما يحكيه عن أهل العلم، فلا يصوغ عبارته على قدر كلامهم، وكذلك صنع عقب تلك الجمل، فذكر أن معنى جماعة المسلمين في حديث "تلزم جماعة المسلمين وإمامتهم" عند أولئك العلماء: حكومة الخلافة الإسلامية. ولم يكن بين العلماء من يذهب إلى أن جماعة المسلمين هي حكومة الخلافة، وإنما يحملون جماعة المسلمين على معنى أهل الحل والعقد الذين بيدهم نصب أمير المؤمنين. قال القسطلاني (¬1) في "شرح صحيح البخاري" (¬2): "والمراد -كما قال الطبري- (¬3) من الخبر: الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته، خرج عن الجماعة". ¬

_ = في الخطابة والبيان. (¬1) أحمد بن محمد بن أبي بكر ين عبد الملك القسطلاني (851 - 923 هـ = 1448 - 1517 م) عالم بالحديث، ولد وتوفي بالقاهرة. من مؤلفاته "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري". (¬2) ((ج 10 ص 221). (¬3) محمد بن جرير بن يزيد الطبري (224 - 310 هـ = 839 - 923 م) المفسر والمؤرخ والإمام. ولد في آمل طبرستان، وتوفي ببغداد، من مؤلفاته: "جامع البيان في تفسير القرآن"، و"أخبار الرسل والملوك"، ويعرف بتاريخ الطبري.

لماذا وضع بحث الخلافة في علم الكلام؟

* لماذا وضع بحث الخلافة في علم الكلام؟ قال المؤلف في (ص 18): "لا نجد في تلك الأحاديث بعد كل ذلك ما ينهض دليلاً لأولئك الذين يتخذون الخلافة عقيدة شرعية، وحكماً من أحكام الدين". يقول المؤلف: إنهم اتخذوا الخلافة عقيدة شرعية، وحكماً من أحكام الدين، وما كان له أن يطلق عليها اسم عقيدة شرعية، وهو يراهم كيف يصرحون بأنها ليست من قبيل العقائد، وإنما هي فرع من فروع الشريعة كسائر أحكامها العملية. قال سعد الدين التفتزاني في "شرح المقاصد": "إن مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق؛ لرجوعها إلى أن القيام بالإمامة من نصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات ... ولا يخفى أن ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية، وقد ذكر في كتبنا الفقهية: أنه لا بد للأمة من إمام يحعي الدين، ويقيم السنّة، وينتصف للمظلومين، ويستوفي الحقوق، ويضعها مواضعها". ثم قال: "ولكن لما شاعت بين الناس في باب الإمامة اعتقادات فاسدة واختلافات، بل اختلاقات باردة ... ومالت كل فئة إلى تعصبات تكاد تفضي إلى رفض كثير من قواعد الإسلام، ونقض عقائد المسلمين، والقدح في الخلفاء الراشدين ... ألحق المتكلمون هذا الباب بأبواب الكلام". وقال السيد في شرح خطبة "المواقف": "إن الإمامة، وإن كانت من فروع الدين، إلا أنها ألحقت باصوله؛ دفعاً لخرافات أهل البدع والأهواء، وصوناً للأئمة المهديين عن مطاعنهم؛ لئلا يفضي بالقاصرين إلى سوء اعتقاد فيهم".

بحث في (أعطوا ما لقيصر لقيصر)

فالواقع أن الخلافة ليست من نوع العقائد، وإنما حشروها في علم الكلام؛ للعذر الذي أبداه شارح "المقاصد"، وشارح "المواقف". * بحث في (أعطوا ما لقيصر لقيصر): قال المؤلف في (ص 18): "تكلم عيسى بن مريم - عليه السلام - عن حكومة القياصرة، وأمر بأن يعطى ما لقيصر لقيصر، فما كان هذا اعترافاً من عيسى بأن الحكومة القيصرية من شريعة الله، ولا مما يعترف به دين المسيحية، وما كان لأحد ممن يفهم لغة البشر في تخاطبهم أن يتخذ من كلمة عيسى حجة له على ذلك، وكل ما جرى في أحاديث النبي - عليه الصلاة والسلام - من ذكر الإمامة والخلافة والبيعة إلخ، لا يدل على شيء أكثر مما دل عليه المسيح حينما ذكر بعض الأحكام الشرعية عن حكومة قيصر". يعلم المؤلف أن البحث في حكم إسلامي، ولأحكام الإسلام أصول معروفة لا يدخل في حسابها ما يدور على ألسنة أهل شريعة أخرى؛ إذ لم نحط بمورده خبراً، ولم نملأ كفنا من الثقة بسنده، والقائلون من علماء الإسلام بالاعتماد على شرع مَن قبلنا في تقرير الأحكام يقيدونه بأمرين: أحدهما: أن يجيء محكياً في القرآن أو السنّة، ورواية "أعطوا ما لقيصر لقيصر" لم تقصها علينا آية ولا حديث. ثانيهما: ألا يرد في شريعتنا ما يقتضي نسخه. وما عزاه إلى المسيح - عليه السلام - لا ينطبق على ما جاء في الشريعة من حرمة الإقامة تحت راية غير المسلم، والخضوع لسلطانه. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وقال تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8] , ثم إن محمد بن عبد الله - صلوات الله عليه - لم يعترف

بسلطة دار الندوة بمكة، وحاربها حتى خضد شوكتها، واستأصل جرثومة فسادها، ولم يعترف بسلطة قيصر، وأخذ يعدّ ما استطاع من قوة ليدفع شره، ويقوض دعائم ملكه. قال المؤلف في (ص 19): "وإذا كان صحيحاً أن النبي- عليه الصلاة والسلام - قد أمرنا أن نطيع إماماً بايعناه، فقد أمرنا الله تعالى كذلك أن نفي بعهدنا لمشرك عاهدناه، وأن نستقيم له كما استقام لنا، فما كان ذلك دليلاً على أن الله تعالى رضي الشرك، ولا كان أمره تعالى بالوفاء للمشركين مستلزماً لإقرارهم على شركهم". دعوى أن الأمر بطاعة ولي الأمر لا يدل على طلب ولايته، كما أن الأمر بالوفاء لمشرك عاهدناه لا يدل على الشرك، تمثيل يمشي براكبه إلى وراء؛ فإن أقل ما في الصورة الأولى: أن المجتهد ينظر في طاعة أولي الأمر، فيفقه أنها لم تقصد لذاتها، ولا لمجرد الخضوع للأمراء، وإنما يراد بها: مصلحة وراء ذلك كله، وهي المساعدة على إقامة الحقوق، وانتظام شؤون الجماعة. ولا شك أن هذه الغاية تتوقف على نصب الأمير؛ كما تتوقف على حسن طاعته، فيصح أن يقال: إن الأمر باطاعة أولي الأمر نبه على طلب ولايتهم، وإن المجتهد أتى إلى وجوب نصب الإمام من طريق النظر في الأمر بطاعته. أما الأمر بالوفاء لمشرك عاهدناه، فخارج عن السبيل. لأن علته ترجع إلى الاحتفاظ بنوع من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، وهو الصدق والثقة اللذان يقوم عليهما شرف المعاملات، ونظام السياسات. ويتضح جلياً: أن هذه الحكمة يختص بها الوفاء بالعهد، ولا يشاطره فيها الشرك بالله، ولا المعاهدة التي هي موكولة إلى اجتهاد صاحب الدولة.

قال المؤلف في (ص 19): "أو لسنا مأمورين شرعاً بطاعة البغاة والعاصين، وتنفيذ أمرهم إذا تغلبوا علينا، وكان في مخالفتهم فتنة تخشى من غير أن يكون ذلك مستلزما لمشروعية البغي، ولا لجواز الخروج على الحكومة؟ ". الأحاديث الحاثّة على إطاعة ولي الأمر مطلقة، وإنما يقصد بها: المصلحة المترتبة عليها، وهي إقامة المصالح، وانتظام الحقوق، وبهذا أرشدتنا إلى طلب أصل ولايته. أما البغاة والعاصون، فقد أمر الإسلام بكفاحهم، وسلّ السيوف في وجوههم ما استطعنا لذلك سبيلاً، وأذن لنا بأن نجنح لسلمهم حينما نخشى فتنة أشد من محاربتهم، عملاً بقاعدة: "ارتكاب أخف الضررين"، والموازنة بين الضرر الذي نحتمله من ولايتهم، والفتنة التي نخشاها من محاربتهم يرجع إلى اجتهاد ذوي الخبرة بحقوق الأمة، ومبلغ قوتها، وعاقبة حربها أو مسالمتها. فالوجه الفارق بين هذه المسألة وإطاعة أولي الأمر: أن المعنى الذي روعي في الأذن بمسالمة البغاة والعاصين لا يتحقق في البغي والعصيان حتى نذهب من الإذن بمسالمتهم إلى القول بمشروعيتهما، كما ذهبنا من الأمر بإطاعة صاحب الدولة إلى القول بوجوب ولايته. ثم إن المؤلف عطف على هذه الأقيسة الخاطئة أمثلة أخرى، فقال: إن الله أمرنا بإكرام السائلين، والرحمة بالفقراء، ولم يكن هذا موجباً لأن يوجد بيننا فقراء ومساكين. وأمرنا أن نفك رقاب الأرقاء، ونعاملهم بالحسنى، ولم يدل ذلك على أن الرق مأمور به في الدين. وذكر الله الطلاق، والاستدانة والبيع والرهن وغيرها، وشرع له أحكاماً، ولم يدل ذلك بمجرده على أن

شيئاً منها واجب في الدين. ولسنا في حاجة إلى مناقشة هذه الأمثلة بعد أن كشفنا لك عن وجه دلالة الأمر بإطاعة صاحب الدولة على حكم ولايته، وذلك الوجه من الدلالة لا يوجد في هذه الأمثلة، وما كان لها إلا أن تلف رؤوسها حياء، وتزدحم على باب هذا المبحث متسابقة إلى الخروج منه.

الباب الثالث الخلافة من الوجهة الاجتماعية

الباب الثالث الخلافة من الوجهة الاجتماعية * ملخص الباب: حكى المؤلف الإجماع على نصب الخليفة بلفظ: زعموا، وتوخى في الحكاية عبارة العضد في "المواقف"، ثم أخذ يلمح إلى ما في حجية الإجماع من الاختلاف، وصرح بأن دعوى الإجماع في هذه القضية لا يجد لقبولها مساغاً على أي حال، ثم خيل إلى القارئ أن مناجزته لدعوى الإجماع تتوقف على تمهيد يكون كالطليعة تتقدم جيوش حججه الهاجمة، فطفق يلمز المسلمين بسوء الحظ في علم السياسة، وادعى أنهم وقفوا حيارى أمام ذلك العلم، ارتدوا دون مباحثه حسيرين، وسأل عن علة هذه الوقفة الحائرة والارتداد الحاسر، ثم انتصب ليجيب نفسه بلسانه، فزعم أن الخلافة في الإسلام لا ترتكز إلا على القوة الرهيبة، ولا ترتفع إلا على رؤوس البشر، وإن من الطبيعي في الأمم الإسلامية بوجه خاص أن لا يقوم فيهم ملك إلا بحكم الغلب والقهر. وأخذ يسرد بعض وقائع تاريخية، وتخلص منها إلى ضغط الملوك على حرية العلم، واستبدادهم بمعاهد التعليم، وانتهى إلى أن هذا الضغط هو سبب قصور النهضة الإسلامية في فروع السياسة، ونكوص العلماء عن التعرض لها، ثم وثب من الحديث على أن الضغط الملوكي إلى الطعن في

المناقشة - بحث في الاحتجاج بالإجماع

الإجماع على نصب الإمام، وكانت نتيجة البحث -فيما يتخيل- أن لا دليل على الخلافة من كتاب أو سنّة أو إجماع. ثم عجم الدليل النظري القائم على قاعدة رعاية المصالح، فلم يهتد إلى شبهة لإنكاره، فاعترف به، ولكن ذهب إلى أنه يقتضي إقامة حكومة، ويبقى شكلها دائراً بين الدستورية والاستبدادية، والجمهورية والبلشفية، وغير ذلك. وذهب إلى أنه لا يوافق العلماء على الإمامة إلا أن يريدوا بها: الحكومة في أي صورة كانت، ثم انساب في ذيل البحث يقذف الخلافة بغير استثناء، ويحمل عليها أوزار قوم أطفؤوا نورها، وأسقطوا من القلوب مهابتها، وقفل الباب بزعم أن الإمامة العظمى لم تكن شيئاً قام على أساس من الدين القويم، أو العقل السليم. * المناقشة - بحث في الاحتجاج بالإجماع: قال صاحب الكتاب (ص 23): "نسلّم أن الإجماع حجة شرعية، ولا نثير خلافاً في ذلك مع المخالفين". من أول ما عني به الإسلام في تشريعه: أن أطلق العقول من وثاق التقليد، وفتح أمامها باب النظر؛ حتى تعبر إلى قرارة اليقين على طريق الحجة والبرهان، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقال: {إنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]. وقد جرى علماء الإسلام، ولا سيما السلف الصالح، على هذا المنهج، فكانوا لا يتابعون ذا رأي على رأيه، ولا يتقلدون حكماً قبل أن يعلموا مستنده، وإذا عرفوا المستند، عرضوه على قانون الأدلة السمعية، ووزنوه بميزان النظر؛

ليعلموا مبلغه من الصحة، فإذا ثبت على النقد، وسلم من وجوه الطعن، رفعوه على كاهل القبول، وإلا، نبذوه نبذ الحذاء المرقع، غير مبالين بمقام مدعيه، وإن حاكى القمر رفعة وسناء، ومن درس مسائل الخلاف من عهد الصحابة - رضي الله عنهم - إلى العصر الذي ساد فيه القول بسد باب الاجتهاد، رأى الصحابة كيف يخالف بعضهم بعضاً، ولا ينقاد صغيرهم إلى كبيرهم إلا بزمام الحجة، وسار على هذا الاستقلال وحرية الفكر التابعون فمن بعدهم، ولا يكبر على أحد من المجتهدين أن يناظر أستاذه، أو من كان أوفر منه علماً، وأوسع نظراً، فيقارع حجته بالحجة، حتى إذا لم تمتلئ نفسه بالثقة من أدلته، اجتهد لنفسه، وأقام بجانب مذهبه مذهباً. ولتجدن من هؤلاء من يبلغه مذهب الصحابي في قضية لم ينعقد عليها إجماع، فيستأنف النظر في دلائلها، ولا يكون في صدره حرج أن يخالف الصحابي، أو يرجح مذهب تابعي على مذهبه. ومن عنايتهم بتحقيق الأحكام، وإبايتهم تناولها إلا من يد الدليل القاطع أو الراجح: أن دوّنوا الأحاديث، ونصبوا لها ميزاناً يعرف به صحيحها من ضعيفها، أو ضعيفها من موضوعها، ثم وضعوا لاستنباط الأحكام أصولاً، وقرروا لاستخراجها قواعد، وشرطوا في هذه الأصول والقواعد أن تكون قائمة على بيّنة قاطعة. فإذا كان الإسلام قد فتح للاجتهاد والنظر في الأدلة طريقاً واسعاً، وكان من سيرة علمائه الراسخين نقد الأقوال، وعدم السكوت عنها، إلا أن تستند إلى حجة عاصمة، فإن القضية التي تلقى على بساط البحث والاستفتاء، وتتداولها أنظارهم حتى تستقر على حكم يقررونه بإجماع، وينطقون فيه عن

تصميم، نعرف بحكم العادة معرفة لا تخالجها ريبة: أن تلك القضية أخذت حظها من النظر، وأنه لم يبق فيها لمخالف وجه يلتفت إليه، وبالأحرى ما كان في عصر الصحابة الذين شهدوا الوحي، ووقفوا على روح التشريع، ولم يعرفوا في قول الحق هوادة ولا محاباة. وقد تأيد هذا القول بطول الاختبار والاستقراء، فلتجدنّ كل رأي يتهجم به مبتدعه على خرق إجماع أهل العلم متداعياً إلى السقوط، بل قائماً على رأسه؛ بحيث لا يكلفك هدمه إمعاناً في نظر، أو عناء في التماس حجة. قال أبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته": "قلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطاً أو مغالطة". ولم تؤخذ حجية الإجماع من الكتاب والسنّة بنصوص معدودة، بل حجيته من آيات كثيرة، وأحاديث شتى، وإذا كان كل واحد منها يدل بانفراده على حجية الإجماع دلالة ظنية، فإن الظنيات الكثيرة إذا تواردت على معنى، أفادت علماً لا تخالجه ريبة. قال أبو إسحاق الشاطبي في "الموافقات": "الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع؛ فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع .... وإذا تأملت كون أدلة الإجماع حجة، أو خبر الواحد أو القياس حجة، فهو راجع إلى هذا المساق؛ لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوق الحصر". وهاهنا أدلة أخرى تدل -بوجه خاص- على حجية إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - وقد وقف عند حد هذه الأدلة من قال: لا حجة إلا في إجماع الصحابة. ولنكتف بهذه الكلمة في التنبيه على وجه حجية الإجماع، وعدّه

الإمام أحمد والإجماع

في الأدلة القاطعة. * الإمام أحمد والإجماع: قال المؤلف في (ص 22): "ولا نقول مع القائل: من ادّعى الإجماع، فهو كاذب". وكتب في أسفل الصحيفة عازياً هذه المقالة إلى الإمام أحمد (¬1) بما نصه: "روي ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل. راجع: تاريخ التشريع الإسلامي لمؤلفه محمد الخضري". انتزع المؤلف هذه الكلمة المروية عن الإمام أحمد من "تاريخ التشريع الإسلامي" للشيخ محمد الخضري، (¬2) وأطلقها في طليعة الباب؛ لتثير في نفوس القارئين شكاً، وتجعلهم على ريبة من حجية الإجماع. أطلق هذه الكلمة كأنه يجهل موردها، ويجهل أن الإمام أحمد لا يعني بها: الإجماع المعروف في الأصول، وإنما يعني بها: الرد على بعض الفقهاء الذين ينظرون إلى الواقعة، حتى إذا لم يطلعوا على خلاف في حكمها، سمّوه: إجماعاً. قال ابن القيّم (¬3) في كتاب "إعلام الموقعين" (¬4): "ولا يقدّم -يعني: ¬

_ (¬1) أحمد بن محمد بن حنبل (164 - 241= 780 - 855 م) إمام المذهب الحنبلي، من مصنفاته: "المسند" يحتوي ثلاثين ألف حديث. ولد ببغداد، وتوفي بها. (¬2) محمد بن عفيف الباجوري، المعروف بالشيخ الخضري (1289 - 1345 هـ = 1872 - 1927 م) من علماء تاريخ الإسلام، من مؤلفاته: "تاريخ التشريع الإسلامي". من أهالي الزيتون في ضواحي القاهرة، وتوفي بالقاهرة. (¬3) محمد بن أبي بكر بن أيوب بن الزّرعي الدمشقي (691 - 751 هـ = 1292 - 1350 م) من كبار العلماء، من مؤلفاته: "إعلام الموقعين" ولد وتوفي بدمشق. (¬4) (ج 1 ص 32).

المسلمون والسياسة

الإمام أحمد -عدم علمه بالمخالف، الذي يسميه كثير من الناس: إجماعاً، ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كذب أحمد من ادّعى هذا الإجماع، وكذلك الشافعي أيضا نصَّ في "رسالته الجديد" على أن ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له: إجماع ... وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ما يدّعي فيه الرجل الإجماع، فهو كذب، من ادّعى الإجماع، فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ... ولكنه يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك. هذا لفظه .. ، فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده". فالإمام أحمد بن حنبل إنما ينكر على الفقيه أن يسمي عدم علمه بالخلاف: إجماعا، وعلى مثل هذا جرى ابن حزم في كتاب "الأحكام"، فقال: "تحكم بعضهم فقال: إن قال عالم: لا أعلم هنا خلافاً، فهو إجماع، وإن قال ذلك غير عالم، فليس إجماعاً. وهذا قول في غاية الفساد، ولا يكون إجماعاً، ولو قال ذلك محمد بن نصر المروزي" (¬1). * المسلمون والسياسة: قال المؤلف في (ص 22): "من الملاحظ البين في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين: أن حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوأ حظ، وأن وجودها بينهم كان أضعف وجود، فلسنا ¬

_ (¬1) محمد بن نصر المروزي (202 - 294 هـ = 817 - 906 م) إمام في الحديث والفقه، كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة فمن بعدهم، من مؤلفاته: "القسامة" في الفقه. ولد ببغداد، وتوفي بسمرقند.- انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" لابن السبكي (ج 2 ص 21).

نعرف لهم مؤلِّفاً في السياسة، ولا مترجماً، ولا نعرف لهم بحثاً في شيء من أنظمة الحكم، ولا أصول السياسة، اللهم إلا قليل لا يقام له وزن إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون". ظل المؤلف مستهتراً بشهوة فصل الإسلام عن وظيفة إصلاح السياسة، فرأى أن من المقدمات المساعدة له على هذا الغرض مخاتلةَ نفس القارئ، وأخذها إلى الاعتقاد بأن زعماء الإسلام أو علماءه أهملوا النظر في أنظمة الحكم وأصول السياسة. لم يكن حظ المسلمين من علم السياسة سيئاً، ولا وجودها بينهم كان أضعف وجود، وعرفنا لهم في السياسة مؤلفات شتى: اطلعوا على كتاب "السياسة" لأفلاطون (¬1)، الذي عربه حنين بن إسحاق (¬2)، وترجم بعض فصوله أيضاً أحمد بن يوسف الكاتب (¬3) المتوفى سنة 340 هـ (¬4)، وكتاب "السياسة" تأليف قسطا بن لوقا البعلبكي (¬5)، وكتاب ¬

_ (¬1) فيلسوف يوناني (427 - 347 ق. م) من مؤلفاته: "السياسة". (¬2) حنين بن إسحاق العبادي (194 - 260 هـ = 810 - 73 م) مترجم وطبيب ومؤرخ من أهل الحيرة في العراق، ومات في بغداد. (¬3) أحمد بن يوسف بن إبراهيم البغدادي المصري (... - نحو 340 هـ = ... - نحو 952 م) والمعروف بابن الداية. من الكتاب الفصحاء. أصله من بغداد، وهاجر إلى دمشق، واستقر بمصر. من مؤلفاته: "السياسة لأفلاطون". (¬4) نشره بالطبع جميل العظم. (¬5) قسطا بن لوقا البعلبكي (... - نحو 300 هـ = ... - نحو 912 م). رومي الأصل، يعرف اليونانية. وتوفي في أرمينية. له تصانيف كثيرة.

"المتوّج في العدل والسياسة" للصابي (¬1)، وأشار ابن خلدون في "مقدمته" (¬2) إلى أن كتاب أرسطو في السياسة كان متداولاً بين الناس، وألف الكندي في السياسة اثني عشر تأليفاً، منها: "رسالته الكبرى في السياسة"، "ورسالة في سياسة العامة". وألّف أحمد بن الطيب، أحد المنتمين إلى الكندي كتاب: "السياسة الكبير"، وكتاب: "السياسة الصغير". وألّف أبو نصر الفارابي (¬3) ثمانية مؤلفات في السياسة، منها: السياسة المدنية، "وهو الاقتصاد السياسي الذي يدعي أهل التمدن الحديث أنه من مخترعاتهم (¬4) "، ومن مؤلفاتهم: كتاب "سياسة الملك" للماوردي (¬5)، و"سياسة المالك في تدبير الممالك" لابن أبي الربيع (¬6)، "وهو جليل جداً، لم يغالر بحثاً من أبحاث العمران والسياسة ¬

_ (¬1) إبراهيم بن هلال أبو إسحاق الصابئ (313 - 384 هـ = 925 - 994 م) تقلد دواوين الرسائل أيام المطيع لله العباسي. وله مؤلفات منها: "التاجي" في أخبار بني بويه. (¬2) (ص 33) طبعة بولاق سنة 1284 هـ. (¬3) محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ، أبو النصر الفارابي (260 - 339 هـ = 874 - 950 م) من كبار فلاسفة الإسلام، من مؤلفاته: "السياسة المدنية"، و"جوامع السياسة". ولد في فاراب على نهر جيجون، وتوفي بدمشق. (¬4) "تاريخ التمدن الإسلامي" لجرجي زيدان (ج 3 ص 177). (¬5) علي بن محمد بن حبيب، أبو الحسن الماوردي (364 - 450 هـ = 974 - 1058 م) من كبار القضاة والباحثين. من مؤلفاته: "سياسة الملك"، و"الأحكام السلطانية"، و "تسهيل النظر" في سياسة الحكومات. ولد في البصرة، وتوفي ببغداد. (¬6) أحمد بن محمد بن أبي الربيع (218 - 272 هـ = 833 - 885 م) من أدباء ورجال المعتصم العباسي.

والأخلاق إلا طرقه (¬1) "، وكتاب "سراج الملوك" لأبي بكر الطرطوشي (¬2)، وكتاب "نهج السلوك في سياسة الملوك" للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله (¬3)، و"قوانين الدواوين في نظام حكومة مصر وقوانينها" لأبي المكارم أسعد بن الخطير (¬4)، إلى غير ذلك من فصول ممتعة احتوى عليها كتاب "المسالك" لابن خرداذبة (¬5)، و"مقدمة" ابن خلدون، و"عيون الأخبار" لابن قتيبة (¬6)، و"العقد الفريد" لابن عبد ربّه (¬7). ويتصل بهذا كتب في أخلاق الملوك؛ ككتاب: "أخلاق الملوك" للفتح ¬

_ (¬1) "تاريخ آداب اللغة العربية" لجرجي زيدان (ج 2 ص 233). (¬2) محمد بن الوليد بن محمد بن خلف الأندلسي، أبو بكر الطرطوشي (451 - 520 هـ = 1059 - 1126 م) من فقهاء المالكية. من أهالي طرطوشة شرقي الأندلس، وتوفي بالإسكندرية. (¬3) عبد الرحمن بن عبد الله بن نصر (... - 590 هـ = ... -1194 م) مصري. من كتّاب العصر الأيوبي. (¬4) أسعد بن مهذّب الملقب بالخطير (544 - 606 هـ = 1149 - 1209 م) كان ناظراً للدواوين في الديار المصرية، ولد بمصر، وتوفي بحلب. (¬5) عبيد الله بن أحمد بن خرداذبة (نحو 205 - نحو 280 هـ = نحو 820 - نحو 893 م) مؤرخ جغرافي من أهل بغداد، من مؤلفاته: "المسالك والممالك". (¬6) عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (212 - 276 هـ = 828 - 889 م). إمام في الأدب، ولد في بغداد، وتوفي بها، من مؤلفاته: "الإمامة والسياسية"، و"عيون الأخبار". (¬7) أحمد بن محمد بن عبد ربه (236 - 328 هـ = 860 - 940 م) إمام في الأدب، وصاحب كتاب "العقد الفريد"، من أهل قرطبة.

ابن خاقان (¬1)، وكتاب: "التاج في أخلاق الملوك" للجاحظ (¬2)، وكتاب: "أخلاق الملوك" لمحمد بن حارث التغلبي (¬3)، و"التاج في سيرة كسرى أنوشروان" لابن المقفع (¬4)، وكتاب: "السفارة والسفراء" (¬5)، وكتاب: "جند الوزارة وحراسة حصن الصدارة" لحسن بن عبد الكريم البرزيخي (¬6)، وكتاب: "لطائف الأفكار وكاشف الأسرار" في علم السياسة، ألفه القاضي حسين ابن حسن السمرقندي، للوزير إبراهيم باشا سنة 936 هـ في خمسة أبواب، الأول: في السياسات، فهو من قبيل الموسوعات، لكنه يشتمل على ضروب من السياسة. منه نسخة في فيينا (¬7) ". هذا ما اطلعنا عليه، أو على التعريف به في بعض كتب التاريخ، وقد منيت المكاتب الإسلامية من بلايا الأحراق والإغراق والإتلاف، التي سامها بها أعداء العلم على ما هو معروف في التاريخ من هجمات التتار على ¬

_ (¬1) الفتح بن خاقان بن أحمد بن غرطوج (... - 247 هـ = ... - 861 م) من الأدباء الشعراء. فارسي الأصل، اتخذه المتوكل أخاً له، وقتل معه. (¬2) عمرو بن بحر الشهير بالجاحظ (163 - 255 هـ = 780 - 869 م) إمام الأدب، ولد وتوفي بالبصرة. (¬3) "الفهرست" لابن النديم (ص 148). (¬4) عبد الله بن المقفع (106 - 142 هـ = 724 - 759 م) من كبار الكتاب، ولد في العراق، وقُتل في البصرة. انظر: "الفهرست" لابن النديم (ص 118). (¬5) توجد نسخة منه في مكتبة سماحة السيد البكري، وأخرى في الخزانة التيمورية. (¬6) "كشف الظنون" (480: 1) طبعة بولاق. (¬7) "تاريخ أداب اللغة العربية" لزيدان (ج 3 ص 340).

بغداد، ونائبة خروج المسلمين من الأندلس، ونكبات الحروب الصليبية في الشام ومصر وغيرهما؛ علاوة على ما غشي الأمة من ظلمات الجهل في عصورها الأخيرة، حتى ضاع من بين أيديها كثير مما أبقته تلك النكبات. هذا وقد شهد أولو العلم أن الإسلام قد رسم للسياسة خطة واسعة، وسنَّ لها نظماً عامة، حسبما نوافيك ببيانه في الموضع اللائق به؛ فصرفوا أنظارهم في دراسة تلك الخطة، والتفقه في هاتيك النظم؛ حيث كانت سياستهم العملية موصولة بها، وقائمة على أسسها، ومن المؤلفات على هذا النمط كتاب: "غياث الأمم" لإمام الحرمين، وكتاب: "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية" لابن القيّم، وكتاب: "السياسة الشرعية لإصلاح الراعي والرعية" لابن تيمية، وكتاب: "الأحكام السلطانية" للماوردي، وكتاب: "الأحكام السلطانية" للقاضي أبي يعلى (¬1)، وكتاب: "إكليل الكرامة" لصديق حسن خان (¬2)، ورسالة "السياسة الشرعية" لإبراهيم يخشى زادة، توجد في برلين (¬3). آثر المسلمون أن ينظروا إلى السياسة بمرآة الشريعة، فترى كثيراً من رجال الدولة إذا حركوا أقلامهم في تحرير سياسي، نفخوا فيه روحاً من ¬

_ (¬1) محمد بن الحسين (380 - 458 هـ = 990 - 1066 م) من علماء عصره في الأصول والفروع والفنون. من أهل بغداد. توجد نسخة من الكتاب في المكتبة الظاهرية بدمشق. (¬2) محمد صديق خان بن حسن القنوجي (1248 - 1307 هـ = 1832 - 1890 م) عالم إسلامي، ولد في "قنوج" بالهند، ورحل إلى بهوبال. وله تصانيف عديدة. (¬3) "تاريخ آداب اللغة العربية" (ج 3 ص 340).

حكمة الشريعة، وكسوه حلة من حلل آدابها الوضاءة، وانظر الكتاب (¬1) الذي أرسله طاهر بن الحسين (¬2) إلى ابنه عبد الله بن طاهر -لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما- تجده يقول فيه: "واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين، وطريقه الأهدى، وأقم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه، ولا تعطل ذلك، ولا تتهاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة؛ فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك، واعتزم في ذلك بالسنن المعروفة". ثم قال: "واقبل الحسنة، وادفع بها، وأَغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الزور والكذب، وأبغض أهل النميمة؛ فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها تقريب الكذوب، والجراءة على الكذب. وإن النميمة لا يسلم صاحبها، وقابلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم له أمر". وكذلك يقول لسان الدين بن الخطيب (¬3) في رسالة له في السياسة (¬4): "رعيتك ودائع الله تعالى عندك، ومرآة العدل الذي عليه جبلك، ولا تصل ¬

_ (¬1) "مقدمة ابن خلدون" (ص 254). (¬2) طاهر بن الحسين بن مصعب الخزاعي (159 - 207 هـ = 775 - 822 م) من كبار الوزراء والقادة، ولد في بوشنج بخراسان، وسكن بغداد، وابنه عبد الله (182 - 230 هـ = 844 - 898 م) من أشهر الولاة في العصر العباسي. (¬3) محمد بن عبد الله بن سعيد الشهير بلسان الدين بن الخطيب (713 - 776 هـ = 1313 - 1374 م) من الوزراء الأدباء، ولد في غرناطة، وتوفي بفاس. (¬4) "نفح الطيب" (ج 4 ص 148) الطبعة الأزهرية.

إلى ضبطهم إلا بإعانة الله تعالى التي وهب لك، وأفضل ما استدعيت به عونه منهم، وكفايته التي تكفيهم: تقويم نفسك عند قصد تقويمهم، ورضاك بالسهر لتنويمهم، وحراسة كهلهم ورضيعهم، والترفع عن تضييعهم، وأخذ كل طبقة ما لها وما عليها أخذاً يحوط مالها، ويحفظ عليها كمالها إلخ". ويجري على هذا المثال رسالة الحسن بن أبي الحسن البصري (¬1) لعمر ابن عبد العزيز في صفة الإمام العادل، ومما يقول فيها: "واعلم - يا أمير المؤمنين-: أن الله أنزل الحدود؛ ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها؟ وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟ (¬2) ". وكتب إليه في رسالة أخرى (¬3): " ... فكن للمثل من المسلمين أخا، وللكبير ابناً، وللصغير أباً، وعاقب كل واحد منهم بذنبه على قدر جسمه، ولا تضربن لغضبك سوطاً واحداً؛ فتدخل النار". فالحق أن حظ المسلمين في السياسة لم يكن منقوصاً، وأن منزلتهم فيها كانت فوق المنزلة التي قعد بهم المؤلف عندها، وبالغ في استصغار شأنها. قال المؤلف في (ص 23): "ذلك وقد توفرت عندهم الدواعي التي ¬

_ (¬1) الحسن بن يسار البصري (21 - 110 هـ = 642 - 728 م) إمام البصرة، وحبر الأمة في زمانه، عرف بالفصاحة والشجاعة، ولد بالمدينة المنورة، وتوفي بالبصرة. (¬2) "العقد الفريد" (ج 1 ص 4). (¬3) "سيرة عمر بن عبد العزيز" (ص 124).

تدفعهم إلى البحث الدقيق في علوم السياسة، وتظاهرت لديهم الأسباب التي تعدهم للتعمق فيها، وأقل تلك الأسباب أنهم مع ذكائهم الفطري، ونشاطهم العلمي، كانوا مولعين بما عند اليونان من فلسفة وعلم، وقد كانت كتب اليونان التي انكبوا على ترجمتها ودرسها كافية في أن تغريهم بعلم السياسة، وتحببه إليهم". قام المؤلف ليذكر لنا سبباً شأنه أن يغري المسلمين بالسياسة، ويجعلهم مولعين بالخوض في غمارها، والتفت يميناً وشمالاً، فوقع اختياره على انكبابهم على ترجمة الفلسفة والعلوم اليونانية ودراستها، ولم يهتد إلى أن لدى المسلمين سببين عظيمين يحثانهم على النظر في السياسة، ويؤكدان حرصهم على البراعة في صناعتها: أحدهما: أنهم كانوا أمة فاتحة، بلغت في عزها وسطوتها أن قوضت عروش قوم جبارين، ومدت سلطانها العادل على شعوب مختلفة في طبائعها وعاداتها وطرق تفكيرها، والفاتح الغيور على استقلال بلاده أشد حاجة، وأسرع يداً إلى إتقان فن السياسة من مرتاح البال للبقاء تحت سلطة دولة أخرى. ثانيهما: أن الإسلام شرع للسياسة أصولاً في أحسن مثال، وحارب الاستبداد باليمين والشمال، فأذاق أمته طعم الحكومة اللينة الحازمة، وشب في أحضانه رجال شهد بدهائهم السياسي أعداؤهم المنصفون. هذان السببان ندبا المسلمين إلى النظر في مبادئ السياسة وأصول الحكم، فانتدبوا إليها، وكانوا أساتذة العالم في السياسة؛ كما كانوا أساتذته في العلوم الفلسفية، فهما أحق بأن يخطرا على قلب المؤلف، ولكنه يكره

أن يعترف بأن في تعليم الإسلام مبادئ سياسية، أو أن حكومة من حكومات الإسلام أذاقت الناس طعم السياسة الرشيدة. قال المؤلف في (ص 23): "وهناك سبب آخر: ذلك أن مقام الخلافة الإسلامية كان منذ الخليفة الأول أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - إلى يومنا هذا عرضة للخارجين عليه، المنكرين له، ولا يكاد التاريخ الإسلامي يعرف خليفة إلا عليه خارج". ثم قال في (ص 24): "مثل هذه الحركة -حركة المعارضة- كان من شأنها أن تدفع القائمين بها إلى البحث في الحكم، وتحليل مصادره ومذاهبه، ودرس الحكومات وكل ما يتصل بها، ونقد الخلافة وما تقوم عليه، إلى آخر ما تتكون منه علوم سياسية، لا جرم أن العرب قد كانوا أحق بهذا العلم، وأولى من يواليه". لم يعارض طائفة من المسلمين الخلافة في نفسها، أو كونها ذات حكومة يرأسها فرد، حتى تدعوهم المعارضة إلى درس الحكومات؛ ليختاروا منها الشكل الذي يروقهم، وإنما ينكر المعارضون شيئاً من تصرف الخليفة، أو يدعون أن غيره أحق بالإمارة وأقوم عليها، وهذا يقتضي البحث في طرق العدل وشروط الخليفة، وحكم الخروج عليه، وقد بحث أهل العلم في هذه المطالب بأوفى عبارة، وأبسط بيان، حرروا الكلام في الأصول الفارقة بين عادل الأحكام وجائرها، وأفاضوا القول في شروط الأمراء وموجبات خلعهم، ومتى بحثوا في الحكم من حيث انطباقه على مبادئ العدالة، أو انحرافه عنها، فإنهم لا يعرفون قانوناً لعدالة الأحكام أو جورها غير موافقتها لأصول الشريعة، أو نشوزها عنها، فمن هذا الوجه كان المعارضون يبحثون في الحكم، وينقدون سيرة الخلفاء مقتدين بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ

كلمات سياسية لبعض عظماء الإسلام

إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. ومتى صح أن يكون الخروج على الخليفة سبباً للبحث عن مبادئ السياسة، فقد أريناك وسنريك آية نهوض المسلمين بعلم السياسة، وتفوقهم في إدارة شؤونها. * كلمات سياسية لبعض عظماء الإسلام: قال المؤلف في (ص 24): "فما لهم وقفوا حيارى أمام ذلك العلم، وارتدوا دون مباحثه حسيرين؟ ما لهم أهملوا النظر في كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، وكتاب "السياسة" لأرسطو، وهم الذين بلغ من إعجابهم بأرسطو أن لقبوه: المعلم الأول؟! ". عني المسلمون من علوم اليونان بالفنون التي كانت غير معروفة لهم، أو كانت بضاعتهم فيها مزجاة، وكانوا يصرفون عنايتهم إلى هذه العلوم على قدر ما يرون لها من فائدة، وعلى حسب ما تمس إليه الحاجة، فأقبلوا على العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفة والمنطق بمجامع قلوبهم، وأعطوا جانباً من عنايتهم إلى ما نقل لهم من سياسة أفلاطون وأرسطو، مع علمهم بأن أيديهم مملوءة بمبادئ السياسية الكافية في تدبير مصالح الأمة، وصيانة حقوقها على منهج الحرية السامية، والعدالة الصادقة. كانوا يرون أن فيما أضاء لهم من مشكاة الشريعة، أو جرى على ألسنة حكمائهم، ما إذَا اتَسق لذي فطرة سليمة، وألمعية مهذبة، أصبح سائساً خطيراً، أو مصلحاً كبيراً. ومن نظر في تاريخ عظماء الإسلام ببصيرة، لم تفتتن بزخرف المدنية الغربية، رأى في سيرتهم العملية، وما يلفظون به من نوابغ الكلم ما يشهد

له بأنهم أدركوا في فن السياسة شأواً بعيداً، ولم يكن حظهم منها أقل من حظ دارسي كتابي "الجمهورية"، و"السياسة". ولا أسرد في هذا المقام شيئاً من الآيات والأحاديث التي تعد في مبادئ السياسة المثلى؛ فإنها مقروءة بكل لسان، ومشهود لها بالحكمة من كل ذي عقل، وإنما أسوق من أثر أولئك العظماء كلمات أضربها كالمثل؛ ليتبين القارئ ماذا نريد من تلك الكلم النوابغ، وليعرف أن رجالاً في الإسلام أحرزوا في السياسة القدح المعلى، ورموا عن قوس لم تكن من صنع أفلاطون، ولا أرسطو، فأبعدوا المرمى، وأصابوا الغاية. أريد من تلك الكلم النوابغ أمثال قول عمر بن الخطاب -لما قيل له: إنك تستعين بالرجل الفاجر-: "إني لأستعين بالرجل لقوته، ثم أكون على قفّانه" (¬1). وقول أبي سفيان (¬2) لعثمان (¬3) - رضي الله عنه - حين همّ أن يردّ إليه مالاً صادره عمر بن الخطاب، ووضعه في بيت المال-: "لا تردّ على من قبلك، فيرد عليك من بعدك". وقول عمر بن عبد العزيز -حين قال له ابنه عبد الملك (¬4): مالك ¬

_ (¬1) القفّان: الأثر؛ أي: أكون على تتبع أمره، فكفايته تنفعني، ومراقبتي له تمنعه من الخيانة- "نهاية ابن الأثير"، مادة: "قفن". (¬2) صخر بن حرب بن أمية (57 ق. هـ 31 هـ = 567 - 652 م) من سادات قريش في الجاهلية، وأسلم يوم فتح مكة. توفي بالمدينة. (¬3) عثمان بن عفان بن أبي العاص (47 ق. هـ - 35 هـ = 577 - 656 م) ثالث الخلفاء الراشدين، ولد بمكة، وقتل بالمدينة المنورة. (¬4) عبد الملك بن مروان بن الحكم (26 - 86 هـ = 646 - 755 م) الخليفة الأموي.=

لا تنفذ الأمور؟ -: "لا تعجل يا بنيّ؛ إني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيتركوه جملة، وتكون فتنة". وقول معاوية (¬1) بن أبي سفيان: "لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة، ما انقطعت". وقوله: "إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم، ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا". وقوله: "والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يشتفي به القائل بلسانه، فقد جعلت له ذلك دبر أذني، وتحت قدمي". وقول المهلب (¬2) للحجّاج (¬3) -حين كتب إليه يستعجله في حرب الأزارقة-: "إن من البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره". هذا نموذج من كلماتهم السياسية المقولة على البداهة، ولو أخذنا نملي عليك من أنبائها، لأخرجنا بها كتاباً قيماً، ولو تناولها ذو فكر خصب ¬

_ = نشأ في المدينة المنورة، وتوفي بدمشق. (¬1) معاوية بن صخر بن حرب (20 ق. هـ - 60 هـ = 603 - . 680 م) من دهاة العرب، ومؤسس الدولة الأموية في الشام. ولد بمكة المكرمة، وتوفي بدمشق. (¬2) المهلب بن أبي صفرة (7 - 83 هـ = 628 - 702 م) من الأمراء الولاة. ولد في دبا، ونشا بالبصرة، وتوفي بخراسان. (¬3) الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي (40 - 95 هـ = 660 - 714 م) قائد، داهية، خطيب: ولد في الطائف، وتوفي بواسط.

النحو العربي ومناهج السريان

وقلم مثمر، لأنشأ من أصولها فروعاً، وأجرى من منابعها أنهاراً. وقد كان القوم يقومون على هذه الأصول، ويجمعون إليها علم التاريخ الذي هو الركن الأعظم لإجادة النظر في السياسة، ولهذا المعنى كانوا يتحرون في تقليد المناصب من له خبرة واسعة بأنباء الأمم وأيامها الخالية. أرسل عمر بن هبيرة (¬1) إلى إياس بن معاوية (¬2)، وساله أسئلة أجاب عنها، ثم قال له: تعرف من أيام العرب شيئاً؟ قال: نعم. قال: فهل تعرف من أبناء العجم شيئاً؟ قال: أنا بها أعلم. قال: إني أريد أن أستعين بك. ثم قال له: قم قد وليتك". وصفوة القول: أن المسلمين اطلعوا على سياسة أفلاطون، وسياسة أرسطو، وألّفوا في السياسة المدنية، والسياسة الشرعية، فملكوا من السياسة النظرية كنزاً قيّماً، ولولا أنهم كانوا ينفقون من هذا الكنز القيّم، لما ارتفعت سياستهم العملية على سياسة تلاميذ أفلاطون وأرسطو درجات. * النحو العربي ومناهج السريان: قال المؤلف في (ص 24): "وهم الذين ارتضوا أن ينهجوا بالمسلمين مناهج السريان في علم النحو". هذا شيء ظنه جرجي زيدان، فالتقطه المؤلف من ورائه، وجاء به على أنة قضية مسلمة. ¬

_ (¬1) عمر بن هبيرة بن سعد (... - نحو 110 هـ = ... - نحو 728 م) من الدهاة الشجعان. ولاه يزيد بن عبد الملك إمارة العراق وخراسان. (¬2) إياس بن معاوية بن قرة المزني (46 - 122 هـ = 666 - 745 م) اشتهر بالفطنة والذكاء. قاضي البصرة، وتوفي بواسط.

الإسلام والفلسفة

قال في "تاريخ التمدن الإسلامي "، وفي "تاريخ آداب اللغة العربية": "ويغلب على ظننا أنهم نسجوا في تبويبه -يعني: النحو- على منوال السريان؛ فإن السريان دونوا نحوهم، وألّفوا فيه الكتب في أواسط القرن الخامس للميلاد". ثم قال: "فالظاهر أن العرب لما خالطوا السريان في العراق، اطلعوا على آدابهم، وفي جملتها النحو، فأعجبهم، فلما اضطروا إلى تدوين نحوهم، نسجوا على منواله؛ لأن اللغتين شقيقتان، ويؤيد ذلك: أن العرب بدؤوا بوضع النحو وهم بالعراق، وبين السريان والكلدان، وأقسام الكلام في العربية هي نفس أقسامه في السريانية". ثم قال: "وكأنه -يعني: أبا الأسود (¬1) - تعلم لغة السريان، أو اطلع على نحوها، فرغب في النسج على منواله". فالمسألة لم تزل في حدود الافتراض، وليس لها من شبهة سوى أن واضعي علم النحو من العرب كانوا بالعراق بين السريان والكلدان، وأن أقسام الكلام في العربية هي أقسام الكلام في السريانية. ولكن كتاب "الإسلام وأصول الحكم، لا يبالي أن يسوق المشكوك فيه مساق المعلوم، أو يورد المعلوم في صورة المشكوك فيه. * الإسلام والفلسفة: قال المؤلف في (ص 24): "بل رضوا بأن يمزجوا لهم علوم دينهم ¬

_ (¬1) ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي (1 ق. هـ 69 هـ = 605 - 688 م) واضع علم النحو. سكن البصرة، وتوفي بها.

بما في فلسفة اليونان من خير وشر، وإيمان وكفر". خفقت ريح الفلسفة في بعض البلاد الشرقية؛ كمصر، والهند، وجالت في أندية اليونان أمداً بعيداً، وما برحت تتلقى من أفواه الأساتذة، وتلتقط من صحائف المؤلفين، إلى أن طلع كوكب الهدي الإسلامي، وتدفقت أشعته على البصائر النقية، فلم تلبث الفلسفة أن التقت في أوائل عهد الدولة العباسية بذلك التعليم السماوي، والتحقت بالعلوم الخادمة له في تأييد قواعد السياسة ونظام الاجتماع. لا يذهب إلى أن الإسلام يتجافى عن الفلسفة، سوى رجل التقم ثدي الفلسفة، وشبّ في أطواقها، ولم ينظر في حقائق هذا الدين ببصيرة وروية، أو مسلم لم يخض غمار المباحث الفلسفية، وحسب أن جملتها قضايا باطلة، ولا سيما حيث لا يترامى إليه من أبوابها سوى نبذة من الآراء المنكرة على البداهة. في الفلسفة قضايا تثق بها العقول الراجحة، وتنهض بجانبها الأدلة القاطعة، وهذه لا تصادم شيئاً من نصوص الدين الواردة في كتاب أو سنّة ثابتة، والذي لا يلتقي مع هذه النصوص إنما هو بعض آراء لم تقم على مشاهدة أو نظر حكيم، وقد ضاعت في شعاب هذا النوع قلوب فئة استخفهم الغرور إلى أن يلقبوا بالفلاسفة، وتخيلوا أن هذا اللقب لا يحرزه إلا من آمن بكل ما يلفظ به الغربيون، فتطوح بهم التقليد الجامد إلى القدح في نصوص الشريعة، أو التعسف في تأويلها. خرجت الفلسفة على علماء الإسلام، وقد اعتادت أنظارهم التقلب في مسالك الاجتهاد، وتمحيص ما يقع إليها من الآراء، فبسطوا إليها أيديهم،

بحث في مبايعة الخلفاء الراشدين، وأنها كنت اختيارية

وفتحوا لها صدورهم، ولكنهم لم يرفعوها إلى المقام الذي يمنعهم من مناقشتها، وتقويم المعوجّ من مقالاتها. نفقت سوق الفلسفة، فمد إليها بعض القاصرين أيديهم، واتخذوا منها ظهيراً لآراء سخيفة يعتنقونها، أو شُبه على الدين يوردونها، وما كان من أولي العلم إلا أن تصدوا لنقض تلك الآراء، ومطاردة هاتيك الشبه، واضطروا في تقويمهم، وكفّ بأسهم إلى استعمال السلاح الفلسفي الذي هاجموهم به، ولم يبالوا أن يمزجوا عقائدهم الصحيحة بالفلسفة اليونانية، ما داموا يحملون في أناملهم أقلاماً تفرق بين خيرها وشرها، وإيمانها وكفرها. * بحث في مبايعة الخلفاء الراشدين، وأنها كنت اختيارية: حكى المؤلف قول ابن خلدون: إن الخلافة راجعة إلى اختيار أهل العقد والحل، وقول السيد محمد رشيد رضا: إن الإمامة عقد تحصل بالمبايعة من أهل الحل والعقد ممن اختاروه إماماً للأمّة، بعد التشاور بينهم. ثم قال في (ص 25): "قد يكون معنى ذلك: أن الخلافة تقوم عند المسلمين على أساس البيعة الاختيارية، وترتكز على رغبة أهل الحل والعقد من المسلمين، ورضاهم، وقد يكون من المعقول أن توجد في الدنيا خلافة على الحد الذي ذكروا، غير أننا إذا رجعنا إلى الواقع ونفس الأمر، وجدنا أن الخلافة في الإسلام لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وأن تلك القوة كانت -إلا في النادر- قوة مسلحة، فلم يكن للخليفة ما يحوط مقامه إلا الرماح والسيوف". ثم قال: "قد يسهل التردد في أن الثلاثة الأول من الخلفاء الراشدين -مثلاً- شادوا مقامهم على أساس القوة المادية، وبنوه على قواعد الغلبة والقهر، ولكن أيسهل الشك في أن علياً ومعاوية - رضي الله

تعالى عنهما- لم يتبوءا عرش الخلافة إلا تحت ظلال السيوف، وعلى أسنة الرماح؟ ". يتكلم ابن خلدون، والسيد محمد رشيد رضا، عن الطريق الذي تنعقد به الخلافة شرعاً، وهو اختيار أهل الحل والعقد، ومن المعقول جداً أن توجد خلافة على هذا الحد، وكذلك كانت إمارة الخلفاء الراشدين؛ فإن مبايعتهم تقررت باختيار من أهل الحل والعقد، ولا أثر للقهر والغلبة في انعقادها. أما مبايعة أبي بكر الصديق (¬1)، فقد روى البخاري في كتاب: الحدود من صحيفة الخطبة التي ألقاها عمر بن الخطاب حاكياً واقعة مبايعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة (¬2)، وبعد أن أتى على المناقشة التي دارت بينِ أبي بكر وبعض الأنصار، قال: "فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فرِقتُ من الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار". وفي باب: مناقب أبي بكر من "صحيح البخاري" أيضاً: "أن أبا بكر الصديق قال للأنصار: بايعوا عمر بن الخطاب (¬3)، أو أبا عبيدة بن الجراح (¬4)، ¬

_ (¬1) عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر (51 ق. هـ - 13 هـ = 573 - 634 م) أول الخلفاء الراشدين، وأول من آمن من الرجال بالرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولد بمكة المكرمة، وتوفي بالمدينة المنورة. (¬2) سقيفة بني ساعدة: بالمدينة. وهي ظلّة كانوا يجلسون تحتها، وفيها بويع أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -. (¬3) عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي (40 ق. هـ -23 هـ = 584 - 644 م) ثاني الخلفاء الرا شدين. وأول من لقب بأمير المؤمنين، توفي بالمدينة المنورة. (¬4) عامر بن عبد الله بن الجراح (40 ق. هـ 18 هـ = 584 - 639 م) الأمير الفاتح، =

فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ عمر بيده، وبايعه الناس". فأنت ترى كيف بويع أبو بكر الصديق، وليس حوله قوة مال، ولا جند، ولا سلاح، ولم تصدر منه كلمة تؤذن بتهديد أو إكراه، وقصارى ما وقع في المحاورة: أن بعض الأنصار قالوا للمهاجرين: منا أمير، ومنكم أمير، وردّ عليهم أبو بكر بأن هذا الأمر لن يعرف إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً. ثم أشار عليهم بمبايعة عمر بن الخطاب، أو أبي عبيدة، ولما أكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، أوجس عمر خيفة من أن ينحدر بهم الاختلاف إلى عاقبة سيئة، فلم يتمالك أن بسط يده إلى مبايعة أبي بكر، وامتدت أيدي المهاجرين والأنصار على أثره، فانعقدت البيعة من أهل الحل والعقد عن اختيار منهم، ولو كفوا أيديهم، ولم يتابعوه على المبايعة، لم تنعقد كما نص عليه أبو المعالي في كتاب "غياث الأمم". ونحن نرى أن عمر بن الخطاب لم يبسط يده إلى المبايعة، إلا بعد أن عرف أن معظم المهاجرين والأنصار يرون رأيه في أن أبا بكر الصديق أحق الناس بالخلافة، ومن شواهد هذا: أن الحاضرين بسقيفة بني ساعدة لم يتباطؤوا عن متابعة عمر في المبايعة، ثم إن أبا بكر الصديق جلس من الغد على المنبر، وبايعه الناس البيعة العامة بعد بيعة السقيفة (¬1)، وهؤلاء المبايعون هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وتعلموا عن الرسول - عليه السلام - فضيلة الصراحة وعدم السكوت عن قول الحق، ¬

_ = والصحابي الجليل، ولد بمكة المكرمة، وتوفي بغور بيسان. (¬1) "ابن جرير الطبري" (ج 8 ص 828) طبعة أوربا.

ولو كانت الفاصلة بين الرؤوس والأعناق. وقد سمّى عمر - رضي الله عنه - مبايعته فلتة؛ لأنها لم تكن بعد إنهاء المشاورة. قال ابن تيمية في "منهاج السنة" (¬1) شارحاً هذا الأثر: "ومعناه: أن بيعة أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار؛ لكونه كان متعيناً لهذا الأمر كما قال عمر: ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر. وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه، وتقديم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له على سائر الصحابة أمراً ظاهراً معلوماً، فكانت دلالة النصوص على تعيينه تغني عن مشاورة وانتظار وتريث؛ بخلاف غيره؛ فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والانتظار والتريث". ومع كونها فلتة، لا تجعل مبايعة أبي بكر مأخوذة بالقهر والغلبة، وتخلف بعض المهاجرين أو الأنصار عن البيعة حيناً الزمن، لا يخل بانعقادها، ولا يسلب عنها أن تكون مبايعة اختيارية؛ إذ المدار على رأي الأغلبية، وهي محل الاعتبار في سائر القوانين الدستورية، ولا شك أن الأكثرية الساحقة يومئذٍ بايعت أبا بكر عن رضا واختيار، ولو جرى الانتخاب بطريق الاقتراع السري على العادة المألوفة اليوم، لم يفز بالإمامة غير أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. وأما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقد عهد إليه أبو بكر الصديق بالخلافة، وبايعه المسلمون بعد وفاة أبي بكر، فصار إماماً لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم" (¬2). ¬

_ (¬1) (ج 3 ص 118). (¬2) "منهاج السنة" لابن تيمية (ج 1 ص 142).

وأما عثمان - رضي الله عنه -، فقصة مبايعته: أن عمر بن - رضي الله عنه - لما حضرته الوفاة، وقيل له: استخلف، قال: ما أجد أحق لهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، فسمّى علياً (¬1)، وعثمان، والزبير (¬2)، وطلحة (¬3)، وسعداً (¬4)، وعبد الرحمن (¬5)، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر (¬6)، وليس له من الأمر شيء، ثم "إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم، وبقي علي وعبد الرحمن بن عوف، واتفق الثلاثة على أن عبد الرحمن بن عوف لا يتولى، ويولي أحد الرجلين، وأقام عبد الرحمن ثلاثاً حلف أنه لم يغتمض فيها بكبير نوم، يشاور السابقين الأولين، والتابعين لهم بإحسان، ويشاور أمراء الأنصار، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان، وذكر أنهم ¬

_ (¬1) علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي. (23 ق. هـ - 40 هـ = 600 - 661 م) رابع الخلفاء الراشدين، وابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصهره. ولد بمكة المكرمة، وأقام آخر حياته بالكوفة، وتوفي مقتولاً. (¬2) الزبير بن العوام بن خويلد (28 ق. هـ - 36 هـ = 594 - 656 م) صحابي جليل، وأحد المبشرين بالجنة. قتل بوادي السباع على سبعة فراسخ من البصرة. (¬3) طلحة بن عبيد الله بن عثمان (28 ق. هـ - 36 هـ = 596 - 656 م) صحابي جليل، وأحد المبشرين بالجنة. قتل يوم الجمل، ودفن بالبصرة. (¬4) سعد بن أبي وقاص (23 ق. هـ - 55 هـ = 650 - 675 م) الصحابي الجليل، وأحد المبشرين بالجنة. توفي بالعقيق على عشرة أميال من المدينة المنورة، ودفن فيها. (¬5) عبد الرحمن بن عوف (44 ق. هـ - 32 هـ = 580 - 652 م) الصحابي الجليل، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وتوفي بالمدينة المنورة. (¬6) عبد الله بن عمر بن الخطاب (10 ق. هـ - 73 هـ = 613 - 692 م) الصحابي الجليل، له في كتب الحديث 2630 حديثاً، ولد وتوفي بمكة المكرمة.

كلهم قدموا عثمان، فبايعه لا عن رغبة أعطاهم إياها، ولا عن رهبة أخافهم بها". وقال ابن تيمية: "لم يصر عثمان باختيار بعضهم، بل لمبايعة الناس له، وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان، لم يتخلف عن بيعته أحد" (¬1). وقال الإمام أحمد: "ما كان من القوم من بيعة عثمان كانت بإجماعهم" (¬2). وأما علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فمبايعته لم تكن تحت رهبة قط، ولا قامت تحت ظلال السيوف كما يزعم المؤلف، بل "إن المهاجرين والأنصار اجتمعوا بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه -، وأتوا علياً، وقالوا: يا أبا حسن! هلمَّ نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم، فمن اخترتم، فقد رضيت به، فاختاروا، فقالوا: والله! ما نختار غيرك. ثم اختلفوا إليه مراراً، ثم أتوه في آخر ذلك فقالوا له: إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة، وقد طال الأمر (¬3) ". وفي رواية أخرى: "أنه قال لهم: لا تفعلوا؛ فإني كون وزيراً خير من أن أكون أميراً. فقالوا: لا والله! ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفياً، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين، وقال عبد الله بن عباس (¬4): فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافةَ أن يشغب ¬

_ (¬1) "منهاج السنة" لابن تيمية (ج 1 ص 143). (¬2) "منهاج السنة" (ج 1 ص 143). (¬3) "تاريخ ابن جرير الطبري" (ج هـ ص 152). (¬4) عبد الله بن عباس بن عبد المطلب (3 ق. هـ - 68 هـ = 619 - 687 م) الصحابي الجليل، وله في "الصحيحين" وغيرهما 1660 حديثاً، ولد بمكة المكرمة، وتوفي بالطائف.

بحث في قوة الإرادة

عليه، وأبى هو إلا المسجد. فلما دخل، دخل المهاجرون والأنصار، فبايعوه، ثم بايعه الناس" (¬1). فمقصد الشارع من إقامة الخلافة على رضا أهل الحل والعقد قد تحقق في ولاية الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم -، وسواء بعد ذلك أن تبايع الخليفة الخاصة، ثم تبايعه العامة؛ كما وقع في ولاية الصديق، وعثمان بن عفان، أو يعهد له الخليفة، ويقع عهده موقع القبول، ويعزز بمبايعة أهل الحل والعقد بعد؛ كما وقع في ولاية الفاروق، أو يبايع مبايعة عامة في آن واحد؛ كما وقع في ولاية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. * بحث في قوة الإرادة: ولماذا لا يكون من المعقول أن توجد خلافة قائمة على اختيار أهل الحل والعقد، وهو أمر يرجع إلى قوة إرادة الأمة، ولقوة الإرادة في حياة الأمم وتمتعها بحقوقها تأثير بالغ وسلطان غالب؟. مما يشهد به النظر وتؤيده التجربة: أن الأمة متى كانت على بصيرة من حق، وعرفت الطريق الهادي إليه، لم تنشب أن ينقلب تفكيرها فيه عزماً صارماً، وتقتحم كل عقبة تعترض في سبيلها، وإذا سمعت أمة تذكر غاية من العز، وهي لا تتقدم إليها بخطوات سريعة، أو سمعتها تبدي الأسف لحق انفلت من يدها، وهي لا تنشده بسعي متواصل، فاعلم أنها لا تزال في طور الأماني والآمال، ولم يبلغ إحساسها بتلك الغاية الشريفة أو ذلك الحق الضائع مبلغ الإرادة. ¬

_ (¬1) "تاريخ ابن جرير الطبري" (ج 5 ص 152).

بحث في الخلافة والملك والقوة والعصبية

تعرف كلُّ قوة -وإن كانت مسلحة-: أن إرادة الأمة قلاع لا تفتح، وجيش لا ينهزم، فلا يكون منها إلا أن تخضع أمام سلطانها، وتعصي داعي الأهواء في مرضاتها، ولا يضطهد المستبد حقوق القوم إلا أن يفهم أن إحساسهم بها لا يزال معدوماً، أو أن شمل إرادتهم ما برح في تخاذل وشتات. وما مثل الأمم في أعمالها وقوة إرادتها، إلا مثل السهم يخترق الهواء، ويرسم خطاً يمتد على قدر قوة الوتر الذي يدفعه، ومتانة القوس التي ينفذ منها. فالأفراد الذي جلسوا على خلافة عرش الخلافة بقوة مسلحة، وعاثوا فيها فساداً، لم يلاقوا من الأمة قوة إرادة، ولم تكن للأمة قوة إرادة؛ لأن شعورها بحقوقها لم يكن عاماً، ولا يكون الشعور بالحق عاماً لتقلص نور التربية والتعليم، أو لاختلاف طرقهما اختلافاً يجعل الأذواق وطرق التفكير تتفاوت تفاوتاً بعيداً. * بحث في الخلافة والملك والقوة والعصبية: قال المؤلف في (ص هـ 2): "وما كان لأمير المؤمنين محمد الخامس سلطان تركيا أن يسكن اليوم يلدز لولا تلك الجيوش التي تحرس قصره". وكتب معلقاً على هذا في أسفل الصحيفة ما نصه: "كتبنا ذلك يوم كانت الخلافة في تركيا، وكان الخليفة محمد الخامس". لعل المؤلف كتب هذا الباب الثالث الذي هو في الخلافة من الوجهة الاجتماعية، قبل أن يؤلف الباب الأول الذي هو في تعريف الخلافة، والباب الثاني الذي هو في حكم الخلافة، فإنه ذكر في (ص 11) من الباب الأول رسالة الخلافة التي نشرتها حكومة المجلس الكبير الوطني بأنقرة، وهي بالطبيعة متأخرة عن وفاة محمد الخامس، ونقل في (ص 16) عن كتاب "الخلافة"

أو الأمامة للأستاذ السيد محمد رشيد رضا، وهذا الكتاب أيضاً لم يظهر، بل لم يؤلف إلا بعد حركة أنقرة التي ابتدأت بعد وفاة محمد الخامس، وأعجب من هذا: أن المؤلف ذكر في أول سطر من هذه الصحيفة التي تحدث فيها عن محمد الخامس كتاب الخلافة أو الإمامة للسيد رشيد، فلعله أيضاً ألّف شطر الصحيفة الأسفل قبل أن يؤلف شطرها الأعلى (¬1). أراد المؤلف أن يتحدث عن جهل المسلمين بمبادئ السياسة وأنواع الحكومات، ويعلله بضغط الخلفاء والملوك، فأملى على قلمه معنى هو: أن الخلافة والملك لا يرتكزان إلا على القوة القاهرة، والسيوف المصلتة، واستمر يلوكه في جمل يَركب بعضها بعضاً، وعزّ عليه أن يفارقها حتى امتلأت بها خاصرتا كتابه، وأوشك القارئ أن لا يفهم منها إلا أن المؤلف يبرق ويرعد على القوة الحاكمة، من حيث إنها ذات شوكة، وأعدت ما استطاعت من قوة الجند والسلاح. قال ابن خلدون في "مقدمته" (¬2): "إن المغالبة والممانعة إنما تكون بالعصبية". وقال (¬3): "إن الملك إنما يحصل بالتغلب، "وإن التغلب إنما يكون بالعصبية". ¬

_ (¬1) يقول الإمام محمد الخضر حسين في الحاشية: أتينا بهذه الكلمة -وإن لم يكن لها مساس بالموضوع العلمي- خدمة للتاريخ، حتى لا يتوهم القارئ أن محمد الخامس توفي بعد انعقاد المجلس الكبير بانقرة. (¬2) (ص 129). (¬3) (ص 132).

وقال: "إن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب ... فإذا استقرت الرياسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة، وتوارثوه واحد بعد آخر في أعقاب كثيرين، ودول متعاقبة، نسيت النفوس شأن الأولية". أخذ المؤلف ما قرره ابن خلدون في سنّة قيام الملك، وأجراه على مشروع الخلافة. فقال في (ص 25): "لا نشك مطلقاً في أن الغلبة كانت دائماً عماد الخلافة، ولا يذكر لنا التاريخ خليفة إلا اقترن في أذهاننا بتلك الرهبة المسلحة التي تحوطه، والقوة القاهرة التي تظله، والسيوف المصلتة التي تذود عنه، ولولا أن نرتكب شططاً في القول، لعرضنا على القارئ سلسلة الخلافة إلى وقتنا هذا؛ ليرى على كل حلقة من حلقاتها طابع القهر والغلبة". تناول المؤلف ما قرره ابن خلدون، وشمط القول في تعليله من أن الملك لا يحصل إلا بالتغلب، وأخذ يضرب به قوله: إن الخلافة راجعة إلى اختيار أهل الحل والعقد. لا شك أن الفيلسوف ابن خلدون لا يرى تعارضاً بين مقالتيه؛ لأنه يفرق بين الخلافة والملك، وإن شئت تحقيق هذا البحث على وجه شرعي اجتماعي، فإليك التحقيق: عرف الإسلام أن في الناس طبيعة التعصب للقومية، وأن هذه الطبيعة كثيراً ما تطغى، فتحمل صاحبها على التحيز لأخيه في القومية، والوقوف في صف أنصاره، وإن كان مبطلاً. عرف الإسلام ذلك، فقرر مبادئ الأخوة والمساواة، وأتى بما يهذب

تلك الطبيعة، ويقيم أودها؛ حتى لا تخف بالقبيلة إلى معاضدة أخيها إذا نهض لإرغام حق، أو إقامة منكر. قد يأذن الإسلام للرجل أن يؤثر بمعروفه أو مساعدته ابن عشيرته، أما عند تدبير مصلحة عامة، أو تقرير حقوق مشتركة، فيقطع النظر عن كل صلة، ولا يقيم لأي عاطفة وزنا، إلا ما تقتضيه المصلحة، وتشير به القوانين العادلة، والآراء الراجحة، ولمثل هذا وكَّل تعيين الخلافة إلى اختيار أهل الحل والعقد، وجعل المسلمين في هذا الحق عصبة واحدة. ليس من المتعذر على المسلمين أن يسيروا على هذه الخطة، إذا لم يكن في ذي العصبية القوية من الكفاية ما يتحقق في غيره من ذوي العصبيات الواهنة، ومن المحتوم عليهم أن يختاروا ما فيه المقدرة الكافية، ويكونوا حوله قوة تنهزم أمامها كل عصبية قومية. فإن كان ذو العصبية التي هي أشد وأقوى، كافياً لهذا المنصب، فللمسلمين أن يعدوا ما يحوزه من هذه القوة الطبيعية ميزة يرجح بها على غيره المماثل له في سائر شروط الخلافة، وهذا ما بنى عليه ابن خلدون فهمه لحديث: "الأئمة من قريش"، ورأى أن نسب القرشية في الحديث إنما يرمي إلى ما يحقق شرط الكفاية والقدرة على القيام بأعباء الخلافة، وهو قوة الحامية، وقد اختصت قريش لذلك العهد من بين سائر القبائل بقوة العصبية، وشدة المراس، وذكر أن من القائلين بنفي اشتراط القرشي في الخلافة القاضي أبا بكر الباقلاني (¬1)؛ حيث أدرك ما آلت إليه عصبية قريش من التلاشي ¬

_ (¬1) محمد بن الطيب بن محمد (338 - 403 هـ = 950 - 1013 م) قاض ولد في البصرة، وتوفي ببغداد.

نظام الملكية لا ينافي الحرية والعدل

والاضمحلال، واستبداد ملوك العجم على الخلفاء (¬1). فالحق أن ما قرره ابن خلدون من أن الملك لا يحصل إلا بالقهر والغلبة، لا يجري في الخلافة؛ فإنها قامت في عهد الخلفاء الراشدين على البيعة الاختيارية، والمؤلف نفسه تعاصت عليه الأدلة، وخانته الشبه، فلم يستطع أن يأتي بدليل أو شبهة على أن الخلافة في سائر أطوارها لم تقم إلا على القهر والغلبة. * نظام الملكية لا ينافي الحرية والعدل: قال المؤلف في (ص 27): "وطبيعي في الأمم المسلمة بنوع خاص: أن لا يقوم فيهم ملك إلا بحكم الغلب والقهر أيضاً". يذهب المؤلف إلى أن نظام الملكية لا يقوم بين المسلمين عن اختيار منهم، وزعم أن مبادى" الحرية والإخاء والمساواة التي جاء بها الدين، تقتضي أن لا يقوم فيهم ملك إلا بالقهر والغلبة. والحكومة -في تقسيم أرسطو (¬2) - إما ملكية، أو أرستقراطية، أو شعبية. وكل واحد من هذه النظم إما طبيعي، وهو ما يعمل لخير الأمة، أو جائر، وهو ما يتصرف في شؤونها بغير حكمة. فالملكية عند أرسطو قد تسير على منهج من العدل والنصح للرعية. وقسم (منتسكيو) (¬3) الحكومة إلى: جمهورية، وملكية، واستبدادية، ¬

_ (¬1) "مقدمة" (ص 163) طبعة بولاق. (¬2) أرسطو أو أرسطاطاليس (384 - 322 ق. م) فيلسوف يوناني. (¬3) كاتب فرنسي في الاجتماع والسياسة (1689 - 1755 م) من كتبه: "روح الشرائع".

والفرق بين الملكية والاستبدادية: أن الأولى تكون السلطة فيها بيد فرد يحكم بمقتضى قوانين مقررة، والأخرى لا يرتبط الحاكم فيها بقانون ولا عُرف، بل يدير زمامها على ما يشاء ويهوى. فالملكية عند (منتسكيو) تخالف الاستبدادية. فالواجب إذاً على المؤلف أن يبين ماذا يريد من الملك؛ فإن الحكومة التي يرأسها فرد إذا كانت تعمل على طريق الحزم والشريعة العادلة، لم نجد في مبادئ الإسلام ما يمنع من الإذعان لها، والنصح في مؤازرتها. قال المؤلف في (ص 27): "من الطبيعي في أولئك المسلمين الذين يدينون بالحرية رأياً، وشملكون مذاهبها عملاً، ويأنفون الخضوع إلا لله رب العالمين، ويناجون ربهم بذلك الاعتقاد في كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل، في خمسة أوقاتهم للصلاة، من الطبيعي في أولئك الأباة الأحرار أن يأنفوا الخضوع لرجل منهم أو من غيرهم، ذلك الخضوع الذي يطالب به الملوك رعيتهم، إلا خضوعاً للقوة، ونزولاً على حكم السيف القاهر". يقول الكواكبي في "طبائع الاستبداد" (¬1): "بني الإسلام، بل كافة الأديان على: لا إله إلا الله، ومعنى ذلك: أنه لا يعبد حقا سواه؛ أي: سوى الصانع الأعظم، ومعنى العبادة: التذلل والخضوع، فيكون معنى لا إله إلا الله: لا يستحق التذلل والخضوع شيء غير الله، فهل -والحالة هذه- يناسب المستبدين أن يعلم عبيدهم ذلك، ويعملوا بمقتضاه؟ كلا ثم كلا ... ولهذا ما انتشر نور التوحيد في أمة قط إلا وتكسرت بها قيود الأسر". ¬

_ (¬1) عبد الرحمن بن أحمد الكواكبي (1265 - 1320 هـ = 1849 - 1902 م) كاتب وأديب، ولد في حلب، وتوفي بالقاهرة.

حق ما يقول الكواكبي، ثم ما يقول المؤلف من أن الإسلام يرفع همم أتباعه، ويزكي نفوسهم من الخضوع إلى رجل منهم، أو من غيرهم، متى حاول اضطهادهم أو العبث بحقوقهم. أما إذا عرفوا من الرئيس المسلم عدلاً واستقامةً، فإنهم يبذلون له حسن الطاعة، ويمحضون له النصيحة، ويكون صعوده على عرش الخلافة برضا واختيار منهم، وليس في هذا غضاضة على ما أُشربوه في قلوبهم من مبادئ الحرية والمساواة، وإخلاص العبودية لله، فإن الذي لقنهم الحرية والمساواة، وأمرهم بالإخلاص في توحيده، هو الذي قال لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. ثم إن الرعية التي كان يسوسها عمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز كانت تمد رقابها إلى أميرها طائعة، ولم تفقد شيئاً من حريتها، ولا إخلاص العبادة لخالقها. قال المؤلف في (ص 28): "إنما الذي يعنينا في هذا المقام: هو أن نقرر لك: أن ارتكاز الخلافة على القوة حقيقة واقعة، لا ريب فيها. وسيان بعد ذلك أن يكون هذا الواقع المحسوس جارياً على نواميس العقل، أم لا، وموافقاً لأحكام الدين، أم لا". ملأ المؤلف آذاننا بكلام يدور على أن الخلافة والملك لم يرتكزا إلا على القوة والرهبة، ثم انقلب إلى حرفة التشكيك، الذي آلى على نفسه أن لا يخرج بنا من بحث حتى يحاول أن يفتننا به مرة أو مرتين. ونحن نلفت النظر عن الرأي المطوي في صدر المؤلف، ونلقي الكلمة الفاصلة فنقول: إن ارتكاز البيعة على القوة والسلطان، دون أن يكون لأهل

الحل والعقد فيها اختيار، غير جار على نواميس العقل، ولا موافق لما أرشد إليه الدين، وكذلك الدين والعقل السليم لا يختلفان في حكم. أما استناد الخلافة بقوة الجند والسلاح بعد قيامها على قاعدة اختيار الأمة، فأمر ينطبق على قوانين العقل بغير تردد، وحق تهدي إليه الشريعة بحثّ وتأكيد؛ فإن القصد من إقامة السلطان كفّ الأيدي العادية على الحقوق، فوجب إعداد القوة من جند وسلاح لمكافحة الأعداء والبغاة، وحماية حرم الشريعة من أن تعبث بها يد آثمة، أو نفس ماردة. وعلى الأمة اليقظة أن تتخذ من التدابير ما يمكنها من مشاركة الخليفة في تصريف هذه القوة المسلحة، حتى إذا خاب ظنها فيه، وأخذه الاستبداد بالإثم، وجدت الطريق إلى اتقاء بأسه وكف يده أمراً ميسوراً. قال المؤلف في (ص 28): "لا معنى لقيام الخلافة على القوة والقهر، إلا إرصادهما لمن يخرج على مقام الخلافة، أو يعتدي عليه، وإعداد السيف لمن يمس بسوء ذلك العرش، ويعمل على زلزلة قوائمه". لا بد للخلافة من أن تتقلد سيفاً وترتدي بإرهاب؛ "لتتقي خطر عدو هاجم أو متحفز، وتقمع شر من يثير فتنة يضطرب لها نظام الأمن والسلام، وقد أتى عليها حين من الدهر وهي لا تنتضي حسامها، ولا تلمع بإنذارها ووعيدها إلا في وجه عدو يتربص بالمؤمنين الدوائر، أو ثائر عصفت به ريح الأهواء، وما له في أولي الألباب من ولي ولا عاذر، وأدركها زمن بعدت فيه عن حقيقتها، فخلطت عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وربما كان إثمها في بعض الأحيان أكبر من نفعها، وليس إصلاح شأنها وإعادتها إلى سيرتها المثلى ممن يغارون على مصلحة الشرق واتحاد شعوبه ببعيد.

إبطال دعوى المؤلف: أن ملوك الإسلام يضغطون على حرية العلم

قال المؤلف في (ص 29): "وإذا كان في هذه الحياة الدنيا شيء يدفع المرء إلى الاستبداد والظلم، ويسهل عليه العدوان والبغي، فذلك هو مقام الخلافة، وقد رأيت أنه أشهى ما تتعلق به النفوس، وأهم ما تغار عليه. وإذا اجتمع الحب البالغ، والغيرة الشديدة، وأمدتهما القوة الغالبة، فلا شيء إلا العسف، ولا حكم إلا السيف". الظلم والاستبداد ينشآن عن علتين: أولاهما: أن يحمل الحاكم بين جنبيه أهواء غالبة، ونفساً غير زاكية. وثانيتهما: جهل الأمة وتخاذلها؛ بحيث لا يتحد زعماؤها على تقويمه بالتي هي أحكم وأقطع لدابر الاستبداد. وقد بنيت الخلافة بحق على ما يُتوقى به من هاتين العلتين الفاقرتين، فجاء في شروط الخليفة: أن يكون عالماً عادلاً، وجاء في واجبات الأمة: أن تشاركه في الرأي، وتقوم على مراقبته وحمله على طريق العدل بالوسائل الكافية. فإن وقع من الخليفة استبداد أو عدوان، فالتبعة ملقاة على عنق الأمة، لا على مشروع الخلافة. ولو كان مقام الخلافة يحمل بطبيعته على الاستبداد والبغي، لم ترفع العدالة رأسها، ولم تنشط الحرية من عقالها يوم جلس عليه الخلفاء الراشدون ومن حذا حذوهم؛ كعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. * إبطال دعوى المؤلف: أن ملوك الإسلام يضغطون على حرية العلم: قال المؤلف في (ص 30): "ومن هنا نشأ الضغط الملوكي على حرية العلم، واستبداد الملوك بمعاهد التعليم".

بخس المؤلف حظ المسلمين في السياسة، فكففنا شيئاً من غلوائه، وما راعنا منه الآن إلا أن يلصق بملوك الإسلام وصمة الضغط على حرية العلم، ويطلق العبارة بكل صراحة كأنه لا يشعر بأن في الدنيا شيئاً يقال له: التاريخ. أيريد منا أن نطارحه الحديث في النهضة العلمية الإسلامية، فنقف به على مبدأ نشأتها، أو نمر به على سائر أطوارها، ونريه كيف كان الملوك والأمراء يسعدونها بالترجمة، وإنشاء المدارس، وتأسيس المكاتب، وإجلال العلماء، وإسباغ النعم على المؤلفين؟ إنا عن تفصيل الحديث في هذا السبيل لفي شغل، ولا طاقة لنا إلا بأن نلقي على الحكومات الإسلامية نظرة إجمالية، ونقول فيها كلمة يطلّ منها القارئ على الحقيقة؛ ليشهد على بينة بأن المؤلف يباهت المسلمين وملوكهم على مسمع من التاريخ، ومرأى من مآثرهم الباقية. قامت دولة بني أمية، وكلانت هممهم مصروفة إلى فتح البلاد، وتوسيع نطاق الدولة الإسلامية، فلم تتوجه عنايتهم إلى الزيادة على ما بين أيديهم من علوم إسلامية أو عربية، سوى ما جاء في التاريخ من أن معاوية ابن أبي سفيان - رضي الله عنه - كان "يستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها، وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة (¬1). وأما ما قام به خالد ابن يزيد بن معاوية (¬2) من نفسه، فاستقدم راهباً رومياً من إسكندرية، وأخذ عنه صناعة الكيمياء، ثم أمر بنقلها إلى العربية، وكذلك عرّب (ماسرجويه) ¬

_ (¬1) "مروج الذهب" للمسعودي (ج 2 ص 57) طبعة بولاق. (¬2) خالد بن يزيد بن معاوية بن أَبى سفيان (... - 90 هـ = ... - 708 م) من الحكماء العلماء المشتغلين بالكيمياء والطب. وتوفي بدمشق.

أحد الأطباء المعاصرين لعبد الملك بن مروان كتاباً في الطب، وبقي في خزائن الكتب بالشام، ولما تولى عمر بن عبد العزيز، أخرجه منها، وأصبح متداولاً في أيدي الناس، وجاء في "الفهرست" لابن النديم: (¬1) أن أبا العلاء سالماً كاتب هشام بن عبد الملك (¬2) نقل من رسائل أرسطو إلى الاسكندر. انقرضت دولة بني أمية في المشرق، ولم ينهضوا بما عند الأمم الأخرى من علوم حكمية وفلسفية؛ للعذر الذي أومأنا إليه، ولكنهم لم يضطهدوا عالماً لعلمه، ولم يقطعوا سبيل علم دون مبتغيه. ثم خلفهم بنو العباس، وقد اتسع نطاق الممالك الإسلامية، واستحكمت عرى الدولة، فما استقرت مقاليد الخلافة بأيديهم حتى نهضوا بالعلوم على اختلاف فنونها، فعني المنصور بنقل علوم الهندسة والطب والنجوم، وتتابعُ الخلفاء على هذه الخطة المحمودة، والنهضة العبقرية للخليفة المأمون أشهرُ من أن يشار إليها بالبنان، وظلت هذه النهضة قائمة يشد أزرها الخليفة عقب الخليفة، حتى أصبحت علوم اليونان والفرس وغيرهما تدرس بلسان عربي مبين. وهن عظمُ الخلافة العباسية، وهيض جناحها، فظهر حولها دول في الشام ومصر وفارس وخراسان وغيرها؛ كدولة بني بويه، وبني حمدان، وبني زيار، وبني سامان، والدولة الغزنوية، والسلجوقية، وملوك هذه الدول ¬

_ (¬1) محمد بن إسحاق بن محمد (... - 438 هـ = ... -1047 م) وهو بغدادي. وصاحب كتاب "الفهرست" من أقدم كتب التراجم. (¬2) هشام بن عبد الملك بن مروان (71 - 125 هـ = 690 - 742 م) من الملوك الأمويين في الشام. ولد في دمشق، وتوفي بالرصافة غرب الرقة.

القائمة على أطلال الخلافة العباسية "اقتدوا بخلفاء النهضة في ترغيب أهل العلم، واستقدامهم إلى عواصمهم في القاهرة وغزنة ودمشق ونيسابور وإصطخر وغيرها" (¬1). ومن أشهر رجال هذه الدول، وأعظمها أثراً في إحياء العلم ورفع لوائه: منصور بن نوح الساماني (¬2)، ومحمود بن سُبكتكين الغزنوي (¬3)، وسيف الدولة بن حمدان، (¬4) وسابور بن أردشير (¬5) وزير بهاء الدولة بن بويه (¬6)، ونظام الملك (¬7) وزير السلطان السلجوقي، وقابوس بن وشكمير الزياري (¬8)، ¬

_ (¬1) "تاريخ التمدن الإسلامي" (ج 3 ص 169). (¬2) ملك بخارى وما وراء النهر، وهو أول من أنشأ مكتبة عامة في الإسلام (... - 366 هـ = ... - 977 م)، وتوفي في بخارى. (¬3) محمود بن سبكتكين الغزنوي (361 - 421 هـ = 971 - 1030 م) فاتح الهند، ولد في غزنة بين خراسان والهند، وتوفي بها. (¬4) علي بن عبد الله بن حمدان سيف الدولة (303 - 356 هـ = 915 - 967 م)، ولد في "ميافارقين" بديار بكر، وتولى إمارة دمشق وحلب، وتوفي في حلب. (¬5) أنشأ مكتبة عامة ببغداد سنة 383 هـ، وإليها أشار أَبو العلاء المعري بقوله: وغنت لنا في دار سابور قينة ... من الورق مطراب الأصائل مهباب (¬6) بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه (360 - 403 هـ = 971 - 1012 م) من ملوك الدولة البويهية، وتوفي بأرجان. (¬7) الحسن بن علي بن إسحاق. نظام الملك (408 - 485 هـ = 1018 - 1092 م) وزير حازم، أصله من نواحي طوس، ودفن في أصبهان، وهو مؤسس المدرسة النظامية، ومكتبتها العامة ببغداد. (¬8) قابوس بن وشكمير بن زياد (... - 403 هـ = ... - 1012 م) أمير جرجان =

ويعقوب بن كلس (¬1) وزير العزيز بالله (¬2) ثاني ملوك الدولة الفاطمية، والصاحب ابن عباد (¬3) وزير مؤيد الدولة بن بويه، إلى غير هؤلاء من ملوك ووزاء عرفوا قيمة العلم، وخلوا سبيل الأفكار تتمتع بملاذه، وتنفق من طيباته كيف تشاء. وإذا سرحنا الطرف في دولة الأندلس والمغرب، رأينا كثيراً من ملوكها شادوا صروح العلم، وأوسعوا ميدان المنافسة في فنونه؛ مثل: الحكم المستنصر بالله (¬4) الخليفة بقرطبة، ويوسف بن عبد المؤمن (¬5) سلطان مراكش، وغيرهما من ملوك الطوائف، وبعض ملوك الدولة الحفصية، والدولة الحسينية في تونس. ولعل المؤلف قرأ في بعض الكتب: أن من طبائع الاستبداد الضغط على العلم، فضم إلى هذه النظرية ما يعتقده من أن خلفاء الإسلام وملوكه ¬

_ = وبلاد الجبل وطبرستان. ودفن بظاهر جرجان. (¬1) يعقوب بن يوسف بن كلس (318 - 380 هـ = 935 - 990 م) وزير كاتب، ولد ببغداد، وتوفي بالقاهرة. (¬2) نزار بن معد الفاطمي (344 - 386 هـ = 955 - 999 م) صاحب مصر والمغرب. ولد في المهدية، وتوفي في بلبيس. (¬3) إسماعيل بن عباد بن عباس (326 - 385 هـ = 938 - 995 م)، وزير، أديب. ولد في "الطالقان" من أعمال قزوين، ودفن في أصبهان. (¬4) الحكم بن عبد الرحمن الناصر (302 - 366 هـ = 914 - 976 م) خليفة أموي أندلسي، ولد بقرطبة، وتوفي بها. (¬5) يوسف بن عبد المؤمن بن علي (533 - 580 هـ = 1138 - 1184 م) من ملوك دولة الموحدين بمراكش. ولد في "تينملل"، ودفن بها. مات قرب الجزيرة الخضراء.

مستبدون، فانتظم له قياس منطقي من الشكل الأول، وهو: ملوك الإسلام مستبدون، وكل مستبد يضغط على العلم، فالنتيجة: ملوك الإسلام يضغطون على العلم. ولكن ماذا ينفع هذا القياس، والتاريخ الصحيح يشهد بأن خلفاء الإسلام وملوكه رفعوا لواءَ العلم، ومنهم انبعثت أشعته إلى الشرق والغرب، قال (رويودان) الإنجليزي في كتاب "تاريخ الموسيقا": "بعد فتح بلاد الفرس، أصبحت ينابيع العرفان تنهمر إلى العرب على طريق دمشق وحلب وإسكندرية، وتجري على سواحل أفريقية الشمالية إلى بلاد إسبانيا، حتى انتهت إلى قرطبة التي أنشاها الأمويون، فأصبحت مركز العلوم والمعارف إلى أنحاء أوروبا". وقال: "إن العرب في القرون الوسطى كانوا حملة العلم والعرفان إلى بقية أنحاء العالم، وبينما كانت أوروبا غارقة في أشد دياجير الجهل ظلاماً، كان الخلفاء في بغداد عاصمة ملكهم، وقد بلغوا أعلى شأوٍ في المدنية والعرفان؛ لأنهم كانوا ملوكاً لممالك عظيمة، تمتد من نهر الغنج شرقاً، إلى المحيط الأطلنتيكي غرباً؛ حيث توجد طنجة". وقال: "وبفضل سهرهم -يعني: خلفاء قرطبة- على العلوم، أصبح أطباء العرب وفلاسفة قرطبة حملة راية العلم في العالم". وإذا حكى التاريخ أن المتوكل العباسي (¬1) في الشرق، والمنصور بن أبي عامر في الغرب اضطهدا الفلسفة، فذلك شيء لا يذكر إزاء النهضة التي ¬

_ (¬1) جعفر بن محمد بن هارون الرشيد (206 - 247 هـ = 821 - 861 م) من الخلفاء العباسيين، ولد ببغداد، وتوفي بسامراء.

قام بها غيرهم من ملوك وأمراء، يخرجنا عدّهم وعدّ مآثرهم العلمية إلى إسهاب لا يسعه المقام. قال المؤلف في (ص 30): "ذلك تأويل ما يلاحظ من قصور النهضة الإسلامية في فروع السياسة، وخلو حركة المسلمين العلمية من مباحثها". قد أريناك أن ملوك الإسلام كانوا يساعدون على توسيع دائرة المعارف، ويقبلون ما تنتجه العقول السليمة باحتفاء وترحاب، وقد كانت الكتب السياسية تؤلف بمرأى منهم ومسمع، وكثير منها يؤلف من أجل صاحب الدولة، أو وزيره؛ مثل كتاب: "سياسة المالك في تدبير الممالك" ألّفه ابن الربيع للمعتصم (¬1) العباسي، وكتاب: "نهج السلوك في سياسة الملوك" ألّفه الشيخ عبد الرحمن ابن عبد الله (¬2) لصلاح الدين الأيوبي (¬3)، وكتاب: "لطائف الأفكار وكاشف الأسرار" في علم السياسة، ألّفه القاضي حسين السمرقندي للوزير إبراهيم باشا، وبعض هذه الكتب يقدمه مؤلفه بنفسه إلى الملك؛ كما قدم ابن خلدون نسخة من "مقدمة تاريخه" إلى صاحب تونس أبي العباس الحفصي (¬4)، ¬

_ (¬1) محمد بن هارون الرشيد (179 - 227 هـ = 795 - 841 م) من كبار الخلفاء العباسيين. توفي بسامراء. (¬2) عبد الرحمن بن عبد الله بن نصر (... - 590 هـ = ... - 1194 م) من أهالي مصر، ومن كتاب العصر الأيوبي. (¬3) يوسف بن أيوب بن شاذي الملقب بالملك الناصر (532 - 589 هـ = 1137 - 1193 م) من كبار ملوك الإسلام، ولد بتكريت، وتوفي بدمشق. (¬4) أحمد بن محمد بن أبي بكر (... - 796 هـ = ... - 1394 م) من الملوك الحفصيين بتونس، وتوفي بها.

ثم إلى السلطان برقوق (¬1) صاحب مصر. بل كان من رجال الدولة من يؤلف في السياسة؛ كما ألف القاسم أَبو دلف أحد قواد المأمون ثم المعتصم كتاب: "سياسة الملوك" (¬2)، وألّف عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ولي الشرطة ببغداد "رسالة في السياسة الملكية" (¬3). قال المؤلف في (ص 31): "لو وضعنا هذا الكتاب كله في بيان الضغط الملوكي الإسلامي على كل علم سياسي، وكل حركة سياسية، أو نزعة سياسية، لضاق هذا الكتاب وأضعافه عن استيعاب القول في ذلك، ثم لعجزنا عن بيانه على وجه كامل". اقتحم المؤلف في هذه العبارة شططاً لا يقع فيه خبير بالتاريخ، عارف بقيمة الأمانة في العلم. طالعْ -أيها القارئ- كتب التاريخ كتاباً كتاباً، وقلّبها إن شئت صحيفة صحيفة، فلا أحسبك تعثر على مثال يشهد بأن ملكاً من ملوك الإسلام غضب لكتاب ألّف في السياسة، أو كره للناس أن يترجموا كتباً في السياسة، أو عنّف شخصاً ألّف في السياسة، أو أصدر إنذاراً على التأليف في السياسة. ضغط بعض ملوك الإسلام على الفلسفة؛ كما قصصناه عن المتوكل ¬

_ (¬1) برقوق بن أنص أو أنس العثماني (738 - 801 هـ = 1338 - 1398 م) الملك الظاهر، أول من ملك مصر من الشراكسة، وتوفي بالقاهرة. (¬2) القاسم بن عيسى أَبو دُلف العجلي (... - 226 هـ = ... - 840 م) أمير الكرخ، وكان من قادة جيش المأمون، وتوفي ببغداد. (¬3) عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين (223 - 300 هـ = 838 - 913 م) أمير شاعر وأديب، ولد وتوفي ببغداد.

عدم تمييز المؤلف بين الإجماع على وجوب الإمامة، والإجماع على نصب خليفة بعينه

العباسي، والمنصور بن أبي عامر؛ لاعتقاد ضررها، أو تقرباً من قلوب العامة، ولا تكاد تعلم أن أحداً منهم اضطهد علم السياسة، إلا ما كان من السلطان عبد الحميد الذي انتهى به الاستبداد والضغط على حرية الفكر إلى غاية لم يسبق لها نظير، ومن ذلك المتناهي تعلَّم عبدُ الرحمن الكواكبي كيف يؤلف كتابي: "طبائع الاستبداد"، و"جمعية أم القرى". * عدم تمييز المؤلف بين الإجماع على وجوب الإمامة، والإجماع على نصب خليفة بعينه: قال المؤلف في (ص 31): "لو ثبت عندنا أن الأمة في كل عصر سكتت على بيعة الإمامة، فكان ذلك إجماعاً سكوتياً، بل لو ثبت أن الأمة بجملتها وتفصيلها قد اشتركت بالفعل في كل عصر في بيعة الإمامة، واعترفت بها، فكان ذلك إجماعاً صريحاً، ولو نقل إلينا ذلك، لأنكرنا أن يكون إجماعاً حقيقياً، ولرفضنا أن نستخلص منه حكماً شرعياً، وأن نتخذه حجة في الدين، وقد عرفت من قصة يزيد كيف كانت تؤخذ البيعة، ويغتصب الإقرار". اندفع المؤلف يخوض في الإجماع على غير بينة منه، ويورد على الطعن في انعقاده في مسألة الإمامة قصة يزيد بن معاوية. علماء الإسلام في ناحية، وصاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم" في ناحية أخرى. يظهر جلياً أن المؤلف اشتبه عليه الإجماع على وجوب نصب إمام بالإجماع على مبايعة إمام بعينه، والذي يتحدث عنه أهل العلم إنما هو وجوب نصب الإمام، وهذا الوجوب لم يحدث فيه خلاف بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان، وأما مبايعة إمام خاص، فيكفي في

انعقادها اتفاق جماعة من أهل الحل والعقد؛ بحيث تكون كلمتهم العليا على من خالفهم. قال إمام الحرمين في كتاب "غياث الأمم": "اتفق المنتمون إلى الإسلام على تفرق المذاهب وتباين المطالب على ثبوت الإمامة". ثم قال: "الإجماع ليس شرطاً في عقد الإمامة بإجماع". فاستدلال المؤلف على إبطال الإجماع في حكم الخلافة بعدم الإجماع على ولاية يزيد، منطق يترفع عنه أصحاب الأقيسة الشعرية، ولا يأتيه المولعون بالمغالطات إلا أن يصوغوه في أسلوب أبرع من أسلوب المؤلف وأخفى. قال المؤلف في (ص 32): "وقد زعم الإنكليز: أن أهل الحل والعقد من أمة العراق انتخبوا فيصلاً ليكون ملكاً عليهم بالإجماع، اللهم إلا أن يكون قد خالف في ذلك نفر قليل لا يعتد بهم؛ كأولئك الذين دعاهم ابن خلدون من قبل: شواذ". وما كان للمؤلف أن يتهجم على علم راسخ القواعد محكم المباني، فيخلطه بالمجون، ويضرب له أمثالاً لا تلتقي معه في نسق، وإن كان الحديث ذا شجون. الإجماع الذي يستند إليه في تقرير الأحكام، هو اتفاق مجتهدي الأمة، بل المدار في انعقادها على جماعة من أهل الحل والعقد وإن لم يكن من بينهم مجتهد أصلاً. فإيراد المؤلف قصة يزيد طعناً في الإجماع المستدل به على حكم الخلافة تخبطٌ في ليل دامس، والانتقال منها إلى قصة فيصل، وتمثيل من خالفوا في انتخابه بمن دعاهم ابن خلدون: شواذ، خيالٌ لا تقبله أذواق أهل العلم،

وجه عدم الاعتداد برأي من خالفوا في وجوب الإمامة

وشاهد يوضح أن المؤلف لا يفرق بين الإجماع على وجوب الخلافة، والاتفاق على مبايعة شخص بعينه. * وجه عدم الاعتداد برأي من خالفوا في وجوب الإمامة: قال المؤلف في (ص 32): "لو ثبت الإجماع الذي زعموا، لما كان إجماعاً يعتد به، فكيف وقد قالت الخوارج: لا يجب نصب الإمام أصلاً، وكذلك قال الأصم من المعتزلة، وقاله غيرهم أيضاً؛ كما سبقت الإشارة إليه. وحسبنا في هذا المقام نقضاً لدعوى الإجماع أن يثبت عندنا خلاف الأصم، والخوارج، وغيرهم، وإن قال ابن خلدون: إنهم شواذ". لم يخالف في وجوب الإمامة جميع الخوارج، وإنما المخالفون طائفة منهم، وهم النجدات، وقد نقلنا لكم آنفاً قول ابن حزم (¬1) في كتاب "الفصل": اتفق جميع أهل السنّة، وجميع المرجئة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة يجب عليها الانقياد لإمام عادل ... حاشا النجدات من الخوارج. أما الأصم، فقد قال إمام الحرمين في تفنيد رأيه: "نصبُ الإمام عند الإمكان واجب، وذهب عبد الرحمن بن كيسان -هو الأصم- إلى أنه لا يجب، ويجوز ترك الناس أخيافاً يلتطمون ائتلافاً واختلافاً، لا يجمعهم ضابط، ولا يربط شتات رأيهم رابط. وهذا الرجل هجوم على شق العصا، ومقابلة الحقوق بالعقوق، لا يهاب حجاب الإنصاف، ولا يستوعر أصواب الاعتساف، ولا يسمى إلا عند الانسلال عن ربقة الإجماع؛ والحيد عن سنن الاتباع. وهو مسبوق بإجماع من أشرفت عليه الشمس شارقة وغاربة، ¬

_ (¬1) سبقت ترجمته.

واتفاق مذاهب العلماء قاطبة". فالتحقيق: أن مخالفة هذه الطائفة في قضية الخلافة لا يعتد بها، وليس لها في الطعن على الإجماع من أثر، ولا نجعل أقوالهم لاغية لكونهم من الطوائف التي يراها أهل السنّة على غير حق؛ فإن خلاف أمثالهم في الأحكام الشرعية يمنع من انعقاد الإجماع؛ كما هو المختار عند الغزالي (¬1)، والآمدي، وغيرهما، وإنما نصرف النظر عن مخالفتهم هذه لوجهين: أحدهما: أن خلافهم طرأ بعد انعقاد الإجماع ممن تقدمهم على وجوب نصب الإمام، وحدوثُ قول بعد انقراض العصر الذي انعقد فيه الإجماع على حكم شرعي مردودٌ على وجه صاحبه. ثانيهما: أنهم قيدوا مخالفتهم بحال، وعلقوها على أمر لم تجر به السنن الكونية في هذه الحياة، وهو تواطؤ الأمة على العدل، وتنفيذ أحكام الله فيما بينهم، وهذا التواطؤ مما دلت التجارب والمشاهدات الطويلة على أنه خارج عن طبيعة البشر، إلا أن ينقلب الناس ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. والأشبه أن يكون خارق الإجماع في مثل هذا الحكم الواضح مدفوعاً بهوى يعمى عليه الدليل الساطع، وكذلك نقل أَبو منصور البغدادي ما يؤيد أن الأصم كان يخرق الإجماع استسلاماً لأهوائه، فقال في كتاب "الفَرْق بين الفِرَقْ ": "قال -يعني: الأصم -: لا تنعقد-أي: الإمامة -إلا بإجماع ¬

_ (¬1) محمد بن محمد الغزالي (450 - 505 هـ = 1058 - 1111 م) أَبو حامد، حجة الإسلام، الفيلسوف المتصوف، ولد وتوفي في الطابران بخراسان. له نحو مئتي مصنف.

القرآن والخلافة

عليها. وإنما قصد بذلك الطعن في إمامة علي - رضي الله عنه -؛ لأن الأمة لم تجتمع عليه؛ لثبوت أهل الشام على خلافه إلى أن مات، فأنكر إمامة علي، مع قوله بإمامة معاوية؛ لاجتماع الناس عليه بعد قتل علي - رضي الله عنه - ". * القرآن والخلافة: قال المؤلف في (ص 33): "عرفت أن الكتاب الكريم قد تنزه عن ذكر الخلافة، والإشارة إليها، وكذلك السنّة النبوية قد أهملتها، وأن الإجماع لم ينعقد عليها، أفهل بقي لهم من دليل في الدين غير الكتاب، أو السنّة، أو الإجماع؟ ". قبل أن نأخذ في مناقشة هذه المزاعم، نذكر القارئ بأمر تناولنا البحث فيه آنفاً، وهو أن بحث الخلافة يرجع إلى النظر في حكم عملي، لا في عقيدة من عقائد الدين، ومما يترتب على الفرق بين الأحكام العملية والعقائد: أن الأحكام العملية يُكتفى فيها بالأدلة المفيدة ظناً راجحاً، وأما العقائد، فإنها لا تقوم إلا على براهين قاطعة. ونضع بين يدي القارئ أيضاً: أن العدول عن ظواهر الألفاظ، وتأويلها إلى غير ما يفهمه أسلوبها العربي من المعاني الجلية، غير مسموع في مقام المناظرة؛ فإن الألفاظ في سائر اللغات تحتمل الصرف إلى معان غير مقصودة، وذلك بما يدعى فيها من نحو الحذف والمجاز، من غير دليل ثابت، أو قرينة قائمة. ونتخلص من هذا إلى أن سنن الشريعة في إرشادها أن تعنى بالأحكام أو الحقائق التي شأنها الغموض، فتدل عليها بتصريح وتأكيد، حسب أهمية الحكم، وبعدِه من متناول العقول، ولهذا لم ترد فيها أوامر بما تدعو إليه

الطبائع، وإن كانت مفروضة لحفظ النفس أو النسل؛ مثل: الأكل والشرب والنكاح، إلا في سياق الإرشاد إلى معنى زائد على أصل الفعل؛ كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} {الأعراف: 31]، وقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. فلا غضاضة على حكم الخلافة إذا لم يرد به قرآن يتلى؛ إذ ليست الخلافة شيئاً زائداً على إمارة عامة، تحرس شعائر الدين، وتسوس الناس على طريق العدل، ولم يكن وجه المصلحة من إقامة هذه الإمارة بالخفي الذي يحتاج إلى أن يأتي به قرآن صريح. ولكن وراء ذلك أشياء أخرى قد تنازع فيها الأهواء أو تختلف فيها الاَراء؛ كإطاعة السلطان العادل، أو اشتراط أن يكون زمام الحكم في يد مسلم، فأرشد القرآن إلى الأولى منطوقاً، وإلى الثاني مفهوماً بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. وقد نبهنا -فيما سلف- على أن النظر في وجه الأمر بإطاعة أولي الأمر يقتضي وجوب إقامتهم. فالقرآن لم يصرح بحكم الإمارة العامة؛ اكتفاء بما بثه في تعاليمه من الأصول التي تبينها السنّة، ويرجع إليها الراسخون في العلم عند الحاجة إلى الاستنباط، ولأن في الأمر بإطاعة أولي الأمر عبرة لأولي الألباب. فقول المؤلف: إن القرآن قد تنزه عن ذكر الخلافة والإشارة إليها، كلمة لا تليق بأدب عالم شرعي، ولكن الهوى كالزجاجة الملونة بسواد، تضعها على بصرك، فتريك الأشياء بعد أن تجري عليها صبغة من لونها البهيم، "وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل، لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى" (¬1). ¬

_ (¬1) "موافقات الشاطبي" (ج 4 ص 111) طبع تونس.

السنة والخلافة

* السنة والخلافة: وأما السنّة، فقد وردت أحاديث صحيحة ذُكر فيها الخليفة، والإمام، والبيعة، والأمير، وقد جاءت هذه الأحاديث في أغراض متعددة، ومعان مختلفة. فمنها: ما جاء في بيان أن الإمام مسؤول عما يفرط في حق الرعية؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري -: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس قال، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته" (¬1). ومنها: ما جاء في الأمر بملازمة الإمام، وعدم الخروج عنه؛ كحديث: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" (¬2). ومنها: ما ورد في بيان حكم من حاول الخروج عليه؛ كحديث "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه" (¬3)، وحديث: "إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما" (¬4)، وحديث: "من بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر" (¬5). ومنها: ما جاء في مساق الأخبار عن وجود الخلفاء، وقرن بذلك الأخبار ¬

_ (¬1) "بخاري" (ج 9 ص 62) طبعة بولاق. (¬2) "بخاري" (ج 9 ص 52)، و"مسلم" (ج 6 ص 20) طبع القسطنطينية. (¬3) "مسلم" (ج 6 ص 23). (¬4) "مسلم" (ج 6 ص 23). (¬5) "مسلم" (ج 6 ص 18).

الأمر بالوفاء ببيعة الأول؛ كحديث: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي، خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء، فتكثر"، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فُوا بيعةَ الأول فالأول" (¬1). ومنها: ما ورد مورد الإنكار والوعيد عن نكث اليد عن طاعة الإمام، وأن يموت المسلم وليس في عنقه بيعة؟ كحديث: "من خلع يداً من طاعة، لقي الله القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية" (¬2). وهذا الحديث وإن لم يرد فيه ذكر الإمام ولا الخليفة، فإن الأحاديث السابقة تفسره. ومنها: ما ورد في وصف خيار الأئمة وشرارهم؛ كحديث: "خيار أئمتكم: الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم: الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" (¬3). ومنها: ما ذكر فيه الخليفة بجانب النبي، وأخبر فيه بما يكون له من بطانتي الخير والشر؛ كحديث: "ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشرّ، وتحضّه عليه، فالمعصوم من عصم الله" (¬4). ومنها: ما جاء لبيان منزلة الإمام العادل وفضله، كحديث: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وصدّرها بالإمام العادل، فقال: "إمام ¬

_ (¬1) "مسلم" (ج 6 ص 17). (¬2) "مسلم" (ج 6 ص 22). (¬3) "مسلم" (ج 6 ص 24). (¬4) "بخاري" (ج 9 ص 77) - بولاق.

الإجماع والخلافة

عادل" (¬1)، وحديث: "إنما الإمام جُنة يُقاتل من ورائه، ويُتقى به، فإن أمر بتقوى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وعدل، كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره، كان عليه منه" (¬2). فهذه الأحاديث الواردة في أغراض شتى، وأسانيد مختلفة، وكلها تدور حول الإمام، فتبين مسؤوليته، وتأمر بالوفاء ببيعته، وإطاعته، وملازمته، وقتل من يحاول الخروج عليه، وتصف الأئمة، وتفرق بين خيارهم وشرارهم، هذه الأحاديث إذا وقعت في يد مجتهد يتبصر في حكمة أمرها ونهيها ووصفها، لا يتردد في أن الإمام أمر حتم، وشرع قائم، ولا يصح أن يكون هذا الحق إلا من قبيل الواجب. فقول المؤلف: إن السنّة أهملت الخلافة، جراءةٌ يلبسها من خرج ليقطع الطريق في وجه الحقائق، حتى تدرج عليه الآراء الفجّة، وأوضاع التي لم تزل في طور التجربة والاختبار. * الإجماع والخلافة: وأما الإجماع، فقد أريناك وجه حجيته فيما سبق، وبيّنا لك أنه دليل قاطع؛ لأن شواهده عدّة في دلائل الشريعة جاءت في موارد شتى من الكتاب والسنّة، وهذه الشواهد إن كان كل واحد منها يفيد ظناً راجحاً، فإن مجموعها يفيد علماً راسخاً، ونظيره التواتر في إفادة القطع، وهو مؤلف من أخبار آحاد لا يفيد كل واحد منها بانفراده شيئاً يتعدى مراتب الظنون. وتقرير الإجماع في قضية الخلافة الذي لا يزال علماء الإسلام يلهجون ¬

_ (¬1) "الموطأ بشرح الزرقاني" (ج 4 ص 169) طبع بولاق. (¬2) "مسلم" (ج 6 ص 17).

به جيلاً بعد جيل، أن الصحابة - رضي الله عنهم - عقب انتقال صاحب الرسالة - صلوات الله عليه - إلى الرفيق الأعلى، وقبل مواراة جثته الشريفة في قبره الكريم، بادروا إلى الائتمار بتعيين إمام، ولم يجر بينهم خلاف في حكم إقامته، وإنما تنازعوا في مبدأ المفاوضة شيئاً قليلاً في اختيار الشخص الكافي لهذا المنصب، ثم تضافروا على مبايعة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، ومن تخلف عن المبايعة لم يذهب إلى الخلاف في وجوب نصب الإمام، وإنما هي الموجدة؛ لعدم إيثاره بالإمارة، أو لإنجاز المبايعة دون حضوره، وقبل أخذ رأيه في جملة المؤتمرين، وكذلك كان شأنهم في الاهتمام بأمر الخلافة لعهد سائر الخلفاء الراشدين فمن بعدهم، ومن يتخلف عن بيعة خليفة، فلعذر يرجع إلى عدم وفاقه على بيعة الشخص المعين، ولم ينقل عن أحد أنه توقف في وجوب نصب الأمير العام، أو قال: "ليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا، ولا لأمور دنيانا"، مع أن المحدثين والمؤرخين ينقلون ما يدور في المحاورة بين أهل الحل والعقد، وما يقع من وفاق، وما يصدر عنهم من أقوال وآراء، ليس لها أهمية إزاء القول بعدم وجوب نصب الإمام، لو خطر على قلب رجل منهم. ومن الباطل أن يقال: إنما سكتوا عن إبداء رأيهم في وجوب الخلافة رهبة من القوة المسلحة، فإن العصر الذي صدع فيه عبد الرحمن الأصم، ونجدة بن عامر بعدم وجوب نصب الإمام، لم تكن حرية الرأي، ولا سعة صدر السياسة فيه بأحسن حالاً من العهد الذي يقوم فيه الرجل، ويجابه الخليفة بقوله: لو رأينا فيك اعوجاجاً، لقوّمناه بسيوفنا. قال المؤلف في (ص 33): "نعم، بقي لهم دليل آخر لا نعرف غيره، هو آخر ما يلجؤون إليه، وهو أهون أدلتهم وأضعفها. قالوا: إن الخلافة

تتوقف عليها إقامة الشعائر الدينية، وصلاح الرعية إلخ. المعروف الذي ارتضاه علماء السياسة: أنه لا بدّ لاستقامة الأمر في أمة متمدنة، سواء كانت ذات دين، أم لا دين لها، وسواء كانت مسلمة أم مسيحية أم يهودية، أم مختلطة الأديان، لا بد لأمة منظمة، مهما كان معتقدها، ومهما كان جنسها ولونها ولسانها، من حكومة تباشر شؤونها، وتقوم بضبط الأمر فيها، وقد تختلف أشكال الحكومة وأوصافها بين دستورية واستبدادية، وبين جمهورية وبلشفية، وغير ذلك". الدليل المشار إليه يرجع إلى قاعدة قائمة على رعاية المصالح، وهي قاعدة قطعية؛ لأنها منتزعة من أصول وأحكام مبثوثة في الكتاب والسنّة، وقد أقامه العلماء في مناظرة النفر الذين خالفوا في نصب الإمام، ذاهبين إلى أنه لا تجب إقامة حكومة. ولا شك أن هذا الدليل ينسف مذهبهم نسفاً، ولو خالف في شكل الحكومة مخالف، لأفصح عن رأيه، ولكان لأهل العلم معه موقف غير الموقف الذي نراه في علم الكلام. فالدليل بالنظر إلى مذهب الخصم الذي كانوا يجادلونه به، حجة ساطعة، وليس بالدليل الهين، ولا الضعيف، ولكن المؤلف لا يضبط وجه البحث، ولا يحدُّ موضوعه حداً بيناً، فيقع فيما لا يقع فيه الكرام الكاتبون. قال المؤلف في (ص 34): "ولعل أبا بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - إنما يشير إلى ذلك الرأي حينما قال في خطبته التي سبقت الإشارة إليها: لا بد لهذا الدين ممن يقوم به". صدرت هذه المقالة من أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في خطبته بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبويع عقبها بالإمارة العامة، وتسمّى خليفة، وسار في حكومته

على منهج مطابق لمقاصد الشريعة، فالظاهر الجليّ أن مقالته إنما تفسر بمن يبايع على أن يحرس الدين، ويقيم مصالح الدنيا، ويراعي في أحكامه نصوص الشريعة وقواعدها العامة. أما الحكومة الاستبدادية أو البلشفية وما شاكلها، فما كان لأبي بكر الصديق أن يعدها فيما يقوم بدين الله. وسنبحث بعد هذا في شكل الحكومة الذي لا يخالف مقصد الشريعة من إقامة الخلافة. قال المؤلف في (ص 34): "ولعل الكتاب الكريم ينحو ذلك المذهب أحيانا". يريد المؤلف: أن القرآن ينحو نحو ذلك الرأي، وهو أنه لا بد لكل أمة من نوع ما من أنواع الحكم، قال هذا بعد أن فصل أشكال الحكومة إلى دستورية واستبدادية، وجمهورية وبلشفية، وغير ذلك. وليس بالعجيب من المؤلف أن يزعم أن القرآن يذهب إلى إقامة حكومة ما، وسواء بعد ذلك أن تكون دستورية أو استبدادية، جمهورية أو بلشفية، وغيرها، فإنه سيجابهك في غير خجل بأن الخطط السياسية من خلافة وقضاء وغيرهما لا شأن للدين بها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم. فعلى فرض أن يكون زمام أمرنا في يد المؤلف ومن يشاكله في التفكير، ويقع اختيارهم على شكل الحكومة البلشفية، فإن القرآن -بمقتضى زعم المؤلف- يأذن لنا بأن نمد لهم رقابنا خاضعين، ونكون لحكومتهم البلشفية أو اللادينية من الخادمين!! قال المؤلف في (ص 35): "إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة، كان صحيحاً ما يقولون من أن إقامة الشعائر الدينية، وصلاح الرعية، يتوقفان على الخلافة، بمعنى الحكومة،

في أي صورة كانت الحكومة، ومن أي نوع: مطلقة، أو مقيدة، فردية، أو جمهورية، استبدادية، أو دستورية، أو شورية، ديمقراطية، أو اشتراكية، أو بلشفية". لا يحق لعالم شرعي أن يقسم الحكومات إلى أقسام يذكر فيها المطلقة والمستبدة والبلشفية، ويجعلها من الأشكال التي يصح حمل كلام الفقهاء في الإمامة والخلافة عليها. أما المطلقة، فكل من ينتمي للإسلام يعلم أن الحكومة الإسلامية مقيدة بقانون كتاب الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له، وأطيعوا (¬1) ". وأما المستبدة، فينبذها وراء ظهورنا قولهُ تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، والفقهاء يتلون هذه الآية، ويقررون قاعدة الشورى، ويبحثون عن أسرارها بما فيه كفاية. وأما البلشفية، فإنها مذهب قائم على إبطال الملكية الفردية، وجعل الزراعة والصناعة والتجارة مشاعة بين الناس، وأن يجري هذا التقسيم بمقتضى قانون عام، ثم هي ترمي إلى قلب نظم سائر الحكومات أنَّى كانت. وهذا المبدأ الذي يناقض مبادئ الإسلام، يبرأ الفقهاء إلى الله من أن يكون شكلاً للحكومة الإسلامية، ويعدون تأويل كلامهم في الإمامة والخلافة -على صحة إرادة هذا الشكل ونحوه- رمياً للكلام على غير روية، وطعناً ¬

_ (¬1) "مسلم" (ج 6 ص 15).

شكل حكومة الخلافة

في صحة مداركهم وأمانتهم العلمية. * شكل حكومة الخلافة: أرأيت المؤلف كيف أخرج الخلافة في تلك الصورة المنكرة، وأخذ يزدري بها، ويتمضمض بسبابها، ثانياً عطفَه عن النظر إلى حقيقتها التي رسمتها الشريعة، وضرب لها الخلفاء الراشدون بسيرتهم القيمة أحسن مثال. وإليك هذه الحقيقة خالصة مطمئنة؛ لتعلم أنها قائمة على حكمة عالية، وسياسة عادلة: يقرر جمهور أهل العلم في شروط الخليفة: أن يكون بالغاً في العلم رتبة الاجتهاد، وأن يكون ذا رأي وخبرة بتدبير الحرب والسلم، وأن يكون شجاعاً لا يرهب الموت الزؤام فما دونه، وأن يكون عادلاً لا تأخذه في الحق لومة لائم. وتُعرف مزية العدل باختبار سيرته، فيما كان يتولاه من أعمال قبل منصب الخلافة، أو بما تدل عليه التجارب والمشاهدة الطويلة من استقامته، وشرف همته، وإنكاره ما يفعل الظالمون بغيرة وحماسة. ومن الأسس التي تقوم عليه الخلافة الشرعية: فريضة الشورى؛ بحيث لا يقدم الخليفة على أمر حتى يلقيه بين يدي أهل الحل والعقد، وتتناوله الآراء من كل جانب، ليتبين الرأي الراجح، ويذهب في سياسته على بينة وروية. ولم يقف الإسلام عند تكليف الخليفة بإقامة فريضة الشورى، فأقبل على الأمة، ووضع في عنقها واجب مراقبة الخليفة ورجال دولتهم؛ لتقويمهم إذا انحرفوا، وإيقاظ عزمهم إذا أهملوا. تحققت تلك الشروط من علم، وعدالة، وشجاعة، وحكمة رأي في

بعض الخلفاء، وأخذوا أنفسهم بشريعة الشورى، وفتحوا باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وجه الأمة بصدق وإخلاص، وكان بين يدي الأمة أعدل قانون أساسي، وهو كتاب الله، وأصدق بيان يفصل مجمله، وهو سنّة رسول الله، فلا الخليفة يستبد فتأخذه العزّة بالإثم، ولا الأمة ترهب سطوته فتحجم عن أمره ونهيه. قال الإمام الغزالي: الخلفاء - رضي الله عنهم - يحبون الردّ عليهم، ولو كانوا على المنابر، فقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يخطب: أيها الناس! من رأى منكم فيّ اعوجاجاً، فليقوّمه. فقام له رجل وقال: والله! لو رأينا فيك اعوجاجاً، لقوّمناه بسيوفنا. فقال: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه. وليس في الشريعة ما يمنع الخليفة أن يفوّض جانباً من شؤون الأمة إلى وزير ذي علم ورأي وشجاعة وعدل، فيمنحه ما كان له من تدبير وتنفيذ. قال الماوردي في "الأحكام السلطانية" (¬1) عند البحث عن وزارة التفويض: "هي أن يستوزر الإمام من يفوِّض إليه تدبير الأمور برأيه، وإمضائها على اجتهاده، وليس يمتنع جواز هذه الوزارة، قال الله تعالى حكاية عن نبيه موسى - عليه السلام -: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29 - 32]، فإذا جاز ذلك في النبوة، كان في الإمامة أجوز، ولأن ما وكِّل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا باستنابة، ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصح في تنفيذ الأمور من تفرّده بها. ¬

_ (¬1) (ص 18) مطبعة السعادة، سنة 1327 هـ.

ثم ذكر لهذه الوزارة شرطين: أحدهما: يختص بالوزير، وهو مطالعة الإمام بما أمضاه من تدبير، وأنفذه من ولاية وتقليد. والثاني: يختص بالإمام، وهو أن يتصفح أفعال الوزير، وتدبيره الأمور؛ ليقر منها ما وافق الصواب، ويستدرك ما خالفه" (¬1). ولأهل الحل والعقد أن يطالبوا الخليفة بهذه الاستنابة، متى رأوا المصلحة قاضية بها. ولا فرق بين أن يكون المستناب واحداً، أو متعدداً. فشكل بعض الحكومات القائمة على خليفة ووزراء ومجلس نيابي يجري انتخابه تحت ظلال الحرية التامة، لا يخالف الشكل الملائم للخلافة الحقيقية بحال، وقد كان السلطان سليمان ابن السلطان سليم في أوائل المئة العاشرة، رتّب قانوناً "استعان فيه بالعلماء العاملين وعقلاء رجال دولته، وجعل مداره على إناطة تدبير الملك بعهدة العلماء والوزراء، وتمكينهم من تعقب الأمراء والسلاطين إن حادوا، وذلك أن ملك الإسلام مؤسس على الشرع الذي من أصوله وجوب المشورة وتغيير المنكر، والعلماء أعرف بالنيابة ومقتضيات الأحوال، فإذا اطّلع العلماء والوزراء على شيء يخالف الشريعة والقانون الخادم لها، فعلوا ما تقتضيه الديانة من تغيير المنكر بالقول أولاً، فإن أفاد، حصل المقصود، وإلا، أخبروا أعيان الجند بأنّ وعظهم لم ينفع، وبيّن في القانون المذكور ما يؤول إليه الأمر إذا صمم السلطان على أن ينفذ مراده، وإن خالف المصلحة، وهو أن يُخلع، ويُولّى غيره من البيت الملكي، وأخذ على ذلك العهود والمواثيق من العلماء ووزراء الدولة بمقتضى هذا القانون ¬

_ (¬1) (ص 20) منه.

في الاحتساب على سيرة السلاطين كمنزلة وكلاء العامة في أوروبا" (¬1). ولا يصح أن تكون الخلافة في هيئة تؤلف لأجل مسمّى، ثم تنفرط؛ فإن نصوص العلماء متضافرة على أن يكون الخليفة فرداً يستمر في رياسته ما دام حائزاً على رضا الأمة، بعيداً عن الاستبداد في الحكم. قال الأستاذ الشيخ محمد عبده (¬2) في كتاب: "الإسلام والنصرانية" (¬3): "فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة. وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كثير، فلا بد أن تكون في واحد، وهو السلطان أو الخليفة". ومن أدلة وضع الخلافة في فرد: أن الأحاديث الصحيحة تسمّي صاحب هذه الرياسة: إماماً، وخليفة، وأميراً، وهذه الألفاظ لا يستقيم حملها على جماعة إلا أن تذهب في فهمها على غير الطريق المعروف من لسان العرب، وأوضح من هذا دلالة حديث: (¬4) "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه". وقد يبلغ العدل والحرية أشدهما لعهد الحكومة التي يرأسها فرد ثابت إذا لم تكن بيدها السلطة التشريعية، وتكون مقيدة في تنفيذها بنظام الشورى، ¬

_ (¬1) مقدمة "أقوم المسالك" للوزير خير الدين (ص 34) طبع الإسكندرية، 1299 هـ. (¬2) محمد عبده بن حسن خير الله (1266 - 1323 هـ = 1849 - 1905 م) مفتي مصر. ولد في "شنرا" من قرى الغربية، ودفن القاهرة. (¬3) (ص 69). (¬4) "صحيح مسلم" (ج 6 ص 23).

وجه الحاجة إلى الخلافة

ولا تتصرف إلا تحت مراقبة الأمة. فالخليفة كملك دستوري، ولكنه يعين باختيار أهل الحل والعقد، ويحمل على عاتقه تبعة ما تزلّ به السياسة من اهتضام حق، أو إضاعة مصلحة. وسنزيد البحث في شكل الخلافة بسطة، حتى يعرف القارئ أن المؤلف لم يتفقه في كتب العلماء الذين ينظرون في الشريعة من وجهتها الاجتماعية والسياسية. * وجه الحاجة إلى الخلافة: قال المؤلف في (ص 35): "الواقع المحسوس الذي يؤيده العقل، ويشهد به التاريخ قديماً وحديثاً: أن شعائر الله تعالى، ومظاهر دينه الكريم لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء: خلافة، ولا على أولئك الذي يلقبهم الناس خلفاء، والواقع أيضاً: أن صلاح المسلمين في دنياهم لا يتوقف على شيء من ذلك، فليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا، ولا لأمور دنيانا، ولو شئنا لقلنا كثير من ذلك، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام، وعلى المسلمين، وينبوع شر وفساد". لا يرقب المؤلف في الحقائق الشرعية إلاًّ ولا ذمة، يصوّرها بقلمه كيف يشاء، ثم يقع في عَرْضها بأشد من هجاء الحطيئة. يصور الخلافة بعرش يجلس عليه مستبد غشوم، حواليه وحوش ضارية، ورماح مسنونة، وسيوف مصلتة، وهو إنما أعد هذه القوة المسلحة لسفك الدماء الطاهرة، والفتك بالنفوس البريئة، وليست الرعية تحت سلطته القاهرة إلا عبيداً يعتقدون أنه يستمد سلطانه من سلطان الله، ويسخّرهم في شهواته كما تسخر الأنعام.

يخترع المؤلف هذه الصورة المكروهة، ويجعلها النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء خلافة. ثم يقول متبرئاً منها: فليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا، ولا لأمور دنيانا، وإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة وينبوع شر وفساد. الخلافة حقيقة شرعية، وأمر لا غنى للمسلمين عنه، ما داموا يطمحون إلى عزّ مكين، وحياة مستقلة، وقد تسنى فيما سلف أن تكون الشعوب الإسلامية كلها تحت راية واحدة كحالها لعهد الدولة الأموية، ثم انقسمت إلى دولتين مستقلتين أيام ذهب عبد الرحمن الداخل (¬1) إلى الأندلس، وأقام دولة أموية أخذت لقب الخلافة إزاء الخلافة العباسية بالمشرق، فكان لدولة الإسلام في العهد الأول، ولدولتيه في العهد الثاني من القوة والسطوة، ما قطع مطامع الدول القوية أن تبسط يدها على قيد شبر من بلاد الشرق، ولما تقطعت أوصال الخلافة بالأندلس كما قال شاعرهم: قام بكلِّ بقعةٍ مَليكُ ... وصاحَ فوق كلِّ غصنٍ ديكُ اغتنم العدو ذلك التقاطع فرصة، وأخذ ينقص البلاد من أطرافها، حتى استنجد ملوك الطوائف بسلطان مراكش يوسف بن تاشفين (¬2)، وباتفاقهم معه تحقق شيء من المعنى الذي يراد من الخلافة، فهاجم العدو، وردّه ¬

_ (¬1) عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان (113 - 172 هـ = 731 - 788 م) الملقب بصقر قريش، ومؤسس الدولة الأموية في الأندلس، ولد في دمشق، وتوفي بقرطبة، ودفن في قصرها. (¬2) يوسف بن تاشفين الصنهاجي (410 - 500 هـ = 1019 - 1106 م) سلطان المغرب الأقصى، وباني مدينة مراكش ولد في صحراء المغرب وتوفي بمراكش.

على عقبه خاسراً. ولما تضعضعت دولة المرابطين بمراكش، وشغلوا بحروبهم مع الموحدين، اضطربت عليهم الأندلس، ورجعت دولتها إلى افتراق، فبسط العدو إليها يده انتهازاً لفرصة التفرق، حتى أصبح صاحب دولة مراكش عبد المؤمن بن علي الذي يقول فيه الشاعر: ماهزَّ عطفيه بين البِيض والأَسَلِ ... مثلُ الخليفة عبدِ المؤمن بنِ علي فأجاز إلى الأندلس، وأخذ يحارب العدو، وجرى على أثره ابنه يوسف، ثم ابنه يعقوب، حتى حفظوا من عزّ الإسلام ما أضاعه تفرق البلاد تحت رايات شتى، ولم تسقط الأندلس إلا حين فقدت الوحدة السياسية، ولم يكن بالقرب منها دولة ذات قوة وعزم تنقذها من ذلك الخطر المحيط. ولو أن المتأخرين من سلاطين آل عثمان أعطوا للخلافة شيئاً من حقوقها، وراعوا ما أمر الله به من وسائل استقامتها، لما انفرط عقد هذه الممالك الإسلامية، وأصبح كل قطعة منها تحت سلطة أجنبية، تستبد عليها في حكمها، وتتصرف في رقاب شعوبها وأموالهم كيف تشاء. فالخلافة لا تريد على ما يسمّى دولة، إلا أنها رابطة سياسية تجعل شعوباً مختلفي العناصر والقومية يولّون وجوههم شطر رايتها بعاطفة من أنفسهم واختيار. ومن هذه الجهة ينظر إليها بغاة الاستعمار بعين عابسة، ويحاول الغِرُّ الذي ينخدع ببهرج آرائهم أن يطوي رايتها، ويمحو آثرها. وأما قوله: "وإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد"، فكلمة هو قائلها، والتاريخ من ورائه محيط.

آثارها الصالحة

* آثارها الصالحة: الخلافة قامت بدعوة إلى دين القيّمة، ومدت إلى ظل الإسلام في أقاليم بعيدة ما بين المناكب، فأصبحت كلمته العليا، وأصبح المسلمون في عزّ شامخ، وحياة راضية. فتحت الخلافة أوطاناً كثيرة، فأذاقتها حلاوة العدل بعد أن كانت تتجرع غصص الجور والاستعباد، وضربت فيها بأشعة التوحيد الخالص بعد أن كانت تتخبط في ظلمات الحيرة والضلال، وألبستها حلل الآداب الراقية بعد أن كانت منغمسة في عادات وتقاليد تشمئز منها النفوس، وتمجها الأذواق السليمة، ونسقتها بفضل الإسلام في تآلف واتحاد بعد أن كانت في تخاذل وشقاق. أفلم يكن قسم عظيم من آسيا دافريقية يصلى نار الوثنية بكرة وعشياً، ويتبرج في مظاهر الهمجية تبرج الجاهلية الأولى؟! فكان من أثر الخلافة، وما قامت به من الدعوة، أن قلبت تلك النار إلى إيمان صادق، ووضعت مكان الخلاعة والهمجية حياء ونظاماً. أينكر المؤلف أن استقامة رجال الخلافة، وسمعة سيرتهم العادلة كانت كالدعاية تتقدمهم إلى تلك الممالك، فلم يجدوا في فتحها ما تجده الفئة القليلة عند لقاء الفئة الكثيرة من طول المصابرة والثبات.؟! ولا أحسبه يعدّ ثوب الإسلام الذي لبسته تلك الأمم من يد الخلافة نكبة، ولا دخولها تحت راية التوحيد شراً وفساداً. وليعمدْ إن شاء إلى حكومة عمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز، ثم إلى أحدث الحكومات نظاماً، وأخفها على قلبه راية، ويعقد بينهما موازنة في الوجوه التي تتفاضل بها الدول؛

من عدل، وحرية، ومساواة، ثم ليتحدث معنا بضمير لا يحابي الشهوات، وكلمة لا تبخس رجال الإسلام حقهم، فلا جرم أن يعود وقتئذٍ عن حكمه القاسي على الخلافة، ويمحوه بالماء الذي يتقطر من جبينه خجلاً. يقول المؤلف: كانت الخلافة ولم تزل نكبة، وينبوع شر وفساد، وجعل يلتقط من أيام خمول بعض الخلفاء، أو سوء سيرتهم ما يضعه سنداً لهذه المقالة المطلقة، اختار أن يكون كاتب سيئات الخلافة؛ ليقضي حاجة في نفسه، ولكن بعض من لا ينتمي إلى الإسلام من علماء الغرب، كانوا يكتبون حسناتها بقلم منصف خبير. ومن كلماتهم الحافظة لشيء من محاسن الخلافة: قول (أدُلف فريدريك فون شاك) في كتاب: "الشعر والفنون الجميلة عند العرب في إسبانيا وصقلية": بينما أوروبا كادت تكون خالية من المدارس، إذ لم يكن يعرف القراءة والكتابة فيها إلا الكهنة، كان العلم منتشراً في الأندلس انتشاراً عاماً، غير أن الحَكَم (¬1) -الخليفة الأموي- رأى أن الحاجة داعية إلى نشر العلم بطريق أوسع، فأنشأ في عاصمة ملكه سبعاً وعشرين مدرسة لتعليم أبناء الفقراء مجاناً، ولقد كانت سيول الشبان تنهمر على مجامع العلوم: قرطبة، وإشبيلية، وطليطلة، ويلنسية، والمرية، ومالقة؛ حيث يتلقون العلوم، ويتسابقون في مضمارها، وكان العلماء والمتعلمون من جميع أنحاء العالم الإسلامي يتقاطرون على هذه المدارس التي ذاعت شهرتها حتى في بلاد آسية". ¬

_ (¬1) الحكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله (302 - 366 هـ = 914 - 976 م) خليفة أموي أندلسي، ولد في قرطبة، وتوفي بها. قيل؛ إن مكتبته بلغت أربع مئة ألف مجلد.

لماذا خلع المؤلف من قلمه لجام الإنصاف، وجحد ما للخلافة من مآثر حميدة، وحاول أن يحثو عليها من كلمات هجائه ما يخفيها على أعين أبنائنا النجباء؟ ذلك ما ندع جوابه لقارئ كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، بعد أن يسير غوره، ويشهد الروح الذي يموج في جسم ذلك الكتاب من رأسه إلى عقبه. قال المؤلف في (ص 36): "منذ منتصف القرن الثالث الهجري، أخذت الخلافة الإسلامية تنقص من أطرافها، حتى لم تعد تتجاوز ما بين لابتي دائرة ضيقة حول بغداد". ومن بعد أن حكى كيف صار أكثر ممالكها إلى ملوك الطوائف، قال: "حصل ذلك، فما كان الدين أيامئذٍ في بغداد مقر الخلافة خيراً منه في غيرها من البلاد التي انسلخت عن الخلافة، ولا كانت شعائرها أظهر، ولا كان شأنه أكبر، ولا كانت الدنيا في بغداد أحسن، ولا شأن الرعية أصلح". ما كان للمؤلف أن يتنازل إلى هذا الدرك الأسفل من المغالطة؛ إذ لم يدَّع أحد قط صلاح شأن الرعية، وصيانةَ شعائر الدين مربوطان باسم الخلافة، وأن لقب الخليفة كالرقية النافعة يذهب به كل بأس، أو الدعوة المستجابة ينزل عندها كل خير، والذي نعلمه، ويعلمه أشباه العامة من المسلمين: أن الخلافة لا تريك آثارها، وتمنحك ثمارها من منعة وعزّة وعدالة، إلا إذا سارت على سنّة العزم في الأمور، والحكمة في السياسة.

الكتاب الثاني الحكومة والإسلام

الكتاب الثاني الحكومة والإسلام

الباب الأول نظام الحكم في عصر النبوة

الكتاب الثاني الحكومة والإسلام البَابُ الأَوَّلُ نظام الحكم في عصر النبوة * ملخصه: زعم المؤلف أنه بحث عن تاريخ القضاء زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلاحظ أن حاله لا يخلو من غموض وإبهام، واعترف بأن في التاريخ الصحيح شيئاً من قضائه - عليه السلام -، ولكنه يقول: إن ذلك المقدار لا يبلغ أن يعطي صورة بيّنة لذلك القضاء، ولا لما كان له من نظام إن كان له نظام، ونقل ما روي في ولاية عمر، وعلي، ومعاذ القضاءَ زمن الرسالة، فذهب إلى أن ما روي في ولاية عمر إنما هو استنتاج، وأن في روايات ولاية علي ومعاذ اختلافاً يسوّغ له أن يستنتج ما قاله من أنه لا تتيسر الإحاطة بشيء كثير من أحوال القضاء في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم انفلتَ وكاءُ عقيدته، وصرح بأنه وجد عند البحث في نظام القضاء في عصر النبوة: أن غير القضاء أيضاً من أعمال الحكومات ووظائفها الأساسية لم يكن في أيام الرسالة موجوداً على وجه واضح لا لبس فيه، وتصامم عن صوت التاريخ الصحيح وهو يزجره أن يقول على رسول الله زوراً، فقال: إن الباحث المنصف يستطيع أن يذهب إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعين في البلاد

النقض - بحث القضاء في عهد النبوة

التي فتحها الله له ولاة لإدارة شؤونها وتدبير أحوالها. وتعدى إلى ما بعد القضاء والولاية من العمالات التي تتصل بالأموال ومصارفها، وحراسة الأنفس والأموال، وغير ذلك مما لا يكمل معنى الدولة إلا به، ومسح عليه من صبغة اللبس والإبهام ما اتخذه ذريعة إلى مخادعة السذّج من قراء كتابه، وجرّهم إلى الاعتقاد بأن الحكم في زمن النبوة كان جارياً على غير نظام، وختم الباب بدعوى أن تفكيره في حال القضاء وغيره من أعمال الحكم والولايات قد انتهى به إلى مجال مشتبه حائر، فإذا هو إزاء عويصة أخرى، ومعضلة كبرى، وهي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان صاحب دولة سياسية، ورئيس حكومة؛ كما كان رسول دعوة دينية، وزعيم وحدة دينية أم لا؟ * النقض - بحث القضاء في عهد النبوة: قال المؤلف في (ص 39): "لاحظنا إذْ كنا نبحث عن تاريخ القضاء زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن حال القضاء في ذلك الوقت لا يخلو من غموض وإبهام يصعب معهما البحث، ولا يكاد يتيسر معهما الوصول إلى رأي ناضج، يقرّه العلم، وتطيب به نفس الباحث". عرف الذين أوتوا العلم أن القضاء حقيقة شرعية، فرجعوا في تقرير أحكامه ورسم خطته إلى أصول الشريعة بأجمعها، فأحكموا صنعه، وأقرّوا عين العدالة بما فصّلوه من أحكام وآداب ونظام، ولكن المؤلف يريد اصطياد السذج من قراء كتابه، واستهواءهم "إلى غاية ذلك المجال المشتبه الحائر"، فلفت قلوبهم عن تلك الأصول القائمة، وأخذهم إلى تعرُّف حال القضاء مما بحث عنه في هذا الباب، وجنح إلى إنكاره، وهو توليته - عليه

العرب والسياسة الشرعية

الصلاة والسلام - لأشخاص يفصلون بين الناس فيما شجر بينهم، ولهذا فاتحهم بقوله: لاحظنا إذ كنا نبحث عن تاريخ القضاء زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... إلخ. وإذا شئت كلمة حق تنفض من حولك غبار هذا التشكيك الخاسر، فاربأ بنفسك عن الإذعان لغير الحجة، وألق سمعك وأنت شهيد. * العرب والسياسة الشرعية: من ذهب في التاريخ إلى الوقوف على حالة العرب النفسية، قبل أن تطلع عليهم شمس الإسلام، أو حين ابتدأت ترمي بأشعتها في قلوبهم، وجد طباعهم كانت تأبى لهم أن يخضعوا لسلطان، أو يدخلوا تحت نظام، كما قال النعمان (¬1) يصفهم لكسرى (¬2): "وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم، وينقادون إليهم بأزمَّتهم، وأما العرب، فإن ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكاً أجمعين". ومما ينبهك على ما ملأ نفوسهم من الغلوّ في العظمة والتنافس في السيادة: كثرةُ ما كان ينعقد بينهم من المفاخرات والمنافرات، ثم ما تراه في أشعارهم من الفخر والحماسة، ولشدة ما يصف به الرجل نفسه من الحول والقوة وعزّة القبيلة، يخيل إليك أنه مَلِكُ يجر وراءه جيشاً عرمرماً. تجد هذه الروح سارية في نفس كل من له مكانة في قومه، حتى إن ¬

_ (¬1) النعمان بن المنذر (... - نحو 15 ق. هـ = ... - نحو 608 م) من أشهر ملوك الحيرة، نفاه كسرى إلى خانقين، وتوفي بها. (¬2) كسرى أبرويز، ملك ساساني (590 - 628 م).

الرجل لا ينال شيئاً من الرياسة في قومه، إلا بالإحسان والكرم، ولين الجانب، ومناصرتهم، ولو في الباطل، ولا يكاد يبسط يده لكفهم عن الظلم، وعقابهم على عمل منكر، مخافة أن ينفضُّوا من حوله، ويضربوا برياسته في وجهه. قضت حكمة مبدع الكون أن يطلع هلال الإسلام بين هؤلاء الأقوام الذين حاولوا أن يكونوا ملوكاً أجمعين، وقضت سنّته أن لا تنسلخ الأمم من طبائعها دفعة، فكان من مقتضى حكمته أن يأخذهم الدين الحق إلى هدايته، ويبيِّن لهم قوانينه على طريق المطاولة والتدريج: فاتحهم بالدعوة إلى التوحيد ومكارم الأخلاق وبعض العبادات، ولما أنسوا بشيء من الأوامر والنظم الدينية، طفق ينتقل بهم في أحكام المعاملات والجنايات والسياسات، ويشرّع لهم في خلال ذلك أصولاً تضم بين جوانحها أحكام جزئيات لا يحيط بها حساب، حتى نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. ومن الحقائق التي أكمل بها الدين، وتمت بها النعمة: رَسْمُ خطة القضاء، والإرشاد إلى مبادئه السامية. القضاء: تطبيق الأحكام على الوقائع الجزئية، وأحكام الوقائع قد قررتها الشريعة، إما بتفصيل؛ كحدي السرقة والزنا، وإما بعرضها في ضمن أصول كلية؛ ككثير من الأحكام القائمة على رعاية العرف، أو المصالح المرسلة، على ما سنلقي عليكم بيانه في أمد قريب. وأما تطبيق الأحكام، فيرجع النظر فيه إلى مبادئ يتوقف عليها حفظ الحقوق، ولا يخرج الحكم في قالب العدل إلا برعايتها؛ كالاستناد إلى البينات، وضرب الآجال لإقامتها، ووراء هذه المبادئ نظُم ترجع إلى تسهيل وسائل

النظر، والاحتياط في ضبطها، أو إصدار الحكم على وجه أدل على إنصاف القاضي، وأدعى لرضا المحكوم عليه؛ كتسجيل أقوال المتداعيين أو الشهود في محاضر، وتقرير الحكم ببيان مستنداته الشرعية، وإخراج نسخة منه لمن يستحقها. أما المبادئ التي هي كالأركان للعدل في القضية، فلتجدنها قائمة في دلائل الشريعة، دون أن تشذ منها كبيرة أو صغيرة، فتفقهوا فيها لعلكم تعقلون، أو اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. وأما النظم الزائدة على ما يعد ركناً للعدالة، فذلك يجيء على حسب ما يقتضيه حال الزمان والمكان، ولهذا وكّله الشارع الحكيم إلى اجتهاد القائم على منصب القضاء، فيتصرف فيه على ما يوافق المصلحة، وعلى هذا المنهج سار العلماء الذين أسلموا قلوبهم للحق، فاستنبطوا للقضاء بعض نظم اقتضاها حال عصرهم؛ كضمّ بعض أهل العلم إلى مجالس القضاء بحيث لا ينفرد القاضي بحكم دونهم؛ كما فعل أمير المؤمنين علي بن يوسف بن تاشفين (¬1)؛ فإنه "كان إذا ولّى أحد قضاته، كان فيما يعهد إليه: ألا يقطع أمراً، ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء" (¬2). قال المؤلف في (ص 39): "لا شكّ أن القضاء بمعنى الحكم في المنازعات وفضّها، كان موجوداً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما كان موجوداً عند ¬

_ (¬1) علي بن يوسف بن تاشفين (477 - 537 هـ = 1084 - 1143 م) ثاني ملوك دولة المرابطين، ولد بسبتة، ومات في مراكش. (¬2) "الاستقصى".

القضايا التي ترفع إلى الحكام نوعان

العرب وغيرهم قبل أن يجيء الإسلام". لا يرتاب مسلم في أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يتولّ فصل القضايا بين الناس من تلقاء نفسه، وإنما هو مَنْصِبٌ استمده بوحي سماوي، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]، فناط بعهدته فصل القضايا، ثم وضع في أعناق الأمة فريضة التسليم لقضائه، فقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. فيمتاز قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القضاء الذي وجد عند العرب قبل الإسلام، بأن ولايته قامت على وحي يوحى، وأن التسليم له والاعتقاد بحكمته من شرائط الإيمان بالله. فما ينبغي للمؤلف أن يقيس محكمة إلهية جاهلية، ويوحي إلى من يشاكله في ذوقه أن كليهما جارٍ على غير نظام؛ فإن وصفه لحال القضاء النبوي بالغموض والإبهام، ثم قوله: "إن كان له نظام" لا معنى له سوى إنكار أن يكون لتلك المحكمة العادلة نظام، ولقد كان هذا الإنكار أقرب إلى الصراحة من معانٍ أخرى لا تكشف قناعها إلا حين تلتقي بمن مارس لغة المرتابين، وتفقّه في لحن خطابها. * القضايا التي ترفع إلى الحكام نوعان: قال المؤلف في (ص 40): "وفي التاريخ الصحيح شيء من قضائه - عليه السلام - فيما كان يرفع إليه، ولكننا إذا أردنا أن نستنبط شيئاً من نظامه - صلى الله عليه وسلم - في القضاء، نجد أن استنباط شيء من ذلك غير يسير، بل غير ممكن؛

لأن الذي نُقل إلينا من أحاديث القضاء النبوي لا يبلغ أن يعطيك صورة بيّنة لذلك القضاء، ولا لما كان له من نظام، إن كان له نظام". الأدلة السمعية وما يتفرع عنها من نحو: القياس، والقواعد، بالغة حد الكفاية في إقامة محاكم تسير على قانون العدل، وتزن الحقوق بالقسطاس المستقيم. فإن تراءى لأحد أن الأخبار التي تقص شيئاً من القضايا التي رفعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، هي من القلة بحيث لا تعطي صورة بيّنة للقضاء في عهده، قلنا: التشريع كامل، وسيّان بعد هذا أن تكثر الخصومات لعهد الرسالة، أو تقل، تُنقل إلينا وقائعها، أو لا تنقل، على أن طبيعة ذلك العصر وروحه الاجتماعية يقتضي أن تكون الخصومات بين القوم ذات عدد يسير، وإليك كلمة تنبئك بسبب قلة ما يرفع إلى مقام الرسالة من قضايا المتخاصمين، وتؤكد لك صحة ما نبهنا عليه من أن القضاء العملي ليس وحده المرجع لتعرف حال القضاء النبوي، ومعرفة ما "له من نظام إن كان له نظام". القضايا التي ترفع إلى الحكام على نوعين: أحدهما: قضايا تنشأ عن تجاحد الخصمين، فيدّعي أحدهما ما ينكره الآخر، وهذه هي التي يحتاج فيها إلى إقامة البينات، ويمتاز فيها منصب القضاء عن منصب الفتوى. ثانيهما: قضايا يقرر فيها الخصمان الواقع، ولكنهما يجهلان وجه الحق، ولا يعلمان المحق من المبطل في نظر الشارع، والقاضي في هذا النوع بمنزلة المفتي؛ لأن الخصمين يكتفيان ببيان وجه الحق، وينصرفان عن تراض، والخصومات التي تنشب بين الجماعات المطبوعة على فضيلة الإخاء والتقوى، إنما تكون من هذا النوع القائم على عدم معرفة الحق،

وكذلك قضايا المسلمين لعهد النبوة؛ فإن أغلبها من قبيل الاستفتاء، أما المشاجرات الناشئة عن التجاحد، فنادرة جداً. قال الحافظ ابن تيمية: "ولو عدّ مجموع ما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا النوع -يعني: ما قام عن تجاحد- لم يبلغ عشر حكومات". هذا سبب قلة ما تحمله الرواية من القضايا التي رفعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتجاوزت حدّ الاستفتاء، ويضاف إلى هذا: أن أحكام الشريعة كانت تطبق بعزم وإخلاص، وهذا يقتضي بوجه خاص أن تقل القضايا المتعلقة بالجنايات، وقلة القضايا لعهد النبوة لا تجعل حال القضاء مبهمة؛ فإن الأدلة بجملتها تعطينا صورة بيّنة لسنّة القضاء الكافلة بإقامة العدل وصيانة الحقوق. قال المؤلف في (ص 40): "لاحظنا أن حال القضاء زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - غامضة ومبهمة من كل جانب، حتى لم يكن من السهل على الباحث أن يعرف هل ولّى - صلى الله عليه وسلم - أحداً غيره القضاء، أم لا؟ ". لم تكن حال القضاء في عهد النبوة غامضة ولا مبهمة، فقد أريناك أن ما بين أيدينا من الكتاب والسنّة الصحيحة يجعلنا على بصيرة من سنّته المتبعة لذلك العهد، وليست الشواهد على هذه السنن بالشيء القليل، حتى تسعه هذه الورقات المقصود منها تنبيه سليم الفطرة كي لا يفتتن ببهرج ذلك الكتاب وزخرف قوله غروراً. وسيمرّ نظرك على أمثلة من سنن القضاء الإسلامي في غير هذا المقام. ومن السهل على الباحث الذي يذهب إلى الحقائق من طرقها المعقولة، أن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يولّي على كل قوم مسلمين من يدبر أمرهم، ويقضي فيما شجر بينهم، ولو لم يرد في التاريخ إلا أسماء الأشخاص الذين قلدهم

البحث في تولية معاذ، وعلي، وعمر - رضي الله عنهم - القضاء

الإمارة على البلاد المفتوحة، لكان في نبئه عبرة لأولي الأبصار، وبينة قائمة على أنه لا يترك القوم في جاهلية عمياء دون أن يأخذهم كما يأخذ أهل المدينة بأحكام شريعته السمحة، ونظمها القيمة. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد يتحاكمون إلى الذي أمّر عليهم، ويقبلون خبره، ويعتمدون عليه". * البحث في تولية معاذ، وعلي، وعمر - رضي الله عنهم - القضاء: قال المؤلف في (ص 40): "هناك ثلاثة من الصحابة يعدّهم جمهور العلماء ممن ولي القضاء في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ونقل بعد هذا ما حكاه رفاعة بك (¬1) في "نهاية الإيجاز"؛ من أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلّد القضاء لعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، ومعاذ ابن جبل. ثم قال المؤلف: "وينبغي أن يضاف إليهم: أَبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -؛ فقد كان في عمله على ما يظهر نظيراً لمعاذ بن جبل سواء بسواء". وقال المؤلف بعد هذا: "أما أن عمر - رضي الله عنه - تقلد القضاء في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرواية غريبة من الوجهة التاريخية، ويظهر أنها إنما أخذت بطريق الاستنتاج". ثم أورد الأثر الذي استند إليه صاحب "تخريج الدلالات"، ونقله عنه صاحب "نهاية الإيجاز"، وهو ما رواه الترمذي من أن عثمان قال لعبد الله بن عمر: "اذهب فاقضِ بين الناس. قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين، قال: وما تكره من ذلك، وقد كان أبوك يقضي؟ قال: إن أبي كان يقضي، فإن ¬

_ (¬1) رفاعة رافع الطهطاوي (1216 - 1290 هـ = 1801 - 1873 م) من علماء مصر في العصر الحديث، ولد في طهطا، وتوفي بالقاهرة.

أشكل عليه شيء، سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن أشكل على رسول الله، سأل جبريل، وإني لا أجد من أسأله". فالخبر صريح في أن عمر بن الخطاب كان يتصدى للقضاء في زمن النبوة، ولا يحق بعد قوله: "فإن أشكل عليه شيء، سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أن يذهب إلى أن تولّي عمر للقضاء كان مفهوماً بطريق الاستنتاج. ثم لا ندري ما وجه الغرابة في تولي عمر بن الخطاب القضاء لعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ ليس في يد المؤلف دليل تاريخي أو نظري يمنع من قبول ما رواه الترمذي في "سننه"، وقد تلقى أهل العلم هذا الخبر بالقبول، قال القاضي أَبو بكر ابن العربي في "عارضة (¬1) الأحوذي": "قول عثمان لعبد الله بن عمر: إن أباك كان قاضياً، يعني: لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يدل على أن ذلك كان في حياته؛ ولو أراد بذلك الخلافة، لقال له: إن أبي كان خليفة ليس فوقه متعقب عليه، فكيف يحتج به في قضاء متعقب مترقب؟ ". وليس في التاريخ ما يقف في سبيل هذه الرواية، بل رأينا فيه ما يشد في عضدها، وهو أن عمر بن الخطاب كان يفتي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، روى ابن سعد في "طبقاته" (¬2) عن ابن عمر: "أنه سئل: من كان يفتي الناس في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أبو بكر، وعمر، وما أعلم غيرهما". وروي عن القاسم بن محمد (¬3) أنه قال: "كان أَبو بكر، وعمر، وعثمان، ¬

_ (¬1) في خزانتنا نسخة مخطوطة منه. (¬2) (ج 2 ص 99). (¬3) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (37 - 107 هـ = 675 - 725 م) أحد الفقهاء السبعة في المدينة المنورة، ولد فيها، وتوفي بقديد بين مكة والمدينة.

وعلي يفتون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وقال: "كان الذين يفتون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة نفر من المهاجرين، وثلاثة من الأنصار: عمر وعثمان وعلي، وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت". (¬1) وقال: "كان أصحاب الفتوى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عمر، وعلي، وابن مسعود (¬2)، وزيد، وأبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري (¬3) ". فقول التاريخ: إن عمر بن الخطاب كان مفتياً، يؤيد ما رواه الترمذي من أنه كان قاضياً؛ فإن القضايا التي يقصد برفعها معرفة المحق من غيره يسمّى فصلها: قضاء؛ كما يصحّ أن يسمّى: فتوى، ولم يبق سوى القضايا الناشئة عن التجاحد، وقد عرفت أنها نادرة الوقوع، فالذي يدل على أن لعمر بن الخطاب فصلَ ما كان من هذا النوع في غير حضرة الرسول - عليه السلام - حديث الترمذي، فيتوافق التاريخ والرواية في تسميته قاضياً ومفتياً. ومما يستأنس به في هذا المقام: أنهم كانوا يعدون عمر من ذوي المكانة في القضاء، وقالوا: "قضاة هذه الأمة: عمر، وعلي، وزيد، وأبو موسى" (¬4). ¬

_ (¬1) (ج 2 ص 109). (¬2) عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي (. . . - 32 هـ =. . . - 653 م) صحابي جليل من أهل مكة، ومن السابقين إلى الإسلام. وتوفي بالمدينة المنورة، وله 848 حديثاً. (¬3) عبد الله بن قيس، من بني الأشعر (21 ق. هـ - 44 هـ = 602 - 665 م) صحابي جليل، ومن الولاة الشجعان. ولد في زبيد باليمن، وتوفي بالكوفة، له 355 حديثاً. (¬4) "إعلام الموقعين" (ج 1 ص 18).

وإن أبا بكر الصديق قلّده القضاء، ومكث سنة لم يتحاكم إليه اثنان (¬1). ثم حكى المؤلف ما نقله صاحب "نهاية الإيجاز" عن تخريج الأدلة السمعية؛ من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن، وهو شاب؛ ليقضي بينهم، مستدلاً على ذلك برواية أبي داود (¬2)، ونقل المؤلف بعد هذا ما جاء في "صحيح البخاري" من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث علياً مكان خالد (¬3) إلى اليمن ليقبض الخمس، وقدم بسعايته إلى مكة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بها. ثم نقل عن برهان الدين الحلبي (¬4): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث علياً -كرم الله وجهه- في سرية إلى اليمن، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وهي السرية الأولى، والسرية الثانية بعث فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً - كرم الله وجهه - إلى بلاد مذحج من أرض اليمن، فغزاهم، وجمع الغنائم، ثم رجع فوافى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة قدمها لحجة الوداع. ثم انتقل إلى الحديث عن معاذ بن جبل، فحكى ما نقله صاحب "نهاية ¬

_ (¬1) "منهاج السنة" لابن تيمية (ج 4 ص 138). (¬2) سليمان بن الأشعث الأزدي (202 - 275 هـ = 817 - 889 م) إمام الحديث في عصره. أصله من سجستان، وتوفي بالبصرة. له كتاب "السنن"، وهو أحد الكتب الستة. (¬3) خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي (. . . - 21 هـ =. . . - 642 م) صحابي جليل، وسيف الله. كان من أشراف قريش في الجاهلية، وتوفي في حمص. (¬4) علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي، نور الدين بن برهان الدين (975 - 1044 هـ = 1567 - 1635 م) من المؤرخين الأدباء، أصله من حلب، وولد وتوفي بمصر. من مؤلفاته "إنسان العيون في سيرة المأمون". ويعرف بالسيرة الحلبية.

الإيجاز" أيضاً عن كتاب "تخريج الأدلة السمعية"، من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسله قاضياً إلى الجند من اليمن، يعلّم الناس القرآن وشرائع الإسلام، ويقضي بينهم، وجعل له قبض الصدقات من العمال الذين باليمن. ثم نقل ما رواه البخاري؛ من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا موسى، ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وقال لهما: "يسرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا". ونقل بعد هذا حديث البخاري الذي يتضمن: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: " إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فإذا جئت، فادعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله محمداً رسول الله ... إلخ". ثم نقل ما أورده زيني دحلان (¬1) في "السيرة النبوية"؛ من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وروى ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم من حديث معاذ، الذي يتضمن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن، قال له: "كيف تقضي إذا عرض عليك قضاء؟ "، قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ "، قال؛ فبسنّة رسول الله، قال: "فإن لم تجد في سنّة رسول الله، ولا في كتاب الله؟ "، قال: أجتهد رأيي، ولا آلو. بعد أن حكى المؤلف هذه الأخبار والأحاديث. قال في (ص 44): "تلك الروايات المختلفة التي قصصنا عليك نموذجاً منها، تريك كيف يسوغ لنا أن نستنتج ما قلناه من أنه لا تتيسر الإحاطة بشيء كثير من أحوال القضاء في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وها أنت ذا قد رأيت كيف اختلفت الرواية عن حادثة واحدة بعينها، فَبَعْث علي إلى اليمن يرويه أحدهم أنه ¬

_ (¬1) أحمد بن زيني دحلان (1232 - 1304 هـ = 1817 - 1886 م) فقيه ومؤرخ، ولد بمكة، وتوفي بالمدينة المنورة. من مؤلفاته: "السيرة النبوية".

تولية للقضاء، ويرويه الآخر أنه كان لقبض الخمس من الزكاة". خير بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى اليمن، وتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - له أن لا يقضي لخصم حتى يسمع من الآخر، أخرجه الإمام أحمد بن حنبل، وأبو داود، والترمذي، ورواه ابن سعد في "طبقاته" (¬1) بثلاثة أسانيد مختلفة، وحكاه ابن عبد البر في كتاب "الاستيعاب"، (¬2) وأبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام"، (¬3) والحافظ المزي في كتاب "التهذيب" (¬4)، والحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (¬5)، وكذلك يقول المحقق الشوكاني (¬6) في حديث: "يا علي! إذا جلس إليك الخصمان ... إلخ"، أخرجه ابن حبان، (¬7) وصححه، وحسّنه الترمذي. روى أولئك الأعلام هذا الخبر، ولم يروا به وجهاً للريبة، مع أنهم أسبق الناس إلى نقد الأخبار، ولا سيما ما يمس بأمر ديني، أو يحتوي على حديث نبوي. ¬

_ (¬1) (ج 2 ص 100). (¬2) (ج 2 ص 499). (¬3) (ج 2 ص 206). (¬4) في ترجمة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬5) (ج 8 ص 48). (¬6) انظر: "نيل الأوطار" (ج 8 ص 52). (¬7) محمد بن حبّان، أَبو حاتم البستي (... - 354 هـ = ... - 965 م) من كبار المحدثين، ولد في "بست" من بلاد سجستان، وتوفي بها. من تصانيفه: "المسند الصحيح".

وإذا رمت تحرير الغاية التي بعث لها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فإليك التحرير: اتفق المحدثون والمؤرخون على: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن مكان خالد بن الوليد. ففي "صحيح الإمام البخاري" عن البراء بن عازب (¬1): "بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع خالد بن الوليد إلى اليمن، قال: ثم بعث علياً بعد ذلك مكانه. فقال: مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك، فليعقب، ومن شاء، فليقبل. فكنت فيمن عقب معه". وفي "تاريخ ابن جرير الطبري"، عن البراء بن عازب: "فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب، وأمره أن يقفل خالد ومن معه، فإن أراد أحد ممن كان مع خالد بن الوليد أن يعقب معه، تركه". وإذا كان علي بن أبي طالب بُعث ليقوم مقام خالد بن الوليد، فقد بُعث أميراً، والإمارة لعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتناول القضاء ونحوه، ولكن بعض الرواة يقول: إنه أرسل مكان خالد، وبعضهم يقتصر في الرواية على الأمر الذي يناسب غرض الحديث، فهذا يقول: بُعث قاضياً؛ ليناسب خبر: "وأنا حديث السنّ، ولا علم لي بالقضاء ... إلخ". والآخر يقول بُعث ليقبض الخمس؛ ليناسب ما يذكره بعد ذلك من إنكاره عليه بعض تصرفاته في الخمس، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -! للمنكر: "لا تبغضه؛ ¬

_ (¬1) البراء بن عازب بن الحارث الخزرجي (... - 71 هـ = ... - 690 م) من الصحابة الأجلاء القادة، سكن الكوفة، وتوفي زمن مصعب بن الزبير، روى له الإمامان البخاري ومسلم 305 أحاديث.

فإن له في الخمس أكثرَ من ذلك". فقول بعض الرواة: بُعث قاضياً، أو قول الإمام: "بعثت قاضياً" لا يعارض قول بعضهم: بعث ليقبض الخمس، متى كان النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح له بالقضاء، وقبض الخمس بوجه خاص، زيادة على أن بعثه مكان خالد يقتضي النظر في القضايا، وفصل الخصومات. ترك المؤلف ما رواه البخاري أولاً من أن علي بن أبي طالب بعث مكان خالد بن الوليد، ونقل الحديث الثاني الذي يقول فيه الراوي: بعثه إلى خالد ليقبض الخمس، وحاول أن يضرب بهذه الرواية رواية ولايته القضاء؛ ليخلص من أثر يشهد بأن للقضاء في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام - حديثاً ينقل، أو اسماً يدور على الألسنة، والعلماء الذين درسوا باب التناقض من علم المنطق، وباب التعارض والترجيح من علم الأصول، تفهموا هذه الروايات على وجه جامع، ولم يروا بينهما اختلافاً يدعو إلى حيرة، أو إلغاء الروايتين، أو ترجيح إحداهما على الأخرى. يقول الإمام البخاري: بعث علياً بعد ذلك ليقبض الخمس. ومن الجليّ لدى المبتدئين من طلاب العلم أن المراد: خمس الغنيمة، ولكن المؤلف الذي لم يقنع برتبة مجتهد، وحاول أن يكون مشرّعاً، يقول: "ويروي الآخر: أنه كان لقبض الخمس من الزكاة" وليس في الزكاة شيء يقال له: الخمس، ولكن الله ضرب هذا المثل لنشهد به حظ المؤلف من فهم كتب الشريعة، وليعلم الذين يريدون أن يتبعوا خطواته أنهم ركبوا غارب عشواء، وفتحوا أعينهم في ليلة ظلماء. قال المؤلف في (ص 44): "ومعاذ بن جبل كذلك، ذهب إلى اليمن

قاضياً في رأي، وغازياً في رأي، ومعلماً في رأي، ونقل "صاحب السيرة النبوية" خلافاً في أن معاذاً كان والياً وقاضياً، فقال ابن عبد البر (¬1): إنه كان قاضياً، وقال الغساني: إنه كان أميراً على المال. وحديث ابن ميمون التصريح بأنه كان أميراً على الصلاة، وهذا يرجح أنه كان والياً". الرواية قائمة على أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن والياً وقاضياً، ومعلماً للقرآن وشرائع الإسلام، وقابضاً للصدقات من العمال، قال ابن عبد البر في كتاب "الاستيعاب": "بعثه -يعني: معاذاً- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاضياً إلى الجند من اليمن، يعلّم الناس القرآن وشعائر الإسلام، ويقضي بينهم، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قسم اليمن على خمسة رجال: خالد بن سعيد على صنعاء، ومعاذ بن جبل على الجند، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين وجهه إلى اليمن: "بم تقضي ... إلخ". فمعاذ كان والياً وقاضياً ومعلماً، وقابضاً للصدقات، ومن المحدّثين من ذكر له أعمالاً متعددة؛ كالحافظ ابن عبد البر، ومنهم من يتعرض لوظيفة القضاء؛ كالإمام أحمد بن حنبل، وأبي داود، والترمذي، وغيرهم، ومنهم من يذكر وظيفة الإمارة؛ كالإمام البخاري، ومنهم من يعرف له وظيفة التعليم، ويصرح بأنه كان يقوم بهذه الوظيفة في أعمال كثيرة؛ كقول ابن خلدون في "تاريخ": "وكان معاذ بن جبل يعلّم القرآن باليمن، ينتقل على ¬

_ (¬1) يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي المالكي (368 - 463 هـ = 978 - 1071 م) حافظ للحديث، ومؤرخ وأديب. ولد بقرطبة، وتوفي بشاطبة. له تصانيف عديدة.

هؤلاء وهؤلاء في أعمالهم". فرواية أن معاذاً كان قاضياً باليمن من الروايات التي مُحصت، ووضعها المحدثون موضع القبول، وليس في الروايات الأخرى ما ينافيها حتى نحتاج إلى عرضها على ميزان الترجيح، فضلاً عن أن نعاملها معاملة الأحاديث الموضوعة، ونضرب عنها جملة؛ كما فعل المؤلف؛ حرصاً على أن ينتهي به النظر "إلى غاية ذلك المجال المشتبه الحائر". وما نقله عن صاحب "السيرة النبوية" من الخلاف بين ابن عبد البر، والغساني؛ من أن معاذاً كان والياً أو قاضياً، لا يمس الرواية بوهن، ولنا عليه ملاحظة من وجوه: أولاً: يظهر أن صاحب "السيرة" نقل هذا الخلاف من "فتح الباري" لابن حجر العسقلاني، ونص عبارة "الفتح": "واختلف هل كان معاذ والياً، أو قاضياً، فجزم ابن عبد البر بالثاني، والغساني بالأول". والدليل على أن صاحب "السيرة" استمد الخلاف من كلام ابن حجر: أن لفظ "الغساني" إنما جاء في نسخ "فتح الباري". ونقل القسطلاني في "شرحه لصحيح البخاري" هذا الخلاف عن ابن حجر، وذكر المقابل لابن عبد البر باسم: "العسكري"، وكذلك ذكر الخلاف الإمام العيني (¬1) في "شرحه للبخاري"، وذكر المخالف لابن عبد البر باسم: "العسكري". والمعروف بالتأليف في تراجم الصحابة هو العسكري، وهو "أبو محمد ابن عبد الله بن أحمد بن موسى العسكري المعروف بعبدان"، وقد ذكره ابن ¬

_ (¬1) محمود بن أحمد، بدر الدين العيني (762 - 855 هـ = 1361 - 1451 م) محدث ومؤرخ، ولد في عينتاب، وتوفي بالقاهرة. له تصانيف عديدة.

حجر في مقدمة "الإصابة" باسمه: "عبدان" حين أخذ يسرد أسماء من ألّفوا في الصحابة - رضي الله عنه -. ثانياً: قول صاحب "السيرة"، وحديث ابن ميمون يرجح أنه كان والياً، إنما هو استنتاج منه، ولا يصح إلا إذا أراد بالوالي: من له سلطة أعمّ مما يفهم المؤلف، وهو العامل على المال، الناظر في شؤون البلاد. ثالثاً: إن ابن عبد البر صرح في "الاستيعاب" بأن معاذاً كان قاضياً ووالياً على المال حسبما نقلناه آنفاً، فلا يصح أن يفهم من هذا الخلاف أن ابن عبد البر يقول: أرسل قاضياً فقط، فهو لو قال: "بعث معاذاً قاضياً"، وسكت، لم نفهم منه مخالفة لمن يقول: "بعث والياً"، فما باله إذا صرح بالولاية علاوة على القضاء؟. رابعاً: إذا كان العسكري قال: إن معاذاً أرسل والياً، ولم يتعرض لنفي القضاء، لم يعد هذا مخالفة لابن عبد البر، وكذلك رأينا الشيخ العيني لم يزد على أن قال: "وفي كتاب الصحابة للعسكري: بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - والياً على اليمن، وفي الاستيعاب: بعثه قاضياً، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن". فإذا كان الخلاف إنما أخذ من اقتصار العسكري على ذكر الولاية من غير تعرض للقضاء، كان الخلاف بين العسكري وابن عبد البر لا يزيد على أن يكون اختلافاً في العبارة. خامساً: يترجح أن يكون العسكري عندما تحدث عن معاذ اقتصر على ذكر الولاية، ولم يتعرض لنفي القضاء، فإن ابن حجر، ومن نقل كلامه؛ كالقسطلاني، ثم من نقل عن كتاب العسكري مباشرة؛ كالعيني، لم يذكروا أن العسكري نفى القضاء صراحة، ولو نفاه، لذكر الوجه في نفيه، وعدم قبول

روايته، ولو ذكر هذا الوجه، لنقلوه، وتلقوه إما بمناقشة، وإما بتسليم. سادساً: على فرض أن العسكري أو الغساني نفى ولاية معاذ القضاء بصراحة، فإن الرواية التي تشهد بهذه الولاية حجة على المنكر، إلا أن يأتي بدليل مسموع أو معقول يطعن في شهادتها. ومما لا نزاع فيه بيننا وبين المؤلف: أن ولاية معاذ كانت مساوية لولاية أبي موسى الأشعري، فيصح لنا الاستشهاد بأن ولايتهما كانت تتناول الحكم بحديث البخاري المتضمن: أن معاذاً زار أبا موسى الأشعري، ووجد عنده رجلاً موثقاً، فسأله عنه، فقال له: إنه كان مسلماً، ثم ارتد، فقال معاذ: لأضربنّ عنقه. وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "إن أبا موسى الأشعري مفوض إليه الحكم، ولو كان فوض الحكم لغيره، لم يحتج -يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى توصيته بما وصاه به". قال المصنف في (ص 45): "ذلك بأننا وجدنا عند البحث في نظام القضاء في عصر النبوة: أن غير القضاء أيضاً من أعمال الحكومات، ووظائفها الأساسية لم يكن في أيام الرسالة موجوداً على وجه واضح لا لبس فيه، حتى يستطيع باحث منصف أن يذهب إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعين في البلاد التي فتحها الله له ولاة مثلاً لإدارة شؤونها، وتدبير أحوالها، وضبط الأمر فيها. وما يروى من ذلك، فكله عبارة عن توليته أميراً على الجيش، أو عاملاً على المال، أو إماماً للصلاة، أو معلماً للقرآن، أو داعياً إلى كلمة الإسلام. ولم يكن شيء من ذلك مطرداً، وإنما كان يحصل لوقت محدود، كما ترى فيمن كان يستعملهم - صلى الله عليه وسلم - على البعوث والسرايا، أو يستخلفهم على المدينة إذا خرج للغزو".

دعوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يولّ قضاة يفصلون الخصومات، ولم ينصب ولاة لتدبير أحوال البلاد، من بنات فكر المؤلف وحده، فهو الذي اخترعها، دون أن يسبقه إليها ألمعي خبير، أو بحاثة بصير، وإذا كان كل رأي جديد -حقاً كان أو باطلاً- يخف بصاحبه إلى منزلة يشار إليها بالبنان، ويطير صيته في الآفاق إلى أمد بعيد، فليتبوأ المؤلف مقعده بمكان تومئ إليه الأصابع من كل ناحية، وليهنأ بسمعة تطير مع الشمس كل مطار، ولكن ما دام القرآن يتلى، وكتب السنّة تدرّس، وفي القلوب إيمان، وفي الأدمغة عقول، فإن هذا الرأي الجديد لا يبقى على وجه الأرض إلا أن يحتمل ما تخلعه عليه النفوس الفاضلة من برود التهكم والتفنيد، ويرضى بما تناديه به ألسنة الصادقين من ألقاب الباطل والبهتان. ولا يلاقي هذا الرأي تفنيداً من إخوان الإسلام فقط، بل يرمي في وجهه بالتزييف كل من درس تاريخ عهد النبوة، ووقف ساعة من نهار على روح التشريع، وإن كان من المخالفين الذين لا ينتمون للإسلام. يزعم المؤلف: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرسل أميراً للحكم وضبط الأمر في البلاد، وإنما كان يرسل غزاة، أو عمالاً، أو أئمة ودعاة للإسلام، ولا ندري ماذا دفعه إلى إنكار حقيقة تضافر عليها المحدّثون والمؤرخون، وإذا كان المدار في تحقيق المسألة على الرواية، فلا سبيل للمنكر عليها إلا أن يردها بطعن في سندها، أو يبين أن العقل السليم لا يقبلها، وهل مشى المؤلف في هذا السبيل المعقول، فتعرض لسند الروايات التي تثبت أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - أمراء ينظرون في شؤون البلاد، ويحكمون فيما شجر بين الناس، ونقَدها ببينة وعقل، أو أقام برهاناً على أن وجود ولاة يفصلون القضايا، ويدبرون

القضاء في عهد النبوة موكول إلى الأمراء

أحوال البلاد في عهد الرسالة مما يأبى العقل سماعه؟ كل ذلك لم يكن، ولكنه يبتغي مرضاة قوم لا يؤمنون، وتخيل أنه بلغ في البيان أن ينكر الحق، فيذهب هباء، أو يشير إلى باطل، فيستقبله الناس باحتفال وتكريم. قد أريناك أن انتصاب معاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب للقضاء، ثابت بأدلة ناطحها قلم المؤلف، فأوهى قرنه قبل أن يوهنها، وإن شئت زيادة تحقيق في الموضوع، فلدينا مزيد: * القضاء في عهد النبوة موكول إلى الأمراء: عني الإسلام بوسائل العمران، وأركان الدولة، وبالأحرى: مقام الفصل فيما شجر بين الناس، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - لا يترك قوماً دخلوا في الإسلام إلا أمَّر عليهم من يسوسهم بأحكام شريعته. وقد عرفنا في تاريخ عهد النبوة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يقلّد شخصاً الإمارة، ويكون له النظر في الحكم بين الناس، وتعليمهم شرائع الإسلام، وقبض صدقاتهم، وغير ذلك مما يتولاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان حاضراً. قال الحافظ ابن تيمية في "منهاج السنة" (¬1): "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستخلف في حياته على كل ما غاب عنه، فيولي الأمراء على السرايا، يصلّون بهم، ويجاهدون بهم، ويسوسونهم، ويؤمّر أمراء على الأمصار؛ كما أمّر عتاب ابن أسيد على مكة ... وكما كان يستعمل عمالاً على الصدقة، فيقبضونها ممن تجب عليه، ويعطونها لمن تحل له". فانظر في قوله: "الأمراء على ¬

_ (¬1) (ج 4 ص 93).

السرايا"، وقوله: "أمراء على الأمصار"، وقوله: "عمالاً على الصدقة"؛ فإنه يطعن في قول المؤلف: إن الأمراء إنما كانوا غزاة، أو عمالاً على المال. وقال ابن حزم في "كتاب الفصل في الملل والنحل" (¬1): "وقد وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قلّد النواحي، وصرف تنفيذ جميع الأحكام التي تنفذها الأئمة إلى قوم كان غيرهم أفضل منهم (¬2)، فاستعمل على أعمال اليمن معاذ ابن جبل، وأبا موسى، وخالد بن الوليد ... ". وقد نقلنا لكم آنفاً قول الحافظ ابن حجر: "والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد كانوا يتحاكمون إلى الذي أمِّر عليهم". وإذا كان المؤلف لا يلقي قلبه إلا بين يدي "أرنولد"، فإن أرنولد ومن معه يقولون في "دائرة المعارف الإسلامة" (¬3): "يجب أن يكون القاضي مسلماً عادلاً، عالماً بجميع أحكام الشرع". ثم قالوا: "فالنبي - صلى الله عليه وسلم - والراشدون كثيراً ما فصلوا في خصومات بصفتهم قضاة، كما جرى على ذلك الأمراء والحكام الموفدون من قبلهم إلى المقاطعات الإسلامية". ولا يعدّ قيام الأمير بفصل القضاء، وتنفيذ الأحكام، وغير ذلك من شؤون الولاية أمراً شاقاً؛ فإن وسائل العمران من مثل: الفلاحة، والصناعة، والتجارة لم تكن ظاهرة في البلاد التي فتحت زمن النبوة بهذا المظهر الواسع، حتى تكثر الخصومات والمنازعات لحد أن يعين لها قضاة شرعيون زيادة ¬

_ (¬1) (ج 4 ص 136). (¬2) يريد: أن الأفضلية لا تقتضي الإيثار بالولاية، بل يقدم كل عمل من فيه كفاية للقيام به. (¬3) في: الكلام على القاضي (ص 606).

على الأمراء السياسيين. يقول المؤلف: "ولم يكن شيء من ذلك مفرداً، وإنما كان يحصل لوقت محدود"، وهذا مسلّم في أمراء السرايا، وأما أمراء البلاد، فإن ولايتهم كانت دائمة. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "فأما أمراء السرايا والبعوث، فكانت إمرتهم تنتهي بانتهاك تلك الغزوة، وأما أمراء القرى، فإنهم استمروا فيها". قال المؤلف في (ص 45): "إذا نحن تجاوزنا عمل القضاء والولاية إلى غيرهما من الأعمال التي لا يكمل معنى الدولة إلا بها؛ كالعمالات التي تتصل بالأموال، ومصارفها "المالية"، وحراسة الأنفس والأموال "البوليس"، وغير ذلك مما لا يقوم بدونه أقل الحكومات وأعرقها في البساطة، فمن المؤكد أننا لا نجد -فيما وصل إلينا من ذلك عن زمن الرسالة- شيئاً واضحاً، يمكننا ونحن مقتنعون ومطمئنون أن نقول: إنه كان نظام الحكومة النبوية". بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فأقام بها عشر سنين، أو ثلاث عشرة سنة، وهو يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولما أذن الله بأن يقيم لهذا الدين دولة تحمي دعوته، وتحرس شعائره، وتدبر سياستها على محور تعاليمه، كان أول لبنة وضعها - صلى الله عليه وسلم - في أساس هذا الغرض الأسمى: ما أخذه على الأوس والخزرج من عهد البيعة على أن يكونوا أنصاره إلى الله، ثم هاجر إلى المدينة، وواصل العمل بما أوحى الله إليه، حتى اتسقت للإسلام شريعة ذات مبادئ عالية، ونظم حكيمة. كانت المدة منذ شرع الإسلام في بناء دولة تحرس دعوته وشعائره،

وتعمل لإسعاد أهله إلى أن انتهى عهد الرسالة، نحو عشر سنين. ماذا فعل محمد بن عبد الله - صلوات الله عليه - في عشر سنين، تلك المدة التي قضى المؤلف مثلها بالتفكير في منطق، يميت شريعة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء؟ رأينا وسمعنا أن الحكومات إذا دخلت في عهد حرب، أفرغت مهجتها في تدبر وسائل الدفاع من جند وسلاح ونصب مكايد، وتذهل عن الشؤون المدنية والعلمية، فلا تكاد ترى لهما أثراً من نظم العلم والسياسة إلا ما كان قائماً قبل دخولها في مواقع الحروب، ولا سيما حيث يكون عددها أوسع بلاداً، وأكثر قبيلاً. هذا شأن الدول العريقة في الحكم والقوة التي تكون سلطتها وسياستها موزعة على نفوس كثيرة من قائمين بالسلطة التشريعية، إلى قائمين بالسلطة التنفيذية، ومن وزارة داخلية إلى خارجية إلى حربية إلى مالية، فكيف يكون حال جماعة قليلة ظهروا بعقيدة وشريعة خالفوا بهما القبائل والأمم التي تكتنفهم من كل جهة؟ كان ذلك الرسول الأعظم مظهر السلطة التشريعية، ومصدر السلطة التنفيذية. فالحكمة تجري على لسانه، ودم النفوس الخبيثة يجري على سنانه، يرسل الموعظة الحسنة تحت مثار النقع، ويسنّ القانون العادل وهو يقاتل وحوشاً غابُها الرماح، ولقد كان في تشريعه الحكيم، أو عزمه النافذ عبرة لأولي الألباب. دولة بنتُ عشر سنين فتحت بلاداً واسعة، ونشرت تعاليم نافعة، وشرعت قوانين جامعة، إن في قصر المدة التي استحكم فيها أمر هذه الدولة لآية كبرى، ولكن المواربين بآيات الله يجحدون.

نبذة من مبادئ القضاء في الإسلام وآدابه

أنكر المؤلف أن يكون في عهد الرسالة ولاة يحكمون بين الناس بقانون الشريعة، فأقمنا من الرواية بينات تشهد بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث إلى البلاد المفتوحة أمراء يدخل في إمرتهم فصل الخصومات بين الناس، ومنهم من يصرح له بالسلطة القضائية؛ كما جاء في حديث معاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب، وتوسع في الإنكار حتى زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرسل والياً لتدبير أحوال البلاد، وإنما كان يرسل غازياً أو عاملاً على المال، فكافحناه بشهادة التاريخ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث أمراء من غير أمراء السرايا والعمال على المال، ولا شأن لأولئك الأمراء إلا تدبير أحوال البلاد، والحكم بينهم على سنّة القضاء في الإسلام، وتطوّح به نزق التمرّد إلى أن يقوِّض سائر أركان الدولة الإسلامية، فلوّح بإنكار ما وراء القضاء والولاية السياسية من أعمال "لا يكمل معنى الدولة إلا بها؛ كالعمالات التي تتصل بالأموال ومصارفها (المالية)، وحراسة الأنفس والأموال (البوليس)، وغير ذلك مما لا يقوم بدونه أقل الحكومات وأعرقها في البساطة". لنبحث مع المؤلف في القضاء والمالية والبوليس مع رعاية ما يقتضيه المقام من إيجاز، ونرجئ البحث فيما عدا هذه الأصول الثلاثة إلى مقام أليق بها من هذا المقام. * نبذة من مبادئ القضاء في الإسلام وآدابه: ذكرنا فيما سلف: أن للقضاء مبادئ لا يستوفي الحكم نصيبه من العدل إلا برعايتها، ولا يمتري ذو أثارة من علم أن الإسلام قد أدار سياسته على محورها. وهناك نظم مطوية في أصول عامة هي موكولة إلى اجتهاد الحاكم، ومقتضى حال البيئة، ومن هذه النظم ما نعلم حق اليقين أن حال الأمة في

عصر النبوة لا يزال في غنى عنها. تحدثك في هذا المقال عن بعض مبادئ القضاء ونظمِه المنبَّه عليها في الكتاب والسنّة؛ لتعلم أن القضاء في عهد النبوة لم يكن في نظر علماء الإسلام غامضاً. ملاك القضاء العادل: عِلْمُ القاضي، واستقامته، واستيفاؤه النظر في وسائل الحكم، واستناده إلى البينة، وقوة العزم في الفصل، وبسط مجال الحرية للخصوم؛ حتى يدافعوا عن حقوقهم باطمئنان جأش، وطلاقة لسان. أما العلم، فقد كان الحكام في عهد النبوة على علم بما يلقى على عاتقهم من أعمال القضاء وغيره، ودليل هذا من جهة النظر: أن النبي - عليه السلام - يقول: "لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها، ويعلّمها" (¬1). وقال: "إن القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به، واللذان في النار: رجل عرف الحق فجار في الحكم، ورجل قضى في الناس على جهل" (¬2). فالذي يجعل القضاء قائماً على الحكمة، ويقول: إن القضاء بجهل يلقي صاحبه في حفرة من النار، لا يضع السلطة القضائية إلا في يد عالم بالأحكام، بصير بمذاهب الحقوق، ويضاف إلى هذا: أن الذين "حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة ونيف ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (ج 1 ص 21). (¬2) أصحاب السنن، والحاكم، والبيهقي. انظر: "تلخيص الحبير" (ج 2 ص 402) طبع دهلي.

وثلاثون نفساً، ما بين رجل وامرأة"، (¬1) ومما لا يحتمله العقل: أن يصرف الرسول - عليه السلام - نظره عن هؤلاء الذين بلغوا رتبة الفتوى، ويضع الحكم في أيدي قوم لا يعلمون. وقال شيخ الإسلام في "منهاج السنّة" (¬2): "وكان الواحد من خلفائه إذا أشكل عليه الشيء، أرسل إليه يسأله عنه، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته يعلم خلفاءه إذا جهلوا، ويقوّمهم إذا زاغوا، ويعزلهم إذا لم يستقيموا". وعلى هذه السيرة اقتدى علماء الإسلام، فاشترطوا في القاضي: أن يكون بالغاً في العلم مبلغ الاجتهاد؛ حتى يتناول الأحكام من أصولها مباشرة، وكذلك كانوا يفعلون. ويترتب على هذا الشرط: أن لا يقلّد أحد القضاء إلا بعد معرفة مكانته في العلم. وقد اختبر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل حين توليته القضاء؛ ليزداد خبرة بمبلغ علمه بالقضاء، فقال له: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ إلخ". وأما الاستقامة، فالكتاب والسنّة طافحان بالأمر بالعدل، وتشديد الوعيد على التهاون بواجبه، فلا بد أن يكون قضاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتقى الناس قلوباً، وأعدلهم في الحكومة ميزاناً، وهذا أحدهم، وهو عمر بن الخطاب، يقول في رسالته إلى أبي موسى الأشعري: "وآس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حَيفك، ولا ييئس ضعيف من عدلك". ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (ج 1 ص 14). (¬2) (ج 4 ص 93).

وأما استيفاء البحث في وسائل الحكم، فترشد إليه آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفصل في النوازل التي تُرفع إليه، كما استفصل المقرّ بالزنا: هل وجد منه مقدماته، أو حقيقته؟ فلما أجابه عن الحقيقة، استفصله: لعلّ به جنوناً، فيكون إقراره غير معتبر، أم هو عاقل؟ فلما وثق من عقله، استفصله بأن أمر باستنكاهه؛ ليعلم هل هو سكران، أم صاحٍ؟ فلما علم أنه صاحٍ، استفصله: هل أحصن، أم لا؟ فلما علم أنه قد أحصن، أقام عليه الحد (¬1). والاستفصال موكول إلى اجتهاد الحاكم وذكائه: "فإذا ارتاب بالشهود، فرقهم، وسألهم كيف تحمّلوا الشهادة؟ وأين تحمّلوها؟ وذلك واجب عليه، متى عدل عنه، أثم، أو جار في الحكم. وكذلك إذا ارتاب بالدعوى، سأل المدعي عن سبب الحق، وأين كان؟ ونظر في الحال هل تقتضي صحة ذلك؟ وكذلك إذا ارتاب بمن القول قوله، والمدعى عليه، وجب عليه أن يستكشف الحال، ويسأل عن القرائن التي تدل على صورة الحال" (¬2). وحيث كان قلق الفكر مما يعوق عن استيفاء النظر في وسائل الحكم، نهى النبي - عليه الصلاة والسلام - عن القضاء في حال يضطرب معه الفكر، وألمَّ بهذا في حديث: "لا يقضي حكم بين اثنين وهو غضبان" (¬3). وأما البينة، فقد وفّاها الكتاب والسنّة حقها، ولم يبخسها منه شيئاً، ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (ج 3 ص 426). (¬2) "الطرق الحكمية" لابن قيم الجوزية (ص 24). (¬3) "البخاري" (ج 9 ص 65).

تجدها في آية: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وآية: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]. وهذا إرشاد إلى الاحتياط في حفظ الحق؛ لتكون الشهادة سنداً عند التناكر في مجلس القضاء. وتجدها في حديث: "ألك بيّنة؟ "، وحديث: "شاهداك، أو يمينه" وحديث:؛ البيِّنة على المدَّعي، واليمين على من أَنكر". وقد تفقه أهل العلم في معنى البيّنة كل على حسب اجتهاده، وفسرها ابن قيم الجوزية في "إعلام الموقعين" (¬1) بأنها: اسم لكل ما يبين الحق؛ من شهود، أو دلالة، وقال: "إن الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه، وشواهد به". ثم قال: "إن الطرق التي يحكم بها الحاكم أوسع من الطرق التي أرشد الله صاحبَ الحق إلى أن يحفظ حقه بها (¬2) ". وللحاكم النظر في قبول الشاهد وردّه، منحه هذا الحق قولُه تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}. شهد عند إياس بن معاوية رجل من أصحاب الحسن، فرد شهادته، فبلغ الحسن، وقال: قوموا بنا إليه، فجاء إلى إياس، وقال: يا لكع! ترد شهادة رجل مسلم؟! فقال: نعم، قال الله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، وليس هو ممن أرضى، فسكت الحسن وقال: خصم الشيخ" (¬3). ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 105). (¬2) (ج 1 ص 112). (¬3) "أحكام القرآن" للجصاص (ج 1 ص 503).

ومما يتصل ببحث الاعتماد على البيّنة: أن القاضي لا يستند إلى ما يعلم في القضية، ومن شواهده حديث: "فأقضي له على نحو ما أسمع"، ولهذه الحكمة نصّ الفقهاء على أن القاضي الذي تقدم إليه بيّنة بخلاف ما يعلم من حال القضية، ولم يجد طريقاً واضحاً للقدح في شهادتها، تخلى عن الحكم فيها؛ كما يتخلى عن الحكم في قضية يكون هو نفسه أحد الخصمين مدعياً أو مدعى عليه، ويصبح بين يدي من يكلَّف للقضاء فيها كشاهد بما يعلم دون أن يكون لمنصبه القضائي في النازلة أثر كثير أو قليل. وأما قوة العزم في الفصل والتنفيذ، فمن شواهدها حديث: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها"، وحديث: كان ليهودي على ابن أبي الحدرد أربعة دراهم، فاستعدى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمد! إن لي على هذا أربعة دراهم، وقد غلبني عليها. فقال: "أعطه حقه"، فقال: والذي بعثك بالحق! ما أقدر عليها، قال: "أعطه حقه"، قال: والذي بعثك بالحق! ما أقدر عليها، قال: "أعطه حقه". وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال ثلاثاً، لم يراجع، فخرج ابن أبي الحدود، فباع بردة له، وقضاه حقه (¬1). وأما إطلاق الحرية للخصوم، فشاهده حديث البخاري: أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه، فأغلظ له، فهمَّ به أصحابه، فقال: "دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالاً". ولتجدن في الكتاب والسنّة بعد هذا: إرشاداً إلى سنن أخرى لا يستقيم حال القضاء إلا بها، فتجد التنبيه على أن القاضي لا يفصل في القضية حتى ¬

_ (¬1) رواه أحمد، والطبراني في "الصغير"، و"الأوسط". انظر: "نيل الأوطار" (ج 8 ص 530).

يسمع من الخصمين، في حديث: "لا تقض بين الخصمين حتى تسمع من الآخر" (¬1). ومن الفقهاء من حمل الحديث على إطلاقه، ومنهم من حمله على حالة إمكان حضور الخصمين، وأجاز الحكم على من كان في غيبة بعيدة. وتجد: الدليل على اكتفاء الحاكم بترجمة واحد أمين، في حديث زيد بن ثابت إذ أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتعلم كتاب اليهود، قال: "حتى كتبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه" (¬2). وتجد: الحبس للتهمة وارداً فيما "رواه أَبو داود، وأحمد، وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حَبس في تهمة"، فمن "أطلق كل متهم ... وقال: لا آخذه إلا بشاهدي عدل، فقوله مخالف للسياسة الشرعية" (¬3). وتجد: الإرشاد إلى ما ينبغي للحاكم من بيان موجبات الحكم -حيثياته-؛ ليطمئن نفس المحكوم عليه، ويسلّم تسليماً، تجده في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن قضاءه في نفسه حجة، ومع هذا كان يذكر علل بعض الأحكام القضائية؛ لطرد الشبهة، وإزاحة الحرج من قلب المقضي عليه؛ كحكمه على من عضَّ يد آخر بإهدار ثنيته لما سقطت بانتزاغ المعضوض يدَه من فيه، وقال للمحكوم عليه: "أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضمها الفحل" (¬4). وتجد في حديث: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو رد" ما يرشد إلى أن الحكم الذي يظهر على خلاف الأصول القاطعة يتحتم نقضه، ثم ¬

_ (¬1) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، "فتح الباري" (ج 8 ص 48). (¬2) "صحيح البخاري" (ج 9 ص 76). (¬3) "الطرق الحكمية" (ص 14). (¬4) "صحيح البخاري" (ج 9 ص 8).

يُستأنف النظر في القضية على طريق الاجتهاد الصحيح. وتجد: الإرشاد إلى أن الحاكم لا يقبل الشفاعة في إسقاط الحدود بعد أن ترفع إليه. لأن قبول الشفاعة فيها يخفف الرهبة من سطوتها، ويفتح طريقاً لسهولة ارتكاب الفواحش والموبقات؛ حيث يعتمد المجرمون على شفاعة تنقذهم من عقوبتها، تجد هذا في قصة أسامة بن زيد حين تقدم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شافعاً في امرأة مخزومية وقعت في سرقة، فقال له: "أتشفع في حد من حدود الله؟! " (¬1)، وخطب خطبته التي قال فيها: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها". يقصد الشارع إلى تنقية القلوب من دنس التقاطع والبغضاء، وفصلُ الخصومات فريضة محكمة، وصولة يخرّ لها الباطل صعقاً، ولكنه لا ينزع الأضغان الواغرة في الصدور، فدخل في سنّة القضاء: دعوة الخصوم إلى الصلح، حتى إذا طابت نفوسهم لذلك، تبلج وجه الحق، وانقلبت العداوة إلى تآلف وصفاء، ومن الدليل على أن الإصلاح بين الخصوم من أدب القضاء: حديث كعب بن مالك، (¬2) وهو: "أنه تقاضى ابن حدرد ديناً كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سَجْف حجرته، فنادى: يا كعب! قال: لبيك يا رسول الله، فأومأ إليه؛ أي: الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال: قم فاقضه" (¬3). ¬

(¬1) "صحيح البخاري" (ج 8 ص 163). (¬2) كعب بن مالك بن عمرو (... - 50 هـ = ... - 670 م) صحابي، ومن كبار الشعراء، ومن أهل المدينة، له 80 حديثاً. (¬3) "صحيح البخاري" (ج 3 ص 187).

ولذلك يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "رددوا الخصوم حتى يصطلحوا؛ فإن فصل القضاء يحدث يين القوم الضغائن" (¬1). والمراد من ترديد الخصوم: التمهل قليلاً حيث يرجى فصل الواقعة، وطي بساطها على يد صلح وسلام. وتجد: الإرشاد إلى أن المرأة لا يليق بها أن تنتصب للقضاء بين الخصوم؛ لأن القضاء يستدعي في أغلب أوقاته عزماً وإقداماً وجلادة، وللمرأة لين في القلب، ورقة في المزاج، وإحجام عن المواقف الخطرة، تجد ذلك في حديث: "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة". ونقل عن محمد بن جرير الطبري: "أنه يجيز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله -كما نقل عن أبي حنيفة- أنها تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم، أو الاستنابة في القضية الواحدة" (¬2). وكان في حديث معاذ، وأبي موسى الأشعري مستند لأهل العلم في وضع السلطة القضائية في يد شخصين أو أشخاص، قال القاضي أَبو بكر بن العييي في كتاب "العارضة": "إرسال معاذ إلى اليمن مع أبي موسى الأشعري، واليمن قريتان أشركهما النبي فيهما، وأمرهما بأن ييسّرا ولا يعسّرا، ويبشّرا ولا ينفّرا، ويتطاوعا ولا يختلفا، فكان ذلك أصلاً في تولية أميرين وقاضيين مشتركين في الإمارة والأقضية، فإذا وقعت النازلة، نظرا فيها، فإن اتفقا على الحكم، وإلا تراجعا لقولٍ حتى يتفقا على الصواب، فإن اختلفا، رجع الأمر ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (ج 1 ص 128). (¬2) "أحكام القرآن" للقاضي أبي بكر بن العربي.

المالية في عهد النبوة

إلى من فوقهما، فينظر فيه، وينفذان ما اتفقا عليه، ولولا اشتراكهما، لما قال: "تطاوعا ولا تختلفا". واقتفى أثر هذا المنهج أمير تونس زيادة الله بن الأغلب (¬1)، فقلّد أسد ابن الفرات (¬2)، وأبا محرز محمد بن عبد الله الكناني القضاء على أن يكونا شريكين في فصل النوازل، ولم يعلم قبلهما بالبلاد التونسية قاضيان في مصر (¬3). هذه أمثلة اقتبسناها من تعاليم الإسلام؛ ليطلع القارئ الكريم على أن مبادئه القضائية واقعة من العدل موقع الروح من الجسد، وأن القضاء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على سنّة مُحكمة، وإذا زعم منتمٍ للإسلام: أن نظماً يتطلبها العدل، أو يتوقف عليها حفظ الحق كانت مهملة في عهد النبوة، فإنه يقف له من التاريخ، ثم من مقام الرسالة مِدْرهٌ يطعن في زعمه، ويقيم الحجة على ريائه. * المالية في عهد النبوة: أموال الدولة بحكم الكتاب والسنّة: الصدقات، والجزية، والفيء، وخمس الغنيمة، وهي موارد بيت المال لعهد النبوة. أما الصدقات، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعمل عليها عمالاً بأحكامها؛ "إذ ¬

_ (¬1) زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب (172 - 223 هـ = 788 - 838 م) رابع الأغالبة أصحاب أفريقية. توفي بالقيروان. (¬2) أسد بن الفرات بن سنان (142 - 213 هـ = 759 - 828 م) من القادة الفاتحين، وقاضي القيروان. ولد بحرّان، وتوفي من جراح في حصار سرقوسة. (¬3) "طبقات علماء أفريقية" لأبي العرب محمد بن أحمد بن تميم (ص 84) طبع الجزائر.

لا يستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عالماً بما يستعمله عليه (¬1) "، ومن "المحال الباطل أن يستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - من لا علم له" (¬2). ولعلك تفقه بهذا: أن أخذها كان جارياً على حساب ونظام، ومما يعد في نظمها: ما فصلته الأحاديث من أحكامها؛ كبيان مقادير ما يؤخذ من كل صنف، وأن يأخذ من وسط المال، لا خياره، ولا رديه. أما مصرفها، فالأصناف الثمانية المنصوص عليها في آية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. وإنما اختلف الفقهاء في وجه صرفها، فقال الإمام الشافعي: (¬3) لا بدَّ من قسمها على الأصناف الثمانية، وقال الإمامان مالك وأبو حنيفة: يجوز للإمام أن يصرفها في صنف واحد، أو أكثر من صنف، إذا رأى المصلحة قاضية بذلك، وعلى كل حال، فإن مصرفها لا يخرج عن الأصناف الثمانية، وهو مضبوط إما بتلك الأصناف المعدودة، أو بما تقتضيه المصلحة منها. وأما الجزية، وهي ما يؤخذ من المخالفين المقيمين تحت راية الإسلام، فالقرآن ذكرها بلفظ مجمل، فقال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]؛ أي: يأتون بها طائعين لحكم الإسلام، وقد اختلف ¬

_ (¬1) كتاب "الفصل" لابن حزم (ج 4 ص 139). (¬2) "منه" (ج 4 ص 136). (¬3) محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع (150 - 204 هـ = 767 - 820 م) أحد الأئمة الأربعة، وإليه نسبة الشافعية. ولد في غزة بفلسطين، وتوفي بالقاهرة.

الفقهاء في تقديرها، وكثير منهم يذهب إلى أن تقديرها مفوّض إلى نظر الإمام، قال أَبو الوليد ابن رشد (¬1) في "بداية المجتهد" (¬2): وهو الأظهر. ويؤيده: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وضع على أهل الشام من الجزية أكثر مما وضع على أهل اليمن، وعلل مجاهد هذا التفاوت بيسار أهل الشام (¬3). وأما مصرفها، فإنها كسائر الفيء، وخمس الغنيمة، توضع في بيت المال، وتصرف إلى ذوي الحاجة، وفي وجوه المصالح العامة. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يولّي على قبض المال عمالاً، وإذا قدموا به، حاسبهم على ما قبضوا، وما صرفوا، تجد هذا في حديث العامل الذي استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدقات بني سليم، وفي الحديث: "فلما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحاسبه" رواه الإمام البخاري في باب: محاسبة الإمام عمّاله، وقال الحافظ ابن حجر عند قوله: "وحاسبه": أي: على ما قبض وصرف (¬4). فإذا كان المال المفروض على الأمة في عهد النبوة مقدراً، والعامل عليه عالماً، ومتى جاء به، يناقش الحساب على القبض والصرف، ثم يُنفق في وجوه المصالح بتدبير، فهل يصح بعد هذا أن يقال: إن المالية لذلك العهد لم يكن لها نظام؟!. فإن أراد المؤلف من النظام: أن يؤلف لها ديوان، قلنا: كان للنبي ¬

_ (¬1) محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي (520 - 595 هـ = 1126 - 1198 م) الفيلسوف. من أهل قرطبة، توفي بمراكش، ودفن بقرطبة. (¬2) (ج 1 ص 326). (¬3) "أحكام القرآن" للجصاص (ج 3 ص 98)، و"صحيح البخاري" (ج 4 ص 96). (¬4) "فتح الباري" (ج 13 ص 151).

- عليه السلام - كتّاب معروفون، وهبهم لم يتقيدوا بمكان يختص بهم، ووقت يحدد لهم، فإن هذا وحده لا يسم المالية بوصمة الخلو من النظام. ورب تقييد يعد في بعض الأزمنة نظاماً، وهو في عصر آخر حيث لا تدعو إليه الحاجة عدمُ نظام. وموجز القول: أن نظام المالية لعهد الرسالة موافق لما تقتضيه حال ذلك العهد، ولقد كان المال يقبض بحق، ويصرف على وجه لا يدخله خلل، ولا يحوم عليه شطط، قال ابن خلدون في "مقدمته": "واعلم أن هذه الوظيفة -يعني: ديوان الأعمال والجبايات- إنما تحدث في الدولة عند تمكن الغلب والاستيلاء، والنظر في أعطاف الملك وفنون التمهيد، وأول من وضع الديوان عمر - رضي الله عنه -، يقال: لسبب مال أتى به أَبو هريرة - رضي الله عنه - من البحرين، فاستكثروه، وتعبوا في قسمه، فسعوا إلى إحصاء الأموال، وضبط العطاء والحقوق، فأشار خالد بن الوليد بالديوان، وقال: رأيت ملوك الشام يدوّنون". فأنت ترى أن الحاجة إلى الديوان لم تعرض إلا في عهد الخليفة الثاني، وعندما حدثت الحاجة، وجد الخليفة من قاعدة رعاية المصالح ما يحثه على المبادرة إلى أن ينشئ الديوان، ويعين له من الكتّاب بمقدار ما تدعو إليه المصلحة. فإن كان المؤلف يذهب إلى أن المالية التي لم تتسع حتى تلجئ إلى إنشاء ديوان يحق له أن يصفها بعدم النظام، قلنا له: إن المقدار الذي تسمح به حالة الأمة لعهد النبوة كان يُستخلص بالقسطاط المستقيم، وينفق في سد الحاجات، وإعداد القوة ووسائل المنعة، وقد خاض رجال هذه المالية حروباً، فكانوا هم الغالبين، ولم يكونوا يوماً في حاجة إلى قرض داخلي أو خارجي، ولم يضعوا على رقاب الأمة ضرائب فادحة مثلما تصنع

لماذا لم يكن في عهد النبوة إدارة بوليس؟

الدول ذات الدواوين الطويلة العريضة، فنحن نسميها مالية تؤخذ وتصرف بنظام، وللمؤلف الذي أشلى قلمه ليلغ في عرض الحكومة النبوية أن يسميها بما شاء. * لماذا لم يكن في عهد النبوة إدارة بوليس؟ للحكومة مقومات: قانون يخضع له الجمهور، ورجال يقومون على تنفيذ هذا القانون، وأموال تقبض وتصرف في المصالح المشتركة، وقوة من الرجال والسلاح لدفاع العدو وكبح الثورة، وما عد هذا من المشروعات والنظم، فإنما يأتي على حسب تطور الزمان، وما يعرض من الحاجات. فإذا رأينا جماعة يمسكون بأيديهم قانوناً يحفظ الحقوق، ويوجد بينهم من ذوي الكفاية للقيام على تطبيق هذا القانون وتنفيذه عددٌ غير قليل، ويجبي إلى خزانتها العامة من الأموال ما يقوم بمرافق حياتها الاجتماعية، وتنهض لحمايتها أو حماية قانونها جنود تخوض مواقع الحروب بما استطاعت من قوة، صحّ لنا أن نقول: إن هذه الجماعة ذات حكومة، وربما كانت الحقوق فيها محفوظة، والأمن سائداً، وإن لم تكن بها إدارة بوليس، وكذلك كان حال جماعة المسلمين لعهد النبوة؛ بحيث لو وضعت في تلك المناطق الإسلامية دوائر بوليس، لم يصر الأمن فيها أمكن، ولا الحقوق أكثر صيانة، وإليك الحجّة والبيان: كانت حالة الأمة لعهد النبوة بالغة من الاستقامة إلى حيث تجدها في غنى عن دائرة محافظة أو "بوليس". وقد يقول الناشئ فى مدينة يجوس الشرطي خلالها، ويسيطر على كل شارع من شوارعها: كيف يحفظ النظام في جماعة لا يقوم على رؤوسها

رجال يلبسون في الشتاء سواداً، وفي الصيف بياضاً (¬1)، ويعد كلمتنا مثلاً من أساطير الأولين، أو شهادة خطرت في موقف الدفاع عن أحكام سيد المرسلين، كلا، إن هي إلا حقيقة تسعدها الأدلة البينة، والتاريخ من ورائها شهيد. بقيت راية الإسلام مرفوعة على المدينة المنورة وما حولها نحو سبع سنين؛ إذ كان من المحتم على كل من يعتنق الإسلام من القبائل أن يهاجر إلى المدينة المنورة، ولا يقيم بين قوم لا يؤمنون، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]. والحكمة من تلك الهجرة: أن يتقوى بهم جانب الدين، وليخلصوا من البيئة المتعفنة؛ فإنها تذهب بالغيرة على الحق، وتلبس الوجوه رقعة الصفاقة، وربما سرى وباؤها إلى النفوس الضعيفة، فزلزل عقائدها، وأطفأ نور إيمانها. وفي السنة الثامنة من الهجرة فتحت مكة المكرمة، وأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً وقبائلَ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عندئذٍ: "لا هجرة بعد الفتح". وولّى على جميع البلاد والقبائل أمراء، وبثّ فيهم معلمين للقرآن وأحكام الشريعة. وتوفي في السنة العاشرة للهجرة بعد أن فتحت مكة، وتجاوز حكم الإسلام المدينة المنورة إلى مكة والطائف واليمن وما داناها من البلاد. إذاً ننظر إلى حال المدينة المنورة مدة عشر سنين، وإلى حال غيرها من البلاد المدة التي أصبحت تحت حكم الاسلام لعهد النبوة، وهي السنتان. هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة، وهاجر لهجرته أصحابه الأكرمون، ¬

_ (¬1) من المعروف أن رجال الشرطة في مصر يرتدون اللباس الأسود شتاء، واللباس الأبيض صيفاً.

فانعقد بين المهاجرين والأنصار إخاء صادق، واتحاد متين، وكانت قلوبهم تفيض بتعاطف وتراحم بلغا حد الإيثار عن النفس، حتى قال الله تعالى في حق الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. إيمان راسخ، وأدب متين، هما أثر ما كانوا يشهدونه من دلائل النبوة، ويتلقونه من حكمة بالغة، وموعظة حسنة، وشأن الذين بلغوا في التعاطف إلى حد الإيثار على النفس أن تكون الحقوق بينهم محترمة، وشأن القوم الذين يبصرون نور النبوة صباحاً ومساءً، أن لا ترى لهم عيناً تطمح إلى هتك عرض، ولا يداً تمتد إلى الاعتداء على مال، ولا فماً ينطق بكلمة قذع أو فحشاء. وكان الذين يتقلدون الإسلام ديناً، يضعون أيديهم في يد رسول الله - عليه السلام -، ويبايعونه "على أن لا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوا في معروف" (¬1). وقال عبادة بن الصامت: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنّا، ولا نخاف في الله لومة لائم (¬2) ". ومن حديث جابر: "بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاشترط عليَّ النصحَ لكل مسلم" (¬3). ومن عرف أن هذه المبايعة من قبيل تأكيد العهد، ودرى كيف كان ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (ج 9 ص 80). (¬2) "صحيح البخاري" (ج 9 ص 77). (¬3) "منه".

العرب يحترمون ما يؤخذ عليهم من ميثاق، أدرك ما لها من أثر في اتقاء المحارم، والكفّ عن كثير من المخالفات التي لا يتحاماها بعض أسارى الشهوات إلا إذا كانوا بمرأى من شرطي لا يمالئ على باطل، ولا يلوث يده بارتشاء. يُحتاج إلى الشرطي في قرية تفتح فيها حانات لتجرّع المسكرات، وبيوت يتجر فيها بنات الهوى بأعراضهن، ونواد يستباح بها لعب الميسر، ولكن المدينة المنورة، وكل بلاد فتحت لعهد النبوة، كانت طاهرة من حانات الخمور، نقية من بيوت الدعارة، سالمة من نوادي الميسر، خالصة من كل ما يثير العداوة والبغضاء. وللإيمان الصادق زاجر لا يعصى، وسلطان لا يرشى، وهو الذي يجعل الرجل خصيماً للمنكر، حليفاً للحق، وكذلك كان الناس في عهد النبوة، فكل مسلم بمنزلة شرطي أمين، يحاسب نفسه، ويغير المنكر بيده أو لسانه، ويجيب إلى التقاضي بين يدي رسول الله، أو أحد خلفائه، ويقيم الشهادة بالقسط، ولو على أبيه أو زوجه أو بنيه. كان في خلال الأمة المسلمة نفر من المنافقين، ولكنهم كانوا يصوغون مظاهرهم في أسلوب المؤمنين، ولمهارتهم في صناعة النفاق، قال الله تعالى يصفهم لنبيه الكريم - عليه السلام -: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101]. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاعه كانوا يقيمون الحدود والزواجر بعزم تبيت له النفوس الكريمة مطمئنة، وترتعد له القلوب القاسية رهبة، ومتى علم المنافق أنه ملاحظ بأعين شُرَط لا يغيبون عن مشهد، وتيقن أنه مُساق إلى محكمة لا تأخذها في

الحق لومة لائم، انصرف عن أهوائه خشية، وانكف عن الشر رياء وتصنعاً. فغلبة التقوى والتراحم بين الأمة، واعتقادُ كل واحد منها أنه مسؤول عما يشهد من إثم أو عدوان، واجراء الحدود والزواجر بعزم لا يعرف هوادة، كل ذلك مما امتاز به عهد النبوة، وجعل الناظر في التاريخ بقلب سليم يشعر بأن الناس لذلك العهد ليسوا في حاجة إلى أن يقوم على رؤوسهم رجال يقال لهم: الزبانية، أو البوليس. وقد أوجسنا خيفة بعد هذا أن ينظر المؤلف إلى كل ما يتصل بالحكومات الغربية أو الشرقية من نظام أو إدارة، ويتخذ عدم وجوده في عهد النبوة حجة على أن ليس هناك حكومة ونظام، حتى خشينا أن يسوق على هذا الغرض آيات بينات، وهي أنه لم يكن في عهد النبوة مجالس مختلطة، ولا صندوق دين عمومي، ولا أقلام تشفي غليل الإباحية بما تأذن به من تعاطي ما يدنس الأعراض، أو يفتك بالألباب. قال المؤلف في (ص 45): "ومما يستأنس به في الموضوع: أننا لاحظنا أن عامة المؤلفين من رواة الأخبار يعنون -في الغالب- إذا ترجموا لخليفة من الخلفاء، أو ملك من الملوك، بذكر عماله من ولاة وقواد وقضاة إلخ، ويفردون له بحثاً خاصاً، يدل على أنهم عرفوا تماماً قيمة ذلك البحث من الجهة العلمية، فصرفوا من الجهد فيه والعناية به ما يناسبه، ولكنهم في تاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم - إن عالجوا ذلك البحث، رأيتهم يزجون الحديث فيه مبعثراً غير متسق، ويخوضون غمار ذلك البحث على نسق لا يماثل طريقتهم في بحث بقية العصور". أنكر المؤلف أن يكون لعهد النبوة حكومة ذات نظام، واستأنس لهذا؛

بأن رواة الأخبار إذا ترجموا لملك أو خليفة، يفردون لولايته وقضاته بحثاً خاصاً، وإذا عالجوا مثل هذا البحث في تاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم -، زَجُّوا الحديث مبعثراً غير متسق، ولا ندري كيف يتم له هذا الاستئناس، وما يدعيه من أنهم يزجّون الحديث مبعثراً، فقصارى ما يؤخذ منه: أنهم لم يجيدوا صنع التأليف في السيرة النبوية؛ إذ لم ينسجوا على المنوال الذي نسج عليه المؤرخون في تراجم الخلفاء والملوك، فإن قصد إلى أن عدم تنسيقها على الوجه المذكور يدل على عدم صحتها، قلنا: هذه دلالة خفيت على المناطقة حين قسموا الدلالة إلى: مطابقة، وتضمن، والتزام. المؤلفون في سنّة الرسول - عليه السلام - وأحواله: محدّثون، وأصحاب سير، ومؤرخون. أما المحدّثون، فعنايتهم مصروفة إلى البحث عن أقوال الرسول - عليه السلام -، وأفعاله، وتقريره، وغايتهم الأولى: رواية الأحاديث التي يمكن أن يستمد منها أحكام شرعية، أو آداب نفسية، وهؤلاء إنما يذكرون اسم قائد، أو وال، أو قاض إذا جاء في رواية تتعلق بشيء من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أفعاله، أو تقريره. وأما أصحاب السير، فإنهم يبحثون عن أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يوم ولادته إلى يوم انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ويرتبون مؤلفاتهم ترتيباً طبيعياً، فيبتدئون بالحديث عن ولادته - عليه السلام -، ويتابعون البحث بمقدار ما وصل إليه علمهم، حتى أتوا على أيام قيامه بدعوة الرسالة، ثم هجرته إلى المدينة المنورة، ثم غزواته وسراياه، والوفود التي قدمت عليه، والرسل الذين وجههم إلى الملوك، ذلك كله مرتباً على حسب الأيام والسنين، ويذكرون

احتمال الأذى في سبيل الذود عن الحق

لكل سرية قائدها، وإذا تحدثوا عن قوم اعتنقوا الإسلام، ذكروا من أمّر عليهم، أو عيّن عاملاً لقبض صدقاتهم. وجرى على طريقة أصحاب السير بعض المؤرخين؛ كابن جرير الطبري، وابن خلدون. وهل بعد أن يذكر رواة الأخبار عند كل سرية قائدها، حتى إنهم يضيفونها إليه، ويقولون: سرية فلان، يسوغ لأحد أن يدعي بأنهم يأتون بالكلام على القواد مبعثراً، ولذلك تجد منهم من يذكر الأمراء في نسق؛ كما صنع ابن خلدون في فصل عنوانه: "العمال على النواحي" (¬1). وأما القضاة، فقد عرفت أن الإمارة لذلك العهد يدخل فيها القضاء، والنظر في غيره من شؤون البلاد. * احتمال الأذى في سبيل الذود عن الحق: عرف المؤلف أنه سيتناول في الباب الثاني وما بعده بحثاً لا يمشي فيه على سبيل، ولا يتشبث فيه بأصل، وعرف أنه سيلقي من الشبه خيالات لا تسحر إلا أعين المتستضعفين علماً وعقيدة، وتيقن بالطبيعة أن العلماء الذين درسوا الشريعة بحق، ووقفوا على مقاصدها خبرة، سينكرون عليه بدعته، وينذرون الناس لكي يتقوا فتنته. عرف هذا وذاك، فأخذ يستعمل السلاح الذي أعده للدفاع عن رأيه المحال، وهو رمي المنكرين بالجمود. فقال في (ص 47): "وأما ثانياً، فلأن المغامرة في بحث هذا الموضوع قد تكون مثاراً لغارة يشبّ نارها أولئك الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة، ليس للعقل أن يحوم حولها، ولا للرأي أن يتناولها". ¬

_ (¬1) "بقية الجزء الثاني" (ص 59).

يريد المؤلف بهذه القذيفة إرهاب أهل العلم؛ ليحجموا عن نقض اَرائه حذراً من وصمة الجمود، وينوي مع هذا استدراج ضعفاء الأحلام إلى اعتناق مذهبه؛ إذ يريهم أنه مذهب الباحث بقريحة مرنة، ونظر مستقل. ألا إن أهل العلم لا يرهبون، وذوي الفطرة السليمة لا يفتنون، وإن سرّه أن يخبّ في أثره قوم لا يبصرون، فإن الفرق التي لا تتقلد الإسلام ديناً ليسوا بقليل. إن في العالم الإسلامي علماء شبّوا على حرية الفكر، وإطلاق العقل من وثاق التقليد الأصم، فهم لا يكرهون لذوي الألباب أن يبحثوا حتى في أصل العقائدإ وجود الخالق"، وهم لا يستطيعون أن يحولوا بين المرء وما يعتقد من باطل، وليس في أيديهم سوى مقابلة الآراء بما تستحقه من تسليم أو تفنيد. وهل يرجو المؤلف من أمثال هؤلاء أن تقع أبصارهم على كتاب ينطوي على آراء تضع مكان الإيمان حيرة، ومكان التقوى فسوقاً، ومكان إباية الضيم ذلة، ثم يمرون عليه مرور الجاهل بسوء عاقبتها؟ فلا وربّك لا يدَعون وباءها يتفشى في النفوس الزكية، والقلوب السليمة، وإن امتلأت الدنيا ألسنة تصفهم بالجمود، وتلقبهم بالحجارة، أو بما هو أشد قسوة. ...

الباب الثاني الرسالة والحكم

البَابُ الثَّاني الرسالة والحكم * ملخصه: افتتح الباب بتهوين البحث في أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان ملكا أم لا، وأخذ يستدرج القارئ إلى رأيه الصريح من بعد، ويخيل له أن الاعتقاد بأحد الطرفين- كونه رسولاً وملكاً، أو ملكاً فقط - ليس بدعاً في الدين، ولا شذوذاً عن مذهب المسلمين، ثم ذكر أن الرسالة غير الملك، وأن من الرسل من لم يكن ملكاً، وقال بعد هذا في صورة سائل: هل كان محمد - صلى الله عليه وسلم - ممن جمع الله له بين الرسالة والملك، أم كان رسولاً غير ملك؟ وادعى أنه لا يعرف لأحد من العلماء رأياً صريحاً في هذا البحث، واستنتج أن المسلم العامي يجنح غالباً إلى اعتقاد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ملكاً ورسولاً، وأنه أسس بالإسلام دولة سياسية. ثم قال: ولعله رأي جمهور العلماء، وساق عليه كلام ابن خلدون، وما نقله رفاعة بك من كتاب "تخريج الدلالات السمعية عن الوظائف والعمالات التي كانت قائمة في عهد النبوة". ثم أخذ يمر بالقارئ على شعاب من التشكيك، فذكر أن في الحكومة النبوية بعض ما يشبه أن يكون من مظاهر الحكم السياسية، وتعرض لمسألة الجهاد، ورأى أن من الظاهر لأول وهلة أن الجهاد إنما يكون لتثبيت السلطان، وتوسيع الملك. وعلّل هذا بأن دعوة الدين لا قوام لها إلا البيان، وتحريك

القلوب بوسائل التأثير والإقناع. وضرب مثلاً آخر لمظاهر الدولة، وهو جمع المال من مثل: الزكاة، والجزية، والغنائم، وقال: لا شك أن تدبير المال عمل ملكي، وأنه خارج عن وظيفة الرسالة من حيث هي، وعزّز مسألتي الجهاد وجمع المال بثالث، وهو ما روي من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجّه إمارة اليمن، وفرّقها بين رجاله، وقال: من نظر إلى ذلك من هذه الجهة، ساغ له القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان رسول الله تعالى، وكان ملكاً سياسياً. وتخلص من هنا إلى أن تأسيسه - صلى الله عليه وسلم - للمملكة الإسلامية خارج عن حدود رسالته، أم جزء مما بعثه الله به وأوحى به إليه؟. وزعم أن القول بأن المملكة النبوية عمل منفصل عن الرسالة، وأنها من قبيل العمل الدنيوي الذي لا علاقة له بها، ليس بكفر، ولا إلحاد، وصرح بأن الرأي الذي تتلقاه نفوس المسلمين بالقبول، هو أن المملكة النبوية جزء من عمل الرسالة، وقال: إن هذا الرأي لا يمكن تعقله إلا إذا ثبت أن الرسول مبلِّغ ومنفذ معاً، وبعد أن نقل كلام ابن خلدون المتضمن: أن الإسلام يجمع بين الدعوة والتنفيذ، ادعى أنه لم ير لهذا القول دعامة، وأنه لا يلتئم مع ما تقضي به طبيعة الدعوة الدينية. وخرج من هذا إلى مشكل آخر -فيما يزعم-, وهو: خلو الدولة السياسية النبوية من كثير من أركان الدولة ودعائم الحكم، ثم افترض جواباً، بل عذراً يقدمه إليه القائلون بأن من مقاصد الإسلام إقامة دولة، وهو أن للحكومة النبوية نظاماً بالغاً، وإحكاما سابغاً، ولكننا لم نصل إلى علم التفاصيل الحقيقية. ورده: بأن احتمال الجهل ببعض الحقائق لا يمنعه من الوثوق بما علم، واعتباره حقائق يبني عليها الأحكام، ويستخلص منها النتائج. ثم

النقض

التمس لعلماء الإسلام جواباً آخر، وهو أن ما نسميه اليوم: أركان الحكومة، وأنظمة الدولة، إنما هي أوضاع مصنوعة، والحكومة النبوية حكومة الفطرة التي ترفض كل تكلف، ورده: بأن كثيراً مما استحدث في أنظمة الحكم ما ليس متكلفاً ولا مصنوعاً، وهو مع ذلك ضروري ونافع، ثم أغلق الباب بوعد أنه سيلتمس وجهاً آخر لحل ذلك الإشكال، وهو ما عرج عليه في الباب الثالث. * النقض: رفع المؤلف الحرج على الباحث في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كان ملكاً أم لا؟ ونفى أن يكون هذا البحث ذا خطر في الدين يخشى شره على إيمان الباحث، وأفتى بأنه لا يمس شيئاً من جوهر الدين، ولا أركان الإسلام. ثم قال في (ص 49): "وربما كان ذلك البحث جديداً في الإسلام، لم يتناوله المسلمون من قبل على وجه صريح، ولم يستقر للعلماء فيه رأي واضح، وإذا، فليس بدعاً في الدين، ولا شذوذاً عن مذاهب المسلمين، أن يذهب الباحث إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان رسولاً وملكاً، وليس بدعاً ولا شذوذاً أن يخالف في ذلك مخالف، فذلك بحث خارج عن دائرة العقائد الدينية التي تعارف العلماء بحثها، واستقر لهم فيها مذهب، وهو أدخل في باب البحث العلمي منه في باب الدين". لو كان المؤلف يبحث بحكمة وإخلاص، لافتتح البحث ببيان ماذا يريد من الملك؟ وأخذ يفتح عين القارى" فيما تقتضيه الأدلة من ثبوت حقيقته في تصرف النبي - عليه السلام - أو عدم ثبوتها، ولكنه علم أن دخوله في الموضوع من طريق الصراحة يرفع الستار عن طويته، فيأخذ المسلمون منه حذرهم،

الملك

ويسهل على أهل العلم تحديد آرائه وطعنها بالحجّة في نحورها، لذلك اختار لفظ: ملك، وهو اسم لم يألف المسلمون إطلاقه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليمكنه أن ينفي تحت اسمه ما شاء من حقائق شرعية، دون أن يحس السذج بما يقصده من إنكار مزايا الإسلام، وهدم كثير من أصوله. ونحن لا نتقدم إلى الخوض في هذا البحث، إلا بعد رسم حقيقة الملك؛ حتى يمتاز المعنى الذي يلتئم بالرسالة من المعنى الذي لا يليق بمقامها الرفيع. * الملك: المُلْكُ رياسة يتصرف بها صاحبها في أمور الجمهور أمراً ونهياً وتنفيذاً، فإن كان التصرف قائماً على سنن العدل، ومقتضى المصلحة، كان الملك مقاماً محموداً، ومرتقى شريفاً، وهذا هو الذي يهبه الله لعباده المصطفين؛ كما قال الله تعالى مخبراً عن نبيه سليمان - عليه السلام -: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]. وقال تعالى مخبراً عن يوسف الصديق - عليه السلام -: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 101]. وإن كان التصرف جارياً مع الأهواء، جامحاً عن سنن الهوى، كان الملك مظهراً ممقوتاً، ومهبط خسر وشقاء، وهذا الصنف من الملك هو الذي يتنزه عنه أنبياء الله، ولا يصح أن يجتمع مع الرسالة بحال. وإذا كان المراد من الملك: سياسة الرعية، وتدبير شؤونها، كانت السياسة نوعين: عادلة، وجائرة؛ فكان السياسة العادلة هي التي يجيء بها الرسل - عليهم السلام -، وهي التي يعنيها المسلم إذا قال: إن الرسول كان

الرسول - عليه السلام - ذو رياسة سياسية

ماسكاً بزمام السياسة، وإنما تحامى الناس أن يطلقوا على رسل الله لقب ملك؛ لأن لقب الرسول أرفع اسماً، وأدل على العدل من لقب ملك الذي ينادي به كل سائس، وإن كان مستبداً مترفاً. ونحن نجاري المؤلف في هذا الصدد، ولا نريد من اسم الملك -متى وصفنا به مقام الرسالة- إلا الرياسة السياسية التي يحاولها بالرغم من حجج تصيح به أنّى التفت، وهو متصامم عنها تصامم المفتون بأحدث "ما أنتجت العقول البشرية". * الرسول - عليه السلام - ذو رياسة سياسية: يقول المؤلف: "إن البحث في أن الرسول - عليه السلام - كان ملكاً، أم لا؟ بحث جديد في الإسلام". وهذا لا يصح إلا إذا عنى بالبحث: نفي أن يكون للرسول - عليه السلام - رياسة سياسية؛ فإن البحث في ذلك على وجه الإنكار بحث مختلق في الإسلام، وأما كون الرسول ذا رياسة سياسية، فأمر تقرر بالكتاب والسنّة المتواترة، وتناوله المسلمون من قبل على وجه صريح، واستقر للعلماء فيه رأي واضح. أما الكتاب، فمن آياته الكثيرة في هذا المعنى: قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وأما السنّة، فمن شواهدها: أقضيته - صلى الله عليه وسلم -، وإقامته الحدود على مثل: الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وإرساله الأمراء في طول البلاد المفتوحة وعرضها. وأما اعتقاد العلماء قاطبة بأنه - عليه السلام - كان رسولاً نبياً، ومشرّعاً سياسياً، فدليله: إجماعهم على الاستدلال بأقضيته وأحكامه وسائر تصرفاته

بحث في (أعطوا ما لقيصر لقيصر)

العائدة إلى شؤون الدولة، إلا ما كان منوطاً بعلّة، فزالت، وخلفتها فيه علة أخرى، على ما سنبينه في غير هذا المقام بياناً شافياً. فاستخفاف المؤلف بذهاب الباحث إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن رسولاً ملكاً، وقوله: إن ذلك ليس بدعاً في الدين، ولا شذوذاً عن مذاهب المسلمين، ما هو إلا افتيات على الإسلام، ومن ذهب إلى أن الرسول لم يكن مدبراً لشؤون السياسة، فقد نبذ كتاب الله وراء ظهره، وشاقق الرسول، واتبع غير سبيل المؤمنين. * بحث في (أعطوا ما لقيصر لقيصر): ذكر المؤلف أن الرسالة غير الملك. ثم قال في (ص 49): "ولقد كان عيسى بن مريم - عليه السلام - رسول الدعوة المسيحية، وزعيم المسيحيين، وكان مع هذا يدعو إلى الإذعان لقيصر، ويؤمن بسلطانه، وهو الذي أرسل بين أتباعه تلك الكلمة البالغة: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" وكان يوسف بن يعقوب - عليه السلام - عاملاً من العمال في دولة الريان بن الوليد، فرعونِ موسى، ومن بعده كان عاملاً لقابوس ابن مصعب". أتى المؤلف بهذه المقدمة ليضع في ذهن القارئ تمثيل رسول الإسلام بعيسى ويوسف - عليهما السلام - في أن كلاً منهم لم يكن صاحب دولة، ولا رئيساً أعلى في السياسة. والذي يبطل هذا التمثيل: أن رسول الإسلام لم يدعُ إلى الإذعان لقيصر، ولا كان عاملاً للمقوقس (¬1) صاحب مصر، بل ¬

_ (¬1) أطلق العرب اسم المقوقس على حاكم مصر البيزنطي لما فتح عمرو بن العاص - رضي الله عنه - مصر.

دعاهما إلى الإيمان به، والدخول تحت سلطانه، وقد شاء ربك أن يكون انقراض دولتهما، ودخولُ مملكتهما تحت راية الإسلام على يد أحد خلفائه الراشدين. لم يرض محمد بن عبد الله - عليه السلام - أن يقيم تحت سلطان غير سلطان الله، ولم يرض لمعتنقي دينه الحنيف أن يستكينوا لسلطة غير إسلامية، وفرضُ الهجرة والجهاد على ما نقول شهيد. وما ينبغي للمؤلف أن يحشر في غضون كتابه مثل هذه الكلمة التي تقضي حاجة في نفس المخالف المتغلب، وتبقي في النفوس أثر الاستكانة إلى أي يد تقبض على زمامها. ولقد قلنا فيما سلف: إن هذه المقالة التي يعزوها إلى المسيح - عليه السلام - لا تجد في المناظرة أذناً صاغية؛ إذ لم نعلم السند الذي ينتهي بها إلى المسيح - عليه السلام -، علاوة على أن الإسلام شرع الهجرة والجهاد، وأبى لأتباعه إلا أن يلوذوا بالمنعة والعزّة التي ليس بعدها مرتقى. قال المؤلف في (ص 50): "فهل كان محمد - صلى الله عليه وسلم - ممن جمع الله له بين الرسالة والملك، أم كان رسولاً غير ملك؟ لا نعرف لأحد من العلماء رأياً صريحاً في ذلك البحث، ولا نجد من تعرض للكلام فيه بحسب ما أتيح لنا، ولكنا قد نستطيع بطريق الاستنتاج أن نقول: إن المسلم العامي يجنح غالباً إلى اعتقاد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ملكاً رسولاً، وأنه أسس بالإسلام دولة سياسة مدنية كان هو ملكها وسيدها". إن كانت لكتاب المؤلف مزية، فهي أنه يعلّم الناس كيف يتنكرون لما عرفوا، وكيف يتخذون من الصفاقة برقعاً كثيفاً، رأى أهلَ العلم يتحامون

أن يلقبوا الرسول - عليه السلام - بالملك، أو يسمّوا رياسته ملكاً، فاتخذ ذلك ذريعة لما يخادع به قراء كتابه من أن المسألة صالحة لأن تدخل تحت طائلة البحث، وأنه ما وجد فيها للعلماء رأياً صريحاً، ولا وجد من تعرض للكلام فيها. لم يخطر على بال أولئك العلماء أن الأيام سيجيئها المخاض، فتضع في بيوت المسلمين وليداً يقال له: "كتاب الإسلام وأصول الحكم" حتى يُعِدّوا له ما استطاعوا من التصريح بأن الرسول - عليه السلام - كان ملكاً، وأن بجانب نبوته سياسة يقال لها: ملك. ولا أدري لماذا لم تخطر على بالهم هذه النادرة، وهم كثيراً ما يفصلون أحكاماً لصور لم تجر العادة بوقوعها، ولعلهم لم يذهلوا عن مثلها، ولكنهم حسبوا أن القرآن والسنّة النبوية المتواترة، وبحثهم في الخلافة صريحة في أن للنبي رياسة سياسية، وأن هذه الصراحة تمنع من ينتمي للإسلام -وهو يحمل قلباً يفقه- أن يقول: لا نعرف لأحد من العلماء رأياً صريحاً في ذلك البحث، ولا نجد من تعرض للكلام فيه. على أن العلماء يتعرضون لهذه الرياسة السياسية في بحث الخلافة، وفي غير بحث الخلافة، ولم يفتهم إلا أن يسمّوها: ملكاً، واختاروا أن يسموها: القضاء والإمامة؛ كما صنع الإمام شهاب الدين القرافي في: الفرق السادس والثلاثين (¬1). بين قاعدة تصرفه - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء، وبين قاعدة تصرفه بالفتوى، وبين قاعدة تصرفه بالإمامة. ¬

_ (¬1) كتاب "الفروق" (ج 1 ص 249) طبع تونس.

ومن حذقِ المؤلف في الخلابة (¬1) أن جعل كون النبي - عليه السلام - ذا رياسة سياسية، مما يعتقده المسلم العامي، قال هذا، وهو إنما يقصد تنفير قارئ كتابه من أن يكون بمنزلة العامة حيث يشاركهم في هذه العقيدة. قال المؤلف في (ص 50): "ولعله أيضاً هو رأي جمهور العلماء من المسلمين، فإنك تراهم إذا عرض لهم الكلام في شيء يتصل بذلك الموضوع، يميلون إلى اعتبار الإسلام وحدة سياسية، ودولة أسسها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلام ابن خلدون ينحو ذلك المنحى؛ فقد جعل الخلافة التي هي نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا شاملةً للملك، والملك مندرج تحتها". يزعم المؤلف: أن العلماء لم يصرحوا بدخول الرياسة السياسية في وظيفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو رأي العامة من المسلمين، وبعد أن فرغ من طريقته الشعرية، قال -كأنه لا يزال في تردد من كونه رأي أهل العلم -: ولعله أيضاً هو رأي جمهور أهل العلم ... إلخ. يؤكّد لك أن المؤلف اتخذ من اسم "ملك" نافقاء (¬2) يخرج منها إلى حيث يشاء: أنه قرأ ما يقوله العلماء في الخلافة من أنها نيابة عن الرسول - عليه السلام - في إقامة الدين وسياسة الدنيا، ولم يأخذ نفسه إلى الاعتراف بأن هذا صريح فيما يعتقدونه لمقام الرسالة من الرياسة السياسية، ونأى بجانبه عن هذا كله؛ حيث لم ينطقوا بكلمة: مُلْك، أو مَلِك، وإنما تعرض ¬

_ (¬1) الخلابة: الخديعة برقيق الحديث. وفي الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: "إذا بايعت، فقل: لا خلابة". (¬2) النافقاء: إحدى حجرة اليربوع، يكتمها، ويظهر غيرها، وهو أصل النفاق.

الجهاد النبوي

لكلام ابن خلدون على وجه خاص؛ لأنه ذكر اسم ملك، وقال؛ إن الملك مندرج في الخلافة. قال المؤلف في (ص 52): "ولا شك في أن الحكومة النبوية كان فيها بعض ما يشبه أن يكون من مظاهر الحكومة، وآثار السلطنة. وأول ما يخطر بالبال مثالاً من أمثلة الشؤون الملكية التي ظهرت أيام النبي - صلى الله عليه وسلم -: مسألة الجهاد". ليس المؤلف بالغبي لحد أن تظهر عنه هذه الكلمات دون أن ينتبه لما تنطوي عليه من مغامز، ولعله عدل عن التعبير الذي يألفه ذوق المسلم إلى هذا الأسلوب الغريب؛ ليكون في لحنه خطاب لقوم آخرين، حتى إذا خلا بعضهم إلى بعض، تناولوه بشرح تشمئز منه قلوب "الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة". استكثر المؤلف على الحكومة النبوية أن يكون لها ولو بعض مظاهر الحكومة السياسية، ولم يسمح قلمه الهمّاز إلا أن يجعل لها بعض ما يشبه أن يكون من مظاهر الحكومة السياسية. وساق الجهاد مثلاً لهذا البعض الشبيه بمظاهر السياسة، واختار هذه الصيغة: "ظهرت أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - مسألة الجهاد"، كأنه يتجنب الكلمة التي يشتم منها رائحة التشريع؛ محافظة على ذلك "المجال المشتبه الحائر"، وليبعد بذهن القارئ عن الاعتقاد بأن الجهاد تنزيل من حكيم حميد. * الجهاد النبوي: قال المؤلف في (ص 52): "وظاهر أول وهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين، ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله، وإنما يكون

الجهاد لتثبيت السلطان، وتوسيع الملك". قام النبي - عليه الصلاة والسلام - بمكة يجاهد في سبيل ربه بالحجّة والموعظة الحسنة، ولاقى هو وأصحابه من أذية المشركين ما لا يحتمله إلا ذو عزم نافذ كفلق الصبح، وكانت الآيات تنزل لتسليتهم، ومطاردة ما عساه يعلق بنفوسهم من جزع أو أسى. وبعد أن امتحن الله قلويهم للتقوى، وتألّف حول مقام النبوة حزب لا يخنع للبأساء، ولا تستخفه السرّاء، طلعت بهم الهجرة الخالصة بين لابتي المدينة المنورة، وأصبحوا بين أقوام ينالونهم بالأذى، وآخرين يناصبونهم العداء، ومن هؤلاء من يتربص بهم الدائرة، ومنهم من يجمع أمره ليأخذهم على غرّة، ولكن الله سلَّم، إنه عليم بذات الصدور. هذا البلاء الذي كان يسطو حول الجماعة المسلمة، أو يتحفز للوثوب عليها، كان حكمة تناسب الإذن للرسول - عليه الصلاة والسلام - بسلّ السيف في وجه عدوه الكاشح؛ ليدفع شره، ولتسير دعوة الحق في سبيل لا تعترضها عقبات المفسدين. لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراقَ على جوانبه الدمُ لذلك نزل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} {البقرة: 190]، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} {البقرة: 216]. فنهض النبي - صلى الله عليه وسلم - يجاهد في سبيل حماية الدعوة كل خائن كفّار، وكان

الجزية

مع هذا العمل المطهِّر لوجه الأرض من نجس الشرك والعادات القاتلة للفضيلة، يعقد المعاهدات والمخالفات بينه ويين الأقوام المخالفين؛ حيث جنحوا إلى السلم، وأخذوا على أنفسهم أن لا يظاهروا عليه عدواً، وكان يفي بشرطهم، ويحترم عهدهم حتى تبدو منهم الخيانة، ويمدوا أيديهم إلى مساعدة أعدائه المحاريين. قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، وقال: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4]. * الجزية: وما برح - صلى الله عليه وسلم - يقاتل محاربيه على مقتضى العدل والحزم إلى السنة الثامنة أو التاسعة من الهجرة (¬1)، فشرعت وقتئذٍ الجزية، ونزلت آية: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فكان - عليه الصلاة والسلام - يقبل من أهل الكتاب الجزية، ويقرّهم في أمن على نفوسهم وأموالهم، وحرية من إقامة شعائر دينهم، وقبل الجزية من المجوس أيضاً، وقال: "سُنّوا بهم سنّة أهل الكتاب" (¬2). ومن أهل العلم من وقف في قبول الجزية عند حد ما ورد في الكتاب والسنّة، ومنهم من ذهب إلى أنها تقبل من كل مخالف، أياً كانت نحلته. قال القاضي أَبو بكر بن العربي في "عارضة الأحوذي": "قال ابن القاسم ¬

_ (¬1) اختلف في مشروعية الجزية، فقيل: في سنة ثمان، وقيل: في سنة تسع "فتح الباري" (ج 6 ص 161). (¬2) "الموطأ".

المخالفون أنواع ثلاثة

- صاحب الإمام مالك-: إذا رضيت الأمم كلهم بالجزية، قبلت منهم". وقال ابن حجر في "الفتح" (¬1): "وقال مالك: تقبل من جميع الكفار إلا من ارتد، وبه قال الأوزاعي وفقهاء الشام". * المخالفون أنواع ثلاثة: وصار المخالفون بعد تقرير الجزية إلى أنواع ثلاثة: أهل عهد، وأهل ذمة، ومحاربين. ومن تتبع سير الجهاد النبوي ينتزع منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحمل المحاربين من مشركي العرب على الإسلام، أو السيف؛ إذ كان الفساد الذي ينشأ عن الوثنية والمزاعم المتفرقة عنها وباء يفتك بالعقول والأخلاق، ويفتح على الإنسانية ينبوع شر ليس له من آخر، وكان -مع هذا- ينهى عن قتل الشيوخ والأطفال والنساء، ويطلق سراح الأسرى، إما منّاً، وإما فداء. وبعد أن استقر الأمر على حكم قبول الجزية، أصبح الجهاد النبوي بعيداً عما يشبه أن يكون من مظاهر الإكراه في الدين، كما أنه لا يخطر على بال مسلم أن الجهاد النبوي إنما يكون لتثبيت السلطان وتوسيع الملك. * سر الجهاد في الإسلام: إذاً ما هي الغاية من الجهاد؟ الإسلام عقيدة وشريعة ونظام اجتماعي، فهو بالنظر إلى أصول العقائد التي هي باب الإيمان به إنما يدعى إليه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ إذ لا يمكن لبشر أن يُدخل في قلب بشر عقيدة إلا أن يقرنها بما يثبتها في النفس ¬

_ (¬1) (ج 6 ص 161).

خطأ المؤلف في الاستدلال بآيات على أن الجهاد خارج عن وظيفة الرسالة

من برهان أو إقناع. وأما الشرائع والنظم الاجتماعية، فإن التجربة في القديم والحديث دلت على أنها لا تقوم في أمة، ولا يطّرد نفاذها، إلا أن تكون شدة البأس بجانبها، والسيوف من ورائها، فلا بد للإسلام من دولة ذات شوكة؛ لتقوم على إجراء هذه الشرائع والنظم، وتحول بينها وبين قوم لا يبصرون. ثم إن ظهور الحق بمظهر العزة والمنعة مما يجذب إليه النفوس، ويحبب إليها التقرب منه، وربما انقلبت إلى تأييده بعد أن كانت من خصومه الألداء، فلا بد أيضاً من بسط ظلّ الإسلام وإعلاء رايته على دائرة واسعة من البسيطة، حتى لا تكون فتنة، وحتى يدرك المخالفون الذين يقيمون تحت سلطانه أنه دين التوحيد الخالص، والشريعة القيمة، والآداب السامية، فيعتنقونه عن عقيدة صادقة، ونفس راضية، وكذلك كان أثر الجهاد في البلاد التي انقلبت إسلامية في عقائدها وآدابها وسائر شؤونها الاجتماعية. * خطأ المؤلف في الاستدلال بآيات على أن الجهاد خارج عن وظيفة الرسالة: قال المؤلف في (ص 53): "وما عرفنا في تاريخ الرسل رجلاً حمل الناس على الإيمان بالله بحد السيف، ولا غزا قوماً في سبيل الإقناع بدينه، وذلك هو نفس المبدأ الذي يقرره النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما كان يبلغ من كتاب الله. قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22]، وقال: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ

تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]. {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. تلك مبادئ صريحة في أن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - كرسالة إخوانه من قبل إنما تعتمد على الإقناع والوعظ". من الجلي الواضح: أن الرسول لا يغزو قوماً في سبيل الإقناع بدينه؛ فإن للحجَّة عملاً لا يقوم به السيف، كما أن للسيف عملاً لا تنهض به الحجّة، فالحجّة تلج بالعقيدة إلى أعماق القلوب، وهذا عمل لا تنهض به السيوف وإن كانت مشرفية، ولا الرماح وإن كانت سمهرية، والسيف يحمل الناس على الشرائع واحترام النظم الاجتماعية، وهو عمل قد تذهب الحجّة دونه ضائعة، وإن لبست بردة الفصاحة من منطق سَحبان، أو قلم الفتح بن خاقان. فالجهاد لا يقصد به نقل القلوب من الضلال إلى الهدى، وإشرابها الإيمان في الحال، وعدمُ إمكان هذا المعنى لا يمنع من أن يراد من الجهاد النبوي قبل شرع الجزية: كفُّ أذى القبائل المشركة العاثية في الأرض فساداً، وإلباسها ثوب الإسلام -ولو في الظاهر- لتدخل في نظام وشريعة، ويرجى منها بعد مشاهدة أنوار النبوة مرة بعد أخرى أن تدرك الحق حقاً، فينقلب جهلها علماً، ونفاقها إيماناً، وتستنير صدورها كما صلحت ظواهرها. والجهاد لهذا القصد يلتئم مع قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، فإن الجهاد الذي يساق به الوثنيون إلى الإسلام يقصد به: إصلاح ظواهرهم، والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، يقصد به: إخراج القلوب من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان.

من مقاصد الإسلام: أن تكون لأهله دولة

وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] إنما يفهم منه: إنكار أن يكون في استطاعة البشر إدخال الإيمان في القلوب بوسائل القسر والإكراه. وقوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [آل عمران: 20]، وقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22] هما من الآيات التي كانت تنزل قبل مشروعية الجهاد؛ لتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - حين يشتد به الحزن من إعراض المشركين عن سبيل الهدى، وتكاد نفسه الشريفة تذهب عليهم حسرات. وقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256} تتمشى مع شرع الجهاد أيضاً؛ إذ يجوز أن يكون المراد من الآية نفي أن يكون، في الدين إكراه من الله وقسر، بل مبنى الأمر على التمكين والاختيار، ولولا ذلك، لما حصل الابتلاء، ولبطل الامتحان، وإلى ذلك ذهب القفّال" (¬1). وإذا نظرنا إلى أن الآية نزلت بعد تقرير حكم الجزية، كان معنى الآية: "إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية، ورضاه بحكم الإسلام" (¬2). فرسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - تعتمد على الحجة والإقناع والموعظة، وكانت تتخذ الجهاد دفعاً لأذى المشركين، وعوناً على بث الدعوة إلى رب العالمين. * من مقاصد الإسلام: أن تكون لأهله دولة: قال المؤلف في (ص 53): "وإذا كان - صلى الله عليه وسلم - قد لجأ إلى القوة والرهبة، ¬

_ (¬1) "روح المعاني" (ج 1 ص 469). (¬2) "تفسير ابن جرير الطبري" (ج 3 ص 12).

فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين، وإبلاغ رسالته إلى العالمين، وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه يكون في سبيل الملك، ولتكوين الحكومة الإسلامية، ولا تقوم حكومة إلا على السيف، وبحكم القهر والغلبة، فذلك عندهم هو سر الجهاد النبوي ومعناه". من مقاصد الإسلام الأساسية: أن تكون لأهله دولة ليس لمخالف عليها من سبيل، ولم يكن المقتضى لإقامة هذه الدولة ما يخطر على طلاب الملك من التباهي بالرياسة، والتمتع بملاذ هذه الحياة، وإنما يقصد الإسلام من تأسيس الدولة الإسلامية أمرين: أحدهما: إجراء أحكامه العادلة، ونظمِه الكافلة بسعادة الحياة؛ إذ لا يقوم عليها بحق إلا من آمن بحكمتها، وأشرب قلبه الغيرة على تنفيذها. ثانيهما: الاحتفاظ بكرامة أوليائه، وإعزاز جانبهم؛ حتى لا يعيشوا تحت سلطة مخالف يدوس حقوقهم، ويرفع أبناء قومه أو ملته عليهم درجات. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أقام الحكومة الإسلامية لهذين المقصدين اللذين يتجليان في كثير من الآيات؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وقوله: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8]. ولقد أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - حكومة رفعها المسلمون على رؤوسهم، وتلقوا تشريعها وتنفيذها بقلوبهم، والقوة والرهبة إنما كان يعدّها لمن يبدؤونه بالقتال، أو يبيتون المكيدة لأخذه على غرّة، أو يقفون في سبيل دعوته، ولم يجاهد في سبيل الملك قط، وإنما كان يجاهد لإذن الله في سبيل الله. وقول المؤلف: "فذلك عندهم هو سر الجهاد النبوي ومعناه" إنما هو

النافقاء يبنيها اليربوع، (¬1) حتى إذا حوصر من باب، خرج من آخر، وذهب بسلام، ولا ندري ماذا يريد بقوله: "عندهم"، والظاهر أنه لم يرد بذلك علماء الإسلام، فإنه قال في صدر الباب: إنه لا يعرف لأحد من العلماء رأياً صريحاً في بحث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ملكاً أم لا. ولو قالوا: إن الجهاد النبوي كان في سبيل الملك، لكان هذا القول صريحاً في ذهابهم إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ملكاً. على أننا لا نعلم، ولا يمكن أن نعلم أن أحداً من علماء الإسلام يذهب إلى أن الجهاد النبوي كان في سبيل الملك، وكيف تصدق أن يذهب أحد إلى هذا السفساف، وأنت لا تتلو قرآناً أو حديثاً في الجهاد إلا وجدته يُصرح وُيرشد إلى أن يكون "في سبيل الله". ثم أتى المؤلف بمثل آخر من أمثلة الشؤون الملكية، وهو ما كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من العمل المتعلق بالشؤون المالية من حيث جمع المال، وتوزيعه بين مصارفه. ثم قال في (ص 54): "ولا شك أن تدبير المال عمل ملكي، بل هو أهم مقومات الحكومات. على أنه خارج عن وظيفة الرسالة من حيث هي، وبعيد عن عمل الرسل باعتبارهم رسلاً فحسب". الذي يعرفه رجال العلم: أن تحديد وظيفة الرسول يرجع إلى إرادة المرسل، فهو الذي يحد له العمل الذي يقوم به، ويبلغه عنه، ومعرفة أن هذا العمل داخل في وظيفة الرسول، إنما تتلقى من الأدلة السمعية التي ¬

_ (¬1) اليربوع: حيوان صغير على هيئة الجرذ الصغير، وله ذنب صغير ينتهي بخصلة من الشعر، وهو قصير اليدين، طويل الرجلين.

يصدق بها المؤمنون برسالته. إذاً، كل عمل يقوم الدليل على أن الرسول - عليه السلام - فعله عن وحي، فهو داخل في وظيفته. ولا ريب في أن التدبير المالي الذي ذكره المؤلف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم به بأوامر إلهية؛ مثل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ...} [التوبة: 60]. وهل -بعد هذا- ينشرح صدر مسلم لأن يقول: إن تدبير النبي - عليه السلام - لأموال الزكاة والجزية وخمس الغنيمة بعيد عن عمل الرسل من حيث إنهم رسل؟!. قال المؤلف في (ص 55): "إذا ترجح عند بعض الناظرين اعتبار تلك الأمثلة، واطمأن إلى الحكم بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان رسولاً وملكاً، فسوف يعترضه بحث آخر جدير بالتفكير. فهل كان تأسيسه - صلى الله عليه وسلم - للمملكة الإسلامية، وتصرفه في ذلك الجانب شيئاً خارجاً عن حدود رسالته - صلى الله عليه وسلم -، أم كان جزءاً مما بعثه الله له، وأوحى به إليه؟!. نفث المؤلف كلمة الارتياب في أن للنبي - عليه الصلاة والسلام - رياسة سياسية، وأفتى بأن إنكار ذلك لا يمس جوهر الدين، فصادمته أعمال من السيرة النبوية لا تصدر إلا ممن قبض على زمام السياسة، فأخذ يقلل من شأنها، ويسميها: "بعض ما يشبه أن يكون من مظاهر الحكومة". ثم خشي أن لا يجد الارتياب إلى قلوب بعض القارئين منفذاً، فيخرجوا بضمائر طاهرة، فسولت له نفسه أن يهمس في آذان الذين اطمأنوا إلى الحكم بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان رسولاً ملكاً، ويفتنهم من ناحية أخرى، وهي: أن تأسيس النبي - صلى الله عليه وسلم - للمملكة الإسلامية، وتصرفه في ذلك الجانب، هل كان خارجاً

عن حدود الرسالة، أو كان جزءاً مما أوحي به إليه؟ قال المؤلف في (ص 55): "فأما أن المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام، وخارج عن حدود الرسالة، فذلك رأي لا نعرف في مذاهب المسلمين ما يشكله، ولا نذكر في كلامهم ما يدل عليه، وهو على ذلك رأي صالح لأن يذهب إليه، ولا نرى القول به يكون كفراً ولا إلحاداً". كان المؤلف يرجو أن يجد في مذاهب المسلمين القول بأن المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام، وخارج عن حدود الرسالة، ولكنه لم يعرف ما يشاكل ذلك، ولا يذكر في كلامهم ما يدل عليه، وأراد أن يجعل لهذا الرأي المنشق عن الآراء الإسلامية مكاناً في النظر، فشهد له بالصلاح لأن يكون مذهباً، وأذن للإيمان بأن يلتقي معه في نفس واحدة. سبق للمؤلف آنفاً أن ذكر في الشؤون الملكية: الجهاد، والزكاة، والجزية، والغنائم، وساق الكلام فيها على أسلوب يخيل إلى القارئ أنها لم تجئ عن طريق الوحي، وإذ صرف قلمه عن آيات الجهاد، وآيات الزكاة والغنائم، بدا له أن المجال فسيح، وطفق يشهد للآراء المطوية على الكيد للإسلام باللياقة لأن تكون مذهباً. تصرُّف النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل الجهاد والزكاة والجزية والغنائم يستند إلى صريح القرآن، فلا مفر لمنكره من الوقوع في حمأ الإلحاد. ولا أراني في حاجة إلى نقل شيء من نصوص الراسخين في علم الشريعة وفتواهم؛ بأن من أنكر حقيقة معلومة من الدين بالضرورة، فقد انقلب على عقبه مدبراً عن الإسلام، ولا يحق له بعد ذلك الإنكار أن يتأثّم من المسلمين إذا طرحوه من حساب أولياء دينهم الحنيف.

تفنيد قول المؤلف: الاعتقاد بأن الملك الذي شيده النبي - عليه السلام - لا علاقة له بالرسالة، ولا تأباه قواعد الإسلام

* تفنيد قول المؤلف: الاعتقاد بأن الملك الذي شيده النبي - عليه السلام - لا علاقة له بالرسالة، ولا تأباه قواعد الإسلام: قال المؤلف في (ص 55): "لا يهولنك أن تسمع للنبي - صلى الله عليه وسلم - عملاً كهذا خارجا عن وظيفة الرسالة، وأن ملكه الذي شيده من قبيل العمل الدنيوي الذي لا علاقة له بالرسالة، فذلك قول إن أنكرته الأذن , لأن التشدق به غير مألوف في لغة المسلمين، فقواعد الإسلام، ومعنى الرسالة، وروح التشريع، وتاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك لا يصادم رأياً كهذا، ولا يستفظعه، بل ربما وجد ما يصلح له دعامة وسنداً، ولكنه -على كل حال- رأي نراه بعيداً". قد عرفت -فيما سلف-: أن المؤلف يعني بالداخل في حدود الرسالة: ما تقرر بوحي، وبالخارج عنها: ما لم يكن كذلك. ومما هو صريح في هذا المعنى: قوله فيما نقلناه آنفاً: "وتصرفه في ذلك الجانب شيئاً خارجاً عن حدود رسالته، أم كان جزءاً مما بعثه الله به، وأوحى به إليه". وبعد أن يريد بالخارج عن وظيفة الرسالة: ما لم يكن مستنداً إلى وحي، ويذكر من شؤون الملك: الجهاد والزكاة والجزية والغنائم، يقول: إن الاعتقاد بأن المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام، وخارج عن وظيفة الرسالة، ليس بكفر ولا إلحاد، وأن معنى الرسالة وروح التشريع وتاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك لا يصادمه، ولا يستفظعه، وتطاول بعد هذا إلى دعوى أنه يوجد ما يصلح له دعامة وسنداً. لا يهول المسلم أن يسمع من مخالف أن عملاً كالجهاد والتصرف في شؤون الزكاة والجزية والغنيمة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتولاه من نفسه دون أن يهبط عليه وحي بذلك؛ فإن المخالف لا يصدق بالقرآن، ولا يطمئن لإجماع،

التنفيذ جزء من الرسالة

وإنما يهول المسلم أن يسمع رجلاً نبت في بيت إسلامي، وشبّ في معهد ديني، وهو يتشدق بهذا الرأي، رافعاً به عقيرته، شأن من لم يطرق أذنه أمثال قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41]، وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41]، وقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. وإذا كانت الشؤون الحربية والمالية والقضائية مما جاء به صريح القرآن، فأيّ شبهة تبقى بيد من يزعم من أن قواعد الإسلام، ومعنى الرسالة، وروح التشريع، وتاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا تصادم القول بأن تأسيس المملكة خارج عن وظيفة الرسالة؟ ولا ندري ما هذا الأمر الذي يصلح أن يكون دعامة وسنداً لرأي لو علق طلاؤه بأذهان المسلمين، لنبذوا شطر كتاب ربهم، وسنّة رسولهم، وكانوا من القوم الذين خسروا أنفسهم وهم لا يشعرون!. وقول المؤلف: "ولكنه -على كل حال- رأي نراه بعيداً" إنما هو النافقاء يبنيها عقب آراء يثيرها في وجه الحقيقة، ويقنع من أثرها بالتشكيك، ولو جاءت هذه الكلمة كما تجيء الكلمات التي تقتضيها طبيعة البحث، لنبه على وجه بُعده؛ كما أجمع أمرَه على تقريبه وتأييده. * التنفيذ جزء من الرسالة: تعرض المؤلف للقول بأن المملكة النبوية جزء من عمل الرسالة، متمم لها، وداخل فيها، وقال: ذلك الرأي الذي تتلقاه نفوس المسلمين

فيما يظهر بالرضا. ثم قال في (ص 56): "ومن البين أن ذلك الرأي لا يمكن تعقله، إلا إذا ثبت أن من عمل الرسالة أن يقوم الرسول -بعد تبليغ الدعوة- بتنفيذها على وجه عملي؛ أي: أن الرسول يكون مبلّغاً ومنفذاً. غير أن الذين بحثوا في معنى الرسالة، ووقفنا على مباحثهم، أغفلوا دائماً أن يعتبروا التنفيذ جزءاً من حقيقة الرسالة، إلا ابن خلدون، فقد جاء في كلامه ما يشير إلى أن الإسلام دون غيره من الملل الأخرى قد اختص بأنه جمع بين الدعوة الدينية، وتنفيذها بالفعل". يدع المؤلف دلائل الشريعة، ونصوص العلماء القائمة على أن التنفيذ جزء من وظيفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويلقي قلمه في مهابِّ الشبه تخفق به من أمام إلى وراء، ومن اليمين إلى الشمال، يريد أن يتخذ من بحث أهل العلم في معنى الرسالة دليلاً على أن التنفيذ غير داخل في وظيفة سيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام -، وقد حام على غير هدى، وتشبث بأوهى من عهد دولة استعمارية! إن الذين يبحثون عن الحقائق العامة، إنما يشرحونها بالمعنى الذي تشترك فيه جميع أفرادها، وليس عليهم أن يتعرضوا لما يتصل بها من مقتضيات، أو ينضم إلى بعض أفرادها من مميزات، فإذا قالوا: "الرسول إنسان بعثه الله إلى الخلق لتبليغ الأحكام" (¬1)، فإنما أرادوا تحديد المعنى الذي يتحقق به مفهوم الرسالة، وهذا لا يمنع أن يكون في الرسل - عليهم السلام - من أوحي إليه بتنفيذ ما أمر بتبليغه، فيكون التنفيذ داخلاً في وظيفته، ¬

_ (¬1) "تعريفات السيد الجرجاني" (ص 9).

وكذلك كان التنفيذ للأحكام الشرعية داخلاً في وظيفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وملقى عليه عبئه الثقيل من طريق الوحي، فيصح أن يكون مميزاً من مميزات رسالته، وإن لم يكن جزءاً من المعنى الذي يحدون به الحقيقة العامة للرسالة. بعد أن حكى المؤلف ما كتبه ابن خلدون في الفصل الذي تكلم فيه عن اسم البابا، والبطرك، والكوهن. قال في (ص 57): "فهو -كما ترى- يقول: إن الإسلام شرع تبليغي وتطبيقي، وإن السلطة الدينية اجتمعت فيه والسلطة السياسية، دون سائر الأديان". ثم قال: "لا نرى لذلك القول دعامة، ولا نجد له سنداً، وهو على ذلك ينافي معنى الرسالة، ولا يتلاءم مع ما تقضي به طبيعة الدعوة الدينية كما عرفت". ادّعى المؤلف أنه لا يرى للقول بأن الإسلام شرع تبليغي وتطبيقي دعامة، ولا يجد له سنداً، وعزّز هذه الدعوى بكلمة لا يحتمل تبعتها المنطقية، إلا من شعر بأنه في بيئة تلذّ صرير الأقلام المحاربة لدين الحق، وأن دمرت منطق أرسطو، وطمست معالم الحكمة، وهي زعمه: أن ذلك القول ينافي معنى الرسالة، ولا يلتئم مع ما تقتضيه طبيعة الدعوة الدينية. يقول المؤلف: لا نرى لذلك القول دعامة، وهذه كتب السنّة مملوءة بالأحاديث الصريحة في أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يأمر بالقاتل فيقتص منه، وبالسارق فتقطع يده، وبالزاني فيجلد أو يرجم، وبشارب الخمر فيضرب بالجريد أو النعال، وفي"صحيح البخاري": أنه قام - عليه السلام - فخطب، فقال: "يا أيها الناس! إنما ضلّ من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف، تركوه، وإذا سرق الضعيف، أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن

وجه قيام التشريع على أصول عامة

فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها" زعم المؤلف أن ذلك القول ينافي معنى الرسالة، ولا يتلاءم مع مقتضى طبيعة الدعوة، وهذا الزعم ينافي الواقع، ولا يتلاءم مع ما تقضي به طبيعة البحث المنطقي. أما منافاته للواقع، فإن الله تعالى أمر رسوله بإبلاغ الناس قوله تعالى: {وَءَاتَوُاْ اَلزَّكوةَ} [التوبة: 11]، وقال له: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وأما عدم ملاءمته لمقتضى البحث المنطقي، فإن التنافي يرادف التناقض، والمعنى: أن القول بأن الإسلام تبليغي وتطبيقي يقتضي نفي معنى الرسالة، ومعنى الرسالة يقتضي نفيه، وهذا الحكم غير صحيح؛ إذ لا يصح إلا إذا كان في معنى التبليغ والتنفيذ ما يجعلهما متنافيين، والمعقول أنهما ليسا بمتنافيين، ولا أن الجمع بينهما يعود بخلل عليهما، أو على أحدهما، وهل من عقل يشعر بتناقض في قولك لشخص: بلغ بني تميم أن يتعلموا المنطق حتماً، ومن رأيته يخرج في كلامه عن قانون المنطق، فقوّمه بالتي هي أحكم، حتى تحمله على طريقة التفكير الصحيح. * وجه قيام التشريع على أصول عامة: قال المؤلف في (ص 57): "إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أسس دولة سياسية، أو شرع في تأسيسها، فلماذا خلت دولته إذن من كثير من أركان الدولة ودعائم الحكم؟ ولماذا لم نعرف نظامه في تعيين القضاة والولاة؟ ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه؟ ولماذا ولماذا؟! نريد أن نعرف منشأ ذلك الذي يبدو للناظر كأنه إبهام، أو اضطراب،

أو نقص، أو ما شئت فسمّه، في بناء الحكومة أيام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكيف كان ذلك؟ وما سرّه؟ ". ألقى المؤلف هذا الشبه، وهو يحسبها قذائف تهدم حصون الدولة الإسلامية، ولا إخالها تنشب بذهن مسلم وقف على شيء من حكمة التشريع، ووزن أقدار الصحابة - رضي الله عنهم - كل بالقسطاس المستقيم، وإن شئت جواباً قريب المأخذ، وجيزَ القول، فإليك الجواب: عنيت الشريعة -في الأكثر- بتفصيل ما لا تختلف فيه مصالح الأمم، ولا يتغير حكمه بتغير الزمان والمكان، وذلك ما يرجع إلى العقائد والأخلاق ورسوم العبادات، ثم جاءت إلى قسم المعاملات والسياسات، فأتت على شيء قليل من تفاصيله، وطوت سائره في أصول عامة لحكم ثلاث: إحداها: أن أحكام هذا القسم تختلف بحسب ما يقتضيه حال الزمان وتطور الشعوب، فإذا وقعت الواقعة، أو عرضت الحاجة، نظر العالم في منشئها، وما يترتب عليها من أثر، واستنبط لها حكماً بقدر ما تسعه مقاصد الشريعة ومبادئها العليا. ثانيتها: أن وقائع المعاملات والسياسات تتجدد في كل حين، والنص على كل جزئية غير متيسر، علاوة على أن تدوينها يستدير أسفاراً لا فائدة للناس في كلفة حملها. ثالثتها: أن الشريعة لا تريد أسر العقول وحرمانها من التمتع بلذة النظر والتسابق في مجال الاجتهاد. فإذا كانت الأحكام والنظم تُفصل على ما يقتضيه حال الشعوب، وكانت وقائع المعاملات والسياسات لا تنقضي، وكان شارع الإسلام يراعي حق

العقل، ولا يريد حصره في دائرة ضيقة، فهل من العقل أو من الصواب أن يقول قائل: لماذا لم يتحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رعيته في نظام الملك، وفي قواعد الشورى؟ إن هذا السؤال لا يصدر من سليم الطوية، إلا إذا فاته أن يدنو من روح التشريع، ولم يكن من أصول الدين على بينة، فإن الشريعة ترشد إلى المصالح، وتأمر بالقيام بها، ثم تترك وسائل إقامتها على الوجه المطلوب إلى اجتهادات العقول. قال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب "الموافقات": "كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقاً غير مقيد، ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص، فهو راجع إلى معنى معقول وُكِل إلى نظر المكلف، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى ... وكل دليل ثبت فيه مقيداً غير مطلق، وجعل له قانون وضابط، فهو راجع إلى معنى تعبدي، لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وُكِل إلى نظره؛ إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها، فضلاً عن كيفياتها". ولنضرب المثل لهذه السنّة الشرعية بقاعدة الشورى نفسها: فالإسلام أرشد إلى الشورى بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وقصد إلى إقامتها على وجه ينفي الاستبداد، ويجعل الحكام لا يقطعون أمراً حتى تتناوله آراء أهل الحل والعقد، وأبقى النظر في وسائل استطلاع الآراء إلى اجتهاد أولي الأمر، وإلى ألمعيتهم، فهم الذين يدبرون النظم التي يرونها أقرب وأكمل، فيستطلعون الآراء باقتراع سري أو علني، بالكتابة أو برفع الأيدي أو بالقيام، ولهم النظر في تعيين من يستفاد من آرائهم وكيفية انتخابهم.

مكانة الصحابة في العلم والفهم

فالشريعة تحدثت عن نظام السياسة، وفي قواعد الشورى، ولكن بلسان أوتي جوامع الكلم، وخطاب يفهمه الذين يحملون في صدورهم قلوباً باصرة، وسرائر خالصة. * مكانة الصحابة في العلم والفهم: يقول المؤلف: لماذا لم نعرف نظامه في تعيين القضاة والولاة؟ جواب هذا السؤال: هو ما كنا بصدد بيانه؛ من أن الشريعة يهمها أن يقوم القضاء على القانون العادل، ورعاية الحقوق، وقد سنت القوانين العادلة، وأرشدت إلى بعض النظم القضائية بتفصيل، ولوّحت بسائرها إلى اجتهاد القاضي وذكائه، فيتبع ما يلائم طبيعة الحال ومقتضى المصلحة. وقد كان قضاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العلم والكفاية لهذا المنصب بالمكانة العليا، ولم يكن الصحابة - رضي الله عنه - كل بمنزلة الأميين الذي يعيشون في دائرة محدودة من التعقل، بل كانوا يتفقهون في مقتضيات الاجتماع، ويغوصون على فهم السنن الكونية، ويعرفون كيف ينتزعون الأحكام من مآخذها، يشهد بهذا كله التاريخ الصحيح، وآثارهم في قلب العالم من هيئة متخاذلة بالية، إلى هيئةٍ نظر إليها أساتذة السياسة بإعجاب، وخرّ لها عشاق العدالة سجداً. إن المسلم الذي يصدّق بما بين دفتي كتاب الله يجد في آياته: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]، فما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤون الكتاب بألستنهم، وأفئدتُهم هواء، وإنما كانوا يتدبرونه بفطر سليمة، وينظرون ماذا في السموات وما في الأرض ببصائر نيّرة، وما يتشابه عليهم من أمر يعرضونه على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيكشف ما غُمّ عنهم، ويهديهم إلى

الشريعة محفوظة

الذي هو أصلح وأبقى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنّة" (¬1): "وكان الواحد من خلفائه إذا أشكل عليه الشيء أرسل إليه، سأله عنه، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته يعلم خلفاءه ما جهلوا، ويقوّمهم إذا زاغوا، ويعزلهم إذا لم يستقيموا". نشأت تلك العقول في أحضان الشرع الإسلامي، وارتضعت أفاويق الحكمة من ثدي النبوة، فكان لها شأن لا يعرف عظمته إلا ذو عقل رشيد. كان الأمراء والقضاة لعهد النبوة من هذا الفريق السليم الفطرة، الواسع النظر، القائم على أصول الشريعة، المستضيء بنور التقوى. ومتى تحققت هذه المزايا في حاكم، باتت الحقائق في أمن، وجرت الأمور على نظام، وما زاد على ذلك، فإما أن يكون ضرورياً ونافعاً في حال دون حال، وإما أن يكون من قبيل "ما لا يدعو إليه طبع سليم، ولا ترضاه فطرة صحيحة". * الشريعة محفوظة: قال المصنف في (ص 58): "قد يقول قائل يريد أن يؤيد ذلك المذهب بنوع من التأييد على طريقة أخرى: إنه لا شيء يمنعنا من أن نعتقد أن نظام الدولة زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متيناً محكماً، وكان مشتملاً على جميع أوجه الكمال التي تلزم لدولة يدبرها رسول من الله يؤيده الوحي، وتؤازره ملائكة الله، غير أننا لم نصل إلى علم التفاصيل الحقيقية، ودقائق ما كانت عليه الحكومة النبوية من نظام بالغ، وإحكام سابغ؛ لأن الرواة قد تركوا نقل ذلك إلينا، أو نقلوه، ولكن غاب علمه عنا، أو لسبب آخر". ¬

_ (¬1) (ج 4 ص 93).

هذا الجواب باطل؛ فإن الشريعة كاملة بكلياتها وجزئياتها، ولا يصح أن يضيع شيء من حقائقها: قرآناً أو سنة. قال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب "الموافقات" (¬1): "إن هذه الشريعة معصومة، كما أن صاحبها - صلى الله عليه وسلم - معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة، ويتبين ذلك بوجهين: أحدهما: الأدلة على ذلك تصريحاً وتلويحاً؛ كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقولى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] فأخبر أنه يحفظ آياته، ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها، ولا يداخلها التغيير ولا التبديل، والسنّة وإن لم تذكر، فإنها مبينة له، ودائرة حوله، فهي منه، وإليه ترجع في معانيها ... والثاني: الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن، وذلك أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- وفَّر دواعي الأمة للذبِّ عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفضيل، أما القرآن الكريم، فقد قيض الله له حفظة؛ بحيث لو زيد فيه حرف واحد، لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر، فضلاً عن القراء الأكابر ... ثم قيض الحق -سبحانه وتعالى- رجالاً يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة، حتى ميزوا بين الصحيح والسقيم، وتعرفوا التواريخ، وصحة الدعاوى في الأخذ لفلان عن فلان، حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك جعل الله العظيمُ لبيان السنّة عن البدعة ناساً من عبيده، بحثوا عن أغراض ¬

_ (¬1) (ج 2 ص 34).

معنى كون الدين سهلا بسيطا

الشريعة كتاباً وسنّة، وعمّا كان عليه السلف الصالحون، وداوم عليه الصحابة والتابعون، وردوا على أهل البدع والأهواء حتى تميز أتباع الحق عن أتباع الهوى". هذا أحد نصوص علماء الإسلام المتعاقدة على أن الشريعة محفوظة، لم يترك الرواة شيئاً من أصولها، ولم يغب عن الباحثين بحق علمُها. * معنى كون الدين سهلاً بسيطاً: ثم بدا للمؤلف أن يلتمس جواباً آخر عن "ذلك الذي يبدو للناظر كأنه إبهام، أو اضطراب، أو نقص، أو ما شئت فسمّه"، فأملى عليه خياله أن أنظمة الدولة التي هي إصلاحات عارضة، وأوضاع مصنوعة لا تلائم بساطة الدين وبعده عن التكلف. وبعد أن أسهب في هذا المعنى، وحشر فيما يزيد على صحيفتين كلاماً متشابهاً وغير متشابه، وصفه بعدم الوجاهة والصحة. وقال في (ص 62): "حق أن كثيراً من أنظمة الحكومة الحديثة أوضاع وتكلفات، وأن فيها ما لا يدعو إليه طبع سليم، ولا ترضاه فطرة صحيحة، ولكن من الأكيد الذي لا يقبل شكاً أيضاً: أن في كثير مما استحدث في أنظمة الحكم ما ليس متكلفاً ولا مصنوعاً، ولا هو مما ينافي الذوق الفطري البسيط، وهو مع ذلك ضروري ونافع، ولا ينبغي لحكومة ذات مدنية وعمران أن تهمل الأخذ به. وهل من سلامة الفطرة وبساطة الطبع -مثلاً- أن لا يكون لدولة من الدول ميزانية تقيد إيرادها ومصروفاتها، أو أن لا يكون لها دواوين تضبط مختلف شؤونها الداخلية والخارجية، إلى غير ذلك -وإنه لكثير-، مما لم يوجد منه شيء في أيام النبوة، ولا أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنه ليكون

تعسفاً غير مقبول أن يعلل ذلك الذي يبدو من نقص المظاهر الحكومية زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بأن منشأه سلامة الفطرة، ومجانبة التكلف". لم يجئ في الشريعة تكليف بما لا يطيقه الإنسان قطعاً، ولا بما يطيقه وفيه مشقة فادحة؛ بحيث يتبرم منه ذو الفطرة السليمة، وينقطع دون المواظبة إعياء وكللاً. وأما ما فيه مشقة، عُهد من الناس احتمال أمثالها؛ بحيث يصبح بالاعتياد عليه كالأعمال التي تنساق إليها النفوس بطبيعتها، فهذا ما لا تتحاماه الشريعة، بل تأمر بما فيه مثل هذه المشقة، لا قصداً للإعنات، بل نظراً إلى ما يترتب على العمل من مصلحة في هذه الحياة، أو في تلك الحياة. فسهولة الدين من حيث إنه وضع تكاليف يسهل على الناس القيام بها متى خففوا من طغيان الأهواء، وتدبروا في حكمة هذه التكاليف وحسن عاقبتها. وبهذا يتضح جلياً أن سهولة الدين تلتئم مع الحقائق العائدة إلى أصول الحكم، اْو نظم السياسة. وأما بساطته، فمن جهة أنه خرج للناس في صورة موجزة جامعة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت بجوامع الكلم" (¬1)، ومعناه: أن شريعته جاءت بأقوال ذات ألفاظ وجيزة، ومعان واسعة، فِلوَجازتها يسهل حفظها، ولسعة معانيها كانت الحقوق والآداب ماثلة في تعاليمها، مأخوذة من جميع أطرافها. ولهذه البساطة كان النبوغ في علوم الشريعة، والبلوغ فيها إلى مكانة الاجتهاد والإفتاء ليس بالأمر الذي يحتاج إلى زمن طويل، متى كان أسلوب ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري".

تعليمها وتلقيها بنظام. ولا أضرب المثل بالعصر الأول يوم كانت وسائل العلم بها من لغة ونحو وبيان مطوية في ألسنة القوم فطرة، بل أضرب المثل بالعصور التي أصبحت فيها هذه الوسائل علوماً تدرس كما يدرس التفسير والحديث، والعقائد. بلغ حجّة الإسلام الغزالي في العلم مكاناً عالياً، وصار من الأعلام المشار إليهم بالبنان في عهد أستاذه إمام الحرمين، وعمره يوم توفي إمام الحرمين نحو ثمان وعشرين سنة. وتلقى القاضي أبو بكر بن العربي مبادئ العلوم بالأندلس، ثم رحل إلى المشرق، وقد أدرك السابعة عشرة من عمره، فدخل مصر والحجاز والشام والعراق، ثم انصرف بعد ثمانية أعوام وهو بحر في علوم الشريعة، إمام في فنون اللغة العربية، حتى قالوا: إنه قدم الأندلس بعلم غزير لم يدخل أحد قبله بمثله. ولا أطيل في ضرب الأمثلة من أنباء الرجال الذين دخلوا في زمرة العلماء الراسخين، وامتلأت الحقائب من نفائس تحريراتهم، وهم لا يزالون في عهد شبيبتهم، فإن الغرض بيان معنى بساطة الدين، وكون أصوله تحمل أحكاماً وآداباً لا يحيط بها حساب. والبساطة بهذا المعنى من مزايا الإسلام، ودلائل نبوة المبعوث به، ولكن المؤلف يقلب الحقائق، أو تنقلب في نظره الحقائق، فلم يقدر هذه البساطة حق قدرها، ونزع إلى إنكار أن يكون الإسلام شريعة وسياسة، بدعوى أنه أهمل ما ينبغي للحكومات من أركان وأنظمة. وقد كان بعض الغربيين من غير المسلمين أصفى خاطراً، وأقربَ إلى الإنصاف منه؛ حيث شهدوا للإسلام

بهذه المزية؛ كما قال (أرغوهارت) في كتاب "روح الشرق" (¬1): "إن الإسلام منح الناس قانوناً فطرياً بسيطاً، غير أنه قابل لأعظم الترقيات الموافقة لرقي المدنية المادية. إنه منح الحكومة دستوراً يلائم الحقوق والواجبات البشرية أشد الملاءمة، فقد حدد الضرائب، وساوى بين الخلق في نظر القانون، وقدس مبادئ الحكم الذاتي، وأوجد الرقابة على الحاكم؛ بأن جعل الهيئة التنفيذية منقادة للقانون المقتبس من الدين والواجبات الأخلاقية. إن حسن كل واحد من هذه المبادئ التي يكفي كل واحد منها لتخليد ذكرى واضعه، قد ضاعف في أهمية مجموعها، وأصبح للنظام المكون منها قوة ونشاط تفوق أي نظام سياسي آخر. إن هذا النظام، مع أنه وضع في أيدي قوم أميين، استطاع أن ينتشر في ممالك أكثر مما فتحته روما، في عهد لا يتجاوز عمر الفرد، ولقد استمر منتصراً لا يمكن إيقافه، مدة محافظته على شكله الفطري". هذا ما يقوله غير المسلم، وذلك ما يقوله القاضي الشرعي (¬2)، وإن في ذلك لعبرة لأولي الألباب ... يقول المؤلف: "إلى غير ذلك مما لم يوجد منه شيء في أيام النبوة، ولا أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. إن القارئ ليبتسم لهذه الجملة عجباً، بل يتمزق لها قلبه أسفاً؛ فإن ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 38). وهو منقول في كتاب"روح الاسلام" لأمير علي (ص 277). (¬2) إشارة إلى علي عبد الرازق باعتباره كان قاضياً شرعياً.

هذه المقالة إن صح أن تخرج من فم عالم، فإنما تصدر من حافظ حجة خاض في علم السنّة، وعرف الصحيح والضعيف والموضوع، ونقد الأسانيد بقانون علمي مستقيم، ولكن المؤلف لم يزل في طبقة من ينقلون الأحاديث من "الكامل" للمبرد (¬1)، وأصحاب هذه الطبقة لا يدخلون في حساب علماء الشريعة، وإن وضعوا على رؤوسهم عمائم، وجلسوا مجلس الفتوى أو الحكم بين الناس. * * * ¬

_ (¬1) انظر كتابه: (سطر 13 ص 60).

الباب الثالث رسالة لا حكم, ودين لا دولة (في زعم المؤلف)

البابُ الثَّالثُ رسالة لا حكم, ودين لا دولة (في زعم المؤلف) * ملخصه: خاطب قارئ كتابه يذكره بتلك العقبات التي أقامها في وجه من يعتقدون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان رسولاً، ومؤسساً لدولة سياسية، ويوحي إليه بأن هؤلاء القوم كلما حاولوا أن يقوموا من عثرة، لقيتهم عثرات، وزعم أنه لم يبق إلا مذهب واحد خالٍ من المشاكل، وهو القول بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ما كان إلا رسولاً، وأنه لم يكن له مُلْك ولا حكومة، ولكن الرسالة لذاتها تستلزم للرسول نوعاً من الزعامة. وبعد أن أطال الحديث عن هذه الزعامة وما لها من السلطان، قال: ولاية الرسول على قوله ولاية روحية، وولاية الحاكم ولاية مادية. وذهب إلى أن الإسلام إنما هو وحدة دينية، وأن من أراد أن يسمّي تلك الوحدة الدينية ملكاً، أو خلافة، فهو في حل من أن يفعل. وزعم أن ظواهر القرآن تؤيد القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له شأن في الملك السياسي، وساق على هذا بعض آيات تخيل أنها تسعده فيما يدّعي، وقال: إن هذه الآيات صريحة في أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يكن من عمله شيء غير إبلاع الرسالة إلى الناس، وليس عليه أن يأخذهم بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه، وادّعى أن الأمر في السنّة أصرح، والحجة فيها أقطع، واستشهد بحديثين

النقض

من "السيرة النبوية" لزيني دحلان، وتخلص من هنا إلى أن أخذ العالم بدين واحد معقول، وأما أخذه بحكومة واحدة، وجمعه تحت وحدة سياسية، فيوشك أن يكون خارجاً عن طبيعة البشرية. وزعم أن السياسة من الأغراض الدنيوية التي خلّى الله بينها وبين عقولنا، والتي أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون له فيها تدبير. واستخلص من البحث: أن القرآن والسنّة، وحكم العقل، وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها، كل ذلك من اعتقاد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو مع رسالته الدينية إلى دولة سياسية. * النقض: قال المؤلف في (ص 64): "رأيت إذن أن هنالك عقبات لا يسهل أن يتخطاها الذين يريدون أن يذهب بهم الرأي إلى اعتقاد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع إلى صفة الرسالة أنه كان ملكاً سياسياً، ومؤسساً لدولة سياسية. رأيت أنهم كلما حاولوا أن يقوموا من عثرة، لقيتهم عثرات، وكلما أرادوا الخلاص من ذلك المشكل، عاد ذلك المشكل عليهم جذعاً". يعتقد المسلمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان رسولاً نبياً، ومؤسس دولة سياسية، وساروا على هذه العقيدة ألفاً وثلاث مئة سنة، فلم يجدوا في طريقهم مشكلاً تتعثر فيه أفهامهم، أو قتامَ شبهةٍ يثور في أذهانهم، فضلاً عن عقبات تقوم في وجوههم. ولكن المؤلف بين خطتين: إما أن يكون تلقى الدين بصورة جامدة، ولم يدرك أنه يرشد إلى الحقائق والمصالح، ويدع كثيراً من وسائلها إلى اجتهادات العقول، وما يقتضيه حال الشعوب، وإما أن يكون عرف الحقيقة، وأثار حولها هذه الضجة؛ ليكتم صوتها؛ حتى لا يسمع الناس إلا

المؤلف يدخل في الإسلام ما يتبرأ منه التوحيد الخالص

نغمة الإباحية الفاسقة. قال المؤلف في (ص 64): "لم يبق أمامك -بعد الذي سبق- إلا مذهب واحد، وعسى أن تجده منهجاً واضحاً، لا تخشى فيه عثرات، ولا تلقى عقبات، ولا تضلّ بك شعابه، ولا يغمرك ترابه، مأمون الغوائل، خالياً من المشكل. ذلك هو القول بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ما كان إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة، وأنه لم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ملك ولا حكومة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقم بتأسيس مملكة، بالمعنى الذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها. ما كان إلا رسولاً كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكاً، ولا مؤسس دولة، ولا داعياً إلى ملك. الرأي الذي يقصده المؤلف -حسبما تصرح به ألفاظه وما يسوق عليه من الشبه- هو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبلّغ فقط، ولم يكن من وظيفته تنفيذ ما أوحي إليه بتبليغه، وأنه لم يأتِ بشريعة لها مساس بالقضاء وسياسة الدولة. وهو رأي لم ينسج على أصل شرعي، ولم يقم على بحث علمي، ولكن الافتتان بزخرف الحياة الإفرنجية يخامر العقل، فإذا الخيال ينقّر بالقلم ما شاء أن ينقر، ويقلب صور الحقائق إلى ما لا يخطر على قلب أفاك أثيم. * المؤلف يُدخل في الإسلام ما يتبرأ منه التوحيد الخالص: قال المؤلف في (ص 67): (قد يتناول الرسول من سياسة الأمة مثل ما يتناول الملوك، ولكن للرسول وحده وظيفة لا شريك له فيها، من وظيفته: أن يتصل بالأرواح التي في الأجساد؛ وينزع الحجب ليطلع على القلوب التي في الصدور. له، بل عليه أن يشق عن قلوب أتباعه ليصل إلى مجامع الحب والضغينة، ومنابت الحسنة والسيئة، ومجاري الخواطر ومكامن

الوساوس ومنابع النيات، ومستودع الأخلاق، وله عمل ظاهر في سياسة العامة، وله أيضاً عمل خفي في تدبير الصلة التي تجمع بين الشريك والشريك، والحليف والحليف، إلخ". علم المؤلف أن الرأي الذي حام عليه في الأبواب الماضية، وشمّر عن ساقه ليخوض مستنقعه في هذا الباب، رأي لا يتلقاه قراء كتاب الله إلا بالرفض، ولا يعدّون صاحبه إلا في زمرة من يتخذون آيات الله هزؤاً، فكان من دهائه، ولطف سحره: أن أطلق قلمه في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والثناء عليه من جهةٍ يرى أن الإطناب فيها لا يمس برأيه، وبمثل هذا الرياء يمكنه اقتناص بعض المستضعفين من الأطفال والبله، ولعله لم يمد حبالته إلا قانعاً بمن يقع فيها من أمثال هذه الطائفة، أما الذين ينظرون بنور الحكمة، فإنهم يزنون الكتاب بروحه المطلة من خلال سطوره. وإنك لتجد في هذه الجمل من الغلو في الوصف، ما لم يذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه، وإنما علق بقلم المؤلف من أثر ديانة أخرى "كقوله: "الرسالة تقتضي لصاحبها حق التصريف لكل قلب تصريفاً غير محدود"، والتصريفُ للقلوب من صفات الألوهية التي لا يشاركها فيها مخلوق. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (¬1) عند الكلام عن حديث: "لا ومققب القلوب"، وآية: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام: 110] "والتقلب: التصرف، وتقليب الله القلوب والبصائر: صرفُها من رأي إلى رأي ... وقال المعتزلة: معناه: نطبع عليها فلا يؤمنون، والطبع عندهم: الترك، وليس هذا معنى التقليب في لغة العرب، ولأن الله تعالى تمدّح بالانفراد ¬

_ (¬1) (ج 13 ص 294).

الاعتقاد بحكمة الأمر لا يكفي للعمل به

بذلك، ولا مشارك له فيه ... وقال البيضاوي: في نسبة تقليب القلوب إلى الله إشعار بأنه يتولى قلوب عباده، ولا يكلها إلى أحد من خلقه". وبمثل هذا تفقه أن قلم المؤلف يدس في الدين الإسلامي من عقائد الوثنية، ما يتبرأ منه التوحيد الخالص، وتأباه الفطرة السليمة. * الاعتقاد بحكمة الأمر لا يكفي للعمل به: قال المؤلف في (ص 69): "ولاية الرسول على قومه ولاية روحية، منشؤها إيمان القلب، وخضوعه خضوعاً تاماً يتبعه خضوع الجسم، وولاية الحاكم ولاية مادية، تعتمد إخضاع الجسم من غير أن يكون له بالقلوب اتصال. تلك ولاية هداية إلى الله، وإرشاد إليه، وهذه ولاية تدبير لصالح الحياة وعمار الأرض، تلك للدين، وهذه للدنيا. تلك لله، وهذه للناس. تلك زعامة دينية، وهذه زعامة سياسية، ويا بعد ما بين السياسة والدين! ". للرسول ولاية على قلوب أمته، من أجل ما تحمله من تصديق رسالته، وإجلال مقامه، ومن مقتضيات التصديق برسالته: الاعتقاد بحكمة ما يجيء به من أوامر ونواه، والاعتقاد بحكمة أمره ونهيه شأنه أن يبعث الجوارح إلى الإقدام على الفعل، أو الإحجام عنه. ولكن ترتب الإقدام أو الإحجام على الاعتقاد بحكمة الأمر والنهي من باب ترتيب السبب على مسببه، ومن المعروف أن تأثير السبب في وجود المسبب يتوقف على تحقق الشرط، وفقد المانع، ومن موانع العمل على مقتضى العقيدة: تغلب الأهواء، وإيثار اللذة أو المنفعة العاجلة، وليست هذه الأهواء، ولا هذا الإيثار ناسخاً للتصديق بالرسول، أو للاعتقاد بحكمة ما يامر به أو ينهى عنه، وإنما هو حال يعرض للنفس حتى تصغر في نظرها صورة ما يترتب على ترك المأمور، أو فعل

خطأ المؤلف في الاستشهاد بآيات على أن وظيفة الرسول لا تتجاوز حدود البلاغ

المنكر من عاقبة خاسرة، وعذاب أليم. والدليل على أن ارتكاب الجنايات قد يدفع إليه طغيان الشهوة، أو تخبط الغضب، مع بقاء أصل الإيمان: أن الجاني بعد أن يشبع شهوته، أو يشفي غيظه، قد يعض سبابته ندماً، من غير أن يجدد النظر في أصل إيمانه، أو في حال ما ارتكبه من منكر أو فحشاء. فالنظر يقضي بأن الولاية على القلوب لا تكفي في صيانة الحقوق وحفظ النفوس والأموال والأعراض، وأنه لا بد من ولاية يكون شأنها تنفيذ قوانين المعاملات والعقوبات، فيمن يطغى به الهوى، أو يتخبطه الغضب، وإن كان من المؤمنين. فولاية الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت على القلوب، ثم على الأجسام، وكانت ولاية هداية وتدبير لصالح الحياة، وكانت رياسة دينية وسياسية، وكلاهما من عند الله، ولا بعد بين السياسة والدين إلا في نظر قوم لا يكادون يفقهون حديثاً. * خطأ المؤلف في الاستشهاد بآيات على أن وظيفة الرسول لا تتجاوز حدود البلاغ: قال المؤلف في (ص ا 7): "ظواهر القرآن المجيد تؤيد القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له شأن في الملك السياسي، وآياته متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان". ثم ساق في الاستشهاد على هذا: قوله تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، وقوله في سورة الأنعام: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66]، وقوله في سورة

الأنعام: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} {الأنعام: 107]، وقوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الشورى: 6]، وقوله في سورة الإسراء: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [الإسراء: 54]، وقوله في سورة الفرقان: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]، وقوله في سورة الزمر: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر: 41]، وقوله في سورة الشورى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48]، وقوله في سورة ق: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّار} {ق: 45]، وقوله في سورة الغاشية: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22]. ثم قال: "القرآن -كما ترى- يمنع صريحاً أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - حفيظاً على الناس، ولا وكيلاً، ولا جباراً، ولا مسيطراً، وأن يكون له حق إكراه الناس حتى يكونوا مؤمنين، ومن لم يكن حفيظاً، ولا مسيطراً، فليس بملك؛ لأن من لوازم الملك: السيطرة العامة، والجبروت سلطاناً غير محدود". من الكلام البليغ ما يسلك معناه في قلب السامع غير متوقف على شيء سوى العلم بمدلولات الألفاظ المفردة، وقانون النظم والتركيب، ومنه ما لا يصل السامع إلى معناه، ولا يلمُّ به من جوانبه، فيستقر في نفسه على الوجه الذي يقصده المتكلم، إلا إذا وقف على أحوال زائدة على العلم بوضع المفردات والتراكيب، ولهذا ترى أذكى الناس قريحة، وأرسخهم علماً باللغة ومذاهب بلاغتها، قد يعجز عن فهم بيت من الشعر البليغ، ولا يجد طريقاً إلى بيان ما يراد منه حتى يعرف الحال التي ورد فيها، والسبب الحامل على نظمه.

وعلى هذين النوعين من فنون الكلام نزل القرآن الكريم، فمن الآيات ما هو بين بنفسه، ومنها ما لا يدرك معناه إلا من شهد وقت الوحي به، وعرف أسباب نزوله، وهذا ما دعا الذين أوتوا العلم إلى أن يعتمدوا على بيان الصحابة - رضي الله عنهم -، ويرجحوه على بيان غيرهم، ولا سيما بياناً أجمعوا عليه. وقد عقد موضح أسرار الشريعة أبو إسحاق الشاطبي في"موافقاته" فصلاً (¬1) في تحقيق أن معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، وبسط القول في أن بيان الصحابة يقدّم على بيان غيرهم، وعدّ في مؤيدات هذه القاعدة المتينة: "جهة مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنّة"، وقال: "فهم أقعد في فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك". فكثير من الآيات لا ينكشف معناه، ولا يستقر في النفس على وجه محكم، إلا بعد معرفة سبب نزوله، وحال نزوله، ثم القيام على غيره من الآيات التي ربما وجد فيها ما يخصص عمومه، أو يقيد مطلقه، أو يغير حكمه؛ لزوال علته، وقيام الحاجة الداعية إلى تبديله بحكم آخر. إذن لا ينبغي لأحد أن يهيئ رأياً، ثم يصبّ عليه الآيات صبّاً، قبل أن يبحث عن حال نزولها، وينظر فيما عساه أن يخصصها، أو يقيدها، أو يرشد إلى تبدل حكمها. فهل حافظ المؤلف على هذا الأصل الأصيل، فرجع في فهم هذه الآيات إلى حال نزولها، وجال بنظره في القرآن جولة لعله يهتدي السبيل إلى الرسوخ في علمها؟ ¬

_ (¬1) (ج 3 ص 180) طبع تونس.

الظاهر أنه لم يفعل ذلك، وإنما أمسك المصحف الشريف بيده، ونقل منه هذه الآيات مرتبة ترتب سورها، فحرّفها عن مواضعها، وتأولها على غير بينة من أمرها. من المعلوم لدى المسلمين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث بمكة نحو عشر سنين، وعمله مقصور على الدعوة بالحجّة والموعظة، وأنه كان يحزن لإعراض المشركين وعتوّهم عن سبيل الهداية، ويأخذ منه الأسف كل مأخذ، حتى كأنه مأمور بتصريف قلوبهم من الغي إلى الرشد، ويزيد على هذا: ما كانوا يعترضونه به من الأذى، ويسومون به أصحابه من سوء العذاب، فكانت الآيات تذكره ببيان وظيفته لذلك الحين، وهي مجرد البلاغ والإنذار، حتى إذا كانت منه على ظهر قلب، وعرف أنه قام بوظيفته كما يراد منه، خفّ عليه ما يجده من الحزن والأسى. وبعد هجرته إلى المدينة المنورة، وإقامته بها نحو سنة، قضت حكمة الله بأن يكون للإسلام مظهر غير مظهره الأول، ونزلت آيات الجهاد وحدود العقوبات تترى، والذي قال له: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 107]، وقال له: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، هو الذي أنزل عليه قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، وقوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13 - 14]، وقولى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ

فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12]. والآيات التي سردها المؤلف كلها من سور مكية، ما عدا الآية الأولى؛ أعني: قوله تعالى: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، فإنها من سورة النساء، وهي مدنية، وعرفت أن الجهاد شرعّ بعد أن قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة نحو سنة، فيجوز أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض الجهاد، قال ابن جرير الطبري في" تفسيره": (¬1) "ونزلت هذه الآية -فيما ذكر- قبل أن يؤمر بالجهاد". ومن أهل العلم من يذهب إلى أن هذه الآيات محكمة، ويأتي في تفسيرها بوجوه تسير بها مع آيات الجهاد جنباً لجنب، واستقصاء البحث عنها في هذه الصحائف آية آية يخرجنا إلى إسهاب لا حاجة بنا إليه، وأضرب لك مثلاً تشرف منه على شيء مما قيل في سائرها، وهو قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66]، فقد قال أبو جعفر النحاس (¬2) في تأويلها: "هذا خبر لا يجوز أن ينسخ، ومعنى وكيل: حفيظ ورقيب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ليس عليهم حفيظاً، إنما عليه أن ينذرهم، وعقابُهم على الله تعالى، والآية الثانية نظيرها، ويعني بالآية الثانية: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًاوَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 6]. وخلاصة المقال: أن المؤلف سرد هذه الآيات على غير بصيرة، وصرف نظره عن آيات الجهاد التي يذهبُ رأيه أمامها عبثاً، فجلس كما قام، وسكت كما تكلم، بل جلوسه خير من قيامه، وسكوته أنفع من كلامه، ¬

_ (¬1) (ج 5 ص 112). (¬2) كتاب"الناسخ والمنسوخ " (ص 137).

خطأ المؤلف في حمل آيات على القصد الحقيقي

{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. * خطأ المؤلف في حمل آيات على القصد الحقيقي: عاد المؤلف فأخذ يلتقط من القرآن آيات: {إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ} {الأعراف: 188} , {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هود: 12]، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 8]، {إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الحج: 49]، {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت: 50]. وأضاف إليها آيتين وهما قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]، وقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. ثم قال في (ص 73): "القرآن -كما رأيت- صريح في أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يكن إلا رسولاً قد خلت من قبله الرسل، ثم هو بعد صريح في أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يكن من عمله شيء غير إبلاع رسالة الله تعالى إلى الناس، وأنه لم يكلف شيئاً غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه". يتساءل الناس أحياناً عن الحال الذي لبس قلب المؤلف، حتى أصبح يقول على الله غير الحق: هل اقتحم هذه الخطيئة لقصور في الفهم؟ أم لداعية افتتانه بملّة أخرى؟ إذا صح للقارئ أن يتردد في بعض المباحث السابقة، فإن هذا المبحث لا يبقي له ريبة في أن المؤلف قد يقصد إلى قلب الحقائق، حيث لا يصح أن تنقلب في نظره. يعرف كل طالب علم في الأزهر، أو في غير الأزهر: أن في العلوم العربية علماً يقال له: علم المعاني، وأن في المعاني باباً يقال له: باب

القصر، ولا شك أن من اطلع على هذا الباب يعلم أن القصر ينقسم إلى: قصر حقيقي، وهو تخصيص شيء بشيء بحسب الحقيقة، وفي نفس الأمر؛ بحيث لا يتجاوزه إلى غيره أصلاً. وقصر إضافي، وهو تخصيص شيء بشيء بحسب الإضافة إلى شيء لآخر؛ بأن لا يتجاوزه إلى ذلك الشيء، وإن أمكن أن يتجاوزه إلى شيء آخر. ويعلم بعد هذا: أن القصر الإضافي ينقسم إلى: قصر إفراد، والمخاطب به من يعتقد شركة صفتين في موصوف واحد، أو موصوفين في صفة. وقصر قلب، والمخاطب به من يعتقد عكس الحكم الذي يتصدى المتكلم لإثباته. وقصر تعيين، والمخاطب به من يتساوى في نظره أمران، فيقصر له المتكلم الحكم على أحدهما. هذه المباحث من بديهيات علم البلاغة، ومن مبادئه الملقاة على قارعة الطريق؛ بحيث لا يمتاز بمعرفتها الذكي عن الغبي، ولا قارئ الكتب المبسوطة عن قارئ المختصرات. ومن عرف أن من فنون القصر ما يسمّى: قصراً إضافياً، عرف بوجه إجمالي أن الآيات التي ساقها المؤلف إنما هي من هذا القبيل، ولا يصح حملها على القصر الذي يراد به نفي كل صفة ما عدا الإنذار حتى يدخل في هذه الصفات المنفية القضاء الفصل والتنفيذ. ولنضرب لك مثلاً تشهد به أن هذه الآيات منسوجة على منوال من البلاغة بديع، وأنها بريئة من نفي صفة التنفيذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما يزعم مؤلف

كتاب "الإسلام وأصول الحكم". قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} [فاطر: 22 - 23]. وبيان سر هذا القصر بلاغة: أنه جاء بالنفي والإثبات؛ لأنه لما قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ]، وكان المعنى في ذلك: أن يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنك لن تستطيع أن تحول قلوبهم عما هي عليه من الإباء، ولا تملك أن توقع الإيمان في نفوسهم، مع إصرارهم على كفرهم، واستمرارهم على جهلهم، وصدهم بأسماعهم عما تقوله لهم، وتتلوه عليهم، كان اللائق بهذا أن يجعل حال النبي - صلى الله عليه وسلم - حال من قد ظن أنه يملك ذلك، ومن لا يعلم يقيناً أنه ليس في وسعه شيء أكثر من أن ينذر ويحذر، فأخرج اللفظ مخرجه إذا كان الخطاب مع من يشك، فقيل: {إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} ,ويبين ذلك أنك تقول للرجل يطيل مناظرة الجاهل ومقاولته: إنك لا تستطيع أن تسمع الميت، وأن تُفهم الجماد، وأن تحول الأعمى بصيراً، وليس بيدك إلا أن تبين وتحتج، ولمست تملك أكثر من ذلك" (¬1). فانظر إلى فيلسوف البيان عبد القاهر الجرجاني (¬2) كيف فهم أن الآية من نوع القصر الإضافي (¬3)، وأن قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإنذار في قوله تعالى: {إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} لم يرد به نفي كل ما عدا الإنذار، وإنما أريد به نفي صفة معينة، وهي كونه - صلى الله عليه وسلم - يملك تحويل قلوبهم عما هي عليه من الإباء. وذكر ذلك ¬

_ (¬1) "دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني (ص 257) من طبع سنة 1331 هـ. (¬2) عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني (... - 471 هـ = ... - 1078 م) واضع علم البلاغة، وإمام اللغة. من أهل جرجان بين طبرستان وخراسان. (¬3) قصر تعيين.

خطأ المؤلف في فهم حديثين

الفيلسوف: أن هذا الوجه من البلاغة يجري في قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]، فقصر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإنذار والبشارة في هذه الآية، إنما يعني به: نفي أن يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وأن يكون عالماً بالغيب. وسائر الآيات المفزعة على قالب القصر مما أورده في الصفحتين (74 وه 7) لا تخرج عن أن يراد منها القصر الإضافي، وهو لا يتعرض لصفة التنفيذ بحال. ولا يستطيع المؤلف أن ينكر هذا الفن من البلاغة، إلا إذا تناهى به العناد إلى إنكار ما يضرب في الأفق من بياض النهار أو سواد الليل. يقول المؤلف: "وإنه لم يكلف شيئاً غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذهم بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه". هذه الفقرة تنادي بصراحة أن المؤلف يريد أن يلصق بعقول الأطفال والسذج، الاعتقادَ بأن جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتصرفه في أموال الزكاة قبضاً وإنفاقاً، وحكمه بين الناس، وإقامته الحدود، لم يكن من عمله السماوي، فإن هذه الحقائق شيء غير ذلك البلاع، ومنها ما فيه حمل للناس على ما جاءهم به. والقرآن يشهد بأن جهاده - عليه الصلاة والسلام -، وتصرفه في أموال الزكاة، وحكمه بين الناس إنما كان بوحي سماوي. ولا أحسب المؤلف يترك قلمه سائباً، حتى يقول على آيات الجهاد والزكاة والحكم بين الناس، كما قال على أحاديث في "الصحيحين": "لنا أن ننازع في صحتها". * خطأ المؤلف في فهم حديثين: قال المؤلف في (ص 76): "إذا نحن تجاوزنا كتاب الله تعالى إلى

سنّة النبي - عليه الصلاة والسلام -, وجدنا الأمر فيها أصرح، والحجة أقطع، روى صاحب "السيرة النبوية": أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لحاجة يذكرها، فقام بين يديه، فأخذته رعدة. شديدة ومهابة، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "هوِّن عليك؛ فإني لست بملك ولا جبّار، وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة ... "، وقد جاء في الحديث: أنه لما خير على لسان إسرافيل بين أن يكون نبياً ملكا، أو نبياً عبداً، نظر - عليه الصلاة والسلام - إلى جبريل - عليه السلام - كالمشير له، فنظر جبريل إلى الأرض، يشير إلى التواضع، وفي رواية: "فأشار إلى جبريل أن تواضع، فقلت: نبياً عبداً، فذلك صريح أيضاً في أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ملكاً، ولم يطلب الملك، ولا توجهت نفسه - عليه السلام - إليه". لو التزم أحد على وجه المزح أن لا يقول إلا خطأ، ثم تحدث بمقدار ما تحدث المؤلف في ذلك الكتاب، لسبق لسانه إلى الصواب مراراً، وربما لا يكون خطؤه أكثر من خطأ كتاب "الإسلام وأصول الحكم". بعد أن ساق المؤلف آيات: {إنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ} [الأعراف: 188]، وما جاء على شاكلتها مساقَ الاستشهاد على نفي أن يكون النبي - عليه السلام - منفذاً، أتى بهذين الحديثين يبتغي منهما أن يشهدا له على باطل، ولم يرع حرمة الأحاديث النبوية، فيكف قلمه عن إيرادها؛ حيث يدّعي على مقام الرسالة غير الحق. خذ أيَّ عالم أو شبه عالم أو عامي ذي فطرة سليمة، واقرأ عليه الحديثين، وخذ معه بأطراف الحديث في معنى"ملك" الوارد فيهما، فإنه ينظر إلى مساق الكلام وما يقتضيه حال الخطاب، فلا يفهم من قوله: "لست بملك"

من الحديث الأول إلا ما هو الغالب على الملوك من البطش وقلة الأناة؛ ولا يفهم من قوله: "ملكاً" في الحديث الثاني إلا مظهر العظمة الأبهة. وذلك المعنى هو الذي ينحو نحوه شرّاح الحديث، قال الشهابي الخفاجي (¬1) في تفسير: "لست بملك" من الحديث الأول: "من الملوك الجبابرة الذين تخشى بوادرهم (¬2) ". وقال في تفسير "ملكاً" من الحديث الثاني: "أن يكون شؤونه كالملوك في اتخاذ الجنود والحجاب والخدم والقصور (¬3) ". وأما معنى الرياسة السياسية، وتدبير الشؤون العامة، وهو ما يعنيه المؤلف، فإنه لا يقع في ذهن من يتلقى الحديث بروية، ولا يكاد يخطر له على بال. ولو كان المؤلف يتنبه إلى معنى الحديث قبل الراده، لسبق إلى اختيار المعنى الذي يسبق إلى فهم كل سامع، واحتفظ على مذهبه من أن الرياسة السياسية تنافي طبيعة الرسالة، فإن حمل الملك على الرئيس السياسي في قوله: "خيِّر بين أن يكون نبياً ملكا" يجعل الحديث حجّة على أن الرسالة والملك لا يتنافيان. ولقد ذكّرنا المؤلف بتأويله لتلك الآيات والأحاديث رجلاً من أهل مكة كان يؤوّل الشعر، قال ذات يوم: ما سمعت بأكذبَ من بني تميم، ¬

_ (¬1) أحمد بن محمد بن عمر، شهاب الدين الخفاجي (977 - 1069 هـ = 1569 - 1659 م) عالم الأدب واللغة، وقاضي القضاة. ولد وتوفي بمصر. (¬2) "شرحه للشفا": (ج 2 ص 117). (¬3) "منه" (ج 2 ص 105).

الشريعة فصلت بعض أحكام، ودلت على سائرها بأصول يراعي في تطبيقها حال الزمان والمكان

زعموا أن قول القائل: بيت زُرارةُ محتبٍ بفنائه .... ومجاشعٌ وأبو الفوارس نهشلُ في رجل منهم، قيل له: فما تقول أنت فيه؟ قال: البيت بيت الله، وزرارة الحج، قيل: فمجاشع؟ قال: زمزم، جشعت بالماء، قيل: فأبو الفوارس؟ قال: أبو قبيس، قيل: فنهشل؟ فصمت ساعة، ثم قال: نعم، نهشل مصباح الكعبة؛ لأنه طويل أسود، فذلك نهشل. * الشريعة فصلت بعض أحكام، ودلت على سائرها بأصول يراعي في تطبيقها حال الزمان والمكان: قال المؤلف في (ص 78): "معقول أن يؤخذ العالم كله بدين واحد، وأن ينتظم البشرية كلها وحدة دينية، فأما أخذ العالم كله بحكومة واحدة، وجمعه تحت وحدة سياسية مشتركة، فذلك مما يوشك أن يكون خارجاً عن طبيعة البشرية، ولا تتعلق به إرادة الله". أجمع المسلمون على أن إصلاح السياسة شطر من مقاصد الاسلام، وهل ادّعوا -مع هذا- أن الإسلام رسم للسياسة خطة معينة، ووضع لكل واقعة حكماً مفصلاً؟ الحق أنهم لم يفعلوا ذلك، بل ملؤوا كتبهم ببيان أن الشريعة فصلت بعض أحكام لا تختلف فيها أحوال البشر، ثم وضعت أصولاً ليراعى في تطبيقها على الوقائع حال الظروف الحافة بها، ومن هذا الأصول قاعدة: "رعاية المصالح المرسلة"، وقاعدة: "العادة محكمة"، وقاعدة: "سد الذرائع"، وقاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، وقاعدة: "ارتكاب أخف الضررين"، وقاعدة: "الضرر يزال".

قال شهاب الدين القرافي في "قواعده": "إن الأحكام تجري مع العرف والعادة، وينتقل الفقيه بانتقالها، ومن جهل المفتي جمودُه على المنصوص في الكتب غير ملتفت إلى تغير العرف؛ فإن القاعدة المجمع عليها: أن كل حكم مبني على عادة، فإذا تغيرت العادة، تغير الحكم، والقول باختلاف الحكم عند تبدل الأحوال لا يستلزم القول بتغيره في أصل وضعه، والخطاب به، وإنما الأمر تدعو إليه الحاجة عند قوم، أو في عصر، فيكون مصلحة، وتتناوله دلائل الطلب، فإن لم تقتضه عادتهم، ولا تعلقت به مصلحتهم، دخل تحت أصل من أصول الإباحة أو التحريم". وقال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب "الموافقات" (¬1): "واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد، فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب؛ لأن الشرع موضوع على أنه دائم ... وإنما معنى الاختلاف: أن العوائد إذا اختلفت، رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها". ومما يوضح أن أحكام الشريعة تجري بحسب اختلاف الزمان والمكان: قول عز الدين بن عبد السلام في "قواعده": "تحدث للناس أحكام بقدر ما يحدثون من السياسات والمعاملات والاحتياطات". وقال شهاب الدين القرافي أيضاً: "إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفاً للشرع، بل تشهد له القواعد، ومن جملتها: أن الفساد قد أكثر وانتشر بخلاف حاله في العصر الأول، ومقتضى ذلك: اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج عن الشرع" (¬2). ¬

_ (¬1) (ج 2 ص 180) طبع تونس. (¬2) "التبصرة" لابن فرحون (ج 2 ص 114).

الاجتهاد في الشريعة وشرائطه

ومن مثل هذه النصوص تعلم أن أخذ الأمم الإسلامية بحكومة واحدة يقتضي توحيد قانونها السياسي أو القضائي، بل يوكل أمر كل شعب إلى أهل الحل والعقد منه، فهم الذين ينظرون فيما تقتضيه مصالحه، ولا يقطعون أمراً حتى يشهدهم من أوتوا العلم بأصول الشريعة؛ لئلا يخرجوا عن حدود مقاصدها. * الاجتهاد في الشريعة وشرائطه: ومن أجل ما لوحت إليه الشريعة؛ من بناء الأحكام على أساس رعاية المصالح، ذكر الفقهاء في شروط الحاكم أن يكون بالغاً رتبة الاجتهاد. ومدار شرائط الاجتهاد على أمرين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة، وهذا يتحقق بمعرفة جملة القواعد التي نصبتها، والتفقه في قسم عظيم من الأبواب التي فصلت أحكامها، وقد بصر مجتهدو الصحابة - رضي الله عنهم - بهذه القواعد والأحكام من النظر في القرآن، وما يشهدون من سنّة الرسول- عليه الصلاة والسلام -, وتلقى عنهم التابعون ما استنبطوه من الفروع، وتعلموا منهم كيف انتزعوها من مآخذها، فازدادت القواعد وضوحاً، وتمهدت طرق الاستنباط، وتسنى للذين أوتوا العلم من بعدهم أن ينظروا في الحوادث، ويفصلوا لها أحكاماً تأخذ بمجامع المصالح، وتنطبق على ما تستدعيه طبيعة الزمان والمكان. ثانيهما: القدرة على انتزاع الأحكام من دلائلها المبثوثة في الكتاب والسنّة، ولا سبيل للقدرة على الاستنباط إلا بمعرفة هذه الدلائل، وطريق إثباتها، وضروب دلالتها، وتفاوت مراتبها، ووجوه الترجيح عند تعارضها. والتحقيق: أن الاجتهاد لا يتجزأ، فإن أكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها

ببعض، فمن أحرز الشروط المشار إليها آنفاً، تمكن من الاستنباط في كل حادثة تعرض له، وإن فاته بعضها، أو كان نصيبه منه أقل من المقدار الكافي، لم يستطع أن يستنبط للواقعة حكماً تطمئن له نفسه، أو يثق به غيره. فمن أدركه النقص من جهة التفقه في مقاصد الشريعة وعدم إحكام قواعدها، فلا يصح له الاجتهاد، ولو في المسائل التي يجد لها بين الدلائل اللفظية منزعاً؛ فإن القواعد القطعية قد تدعو إلى التصرف في أقوال الشارع بنحو تخصيص العام، أو تقييد المطلق، أو عدم الأخذ بالمفهوم. وكذلك من عرف مقاصد الشريعة، وأنس من نفسه القدرة على إلحاق الوقائع بأشباهها، ولكنه لم يصل في معرفة اللسان العربي إلى المرتبة الكافية للاستنباط، فاجتهاده غير موثوق به؛ إذ يشترط في المجتهد أن يكون عارفاً بأحوال الأحكام عن نظر مستقل، وتلك الأحوال مبثوثة في موارد الشريعة، فلا بدّ من رسوخ القدم في فهم تلك الموارد، ومعرفة وجوه دلالتها. فالتشريع الإسلامي قائم على رعاية المصالح، وما هي إلا المصالح التي توضع في ميزانه المستقيم، وهذا الميزان المستقيم لا يبخس شعباً من الشعوب مصلحته التي يشهد بها العقل السليم، ولا يفصّل حكماً واحداً يجريه على كل شعب وفي كل زمان، إلا إذا لم تختلف فيه مصالح الشعوب، فإن اختلفت اختلافاً يعقله العالمون، فلكل شعب حكم وسياسة، وذلك تقدير العزيز العليم. فمن يذهب إلى أن أخذ العالم بحكومة واحدة، وجمعه تحت سياسة مشتركة خارجٌ عن طبيعة البشر، إنما هو مثال الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة، ولم يرفعوا رؤوسهم إلى الكتب التي أمتعت البحث عن أسرار

فتوى منظومة لأحد فقهاء الجزائر

الشريعة، وفصلت القول في أصولها العالية تفصيلاً. * فتوى منظومة لأحد فقهاء الجزائر: ولا يزال علماء الإسلام في سائر الأقطار، يشهحون أن أحكام الشريعة تدور على مقتضى الحاجات والمصالح، وهذا أحد الفقهاء (¬1) الناشئين في قرية (¬2) من صحراء الجزائر في المئة الثالثة عشرة، كان يفتي بجواز استناد الحاكم إلى آثار الأقدام في نحو السرقة، حيث كان لأهل بلاده حذق زائد في معرفة آثار أقدام الأشخاص، فأنكر عليه علماء بلد يقال لها "الخنقة"، فأجابهم بقصيدة لوح فيها إلى مستنداته في الفتوى، وقال فيها: إلى السادةِ الأشرافِ من أهل "خنقة" .... لهم في ندور الواقعاتِ نُقولُ تمسكتم بالأصل والحقُّ واضحٌ ..... ولا ينكر المعلومَ إلا جهول ولكن إذا عمّ السداد بحادثِ ... تقدم أصلاً والقياسُ دليل كتضمين سمسارِ وتغريمِ صانعِ ... وما هو إلا مودع ووكيل ومن ذاك ما قد جوزوا في سفاتج ... إذا عمَّ بالخوف الشديد سبيل وفي كلها خلف الأصول لأنها ... مصالحُ عمّت والصلاحُ جميل ومن أدب المسؤول قبلَ سؤالهِ ... إذا وردت يوماً عليه سُؤول تعرف عرف السائلين بأرضهم ... ليعلم ما يفتي به ويقول وما أنتم منّا بأعلم بالذي ... به الضرّ يكفي عندنا ويزول ¬

_ (¬1) الشيخ خليفة بن حسن. (¬2) قمار من بلد سوف.

فلو أهملت آثار سرّاق أرضنا ... لكان فساداً للخراب يؤول وفي الأخذ بالآثار إصلاح أمرنا ... وفي الترك عن قصد السبيل عدول وما الأثر إلا كالخطوط شهادة ... كذا قال قومٌ في القياس عدول فعرفانك الخطَّ الذي غاب ربُّه ... لعرفان إثر المستراب عديل وفي ولدي عفراء لما تنازعا ... جهاز أبي جهل وهو جديل بأثر دم في السيف كان نبينا ... قضى أنه للسيدين قتيل وكان السلف يكرهون السؤال عن النوازل قبل وقوعها حسبما نقله الحافظ ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (¬1)، ولعلهم كرهوا ذلك حذراً من أن يفرضوا لصورة النازلة حكماً، فتبرز للخارج، فيتصل فيها بعض أحوال لو شاهدها المفتي، لغيّر حكمه، وفصله على ما تقتضيه طبيعة النازلة محفوفة بتلك الأحوال. قال المؤلف في (ص 78): "ذلك من الأغراض التي أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون له فيها حكم أو تدبير، فقال - عليه السلام -: "أنتم أعلم بأمور دنياكم". كيف ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون له في سياسة الأمة حكم أو تدبير، ونحن إذا قلبنا نظرنا في سيرته، نجده كان يحكم فيما شجر بين الناس، ويقيم الحدود والزواجر على من يجني على نفس أو مال، أو عرض أو عقل، ويجمع المال من حيث أمره الله، وينفقه في وجوه المصالح، وإسعاد ذوي الحاجة، ويتولى عقد التحالف والمعاهدات والصلح وإعلان الحرب، ويدبر أمرها، ويرسم لها الخطط مع المشاورة في هذا السبيل والأخذ بأرجح الآراء. ¬

_ (¬1) "مختصر جامع بيان العلم وفضله" (ص 178).

يتولى هذه الأمور بنفسه، وقد يندب للقيام بها من فيه الكفاية والخبرة، وهل بعد هذا التصرف الثابت كتاباً وسنة متواترة يخرج كتاب "الإسلام وأصول الحكم" في واد حافل بعلماء الشريعة، ويصيح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر أن يكون له في شؤون الأمة حكم أو تدبير؟!. وأما حديث: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، فإنه وارد في واقعة تأبير النخل، فيحمل على هذا المعنى، وما شاكله من فنون الزراعة والصناع وغيرها من وسائل العمران المادية. قال المؤلف في (ص 78): "ذلك من أغراض الدنيا، والدنيا من أولها لآخرها، وجميع ما فيها من أغراض وغايات، أهونُ عند الله تعالى من أن يقيم على تدبيرها غير ما ركب فينا من عقول، وحبانا من عواطف وشهوات، وعلّمنا من أسماء ومسميات، هي أهون عند الله تعالى من أن يبعث لها رسولاً، وأهون عند رسل الله تعالى من أن يشغلوا بها، وينصبوا لتدابيرها". ننظر في الكتاب العزيز، فنجده طافحاً بما يدل على أن إرشاده لا يقتصر على العقائد والعبادات، فنجد فيه نصوصاً في بيان ما يحلّ أكله أو شربه، وما لا يحل فيه ذلك، قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. ونجد نصوصاً في بيان من يحل نكاحهن، ومن لا يحل، ونصوصاً تحرم مباشرة الزوجة في بعض الأحوال؛ كما قال تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222}

ونجد نصوصاً في قسمة تركات الهالكين على ورثتهم؛ كما قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11} الآية. ومن البين بنفسه: أن الأكل والشرب والنكاح والأموال الموروثة عن أولي القربى، كل ذلك من أغراض هذه الحياة وغاياتها. إذن، فالمؤلف يريد بهذه المقالة استدراج السذج والأطفال إلى إنكار كل ما زاد على العقائد والعبادات، حتى يتسنى للإباحية السائبة أن تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، وتضرب خيامها في كل واد، فإذا أصبح الناس يدخلون في دينها أشتاتاً، قام الشيطان مرة أخرى، واستفز من استطاع منهم لتأليف كتاب يسمى الإسلام وأصول العبادات. قال المؤلف في (ص 79): "لا يريبنك هذا الذي ترى أحياناً في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيبدو لك كأنه عمل حكومي، ومظهر للملك والدولة، فإنك إذا تأملت، لم تجده كذلك، بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي كان عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يلجأ إليها تثبيتاً للدين، وتأييداً للدعوة، وليس عجيباً أن يكون الجهاد وسيلة من تلكم الوسائل، هو وسيلة عنيفة وقاسية، ولكن ما يدريك، فلعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان، وربما وجب التخريب ليتم العمران". أريناكم أن من مقاصد الإسلام: إصلاح السياسة، وإقامة دولة، وأنه وضع لهذه الدولة أركاناً وأصولاً، وأن ما يحسبه المؤلف من مظاهر الحكومة النبوية هيناً، هو عند ذوي العقول الراجحة والآراء الرصينة عظيم، وإنما نقلنا لكم هذه الفقرة من فقرات الكتاب؛ لنريكم مثلاً من أمثلة تخاذل نسجه، وصورة من صور موارباته.

يقول المؤلف فيما سلف: "وإنما يكون الجهاد لتثبيت السلطان، وتوسيع الملك". وأخذ يقرر هذا المعنى، ويسوق في تقريره كل ما يملك من شبهة، ولم يزد هنالك على أن قال عقب البحث: "فذلك سر الجهاد عندهم". وقال هاهنا: إن الجهاد وسيلة من الوسائل التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلجأ إليها تثبيتاً للدين، وتأييداً للدعوة، وبعد أن وصفه بأنه وسيلة عنيفة وقاسية، أتى بعبارة يتقرب بظاهرها إلى آراء أهل العلم، ويدس في لحن خطابها تشكيكا لقوم لا يتفكرون، فقال: وما يدريك؛ لعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان. وهل من الذوق الملائم للإيمان، أن ينعت المسلم عملاً مشروعاً بأنه شر، ثم يقول على سبيل الاعتذار منه: وما يدريك؛ لعل الشرّ ضروري للخير في بعض الأحيان!! ومن يأخذ قول المؤلف في (ص 52): "من أمثلة الشؤون الملكية التي ظهرت أيام النبي - صلى الله عليه وسلم -: مسألة الجهاد" إلى قوله هنا: "إن الجهاد من الوسائل التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلجأ إليها تثبيتاً للدعوة"، وضم إلى هذا قوله في (ص 71): "إن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاع المجرد من كل معاني السلطان"، قام له شاهد عدل يناجيه بأن المؤلف يريد أن يضع في ذهن قارئ كتابه: أن جهاده - صلى الله عليه وسلم - من الأعمال التي ما أنزل الله بها من سلطان. قال المؤلف في (ص. 8): "ترى من هذا: أنه ليس القرآن وحده الذي يمنعنا من اعتقاد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو مع رسالته الدينية إلى دولة سياسية. وليست السنّة هي وحدها التي تمنعنا من ذلك، ولكن مع الكتاب والسنّة حكم العقل، وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها".

قد رأيت أن استشهاد المؤلف بتلك الآيات والأحاديث مبني على قصور في فهمها، أو قصد إلى تحريف الكلم عن مواضعها، فالكتاب والسنّة لا يمنعان "من اعتقاد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو مع رسالته الدينية إلى دولة سياسية،، بل يدلان بصراحة كفلق الصبح، على أنه - عليه الصلاة والسلام - كان مبلّغاً ومنفّذاً، وأن قيامه على التنفيذ داخل في حدود وظيفته السماوية. ودعوى المؤلف: أن حكم العقل، وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها يمنعه من اعتقاد أن يكون التنفيذ داخلاً في وظيفة الرسول - عليه السلام - السماوية، قد أريناك فسادها، وأنها كلمة هو قائلها، فلا العقل يمنع من أن يؤمر الرسول بالتبليغ والتنفيذ، ولا الأمر بإبلاغ شريعة يمنع بطبيعته من أن يضاف إليه الأمر بتنفيذها.

الكتاب الثالث الخلافة والحكومة في التاريخ

الكتاب الثالث الخلافة والحكومة في التاريخ

الباب الأول الوحدة الدينية والعربية

الكتاب الثالث الخلافة والحكومة في التاريخ الباب الأول الوحدة الدينية والعربية * ملخصه: افتتح المؤلف الباب بأن الإسلام وحدة دينية، وأن الله اختار لدعوته محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: لله- جلّ شأنه- حكمة في ذلك بالغة، قد نعرفها، وقد لا نعرفها. وأتى على وجه ابتداء الدعوة بين العرب، وذكر عقب هذا: أن البلاد العربية كانت مختلفة الشعوب والقبائل، ومتباينة في مناهج الحكم والعادات، وأن هذه الأمم المتنافرة اجتمعت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - حول دعوة الإسلام، وأن وحدتها لم يكن فيها من معاني الدولة والحكومة. وزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض لشيء من سياسة تلك الأمم، ولا غيّر شيئاً من أساليب الحكم عندهم، وذكر أن في الشرائع التي جاء بها النبي - عليه السلام - ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر الحياة في الأمم، ثم قال: ولكنك إذا تأملت، وجدت أن كل ما شرّعه الإسلام من أنظمة وقواعد وآداب لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وزعم أنك إذا جمعته، لم يبلغ أن يكون جزءاً يسيراً مما يلزم لدولة مدنية

النقض - سياسة الشعوب وقضاؤها في العهد النبوي

من أصول سياسية وقوانين، وقال: إن كل ما جاء به الإسلام إنما هو شرع ديني، ولمصلحة البشر الدينية لا غير. وأخذ يتكلم عن حال العرب يوم لحق - عليه السلام - بالرفيق الأعلى، وزعم أنها وحدة دينية من تحتها دول تامة التباين إلا قليلاً، وتخلص من هذا إلى أن زعامة الرسول فيهم زعامة دينية، لا زعامة مدنية، فإذا ما لحق - عليه السلام - بالملأ الأعلى، لم يكن لأحد أن يقوم من بعده ذلك المقام الديني، وزعم أنه - عليه السلام - لم يشر إلى شيء يسمّى: دولة إسلامية، وأنه لم يكن في عمل النبي - عليه السلام - أن ينشئ دولة، واستشهد على هذا بأنه لم يتعرض لأمر من يقوم بالدولة من بعده، وتعرض لما انتُقدت به دعوى ابن حازم: أن النيي - صلى الله عليه وسلم - نصّ على استخلاف أبي بكر - رضي الله عنه -. وقال: بل الحق أنه - صلى الله عليه وسلم - ما تعرض لشيء من أمر الحكومة بعده، ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه، وقفل الباب بقوله: مات - عليه الصلاة والسلام -, وانتهت رسالته، وانقطعت تلك الصلة الخاصة التي كانت يين السماء والأرض في شخصه الكريم - عليه السلام - ". * النقض - سياسة الشعوب وقضاؤها في العهد النبوي: قال المؤلف في (ص 83): "البلاد العربية -كما تعرف- كانت تحوي أصنافاً من العرب مختلفة الشعوب والقبائل، متباينة اللهجات، متنائية الجهات. وكانت مختلفة أيضاً في الوحدات السياسية: فمنها ما كان خاضعاً للدولة الرومية، ومنها ما كان قائماً بذاته مستقلاً، كل ذلك يستتبع بالضرورة تبايناً كبيراً يين تلك الأمم العربية في مناهج الحكم، وأساليب الإدارة، وفي الآداب والعادات، وفي كثير من مرافق الحياة الاقتصادية". ثم قال: "تلك الوحدة

العربية التي وجدت زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم تكن وحدة سياسية بأي وجه من الوجوه، ولا كان فيها معنى من معاني الدولة والحكومة، بل لم تعدُ أبداً أن تكون وحدة دينية خالصة من شوائب السياسة، وحدة الإيمان والمذهب الديني، لا وحدة الدولة ومذاهب الملك". لا حرج على تلك الأمم المختلفة في عاداتها وآدابها ومناهج حكمها، أن تنتظم بشريعة الإسلام؛ فإن القوانين تكون محكمة، وتسير على وجه مطرد، متى اتفق لها أمران: أن لا تكون مخلة بالمصلحة، وأن يتلقاها الجمهور بسكينة واطمئنان. وفي الشريعة بعض أحكام مفصلة؛ وسائرها أصول كلية حسبما قررناه أنفاً، أما الأحكام المفصلة، فإنها قائمة على رعاية مصالح لا تختلف باختلاف الشعوب والعادات، وما لم يفصل حكمه، فذلك موكول إلى نظر الحاكم، فينظر فيما يقتضيه حال العادات والأخلاق وطبيعة الاجتماع، ويستنبط له من تلك الأصول العامة حكماً مطابقاً. ولا شك أن الخضوع لأحكام الشريعة، مفصلة كانت أو مأخوذة باستنباط مستوف للشروط، هو من مقتضيات الإيمان بحكمتها. فأخذ تلك الشعوب والقبائل تحت حكومة الإسلام لا يخل بشيء من مصالحها، كما أنه لا يتوقع من الجمهور أن يلاقي قضاء هذه الحكومة وإدارتها، بغير السكينة والاطمئنان. وما زعمه المؤلف من أن تلك الوحدة العربية لم يكن فيها معنى من معاني الدولة والحكومة، زعم يضربه التاريخ الصحيح بيد عنيفة قاسية، "وما يدريك، فلعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان". قال المؤلف في (ص 83): "يدلك على هذه سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فما عرفنا

أنه تعرض لشيء من سياسة تلك الأمم الشتيتة، ولا غيَّر شيئاً من أساليب الحكم عندهم، ولا مما كان لكل قبيلة منهم من نظام إداري أو قضائي، ولا حاول أن يمس ما كان بين تلك الأمم بعضها مع بعض، ولا ما كان بينها وبين غيرها من صلات اجتماعية أو اقتصادية، ولا سمعنا أنه عزل والياً، ولا عين قاضياً". مما لا تحوم عليه شبهة، ولا تخالجه ريبة: أن كل أمة تعتنق الإسلام يأخذ الحكم فيها صورة غير صورته الجاهلية، فالقضايا كلها، سواء كانت جنائية أم مالية، أم راجعة إلى أحوال الزوجية، إنما تفصل بحكم القرآن أو السنّة، أو بالاجتهاد المستند إلى القواعد المركوزة في نفس الواقف على روح التشريع، ومن شواهد هذا: حديث معاذ، حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فقد تضمن الحديث: أنه يقضي بكتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله، فبسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن في سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اجتهد رأيه، وقد صحح هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن العربي في "عارضة الأحوذي"، وصححه ابن قيّم الجوزية في "إعلام الموقعين" (¬1). وقال الإمام الشافعي - رضي الله عنه -: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سراياه، وعلى كل سرية واحد، وبعث رسله إلى الملوك، إلى كل ملك واحد، ولم تزل كتبه تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي، فلم يكن أحد من ولاته يترك إنفاذ أمره" (¬2). وفي "صحيح البخاري": (¬3) أنه - صلى الله عليه وسلم - يبعث: "أمراءه واحداً بعد واحد، ¬

_ (¬1) (ج 1 ص 243). (¬2) "فتح الباري" (ج 13 ص 189). (¬3) (ج 9 ص 86).

فإن سها أحد منهم، رده إلى السنّة" (¬1). وقال شرّاح الحديث: "فائدة بعث الآخر بعد الأول؛ ليرده إلى الحق عند سهوه". وقال ابن حجر في "فتح الباري" (¬2): "والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد كانوا يتحاكمون إلى الذي أمِّر عليهم". وروى مالك بن أنس (¬3) في كتاب "الموطأ" (¬4): أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم (¬5) في العقول: "أن في النفس مئة من الإبل، وفي الأنف إذا ادّعى جدعاً مئة من الإبل، وفي المأمومة (¬6) ثلث الدية، وفي الجائفة (¬7) مثلها، وفي العين خمسون، وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفي السن خمس، وفي الموضحة (¬8) خمس". فهذه النصوص من رجال كانوا ينقدون الأخبار نقدَ الصيارف للدينار، ¬

_ (¬1) فسر بعض أهل العلم السنّة: بالطريق الحق، والمنهج الصواب، وفسرها آخرون: بالشريعة المحمدية. انظر: "شرح العيني" (ج 11 ص 446). (¬2) (ج 13 ص 183). (¬3) مالك بن أنس بن مالك الأصبحي (93 - 179 هـ = 712 - 795 م) أحد الأئمة الأربعة، وإليه تنسب المالكية، ولد وتوفي بالمدينة المنورة. (¬4) كتاب: العقول من "الموطأ" (ص 235) طبع الهند سنة 1324 هـ. (¬5) بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملاً على بني الحارث بن كعب. (¬6) المأمومة: الشجة التي بلغت أم الرأس. (¬7) الجائفة: العيب العظيم. (¬8) الموضحة: الشجة تبدي وضح العظام، وهي التي تقشر الجلدة التي بين اللحم والعظم. وتجمع على مواضح.

تطعن في وجه ما يزعمه المؤلف من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعين قاضياً، وتدل على أن أمراء النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتصرفون في شؤون تلك الأمم على مقتضى الكتاب والسنة. وإن كان المؤلف في ريب مما يقوله حملة الشريعة وحفاظها، فهذا جرجي زيدان يقول في "تاريخ التمدن الإسلامي" (¬1): "لما ظهر الإسلام، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رئيس المسلمين في أمور الدنيا، وهو حاكمهم، وقاضيهم، وصاحب شريعتهم، وإمامهم، وقائدهم. وكان إذا ولى أحد أصحابه بعض الأطراف، خوله السلطتين: السياسية، والدينية، وأوصاه أن يحكم بالعدل، وأن يعلِّم الناس القرآن". وأما ما كان بين تلك الأمم بعضها مع بعض، أو ما كان بينها وبين غيرها من صلات اجتماعية أو اقتصادية، فمتى كان فيها ما لا يتفق مع المصلحة، أو ما يمس قاعدة من قواعد الدين الحنيف، فلا بد للحاكم المسلم من أن يغيره، ويجريه على ما يلائم القانون العادل، والأدب الجميل، والحجة على المؤلف في هذا قول جرجي زيدان: "وخوله السلطتين: السياسية، والدينية، وأوصاه أن يحكم بالعدل، وأن يعلم الناس القرآن". يقول المؤلف: "ولا سمعنا أنه عزل والياً". هذه كلمة لا فائدة لها سوى أنها تكثر سواد مزاعمه، فإن مدة بعث الأمراء في عهد النبوة لا تتجاوز ثلاث سنين، وهي مدة قصيرة قد يسير فيها الولاة على طريقة مثلى، فلا يقعون في زلة تستوجب عزلهم، فإن كان العزل عند المؤلف من أعلام الدولة، فقد ورد في الصحيح: أنه - عليه السلام - عزل ¬

_ (¬1) (ج 4 ص 179).

درة عمر بن الخطاب وإدارة البوليس

بعض قواد الجيش. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنّة" (¬1)؛ "فقد كان -يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - يولي في حياته من يشتكي إليه، فيعزله؛ كما عزل الوليد ابن عقبة، (¬2) وعزل سعد بن عبادة (¬3) عام الفتح، وولّى ابنه قيساً" (¬4). * درة عمر بن الخطاب وإدارة البوليس: قال المؤلف في (ص 84): "ولا نظَّم فيهم عسساً". نبهنا قبل هذا على أن عمل الحرس لذلك العهد، كان يقوم به كل مسلم عرف أن تمام إيمانه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الشهادة بالقسط، ولو على نفسه، أو والديه وأقربيه، ويضاف إلى هذا: تأثير مواعظ القرآن على تلك الفطر التي لم تتلوث بأوساخ المدنية الفاسقة، فتعقد بين القلوب تعاطفاً، وتطبع النفوس على أدب جميل، فلا يكون للبغي مظهر، ولا للفظاظة يد، إلا في أوقات نادرة. واعتبرْ في هذا المعنى بالهرمزان (¬5) ملك خوزستان، حين جيء به إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو نائم في المسجد متوسداً درّته، فقال: هذا هو ¬

_ (¬1) (ج 4 ص 93). (¬2) الوليد بن عقبة بن أبي معيط (... - 61 هـ = ... - 680 م) من الولاة، توفي بالرقة. (¬3) سعد بن عبادة بن دليم (... - 14 هـ = ... - 635 م) صحابي من أهل المدينة، ومات بحوران. (¬4) قيس بن سعد بن عبادة (... - 60 هـ = ... - 680 م) صحابي من الولاة، توفي بالمدينة، له 16 حديثاً. (¬5) الهرمزان: من قادة الجيش الفارسي، انهزم في معركة القادسية سنة 637 هـ، وفرّ إلى الخوزستان.

التشريع الإسلامي والزراعة والتجارة والصنائع

الملك؟ قيل: نعم، فقال له: عدلت، فأمنت، فنمت، والله! إني خدمت أربعة من ملوك الأكاسرة أصحاب التيجان، فما هِبْتُ أحداً منهم هيبتي لصاحب هذه الدرّة. فإذا كانت الدرّة في يد النائم في المسجد تجعل في قلب البريء طمأنينة، وفي قلب المريب رهبة، فما هي الفائدة التي تجنيها الأمة من تشييد قصر يخرج منه ويعود إليه في كل يوم رجال يتقاضون في رأس كل شهر ما يتقاضون؟ * التشريع الإسلامي والزراعة والتجارة والصنائع: قال المؤلف في (ص 84): "ولا وضع قواعد لتجارتهم، ولا لزراعتهم، ولا لصناعتهم، بل ترك لهم - عليه السلام - كل تلك الشؤون، وقال لهم: أنتم أعلم بها، فكانت كل أمة ومالها من وحدة مدنية وسياسية، وما فيها من فوضى أو نظام، لا يربطهم إلا ما قلنا لك، من وحدة الإسلام وقواعده وآدابه". التشريع الإسلامي يتناول كل ما ينظر فيه رجال القضاء والسياسة، بمعنى: أن له في النوازل القضائية أحكاماً، وفي إدارة الشؤون السياسية مقاصد. والمنوط بعهدة أولي الأمر أن تُقرر تلك الأحكام بحق، وأن تُقام تلك المقاصد بنظام، والوسائل التي يصلون بها إلى أن تأخذ الأحكام مأخذها، أو تقوم المقاصد على وجهها، موكولة إلى اجتهادهم وأمانتهم. فمن مقاصد الشرع: أن تكون مرافق الحياة ميسورة، وأن تكون القوة من الأموال ووسائل الدفاع متوفرة، وفوّض لأولي الأمر النظر فيما يجعل عيشة الأمة راضية، وقوتها كاملة، فهم الذين يضعون للتجارة والزراعة والصناعة نظماً لا تعترض أصلاً من أصول التشريع، بل يجب أن تكون في دائرته التي

تسع كل قانون عادل، ونظام لائق. هذا إذا كان قصد المؤلف من قواعد هذه الأشياء: الأنظمة العائدة إلى ترقيتها وتقدمها، أما إذا أراد بالقواعد والقوانين التي يرجع إليها عند الفصل بين المتخاصمين، فإن الشريعة قررت بعضها بتفصيل، وأودعت سائرها في ضمن أصول كلية؛ كبقية أحكام الحلال والحرام. هذا تحقيق النظر في المسألة من الوجهة الشرعية، أما إذا ثنينا عنان البحث إلى المسألة من حيث سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - , فلنا نظران أيضاّ: نظر من حيث الحكم في القضايا التي تنشب بين أصحاب التجارة أو الصناع أو الزرل، وهذا مما كان - صلى الله عليه وسلم -! يتولاه بنفسه، وقد يكل بعضه إلى من يقوم عليه؛ كما جاءت الرواية بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يولي في بعض الأسواق من ينظر في شؤون المعاملات، ويراقب ما عساه أن يقع في غش أو مبايعة على غير وجه مشروع، وفي "السيرة الحلبية": "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل سعد بن سعيد ابن العاص بعد الفتح على سوق مكة، واستعمل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على سوق المدينة". والنظر الثاني من ناحية العمل على إصلاح شأن هذه الفنون، وهذه الفنون من أمور الدنيا التي لا يدخل تعليمها في وظيفة الرسول - عليه السلام - السماوية، إلا من حيث الأمر بإقامة كل ما يسد حاجات الأمة، ويكفل لها العزة والمنعة، وفي مثل هذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم أعلم بأمور دنياكم". والفرق بين النظرين: أن تقرير أحكام الوقائع القضائية وغير القضائية لا يصح إلا ممن تحققت فيه شروط الاجتهاد، وأما العمل على إصلاح وسائل الحياة؛ من نحو التجارة والزراعة، فيؤخذ فيها برأي العارف بها،

التشريع الإسلامي والأصول السياسية والقوانين

وإن لم يكن مطلعاً على شيء من أصول الشريعة أو فروعها. إذن، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قام بوظيفته السماوية التي هي إبلاع ما أنزل إليه، وتنفيذ ما جاء به من أوامر ونواه، ولم يبق سوى أن يقال: لماذا لم يقم بذلك الأمر الذي هو خارج عن وظيفته السماوية؛ بأن يكلف ذوي الخبرة بإصلاح شأن التجارة والزراعة والصناعة؟ وجواب هذا السؤال: أن ما كان بين أيدي الأمة من هذه الوسائل كان ملائماً لمظاهر حياتهم البسيطة، وكافياً لسد حاجاتهم، وإحرازهم القوة التي تجعلهم في منعة من أعدائهم، ثم إن الحروب لم تزل -منذ طلع كوكب الدولة- حاملة أوزارها، فلم يأخذ القوم خلالها مهلة ينصرفون فيها إلى النظر في شأن الزراعة ونحوها، ولا سيما إذ كانت قلة عددهم بالنسبة لأعدائهم المتألبين عليهم من كل جانب، تضطرهم إلى أن يكون شبابهم وكهولهم وشيوخهم يتقلدون السلاح، ويظلون على أهبة القتال، بكرة وعشياً. فالمؤلف رمى بنفسه في هذا البحث، وهو غير واقف على روح التشريع، ولا على طبيعة حال الأمة لعهد النبوة، فكان فيما نال به جانب الحكومة النبوية من المسرفين. * التشريع الإسلامي والأصول السياسية والقوانين: قال المؤلف في (ص 84): "ولكنك إذا تأملت، وجدت أن كل ما شرعه الإسلام، وأخذ به النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين؛ من أنظمة، وقواعد، وآداب، لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وهو بعد إذا جمعته، لم يبلغ أن يكون جزءاً يسيراً مما يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين".

تهافتت على المؤلف هذه الخواطرة لقلة تفقهه في الشريعة، وعدم وقوفه على تاريخ عهد النبوة وقوفَ الباحث البصير، وحذراً من أن تستدرج هذه الفقرة نفراً ينصتون لها على غير هدى، أسوق كلمة مقتصدة، يلقي عليها القارئ نظرة واحدة، فيشهد من روح التشريع، وتاريخ السياسة النبوية ما تتساقط عنده تلك الشبه صرعى، ويتسلل منه ذلك الرأي لواذاً. لنبحث عن مبادئ الشريعة الاجتماعية السياسية، منذ طلعت إلى أن أغلق باب الوحي، ونعرّج على نبذة من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تدبير شأن السياسة؛ حتى تعلم أن الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم لم يخطئوا في فهم الدين، ولم يتفقوا على ضلالة. نزل القرآن في نحو عشرين سنة، وكان معظم ما نزل بمكة إنما هو كليات الشريعة؛ من تقويم العقائد، وإصلاح الأخلاق والعادات، فتجد السور المكية طافحة بالدعوة إلى الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وإقامة الحجج على ذلك، ودفع شبه الجاحدين، والأمر بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، والاعتبار بقصص الأمم الخالية، ثم الإرشاد إلى مكارم الأخلاق؛ من نحو العدل والصدق والحلم والعفو والصبر، والوفاء بالعهد، وحسن الإخاء، وبر الوالدين، وإنفاق المال في طريق الخير، وإيفاء الكيل والميزان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإباية الضيم المنبه عليها بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39]. وهناك تجد محاربة المزاعم الباطلة، والعادات السمجة، والنهي عن البغي وقتل النفس والزنى، والتطفيف في الكيل والوزن، والخيلاء والإعجاب بالنفس، والرياء والكذب، والقول على الله بغير علم. كل ذلك تراه مصوغاً

في أساليب تلذ الفطر السليمة مذاقها، وتلين القلوب القاسية لجزالتها، وشرع في أثناء ذلك أهم ركن في العبادات، وهي الصلاة، ثم بعض الأحكام الراجعة إلى قسم العادات؛ كبيان ما يحلّ أكله، وما هو حرام، وألقى في النفوس أن الشريعة تمشي بالناس على الطريقة الوسطى، فنزلت آيات في التذكير بنعم هذه الحياة، وأخرى في إباحة الأخذ بزينتها والتمتع بطيباتها. وهنالك وضعت القاعد؛ الاجتماعية السياسية، وهي قاعدة الشورى، ونزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]. ويمثل هذه التعاليم الباهرة، والآداب الساطعة، تألف حول مقام الرسالة قوم يخالفون سائر القبائل العربية بعقائدهم وأخلاقهم وآدابهم، وكثير من عاداتهم، وأصبحوا بين يدي واعظ الإسلام آذاناً صاغية، ونفوساً لينة، يقف فيقفون، ويسير فإذا هم على أثره مقتدون. ويعد هجرة صاحب الرسالة - صلوات الله عليه - إلى المدينة المنورة، جعل الوحي السماوي يشرّع ما بين الوعظ والتذكير أحكاماً عملية، وأصولاً اجتماعية، تلك الأحكام والأصول التي لا يسنّها إلا من قصد إلى بناء دولة تسلك في قضائها وسياستها شرعة خاصة، فترى في السور المدنية عقوبة السارق، والزاني، والقاذف، والساعي في الأرض فساداً، وآيات الجهاد، والقضاء العادل، وما يستند إليه من بينات، ثم الإرشاد إلى أصول المعاملات؛ مثل: البيع والقرض والرهن والوصية والتوكيل والحجر على القاصرين من سفيه أو يتيم، ثم أحكام النكاح والطلاق والخلع والنفقات والمواريث والإصلاح بين الأفراد والجماعة، ثم المعاهدات التي تعقد بين المسلمين وغير المسلمين، وهنالك شرعت الزكاة والجزية، وهي أموال تصرف في

حاجات ومصالح يجب على الرئيس الأعلى النظر في شأنها، وهنالك فرض الحج، ومن حكمه التعارف والنظر في شؤون الأمم الإسلامية قاطبة. وتجد في السنّة النبوية التي لا يملك المؤلف، ولا غير المؤلف أن ينازع في صحتها: أصول الشركة، والشفعة، والقسمة، والمزارعة، وإحياء الموات، والهبة، والفلس، إلى ما عدا ذلك مما هو بيان لبعض ما أجمله الكتاب العزيز في تلك الأبواب وغيرها. ومن بعد نصّ الكتاب السنّة، تلك القواعد التي ساقنا البحث إلى التنبيه عليها فيما سلف، فإنها تتعرف في موارد كثيرة منهما، لا فرق بين مكي أو مدني، وسواء على المجتهد أن يتعرفها من آيات الأحكام، أم من غير آيات الأحكام؛ كالمواعظ، ومآخذ العبر، وقد تكون نتيجة استقراء جانب من القرآن، وأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله؛ كما انتزعوا قاعدة: "ارتكاب أخف الضررين" من مثل قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79}. وانتزعوا قاعدة سد الذراع من مثل قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. والمقدار الذي يفيد القطع بأن هذا المعنى مقصود للشارع، فيجعل قاعدة، موكولٌ إلى أنظار المجتهدين الراسخين في العلم بروح التشريع، لكثرة تدبرهم في النصوص، وترددهم على ما فصل من أحكام. وبالوقوف على روح التشريع، ساغ لهم أن يقرروا معاني بعض الآيات والأحاديث على حسب ما تقتضيه هذه القواعدة كما قيد الإمام مالك - رضي الله عنه - حديث: "اليمين على من أنكر" بشرط الخلطة بين المدّعي والمدّعى عليه، وهو في الحقيقة إنما قيد نص الشارع بقاعدة مأخوذة من نصوصه، وهي

أحكام الشريعة معللة بالمصالح الدنيوية والأخروية والمصلحة الدنيوية منها هي ما يبحث عنه أصحاب القوانين الوضعية

قاعدة: سد الذرائع؛ إذ لو وُجِّه اليمين على كل مدّعى عليه، لتمكن أهل السفاهة من امتهان أهل الفضل، ولا يشاء أحد أن يحلف أحداً من أهل الخير والفضل إلا ادعى عليه دعوى يتوصل بها إلى تحليفه وامتهانه. ولعلك تستخلص من هذا المقال، على ما فيه من الجاز: أن شارع الإسلام يقصد إلى أن يكون للمسلمين دولة ذات صبغة دينية، وأنه سنّ لهذه الدولة سبيلاً متى جمح عنه الحاكم يميناً أو شمالاً، كان مسؤولاً للأمة المسلمة في الدنيا، ولمنزّل الشريعة في الآخرة. وقد حررنا لك فيما سلف: أن الشارع يوجه عنايته إلى حفظ الحقائق أو المصالح، ويترك الوسائل إلى اجتهاد أولي الأمر، يفرض الشارع تنوير عقول الأمة بالعلوم والمعارف، أما أن تكون مدة الدراسة أربع ساعات في اليوم، أو خمساً، وأن يشتغل طلبة العلوم بالسياسة، أو لا يشتغلون، وأن يعقد لهم امتحان في أول السنة، أو آخرها، وأن يمنح التلميذ حرية البحث في نفس الدرس، أو لا يفسح له في البحث إلا بمقدار، فذلك كله، وأمثاله معه، مما ينظر فيه أولو الأمر، ويُجرونه على حسب ما يتراءى لهم من المصلحة. فقول المؤلف: "إن كل ما شرعه الإسلام، وأخذ به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنظمة وقواعد وآداب إلخ" إنما هو قول من لم يقف على روح التشريع، ولم يدر أن ما لم تنص عليه الشريعة من الأنظمة، إنما هو من النوع الذي يتبدل على حسب ما تقتضيه طبائع الشعوب، وأحوال الأزمنة. * أحكام الشريعة معللة بالمصالح الدنيوية والأخروية والمصلحة الدنيوية منها هي ما يبحث عنه أصحاب القوانين الوضعية: قال المؤلف في (ص 85): "إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات

وآداب وعقوبات، فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر الدينية لا غير. وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية، أم تخفى علينا، وسيان أن يكون منها للبشر مصلحة مدنية، أم لا، فذلك ما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر إليه الرسول". يقول المؤلف في هذه الفقرة: إن ما جاء به الإسلام من معاملات وعقوبات غير قائم على رعاية المصالح المدنية، ويقصد بهذا: أنها لا تصلح لأن تتمسك بها الدولة في سياستها، وما هو إلا الهوى تزوج بالعقيدة الشوهاء، فكان من نسلهما هذا الرأي العنيد. أحكام الإسلام ترجع إلى: عبادات، ومعاملات، وعقوبات. أما العبادات، فالقصد منها: مصلحة البشر الدينية، وقد تتبعها مصالح دنيوية؛ كما قال تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} {نوح: 10 - 11]. وأما المعاملات والعقوبات، فإنه يراد منها: إقامة المصالح في الدنيا، وتترتب عليها مصلحة أخروية، وهي الثواب عليها في الدار الباقية، متى صحب العمل بها قصدُ الامتثال، وهذه المصلحة الأخروية لا تخرج المصلحة الدنيوية عن أن تكون هي المصلحة التي يبحث عنها أصحاب القوانين الوضعية، وإن شئت تحرير البحث في هذا الصدد، فإليك التحرير: للنفوس أربعة أحوال: لذة، وسرور، وألم، وغَمّ. فيلتذ الإنسان بالحكمة، ثم بالطيبات من طعام وشراب، وفراش لين، ونوم هادى"، ويسرّ بازدياد الولد وصلاحه، والانتصار على العدو، وأن يكون له لسان صدق في مجالس أهل الفضيلة. ويتألم من الوجع، ومذاق الطعام المر،

والشراب الملح الأجاج، وأن يقرع سمعه أنكر الأصوات، أو يمس بدنه حرّ سلاح أو سياط. ويغتم لفقد مال أو مفارقة صديق، أو استبداد حاكم غشوم. ومن البديهي أن النفوس تحرص على ما فيه لذة أو سرور، وتنفر مما فيه ألم أو غم، فكل إنسان يسعى بفطرته إلى ما فيه لذته وسروره، ويحذر ما يلاقي به ألماً وغمّاً، ولا تكاد تصرفاته الصادرة عن إرادة وعزم تخرج عن أن يقصد بها نيل ما فيه لذة أو سرور، أو يحترس فيها عمّا فيه ألم أو غمّ، وإذا اعترض عما فيه لذة أو سرور، فلينال لذة وسروراً أعظم، وإذا اقتحم موقع ألم أو غمّ، فليخلص من ألم أو غمّ أشد أثراً، أو أطول أمداً. وحيث كان الإنسان مخلوقاً على فطرة تستدعي أن يعيش في جماعة من أبناء جنسه، وتألَّف الناس بالفعل شعوباً وقبائل، أصبحت أسباب اللذة والسرور، والآلام والغموم تتصادم، فربّ عمل فيه لذة شخص أو سروره، يجر لآخر غماً أو ألماً، ورب إحجام إنسان عن موقع ألم أو غمّ يحرم غيره لذة وسروراً. فنسمي اللذة والسرور وأسبابها: مصالح، أو منافع، ونسمّي الآلام والغموم وأسبابها: مفاسد، أو مضار، ونقول: إن تعارض الدواعي في جلب المصالح ودرء المفاسد يفضي بطبيعته إلى تنازع وتقاتل. فاقتضت الضرورة أن يكون للجماعة قانون يكبح القوى عن الاستئثار بمنافع الضعفاء، ويفصل ما ينتشب بين القوتين المتكافئتين من تدافع وخصام. فالشرائع السماوية، والقوانين الوضعية، تتحد في أن القصد منها: حفظ المصالح، ودرء المفاسد على وجه يجعل كل أحد يصل إلى ملاذّه

ومسراته؛ بشرط أن لا يلحق بغيره ألماً وغمّاً، وتنفرد الشريعة السماوية بأن تجعل لتطبيق أحكامها بإخلاص مصلحة أخرى، وهي رضوان الله، أو نعيمه الدائم في الآخرة، وتمتاز بعد كون قوانينها أعدل وأشد مطابقة لمكارم الأخلاق، بأن الطائع لها إنما يطيع أمر ربه الأعلى، لا إرادة مخلوق قد يكون أقل منه علماً، أو أحطّ أخلاقاً، أو أسفه رأياً. وهذا المعنى الذي تختص به الشريعة السماوية، يجعل كثيراً من الناس يمتثلون قوانينها بباعث من أنفسهم، وإن أمنوا من عقوبة السلطان على مخالفتها. وقد عقد أهل العلم خناصرهم على أن أحكام الشريعة معللة بمصالح العباد في هذه الحياة وفي تلك الحياة، وأن المصالح التي تقصدها الشريعة السماوية ترجع إلى حفظ النفس والدين والعقل والعرض والنسب والمال، فالقصاص -مثلاً- مشروع لحفظ النفس، وحدّ الزنا لصيانة النسب، وحد القذف لصيانة العرض , وعقوبة شارب الخمر لصيانة العقل، والجهاد لحفظ الدين، بل الاستعمار الأجنبي دلّ على أن الجهاد مشروع لحفظ الدين والنفس والعرض والمال، ويرشد إلى هذا قوله تعالى: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8]. وكل ما شرع من أحكام المعاملات والتعازيز لا يخرج عن الاحتفاظ بهذه الحقوق. وقد قال ابن الحاجب (¬1) في "مختصر منتهى السول" (¬2): إجماع الفقهاء ¬

_ (¬1) عثمان بن عمر بن أبي بكر ابن الحاجب (570 - 646 هـ = 1174 - 1249 م) من كبار فقهاء المالكية وعلماء العربية. ولد في أسنا من صعيد مصر، وتوفي بالإسكندرية. (¬2) انظر بحث: دليل العمل بالسير وتخريج المناط من القياس.

على أن أحكام الشرائع معللة، وأن التعليل يشمل كل فرد من الأحكام .. وصرح عز الدين بن عبد السلام بأنها معللة بجلب المصالح ودرء المفاسد، قال في "قواعده" (¬1): "فصل في مناسبة العلل لأحكامها، وزوال الأحكام بزوال أسبابها، فالضرورات مناسبة لأباحة المحظورات جلباً لمصلحتها، والجنايات مناسبة لإيجاب العقوبات درءاً لمفاسدها". وقرر أبو إسحق الشاطبي في كتاب: المقاصد من "موافقاته": (¬2) "إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً". ولبناء أحكام الشريعة على مصالح العباد في الدنيا، خاض أهل العلم في البحث عن هذه المصالح، وعقدوا الموازنة بينها وبين المفاسدة ليبنوا الحكم على الراجح منهما عند التعارض، كما فعل أبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته"، وعز الدين بن عبد السلام في "قواعده"، وتجدهم ينظرون إليها كما ينظر إليها أصحاب القوانين الوضعية؛ من حيث عظمها وصغرها، ومن حيث ما يترتب عليها في الخارج من آثار نافعة، أو عواقب سيئة، فهذا عز الدين بن عبد السلام يقول: "فصل في اجتماع المصالح مع المفاسد: إذا اجتمعمت المصالح مع المفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد، فعلنا ذلك؛ امتثالاً لأمر الله تعالى فيهما، وإن تعذّر الدرء والتحصيل، فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة، درأنا المفسدة، ولا نبالي بفوات المصلحة. قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219]. وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة، ¬

_ (¬1) نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية. (¬2) (ج 2 ص 2).

حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة ... والضابط: أنه مهما ظهرت المصلحة الخلية عن المفاسد، سُعي في تحصيلها، ومهما ظهرت المفاسد الخلية من المصالح، سعي في درئها؛ وإن التبس الحال، احتطنا للمصلحة بتقدير وجودها، وفعلناها، وللمفسدة بتقدير وجودها، وتركناها". ومن جهة التعليل بالمصالح انفتح باب القياس في الأحكام، وهو إلحاق الوقائع بنظائرها المنصوص عليها حيث اشتركتا في علة الحكم، كما قاسموا القضاء في حال المرض على القضاء في حال الغضب المنصوص عليه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"؛ لأن علة المنع من القضاء متحققة في حال المرض، وهي قلق الفكر واضطرابه. قال المؤلف في (ص 85): "قد نخاف أن يخفى عليك أمر ذلك التباين الذي نقول: إنه كان بين أمم العرب زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأن تخدعك تلك الصورة المنسجمة التي كان يحاول المؤرخون أن يضعوها لذلك العصر، فاعلم أولاً: أن في فن التاريخ خطاً كثيراً، وكم يخطئ التاريخ، وكم يكون ضلالاً كبيراً! ". شأن الباحث المحقق أن يحدّ رأيه من كل جهة، ثم يتعرض لما عساه أن يقع في سبيله من روايات المؤرخين، وينقده بحكمة، فيبين مخالفته لسنن الكون، أو لطبيعة حال الأمة التي يقص من أنبائها، أو يعارضه برواية هي أصح سنداً، وأرجح وزناً. كل إنسان يعلم أن في التاريخ حقاً وباطلاً، ولكن وراء التاريخ علوماً وقواعد تميز حقه من ياطله، وصحيحه من سقيمه. فهل نقل المؤلف الروايات التي حاول المؤرخون أن يضعوا بها لعهد

النبوة تلك الصورة المنسجمة، وبيّن وجه مخالفتها للسنن الكونية، أو لطبيعة الأمة العربية، أو نقضها بروايات هي أمتن سنداً، وأوفى وزناً؟. كل ذلك لم يقع، ولم يزد المؤلف على مزاعم يلف حبلها على غاربها، ويرسلها سائبة في الورق كالضالة غير المنشودة، فلا شبهة تسترها، ولا دليل يقودها؛ كأنه يبعث بها إلى الصم البكم الذين لا يعقلون. ولو كان هذا المنطق نافعاً، لكان لنا أن نكتفي في نقض هذا الكتاب بأن نقول لقارئه: قد نخاف أن يخفى عليك أمر ذلك الكتاب الذي نقول: إن مؤلفه يجهل ما كان بين أمم العرب زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن تخدعك تلك الصورة المزورة التي يحاول أن يضعها للحكومة النبوية، فاعلم أولاً: أن في الآراء خطاً كبيراً، وكم يخطئ الرأي، وكم يكون ضلالاً كبيراً!. قال المؤلف في (ص 85): "واعلم ثانياً، أنه في الحق أن كثيراً من تنافر العرب وتباينهم قد تلاشت آثاره بما ربط الإسلام بين قلوبهم، وما جمعهم عليه من دين واحد، ومن أنظمة وآداب مشتركة". يدّعي المؤلف: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض لتلك الأمم من حيث الحكم والسياسة، والطريق النافع لهذه الدعوى أن ينقد الروايات الشاهدة بأنه - عليه السلام - كان يولي تلك الأمم أمراء يسوسونهم بالكتاب والسنّة والاجتهاد الصحيح، ولكنه بدل أن يأخذ في هذا الطريق العلمي، أخذ يتحدث بما لا يدخل في موضوع البحث، ولا يعود على تلك الدعوى بفائدة. من أي منفذ يدخل في الموضوع قوله: "أن كثيراً من تنافر العرب وتباينهم قد تلاشت آثاره بما ربط الإسلام بين قلويهم"؟ ومن الذي يلتبس عليه التنافر والتباين في بعض عادات وآداب بالتباين في الحكم ومرجع السياسة؟

لماذا لم يسم النبي - صلى الله عليه وسلم - من يخلفه؟

قال المؤلف فىِ (ص 86): "ولكن العرب - على ذلك- ما برحوا أمماً متباينة، ودولاً شتى. كان ذلك طبيعياً، وما كان طبيعياً فقد يكفي أن تخفف حدته، وتقلل آثاره، ولكن لا يمكن التخلص منه بوجه من الوجوه". كأن المؤلف أخذ على عاتقه أن يملأ صحائف معدودة في الحديث عن الحكومة النبوية، وسيان بعد ذلك أن تكون معاينة متناسقة، أم متخاذلة. موضوع البحث: هل تعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - لتلك الأمم من حيث الحكم والسياسة، أم تركت كل أمة على ما هي عليه من فوضى أو نظام؟ وإذاً المؤلف يخرج إلى الحديث عن تنافر العرب، ولا يستأذن قارئي كتابه في هذا الاقتضاب، ثم يدّعي بعد هذا: أن كونهم أمماً متباينة، ودولاً شتى، أمر طبيعي، وما كان طبيعياً، لا يمكن التخلص منه بوجه من الوجوه. التباين في بعض عوائدَ وآدابٍ لا تنافي الفضيلة، شيء يغمض عنه الإسلام طرفه، ولا يهمه أن يزول، أو يبقى خالداً، والذي يعنيه، ويعمل على تنقية الحالة الاجتماعية منه، إنما هي العادات والشؤون التىِ لا تلتئم مع الآداب الرفيعة والمظاهر المألوفة. فالإسلام يجاهد كل تباين يقوم على عادات ينكرها الأدب، طبيعية كانت أم تقليدية، والدين الذي بلغ بحكمته أن يجعل الرجل طوع أمره، فيهجر من أجله وطنه، ويقاتل في سبيله أباه وأخاه وعشيرته الأقربين، في استطاعته أن يخرج النفوس المؤمنة من ظلمات الجاهلية إلى الشريعة العادلة والسياسة الحكيمة. * لماذا لم يسم النبي - صلى الله عليه وسلم - من يخلفه؟ قال المؤلف في (ص 87): "وقد لحق - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى من غير أن

يسمّي أحداً يخلفه من بعده، ولا أن يشير إلى من يقوم في أمته مقامه. بل لم يشر - عليه السلام - طول حياته إلى شيء يسمّى: دولة إسلامية، أو دولة عربية". إن لم يسمّ - عليه السلام - أحداً يخلفه من بعده، ولم يشر إلى من يقوم في أمته مقامه، فليس معنى ذلك أنه لم يُبعث لإنشاء دولة إسلامية، ولم يأت بشريعة تنتظم سياستها. وإنما لم يسمّ أحداً يخلفه، ولم يشر إلى من يقوم مقامه، لمقصد بعيد المدى، وأصل من أصول الدولة يثبّت أساسها، ويزيدها حكمة على حكمتها، وهو: أن الإمامة حق من حقوق الأمة، هي التي تقلدها، وهي التي تنزعها، تقلدها من آنست فيه الكفاية، وتنزعها ممن عجز عن القيام بأعبائها، أو لعبت بقلبه أصابع الهوى، فجعل عاليها سافلها. وإن تعجب، فعجب قول المؤلف: إن النبي - عليه السلام - لم يشر طول حياته إلى شيء يسمّى: دولة إسلامية. ولقد ذهب هذا القلم في الجرأة إلى مكان سحيق. يقول حفّاظ السنّة: لم نسمع كذا، أو لم يبلغنا كذا، ويقول من ينقل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن "الكامل" للمبردّ: لم يشر - عليه السلام - طول حياته إلى شيء يسمّى: دولة إسلامية! من مثل هذه العبارة يدرك قراء كتابه الأذكياء وأشباه الأذكياء: أنه يرمي بالكلام جزافاً، ويحاول أخذ قلوبهم، ولو على طريق غير معقول، ومنطق ليس له فروع ولا أصول. يرمي المؤلف هذه المقالة الخاطئة، وفي السنّة الصحيحة من أحاديث الإمامة ما فيه عبرة لقوم يفقهون، وقد قصصنا منها ما لا يمكن للمؤلف أن

بحث لغوي في خلف واستخلف

ينازع في صحته، أو يحرفه بالتأول عن مواضعه. قال المؤلف في (ص 87): "فكيف إذا كان من عمله أن ينشئ دولة يترك أمر تلك الدولة مبهماً على المسلمين، ليرجعوا سريعاً من بعده حيارى يضرب بعضهم رقاب بعض؟! وكيف لا يتعرض لأمر من يقوم بالدولة من بعده، وذلك أول ما ينبغي أن يتعرض له بناة الدول قديماً وحديثاً؟! ". ترك النبي - عليه السلام - المسلمين على بينة من أمر إمام يقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا، ولم يبق سوى أنه لم يعهد بالخلافة لأحد بعينه. والحكمة في عدم تعيين من يقوم مقام: تعليم الأمة المسلمة أن منصب الخليفة يرجع إلى اختيارهم، وهذا مبدأ من مبادئ الإسلام المفرغة على قالب الحرية، ولكن المؤلف ينظر إلى سيرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - بمرآة تعكس الحقائق، وتريها له في صبغة غير صبغتها الحسنى. لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الدولة مبهماً على المسلمين، ولم يرجعوا سريعاً من بعده يضرب بعضهم رقاب بعض، وما هي إلا مناقشة دارت بينهم في سقيفة بني ساعدة، وسرعان ما طوي بساطها على وفاق وسلام. فإن كان المؤلف يلوّح إلى قتال أهل الردة، فأولئك قوم نزلت بهم ضلالة، أو استحوذت عليهم جهالة، ولو نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إمامة أبي بكر، لنازع أولئك الضالون أو الجاهلون في صحة ما يروى لهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لم يعدموا مغالطة يتملصون بها من عهدة ما تفرضه عليهم النصوص الصريحة، وكتاب "الإسلام وأصول الحكم" على ما نقول شهيد. * بحث لغوي في خلف واستخلف: حكى المؤلف مذهب ابن حزم في أن النبي - عليه السلام - نص على

استخلاف أبي بكر بعده، وأن معنى الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه، لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه. ثم قال في (ص 88): "والذهاب مع هذا الرأي تعسف لا نرى له وجهاً صحيحا، ولقد راجعنا ما تيسر لنا من كتب اللغة، فما وجدنا فيها ما يعضد كلام ابن حزم، ثم وجدنا إجماع الرواة على اختلاف الصحابة في بيعة أبي بكر، وامتناع أجلّة منهم عنها". أما كلام ابن حزم، فلم يكن المؤلف أول ناقد له، فقد قال ابن تيمية في "منهاج السنّة" (¬1): "إن الخليفة إما أن يكون معناه: أن يخلف غيره، وإن كان لم يستخلفه؛ كما هو المعروف في اللغة، وهو قول الجمهور، وإما أن يكون معناه: من استخلفه غيره؛ كما قاله طائفة من أهل الظاهر، والشيعة، ونحوهم". وقال أيضاً: "قالوا: والخليفة إنما يقال لمن استخلفه غيره، واعتقدوا أن الفعيل بمعنى المفعول، فدل ذلك على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف على أمته، والذين نازعوهم في هذه الحجة قالوا: الخليفة يقال لمن استخلفه غيره، ولمن خلفه غيره، فهو فعيل بمعنى فاعل". وأما ما ذكر من امتناع أجلّة من الصحابة عن مبايعة أبي بكر، فقد كان ذلك في مبدأ الأمر، ثم أطبقوا على مبايعته، ولم يبق سوى سعد بن عبادة - رضي الله عنه -، قال شيخ الإسلام في "منهاج السنّة" رداً على أحد الرافضة في مقالة له تشبه مقالة المؤلف: "وأما الذين عدهم هذا الرافضي أنهم تخلفوا عن بيعة الصديق من أكابر الصحابة، فذلك كذب عليهم، إلا على سعد بن عبادة؛ فإن مبايعة هؤلاء لأبي بكر وعمر أشهر من أن تنكر، هذا مما اتفق عليه أهل ¬

_ (¬1) (ج 2 ص 175).

تحقيق أنه - عليه السلام - جاء للمسلمين بشرع يرجعون إليه في الحكومة بعده

العلم بالحديث والسير والمنقولات، وسائر أصناف أهل العلم خلفاً عن سلف. وقد علم بالتواتر أنه لم يتخلف عن مبايعته إلا سعد بن عبادة. * تحقيق أنه - عليه السلام - جاء للمسلمين بشرع يرجعون إليه في الحكومة بعده: قال المؤلف في (ص 89): "بل الحق أنه - صلى الله عليه وسلم - ما تعرض لشيء من أمر الحكومة بعده، ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه". جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين بشرع يرجعون إليه في الحكومة بعده، أما كونه - عليه السلام - جاء بشريعة ذات أصول قضائية، وأخرى سياسية، وأن هذه الأصول لم تفرط في شيء من جلب المصالح ودرء المفاسد، فحقيقة يراها عين اليقين كل من تدبر في القرآن، وتفقه في الدين على طريقة الباحث الحكيم. وقد بصر علماء الإسلام بهذه الحقيقة، وتضافرت كلمتهم عليها، وإن كانوا يختلفون في بعض طرق الاستنباط، ذلك الاختلاف الناشئ عن التفاوت في الفهم، والتفاضل في العلم، والحق قد يخفى على بعض الأفراد، ولكنه لا يستتر عن عيون الجماعات المبثوثة في كل واد. وأما الدليل على أن هذه الشريعة عامة، لا يختص بهدايتها عصر دون عصر، ولا قوم دون آخرين، فهو الكتاب، والسنّة، والإجماع، والنظر صحيح. أما الكتاب، فقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وقوله تعالى. {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]. وهذا يقتضي أن كل ما تقرر بوحي من عقائد وآداب وشرائع، يعم بخطابه جميع الأمم، ولا يختص بزمان, دون زمان، وكذلك تجد الوعيد على الحكم بغير

ما أنزل إليه مصنوعاً في صورة العموم، تجده في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وفي آية أخرى: {فأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، وفي آية ثالثة: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. وأما السنّة، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" (¬1). وأما الإجماع، فأوضح من نار على علم، وممن تعرض له أبو إسحق الشاطبي إذ قال في "موافقاته" (¬2): "والثالث إجماع العلماء المتقدمين على ذلك -كون الشريعة عامة- من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولذلك صيّروا أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة للجميع في أمثالها .. وتقرير صحة الإجماع لا يحتاج إلى مزيد؛ لوضوحه عند من زاول أحكام الشريعة". وأما النظر، فإن الأحكام "إذا كانت موضوعة لمصالح العباد، فالعباد بالنسبة إلى ما تقتضيه من المصالح سواء، فلو وضعت على الخصوص، لم تكن موضوعة لمصالح العباد، فثبت أن أحكامها على العموم، لا على الخصوص" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (ج 1 ص 70) طبع بولاق. (¬2) (ج 2 ص 154). (¬3) "موافقات الشاطبي" (ج 2 ص 154).

الباب الثاني الدولة العربية

الباب الثاني الدولة العربية * ملخصه: قال المؤلف في أول الباب: "إن زعامة النبي - صلى الله عليه وسلم - دينية، وزعم أنها انتهت بموته، وما كان لأحد أن يخلفه في زعامته، وادعى على غير خجل: أن زعامة أتباعه من بعده غير قائمة على الدين، وأنها نوع لا ديني، ثم تعرض لتأثير دعوة الإسلام في الأمم العربية، ولتهيئهم لإقامة دولة سياسية على أساس الوحدة الدينية، وأتى على بيعة أبي بكر - رضي الله عنه -، وباهت التاريخ بزعمه: أنها قامت على أساس القوة والسيف، وأنها لم تخرج عن أن تكون دولة عربية أيدت سلطان العرب، وروجت مصالح العرب، وخاض في شبه تنبئك: أنه "يرى النملة جملاً، وإذا رأى غير شيء ظنه رجلاً "، وانقاد في حديثه إلى أن أبا بكر وغيره من خاصة القوم لم يزعموا أن إمارة المسلمين كانت مقاماً دينياً، ووصل حديثه بأن هناك أسباباً كثيرة ألقت على أبي بكر شيئاً من الصبغة الدينية، ثم قال: وكذلك وجد الزعم بأن الإمارة على المسلمين مركز ديني. وانصرف عن الباب بدعوى: أن أهم أسباب هذا الزعم: ما لقّب به أبو بكر من أنه "خليفة رسول الله". * النقض: قال المؤلف في (ص 90): "طبيعي ومعقول إلى درجة البداهة أن

حكومة أبي بكر وسائر الخلفاء الراشدين دينية

لا توجد بعد النبي زعامة دينية. وأما الذي يمكن أن يتصور وجوده بعد ذلك، فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلاً بالرسالة، ولا قائماً على الدين. هو إذن نوع لا ديني. وإذا كانت الزعامة لا دينية، فهي ليست شيئاً أقل ولا أكثر من الزعامة المدنية أو السياسية، زعامة الحكومة والسلطان، لا زعامة الدين، وهذا الذي قد كان". * حكومة أبي بكر وسائر الخلفاء الراشدين دينية: هذه حلقة من سلسلة الآراء التي يسطو بها المؤلف حول شريعة الإسلام؛ ليزيحها من المحاكم، ومن مظاهر الدولة، حتى لا يرى للسياسة العفيفة وجهاً، ولا للإباحية المتهتكة زاجراً. ذهب إلى أن التنفيذ غير داخل في وظيفة الرسول - عليه السلام - السماوية، وأنه لم يكلف بأن يحمل الناس على ما جاءهم به، وترامى في هذه الجمل على حكومات الخلفاء الراشدين، يطعن في عفافها، ويقذفها بسنة اللادينية. هل للمؤلف أن يغسل قلمه من المواربة، ويحدثنا عن قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]، وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ} [النور: 2]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، ويدلنا على المكلف بتنفيذ هذه الأحكام؟. ليس بجائز -في نظره- أن يكون المكلف بتنفيذها الرسول - عليه السلام -؛ لأنه "لم يكلف شيئاً غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس

بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه". ثم هو ينفي أن يكون المكلَّفُ بتنفيذها ملوك العرب: أبا بكر، وعمر، وخلفاءهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "ما تعرض لشيء من أمر الحكومة بعده، ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه". وحكومات أولئك الملوك "نوع من الزعامة جديد، ليس متصلاً بالرسالة، ولا قائماً على الدين، هو إذن نوع لا ديني". ولعله يجيب: بأن الخطاب بها مصروف إلى الأمة، وأنها تتولى دون أولئك الملوك إقامة هذه الحدود على أولئك الجناة، وهي فوضى لا يرضى عنها المستر "أرنولد"، ولا الفيلسوف "لك". ولم يبق للمؤلف مخلَص سوى أن يقول: إن هذه الآيات نزل بها الأمين على أكمل الخليقة؛ ليتهجد بها الناس، وليرتلوها ترتيلاً! .. استهتر المؤلف بمبدأ اللادينية، ولم يقنع بأن يجاهد لإعلاء كلمته في الحاضر والمستقبل، حتى صعد نظره إلى الحكومة النبوية، وحكومة الخلفاء الراشدين، فرمى الأولى بما رمى، وحاول أن ينزع عن الثانية لباس التقوى، والله يشهد أن أولئك القوم بآياته يوقنون. كانت حكومة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حكومة إسلامية، تحكم بما أنزل الله، وتسير في سياستها على السبيل التي رسمتها حكمته البالغة، والأدلة على ذلك كثيرة، ولنكتف منها بالكتاب العزيز، والتاريخ الصحيح. أما الكتاب، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ

وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، وفي هذا دليل واضح على أن حكومة أبي بكر - رضي الله عنه - لم تكن من نوع اللاديني؛ إذ الحال الذي ينطبق عليه معنى الآية إنما وقع في عهد خلافته، فإن الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قاتلهم أبو بكر بمن معه من الصحابة الأكرمين، وقد أخبر الله تعالى أنه يحبهم، وشهد لهم بأنهم يحبونه، ولو كان يحكم بغير ما أنزل الله، لكان ظالماً، أو فاسقاً، والله لا يحب الظالمين، ويبغض الفاسقين. وليس لأحد ادعاء أن الآية مسوقة في غير المرتدين بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن تاريخ الإسلام لم يقصّ علينا أن قوماً قاتلوا المرتدين الموجَّه إليهم خطاب هذه الآية غير أبي بكر وجنده الغالبين. ومما يشهد بأن حكومة الخلفاء الراشدين دينية إسلامية: قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16]. فإن قوله: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} كلام لم يعين فيه "الفاعل الداعي لهم إلى القتال، فدل القرآن على وجوب الطاعة لكل من دعاهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد، يقاتلونهم أو يسلمون، ولا ريب أن أبا بكر دعاهم إلى قتال المرتدين، ثم قتال فارس والروم، وكذلك عمر دعاهم إلى قتال فارس والروم، وعثمان دعاهم إلى قتال البربر ونحوهم، والآية تتناول هذا الدعاء كله" (¬1). "فإن قال قائل: يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي دعاهم، قيل له: ¬

_ (¬1) "منهاج السنّة" (ج 4 ص 278).

قال الله تعالى: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83]، فأخبرهم أنهم لا يخرجون معه أبداً، ولا يقاتلون معه عدواً (¬1) ". فانظر كيف أوجب الله طاعتهم، ومن لم يحكم بما أنزل الله، فهو ظالم، أو كافر، والله لا ينزل قرآناً في إطاعة الظالمين أو الكافرين. وأما التاريخ الصحيح، فهذه سيرة الخلفاء الراشدين محفوظة في الكتب الموثوق بروايتها، فلا تراها إلا شاهدة بأن الخليفة كان يحكم بالكتاب والسنّة، ولا يرجع إلى اجتهاد رأيه إلا إذا أعوزه الدليل منهما، في "صحيح البخاري": "كانت الأئمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشيرون الأمناء في الأمور المباحة؛ ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب والسنّة، لم يتعدوه إلى غيره؛ اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -". وقال أبو عبيد في كتاب "القضاء": "كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم، نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به، قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله، نظر في سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن وجد فيها ما يقضي به، قضى به، فإن أعياه ذلك، سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سنّة سنّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جمع رؤساء الناس، فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء، قضى به، وكان عمر يفعل ذلك (¬2) "! وتجد هذه السنّة في وصية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى شريح حين ولاه ¬

_ (¬1) "أحكام القرآن" للجصاص (ج 2 ص 445). (¬2) "إعلام الموقعين" (ج 1 ص 75).

أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير أمة أخرجت للناس

قضاء الكوفة: "انظر ما يتبين لك في كتاب الله، فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبين لك في كتاب الله، فاتبع فيه سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما لم يتبين لك فيه السنّة، فاجتهد فيه رأيك (¬1) ". فقول المؤلف على حكومة أبي بكر: إنها نوع لا ديني، إنما نشأ عن نظرة لا دينية، فهو إذن قول لا ديني. * أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير أمة أخرجت للناس: قال المؤلف في (ص 90) يصف الأمة المسلمة في عهد النبوة: "حتى استحالوا أمة واحدة من خير الأمم في زمانهم". قال الثه تعالى يخاطب هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] (¬2)، ولم يوافق ذوقَ المؤلف أن يكون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير أمة أخرجت للناس، وما سمحت نفسه إلا بأن يجعلهم من خير الأمم في زمانهم، ولعله جعلهم من خير الأمم في زمانهم؛ لأنه لا يراهم من خير الأمم في كل زمان، ولو نظر إليهم كأمة عربية فقط، وأصغى إلى ما يمليه عليه التاريخ وحده، لاعترف كما اعترف بعض المؤرخين من غير المسلمين بأن الأزمنة لم تخرج للناس أمة كتلك الأمة عدلاً ورحمة وعفافاً. قال جرجي زيدان في "تاريخ التمدن الإسلامي" (¬3) يصف حكومة الخلفاء الراشدين: "خلافة دينية، أساس أحكامها ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (ج 1 ص 71). (¬2) (ج 4 ص 35). (¬3) (ج 4 ص 35).

أسباب سيادة الإسلام لعهد الخلفاء الراشدين

التقوى والرفق والعدل، بما لم يسمع بمثله في عصر من العصور". * أسباب سيادة الإسلام لعهد الخلفاء الراشدين: قال المؤلف في (ص 91): "واستعدوا بمثل ما يستعد به شعوب البشر لأن يكونوا سادة ومستعمرين". لكل شيء سبب، والمسببات تجيء على حسب أسبابها في القوة والغرابة، وتلك الأمة المسلمة بلغت أشدها، وبسطت أجنحتها على تلك الممالك المترامية الأطراف؛ لأسباب فوق الاتحاد، وفوق ما بأيديهم من قوة مادية. وأحد هذه الأسباب: اعتقادهم بأنهم يمتثلون أمر الله فيما يفتحون من البلاد، وأنهم يفيضون على العالم هداية وإصلاحاً، وهذا ما يجعلهم على ثبات لا يتزلزل، وإقدام لا يلوي على شيء. ثانيها: أن حكمة القرآن وسيرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - فتحت بصائرهم، فجعلتهم أبعد الأمم نظراً، وأحكمهم رأياً، وأنجحهم تدبيراً. ثالثها: سمعة عدلهم ولينُ سياستهم تطير إلى الأمم المحاربة، فتكسر من شدة عزمهم في الدفاع، وتخفف عليها أمر الاستسلام لأولئك الهداة الفاتحين. فارتفاع شأن الأمة الإسلامية لعهد الخلافة الرشيدة، له أسباب معتادة، وأسباب غريبة، ولهذا كانت سيادتهم باهرة في سعة مظهرها، وحكمة نسجها، وسرعة تكونها؛ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]. * بيعة أبي بكر اختيارية إجماعية: قال المؤلف في (ص 92): "وإذا أنت رأيت كيف تمت البيعة لأبي

بكر، واستقام له الأمر، تبين لك أنها كانت بيعة سياسية ملكية، عليها كل طوابع الدولة المحدثة، وأنها إنما قامت كما تقوم الحكومات على أساس القوة والسيف". أخذ المؤلف على قلمه ميثاقاً غليظاً، وفرض عليه أن لا يضرب خطوة إلا أن يخالف قرآناً، أو سنّة صحيحة، أو تاريخاً صادقاً. جرى عقب وفاة الرسول الأعظم - صلوات الله عليه - مناقشة في أمر الإمامة كما هو الشأن في كل المسائل المهمة تطرح على بساط المفاوضة، وانتهت هذه المناقشة أو الجدال بمبايعة أبي بكر الصديق، وبعد أن انعقدت له المبايعة على اختيار من أهل الحل والعقد، وتبوأ منصب الخلافة، صار له جند وسلاح، وكذلك دين الحق، وسياسته الرشيدة، تقوم على الحكمة والبيان، ويحرسها السيف والسنان، ولكن المؤلف يخطئ التاريخ الحق، ولا يصيب في فهم ما تقتضيه السنن الكونية. والتحقيق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرف أن أصحابه لا يختلفون في فضل أبي بكر، وتفوقه عليهم دراية واستقامة، وهذا ما يجعل الآراء متطابقة على تعيينه للخلافة، ففوّض الأمر إلى اختيارهم لتبقى سنّة إلى الأبد، وذلك ما كان، "ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار؛ طمعاً في أن يكون من الأنصار أمير، ومن المهاجرين أمير ... ثم الأنصار جميعهم بايعوا أبا بكر، إلا سعد بن عبادة؛ لكونه هو الذي كان يطلب الولاية ... ولا قال أحد من الصحابة: إن في قريش من هو أحق بها من أبي بكر، لا من بني هاشم، ولا من غير بني هاشم، وهذا كله مما يعلمه العلماء العاملون بالآثار والسنن والحديث" (¬1). ¬

_ (¬1) "منهاج السنة" (ج 1 ص 139).

كلمة في سيرة أبي بكر

"وأبو بكر بايعه المهاجرون والأنصار الذين هم بطانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذين بهم صار للإسلام قوة وعزة، وبهم قُهر المشركون، وبهم فتحت جزيرة العرب. فجمهور الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم الذين بايعوا أبا بكر ... ولو قدر أن بعض الناس كان كارهاً للبيعة، لم يقدح ذلك في مقصودها؛ فإن نفس الاستحقاق لها ثابت بالأدلة الشرعية الدالة على أنه أحقهم بها (¬1) ". فقول المؤلف: إن البيعة لأبي بكر قامت على السيف والقوة، إنما هو وليد نظرة عجلى، وسقطُ فكر لا يفرق بين من يستولي على الأمة بخيله ورجله، ومن تبايعه الأمة أو جمهورها، ثم تكون له جنداً وظهيراً. * كلمة في سيرة أبي بكر: قال المؤلف في (ص 92): "كانت دولة عربية قامت على أساس دعوة دينية، وكان شعارها: حماية تلك الدعوة، والقيام عليها. أجل، ولعلها كانت في الواقع ذات أثر كبير في أمر تلك الدعوة، وكان لها عمل غير منكور في تحول الإسلام وتطوره، ولكنها -على ذلك- لا تخرج عن أن تكون دولة عربية أيدت سلطان العرب، وروجت مصالح العرب، ومكنت لهم في أقطار الأرض، فاستعمروها استعماراً، واستغلوا خيرها استغلالاً، شأن الأمم القوية التي تتمكن من الفتح والاستعمار". نصوغ من سيرة أبي بكر كلمة يتذكر بها القارى": أن ذلك الخليفة الأتقى، إنما كان يعمل لإعلاء كلمة الله، وإقامة شريعته الغرّاء، وإذا نال العرب من وراء هذا العمل مصالح دنيوية، فذلك ما لا يبخس من عمله الصالح نقيراً، ولا يمس نيته الخالصة بسوء. ¬

_ (¬1) "منهاج السنة" (ج 1 ص 142).

اعتنق أبو بكر الإسلام عن يقين كفلق الصبح، وإخلاص لا يحوم عليه رياء. أسلم يوم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى دين الحق، وأولئك القوم الغلاظ الشداد ينغضون إليه رؤوسهم، ويسومون أتباعه سوء العذاب. أسلم يوم لا يخطر في خيال أحد أنه - عليه السلام - سيكثر تابعوه، ويعتز جانبهم، حتى تكون لهم دولة يخضع لسطوتها الجبابرة. رمى أبو بكر وطنه وراء ظهره، وهاجر رفيقاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صابراً على مضض الاغتراب، ولم يغترب ليستدرّ عيشاً، أو لينهض من خمول، وإنما هي نفس أشربت إيماناً صادقاً، وتجردت لنصرة الحق وطمس معالم الباطل ما وجدت لذلك سبيلاً. لا يسع المقام لأن نبحث عن سيرة أبي بكر في عهد النبوة أكثر من أن نقول: إنه هاجر إلى الله بقلب سليم، وكان مثال الزهد في غير بؤس، والحلم في غير ضعف، والعزّة في غير عظمة، وما برح يجاهد في الله حق جهاده إلى أن اشتد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مرض الوفاة، وقال لهم: "مروا أبا بكر فليصلّ للناس" (¬1). صعدت الروح النبوية إلى الرفيق الأعلى، فأخذت الدهشة من الصحابة مأخذاً اضطربت له الأفكار، ونطقت فيه الألسنة بما لا تنطق به في حال وقار وسكينة، فجاء أبو بكر غيبة قريبة، وخطب بما دل على ثبات جنانه، ورسوخ علمه، فقال: "من كان يعبد محمداً، فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت". وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (ج 1 ص 132). وكان هذا من أدلة تقديمه للخلافة، فقد قال بعض الصحابة - رضي الله عنه -: "رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟! ".

مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، ثم تلا قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. فكان له في هذا الموقف حكمة أعادت الحائر إلى يقينه، والمضطرب إلى سكينته. جاء أبو بكر الخلافة إذ كانت له قدراً، ولم يبسط القوم أيديهم إلى مبايعته ليسوسهم بما يسوس به بعض الملوك رعايتهم من القوانين الوضعية، وإنما قلدوه تلك الرياسة على أن يقودهم بكتاب الله وسنّة رسوله، والاجتهاد الذي يلتئم بأصول الشريعة، وعلى أن يقوم بحراسة الدين، والدعوة إليه بحكمة وعزيمة. والأدلة على أنه كان يتحرى في أحكامه وسياسته الكتابَ والسنّة مبثوثةٌ في كتب السنّة والآثار، وبالغةٌ في الكثرة إلى أن يحصل بها علم لا تخالجه ريبة. وأقرب مثل لهذا: محاورته لعمر بن الخطاب في قتال مانعي الزكاة؛ فإنها كانت تدور على فهم حديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله". ولم يقدِم أبو بكر على قتالهم حتى التمس الحجّة من قوله في الحديث: "إلا بحقها"، وقال: "فإن الزكاة من حقها، والله! لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقاتلتهم عليه". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قد ذكر غير واحد، مثل منصور بن عبد الجبار السمعاني (¬1) وغيره، إجماعَ أهل العلم على أن الصدّيق أعلمُ الأمة، ¬

_ (¬1) منصور بن محمد بن عبد الجبار (426 - 489 هـ = 1035 - 1096 م) من علماء =

وهذا بيّن؛ فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلها هو بعلم يبينه لهم، وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنّة" (¬1). وأما حراسته للدين، فمن شواهدها: أمره بجمع القرآن في المصاحف حين استحر القتل بالقرّاء في واقعة اليمامة، وقد كان أولئك الخلفاء يعاقبون من خرج عن الدين، ولو في مسائل العبادات، ومثال هذا: أن عمر بن الخطاب لما ثبت عنده حديث: "إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل" توعّد على عدم الاغتسال من المباشرة الخالية من الإنزال وقال: لا أسمع برجل فعل ذلك، إلا أوجعته ضرباً (¬2) ". وأما قيامه بنشر الدعوة وحمايتها، فإن قتاله لأهل الردة لم يكن إلا لتثبيت دعائم الدين، وأخذه في فتح الشام والعراق لم يكن إلا في سبيل الدعاية إلى الإسلام، ورفع لوائه. ومن شواهد هذا: قول أحد رجال الدولة الفاروقية المغيرة (¬3) بن شعبة لرستم (¬4) قائد جيش الفرس: "فنحن ندعوك إلى أن تؤمن بالله ورسوله، وتدخل في ديننا، فإن فعلت، كان لك بلادك: لا يدخل عليك فيها إلا من أحببت، وعليك الزكاة والخمس، وإن أبيت ذلك، فالجزية، وإن أبيت ¬

_ = التفسير والحديث، وكان مفتياً في خران، ولد وتوفي بمرو. (¬1) "منهاج السنّة" (ج 1 ص 124). (¬2) "إعلام الموقعين" (ج 1 ص 47) طبع سنة 1343 هـ. (¬3) المغيرة بن شعبة بن أبي عامر (20 ق. هـ - 50 هـ = 603 - 670 م) صحابي، ومن القادة والولاة. ولد في الطائف، وتوفي بالكوفة. (¬4) قائد فارسي انهزم في معركة القادسية (14 هـ = 635 م) أمام الصحابي القائد العربي سعد بن أبي وقاص.

ذلك، قاتلناك حتى يحكم الله بيننا وبينك (¬1) ". وهذه سيرة أبي بكر وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول آية الجزية. وإذا كان أبو بكر وغيره من الخلفاء الراشدين، يتحرى مقاصد الشريعة، ويسوس الأمة بأصولها، ويحرس الدين من أن تعبث به يد الجهالة أو الأهواء، ويقوم على أمر الدعاية جهد استطاعته، فذلك معنى كون دولته إسلامية، وذلك معنى الخلافة، ولكن بعض الناس لا يفقهون. يقول المؤلف: "لا تخرج عن أن تكون دولة عربية أيدت سلطان العرب، وروجت مصالح العرب ... إلخ". الذي وقع أن أولئك الخلفاء رفعوا منار الإسلام حتى ضربت أشعته في قلوب أمم كثيرة، وليس من السهل على المؤلف أن يضع على فم التاريخ كمامة، وينكر خدمتهم للإنسانية، وإنقاذهم لتلك الأمم من عماية في العقائد، وسماجة في العادات، وجهالة بطرق السياسة الرشيدة، وإذا انجرّت إلى العرب مصالح، وتمكنوا في أقطار الأرض، فذلك من أثر قيامهم بالدعوة إلى الدين الحنيف، واعتصامهم بحبل شريعته الحكيمة؛ {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55]. ولم يسعَ أولئك الخلفاء لترويج مصالح العرب، ولا للتمكين لهم في الأرض، فإن من يزهد في الدنيا زهدَ أبي بكر وعمر، فيقنع منها بالثوب المرقع، والرغيف الخشن، ويعود إلى منزله بضواحي المدينة ماشياً على ¬

_ (¬1) "تاريخ ابن جرير" (ج 4 ص 139).

قدميه، وهو قادر على أن يتمتع بملاذها كما تتمتع الملوك، لا تحمل مساعيه إلا على مقصد أسمى وأشرف من خدمة القومية وحدها، وهو امتثال ما أمر الله به من مدِّ ظلال هذا الدين حتى لا تكون فتنة. وهذا عمر بن عبد العزيز -الذي كان ينسج في سياسته على منوال الصدّيق والفاروق- كتب إليه عدي بن أرطاة (¬1) يقول له: "إن الناس قد كثروا في الإسلام، وخفت أن يقل الخراج"، فكتب إليه عمر: "فهمت كتابك، والله! لوددتُ أن الناس كلهم أسلموا، حتى أكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا (¬2) ". فالمؤلف يريد أن يقبض روح الإخلاص من سيرة الخلفاء الراشدين، ويبخس أعمالهم الجليلة قيمتها. وإذا التقت الضمائر النقية بالتاريخ الصحيح، يحدثها بأن أولئك السراة رفعوا لواء الحق، وجدعوا أنف الباطل، فجعل الله لهم لسان صدق في الآخرين، وكانوا واسطة عقد القوم المصلحين. قال المؤلف في (ص 93): "كان معروفاً للمسلمين يؤمئذٍ: أنهم إنما يقدمون على إقامة حكومة مدنية دنيوية. لذلك استحلوا الخروج عليها، والخلاف لها، وهم يعلمون أنهم إنما يختلفون في أمر من أمور الدنيا، لا من أمور الدين، وأنهم إنما يتنازعون في شأن سياسي لا يمس دينهم، ولا يزعزع إيمانهم". الاختلاف في المسائل العلمية ينشأ من اختلاف الآراء فيما يصلح، ¬

_ (¬1) عدي بن أرطاة الفزاري (... - 102 هـ = ... - 720 م) من الولاة الشجعان، ومن أهل دمشق، وقتله معاوية بن يزيد في واسط. (¬2) "سيرة عمر بن عبد العزيز" لابن الجوزي (ص 99).

أو فيمن يليق، فقد يتفق الناس على أن الرياسة العامة غير منفصلة عن الدين، ويختلفون في تعيين من يتولاها وكفايته لها اختلافاً ناشئاً عن تفاوت في النظر، أو هوى في النفس. ومن شأن المؤمنين التنافسُ فيما يكون عمله أشق، وثوابه عند الله أوفى، فلا عجب أن يقع التنافس في الخلافة، أو لا يرضى أحد عن ولاية شخص بعينه، مع اتفاقهم جميعاً على أنها سياسة ذات صبغة دينية. قال المؤلف في (ص 94): "وما زعم أبو بكر ولا غيره من خاصة القوم أن إمارة المسلمين كانت مقاماً دينياً، ولا أن الخروج عليها خروج على الدين". ربما لم يخطر على بال أحد التردد في أن إمارة المسلمين مرتبطة بالدين حتى يحتاج أبو بكر إلى التصريح بذلك، ومع هذا، فإن خطبته التي ألقاها في مشهد المبايعة العامة ناطقة بهذا المعنى؛ إذ يقول فيها: "لا يدعْ أحد منكم الجهاد في سبيل الله؛ فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيعُ الفاحشة في قوم، إلا عمّهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم (¬1) ". فقد آذنهم بأنه سيجاهد في سبيل الله، ولا معنى لإطاعته الله ورسوله إلا اقتداؤه بما جاء في الكتاب والسنة من آداب وأحكام. والخروج على الخليفة بغير حق يعد في نظر الشارع معصية، ولا يسمّى خروجاً على الدين، إلا إذا صح أن يقال لكل مرتكب جريمة: إنه خارج على الدين، وهم لا يقولونه إلا لمن يرتكب المعصية على عمد واستحلال. ¬

_ (¬1) "تاربخ ابن جرير" (ج 3 ص 203).

الباب الثالث الخلافة الإسلامية

الباب الثالث الخلافة الإسلامية * ملخصه: ابتدأ الباب بالحديث عن لقب: "خليفة رسول الله"، وقال: إنه لم يستطع أن يعرف على وجه أكيد ذلك الذي اخترعه، وزعم أن خلافة أبي بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا معنى لها، سوى أنه أصبح كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زعيماً للعرب، ومناط وحدتهم، وتطاول إلى دعوى: أن أبا بكر اختار هذا اللقب؛ ليجمع به القوم حوله؛ لأن فيه روعة، وعليه جاذبية. وادّعى: أن هذا اللقب حمل جماعة من العرب والمسلمين على أن ينقادوا لأبي بكر كانقيادهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الخروج على أبي بكر عند هؤلاء خروجٌ على الدين، وارتداد عن الإسلام. وزعم: أن محاربة أبي بكر لمانعي الزكاة لم تكن باسم الدين، وإنما هي السياسة والدفاع عن وحدة العرب، وادعى: أن تاريخ تلك الحروب لا يزال مظلماً، وأن قبساً لاح من الحقيقة، وهو حوار خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة (¬1)، وذهب إلى أنه نزاع بين مالكٍ المسلمِ، وأبي بكر القرشيِّ، وأنه كان نزاعاً في ملوكية ملك. ¬

_ (¬1) مالك بن نويرة بن جمرة بن شداد اليربوعي (... - 12 هـ = ... - 634 م) من الفرسان الشعراء، أدرك الإسلام، وولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقات قومه.

النقض

وتعرض إلى إنكار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على أبي بكر قتاله المرتدين، وعاودته طبيعة التشكيك في المعلوم بالبداهة، وقال: لا نريد البحث فيما إذا كانت لأبي بكر صفة دينية جعلته مسؤولاً عن أمر من يرتد عن الإسلام أم لا. وزعم: أن ظروفاً خاصة بأبي بكر قد ساعدته على خطأ العامة، وسهلت عليهم أن يُشربوا إمارة أبي بكر معنى دينياً، وفسر هذه الظروف بما كان للصديق - رضي الله عنه - من منزلة ممتازة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ما كان من حذوه حذو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خاصة نفسه، وعامة أموره. وانساب بعد هذا في الحديث عن السلاطين، وترويجهم الاعتقاد بأن الخلافة مقام ديني، حتى أفهموا الناس: أن طاعة الأئمة من طاعة الله. وأصبحت الخلافة تلصق بالمباحث الدينية، وجزءاً من عقائد التوحيد، وترامى به التخبط في البحث حتى صاح صيحته الكبرى قائلاً: إن الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا، ولا القضاء، ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما هي خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها. ثم أشار على المسلمين بأن يهدموا نظامهم العتيق، ويبنوا قواعد مسلكهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم. ثم أغلق الباب، وانصرف شامخاً بأنفه، مصّراً على عناده، كأنه لا يؤمن بيوم تُنشر فيه صحف ذلك الكتاب، ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14]. * النقض: قال المؤلف في (ص 95): "لم نستطع أن نعرف على وجه أكيد ذلك الذي اخترع لأبي بكر - رضي الله عنه - لقب: خليفة رسول الله، ولكنا عرفنا: أن أبا بكر

قد أجازه، وارتضاه". خلافة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القيام مقامه في حراسة الدين، وسياسة الناس بمقتضى شريعته، وهذا المعنى تحقق في أبي بكر على ما سنوضحه بمكان قريب، ولتحقق معنى الخلافة في أبي بكر أطبق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ندائه، وخطابه بهذا اللقب. ولكون خطابهم بهذا اللقب صادقاً، رضي عنه أبو بكر، وآثره على أن يلقب بالملك، أو السلطان. وقد وجدنا في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - تسمية القائمين بالأمر بعده: خلفاء، ففي"صحيح مسلم" (¬1): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما"، وفي "صحيح مسلم" (¬2) أيضاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي، خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء، فتكثر"، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فُوا ببيعة الأول فالأول". فلم يبق سوى أننا "لم نستطع أن نعرف على وجه أكيد ذلك الذي اخترع لأبي بكر - رضي الله عنه - لقب: خليفة رسول الله"، وعدم استطاعتنا لأن نعرف ذلك عجز لا ناصف له، وجهل لا يمس تلك التسمية بسوء. قال المؤلف في (ص 59): "وجدنا أنه استهل به كتابه إلى قبائل العرب المرتدة وعهده إلى أمراء الجنود، ولعلهما أول ما كتب أبو بكر، ولعلهما أول ما وصل إلينا محتوياً على ذلك اللقب". يريد المؤلف: أن يلوح منذ الآن إلى أن هذا اللقب مخترع؛ لاصطياد "الذين رفضوا الإذعان لحكومة أبي بكر". ¬

_ (¬1) (ج 6 ص 23). (¬2) (ج 6 ص 17).

أبو بكر لا يخاع الناس بالألقاب الدينية

وصل إلينا: أن أبا بكر شيع جيش أسامة (¬1) وهو ماش، وأسامة راكب، فقال له أسامة: "يا خليفة رسول الله! لتركبن، أو لأنزلن" (¬2). وبَعْثُ أسامة وقع عند ابتداء حركة الارتداد، ولكن الذي يطالع تاريخ ابن جرير الطبري يفهم أنه بعث قبل أن يكتب أبو بكر كتبه للقبائل، وعهده إلى أمراء الجنود. قال المؤلف في (صحيفة 95): "لا شك في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان زعيماً للعرب، ومناط وحدتهم على الوجه الذي شرحنا من قبل. فإذا قام أبو بكر من بعده ملكاً على العرب، وجمّاعاً لوحدتهم، على الوجه السياسي الحادث، فقد ساغ في لغة العرب أن يقال: إنه -بهذا الاعتبار- خليفة رسول الله، كما يسوغ أن يسمّى: خليفةً بإطلاق؛ لما عرفت في معنى الخلافة، فأبو بكر إذن بهذا المعنى خليفة رسول الله؛ لا معنى لخلافته غير ذلك". لا شك في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كان هادياً للعرب والعجم، ومناط وحدتهم على الوجه الذي شرحنا من قبل. فإذا قام أبو بكر من بعده إماماً للمسلمين، وجمّاعاً لوحدتهم على الوجه السياسي العادل، فقد ساغ في لغة العرب أن يقال: إنه -بهذا الاعتبار- خليفة بإطلاق؛ لما عرفت في معنى الخلافة، فأبو بكر كان إذن بهذا خليفة رسول الله، لا معنى لخلافته غير ذلك. * أبو بكر لا يخاع الناس بالألقاب الدينية: قال المؤلف في (ص 96): "ولهذا اللقب روعة، وفيه قوة، وعليه ¬

_ (¬1) أسامة بن زيد بن حارثة (7 ق. هـ - 54 هـ = 615 - 674 م) صحابي جليل، ولد بمكة المكرمة، وأقام بالمدينة المنورة في آخر حياته، وتوفي بالجرف، له 128 حديثاً. (¬2) "تاريخ ابن جرير" (ج 3 ص 212).

جاذبية، فلا غرو أن يختاره الصدّيق، وهو الناهض بدولة حادثة، يريد أن يضم أطرافها بين أعاصير من الفتن، وزوابع من الأهواء العاصفة المتناقضة، ويين قوم حديثي العهد بجاهلية، وفيهم كثير من بقايا العصبية، وشدة البداوة وصعوبة المراس، لكنهم كانوا حديثي عهد برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخضوع له، والانقياد التام لكلمته، فهذا اللقب جدير بأن يكبح من جماحهم، ويلين بعض ما استعصى من قيادهم. ولعله قد فعل". بحث المسلمون في تاريخ أولئك الرجال المشهود لهم بالصدق فيما يقولون، والإخلاص فيما يفعلون، وقلبوه ظهراً لبطن، فلم يجدوا فيهم من يخادع الناس بالألقاب الدينية، ووجدوا كثيراً منهم لا ينخدعون لمظاهر المرائين، أو بهرج المحتالين، فأبو بكر أفضل من أن يخاع الناس بلقب: "خليفة رسول الله"، وأمةٌ فيها عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، أعقل من أن تنخدع للقبٍ لا ينطبق على معنى في صاحبه، وأتقى لله من أن تترك الألقاب الدينية تُنصب حبائل لاصطياد أغراض دنيوية، ورياسة ملكية. ولو طالع المؤلف تاريخ أولئك الرجال بالعين التي طالع بها كتاب العلامة (المستر أرنولد)، لعرف أن في نفس الصدّيق شيئاً فوق "ما تستعد به شعوب البشر لأن يكونوا سادة ومستعمرين"، وذلك الشيء: يقينه بأن الله سيظهر دينه، وأن حركة الارتداد سحابة صيف لا تلبث أن تتقشع، يدرك هذا كل من وقف برهة على حالته النفسية، أو أطل عليها من الكلمات التي كانت تصدر عنه في ذلك الشأن. وقع إلى المسلمين نبأ الفساد الذي ضرب في القبائل العربية، قبل مسير جيش أسامة إلى بلاد الروم، فقالوا لأبي بكر: "إن هؤلاء جلّ المسلمين،

هل يقال: "خليفة الله"؟

والعرب -على ما ترى- قد انتقضت بك، فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين، فقال أبو بكر: والذي نفس أبي بكر بيده! لو ظننت أن السباع تخطفني، لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يبق في القرى غيري، لأنفذته (¬1) ". فهذه القصة تنبئك بقوة يقين أبي بكر، وأنه يستخف بكل ثورة لا دينية؛ فقد أنفذ جيش أسامة امتثالاً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع أنه لو أمر بإقامته، لوجد في المسلمين عاذراً، ومن الشرع مسوغاً. فالذي بلغت به قوة الإيمان هذا المبلغ العظيم، لا يحق لأحد أن يرميه باختلا لقب ديني؛ لينتفع به في تكوين دولة لا دينية. * هل يقال: "خليفة الله"؟ قال المؤلف في (ص 96): "ولقد حسب نفر منهم: أن خلافة أبي بكر للرسول - صلى الله عليه وسلم - خلافة حقيقية بكل معناها، فقالوا: إن أبا بكر خليفة محمد، وكان محمد خليفة الله، فذهبوا يدعون أبا بكر: خليفة الله، وما كانوا يكونون مخطئين في ذلك، لو أن خلافة الصدّيق للنبي - عليه السلام - كانت على المعنى الذي فهموه، ولا يزال يفهمه كثير غيرهم إلى الآن، ولكن أبا بكر غضب لهذا اللقب، وقال: لست خليفة الله، ولكني خليفة رسول الله ". من أهل العلم من منع أن يسمّى بخليفة الله نبي أو غير نبي، وعلى هذا المذهب جرى شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنّة" (¬2)؛ بعلة أن الخلافة لا تكون إلا عن غائب، والله مع الخلق أينما كانوا، وتأول آية: ¬

_ (¬1) "تاريخ ابن جرير" (ج 3 ص 222). (¬2) (ج 1 ص 137).

الخليفة عند المسلمين غير معصوم

{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وآية: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26]، بمعنى: الخلافة عمن تقدمه من الخلق، وذهب آخرون إلى صحة إطلاقه على الأنبياء، وبهذا المذهب أخذ القاضي أبو بكر بن العربي، وقال في"عارضة الأحوذي": "وقيل: إن قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} يريد: بعدَ منَ تقدمه من الأمم، ولم يثبت شيء من ذلك، فلا تعولوا عليه، وإنما هو خليفة لله؛ لأن الأمر والحكم له، فخلفه، وأجرى على يديه ما شاء من تدبيره، وسمّاه؛ بما أجرى على يديه من ذلك: خليفة". فإذا غضب أبو بكر من تسميته: "خليفة الله"، فلأنه لا يجوز إطلاقه على مخلوق، أو لأنه لقب لا يستحقه إلا نبي أو رسول. * الخليفة عند المسلمين غير معصوم: قال المؤلف في (ص 96): "حمل ذلك اللقب جماعة من العرب والمسلمين على أن ينقادوا لإمارة أبي بكر انقياداً دينياً. كانقيادهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يرعَوا مقامه الملوكي بما يجب أن يرعوا به كل ما يمس دينهم". يعرف المسلمون سلفُهم وخلفهم: أن في الوحي الذي نزل به الروح الأمين على أكمل الخليقة عقائد وآداباً ومبادئ حكم وسياسة، وأن أبا بكر استحق اسم خليفة رسول الله، من أجل حراسته لهذه العقائد والآداب، وأخذه في سياسة الأمة بتلك المبادئ، ولقيامه على هذه الوظيفة بأمانة وحزم كان جديراً بذلك الانقياد الذي هو في الحقيقة انقياد للشريعة السماوية. وما كانوا ينقادون له انقيادهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن جميعهم يعلم أن حجرته لم تكن مهبط وحي، وأنه لم يكن بالمعصوم الذي يصيب في كل أمر ونهي، فالخليفة "عند المسلمين ليس بالمعصوم، ولا مهبط الوحي، ولا من حقه الاستئثار

حكم المرتدين في الإسلام

بتفسير الكتاب والسنّة. نعم، شرط فيه: أن يكون مجتهداً؛ أي: أن يكون من العلم باللغة العربية وما معها مما تقدم ذكره؛ بحيث يتيسر له أن يفهم من الكتاب والسنّة ما يحتاج إليه من الأحكام، حتى يتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، وشمهل عليه إقامة العدل الذي يطالبه به الدين والأمة معاً" (¬1). * حكم المرتدين في الإسلام: قال المؤلف في (ص 96): "لذلك كان الخروج على أبي بكر في رأيهم خروجاً على الدين، وارتداداً عن الإسلام. والراجح عندنا: أن ذلك هو منشأ قولهم: إن الذين رفضوا طاعة أبي بكر كانوا مرتدين، وتسميتهم حروب أبي بكر معهم: حروب الردّة. ولعل جميعهم لم يكونوا في الواقع مرتدين كفروا بالله ورسوله، بل كان فيهم من بقي على إسلامه، ولكنه رفض أن ينضم إلى وحدة أبي بكر لسبب ما، من غير أن يرى في ذلك حرجاً عليه، ولا غضاضة في دينه. وما كان هؤلاء من غير شك مرتدين، وما كانت محاربتهم لتكون باسم الدين. فإن كان ولا بد من حربهم، فإنما هي السياسة، والدفاع عن وحدة العرب، والذود عن دولتهم". زعم المؤلف أن الخروج على أبي بكر عند جماعة من العرب والمسلمين خروج على الدين، وارتداد عن الإسلام. وزعم أن محاربة أبي بكر لهم لم تكن باسم الدين. وكلا الزعمين من الصور التي يضعها المؤلف في هيئة الحق، ¬

_ (¬1) "الإسلام والنصرانية" للشيخ محمد عبده (ص 68).

وينفخ فيها من روح الباطل، ثم يرسلها على النفوس الزاكية؛ لتخمش وجه عقائدها وآدابها. ومن أجرأ تلك الجمل: قوله: "ولعل جميعهم لم يكونوا في الواقع مرتدين كفروا بالله ورسوله".كأنه يريد أن يجعل عدم ارتداد جميعهم رأياً ظهر له وحده، مع أن علماء الآثار والتاريخ يقولون: إن من قاتلهم أبو بكر طائفتان: طائفة تبدلت الكفر بعد الإيمان، وهؤلاء المرتدون، وأخرى قالت: نقوم بشرائع الإسلام إلا الزكاة، وهؤلاء يسمونهم: "مانعي الزكاة"، وهم الذين عارض الفاروق لأول الأمر في قتالهم. وأما أن محاربة أبي بكر في سبيل الدين ووحدة المسلمين، فلأنه قاتل فرقتين يوجب عليه الدين أن يقاتلهما، وهما: أهل الردة، ومانعو الزكاة. أما أهل الردة، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، ولقتال المرتد حِكَم، منها ما نعلم، ومنها ما لا نعلم، والذي نعلم: أن المشاهدة الطويلة، والتجارب الصادقة أرتنا أن أشد الطوائف عداوة للامة الإسلامية، وأحرصهم على محاربة الدين بما ملكوا من كيد وتضليل، هم الذين جاهروا بالخروج على الدين، وناصبوه العداء بعد أن كانوا يسمون أنفسهم المسلمين، ودلّ الاختبار الصحيح على أن المرتد عن الدين لا يمشي إلا مكبّاً على وجهه، فلا يرعى للفضيلة عهداً، ولا للناس حقاً، ولا ترى له من شأن سوى أن يقذف في طريق تقدّم الإنسان، وانتظام حال الاجتماع سموماً قاتلة للعفاف والسكينة، وكذلك يجب إماطة الأذى عن الطريق.

حكم مانعي الزكاة

* حكم مانعي الزكاة: وأما مانعو الزكاة، فإن الله تعالى فرض في أموال الأغنياء نصيباً مفروضاً، وعيّن لهذا النصيب مصارف، ومن هذه المصارف ما يرجع إلى مصالح عامة؛ كالاستعداد لمحاربة الأعداء المشار إليها بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]، ومنها ما يرجع إلى مصالح أفراد غير معينين؛ كالفقراء والمساكين، وعلى كل حال، فللإمام النظر في هذا النصيب المفروض، وله الحق في جبايته وصرفه في وجوهه المشروعة، وإذا امتنع الغني من دفع ما فرضه الله عليه، وجب على صاحب الدولة انتزاعه منه ولو بالقوة، وإذا أشهر السلاح، جاز قتاله، وكذلك كان قتال أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لمانعي الزكاة. * سبب حروب أهل الردة ومانعي الزكاة: قال المؤلف في (ص 97): "كم نشعر بظلمة التاريخ وظلمه، كلما حاولنا أن نبحث جيداً فيما رواه لنا التاريخ عن أولئك الذين خرجوا على أبي بكر الصديق، فلقبوا: المرتدين، وعن حروبهم تلك التي لقبوها: حروب الردة". لم يكن في تاريخ الحروب ظُلمة، ولا في محاربة أبي بكر لمن لقبوا المرتدين ظلم، وحقيقة الحال: أنه عندما ذاع نبأ وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أنحاء الجزيرة، رفع المضللون رؤوسهم، ونشطوا لإلقاء الوساوس في قلوب السذج من الأعراب، وأخذ الذين انحشروا في الإسلام رياء يعودون إلى جاهليتهم، فأصبح العرب على ثلاث طوائف: طائفة استمرت على إسلامها الخالص وهم الجمهور. وطائفة بقيت على الإسلام كذلك، إلا أنها جحدت الزكاة على زعم

واقعة قتل مالك بن نويرة

أنها خاصة بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وهؤلاء كثير، ولكنهم أقل من الطائفة الأولى عدداً. وثالثة الطوائف انسلخت من الإسلام، وجاهرت بالردة، وهي قليلة بالنظر إلى جاحدي الزكاة وحدها. ذهب الذين ارتدوا في طغيانهم يعمهون، وأرسل منكرو الزكاة وفوداً إلى المدينة المنورة ليفاوضوا أبا بكر - رضي الله عنه - حتى يقرهم على بدعتهم، فأبى لهم ذلك، وصمم على مقاتلتهم إذا هم ظلوا في جهالتهم يتردّدون. انصرفت الوفود غير ناجحة في وفادتها، وعرف أبو بكر أن تلك القبائل المتزلزلة العقيدة متحفزة للوثوب على المدينة المنورة. فأقام على أنقابها حرساً، "فما لبثوا إلا ثلاثاً حتى طرقوا المدينة مع الليل" (¬1)، فنهض المسلمون حقاً في وجوههم، وردّوهم على أعقابهم لا يلوون على شيء، ودارت رحى الحرب بين أبي بكر وبين رافعي راية الردة وجاحدي فريضة الزكاة، "فلم يحل الحول إلا والجميع قد راجعوا دين الاسلام (¬2) ". وراحت ظلال الأمن والهداية تتفيأ في جزيرة العرب ذات اليمين وذات الشمال. * واقعة قتل مالك بن نويرة: قال المؤلف في (ص 98): "دونك حوار خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة أحدِ أولئك الذين سمّوهم: مرتدين، وهو الذي أمر خالد فضربت عنقه؛ ثم أخذت رأسه بعد ذلك فجعلت أثفيةٍ لقدر. يعلن مالك في صراحة واضحة ¬

_ (¬1) "تاريخ ابن جرير" (ج 3 ص 223). (¬2) "فتح الباري".

إلى خالد: أنه لا يزال على الإسلام، ولكنه لا يؤدي الزكاة إلى صاحب خالد "أبي بكر". كان ذلك إذن نزاعاً غير ديني، كان نزاعاً بين مالك المسلمِ الثابتِ على دينه، ولكنه من تميم، ويين أبي بكر القرشي الناهض بدولة عربية أئمتها من قريش، كان نزاعاً في ملوكية ملك؛ لا في قواعد دين، ولا في أصول إيمان". يقول المؤلف فيما سلف: "إن في فن التاريخ خطأ كثيراً، وكم يخطئ التاريخ! وكم يكون ضلالاً كبيراً! ". ذلك حكمه على التاريخ متى نقل ما لا يلتئم مع عواطفه وشهواته، فإن نقل ما يتخيل فيه شبهة على أن ليس في الإسلام مبادئ حكم وسياسة، أصبح في نظره القول الفصل، والشاهد العدل، دون أن يكلف نفسه بيان وجه الضلال في ذاك، أو وجه الصدق في هذا. ونحن نقصّ عليك قصة مالك بن نويرة، وانظر ماذا ترى: لما تنبأت "سجاح " (¬1) بنت الحارث بن سويد بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، راسلت مالكَ بنَ نويرة، وهو عامل على بني حنظلة من تميم، ودعته إلى الموادعة، فأجابها؛ "فاجتمع وكيع ومالك وسجاح وقد وادع بعضهم بعضاً على قتال الناس" (¬2). ولما دارت الدائرة على "سجاح"، وانصرفت إلى الجزيرة، ارعوى مالك، وندم، وتحير في أمره، حتى دنا منه خالد بن الوليد، وأرسل إليه سرية ¬

_ (¬1) سجاح بنت الحارث بن سويد (... - نحو 55 هـ = ... - نحو 675 م) ادعت النبوة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتوفيت بالبصرة. (¬2) "تاريخ ابن جرير الطبري" (ج 3 ص 237).

فيها أبو قتادة، فجاؤوا به وبأصحابه إلى خالد، واختلفت السرية فيهم، فشهد أبو قتادة أنهم أذنوا وصلَّوا، فحبسهم عند ضرار بن الأزور، وكانت ليلة ممطرة، فنادى مناديه: "أن ادفئوا أسراكم"، وكانت في لغة كنانة كناية عن القتل، فبادر ضرار بقتلهم، وكان كنانياً، وسمع خالد الواعية (¬1)، فخرج متأسفاً وقد فرغوا منهم ... ويقال: إنهم لما جاؤوا بهم إلى خالد، خاطبه مالك بقوله: فعل صاحبكم، شأن صاحبكم، فقال له خالد: أو ليس لك بصاحب؟ ثم قتله، ثم قدم خالد على أبي بكر، وأشار عمر أن يقيد منه بمالك بن نويرة، ويعزله، فأبى ... وودى مالكاً وأصحابه، ورد خالداً إلى عمله" (¬2). هذا ما يحكيه ابن خلدون، وهو خلاصة ما رواه ابن جرير الطبري وغيره، ويتلخص منه أن في قتل مالك روايتين: إحداهما: أن قتله وقع خطأ من جندي لا شأن له إلا أن ينفذ ما يأمر به رئيسه الأعلى. ثانيتهما: أن خالداً قتله؛ لكلام دله على أنه لا يعترف بخلافة أبي بكر. وقد رأيت كيف أعرض المؤلف عن الرواية الأولى؛ لأنها لا توافق ما يخالط نفسه "من عواطف وشهوات". ولنساير المؤلف في هنه الرواية الراجحة عنده، ونبحث فيها من وجهين: هل كان خالد محقاً في قتل مالك بن نويرة، أم لا؟ وهل ما فعله الصدّيق من معذرة خالد صواب أم لا؟ ¬

_ (¬1) الصراخ. (¬2) "تاريخ ابن خلدون" (بقية ج 2 ص 47).

الجواب عن السؤال الأول؛ أن كلّاً من عمر بن الخطاب وأبي بكر يرى أن خالداً مخطئ في قتل مالك بن نويرة، غير أن عمر بن الخطاب رأى أن خالداً قتله عمداً بغير حق، فيؤخذ بالقصاص، وأبا بكر رأى بعد أن اجتمع بخالد أنه قتله على خطأ في التأويل، ولهذا دفع أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إلى أولياء القتلى دياتهم. والجواب عن السؤال الثاني: أن كل أحد -أستاذاً كان في السياسة أو تلميذاً- يعلم أن لوقت الحرب أحكاماً غير أحكام وقت السلم، فالإمام يتصرف في شؤون الحرب على ما يقتضيه التدبير الناجح، ويتطلبه الانتصار الفاصل، ومن المتعين على الإمام أن يعطي لأمير الجيش الذي وثق بكفايته سلطة واسعة، وكذلك فعل أبو بكر عندما وضع لواء الإمارة في يد خالد، وكان لخالد الأثر العظيم في إطفاء فتنة المرتدين، وإخماد ثورة المنشقين، وإنما وقعت منه هذه الحادئة- قتل مالك بن نويرة- على الرواية المختارة لدى المؤلف، وأبدى عذراً يجعله متأولاً في قتله، فمن السياسة الشرعية أن يقول أبو بكر: "ما كنت أقتله؛ فأنه تأول فأخطأ". وما ادعاه المؤلف من أن النزاع بين مالك التميمي وأبي بكر القرشي نزاع في ملوكية ملك، لا في قواعد دين، فأمر اشتهته نفسه، ولذَّه قلمه. والواقع: أن أبا بكر "خليفة رسول الله" كان يدعو مالكاً المسلم لإقامة قاعدة من قواعد الدين، وهي الزكاة، ومالك المسلم يأبى إقامة هذه القاعدة. ومما يدخل في وظيفة أبي بكر: أن يحمل كل طائفة مسلمة على القواعد الشرعية، ومما يدخل في وظيفته: أن يجمع شمل المسلمين تحت راية واحدة. ولو كان للمؤلف ذوق في الإسلام، وإنصاف للتاريخ، لقدر نتيجة

محاورة عمر وأبي بكر في قتال مانعي الزكاة

تلك الحروب حق قدرها، واعترف بما كان لها من فضل على العالم أجمع، فإنها الوسيلة لإحكام عُرى دولة إسلامية خدمت حقوق الإنسان، ورفعت منار العلم، وأرت الناس المساواة والحرية في أحسن تقويم. * محاورة عمر وأبي بكر في قتال مانعي الزكاة: قال المؤلف في (ص 99): "ثم ألسنا نقرأ في التاريخ أيضاً: أن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - قد أنكر على أبي بكر قتاله المرتدين، وقال: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله". لم ينكر عمر قتال المرتدين عن الإسلام؛ فإن قتالهم جائز بإجماع، وإنما أنكر قتال مانعي الزكاة، واستشهاده بالحديث صريح في أنه يعارض في قتال قوم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقد قطف المؤلف من محاورة الشيخين - رضي الله عنهما - إنكار عمر، وترك أمرين، وهما: جواب أبي بكر، ورجوع عمر إلى رأي أبي بكر، وكلاهما ثابت في الصحيح. قال شيخ الإسلام في "منهاج السنّة" (¬1): "وأما قول الرافضي: إن عمر أنكر قتال أهل الردة، فمن أعظم الكذب والافتراء على عمر، بل الصحابة كانوا متفقين على قتال مسيلمة وأصحابه. ولكن كانت طائفة أخرى مقرين بالإسلام، وامتنعوا عن أداء الزكاة، فهؤلاء حصل لعمر شبهة في قتالهم، حتى ناظره الصدّيق، وبيّن له وجوب قتالهم، فرجع إليه. والقصة في ذلك مشهورة. ¬

_ (¬1) (ج 4 ص 229).

حكمة رأي أبي بكر في تلك الحروب

وفى "الصحيحين" عن أبي هريرة: أن عمر قال لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماء هم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"؟ قال أبو بكر: ألم يقل: "إلا بحقها"؛ فإن الزكاة من حقها، والله! لو منعوني عناقاً (¬1) كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه، قال عمر: فو الله! ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق. وعمر احتج بما بلغه أو سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبيّن له الصدّيق أن قوله: "بحقها" يتناول الزكاة؛ فإنها حق المال". * حكمة رأي أبي بكر في تلك الحروب: قال المؤلف في (ص 100): "لا نريد البحث فيما إذا كانت لأبي بكر صفة دينية صرفة جعلته مسؤولاً عن أمر من يرتد عن الإسلام، أم لا". لأبي بكر صفة دينية سياسية جعلته مسؤولاً عن أمر من يعلن الردة عن الإسلام، وقد أوفى بعهد الخلافة، وألقى عن عاتقه عبء هذه المسؤولية، فحمى الجزيرة من وباء الردة، وطهرها من رجس الجاهلية، فأصبحت أمة مسلمة قوية الحجة، بديعة الحكمة: إذا حاربت، ظفرت، وإذا حكمت، عدلت. ولولا أن أبابكر فصد عرقاً ارتجف في جسم الأمة بدم فاسد، لانحرف مزاجها، واختل نظامها، ولم يجد الخلفاء من بعده أساساً يقيمون عليه سياستهم العادلة. ¬

_ (¬1) عَناقاً: الأنثى من أولاد المعيز والغنم من حين الولادة إلى تمام الحول.

معنى طاعة الأئمة من طاعة الله

* معنى طاعة الأئمة من طاعة الله: قال المؤلف في (ص 102): "حتى أفهموا الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله". لم يُفهم السلاطين الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله، وإنما فهموا ذلك من الآيات والأحاديث التي تفرض على أولي الأمر الحكم بما أنزل الله، ثم تحتم على الناس أن يطيعوهم في غير معصية. وإذا كان الحاكم يقتدي في أحكامه وسياسته بأصول الشريعة، ولا يخرج في سياسته عن مقاصدها، كانت طاعته من طاعة الله، وعصيانه من عصيان الله، ويرشد إلى هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أطاعني، فقد أطاع الله، ومن عصاني، فقد عصى الله، ومن أطاع أميري، فقد أطاعني، ومن عصى أميري، فقد عصاني" (¬1). * السلطان ظل الله في الأرض: قال المؤلف في (ص 102): "بل جعلوا السلطان خليفة الله في أرضه، وظله الممدود على عباده. سبحان الله وتعالى عما يشركون". ينكر المؤلف أن يقال: "السلطان ظل الله"، ويشير إلى أنه من الشرك، مع أنه ورد: "السلطان ظل الله في الأرض" في أحاديث ترفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي مروية بطرق متعددة: منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف، تجد هذه الأحاديث في الكتب المتداولة؛ كالجامع الصغير، وغيره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (ج 9 ص 61).

وجه ذكر مسألة الخلافة في علم الكلام

فإن كان المؤلف لا يدري أن هذه الكلمة: "السلطان ظل الله في الأرض" جاءت في الأحاديث النبوية، فقد ألقى بنفسه في بحث ديني، وهو لا يملك من وسائله سوى القلم والدواة. وإن كان قد اطلع على أنها وردت في الأحاديث المرفوعة إلى رسولالله - صلى الله عليه وسلم -، فليس من شأن العالم المحقق أن يعد ها من أثر الشرك، إلا بعد أن يفحصها بطريق علمي، وينقيها من الأحاديث النبوية. ولا شبهة للمؤلف في إنكار أن يقال: السلطان ظل الله، فإن معناه صحيح، وحكمته ملموسة باليد؛ إذ الكلام وارد على سبيل التشبيه، ووجه تشبيه السلطان بالظلّ: أن الناس يحتمون به من الظلم والأذى، كما يأوون إلى الظل تفادياً من حر الشمس، ولا يكون السلطان ظلاً ينسب إلى الله إلا إذا كان يسوس الناس بعدل وحكمة. * وجه ذكر مسألة الخلافة في علم الكلام: قال المؤلف في (ص 102): "ثم إذا الخلافة قد أصبحت تلصق بالمباحث الدينية، وصارت جزءاً من عقائد التوحيد، يدرسه المسلم مع صفات الله تعالى، وصفات رسله الكرام، ويلقنه كما يلقن شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله". يقول علماء الكلام بأصرح عبارة وأجلى بيان: إن مبحث الخلافة من الأحكام الفرعية، وليست من العقائد في شيء، ويبدون لوضعها عقب مسائل الكلام عذراً بيناً. قال الكمال بن أبي شريف (¬1) في "حواشي السعد على العقائد النسفية": ¬

_ (¬1) محمد بن محمد بن أبي بكر، كمال الدين (822 - 905 هـ = 1419 - 1501 م) فقيه شافعي عالم بالأصول، ولد وتوفي ببيت المقدس.

تعسف المؤلف وغلوه في إنكار فضل خلفاء الإسلام وملوكه

"والتحقيق: أن مباحث الإمامة من الفقهيات، لكن لما شاع بين الناس اعتقادات فاسدة، وظهر من أهل البدع والأهواء تعصبات فيها، تكاد تفضي إلى رفض كثيرمن العقائد الإسلامية، ونقض بعض العقائد الدينية، والقدح في الخلفاء الراشدين، ألحقت تلك المباحث بالكلام، وجعلت من مقاصده". فهذا، وما نقلناه في (ص 33) (¬1) من كلام السعد في "شرح المقاصد"، والسيد في "شرح المواقف"، يشهد لكم بأن علماء الإسلام يصرحون بأن الإمامة ليست من العقائد، وإنما أوردها بعضهم في علم الكلام؛ للوجه الذي قرره السعد، والسيد، والكمال. فما ينبغي للمؤلف أن يرمي أولئك العلماء بأنهم جعلوا مبحث الخلافة جزءاً من عقائد التوحيد، ويضع للبحث صورة مشوهة، كأنه يصوّت في واد لا ينبت إلا أغبياء أو جهالاً. * تعسف المؤلف وغلوُّه في إنكار فضل خلفاء الإسلام وملوكه: قال المؤلف في (ص 102): "تلك جناية الملوك واستبدادهم بالمسلمين، أضلّوهم عن الهدى، وعمّوا عليهم وجوه الحق، وحجبوا عنهم مسالك النور باسم الدين، وباسم الدين أيضاً استبدوا بهم، وأذلوهم، وحرّموا عليهم النظر في علوم السياسة، وباسم الدين خدعوهم، وضيقوا على عقولهم، فصاروا لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعاً، حتى في مسائل الإدارة الصرفة، والسياسة الخالصة. وقد ضيقوا عليهم أيضاً في فهم الدين، وحجروا عليهم في دوائر عيّنوها لهم، ثم حرموا عليهم كل أبواب العلم التي تمس حظائر الخلافة". ¬

_ (¬1) انظرالصحيفة: (رقم 57) من هذا الكتاب.

اندفع قلم المؤلف ينقر بشوكته في أساس الإسلام؛ ليجرده من جميع مميزاته، ويخرجه عن فطرته، حتى إذا أصبح ديناً ضئيلاً خاملاً، اندمج في الملة التي افتتن المؤلف بتقاليدها. اخترع للخلفاء الراشدين تاريخاً غيرالتاريخ الذي يحكيه علماء التاريخ والآثار، وحشر في هذا التاريخ المخترع فلسفة المتهالك على أن يقطع صلة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإسلام، إلا أن تكون صلاة أو صياماً. ذلك القلم الذي انتهك حرمة الشريعة، وساعده أدبه على أن يضع لتاريخ أولئك العظماء صورة مزورة، هو الذي يحثو على سمعك تلك الجمل التي يهجو بها خلفاء الإسلام وملوكه من غير استثناء. نحن نعلم أن في بعض خلفاء الإسلام وملوكه استبداداً، وسيراً بالأمة إلى وراء. ولكن الذي عرف أن في الفضائل فضيلة يقال لها: الأمانة، وأن فيما يدرسه الأطفال علماً يقال له: التاريخ، لا يسمح لقلمه أن يلتقط من بين مآثرهم الفاخرة الخالدة سيئات يضيف إليها ما يقرؤه في لوح عواطفه وشهواته، ثم ينظم ذلك كله في خيط، ويقول للناس: خذوا سيرة خلفائكم وملوككم. لم يحك التاريخ أن خلفاء الإسلام وملوكه حرّموا على الناس النظر في علوم السياسة، أو حرموا عليهم باباً من أبواب العلم التي تمس حظائر الخلافة، بل كان الناس يؤلفون الكتب في السياسة، فيتلقونها منهم بكل طمأنينة وارتياح، وترى كثيراً منهم كانوا يظهرون بمظهر الحكمة والرصانة، ويطلقون لدعاة الإصلاح حرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكانوا يقرّعون أسماعهم بالإنكار على ما يصدر عنهم من تصرفات غير لائقة، فيحتملونها بروية وأناة، وربما قابلوها بالشكر والإقلاع.

معنى الرجوع إلى أصول الشريعة في الحكم والسياسة

* معنى الرجوع إلى أصول الشريعة في الحكم والسياسة: يقول المؤلف: "وباسم الدين خدعوهم، وضيقوا على عقولهم، فصاروا لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعاً، حتى في مسائل الإدارة الصرفة، والسياسة الخالصة". هذا كله رجم بجهالة، ورمي بسهام خاسئة؛ فإن القوانين التي يفصل بها بين المتخاصمين، لا مرجع لها سوى أصول الدين، مع مراعاة مقتضيات الأحوال. وأما الإدارة الصرفة، والسياسة الخالصة، فشرطُ الدين فيها: أن تكون دائرة على المصلحة، ملائمة للآداب التي شرعها، أما الطرق التي تؤخذ لاتباع الأصلح واللائق، فإنها موكولة إلى نظر أولي الأمر، فيستنبطونها من عقولهم أو تجاربهم، أو يقتدون فيها بصنيع غيرهم، وهذا هو المبدأ الذي يعرفه العلماء، ويسير عليه خلفاء الإسلام وملوكه، غير أنهم يتفاوتون في القيام عليه، فمنهم من يمشي فيه على صراط سويّ، ومنهم من يخلّ به في بعض تصرفاته، فينحرف عنه إلى اليمين أو إلى اليسار. ومجمل القول: أن انسياب المؤلف في الطعن على خلفاء الإسلام وملوكه بهذه اللهجة التي قرأتم أو سمعتم، أوضح مثال، وأصدق شاهد على أنه لا يكتب عن علم وروية وأمانة، بل يكتب عن شهوة وعاطفة غير إسلامية، وغير عربية. * الخلافة والقضاء من الخطط الدينية السياسية: قال المؤلف في (ص 103): "والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلّا، ولا القضاء، ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها،

ولم ينكرها، ولا أمر بها، ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا؛ لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة". أتى المؤلف بهذه الكلمات كالنتيجة للأبواب التسعة، وما حشاها به من شبه ومزاعم، وقد نبهنا على منشأ هذه الشبه والمزاعم، فتخاذل أمرها، وذهبت جُفاء. بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على ما حاول الطعن به في أدلة الخلافة، وقد عرفت أن الخلافة من الأحكام العملية التي يكتفى فيها بدلالة حديث، أو قاعدة، أو إجماع، وقد قامت هذه الأدلة الثلاثة: السنّة، والقواعد، والإجماع على وجوب نصب الخليفة، فكانت الخلافة ثابتة بما يفيد علماً قاطعاً. بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يولّ على الناس من يقوم بالحكم فيما ينشب بينهم من الخصومات. وقد سقنا إليكم الروايات الصحيحة على أن القضاء كان داخلاً فيما يناط بعهدة الأمراء، وأن من الروايات ما نُصّ فيه على القضاء باسمه الخاص؛ كحديث علي، وعمر، ومعاذ - رضي الله عنه -. ينى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبلّغ فقط، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاء به، وقد فندنا هذا الزعم تفنيداً بما أقمناه من الأدلة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مرشداً واعظاً، وإماً منفذاً، وأن التنفيذ داخل في وظيفته السماوية، وأنه كان ينفذ الأحكام عملياً، ومما جاء في "صحيح البخاري" (¬1): والله! ما انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه قط حتى ¬

_ (¬1) (ج 8 ص 160).

تنتهك حرمات الله، فينتقم الله". بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على أن ما شرعه الإسلام من أنظمة وقواعد وآداب، لم يكن في شيء قليل ولا كثير من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وأنه لا يبلغ أن يكون جزءاً يسيراً مما يلزم لدولة مدنية. وقد أريناك أن قواعد الإسلام وأنظمته قائمة على رعاية المصالح التي يبحث عنها أصحاب القوانين الوضعية، فيصيبونها تارة، ويخطئونها تارة أخرى، وأن الواقف على روح التشريع الإسلامي يرى عين اليقين أنه يوافق طبيعة كل زمان ومكان، وأنه لا يهمل مصلحة يقتضيها حال شعب من الشعوب، ولكن المؤلف"من أولئك الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة"، ولقد كان علمه بأساليب الحكم السياسي وأنظمة الدول المدنية يشابه علمه بانظمة الإسلام وقواعده وآدابه. ولكون بضاعته في العلم والسياسة مزجاة، خرج كتابه مزيجاً من آراء دينية، وأخرى سياسية؛ فابتسم من نوادرها رجال العلم ازدراء، ونغض إليها السياسيون برؤوسهم هزءاً. بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على زعمه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشر إلى أمر الحكومة بعده، ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه. وقد عرفت أن أحاديث الخلافة وغيرها؛ كحديث خطبة الوداع: "ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، فاسمعواله، وأطيعوا (¬1) ". ثم وردت آيات الأحكام في صيغ العموم؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] , كل ذلك يدل على أنه جاء بشريعة يرجع إليها المسلمون في حكومتهم بعده، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يسوسهم بها في حياته. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (ج 6 ص 10).

لا حرية للشعوب الإسلامية إلا أن تساس على مقتضى شريعتها

بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على أن حكومة أبي بكر كانت لا دينية. وقد سقنا لكم الدليل إثر الدليل على أن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يكن ظالماً، ولا فاسقاً، ولا كافراً، وأنه كان يحكم بكتاب الله، وسنّة رسول الله، فإن لم يجد نصاً في الكتاب والسنّة، استشار العلماء من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ بالرأي الذي يرشده روح التشريع إلى قول الحق. فدعوى المؤلف: "أن الخلافة والقضاء وغيرهما ليست في شيء من الخطط الدينية، وأن الدين لم يعرفها، ولم ينكرها" هي من سلالة آراء لا دينية، فلا دليل يركن إليها، ولا شبهة ظنّ تقوم بجانبها. * لا حرية للشعوب الإسلامية إلا أن تساس على مقتضى شريعتها: قال المؤلف في (ص 103): "لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلّوا له، واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم". ليس في الإسلام نظام عتيق يمنع المسلمين من أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة، وليس في الإسلام نظام عتيق يعد الخاضع له مهاناً أو ذليلاً، وإن في أصول شريعتهم ما يثمر لهم قوانين تفوق قوانين البشر، وتأخذ بمصالحهم أخذ حكيم مقتدر. فالمسلمون حقاً لا بدّ أن يكونوا أرجح عقولاً، وأرفع همماً من أن يسلوا أيديهم من أصول شريعتهم الفسيحة المجال، الناسجة على أحكم مثال، ويضعوها في تقليد أمم ليسوا بأصوب نظراً، ولا أدرى بالمصلحة.

فنصوص الشريعة متضافرة على أن الرياسة العامة، وما يتفرع عليها من نحو القضاء، خطط دينية سياسية. فصاحب الدولة إذا ساس الناس بمقتضى نظر الشريعة، كانت سياسته قيمة، وسمّي عند الله عادلاً، فإن خرج في سياسته عن النظر الشرعي، أصبح مسؤولاً بين يدي الأمة في الدنيا، ومؤاخذاً بها يوم يقوم الناس لرب العالمين. والقاضي إذا صاغ حكمه على أصول الشريعة، كان قضاؤه صحيحاً، ووجب الإذعان له في السر والعلانية، فإن استند حكمه إلى قانون ما أنزل الله به من سلطان، كان حكماً جائراً، ولا يحتمله المسلم إلا أن يوضع عليه بيد قاهرة. وإذا كانت القوانين لا يخضع لها المسلمون بقلويهم، ولا يتلقون القضاء القائم عليها بتسليم، كان تقريرها للفصل بينهم غير مطابق لقاعدة الحرية؛ إذ المعروف أن الأمة الحرة هي التي تساس بقوانين ونظم تألفها، وتكون على وفق إرادتها، أو إرادة جمهورها. فالشعوب الإسلامية لا تبلغ حريتها إلا أن تساس بقوانين ونظم يراعى فيها أصول شريعتها. وكل قوة تضرب عليها قوانين تخالف مقاصد دينها، فهي حكومة مستبدة غير عادلة. فالذين ينقلون قوانين وضعها سكان رومة، أو لندرة، أو باريز، أو برلين، ويحاولون إجراءها في بلاد شرقية؛ كتونس، أو مصر، أو الشام، إنما هم قوم لا يدرون أن بين أيديهم قواعد شريعةِ تنزل من أفق لا تدب فيه عناكب الخيال أو الضلال، وأن في هذه القواعد ما يحيط بمصالح الأمة حفظاً، ويسير بها في سبيل المدنية الراقية عَنَقاً فَسيحاً.

ولو قيض الله للشعوب الإسلامية رؤساء يحافظون على قاعدة حرية الأمم، لألّفوا لجاناً ممن وقفوا على روح التشريع الاسلامي، وكانوا على بصيرة من أحوال الاجتماع ومقتضيات العصر، وناطوا بعهدتهم تدوين قانون يقتبس من أصول الشريعة، ويراعى فيه قاعدة: جلب المصالح ودرء المفاسد. وبغير هذا العمل لا يملك المسلمون أساس حريتهم، ولا يسيرون في سبيل سعادتهم آمنين. قام في زمن قريب بعض من تخبطه الجهل والغرور، وصاح في وجه حكومة شعب مسلم صيحة المعربد، منكراً عليها ما قررته في قانونها الأساسي؛ من جعل الإسلام ديناً رسمياً للدولة، وقد ردّد المؤلف في نتيجة أبوابه التسعة هذه الصيحة؛ إذ حاول أن يقطع الصلة بين الدين والسياسة، ويحارب آداب الإسلام القاعدة للإباحية الفاسقة في كل مرصد، ولكن الفرق بين ذلك الصائح وهذا الصدى: أن الأول وثب على المسألة وثوب أهبل لا يعرف يمينه من شماله، أما المؤلف، فقد أدرك أن الأمة مسلمة، وأن الإسلام دين وشريعة وسياسة، وأن هاتين الحقيقتين يقضيان على الدولة أن تضع سياستها في صبغة إسلامية، فبدا له أن يعالج المسألة بيد الكيد والمخاتلة، ويأتيها باسم العلم والدين، فكان من حذقه أن التقط تلك الآراء الساقطة، خلطها بتلك الشبه التي يخزي بعضها بعضاً، وأخرجها كتاباً يحمل سموماً، لو تجرعها المسلمون، لتبدلوا الكفر بالإيمان، والشقاء بالسعادة، والذلّة بالعزّة، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].

16 - جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (16) «جَبْهةُ الدِّفَاعِ عن إفْرِيقيَا الشَّمَالِيَّة» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة من أجل التوثيق السليم لتاريخ تونس في العصر الحديث، ونظراً إلى أن تأريخ الحركة الوطنية الاستقلالية -سواء داخل التراب التونسي، أو خارجه- بحاجة إلى قلم حر منصف، يكتب بصدق طوية، ويؤرخ بنزاهة، ودون ميل إلى أهواء وأغراض. أقدم هذا الكتاب إلى المؤرخ والباحث كوثيقة من وثائق التاريخ التونسي، لعله يجد فيها واقعة، أو خبراً، أو حتى كلمة يستخلص منها الحقيقة التي نريدها مسطرة في سجل البلد الذي أحببناه، وأردناه أن يكون في طليعة الدول التي تتطلع إلى مستقبل مشرق بقدر ما تعتز وتفاخر بماضٍ مشرق. إن حصر الجهاد التونسي في زعيم، ونسيان أولئك الأبطال والشهداء والعاملين في الساحة الوطنية، أو وضعهم وتصنيفهم في مراتب ثانية أو ثالثة من مراتب الجهاد، إنّه طعن في صدر الأمة، وامتهان لكرامتها وشرفها، ومن الواجب علينا أن نصحح مسيرة الخطأ، ونعطي كلَّ واحد من المخلصين مكانته في التاريخ دون تزييف. أقدم -في سبيل هذه الدّعوة الصادقة- كتاب: "جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية" التي أسسها وقام على تحقيق مبادئها في تحرير المغرب الإمام محمد

الخضر حسين في القاهرة، ولا أقول: إنها الحركة الوحيدة العاملة في ميدان الجهاد المغربي، أو إنها المنفردة بانتزاع الاستقلال من براثن الفرنسيين، بل نسجل بكل تواضع أنها عمل مجيد صنعه رجال أمجاد، فاستحقوا من الوطن كل تعظيم وإعزاز. ومن المفيد للتاريخ التونسي وكاتبيه ومؤرخيه ومصنفيه ومنصفيه أن أعرض في هذا الكتاب لمحات عن جهاد الإمام محمد الخضر حسين، ودوره الكبير في الحركة الاستقلالية التونسية والمغاربية والإسلامية. وأقول: من أبرز وأهم ما يتصف به الإمام محمد الخضر حسين في حياته المباركة: تعدد المواهب والخصائص التي كرمه الله بها، وهي ميزات جليلة يضعها الله في بعض عباده الصالحين المخلصين؛ ليكونوا القدوة في كل موهبة تساموا بها إلى أعلى الدرجات علماً وعملاً، وليكونوا مثالاً في عصرهم يحتذى بهم -فيما بعد- من الأجيال التي تحمل رسالة الإسلام، الرسالة التي ستبقى منار العلم إلى يوم الدين .... فإذا قيل: إنه داعية إسلامية مصلح، وإذا قيل: إنه فقيه عليم، وإذا قيل: إنه مفسر محدّث حافظ، وإذا قيل: إنه شاعر كاتب ناقد، وإذا قيل: إنه لم يسلك إِلا طريق الجهاد في الإسلام، وإذا قيل: إنه جمع في فكره النيّر كل المعاني السامية في الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وضم بين أصابعه قلماً عبقرياً يجول في كل ميدان خدمة للإسلام. كل هذه الأقوال الصادقة نجدها في صحف الإمام وسيرته - رضوان الله عليه -. في هذه المقدمة لكتاب "جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية -صفحات

من جهاد الإمام محمد الخضر حسين لما الذي نخصه للوثائق التي ارتبطت بأعمال الجبهة ونشاطها، والتي نشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" على صفحات أجزاء متعددة، رأينا أن في جمعها خدمة للتاريخ -ولتاريخ المغرب العربي خاصة-، ومن الوفاء للإمام أن نستعرض بإيجاز واختصار مشاهد ناطقة من جهاده الإسلامي الذي لم يفتر لحظة، على أمل العودة إلى دراسة مستفيضة لصفحات جهاده - إن شاء الله - في كتاب مستقل لنا أو لغيرنا من الكتَّاب الإسلاميين. نستعرض في هذا الكتاب بإيجاز يفي بالغرض: - الحرية في الإسلام - أول دعوة ومحاضرة نهض بها الإمام في تونس. - في معتقل جمال السفاح في دمشق. - جهاد الإمام في برلين. - جمعية تعاون جاليات أفريقية الشمالية. - جبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية. - الإمام محمد الخضر حسين والرئيس الحبيب بورقيبة. - وثائق جبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية. - تصريحاته في مشيخة الأزهر بتأييد قضايا المغرب العربي وتنديده بالاستعمار. ومن أجل التوثيق لتاريخ المغرب، وحفظاً لتلك الأعمال المجيدة التي قامت بها الجبهة برئاسة الإمام محمد الخضر حسين، والتي تعتبر بمجموعها وثائق هامة وجب علينا ضبطها وتبيانها للمؤرخ والباحث والإنسان العربي

والمسلم. فجمعنا تلك الوثائق في هذا الكتاب. آملين أن نكون قد ساهمنا بهذا الجهد المتواضع في خدمة حركة الجهاد المغربي الإسلامي. والحمد لله على خدمة الإسلام، والحمد لله على نعمة الإسلام. على الرّضا الحسيني

الحرية في الإسلام

الحرية في الإسلام منذ أن سلك - رضوان الله عليه - طريق الرشاد، وقد راقبت عيناه الجنود الأغراب في تونس، يجوسون خلال الديار، ويعتدون على الأعراض والأموال والأرواح، وينشرون المهانة والمذلة. منذ الخطوة الأولى التي ضربها على الطريق، وفي ذلك الجو المرعب المخيف الذي كان مخيماً على المدن التونسية، وعلى المغرب العربي من حولها، والاستعمار الفرنسي القبيح بوحشيته الكاسرة وجرائمه البشعة التي تهز كل فؤاد هلعاً وخوفاً. نجد الإمام ينظر إلى تلك الأمة المنكوبة في دينها وحريتها وكرامتها، ويرى فيها السكون والركود، فيدعوه إيمانه القوي المتين إلى أن يخوض ساحة المقاومة والمجابهة من أول أبوابها. وهو باب تهيئة النفوس للثورة على الظلم، وشحنها بمهيئات الانتفاضة والتمرد على الطغيان بوجهيه الممثل بالاستعمار الفرنسي البغيض، والخونة من عبيد الحكم الذين مهدوا الطريق له، وأعانوه على شروره وآثامه، ودافعوا عن مصالحهم ومآربهم الخبيثة من خلال تثبيت رأسه وقدمه في البلاد، وكانوا أعوانه وأعضاده، وفي بعض الأحيان المدافعين عن وجوده وبقاء احتلاله المقيت، وكانوا بيده سوطاً على العباد. من يجرؤ أن يقول كلمة حق في وجه مستعمر جائر؟! من يستطيع أن يهمس -حتى إلى نفسه- بكلمات الحرية والعدالة الاجتماعية والجهاد؟!

ويتقدم الإمام المؤمّن الصادق الصابر بخطا ثابتة وسط هذا الشعب الصامد الذي كاد أن يتمزق غيظاً، وفي أعماقه بركان مقفل عليه بالإرهاب. ويعتلي منبر الخطابة ليفجر قنبلة طالما أقضَّت مضاجع الحكام الطغاة، وهزت عروش الممالك القائمة على الجماجم والأشلاء ... وهي (الحرية). والحديث عن الحرية في دولة الاستعباد والاستبداد لا يسر المستعمر، ولا يرتاح إليه الطاغوت، ولا يقبل به نظام القمع والتعذيب، ومن أين لفرنسا المستعمرة أن تقبل مثل هذا الحديث؟. وعندما يخاطر المرء بحياته في ذلك الجو المكفهر، ويزاحم الصفوف لينادي على الأشهاد بكلمات تطرق أسماعهم، وتأخذ بألبابهم، فتطرب لها القلوب، وتعلو بها الهمم، ويقوى بها الضعيف، وتنزل كالصواعق على أعداء الحرية. لا نقول: إِلا أنه رجل شجاع كبير، لم يرض الامتهان، ورفض قيود العبودية، وخاض مخاضاً صعباً لا يقدر عليه إِلا من آمن بالله رباً، وبالإسلام دينا، وابتغى ما عند الله من بشرى وثواب. كم هي مضيئة مشرقة تلك الليلة المشهودة في تاريخ تونس ومطلع كفاحها من مساء يوم السبت 17 ربيع الثاني 1324 هـ، وقد انتظمت جموع الناس الظامئة إلى العدالة والحق في نادي "جمعية قدماء تلامذة الصادقية" في مدينة تونس؛ لينصتوا إلى عالم جليل (¬1)، يطرح على الجماهير (حقيقة الحرية ... الشورى ... المساواة ... الحرية في الأموال ... الحرية في ¬

_ (¬1) كان الإمام محمد الخضر حسين في يوم المحاضرة مدرساً بجامع الزيتونة الأعظم، ومدرساً بالمدرسة الصادقية.

الأعراض ... الحرية في الدماء ... الحرية في الدين ... الحرية في خطاب الأمراء ... آثار الاستبداد). هذه العناوين الثائرة التي تضمنتها المحاضرة، وفي كل عنوان منها صفعة مؤلمة على رقاب المستعمر وأعوانه. ثم ما تبع المحاضرة من آثار عميقة وبعيدة في ضمائر الأمة، وتداول هذه الألفاظ في المسامرات والنوادي وعلى كل لسان، ثم بعد أن طبعت انتشرت بين الناس، "وأضاءت على الأمة شموس الحرية، وضربت أشعتها في كل واد" (¬1). ومن المفيد أن نذكر في سياق المقدمة: أن بعض الحاضرين كانوا من الفرنسبين، الذين استمعوا إلى المحاضر. وقام الإمام محمد الطاهر بن عاشور مخاطباً المحاضر بقوله: "يا أيها الأستاذ النحرير؛ ويا أيها السادة! يسرني أن أقف موقفي هذا؛ لأمثل على مرأى من السادة الحاضرين مقدار الابتهاج والسرور بمسامرتكم الفائقة التي سمح لنا بها هذا النادي أو السامر الشريف، فسمعنا منه فلسفة حقيقية لمبدأ عظيم من مبادئ شريعتنا الإسلامية، وشاهدنا مثالاً صحيحاً للفصاحة والبلاغة العربيتين ... إلخ". عالِم زيتوني شابٌ، هادئ الطبع، حسن السمت، ينطق همسًا، وثائر في فكره وقلبه، وبركان في صدره، يتحدث عن الحرية في بلد يسوده الظلام ¬

_ (¬1) طبعت مسامرة "الحرية في الإسلام" للمرة الأولى سنة (1327 هـ - 1909 م) بالمطبعة التونسية - نهج سوق البلاط عدد 57 بتونس، وطبعت عدة مرات في البلدان العربية. ومنها طبعة ضمن كتاب "محاضرات إسلامية" للإمام. وتحتاج هذه الرسالة إلى بحث عميق ومستقل في ألفاظها ومعانيها وآثارها في الحركة الوطنية التونسية.

الدامس، ويطمسه سواد الاحتلال، ويغمز من قناة المستعمر وأخيه الحاكم العبد الذليل، إنه أمر جلل، وخطب كبير، ومشهد لا يطيقه الكابوس الجاثم على صدر الأمة (¬1). لذا نجد أن الإمام محمد الخضر حسين - بعد هذه المحاضرة - أصبح مطلوباً من السلطة، ومراقباً من عيون الاستعمار الفرنسي الذي أعلن عليه حرباً تمثلت في عدد من الإجراءات الإدارية. لم تكن فرنسا المحتلة عاجزة عن القبض عليه، ولم تكن يدها قصيرة عن اغتياله على غفلة، أو إعدامه كما فعلت بالآلاف من الناس، ولأسباب تفتعلها. والرأي عندي أن كلاً من حكومة الاستعمار وحكومة العبيد، لم تلجأ إلى هذا الأسلوب؛ للمكانة العلمية الباهرة التي كانت تحيط بالإمام في أعين طلابه ومحبيه ومعارفه، وللمركز المرموق الذي كان يتمتع به بين علماء الزيتونة. وإن المستعمر الفرنسي والحاكم الذليل كانا حريصين على عدم المساس بالشعور الديني؛ لأن أية محاولة من هذا القبيل تشعل نار أحداث دامية هما في غنى عنها. إذن لا بدّ أن تكون المجابهة مع الإمام المجاهد في الخفاء، وعلى مراحل يمكن تلخيصها وإيجازها بالحؤول دون وصوله إلى الطبقة الأولى من المدرسين في جامع الزيتونة، رغم كفاءته العلمية التي شهد بها شيوخه ¬

_ (¬1) يقول الكاتب الإسلامي الكيير الأستاذ محب الدين الخطيب عن محاضرة "الحرية في الإسلام": دلت على نزعته المبكرة إلى الحرية، وفهمه السليم لرسالة الاسلام من هذه الناحية.

والعلماء المنصفون. إِلا أن بعض الذين انتدبوا لامتحانه، وبتوجيه من السلطة، منعوا قبوله في عداد الطبقة الأولى (¬1). وأقوى سلاح يشهر في وجه العالم: أن يضيق به ميدان العلم، ويضرب الجهلة من حوله القيود والسدود، ولا يجد سبيلاً للانطلاق في الحياة العلمية إلى أقصى غاية .. وهذا من أهم الأسباب والدوافع التي شجعته للهجرة إلى دمشق، والعمل في البحث العلّمي والقضية الإسلامية بقدر ما يستطيع، والرحيل من مضايقات الاستعمار الفرنسي، والانتقال إلى أرض تتمتع بحرية أكثر، واستعباد أقل. ولتكون دمشق مرحلة من مراحل العمر يتطلع منها إلى ميدان فسيح، وأفق رحيب لم يجدهما في تونس التي ضاقت بعلمه ومعارفه. ¬

_ (¬1) سمعت من العلامة الفاضل الشيخ محمد الشاذلي النيفر هذه الواقعة، وأسجلها هنا كما سمعتها منه حرفياً للتاريخ: عُرض اسم الشيخ محمد الخضر حسين والشيخ محمد العنابي للحصول على مرتبة الطبقة الأولى للمدرسين في جامع الزيتونة، فتدخل الشيخ بلحسن النجار، ومنع قبول الشيخ الخضر. وقال الشيخ الصادق النيفر لولده الشيخ محمد الشاذلي النيفر: إنه لا شك أن للشيخ الخضر أخلاقاً رفيعة، ومع ذلك قد ترجم الشيخ الخضر لوالد الشيخ بلحسن النجار. ومن شعر الإمام محمد الخضر حسين حول هذه الواقعة -لم ينشر في ديوانه "خواطر الحياة"-: عجباً لهاتيك النظارة أصبحت ... كالثوب يطرح في يدي قصّار وأنامل (القصار) تعمل مثل آ ... لات تحركها يد (النجار) والقصار والنجار من شيوخ الزيتونة.

في معتقل جمال السفاح بدمشق

في معتقل جمال السفاح بدمشق صفحة أخرى من صفحات الجهاد الإسلامي التي نقرؤها في سجل حياة الإمام محمد الخضر حسين، حين وجد نفسه بين يدي السفاح التركي جمال باشا في مدينة دمشق. واعتقل في شهر رمضان سنة 1334 هـ (15 أوت آب 1916 م) حتى 4 ربيع الثاني 1355 هـ (29 جانفي كانون الثاني 1917 م)، وجرت محاكمته أمام المجلس العرفي العسكري، برئاسة فخري باشا، وطلب المدعي العام من هيئة المحكمة إنزال عقوبة الإعدام بالإمام بحجة "أني حضرت مجلساً أخذ فيه بعض المحامين يخوض في سياسة الدولة بعبارات جافية، حتى استفتى في نكث العهد من طاعتها، فأخذت أكافحه بالحجة، وأقاومه بالموعظة وضرب المثل، كما شهد بذلك الشيخ صالح الرافعي" (¬1). وقد سعى المحامي إلى تأسيس جمعية تدعو إلى الانفصال عن الدولة العثمانية، والخروج عنها، ثم إن إدارة البوليس "رأتني مسؤولاً ¬

_ (¬1) جريدة "لسان الشعب" التونسية - العدد 113 الصادر بتاريخ 16 صفر 1342 هـ الموافق 26 سبتمبر أيلول 1923 م. من رسالة بعث بها الإمام إلى صديق له في تونس، رداً على ما ورد في مجلة (البدر) التونسية - العدد الأول من المجلد الثالث، يستشف منه انحياز الإمام لخدمة الدعوة العربية دون الجامعة الإسلامية. كما نشرت الرسالة في كتاب (من أوراق ومذكرات الإمام محمد الخضر حسين - رسائل الخضر" الذي جمعت فيه بعض رسائل الإمام.

عن عدم إبلاغ ما صدر من ذلك المحامي للحكومة في حينه، وأذنت باعتقالي حتى يرى المجلس العرفي رأيه" (¬1). ودام الاعتقال ستة أشهر وأربعة عشر يوماً في (خان مردم بك) (¬2) بمدينة دمشق، وهو مكان مخصص لاعتقال رجال السياسة في عهد جمال باشا. ومن رفاقه في السجن: الرئيس: شكري القوتلي الذي شغل منصب رئيس الجمهورية السورية، وفارس الخوري الذي أصبح رئيساً للوزراء، وسعدي بك ملا (¬3) الذي أصبح رئيساً للوزراء في لبنان، وكان سكرتيراً لشكري الأيوبي وقت الاعتقال. وحكم المجلس العرفي بالبراءة (¬4). وقرر المجلس العرفي ما قدم له المدعي العمومي من مخاطبة جمال باشا بطلب مكافأة "ولكني لم أتشبث بهذ القرار، وقنعت بما ظهر للدولة والأمة من طهارة ذمتي، وعدم تسرعي إلى النفخ في لهيب الفتنة على غير هدى" (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) هو الآن سوق تجاري معروف بمدينة دمشق. (¬3) كان الأستاذ سعدي بك الملا رفيق الإمام في زنزانة واحدة، ومن روائع شعر الإمام في المعتقل "ديوان خواطر الحياة": جرى سمر يوم اعتقلنا بفندق ... ضحانا به ليل وسامرنا رمس فقال رفيقي في شقا الحبس: إن في الـ ... ـحضارة أنساً لا يقاس به أنس فقلت له: فضل البداواة راجح ... وحسبك أن البدو ليس به حبس (¬4) للإمام في مذكراته المخطوطة أفكار مستفيضة عن فترة اعتقاله وأخباره فيها. (¬5) كتاب "من أوراق ومذكرات الإمام محمد الخضر حسين - رسائل الخضر".

ومن شعر الإمام في السجن: غلّ ذا الحبس يدي عن قلم ... كان لا يصحو عن الطرس فناما هل يذود الغمض عن مقلته ... أو يلاقي بعده الموت الزؤاما أنا لولا همة تحدو إلى ... خدمة الإسلام آثرت الحِماما ليست الدنيا وما يقسم من ... زهرها إِلا سراباً أو جَهاما ومن شعره في السجن أيضاً: ولقد ذكرتك في الدجى والجند قد ... ضربوا على دار القضاء نِطاقا (¬1) وقضاة حرب أرهفوا أسماعهم ... وصدورهم تغلي عليَّ حناقا (¬2) والمدعي يغري القضاة بمصرعي ... ويرى معاناتي الدفاع سياقا (¬3) أتروع أهوال المنون متيماً ... جرّعْته بعد الوصال فراقا ¬

_ (¬1) دار القضاء: المجلس العرفي العسكري بدمشق الذي حاكم الإمام. (¬2) قضاة حرب: الحكام العسكريون الذين حاكموه. (¬3) المدعي: ممثل النيابة العامة، أو المدعي العمومي الذي طلب إنزال عقوبة الإعدام بالإمام. السياق: نزع الروح.

جهاد الإمام في برلين

جهاد الإمام في برلين تحت أزيز الرصاص، ومع دوي القاذفات والقذائف، وفي الأتون المشتعل لهباً ودماراً، وعجيج الحرب وضجيجها يملأ الأسماع ليل نهار، في ذاك الجو المرعب الرهيب، وقف الرجل المؤمن الصابر يدعو الجنود المغاربة الذين وقعوا أسري الألمان إلى الثورة ضد فرنسا. لقد جنّد الاستعمار الفرنسي مئات الآلاف من أبناء شمال أفريقيا بالإرهاب والقسر في صفوف جيوشه، وساقهم سوق القطيع إلى مذابح الحرب، ودفع بهم إلى الخطوط الأولى من المعارك التي يخوضها مع ألمانيا، فوقع بالأسر عدد كبير من المغاربة، وخاصة من التونسيين والجزائريين. وكان الإمام يتصل بهم ويؤانسهم, ويحوضهم على القتال ضد فرنسا، وليس معها؛ لأن بلادهم تحتاج إليهم في هذا الموقف، ويدعوهم إلى التطوع والجهاد ضد فرنسا (¬1). ¬

_ (¬1) يقول الإمام في مقال تحت عنوان: "طغيان الاستعمار وخطر الشيوعية - ما نأخذ من نظم الغرب وما ندع" - مجلة "الأزهر" - المجلد الخامس والعشرون الصادر في - غرة ربيع الثاني 1373 هـ ديسمبر كانون الأول 1952 م: "كانت هذه الرحلة في أيام الحرب الكبرى، وكنت مع الأسرى الأفريقبين، أتردد عليهم، وأعود إلى برلين، وقد زرت ألمانيا مرتين: أولاهما استغرقت تسعة أشهر، والثانية سبعة أشهر".

أقام في ألمانيا تسعة أشهر في عام 1917 م، ثم أقام فيها مرة ثانية مدة سبعة أشهر في عام 1918 م، ومن رفاقه في الجهاد: الشيخ صالح الشريف، وإسماعيل الصفايحي، وعبد العزيز جاويش، والدكتور عبد الحميد سعيد، واللواء يوسف مصطفى، وغيرهم. شارك في نشاط (اللجنة التونسية الجزائرية) لتحرير بلاد المغرب والدفاع عن قضاياها. وله في الصحف كتابات هامة، كما ألقى المحاضرات على الجنود المغاربة الأسرى في جيوش دول الحلفاء، والعمل على إمالتهم، وضمهم إلى جانب الثورة من أجل الاستقلال والحرية لأوطانهم. تعلم اللغة الألمانية (¬1) وأجادها خلال إقامته في برلين وضواحيها، ¬

_ (¬1) ذكر شيخ الصحافة التونسية المرحوم الطيب بن عيسى صاحب جريدتي "المشير" و "الوزير" في كتابه: "من مشاهير العلماء المهاجرين - شيخي المرحوم محمد الخضر ابن الحسين، وصديقي المرحوم محمد الهاشمي المكي" طبعة تونس في جمادى الثّانية 1378 هـ - جانفي 1959 م، تحت عنوان: "الشيخ الخضر يحسن الألمانية": "ومن إقامته ببرلين مدة قصيرة، أصبح عارفاً باللغة الألمانية، ولكنه لم يكن ليتظاهر بالمعرفة، وقد حكى لي مترجمه الأستاذ محمد فهمي عثمان التونسي، سفير الأفغان ببرلين عاصمة ألمانيا وقتئذ: أن الشيخ الخضر يعرف الأمانية، ولا يتظاهر بمعرفتها، بل يتخذ أحد المترجمين كدليل له ظاهرياً". وتحت صورة الإمام في الكتاب أورد أبياتاً لشيخ أدباء تونس الأستاذ محمد العربي الكبادي يقول فيها: هذا رسم مهاجر مبرور ... رجل العلم والحجا المأثور عاش دهراً بتونس ينشر العلـ ... ـم وفي مصر مات بعد نثر الزهور (كذا في الأصل) =

ودرس المجتمع الألماني وعادات الأمة وأحوالها وأخلاقها، كما درس علوم الكيمياء والطبيعة على يد البرفسور الألماني (هاردر) أحد العلماء الألمان المستشرقين (¬1). وكتب عن مشاهداته في برلين (¬2)، وله ذكريات مبثوثة في المقالات والبحوث التي نشرها فيما بعد، وله شعر بديع قاله في مناسبات مختلفة في ألمانيا ضمن ديوانه: "خواطر الحياة". وزار سويسرا وإيطاليا لأغراض سياسية. أصدرت السلطات الفرنسية حكماً عليه بالإعدام غيابياً؛ لتحريضه المغاربة على الثورة ضد المستعمر، كما صدر الأمر المؤرخ في 15 جوان 1917 م والذي تضمن: (حجزت بقصد بيعها أملاك الأخضر بن الحسين المدرس السابق في الجامع الأعظم، الذي ثبت عصيانه). ونشر الأمر في "الرائد التونسي" - النسخة الفرنسية - الصادرة في 20/ 6/ 1917 م. ¬

_ = بين سكانها بحزم وعزم ... من بديع المنظوم والمنثور رحم الله تربة قد حوته ... وكساه الفخار يوم النشور (¬1) مجلة "مجمع اللغة العربية" - الجزء الرّابع عشر- للأستاذ محمد علي النجار. (¬2) انظر كتاب: "مشاهد برلين" للإمام محمد الخضر حسين، نشرناه في دمشق، نقلاً عن الجزأين السابع والثامن من المجلد الثامن من مجلة "المقتبس" الدمشقية. وأضفنا في المقدمة ما كتبه عن وقائع له في برلين، والشعر الذي نظمه في تلك البلاد أثناء إقامته فيها.

جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية

جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية من صفحات الجهاد السياسي التي نطالعها في سيرة الإمام محمد الخضر حسين: حرصه على الدعوة إلى اتحاد الأمة، والعمل على جمع الأفراد في جمعيات تكسبهم قوة. وما تحققه الجماعة لا يحققه الواحد. أسس الإمام "جمعية تعاون جاليات أفريقيا الشمالية" سنة 1342 هـ - جوان حزيران 1924 م، وسنَّ قانوناً لها. ويقول عنها الإمام: "تأسست هذه الجمعية لتنهض بجاليات أفريقيا الشمالية؛ حتى يسيروا مع إخوانهم المصربين جنباً إلى جنب، يسايرونهم في أفكارهم، في آدابهم، في معارفهم، في كل شأن من شؤون حياتهم الاجتماعية الراقية، وكذلك يجب على كل جالية تعيش بين قوم ناهضين، وكذلك يجب على كل جالية تعيش في بيئة هي أوسع من أوطانها حرية واحتمالاً للمشروعات الإصلاحية. وللدعوة إلى المنافسة في الخير، والمسابقة في حَلْبة الشرف والسعادة، طرقٌ شتى، ومن أقربها، وأبلغها أثراً: إلقاء محاضرات تتمثل فيها سيرة رجال أدركوا بصفاء ألمعيتهم، وكبر هممهم مكانةً راسخة، وسمعة فائقة" (¬1). ¬

_ (¬1) من مقدمة المحاضرة التي ألقاها الإمام مساء يوم الجمعة في 5 صفر 1343 هـ الجزء الرّابع من المجلد الأوّل لمجلة "الزهراء" الصادر في 15 ربيع الثّاني 1343 هـ. وعنوانها (حياة ابن خلدون، ومثل من فلسفته الاجتماعية). وطبعت ضمن كتاب "تونس =

وقد ساهمت الجمعية في نشاط ثقافي (¬1)، وشكلت لجنة لنشر آداب أفريقيا الشمالية. وكانت هيئتها الإدارية على الشكل التالي: - الإمام محمد الخضر حسين - تونس - رئيساً. - الأستاذ طاهر محمد التونسي - تونس - عضواً. - المحامي محمد عبد الوهاب - المغرب - عضواً. - الدكتور عبد العزيز قاسم - المغرب - عضواً. - الأستاذ محمد الرزقي - الجزائر - عضواً. - الدكتور محمد عبد السلام العيادي - الجزائر- عضواً. - الأستاذ محمد التهامي نصر - ليبيا - عضواً. - الأستاذ عبد الله الكافي - ليبيا - عضواً. واتخذت من عيادة الدكتور عبد العزيز قاسم الكائنة في القاهرة - السبع قاعات البحرية بالسكك الحديدية مقراً لها (¬2). ¬

_ = وجامع الزيتونة" للإمام، كما نشرت مستقلة عدة مرات في دمشق والقاهرة. (¬1) أوردت مجلة الزهراء - الجزء الثالث من المجلد الأول الصادر في 15 ربيع الأول 1343 هـ - القاهرة. للأستاذ محب الدين الخطيب قولها "أسست جمعية تعاون جاليات شمال أفريقيا في القاهرة لجنة لنشر آداب أفريقيا الشمالية العربية وحضارتها برئاسة الأستاذ السيد محمد الخضر التونسي؛ للبحث عن الكتب التي تعرضت لهذا الموضوع، وإلقاء المحاضرات فيه، وترجمة ما ورد عن ذلك في الصحف والكتب الأجنبية، وقررت نشر ما يحرره أعضاؤها في الزهراء". (¬2) ننشر قانون (جمعيات تعاون جاليات أفريقية الشمالية) في الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب للتاريخ.

جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية

جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية من صفحات الجهاد الإسلامي التي خطها الإمام، وأضافها إلى سجله المشرق في مقارعة الاستعمار الفرنسي: دعوته لتنظيم جاليات المغرب العربي المقيمة في القاهرة في جبهة واحدة متراصة، غايتها الدفاع عن شعوب شمال أفريقيا: تونس، والجزائر، والمغرب، وليبيا (¬1). نظر الإمام محمد الخضر حسين إلى حال دول شمال أفريقيا، وما آلت إليه الأمور على يد المستعمر الفرنسي من محاربة شرسة عنيفة للغة القرآن، ونشر ويلات الجهل والفقر، و (فَرْنَسة) المعاهد العلمية والمؤسسات الحكومية، ¬

_ (¬1) يقول الأستاذ أنور الجندي في كتابه "الفكر والثقافة المعاصرة في الشمال الأفريقي": "ولا شك أن محمد الخضر حسين كان علماً من أعلام الفكر المغربي الإسلامي، مكافحاً وطنياً، ومغترباً في سبيل الحفاظ على حرية الكلمة، وأقام -كابن خلدون- بقية عمره في مصر، وررقي فيها إلى أعلى المناصب، وعمل في ميدان الإصلاح الإسلامي واللغوي، وعمل في التدريس والصحافة والكفاح الوطني، ولقد أتيح له أن يقاوم حركات التغريب بدعوته إلى إنشاء (جمعية الشبان المسلمين). وكانت مجلته وقلمه من ألسنة الدفاع عن المغرب العربي وقضاياه، ورسولًا قويا يستصرخ المشارقة حين يكشف لهم عن مؤامرات الاستعمار، ويدعوهم إلى مقاومة التغريب والتجنيس والفرنسة، فهو منذ أقام في مصر بعد الحرب العالمية الأولى يحمل هذه الرسالة، ويعمل في كل هذه الميادين: الإسلام، واللغة، والكفاح السياسي".

ونقل البلاد إلى الجنسية الفرنسية من عروبتها وإسلامها، وتحويل المساجد إلى ثُكنات عسكرية، وجعل شعوبها في مذلة ومهانة الاحتلال البغيض، بعد أن كسرت فرنسا الأقلام الحرة، وكممت الأفواه، ولم تعد الآذان تسمع إِلا قرقعة السلاح، والدعوات إلى اعتناق الأفكار الأجنبية الخبيثة، وطرح مكارم الأخلاق، وفي اعتقادهم أن هذا الأسلوب يقود المغرب إلى أن يصبح قطعة من فرنسا، ولم يعلموا -قاتلهم الله- أن القرآن حافظ للغة، وأن الإسلام سيبقى إلى اليوم المشهود. نظر إلى هذا كله، فلم يطق صبراً، وخفقت الروح بين جنبيه تدعوه إلى العمل (¬1). والإمام أكثر الناس شعوراً بإرهاب فرنسا وتعذيبها وجرائمها، وقد لاحقته من مطلع حياته في تونس، إلى دمشق، وإستنبول، وبرلين، ثم إلى دمشق والقاهرة، وحكمت عليه بالإعدام، وأمرت بمصادرة أمواله في تونس "ولم تكن لديه أموال". لبت الجاليات المغربية دعوته المباركة، والتفت حول الإمام في مشهد رائع، وأنشأ جبهة تدعى (جبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية)، ومقرها في ¬

_ (¬1) من كتاب "من الفكر والقلب" للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي يقول تحت عنوان: "محمد الخضر حسين عالم فذ ومجاهد من الرعيل الأول": "كان كأنما يستشعر دائماً أنه لم يخلق لنفسه، وإنما للإسلام، والروح التي تخفق بين جنبيه لم يكن يشعر أنها شيء آخر غير روح الإسلام التي يجب أن تظل خفاقة في عالمه الذي يعيش فيه، ولذا فقد كان يلتمس في الدعوة إلى الحق والثورة على الباطل وإنارة سبل الإسلام غذاء حياته، وراحة نفسه، تماماً كأي شخص يبحث عن هذه الراحة في لقمة الطعام، وجرعة الماء، وأسباب الدنيا".

هيئة المكتب

دار "جمعية الهداية الإسلامية" في القاهرة (¬1)، ولم تتخذ لنفسها مكتبًا مستقلاً في البناءة حفظاً على مال الجبهة مع قلته، وفي بناء "جمعية الهداية الإسلامية" متسع لكل عمل إسلامي نبيل. - عقدت الجبهة اجتماعها الأول في شهر ذي الحجة 1363 هـ، وتم انتخاب هيئة المكتب والأعضاء كما يلي (¬2): هيئة المكتب * فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين: عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية - رئيس * الأمير مختار الجزائري: رئيس لجنة الدفاع العليا عن الجزائر - نائب رئيس * نجيب بك برادة: عضو مجلس الشيوخ - نائب الرئيس * الأستاذ الفضيل الورتلاني: سكرتير لجنة الدفاع عن الجزائر - سكرتير عام * الأستاذ أحمد بن المليح: ماجستير بكلية الآداب - سكرتير مساعد ¬

_ (¬1) إدارة "جمعية الهداية الإسلامية" ومجلتها "الهداية الإسلامية" التي كان يرأسهما الإمام محمد الخضر حسين تقع في شارع مجلس النواب رقم 29 القاهرة. ونجد نفس العنوان على نشرات ودعوات الجبهة المطبوعة. (¬2) نشرت مجلة "الهداية الاسلامية" أسماء أعضاء الجبهة في الجزء السابع من المجلد السابع عشر الصادر في المحرم 1364 هـ.

الأعضاء

* الأستاذ محسن مصطفى بيرم: ليسانسيه بكلية الحقوق - سكرتير مساعد * السعيد أفندي عمر بن فايد: من كبار التجار - أمين المال * أحمد أفندي السعدي: من التجار - سكرتير مالى * مصطفى بك بيرم: مستشار بالمحكمة المختلطة سابقاً - مستشار * محمود بك الطوير: مستشار قضائي سابقاً - مستشار * الدكتور العيادي: مدرس بكلية الطب - مستشار الأعضاء الشيخ إسماعيل علي - مدرس بمعهد القاهرة الشيخ السعدي محمود - مدرس بمعهد القاهرة الشيخ إبراهيم أطفيش - موظف بدار الكتب المصرية حمودة أفندي بن فايد - من كبار التجار الشيخ عبد الله الصديق - من العلماء الحاج حسن التلمساني - تاجر الأستاذ العربي البناني - ماجستير بكلية الآداب

مفوضين

الأستاذ الصديق سعدي - ليسانسيه بكلية الآداب الأستاذ مهدي صابر - تخصص التدريس الأستاذ عبد الكريم بن ثابت - كلية الآداب الشيخ الهلالي محمد - من العلماء أحمد أفندي بن دربال - موظف ببنك مصر وانتخبوا بالإجماع للتمثيل والاستشارة في جامعة الدول العربية الآتية أسماؤهم: مفوضين فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين - نجيب بك برادة الأستاذ الفضيل الورتلاني - الدكتور العيادي مستشارين نجيب بك برادة الدكتور العيادي وسينتخب عضو ثالث عن مراكش. وجاء في النداء الأول للجبهة، الذي يشير إلى فرنسا وجرائمها: "وما ارتكبته هناك من فضائح التنكيل والتقتيل، لما زاد الوطنبين حماسة لقضيتهم، وقوى اتجاههم إلى العمل لتحرير أوطانهم. وقد عرف صدق عزيمتهم جاليات في مصر من أبناء تلك البلاد، فأنشؤوا جبهة تدعى: "جبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية"؛ لتكون عوناً لتلك الشعوب على بسط قضيتهم للعالم الاسلامي، وتتولى الدفاع عنها بيقظة وحزم، وتعمل لهز العواطف

النبيلة في نفوس الأمم الإسلامية، حتى يشدوا أزرنا في العمل لتحرير (¬1) وإسعاد خمسة وعشرين مليوناً من العرب المسلمين، وإنقاذهم من الاندماج في الجنسية الفرنسية، وانقلابهم إلى الديانة النصرانية وهما الغرضان اللذان تعمل لهما فرنسا ليلها ونهارها". عملت الجبهة أقصى ما يمكنها للتعريف في قضايا المغرب، وعقدت المؤتمرات واللقاءات مع المسؤولين العرب والمسلمين، وشرحت للناس كافة في المشرق ما تتعرض له شعوب المغرب، وحفزت الهمم، وكشفت جرائم فرنسا وخططها الدنيئة أمام الرأي العام في بلاد لم تكن تسمع عن المغرب العربي إِلا اسمه. بذلت الجبهة وسعها في خدمة قضايا المغرب، وكانت أعمالها ومواقفها المشرفة، ومحاضراتها ونشرياتها ومساعيها مع ملوك ورؤساء الدول العربية والإسلامية دعماً قوياً لحركات الاستقلال في المغرب (¬2). ¬

_ (¬1) "وكان الشيخ يجهد دهره في تحرير المغرب، فكان رئيس جبهة (الدفاع عن أفريقية الشمالية)، وكانت هذه الجبهة تضم علية الأحرار الذين يسعون إلى نجاة المغرب من حكم فرنسا الجائر، وقد يكون من ثمار هذه الجبهة: ثورة الجزائر، ونهضة تونس ومراكش" - الأستاذ محمد علي النجار في الجزء الرابع عشر من مجلة "مجمع اللغة العربية بالقاهرة". (¬2) يقول الكاتب الإسلامي الكبير أخونا الأستاذ سعدي أبو جيب: "لقد عاد لتونس أريج الحرية بفضل الله - سبحانه وتعالى-؛ لأنه أقدرك -يا سيدي العلامة- على النضال الذي كنت تغذي به رجال السياسة والعلم والأدب، حين كانوا يتوافدون إلى دارك العامرة، وإلى رابطة (تعاون جاليات أفريقية الشمالية) التي أسست، والتي قامت بعقد المؤتمرات والندوات لشرح قضية المغرب العربي للعرب، =

لم يضن بوقته أو مكانته في الأوساط الحكومية والعلمية في مصر من أجل غايات الجبهة وتحقيق أغراضها، الجبهة التي ضم عقدها ثلة من أفاضل القوم، والتف حولها كل مغربي منصف صادق لا يهدف إلى كسب دنيوي، أو سمعة زائفة، أو تزاحم، بل وصراع على الشهرة وخطف الأضواء للوصول إلى كرسي الحكم بأي ثمن. وفي مثل هذا السباق المشين تضيع قضايا الأمة. قاد الإمام محمد الخضر حسين جبهة الجهاد بكل حزم وإيمان وحب للوطن؛ "فقد كان شديد الاهتمام بوطنه، حريصاً على تتبع حالته والاتصال بأبنائه، وإعانتهم في كل الميادين العلمية والسياسية، حتى الشخصية، وكان بيته كعبة للتونسبين القادمين إلى القاهرة للزيارة أولاً، والإعانة إذا دعت الحاجة إلى ذلك ثانياً، كما قدم خدمات جليلة للقضية التونسية، فسخر مكانته العلمية والثقافية من أجل مساعدة المدافعين عن هذه القضية؛ من حيث التعريف بهم لدى السلطات المصرية، والهيئات والمسؤولين العرب العاملين بالقاهرة" (¬1). ¬

_ = وللمسلمين، وللعالم، وإلى (جبهة الدفاع عن أفريفية الشمالية) التي لعبت دوراً رائعاً في وحدة النضال عند شباب المغرب العربي الأحرار". ويقول أيضاً: "كيف ينسى تونس الخضراء، وهو الذي ألقى المحاضرات، وكتب الدراسات المستفيضة عن الحالة العلمية في ذلك الوطن، وقدم بأدب وفخر واعتزاز للمجتمع المصري أعلاماً من تونس لم يكن لاسمهم ولسيرتهم من ذكر في مصر، فأي تعبير عن حب الوطن والوفاء له أصدق من ذلك؟ " - مجلة "حضارة الإسلام" - العدد الرابع - السنة الثامنة عشر- جمادى الآخرة 1397 هـ - حزيران 1977 م - دمشق. (¬1) الأستاذ محمد مواعدة في كتابه: "محمد الخضر حسين - حياته وآثاره" طبعة دمشق سنة 1412 هـ - 1992 م - صفحة 118.

وانضم إلى الجبهة أكثر اللاجئين السياسيين المقيمين في مصر، ونخبة من المناضلين المغاربة من الحزب الحر الدستوري التونسي، وجمعيات العلماء المسلمين الجزائربين، وحزب الشعب الجزائري، وعدد من المستقلين والعاملين في الدعوة الإسلامية، أمثال: الفضيل الورتلاني، ومحيي الدين القليبي. ومن المؤازرين لها: أحمد تيمور باشا - رحمه الله -. لم يرق لبعض السياسيين أن تستمر الجبهة برئاسة شيخ يلبس الزي الأزهري، ويضع على رأسه العمامة، ويخاف الله في السر والعلن، ويجعل من قضايا المغرب العربي قضايا إسلامية بالمرتبة الأولى. ووجدوا أنفسهم في الصفوف الخلفية من الاستعراضات أمام عدسات التصوير وفي المنتديات والنوادي. ولم يكن ممكناً أن ينزعوه من رئاسة الجبهة؛ لمكانته السامية في قلوب المغاربة والمصربين على سواء. فعمدوا إلى الانشقاق عنها ومحاربتها، وإقامة منظمات أخرى، وتنازعوا، وذهب ريحهم، وتفرقوا إلى مكاتب، وتفرق المكتب إلى تكتلات. مما لا فائدة ترجى من تفصيله هنا. رأى الإمام أن هذا الصراع بؤرة فاسدة لا تؤدي إلى خير، وأنه هو الشيخ الوقور، والعالم الزاهد، والمجاهد الصامت، لا يعنيه مثل هذا التكالب والتناطح، ووجد نفسه أنه قد أدى الأمانة، ونصح الأمة، وفي جعبته أعمال جليلة أخرى يخدم بها رسالة الجهاد والإسلام (¬1). ¬

_ (¬1) قال أحد الكتاب في جريدة "أفريقيا الشمالية" تونس - العدد 27 الصادر في 29 جويليه الموافق 15 شوال (سنة 1950 م - 1369 هـ): "فيما يتعلق بشخصية مفخرة المغرب الإسلامي العلامة الجليل الشيخ الخضر =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حسين، وجبهة الدفاع عن شمال أفريقيا التي كان يرأسها، وما لاقاه في القاهرة من معاكسات المفسدين من رجال مكتب المغرب العربي، أذكر لكم: أن الشيخ الخضر هذا هو أول من أسس من أبناء المغرب في القاهرة جمعية تلم شتاتهم، وتوحد قواهم للدفاع عن أوطانهم، وذلك إثر قدومه إلى القاهرة بعد جهاد طويل في سبيل المغرب، لاقى فيه ما لاقى، وتحمل النوائب الجسام، وأنفق من ماله ووقته وصحته الشيء الكثير دون أن يطالب أحداً بدرهم، أو يمده أحد بمال، ولا كلمة شكر، فكان جهاده خالصاً لله، منقطعاً فيه إلى المثل الأعلى. قدم إلى القاهرة، فأسس جمعية اتحاد جاليات شمال إفريقيا، اجتمع فيها الليبيون والتونسيون والجزائريون والمراكشيون، ودامت هذه الجمعية تعمل للدفاع عن المغرب، حتى جاءت الحرب الأخيرة، فتعطلت عن العمل كسائر الجمعيات، وبعد هذه الحرب أسست الجالية الاسلامية في القاهرة جمعيات للدفاع عن أوطانها والذود عن قضاياها. فأسس الشيخ الخضر جبهة الدفاع عن شمال أفريقيا بدلاً من الجمعية الأولى، وأخذ يعرض قضية المغرب بواسطتها على وفود دول الجامعة العربية وغيرها من المنظمات الدولية، وملأ صحف الشرق كله دعاية لقضية المغرب، وسخّر منابر الأحزاب والجمعيات لهذه الغاية، في مصر والعراق وسورية ولبنان والحجاز، حتى أصبح العالم العربي والعالم الإسلامي على بينة من هذه القضية. ولا أقول هذا مجرد دعوة، بل المطبوعات التي طبعت ووزعت في هذا الشأن من رسائل ومجلات وجرائد وتقارير تشهد بهذا، ومكتبات الشرق زاخرة بها، وأصبح نادي جبهة الدفاع عن شمال أفريقيا هدف كل زعيم وعظيم، ومرجعاً تستقى منه أخبار هذه الأقطار. فقام جماعة ممن اتخذوا السياسة تجارة، ولم ترق لهم أعمال المخلصين، فأسسوا مكتب المغرب العربي؛ لمقاومة الجبهة، والقضاء عليها؛ إذ لم يقدر لهم أن يكونوا فيها رؤساء وزعماء، وهم يريدون، من الجهاد الرئاسةَ والزعامة وكسب المال ... إلخ".

يقول الأستاذ عبد القادر سلامة عن الإمام: "كان - رحمه الله - علَماً من أعلام الإسلام، وكان تعريفاً وتشريفاً للتونسيين وجامع الزيتونة، ومفخرة للمغرب الإسلامي كله، كان خلقه قبساً من شمائل النبوة، ومشكاة من هدي القرآن" (¬1). ¬

_ (¬1) كتاب: "الإمام محمد الخضر حسين بأقلام نخبة من أهل الفكر" (صفحة 146).

الإمام محمد الخضر حسين والرئيس الحبيب بورقيبة

الإمام محمد الخضر حسين والرئيس الحبيب بورقيبة كثيراً ما تجنبت الخوض في الحديث عن طبيعة العلاقة بين الإمام وبورقيبة؛ لأن هذه الأحاديث لا تقدم أو تؤخر في مكانة الإمام العلمية، وليس من فائدة ترجى من وراء إذاعتها ونشرها. وكثيراً ما أصر رجال الفكر والأدب -وخاصة في تونس- أن أقول ما عندي، وأخرج ما في جعبتي، فكنت أعتذر، وأصر على الاعتذار بما يزيد على إصرارهم. من الواجب عليَّ أن التزم برغبة الإمام التي أعربَ عنها مرات ومرات أن لا تنشر مذكراته التي أعدها تحت عنوان: "مراحل الحياة" في ثلاثة أجزاء. وعندما اقترح عليه بعض العلماء في القاهرة نشر هذه المذكرات قال لهم: "لقد فكرت في نشرها أو عدم نشرها، واستخرت الله، ووجدت أن نشرها يعتبر حديثاً عن النفس، وفيه تزكية لنفسي، وأنا لا أريد أن أزكي نفسي، وليستفد من شاء بما شاء من كتاباتي" (¬1)، ومذكراته - رحمه الله - تناول فيها الحديث عن رجال السياسة في عصره. سواء في تونس وسورية ومصر، ¬

_ (¬1) انظر كتاب: "أحاديث في رحاب الأزهر "اللإمام محمد الخضر حسين، والذي أعددته عن نشاط الإمام العلمي في الأزهر - كلمة الدكتور زكي البري في احتفال بذكرى الإمام.

وفيها عبارات صريحة لا ترضي المزيفين من رجال السياسة والعلم والتاريخ. ولكن أجدني مضطراً لتصحيح وقائع تاريخية، حرّفها من صورها في محاضراته، وتحدث فيها عن بطولاته، ونشرت عبر وسائل الإعلام والصحف والكتيبات، وما أردت بهذا التصحيح أن أخرج عن طاعة الإمام، لولا أن الرئيس بورقيبة لم يقل ما يجب أن يقال، والحق أحق أن يتبع. زرت تونس للمرة الأولى، ودخلتها براً من مدينة "بن غردان" في 8/ 11/ 1957 م، وغادرتها جواً من مطار "العوينة" في 17/ 11 / 1957 م. وقد شجعني على هذه الزيارة سماحة العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، الذى كان يعاملنا كأبنائه، نتيجة المحبة الصادقة القائمة بينه وبين سيدى الوالد زين العابدين، وكان يرأس مكتب جمعية العلماء الجزائريين في القاهرة. وطلب من بعض العاملين في الحركة الوطنية الجزائرية أن يرفدوني رفيقاً لهم في رحلة برية عبر ليبيا إلى مدينة تونس، وكانوا في مهمة لنقل المعونات إلى جبهة التحرير. وسعدت بتلك الرحلة التي واصلت سيرها ليلاً نهاراً، وكنت في رفقة المناضل العالم الشيخ العباس بن الحسين الذي استلم في آخر حياته إماماً لمسجد باريز. نزلنا في فندق متواضع في نهج قرطاج، وفي اليوم التالي اتصلت بالعلامة البحر الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، مفتي الجمهورية التونسية، ولمست من سعادته وابتهاجه في وجودي بتونس ما أكد لي الصداقة النادرة التي كانت تربط العم الإمام محمد الخضر حسين بالإمام محمد الطاهر بن عاشور، الذى تشرفت وتباركت بلقائه في قصر آل عاشور بالمرسى بتونس على حفل عشاء خاص. ووجد علماء تونس ورجالها في شخصي ممثلاً للإمام

ومن عائلته، فلقيت من التكريم ما لا قدرة لي على وصفه أو شكره في آن واحد. أنبأ العلامة محمد الفاضل بن عاشور الرئيس بورقيبة عن وصول فرد من عائلة الإمام محمد الخضر حسين، وكأني بالشيخ الفاضل قصد تكريم الإمام من خلال الاهتمام بي، لاسيما وأن هناك مشاورات قائمة لزيارة الإمام إلى تونس. انتقلت إلى فندق (تونسيان بلاس) أفخم فندق آنذاك، ويضيافة الرئاسة، والتقيت بالرئيس بورقيبة في قصر قرطاج برفقة شيخنا الفاضل بن عاشور، وكان اللقاء مدة جرت فيها ذكريات عن الإمام الخضر، والرئيس بورقيبة، واستمعت منه لأقوال - صادقة عن جهاد الإمام وفضله وعلمه، وما قدمه لتونس من سمعة راقية في العالم الإسلامي. وللتاريخ أقول: إن الرئيس بورقيبة في ذاك المجلس الخاص أبان عن مكانة عظيمة يكنها ويحفظها في صدره للإمام، وما قدمه له شخصياً من مساعدات أثناء دخوله مصر. ولكن يبدو أن للسياسة أخلاقاً خاصة بها ... وها هو الحبيب بورقيبة يتحدث عن الإمام في إحدى محاضراته عام 1973 م، فيقول عن رحلته إلى القاهرة عام 1945 م عندما وقع اعتراضه من قبل السلطات على الحدود الليبية المصرية؛ لعدم وجود جواز سفر في حوزته: "لكني وجهت برقيات إلى السيد عبد الرحمن عزام الأمين العام للجامعة العربية في تلك الفترة، وإلى الشيخ الخضر بن الحسين، وهو أصيل منطقة الجريد بتونس، شغل منصب شيخ الأزهر في عهد اللواء نجيب، وكان يرأس جمعية الدفاع عن

شمال أفريقيا، وطلبت منهما أن يقوما بعمل يمكنني من الحصول على صفة لاجئ سياسي، ومن السماح لي بالعمل ... ". ولم يتحدث بورقيبة صراحة أن الإمام قام بمساعي حميدة، وتعهده الشخصي لدى اللواء صالح حرب باشا، ووزارة الداخلية؛ مما سهل وصوله إلى القاهرة، وبكل تكريم، وإقامته في دار الإمام المتواضعة الليلة الأولى، وانتقاله للمبيت في اليوم التالي إلى غرفة خاصة لدى إحدى الجمعيات الإسلامية أعدها له الإمام. وفي مواضع أخرى من المحاضرة يقول بورقيبة: "وفي يوم من الأيام اتصلت بي سفارة فرنسا في القاهرة، وعرضت عليَّ الاتصال بها، وإجراء حوار للتفاهم، فلبيت الرغبة مؤكداً أني دوماً على استعداد للتفاهم. وتقابلت مع (الكابيتان سوليي) مستشار السفارة ... فسلمت له تقريراً يظهر أنه نال إعجابه؛ نظراً لصيغته المعقولة ... وبعد مدة اتصل الشيخ الخضر بن الحسين بجماعة ليقول لهم: إن الأنباء متواترة عن اتصال سي الحبيب بالسفارة الفرنسية، والتواتر يفيد القطع. فقلت له: أنا أعرف فرنسا، وأعرف سجونها التي لا تعرفها أنت ... " أضع هذه الكلمات تحت النظر دون تعليق. ولكن أقول كلمات: إن اتصال بورقيبة بالفرنسيين بالقاهرة كان السبب في إخراجه من جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية، وكتفي بهذه العبارات؛ لأن التوسع فيها يوصل إلى طريق الخروج عن رغبة الإمام في عدم التعرض لمذكراته. وفي أوراق الإمام أحداث وأحداث ليته سمح بنشرها - رضوان الله عليه -. ومن الوفاء للتاريخ أن أقول: إن الرئيس بورقيبة أوعز إلى السفارة

التونسية بالقاهرة يوم وفاة الإمام في 3 رجب 1377 هـ الموافق 3 فبراير شباط 1958 م بنقل جثمانه الطاهر إلى تونس. ليُوارى الثرى هناك في الأرض التي أحبها وأحبته، وأوعز إلى السفارة بنعيه بقولها: "كان رحمة الله عليه - من المجاهدين الأوائل الذين أرسوا دعائم الحركة الوطنية التونسية، وممن شردهم الاستعمار عن وطنهم، فهاجر يحمل صوت بلاده إلى مختلف الأقطار، حتى استقر به الطواف في مصر الشقيقة؛ حيث واصل نشاطه في سبيل الإسلام والعروية. رحمه الله واسعة، وأقر عين الإسلام والعروبة بما كان الشيخ الخضر يأمله لهما" (¬1). ¬

_ (¬1) "جريدة الأهرام" - العدد 25988 - تاريخ 3/ 2 / 1958 م - القاهرة.

جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية

جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية (¬1) برقية أرسلت إلى كل واحد من وزراء خارجية الدول الخمس: إنكلترا، وأمريكا، وروسيا، والصين، وفرنسا. بمناسبة اجتماعكم للنظر في مصير الشعوب، وأمامكم الهدف السامي الذي هو بناء سلام عام تسعد به الأمم قاطبة، تذكر جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية مؤتمركم الموقر بأن في شمال أفريقيا: تونس، والجزائر، ومراكش نحو خمسة وعشرين مليوناً من العرب، سيشاركونكم في بناء السلام العام، متى ساعدتموهم على التخلص من الاستعمار الجائر، وأصبحوا يديرون شؤونهم السياسية بأيديهم. رئيس الجبهة محمّد الخضر حسين ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثّامن عشر الصادر في رجب 1364 هـ - القاهرة.

مع رئيس جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا لحضرة الأستاذ مندوب مجلة مصر الفتاة

مع رئيس جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا لحضرة الأستاذ مندوب مجلة مصر الفتاة (¬1) أقامت جبهة الدفاع عن شمال أفريقيا التي يرأسها فضيلة الأستاذ محمد الخضر حسين مأدبة شاي في دار (الهداية الإسلامية)، وقد حضر الحفل كثير من حضرات إخواننا العرب المهتمين بالشؤون العربية، كما حضره الصحفيون، ويعض أعضاء مجلس النواب، وقد خطب في هذا الحفل حضرات الأساتذة: رئيس الجبهة، وأحمد السعدي، والفضيل الورتلاني، وأحمد الحصري "نائباً عن الأستاذ أحمد حسين رئيس مصر الفتاة)، والنائب المحترم محمد حنفي الشريف. وقد دار الحديث بين فضيلة رئيس الجبهة ومندوينا عما يهم قضية شمال أفريقة ملخصاً في هذا الحديث: س - يقول كثير من المتتبعين لشؤون السياسة: إن شمال إفريقيا خلق للاستعمار، فهو للآن لم يتخذ لنفسه خطة الدول التي تريد الحرية، ويضربون المثل لما حدث بعد هذه الحرب من انقيادهم لفرنسا رغم ضعفها، فما رأيكم؟ ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد الثّامن عشر الصادر في شعبان 1364 هـ - القاهرة.

ج - إذا صح أن يكون في الشعوب من خُلق للاستعمار، فإن شمال إفريقيا خلق غير هذا الخلق، وأول بلاد في شمال أفريقيا امتدت إليها يد الاستعمار بلاد الجزائر، وقد قام أهل الجزائر بما في أيديهم من سلاح، واستمروا في دفاع فرنسا نحو سبع عشرة سنة، إلى أن نفد ما عندهم من وسائل الدفاع، ولم يجدوا من غير أنفسهم مناصراً، فاضطروا لذلك الحين إلى ترك القتال، ولكنهم لم يستقروا على مسالمتها، أو يسكتوا عما تحاوله من إدماجهم في جنسيتها، بل كانت ثوراتهم عليها بالسلاح متواصلة، ولم تنقطع هذه الثورات، على شدة ما تقابلها به فرنسا من القتل والنفي والسجن، وآخرها هذه الثورة التي لا تزال أنباؤها تقرع الأسماع، وتشغل جانباً من الصحف الغربية والشرقية. واحتلت فرنسا بعد الجزائر البلاد التونسية بمعاهدة أكرهت سمو الباي على توقيعها، وسمتها حماية، وعلى الرغم من أن الحكومة التونسية، وما تحت يدها من الجنود، لم يدخلوا في حزب فرنسا، قامت بعض المدن والقبائل في وجه الاحتلال بما لديهم من السلاح، واشتبكوا مع فرنسا في مواقع أعربوا بها عن عدم رضاهم بسلطان الأجنبي، وأشهدوا التاريخ على بطولتهم واستهانتهم بالموت في سبيل كرامتهم، ولم يترك التونسيون مقاومة الاستعمار، والسعي وراء استرداد حقوقهم المسلوبة، وكم لاقى زعماء تلك الحركات من سجن واعتقال، وعزل من الوظائف، ونفي في أقصى القطر وخارجه!. واحتلت فرنسا بعد هذا المغرب الأقصى (مراكش) بمعاهدة أمضاها السلطان عبد الحفيظ، وسميت هذه المعاهدة: حماية، ولكن الأمة المراكشية لم تسكن لهذا الاحتلال، وقام فيها زعماء وأحزاب بجهاد، تعرضوا به للعسف

والتنكيل، وما زال الاحتلال الأجنبي يلاقي منهم الثورات والمجابهة بطلب الاستقلال إلى هذا العهد الأخير. ونحن لا ندري متى بقيت فرنسا الضعيفة وحدها في شمال أفريقيا، والواقع أنها عندما انهزمت في أوائل الحرب، وقفت بجانبها في شمال أفريقيا ألمانيا، وعندما انهزمت ألمانيا، وقفت بجانبها الدول المتحالفة. س - هل تنوون أن ترسلوا وفداً إلى أمريكا ولندن وموسكو يتكلم باسم جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية؟ ج - تود الجبهة لو أنها تتمكن من إرسال وفد إلى تلك العواصم، ولكن ظروفها المالية لا تساعدها على القيام بهذا العمل الذي يرجى نفعه، والحواجز - التي تقيمها حكومة الاحتلال حول شمال أفريقيا - تمنع من أن يصل إلى الجبهة مدد من تلك الشعوب، وإن كانوا يتلقون ما تقوم به الجبهة من جهاد في سبيل قضيتهم بارتياح ونشاط. س - إلى الآن لم تحاولوا أن تبرزوا أي نشاط إِلا نشاطكم في إرسال البرقيات لرئيس الوزارة في مصر ولندن. ج - نشأت الجبهة منذ تسعة أشهر، وقامت بأعمال هي أقصى ما يمكن لجماعة تأخذ بالحزم، وتسير إلى هدفها في يقظة، أن تقوم به. ذلك أنها نبهت الجالية العربية، وكان كثير منهم في غفلة عن حقوق أوطانهم، وجمعت شملهم على المطالبة، ثم حررت مذكرات في أحوال تلك الأقطار الثّلاثة: تونس، والجزائر، ومراكش، أشارت فيها إلى ما تقاسيه من اضطهاد وعدوان، وأخذت تتصل برؤساء الحكومات العربية، وفي مقدمتهم الحكومة المصرية، وتشرح لهم قضية شمال أفريقيا، ولم تدع فرصة تمر حتى تظهر فيها بخدمة

القضية، وبرقياتها الكثيرة التي أشرتم إليها في سؤالكم، ويعمل رجال الجبهة على الاتصال بكل الشخصيات الذين تبهمهم قضايا العالم الإسلامي والعربي؛ كبعض زعماء الأحؤاب في مصر وغيرها. س - هل تعلقون على الجامعة العربية أملاً في حل قضية الشمال أفريقيا؟ ج - في جامعة الدول العربية رجال التقينا بهم، وعرفنا فيهم العناية بشؤون الشعوب العربية، والحرص على استقلالها سياسة وثقافة واقتصاداً، ووجدنا فيهم عطفاً على قضية شمال أفريقيا، وهم مقتنعون -فيما نفهم- بأن جامعة الدول العربية لا يتم تكوينها التكوين الذي يكسبها القوة والمهابة المنشودتين، حتى نرى الشعوب العربية في شمال أفريقيا متصلة بها اتصال الكف بالمعصم، ومساعدة لها مساعدة الجناح في الطيران للجناح. فما عرفناه في رجال الجامعة، وما اشتمل عليه ميثاقها من أنها ستعنى بشؤون العرب قاطبة، بعثا في نفوسنا شيئاً غير قليل من الأمل في أن الجامعة ستجعل نصيباً من مجهوداتها لشعوب شمال أفريقيا، التي تنظر أن ترى من الجامعة اتجاهاً خاصاً يزيدهم نشاطاً في حركاتهم الوطنية، وسعيهم في تأكيد الصلة بينهم وبين سائر الشعوب العربية. أحمد الحصري

نداء وبيان من جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية

نداء وبيان من جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية (¬1) لشمال أفريقيا: تونس، والجزائر، ومراكش صحائف يعرضها التاريخ مشرقة بالأعمال التي رفعت لواء الإسلام والعلّم والمدنية، وقد أنبتت تلك الأقطار رجالاً كبرت هممهم، واشتدت عزائمهم، وأصبحوا مُثلاً عليا في الفتح العادل، والعلّم الراسخ، والخلق الكامل، والسياسة الرشيدة، وما زالت تلك الأقطار تتمتع بحريتها، وتعتز بدينها، وتغتبط بمجد أسلافها، حتى هجم عليها بغاة الاستعمار من الفرنسيين، فغلبوها على أمرها، وعملوا على تبديل عرتها ذلة، وكرامتها مهانة، وأصبحت لا ترى منهم إِلا طغاة يسومونها سوء العذاب، ويعملون على أن يقلبوها من قوميتها العربية إلى الجنسية الفرنسية، ومن دين الاسلام إلى نصرانية محرفة، بعد أن حولوا كثيراً من مساجدها إلى كنائس وثكنات لجيوشهم، وحاربوا لغة القرآن الكريم بكل قسوة، ويبذلون ما استطاعوا في أن تعيش تلك الشعوب في جهل مظلم، وفقر مدقع، وتفرق لا يلتقي معه أخ مع أخ في تعاون على خير. يفعلون هذا وقد كتموا أنفاسها، وجعلوا بينها وبين سائر البلاد -إِلا بلاد فرنسا- سدوداً يصعب على أبنائها أن يقتحموها، وينفذوا منها إلى ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الثامن عشر الصادر فى رمضان 1364 هـ - القاهرة.

مواطن يرفعون فيها أصواتهم بالشكوى، ويصفون تلك الكوارث التي يصبها الاحتلال الفرنسي على رؤوسهم صباحاً ومساء، ولكن أهالي تلك الأقطار، وهم يتجرعون مرارة الاحتلال الغاشم، لا يزدادون إِلا شعوراً بحقوقهم الوطنية، وطموحاً إلى حياتهم الاستقلالية، ويابون أن يعيشوا تحت راية أجنبية إباء لا يزال يدفعهم إلى السعي وراء حريتهم وسيادتهم بكل ما استطاعوا من قوة. وقد يضيق هذا البيان عن ذكر جهادهم، وما كانوا يلاقونه من العسف منذ أنشب الاحتلال الفرنسي والإسباني مخالبه بأوطانهم، وها هم أولاء قد نهضوا اليوم للمطالبة بحقوقهم الوطنية والقومية والمالية، آخذين في مطالبتهم بالطرق المشروعة، معتمدين على قوة حقهم، والتضحية في سبيله بكل عزيز لديهم، ولا يضيع عمل من يجاهد في سعبيل الحق، ولكن فرنسا -كإسبانيا- لا تتعرف في مخاطبة الشعوب الضعيفة إِلا لغة النار والحديد، فلما رأتهم واقفين أمامها موقف المجد في جهاده، الباذل في سبيل حريته كل ما يعز عليه من نفس أو مال، لم تتريث أن أسرعت إلى ما عندها من قوة الطائرات والدبابات والمدافع في البرّ والبحر، وظلت ترسل على المستضعفين من الرجال والنساء والولدان وابلاً من مقذوفاته الساحقة، لا تأخذها بهم رأفة، ولا ترعى لمناصرتهم لها على أعدائها، ومحاربتهم بجانبها عهداً. وإن ما ارتكبته هنالك من فظائع التنكيل والتقتيل، لمما زاد الوطنيين حماسة لقضيتهم، وقوى اتجاههم إلى العمل لتحرير أوطانهم، وقد عرف صدق عزيمتهم جاليات في مصر من أبناء تلك البلاد، فأنشؤوا جبهة تدعى: "جبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية"؛ لتكون عوناً لتلك الشعوب على بسط قضيتهم للعالم الإسلامي، وتتولى الدفاع عنها بيقظة وحزم، وتعمل لهز

العواطف النبيلة في نفوس الأمم الإسلامية؛ حتى يشدوا أزرنا في العمل لتحرير وإسعاد خمسة وعشرين مليوناً من العرب المسلمين، وإنقاذهم من الاندماج في الجنسية الفرنسية، وانقلابهم إلى الديانة النصرانية، وهما الغرضان اللذان تعمل لهما فرنسا ليلها ونهارها، كما علمت لهما إسبانيا في الأندلس من قبل. فالفرنسيون بشمال أفريقيا -كالإسبانيين- يسيئون إلى الإنسانية والعروبة والإسلام بالاعتداء على أموال تلك الشعوب وأعراضهم ودينهم، وتقتيل عشرات الآلاف منهم، واعتقال عشرات الآلاف من الذين قاموا يطالبون بحقوقهم، ويريدون أن يختفظوا بكيانهم، ثم لا يدخر الفرنسيون وسعاً في العمل لسلخهم من العالم الإسلامي والعربي، وغمسهم في الجنسية الفرنسية. فجبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية بمصر تؤمل من المسلمين في كل بقاع الأرض، أن يغيثوا إخوانهم في تلك البلاد، كلٌّ بما يستطيع. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. اللهم اشهد، فإننا قد بلّغنا. رئيس الجبهة محمّد الخضر حسين

مذكرة من جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية إلى مؤتمر جامعة الدول العربية

مذكرة من جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية إلى مؤتمر جامعة الدول العربية (¬1) حضرة صاحب السعادة عبد الرحمن عزام بك الأمين العام لجامعة الدول العربية. ترجو جبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية من معاليكم عرض هذه المذكرة الوجيزة على مؤتمر الجامعة الموقر، ولنا كبير الأمل في أن تحظى من أنظاره البعيدة المرمى بعناية ضافية، وهي: "إن شعوب إفريقية الشمالية العربية: تونس، والجزائر، ومراكش، طالما قاست من الاحتلال الفرنسي ألواناً من الاعتداء على الأنفس والأعراض والدين والأموال، وطالما حاول الناهضون من رجالها تخفيف شيء من ذلك الاضطهاد الممقوت، فيوجهون الشكوى بعد الأخرى إلى فرنسا نفسها على أمل أن يجدوا من الفرنسيين من يحمل في صدره شفقة على الإنسانية المعذبة، فتخيب آمالهم، بل لا يجدون إِلا من يعد شكواهم طعناً في سياسة الاحتلال، والطعن في تلك السياسة جناية تقابل بالعقوبة في غير رحمة. وكثيراً ما يأخذ أولئك العرب غضبٌ من العسف الذي تغمرهم به فرنسا، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الرابع والخامس من المجلد الثامن عشر الصادران في شوال وذي القعدة 1364 هـ - القاهرة.

فينهضون لمكافحته بما في أيديهم من قوة، وييذلون في سبيله دماءهم الغالية، ولا يبالون في كفاحهم ما تفعله بهم تلك الحكومة الباغية من تنكيل وتقتيل. وأقرب كفاح دفعهم إليه دافع الغيرة على حريتهم المسلوبة، وحقوقهم المهضومة، هذه الثورات التي قاموا بها منذ أشهر، بعد أن أشعروا فرنسا بأن صبرهم على عدوانها قد نفد، وانهم لا يرضون إِلا أن يعيشوا كما تعيش الأمم ذات التاريخ المجيد في عزّة وكرامة. كانت تلك الشعوب العربية تحسب أن انهزام الفرنسيين أمام الجيش الألماني، وابتلاءهم بسيطرة الأجنبي على بلادهم، وتجرّعهم غصص الإهانات في ديارهم، قد يذكرهم حال الشعوب التي يدوسون كرامتها بنعالهم، فيخففون من غلوائهم، ويعودون إلى رشدهم، ويقفون في مفاوضة أولئك العرب موقف الحريص على أن يتساوى الناس في الحرية تساويهم في التمتع بالهواء الطلق، وضياء الشمس، ولاسيما شعوباً ساقت منهم جيوشاً كثيرة إلى مواقع القتال، ويذلوا دماءهم في الدفاع عن بلادها، ولكن فرنسا نهضت بفضل الحلفاء من نكبتها، وبدل أن يكون لها في تلك النكبة موعظة، تتحول من عقليتها العتيقة إلى عقلية تحترم المنطق السليم، ولا تجاري الأهواء الجامحة بها إلى غير سبيل، عادت إلى ما عرفت به من معاملة تلك الشعوب معاملة من لم يعترف بأن لهم حقاً في الحياة. ففرنسا الحديثة كفرنسا القديمة، تستأثر بخيرات شمال أفريقية، وتصدرها إلى أوطانها، وتدع رجال تلك الأقطار وولدانهم يتساقطون موتاً في الطرقات، حيث لا يجدون من القوت ما يسد رمقهم. وفرنسا الحديثة استأنفت العمل لقلب جنسية أولئك العرب إلى جنسية

فرنسية، ونقلهم إلى دين غير دينهم، وإلجائهم إلى أن تكون اللغة الفرنسية لسانهم، حتى تقضي على اللغهْ العربية التي هي مظهر لعربيتهم، إلى غير هذا من وضع الضرائب الفادحة، وتضييق الخناق على الصحف العربية، والانتقام من الزعماء بالزجّ بهم في السجون والمعتقلات، وإقصائهم بالنفي إلى أماكن بعيدة، لا يدري أقوامهم كيف يعذبون فيها، أو كيف يموتون، ولولا خوف الإطالة، لضربنا الأمثال، وسقنا الشواهد على ما نقول. والواقع أن جامعة الدول العربية في غنى عن الإسهاب في الحديث عن مساوئ الاحتلال الفرنسي، فحضرات أعضائها على اطلاع وافٍ وخبرة واسعة من فظاعة ذلك الاحتلال، وتفاقم شروره إلى حد لا يطاق. والذي نريد تذكير أعضاء الجامعة به، ووضعه تحت أنظارهم السديدة: هو أن تلك الشعوب العربية قد امتلأت غيظاً من استعباد فرنسا لها، وأصبحت تشعر بقلب رجل واحد أن لا خير لها في الحياة إِلا أن تتخلص من ذلك الاحتلال الغاشم، وتقف في صفوف الأمم المستقلة جنباً لجنب. وهذا الشعور النبيل الشامل، قد جعلهم مصممين على مواصلة الجهاد في هذه الغاية، فإما أن يعيشوا سعداء، وإما أن يموتوا شهداء. شعرت هذه الشعوب بقوة حقها، فدفعتها الشهامة وإباية الضيم إلى الكفاح في سبيله على توفيق الله - جلَّ شأنه -، وطامحة ببصرها إلى أن ترى من جامعة الدول العربية عملاً يقوي أملها، ويؤكد صلتها بالجامعة، ولاسيما حين استشيرت بما جاء في ملحق ميثاق الجامعة من أنها ستتجه بمعونتها إلى جميع الشعوب العربية، بما يصدر عن أصحاب المعالي: أمين الجامعة العام، ورؤساء الدول العربية، ومندوبيها في مؤتمر الجامعة من تصريحات

تنبئ بأن قضية شمال أفريقية قد حازت جانباً كبيراً من عنايتهم، وأنهم يعدون تلك الشعوب بمنزلة أحد الجناحين، حيث تمثل الأمة العربية بطائر يتحفز لأن ينهض ويحلق في عنان السماء. وإننا لنقدر ظروف الجامعة قدرها، ولا يفوتنا العلم بما يجب أن نتدرع به من حكمة وتؤدة، وإذا رجونا منها أن تتجه إلى قضية شمال أفريقية بخطوات عملية، فإنا ندع رسم هذه الخطوات وتقديرها إلى يقظة رجالها المجاهدين، وحرصهم على النهوض بها نهضة تسعد بها الشعوب العربية قاطبة. وترى الجبهة أن من الميسور الذي يعد خطوة أولى عملية تعيين طائفة من أبناء شمال أفريقية في إدارة الجامعة ولجانها، ومكتبي الدعاية في لندن وواشنطن. وفي القطر المصري شبّان ينتمون إلى تلك البلاد، وفيهم كفايات ثقافية وخلقية تؤهلهم لأن يشاركوا في العمل للقضية العربية على الخطط التي ترسمها الجامعة. هذا ما نرجو من معاليكم عرضه على مؤتمر الجامعة، ولكم جزيل الشكر. رئيس الجبهة محمّد الخضر حسين

إلى هيئة الأمم المتحدة

إلى هيئة الأمم المتحدة (¬1) أرسلت جبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية إلى هيئة الأمم المتحدة في لندن البرقية الآتية: احتلت فرنسا تونس والجزائر ومراكش منذ عشرات من السنين، وجرت في احتلالها على أفظع ما يتخيل من الاستبداد، وما زال سكانيها، وهم وارثو الحضارة العريية الأندلسية يطالبون بحريتهم، فتزداد فرنسا إمعاناً في اضطهادهم، وتلجئهم إلى الثورة عقب الثورة، حتى جاءت هذه الحرب التي أذاقتها مرارة احتلال النازيين لبلادها، كان المنتظر أن تأخذ من ذلك عبرة، وتتخذ مع أولئك العرب الأبطال سياسة الإنصاف، ولكنها تمادت على سياستها القديمة الجائرة، فهم اليوم يلاقون من التقتيل والتنكيل والزج في السجون ما تتفتت له الأكباد، وتثور له نفوس أنصار الحرية غضباً. وجبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية ترجو من عواطفكم الإنسانية، أن تشملوا شمال أفريقية بعناية، وتعملوا لتخليصه من الاستعباد الفرنسي، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثامن من المجلد الثامن عشر الصادر في صفر 1365 هـ - القاهرة.

حتى يتمتع بحريته، ويتصرف في شؤون نفسه، ويكون من الأيدي العاملة لتحقيق السلام الشامل لبني الإنسان قاطبة. رئيس الجبهة محمّد الخضر حسين

المستعمرين هم أعداء الحرية

المستعمرين هم أعداء الحرية (¬1) الكلمة التي ألقاها سعادة عبد الرحمن عزام باشا في الحفلة التي أقامتها جبهة الدفاع عن شمال أفريقيا تكريماً للوفود العربية يوم 5 أبريل سنة 1946 م. حضرة صاحب السمو، حضرات الإخوان المحترمين! طلب منا الأستاذ الورتلاني أن نستجيب دعوته لإلقاء كلمة بشأن المغرب، ولو طلب منا أكثر من الكلام، للبَّينا. إن لي في قوم من المغرب إخواناً يعرفون أنني قد لبيت نداءهم في الماضي، وعرضت نفسي للموت مراراً في سبيل حريتهم، وإن ما ذكره حضرته، وما ذكره الخطباء عن المغرب لم يزدنا علماً، وإنما زادنا ألماً. إن المغرب كما قال أحد الإخوان: هو الجناح الأيسر للأمة العربية، وإن هذه الأمة لا تنهض، ولن تحلق في سماء رسالتها إِلا إذا كان هذا الجناح سليماً. إن الجامعة العربية منذ فجر تأسيسها لن تنسى أن خارجها نصف أبناء العروبة، وهو يشرئبون إليها بأعناقهم، ويرومون أن يتعاونوا معها، ولذلك ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثامن من المجلد الثامن عشر الصادر في صفر 1365 هـ - القاهرة.

وضعت ملحقاً خاصاً بهم؛ للنظر في شؤونهم، ورعاية مصالحهم، ولم يوضع هذا الملحق عبثاً، وإن الأمة العربية لن ترضى أن يفرق بينها وبين أجزائها، وإنها لن تستطيع صبراً على هذه التفرقة التي تريد أن تفصل ما جمعه الله مدة تربو على ثلاثة عشر قرناً. وإذا كانت الجامعة قد أعربت للعالم أجمع أنها تقف في جانب الحرية أينما كانت، فإنها من باب الأولى أن تقف إلى جانب حرية المغرب المسلم، المغرب العربي، وكل محاولة لإخراج المغرب عن عقيدته وعن دينه وعن عروبته هي محاولة فاشلة، محاولة ضد إرادة الله، وضد الطبيعة التي استقرتها. إننا حين نادينا بالحرية، ووقفنا إلى جانبها، لن نقصد خصومة قوم على وجه الخصوص، وإنما قصدنا خصوم الحرية أينما وجدوا. والمستعمرون في الدنيا هم أعداء الحرية، فنحن أعداؤهم أينما كانوا؛ لأن الاستعمار يقتضي اضطراباً دائماً، وسلماً مزعزعاً، وإن الذين أقاموا الاستعمار أساؤوا إلى أممهم وإلى أنفسهم وإلى المدنية، لقد أقاموا نظريتهم على أن يكون الناس فريقين: محكومين إلى الأبد، وحاكمين مستغلين ظالمين إلى الأبد، وهذا يستلزم نزاعاً مستمراً بين الفريقين، ثم هو سبب خصام مستمر أيضاً بين المستعمرين أنفسهم، وما الحرب العالمية الأولى والحرب الثّانية التي كادت تدمر الحضارة برمتها إِلا من نتائج هذا الاستعمار، وإذا لم ينته مذهب الاستعمار من نفوس الساسة، فإن دمار هذا العالم قد يصبح في حيز الممكنات. إننا حين نقاوم الاستعمار نريد إنقاذ أنفسنا والبشرية، بل ونريد أن نخلص المستعمرين من شر أنفسهم، والأمة العربية الجديدة القديمة، هي

أمة المستقبل، تقف بجانب الحرية، وتكافح ضد من يريد أن يجعل البشر فريقين، وإنها بذلك تؤدي واجبها نحو نفسها، ونحو البشرية جمعاء التي يجب أن تسود فيها المساواة ووحدة المصلحة: كلكم من آدم، وآدم من تراب. كان أكرمكم عند الله أتقاكم.

أساليب الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا

أساليب الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا (¬1) أقامت جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية بفندق الكونتننتال حفلة تكريماً للوفود العربية. وهذه كلمة رئيس الجبهة فضيلة الأستاذ السيد محمد الخضر حسين. حضرة صاحب السمو، حضرات أصحاب المعالي والفضيلة والسعادة والعزة! أقدم لحضراتكم أجزل الشكر على ما تفضلتم به من إجابة دعوة جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية، وإذا أجبتم دعوة الجبهة، فإنما أجبتم دعوة خمسة وعشرين مليوناً من إخوانكم المغتبطين بعربيتهم وإسلامهم؛ فإن الجبهة تنطق بما في ضمائرهم إذا نطقت، وتعمل بما يوافق رغباتهم إذا عملت، ذلك أنها خبيرة بما يقاسونه من النوائب، عليمة بما يتقد بين جوانحهم من الحماسة، بصيرة بما صمموا عليه من العمل لتحرير أوطانهم. وقد حازت - بعد هذا - حسنَ ثقتهم بها، وكانت مناط آمالهم في خدمة قضيتهم بعزم ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن التّاسع والعاشر من المجلد الثامن عشر الصادران في الربيعين 1365 هـ - القاهرة.

صارم، وثبات وإخلاص. وإذا احتفلت الجبهة بتكريم حضرات أعضاء الوفود العربية، فإنّما هو تكريم من أولئك الملايين القاطنين بشمال أفريقية، فإنهم -وإن لم يكونوا حاضرين هذا الحفل بأجسامهم-، فهم حاضروه بقلوبهم المملوءة بإجلال هذه الوفود، وإخلاص الولاء لحضرة صاحب الجلالة مولانا الملك فاروق الأول - حفظه الله -. سادتي! لست في حاجة إلى أن أذكر ما كانت عليه الأمة العربية من السيادة والعزة، ولا إلى ما كان لها من فضل في نشر العلوم والفنون والحضارة النقية الطاهرة، فكل هذا معروف عند أصدقاء العرب وخصومهم على سواء. والذي أريد أن أقوله في صدر هذه الكلمة: إن الأمة العربية تنزع إلى الاستقلال بطبيعتها، وبمقتضى ما حفظه لها التاريخ الصحيح من شرف راسخ، ومجد فائق، وما كانت تسكن تحت سلطان الأجنبي في حال، بل تدافعه بقدر ما تستطيع من قوة. وشعوب شمال أفريقية هم أعضاء من هذه الأمة المعروفة بالبطولة وإباء الضيم، وإذا تغلبت عليهم الحكومة الفرنسية بعد حروب وإباء من الدخول تحت سلطانها، فإنهم مازالوا يعملون للتخلص من هذا الاحتلال، ويجاهدون ما استطاعوا في سبيل حريتهم الكاملة، وليس من المعقول أن يناموا عن الجهاد، والاحتلال الفرنسي يذيقهم أشد العذاب في كل صباح ومساء، ولا أستطيع أن أتحدث في هذا المقام عن تلك الحالة المنكرة بتفصيل، ولكني أقول: إن الاحتلال الفرنسي يقوم على أغراض لم نرهم في يوم من الأيَّام عدلوا عن شيء منها، أو خففوا ولو قليلاً من وطأتها.

من أغراض ذلك الاحتلال: أن لا يترك الفرنسيون شيئاً من التصرف في شؤون البلاد بأيدي الوطنيين، بل يقبضون على زمام كل دائرة من دوائر الحكومة، ويتصرفون في شؤونها، داخلية كانت أم خارجية، صغيرة كانت أم كبيرة، فالمالية بأيديهم يتصرفون فيها مباشرة على حسب أهوائهم الاستعمارية، والتعليم تحت سيطرتهم يقفون به في دائرة أضيق من أُفحوص (¬1) قطاة، ومن بلغوا من أبناء شمال أفريقية في علم من العلوم؛ كالطب، والحقوق، فإنما هم الذين يرحلون إلى أوروبا، ويتعلمون على نفقاتهم الخاصة. وأراني في غنى عن أن أقول: إنها تجري في سياستها على تمييز الأوروبي، وتفضيله على العربي الوطني في القضاء، والوظائف، على وجه تتبرأ منه الإنسانية، وينبذه العدل باليمين والشمال؛ فإن عدم تطبيق قاعدة المساواة بين الأوروبي والوطني طبيعية كل دولة مستعمرة، ويكفي هذا النوع من مساوئ الاحتلال الأجنبي شاهداً على أنهم إنما يريدون استعبادنا، والاستئثار بمنافع أوطاننا، لا مساعدتنا على التقدم في الحياة كما يزعمون، وهم يشعرون بأننا لسنا من البله إلى حد أن نغتر بهذا الزعم، والعرب الوطنيون في شمال أفريقية محرومون من حرية الاجتماع؛ لما تضعه حكومات الاحتلال من المراقبة وبث العيون بين الأفراد والهيئات. ومن المعروف أن فرنسا تعمل لقطع الصلة بين المغرب والبلاد الشرقية؛ خشية أن يكون هذا الاتصال وسيلة لزيادة إيقاظ المغرب، وتشجيعه على ¬

_ (¬1) الأفحوص: مجثم القطاة، وهو الموضع الذي تفحص التراب عنه؛ أي: تكشفه وتنحيه لتبيض فيه، والجمع: أفاحيص.

المطالبة بحقوقه المغصوبة. وهم محرومون من حرية الصحافة، والصحيفة التي تنزع إلى شيء من الحرية تجد من استبداد الحكومة ومضايقتها ما يؤدي بها إلى الانقطاع. ومن مساوئ الاحتلال الفرنسي: أولئك الفرنسيون الذين ينصبون في شمال أفريقية، ويعطون الأراضي الزراعية بالمجان، أو بما يشبه المجان، ويسمونهم: المعمّرين، ويكون لكل واحد منهم سلطان على مجاوريه من الوطنيين، فيرتكب في إيذائهم ما يشاء، دون أن يُسأل أمام حاكم فرنسي أو أهلي سؤال من يريد العدل في القضية. وللحكومة الفرنسية بعد هذه الأغراض غرض آخر هو أشنع ما ترمي إليه سياستها، وهو إخراج شمال أفريقية من عربيته إلى الجنسية الفرنسية، وسلخه من الديانة الإسلامية إلى ديانة غير إسلامية، أو غير ديانة، وقد ملأنا المذكرات التي قدمناها إلى جامعة الدول العربية ودول الحلفاء بإقامة الشواهد على قصدها لهذا الغرض السيء، وسعيها بكل ما أمكنها من الوسائل الظاهرة أو الخفية. هذه المظالم التي لا تتحملها أمة ذات تاريخ عامر بمظاهر العزة والسيادة، يلاقيها العرب بشمال أفريقية، وهم الذين يكونون الجناح الأيسر للعروبة كما يقول بعض الكتاب، ولا ينهض الطائر إِلا بأن يتمتع بسلامة جناحية كليهما، فهم -بلا شك- لا يقيمون على هذه المظالم الشنيعة، ويؤثرون الموت في سبيل محاربتها على حياة منغصة بمرارتها، مكدرة بأقذارها. أطلّ علي الموتُ من خللِ الضنا ... فآنستُ وجهَ الموت غير كئيب

ولو جسَّ أحشائي لخلت بنانَه ... وإن هال أقواماً بنانَ طبيب فلا كان من عيش أرى فيه أمتي ... تساس بكفي غاشم وغريب (¬1) تعمل تلك الشعوب لخلاصها، وهي معتمدة على نفسها، حتى تألفت جامعة الدول العربية، ارتاحت لها قلوبهم، وقويت آمالهم في أن تكون اليد المساعدة على تحريرهم، فأخذوا يتساءلون عنها، ويتواصون بالدعاية لها، ويبذلون كل مجهود في الاتصال بها. ونحن المتصلون هنا بهيئة الجامعة الموقرة، عرفنا أن حضرات أعضائها الأجلاء قد أصبحوا على خبرة بحقيقة القضية المغربية، وأنهم مقتنعون بأن الاتحاد العربي لا يتم إِلا أن تكون طرابلس وتونس والجزائر ومراكش منضمة إلى الجامعة، منفذة لقراراتها السياسية والثقافية والاقتصادية، وقد اتجهت الجامعة عندما ساعدتها الفرصة إلى العمل لقضية المغرب، وخطت في هذا السبيل خطوات نحمدها عليها، ونرجو أن تواصل هذه الخطوات بخطوات أوسع وأجدى. وإذا مَثَّلنا شمال أفريقية بالجناح الأيسر للعروبة، فإنا نريد: طرابلس، وتونس، والجزائر، ومراكش، فيجب أن تكون هذه الأقطار الأربعة في نظر الجامعة العربية سواء، فأي اضطهاد يقع على قطر من هذه الأقطار يعدّ كسراً في ذلك الجناح. وخلاصة ما نرمي إليه في هذه الكلمة: أن شعوب أفريقية قد نفد صبرها، ولم تتمالك أن أصبحت تلح في طلب استقلالها، وتتحفز للجهاد ¬

_ (¬1) الأبيات من نظم صاحب الخطبة. انظر: ديوانه "خواطر الحياة".

في سبيله ما استطاعت، وليس ذلك البدوي الذي احتلت قبيلة ثقيف أرض قومه بأشد غيرة على قومه منهم إذ يقول: ولا صلح ما دامت منابر أرضنا ... يقوم عليها من ثقيف خطيبُ والسلام عليكم ورحمة الله. محمّد الخضر حسين

مذكرة مرفوعة من جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم عبد العزيز آل سعود عند زيارته مصر

مذكرة مرفوعة من جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم عبد العزيز آل سعود عند زيارته مصر (¬1) إن فرنسا -يا صاحب الجلالة- هجمت على بلاد الجزائر منذ مئة وسبع عشرة سنة، ودافعها أهلها بحروب نظامية استمرت نحو سبع عشرة سنة، ولما تغلبت عليهم بكثرة الجند ووفرة السلاح، بسطت عليهم سلطانها، وانتزعت منهم جميع حقوقهم الحيوية والسياسية، بل اعتبرت ذلك القطر قطعة من فرنسا، وجعلت النظر في شؤونه يرجع إلى وزارة الداخلية بباريس، بالرغم من أن قوميته ولغته عربية، وأن دينه الإسلام. ثم هجمت على البلاد التونسية منذ ست وستين سنة، وقدمت لأميرها محمد الصادق بأي معاهدة وقع عليها مكرهًا، بين مدافع فاغرةٍ أفواهَها إلى القصر، وجنود مدجَّجين بالسلاح، ولم تقف عند هذه المعاهدة المغصوبة، بل قبضت على زمام الإدارة، ولم تدع كبيرة ولا صغيرة من شؤون البلاد إِلا وكلت التصرف فيها إلى طاغية من الفرنسيين، وإذا ألقيت إلى بعض الوطنيين منصباً في الحكومة، فإنما هو عمل صوري، والحقيقة أن الفرنسيين لا يتركون للوطنيين في سياسة المملكة شيئاً من الأمر. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن التاسع والعاشر من المجلد الثامن عشر الصادران في الربيعين 1465 هـ - القاهرة.

ثم هجمت على المغرب الأقصى (مراكش) منذ ثمان وثلاثين سنة، واحتلتها بمعاهدة اضطر السلطان عبد الحفيظ لتوقيعها، وتجاوزت حدود المعاهدة، وأخذت تفعل في البلاد ما فعلت في تونس من الاستبداد وتصريف شؤون البلاد، على قاعدة تثبيت قدم الاستعمار، وإيثار أبناء جلدتها بكل ما تجود به أرض ذلك القطر من خيرات. لا يسع المقام لأن نبسط القول في اضطهاد فرنسا لأولئك العرب المسلمين، وعملها الليل والنهار لأن يعيشوا في فاقة وجهالة وتفريق كلمة، بل تعمل في غير مبالاة لإخراجهم من دينهم الإسلامي إلى ملّة غير إسلامية، ومن قوميتهم العربية إلى الجنسية الفرنسية، ذلك أنها تشعر بأن الثراء والعلم واتحاد الكلمة أساس الرقي إلى الحرية والعزة، وتشعر بأن الأمة التي تدين بالإسلام، وتستضيء بهدي القرآن لا تخضع إِلا لسلطان يحترم ديانتها، ويسوسها بنظم شريعتها، ولا ترضى إِلا أن تستعيد سيادتها، وتتمتع باستقلالها. وعرب شمال أفريقيا -وإن وضعت فرنسا بينهم وبين الشرق حواجز، واتخذت كل ما استطاعت من وسيلة لقطعهم عن العالم الإسلامي- فإن بطولتهم واعتزازهم بسالف مجدهم لازالا ولن يزالا ينهضان بهم إلى المطالبة بحريتهم، واقتحام الثورات الدموية في سبيل هذا الطلب، لا يبالون ما تصبه عليهم فرنسا من عذاب التقتيل والتنكيل والزجّ في السجون. وقد قدمت جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية إلى جامعة الدول العربية مذكرات أودعتها جانباً كبيراً من فظائع الاحتلال الفرنسي لتلك البلاد، وتلقى رجال الجامعة هذه المذكرات بعناية، وأصبحت قضية أولئك العرب الأبطال مشمولة بأنظارهم؛ كما تنبئ بذلك تصريحاتهم، ونرجو أن يكون لهذه

الخطوة النظرية خطوات عملية تشد أزر سكان تلك البلاد، وتزيدهم قوة على الجهاد في سبيل استقلالهم، والاحتفاظ بكيانهم المِلّي والقومي، وهذا ما سيكون بتوفيق الله، ولا يضيع حق وإن كان مغتصبه جباراً عنيداً، ومرت على اغتصابه عشرات أو مئات من السنين، متى كان من وراهله طالب يأبى الضيم، فيسهر الليل، وينفق كل مجهود في تخليصه. ويقاء شمال أفريقية في أيدي مغتصبيه منذ عشراث من السنين، لا تلقى تبعته على كاهل سكان تلك البلاد وحدهم، بل يسأل عنه كل عربي وكل مسلم في استطاعته أن يقوم بعمل، أو يجهر بقول يساعد على خلاص أولئك العرب المسلمين من أغلال الاضطهاد التي يضعها الفرنسيون في أعناقهم. ولجبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية كبير الأمل في أن جلالتكم تشملون قضية تونس والجزائر ومراكش برعاية، وتبذلون ما استطعتم من المساعدة على إنقاذها من الاستعمار الفرنسي الذي يعمل لإذلال أهلها، وفصلهم عن القومية العربية، وإدماجهم في الجنسية الفرنسية، ويأخذ لتحقيق هذه الغاية الممزقة للوحدة العربية والجامعة الإسلامية بكل وسيلة يستطيعها من ترهيب أو ترغيب. ولجبهة الدفاع كبير الأمل في أن ترى من جلالتكم اتجاهاً إلى هذا القضية، ييشر بنجاحها، ويزيد المجاهدين داخل تلك الأقطار وخارجها إقداماً واطمئناناً إلى أنهم سينتصرون على الرغم من خصومهم الطغاة المبطلين. رئيس جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية محمّد الخضر حسين

مصير شمال إفريقيا إلى الحرية والاستقلال

مصير شمال إفريقيا إلى الحرية والاستقلال (¬1) الكلمة التي ألقاها فضيلة الأستاذ رئيس التحرير في حفلة تكريم جبهة الدفاع عن أفربقيا الشمالية للتونسيين اللاجئين إلى مصر. حضرات أصحاب السعادة والفضيلة والفضل! أقدم لكم خالص الشكر على ما تفضلتم به من إجابة دعوة الجبهة، وإجابةُ دعوتها إكرام لأمة لا تقل عن خمسة وعشرين مليوناً من العرب المسلمين، خصوصاً أن حضرات المحتفل بهم من الشبان الذين كانوا يعملون للقضية التونسية، وأصبحوا في نظر الحكومة المحتلة من المجرمين السياسيين، وتكريم العاملين -أيها السادة- معروف عند من يقدر الأعمال المحفوفة بالأخطار قدرها، فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كرّم مجاهداً في شخص ابنته؛ إذ زادها في العطاء، وقال: إن أباها قد فتح حصناً، وأقامت حكومة القيروان لأسد بن الفرات يوم خروجه على رأس الجيش الذي فتح صقلية احتفالاً باهراً، وكان هذا اليوم -كما قال المؤرخون- يوماً مشهوداً. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزءان الحادي عشر والثاني عشر من المجلد الثامن عشر الصادران في الجمادين 1365 - القاهرة.

أيها السادة! أُعطينا سيادةً عِشْنا في ظلالها أحقاباً، وظن بعض أسلافنا أن السيادة إذا مدت أطنابها في أمة، بقيت فيها ما بقي الليل والنهار، فتمادوا في غفلتهم، ولم يخطر على بالهم أن من وراء البحار أمماً استيقظت لوسائل القوة والغلبة، وانها تترقب الفرصة للهجوم على أوطاننا، ووضع يدها فوق رؤوسنا. هجموا على أوطاننا ونحن في غفلة عما بيتوه لنا من كيد وعسف، ولكن ما غرز في فِطر شعوبنا من إباية الضيم، والطموح إلى العزّة، نهض بهم إلى أن يدافعوا العدو الهاجم ما استطاعوا، مفضلين الموت في سبيل دفاعه عن الحياة تحت سيطرته، كما وقع في الجزائر وتونس ومراكش وطرابلس، وإذا فاتهم أن يطردوا العدو من بلادهم، فإنهم ادخروا ما بين أسفار التاريخ صحائف غراء تشهد لهم بأنهم يعافون الذلة، ويأبون الضيم، وقد كان لأبنائهم وأحفادهم في تلك الصحائف عبرة، فنشؤوا يتميزون غيظاً من الاحتلال الفرنسي والإسباني والإيطالي، وطالما اندفعوا لمكافحته وهو يعلمون أن ليس لهم من قوة مادية تساوي أو تقارب قوته، وإنما يعلمون أن لهم قوة من الحق، إن لم تنتصر على قوته المبطلة اليوم، فستنتصر عليها غداً، "وإن غداً لناظره قريب". وإذا فنيت أمة مستضعفة تحت أقدام الغاصب القوي، فلأنها انطوت على جبن، واستسلمت إلى اليأس، فمدت إليه أعناقها خاضعة، ولا عاقبة لأمة سكنت تحت نير الاستعباد إِلا أن تضمحل وتفنى، ولاسيما غاصباً يعمل لسلخها عن قوميتها ودينها كما تفعل فرنسا في شمال أفريقية، ولكن الأمة

المغربية عرفت لأول احتلال الأجنبي لبلادها أنه لا يرعى عهداً، ولا يحمل بين جنبيه إِلا قسوة، فجعلت نصب أعينها يوماً للخلاص منه، ولم يجد الجبن ولا اليأس إلى قلوبها من سبيل، واستمرت تناهضه بالكفاح عقب الكفاح، وهو يلجأ إلى النار والحديد، ويُجلب عن الفئة القليلة منها بخيله ورَجِله، ومدافعه وطيرانه من البر والبحر. لم يجبن أولئك الذين لاقوا الصدمة الأولى من الاحتلال، وسار على أثرهم أبناؤهم لهذا العهد، يجاهدون بأقلامهم وأموالهم ونفوسهم، ولا يبالون ما يلاقونه من قتل وتنكيل، وها هي أنباء الثورات بالجزائر ومراكش وتونس تخترق الحواجز التي تضعها فرنسا حول البلاد، وتصل إلى الشرق، فتغمر أنديته، وتشتعل لها قلوب أنصار الحرية غضباً. لم يكن ما تقاسيه تلك البلاد من مرارة الاحتلال معروفاً في الشرق؛ للسدود التي يقيمها المحتلون، وللمساعي التي يبذلونها في أن تبقى مكتومة، لا يتناولها كاتب ولا خطيب، وأذكر أني جئت إلى الشام قبل الحرب العالمية الأولى، وأردت أن أشغل القلم ببسط القضية المغربية في الصحف، فوجدت لقنصل فرنسا يومئذ تدخلاً ممقوتاً جعل المجال في عيني أضيق من مفحص قطاة، حتى جرى على اللسان في هذا الحال الأبيات الآتية: بين الجوانح همّةٌ ... تسمو إلى أمد بعيدِ نهضت كما تبغي العلا ... والعزم كالسيف الفريد أدمى فؤادي أن أرى الأ ... قلام ترسف في قيود وأرى سياسة أمتي ... في قبضة الخصم العنيدِ

فهجرت قوماً كنت في ... أنظارهم بيت القصيدِ وحسبت هذا الشرق لم ... يبرح على عهد الرشيد يسع الجهود إذا تضا ... يقت البلاد على الجهود ويقول يوم أبثّه ... بعض الأسى هل من مزيد فإذا المجال كأنه ... من ضيقه خلق الوليد والواقع -أيها السادة- أن أبناء الغرب (الأوربيين) يعملون للاستعمار كل على قدر طاقته، فيجب أن يكون لكل واحد منا نصيب من مكافحة هذا الاستعمار، وقضايا البلاد العربية السياسية بعيدة الغور، واسعة ما بين الأطراف، فلا يرجى لها نجاح إِلا أن تتضافر عليها الجهود، وإذا تحقق الإخلاص ونقاء الضمير وصفاء الفكر، كانت الهيئات -وإن تعددت- بمنزلة هيئة واحدة تسير في اتجاه واحد، وتعمل لغاية معينة. وأبناء شمال أفريقيا يكافحون اليوم معتمدين في كفاحهم على رغبتهم في الموت، واثقين من أن الله - عزّ سلطانه - في تأييدهم، فإنه يحق الحق إذا اتجهت الهمم إلى نصرته، ويمحق الباطل إذا نهض أولو العزم لإماطته عن أرضهم، ويرجون من هذا أن تعنى جامعة الدول العربية بقضيتهم؛ فإن شعورهم بأن الجامعة الموقرة تعرف آلامهم، وتحرص على تحقيق آمالهم، يزيدهم قوة وإقداماً وثباتاً. وإنا على ثقة من أن رجال الجامعة يحملون في صدورهم قلوباً ملؤها الحماسة لقضية أفريقية العربية، وقد كان سعادة أمين سرها العام يجاهد في سبيل القضايا العربية والإسلامية من قبل أن تتألف الجامعة، أو يقع

التفكير في تأليفها. ولا ننسى أن الجامعة قد خطت في قضية شمال أفريقية خطوات تلقيناها بالشكر من صميم أفئدتنا، ولنا طموح إلى أن تواصل هذه الخطوات بخطوات أوسع كلما ساعدتها الظروف، والظروف تتغير صباحاً ومساءً، ولا أبرح موقفي هذا حتى أقدم شكري الجزيل إلى الصحافة المصرية؛ فإنها أفسحت صدرها لنشر ما يتعلق بقضية شمال أفريقية، واحتضنتها كما احتضنت قضايا الشعوب العربية في الشرق. وإذا كانت القضية المغربية قد لقيت من الجامعة اهتماماً بالغاً تحت رعاية حضرة صاحب الجلالة مولانا ملك مصر المعظم فاروق الأول - حفظه الله -، ولقيت من الصحف العربية في مصر وغير مصر صدوراً فسيحة، وعاطفة مهذبة، ثم أقبل نزلاء مصر من تلك الأقطار على خدمة قضيتهم بدعاية صادقة وحكمة، فإن مصير تلك البلاد إلى حرية وطمأنينة تساعدها على أن يكون لها حظ وافر في تقرير السلام العالمي الذي تلهج به الدول المتحدة في كل مؤتمر يعقد، أو خطبة تلقى. والسلام عليكم ورحمة الله. محمّد الخضر حسين

الجهاد لإفريقيا الشمالية

الجهاد لإفريقيا الشمالية (¬1) الكلمة التي افتتح بها فضيلة رئيس التحرير الحفلة التي أقامتها جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية في دار الاتحاد العربي. أحييكم أطيب التحية، وأقدم لكم خالص الشكر على تفضلكم بتلبية دعوة الجبهة التي تجاهد في قضية شمال أفريقية، مغتبطة بأنها تعمل في ميدان من الحرية فسيح، مؤيدة برجال يقدرون حرية الشعوب قدرها، تغتبط الجبهة بأنها تعمل في صف دول عربية تطمح إلى العزة، وتسير إليها في حكمة وعزم، وتغتبط الجبهة بنها تعمل وهي محفوفة بصحف سيارة تعطف على قضية المغرب، وتوسع صدرها لنشر ما تقدم لها من مذكرات وبرقيات ومقالات تدافع بها عن هذه القضية. وقد أقامت الجبهة هذه الحفلة اعترافاً بفضل جامعة الدول العربية؛ حيث احتضنت هذه القضية، وأنزلتها المنزل اللائق يها من الأهمية، واعترافاً بفضل الصحافة التي تؤازرها في جهادنا انتصاراً للحرية والعدل على الاستبداد ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الثالث والرابع من المجلد التاسع عشر الصادران في رمضان وشوال 1365 هـ - القاهرة.

والبغي، وتفاضل الصحف على قدر مكافحتها للباطل، ومناصرتها للحق. سادتي! إن في شمال أفريقيا ما لا يقل عن خمسة وعشرين مليوناً من العرب المسلمين، يقاسون من الاحتلال الفرنسي والإسباني أسوأ الاضطهاد، وقد تحدثنا وأشبعنا الحديث في مواقف كثيرة عن ألوان ذلك الاضطهاد، علاوة على ما تنشره الصحف العربية والأجنبية من الحوادث التي تتجدد يوماً فيوماً، وقد أصبح الرأي العام في مصر وغير مصر على خبرة ممّا تفعله تلك السياسة الجائرة من إرهاق لا تحتمله أمة تقلبت في الحضارة أحقاباً، وعرفت حقوقها معرفة الغيور عليها، والمتحفز للدفاع غير مبال بالموت في سبيلها، تلك هي أمة المغرب. وكنت وقفت منذ أشهر بل أيام موقفاً كموقفي هذا شاكراً لجامعة الدول العربية الموقرة اتجاهها إلى قضية شمال أفريقيا بجانب من العطف، ورجوت منها باسم أولئك الملايين من العرب أن تتجه إلى قضيتهم اتجاهاً يدلُّهم على أن الجامعة مجدة في مناصرتهم، ومتأهبة للمعونة على تحريرهم. وأقف اليوم شكراً للجامعة قرارها الذي أصدرته في هذه الدورة الأخيرة، ومبلغاً لها شكر أولئك المجاهدين وارتياحهم لهذه الهمة الحازمة. ولا يخالطنا ريب في أن هذا القرار الموفق سيكون له أثر عظيم في تأكيد عزم أولئك العرب، وتثبيت أقدامهم في العمل لاستقلالهم، كما أن جبهة الدفاع قد ازدادت بهذا القرار نشاطاً على نشاطها، وأصبحت تشعر بأنها تعمل في ظل جامعة دولية عربية غيورة على حرية شعوبها، راغبة في أن تكون لها في بناء السلام العالمي أعمال مشهورة.

وبهذه المناسبة أقول: إن جبهة الدفاع قد رسمت لنفسها غاية رأتها جديرة بحبها، وها هي تعمل لتحرير تلك البلاد: تونس، والجزائر، ومراكش، تحريراً لا يبقى لأجنبي عليها من سبيل، والجبهة قد اختارت أن تعمل في الشرق باسم الأمة المغربية التي تضم تحت جناحيها الشعوب الثلاثة، وهي حريصة على أن تتصل بزعماء الأحزاب القائمة في تلك البلاد، وبغير الزعماء من العاملين المستقلين، وليسوا بقليل؛ إذ الجبهة تقدر جهاد أولئك الزعماء أو العاملين المستقلين، وتراه هو الدعاية التي يقوم عليها صرح الاستقلال. سادتي! قررت جامعة الدول العربية العمل لاستقلال تونس والجزائر ومراكش، وأهم وسيلة إلى هذه الغاية النبيلة أن تكون الصلة بينها وبين المغرب قوية ثابتة؛ أعني: الصلة التي تجعل الجامعة تطلع على كل ما يحدث في الغرب يوماً فيوماً، وتجعل المغرب يعرف الخطوات التي تقدمت بها الجامعة في العمل لاستقلالها خطوة فخطوة، والنظر في إيجاد هذه الصلة ووسائل قوتها موكول بالطبيعة إلى مجلس الجامعة، ولنذكر على وجه المثال ما يصح أن يكون في مقدمة أعمال المجلس الموقر، وهو أن الفرنسيين يتقلبون في البلاد العربية، ويدخلون منها كل مدخل، دون أن يعترضهم أدنى عائق، ونوى الحكومات العربية تسمح لفرنسا أن تنشئ في بلادها مؤسسات باسم العلم، أو الرفق بالإنسانية، وكانت فرنسا ولا تزال تعين سفراء من أبناء جنسها في البلاد العربية. أذكر هذا وأقول: إن من حق الدول العربية أن تعمل لفتح أبواب الرحلة

إلى تونس والجزائر ومراكش؛ بحيث تكون المواصلات بين العرب في الشرق والعرب في الغرب دائمة منتظمة، ومن حقها أن تعمل أو تساعد على أن يكون هناك مؤسسات ثقافية أو صحية أو اقتصادية تضاهي أمثالها من المؤسسات الفرنسية في البلاد العربية الشرقية، ومن حقها أن تعين في المغرب سفراء من رعاياها المخلصين. يمثل بعض الخطباء أو الكتاب العالم العربي بطائر قلبه مصر، وله جناح في الشرق، وجناح في الغرب. ومن الواضح الجلي أن الجناح الشرقي لا يكون متصلاً بالقلب إِلا إذا بقيت فلسطين عربية شعباً وحكومة، وأن الجناح الغربي لا يكون متصلاً بالقلب كذلك إِلا إذا بقيت طرابلس الكبرى عربية حكومة وشعباً، أنها إذا ابتلي هذان القطران بوضع غير عربي؛ فإن هذا الطائر يبقى مهيض الجناحين، لا يستطيع أن يحلق في الجو، ويصعد إلى سماء العزة والسيادة. ولم يزل بين جوانحنا أمل في أن جامعة الأمم المتحدة تذعن إلى أن العصر الذي يدعى فيه إلى السلام العالمي هو عصر المنطق والحجة، لا عصر التخاطب بلغة النّار والحديد، وتذعن إلى أن الحرية من حقوق الإنسانية على اختلاف أجناسها ومللها، وتكون على ذكر من أن السلام العالمي لا يتحقق ما دامت ملايين من الأمة العربية تقاسي من الاحتلال الفرنسي والإسباني ألواناً من الاضطهاد الذي لا يطاق. وإذا كانت الدول القوية قد أذعنت إلى الحقائق، وعرفت أن مراعاتها أمر لابد منه، لم نشك في أنها ستقف موقف المرتاح لقرار جامعة الدول العربية في استقلال تونس والجزائر ومراكش، وتسبق التاريخ بتمجيد أولئك

الأبطال الذين يجاهدون في سبيل حريتهم واستقلالهم، مع ما يلاقونه من عذاب وتنكيل. وأختم كلمتي هذه بتوجيه شكر خاص إلى سعادة الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام باشا على ما يبذله من الجهد في قضية شمال أفريقيا، وهو -بلا شك- إنما يعمل بالروح الذي استمده من رغبة حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم (فاروق الأول) - حفظه الله -. محمّد الخضر حسين

مذكرة من جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية إلى الجامعة العربية

مذكرة من جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية إلى الجامعة العربية (¬1) حضرة صاحب المعالي عبد الرحمن عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية! بعد تقديم أطيب التحية: بدا لمجلس جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية اقترل رغبوا إليّ أن أعرضه على معاليكم للنظر فيه، فإذا آنستم فيه خيراً للقضية العربية عامة، وقضية شمال أفريقيا خاصة، تفضلتم فعرضتموه على مجلس جامعة الدول العربية، لعلّه يرى الاقتراح جاء في الوقت المناسب لقوله، وهو: أن الجامعة قد اتجهت إلى ما كنا نؤمله منها، بل يؤمله العالم العربي بأجمعه؛ من العمل لتحرير الأوطان العربية بشمال أفريقيا، وأصدرت قرارها الذي اهتزت له قلوب الأمم العربية ارتياحًا، وازداد به الرجال العاملون لخلاص المغرب عزماً على المضي في سبيلهم، وعرفوا أن انضمامهم إلى جامعة الأمة العربية يسرع إلى قضيتهم بنجاح فوق النجاح الذي ينتظرونه من عملهم في داخل أوطانهم. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الخامس والسادس من المجلد التاسع عشر الصادران في ذي القعدة وذي الحجة 1365 هـ - القاهرة.

فهم -بعد هذا القرار الموفق- يرون أن الجامعة تستطيع أن تعمل لقضيتهم في طريقة منتظمة، وحجج صادقة، ومن الوسائل التي تسهل عليها تحقيق هذه المهمة الكبيرة: أن يكونوا أعواناً للجامعة على جهادها، وطريقة هذا التعاون إنما يكون بعقد صلة محكمة بين الجامعة وتلك الشعوب؛ بحيث تطلع الجامعة على ما يحدث بتلك الأوطان من ضروب الاضطهاد، ومكافحتهم له يوماً فيوماً، وتعرف تلك الشعوب كيف تسير الجامعة في قضيتهم خطوة فخطوة، وعقد هذه الصلة موكول بالطبيعة إلى سياسة الجامعة ورأيها الحكيم، وهذا لا يمنعنا من أن نضع أمامها رأيا لعقد هذه الصلة الضرورية لخدمة القضية المغربية، هو أن جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية قد اختير أعضاؤها من الجاليات التونسية والجزائرية والمركشية، ومن بينهم أساتذة في الأزهر الشريف، وفي الجامعة، وفيهم دكاترة ومحامون، وطائفة من كبار التجار الأمناء، فهي هيئة يمكن للجامعة أن تفسح لها طريق الاتصال بها، وتستعين بها على تعرف أحوال تلك البلاد في القديم والحديث. واتصال الجبهة بالجامعة يأتي بثمرته العملية فيما يبدو لنا متى سمحت الجامعة بتخصيص مكتب لإدارة الشؤون المتعلّقة بشمال أفريقية، وكان في العاملين بهذا المكتب من تطمئن الجبهة لكفايته وحزمه وأمانته، وفيما نعتقد أن مجلس الجامعة يقدر الجبهة التي قامت منذ سنتين تناضل عن قضية خمسة وعشرين مليوناً من العرب، وقد منحوها ثقتهم، وارتضوها لساناً يعبر عن أمانيهم، فمن القريب جداً أن يتقبل المجلس هذا الاقتراح، وفي قبوله معونة على أن يكون جميع ما تحتاج إليه الجامعة من مقتضيات الكفاح عن القضية المغربية تحت يدها، فتتناوله وهي على ثقة من صحته، سواء ما يتعلق

بعهودها الماضية، أو عهودها القريبة والحاضرة. هذا اقتراح الجبهة، نعرضه على المجلس الموقر مؤملين النظر إليه بعناية ولكم جزيل الشكر. وتفضلوا بقبول أسمى التحية وعظيم الاحترام. رئيس الجبهة محمّد الخضر حسين

ألف قتيل مراكشي في الدار البيضاء تجريد الجنود المراكشيين والشرطة من سلاحهم

ألف قتيل مراكشي في الدار البيضاء تجريد الجنود المراكشيين والشرطة من سلاحهم (¬1) وردت أنباء مقتضبة من مراكش عن اعتداء همجي فظيع قام به سلاح السنغاليين المشاة في الجيش الفرنسي بالدار البيضاء؛ حيث هجموا بالأسلحة السريعة الفتاكة على الأهالي العزل بسبب غضب الأهالي من اعتداء الجنود على أحد المنازل المغربية. وعلى أثر ذلك بعثت جبهة الدفاع عن شمال أفريقيا ببرقية إلى الأستاذ المكي الناصري رئيس حزب الوحدة المغربية الموحدة الآن في طنجة، تستفسر فيها عن هذه المجزرة، وعن فكرة الخلافة التي أثيرت بمناسبة زيارة جلالة ملك مراكش لطنجة، فتلقت منه الرد التالي: "إن حوادث الدار البيضاء التي وقعت في 7 أبريل، قد أثيرت لتهييج الرأي العام المراكشي. وقد ذهب ضحيتها ألف قتيل، كما جرح مئتان كلهم مراكشيون، قتلوا على أيدي مشاة الجيش السنغالي الفرنسي، أما المعتدون، فقد مات منهم ثلاثة، وفقد اثنان، والباعث لهذه الحوادث هو قصد الاعتداء على منزل مراكشي. أنها السلطات الفرنسية، فبدلاً من أن تتدخل حالاً لمنع ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" الجزآن السابع والثامن من المجلد التاسع عشر الصادران في محرم وصفر 1366 هـ - القاهرة.

هذه المجزرة، فقد جردت الجنود المراكشيين ورجال الشرطة المراكشيين من سلاحهم. "وبونيفاس الذي كان بطل حوادث سنة 1944 م الدامية، وهو رئيس ناحية الدار البيضاء الآن، هو نفسه بطل هذا الحادث الأخير". "أما عن سفر جلالة الملك لطنجة، فقد بذلت فرنسا كل ما يمكنها من جهود للحيلولة دون هذا السَّفر، فلما فشلت في منعه، حاولت إثارة قلاقل في طنجة، ولكن جلالة الملك أذل بلاغاً دعا فيه الشعب إلى الاحتفاظ بالهدوء. وبحمد الله تمت الزيارة من غير حادث بفضل امتثال الشعب لأمر جلالته، وبفضل حسن نية العناصر المحايدة، والبوليس الدولي. أنها فكرة الخلافة، فليس لها أي أساس من الصحة، بل بالعكس، إن ملكنا يتجه إلى الجامعة العربية، وفي خطبة الجمعة عِندما أمّ المسلمين بنفسه دعا لملوك الدول العربية ورؤسائها، وكل معلومات مخالفة لهذه هي مناورات فرنسية". وقد تلقت الجبهة التفاصيل الآتية منه أيضاً: على أثر حوادث الدار البيضاء الدامية، وقع إضراب عام في جميع أنحاء البلاد، وشارك فيه كل عناصر الشعب وطبقاته، كما قامت مظاهرات في طنجة على أثر خطاب حماسي ألقاه الأستاذ المكي الناصري رئيس حزب الوحدة المغربية؛ حيث أخذ المتظاهرون البالغ عددهم نحو عشرين ألفاً يطوفون بشوارع المدينة.

لائحة المؤتمر الوطني التونسي

لائحة المؤتمر الوطني التونسي (¬1) انعقد بتونس في ليلة السابع والعشرين من رمضان 1316 هـ - الموافق 23 أغسطس سنة 1946 م مؤتمر وطني اشترك فيه زعماء الأحزاب، والمشتغلون في خدمة القضية التونسية، بل اشترك فيه كثير من كبار الموظفين والمدنيين بجامع الزيتونة، وأصدروا لائحة بإلغاء الحماية التونسية، واعتبار تونس وطناً مستقلاً استقلالاً تاماً، ونص هذه اللائحة: إن المؤتمر التونسي المنعقد في 23 أغسطس سنة 1936 م بعد ما درس حالة البلاد السياسية، واستمع لمختلف الخطباء، صادقَ بالإجماع على العريضة التالية: حيث إن البلاد التونسية قبل سنة 1881 م كانت دولة تتمتع بسيادتها التامة، ومرتبطة مع الخلافة العثمانية بعلائق دينية أكثر منها سياسية. وحيث إن سيادة البلاد التونسية معترف بها من مجموع الدول، وقد أيدتها المعاهدات مع الدول الأجنبية. وحيث إن فرنسا التي كانت تؤيد قضية استقلال البلاد التونسية لدى ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن التاسع والعاشر من المجلد التاسع عشر الصادران في الربيعين 1366 هـ - القاهرة.

الحكومة العثمانية، قد فرضت على تونس معاهدة وقع المشير الصادق باي تحت الضغط، ولم يصادق عليها الشعب. وحيث إن معاهدة "باردو" لم تكن لتفصل البلاد التونسية على المجموع الدولي، ولم تلغ سيادتها الخارجية والداخلية. وحيث إن الحماية استحالت بعد مضي 65 سنة إلى نظام استغلال استعماري يجرد الحامي المحمي عن سيادته، ومن خيراته تجريداً منظماً، في حين أن مفهوم معاهدة "باردو"، واتفاقية المرسى، ومنطوقهما يقضيان بأن تكون الحماية نظاماً وقتياً شبيهاً بوصاية بسيطة. وحيث إن الدولة الحامية لم تلتزم حدود سلطة المراقبة، وحلت محل الدولة المحمية في مباشرة الحكم والتصرف في الشؤون العامة. وحيث إن السلطة الفرنسية قد استحوذت على السلطة التشريعية التي هي حق خاص لسمو الباي، حتى أصبح حضرته شبيهاً بموظف شرفي سام مضغوط على حريته الشخصية، كما أن وزراء الدولة الذين نزلوا بهم إلى لقب وزراء سمو الباي، صاروا مجرد شخصيات لتزيين المحافل، وكما أن العمال أصبحوا أعواناً ينفذون أمر المراقبين المدنيين، وكذلك نزعت في جميع الميادين الأخرى سلطات جميع الموظفين التونسيين، وأسندتها لموظفين فرنسيين لم تكن خبرتهم ولا نزاهتهم في غالب الأحيان سالمتين من الطعن. وحيث إن فرنسا التي التزمت علانية بحماية شخص الباي وعائلته قد خرقت المعاهدة مرّة أخرى، فخلعت عنوة ملك البلاد الشرعي سيدنا ومولانا محمد المنصف باشا باي معتدية حتى على القواعد الأصلية للدين والإسلامي.

وحيث إن هذه الاعتداءات قد نشأ عنها نظام إداري مضطرب، لا هو إلحاق، ولا حكم ذاتي؛ فقد ضاعت فيه الأصول التشريعية، وتلاشت فيه المسؤوليات. وحيث إن الدولة الحامية سلكت منذ بداية عهد الحماية سياسة تفقير؛ بتجريد الشعب التونسي من أخصب أراضيه، وبمنح الموظفين -وكلهم فرنسيون- أكثر من ثلث ميزانية لا مراقبة عليها، مستندة على نظام جبائي على اعتبار العدد لا الثروة، وبإخضاع البلاد التونسية لسياسة مالية وقمرقية مضرة بالاقتصاد التونسي بدون أن تفيده في مبادلته مع البلاد الأجنبية. وحيث إن هاته السياسة كانت سياسة تعمير البلاد بالفرنسيين معمرين وموظفين، ومن طريق التجنيس الذي بعد أن فتح في وجه التونسيين، والمالطيين، والروس الملوكيين من أتباع -فرانجيل- واللاجئين الإسبان، صار يستميل الإيطاليين حتى اليوم لتنمية عدد المواطنيين الفرنسيين بالنسبة لعدد التونسيين قصد تجريد البلاد صبغتها التونسية. وحيث إن التونسيين قد حرموا في بلادهم من الحريات الأولية -حريات التفكير، والنشر، والقول، والاجتماع، والتجول-، حتى إن 65 سنة التي مرت على الحماية قضى منها التونسيون أكثر من 20 سنة تحت الحكم العسكري العرفي، والبقية تحت رقابة البوليس. وحيث إن الإسراف المالي الذي أوجبه هذا التعمير الفرنسي الجائر، قد أعجز الحماية عن الوفاء بواجباتها الاجتماعية نحو المسلمين في ميادين التموين والسكنى والصحة العامة والتعليم. وحيث إن ذلك قد أدى بالدولة الحامية إلى إهمال كل ما يتعلق بتحسين

حالة الأفراد، وإلى الاعتناء بمصالح رأس مالية مستفرغة، فلم تقم برسالتها التمدينية التي يحاولون من أجلها تبرير نصب الحماية على البلاد. وحيث إنه فيما يخص الأمن قد نكثت الحماية عهودها بتسليمها البلاد التونسية لدولة المحور، بينما كان المحميون يدافعون دائماً عن قضية فرنسا وحلفائها، ويبذلون دماءهم في هذا السبيل. وحيث إن التضحيات البشرية والمساهمة في المجهود الحربي التي بذلتها البلاد التونسية، والتي تُنوسيت بعد الحرب العالمية الأولى من شأنها أن تستوجب إنهاء الحماية، وتحرير البلاد التونسية. وحيث إن معاهدة "باردو" نصت على أن الحماية في جوهرها نظام وقتي، وأن مصالح الفرنسيين الناتجة عن هذا النظام الموقت لا يمكن بحال أن تكون لها صفة الدوام والاستمرار. وحيث إنه -من جهة أخرى- لا يمكن لمصالح دولة حامية أن تحول دون حقوق الشعب الثابتة في تقرير مصيره بكامل الحرية. وحيث إن الاستعمار يعتبر بجق سبباً للتنافر بين الدول، ومثاراً للمشاكل الدولية، قد عبرت الأمم المتجدة عن استنكارها له بحكم صريح، وجعلت من بين الأهداف التي خاضت من أجلها غمار الحرب: "حق الشعوب كلها في اختيار صورة الحكم الذي ترتضيه لنفسها، واسترجاع حقوق السيادة والاستقلال إلى الأمم التي انتزعت منها "قهراً". وحيث إن هاته النظرية الجديدة أخذت تتجلى وتتكد أثناء المؤتمرات العالمية المختلفة، وحيث كانت فرنسا من بين الدول الاستعمارية التي صادقت على المبدأ القائل: بأنه ليس لأية أمة الحق الثابت بحكم شعوب

لا تملك زمام أمورها. فلهاته الأسباب يصرح المؤتمر الوطني التونسي: بأن الحماية نظام سياسي واقتصادي لا يتفق مطلقاً مع مصالح الشعب التونسي، ولا مع حقه في التمتع بسيادته. ويؤكد: أن هذا النظام الاستعماري بعد تجربة 65 سنة قد حكم على نفسه بالإخفاق. ويعلن عزم الشعب التونسي الثابت على السعي في استرجاع استقلاله التام، وفي الانضمام كدولة ذات سيادة لجامعة الدول العربية، وجامعة الأمم المتحدة، والمشاركة في مؤتمر الصلح.

سياسة فرنسا في تونس من نشرة أصدرتها جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية

سياسة فرنسا في تونس من نشرة أصدرتها جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية (¬1) قام السفير الفرنسي بتونس في هذه المدة باستدعاء بعض الساسة والشخصيات البارزة في البلاد، وحدثهم عن الإصلاحات التي تنوي فرنسا إدخالها على نظام الحكم، وسألهم عن وجهات نظرهم في هذه الإصلاحات. وقد خرج التونسيون من دار السفير كما دخلوها لا يحملون معهم جديداً إلى يقينهم بأن السياسة الاستعمارية الفرنسية لا تتغير، وإن حاول بعض الفرنسيين إعطاءها صبغة المودة وحسن التفاهم. وحديث السفير عادة معقد بعيد عن الصراحة، تظهر من خلاله سوء نيّة الحكومة الفرنسية، وما تضمره للشعب التونسي ولمستقبله من كيد وشر. فهو لا يريد الحل الطبيعي للمشكلة التونسية، وهو إعطاء أرباب البلاد حق اختيار حكومتهم، وتقرير مصيرهم؛ لأنهم إذا تركت لهم الحرية في اختيار مصيرهم، فسوف لا يرضون بغير الاستقلال والانضمام للجامعة العربية بديلاً. وهذا شيء يبث الرعب في قلب فرنسا التي أخرجت من هذه الحرب هزيلة منهوكة القوى، ليس لديها ما تعول عليه إِلا مستعمراتها البائسة التي أراد سوء طالعها أن تكون ضحية لفرنسا، تمتص دماءها، وتسلبها أرزاقها، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الأول والثاني من المجلد العشرين الصادران في رجب وشعبان 1366 هـ - القاهرة.

لتعوض ما ضيعته في الحرب. فأية محاولة من أي بلد من البلدان الخاضعة لها ترمي إلى الاستقلال عنها، تقاومها فرنسا بكل ما تعرفها من قوة. وهي ما فكرت في "الاتحاد الفرنسي" إِلا لزيادة توطيد أقدامها في البلدان التي تسيطر عليها، وإلا محاولة لنزع فكرة الانضمام للجامعة العربية من رؤوس المغاربة. ولكن التونسيين الذين حنكتهم الظروف، وَطَّدوا العزم على ألا يثقوا بفرنسا، ولا بإصلاحاتها، ولا باتحادها الفرنسي. فهم يريدون حكومة ديمقراطية تستمد نفوذها من الشعب، وتحافظ على تراثه وتقاليده، وتوثيق صلته بالعروبة والإسلام.

صرخة المغرب

صرخة المغرب (¬1) يصرخ المغربُ غيظاً واحتراقاً ... صرخة الناهض للموت اشتياقا لا تلوموه إذا خاض الوغى ... ورأيتم دمه الغضَّ مراقا هو يلتذُّ الردى إذ يسكب الضيـ ... ـم في أكؤسه، ماء زُعاقا (¬2) * * * أوفد الشرق رجالاً طبقوا ... أرضه رشداً وعلماً ووفاقا فانبرى يسمو بجنب الشرق في ... همم تستشرف (¬3) السبع الطِّباقا شاد بالعرفان والعدل علاً ... عقدت من أدب الدين نِطاقا واقتنى للذود عن ساحتها ... مرهفات البيض والخيل العِتاقا وجرى الإصلاح في آفاقه ... نازفاً (¬4) أسقامه حتى أفاقا (¬5) ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الأول والثاني من المجلد التاسع عشر الصادر في رجب وشعبان 1365 هـ - القاهرة. (¬2) مر لا يطاق شربه. (¬3) استشرف الشيء: رفع رأسه ينظر إليه. (¬4) مزيلاً، من نزف ماء البئر: إذا نزحه كله. (¬5) أفاق من مرضه، ورجعت الصحة له.

يحسب الوافد بدءاً أنه ... جاء أرض الشام، أو وافى العراقا أمةٌ أودعت التاريخ ما ... بهر الأحفاد من فخر وراقا وصل الأحفاد مجداً تالداً ... بطريف فازدهى المجد اتساقا راعهم جند غريحب حلَّ في ... أرضهم يخترق البيض الرقاقا حسب البغي عليهم خمرة ... فتعاطاه اصطباحاً واغتباقا ذكروا عهد العلا، والحر من ... يذكر العهد حفاظاً وصداقا نهضوا نهض أسودِ الغاب لا ... يعرفون الدهر للذعر مذاقا ظلت الحرب سِجالاً حقبةً ... لم ينم فيها الفريقان فُواقا (¬1) أي حرب وضعت أوزارها ... أيّ أمن مد في الأرض رُواقا بين أيد أمعنت في عسفها ... وقلوب ملئت منها حناقا (¬2) * * * يسفك الباغي دماءً ذنبها ... أنها تغلي إذا شد الخناقا وطغى في الأرض حتى إنه ... همَّ بالدين خسوفاً أو محاقا ينصب الأشراك كي يصرف عن ... حكمة الله قلوباً وحِداقا لاذ بالتجنيس (¬3) والقوم أبوا ... خوف أن يصلوا به النار الحراقا (¬4) وبنو المغرب عرب شيماً ... ولساناً لا ادعاءً واختلاقا ¬

_ (¬1) الفترة بين الحلبتين. (¬2) جمع حنق، وهو الغيظ الشديد. (¬3) فتح باب التجنس بالجنسية الفرنسية. (¬4) التي لا تبقي على شيء.

شاد دون الشرق سداً فغدا ... وصل ما بين الشقيقين افتراقا يلدع الأكباد بالمرِّ وقد ... يلمس الآذان بالحلو نفاقا أمة أعهدها تحنو على ... سانح الآراء تبغيه عتاقا (¬1) فاسألوا أقلامها ما خطبها ... تتمشى في القراطيس رقاقا (¬2) أيها الدائب في تثبيطها ... وشعوب دونها حازوا السباقا قوض السد الذي شيدته ... قبل أن يجتابه (¬3) القوم اختراقا خذ إلى صدرك كفيك ودع ... خيلها تعدو إلى المجد انطلاقا وقل الفصل إذا حدثتها ... فالرياء اليوم لا يلقى نَفاقا أنت تبغيها خمولاً اذا ... أهبت للصيت (¬4) ضاعفت الوثاقا من عذيري إن أنا مجدتها ... يوم تجتاح قيوداً ورياقا (¬5) محمد الخصر حسين ¬

_ (¬1) تطلب له الحرية. (¬2) جمع رقيق: ضد الحر. (¬3) يقطعه. (¬4) أهبت: أخذت الأُهبة. والصيت: الذكر الحسن (¬5) جمع ريق، هو الحبل فيه عدة عرى يشد به البهم.

تونس والاحتلال الفرنساوي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) في يوم 12 مايو 1948 م يكون قد مرّ على احتلال فرنسا للبلاد التونسية 67 عاماً. ولقد رأينا لهذه المناسبة والذكرى المؤلمة التي تعيد لأذهاننا تلك الظروف السوداء التي فقدنا فيها استقلالنا كدولة، وحريتنا وكرامتنا كأمة، أن نقدم للعالم صورة مصغرة للاستعمار الفرنسي في هذه البلاد، التي فرضت عليها فرنسا حمايتها بالقوة المسلحة، وقضت على استقلالها بالحديد والنار، وانتزعت من الشعب التونسي وحكومته كل سلطة له في بلاده، ومنصب للحكم، ومصدر للنفوذ، كما اغتصبت منه موارد الثروة، وأقفلت في وجهه سبل الحضارة والرقي، ومنعته من الاستنارة بنور العلم والمدنية، وأسلمته للفقر والمرض والجهل والجوع، وقرنت حياته كلها بالعسف والنكال، وتلك هي رسالة الاستعمار في العالم منذ نشأ وإلى الآن، كيفما كان مأتاه وجنس القائمين عليه، وإذا اختلف، فإنما يختلف في الوسيلة والأسلوب، لا في الغاية التي يدفع إليها بالمستضعفين. فلونٌ من الاستعمار يرمي إلى الإبقاء على عبيده واستغلالهم، واستثمار ¬

_ (¬1) نثرت هذه المذكرة كمقدمة في رسالة صغيرة الحجم تحت عنوان: "تونس 67 عاماً تحت الاحتلال الفرنساوي" 1881 - 1948 م ". صدرت عن مكتب الدعاية والنشر للجبهة - المركز العام: شارع مجلس النواب 29 القاهرة.

أوطانهم بواسطتهم، والانتفاع بخيراتهم دونهم، ولون آخر يريد بعد كل ذلك إفناء المستعبدين فيه، وإبادتهم كجنس قائم بذاته له مكانه في هذا الوجود، وهذا ما تعانيه أفريقيا الشمالية من الاستعمار اللاتيني القاسي الذي يبيد الأمم، ويقضي على معنوياتها ومشخصاتها، حتى تمتزج بجنسه، وتذوب فيه، وعندها يأمن أن لا تعود إلى الوجود، فتطالب بوطنها الذي ألحق بوطنه، وصيّره إلى الأبد من ضمن أملاكه. فالأمم التي تعاني الاستعمار الفرنسي وأمثاله، إنما تواجه سياسة فناء وإبادة، وخطر انقراض وزوال، سياسة تحارب الأمم في لغتها وعقيدتها وتقاليدها وأخلاقها، وفي سلطانها ومصادر ثروتها، تحاربها بكل الوسائل، وفي كل الجهات، وعلى توالي السنين بدون هوادة ولا انقطاع. والاستعمار منذ وجد لم يكن إِلا حرابة: إجراماً، وسلسلة من الآثام تلطخت بها الكرامة الإنسانية، وحملت تبعاتها البشرية، ولم يعد لأنصار الاستعمار بعد أن امتلأت صفحات تاريخه بدماء ضحاياه ودموع مظلوميه أن يقولوا: إنه وسيلة تمدينية، وقد أثار في ما بين المستعمرين أنفسهم حروباً دمرت مدنية أجيال، وحطمت نتاج العقل الإنساني، ومعالم الحضارة التي اشتركت في بنائها الأمم منذ أحقاب، ومع ذلك، فإن الكمال الإنساني لم يصل بعد إلى درجة التضامن لإزالة هذا الإجرام العام، وتحويل الذين يبنون سعادتهم من شقاء الغير إلى الارتزاق من طرق مشروعة، وأوفر شرفاً من استرقاق البشر، وتسخيره، واغتصاب ممتلكاته لبناء العظمة المادية، وتكوين الثروة، وجمع القوة وتوجيهها للشر المحض بدلاً من أن توجه لرفع المستوى الإنساني إلى أرقى معارج الكمال.

إننا نضع هذه الحقائق أمام العالم المتمدن، عسى أن ينتبه ضميره، ويشعر بمسؤوليته، خصوصاً الدول التي قطعت على نفسها وعوداً بذلك، وقالت عن الحرب الأولى والثّانية: إنها حرب الحرية والدفاع عن حقوق الإنسان، واشترك فيها -بناء على ذلك- المستضعفون بأوفر قسط من التضحيات، تضحيات الأرواح والأموال والجهود التي ضمنت النصر، وأنقذت الموقف في كثير من الفترات الحرجة، هذه الأمم تتطلب إنجاز الوعود التي قطعت لها أثناء حربين، والالتزامات التي أمضيت من طرف أنصار الحرية ورجال الديمقراطية بإزالة نظام الرق الاستعماري الفظيع؛ فإن العالم يوشك أن يصلى نار حرب ثالثة، ينادي هؤلاء المستضعفون لخوض غمارها باسم الحرية وحقوق الانسان، فلا يستجيبون، فإنهم إذا لم تعط لهم حقوقهم من الآن، وترد إليهم حريتهم، ويصبحون وبأيديهم حق يدافعون عنه، وكرامة إنسانية يفدونها بالمهج والأرواح، ويذودون عنها، ومثل عليا تهون عليهم في سبيلها التضحيات، إنهم إذا لم يعط لهم ذلك، لا يمكن أن يثقوا بوعود قطعت لهم مرتين، والتزامات وثقوا بها أثناء حربين، ثم هم لم يخرجوا من حرب الحرية والدفاع عن حقوق الإنسان إِلا إلى العبودية والعسف والامتهان. إن العالم لا يخلو من رسل الخير، ومثل الإنسانية الكاملة، وإنا نتوجه إلى هؤلاء بالنداء في كل أمة، ليتعاونوا على إزالة الشر، ومحاربة الظلم، والقضاء على جريمة الاستعمار، وإراحة العالم من أخطارها الوبيلة، وتبعاتها الملوثة للشرف الإنساني، المحطمة للمثل الأخلاقية العليا، التي يتجه العالم إليها اليوم لإخراج أمة موحدة، وعالم مجتمع في الخير والسعادة والسلام.

الإمام محمد الخضر حسين قدوة الأفاضل من التونسيين

الإمام محمد الخضر حسين قدوة الأفاضل من التونسيين كان الإمام محمد الخضر حسين على اتصال مع التونسيين العاملين في الحقل العلمي والسياسي، وكثيراً ما زوّدهم بالنصائح والتوجيهات التي تخدم القضية التونسية. ويكفي أن ننظر مثلاً لما اتخذه فيه العلماء من قدوة واسترشاد وسداد الرأي ما كتبه العلامة الأجل محمد الشاذلي النيفر حول مشاركته في الحياة العامة التونسية. قال من كتاب "بحوث ودراسات مهداة إلى الشيخ محمد الشاذلي النيفر إعداد مجموعة من الأساتذة وتقديم الشيخ محمد المختار السلامي": ساهمت مساهمة فعالة، وكنت والحمد لله إلى الإخلاص فيها والوفاق عندما انشقت الحركة، وقد اغتنمت فرصة سفري لحج الضرورة سنة 1365 هـ الموافق لـ 1946 م، فكاتبت قبل سفري إلى الحج في الباخرة (أندوس الثاني) الشيخ العلامة محمد الخضر حسين؛ لأجتمع به، وأستعين بآرائه للعمل في سبيل القضية التونسية، ولكن لن تتيسر له المقابلة، فكاتبني الشيخ مكبراً عملي - رحمه الله - بما نصه: "جمعية الهداية الإسلامية - المركز العام: القاهرة 29 شارع مجلس النواب ت 53189. تحريراً في 9 ذي الحجة 1365 هـ. فضيلة العالم البارع الأستاذ الشيخ محمد الشاذلي النيفر - حفظه الله -،

بعد إهداء أزكى تحية. تسلمت خطابكم الكريم، فأحمد الله على عافيتكم، وأشكركم على المراسلة، وكنت حريصاً على أن أزور الباخرة عند مرورها ببرت سعيد، ولاسيما بعد أن تلقيت برقية من ابن عمنا حضرة الفاضل السيد عبد الرحمن ابن علي بن عمر، ولكن حالتي الصحية عاقتني عن ذلك. وقد سررت جداً بحديثكم عن القضية التونسية، وسنجتهد في تعرف وقت مرور الباخرة بالسويس، أو برت سعيد؛ لعلّنا نحظى بلقائكم، ولو مقدار ساعة أو ساعتين. وإذا كان من الميسور لكم إعلامنا من جدّة، أو محجر الطور بيوم وصول الباخرة إلى السويس، أو برت سعيد، فنعمّا هو. وبلغوا أعز تحيتنا السيد عبد الرحمن، والأستاذ الشيخ علي بن الخوجة، والأستاذ الشيخ أحمد جعيط. فقد أبلغت أنهما ممن قصد أداء نافلة الحج في هذه السنة، وأعود فاقول: إني مبتهج بما يبلغني عنكم من النبوغ في العلم، والاتجاه إلى العمل للمصلحة العامة، ودمتم في سعي حميد. وتقبلوا أزكى السلام من أخي والدكم الجليل رحمه الله. محمّد الخضر حسين

خطبة الأستاذ محمد الخضر حسين في دار جمعية الهداية الإسلامية في الاجتماع الذي عقد لذكرى مرور عام على الظهير البربري

خطبة الأستاذ محمد الخضر حسين في دار جمعية الهداية الإسلامية في الاجتماع الذي عقد لذكرى مرور عام على الظهير البربري (¬1) أيها السادة! أصيب العالم الإسلامي بهذا البلاء الذي يسمونه: الاستعمار، وهو تهلكة الشعوب التي ليس بعدها تهلكة، وفتنتها التي لا تساويها فتنة، وهل تصاب الجماعة بأشد من أن يخرج أمرها من يدها، وتقع تحت سيطرة خصومها، تزهق أرواحها ولا قصاص، ويعتدى على أموالها ولا خلاص، ثم تكره على أن تفارق دينها الذي هو أعز شيء تغتبط به في هذه الحياة؟! وجد أولئك المستعمرون فينا نفراً يحرصون على كسب المال وإن ¬

_ (¬1) مجلة "الفتح" الجزء 252 من المجلد السادس. وكان يصدرها الأستاذ محب الدين الخطيب - القاهرة. صدر (الظهير البربري) يوم 17 ذي الحجة 1348 هـ - 16 مايو 1930 م في المغرب، وهو الظهير السلطاني المتضمن إنشاء محاكم عرفية تنظر في شؤونهم المدنية والجنائية. كما أن الأحوال الشخصية (زواج، طلاق، ميراث) فإن مرجعها إلى مراقب الناحية الفرنسي، فهو الذي يعقد أنكحتهم ويفسخها، ويقوم بسائر أحكام أحوالهم الشخصية. ويتنازل السلطان عن التدخل في شؤون البربر الدينية وغيرها. وليس له مطالبتهم بالشعائر الإسلامية كلها، وأنه يكل أمرهم إلى الإدارة الفرنسية تفعل بهم ما تشاء، والغاية منه هو تنصير البربر.

كان خبيثا، ويتساقطون على الجاه ولو من طرق دنيئة، فاتخذوا منها ألسنة تنطق، وأقلاماً تكتب، وأيدياً تبطش، فازداد قرحنا بأمثال هؤلاء فساداً، وأوشك داؤنا أن يكون عضالاً، ولا أقول: أصبح داؤنا عضالاً؛ لأن كل داء اجتماعي -بلغ من الخطر ما بلغ- قابل للعلاج وللبرء، إِلا أن تفقد الأمة أطباء يعرفون داءها، وينصحون في وصف دوائها. يزعم أولئك المستعمرون انهم هبطوا شمال أفريقية ليقيموا للحرية سوقاً نافقة، ويعلموا شعوبه كيف تكون الإنسانية المهذبة، نعم، هبطوا، فوضعوا على أبواب الحرية أقفالاً، وعلّموا الناس كيف يطغى الأقوياء على الضعفاء، ويذيقونهم العذاب ألواناً. يزعم أولئك المستعمرون أنهم هبطوا شمال أفريقية لينشروا مدنية ورفاهية، نعم، نشروا فيه جيوشاً من مقليهم يسمونهم: (المعمرين)، فاستولوا، وما زالوا يستولون على أخصب الأراضي بقانون جائر ويغير قانون، يحرصون أن يكونوا سادة مترفين، ويكون الوطنيون عبيداً بائسين، والمعمر هنالك يقتل الوطني رمياً بالرصاص، أو طعناً بمحدد لأقل سبب يثير غضبه، ولا يخشى أن يلقى على هذه الجناية الكبرى عقاباً. يزعم أولئك المستعمرون أنهم هبطوا شمال أفريقية ليعمروه بالعلوم والفنون، نعم، مسكوا بزمام إدارة المعارف، وحصروا التعليم في دائرة ضيقة، ورسموا له طرقاً ملتوية، كذلك يصنعون؛ لأنهم يشعرون أن العبودية والعلم لا يجتمعان في شعب إِلا أن يجتمع الليل والنهار في مكان. لم يكفهم وضع سلطانهم على الرقاب، وغلظة قلوبهم على الإرهاق، وجولة أيديهم في الأموال، وإفساد طريقة التعليم في المدارس، لم يشف

غليلهم هذا العسف والاضطهاد، فمدوا أيديهم ليصرفوا الإيمان عن قلوب أبنائنا، ويتبدلوا قوانينهم بأحكام شريعتنا. ألم ياتكم نبأ الفرنسيين بالمغرب الأقصى إذ يعملون على إخراج قبائل البربر من الحنيفية السمحة إلى النصرانية الكاثوليكية؟ ولا أطيل على حضراتكم بسرد الحجج على انهم يبذلون في هذه الغاية قوتهم، فقد قرأتم في مجلة "الفتح" وغيرها من الصحف وثائق لا يمسها الريب في حال. يقول الفرنسيون القائمون بحركة تنصير البربر: إن البربر لم يكونوا في يوم مسلمين بحق، يقولون هذا؛ ليخففوا عن المسلمين مصاب تنصيرهم، ويثبطوهم عن مقاومة هذه الحركة الباغية بما في وسعهم. ورأى المؤرخ ابن خلدون قد نظر إلى هذا الزعم بنور الله، وتصدى -وهو من علماء القرن الثامن- لرده بإسهاب، وإليكم نبذة مما قاله في وصف البربر من ناحية صدق إسلامها بعد أن تحدث عن كمال أخلاقها، وكرم طباعها، قال - رحمه الله -: "وأما إقامتهم لمراسم الشريعة، وأخذهم بأحكام الملة، ونصرهم لدين الله، فقد نقل عنهم من اتخاذ المعلمين كتاب الله لصبيانهم، والاستفتاء في فروض أعيانهم، واقتفاء الأئمة للصلوات في نواديهم، وتدارس القرآن بين أحيائهم، وتحكيم حملة الفقه في نوازلهم وقضاياهم، وصاغيتهم إلى أهل الخير والدين من أهل مصرهم للبركة في آثارهم، واغتشائهم البحر أفضل المرابطة والجهاد، وبيعهم النفوس من الله في سبيله وجهاد عدوه، ما يدل على رسوخ إيمانهم، وصحة معتقداتهم، ومتين ديانتهم التي كانت ملاكاً لعزهم، ومقاداً إلى سلطانهم، وكان المبرز في هذا المنتحل يوسف بن تاشفين،

وعبد المؤمن بن علي، وبنوهم، ثم يعقوب بن عبد الحق بعدهم، وبنوه". هذا ما يقوله ابن خلدون شاهداً لأمة البربر بمتانة الدين، والعمل لإعلاء كلمته، ومن درس تاريخ تونس والجزائر والمغرب الأقصى والأندلس، ووقف على سير الملوك والعلماء الذي هم من هذا القبيل، وجد فيهم الإيمان الصادق، والعمل لظهور الدين بحسن نية، وخلوص سريرة، ووثق بأنهم كانوا من الأجنحة التي حلَّق بها الإسلام على أوطان مظلمة، فنزل بها، وبسط نور هدايته في ربوعها. وقبائل كانت لها في الإسلام هذه القدم الراسخة، يدمي قلوب المسلمين أن تمضي فرنسا في إفساد عقائدهم، ومحو تعاليم القرآن من ديارهم، فحق على علماء الإسلام وحماته في الشرق والغرب أن يسهروا في ابتغاء الوسائل إلى قمع هذه الفتن التي أخذت ترفع رأسها، وتكشر عن أنيابها، ولا يهولنا ما يكتنفها من النّار والحديد، فإن العاقبة حكمة الدعاية، وقوة الحجة، والصبر على المكاره. والسلام عليكم ورحمة الله. محمّد الخضر حسين

قانون جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية: طرابلس، وتونس، والجزائر، ومراكش

قانون جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية: طرابلس، وتونس، والجزائر، ومراكش أتى حين من الدهر على جاليات شعوب أفريقية وهم في خمول وتجاف، وما كان لأوطان أنبتت فاتحًا كأسد بن الفرات، وملكاً خطيراً كعبد المؤمن ابن علي، وفيلسوفاً كابن خلدون، وأديباً كابن رشيق، أن تبقى الجاليات التي تمثلها في القاهرة، وهي عاصمة الشرق في نهضته العلمية والاجتماعية، بعيدة عن مظاهر الحياة الراقية، حتى فاتهم أن يقوموا بحق ذوي الحاجات منهم، ويضربوا بسوط الموعظة والأدب الجميل على يد من سولت له نفسه أن يكتسب بها إثماً، أو يضعها في حرفة غير مشروعة. وقد بصرت طوائف من هذه الجاليات أن في الاجتماع مصالح تقصر دونها أيدي الأفراد، وإن أوتوا كرم النفس وسعة المال، فأرادوا أن يقتفوا أثر غيرهم من جاليات الشعوب الأخرى فيما عقدوه من جمعيات تعبر عن إحساسات سامية، وعواطف شريفة. ولم تهدأ خواطرهم حتى نهضوا يتداعون لتأليف جمعية خيرية إصلاحية، فوجدوا روح الشعور بالحاجة إليها مبثوثاً في نفوس ذوي الفطر السليمة منهم، وما لبثوا أن عقدوا اجتماعاً خاصاً لبيان مقاصد الجمعية، ورسم نظام تسير به في استقامة ونشاط، فكانت صفوة المفاوضة هي المواد التالية: أولاً: تألفت في مدينة القاهرة جمعية خيرية إصلاحية تسمى: "جمعية

تعاون جاليات أفريقية الشمالية": طرابلس، وتونس، والجزائر، ومراكش. ثانياً: شعار الجمعية: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. ثالثاً: مقاصد الجمعية: 1 - تمهيد وسائل التعارف بين الطرابلسيين والتونسيين والجزائريين والمراكشيين، وإسعاف ذوي الحاجات منهم حسب الاستطاعة. 2 - تنوير أفكارهم وجعلهم على بصيرة ممّا يقتضيه حال العصر ونظم الاجتماع. 3 - بث الأخلاق الفاضلة بينهم، ودعوتهم بالتي هي أحسن إلى المظاهر الشريفة، والسير المحمودة. 4 - الدفاع عن حقوقهم بالطرق الحكيمة السليمة. 5 - يتوصل إلى هذه المقاصد الشريفة بإقامة منتدى تلقى فيه محاضرات علمية أدبية. رابعاً: أعضاء هذه الجمعية ثلاثة أقسام: 1 - عاملون: وهو كل طرابلسي، أو تونسي، أو جزائري، أو مراكشي يثبت على دفع معلوم الاشتراك المقرر في المادة الخامسة. 2 - ومساعدون: وهم الذين يقومون للجمعية بعمل إداري، أو علمي، أو إرشادي، أو بمراسلتها بما يعود على مقاصدها بفائدة. 3 - وأعضاء شرف: وهم الذين يتبرعون للجمعية بمبلغ ذي بال من المال، أو من يختارهم مجلس الادارة ليستنير في بعض الشؤون الخيرية أو الأدبية بآرائهم.

خامساً: ويصح أن يكون العضو المساعد وعضو الشرف من غير جاليات أفريقية شمالية. سادساً: مقدار الاشتراك العادي في هذه الجمعية خمسة قروش في كل شهر. سابعاً: تنتخب الجمعية العمومية، وهي هيئة الأعضاء العاملين مجلساً لإدارة شؤون الجمعية بطريق الاقتراع السري. وتكون وظيفته لمدة سنتين. ثامناً: يتألف مجلس الإدارة من رئيس، وسبعة أعضاء، وكاتب السر العام، وأمين الصندوق. تاسعاً: ينتخب من كل جالية من الجاليات الأربع (طرابلس، تونس، الجزائر، مراكش) عضوان، ثم إن الأعضاء ينتخبون الرئيس من بينهم بطريق الاقتراع السري. عاشراً: ينتخب أمين الصندوق وكاتب السر العام من قبل الجمعية العمومية. الحادي عشر: حرصاً على طول حياة الجمعية، ومحافظة على أن تكون مسؤولة أمام سلطة واحدة، يشترط في مجلس الإدارة أن يتألف من أبناء الجاليات الأربع الذين تجري عليهم أحكام الدولة المحلية المصرية" الثاني عشر: إذا خلا مكان أحد أعضاء، أو أمين الصندوق، أو كاتب السر العام، انعقدت الجمعية العمومية في أقرب وقت ممكن لانتخاب من يحل محله. الثالث عشر: لا يصرف شيء من أموال الجمعية إِلا بقرار من مجلس الإدارة، وإنما التوقيع يكون من الرئيس، وكاتب السر العام، وأمين الصندوق.

الرابع عشر: إذا تجاوز مال الجمعية مئة جنيه، يودع أمانة بلا فائدة في أحد البنوك باسم الجمعية. الخامس عشر: تنعقد الجمعية العمومية في منتهى كل سنة، وعندما يقتضي الحال اجتماعها، وذلك بدعوة كتابية من كاتب السر العام بعد الاتفاق مع الرئيس. السّادس عشر: تتكون أموال الجمعية من قيمة الاشتراك، وتبرعات أهل الفضل العارفين بما يترتب على تأليف الجمعيات الخيرية من الآثار الحميدة. السابع عشر: على مجلس الإدارة أن يقدم للجمعية العمومية تقريراً سنوياً ببيان أعمال الجمعية، وميزانيتها من واردات ومصروفات. الثامن عشر: تعديل هذا القانون يرجع إلى نظر الجمعية العمومية، وإنما يطرح على بساط المفاوضة إذا اقترحته طائفة من الأعضاء العاملين لا يقل عددهم عن عشرين عضواً، وللجمعية الحق في قبوله ورفضه. التاسع عشر: التعرض لتغيير شيء من مقاصد الجمعية، أو للإخلال بما ورد في المادة العاشرة من اشتراط أن يكون مجلس الإدارة مؤلفاً من أشخاص يتمتعون برعاية الدولة المحلية المصرية، يعد سعياً في إبطال الجمعية، وانفصالاً عن العضوية بها. العشرون: اطلع على هذا القانون جمع عظيم من الطرابلسيين والتونسيين والجزائريين والمراكشيين في القاهرة، وأجمعوا على قبوله، والتعاون على العمل بما يقتضيه، والله ولي التوفيق.

17 - القاديانية والبهائية

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (17) «القَادِيَانِيَّة وَالبَهَائِيَّة» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ هنا بداية الجزء 9/ 3، في المصور عاملينه أكنه تبع 9/ 2 بس أنا رقمته وهذا للعلم

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة في كل زمان ومكان يطل أعداء الإسلام برؤوسهم الخبيثة، وأفكارهم السقيمة، وأقلامهم الزائفة عن الحق، محاولين الطعن والمساس بالشريعة الإسلامية الغراء، فينبري لهم علماء أجلة يردون عن الدين كيدهم، ويدفعونهم على أعقابهم خاسئين خاسرين. وفي حياة الإمام الأكبر المرحوم محمّد الخضر حسين - رضوان الله عليه - مواقف عظيمة، ومشاهد جليلة، ذاد فيها عن الدين الحنيف هجمات الباطل التي قام بها حملة الضلال والإفساد، فصرعهم الحق، ورماهم في ظلام النسيان، ولم نسمع لهم فحيحاً من بعد. وطائفة القاديانية، وكذلك طائفة البهائية أو البابية، تعرض المؤلف لهما في هذا الكتاب، وكشف القناع عن زيف آرائهما، ودفع بالحجة الساطعة أباطيل دعوتيهما، وكان لهذه المقالات شأنها الكبير في فضح هاتين الطائفتين أمام أنظار المسلمين، وحصر البلاء في نطاق، ومنع انتشاره بين الناس، ومن ثمَّ القضاء عليه. وليعلم القارئ: أن جميع أبحاث هذا الكتاب سبق أن نشرت في مجلة "نور الإسلام" التي يصدرها الجامع الأزهر في القاهرة، وترأس الإمام رئاسة تحريرها فترة من الزمن، وقد أشرنا إلى ذلك في مطلع كل مقال. ونضيف:

أن بحث "طائفة القاديانية" سبق أن نشر في رسالة مطبوعة عام 1351 هـ بالقاهرة، كما أن بحث "البابية أو البهائية" نشر في كتاب "رسائل الإصلاح" الطبعة الأولى منه. والله نسأل السداد والتوفيق. على الرّضا الحسيني

طائفة القاديانية

طَائِفَةُ القَادِيَانِيَّة * طائفة القاديانية: غلام أحمد: أصله، وولادته، ونشأته - ادعاء غلام أحمد الوحي والنبوة والرسالة -زعمه أن له آيات على صدقه- غروره وتفضيله نفسه على بعض رسل الله الأكرمين - تكفيره لمن لا يؤمنون برسالته -القاديانية فرقتان- وجوب مقاومتهم، والتحذير منهم. * تفنيد مذهب القاديانية: خيبة مدعي النبوة كذباً - انقطاع النبوة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفع شبهة يتشبث بها القاديانية - دعوى غلام أحمد أنه أفضل من عيسى - عليه السلام - تكفير غلام أحمد لمن عصمهم الله من اتباعه -تزوير داعية القاديانية- اقتراح غلام أحمد على علماء الهند أن يتركوه عشر سنين - ادعاء غلام أحمد النبوة. * نقض شُبه القاديانية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93] (صدق الله العظيم) قيل للأحنف بن قيس:

- إن المختار بن عبيد يزعم أنه يوحى إليه. فقال: صدق، وتلا: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121].

طَائِفَةُ القَادِيَانِيَّة (¬1) بُعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بشريعة واضحة لا يحوم عليها لَبس، محكمة لا تدنو منها شُبهة، وتلقاها عنه رجال صفت بصائرهم، وتناهت في فهم سبل الخير عقولهم، فبلَّغوها كما أمروا، وجاهدوا في سبيلها حتى انتصروا، وما زال الدين الحق -ولن يزال- رفيعَ الدعائم، محفوظاً من أن تلعب به يد الأهواء والمكايد، والفضل في هذا الحفظ للكتاب الكريم، والسّنة الصحيحة؛ فإنهما قد وجدا - وسيجدان- في كل عصر عقولاً تنظر فيهما وهي مبرأة من كل عوج، بعيدة من كل هوى، فسرعان ما تبصر الحقائق محفوفة بحجج تقطع لسان كل جهول، وتفضح سريرة كل ختال فخور، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وقد دلنا التاريخ الصادق أن الدين الحنيف يُبتلى في كل عصر بنفوس نزّاعة إلى الغواية، فتتنكب عن الحقائق، وتمشي في تحريف كلمه مكبَّة على وجهها. وليس هذا الإغواء بمقصور على من يدّعون التفقه في الدين ولم يتفقهوا؛ ككثير من زعماء الفرق المنحرفة عن الرشد، بل يتعداهم إلى فئة تسوّل له ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء السابع من المجلد الثالث. كما طبع هذا البحث في رسالة خاصة عام 1351 هـ - بالقاهرة.

نفوسهم ادعاء أنهم مهبط الوحي، وأنهم يتلقون ما يقولونه بأفواههم من الله تعالى بدون وسيلة كتابه الحكيم، وحديث رسوله الكريم. ومن مدّعي النبوة من يذهب فينقطع دابره؛ كالحارث بن سعيد الذي ظهر في أيام عبد الملك بن مروان، واغتر به خلق حتى وقع في يد عبد الملك فقتله، ولم يبق له في الأرض أثر، وكإسحاق الأخرس الذي ظهر في خلافة السفّاح، واتبعه طوائف، وقتل فانقطعت فتنته. ومن مدعي النبوة من ييقى لدعوته أثر بعد موته، ومن هذا الصنف غلام أحمد مبتدع النحلة القاديانية. كثيراً ما وردتنا رسائل من البلاد العربية وغيرها -كأمريكا- يسأل كاتبوها عن أصل هذه النحلة، ومبلغ صلتها بالإسلام، وبالأحرى: بعد أن ظهر المقال الذي كشفنا فيه الغطاء عن النحلة البهائية، ونشرناه في الجزء الخامس من المجلد الأول من مجلة "نور الإسلام" (¬1). ووردتنا رسائل أخرى مطوية على ما يصرح به دعاة هذه النحلة من الآراء، ويقترح مرسلوها نقد هذه الآراء، وتحذير المسلمين من الوقوع في مهالكها، ولم نشأ التعرض للكتابة في شأنها قبل اليوم؛ إذ لم يكن لدينا من كتب أصحابها ما نطلع به على أساسها، ونعرف منه حال واضعها. وقد انساق إلينا اليوم من كتب مبتدعها غلام أحمد وبعض دعاتها ما جعلنا على بينة من أمرها، وها نحن أولاء نضع أمام حضرات القراء فصولاً فيما تقوم عليه هذه النحلة من المزاعم الخاطئة، ونلقي عليهم كلمات في نشأة واضعها؛ ليكونوا على بصيرة من أنها دعوى زائغة، ولا يغيب عنهم ¬

_ (¬1) المقال منشور في هذا الكتاب.

غلام أحمد: أصله، وولادته، ونشأته

أن دعاتها الذين يجوسون خلال ديار الإسلام إنما يثيرون في نفوس شبابنا فتنة، والفتنة أشد من القتل. * غلام أحمد: أصله، وولادته، ونشأته: ساق غلام أحمد نسبه، فذكر أن آباءه كانوا يسكنون "سمرقند"، ثم رحلوا إلى الهند، واستوطنوا "قاديان"، وصارت لهم الرياسة في تلك الناحية. ثم دارت عليهم الدوائر، وانهالت عليهم المصائب، وذهبت عنهم تلك الرياسة، ونهبت أموالهم، وقال: "ثم ردّ الله إلى أبي بعض القرى في عهد الدولة البريطانية". ولد غلام أحمد سنة 1252 هـ، ولما بلغ سن التعليم، شرع في قراءة القرآن، وبعض الكتب الفارسية، ولما بلغ العاشرة من عمره، تعلم اللغة العربية، ولما بلغ السابعة عشرة، اتصل بأستاذ، فتلقى عنه النحو والمنطق والفلسفة. وقرأ على أبيه كتباً في علم الطب. أنها العلوم الدينية، فلم يدرسها على أي معلم، وإنما كان له ولوع بمطالعتها (¬1). وعندما قطع مسافة في التعلم، كانت السلطة البريطانية قد امتدت على "البنجاب"، وكان الشبان يطمحون إلى المناصب، فاندفع غلام أحمد يبحث عن وظيفة، فذهب إلى "سيلكوت"، وتقلد وظيفة في إدارة نائب المندوب السامي، ثم استقال منها بعد أربعة أعوام؛ إجابة لرغبة أبيه الذي رأى نفسه في حاجة إلى مساعدته له في إدارة شؤونه الخاصة. ¬

_ (¬1) عن كتاب باللسان الإنجليزي لمحمود بن غلام أحمد اسمه: "أحمد رسول آخر الزمان".

وفي سنة 1876 م (¬1) مرض أبوه، فزعم غلام أحمد أنه نزل عليه وحي من الله بأن أباه سيموت بعد الغروب، وكان هذا الإخبار في زعمهم أول وحي نزل عليه. وأخذ بعد هذا يصرح ببعض آراء زاعماً أنه يتلقاها من طريق الوحي، وكان المسلمون يلاقون هذه المزاعم بالإنكار الشديد، فرحل إلى بلدة "لودهيانة"، وأذاع منشوراً أعلن فيه أنه المسيح المنتظر، فقام في وجهه علماء الشريعة بالإنكار، ومن بين هؤلاء العلماء: مولوي محمد حسين صاحب جريدة "إشاعة السنّة". ودعا مولوي محمد حسين كثيراً من العلماء إلى "لودهيانة" لمناظرة غلام أحمد، ولكن الوالي (الكوميسر) في هذه الناحية كان في جانبه؛ فمنع من عقد المناظرة، وأرغم مولوي محمد حسين ومن معه من العلماء على مغادرة البلد في اليوم نفسه. ثم انتقل غلام أحمد إلى "دهلي" داعياً إلى نحلته، فواجهه العلماء بالإنكار، وطلبوه للمناظرة فيما يدعو إليه، وقرروا أن يتولى مناظرته مولوي نظير حسين أستاذ الحديث، فلم يجب غلام أحمد للمناظرة، ولكن -كما يقول أتباعه- دعا مولوي نظير حسين إلى المباهلة: بأن يحلف هذا الأستاذ على أن عيسى بن مريم - عليه السلام - لم يزل حياً، وإذا حلف، ولم ينزل عليه في خلال سنة بلاء، يكون غلام أحمد كاذباً في نبوته، ولكن مولوي نظير حسين ومن معه من العلماء أبوا أن يسلكوا مع غلام أحمد هذه الطريقة بدل ما دعوه إليه من المناظرة. وبعد هذا دعا أهالي "دهلي" مولوي محمود بشير من مدينة "بهوبال" ¬

_ (¬1) نستعمل التاريخ الإفرنجي؛ لأنه الوارد في كتبهم التي ننقل عنها هذه الحوادث.

لمناظرة غلام أحمد، حكى هذا محمود بن غلام أحمد، ولم يزد على أن قال: وطبعت هذا المناظرة. وفي سنة 1892 ذهب إلى "لاهور" أيضاً، فجرت بينه وبين مولوي عبد الحكيم مناظرة؛ ذكر هذه المناظرة أيضاً محمود بن غلام أحمد، ولم يتعرض لوصفها، أو لمن كان له الفوز في نهايتها وفي سنة 1896 عقد مؤتمر الأديان في "لاهور"، وحضره ممثلو ملك كثيرة، ويقول محمود بن غلام أحمد: إن غلام أحمد هو الذي اقترح عقد هذا، المؤتمر، وغرضه من هذا الاقتراح: تعريف العالم بحقيقة رسالته، وقالوا: إنه كان عندما شرع في كتابة المقال الذي أراد إلقاءه في المؤتمر، أخذه إسهال عنيف، ثم أتمه، وزعموا أنه أوحي إليه بأن مقاله سيفوق كل ما يلقى في المؤتمر، ولا ينتظر منهم بعد هذا إِلا أن يقولوا: إن مقاله في الموّتمر كان فوق كل مقال، وذكروا أن أتباعه لذلك الحين لا يزيدون على ثلاث مئة شخص. وفي سنة 1897 دعا حسين كامي سفير تركيا في البنجاب غلام أحمد للاجتماع، فلم يجب، فذهب إليه بنفسه، وسمع منه ما يدَّعيه من نزول الوحي، وبعد انصرافه عنه، نشر في صحف "لاهور" مقالاً أنكر فيه ما يدعيه غلام أحمد أشد الإنكار، وكان لهذا المقال أثر في ازدياد حنق المسلمين على غلام أحمد في تلك البلاد. وفي تلك السنة نشر غلام أحمد تحت عنوان: (الصلح خير) خطاباً لعلّماء الإسلام يدعوهم فيه أن يكفوا عن معارضته، والتشنيع عليه مدة عشر سنين، فإذا كان كاذباً، فسيصادفه ما يظهر كذبه، وإذا تبين صدقه، فستكون هذه الهدنة سبباً لمعرفتهم للحق، ونجاتهم من العقاب الذي

ينزله الله على من يناوئونه. ولم تجد هذه المكيدة عند علماء الإسلام غباوة، فرفضوا هذا الاقتراح، واستمروا على تفنيد آرائه، وتحذير الناس من السقوط في ضلالته. وفي هذه السنة قصد غلام أحمد إلى التخلص من حملة المنكرين عليه، فلجأ إلى حكم الهند العام، وقدم له مطلبًا قال فيه: إن أصل اضطراب الهند هو المشاغبات الدينية، فيجب وضع قانون يسوغ لأتباع كل دين إظهار حقائق دينهم، ويحميهم من تعرض غيرهم له. وفي سنة 1898 وضع لأتباعه قانوناً هو أن لا يزوجوا بناتهم لمن لم يكن مصدقا بنبوته، وفي هذه السنة أسس مدرسة بقاديان لتعليم أبناء شيعته حتى يشبوا على مبادى نحلته. وفي سنة 1900 بنى مسجداً بقاديان، ولكن أقاربه الذين سلمهم الله من نزعاته بنوا أمام هذا المسجد جداراً جعل أشياعه لا يصلون إلى المسجد إِلا بعد أن يمشوا مسافة طويلة، فرفع غلام أحمد عليهم دعوى، فقضت المحكمة لإزالة الجدار. وفي هذه السنة ألقى على طائفته الخطبة التي يسميها: "الخطبة الإلهامية"، وأتباعه يعدونها من معجزاته، وسننقل فيما بعد شيئاً من هذيانها وضلالاتها. وفي سنة 1901 أمر أتباعه بإحصاء عددهم، وتقييد أسمائهم في سجل، قال ابنه محمود بشير: هذه السنة مبدأ التفريق بينهم وبين المسلمين. وفي سنة 1902 أصدر مجلة لنشر مذهبه سماها مجلة: "الأديان"، وهي تنشر باللغتين: الأوردية والإنكليزية، وكان يكتب فيها بعض مقالات بنفسه. وفي هذه السنة أقام عليه السيد كريم الدين قضية ادعى فيها أنه تناوله

بالقذف، واستدعي غلام أحمد إلى المحاكمة ببلدة "جهلوم"، وحضر لدى المحكمة، فقضت ببراءته. وفي سنة 1903 قتل أحد دعاة مذهبه، وهو سيد عبد اللطيف بمدينة "كابل" بسبب مروقه من الدين، وفي هذه السنة كتب غلام أحمد مقالاً خرج فيه إلى شتم السيد كريم الدين حتى قال عنه: إنه كذاب لئيم، فرفع عليه السيد كريم الدين قضية قذف ثانية، واستدعي غلام أحمد إلى المحاكمة ببلدة "جردسبور"، فقضت عليه المحكمة بغرامة قدرها 500 روبية، فاستأنف القضية لدى محكمة "أمرتسر"، وكان القاضي إنجليزياً، فنقض الحكم الأول، وقضى ببراءته. وسافر بعد إلى، "لاهور"، و"سيلكوت، ليخطب داعياً إلى مذهبه، فأصدر العلماء هنالك منشوراً ينصحون فيه الناس بأن لا يستمعوا إلى خطبه، وخطب مرّة واحدة، فثار الناس عليه بالإنكار، وحاولوا رميه بالحجارة، ولكنه كان -كما هو شأنه في هذه المواقع- محاطاً بالشرطة (البوليس)، فحموه حتى ركب القطار هارباً. وفي سنة 1955 أسس مدرسة دينية عربية في "قاديان" لتخريج دعاة عارفين بمقاصد نحلته، وفي هذه السنة سافر إلى "دهلي"، فقام العلماء في وجهه، ولم يتمكن من الخطابة في محل عام، إِلا أن دعا طائفة إلى المنزل الذي يقيم فيه؛ ليبث بينهم مبادئ مذهبه، فلقي من بعض الحاضرين معارضة وإنكاراً، فغادر المدينة خائباً. وعند عودته من "دهلي" مر على بلد "أمرتسر"، وعزم على إلقاء خطبة في قاعة المحاضرات، وجاء العلماء يحذرون الناس من الاستماع إليه، ولما

دخل قاعة المحاضرات، وأخذ يخطب، قدم له أحد أتباعه قدح شاي، وكان الاجتماع في نهار رمضان، فأخذ منه الرشفة الأولى، فصاح الحاضرون بالإنكار عليه، فأجاب بأنه مسافر، وقد رخص للمسافر الفطر في رمضان، ووقع عقب هذا هياج، فانقطع عن الخطابة، وانصرف في حماية الشرطة (البوليس)، واضطر إلى مغادرة المدينة. وفي سنة 1905 زعم أنه أوحي إليه أن أجله قد قرب، وكتب الكتاب المعروف عندهم بالوصاية، ولكن أجله امتد بعد هذا نحو ثلاث سنين، وفي هذه السنة زعم أنه أوحي إليه بإنشاء مقبرة خاصة لأتباعه، وفرض على من يريد الدفن فيها أن يهب لخزنتهم ربع ماله. وفي سنة 1907 قامت حركة وطنية في "البنجاب"، فانحاز غلام أحمد إلى جانب الحكومة، وأذاع منشوراً دعا فيه أتباعه إلى موالاة الحكومة ومساعدتها على إخماد الحركة الوطنية، ففعلوا. وفي هذه السنة انعقد مؤتمر الأديان في "لاهور"، وحضره مندوبو الديانات، وبعث غلام أحمد مقالاً ليقرأ في المؤتمر، ولما قام أحد أتباعه لقراءته، قابله جماعة من الحاضرين بالازدراء، ورموه بكلمات الاستهزاء. وفي سنة 1908 ذهب إلى "لاهور"، وعندما وصل إليها، أنكر المسلمون مجيئه، وصار العلماء يجتمعون كل يوم بعد صلاة العصر في براح حول منزله، ويلقون خطباً يحذرون فيها الناس من الاغترار بمزاعمه. وكان غلام أحمد مبتلى بإسهال مزمن، فاشتد عليه وهو في "لاهور"، ومات في مايو من هذه السنة 1908 الموافقة لسنة 1326 هجرية، ونقل إلى "قاديان"، ودفن بها، وانتخب أتباعه لرياسة المذهب حكيم نور الدين حتى

ادعاء غلام أحمد الوحي والنبوة والرسالة

مات سنة 1914، فانتقلت الرياسة إلى بشير الدين محمود ابن واضع هذه النحلة غلام أحمد، وهو رئيسهم لهذا العهد. * ادعاء غلام أحمد الوحي والنبوة والرسالة: يزعم غلام أحمد أنه ينزل عليه الوحي، ومما قاله في الخطبة الإلهامية: "هذا هو الكتاب الذي ألهمت حصة منه من رب العباد في يوم عيد من الأعياد". ثم قال: "بل هي حقائق أوحيت إليّ من رب الكائنات لا. ثم قال: "وقد أوحي إليّ من ربي قبل أن ينزل الطّاعون أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا". ولم يدَّع أحد من الصحابة، ولا من السلف الصالح أنه يأتيه الوحي من الله، ولو اقتصر غلام أحمد على دعوى الوحي، لقلنا: لعله يريد من الوحي: الإلهام، كما قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل: 68]. ويبقى النظر فيما زعم من الإلهام، فإن كان موافقاً لنصوص الدين أو أصوله، سكتنا عنه، وإن كان مخالفاً لشيء منه، رددناه عليه. ولكنه يصرح في كتبه بأنه نبي ورسول، قال في الخطبة الإلهامية: "أرأيتم إن كنت من عند الله، ثم كذبتموني، فما بالكم أيها المكذبون". وقال: "إنكم ترون كيف تنصر الناس، وارتدوا من دين الله؛ ثم تقولون: ما جاء مرسل من عند الله، مالكم كيف تحكمون". وقال: "فأنعم الله على هذه -يعني: أمة الإسلام- بإرسال مثيل عيسى، وهل ينكر بعده إِلا العمون". وقال: "وكان عيسى علماً لبني إسرائيل، وأنا علم لكم أيها المفرطون"!. وفي منشور لأصحابه عنوانه: "شرائط الدخول في جماعة الأحمدية" ما نصه: "إن المسيح الموعود -يعني: غلام أحمد- كان مرسلاً من الله تعالى،

وإنكار رسل الله تعالى جسارة عظيمة قد تؤدي إلى الحرمان من الإيمان". وقال أحد دعاتهم أبو العطاء الجلندهري: "كلَّم الله أحمد -يعني: غلام أحمد- بجميع الطرق التي يكلم بها أنبياءه؛ لأن الأنبياء في وصف النبوة سواء (¬1) ". يدّعي غلام أحمد النبوة والرسالة غير مبال بالقرآن والسنّة وإجماع الأمة، في هذه الأصول الثلاثة حجج على أن المصطفى - صلوات الله عليه - هو آخر النبيين والمرسلين. أما القرآن، ففي قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. فعلى قراءة (خاتم) بكسر التاء، يكون وصفاً له - عليه الصلاة والسلام - بأنه ختم الأنبياء؛ أي: لا ينال أحد بعده مقام النبوة، فمن ادعاها، فقد ادعى ما ليس له به من سلطان. وقراءة (خاتم) بفتح التاء ترجع إلى هذا المعنى؛ فإن الخاتم -بالفتح- كالخاتم -بالكسر- يستعمل بمعنى: الآخر، ذكر هذا علماء اللغة، وجرى عليه المفسرون المحققون، وجاءت السنة الصحيحة مبينة لهذا المعنى، ففي "صحيح الإمام البخاري" عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي، خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي". وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله إِلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلّا وضعت ¬

_ (¬1) "البشارة الإسلامية الأحمدية".

هذه اللبنة"، قال: "فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين". وفي رواية مسلم عن جابر - رضي الله عنه -: "فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء". وروى الإمام أحمد بسنده إلى أبي الطفيل: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نبوة بعدي إِلا المبشرات"، قيل: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: "الرؤيا الحسنة -أو قال- الرؤيا الصالحة". إلى غير هذا من الأحاديث وآثار الصحابة الصريحة في أن النبوة انتهت بنبوته - عليه الصلاة والسلام -، وعلى هذا انعقد إجماع المسلمين، وأصبح بمنزلة المعلوم من الدين بالضرورة. قال الإمام ابن كثير عند تفسير: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]: "وقد أخبر الله تعالى في كتابه، ورسوله في السنة المتواترة عنه: أنه لا نبي بعده؛ ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده، فهو كذّاب أفاك دجال مضل". وقال الألوسي في "تفسيره": "وكونه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين ممّا نطق به الكتاب، وصدعت به السنّة، وأجمعت عليه الأمة. فيكفر مدّعي خلافه". وما كان لمسلم أن يؤول القرآن والسنّة الصحيحة تأويل من لا ينصح لله ورسوله ليجيب داعية هوى في نفسه، وانظروا إلى غلام أحمد وطائفته كيف تخبطوا في تأويل: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، وما يبينها من الأحاديث المحكمة، ولا داعي لهم إلى هذا التخبط، إِلا أن رجلاً من "قاديان" استحب الهوى على الهدى، فأدعى أنه نبي مرسل، وملأ فمه باللغو وقول الزور، والتملق لغير المسلمين. ومن وجوه تأويله حمله لحديث: "لا نبي بعدي" على معنى أنه لا يأتي بعده نبي من غير أمته. وهذا الوجه اختلسه من متنبئ آخر يقال له: إسحاق الأخرس ظهر في

أيام السفّاح؛ فإنه زعم أن ملكين جاءاه وبشراه بالنبوة، فقال لهما: وكيف ذلك وقد أخبر الله تعالى عن سيدنا محمد أنه خاتم النبيين؟ فقالا له: صدقت، ولكن الله أراد بذلك أنه خاتم النبيين الذين هم على غير ملته وشريعته. وليس الوحي عند هذه الطائفة بمقصور على زعيم نحلتهم، بل يدَّعون أن أتباعه أيضاً ينزل عليهم الوحي، ومما رأيناه في منشور وضعه رئيسهم لهذا العهد، وترجمه عبد المجيد كامل، وطبع في مصر: "أن طريق الوحي لا يمكن أن يسد في وجوه الناس"، وفي هذا المنشور: "أن المهدي والمسيح قد ظهر في الهند بمحل يقال له: "قاديان"، وانه يوجد الآن آلاف من حواريه يستمعون الوحي الإلهي". ومما زعم غلام أحمد أنه أوحي به إليه: "وإني جاعلك للناس إماماً ينصرك رجال نوحي إليهم". بأي لسان يدّعون الوحي، وهذه مقالات غلام أحمد ورسائله طافحة بأقوال منقطعة عن الحكمة، عارية عن الصدق، والمعقول منها قد قاله أناس، أو قالوا مثله، أو خيراً منه، ولم يخطر على بالهم ادعاء أنه وحي كلمهم به الله تعالى، أو نزل عليهم به الرُّوح الأمين! ومن خطله المكشوف: أنه يأتي إلى آيات أو جمل من القرآن المجيد، فينقلها كما هي، ويضم بعضها إلى بعض في صحائف، ويزعم أنها وحي نزل عليه. ينكرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، ويوردون على هذا شبهاً لا تزن عند أولي العلم جناح بعوضة، كما استدلوا بقوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]. متشبثين بأن قوله: {يَصْطَفِي} فعل مضارع، والمضارع للاستقبال.

ودفعُ هذه الشبهة أن الفعل الواقع في الماضي قد يعبر عنه بصيغة المضارع لمقتضيات بلاغية، منها: أن يكون المعنى موضع غرابة؛ فإن المضارع من جهة دلالته على الحال يتوسل به المتكلم البليغ إلى إخراج الحادث الغريب في صورة الواقع في الحال؛ ليبلغ تعجب المخاطب من وقوعه مبلغ تعجبه من الصورة البديعة في حال مشاهدتها. وعلى هذا الوجه ورد قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]. قال: {فَيَكُونُ}، والموضع في الظاهر للماضي؛ لأن وجود إنسان من غير أب حادث غريب، فحاله يقتضي أن يعبر عنه بالمضارع؛ لإحضاره في ذهن المخاطب حتى فإنه مشاهد له. ومن دواعي التعبير عن الماضي بصيغة المضارع: الإشارة إلى استمرار الفعل وتجدده فيما مضى حيناً بعد حين؛ فإن الاستمرار التجددي يستفاد من المضارع على ما جرى عليه استعمال البلغاء، وصيغة الماضي لا تعرج على هذا المعنى. فالتعبير بصيغة المضارع في قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]. يدل على معنى زائد على أصل الاصطفاء الذي يدل عليه الماضي، ويقف عنده. وذلك المعنى هو أن اصطفاء الرسل كان يتجدد، ويقع مرّة بعد أخرى، والقرينة الشّاهدة بأن {يَصْطَفِي} مراد منه الاصطفاء الواقع قبل نزول هذه الآية هي آية: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، والأحاديث المستفيضة في إغلاق باب الرسالة والنبوة.

فاستعمال المضارع موضع الماضي في كلام البلغاء خارج عن حد الإحصاء، وًايات الكتاب يفسر بعضها بعضاً، كما أن السنّة تبين الكتاب. ويزعم غلام أحمد أنه رسول، وانه هو المراد من الحديث الوارد في نزول ابن مريم حكماً عدلاً، وأخذ يمشي في تأويل ألفاظ الحديث على عوج، على أنه حاول في الخطبة الإلهامية صرف الناس عن العمل بالأحاديث النبوية، وحرّف كثيراً من آيات القرآن المجيد على زعم أنه نزلت لتخبر بظهوره، وتنوه بشأنه، منها قوله في آية: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم: 12]: "هذه بشارة بأنه سيكون في هذه الأمة الإسلامية رجل في درجة مريم الصديقة، ثم ينفخ فيه روح عيسى، فبهذا مريم يخرج منه عيسى؛ أي: أن الرَّجل ينتقل من صفاته المريمية إلى صفاته العيسوية، فكأنما كينونته المريمية أنتجت كينونته العيسوية، وبهذا المعنى يسمى ذلك الرجل: ابن مريم). ولا نريد أن نكثر في هذا المقام من ذلك اللغو والهزل، إِلا أن تدعو الحاجة إلى زيادة الكشف عن فضائح هذه النحلة من بعد. بدا لغلام أحمد أن يدّعي النبوة والرسالة، وخشي خيبة دعوته حتى لدى العامة الذين يأبون الخروج من الإسلام إلى نحلة تعلن أنها ناسخة له، فادّعى أن رسالته مؤيدة للإسلام، لا ناسخة لشريعته، فقال في الخطبة الإلهامية: "أم يقولون: إنا لا نرى ضرورة مسيح ولا مهدي، وكفانا القرآن، وأنا مهتدون، ويعلمون أن القرآن لا يمسه إِلا المطهرون، فاشتدت الحاجة إلى مفسر زكي من أيدي الله، وأدخل في الذين يبصرون".

زعمه أن له آيات على صدقه

قال هذا ليتألف الغافلين، ولما كانت في نفسه حاجات يريد قضاءها، وعرف أن هذه الحاجات ينبذها الكتاب والسنّة، حاول إسقاط السنّة من أصول الشريعة، وفتح بعد هذا لتأويل القرآن باباً من صنف الأبواب التي فتحها الباطنية من قبله، فأصبح في غنى عن ادعاء أنه جاء بشريعة مستقلة؛ إذله أن يقرر هو وأتباعه ما تدعوهم إليه أهواؤهم، فإن قيل لهم: هذا يخالف نص الشارع الحكيم، أنكروا صحة النص، أو دخلوا إلى تأويله من الباب الذي دخل منه الباطنية وهم يمكرون. * زعمه أن له آيات على صدقه: قال غلام أحمد في الخطبة الإلهامية: "وإن تعدوا دلائل صدقي، لا تحصوها"، ولم نقف على شيء من هذه الدلائل إِلا ما يشابه براءته من قضايا القذف التي كانت تقام عليه، أو نجاته من أذى العامة حيث يكون محاطاً بالشرطي، محروساً من الحكومة بقوة الحديد، وأراد أن يجعل دليل صدقه رواج دعوته عند طائفة الغافلين عن سبيل الحق، فقال في الخطبة الإلهامية: "ولو كان هذا الأمر والشأن من عند غير الله، لمزق كل ممزق، ولجمع علينا لعنة الأرض والسماء، ولأفاز الله أعدائي بكل ما يريدون". وقد لقي كثير من الدعاوى المزورة مثلما لقيت دعوته أفراداً ضربت في نفوسهم الجهالة، فلا يقدرون مقام النبوة والرسالة، ولا يفرقون بين من يدعيها حقاً، ومن يدعيها وهو لا يرجو لله وقاراً، ولو كان رواج الآراء بين طائفة من البشر دليلاً على أنها حق، لكانت البهائية من المذاهب الرشيدة، والقاديانيون يعدونها كما يعدها المسلمون نحلة غاوية. وإن للباطل لصولة، حتى إذا أخذ أهل العلم بيد الحق، وأحكموا أساليب الدفاع عنه، تضاءل الباطل،

فإما أن ينقطع أثره، وإما أن يبقى شعار فئة كان لله في إيثارها الظلام على النور حكمة بالغة. يذكر غلام أحمد في مؤلفاته: المباهلة، ويزعم أنها تجري بينه وبين بعض المنكرين عليه، فيكون الظفر له، ولسوء حظه سلك هذه الطريقة مع الأستاذ أبي الوفاء ثناء الله، فخسرت مباهلته، وتركها آية تنادي بخذلانه، ولكن بعض المكبين على الباطل في صمم، فهم لا يسمعون. ضاقت الأرض على غلام أحمد عندما نهض الأستاذ العلامة مولوي ثناء الله لإبطال نحلته، ورمى بالحجج الدامغة، فكتب غلام أحمد دعاء طويلاً خاطب فيه الشيخ ثناء الله. وهذا هو: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] حضرة المولوي ثناء الله. السلام على من اتبع الهدى، إن سلسلة تكذيبي جارية في جريدتكم "أهل الحديث" من مدة طويلة، أنتم تشهدون فيها أني كاذب دجال مفسد مغتر، ودعواي للمسيحية الموعودة كذب وافتراء على الله، إنِّي أوذيت فيكم إيذاء، وصبرت عليه صبراً جميلاً، لكن لما كنت مأموراً بتبليغ الحق من الله، وأنتم تصدون الناس عني، فأنا أدعو الله قائلاً: يا مالكي البصير القدير العليم الخبير! تعلم ما في نفسي، إن كان دعواي للمسيحية الموعودة افتراء مني، وأنا في نظرك مفسد كذاب، والافتراء في الليل والنهار شغلي، فيا مالكي! أنا أدعوك بالتضرع والإلحاح أن تميتني قبل المولوي ثناء الله، واجعله وجماعته مسرورين بموتي، يا مرسلي! أدعوك آخذاً بحظيرة القدس لك أن تفصل بيني وبين المولوي ثناء الله: أنه من كان مفسداً في

غروره وتفضيله نفسه على بعض رسل الله الأكرمين

نظرك، كاذباً عندك، فتوفه قبل الصادق منا، {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]. الراقم عبد الله الصمد مرزا غلام أحمد المسيح الموعود عافاه الله وأيد عزّه ربيع الأول 1325 وصدر هذا الدعاء في أول يوم من رييع الأول 1325 (15 أبريل 1907)، وقد مات غلام أحمد بعد هذا الدُّعاء بنحو سنة، أنها الأستاذ ثناء الله، فهو ما زال يتمتع بالسلامة لهذا العهد، وما زال يعمل للذود عن الدين الحنيف، والكشف عن فضائح تلك النحلة المزورة. يعلم غلام أحمد أن يده فارغة مما يصلح أن يكون دليلاً أو شبه دليل على نبوته، فانتهز ظهور الطّاعون بالبنجاب فرصة لاصطياد الغافلين المستضعفين، فزعم أنه أوحي إليه بأن هذا الطاعون ينجو منه من يؤمنون به بقلب خالص، أو يكفون في الأقل عن تكذيبه وذمه، ويحملون له في قلوبهم تعظيماً (¬1)، قال هذا ليستهوي الأغبياء الذين شأنهم الانقياد إلى من يعدهم بالنجاة من كل بلاء هو نازل بهم، وإن لم يعدهم إِلا غروراً. * غروره وتفضيله نفسه على بعض رسل الله الأكرمين: ملك غلام أحمد الغرور والتعاظم، فانهال يحثو لنفسه من الإطراء ما شاء، ومما أورده في كتاب الاستفتاء على أنه خطاب له من الله تعالى: "أنت ¬

_ (¬1) من مقال له نشر في كتاب "تعاليم المسيح الموعود".

تكفيره لمن لا يؤمنون برسالته

مني بمنزلة توحيدي وتفريدي، أنت مني بمنزلة عرشي، أنت مني بمنزلة ولدي". وقال في مقال له ورد في كتاب "أحمد رسول العالم الموعود": "فالواقع أن الله القدير قد أبلغني أن مسيح السلالة الإسلامية أعظم من مسيح السلالة الموسوية"، ويعني بمسيح السلالة الإسلامية: نفسه، فغلام أحمد يزعم أنه أفضل من عيسى - عليه السلام -. ومما ادعى أن الله خاطبه به: "إني خلقتك من جوهر عيسى، وإنك وعيسى من جوهر واحد، وكشيء واحد (¬1) ". ووقع في يدي كتاب لغلام أحمد نقله أحد أتباعه إلى العربية، فوجدته قد تحدث فيه عن الوحي، ثم ذكر مقامًا: "يشافه الله فيه العبد بالكلام، وينطق في باطنه، ويتخذ من جنانه عرشه، ويعطيه كل نعمة مما كان قد أعطاها الأولين". ثم قال: "إنني لأكون قد ظلمت بني نوعي إن لم أعلن لهم في هذه السّاعة أنني على ذلك المقام الروحي الذي وصفته هذا الوصف، وأن الله قد أعطاني من المكالمة المرتبة التي ذكرتها بالتفصيل". وذكر الشيخ ثناء الله جملاً صدرت من غلام أحمد مأخوذة من كتبه، وله مؤلفات بالأوردية والفارسية، ومن هذه الجمل قوله: "اتركوا ذكر ابن مريم؛ فإن غلام أحمد خير منه". ومنها قوله: "ما أعطاه الله لكل نبي واحداً واحداً أعطاه لي جميعاً". ومنها قوله: "قال الله: إنّ أمْرَك إذا أردت شيئاً أن تقول له: كن فيكون". ومؤلفاته مملوءة بمثل هذه الجمل الطاغية. * تكفيره لمن لا يؤمنون برسالته: يجعل غلام أحمد المسلمين الذين لا يقبلون دعوته كفاراً، ويمثلهم ¬

_ (¬1) "حمامة البشرى".

في كتبه باليهود، ومما قال في الخطبة الإلهامية: "فإن نبيّنا المصطفى كان مثيل موسى. وكانت سلسلة خلافة الإسلام كمثل سلسلة خلافة الكليم - عليه من الله السلام -، فوجب من ضرورة هذه المقابلة والمماثلة أن يظهر في آخر هذه السلسلة مسيح كمسيح السلسلة الموسوية؛ ويهود كاليهود الذين كفروا عيسى وكذبوه". وكرر هذا المعنى، وهو تمثيل نفسه بعيسى - عليه السلام -، وتمثيل المسلمين الذين ازدروا دعوته باليهود في كتبه كثيراً. وفي نشرتهم "شرائط الدخول في الأحمدية" التصريح بأن المسلمين الذين يكذبون غلام أحمد أحط درجة من المنافقين. وفي نص عبارتهم: "وكذلك لا يجوز لأحمدي أن يصلي على غير أحمدي. فكأنه بفعله يشفع إلى الله لمن أصر على مخالفة المسيح وإنكاره، ومات عليه. مع أن الله يمنع أن يصلّى على المنافقين. فكيف على من كفر بمأمور من الله؟ ". وقد يصف غلام أحمد المسلمين بأنهم أعداء لأهل مذهبه؛ كما قال في مقال (¬1) يخاطب فيه أتباعه: "فاذكروا دائماً أن الحكومة الإنكليزية هي رحمة وبركة لكم. فهي الدرع التي تقيكم. إن الإنكليز خير ألف مرّة من المسلمين الذين هم أعداؤكم"!. وعلم غلام أحمد أن علماء الإسلام هم الذين يعرفون سريرته. ويحذرون الناس من فتنته، فكان يكثر من قذفهم، ويحثّ أتباعه على بغضهم، قال في مقال له نشر في كتاب "تعاليم المسيح المنتظر": "ونصيحتي لجميع أتباعي أن يبغضوا المولوية -علماء المسلمين- الذين يريقون الدم الإنساني تحت ستار الدين، ويأتون من الآثام أسوأها وراء حجاب التقوى، وعلى ¬

_ (¬1) ورد هذا المقال في كتاب لهم يسمى: "أحمد رسول العالم الموعود".

القاديانية فرقتان

أتباعي أن يقدروا هذه الحكومة الإنكليزية، ويظهروا لها شكرهم واعترافهم بالجميل، بالولاء وحسن الطاعة". ويرى (رسول آخر الزمان) غلام أحمد بعده من المسلمين نعمة تستحق الشكر. كتب الدكتور زكي كرام من "برلين" إلى جريدة "حضرموت" بجاوة مقالاً تحدث فيه عن القاديانية في برلين، ونشرته في العدد الصادر يوم السبت 8 المحرم سنة 1351، ومما قال في هذا المقال: إنه زار هو والأمير شكيب أرسلان إمام الجامع الذي بنته هذه الطائفة ببرلين. فأطلعهم الإمام على كتاب لغلام أحمد نفسه، فنقل منه الأمير جملاً، ومن هذه الجمل: أنه - أي: غلام أحمد - "يحمد الله حيث ولد تحت راية إنكليزية وبعيداً من المسلمين"!. * القاديانية فرقتان: كانت القاديانية في أيام غلام أحمد وأيام خليفته نور الدين مذهباً واحداً؛ غير أنهم في آخر حياة نور الدين ابتدأ شيء من الاختلاف يدبّ فيما بينهم، وعندما مات نور الدين، انقسموا إلى شعبتين: شعبة "قاديان"، ورئيس هذه الشعبة محمود بن غلام أحمد، وشعبة "لاهور"، وزعيمها محمد علي مترجم القرآن إلى اللغة الإنكليزية. أنها شعبة قاديان، فأساس عقيدتها أن غلام أحمد نبي مرسل، وأمّا شعبة "لاهور"، فظاهر مذهبها: أنها لا تثبت النبوة لغلام أحمد، ولكن كتب غلام أحمد مملوءة بادعاء النبوة والرسالة، فماذا يصنعون؟. ولشعبة "لاهور، ضلالة يبثونها في كتبهم: هي إنكار أن يكون المسيح - عليه السلام - ولد من غير أب؛ وزعيم هذه الشعبة محمد علي يصرح بأن

وجوب مقاومتهم، والتحذير من دعايتهم

عيسى - عليه السلام - ابن يوسف النجار. ويحاول تحريف بعض الآيات لتوافق هذه العقيدة (¬1). ونشرت مجلتهم "المجلة الإسلامية" التي تصدر في "ووكنج" بإنكلترة مقالاً للدكتور (مركوس)، وفي هذا المقال: "أن محمداً - عليه السلام - يصرح بأن يوسف أبو عيسى - عليه السلام -"، ولم يعلقوا على هذه الجملة كلمة؛ لأنها جاءت على وفق نحلتهم. وكذلك كان محمد علي في ترجمته للقرآن يذهب مذهب الترجمة الحرفية، ثم يضع في أسفل الصحيفة حواشي يؤول فيها ما ترجمه حرفياً، ويرتكب في تأويلها وجوهاً يحذو بها حذو نحلتهم؛ كما فعل في قوله تعالى: [أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] فقد نحا في تأويلها نحو منكري المعجزات؛ وتصرف في معانيها تصرف من لا يدري أن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين. * وجوب مقاومتهم، والتحذير من دعايتهم: للقاديانية حركة نشيطة في الدعوة إلى نحلتهم، ولما كانوا يقيمون هذه النحلة على شيء من تعاليم الإسلام، أمكنهم أن يدّعوا أنهم دعاة للإسلام، ولاسيما شعبة "لاهورد" التي تعلن أن غلام أحمد مصلح ومجدد لا نبي، وقد أصبح الناس الذين لا يعرفون هذه النحلة يعتقدون أنهم دعاة للإسلام ¬

_ (¬1) انظر كتابه: "عيسى ومحمد" (ص 76).

بحق، وربما أثنوا على سعيهم، وعاتبوا من يكتب في تحذير المسلمين من أباطيلهم. ولو اقتصرت هذه الطائفة على نشر دعوتها بين قوم غير مسلمين، لخفّ علينا خطرها، وآثرنا الاشتغال بمجاهدة غيرها من المضللين والملحدين، ولكنهم طمعوا في أخذ الشعوب التي تدرس القرآن والسنّة، وتستضيء بهدايتهما، وراموا صرفها إلى الاعتقاد برسالة غلام أحمد وما يتبعها من ضلالات، فبعثوا بدعاتهم إلى سورية وفلسطين ومصر، وجدة والعراق، وغيرها من البلاد الإسلامية، وقد وجدت دعايتهم -على ما فيها من سخف- أحداثاً فرط أولياؤهم في تربيتهم على أدب الدين، فقبلوها غروراً. يذكر القاديانيون: أن لهم دعاة في الصين والهند، والعجم والعراق، وجدة وسورية وفلسطين ومصر، وقرأنا في كتاب لهم مطبوع سنة 1932: أن داعيتهم في مصر الشيخ محمود أحمد في شارع كذا، وقد رأيتم علماء الهند كيف قاوموا هذه الفئة، وما زالوا يقاومونها، وممن وصلتنا آثارهم في مقاومتها: علماء سورية، فقد كتبوا الرسائل في الرد عليها، وإيقاظ المسلمين لما يبثونه من آراء تقوض بناء العقيدة، وآراء تربي نفوس النشء على الرضا بالاستكانة والانقياد لكل يد تقبض على زمامهم انقياد الأعمى. وها نحن أولاء قد كتبنا هذا المقال؛ ليحذر مسلمو مصر وغيرها من الأقطار الإسلامية فتنة هذه الطائفة حذرَهم من فتنة الطائفة البهائية، ولنا الأمل في علمائنا ووعاظنا أن يقعدوا لدعاة هاتين الطائفتين كل مرصد، ويعالجوا كل قلب اعتل بشيء من وساوسهما: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].

تفنيد مذهب القاديانية

تفنيد مذهب القاديانية كتبنا في الجزء السابع من المجلد الثالث من "نور الإسلام" (¬1) مقالاً في نشأة النحلة القاديانية، وأوردنا فيه شيئاً من نزعات هذه النحلة الفاسدة، وأرينا القراء أنها نحلة مارقة من الدين، عاملة على تفويض أركانه تحت ستار اسم الدعوة إليه. كتبنا ذلك المقال لنفتح أعين جماعات المسلمين على جانب مما يبيته غلام أحمد وأتباعه من شر، حتى لا يغتر أحد بما يزخرفونه من قول، أو بما يخلعونه على أنفسهم من ألقاب زائفة. وقد عنيت بنشر هذا المقال صحف متعددة، وكان له - بتوفيق الله تعالى - أثر في إيقاظ من كانوا عن هذه النحلة في غفلة، حتى تبرأ منها فريق كانوا يحسبونها على شيء من الرشد، ونبذوها نبذ النواة. أما من جعل الله صدورهم ضيقة حرجة، فقد استغاثوا داعيتهم بفلسطين لعلهم يجدون عنده من قوة الجدل ما يذود عن ترهاتهم، وششر فضائحهم، فكتب مقالاً شغل به صفحات كثيرة من أوراق يصدرونها لترويج مزاعمهم في البلاد العربية، ولم يزد في هذا المقال على أن اعترف ببعض ما عزوناه إلى نحلتهم من زيغ وإلحاد، وذهب ببعضه مذهب التأويل المنبوذ على البداهة، وقابل بعضه بالإنكار، ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت - الآية 69.

خيبة مدعي النبوة

على الرغم من أنه وارد في كتب كبيرهم الذي علمهم اشتراء الدنيا بالآخرة، أو في كتب بعض زعمائهم الذين يرونهم بمقربة من النبوة. وخيلت له نفسه أنه يعرف من بلاغة اللسان العربي ما يقوى به على الخوض في تفسير القرآن الكريم، وشرح حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتخبط في مباحث لا يدري كيف يرِدُها، ولا كيف يصدر عنها. وها نحن أولاء نرفع الستار عن جانب آخر من تزوير غلام أحمد، ونأتي إلى مقال داعيتهم، فنعرض على حضرات القراء قطعاً من زوره وقلة درايته؛ ليزدادوا علماً بأن القاديانية نحلة ملفقة من مزاعم لا تتصل بعقول هيأها الله تعالى للهداية، ولا تروج في نفوس أخذت من التعليم أو التهذيب ما فيه كفاية. ابتدأ داعية القاديانية بمقدمة ساق فيها آيات نزلت في حق أنبياء الله الأكرمين، ومن يجحد نبوتهم من المبطلين، محاولاً تطبيقها على حال غلام أحمد، ومن يحذرون الناس من ضلاله المبين، ولا نعبأ بهذا التمثيل الفاسد؛ فإن ما كتبناه في نشأة نحلتهم، وما ضربناه من الأمثال على بهتان رئيسهم، يرد تلك المقدمة على عقبها خاسئة، ويحقق للقراء أن موقفنا في وجه غلام أحمد وأتباعه إنما هو موقف حزب الله في وجه مسيلمة وسجاح، وأمثالهما ممن يفترون على الله الكذب، ويدعون أنه يوحى إليهم، ولم يوح إليهم بشيء. * خيبة مدعي النبوة: قلنا في مقالنا السابق: إن مدعي النبوة قد يذهب فينقطع أثره، وقد يبقى لدعوته بين طائفة من الجاهلين أثر، فاندفع داعية القاديانية بعد هذا

مخالفاً للنصوص القرآنية، ويزعم أن كل من يدعي النبوة لا يمهله الله تعالى سنين دون أن يبيده، ولا تروج دعوته، ولو عند طائفة لا يكادون يفقهون حديثاً، وأخذ يسرد آيات من القرآن يضعها في غير مواضعها، ويضيف إليها من المعاني ما لا يصح أن يستنبط منها، فأورد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [يونس: 69]. وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17]. وقوله تعالى: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35]. وقوله تعالى: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر: 28]. وقوله تعالى: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61]. وقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46] أورد داعية القاديانية هذه الآيات، وبنى عليها أن غلام أحمد ادعى النبوة، وبقي نحو ثلاثين سنة، ولم يأخذ الله منه باليمين، ولم يقطع منه الوتين، وأفلح في دعوته، فدعواه الوحي والنبوة إذن صادقة. والواقع أن هذا الداعية لا يفهم لآيات الله معنى، ولا يعرف لسنن الله

في الخليقة حكمة، يدلنا القرآن والمشاهدة على أن الله تعالى قد يملي لبعض المبطلين، فيمد لهم في أعمارهم، أو يكثر أموالهم وأولادهم، أو يجعل لهم من صنف الجاهلين شيعة، ثم يأخذهم بعد هذا أخذ عزيز مقتدر، قال الله تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44 - 45] وقال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]. ومما يدل على أن بعض المضلين قد يجد في الناس من يتبعون خطواته، ويهيمون في واد من ضلالاته، فتحق عليهم كلمة العذاب التي حقت على من قبلهم، قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 67 - 68]. وقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166] فبقاء بعض المضلين أمداً يعيثون فيه مفسدين، ويأخذون فيه بأعنة بعض الغافلين أو المغفلين، لا ينقض سنّة من السنن الكونية، ولا يخالف نصاً من النصوص الشرعية، وقد وافق داعية القاديانية على أن مدعي الإلهية قد ينتشر مذهبه في طائفة من الناس، ويترك من بعده أتباعاً، وجعل طائفة البهائية

من هذا القبيل، ويحصر سرعة الإهلاك وعدم انتشار الدعوة فيمن يدعي الوحي والنبوة، وقال في الفرق بين مدعي النبوة ومدعي الإلهية: إنّ نشر دعوة النبوة آية من آيات الله، ولا يعطى مفتر هذه الآية لئلا يلتبس أمر النبي بالمتنبي، أما مدعي الإلهية؛ فإنه يدعي أمراً مستحيلاً، فليس هناك موضع التباس. وكلامه هذا يقتضي أن الله تعالى يهلك المفتري إذا كانت دعواة محتملة للصدق؛ لئلا يلتبس على الناس أمره، أما إذا قامت الأدلة الكافية على بطلان دعواه، فإنه يجوز إمهاله، وانتشار دعواه في طائفة من الناس. وإذا كان داعية القاديانية يعترف بأن المضلل الذي تقوم الأدلة على افترائه قد تتأخر عقوبته إذ يلتبس المبطل بالحق، قلنا له: إن الأدلة القائمة على انقطاع النبوة بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - قاطعة، فقد تظافر على ذلك الكتاب والسنّة المتوترة والإجماع، فيجوز أن يكون تأخير إهلاك غلام أحمد، وترك أباطيله تنتشر بين طائفة من الناس، من ناحية أن الأدلة القائمة على بطلان دعواه الوحي والنبوة قاطعة، وليس بينها وبين إزهاق روح تلك النحلة المارقة إلا أن يتناولها أهل العلم بالبيان، ويطاردوا بها دعاة القاديانية في كل زمان ومكان. فإن قال داعية القاديانية: لو كانت الأدلة على انقطاع النبوة قاطعة، لم يخالف فيها غلام أحمد ومن انحدروا في ضلالته، قلنا: إنكم سلمتم أن الأدلة القائمة على افتراء رئيس البهائية قاطعة، وقد عمي طائفة البهائية عن هذه الأدلة، وليسوا بأوفر في الغباوة منكم نصيباً، ولا أحط منكم في الجهالة دركاً، ولا أشد منكم في اشتراء الدنيا بالدين تهالكاً. فدعوى النبوة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلومة البطلان من الدين بالضرورة،

فمن ادعاها لا يشتبه حاله بحال المحق البتة، فمن الجائز إذن أن يمهله الله تعالى كما يمهل مدعي الإلهية، ثم يسحته بعذاب في الدنيا أو الآخرة. ولنعد إلى بيان تخبطه في الآيات التي ساقها على أن مدعي النبوة يعجل الله بعقوبته، ويمنع من انتشار دعوته فنقول: أما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [يونس: 69]. وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17]. فإنما يدلان على أن المفتري على الله تعالى لا يفلح، وليس معنى عدم الفلاح بمقصور على إهلاكه بسرعة، وخيبة دعوته بحيث لا تجد سامعاً -ولو من الطبقة التي هي أقرب إلى الحيوان الأعجم منها إلى الإنسان-، بل يكفي في تحقيق عدم الفلاح: فوز أنصار الحق عليه في الدنيا، والتحاقه بزمرة الأشقياء في الأخرى. ثم إن عدم الفلاح قد جعل في الآية الثانية مما يترتب على التكذيب بآيات الله، أفيبلغ الخلط في الحديث بهذا الداعية أن يدعي أن كل من يكذب بآيات الله بعجل الله بإهلاكه في الدنيا؟!. وأما قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر: 28]. وقوله تعالى: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61].

فإن هاتين الآيتين لا تدلان على أكثر من أن الذي يكذب على الله تعالى يصيبه جزاء كذبه في الدنيا أو في الآخرة، ويجازى مع ذلك بالخيبة والحرمان من بلوغ المقصود والظهور على حماة الحق. وقد أجرى الله تعالى على لسان غلام أحمد ما دل عله سخافة عقله، وفساد سريرته، وألقى به في خذلان حال بينه وبين الفلاح في الدنيا، وما بعد الموت أشد وأبقى. على أن الآية الثانية لم تقع خطاباً لنبي، وإنما هي من قول موسى - عليه السلام - خطاباً لقوم فرعون، وليس فيها ما يدل على أن الله تعالى يسرع بإهلاك مدعي النبوة كذباً، ويصرف عنه حتى القلوب التي تقضي فيها الشياطين ليلها ونهارها، وغاية ما تدل عليه: أن المفتري على الله يخيب في دعوته، ويصيبه جزاء فريته. وإن دعوة لا تروج إلا عند نفر لا يفرقون، أو لا يريدون أن يفرقوا بين الليل إذ يغشى، والنهار إذا تجلى، لدعوة خاسرة. وأما قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46]. فليس المراد منه تقرير أن الله يعجل لإهلاك كل من يدعي النبوة كذباً، ويقطعه عن الحياة لأول ما يدعي النبوة، حتى إذا ادعى أحد السخفاء النبوة، وعبث بعقول طائفة من البله، أو اشترى نفوس طائفة من البؤساء، وعاش نحو ثلاثين سنة، قلنا: هذا صادق في دعوى النبوة! وإنما نزلت هذه الآية في حق محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد حفه الله تعالى بدلائل الصدق من كل جانب؛ بحيث لا يجد ذو الفطرة السليمة أو العقل الراجح إلى تكذيبه فيما يخبر به عن الله

تعالى منفذاً، فلو كان هذا الذي استقامت سيرته، وبهرت حكمته، وثبتت معجزته، قد تقوّل على الله تعالى بعض الأقاويل، لكان الضرر من تقوّله على الله تعالى عظيماً؛ إذ ليس في أيدي الناس ما من شأنه أن يدل على أن ما بلغه متقوِّل على الله، فكان من مقتضى الحكمة أن يأخذ الله منه باليمين، ثم ليقطع منه الوتين، أما من تقوم الأدلة الجلية على أنه كاذب؛ كغلام أحمد، فقد يملي له الله تعالى لحكم، منها: إظهار فضل العلماء الذين يجاهدون في إنقاذ الغافلين من مهالك دعوته الخاسرة. هذا وقد ذكر الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45]: أن المعنى: منعناه عن ذلك (أي: التقوّل) إما بإقامة الحجة؛ بأن كنا نقيض له من يعارضه في التقوّل، فيظهر للناس كذبه فيه، فيكون ذلك إبطالاً لدعواه، وهدماً لكلامه، وإما بأن نسلب منه القوة على التكلم بذلك القول. ونحن نعلم أن الله تعالى قد نصب الأدلة على كذب غلام أحمد، وقيض له بعد ذلك طائفة من العلماء، فدفعوا باطله بالحجة، ونادوا في الناس بأنه مزمار من مزامير الشيطان، حتى ازداد كذبه وضوحاً، ودعوته خيبة، وسريرته افتضاحاً. وقد أجرى الله على لسان غلام أحمد آيات تدل على أن ما يدعيه زور وبهتان، ومن هذه الآيات: أنه كان قد رغب في التزوج بفتاة من بنات بعض أقاربه، وسبق إلى ظنه أن والدها لا يحجم عن تزويجه إياها، فزعم أن اقترانه بها قد تقرر بطريق الوحي، ولكن أهل الفتاة امتنعوا من تزويجه إياها، وعزموا على أن يزوجوها برجل غيره، فلما بلغه هذا العزم، زعم أنه أوحي إليه مرة

انقطاع النبوة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

أخرى: أن من يتزوجها غيره يموت في مدة لا تتجاوز ثلاث سنين، ثم تصير الفتاة زوجاً له، ولكن أهل الفتاة موقنون بأن غلام أحمد غير صادق فيما يزعم، فزوجوا ابنتهم من رجل مسلم يدعى: (ميرزا محمد سلطان)، ودامت العشرة بين الزوجين، واستمرا في حياة، وقد مات القادياني في 26 من مايو سنة 1908، وبقي محمد سلطان يعيش مع زوجته عيشة راضية إلى ما بعد سنة 1920. ووقع غلام أحمد في بهتان آخر؛ إذ زعم في تأليفه المسمى: "إعجاز أحمد": أن من علامات صدقه سير القطار بين الحرمين الشريفين، فقال: شهدت السماء والأرض على صدقي، ولكن أكثر الناس لم يقبلوني، أنا الذي عطلت الإبل، وصدق الخبر الغيبي: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير: 4] في وقته، وأيضاً صدق الحديث: "ليتركن القلاص، فلا يمشي عليها أحد"، حتى إن منشئي جرائد العرب والعجم كتبوا في جرائدهم: أن القطار الذي يجري بين مكة والمدينة من علامات المسيح الموعود. بقول هذا، وهو لم يدخل الحرمين الشريفين، ولو لأداء فريضة الحج، والإبل لم تعطل في وقته، والقطار لم يسر بين مكة والمدينة في وقته، بل إلى هذا اليوم. * انقطاع النبوة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لنا أن نكتفي بسوق الشواهد على أن غلام أحمد بعيد من النبوة والصلاح بعد الثرى من الثريا، ولنا أن نكتفي من هذه الشواهد ببعض أقوال صدرت منه، فجاءت تضرب لسخافة الرأي وظلمة القلب أوضح مثال. ولسنا بعد هذا في حاجة إلى محاورة أتباعه في أن النبوة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - منقطعة أم باقية؛ إذ على

فرض بقائها لا يتصور ذو عقل أن يكون من مظاهرها رجل يقول ما لم يقع، وما لا يقع. وكيف يحوز النبوة من لا يتعفف عن الكذب على المخلوقين؟. وإذا خرجنا في مجادلة القاديانية عن حديث نبوة رئيسهم المزيفة إلى بحث انقطاع النبوة من أصلها، فلأن هذه الطائفة لا تفتأ تشغل ألسنتها بدعوى أن النبوة لم تنقطع، فحق علينا تذكير المسلمين بأن دعواهم هذه لا تلتقي مع حقيقة الدين الحنيف في نفس واحدة. أوردنا في المقال السابق نبذة من أدلة انقطاع النبوة بعد الرسول الأعظم - عليه الصلاة والسلام -، ومن هذه الأدلة قوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. وقلنا: إن الخاتم بمعنى: الآخِر، وهذا هو المعنى الذي يذكره علماء اللغة والتفسير لهذه الكلمة، ففي "لسان العرب": وختام القوم وخاتِمهم وخاتَمهم: آخرهم، والخاتِم والخاتَم من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي التنزيل العزيز: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. أي آخرهم. وأما التفسير، فلم نر مفسراً يذكر في بيان {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} معنى غير معنى الآخِر، ووردت الأحاديث مؤيدة لهذا المعنى، وسقنا منها في ذلك المقال جملة، وهي لا تقصر عن درجة المتواتر. ومن الأحاديث الصريحة في هذا المعنى: ما رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي"، فشق ذلك على الناس، فقال: "ولكن المبشرات"، قالوا: يا رسول الله! وما المبشرات؟ قال: "رؤيا المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة".

دفع شبهة يتشبث بها القاديانية

ومنها: حديث عبد الله بن عمر، وهو: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً كالمودع، فقال: "أنا محمد النبي الأمي -ثلاثاً- ولا نبي بعدي". ومنها: حديث أبي هريرة: "وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبوة"، إلى غير هذا من الأحاديث الصريحة الصحيحة المختلفة الأسانيد. وبعد هذه الأحاديث إجماع الأمة على أن من ادعى النبوة بعد رسول الله، فهو من الضالين المضلين، قال الإمام ابن كثير في "تفسير": "قد أخبر الله تعالى في كتابه، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في السنّة المتواترة عنه: أنه لا نبي بعده؛ ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده، فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل". وذكر بعض من ادعوا النبوة؛ كالأسود العنسي، ومسيلمة، ثم قال: "فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله تعالى معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها". وقال الإمام ابن عطية في تفسير آية: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]: هذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفاً وسلفاً متلقاة على العموم التام، مقتضية نصاً أن لا نبي بعده - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن حزم: "فكيف يستجيز مسلم أن يثبت بعده - عليه السلام - نبياً في الأرض، حاشا ما استثناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الآثار المسندة الثابتة في نزول عيسى بن مريم - عليه السلام - في آخر الزمان". وقال أَبو حيان في تفسيره "البحر": "ومن ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أن الولي أفضل من النبي، فهو زنديق". * دفع شبهة يتشبث بها القاديانية: أورد داعية القاديانية آيات من القرآن الحكيم زاعماً أنها تدل على عدم انقطاع النبوة، منها: ثلاث آيات وردت في إرسال الله الرسل، واصطفائه لهم،

وجاء التعبير فيها بصيغة المضارع، وهي قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179]. وقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأعراف: 35]. فقال في الآية الأولى: إنها تقتضي استمرار الاصطفاء دائماً، وقال في الآية الثانية: إنها تدل على أن الله يجتبي من رسله من يشاء، وقال في الآية الثالثة: إنها صريحة في بيانها. كنا قد تعرضنا في المقال السابق لهذا الوجه من تمويههم، وقصرنا البحث على آية: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]. فقلنا: أما المضارع في قوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي}، فمحمول على الماضي، واختيار صيغة المضارع للدلالة على أن اصطفاء الله للرسل كان يتجدد حيناً فحيناً، فكتب داعية القاديانية منكراً استعمال المضارع في الاستمرار للماضي فقط، وهذا إنكار منه لمعنى قرره فحول علماء البلاغة؛ كصاحب "المفتاح"، والسيد الجرجاني، والسعد التفتازاني، ولم ينازعهم فيه أحد ممن ينظر في العلم بشيء من العقل. فالحق أن المضارع يستعمل للدلالة على تجدد الفعل في الماضي، ولاسيما الفعل المتصل بزمان الخطاب؛ كاصطفاء الرسل وإتيانهم، فإن هذه الآيات قد نزلت والوحي الذي تتحقق به الرسالة لم يزل جارياً، والأحكام

التي تنتظم بها الشريعة ويكمل بها الدين ما زالت تنزل على حسب ما تقتضيه الحكمة، وليس استعمال المضارع للدلالة على التجدد في الماضي مختصاً بحال اقترانه بلفظ: "كان "، بل المدار على وجود قرينة تومئ إلى أنه مستعمل في هذا المعنى، ولا فرق بين أن تكون القرينة لفظية أو معنوية، متصلة باللفظ أو منفصلة عنه، وقد صرح طائفة من أئمة البلاغة بأن المضارع يستعمل في الماضي لقصد الدلالة على استمرار الفعل فيما مضى وقتاً فوقتاً. ومن الشواهد التي ساقوها على هذا قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7]. فقالوا: إن المضارع -يعني: قوله: {يُطِيعُكُمْ} مستعمل في الماضي للدلالة على استمرار الإطاعة فيما مضى وقتاً فوقتاً، وكلمة: "لو" أفادت هذا الاستمرار التجددي الذي دل عليه المضارع. فالبيانيون قرروا استعمال المضارع للدلالة على تجدد الفعل في الماضي، ولم يقصروه على موضع، بل جعلوا مدار صحته قيام القرينة، ولا نطيل في الاستدلال على أن المضارع يستعمل لإفادة التجدد في الماضي، إذ يكفي فيه إجماعهم على أن المضارع يستعمل للفعل الماضي خاصة، ومن ذا يستطيع أن ينكر أن المضارع في قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]. وقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا} [يوسف: 36]. وقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة: 127].

مستعمل في فعل مضى لوجه من البلاغة، وما على المعبر بالمضارع عن الفعل الماضي سوى أن يقيم الدليل على ما يريد من الصيغة، وقد قلنا في المقال السابق: إن الأدلة التي تدعونا إلى حمل الاصطفاء في قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي} [الحج: 75] على ما كان يتجدد في الماضي، قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، والأحاديث الصريحة في أن لا نبي بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -. واعترض داعية القاديانية جعل آية {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} مبينة لقوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي}، فقال: كلنا يعرف أن قرينة الكلام ما يصاحبه ويدل على المراد ول، وأن آية: {اللَّهُ يَصْطَفِي} مكية، وآية: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} مدنية. وجواب هذا: أن تأخير آية {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} لا يمنع من أن تعد بياناً للمراد من قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي}. أما على مذهب من يجيز تأخير البيان عن وقت الخطاب، فالأمر واضح؛ إذ مقتضاه أن يدل المضارع حال الخطاب على أن اصطفاء الرسل شأن من شؤون الخالق - جلّ وعلا -، فيسقط به اعتقاد من ينكر بعثة الرسل، أو ينكر أن يكون في البشر رسول، ويثبت أن الله تعالى قد بعث رسلاً من البشر، وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - حين ادعى الرسالة لم يدع أمراً يخالف حكمة الخالق، ويبقى صرف اصطفاء الرسل عن المستقبل إلى أن تظهر الحاجة إلى تعليم الناس أن لا نبي بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأما على مذهب من يمنع تأخير البيان عن الخطاب، فنعتمد أن يكون لدى من تلقوا آية: {اللَّهُ يَصْطَفِي} عند نزولها دليل من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرفها عن المستقبل، وجاءت آية: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} مؤيدة للحديث، وورود الآية بعد الحديث لا يمنع من عدها في جملة ما يبين الآية الأولى،

وما زال كبار الأئمة يسمّون المتأخر: بياناً لما سبقه بمدة، كما جعلوا إعطاء سلب القتيل للقاتل في الحرب مخصصاً لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]. وهذه الآية نزلت في غزوة بدر، والحديث ورد بعد هذه الغزوة بزمن غير قليل. وقال داعية القاديانية يحاول رد ما ذكرنا من أن المضارع في آية: {اللَّهُ يَصْطَفِي} [الحج: 75]، مصروف عن المستقبل: "إن الآية تبين اصطفاء الله رسلاً من الجنسين: الملائكة، والناس، فإن كان يصطفي بمعنى اصطفى، ويلزم منه أن لا يصطفي الله رسلاً بعد نزول هذه الآية من الناس، للزم أن لا يصطفي الله رسلاً من الملائكة أيضاً، وإذا كان هذا صحيحاً، فهل للمشايخ أن يقولوا لنا: من أنزل آية: {اللَّهُ يَصْطَفِي} إلخ وغيرها من السور التي نزلت بعدها على قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ أجبريل أم لا؟ ". أليس في هذا الهذيان شاهد على أنا نخاطب من لا يفقه للكلام العربي معنى، ولا يعرف للمنطق وجهاً؟! فنحن إذا فهمنا الاصطفاء في الآية على ما كان يقع فيما مضى، فللأدلة القائمة على أن الله لا يبعث بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً من البشر، ولم نقل: إن الآية دليل على أن الله لا يبعث رسولاً، حتى يقال: إننا نفينا إرسال الله الملائكة في أمر يدبره، وغاية الأمر: أن إرسال الملائكة بعد هذا الخطاب يبقى مسكوتاً عنه، فيرجع في إثباته أو نفيه إلى الأدلة، ولكن داعية القاديانية لا يفرق بين قولك: إن الآية لا تدل على بقاء الرسالة في البشر، وهو موضع حديثنا، وبين قولك: إن الآية تدل على انقطاع إرسال الله رسلاً من الملائكة أو البشر، وهذا ما لم نقله، فداعية القاديانية اشتبه

عليه إبطال استدلالهم بالآية على أن الله يصطفي رسلاً بعد بعثه أفضل الخليقة، بالاستدلال بها على نفي اصطفاء رسل من البشر أو الملائكة، وليس هذا الاشتباه على أمثاله بغريب. وأورد داعية القاديانية مستدلاً على ما يزعم من عدم انقطاع النبوة قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]. فقال: "وعد الله في هذه الآية بجعل الإمامة في ذرية إبراهيم ما عدا الظالمين منها، فهل يظن المشايخ أن ذرية إبراهيم كلها صارت في زمرة الظالمين، لا سيما الأمة المحمدية، فحرمت من الإمام الموعود بها؛ أي: من النعمة الاجتماعية، ولا يظنن أحد من المشايخ -لأن غيرهم لا يتطرق إليه هذا الظن- أن المراد من الإمامة بالصلاة أو غيرها دون النبوة؛ لأن هذه الإمامة إمامة إبراهيمية، وهي النبوة دون شك كما كان هو إماماً بها - عليه السلام -، فالنبوة باقية في ذرية إبراهيم سوى الظالمين". هذا ما يقوله الداعية في الاستدلال بهذه الآية على عدم انقطاع النبوة، ونحن لا نمانع من أن يكون المراد من الإمامة: النبوة، ولكننا نفهم الآية على معنى أن إبراهيم - عليه السلام - قد طلب من الله تعالى أن يجعل من ذريته أئمة؛ أي: أنبياء، إذ قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، ولم يقل: (وذريتي)، فأجابه الله تعالى بقوله: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. وفي هذا عدة له بأنه سيجعل من ذريته غير الظالمين أنبياء؛ فإنه نفى أن ينال العهد -الذي هو الإمامة- الظالمين، ولو قال فى الجواب: "نعم"، لأفاد أنه سيجعل من ذرية إبراهيم - عليه السلام -

أنبياء، ومن غير دلالة على أنهم سيكونون من المؤمنين، ولو قال في الجواب: "ينال عهدي المؤمنين" -مثلاً-، لم يكن فيه نص على أن الظالمين ليسوا بأهل للإمامة، فقوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] نص على أن الظالمين ليس بأهل للإمامة، ويؤخذ منه -على طريق دلالة المفهوم-: أن النبوة تنال المؤمنين من ذريته، وقد قامت الأدلة القاطعة على أن من لم يكونوا ظالمين قد يرفعهم الله تعالى إلى مقام النبوة، كما رفع إليه إسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى ومحمداً - عليهم الصلاة والسلام -، وقد يبقى في منزلة دونها؛ ككثير من الصالحين الذي طهرهم الله تعالى من الظلم، ولم يدعوا النبوة في حال، فقول داعية القاديانية: "فهل يظن المشايخ أن ذرية إبراهيم كلها صارت ظالمة ... إلخ" ضرب في غير مفصل، ورمي الكلام في غير مرمى؛ فإن المشايح يقولون: إن الآية واردة للدلالة على أن النبوة تجعل في غير الظالمين، ويقولون مع هذا: الله أعلم أين يجعلها؟ ومتى يجعلها؟ وليس في الآية دليل على بقاء النبوة في سائر العصور، حتى في العصر الذي يستغنى فيه عن النبوة والرسالة بالكتاب الذي أودع الله تعالى فيه جلائل الهداية ودقائقها، وتكفل بحفظه وحمايته من أن يدخله تحريف، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. ومن نفى عن أمة النبوة لعدم حاجتها إليها، ولقيام الأدلة على انقطاعها، لم يلزمه الحكم عليها بأنها كلها صارت ظالمة، ومن ألزمه هذا الحكم، فقد خرج عن أدب البحث، ومشى في غير طريق.

وأورد داعية القاديانية في الاستدلال على بقاء النبوة قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7]. فقال: "هذا الدعاء يبشرنا بأن الله يجعل المؤمنين في مقام الذين أنعم عليهم سابقاً، ويعطيهم كل نعمة أعطاها للأولين، ويتمها عليها، والنعمة نعمتان: دينية ونهايتها النبوة، ودنيوية ونهايتها الحكومة والسلطة". غاب هذا الداعية عن الصواب، وكانطلق يتحدث في غير علم، ومن ذا الذين يعرف شيئاً من العربية الصحيحة أو المعتلة، ويقرأ قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، ويفهم منها أن المناجي لله بهذه السورة يطلب أن يكون هو أو غيره من المؤمنين في مقام النبوة، والآية لا تدل على أكثر من أن المؤمن يدعو الله تعالى في جملة المؤمنين بأن يهديه طريق من أنعم عليهم. ومن استقام على واجبات الدين وسننه جهد استطاعته، فقد اهتدى طريق المنعم عليهم، ولا يلزم من اهتدائه لطريق المنعم عليهم من النبيين أن يرزق ما رزقوه من نعمة النبوة التي لا ينالها الناس بكثرة أعمالهم الصالحة؛ إذ النبوة مقام يختص به الله من يشاء من عباده. وما قاله هذا الداعية في هذه الآية أصله لكبيرهم الذي علمهم اللعب واللغو في تفسير القرآن الحكيم؛ إذ قال في خطبته الإلهامية: "وأنا المنعم عليه الذي أشير إليه في الفاتحة عند ظهور الحزبين المذكورين"؛ يعني: المغضوب عليهم، والضالين، وقال: "إن سورة الفاتحة لتؤذن إيذاناً بأن بعض الأفراد من هذه الأمة سيظهرون بمظهر الأنبياء من كل الوجوه". ومن نكد الدنيا أن نشتغل بحكاية أمثال هذا اللغو، وننفق وقتاً في التنبيه على أنه هذيان في هذيان.

دعوى غلام أحمد أنه أفضل من عيسى - عليه السلام -

وأورد داعية القاديانية في الاستدلال على بقاء النبوة قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. فقال: "وهذه الآية تصرح جلياً أن الأمة المحمدية تنال هذه الدرجات الأربع". والصواب في فهم الآية أن قوله تعالى: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} هو بيان لقوله: {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}، والأصل في كلمة "مع": المصاحبة، والمصاحبة لا تستلزم المساواة في الرتبة، بل يكفي فيها الاشتراك في دار النعيم، مع تمكن كل واحد من رؤية الآخر، وملاقاته متى شاء. فالآية وردت لبيان ما يجازى به المطيع لله ورسوله، وهو مرافقة الأنبياء ومن ذكر بعدهم، وتأويلها على معنى: أن من المطيعين أنبياء، ومنهم صديقين، ومنهم شهداء، تأويل للآية على معنى لا يتقبله إلا نفوس تلوثت باعتقاد أن غلام أحمد وأذنابه أنبياء صادقون. وأما مما ذكره الداعية من أن قوله تعالى: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} بيان لقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ}، فحمل للآية على وجه تتجافى عنه قوانين البلاغة، ويكسبها تعقيدأ يتبرأ منه كلام الفصحاء، قبل أن يتبرأ منه كلام خالق الفصحاء. فعد هذا الوجه في أخطاء قائله أولى من حشره في شبه هي أوهى من نسج العنكبوت. * دعوى غلام أحمد أنه أفضل من عيسى - عليه السلام -: نقلنا في مقالنا السابق شواهد على غرور غلام أحمد، واستحواذ الشيطان

تكفير غلام أحمد لمن عصمهم الله من اتباعه

عليه، حتى ادعى أنه خير من عيسى - عليه السلام -، فرد داعيتهم على هذا باعتراف أن غلام أحمد يفضل نفسه على عيسى - عليه السلام -، وذهب إلى أن هذا التفضيل صحيح، بزعم أن غلام أحمد مسيح الأمة الإسلامية، فيكون أفضل من مسيح الأمة الإسرائيلية. ولم يستطيعوا إنكار هذه الضلالة؛ لأن غلام أحمد قالها في مواضع من مؤلفاته بعبارات صريحة، ففي مقال له نشر في كتاب "تعاليم المسيح المنتظر" ما يأتي: "كما أن مؤسس الشريعة الإسلامية أعظم من مؤسس الشريعة الموسوية، كذلك مسيح السلالة الإسلامية أعظم من مسيح السلالة الموسوية". فالقاديانيون يعتقدون أن غلام أحمد أفضل من عيسى - عليه السلام -، أفلا يكفي هذا شاهداً على أن النحلة القاديانية شعبة من الشعب التي انسلخت من الإسلام، والإسلام بريء منها؟! وكيف يكون غلام أحمد الذي قامت البراهين على كذبه وسوء طويته، أفضل من عيسى بن مريم الذي وصفه الله تعالى في كتابه العزيز بالنبوة والرسالة، وأيده بالآيات البينات، فما قاله غلام أحمد في الاستدلال على أفضليته، إلحاد وهذيان، فإن دعواه أنه مسيح السلالة الاسلامية باطلة على البداهة، وكل ما يبنى عليها ضلال في ضلال. * تكفير غلام أحمد لمن عصمهم الله من اتباعه: ذكرنا في مقالنا السابق: أن غلام أحمد يعد المسلمين الذين ينبذون دعوته كفاراً، ويمثلهم باليهود، فأراد الداعية القادياني أن يرد علينا في هذا الموضع، وأورد حديث: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل"، وحديث: "إن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة،

وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة"، ثم قال: (وأحمد المسيح الموعود لم يجعل مسلماً كافراً، ولم يمثل مؤمناً باليهود، بل بيّن حقيقة قرآنية، ونبأً نبوياً". ثم قال: "وإننا نسأل المشايخ: هل كان قول أحمد في غير محله، وهل كان مجيئه في غير حاجة". ونحن لم ننازع في أن من المنتمين إلى الإسلام طوائف زائغة عن السبيل، حتى نحتاج إلى أن نذكر بهذه الأحاديث، والذي نعده في ضلالات غلام أحمد: أنه يسمي المسلمين الذين لا يقبلون دعوته كفاراً، وينهى عن مصاهرتهم، والصلاة خلفهم. ومن شواهد تكفيره لمن حفظهم الله تعالى من فتنته: قوله في كتاب "حقيقة الوحي": "الكفر على قسمين: أحدهما: أن يجحد الرجل عن الإسلام، أو نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: أن يجحد المسيح الموعود (يعني: نفسه)، ويكذبه مع سطوع الحجج على صدقه، وإن أمعنت النظر، وجدت كلا القسمين واحداً". ومن تمويه داعيتهم قوله: "إن أحمد المسيح الموعود لم يجعل مسلماً كافراً ... إلخ" فإن المسلم والمؤمن عند القاديانية من صدق بأن غلام أحمد نبي، وغيره في مذهبهم ليس بمسلم ولا مؤمن، فإذا وصف من لم يقبلوا دعوته بالكفر أو باليهودية، لم يجعل مسلماً كافراً في نظرهم أو يهودياً. أما قوله: "وإننا نسأل المشايخ: هل كان قول أحمد ... إلخ "، فجوابه: أن غلام أحمد يقول غير الحق، وما كانت دعوته إلا فتنة وتفريقاً بين المسلمين، وصداً عن طرق الفلاح ومراقي العزة، ولم يجح على يديه ما فيه خير الدين،

تزوير داعية القاديانية

بل وضع نحلة ملفقة من آراء باطلة، وأقوال لاغية، ثم أضاف إليها شيئاً من مبادئ الإسلام، وسمّاها في الظاهر باسم الإسلام مكراً وتغريراً. * تزوير داعية القاديانية: نقل هذه الداعية عبارات لبعض العلماء في صورة الاستدلال بها على أن في أهل العلم من يذهب إلى بقاء باب النبوة مفتوحاً، ولسنا في حاجة إلى إطالة الكلام بذكر تلك العبارات، وبيان ما فيها من جهالة أو تحريف، ونقول -والأدلة تناصرنا-: إن كل عبارة تصرح بصحة بعث نبي بعد الرسول غير عيسى - عليه السلام - فهي كفر صراح. ونسوق إليك مثلاً من تزوير هذا الداعية فيما يعزوه إلى أولئك العلماء: نقل الداعية عبارة للشيخ عبد القادر الكردستاني يوهم بها أن الشيخ يجوز أن يجيء نبي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مشرع، فقال: يقول الشيخ عبد القادر الكردستاني ما نصه: "إن معنى كونه خاتم النبيين هو أنه لا يبعث بعده نبي مشرع". أورد القادياني هذه العبارة مقطوعة عن سابقها ولا حقها؛ ليخدع بها قراء ورقاته. والحقيقة أن عبارة الشيخ عبد القادر وردت في تعليقه على كتاب "التهذيب وشرحه"، وأصل ما في "التهذيب والشرح": "وأنه لا يبعث نبي بعده، ولكن رسول الله، وخاتم النبيين، وإذا ثبت أنه خاتم الأنبياء ثبت أنه لا تنسخ شريعته". وكتب الشيخ عبد القادر معلقاً على ذلك ما نصه: قوله: "وأنه لا يبعث نبي بعده" إشارة إلى دفع ما يقال: إن عيسى حي بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم - حيث رفع إلى السماء، وينزل إلى الدنيا، فلا يكون - صلى الله عليه وسلم - خاتماً، وحاصل الدفع: أن معنى كونه خاتم النبيين: هو أنه لا يبعث بعده نبي آخر

اقتراح غلام أحمد على علماء الهند أن يتركوه عشر سنين

بشريعة أخرى، فإن عيسى - عليه السلام - إنما ينزل على شريعة نبينا، ولا يسعه إلا اتباعه". هذه عبارة الشيخ الكردستاني، وهي -كما رأيتها- خاصة بالحديث عن عيسى - عليه السلام -، ولم يقلها ليدل على أن باب النبوة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزال مفتوحاً، وهذه العبارة تشبه عبارة النيسابوري إذ قال عند قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]: ومجيء عيسى - عليه السلام - في آخر الزمان لا ينافي ذلك؛ لأنه ممن نبئ قبله، وهو يجيء على شريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - مصلياً إلى قبلته، وكأنه بعض أمته. وهذا مثل ينبئك أن داعية القاديانية ينسب إلى علماء الإسلام ما لم يخطر لهم على بال. * اقتراح غلام أحمد على علماء الهند أن يتركوه عشر سنين: ذكرنا في المقال السابق: أن غلام أحمد اقترح على علماء الإسلام بالهند أن يتركوه عشر سنين لا يعارضونه، ولا يفندون آراءه، وقال لهم: إن كنت كاذباً، فسيظهر كذبي، وأن كنت صادقاً، نجوتم من العقوبة التي ينزلها الله على من يناوئني، وقلنا: إن العلماء لم يكونوا من الغباوة بحيث تروج عليهم هذه المكيدة، بل لم يكونوا من الجهل بواجبات الدين على حوإن يقبلوا هذا الاقتراح، ويطلقوا لغلام أحمد الشكيمة غير مبالين بما يفسده من عقائد وأخلاق وآداب، ولم يخجل داعية القاديانية أن يتعرض في مقاله لهذا الاقتراح، وتبلغ به قلة الخجل أن يعد مثل هذا في طرق الدعوة الصحيحة، ويقيسه بحكمة القرآن الحكيم في قوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا

اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. والفرق بين الآية الكريمة، واقتراح غلام أحمد، كالفرق بين البياض الناصع، والسواد الحالك، وداعية القاديانية إما أنه لم يفهم معنى الآية، وإما أنه يتخيل أن قراء مقاله قد وضعوا عقولهم بين أصابعه يعبث بها كيف يشاء. وهل من المعقول أن يكون مثل غلام أحمد في اقتراحه السخيف مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أمره الله تعالى بأن يدعو أهل الكتاب إلى إخلاص العبادة لله تعالى، وعدم اتخاذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإذا لم يقبلوا هذه الدعوة، اعتز هو وأصحابه بإسلامهم، وأعرض عن أولئك الجاهلين؟!. وإذا قص القرآن الكريم أن بعض المدافعين عن رسول عزم بعض قومه على قتله، قال لهم في دفاعه عنه: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28]. فإن ذلك الرجل إنما قال هذه الكلمة في حق داع إلى الله بحق، قد قامت البينات على صدقه، ولم يكن بيد القوم دليل أو أمارة على كذبه البتة، وليس هذا حال غلام أحمد مع علماء الإسلام، فإن دعاوي غلام أحمد مناقضة لأصول الإسلام، فكذبه مقطوع به، فإذا قال لأهل العلم: دعوني، ولا تتعرضوا لدعاياتي مقدار عشر سنين، فإنما يقول لهم: دعوني أبدل دينكم الحنيف، وأهدم شريعتكم الغراء، وأقيم العقبات في سبيل عزتكم، وكونوا على هذا البلاء صابرين، ولهذه المهانة محتملين، وبعقوبة الله غير مبالين.

ادعاء غلام أحمد للنبوة

ولا عجب لمن لم يذق للغيرة على الحق طعماً أن يعرض ذلك الاقتراح على من علمهم القرآن العزيز أدب النصح لله ولرسوله وللمؤمنين. * ادعاء غلام أحمد للنبوة: بعث إلينا معتمد القاديانية في بلد "نكس" بلاهور كتاباً ينكر فيه أن غلام أحمد قد ادعى النبوة، ويعد فرقة قاديان التي من زعمائها داعية فلسطين فئة ضالة، ومما قاله في الكتاب: "حينما بحثتم عن عقائد فئة قاديان الغالية الضالة عن جادة الحق والصواب، بنيتم بحثكم على عبارات هذه الفرقة الغالية دون عبارات كتب حضرة المجدد وتصريحاته، وجعلتم عقائد هذه الفئة مرايا عقائد حضرة المجدد افتراء عليه". ثم قال: "فعليك أن تأتي بكلمة من كتبه دالة على أن حضرة المجدد ادعى النبوة، ولن تستطيع أبداً". ونحن نوافقه على أن فرقة قاديان فرقة ضالة، بل هي خارجة في ضلالها عن دائرة الإسلام، ونقول له: إن حضرة مجددكم قد فضل نفسه على عيسى بن مريم - عليه السلام -، وهل يصح لمجدد أن يفضل نفسه على رسول عظيم قبل أن يزعم أنه قد أوتي النبوة والرسالة؟! وإذا كان غلام أحمد لا يدعي النبوة والرسالة، فما معنى الآيات التي يتبجح بها، ويزعم أن الله أيده بها، والمجدد والمصلح غير النبي إنما يرجع إلى كتاب الله، وسنّة رسول الله، أو إلى الأصول النظرية المعقولة، فيستمد منها الأدلة على ما يقرره ويدعو إليه من عقائد أو أحكام أو آداب، وإذا لم يمكنه إقناع الناس من هذه الناحية، فعدّه مجدداً مصلحاً، جهالةٌ ليس وراءها جهالة. أليس مجددكم هو الذي يقول: "بعث الله تعالى في هذه الأمة مسيحاً أفضل من المسيح الأول في جميع الكمالات، والذي نفسي بيده! لو كان

عيسى بن مريم في زمان أنا فيه، لما استطاع عملاً مما عملته، ولم يكد يظهر المعجزة التي ظهرت". أو ليس مجددكم هو الذي يدعي أنه أوحي إليه قوله: "إنا أرسلنا أحمد إلى قومه، فأعرضوا عنه، وقالوا: كذاب أشر"؟!. بل وجد في كلام غلام أحمد ما يدل على أنه يحدث نفسه بأنه رسول مشرع؛ فقد عد من أقسام الكفر: جحود المسيح الموعود (يعني: نفسه)، وتكذيبه فيما جاء به، وقال في حاشية على كتاب "ترياق القلوب": "وليتنبه أن تكفير المنكرين من خواص الأنبياء الذين جاؤوا بشريعة جديدة، وأحكام ناسخة، وأما من سواهم من الملهمين والمحدثين، فلا يكفر أحد بجحوده". فإن كان غلام أحمد يكتب ما يكتب وهو عارف ما يكتب، قلنا: إن حكمه بتكفير من يكذب به، ثم قصره التكفير على من يكذب الأنبياء الذين جاؤوا بشرائع جديدة، يفيدان أن غلام أحمد يدّعي أنه من الأنبياء الذين جاؤوا بشرائع جديدة. فدعوا أيها اللاهوريون ذكر النبوة الظلية أو المجازية، وتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: أن نثق بأن غلام أحمد قد ادعى النبوة والرسالة كذباً، وأميطوا ما يزعم غلام أحمد أنه أوحي إليه إماطة الأذى عن الطريق، وارجعوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله، ولا تجحدوا ما نطق به القرآن من معجزات رسل الله الأكرمين، واعترفوا بأن ما أولتموها به لا يحتمله اللفظ العربي، ولا يسمح به سياق الآيات، ولم يعرفه علماء الصحابة الذي تلقوا القرآن وبيانه من فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأن فرقة القاديانية التي تصدق غلام أحمد في دعوى النبوة لتعدُّكم

فرقة خارجة عن نحلتهم، والأمة الإسلامية التي تؤمن بما نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما حدّث به محمد - صلى الله عليه وسلم -، تعدّكم فرقة خارجة عن حدود دينهم، وليس تأويلكم للمعجزات المذكورة في القرآن إلا إنكاراً لوقوعها، وما تسميتكم لغلام أحمد بالمجدد المصلح إلا نصب أحبولة لاستدراج المستضعفين أو الغافلين إلى نحلة ملفّقة شوهاء.

نقض شبه القاديانية

نقض شُبه القاديانية (¬1) كنا كتبنا في مجلة "نور الإسلام" (¬2) مقالاً نبهنا فيه المسلمين لنزعة غلام أحمد، ومزاعمه الباطلة، فكان له - بحمد الله تعالى- أثر عظيم في إيقاظ من كانوا في غفلة عن هذه النحلة، وما يثيره دعاتها في العالم الإسلامي من فتون وشرور، فتميز أولئك الدعاة غيظاً، وما كان من داعيتهم في فلسطين إلا أن كتب مقالاً يوهم فيه الطائفة الواقعة في حبالتهم أنه يرد على مقالنا. ووقع نظرنا على ذلك المقال المملوء بالتمويه والالتواء عن آداب المناظرة، فبدا لنا أن نعود للكتابة في تلك النحلة، فنزيد حالها إيضاحاً. وكتبنا في مجلة "نور الإسلام" مقالين آخرين نبهنا فيهما لبعض ما في مقال ذلك الداعية من مراوغة وانحراف عن السبل، وسقنا فيها بعض ما نطق به كبيرهم غلام أحمد من زور وهذيان، وحدث بعد هذا أن نشر ذلك الداعية في أوراق يصدرونها في شكل مجلة مقالاً حاول فيه الرد على مقالنا الثاني المنشور في مجلة "نور الإسلام". والواقع أنه لم يأت في مقاله هذا إلا بما يطعن في دعوتهم، ويزيد الناس خبرة بفساد مذهبهم، وقد كان في عرض بعض أقوال غلام أحمد وشيء من مسلكه الكفاية للدلالة على أنه يكيد للأمة ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - الجزآن السابع والثامن من المجلد الرابع. (¬2) وهو المقال المنشور في هذا الكتاب.

الإسلامية، ويقول على الله غير الحق. ولا حاجة بنا في إبطال دعوة النبوة والرسالة إلى الخوض أن النبوة منقطعة أو باقية؛ فإن تلك الأقوال التي صدرت من غلام أحمد، تنادي بملء حروفها أن النبوة في ناحية اليمين، وهو في ناحية الشمال، ولكنا آثرنا النزول إلى نقض بعض مزاعمهم؛ حذراً من أن تجد أذهاناً غافلة فتعلق بها. وها نحن أولاء نعرض على حضرات القراء قطعاً من مقال داعية القاديانية؛ ليزدادوا علماً بحال تلك النحلة، ومبلغ دعاتها من لبس الحق بالباطل: رأى غلام أحمد ومن اتبع خطواته أن قوله تعالى في وصف الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم -: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] يسد الطريق على من يريد فتنة الناس بدعوى النبوة، فحاولوا تأويل الآية على معنى أنه أفضل النبيين، أو سيد النبيين، وابتغوا هذا التأويل؛ ليتهيأ لهم أن يقولوا على الله ما شاءت أهواؤهم، ويفسدوا على المسلمين أمر دينهم، فقلنا لهم: إن علماء التفسير قد اتفقوا على أن {وَخَاتَمَ} في الآية بمعنى: آخِر، وهو المعنى الذي يذكره علماء اللغة، ويسوقون من شواهده هذه الآية، ومن أراد صرف {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} عن معنى: آخِر النبيين إلى معنى: أفضل النبيين، فعليه بإقامة شاهد، أو نقل كلمة عن بعض علماء اللغة يدل على أن وصف الرجل بكونه خاتماً لقوم، يقصد منه أنه أفضلهم، أو سيدهم، ولكن داعية القاديانية لم يستطع أن يقيم من كلام العرب أو علماء اللغة ولو شاهداً واحداً على أن مثل تركيب {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} قد يستعمل بمعنى: أفضلهم، أو سيدهم. يقول الداعية في مقالدالجديد: "وكنا سقنا شواهد واستعمالات العرب في كون لفظ الخاتم مضافاً، والقوم أولي المناصب مضافاً إليهم، وكون

استعمال هذا المركب الإضافي، في مقام المدح، ولا يتأتى المعنى في تلك الاستعمالات إلا أن الممدوح أفضل القوم وسيدهم". والداعية لم يورد في مقاله السابق شيئاً من كلام العرب يشهد بأنه الخاتم إذا أضيف إلى القوم أولي المناصب كان بمعنى: أفضلهم، أو سيدهم، وإنما أورد عبارات لمن لا يحتج عالم في تفسير كتاب الله تعالى بكلامهم، ولا تتجاوز تلك العبارات وصف أحد الرجال بأنه خاتم العلماء، أو الأولياء، أو الشعراء، ما هي إلا أقوال صدرت من بعض رجال القرون المتأخرة، أو القريبة منها، وإنما يحتج في تفسير القرآن الكريم بكلام العربي الصميم. وهل رأيتم مجادلاً أسخف قولاً ممن يحتج في بيان معنى آية من كتاب الله تعالى بما كتبته المطبعة الأزهرية على أول الصحيفة الأولى من كتاب "الإتقان"؛ أعني قوله: "الجزء الأول من كتاب الإتقان في علوم القرآن لخاتمة المحققين". ثم إن أمثال هذه العبارات من نحو خاتم المحققين، أو خاتم الأئمة، أو خاتم المجتهدين، قد ينساق إليها قائلها من شدة إكباره لمقام الممدوح، لحد أن يظن بلوغه مرتبة يبعد أن ينالها أحد من بعده، كما قالوا: هيهات أن يأتي الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل وكما قالوا: حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكفِّرِ وكما قال السيوطي في تقي الدين الحراني: "آخر المجتهدين". وفسر الداعية في مقاله الأول الخاتم بمعنى: الزينة، ولم يجد شاهداً على هذا من كلام العرب، أو أقوال اللغويين، أو المفسرين، فتعلق بكلمة

للشيخ محمد طريح النجفي (أحد علماء الشيعة) اقتطعها اقتطاعاً، فقال: يقول صاحب "مجمع البحرين" ما نصه: "ومحمد خاتم النبيين يجوز فيه فتح التاء وكسرها، فالفتح بمعنى: الزينة، مأخوذ من الخاتم الذي هو زينه للابسه". والواقع أن الشيخ النجفي قد صرح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر النبيين، فقد قال قبل تلك الكلمة التي اقتطعها الداعية: "قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} من [الأحزاب: 40]؛ أي: آخرهم، ليس بعده نبي". ثم قال: "ومحمد خاتم النبيين يجوز فيه فتح التاء وكسرها، فالفتح بمعنى: الزينة، مأخوذ من الخاتم الذي هو زينة للابسه، وبالكسر اسم فاعل بمعنى: آخر". ولما كان صاحب "مجمع البحرين" يعتقد أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - آخر الأنبياء ليس بعده نبي، فقصارى أمره أن يكون أخطأ في تأويل {وَخَاتَمَ} على قراءة الفتح بمعنى: الزينة؛ فإنه مخالف لأقوال من هم أدرى منه بتفسير كتاب الله تعالى، وبوجوه استعمال الألفاظ العربية حقيقة أو مجازاً. وها نحن أولاء نسوق إليكم طائفة من أقوال علماء اللغة والمشاهدة بأن الخاتم - بفتح التاء أو كسرها- بمعنى: الآخِر، قال صاحب "اللسان": "وخاتَمهم، وخاتِمهم: آخِرهم، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين!. وقال ابن سيده في كتاب "المحكم": "وختام القوم، وخاتَمهم، وخاتِمهم: آخرهم"، وقال: "وفي التنزيل: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]؛ أي: آخرهم". وقال الأزهري في كتاب "التهذيب": "وخاتم كل شيء: آخره، وقوله تعالى: {رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} معناه: آخر النبيين". ولم يذكر أحد من هؤلاء الأئمة أو غيرهم كصاحب "الصحاح"، وصاحب "المصباح"، وصاحب

"القاموس"، وصاحب "أساس البلاغة" أن الخاتم يكون بمعنى: الزينة. ولعل الداعية يعلم أن القرآن الكريم انما يستشهد في تفسيره بكلام العرب، ويتيقن أن استشهاده بالعبارات التي ينقلها عن بعض الكتاب أو أصحاب المطابع، لا يتقبله أهل العلم، ولكنه يسوقها استهواء لقوم يجهلون آداب البحث، ولا يفرقون بين ما يصح أن يستشهد به في تفسير كتاب الله تعالى، وما لا يصح الاستشهاد به. وخلاصة البحث: أن علماء اللغة يقولون: الخاتم بمعنى: الآخر، والمفسرون يقولون: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]؛ أي: آخرهم، وداعية القاديانية يزعم أن {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} بمعنى: زينتهم، أو سيدهم، أو أفضلهم. وانتظرنا منه أن يأتي بشاهد على هذا من كلام العرب، أو من كتب اللغة، أو من أقوال أئمة التفسير، فلم يفعل، وذهب يعارض أئمة اللغة والتفسير، بلغو من القول، كأنه لا يشعر أن القرآن الكريم قول فصل، وما هو بالهزل. يفكر داعية القاديانية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، ويذهب إلى أن {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} في الآية يستعمل بمعنى: أفضل النبيين، أو زينتهم، وأورد في الاستدلال على أن لفظ خاتم يستعمل بمعنى: أفضل، أو زينة حديثاً هو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للعباس - رضي الله عنه -: "أنت خاتم المهاجرين في الهجرة، وأنا خاتم النبيين في النبوة". وهذا الاستدلال مدفوع بأن الذي ورد في كتاب "أسد الغابة": أن العباس استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة، فقال له: "يا عم! أقم مكانك الذي أنت به، فإن الله تعالى يختم بك الهجرة كما ختم لي النبوة". وقرأنا في كتاب "الإصابة"؛ أن العباس "هاجر قبل الفتح بقليل"، وقرأنا في غزوة الفتح من

"سيرة ابن هشام": أن العباس - رضي الله عنه - لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض الطريق، لقيه بالجحفة مهاجراً بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه راض. فصاحب كتاب "الإصابة" يقول عن العباس - رضي الله عنه -: إنه هاجر قبل الفتح بقليل، وابن هشام يقول: لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجحفة مهاجراً بعياله. فمتى ثبت حديث: "أنت خاتم المهاجرين"، صح أن يكون العباس خاتم المهاجرين بمعنى: آخرهم؛ أي: آخر المهاجرين من مكة إلى المدينة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا هجرة بعد الفتح". وداعية القاديانية لم يأت بشاهد على أن بعض المسلمين قد هاجر بعد العباس حتى يمتنع أن يكون خاتم المهاجرين بمعنى: آخرهم. وأورد داعية القاديانية على تفسير خاتم بأفضل أو زينة حديثاً عزاه إلى "كتاب الصافي" الذي هو تفسير لأحد علماء الشيعة، وهو "أنا خاتم النبيين، وأنت يا علي خاتم الأولياء"، ولكن صاحب "كتاب الصافي" لم يروه بسند، ولم يسنده إلى كتاب، حتى نبحث في سنده، وتتبين حقيقته، بل قال في تفسير قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]: آخرهم الذي ختمهم، أو ختموا به- على اختلاف القراءتين-، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا خاتم النبيين، وعلي خاتم الأولياء". فصاحب "كتاب الصافي" معترف بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر النبيين، ولا يتم الاستشهاد بقوله: "خاتم الأولياء" إلا أن يذكر سند الحديث، ويكون رجاله ممن يوثق بهم في الرواية، أو يسنده إلى كتاب من الكتب المعروفة بالتحري في رواية الحديث. وكان الأحاديث الموافقة لهذا الحديث في المعنى، وقد

حكم عليها الحفاظ بالوضع: حديث: "كما أني خاتم النبيين، كذلك علي وذريته يختمون الأوصياء إلى يوم الدين" (¬1). وقال ابن الجوزي: ولفظ: "خاتم الأولياء" باطل لا أصل له، وخاتم الأولياء في الحقيقة: آخر مؤمن بقي من الناس، وليس هو أحسن الأولياء، ولا أفضلهم، بل خيرهم أَبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - (¬2). سقنا أحاديث صحيحة كثيرة في معنى انقطاع النبوة بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذهب ذلك الداعية يحرفها عن مواضعها، ويقول فيها قول من لا يقدر الحديث النبوي قدره، ولا يبالي أن يخرج بالكلام العربي عن وجوه دلالته، وقد أريناكم فيما سلف نموذجاً من تأويلهم الباطل لبعض تلك الأحاديث، واليوم نسوق إلى حضراتكم مثالاً تشهدون فيه كيف يعتسفون في غير طريق، ويحاولون إرضاء شهواتهم، ولو بأقبح التأويل: أوردنا -في جملة ما أوردنا من الأحاديث- ما جاء في "سنن الترمذي"، من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي، ولا نبي"، فشق ذلك على الناس، فقال: "ولكن المبشرات"، قالوا: يا رسول الله! وما المبشرات؟ قال: "رؤيا المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة". وهذا الحديث صريح في انقطاع النبوة بعد البعثة المحمدية، ولكن الداعية القادياني حاول صرف هذا النص عن معناه، وذهب في تأويله، والخروج على حجته مذهب التعنت، حتى زعم أنه معارض لبعض آيات القرآن الكريم، ¬

_ (¬1) انظر: "اللآلئ المصنوعة". (¬2) "تذكرة الموضوعات".

فقال: "إن القرآن المجيد يقرر نزول الملائكة على المؤمنين، وتبشيرهم إياهم بنصرتهم في الدنيا والآخرة، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]. ويقول في مقام آخر: إن الملائكة وجبريل أيضاً تنزل كل ليلة قدر: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 3 - 4]. وكلام الملائكة مع البشر وحي في اصطلاح القرآن المجيد: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]. فإذا ثبت وجود الوحي من حيث القرآن المجيد، فلا بد من تأويل في معنى الحديث". وليس في هاتين الآيتين ما يعارض الحديث، أما الآية الأولى، فتفسيرها عند بعض السلف على أن تنزل الملائكة، وقولهم للذين استقاموا: {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} يكون عند الموت، وهذا ما يقوله مجاهد، والسدي، ومنهم من يقول: إن الآية إخبار عما يكون عند البعث، وهو قول مقاتل، ومنهم من يقول: إنها إخبار عما يكون عند الموت، وفي القبر، وهذا قول زيد بن أسلم. وذهب آخرون في تفسيرها إلى أن الملائكة تمد صدور المؤمنين بما يشرحها، ويدفع عنها الخوف، على طريقة الإلهام، كما أن الشياطين تغوي الكافرين بتزيين القبائح، وتوسوس لهم بما يثير في قلوبهم الخوف

والحزن، قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل: 24]. وقال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]. وقال تعالى: [{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]. فليس بين حديث الترمذي وآية: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت: 30]. تعارض أو ما يشبه التعارض، إلا في نفوس باضت فيها الأهواء وفرّخت، ولم يكن للحكمة ولا للموعظة الحسنة عليها من سلطان. ولو صح هذا الذي يقوله داعية القاديانية في تفسير الآية، لوجب أن يكون كل مؤمن مستقيبم نبياً يوحى إليه، ولا أقوى إيماناً من الخلفاء الراشدين، ولا أقوم منهم سيرة، وما ادَّعى أحد منهم أنه نبي أو رسول. أو أنه تأتيه الملائكة بالوحي، وما كان أحد من المسلمين يصفهم بالنبوة أو الرسالة، أفيزعم داعية القاديانية أنهم لم يقولوا: ربنا الله، ولم يستقيموا؟! أو أنهم لم يبلغوا في الاستقامة مبلغ غلام أحمد الذي أوغل في الضلالة، وأثار فتنة صادفت في بعض الناس غفلة أو جهالة، فكانوا لنارها حطباً!. وأما آية: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4]. فليس فيها ما يدل على أن الملائكة يخاطبون المؤمنين على طريق الوحي الذي هو من خصائص الأنبياء - عليهم السلام -. وأئمة التفسير من السلف

والخلف يقطعون بكذب دعوى النبوة بعد البعثة المحمدية، ولا يجدون في هذه الآية ما يعارض الأحاديث الواردة في انقطاع النبوة. ومن الوجوه التي تساعدها البلاغة، وتطابق بها الآية سائر النصوص: أن يكون تنزل الملائكة من أجل الأمور التي عهد إليهم بتدبيرها {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5]، فإن حمل الأمر في الآية على معنى الحكم الشرعي، كانت إخباراً عن تنزلهم ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن الحكيم. والتعبير بالمضارع لاستحضار ذلك التنزل بصورته البديعة، وهو من أحسن الطرق المعهودة في البيان. وزعم الداعية القادياني أن حديث الترمذي: "إن النبوة والرسالة قد انقطعت" يعارض الحديث الذي يقول: إن المسيح الموعود "يوحى إليه: أن حَوِّزْ عبادي إلى الطور؛ فإني قد أنزلت عباداً لي لا يَدانِ لأحد بقتالهم". وردت أحاديث صحيحة في نزول المسيح - عليه السلام -، ولم يجد أهل العلم بينها ويين الأحاديث الصريحة في انقطاع النبوة معارضة، والراسخون في فهم الأحاديث النبوية، العارفون بوجوه استعمال الألفاظ العربية في حدود وضعها، وعرف البلغاء من الناطقين بها يقولون: إن الأحاديث الواردة في انقطاع النبوة تنفي وقوع نبوة بعد البعثة المحمدية، ولا تتناول عيسى- عليه السلام -؛ لأن النبوة ثابتة له من قبل. ومن هؤلاء من يحمل الأحاديث على امتناع بعثة نبي بعد البعثة المحمدية على وجه عام، ويستثنى من هذا العموم عيسى - عليه السلام -؛ للأحاديث الواردة في نزوله آخر الزمان. ومن حمل النصوص الواردة في انقطاع النبوة على نفي النبوة التشريعية؛ كالملّا علي قاري، لا يقصد فتح باب النبوة غير التشريعية بإطلاق، حتى توضع دعوى

غلام أحمد النبوة موضع النظر، واحتمال أن تكون صحيحة، وإنما يقصد لوجه في تفسير الآية أو الحديث يتفق به مع الأحاديث الواردة في نزول عيسى - عليه السلام -. فعلماء الإسلام -على اختلافهم في تفسير الآية والأحاديث- يتفقون على أن لا نبي ولا رسول بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -، إلا ما ورد من نزول عيسى- عليه السلام -. وقد يأتي داعية القاديانية إلى عبارات بعض من ذهبوا في تفسير الآية أو الأحاديث إلى معنى نفي النبوة التشريعية ابتغاء الجمع بينها وبين الأحاديث الأخرى، ويأخذ منها ما يقولونه من أن الآية أو الحديث في نفي النبوة التشريعية، ويدع بقية كلامهم الصريح في أنهم ارتكبوا هذا التأويل لقصد خاص: هو أن لا تكون آية: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وما يوافقها من الأحاديث نافية بمقتضى عمومها مجيء عيسى - عليه السلام -، وقد نبهنا في مقال سابق على هذا النوع من التزوير في كلام نقله عن الشيخ عبد القادر الكردستاني. وإليك مثالاً آخر من هذا القبيل: قال الداعية: يقول المحقق الملّا علي قاري: "فلا يناقض قوله: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}؛ إذ المعنى: لا يأتي نبي ينسخ ملته، ولم يكن من أمته". والواقع أن الملا علي قاري أورد حديث؛ "لو عاش إبراهيم، لكان نبياً"، وحديث: "لو كان بعدي نبي، لكان عمر بن الخطاب" (¬1). ثم قال: ¬

_ (¬1) رواه أحمد، والحاكم.

لو عاش إبراهيم، وصار نبياً، وكذا لو صار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نبياً، لكان من أتباعه - عليه السلام -؛ كعيسى، والخضر، وإلياس - عليهم السلام -، فلا يناقض قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، إذ المعنى: أنه لا يأتي نبي بعده ينسخ ملته، ولم يكن من أمته. فهذا التأويل، مع عدم الحاجة إليه في تحقيق معنى الآية، إنما ارتكبه الملا علي قاري ليدفع به ما يقال من أن حديث: "لو عاش إبراهيم" يقتضي أنه لو عاش، وصار نبياً، لزم أن لا يكون نبينا - عليه السلام - خاتم النبيين، ولا حاجة إلى هذا التأويل، فإن حديث عمر بن الخطاب حجة على انقطاع النبوة بعده - عليه الصلاة والسلام -. وأما حديث: "لو عاش إبراهيم، لكان نبياً"، فقد أورده الداعية في شبهة، وقال: "فلو بقي إبراهيم عائشاً، ما كان ثمة مانع من صيرورته نبياً، لا آية: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، ولا أي حديث". وهذه الشبهة مدفوعة بأن هذا الحديث قد أنكر وروده طائفة من أهل الحديث، كما أنكره ابن عبد البر في كتاب "التمهيد"، وقال الإمام النووي في "تهذيبه": "هذا الحديث باطل، وجسارة على الكلام بالمغيبات، ومجازفة وهجوم على عظيم". والأحاديث الموضوعة أو الضعيفة لا تقف في وجه الأدلة القطعية، ومن أراد أن يعقد بينها وبين القطعية وفاقاً، فليبق الأدلة القطعية بحالها، ويذهب في تأويل الضعيف أو الموضوع -على فرض ثبوته- ما شاء.

البابية والبهائية

البابيَّة والبهائيَّة (¬1) جاءنا من حضرة صاحب التوقيع السؤال الآتي: ما البهائية؟ وما اعتقاد مؤسسيها وأتباعهم؟ وهل يعتقدون في الحشر والجنة والنار؟ وهل يعتقد البهائيون بنبوة سيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام -؟ وإذا كانوا يعترفون بنبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يعتقدون بنبي بعده، ودين غير دينه؟ وما الواجب عمله لإحباط مساعيهم حتى لا يقع أحد في شراكهم؟ بورسعيد ... الجواب: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فقد احتوى هذا الخطاب مسائل متعددة، ونحن نورد كل سؤال، ونقفي على أثره بالجواب عنه مستندين فيما نكتب إلى مؤلفات (¬2). للبهائيين أنفسهم، وكتبٍ (¬3). ألفها بعض من اطلع على كتبهم المؤلفة باللغة الفارسية ¬

_ (¬1) مجلة "نور الاسلام" - الجزء الخامس من المجلد الأول - القاهرة. (¬2) ككتاب "الدرر البهية"، وكتاب "عبد البهاء والعصر الجديد". (¬3) ككتاب "مفتاح باب الأبواب".

ما البهائية؟

والعربية؛ بقصد بيان أمرهم نصيحة للإسلام والمسلمين. س - ما البهائية؟ ج - البهائية: نسبة إلى بهاء الله: لقب به ميرزا حسين علي، وهو الزعيم الثاني للمذهب الذي تتولاه الطائفة المسماة بالبهائية. وتسمى هذه الطائفة: البابية نسبة إلى (الباب)، وهو لقب ميرزا علي محمد ذلك الذي ابتدع هذه النحلة. وإليك ملخص القول في نشأتها: أصل نشأة هذه النحلة: أن ميرزا علي محمد الملقب بالباب نشأ في "شيراز" بجنوب إيران، وأخذ شيئاً من مبادئ العلوم، ثم اشتغل بالتجارة، ولما بلغ من العمر الخامسة والعشرين، ادعى أنه المهدي المنتظر، وكان إعلانه بهذه الدعوة سنة 1260 هـ، نعق بهذه الدعوة، فأخذها بالتسليم طائفة من الجاهلين. وأرسل بعض هؤلاء إلى نواح مختلفة من إيران للإعلام بظهوره، وبثّ شيء من مزاعمه، وتنبه العلماء لهذه الدعاية، فقاموا في وجهها، وعقد بعض الولاة بينهم وبين ميرزا علي هذا مجالس للمناظرة، فرأى بعضهم ما في أقواله من غواية وخروج عن الدين، فأفتى بكفره. ورأى آخرون ما فيها من لغو وسخافة، فنسبه إلى الجنون واختلال الفكر. واعتقل في "شيراز"، ثم بأصفهان، وساقته الحكومة الإيرانية في عهد الملك ناصر الدين شاه إلى "تبريز"، وثارت بين أشياعه وبين المسلمين فتن وحروب سفكت فيها الدماء، وكانت عاقبته أن أعدمته الحكومة في "تبريز" صلباً عام 1265 هـ. وقعت بعد قتله فترة كانت أتباعه فيها على اختلاف في شأن من ينوب عنه، إلى أن دبروا اغتيال الملك ناصر الدين انتقاماً لزعيمهم، فهجم عليه

اثنان منهم، فخاب سعيهم، وأخذت الحكومة تتقصى أثر البابيين، وتسوق زعماءهم إلى مجلس التحقيق، وكان الميرزا حسين علي الذي لقبوه بعد بـ (بهاء الله) من شيعة الباب، ودعاة نحلته، فقبض عليه، وسجن بطهران بضعة أشهر، ثم أبعد إلى بغداد سنة 1269 هـ. لما أدركت الحكومة الإيرانية خطر هذه الفئة وما يبيتونه من فتن؛ جعلت ترقبهم بحذر واحتراس، فالتحق طوائف منهم ببغداد، واجتمعوا حول ميرزا حسين الملقب ببهاء الله، ثم حدث بينهم ويين الشيعة ببغداد شقاق كاد يفضي إلى قتال، فقررت الحكومة العثمانية وقتئذ إبعاد البابيين من العراق، فنقلتهم إلى الآستانة، ونفتهم إلى "أدرنة". قام المسمى (بهاء الله) لهذا العهد يدعو إلى نفسه، ويزعم أنه هو الموعود به الذي أخبر عنه الباب (¬1)، وقبل دعوته كثير البابيين، وتسموا حينئذ بالبهائيين، وممن رفض دعوته أخوه ميرزا يحيى الملقب (صبح أزل). ثم إن الحكومة العثمانية أمرت بإبعاد الفريقين من "أدرنة"، فنفت الميرزا يحيى وأتباعه (¬2) إلى "قبرص"، ونفت البهاء وأتباعه إلى "عكة" بفلسطين، ¬

_ (¬1) يزعم البهائية أن الباب كان يشير إلى شخص يظهر بعده، وكانوا يعبرون عنه بلفظ: "من يظهره الله". (¬2) يسمى هؤلاء البابية: (الأزلية)؛ إذ يزعمون أن يحيى هذا هو مصداق ما أشار إليه الباب في كتاب "البيان" باسم: "من يظهره الله"، وهؤلاء يكفرون بالبهاء، ويتناولونه وأتباعه باللعن في السر والعلانية، وليحيي هذا كتاب أراد أن يحاكي به القرآن الكريم في ترتيب الآيات والسور، وحاول أن يحاذي به أسلوبه الحكيم، فافتضح أمره، وظهر سخفه، {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52].

ما اعتقاد مؤسسيها وأتباعهم؟

وبقي البهاء بعكة إلى أن هلك عام 1309 هـ، فتولى رئاسة الطائفة ابنه عباس الذي لقبوه بـ (عبد البهاء)، فأخذ يدعو إلى هذا المذهب، ويتصرف فيه كما يشاء، ولم يرض عن صنيعه هذا أصحاب البهاء، فانشقوا عنه، والتفوا حول أخيه الميرزا علي، وألفوا كتباً بالفارسية والعربية، وطبعوها في الهند يطعنون بها في سيرة عباس، ويصفونه بالمروق من دين البهاء. س - ما اعتقاد مؤسسيها وأتباعهم؟ ج - ليست البهائية بالنحلة المحدثة التي لم يتقدم لها في النحل المارقة من الإسلام ما يشابهها، أو تتخذه أصلاً تبني عليه مزاعمها، وإنما هي وليدة من ولائد الباطنية، تغذت من ديانات وآراء فلسفية ونزعات سياسية، ثم اخترعت لنفسها صوراً من الباطل، وخرجت تزعم أنها وحي سماوي. ولولا أن في الناس طوائف يتعلقون بذيل كل ناعق، لما وجدت داعياً ولا مجيباً لندائها، وها نحن أولاء نسوق إليك كلمة في مذهب الباطنية، ونحدثك عن البابية أو البهائية حتى تعلم أنها سلالة من ذلك المذهب الأثيم: تقوم دعوة الباطنية على إبطال الشريعة الإسلامية، وأصل نشأة هذه الدعوة: "أن طائفة (¬1) من المجوس راموا عند شوكة الإسلام تأويل الشرائع على وجوه تعود إلى قواعد أسلافهم، وذلك أنهم اجتمعوا، فتذاكروا ما كان عليه أسلافهم من الملك، وقالوا: لا سبيل لنا إلى دفع المسلمين بالسيف؛ لغلبتهم، واستيلائهم على الممالك، لكنا نحتال بتأويل شرائعهم إلى ما يعود إلى قواعدنا، ونستدرج به الضعفاء منهم؛ فإن ذلك يوجب ¬

_ (¬1) كتاب "المواقف وشرحه" للسيد الجرجاني.

اختلافهم، واضطراب كلمتهم". وقد رسموا لهذا المذهب خطة دبروها بنوع من المكر، وهو أنهم جعلوا الدعوة مراتب: 1 - تفرس حال المدعو، أقابل للدعوة أم لا؟ 2 - استهواء كل أحد بما يميل إليه من زهد أو خلاعة. 3 - التشكيك في أصول الدين. 4 - أخذ الميثاق على الشخص بأن لا يفشي لهم سراً. 5 - دعوى موافقة أكابر رجال الدين والدنيا لهم؛ ليزداد الإقبال على مذهبهم. 6 - تمهيد مقدمات يراعون فيها حال المدعو لتقع لديه موقع القبول. 7 - الطمأنينة إلى إسقاط الأعمال البدنية. 8 - سلخ المدعو من العقائد الإسلامية، ثم يأخذون بعد هذا في تأويل الشريعة على ما تشاء أهواؤهم. اتخذ هذه الخطة وسيلة إلى محاربة الدين الإسلامي طوائف كانوا يتظاهرون بأنهم من شيعة آل البيت، وهم لا يؤمنون بنبي من الأنبياء، ولا بشيء من الكتب المنزلة، ولا بيوم الجزاء، ولا أن للعالم خالقاً، وتراهم يستدلون بالقرآن والحديث، ولكن يحرفونهما عما أراد الله ورسوله منهما. ومن الباطنية المتظاهرين بالتشيع لآل البيت من ادّعى النبوة لبعض آل البيت. وكم أحدث هؤلاء الذين يدعون المهدية، أو النبوة، أو الإلهية من فتن! وكم جروا على العالم الإسلامي من بلاء! وكان أهل العلم يقاومون باطلهم،

ويهتكون أستارهم، وممن تصدى للرد عليهم: أَبو حامد الغزالي، فألّف كتابه المسمى: "حجة الحق (¬1) "، وكتابه المسمى: "فضائح الباطنية (¬2) "، وذكر في مقدمة هذا الكتاب أنه طالع الكتب المصنفة فيهم، فوجدها مشحونة بفنين: فن في تواريخ أخبارهم وأحوالهم من بدء أمرهم إلى ظهور ضلالهم، وتسمية كل واحد من دعاتهم في كل قطر من الأقطار، وبيان وقائعهم فيما انقرض من الأعصار، وفن في إبطال تفاصيل مذاهبهم وعقائد تلقوها من الثنوية والفلاسفة، وحرفوها عن أوضاعها، وغيروا ألفاظها قصداً للتغطية والتلبيس، ثم بين أنه قصد في كتابه إلى الإعراب عن خصائص مذهبهم، والتنبيه على مدارج حيلهم، والكشف عن بطلان شبههم. ولأبي بكر بن العربي مع بعض زعمائهم مناظرات ذكرها في كتاب "القواصم والعواصم"، وتناول الشيخ ابن تيمية مذهب الباطنية، وردّ على بعض فرقهم في بعض مؤلفاته. عرفنا تاريخ الباطنية، وقرأنا بعض كتب البابية والبهائية، فوجدنا روح الباطنية حلت في جسم ميرزا علي، وميرزا حسين علي، فخرجت باسم البابية والبهائية. الباطنية يستدلون بكلام النبوة، ويحرفون كلم القرآن والحديث عن مواضعه؛ كما فسروا حج البيت العتيق بزيارة شيوخهم، والبابية أو البهائية يستدلون بالقرآن والحديث، ويذهبون في تأويلهما إلى مثل هذا الهذيان نفسه، ولميرزا علي المسمى بـ (الباب) تفسير لسورة يوسف مشى فيه على ¬

_ (¬1) ألفه باللسان الفارسي. (¬2) ألفه باللغة العربية وطبع في لندن.

هذا النمط، فقال في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]. "المراد من يوسف: حسين بن علي، والمراد بالشمس: فاطمة، وبالقمر: محمد، وبالنجوم: أئمة الحق، فهم الذين يبكون على يوسف سجّدا"!. وهذا أحد دعاتهم المسمّى: أبا الفضل الجرفادقاني قد أورد في كتابه المسمّى: "الدرر البهية" قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39]. وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53]. وقال: "ليس المراد من تأويل آيات القرآن: معانيها الظاهرية، ومفاهيمها اللغوية، بل المراد: المعاني الخفية التي أطلق عليها الألفاظ على سبيل الاستعارة والتشبيه والكناية". ثم قال بعد هذا: "قرر الله تنزيل تلك الآيات على ألسنة الأنبياء، وييان معانيها، وكشف الستر عن مقاصدها إلى روح الله حينما ينزل من السماء". وقال: "إنما بعثوا - عليهم السلام - لسوق الخلق إلى النقطة المقصودة، واكتفوا منهم بالإيمان الإجمالي حتى يبلغ الكتاب أجله، وينتهي سير الأفئدة إلى رتبة البلوغ، فيظهر روح الله الموعود، ويكشف لهم الحقائق المكنونة في اليوم المشهود"، وقال: "وفي نفس الكتب السماوية تصريحات بأن تأويل آياتها إلى معانيها الأصلية المقصودة لا تظهر إلا في اليوم الآخر؛ يعني: القيامة، ومجيء مظهر أمر الله، وإشراق آفاق الأرض ببهاء وجه الله".

ثم قال: "ولذلك جاءت تفاسير العلماء من لدن نزول التوراة إلى نزول البيان (¬1) تافهة باردة عقيمة جامدة، بل مضلة مبعدة محرفة مفسدة،. كنا نود أن نصرف القلم عن نقل مثل هذا السخف، ونصون صحف الكتاب عن أن تحمل لقرائه شيئاً من الزيغ والالحاد في آيات الله، والاعتداء على علماء الإسلام الذين رفعوا منار الحق، وأذاقوا بحججهم أعداء الإنسانية عذاباً أليماً، ولكن دعاة هذا المذهب قد استهووا فريقاً من أبناء المسلمين، وأصبحوا يدعون إلى مذهبهم في النوادي، ويتحدثون عنه في الصحف، وألفوا كتباً تقع في أيدي بعض الشباب، فذلك ما اضطرنا إلى أن نبسط القول في بيان نحلتهم، وسرد أقوالهم؛ حتى يكون المسلمون على بينة من أمرهم. لهج البابية البهائية مقتفين أثر إخوانهم الباطنية بهذا النوع من التأويل؛ ليدخلوا منه إلى العبث في تفسير القرآن والحديث، وصرفهما عما يراد بهما من حكمة وهداية. {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. أنزل الله القرآن بلسان عربي مبين، ودلنا على أن الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - يقوم ببيان ما خفي على الناس علمه، فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وما زال السلف من الصحابة والراسخين في العلم من بعدهم، يفسرون القرآن بما يووونه عن الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وبما يفهمونه منه ¬

_ (¬1) هو الكتاب الذي وضعه ميرزا علي محمد الملقب بالباب.

على مقتضى استعمال لغتهم وأساليب بلاغتهم، فجاؤوا بعلم كثير، وأدب غزير، وتركوها حكماً رائعة، وشريعة سمحة باهرة، وقوانين اجتماع طاهرة، حتى قام جماعة من أوشاب الناس يزعمون أن هذا القرآن الذي أنزله الله بلسان العرب لم يوكل بيانه إلى من كان يقرؤه على الناس بكرة وعشياً، ولم يفهم المراد منه أولئك الذين يتهجدون به في الأسحار سجداً لله وبكياً، وإنما وكل بيانه إلى أمثال ميرزا علي محمد، وميرزا حسين، وعباس، وأبي الفضل الجرفادقاني ليخوضوا فيه بلغو من القول، ويعثوا في تأويله مفسدين. قال أَبو بكر بن العربي في كتاب "القواصم والعواصم" يرد على إخوانهم الباطنية قولهم: إن خليفة الله هو الذي يبلغ عنه "الخليفة هو النبي الذي بين، ثم استأثر الله به، ولا معصوم بعده". وفي كتاب "فضائح الباطنية" بسطة في رد ما يدعونه من ظهور الإمام المعصوم، وحصر مدارك الحق في أقواله، وقد عرفت أن الإمام المعصوم الذي يدعيه الباطنية هو ما يسميه البابية والبهائية بـ"من يظهره الله"، ويزعمون أنه هو الذي يعرف تأويل ما جاء به الرسل - عليهم السلام -، ويصرح هذا الإيراني في كتابه هذا بأن قصص القرآن غير واقعة، وقال: "لا يمكن للمؤرخ أن يستمد في معارفه التاريخية من آيات القرآن". وقال: "إن الأنبياء - عليهم السلام - تساهلوا مع الأمم في معارفهم التاريخية، وأقاصيصهم القومية، ومبادئهم العلمبة، فتكلموا بما عندهم، وستروا الحقائق تحت أستار الإشارات، وسدلوا عليها ستائر بليغ الاستعارات". دعوى أن في اقرآن قصصاً غير واقعة بزعم أنه رمز إلى معان خفية، ليس لها من داع سوى ما يضمره أصحابها من الكيد للقرآن الكريم، وإدخال

الريب في أنه تنزيل من لدن حكيم عليم. لم يقم حتى الآن دليل تاريخي أو نظري يطعن في صحة قصة ساقها القرآن الحكيم، ونحن نستند في صحتها إلى الآيات الدالة على أن المبعوث به لا ينطق عن الهوى، فالمؤرخ المسلم، ومعلم التاريخ لأبناء المسلمين يستمد في معارفه التاريخية من آيات الذكر الحكيم، وهي عندنا أصدق قيلاً، وأقوى سنداً مما يقصه المؤرخ من حوادث تقع في عصره، أو قريب منه، وهذه الثقة بالطبيعة لا تحصل لمن ينكر أو يرتاب في أن القرآن حجة الله على العالمين، فلا تطالب المجوسي أو البهائي بأن يدخلوا في مؤلفاتهم التاريخية ما جاء في القرآن من أنباء الأولين، وهم لم يطمئنوا إلى أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - صادق أمين. يزعم هذا الإيراني أن الرسول ينطق ببعض المبادئ العلمية مجاراة لقومه، وهي في الواقع غير صحيحة، وهذه جهالة غبي، وجراءة غوي، والرسول - عليه الصلاة والسلام - وإن لم يُبعث لتقرير المسائل العلمية التي تدركها عقول البشرية بسهولة، أو بعد جهد؛ كالطبيعيات والرياضيات لا يتحدث عن شيء منها حديث من يصدق بها إلا أن تكون صواباً، ودعوى أن لها رموزاً إنما اخترعها الإيراني وأمثاله ليستروا بها وجه جحودهم، والبرقع الشفاف لا يحجب ما وراءه. ولم يكن تأويل البهائية وأسلافهم الباطنية لنصوص الشريعة على هذا الوجه الناقض لأصولها بشيء ابتدعوه من أنفسهم ابتداعاً، وإنما هو صنع عملوا فيه على شاكلة طائفة من فلاسفة اليهود من قبل؛ فأنا نقرأ في ترجمة "فيلون" الفيلسوف اليهودي المولود ما بين عشرين وثلاثين قبل ميلاد المسيح

أنه ألف كتاباً في تأويل التوراة ذاهباً إلى أن كثيراً مما فيها رموز إلى أشياء غير ظاهرة، ويقول الكاتبون في تاريخ الفلسفة: إن هذا التأويل الرمزي كان موجوداً معروفاً عند أدباء اليهود بالإسكندرية قبل زمان "فيلون"، ويذكرون أمثلة تأويلهم أنهم فسروا آدم بالعقل، والجنة برياسة النفس وإبراهيم بالفضيلة الناتجة من العلم، وإسحاق عندهم هو الفضيلة الغريزية، ويعقوب هو الفضيلة الحاصلة من التمرين، إلى أمثال هذا من التأويل الذي لا يحوم عليه إلا الجاحدون المراؤون، ولا يقبله منهم إلا قوم هم عن مواقع الحكمة ودلائل الحق غافلون. وأبو الفضل هذا من أبعد دعاة البهائية في الهذيان شأواً، وأشدهم لعلماء الإِسلام ضغينة، وإذا أخذ في شتمهم، لا يشفى غليله إلا أن يصب كل الجمل التي يعرفها في المعنى الذي أراد شتمهم به، انظروا إلى قوله في (صفحة 147) من ذلك الكتاب المسمى: بالدرر البهية: "فتمادوا في غيهم، وأصروا على باطلهم، وتاهوا في ضلالتهم، ومردوا في جهالاتهم، وعموا في سكرتهم، وانهمكوا في غوايتهم"، فالرجل حفظ جملاً التقطها من بعض الصحف السائرة، أو من الكتب الغابرة، وصار يلقيها فيما يكتب من غير وزن، حاسباً أن هذا الصنيع من تزويق القول ينقل الناس من الجد إلى الهزل، وكان الحق إلى الضلال!. في الباطنية من يدعي أنه نبي، أو يعتقد في آخر أنه نبي يوحي إليه، وميرزا علي الملقب (بالباب) يدعي أنه رسول من الله؛ ووضع كتاباً ادعى أن ما فيه شريعة منزلة، وسماه: "البيان" وقال في رسالة بعث بها إلى الشيخ محمود الألوسي صاحب التفسير المشهور المسمى: "روح المعاني" يدعوه

فيها إلى مذهبه: "إنني أنا عبد الله قد بعثني الله بالهدى من عنده". وسمى في هذه الرسالة مذهبه: دين الله، فقال: "ومن لم يدخل في دين الله، مثله كمثل الذين لم يدخلوا في الإِسلام"!. وكذلك يدعي زعيمهم المسمى: (بهاء الله)، ففي كتاب "بهاء الله والعصر الجديد": "وقرر بهاء الله أن رسالته هي لتأسيس السلام على الأرض". وقال صاحب هذا الكتاب يتحدث عن الباب والبهاء: "من المستحيل إيجاد أي تغيير لعظمهما إلا بالاعتراف بأنهما إنما عملا بوحي من الله". يدّعي الباب الرسالة، ويزعم أن شريعته ناسخة للشريعة الإِسلامية، فابتدع لأتباعه أحكاماً خالف بها أحكام الإِسلام وقواعده، فجعل الصوم تسعة عشر يوماً من شروق الشمس إلى غروبها. وعين لهذه الأيام وقت الاعتدال الربيعي؛ بحيث يكون عيد الفطر عندهم يوم النيروز على الدوام، وفي كتابه "البيان": "أيام معدودات، وقد جعلنا النيروز عيداً لكم بعد إكمالها". وجعل ميرزا حسين الملقب ببهاء الله الصلاة تسع ركعات في اليوم والليلة، وكان عبد الله بن الخراب الكندي الذي اعتقد إلهيته كثير من أشباه الناس قد جعلها تسع عشرة صلاة في اليوم والليلة. وقبلة البهائيين في صلاتهم التوجه أين يكون ميرزا حسين المسمى: بهاء الله، فإنه يقول لهم: "إذا أردتم الصلاة، فولوا وجوهكم شطري الأقدس"! وقال ابنه عباس: "يلزمنا التوجه إلى مركز معلوم، وهو مظهر الله". ومظهر الله في زعمهم هو هذا المسمى: بهاء الله. أما الحج، فقد أبطله البهاء، وأوصى بهدم بيت الله الحرام عند ظهور رجل مقتدر من أشياعه.

ومن الباطنية من منع العوام من مدارسة العلوم، والخواص من النظر في الكتب المتقدمة؛ حتى يبقوا في عماية، وهو الحسن بن محمد الصباح. ونجد ميرزا علي المسمى: الباب قد حرّم في كتابه "البيان" التعلم، وقراءة كتب غير كتبه، فكان كل من يؤمن بالباب يحرق القرآن الكريم وما وقع في يده من كتب العلم، ولكن الميرزا حسين المسمّى: (بهاء الله) أدرك ما في هذا التحجير من خطأ مكشوف، وأنه مما يصرف عنهم ذوي العقول النابهة، فأتى في كتابه الذي سمّاه: "الأقدس" بما ينسخه، فقال: "قد عفا الله عنكم ما نزل في "البيان" من محو الكتب، وأذنَّاكم بأن تقرؤوا من العلوم ما ينفعكم". وفي الباطنية من يدعي حلول الإله في بعض الأشخاص، كما قال القرامطة بإلهية محمد بن إسماعيل بن جعفر، وهذه الدعوى -أعني: دعوى الحلول- تظهر في بعض مقالات البهائية. قال عباس الملقب بـ (عبد البهاء): "وقد أخبرنا بهاء الله بأن مجيء رب الجنود، والأب الأزلي، ومخلص العالم الذي لابد منه في آخر الزمان، كما أنذر جميع الأنبياء، عبارة عن تجليه في الهيكل البشري، كما تجلى في هيكل عيسى الناصري، إلا أن تجليه في هذه المرة أتم وكمل وأبهى، فعيسى وغيره من الأنبياء هيؤوا الأفئدة والقلوب لاستعداد هذا التجلي الأعظم". يريد بهذا: أن الله تجلى فيه بأعظم من تجليه في أجسام الأنبياء على ما يزعم، وقال مهذارهم أبو الفضل الإيراني: "فكل ما توصف به ذات الله، ويضاف ويستند إلى الله من العزة والعظمة، والقدرة والعلم والحكمة، والإرادة والمشيئة، وغيرها من الأوصاف والنعوت، إنما يرجع بالحقيقة إلى مظاهر

أمره، ومطالع نوره، ومهابط وحيه، ومواقع ظهوره". ويظهر هذا من اللوح الذي كتبه المسمى (بهاء الله) في التنويه بشأن ابنه عباس؛ فإنه قال: "إن لسان القدم (¬1) يبشر أهل العالم بظهور الاسم الأعظم (¬2) الذي أخذ عهده بين الأمم، أنه نفسي، ومطلع ذاتي، ومشرق أمري، من توجه إليه، فقد توجه إلى وجهي، واستضاء من أنوار جمالي، واعترف بوحدانيتي، وأقر بفردانيتي ... إلخ)!. وقلد البهائية الفلاسفة فيما يدعونه من قدم العالم، ففي كتاب "بهاء الله والعصر الجديد": "علم بهاء الله أن الكون بلا مبدأ زمني، فهو صادر أبدي من العلة الأولى، وكان الخلق دائماً مع خالقه، وهو دائماً معهم". وقد تصدى أهل العلم الراسخ لتزييف ما تعلق به هؤلاء في الاستدلال على هذا الرأي، وحققوا أن المعلول لابد أن يتأخر عن العلة في الوجود, إذ معنى العلة: ما أفاض على الشيء الوجود، والمعلول: ما قبل منه هذا الوجود، ولا معنى لإفاضة الوجود على الممكن إلا إخراجه إلى الوجود بعد أن كان في عدم، وذلك معنى الحدوث. ومن عجيب أمر هذه الطائفة: أنهم يدعون النبوة والرسالة، وما فوق الرسالة، وينكرون المعجزات بدعوى أنها غير معقولة، تجدون هذا الإنكار في كتاب داعيتهم المسمّى: أبا الفضل، فقد ذكر انفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر لموسى - عليه السلام -، وإبراء عيسى - عليه السلام - للاكمه والأبرص، وإحياءه الموتى بإذن الله، ونبع الماء من بين أصابع ¬

_ (¬1) يفسره البهائية ببهاء الله. (¬2) يفسرونه بعباس عبد البهاء.

محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقال: وكثير من أهل الفضل، وفرسان مضمار العلم اعتقدوا بأن جميع ما ورد في الكتب والأخبار من هذا القبيل كلها استعارات عن الأمور المعقولة، والحقائق الممكنة مما يجوزه العقل المستقيم، ثم أخذ يؤول ما ورد في تلك المعجزات من قرآن وحديث، ويحمله على معان لا يقبلها منه إلا من فقد عقله قبل أن يفقد إيمانه، وإنكارهم للمعجزات ينبئكم أن القوم يمشون مكبين على وجوههم وراء الفلسفة التي لا تؤمن بأن لهذا العالم خالقاً فعالاً لما يريد. وملخص القول في البابية والبهائية: أنه مذهب مصنوع من ديانات ونحل وآراء فلسفية، قال صاحب كتاب "مفتاح باب الأبواب" يصف البابيين: "لهم دين خاص مزيج من أخلاط الديانات البوذية (¬1)، والبرهمية الوثنية (¬2)، والزرادشتية (¬3)، واليهودية، والمسيحية، والإِسلامية، ومن اعتقادات الصوفية، والباطنية". وما زالت البهائية مذهباً قائماً على أطلال الباطنية يحمل في سريرته القصد إلى هدم الإِسلام بمعول التأويل، ودعوى الرسالة والوحي بشريعة ناسخة لأحكامه، حتى جاء عباس عبد البهاء إلى هذا المذهب المصنوع، وأراد أن يكسوه ثوباً جديداً، فخلطه بآراء التقطها مما يتحدث به بعض الناس على أنها من مقتضيات المدنية، أو مما اكتشفه العلم حديثاً، نحو: ¬

_ (¬1) دين الصينيين واليابانيين. (¬2) أصل ديانة الهنود. (¬3) ديانة قديمة تنسب إلى إبراهيم زرداشت الإيراني، ولا يزال لأتباعها طائفة بالبلاد الهندية، وأخرى بالبلاد الايرانية.

التساوي بين الرجال والنساء في التعليم، ونزع السلاح، واتفاق الأمم على لغة واحدة تدرس في العالم كله، وتأسيس محكمة عمومية تحل مشاكل الأمم، وأن الإنسان تدرج بالارتقاء من أبسط الأنواع حتى وصل إلى شكله الحالي (نظرية داروين)، ولهجوا بعد هذا بكلمة نشر السلام العام، ونبذ التعصبات الدينية. وقد تخيل عباس أنه بإدخال مثل هذه الآراء في مذهب البهائية يستدرج المولعين بالجديد من النابتة الحديثة، ولهذا الطمع ترونه يقول: "تحتوي تعاليم بهاء الله على جميع آمال ورغائب فرق العالم، سواء كانت دينية أو سياسية أو أخلاقية، وسواء كانت من الفرق القديمة أو الحديثة، فالجميع يجدون فيها ديناً عمومياً في غاية الموافقة للعصر الحاضر (¬1)، وأعظم سياسة للعالم الإنساني". وصرح في مقال آخر بأنه يريد أن يوحد بين المسلمين والنصارى واليهود، ويجمعهم على أصول نواميس موسى - عليه السلام - الذين يؤمنون به جميعاً (¬2). ولا أحسب عبد البهاء عباساً يقصد من هذا الحديث إلا التزلف لليهود، والتظاهر بموالاتهم؛ ليجعلهم من أشياعه، وإلا، فكيف يقع في خاطر من عرف القرآن أن يعمل على صرف الناس عن شريعة الإِسلام، ويرجع بها إلى شفا حفرة من النار بعد أن أنقذهم الله منها؟!. يذكر الشيخ ابن تيمية: أن الباطنية "هم دائماً مع كل عدو للمسلمين"، وقال: "إن التتار ما دخلوا بلاد الإِسلام، وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ¬

_ (¬1) كتاب "عبد البهاء والبهائية" (ص 87). (¬2) كتاب "عبد البهاء والبهائية" (ص 93).

هل يعتقدون في الحشر والجنة والنار؟

ملوك الإِسلام إلا بمعاونتهم". وكذا نجد في البابية تحيزاً إلى أعداء المسلمين، وانظروا إلى عباس عبد البهاء كيف يتحيز إلى اليهود، ويبشر بأن فلسطين ستصير وطناً لهم. فقال: "سيجتمع بنو إسرائيل في الأرض المقدسة، وتكون أمة اليهود التي تفرقت في الشرق والغرب والجنوب والشمال مجتمعة". وقال: "تأتي طوائف اليهود إلى الأرض المقدسة، ويزدادون تدريجاً إلى أن تصير جميعاً وطناً لهم". فالبهائية شأنهم شأن الباطنية في بغض الإِسلام، وموالاة خصومه، ولنا الأمل الوثيق في أن العرب وسائر المسلمين من ورائهم سيقفون في وجه الاستعمار الصهيوني، والدعاية البهائية التي تظاهرها وتسعدها، حتى تبقى فلسطين وطناً عربياً إسلامياً، على الرغم من عبد البهاء والبهائيين. س - هل يعتقدون في الحشر والجنة والنار؟ جـ - لا يؤمن البهائيون بالبعث، ولا بالجنة والنار، ويفسرون يوم الجزاء ويوم القيامة بمجيء ميرزا حسين الملقب ببهاء الله، قال في كتاب "بهاء الله والعصر الجديد": "وطبقاً للتفاسير البهائية يكون مجيء كل مظهر إلهي عبارة عن يوم الجزاء، إلا أن مجيء المظهر الأعظم بهاء الله هو يوم الجزاء الأعظم للدورة الدنيوية التي نعيش فيها". وقال: "ليس يوم القيامة أحد الأيام العادية، بل هو يوم يبتدئ بظهور المظهر، ويبقى ببقاء الدورة العالمية". هذا ما يفسرون به يوم الجزاء ويوم القيامة، ويفسرون الجنة بالحياة الروحانية، والنار بالموت الروحاني، قال في هذا الكتاب: "إن الجنة والنار

هل يعتقد البهائيون بنبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -؟

في الكتب المقدسة حقائق مرموزة"، فعندهما -أي: البهاء وابنه عباس- الجنة هي حالة الكمال، والنار حالة النقص، فالجنة هي الحياة الروحانية، والنار هو الموت الروحاني. هذا ما يقوله البهائية، وكذلك ينقل لنا أبو حامد الغزالي أن الباطنية يقولون: "كل ما ورد من الظواهر في التكاليف والحشر والأمور الإلهية، فكلها أمثلة ورموز إلى بواطن". وساق بعد هذا أمثلة في تأويلهم الفاسق عن قانون اللغة والعقل، وقال: "هذا من هذيانهم في التأويلات، حكيناها ليضحك منها، ونعوذ بالله من سرعة العاقل، وكبوة الجاهل"!. وقد قلدوا في إنكار البعث طائفة الدهريين، وأخذتهم شبههم التي لا تستطيع أن تنهض أمام أدلة القرآن الحكيم، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 77 - 79]. س - هل يعتقد البهائيون بنبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ جـ - مخالفة البهائيين لما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من معتقدات وأحكام، وتهجمهم على تأويل القرآن والحديث بمثل ما نقلناه عن زعمائهم؛ شاهد على أن قلوبهم جاحدة لرسالته، وإذا تحدثوا عنه في بعض كتبهم متظاهرين بتصديق نبوته، فما هم إلا كسائر الأفراد أو الطوائف الذين يعملون لهدم الإِسلام تحت ستار. ومن خبال زعيمهم الأول: دعواه في تفسيره لسورة يوسف أنه أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلل هذا الكلام بما لا يفهمه إلا من يفهم لغة المبرسمين

إذا كانوا يعترفون بنبوة سيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام -, فكيف يعتقدون بنبي بعده، ودين غير دينه؟

إذ قال: "لأن مقامه (الباب) هو مقام النقطة، ومقام النبي - صلى الله عليه وسلم - مقام الألف". وقال: "كما أن محمداً أفضل من عيسى، فكتابها "البيان" أفضل من القرآن". وقال: "إن أمر الله في حقي أعجب من أمر محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل لو أنتم فيه تتفكرون!!. ولسنا في حاجة إلى الرد عليه في دعوى أنه أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في دعوى أن كتابه "البيان" أفضل من القرآن، فعامة المسلمين كخاصتهم يعلمون أن هذه الدعوى من صنف الدعاوي التي تنادي على نفسها بالزور والهذيان، وأولو العقول من غير المسلمين يعرفون عظمة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، وما بثه في العالم من إصلاح، فمن يدّعي أنه مثل محمد، أو أنه أتى بكتاب يحاكي القرآن، كان في حاجة إلى علاج يعيد عليه شيئاً من رشده، ويجعله على بصيرة من نفسه. س - إذا كانوا يعترفون بنبوة سيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام -, فكيف يعتقدون بنبي بعده، ودين غير دينه؟ جـ - البهائيون لا يعترفون بنبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا سهل على زعمائهم أن يدعوا النبوة من بعده! قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. ومعنى الآية الذي لا يذهب الفهم إلى خلافه: أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي انقطع به وصف النبوة، فلا يتحقق في أحد من الخليقة بعده. وورد هذا مبيناً في صريح السنّة الصحيحة ففي "صحيح الإمام البخاري"، "وصحيح مسلم": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني داراً بناء، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية،

ما هو الواجب عمله لإحباط مساعيهم حتى لا يقع أحد في شراكهم؟

فجعل الناس يطوفون به، ويتعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين". وقد إنعقد إجماع المسلمين على هذا جيلاً بعد جيل، وأصبح معلوماً من الدين بالضرورة، فمن أنكره، وادعى لنفسه أو لغيره النبوة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد إنسلخ من الإِسلام، وكان من الغاوين، وإذا شهد لسانه بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو من أولئك الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فالبابيون لا يدخلون في المعترفين بنبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال. وقد ذكرهم العلامة الألوسي في تفسير قوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. فقال: "وقد ظهر في هذ العصر عصابة من غلاة الشيعة لقبوا أنفسهم بالبابية لهم في هذا الباب فصول يحكم بكفر معتقدها كلُّ من انتظم في سلك ذوي العقول، وقد كاد عرقهم يتمكن في العراق لولا همة واليه النجيب الذي وقع على همته وديانته الاتفاق حيث خذلهم - نصره الله تعالى -، وشتت شملهم، وغضب عليهم - رضي الله عنه -، وأفسد عملهم، فجزاه الله تعالى عن الإِسلام خيراً، ودفع عنه في الدارين ضيماً وضيراً". س - ما هو الواجب عمله لإحباط مساعيهم حتى لا يقع أحد في شراكهم؟ جـ - لو كان التعليم الديني في الشعوب الإِسلامية إلزامياً ومقرراً في جميع مدارسها ,لم يجد أشباه الباطنية إلى إزاغة قلب الفتى المسلم طريقاً، وتركُ كثير من أبنائنا لا يعرفون من الإِسلام إلا أسماء، أو لا يلقنون إلا مبادئ مقطوعة عن حججها العقلية أو النقلية، قد يسر لأمثال البهائية أن ينصبوا

حبائلهم بين المسلمين، ويصطادوا من النفوس الجاهلة قليلاً أو كثيراً. ولا ننسى أن الذي ساعد البهائية على أن تستهوي فريقاً من المسلمين: تظاهرها بأنها فرقة إسلامية، واحتجابها بالقرآن والحديث، وكتمها بعض معتقداتها المنكرة على البداهة، وعدم انتشار كتبها، فكثير من أهل العلم لم تصل إليهم كتب هذه الطائفة حتى يستبينوا منها حقيقة نحلتهم، ويحذروا الناس من الوقوع في شراكهم. أما اليوم، فقد أخذهم الغرور، وصاروا يذيعون شيئاً من أسرار نحلتهم على المنابر وعلى صفحات الجرائد، ويتحدثون عنها في مؤلفات تطبع وتعرض على الناس في المكاتب، فهي بما تحمله من مقالات ملفقة ودعاوي غير معقولة قد بعثت عن حتفها بظلفها، فلا نخشى على من له نباهة أو فطرة سليمة أن يعتقد بنبوة ميرزا حسين، أو عباس عبد البهاء، ولا نخشى على من وصل إلى نفسه أثر من هداية الإِسلام أن يتبدل بها مزاعم أبي الفضل الإيراني، وإذا جاز أن يكون في طبقة العامة أو أشباههم من لا يتنبه لما في البهائية من كيد للإسلام، وإغواء عن شريعته الغراء، فإن العلماء والوعاظ -أينما كانوا- سيكشفون للناس عن بطانة هذا المذهب؛ ليحترسوا من دعاته، ويحذروا أن يمسهم شيء من نزعاته. وقد علم طائفة من دعاة الإباحية والخروج على الدين ما ينطوي عليه هذا المذهب من مناوأة للدين الحق، فقاموا يظاهرونه في النوادي والصحف، ويزينونه في أعين الناس؛ ظناً منهم أن علماء الإِسلام ما زالوا عن سريرة هذا المذهب غافلين.

18 - الهداية الإسلامية

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (18) «الهِدَايَةُ الإسْلاميَّةُ» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة إن أوسع ميدان من الميادين الإِسلامية العديدة التي خاض غمارها فضيلة الإِمام الأكبر المصلح المجاهد المرحوم محمد الخضر حسين - رضوان الله عليه - هو ميدان: مجلة "الهداية الإِسلامية"، تلك المجلة الخالدة التي غذاها بعلمه النافع الغزير، وعمله الخالص الجاد طيلة مرحلة من عمره الطاهر امتدت ثلاثة وعشرين عاماً أو يزيد. لقد أصدر الإِمام خلال حياته العلمية الحافلة بجلائل الأعمال مجلتين إسلاميتين عظيمتين هما: "السعادة العظمى" في تونس عام 1322 هـ، و"الهداية الإسلام" في القاهرة عام 1347 هـ. وترأس تحرير مجلتين إسلاميتين كبيرتين هما: "نور الإِسلام"، والمعروفة الآن باسم مجلة "الأزهر"، و"لواء الإِسلام" في القاهرة. إلى جانب المشاركة بالقلم في العديد من مجلات العالم الإسلامي. ولما كانت مجلة "الهداية الإِسلامية" التي صدر العدد الأول منها في جمادى الثانية من عام 1347 هـ بالقاهرة، وتابعت صدورها ما يزيد على ثلاث وعشرين سنة برئاسة الإِمام، وإشرافه العلمي، وتوجيهه القيم، هي الناطقة باسم "جمعية الهداية الإِسلامية" التي أنشأها الإِمام الأكبر مع جمهرة من كبار العلماء المسلمين بالقاهرة، وذلك في اليوم الثالث عشر من شهر

رجب لعام 1346 هـ الموافق 6 يناير "كانون الثاني" من عام 1928 م. فقد أولاها كل جهده ووقته، وانصرف إليها نهاره وليله، حتى كانت الجمعية مع مجلتها طعامه وشرابه ومنامه. وقد رسم للجمعية سبيلاً لتحقيق أهدافها باتباع الوسائل التالية: 1 - السعي لتعارف الشعوب الإِسلامية، وتوثيق الرابطة بينها، ورفع التجافي بين الفرق الإِسلامية، والتعاون مع كل جمعية تسعى لهذه الغاية. 2 - نشر حقائق الإِسلام بأسلوب يلائم روح العصر. 3 - مقاومة الإلحاد والدعايات غير الإِسلامية في الأوطان الإِسلامية بالطرق العلمية. 4 - الجهاد في إصلاح شأن اللغة العربية، وإحياء آدابها. وقد نهجت مجلة الهداية الإِسلامية وفق هذه الأسس. تلقى القاري المسلم مجلة "الهداية الاسلامية" وهو أشد ما يكون حاجة إلى مجلة إسلامية علمية أدبية اجتماعية تولي وجهها نحو البحث عما يهذب النفوس، ويثقف العقول، ويقوم اللسان، وتسير على الأدب الموصى به في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]. فكانت صوت حق وهدى في العالم الإِسلامي. وما زالت مجموعتها مرجعاً إسلامياً للعلماء والباحثين والأدباء. وقد جعلنا مقدمة هذا الكتاب فاتحة المجلة التي افتتح بها الإِمام العدد الأول من مجلة "الهداية الإِسلامية"، والتي أوضح فيها المنهج والطريق.

وجمعنا في هذا الكتاب الذي أسميناه: "الهداية الإِسلامية"، وهو عنوان المجلة تخليداً لذكراها، مقالات لم يسبق لها أن نشرت في أي كتاب صدر للإمام، وأملنا ورجاؤنا أن نعمد في المستقبل -إن شاء الله تعالى- خدمة لرسالة الإِسلام، ونظراً لحاجة المكتبة الإِسلامية إلى تلك الموسوعة الإِسلامية الكبرى مجلة "الهداية الإِسلامية" إلى إعادة طبعها كاملة؛ لتكون خير زاد للإنسان المسلم في رحلة العمر، ولتكون في متناول أيدي طلاب العلم بعد أن أصبحت مجموعاتها نادرة جداً، والحاجة إليها شديدة. والله نسأل السداد والتوفيق. علي الرّضا الحسيني

مقدمة الإمام محمد الخضر حسين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين (¬1) نحمدك اللهم حمد من ابتغوا الإِسلام شرعة ومنهاجا، ونصلي ونسلم على رسولك الذي أطلعته في غسق الجهالة سراجاً وهاجاً، وعلى آله وصحبه الذين اشتروا العزة بزهرة الحياة الدنيا، وجاهدوا لتكون كلمة الحق هي. العليا. هذا، ومن ينظر إلى ما بلغته الأمم الإِسلامية من رفعة وعظمة، ثم يقيس حاضرها بماضيها، يجد الفرق ما بينهما كالفرق بين طلعة الصبح وفحمة الدجى، يجدها كانت تعلم فتعمل، وتسوس فتعدل، وتحارب فتظفر، وتدعى إلى الإصلاح فتسمع، وتشعر بالخلل فتصلح. أما شأنها اليوم، فهو ما ترون بأعينكم، أو تسمعون بآذانكم: بدع فاشية، وأهواء غالبة، وروابط إخاء واهية، وأيد فوق أيديها غليظة قاسية، وشر من هذا -إن كان فوق هذا شر- حُفر من النار تخطها بين فتياننا وفتياتنا أقلام مكبّة في الغواية والخلاعة على وجهها. لا أبسط القول في علل هذا الانقلاب المهين، ولا أكتم القراء أن علة هذه العلل تغير موقف الكثير من رجال العلم، وأخذهم في الحياة طوراً غير ¬

_ (¬1) فاتحة مجلة "الهداية الإِسلامية" -العدد الأول من المجلد الأول المصادر في جمادى الثانية لعام 1347 هـ.

الطور الذي هيأه الله لهم، وأمرهم بأن يلبسوه في غدوهم ورواحهم، وهو مراقبة سير الأفراد والجماعات، وإرشادهم إلى قصد السبيل، دون أن يأخذهم في الإرشاد ما يأخذ جبان القلب من إحجام أو تردد ولو أن الكثير من رجال العلم كانوا يعنون بالنظر في الشؤون العامة، ويسيرون في العمل على إصلاحها بحزم ويقظة، لكانت الأمة متينة في أخلاقها، حازمة في أعمالها، بصيرة بمكايد أعدائها، تقصر أيدي الطغاة عن أن تجول في حقوقها، وتنعقد ألسنة الضالين عن أن تطعن في شريعتها، أو تحرف كلمات الله عن مواضعها. وإذا كانت علل هبوط الأمة من تلك المنزلة الشماء إنما نشأت تحت غفلة من يتقلدون أمر رقابتها، فطريق البرء والنجاة مستبين، وهو أن يبصر علماء الإِسلام في كل شعب بهذا البلاء المحدق بالأمة، ويدركوه كما هو، ثم يقوموا بالدعوة إلى الإصلاح، وبما تناله أيديهم من وجوه الإصلاح، هذا هو أساس فلاحنا إن رغبنا في أن نكون من المفلحين، وسبيل خلاصنا من العيشة النكداء إن رغبنا في أن نكون أحراراً آمنين. ولا يكفي العلماء عذراً عند الله، أو عند الأجيال القابلة: أن يلقوا التبعة على ولاة الأمور إذا استكبروا، أو على ذوي اليسار إذا أمسكوا، أو على رؤوس الإلحاد إذا ائتمروا؛ فقد علمهم الله كيف يدعون إلى سبيله بالحكمة، وعلمهم أن الحكمة المحمولة بيد الإخلاص لا بد من أن تحدث في النفوس الغافلة أو القاسية أثراً، وعلمهم أن الباطل لا يقف في وجه الحق، ولو كان أكثر أهل الأرض أشياعاً للباطل وأنصاراً. ذلك هو الدواء، ولا نكتم القراء أن رجالاً من ذوي العلم قد عرفوا مكانه،

وأخذوا منذ حين يعملون على تلافي الخطب، ومقاومة حركات الذين يعتنقون الإباحية، أو يقضون لخصوم الدين الحنيف مآرب، وقد ظهرت آثارهم القيمة في بعض الصحف والمؤلفات، وفيما يلقى من الخطب والمحاضرات، ولكن الأمر جلل، وطريق النجاح فيه وعرة، والعمل لعبورها ذو شعب، فلا تغني فيه الأيدي القليلة، والأقلام التي تكافح مرة، ثم تغمض عن الكفاح أخرى، وهذا ما نهض بجماعات في مصر وغير مصر، فألفوا جمعيات إسلامية أدبية، وليست جمعية الهداية الإِسلامية إلا بنت ثقافة وحماسة التقتا في نفوس طائفة من طلاب العلوم الإِسلامية، فتحاصروا، واحتفلوا، وخطبوا، ووضعوا نظاماً أساسياً لهذه الجمعية، وكان من محتوياته: إصدار مجلة إسلامية علمية أدبية، وما برح مجلس إدارة الجمعية -منذ تألف- يسعى إلى إبراز هذه المجلة كما شرط الأعضاء المؤسسون، حتى هيأ الله له من أمرها يسراً. وستولي المجلة -بتأييد الله- وجهها نحو البحث عما يهذب النفوس، ويثقف العقول، ويقوم اللسان، فتبحث في الأخلاق والعادات، والتاريخ والتراجم، واللغة وآدابها، والعلوم النظرية والاجتماعية، والبدع والمحدثات. وترشد إلى حقائق الإِسلام وآدابه، وتنقد المقالات والآراء، وتجيب عما تسعها الإجابة عنه من المسائل، وتورد من أنباء العالم الإِسلامي ما له صلة بالغاية التي أنشئت من أجلها، وتنشر تحت عنوان: "صحف قيمة" رسائل علمية أو أدبية من مؤلفات القدماء متى كانت ذات صفحات قليلة، ووثقت لجنة التحرير من أن يكون لإذاعتها بين القراء فائدة. وستسير المجلة -بتوفيق الله- على الأدب الموصى به في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]. فلا تنشر مقالاً يحتوي كلمة ناشزة عن حدود الآداب الراقية، حتى لا تقدم بين يدي قرائها الكرام ما تأبى لهم طباعهم المهذبة أن يسمعوه بآذانهم، أو يقولوه بألسنتهم. وستوسع المجلة -بإذن الله- صدرها لكل من خطر على باله أن يرشدها إلى ما قد يعثر فيه القلم من خطأ، أو تنشره ذاهلة عما انطوى عليه من سوء، وهي أيضاً ترجو ممن وقع نظره فيها على ما يراه خطأً، أو سوءاً من القول أن ينبهها لموضع النقد في مقال تتمثل فيه الأناة والقصد إلى تقرير الحقائق، وعلى أي حال، فإن هذه المجلة لا تعرف ذلك الذي يسمونه عناداً أو مغالطة؛ لأنها متيقنة أن المعاند أو المغالط عدو للحقيقة، وهي حريصة على صداقة الحقائق أشد من حرصها على أن توصف بالعصمة. محمّد الخضر حسين

آداب الحرب في الإسلام

آداب الحرب في الإِسلام (¬1) تمهيد - أسباب الحروب - الاستعداد للحرب - التدريب على الحرب - محاكاة العدو في وسائل الدفاع - كتابة أسماء من يدعون إلى الحرب - إعلان الحرب - رفع الرايات في الحرب - الشعار في الحرب - تعهد الجند بالموعظة - النشيد الحماسي - الزحف في صفوف منظمة - الإقدام في الدفاع - الثبات في مواقع الدفاع - الإخلاص في الحرب - أثر الاستقامة في الانتصار - الدهاء في الحرب - إطلاع ولي الأمر على سير الحرب يوماً فيوماً - الشورى في الحرب - كيف يكون قائد الجيش - استكشاف حال العدو - التكتم في الحرب - الاحتراس في الحرب - حكم الجاسوس في الإِسلام - الرفق بالجند ومعاملتهم بالعدل - تلقيهم أوامر القائد بحسن الطاعة - تحامي الاختلاف المؤدي إلى شقاق - التخلف عن الدفاع - الفرار من صفوف القتال - الوفاء بتأمين المحارب - مجاملة رسل العدو وعدم التعرض لهم بأذى - تجنب قتل من لا يقاتل - معاملة الأسرى - الدفاع في البحر - عقد الصلح - تخليص الأسرى من أيدي العدو - تقدير البطولة. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلام" الجزآن التاسع والعاشر من المجلد الثاني عشر. وطبعت في رسالة خاصة.

تمهيد

* تمهيد: نحمدك اللهم على أن أحييت في نفوسنا آمالاً طالما باتت هامدة، ووفقتنا للنهوض من كبوة خمول وذهول، فإذا القلوب باصرة، والغيرة على الحقوق متقدة، والأقلام مجاهدة. ونصلي ونسلم على رسولك الذي أنزلت عليه كتاباً بهرت العقول آياته وسوره، وأيدته بنصرك المؤزر، ولينصرن الله من ينصره. أما بعد: فقد ذكرت ما كان للجيوش الإِسلامية من قوة، وما كان لها من الوقائع المكللة بالظفر، ولم أرتب في أن لتلك القوة والظفر أسباباً، أقواها: نور الإيمان الذي كان يتلألأ في صدورهم، وآداب الدين الذي كانوا يعتزون به في كل موطن، ونصائحه التي كانوا يرعونها بحق، فبدا لي أن أذكر جيوشنا الإِسلامية بجانب من تلك الآداب والنصائح، حتى إذا وجدت فطراً سليمة ونفوساً مشرقة بالإيمان, قوي رجاؤنا في أنا سنخرج من حمأة المهانة، إلى صعيد طاهر من الكرامة، وأن الزمن الذي تخفق فيه رايتنا بالنصر على من يروم السيطرة على أوطاننا غير بعيد. * أسباب الحروب: طبعت نفوس على حب الاستئثار بالمنافع، وذلك ما يدعوها إلى أن تمد أيديها إلى ما يتمتع به غيرها من خير، وتنتزعه منه بقوة؛ كما أن في النفوس غيرة على ما بيدها من حق، وإباية لأن يؤخذ منها هذا الحق وهي كارهة، وذلك ما يدعوها إلى أن تذود عن ساحتها، وتدافع عن حقوقها، ولو كان خصمها أكثر جنداً، وأتم سلاحاً، بل تقف هذا الموقف من الرجولة

الاستعداد للحرب

والاحتفاظ بالكرامة، ولو غلب على ظنها أنها ستُغلب على أمرها؛ تفعل هذا إيثاراً لحياة العزة على حياة المهانة، وتحامياً لخزي ينقل من جيل إلى جيل. وهاتان الطبيعتان: طبيعة حب الاستئثار بالمنافع، وطبيعة إباء الضيم، هما منشأ أكثر الحروب التي تقوم بين الأمم: الحريص على منافع في يد غيره يهاجم، أو يستعد متحفزاً للهجوم، ومن بيده المنافع ينهض في وجه المهاجم، أو يبادر المتحفز للهجوم عليه قبل أن يستوفي وسائل الهجوم، "تغد بالحجَّاج قبل أن يتعشى بك". وربما كان قوم على حق وسيرة من الرشد، فيحمل لهم الطغاة الفجّار ضغناً، ويرومون القبض على زمامهم؛ ليصرفوهم عن سيرتهم الرشيدة، ولا يرضى المستقيمون على طريقة الرشد إلا أن يعيشوا أحراراً، فإذا الحرب ناشبة: أولئك يبغون فتنة، وهؤلاء يبغون سلاماً. وقد تنشب الحرب بين طائفتين يعتقد كل منهما في نفسه أنه المظلوم، وخصمه الظالم، وهذا النوع من الحروب هو الذي يمكن تحاميه من طريق المفاوضات، وقرع الحجّة بالحجَّة، ويغني فيه القلم عن النار والحديد. * الاستعداد للحرب: إذا كانت طبيعة حب الاستئثار بالمنافع غالبة على النفوس، وإذا كان أصحاب الأهواء يحرصون على إطفاء نور الحق، وإذا كان في إقناع أحد الخصمين بأن الحق في جانب غيره صعوبة، فمن الحزم أن تكون الأمة على استعداد كاف لدفاع من يريد الاعتداء على حق من حقوقها، بسوء قصد، أو بسوء فهم.

التدريب على الحرب

وكذلك نرى الإِسلام قد فرض على الأمة أن تنفق أقصى ما تستطيع في الاستعداد للدفاع، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]. فاستعداد الأمة للحرب يجعلها في منعة من أن يهتضم ذو قوة حقاً من حقوقها، أو تحدثه نفسه بأن يبسط سلطانه على قيد شبر من أوطانها. أمر الشارع الحكيم بإعداد وسائل الدفاع، وذكرها بلفظ عام، وهو قوله: {مِنْ قُوَّةٍ]؛ لتتناول كل ما يحتاج إليه في الدفاع، ويكون له أثر في الفوز على العدو المحارب، فيدخل فيه آلات الطعن والضرب، وآلات الرماية، وبناء الحصون، وتهيئة ما تحتاج إليه الجنود من نحو الملابس والمطاعم. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن القوة هي الرمي" تنبيه على أن الرمي أهم الوسائل التي تكون بها القوة. فالطيارات والبارجات والدبابات والغواصات من أدوات الرمي. * التدريب على الحرب: لما كان في السباق على الخيل تدريب على خوض غمار الحروب، أذن فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفعله، على الطريقة المعروفة في كتب الفقه؛ وأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك في اللعب بالسلاح، لما فيه من التمرين على الطعان بجد إذا التقى الجمعان. ورد في الصحيح: أن الحبشة كانوا يلعبون بالحراب في المسجد على مرأى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما أنكر عليهم عمر بن خطاب، وأهوى إلى الحصباء ليرميهم بها، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعهم يا عمر".

محاكاة العدو في وسائل الدفاع

* محاكاة العدو في وسائل الدفاع: كان علينا استطلاع ما يهيئه العدو من وسائل الحروب لنصنع ما يصنع، حتى نماثله في القوة، ونفضله بأننا ندافع عن الحق، ونرجو من الله ما لا يرجو. وفي وصية أبي بكر الصديق لخالد بن الوليد: "إذا لاقيت القوم، فقاتلهم بالسلاخ الذي يقاتلونك به: السهم للسهم، والرمح للرمح، والسيف للسيف". ولو ظهر في أيام أبي بكر نوع آخر من السلاح، لذكره. ونقول على طراز حكمته: الطيارة للطيارة، والحراقة للحراقة، والغواصة للغواصة. وأشار سليمان الفارسي في واقعة الأحزاب على النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق، فأذن بحفره، وعمل فيه بنفسه، وقال أبو سفيان يومئذ: "هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها". * كتابة أسماء من يدعون إلى الحرب: من النظم الجارية في القديم والحديث: كتابة أسماء من فيهم كفاية للجندية، حتى يعرف أولو الأمر قوة الجند من جهة عددهم، وكان هذا أمراً متبعاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى ابن عباس: أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! إني كتبت في غزوة كذا، وامرأتي حاجّة، فقال: "ارجع فحج مع امرأتك". وفي الصحيح عن حذيفة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اكتبوا إلى من تلفظ بالإِسلام من الناس"، فكتبنا له ألفاً وخمس مئة رجل. وكان هذا عند خروجه إلى غزوة أحد، أو عندما كانوا بالحديبية. * إعلان الحرب: يوجب الإِسلام علينا الوفاء لمن بيننا وبينهم عهد أو هدنة؛ فإن قامت

رفع الرايات في الحرب

شواهد على أنهم يريدون خيانتنا، ويتهيؤون للهجوم على أوطاننا، لم يجز لنا مهاجمتهم وأخذهم على غرة، ولابد من أن نشعرهم بأن العهد بيننا وبينهم قد انتقض، قال تعالى في كتابه المجيد: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]. وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول لقائد الجيش: "وقدم النذر بين يديك". * رفع الرايات في الحرب: ترفع الرايات حيث يكون قائد الجيش؛ ليعلم بها مكانه، حتى يأوى إليها الناس عند الحاجة؛ واتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - رايته مرة بيضاء، ومرة سوداء، ومرة صفراء. ويروى أن بعض ألويته كان مكتوباً عليه: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وقد يعطي كل قبيلة لواء يقاتلون تحته، وعقد لوفد سليم لواء أحمر، وعقد لسعد بن مالك راية على قومه سوداء، وفيها هلال أبيض. * الشعار في الحرب: يتخذ الجنود شعاراً يتعارفون به في ظلمة الليل، أو عندما يشتبك الفريقان، وكان هذا الضرب من الاحتراس متبعاً في غزواته - صلى الله عليه وسلم -، وفي فتوحات الخلفاء الراشدين من بعده. عن البراء بن عازب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنكم تلقون عدوكم غداً، فليكن شعاركم: حم لا ينصرون" (¬1)، وكان شعار المسلمين في غزوة بني المصطلق: يا منصور أمت (¬2)، وغزا أبو بكر في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ¬

_ (¬1) "سنن النسائي". (¬2) الإصابة.

تعهد الجند بالموعظة

شعار الجيش: أمت أمت (¬1) "أمر من الاماتة". * تعهد الجند بالموعظة: قد يأخذ الجنود حظهم من الفنون الحربية كاملاً، ولا يستغنون بعد عن أن تُغذى نفوسهم بالموعظة الحسنة، فمن المثير لحماسة الجند قبل دخولهم في ملاحم الحروب: إلقاء خطب تذكرهم فضل الإقدام والثبات، وما يأتي به الثبات في مواقف الدفاع من خير، وتنذرهم ما يجره الجبن والحرص على الحياة من خزي وشقاء. وكان قائدو الجيوش في الإِسلام يأخذون بهذه السنة الحسنة، فيلقون على الجيوش قبل انتشاب الحرب خطباً دافعة إلى خوض غمار الحرب بحماسة متقدة، وفي وصية أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ليزيد بن أبي سفيان التنبيه على إسداء الموعظة للجند، فقال: "وإذا وعظتهم، فأوجز؛ فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً". وسنريك أن الجيوش التي تخفق راياتها بالنصر، وتكون هي وقائدها على ثقة منه، إنما هي الجيوش التي استنارت بهدي الله، فلا بد إذن للجيوش الإِسلامية من وعاظ حكماء بلغاء يحببون إليهم التمسك بآداب الشريعة السمحة، ويذكرونهم بما جرت به سنة الله من رعايته للنفوس التي تؤثر رضاه على أهوائها، ونصره لها على النفوس التي اتخذت أهواءها آلهة. * النشيد الحماسي: نريد من النشيد الحماسي: الشعر الذي يشتمل على تذكير الجنود بمجد ¬

_ (¬1) أبو داود.

قومهم الماضي أو الحاضر، وبما تقتضيه العزة؛ من نحو: إباية الضيم، والاستهانة بالخطوب، وشأن هذا الشعر تقوية القلوب، وإيقاد المغيرة، فيزداد الجند إقداماً وثباتاً في مواقع القتال، وكان الصحابة - رضي الله عنه - يقولون يوم حفر الخندق: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا والدين ينهى الرجل عن الفخر بشيء من خصاله الحميدة، وأباح ذلك في الحرب، كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في فتح خيبر يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره وكان عامر بن الأكوع في هذه الغزوة يقول: قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر وقال يرتجز: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا إنا إذا قوم بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا فأنزلنْ سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا والشعر الحماسي، ولا سيما المقرون بتلحين، لا يدع نفساً فيها بارقة من الشجاعة إلا دفع بها في المعترك دون مبالاة بالموت. وربما تذكر الرجل وهو في صفوف القتال نحو قول عمرو بن الإطنابة: وقولي كما جشأت وجاشت ... مكانك تُحمدي أو تستريحي فيذهب عنه خاطر الفرار أو الاستسلام إلى العدو، ويقف للدفاع وقوف شحيح ضاع في التراب خاتمه.

الزحف في صفوف منظمة

* الزحف في صفوف منظمة: كان العرب والبربر يحاربون على طريقة الكر والفر، وكان غيرهم من العجم والإفرنج يزحفون إلى الحرب صفوفاً، وقد جاء الإِسلام باختيار طريقة الزحف، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]. ووجه هذا: أن المتقدم للقتال في صفوف منظمة أرهبُ للعدو، وأدعى إلى الثبات والدوام في المعترك، بخلاف قتال الكر والفر؛ فإنه لا يعطي الجيش مهابة، ويسهل فيه على ضعفاء النفوس المسارعة إلى الهزيمة. ولو بدا لقائد الجيش في بعض المواطن أن يتخذ طائفة من الجند يحاربون على طريقة الكر والفر، ويكون من ورائهم الصفوف المنظمة يلجؤون إليها عند الحاجة، فقد فعل هذا ملوك المغرب؛ إذ كانوا يقدمون جنوداً تحارب على طريقة الكر والفر، ويضربون وراءها صفوفاً من المدربين على الثبات في الزحف. * الإقدام في الدفاع: لكثرة الجند أثر في الظفر، وقد ينتصر الجيش وهو قليل العدد متى كان أشد بسالة، وأثبت قدماً عند اللقاء: وما السيف إلا بزُّ غادٍ لزينة ... إذا لم يكن أمضى من السيف حاملُهْ ومن هنا نجد القرآن الكريم يعني بتربية الشجاعة في النفوس. ومن وجوه تربيته للشجاعة: تذكيره الأمة بأن ما ينالهم في سبيل القتال قد ينال عدوهم مثله، قال تعالى:

الثبات في مواقع الدفاع

{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104]. وقال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]. ومن هذا القبيل تذكيره الأمة بأن العدو إذا استولى على أوطانهم، كانت له العزة، وكانت عليهم الذلة، قال تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} {الممتحنة: 2]. * الثبات في مواقع الدفاع: قد يكون الرجل مقداماً لا يهاب الموت، ولكنه يبتلى بقلة الصبر على المكاره، فيسأم ما يلاقيه في حومات الحروب من مشاق، فيثني عنانه عن الدفاع، وينقلب على عقبه مبتغياً -فيما يزعم- راحة الحياة، أو جانحاً إلى صلح يضرب عليه ذلة وصغاراً، فمن متممات الشجاعة: الثبات في الدفاع إلى إدراك الغاية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} {الأنفال: 45]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمنَّوْا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم، فاصبروا؛ فإن الجنة تحت ظلال السيوف". فكم من ظفر يحرزه أحد الفريقين المتحاربين، وإنما أحرزوه بصبرهم في موقف الطعان لحظة أو لحظات، قال الشاعر الحكيم: بكى صاحبي لما رأى الموت فوقنا ... مُطِلّاً كإطلال السحاب إذا اكفهرّ

الإخلاص في الحرب

فقلت له لا تبك عينك إنما ... يكون غداً حسن الثناء لمن صبر * الإخلاص في الحرب: نجاح كل عمل على قدر ما يقارنه من طيب السريرة، وحسن القصد، وأحقُّ ما يقصد إليه الناهضون إلى الحرب: حماية أوطانهم؛ ليسلم لهم دينهم وأعراضهم وأموالهم، وتكون كلمة الحق هي العليا، وهذا القصد أكبر باعث على الثبات في مواقف الدفاع، فالذي يحارب ليحرز منصباً أو مالاً، أو ليتحدث الناس عن شجاعته، قد يقف في إقدامه عند حد، وما هو من الانهزام والفرار من مواقع الدفاع ببعيد، أما الذي يقاتل دفاعاً عن شيء يرى الحياة بدونه شراً من الموت، وهو العزة والحرية اللتان يرى بهما الحق في إشراق وصعود، فإنه يثبت في مواقع القتال، ولا يلوي عنقه عنه إلا أن يفوز أو يموت. جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال له سائلاً: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". وما أبلغ قول أبي فراس: يغشون حوماتِ المنون وإنها ... في الله عند نفوسهم لصِغار * أثر الاستقامة في الانتصار: جرت سنة الله بأن يكون تأييده في جانب القوم الذين يملأون قلوبهم بالثقة به، ويحافظون على واجبات شريعته ما استطاعوا. كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص: "آمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم؛ فإن ذنوب الجيش أخوفُ عليهم من عدوهم، وإنما ينُصر المسلمون لمعصية عدوكم لله، ولولا ذلك،

الدهاء في الحرب

لم تكن لنا قوة بهم؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا، وإلا نُنصر عليهم بفضلنا، لم نغلبهم بقوتنا"، ومنه: "ولا تقولوا: إن عدونا شر منا، فلن يُسلط علينا، وإن أسأنا، فرب قوم سلط عليهم من هو شر منهم (¬1) ". فصلاح حال الجيش -ولا سيما من بيدهم قيادته- يستدعي تأييد الله تعالى لهم تأييداً مؤزراً، وقد ياتيهم النصر بعد استعدادهم، من حيث لا يحتسبون، فإذا تفشت فيهم المعاصي، لم يأمنوا أن يكون من عقوبة معاصيهم ابتلاؤهم بالوهن والفشل أمام سطوة عدوهم. قال القاضي أبو بكر بن العربي: لقد حضرت صفاً في سبيل الله في بعض الحروب مع قوم من أهل المعاصي والذنوب، فلما وازينا العدو، أقبلت سحاب وريح ورذاذ كأنه رؤوس الإبر، يضرب في ظهر العدو، ويأخذ وجوهنا، فما استطاع أحد منا أن يقف مواجهة العدو، ولا قدرنا على فرس أن نستقبله بها وعادت الحال إلى أن كانت الهزيمة علينا". * الدهاء في الحرب: للشجاعة وكثرة الجند وجودة السلاح أثر في الانتصار، ولكن للدهاء -أعني: جودة الرأي- الفضل الأكبر في الفوز والغلبة. وجودة الرأي هي التي أرادها النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "الحرب خدعة". فالمراد من الخدعة: اتخاذ طرق خفية للوصول إلى الظفر؛ كالكَمين، والعمل لإيجاد شقاق في صفوف الأعداء، وكما فعل نعيم بن مسعود الأشجعي في واقعة الأحزاب؛ إذ سعى بين المشركين ¬

_ (¬1) أورد محمد بن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - عهداً عهد به عمر بن عبد العزيز إلى منصور بن غالب يشبه هذا الخطاب.

إطلاع ولي الأمر على سير الحرب يوما فيوما

وبني قريظة بما فرق بينهم، حتى صرف الله كيدهم. وقال المهلب لبنيه: "عليكم في الحرب بالمكيدة؛ فإنها أبلغ من النجدة". يقوم أمر الحرب على الآراء الصائبة، والآراء الصائبة قد تبدو لقائد الجيش من النظر في طبيعة مواقع القتال، ومن تبصره بأحوال العدو التي يطلع عليها يوماً فيوماً، أو ساعة فساعة. لهذا كان من المعروف في سياسة الحروب أن قائد الجيش يفوض إليه أمر تصريف الحرب على ما يبدو له من رأي بعد استشارة ذوي الرأي من رجاله المخلصين. كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يستشيره في دخول الدُّروب خلف العدو، فكتب إليه عمر: "أنت الشاهد، وأنا الغائب، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب". وكتب الحجاج إلى المهلب يستعجله في حرب الأزارقة، فكتب إليه المهلب: "إن من البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره! ". * إطلاع ولي الأمر على سير الحرب يوماً فيوماً: يفوض ولي الأمر إلى قائد الجيش تدبير شؤون الدفاع، واتخاذ وسائل قهر العدو، على وفق ما تقتضيه الفنون الحربية. وشأن ولي الأمر أن يكون على خبرة من أحوال الجند وسير الحرب، كما يكون على خبرة من أحوال العدو: يواصله بها قائد الجيش يوماً فيوماً، أو ساعة فساعة، حتى يصير كأنه يراها رأي العين. ومن كتاب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص: "اكتب إليّ في كل يوم". وقال في كتاب آخر: "فصف لي منازل المسلمين، والبلد الذي بينكم

الشورى في الحرب

وبين المدائن -عاصمة بلاد الفرس- صفة كأني انظر إليها، واجعلني من أمركم على جلية". وإطلاع ولي الأمر على حال الجيش وموقف العدو أمامهم في كل ساعة، يدعوه إلى السهر والتفكير في وسائل سلامة الجيش، وإمداده بما يحتاج إليه من قوة. ولا يمنع ولي الأمر تفويضه لقائد الجيش في أمر الحرب أن يتتبع سيرته، وينظر إليها بعين الناقد البصير، حتى إذا رأى فيها مأخذاً، نبهه له، أو بدا له رأي أصوب من رأي القائد، أبلغه إياه مصحوباً بالحجة. انصرف أبو عبيدة في فتح الشام عن قلعة حلب إلى النواحي التي قربت من أنطاكية، فكتب إليه عمر بن الخطاب: "وأما ما ذكرت من انصرافك عن قلعة حلب إلى النواحي التي قربت من أنطاكية، فهذا بئس الرأي! أتترك رجلاً ملكت دياره ومدينته، ثم ترحل عنها، وتسمع أهل النواحي والبلاد بأنك ما قدرت عليه؟! فما هذا الرأي؟! فيضعف رأيك، ويعلو ذكره بما صنع، ويطمع من لم يطمع، فترجع إليك الجيوش، وتكاتب ملوكها، فإياك أن تبرح حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين". * الشورى في الحرب: استطلاع الآراء نافع في كل أمر، وهو في الحرب أحق بأن لا يستهان به؛ فإن رأي الجماعة أبعدُ عن الخطأ من رأي الفرد، لذا عني القرآن المجيد بالشورى، فقال تعالى لرسوله الكريم، وهو المؤيد بالوحي: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]. والمراد من الأمر في الآية: أمر الحرب ونحوها من أمور الدنيا التي

كيف يكون قائد الجيش؟

يدركها الناس من طريق التجارب والممارسة؛ أما الأحكام الشرعية، فإنما تجيء من طريق الوحي. نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر في منزل، فقال الحباب بن منذر: أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: "لا، بل هو الرأي والحرب والمكيدة", فقال المنذر: ليس هذا بمنزل، انهض حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله، فقال: "أشرت بالرأي"، وأخذ بما قاله الحباب. * كيف يكون قائد الجيش؟ عرفنا قبل أن الدهاء مما يراعى في اختيار قائد الجيش، ويجب أن يكون قائد الجيش -مع هذا- شجاعاً قوي الجأش؛ فإن لشجاعته أثراً كبيراً في شجاعة الجيش أو جبنه، قال أبو بكر الصديق في وصيته ليزيد بن أبي سفيان، "ولا تجبن فيجبن الناس"، وقال المتنبي يمدح أبا الهيجاء: الجيش جيشك غير أنك جيشه ... في قلبه ويمينه وشماله يريد أن الجيش يتشجع بشجاعتك، ويقدم بإقدامك، ويهاب من أجلك. وقال: بالجيش تمتنع السادات كلهم ... والجيش بابن أبي الهيجاء يمتنع وإذا كانت خصلة الثبات واحتمال المكاره مما يجب أن يغرس في نفوس الجند، فنفس القائد أحق بأن تكون مطبوعة على هذه الخصلة المجيدة، قال الشاعر العربي: وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الجيش مضطلعا

استكشاف حال العدو

لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا ولا يكفي لقيادة الجيوش عندما تلتهب نار الحرب إلا الرجل الذي كان قد خاض غمار الحرب من قبل، فذاق حرَّها، وثبتت قدمه لملاقاة خطوبها، قال أبو تمام: من لم يسس ويطير في خيشومه ... رهج الخميس فلن يقود خميسا وإنما يختار لقيادة الجيش من عُرف بالغيرة على الحق الذي قامت الأمة للدفاع عنه؛ فإن هذه الغيرة تزيد شجاعته قوة، وتفتح أمامه أبواباً من التدبير الناجح لا يبصرها قائد كان حظه من الغيره ضئيلاً. فتح مغيث بن الحارث قرطبة، وأسر ملكها، وكانت للملك بنت ذات جمال، فأخذت تتعرض لمغيث بجمالها، فوكل بها من يسلك معها طريق الإرهاب حتى تقر بما تقصده من تعرضها لمغيث، فأقرت بأنها هيأت خرقة مسمومة لتتوسل بها إلى القضاء عليه، فأخبر مغيث بذلك، فقال: لو كانت نفس هذه الجارية في صدر أبيها، ما أخذت قرطبة في ليلة واحدة (¬1). * استكشاف حال العدو: إن معرفة قائد الجيش بحال عدوه المحارب، وما ينويه من أعمال حربية، تدعوه إلى أن يستعد له على قدر ما يستطيع من قوة أو مكيدة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في واقعة الأحزاب: "من يأتيني بخبر القوم؟ "، قال الزبير: أنا، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "إن لكل نبي حواري، وحواري الزبير". وأسلم العباس - رضي الله عنه - قبل فتح مكة، وكتم إسلامه، وكان يكتب بأخبار ¬

_ (¬1) "نفح الطيب".

التكتم في الحرب

المشركين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قال له - صلوات الله عليه -: "إن مقامك في مكة خير". وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص: "وإذا وطئت أدنى أرض العدو، فأذك العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم"، ومما كتب له: "وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها". * التكتم في الحرب: من حزم قائد الجيش أن يكون تصريفه لشؤون الحرب محوطاً بستار، وتكون آراؤه مصونة بكتمان، ورب نكبة تأني الجيش في اطلاع عدوه على ما بيته قائد الجيش من أمر. بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جحش على رأس سرية، وناوله كتاباً مختوماً، وقال له: لا تفتحه إلا في مكان كذا, ولما وصل إلى ذلك المكان، فتحه، فإذا فيه "امض حتى تنزل نخلة، فتأتينا من أخبار قريش". وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد المسير إلى قوم، وَرَّى بغيرهم. وقال أبو بكر الصديق ليزيد بن أبي سفيان: "وإذا قدمت عليك وفود العجم، فأنزلهم معظم عسكرك، وأسبغ عليهم النفقة، وامنع الناس من محادثتهم؛ ليخرجوا جاهلين كما دخلوا جاهلين بها، وفي رواية: "وكن أنت المتولي لكلامهم". * الاحتراس في الحرب: تقوم الحرب على المكيدة، فمن حزم قائد الجيش: أن يكون على حذر من الوقوع في مكيدة ينصبها له العدو. خرج بغاة بخراسان على قتيبة بن مسلم، فقيل له: وجه إليهم وكيع

حكم الجاسوس في الإسلام

ابن أبي سودة فإنه يكفيهم، فقال: إن وكيعاً رجل به كِبْر، يحتقر أعداءه، ومن كان هكذا، قلَّت مبالاته بعدوه، فلم يحترس منه، فيجد عدوه فيه غرة. وقال بعض الحكماء: "الضعيف المحترس من العدو القوي، أقربُ إلى السلامة من القوي المغتر بالضعيف": لا تحقرن صغيراً في مخاصمةٍ ... إن الذبابة أدمت مقلة الأسدِ ومن أهم ما يتأكد الاحتراس منه: إذاعة الأخبار التي تبعث في النفوس ضعفاً، وفي العزائم وهناً، ولسد مثل هذا الباب من الفساد نزل قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. فالآية واردة في قوم كانوا يسمعون أراجيف المنافقين، فيذيعونها ويكون في إذاعتها ضرر على المسلمين، وقد أرشدتهم إلى أن يرجعوا تلك الأنباء إلى الرسول، وإلى أولي الأمر منهم؛ حتى يعرفوا ما يذاع، وما لا ينبغي أن يذاع. * حكم الجاسوس في الإِسلام: في التجسس على شؤون الحرب، والإفضاء بها إلى العدو، شرٌّ كبير، فربما كان سبب نكبة القوم وابتلائهم بالهزيمة، جاسوسٌ يدل القوم على عورة من عوراتهم، أو يطلعه على خطة مبيتة من خططهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قتل جاسوسا من المشركين، وأفتى طائفة من الأئمة؛ كمالك بن أنس - رحمه الله - بإباحة دم المسلم إذا نقل شيئاً من أسرار شؤون الحرب إلى العدو. * الرفق بالجند ومعاملتهم بالعدل: لو تتبعنا سير القواد الذين أبلى الجنود تحت رايتهم بلاءً حسناً، لوجدناهم

تلقيهم أوامر القائد بحسن الطاعة

القواد الذين يعاملون الجنود بالرفق والإحسان في دائرة الحزم. وفي وصية أبي بكر الصديق ليزيد بن أبي سفيان: "وإذا قدمت على جندك، فأحسن صحبتهم، وابدأهم بالخير، وعدهم إياه" وقال لخالد بن الوليد حين أرسله إلى المرتدين: "يا خالد! عليك بتقوى الله والرفق بمن معك". وقال ابن الخطيب في "مقالته السياسية" حاثاً على "الإحسان إلى الجنود: "ووفٍّ ما أوجبت لهم من الجراية والنعمة"، وفيها: "واعلم أنها لا تبذل نفوسها إلا لمن يملك قلوبها بالإحسان, وفضل اللسان". وجاء فيما عهد به عمر بن عبد العزيز إلى منصور بن غالب حين بعثه على قتال بعض المحاربين "وأمره أن يرفق بمن معه في سفرهم، ولا يجشمهم مسيراً يتعبهم، ويقصر بهم عن منزل يرفه بهم حتى يلاقوا عدوهم والسفرُ لم ينقص قوتهم". * تلقيهم أوامر القائد بحسن الطاعة: ذكرنا في وصف القائد: أن يكون ذا رأي، وشجاعة، وإخلاص، وحزم، ورفق بالجند، ونقول هنا: إن الجيش الذي يحمي الأمة، ويبني لها مجداً شامخ الذرا، هو الجيش الذي يجمع إلى الشجاعة، والمحافظة على آداب الشريعة: استعداده لتلقي أوامر القائد الأمين بحسن الطاعة، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الأدب السامي في خطبة حجة الوداع، فقال: "يا أيها الناس! اتقوا الله وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدَّع، فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام لكم كتاب الله". ومن أعظم ما يساق شاهداً على حسن الطاعة: قصة خالد بن الوليد،

تحامي الاختلاف المؤدي إلى الشقاق

إذ عزله عمر بن الخطاب عن الإمارة العامة للجيش الفاتح للشام، ووسد الأمر إلى أبي عبيدة بن الجراح، ورأى خالد أنه إنما يجاهد في الله، فسلم الإمارة إلى أبي عبيدة راضياً، واستمر على القتال تحت راية أبي عبيدة بإخلاص. * تحامي الاختلاف المؤدي إلى الشقاق: الشقاق يبعد ما بين النفوس، ويذهب بروح التناصر، فيفعل بالجند ما لا يفعله به عدو شاكي السلاح، وقد حذر القرآن المجيد منه، فقال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]. والآية تحذر من أن يقع تنازع بين أمراء الجيش، أو بين أفراده، أو بين الجيش وأمرائه؛ فإن ذلك كله موقع في فشل، وليس بعد الفشل إلا التقهقر، ثم ملاقاة ما يعقب هذا التقهقر من صَغار واستعباد. ويتحامى الاختلاف الممقوت بالإغضاء عن الهفوات، ومقابلة كثير من المكروه بسعة الصدر، وطرح المسائل التي تكون منشأ الخلاف على بساط المحاورة في هدوء وسكينة، والدخول إلى بحثها من باب الإنصاف، والقصد إلى معرفة وجه الصواب، وأبعدُ المجاهدين عن التنازع من جعلوا نصب أعينهم ومناطَ هممهم رفعَ لواء الحجة وسلامة الأوطان، فهؤلاء هم الذين يسابقون إلى كل ما يحقق هذا الغرض المجيد، ويتحامون كل ما يمكن أن يكون عثرة في سبيله. * التخلف عن الدفاع: إنما ينهض الرجل للحرب دفاعاً عن قومه ووطنه؛ ليسلم له دينه وعرضه، وليتمتع بحياة الكرامة، فتخلفُه عنها وهو يستطيع أن يشهدها دليلُ ضعف

الفرار من صفوف القتال

الإيمان, وانحطاط الهمة، ومدعاة إلى تخاذل الأمة، وانكسار شوكتها, لهذا كانت جنايته في نظر الشارع كبيرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]. {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81]. والخروج إلى جهاد العدو تفرضه الشريعة الغراء على الرجل بعينه متى دعاه إلى الخروج ولي الأمر المسلم، ومتى هجم العدو فجأة، ففي هذا الحال يجب على كل مستطيع أن ينضم إلى المدافعين، ولو لم تبلغه دعوة ولي الأمر. * الفرار من صفوف القتال: الفرار من صفوف القتال كبير المفسدة، وخيمُ العاقبة؛ ذلك أن الفارَّ قد يكون كاللبنة تسقط من أسفل الجدار، فيتداعى لسقوطها الجدار كله، لهذا عد الشارع الحكيم الفرار من الزحف من أكبر الجنايات، نهى الله المقاتلين من المؤمنين أن يولوا العدو ظهورهم، وقال: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} {الأنفال: 16]. وفي الفرار من وجه العدو عار يجعل الحياة بغيضة. وقال يزيد بن المهلب: والله! إني لأبغض الحياة بعد الهزيمة. * الوفاء بتأمين المحارب: إذا أعطى أحد الجند الأمان لأحد المحاربين، وجب احترام هذا التأمين،

مجاملة رسل العدو وعدم التعرض لهم بأذى

ولا يجوز لأحد أن يتعرض لذلك المحارب بأذى، وإلى هذا يشير قوله - صلوات الله عليه -: "ويسعى بذمتهم أدناهم". وقد أمضى النبي - صلى الله عليه وسلم - تأمين أم هانئ بنت أبي طالب لرجل من المشركين، وقال لها: "قد أجرنا من أمنت يا أم هانئ". وحدث في عهد عمر بن الخطاب: أن عبداً أمن أهل بلد بالعراق، فكتب قائد الجيش وهو أبو عبيدة إلى عمر يأخذ رأيه في هذا التأمين، فكتب إليه عمر: "إن الله عَظَّم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا، فوفوا لهم، وانصرفوا عنهم". ومن المعقول أن يكون لقائد الجيش رأي في تأمين غيره لأهل بلد تأميناً يقتضي الانصراف عنهم، فإذا رأى أن مثل هذا التأمين قد يأتي بضرر، فله أن يبطله، ويجري على ما يتراءى له من المصلحة، وذهب بعض الفقهاء، وهو عبد الملك بن الماجشون إلى أن تأمين أحد الجنود لبعض المحاربين ينظر فيه القائد الأعلى، فإن لم ير في إمضائه ضرراً، أمضاه، وإلا، ردَّه. * مجاملة رسل العدو وعدم التعرض لهم بأذى: رسول العدو قد يأتي في شأن الصلح أو غيره مما فيه تخفيف شر الحرب، فمن حسن الرأي أن لا يتعرض للرسل بأذى، وأن يكونوا في أمن حتى يعودوا إلى قومهم؛ فإن التعرض لهم بأذى يقطع صلة الرسالة بين الفريقين، ويسد طريق المفاوضات التي يتوسل بها إلى عدم الدخول في الحرب، أو إنهائها إذا كانت ناشبة، ومكارم الأخلاق تأبى أن يتعرض للرسول بأذى، ولو أرسله قومه لإبلاغ ما عزموا عليه من محاربتنا، أو صدر منه كلام في تعظيم أمر قومه بقصد الفخر أو الإرهاب، وقد جرى نظام الإِسلام في الحرب على هذا الأدب المقبول: قدم أبو رافع بكتاب من قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما

تجنب قتل من لا يقاتل

رأى رسولَ الله، ألقي في قلبه الإِسلام، فقال: يا رسول الله! إني والله لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البُرُد، ولكن ارجع، فإن كان في قلبك الذي في قلبك الآن، فأرجع" قال: فرجعت، ثم أقبلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسلمت. * تجنب قتل من لا يقاتل: يحرِّم الإِسلام قتل نساء المحاربين، وصبيانهم، والطاعنين في السن منهم، ورهبانهم إن لم يحاربوا، روى عبد الله بن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل النساء والصبيان، وروى ابن عباس: أنه - عليه الصلاة والسلام - كان إذا بعث جيوشاً، قال: "لا تقتلوا أصحاب الصوامع"؛ يعني: الرهبان. وقال أبو بكر الصديق في وصيته لجيش أسامة: "وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له"، وقال: "ولا تقتلوا طفلاً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة". ومن وصايا عمر بن الخطاب لأمراء الجيش: "ولا تقتلوا هَرِماً, ولا امرأة، ولا وليداً، وتوقَّوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات". ويلحق بهؤلاء في تجنب قتلهم: المريض، والمقعد، والأعمى، والمجنون، وكذلك روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن قتل العسيف، وهو الأجير، ويهذا يظهر أن الإِسلام إنما يقصد من الحرب دفاع من يقصدون لأن يقاتلوا، ولا يصح القصد لقتل من ليس شأنه القتال. * معاملة الأسرى: إذا وقعت طائفة من العدو المحارب في أسرنا، لم يجز لأحد من الجنود أو غيرهم أن يمسهم بأذى، وإنما يرجع أمرهم إلى رأي ولي الأمر الواسع

الخبرة بوجوه المصالح، فيعاملهم بما تقتضيه خطة الحزم، وما تمليه سماحة الأخلاق، وذهب من علماء السلف الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح إلى أن ولي الأمر يخير في الأسرى بين أن يطلقهم على وجه المن, أو يطلقهم بفداء، وتمسكوا في هذا بقوله تعالى: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]. وقع ثمامة بن أثال أسيراً في أيدي المسلمين، فجاؤوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أحسنوا إساره"، وقال: "اجمعوا ما عندكم من طعام، فابعثوا به إليه"، وكانوا يقدمون إليه لبن لقحة (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غدواً ورواحاً، ودعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإِسلام، فأبى، وقال له: إن ترد الفداء، فسل ما شئت من المال، فأطلق النبي - عليه الصلاة والسلام - سبيله من غير فداء، ثم دخل بعد هذا المن في الإِسلام. ووقعت ابنة حاتم الطائي في أيدي المسلمين، وأنزلت بمكان يمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتعرضت له، وقالت: هلك الوالد، وغاب الرافد -تعني أخاها عدياً-, فامنن عليَّ مَنَّ الله عليك! فقال: "قد فعلت، فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك" وأقامت حتى قدم رهط من قومها، فكساها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحملها، وأعطاها نفقة، فخرجت معهم. وأطلق - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة جماعة من قريش وقعوا في الأسر قبل دخوله مكة، فكانوا يدعون: الطلقاء. ¬

_ (¬1) اللقحة: الناقة الحلوب.

الدفاع في البحر

* الدفاع في البحر: لم يدخل المسلمون في قتال بحري إلى عهد عثمان بن عفان - صلى الله عليه وسلم -، وكان أول من ركب البحر فاتحاً: معاوية بن أبي سفيان، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته بما يقوم به المسلمون من فتوح على طريق البحر. نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -في بيت أم حرام بنت ملحان، وهي تحت عبادة بن الصامت، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر، ملوك على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة"، فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله" نحو ما قال في الأول، قالت: فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم! قال: "أنت في الأولين". وقد أجاب الله دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، وعلم أن دعاءه قد استجيب، فقال لها: "أنت في الأولين"، وركبت أم حرام البحر مع زوجها عبادة بن الصامت في زمن معاوية لفتح "قبرص"، ولما خرجوا من البحر، صرعت عن دابتها، وتوفيت ودفنت هناك. وقيل: صرعت بعد عودتها إلى الشام. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ملوك على الأسرة" مبالغة في فضل المحاربين في البحر، وترغيب في صرف الهمة إلى المهارة في ركويه، وإنشاء أساطيل تكف أيدي الأعداء الممتدة من وراء البحار. وأنشأ أمراء الإِسلام من بعدُ أساطيل، واتخذوا لها مصانع، كما اتخذ حسان بن النعمان عامل أفريقية بإيعاز من عبد الملك بن مروان دار صناعة

عقد الصلح

بتونس لإنشاء الآلات البحرية. وبلغ أسطول الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر نحو مئتي مركب، وكذلك كان أسطول تونس والمغرب الأقصى في قوة، ولو استمر المسلمون على العناية بالقوة البحرية، والتقدم في صنع وسائلها, لكان لهم شأن غير هذا الشأن. * عقد الصلح: قد يقتضي الحال عقد صلح بيننا وبين العدو، وقد استحب الشارع الحكيم عدم رفض الصلح متى رغب فيه المحاربون، فقال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - عقد بينه وبين كفار قريش صلحاً أتى بخير كثير، وهو صلح الحديبية. وشروط الصلح تختلف باختلاف قوة الأمة وضعفها، وملاكها أن يكون في عقد الصلح مصلحة عامة، وأن لا يكون من بين الشروط إباحة ما تحرمه الشريعة. والذي نريد التنبيه له في هذا الفصل: أن الصلح الذي يلقي بالأمة في خزي، ويجعل بطن الأرض خيراً لها من ظهرها، هو الصلح الذي يبعثها على السعي إليه، أو على قبوله حبُّ الحياة، وكراهة الموت، فتحتمل مهانته وهي تستطيع دفعه بالرجال والسلاح، قال تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35]. وهذا شاعر عربي يأبى لقبيلته أن تتقبل صلحاً إلا أن يكون لها السلطان في وطنها، وتبقى منابرها التي هي مصادر الأمر والنهي في قبضتها، فقال: ولا صلحَ ما دامت منابرُ أرضِنا ... يقوم عليها من ثقيفَ خطيبُ * تخليص الأسرى من أيدي العدو: يقع الفرد أو الطائفة في أسر العدو، ولا يعد هذا وحده دليل الجبن أو

تقدير البطولة

التقصير في الدفاع، حتى يجر إلى صاحبه عاراً، أو يسيغ لمن بيدهم الأمر أن يصرفوا عنه أنظارهم، ويتركوه في أيدي العدو، يلاقي المهانة أو سوء العذاب. كان هاشم بن عبد العزيز أحد وزراء محمد بن عبد الرحمن الأموي بالأندلس قائد جيش، ووقع أسيراً في يد العدو، فنسبه الأمير محمد إلى الطيش والاستبداد بالرأي، فقام الوزير الوليد بن عبد الرحمن بن غانم يدافع عنه في مجلس الأمير، ومما قال في الاعتذار عنه: "إن هاشماً قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حق الإقدام، ولم يكن ملاك النصر بيده، فخذله من وثق به، ونكل عنه من كان معه، فلم يزحزح قدمه عن موطن حفاظه، حتى ملك مقبلاً غير مدبر، ومبلياً غير فشل، فجوزي خيراً عن نفسه وعن سلطانه، فإنه لا طريق للملام عليه، وليس عليه ما جنته الحرب القشوم". فأعجب الأمير بكلام الوليد، وأقصر فيما بعد عن تفنيد هاشم، وسعى في تخليصه. فمن واجبات الدولة أو الأمة: تخليص من يقع في أسر بالوسائل المستطاعة من مال أو غيره، وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الواجب بقوله: "فكوا العاني -الأسير-, وأطعموا الجائع، وعودوا المريض". * تقدير البطولة: البطل يقف المواقف الخطيرة، ويجود بحياته في دفاع العدوة لتعلو كلمة الحق، وتحيا الأمة حياة الكرامة، فهو جدير بأن يلاقي من الأمة التبجيل والتكريم. وشعور البطل بأنه يعمل لخير أمة تقدر رجالها حق قدرهم، مما يزيد إقباله وثباته على الدفاع قوة، وإذا شعر غيره بهذا التقدير، فقد يقوى

حرصه على أن يسلك سبيله، ويبذل كل ما يعز عليه في سبيل سلامة الوطن، وسيادة الأمة. سئل بعض الحكماء عن أشد الأشياء تدريباً للجنود، فذكر أشياء، وقال: "الإكرام للجيش بعد الظفر، والتشريف للشجاع على رؤوس الناس". ولتكريم الأبطال مظاهر: منها: الاحتفال بتوديعهم عند الخروج للحرب؛ كما خرج الخليفة أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يشيع أسامة بن زيد والجيشَ المسافر معه إلى الشام، وكان أبو بكر ماشياً على قدميه، وأسامة راكباً راحلته. وخرج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يشيع سعد بن أبي وقاص والجيشَ المسافر إلى فتح فارس حتى بلغ موضعاً يقال له: الأعوص، وهناك خطب فيهم خطبة أوصاهم فيها بالعدل والرحمة، إلى نحو هذا، وعاد إلى المدينة. وكان اليوم الذي خرج فيه أسد بن الفرات (¬1) من القيروان لفتح صقلية يوماً مشهوداً. ويضاهي هذا: استقبالهم، والاحتفاء بهم عند إيابهم من حرب أبلوا فيها بلاء حسناً. ومن مظاهر تقدير الأبطال المخلصين: عناية ولي الأمر بأن يكون عيشهم في رخاء، وأن يكونوا في أمن على إصلاح شأن أطفالهم إذا استشهدوا. جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسلمة بن الأكوع في بعض مغازيه بين سهم الراجل والفارس، فأعطاه خمسة أسهم؛ لعظم غَنائه في تلك الغزوة. وزاد عمر بن الخطاب في عطاء فتاة من بيت المال، وقال: "إن ¬

_ (¬1) توفي أسد في حصار "سرقوسة" شهيداً، وهو أمير الجيش وقاضيه سنة 213.

أباها فتح حصناً". ومن وجوه تقدير الأبطال: صوغ عبارات الشكر والثناء عليهم في نظم أو نثر، وفي الأدب العربي قسم عظيم في الثناء على الأبطال، والتنويه بذكر مقاماتهم المجيدة، قال أبو تمام: كم بين قوم إنما نفقاتهم ... مال وقوم ينفقون نفوسا وبطولة الرجل تطلق الألسنة بتمجيده، حتى ألسنة خصومه الذين تجرعوا من شدة بأسه مرارة، خرج يزيد بن المهلب على يزيد بن عبد الملك، فوجه لقتاله أخاه مسلمة بن عبد الملك، وثبت يزيد بن المهلب في قتاله، وأبى أن يفر، وقد تسلل عنه أعوانه، حتى قتل، وأراد أحد جلساء يزيد بن عبد الملك أن ينال من ابن المهلب، ويحط من شأنه، فقال له يزيد بن عبد الملك: "إن يزيد طلب جسيماً، وركب عظيماً، ومات كريماً". عش عزيزاً أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود ومن تقدير البطولة: الإغضاء عن أخطاء تصدر من البطل وهو يحارب العدو بعزم صميم، وعدم مناقشته الحساب على مآخذ قد يشفع له فيها إخلاصه، والإخلاص القائم بجانب البطولة شفيع أي شفيع!. بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد لدعوة بني جذيمة إلى الإسلام، فسبقت يد خالد إلى قتل رجال منهم باعتقاد أنهم يستحقون القتل، وبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنكر ما فعل خالد، وقال: "اللهم أني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد! "، وأرسل إلى بني جذيمة مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ديات من قتلوا، وأعطاهم قيم ما أصيب من أموالهم، وزادهم على ما استحقوا من الديات وقيم الأموال، ولم يعزل خالداً عن قيادة الجيش.

وفي الختام أقول: هذه فصول في آداب الحرب أسوق حديثها تذكرة لجيوشنا الإسلامية في مصر وغير مصر، عسى أن يقرؤوها بتدبر، ويستقيموا على طريقتها، فتخفق ألويتهم بالنصر، ويخرجوا بلاد الإسلام من خمول إلى نباهة شأن، ومن هُون إلى عزة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

الروح العسكرية في الإسلام

الروح العسكرية في الإسلام (¬1) نقلِّب النظر في تاريخ الأمم التي بلغت الذروة في العزة والسيادة، فنجدها إنما بلغت تلك الذروة بما ملكت من قوة الروح العسكرية، فبقوة الروح العسكرية تسلم البلاد من خطر يمتد إليها من الخارج، وبهذه القوة يستتب الأمن في داخل البلاد على ما يرام، ذلك أن قوة الروح العسكرية تجعل الأمة قوية الشوكة، نافذة الإرادة، مرهوبة الجانب. وقد كان في الأمة العربية وهي في جاهليتها روح عسكرية شديدة البأس، يتمثل هذا في أشعارهم، وكثرة أيام حروبهم، ولكنها روح قد تخرج عن حدود العدل، ولا تبالي أن تبدأ بالظلم، فجاء الإسلام وعدَّلها، وهذَّب حواشيها، وحاطها بنظم حكيمة، فانتقلت إلى طور أرقى، ولبست رداء أنقى، وأصبحت هذه الروح مصدر خيرات لا يتلقاها الناس إلا من ناحيتها. وليس من شك في أن الدفاع عن الحقوق والمصالح الخاصة أو العامة يعد في أمجد الأعمال التي يتنافس فيها حماة الحرية وأنصار الإنسانية. تقوى الروح العسكرية في القوم متى طبعوا على خلق الشجاعة، واستنارت أذهانهم بمعرفة فنون الحرب، وملكوا من وسائل الدفاع ما يقتضيه حال العصر، فلا عجب أن ترى القرآن الكريم قد توجه إلى هذه الأصول الثلاثة ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد السادس عشر.

بعناية كبيرة، فأرسل الحِكَم التي تربي في النفوس خلق البطولة، وحفز الدواعي لإعداد وسائل الحرب، ونبه لا تباع النظم التي تخفف وطأة الحرب، وتقرب من النصر. فالظفر في الحرب بعيد من الجبناء، وبعيد ممن لا يعدون للحرب عدتها، وبعيد ممن يهملون النظم التي يمليها العلم، أو يستمدها القواد الأذكياء من الوقائع نفسها. أما عناية القرآن الكريم بخصلة البطولة والإقدام، فقد أقبل على النفوس، وأخذ ينقيها من رذيلة الجبن والإحجام، ويذكرها بسوء عاقبة الجبناء؛ كقوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8]. فقد أشارت هذه الآية إلى أن عاقبة الجبناء الابتلاءُ بذي قوة لا يعرف للعهد حرمة، ولا يقيم للعدل وزناً، ومن الذي يرتاب في أن الموت في مواطن البطولة أشرف من حياة يغمرها الذل والهوان؟ قال المتنبي: غير أن الفتى يلاقي المنايا ... كالحاتٍ ولايلاقى الهوانا وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تموت جبانا ومن الآيات المنبهة على أن الجبناء قد فقدوا جانباً من رجولتهم: قوله تعالى في توبيخ قوم تأخروا عن المحاربين في سبيل الإصلاح، وقعدوا بين من لم يخلقن للطعن والضرب: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة: 87]. ولا يتوارى الرجل عن أعين القوم، أو يسل يده من أيديهم في حرب لهم فيها أمن أو سيادة إلا أن يكون حظه من الرجولة ضئيلاً أو مفقوداً.

ومما اتخذه القرآن وسيلة لتربية الشجاعة في النفوس: عقيدة القضاء والقدر، فقال تعالى في الرد على قوم يظنون أن من لا يخرجون إلى القتال تمتد آجالهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]. وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168]. فالإنسان مطالب بالحذر من مواقع الخطر والتهلكة، ولكن الإقدام في الدفاع عن العزة والكرامة لا يعد من قبيل الإلقاء بالنفس في تهلكة، وإنما هو قيام بواجب، فإن قضاه وعاد سالماً، فقد استحق الحمد، وعرف أن أجله لم يجئ بعد، وإن أصيب فقتل، فإنما هو أجله المقدور الذي لا يتأخر ساعة ولا يتقدم قد أدركه في أشرف حالة، هي المسابقة إلى دفع أيدٍ عادية عن نفوس بريئة، أو أعراض مصونة، وأموال محترمة. وأما عناية القرآن بإعداد وسائل الدفاع، فحسبنا شاهداً عليها: قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - القوة بالرمي؛ نظراً إلى أن الرمي أهم وسائل الدفاع، وأقواها أثراً في الانتصار، وما زلنا نرى معظم أسباب الفوز في الحروب عائداً إلى الرمي، فالمدافع والطائرات والغواصات إنما تفعل ما تفعل بقوة الرمي.

ونبه القرآن الكريم في آية أخرى على أن قاصد الحرب شأنه أن يأخذ الأهبة للحرب قبل النهوض إليها، فقال تعالى في وصف قوم من المنافقين أضمروا عدم الخروج إلى الحرب من أول الأمن ثم استأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في التخلف: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46]. وأما عناية القرآن باتباع ما تقتضيه النظم الصالحة، فمن الآيات المشيرة إليه: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]. ومن مقتضى هذه الآية: أن الشجاعة، واستيفاء وسائل الدفاع المادية لا يغنيان عن الأخذ بالنظم التي هي أثر التجارب والبصائر النافذة. وفي كتب السنة والغزوات النبوية أحاديث كثيرة ترشد إلى أن من أهم وسائل الفوز: اتباع النظم التي تستدعيها مصلحة القتال. يبث القرآن الكريم في النفوس روحاً عسكرية قوية صادقة، فلا جرم أن يكون المؤمن بحق قوي الجأش، محافظاً على نظم الدفاع، آخذاً بوسائله ما استطاع، وكذلك كان الناس في عهد الأمراء المظفرين. ومن أسباب قوة الروح العسكرية فيما سلف: أن رؤساء الجند يقدرون عمل الجندي، ويعرفون أثره الخطير في سلامة الوطن، ورفعة شأن الأمة، فلا يكون منهم إلا أن يرعوا الجنود برفق، ويذيقوهم حلاوة التمتع بالكرامة في دائرة الحزم، ويرفعوا درجاتهم على قدر كفاياتهم لجلائل الأعمال وملاقاة الأخطار.

كانت الروح العسكرية مظهراً من مظاهر التقوى، ومعدودة في الخصال التي يرتفع بها أفاضل القوم درجات، وكان العلماء يحرصون على أن يكون لهم منها أوفر نصيب، وإذا رجعنا إلى تاريخ العلماء الأجلاء، وجدنا كثيراً منهم كانوا يسابقون في ميادين الحروب، وكان كثير من القضاة يقودون الجيوش؛ مثل: أسد بن الفرات قاضي القيروان وفاتح صقلية، ويحيى بن أكثم قاضي بغداد، ومنذر بن سعيد البلوطي قاضي قرطبة، ونجد في تراجم كثير من العلماء أنهم توفوا في غزوات، أو مرابطين في الثغور. وكان تقدير العلماء للروح العسكرية واتصالهم بها من أسباب قوة هذه الروح وسريانها في الأمة قاطبة. وإذا بدا لنا أن نبحث عن أسباب ضعف هذا الروح بعد تلك القوة، تراءت لنا أسباب شتى، منها: أن التعليم الديني اتجه إلى النظر أكثر من اتجاهه إلى العمل، كأن إدراك أصول الدين وأحكامه هو الغاية الأخيرة من تعلمه، ومنها: انحدار الناس في الشهوات، والتنافس في الزينة والملاذ الجسمية؛ من نحو: الإسراف في الملابس والمطاعم، وقضاء الوقت في لهو ونوم. قال الوزير حسن بن عبده يخاطب المستظهر أحد أمراء الأندلس: أخوض إلى أعدائكم لجج الوغى ... وأسري إليهم حيث لا أحد يسري وقد نام عنهم كل مستبطن الحشا ... أكول إلى الممسى نؤوم إلى الظهر ومما يصح أن يذكر في أسباب ضعف الروح العسكرية بعد تلك القوة: ما عرض لبعض الناس من الخطأ في فهم التوكل والزهد. أما التوكل، فجروا فيه على معنى: ترك تعاطي الأسباب، ولابس أذهانهم: أن التوكل لهذا المعنى قد يغني عن الأخذ بوسائل الدفاع، ونسي هؤلاء أن التوكل الصحيح في تعاطي الأسباب، واستمداد الحول والقوة من الله.

وأما الزهد، فجروا فيه على معنى: إيثار العزلة والانقطاع عن المجتمع، ونفض الأيدي من كل أمر ما عدا العبادات؛ من نحو: الصلاة، والصيام، فانصرفوا عن كل ما تخيلوه أمراً دنيوياً، وكان من جملة ما تخيلوه أمراً دنيوياً: إعداد وسائل الدفاع، والنهوض إلى الدفاع، وبهذا فقد الزهد المشروعُ ركناً من أركانه الذي هو مكافحة الباطل، وحماية الحقوق العامة والخاصة حسب الطاقة. وكثيراً ما تظهر الروح العسكرية في آداب أهل العصر، فمن البعيد أن تسمع من جبان يعيش في بيئة مقهورة أمثال قول الشاعر: حملوا قلوب الأسد بين ضلوعهم ... ولَوَوا عمائمهم على الأقمار إن خَوَّفوك لقيت كل كريهة ... أو أَمَّنوك حللت دار قرار وإنما تظهر الصورة الرائعة من معاني الحرب والحماسة في عهد أو موطن يُعنى فيه القوم بملاقاة الحروب، أو التأهب لها. وأنشأ عبد الرحيم بن نباتة خطباً طافحة بمعاني الدفاع والتشويق إليه، فأبدع فيها ما شاء، حتى قالوا: إنه لم يؤلف في هذا الغرض مثلها، وإنما اتجه ابن نباتة هذا الاتجاه، وبرع هذه البراعة؛ لأنه كان يعيش بحلب في عهد سيف الدولة، وكان سيف الدولة كثير الغزوات، وذلك العهد أملى على المتنبي كثيراً من المعاني المتعلقة بالحرب والشجاعة، وبمثل ذلك ارتقى شعره، وازدهى بكثير من الحكم السامية، كما قال: عش عزيزاً أو مت وأنت كريمٌ ... بين طعن القنا وخفق البنود وقال: وقفت وما في الموت شك لواقفٍ ... كأنك في جفن الردى وهو نائمُ

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وَضَّاح وثغرك باسمُ تتبعت بيئاتُ الخلاعة والانحدارِ في اللذات الشعرَ الذي يبعد النفوس عن الرجولة، ويذهب بها في الانحلال حتى لا تكاد تتماسك، ولكن بيئات الشجاعة والحروب هي التي تصدر من الشعر ما كان جزل المعنى، آخذاً بالنفوس إلى الشهامة، والطموح إلى العزة، تجد هذه الروح حتى في الشعر الذي ينحو فيه قائله نحواً من الغزل؛ كما قال أبو العطاء السندي: ذكرتك والخطيُّ يخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السُّمْر وصفوة هذا الحديث: أننا اليوم في نهضة اجتماعية، والنهضات الاجتماعية لا تقوم إلا على نفوس قوية، ولا قوة إلا بالشجاعة، واقتحام الشدائد، وعدم المبالاة بالأخطار، وذلك ما ندعو إلى أن يكون الروح المالئة لصدور شبابنا وكهولنا وشيوخنا، وقد عرفتم كيف كانت هذه الروح عنوان الشرف، ومرقاة السلامة والعزة، وقد قدر أهل العلم هذه الحكمة قدرها، وراعوها في كثير من الأحكام المستنبطة بالاجتهاد، وكانت فتاواهم في كل شأن يتصل بأمر الدفاع أساس الحياة الصحيحة، وأنه مصلحة يسقط بجانبها كل ما يجحف بها من مصالح الأشخاص والجماعات.

الطب في نظر الإسلام

الطب في نظر الإسلام (¬1) عُرف الإسلام بأنه يدعو إلى التوكل على الخالق -جل شأنه-، ويوجه القلوب إلى تفويض الأمور إليه في كل حال، وهو إن عد التوكل والتفويض إلى الله في جملة آدابه، لم يهمل النظر في الأسباب، وارتباطها بمسبباتها، فأذن، بل أمر بتعاطي ما دلت العقول والتجارب على أنه مجلبة خير، ونهى عن القرب مما عرف بأنه مجلبة شر، والتوكل والأخذ بالأسباب يلتقيان في نفس واحدة ما شد أحدهما بعضد الآخر: التوكل أدب نفسي يبتغى به رضا الخالق ومعونته، والأخذ بالأسباب عمل يجري على سنن الله في الخليقة، فمن وكل أمره إلى الله، ثم تعاطى أسبابه، وصل إليه من أرشد الطرق، وعاد منه بأحسن العواقب. والطب إنما هو من قبل الأسباب التي أذن الإسلام في تعاطيها، وهو من أشرف الصناعات، وشرف الصناعة على قدر ما يترتب عليها من نفع الأمة، وتقويم أود حياتها. ونفعُ الطب في حماية الناس، أو إنقاذهم من كثير من المهالك، أمرٌ جلي لا يحتاج إلى بسط واستدلال. ولا جرم أن يتجه الإسلام بشيء من العناية إلى الطب، ذلك أنه يريد من الأمة أن تكون عزيزة الجانب، مهيبة السلطان ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول والثاني من المجلد التاسع عشر.

حتى تستطيع أن تنفذ ما أمر الله به من إصلاح، وتتحامى ما نهى عنه من فساد، وإنما يعز جانبها، ويهاب سلطانها، متى كانت كثيرة العدد، قوية الأيدي، والطب من أهم الوسائل إلى كثيرة النسل، وقوة الأجسام. ومن المعروف أن في سلامة الأجسام معونة على انتظام الأفكار، وسداد الآراء، وسماحة الأخلاق، وإنما تتفاضل الأمم برجاحة عقولها، واستقامة أخلاقها. وإذا تحدثنا عن الطب في هذه المحاضرة، فإنما نقصد إلى معالجة الأمراض الحاصلة في الحال، ووقاية الأبدان من أن تصاب بها في المستقبل، وذلك ما يدعى بحفظ الصحة، وكذلك قال جالينوس: الطب: حفظ الصحة، وإزالة العلة. لما دخل عضد الدولة بغداد، دخل عليه من الأطباء: أبو الحسن الحراني، وسنان بن ثابت، فقال: من هؤلاء؟ قالوا: الأطباء، قال: نحن في عافية، وما بنا حاجة إليهم، فقال له سنان: أطال الله بقاء مولانا، موضوع صناعتنا حفظ الصحة، لا مداواة المرضى، والملك أحوج الناس إلى حفظ الصحة، فقال عضد الدولة: صدقت، وقرر لهما الجاري السنوي، وقربهما إلى مجلسه في طائفه من الأطباء. رفع الإسلام من شأن الطب: مداواة العلل، وحفظ الصحة، وعرف هذا من القرآن الكريم، وأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته. أما القرآن الكريم، فقد أذن في ترك بعض الفرائض متى كان القيام بها يؤثر في الصحة بإحداث مرض، أو زيادته، أو تأخر برئه، وشرَّع في أحد هذه الأحوال التيمم بدل الوضوء أو الغسل، كما أذن للمريض والمسافر أن يترك

كل منهما الصيام الواجب، ويقضي المريض الأيام التي أفطر فيها عندما تعود إليه صحته، كما يقضي المسافر أيام إفطاره عندما ينقطع سفره، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. والإذن في الفطر للمسافر من قبيل حفظ الصحة؛ فإن السفر مظنة التعب، والتعب من مغيرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام، ازداد التعب، فيزداد تغير الصحة. وحرَّم القرآن الدم، ولحم الخنزير، والميتة، وما ألحق بها من المنخنقة، والموقودة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وسر هذا التحريم: أنها مؤثرة في الصحة كما بين هذا الأطباء في القديم والحديث، وقد تحدث الأطباء في هذا العصر عن مضارها من جهة الصحة بأوسع بيان. وحرَّم القرآن مباشرة الحائض، وقد بسط الأطباء أيضاً في مضار هذه المباشرة بها من جهة الصحة؛ مما يدل على أنه تحريم شارع حكيم. وحرّم القرآن الخمر، والزنا، وما يشبه الزنا، ولهذه المحرمات مضار صحية، علاوة على المضار الاجتماعية، وكذلك فعل الأطباء اليوم، فكشفوا القناع عن هذه المضار الصحية، فنترك الكلام عن هذه المضار لحضرات الأطباء المحققين. في "الكشاف": يحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان، فقال له: قد جمع الله الطب في نصف آية من كتابه، قال: وما هي؟ قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} {الأعراف: 31].

أما أقواله - عليه الصلاة والسلام - فمنها: ما رواه مالك في "موطئه" عن زيد بن أسلم: أن رجلاً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - جرح، فاحتقن الدم، وإن الرجل دعا رجلين من بني أنمار، فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيكما أطب؟ "، فقال: أو في الطب خير يا رسول الله؟ فقال: "أنزل الدواء الذي أنزل الداء". وعن هلال بن يسار: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على مريض يعوده، فقال: "أرسلوا إلى الطبيب"، فقال قائل: وأنت تقول يا رسول الله؟ قال: "نعم، إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- لم ينزل داء إلا أنزل له دواء". ونهى عن التنفس والنفخ في إناء الشراب أو الطعام حتى لا يتناول الإنسان الطعام أو الشراب وقد مازجه ما لا خير في امتزاجه به. وأما سيرته - عليه الصلاة والسلام -، فإنه كان يتعاطى بعض الأدوية؛ كما تداوى للجرح الذي أصابه في غزوة أحد، وأذن في الاحتجام عند تبوُّغ الدم، واحتجم في الأخدعين والكاهل. وثبت في الصحيح: أنه بعث إلى أُبيّ ابن كعب طبيباً، فقطع له عرقاً، وكواه عليه. وجاء في الحمية: أنه - عليه الصلاة والسلام - رأى علي بن أبي طالب يأكل عنباً، فقال له: "مه مه يا علي؛ فإنك ناقه" (¬1). ومما جاء في الوقاية: نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن الإقدام على أرض فشا فيها الوباء، فقال: "إذا سمعتم بالطاعون في أرض، فلا تدخلوها"، وفي رواية: "فلا تقدموا عليها". ومما جاء من هذا القبيل: تحذيره - عليه الصلاة والسلام - من مخالطة بعض ذوي الأمراض السارية؛ كالجرب والجذام، وقال: "فرّ من المجذوم ¬

_ (¬1) رواه الترمذي.

كما تفر من الأسد". قال ابن خلدون: وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص، متوارث عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصح منه البعض، إلا أنه ليس على قانون طبيعي، ولا على موافقة المزاج. وكان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون؛ كالحارث بن كلدة، وغيره، والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عادياً للعرب، ووقع في ذكر أحول النبي - صلى الله عليه وسلم - من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلَّة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب، ولا غيره من العاديات، وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، فلا ينبغي أن يحمل شيء في الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك، وصدق العقد الايماني، فيكون له أثر عظيم في النفع. وذهب ابن القيم في "زاد المعاد" غير هذا المذهب، فقال: وليس طبه - صلى الله عليه وسلم - كطب الأطباء، فإن طب النبي - صلى الله عليه وسلم - متيقن قطعي إلهي، صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل، وطب غيره أكثره حدس وظنون وتجارب. ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة؛ فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقين له بالإيمان والإذعان،

فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور إن لم يتلق بهذا التلقي، لم يحصل به شفاء الصدور، ثم قال: "فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية". ونحن نرى أن الطب النبوي لا يلزم أن يكون وحياً، ولكن ما يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن لابد أن يكون صحيحاً؛ كبقية المسائل الطبية المشهود بصحتها في علم الطب، وننبه هنا على أحاديث طبية تنسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونسبتها غير ثابتة. منها: حديث: "المعدة بيت الدواء، والحمية رأس الدواء"، يورده بعضهم مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت هذا عند المحدثين، بل قالوا: هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب، أو كلام غيره. ومنها: حديثه: "البطنة أصل الداء، والحمية أصل الدواء، وعودوا كل بدن ما اعتاد"، أورده الغزالي في "الإحياء"، وقال المحدثون: ليس له أصل. ومنها: حديث: "المعدة حوض البدن، والعروق إليه واردة، فإذا صحت المعدة، صدرت العروق بالصحة، وإذا فسدت المعدة، صدرت العروق بالسقم". ولا يعرف هذا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من كلام عبد الملك ابن سعيد بن الحارث. وأدرك الفقهاء رعاية الدين لحفظ الصحة والطب، فبنوا كثيراً من الأحكام الشرعية على رعايتها، فتراهم يفتون بمداواة الأجنبي للمرأة عند الضرورة، وإن اقتضى العلاج أن يطلع على ما لا يباح الاطلاع عليه. وأفتوا بقبول قول الطبيب في كثير من الوقائع، والاعتماد عليه في

القضايا؛ نحو: الجنائيات، ومن هنا نشأ ما يسمى في هذا العصر بالطب الشرعي، ويسميه بعض علماء الهند بالطب الحكمي، وقالوا في تعريفه: هو المعارف الطبية والطبيعية المستعملتان في الأحكام الواقعة بين الناس. وفي أمثال هؤلاء يقول بعضهم: أعمى وأفنى ذا الطبيب بكحله ... ودوائه الأحياء والبصراء فإذا رأيت رأيت من عميانه ... أمماً على أمواته قرّاء وأجمع الفقهاء على أن الطبيب الماهر إذا عالج مريضاً، فأخطأ في اجتهاده، وتولد من معالجته تلف عضو أو نفس، أو ذهاب صفة، فلا ضمان عليه، بخلاف المتطبب الذي لم يتقدم له معرفة بالطب يقدم على معالجة عليل، فيترتب على علاجه تلف عضو أو نفس، فإنه يضمن (¬1). ويعللون بعض الأحكام الشرعية بوجوه ترجع إلى حفظ الصحة. أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب سبع مرات، إحداهن بالتراب، فذكر الفقيه ابن رشد في تعليل هذا الحكم، فقال: ليس من سبب النجاسة، بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كَلِباً، فيخاف من ذلك السم، قال الحفيد: وقد اعترض عليه فيما بلغني بعض الناس بأن قال: إن الكلب الكَلِبَ لا يقرب الماء حين كَلَبِه. قال: وهذا الذي قالوه عند استحكام هذه العلة بالكلاب، لا في مبادئها، وفي أول حدوثها، فلا معنى لاعتراضهم. ¬

_ (¬1) وأصل هذا ما رواه أبو داود، والنسائي: أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "من تطبب، ولم يعلم منه الطب قبل ذلك، فهو ضامن".

وقال طائفة من محققيهم: إن المجذومين إذا كثروا يمنعون من المساجد والمجامع، ويتخذ لهم مكان ينفردون به عن الأصحاء، ويجري هذا الحكم في الجرب، وبعض أنواع الحمى التي يقرر الأطباء أنها أمراض سارية. وعرف علماء الشريعة فضل صناعة الطب، وأنها من الأعمال التي تكسب حمداً، فأنفقوا فيها جانباً من أنظارهم وأوقاتهم، وأضافوها إلى علومهم الشرعية. ومن هؤلاء العلماء رجال بلغوا في علوم الشريعة الذروة، منهم: الإمام أبو الحسن علي سيف الدين الآمدي، وأبو عبد الله محمد بن عمر فخر الدين الرازي، والإمام أبو عبد الله المعروف بالمازري؛ فقد كان هذا العالم كما قالوا في ترجمته: يفزع إليه في الطب كما يفزع إليه في الفتوى في الفقه، والفيلسوف محمد بن أحمد بن رشد، وهو مؤلف "بداية المجتهد" في الفقه، وكتاب "الكليات" في الطب، والعلامة موفق الدين عبد اللطيف البغدادي، فقد كان يجمع بين الفقه والطب. وظهرت عناية العلماء بهذه الصناعة في الإقبال على تدريسها، والتأليف فيها. وعني أمراء الإسلام بالطب، ولهذه العناية أربعة مظاهر: أولها: تقريب الأطباء على اختلاف مللهم، وإسعادهم بالأرزاق الواسعة، والمناصب العالية؛ فقد نال عبد الملك بن أبحر الكناني لدى عمر بن عبد العزيز حظوة، وكان عمر يستطبه، ويعتمد عليه في صناعة الطب، ونال ابن أثال حظوة عند معاوية بن أبي سفيان، فكان معاوية يستطبه، ويحسن إليه، ويكثر من محادثته.

ومن عناية سيف الدولة بالأطباء: أنه كان يحضر على مائدته أربعة وعشرون طبيباً. وقد يبلغ الطبيب أن يكون رفيع الشأن في دولة، فإذا تغيرت، وقامت دولة أخرى مكانها، استمرت منزلته في رفعة واحترام؛ كأبي بكر بن زهير: كان ذا حظوة في دولة المرابطين بالمغرب، ولما خلفتها دولة الموحدين، لقي من هذه الدولة أيضاً الإقبال والإكرام. أما إحرازهم المناصب العالية، فقد تولى الطبيب رفيع الدين الحبلي منصب قاضي القضاة بدمشق، وتولى ابن المرخم يحيى بن سعد منصب قاضي القضاة في أيام المقتفي ببغداد، وكان طبيباً في المارستان المحمول، وفَصَّاداً فيه. وتولى الوزارة في عهد يعقوب المنصور سلطان المغرب أبو بكر بن نصر، وهو كما قالوا بمكان من اللغة مكين، ومورد من الطب عذب معين، كما تولى الطبيب يحيى بن إسحاق الوزارة لعبد الرحمن الناصر، وحظي عنده بمنزلة رفيعة، ويدلكم على أن لصناعة الطب شرفاً يثاسب الوزارة: أن هذا الطبيب الوزير قد يلجأ إليه المبتلون بأمراض عسرة وهو وزير، فيتولى علاجها بنفسه. ثانيها: نقل كتب الطب إلى العربية، وجرى هذا في عهود طائفة من الخلفاء والأمراء؛ مثل: خالد بن يزيد بن معاوية، والمأمون، ومحمد بن عبد الملك الزيات، ومحمد بن موسى بن عبد الملك. ودخل معظم كتب جالينوس الطبية في العربية بنقل حنين بن إسحاق، أو تصحيحه لها بعد نقلها، وظهر بعد نقل هذه الكتب إلى العربية مؤلفات عربية اللهجة؛ ككتاب "القانون" لابن سينا، وغيره من المؤلفات الوارد معظمها

في كتاب: "كشف الظنون"، والكتب التي تصدت لتراجم الأطباء؛ ككتاب: "عيون الأنباء في تراجم الأطباء". ثالثها: صيانة الطب عن أن يتعاطاه غير أهله. اتصل بالمقتدر أن غلطاً جرى من بعض المتطببين على رجل من العامة، فصدر أمر بمنع سائر المتطببين من التصرف إلا من امتحنه سنان بن ثابت، فامتحنهم سنان، وأطلق لكل واحد منهم ما يصلح أن يتصرف فيه. وفوض الحليفة المستضيء بأمر الله رياسة الطب ببغداد لأمين الدولة ابن التلميذ، فاجتمع إليه سائر الأطباء ليرى ما عندهم، وشرع في امتحانهم واحداً بعد آخر. رابعها: بناء المستشفيات. بنى الخلفاء والأمراء وغيرهم من المطبوعين على فعل الخيرات مستشفيات كثيرة كانت بالغة الغاية في استيفاء وسائل العلاج، وتوفير راحة المرضى حسبما يقتضيه رقي العلم في عصورهم، وقد تكفل كتاب "تاريخ البيمارستانات في الإسلام" للدكتور أحمد عيسى بوصف واسع تناولها من كل ناحية؛ مثل: البيمارستان العتيق الذي أنشأه أحمد بن طولون بالقاهرة، والبيمارستان العضدي الذي أنشأه عضد الدولة بن بويه في بغداد، وبيمارستان مراكش الذي أنشاه يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن في مدينة مراكش. واتخد أمراء الإسلام المستشفيات المتنقلة. قال ابن خلكان: إن أبا الحكم المقري عبد الله بن المظفر نزيل دمشق كان طبيب البيمارستان الذي كان يحمله أربعون جملاً، والمستصحب في معسكر السلطان محمود السلجوقي حيث خَيَّم.

شدة عنايتهم بمداواة المرضى، وتوفير وسائل الراحة لهم

وأول مستشفى أحدثه الوليد بن عبد الملك بن مروان في دمشق للمجذومين سنة 88 هـ وأجرى لهم فيها أرزاقهم. * شدة عنايتهم بمداواة المرضى، وتوفير وسائل الراحة لهم: كان الأمراء يبنون المستشفيات، ويعينون لها أطباء، ويعدون فيها من الأدوية ما يحتاج إليه. كتب الوزير علي بن عيسى بن الجرَّاح في أيام خلافة المقتدر إلى سنان بن ثابت، وكان سنان هو القائم على أمر البيمارستانات: "فكرت في أمر الحبوس، وأنهم لا يخلون مع كثيرة عددهم، وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض، فينبغي أن تفره لهم أطباء يدخلون إليهم في كل يوم، ويحملون معهم الأدوية والأشربة، وما يحتاجون إليه من المزوَّرات (¬1)، وتتقدم إليهم بأن يدخلوا سائر الحبوس، ويعالجوا من فيها من المرضى، ويريحوا عللهم فيما يصفون لهم إن شاء الله تعالى". وكتب إليه كتاباً آخر يقول فيه: "فكرت فيمن بالسواد من أهله، وأنه لا يخلو من أن يكون فيه مرضي لا يشرف متطبب عليهم؛ لخلو السواد من الأطباء، فتقدم بما يفاد متطببين، وخزانة من الأدوية والأشربة، يطوفون السواد، ويقيمون في كل صُقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم، ويعالجون من فيه، ثم ينتقلون إلى غيره". وقد يتجاوز بعضهم في العناية بأحوال المرضى إلى حد الرفاهية، وأوضح مثال لهذا: معاملة المرضى بالمستشفى الذي أنشأه أبو يوسف المنصور ¬

_ (¬1) خضر بدون لحم ولا دسم.

يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي في مدينة مراكش. قال عبد الواحد المراكشي: ذلك أنه بعد أن بنى المستشفى في ساحة فسيحة، وظهر في نقوشة البديعة وزخارفه المحكمة، وحفَّه بالأشجار ذات الثمار والأزهار، وأجرى فيه مياهاً كثيرة تدور على جميع البيوت، وأمر له من الفرش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم وغيره مما يزيد عن الوصف. ثم قال: "وأعد فيه للمرضى ثياب ليل ونهار للنوم من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نقه المريض، أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل". وقال: وكان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخل يعود المرضى، ويسأل عن أهل بيت أهل بيت، ويقول: كيف حالكم؟ وكيف القومة عليكم؟. عني رجال الإسلام بالطب حتى أصبح من العلوم التي تدرس في المعاهد أو المساجد على طريقة البحث وتحقيق النظر. يحدثنا التاريخ: أن الملك الأشرف جعل لمهذب الدين عبد الرحيم ابن علي مجلساً لتدريس صناعة الطب، ووقف مهذب الدين هذا داره بدمشق، وجعلها مدرسة يدرس فيها صناعة الطب من بعده. وكان لموفق الدين عبد العزيز بن عبد الجبار مجلس عام للمشتغلين عليه بعلم الطب. وأقرأ علم الطب رضي الدين يوسف بن حيدرة الرحي، وكان لا يقرئ هذا العلم إلا لمن يجده أهلاً له، قالوا: وكان يعطي صناعة الطب حقها من الرياسة والتعظيم. وكان شمس الدين محمد بن عبد الله مدرساً للأطباء بجامع طولون.

وكان موفق الدين البغدادي يدرس الطب فيما يدرسه من العلوم بالأزهر الشريف. وكان من إقبال أمراء الإسلام وعلمائه على علم الطب: أن أكثر أساتذته في العهود التي ازدهرت فيها العلوم على اختلاف موضوعاتها، وأسوق شاهداً على هذا: أن سنان بن ثابت لما كلفه المقتدر بامتحان الأطباء، بلغ عدد الذين أجرى عليهم الامتحان في جانبي بغداد ثمان مئة شخص ونيفاً وستين، سوى من استغنى عن امتحانه بشهرته بالتقدم في هذه الصناعة. والذي نرمي إليه في هذا الحديث: أن دين الإسلام ونبي الإسلام رفعا علم الطب وصناعته مكانة عالية؛ إذ كان الطب مظهراً من مظاهر الرأفة بالإنسانية، ووسيلة من أهم وسائل راحة النفوس، وتخليصها من آلام تكدر عليها صفو حياتها، ومعونة لذوي الهمم الكبيرة على أن يتمتعوا بعافية تسعدهم في القيام بأعمال جليلة، فالأخذ بما ينصح به الأطباء الأمناء من إتيان أشياء أو اجتنابها، إنما هو عمل على حفظ الصحة التي تظهر بها الأفراد والأمم في قوة وعزم يسهل عندهما كل صعب، ويتضاءل أمامهما كل خطب، وإنما خلق الإنسان ليسير في طريق الفلاح، ويذلل ما يلاقيه من العقبات بإيمان صادق، وعزيمة ماضية.

حقوق الزوجية في الإسلام

حقوق الزوجية في الإسلام (¬1) شرع الزواج لأغراض سامية نبيلة، ففي الزواج ابتغاء النسل الصالح، وفي النسل الصالح عزة وفخار للوالدين والأسرة والأمة، وفي الزواج الاستعانة على التحلي بأبهى خصلة من خصال المجد هي العفاف، وبالعفاف يسود الأمن، وتسلم علاقات التعاون والوفاق من الانقلاب إلى تناكر وشقاق، وفي الزواج التعاون على مرافق الحياة: الزوجة تدبر المنزل، وترعى الولد، والزوج يمد المنزل بما يسد حاجاته، ويقيم حوله سياجاً من المهابة والصيانة، وفي الزواج كسب صداقة أسرة؛ إذ ينعقد بينك وبين آل الزوجة رابطة المصاهرة، وقد تبلغ هذه الرابطة في قوتها وصفائها مبلغ قرابة ذوي الأرحام. وهذه الأغراض الشريفة لا تنتظم على وجهها الصحيح، ولا تأتي بثمراتها الطيبة إلا أن تسير المعاشرة بين الزوجين في طريق الألفة وصفاء الود، ونحن عندما نتأمل في الأنظمة والآداب التي رسمها الإسلام لرابطة الزوجية، نجدها قائمة على رعاية هذه الغاية -أعني: حسن المعاشرة- أشد الرعاية. كان للعرب في الجاهلية أنواع من النكاح مختلفة، فأبطل الإسلام ما كان ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول والثاني من المجلد السادس عشر.

منها شبيهاً بالسفاح، وأقر النوع الذي فيه صيانة العرض، وحفظ النسل، والذي يمكن أن تنتظم به المعاشرة محفوفة بمحبة وصفاء، وهو الزواج الجاري بين الناس منذ مطلع فجر الإسلام. حث الدين الحنيف على الزواج، وجعله من سنة الذين اصطفى من عباده، وأنكر على من تحدثه نفسه بإيثار حياة العزوبية على حياة الزوجية، ومن شواهد هذا: قوله - عليه الصلاة والسلام - لقوم ائتمروا على أن يتركوا الزواج؛ لينقطعوا إلى العبادة: "لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني". وأرشد إلى اختيار الزوجة، ونبه على أن ذات الدين أحق بالاختيار، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات ترتب يداك". وفضَّل الدين على المال والحسب والجمال من جهة أنه يضمن الأخلاق المهذبة، والآداب الراقية، ويجمع لصاحبته الصيانة من أطرافها، والمراد من الحديث: أن الناشئة في حلية الدين -وإن لم تكن بارعة الجمال- تفضل غيرها ممن لم تتحلَّ بالدين -وأن كانت موسرة، أو حسيبة، أو فائقة الجمال-. ينهى الدين؛ حفظاً للقلوب من مواقع الفتن أن يرسل الإنسان نظره في محاسن امرأة أجنبية، ولكنه؛ رغبة منه في دوام العشرة بين الزوجين أذن للرجل في أن ينظر إلى وجه المرأة التي يريد التزوج بها قبل العقد عليها، فقال - عليه الصلاة والسلام - للمغيرة حين خطب امرأة من الأنصار: "انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"؛ أي: تكون بينكما المودة والوفاق.

وجعل الشارع للمرأة ووليها الحق في رعاية كفاءة الزوج؛ فإن اقتران المرأة بمن لا يكاقئها في عفاف ونسب ومال، وسلامة من العيوب البدنية، يجر إليها وإلى وليها حطَّة، ويقف عثرة في سبيل المعاشرة المستحبة بين الزوجين. قيل لأعرابي: فلان يخطب فلانة، فقال: أموسر من عقل ودين؟ قالوا: نعم، قال: فزوجوه. وقال رجل للحسن: إن لي بنية، وإنها تخطب، فبمن أزوجها؟ قال: زوجها ممن يتقي الله، فإن أحبها، كرمها، وإن أبغضها، لم يظلمها. ولقدرة الرجال على اكتساب المال من طرق لا يقدر عليها النساء، أو لا ينبغي لهن مباشرتها، فرض الشارع على الرجل نفقة الزوجية، ويرجع تقديرها إلى ما يتراضيان عليه، فإن لم يتراضيا على مقدار النفقة، أو كيفيتها، قررها أولو الأمر بما يقتضيه حال المرأة، وحال الزوج في يسر وعسر. جاءت هند بنت عتبة زوجةُ أبي سفيان، فقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف بها. وقد راعى الشارع في كثير من حقوق الزوجين العرف الحسن الذي يجري بين الناس، فاوجب على الرجل إسكانَ الزوجة في منزل يليق بها، وأن يأتي لها بخادمة في المنزل إن كانت ممن تُخدم، وأن يأتي لولدها بمرضع إن جرى عرف أمثالها بعدم إرضاع أولادهن. على الرجل حق الإنفاق بالمعروف، وعلى الزوجة تدبير شؤون المنزل، وأن تراعي حال زوجها المالية، فلا تكلفه فوق ما يطيق، وأن ترعى الولد

بالتربية البدنية والروحية. قال - عليه الصلاة. والسلام -: "والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة"، وقال - صلوات الله عليه -: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده". ومما يستدعيه حسن المعاشرة: أن يفسح الرجل صدره للزوجة، تراجعه فيما يقوله، أو يريد أن يفعله. قال عمر بن الخطاب: صخبتُ على امرأتي، فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، قالت: فلم تنكر علي أن أراجعك؟! فو الله! إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه. وقد نبه الشارع الحكيم لمداراة المرأة، إذا أخلت بشيء من واجبات الزوجية في دائرة الصون والحصانة، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلع أعوج، وان أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تُقيمه، كسرته، وإن تركته، لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً". فالحديث الشريف يعلِّم الرجل كيف يسلك في سياسة الزوجة طريق الرِّفق والأناة، فلا يشتد ويبالغ في ردها عن بعض آرائها التي بها عوج؛ فإن ذلك قد يفضي إلى الفراق؛ كما أنه لا يتركها وشأنها؛ فإن الإغضاء عن العوج مدعاة لاستمراره، أو تزايده، والعوج المستمر أو المتزايد قد يكون شؤماً على المعاشرة، فتصير إلى عاقبة مكروهة. وقد حمي الإسلام مال الزوجة، فلم يجعل ليد الزوج عليه من سبيل، فأبقى لها حرية التصرف فيه على ما ترى، فهي التي تتصرف في مالها كما

تشاء، وليس للزوج حق في أن يتناول منه -ولو درهماً- إلا عن طيب نفسها، وليس له حق في منعها من أن تتصرف في مالها على وجه المعاوضة؛ كالبيع والقرض والإجارة ونحوها، بإجماع العلماء، وليس له حق في منعها من أن تنفق منه، أو تنفقه على وجه التبرع؛ كالصدقة والهبة عند جمهور أهل العلم، وإنما ذهب المالكية إلى أن الزوج، وإن لم يكن له حق في أن يتناول ولو درهماً من مال زوجته، ولم يكن له حق في منعها من عقود المعاوضات، فله حق في أن يمنعها من التبرع بأكثر من ثلث مالها، وأدلة هذا المذهب معروفة في كتب الفقه. وقضت حكمة الشارع أن تكون العصمة بيد الزوج، ولكنه كرَّه الطلاق، ووضع أمامه أحكاماً ومواعظ شأنها أن تكف الأزواج عن الاستعجال به، وتجعل حوادثه قليلة جداً. أمر الزوج بأن يعاشر الزوجة بالمعروف، ودعاه إلى التأني حيث يجد في نفسه كراهة لها، فلا يبادر إلى كلمة الطلاق، فقد تكون الكراهة من الأحوال التي تعرض في بعض الأوقات، ثم تزول، وقد بالغ الشارع في التحذير من المبادرة إلى الطلاق، فجعل احتمال أن يكون في الزوجة خير كثير، كافياً في الاحتفاظ بعصمتها، والاستمرار على حسن معاشرتها، فقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]. وقد يقع بين الزوجين جفاء ينشأ من اعتقاد أحدهما أن الآخر اهتضم حقاً من حقوقه، ومن حكمة الشارع أن كره رفع أمثال هذا الخلاف إلى

المحاكم، وإذاعتها بين من لا خير في اطلاعهم عليها، وأمر بوضع أمثال هذه القضايا بين أيدي رجلين من أسرتيهما؛ ليسلك بها سبيل الإصلاح ما أمكن الإصلاح، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35]. والحق أقول: إن الذي ينظر في التشريع الإسلامي بعين الباحث حر الفكر، يراه قد أقام الزوجية على أساس من العدل، وكساها آداباً تجعلها صلة روحية تساوي أقرب الصلات النسبية وأمتنها؛ كالبنوة والأخوة، وقد تلقينا عن التاريخ، ورأينا بأعيننا أزواجاً وزوجات عرفوا حقوق الزوجية، واحتفظوا بآدابها التي نصح بها الإسلام، فعاشوا في ارتياح وهناءة موصولين بتعاطف واحترام، وربما ظهر هذا فيما يصدر من الزوجين من عبارات الأسف والتحسر عند الوداع؛ كما قال ابن دَرَّاج عند وداع زوجته: ولما تدانت للوداع وقد هفا ... بصبري منها أَنَّةٌ وزفيرُ تُناشدني عهدَ المودةِ والهوى ... وفي المهدِ مبغومُ النداء صغيرُ حتى قال: وطار جناحُ البين بي وهفت به ... جوانح من ذعر الفراق تطير وقد تظهر هذه العواطف الرقيقة في وصية عند حضور الموت؛ كما قال يحيى الهندي الأندلسي يوصي بأن يدفن حذاء زوجته التي توفيت قبله، وحزن عليها حزناً بالغاً: إذا متُّ فادفني حذاء خليلتي ... يخالط عظمي في التراب عظامها

ورتّب ضريحي كيفما شاءه الهوى ... تكون أمامي أو أكون أمامها لعل إله العرش يجبر صرعتي ... فيعلي مقامي عنده ومقامها وقد تظهر العواطف في تشوق في حال غيبة؛ كما قال المحدث ابن حجر متشوقاً إلى زوجته ليلى الحلبية: رحلت وخلَّفت الحبيب بداره ... برغمي ولم أجنح إلى غيره مَيْلا أُشاغل نفسي بالحديث تعلّلاً ... نهاري وفي ليلي أحنّ إلى ليلى وقد تظهر في رثاء بعد الموت؛ كما قالت الذلفاء ترثي زوجها نجدة ابن الأسود: سئمت حياتي حين فارقت قبره ... ورحت وماء العين ينهل هاملُهْ وقالت نساء الحي قد مات قبله ... شريفٌ فلم تهلك عليه حلائلُهْ صدقْنَ، لقد مات الرجال ولم يمت ... كنجدةَ من إخوانه من يعادلُهْ وقد تظهر العواطف في عبارات من المؤانسة يعرب فيها أحد الزوجين عن إعجابه بالآخر؛ كما قال القاضي شريح بن الحارث في زوجة له تسمى: زينب: فزينب شمس والنساء كواكب ... إذا طلعت لم تُبق منهن كوكبا وكما قال العرجي في زوجته، وكان جدُّها من الأب عثمان بن عفان، ومن الأم الزبير بن العوام: إن عثمان والزبير أحلّا ... دارها باليفاع إذ ولداها إنها بنت كل أبيضَ قرمٍ ... نال في المجد من قُصَيٍّ ذُراها

ولما تزوج الرشيد زوجته العثمانية، أعجب بها، وكان كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين. ويتلخص لنا من هذا البحث: أن طيب الحياة ومتعتها يتحققان في زوجية سعيدة، وسعادة الزوجية أن يكون كل من الزوجين على خلق سمح، وأدب بهيج، ويجمع إلى ذلك: صفاء الود، والنصح لصاحبه، حاضراً كان أو غائباً. والزوج والزوجة يمثلان في تقارنهما شطري البيت من الشعر، والبيت من الشعر لا يحسن وقعه في النفوس، وتتهاداه الألسن والأسماع إلا أن يكون شطراه منسجمين، يسعد أحدهما الآخر في تأدية المعنى الذي صيغا من أجله، وكذلك الزوجان، لا تزدهي حياتهما إلا إذا انسجما، وقام كل منهما بنصيبه من حقوق الزوجية، وظلا يعيشان في منزل ظِهارته المهابة، وبِطانته الصيانة.

القضاء العادل

القضاء العادل (¬1) تجري كلمة العدل على الألسنة، وهي تنطوي على أشياء لا يتحقق معنى العدل إلا بمراعاتها. لا يمكن للقاضي أن يعدل في القضية إلا إذا استمع إلى المتداعين بقلب حاضر، وكان من البينات التي يستند إليها في الحكم على بصيرة، وإلى هذا أشار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في رسالة القضاء بقوله: "فافهم إذا أُدلي إليك". ومن العدل بين الخصمين: أن يسوي بينهما في مجلسه حيث يجلسان أمامه على سواء، ولا يخص أحدهم بإقباله، وإلى هذا أشار عمر بن الخطاب بقوله: "وآسِ بين الناس في مجلسك ووجهك". ولا يأخذ العدل مكانه إلا أن يتخلص القاضي من عوامل شأنها أن تصرفه عن تحقيق معنى العدل، وتسلبه ما يسمونه: الاستقلال في القضاء. أولها: أن لا ينظر عند الفصل في القضية إلى اتجاه الرئيس الأعلى، ولا يبالي أيرضى عن حكمه أم لا يرضى؟. ثانيها: أن لا يجعل للعاطفة عند الحكم أثراً، فلا ينظر عند الحكم ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر والثاني عشر من المجلد التاسع عشر.

إلى قرابة أحد الخصمين له، أو لصداقته، فيقضي له، أو ينظر إلى عداوته، فيحكم عليه. ثالثها: أن لا يقيم لاتجاه الجمهور وزناً، فيحرص على أن يصدر حكمه بما يرضي الجمهور؛ لينال ثناءهم؛ كمن يتعمد الحكم للضعيف على القوي، أو للفقير على الغني، حكماً بغير حق؛ ليصفه من لا يعرف حقيقة القضية بأنه حاكم عادل. رابعها: أن يكون طاهر اليد، نقي القلب، فلا يستهويه الحرص على متاع الحياة إلى أن يحكم لمن أدلى إليه برشوة. وقد يدخل الخلل في الحكم، فلا يصاغ في قالب العدل، إذا تعاطى القاضي الحكم في حال اضطراب فكر، وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا بقوله: "لا يقضي القاضي وهو غضبان". ويلحق بالغضب: كل ما يحدث في الفكر قلقاً؛ كمرض، أو موت عزيز. ومن متممات العدل في الحكم: أن ينفذ الحكم بحزم، قال عمر بن الخطاب في رسالة القضاء: "وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له". والقاضي العادل هو الذي يعترف بخطئه متى قضى بغير حق، ويعمل لإصلاح ما أخطأ فيه، قال عمر - رضي الله عنه - في رسالة القضاء: "لا يمنعك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".

مكانة القضاء

مكانة القضاء (¬1) القضاء من الوظائف الشرعية الداخلة في مهمات الخلافة، ويكفيه شرفاً أن الرسل والأنبياء - عليهم السلام - كانوا يتولونه بأنفسهم، ونبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لفضله، وسمو مكانته بقوله: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلِّمها". والمراد من الحسد: الغبطة، وهي محمودة في كل خصلة من خصال الخير؛ للتنبيه على بلوغ مكانة القضاء، والإنفاقُ في الخير أقصى غاية من السمو في نظر الشارع الحكيم، ومن أساليب البلاغة: استعمال أداة الحصر للدلالة على أهمية الشيء، وإحرازه المرتبة العليا في المعنى الذي قد يشاركه فيه غيره، فيرجع معنى الحديث إلى معنى: أنه لا غبطة كاملة إلا الغبطة في هاتين الخصلتين. ومن سمو مكانة القضاء: أن القاضي يستدعي أكبر شخص في الأمة -كالخليفة- إلى مجلس حكمه، ويقضي عليه متى كان الحق في جانب خصمه، وكذلك كان يفعل قضاة العدل في الإسلام؛ كأبي يوسف: حكم ليهودي في قضية رفعها على الخليفة هارون الرشيد، وكابن بشير قاضي قرطبة: حكم لتاجر خامل على الخليفة عبد الرحمن الناصر، وقال له: إن لم تنفذ ما حكمت ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث والرابع من المجلد العشرين.

به، فإني أستقيل من القضاء. وإذا كانت الأعمال تتفاوت في الفضل على قدر تفاضل غاياتها، فإن للقضاء غاية تعد من أجل الغايات، هي: نصر المظلوم، وكف يد الظالم، وقطع المنازعات، والإصلاح بين الناس، وأداء الحق لمستحقه، ومن ذلك يستتب الأمن في البلاد، وإذا استتب الأمن، فهنالك طمأنينة النفوس، وسعادة الحياة.

صفات القاضي في الإسلام

صفات القاضي في الإسلام (¬1) لكل حكومة تشريع وقضاء وتنفيذ، فبالتشريع يكون لها قوانين تميّز الباطل من الحق، والفاسد من الصالح، وبالقضاء تفصل بين المتنازعين إذا اشتبه على أحدهما الحق، أو غلبته أهواؤه على أن ينتهك حرم الحق، وبالتنفيذ تتم الفائدة من وضع القوانين، والفصل بين المتنازعين. ومصدر التشريع في الحكومات الإسلامية هو الخالق -جلَّ شأنه-؛ فإن السلطة القضائية إنما تستمد أحكامها من الكتاب والسنّة، ومن الأصول التي يرجع إليها المجتهد في تقرير أحكام الوقائع إن لم يجدها في نص آية أو حديث. والقضاء هو: الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام. وللقاضي صفات هي شروط في صحة ولايته، وهي: الإسلام، والعقل، والذكورة، والعلم، والعدالة. والمراد من العقل: النباهة، وقوة التفكير. وشرط الذكورة لا يختلف فيه أهل العلم في القديم أو الحديث، ومن شواهده: ما جاء في الصحيح من قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لن يفلح ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع والعاشر من المجلد التاسع عشر.

قومٌ وَلَّوا أمرهم امرأة". ونسبوا إلى ابن جرير الطبري: أنه يجيز أن تكون المرأة قاضية، ونسبوا إلى الإمام أبي حنيفة: أنه يجيز قضاءها فيما تشهد فيه. أما ما نسب إلى ابن جرير، فلم يصح نقله عنه، وهو -مع عدم ثبوت نقله عنه- مخالف للإجماع. وأما ما نسب إلى الإمام أبي حنيفة، فمحمول على أنه يصح أن تقضي في واقعة على وجه التحكيم، لا على أنها تقلَّد منصب القضاء. قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام": "ونقل عن محمد ابن جرير الطبري إمام الدين: أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله كما نقل عن أبي حنيفة: أنها تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم، إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم، أو الاستنابة في القضية الواحدة؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة"، وهذا هو الظن بأبي حنيفة، وابن جرير. وقد روي أن عمر بن الخطاب قدم امرأة على حسبة السوق، ولم يصح، فلا تلتفتوا إليه، فإنما هو من دسائس المبتدعة". وأما العلم: فشرطُ القاضي في أصل الشريعة: أن يكون بالغاً رتبة الاجتهاد، ولما قلَّ في علماء الشريعة من يدرك هذه المرتبة لأسباب نتعرض لها في غير هذا المقام، جازت ولاية المتابع لمذهب إمام من أئمة الاجتهاد؛ كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وهذا الجواز من قبيل أحكام الضرورات؛ حتى لا تتعطل الأحكام، ومن المتابعين لأحد المذاهب

من له قدرة على النظر في أدلة الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، فلا يعدل عنه إلا من قصر باعه عن تمييز الأدلة الصحيحة من الأدلة الواهية. وأما العدالة: فعدَّها طائفة من أهل العلم في شرط صحة القضاء، وقالوا: من لا تجوز شهادته لا تصح ولايته، ومقتضى بطلان ولاية غير العدل: عدمُ نفاذ حكمه. والحق -فيما يظهر-: أن القاضي العدل تحمل أحكامه على أنها موافقة لوجه الحق، وتنفذ، إلا إذا تبين أنها مخالفة له، وغير العدل تقر أحكامه إذا تبين أنها صواب. ونظر بعضهم إلى صفة العدالة من ناحية السياسة الشرعية، وقالوا: إن لم يوجد في البلد عدول، أقيم للقضاء عليهم أقلهم فسقاً، ترجيحاً لمصلحة فصل الخصومات، وقطع المنازعات، على مفسدة إبقاء الناس في هرج وفتن تنتهك بها الدماء والأعراض والأموال.

شريك قاضي الكوفة وموسى بن عيسى أميرها

شريك قاضي الكوفة وموسى بن عيسى أميرها (¬1) امرأة في مجلس القضاء: أنا بالله؛ ثم بالقاضي!. شريك: من ظلمك؟ المرأة: الأمير موسى بن عيسى بزعم أمير المؤمنين. شريك: ماذا صنع؟ المرأة: كان لي بستان على نهر الفرات فيه نخل ورثته عن أبي، وقاسمت إخوتي، وبنيت بيني وبينهم حائطاً، فاشترى الأمير موسى بن عيسى من جميع إخوتي، وساومني، ورغَّبني، فلم أبعه، فلما كان هذه الليلة، بعث بعمَلَة، فاقتلعوا الحائط، فأصبحت لا أعرف من نخلي شيئاً، واختلط بنخل إخوتي. شريك: امض بهذه الطينة المختومة إلى بابه حتى يحضر معك. "المرأة تسلم الطينة إلى حاجب الأمير" الحاجب: أيها الأمير! قد أعدى القاضي عليك، وهذا ختمه. الأمير: ادع لي صاحب الشرطة. "صاحب الشرطة بين يدي الأمير" الأمير: امض إلى شريك، وقل: سبحان الله! ما رأيت أعجب من أمرك! ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع والثامن من المجلد التاسع عشر.

امرأة ادعت دعوى لم تصح أعديتها عليّ؟. صاحب الشرطة: إن رأى الأمير يعفيني من ذلك. الأمير: امض ويلك!. "صاحب الشرطة يبلغ القاضي رسالة الأمير" شريك: يا غلام! خذ بيده، فضعه في الحبس. صاحب الشرطة: والله! قد علمت أنك تحبسني، فقدمت ما أحتاج إليه إلى الحبس. "الأمير ينكر على شريك حبس صاحب الشرطة، ويرسل إليه حاجبه" الحاجب: يقول لك الأمير: رسول أدى رسالة، أي شيء عليه؟. شريك: اذهبوا بالحاجب إلى رفيقه بالحبس. "الأمير يبعث جماعة من أصدقاء القاضي، ويقول: أبلغوه السلام، وأعلموه أنه استخف بي، وأني لست كالعامة" "أصدقاء القاضي يبلغونه، وهو في مجلس الحكم رسالة الأمير" شريك: مالي أراكم جئتموني في غوغاء من الناس فكلمتموني! من هنا من فتيان الحي؟ ليأخذ كل واحد منكم بيد رجل، فيذهب به إلى الحبس، ما أنتم إلا فتنة، وجزاؤكم الحبس!. أصدقاء القاضي: أجادّ أنت!. شريك: حقاً حتى لا تعودوا لرسالة ظالم. "الأمير يركب ليلاً إلى باب السجن، ويفتحه، ويخرج منه صاحب الشرطة والحاجب وأصدقاء القاضي"

شريك: يا غلام! الحق بثقلي إلى بغداد، والله! ما طلبنا هذا الأمر منهم، ولكن أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا الإعزاز إذا تقلدناه لهم. "يخرج شريك من الكوفة قاصداً بغداد" "يبلغ خبره الأمير، فيركب في موكبه، ويدرك شريكاً في قنطرة الكوفة" الأمير: يا أبا عبد الله! انظر إخوانك تحبسهم، دع أعواني. شريك: نعم؛ لأنهم مشوا لك في أمر لم يجز لهم المشي فيه، ولست ببارح مكاني حتى يعادوا جميعاً إلى السجن، وإلا مضيت إلى أمير المؤمنين المهدي، فاستعفيته مما قلدني. "الأمير يأمر بإعادة من حبسهم شريك إلى الحبس" شريك يقول لأعوانه: خذوا بلجام دابة موسى بن عيسى إلى مجلس الحكم. "فيمضي الأمير بين يديه إلى مجلس الحكم، وتحضر المرأة المتظلمة" شريك: هذا خصمك قد حضر. موسى وهو مع المرأة بين يدي القاضي: قبل كل أمر أنا قد حضرت، أولئك يخرجون من الحبس. شريك: أما الآن، فنعم! أخرجوهم من الحبس. شريك يخاطب الأمير: ما تقول فيما تدعيه هذه المرأة؟. الأمير: صدقَتْ. شريك: تردُّ ما أخذتَ منها، وتبني حائطها سريعاً كما كان. الأمير: أفعل ذلك.

شريك يخاطب المرأة: أبقيتْ لكِ عليه دعوى؟ المرأة: لا، وبارك الله عليك، وجزاك خيراً!. شريك: قومي. شريك بعد أن فرغ من مجلس الحكم أخذ بيد موسى بن عيسى، وأجلسه في مجلسه، وقال: السلام عليك أيها الأمير! ذاك الفعل حق الشرع، وهذا القول الآن حق الأدب. الأمير يقوم وينصرف من المجلس وهو يقول: من عظّم أمر الله، أذلّ الله له عظماء خلقه.

أكل الجيش أسلفه؟

أكلَّ الجيش أسلفه؟ (¬1) قفل عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في جيش كان بالعراق، ومرّا على أبي موسى الأشعري، وهو أمير البصرة، فرحب بهما. أبو موسى: هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكماه، فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق، ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون الربح لكما. عبد الله وعبيد الله: وددنا ذلك. أبو موسى: سلّم إليهما المال. وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال. عبد الله وعبيد الله قدما المدينة، وباعا ما جلباه من متاع العراق، فأربحا، ودفع المال الذي سلّمه إليهما أبو موسى الأشعري إلى عمر. عمر: أكلَّ الجيش أسلفه مثلَ ما أسلفكما؟. عبد الله وعبيد الله: لا. عمر: ابنا أمير المؤمنين، فأسلفكما! أديا المال وربحه. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول والثاني من المجلد العشرين.

عبد الله: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص المال، أو هلك، لضمنَّاه. عمر: أَديِّاه. رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين! لو جعلته قراضاً (¬1). عمر: قد جعلته قراضاً. فأخذ عمر رأس المال، ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال. ¬

_ (¬1) القراض: أن يعطي شخص مالاً لآخر؛ ليتجر به، ويكون لكل منهما جزء من الربح على الوجه الذي يتفقان عليه من النصف أو الثلث أو غير ذلك، ويسميه أهل العراق: المضاربة، وليس على العامل ضمان لو نقص المال أو هلك، وقول عبد الله: "لو نقص المال أو هلك لضمناه" بناء على أنهما أخذاه على وجه القرض، لا القراض.

السياسة الرشيدة في الإسلام

السّياسة الرشيدة في الإسلام (¬1) أتى على العالم حين من الدهر وهو يتخبط في جهل وشقاء، ويتنفس من نار البغي الطاغية على أنحائه الصعداء، حتى نهض صاحب الرسالة الأعظم - صلوات الله عليه - بعزم لا يحوم عليه كلال، وهمة لا تقع إلا على أشرف غرض؛ فأخذ يضع مكان الباطل حقاً، ويبذر في منابت الآراء السخيفة حكمة بالغة، وما لبثت الأمم أن تقلدت آداباً أصفى من كواكب الجوزاء، وتمتعت بسياسة يتجلى بها العدل في أحسن رُواء، وأرفع سناء. وضع الإسلام للسياسة نظاماً يقطع دابر الاستبداد، ولا يبقي للحيف في فصل القضايا أو الخلل في إدارة الشؤون منفذاً. أوصى الرعاة بأن لا ينفردوا عن الرعية بالرأي في آية: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]. وآية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. ثم التفت إلى الأمة، وعهد إليها بالرقابة عليهم، وإسدائهم النصيحة فيما تراه غير واقع على وجه الاستقامة، فقال تعالى: ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع من المجلد الخامس.

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] ولم يكن الأمراء الراشدون -احتراماً لهذا القانون الإلهي- يكرهون من الناس، أو يحجرون عليهم البحث في الشؤون العامة، ومجادلتهم فيها بلهجة ناصح أمين، وهذه صحف التاريخ حافلة بقصص الذين كانوا يقفون للخليفة عمر بن الخطاب -وهو يخطب على منبر المسجد الجامع-، فينكرون عليه عزل عامل اعتقدوا أمانته، أو يجادلونه في رأي عزم على أن يجعله قانوناً نافذاً، فلا يكون منه سوى أن يقول لمن نطق على بينة: "أصبت"، ويرد على من أخطأ في المناقشة رداً جميلاً. وإن شئت مثلاً من سيرة الأمراء الذين تقلبوا في فنون من أبهة الملك، ولبسوا من عظمته بروداً ضافية؛ فقد حضر القاضي منذر بن سعيد مجلس الخليفة الناصر بمدينة الزهراء، فتلا الرئيس عثمان بن إدريس أبياتاً تمضمض فيها بشيء من إطراء الخليفة حتى اهتز لها طرباً، وكان منذر بن سعيد ينكر على الناصر إفراطه في تشييد المباني وزخرفتها، فأطرق لحظة، ثم قال: يا باني الزهراء مستغرقاً ... أوقاته فيها أما تمهل لله ما أحسنها رونقاً ... لو لم تكن زهرتها تذبل فما زاد الناصر على أن قال: "إذا هبَّ عليها نسيم التذكار، وسقيت بماء الخشوع، لا تذبل إن شاء الله"، فقال منذر: "اللهم اشهد؛ فإني قد بثثت ما عندي". في مقدرة ذلك الخليفة أن يفصل منذر بن سعيد عن وظائفه، أو يبعث به إلى المنفى غير آسف عليه، ويجعل عذره في ذلك العقاب خُطَبه التي كان

يلقيها على منبر الجامع، ويتصدى فيها لنقد بعض أعمال الدولة، ولكنه أمير نفذت بصيرته إلى روح الشريعة الغراء، ودرس تاريخ الخلفاء قبله عن عبرة، فعرف أن لا غنى للدولة عن رجال يجمعون إلى العلم شجاعة، وإلى الشجاعة حكمة، حتى يمتطوا منصب الدعوة إلى الإصلاح بحق، ويكوّنوا الصلة التي يظهر بها أولو الأمر ويقية الشعب في مظهر أمة تولي وجهها شطر غاية واحدة، ثم لا يغيب عن مثل ذلك الخليفة العادل أن الدولة لا تحرز مجداً خالداً وسمعة فاخرة، إلا أن تعيش في ظلالها أقوام حرة، وفي مقدمتهم علماء يجدون المجال للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسيحاً. يصفون بعض الأمم بمحررة الشعوب، ويلقبون عاصمة بلادها بمطلع الحرية، إلا أن ناشر لواء الحرية بحق، ومعلم البشر كيف يتمتعون بالحقوق على سواء، مَنْ وضعَ لطاعة الرؤساء حداً فاصلاً، فقال: "إنما الطاعة في المعروف"، وجعل الناس في موقف القضاء أكفاء، فقال - صلوات الله عليه -: "أيها الناس! إنما ضلَّ من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها". كم ظهر في بلاد العرب من سيد بلغ في الرياسة أن أحزر لقب ملك؛ كآل جفنة، وآل غسان، وربما وجد من بينهم من لا يقل في قوته النفسية الفطرية عن الفاروق - رضي الله عنه -، فما بالهم لم يأخذوا في السياسة بنزعته، ويرموا إلى أغراضها عن قوس حكمته؟!. لا عجب أن يمتطي ابن خطاب تلك السياسة الفائقة، ويجول بها بين الأمم جولته التي رفعت الستار عن أبصارهم، حتى شهدوا الفرق بين سيطرة

الدول المستبدة وسيرة الخليفة الذي ينام في زاوية من المسجد متوسداً إحدى ذراعيه. إن هو إلا الإسلام، أقام له أساسها، وأنار سراجها، فبنى أعماله على أساس راسخ، واستمد آراءه من سراج باهر، فكانت صحف آثاره أبدع عند عشاق السياسة القيمة من مناظر الروضة الغناء. تدرب الخلفاء العادلون على مذاهب السياسة وفنون الحرب بما كانوا يتلقونه من حضرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - من الحكم السامية؛ كحديث: "الحرب خدعه" أو ما يشهدونه من التدابير المحكمة؛ كوسيلة التكتم في الأمر الجارية عند الدول لهذا العهد، وهي أن يبعث الرئيس الأعلى إلى الرئيس الأدنى، أو يناوله رسالة مختومة، ويأمره أن لا يفك ختامها إلا في محل أو وقت يسميه له، وقد جاء في "صحيح البخاري" وغيره: أن حضرة صاحب الرسالة - عليه الصلاة والسلام - ناول عبد الله بن جحش- وهو أمير نجد- كتاباً، وقال له: "لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا"، فلما بلغ عبد الله المكان، قرأ الكتاب، وأخبر الجند بما في ضمنه من الأمر. إن اختلاف الأمم في عاداتها وحاجاتها، يستدعي أن تكون سياستها وأنظمتها مختلفة، كما يقتضي أن يكون المدبرون لأحكام الأمة وتراتيبها المدنية ممن وقفوا على روحها، وأحاطوا خبرة بمزاجها، حتى لا يضعوا عليها من الأوامر والنواهي ما يجعل سيرها بطيئاً، أو يردها على عقبها خاسرة، وكذلك الإسلام يقيم السياسة على رعاية العادات، ويسير بها على ما يطابق المصالح، ولهذا فصّل بعض أحكام لا يختلف أمرها باختلاف المواطن؛ كآية: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179].

وحديث: "البينة على المدعي، واليمين على المدعي عليه"، ودل على كثير منها بأصول عامة يستنبطها الراسخ في العلم بمقاصد الشريعة، البصير بما يترتب على الوقائع من آثار المقاصد والمصالح. وإن شريعة تقوم على قواعد: "الضرر يزال. المشقة تجلب التيسير. العادة محكمة"، ويقول أحد العظماء من فقهائها: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من المعاملات والسياسات" لا يحق لأحد أن يرميها بمجافاة الإصلاح والبعد عما تقتضيه طبائع العمران، إلا أن يفوته العلم بحقائقها، أو يحمله الزيغ الجامد على مناوءتها.

الدين والفلسفة والمعجزات

الدّين والفلسفة والمعجزات (¬1) يبحث الإنسان عن حقائق الكائنات، ويتعرف أحوالها، ويتدبر وجوه اختلافها: في الصفات، والطبائع، والآثار، ينظر فيها متفرقة أو متجمعة، باتصال أو امتزاج. ويسمو بعد هذا إلى البحث عن مصدرها، والتفكير في مصيرها، وما ينتهي إليه نظره يرسم له حدوداً، أو يصيغه في صورة قانون. وذلك ما يسمّى: علماً، أو فلسفة. ولما لم تكن العقول متساوية في حدة النظر، ولا في رعاية قوانين البحث، اختلف ما ترسمه للأشياء من حدود، وما تقرره لها من أحكام. فمنها ما يقطع بصحته، ومنها ما لا يتعدى درجة الظن، ومنها ما هو ظاهر الفساد. وإذا لاحظت أن بعض العقول قد تخرج في البحث إلى ما لا سبيل لها أن تعرفه من طريق التجربة أو الاستدلال، ظهر لك ناحية من النواحي التي تخبط فيها العقول خبط عشواء، وإن بلغت في العبقرية الذروة، ودرست علم المنطق كتاباً بعد كتاب. أما الدين، فهو وضع إلهي يراد به: هداية الإنسان إلى السيرة المرضية ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد السادس.

في الدنيا، والفوز بالسعادة في الأخرى. فهو يهدي إلى معرفة مباع الكون، وما يجب أن يكون له من صفات، وما يدخل تحت سلطان قدرته من الأفعال، ويهدي إلى معرفة مصير الخليقة؛ من الفناء، ثم البعث، ثم الحساب، ثم إلى مستقر خالد في دار نعيم أو عذاب، ويهذب صلة العباد بالخالق، ويصلح الصلات بين الأفراد والجماعات، ويتوسل إلى هذه المقاصد بإقامة الحجة، وإلقاء الحكمة، وضرب الأمثال، وإيراد القصص العامرة بما فيه عبرة. يصل الدين إلى الناس على أيدي بشر أمثالهم، ولكن الله اصطفاهم، وزكى أنفسهم، وأنار بصائرهم، فكانوا مستعدين لتلقي الوحي منه. أولئك البشر المصطفون هم الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وقضت حكمته تعالى أن تكون رسالاتهم مؤيدة بالآيات البينات؛ لتتم بها الحجة، وتنجح معها الدعوة، وبهذه الآيات صارت أقوال الأنبياء - عليهم السلام - مقطوعاً بصحتها، وأفعالهم مشهوداً بحكمتها، فالدين الحق لا يتخلف عنه الصدق في قول، ولا تفارقه الحكمة في موطن. وإذا حدثناك عن الدين بعد هذا، فإنما نحدثك عن دين الإسلام، ومسايرته للعلم الصحيح؛ إذ في استطاعتنا أن نقيم على ذلك الحجة، وندفع من حوله كل شبهة. نجد فيمن يمشون في الفلسفة على غير سبيل طائفةً يعتقدون أن الكائنات مرتبطة في نفسها بأسباب معينة يترتب عليها أثرها حتماً، ولا يمكن انقطاع هذه الأسباب عن آثارها المعروفة بحال، وهذه العقيدة يحملها الطبيعي البحت، ولا تستقر في نفس تؤمن بأن جميع الكائنات تستند إلى

مبدع حكيم، فعَّال لما يريد. وإذا أخذت في مناظرة صاحب هذه الدعوى، لم يقل في الاستدلال عليها أكثر من أنه لم يشهد الأسباب منفردة عن مسبباتها، ولا المسببات قائمة بدون أسبابها، وبهذه الشبهة ينكر أن يكون إبراهيم - عليه السلام - ألقي في النار ولم تحرقه، وينكر أن عيسى - عليه السلام - ولد من غير أب، وينكر أن تكون عصا موسى - عليه السلام - قد انقلبت ثعباناً، إلى ما يماثل هذا من الآيات البينات. ومن الواضح أن دعواهم باطلة، وشبهتم داحضة، ولا سبيل لهم إلى إثبات أن تخلف المسببات عن أسبابها المعروفة عادة من قبيل المحال؛ فإن عدم مشاهدة انقطاع المسببات عما عرف من أسبابها لا يستلزم ارتباطهما في نفس الأمر ارتباطاً يحيل العقل انفكاكه. أليس من الممكن أن يجعل القادر الحكيم للأمر سبباً آخر، أو يحدث مانعاً يبطل به تأثير السبب المعروف؟ ومن هنا صح الاعتقاد بالمعجزات التي دلت النصوص المحكمات على وقوعها. فندعو شباننا الباحثين عن طرق السعادة وراحة الضمير أن يفرقوا بين ما لا يمكن وقوعه؛ مثل: وجود شخص بعينه في مكانين في زمن واحد، ومثل: كون جزء الشيء أكبر من ذلك الشيء، ومثل: رجحان أحد شيئين متساوين من غير مرجح، ويين ما يمكن وقوعه، ولا يستطيع العقل أن يخرجه من دائرة الإمكان، ولكنه يقع على وجه لم تشهده الأبصار من قبل. فالأول موضع الإنكار الحق، ومثلُه لا ترد به الشريعة السماوية في حال. والثاني موضع الغرابة، ووروده في الدين سائغ، بل محقق، وكثير من شؤون اليوم الآخر

داخل في هذا القبيل. وقد أظهر العلم الحديث من غرائب المخترعات ما لو وصف لقصير النظر من قبل؛ لأنكره متخيلاً أنه من قبيل المستحيل.

حقوق الجار

حقوق الجار (¬1) الحياة الطيبة أن يعيش الإنسان في أمن، فلا يصيبه من الناس أذى، وأن يجد ما يسد به حاجته؛ من نحو: مطعم وملبس ومسكن، وأن يكون على طهارة نفس، واستنارة فكر؛ إذ بهذه الطهارة والاستنارة يتهيأ إلى أن يجيب داعي الشريعة ومكارم الأخلاق بيسر وسماحة، فطيب حياة الإنسان في أمنه من المخاوف، وبلوغ مآربه الحيوية، وأن يكون على أدب وثقافة ينهضان به إلى تأدية الحقوق، والمسارعة في الخير. وإذا كانت سعادة الأمة في طيب حياة أفرادها، كان واجب كل فرد أن يوجه همته إلى أن يكون سائر الأفراد في حياة طيبة، فيساعد من يستطيع مساعدته من الأفراد على أن يكون في أمن، أو على كفاية من حاجاته الحيوية، أو على تربية وثقافة يقوى بهما على السير في طريق السلامة وراحة الضمير. ومن حكمة الشارع في الدعوة إلى الإصلاح: أن اتجه إلى الروابط التي تربط الإنسان بالإنسان؛ كرابطة الاتحاد في الإنسانية، ورابطة الاتحاد في الدين والحق، ورابطة القرابة الدموية، ورابطة الجوار، وأعطى كل رابطة حقها؛ من جهة كف الشر عنها، وسوق الخير إليها. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السادس من المجلد السادس عشر.

ولم يكتف الشارع في دعوته برعاية الروابط الكبرى؛ كرابطة الإنسانية، ورابطة الدين، فاتجه إلى الروابط الصغيرة؛ كرابطة النسب، ورابطة الجوار اتجاهاً خاصاً، ذلك أن هذه الروابط كحلقات في سلسلة كبيرة هي رابطة الأمة، وكمال السلسلة الكبيرة وقوتها في سلامة الحلقات ومتانتها. وموضوع حديثنا الليلة -أيها السادة- هو البحث عن حقوق رابطة من هذه الروابط؛ أعني: رابطة الجوار. يطالب الإنسان بأن يكف الأذى عن كل إنسان، ويقضي حاجة كل ذي حاجة ما استطاع، ويحسن كما رأى للإحسان موضعاً، وتتأكد المطالبة بهذه الحقوق إن كان ذو الحاجة أو المستحق للإحسان يعيش معك على قطعة صغيرة من الأرض، وقد اكتسب منك لقباً؛ إذ يضيفه الناس إليك، ويقولون: هذا جار فلان. فالمروعة تقضي على الإنسان بأن يوجه إلى ذوي الجوار عناية خاصة، ويجعلهم في مقدمة من يرعى حقوقهم، ويسعى لقضاء مآربهم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"؛ أي: ظننت أنه سيبلغني عن الله الأمر بتوريث الجار من الجار. وهذه كلمة جامعة بالغة؛ فإن الوصاية بالجار تشمل كف الشر عنه، وإسداء الخير إليه، وقوله: "حتى ظننت أنه سيورثه" يدل على أن الوصاية بالجار كانت على جانب عظيم من التأكد، والحث على رعاية حقوقه، وما زال الناس في كل عصر يدعون إلى رعاية حقوق الجار؛ كما قال يزيد بن الحكم الثقفي يعظ ابنه: واعرف لجارك حقه ... والحق يعرفه الكريم

كف الأذى عن الجار

وحقوق الجار ترجع إلى أربعة أصول، هي: أن لا يلحق الرجل بجاره أذى، وأن يحميه ممن يريده بسوء، وأن يعامله بإحسان، وأن يقابل جفاءه بالحلم، ويشمل هفواته بالصفح والمغفرة. * كف الأذى عن الجار: نبهت في المحاضرة عن بعض الوجوه التي يؤذي بها الرجل جاره، ومنها: التعرض لحرم الجار بقصد سيئ، ثم قلت: ويروى أن عبد الملك ابن مروان قال لمؤدب ولده: إذا روَّيتهم شعراً، فلا تروِّهم إلا مثلَ قول العجير السلولي: يبين الجار حين يبين عني ... ولم تأنس إلي كلاب جاري وتظعن جارتي من جنب بيتي ... ولم تستر بستر من جدار وتأمن أن أطالع حين آتي ... عليها وهي واضعة الخمار كذلك هدي آبائي قديماً ... توارثه النِّجار عن النِّجار ويؤذي الرجل جاره بأن ينظر إليه بعين الاحتقار، مثلما يفعل بعض من لم يتربوا تربية فاضلة، إذ يزرون جارهم الفقير، قال حسان بن ثابت: فما أحد منا بمهدٍ لجاره ... أذاةً ولامزرٍ به وهو عائد لأنا نرى حق الجوار أمانة ... ويحفظه منا الكريم المعاهد * حماية الجار: كف الأذى عن الجار أثر من آثار طهارة النفس، ومما ينبه لشرف همة الرجل: نهوضه لإنقاذ جاره من بلاء يناله به غيره، وكانت حماية الجار من أشهر مفاخر العرب التي ملأت أشعارهم، قال حسان بن ثابت:

الإحسان إلى الجار

ولا ضيفنا عند القرى بمدفَّعٍ ... وما جارنا في النائبات بمسلَمِ وقال: يواسون مولاهم في الغنى ... ويحمون جارهم إن ظُلم وقال حسان بن نشية: أبوا أن يبيحوا جارهم لعدوهم ... وقد ثار نقع الموت حتى تكوثرا وكان لأبي حنيفة جار بالكوفة، إذا انصرف من عمله، يرفع صوته في غرفته مغنياً: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فيسمع أبو حنيفة غناءه بهذا البيت، فاتفق أن أخذ الحرس في ليلة هذا الجار وحبسوه، ففقد أبو حنيفة صوته تلك الليلة، وسأل عنه من الغد، فأخبروه بحبسه، فركب إلى الأمير عيسى بن موسى، وطلب منه إطلاق الجار، فأطلقه في الحال، فلما خرج الفتى، دعا به أبو حنيفة، وقال له سراً: فهل أضعناك يا فتى؟ قال: لا، ولكن أحسنتَ وتكرمت، أحسن الله جزاءك: وما ضرَّنا أنَّا قليل وجارُنا ... عزيزٌ وجارُ الأكثرين ذليلُ * الإحسان إلى الجار: لا يكفي الرجلَ في حسن الجوار أن يكف أذاه عن الجار، أو يدفع عنه بيده أو جاهه يداً طاغية، بل يدخل في حسن الجوار: أن يجامله بنحو التعزية عند المصيبة، والتهنئة عند الفرح، والعيادة عند المرض، والبداءة بالسلام، وإرشاده إلى ما ينفعه بعلمه من أمر دينه وديناه، وأن يواصله بما استطاع من إكرام.

وقد عد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إكرام الجار في خصال الإيمان، فقال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره". وقال تعالى في كتابه العزيز: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [النساء: 36]. والجار ذو القربى: الجار الذي قرب جواره، والجار الجنب: الذي بعد في العرف جاراً، وبين منزلك ومنزله فسحة، والصاحب بالجنب: من يرافقك في نحو سفر، أو تعلم، أو صناعة. والمتأدبون بأدب القرآن يحافظون على حق الجار في كل حال. قال مجاهد: كنت عند عبد الله بن عمر، وغلام له يسلخ شاة، فقال: يا غلام! إذا سلخت، فابدأ بجارنا اليهودي، حتى قال ذلك مراراً، ثم ذكر حديث وصاية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجار. والمتأدبون بأدب القرآن يراعون حقوق الجار حق الرعاية. قالت عائشة - رضي الله عنها-: "لا تبالي المرأة إذا نزلت بين بيتين من الأنصار صالحين ألا تنزل بين أبويها". وكان العرب يفتخرون بإكرام الجار كما يفتخرون بإكرام الضيف، قال قيس بن عاصم: إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني لست آكله وحدي أخاً طارقاً أو جار بيت فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي وقال آخر:

احتمال أذى الجار

سأقدح من قِدْري نصيباً لجارتي ... وإن كان ما فيها كفافاً على أهلي إذا أنت لم تشرك رفيقك في الذي ... يكون قليلاً لم تشاركه في الفضل ومن الإحسان إلى الجار: بذل ما يطلبه من نحو النار والملح والماء، وإعارته ما اعتاد الناس استعارته من أمتعة البيت؛ كالقدر والصحفة والسكين والقدوم والغربال. وحمل كثير من المفسرين الماعون في قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] على هذه الأدوات ونحوها، ذلك أن منعها دليل لؤم الطبيعة، ودناءة النفس، قال مهيار: لجارهم من دارهم مثل مالهم ... على راحة من عيشهم ولغوب وكان العرب يضربون المثل في حسن الجوار بأبي دؤاد، وهو كعب ابن أمامة، فيقولون: "جار كجار أبي دؤاد"، وكان أبو دؤاد هذا إن هلك لجاره بعير أو شاة، أخلفها عليه، وإذا مات الجار، أعطى أهله مقدار ديته من مال. * احتمال أذى الجار: للرجل فضل في أن يكفَّ عن جاره الأذى، وله فضل في أن يذود عنه، ويجيره من أيدٍ تمتد إليه بسوء، وله فضل في أن يواصله بالإحسان جهده، وهناك فضل رابع هو: أن يغضي عن هفواته، ويتلقى كثيراً من إساءاته بالصفح، ولاسيما إساءة صدرت عن غير قصد، أو إساءه ندم عليها، وجاء معتذراً منها، قال الحريري في مقاماته: "وأراعى الجار ولو جار". وكثيراً ما يكون الصفح عن الرجل، والعفو عن زلته دواء لسوء خلقه،

وتقويماً لعوجه، فيعود الجفاء إلى ألفة، والمناوأة إلى مسالمة، أما التسرع إلى دفع السيئة بمثلها، أو بأشد منها، دون نظر إلى ما يترتب عليها من الأثر السيئ، فدليل ضيق الصدر، والعجز عن كبح جماح الغضب، وإنما يتفاضل الناس في السماحة والسيادة على قدر تدبرهم للعواقب، وإسكاتهم الغضب إذا طغى. وصفوة الحديث: أن انتظام رابطة الجوار؛ حيث يذهب التنافر بين الجيران، ويحل محله التراحم والتآزر على مرافق الحياة، لأكبرُ شاهد على رقي المجتمع، وسمو آدابه، ويإصلاح هذه الرابطة تطوى عن المحاكم قضايا كثيرة لا منشأ لها إلا عدم رعاية حقوق الجوار.

السخاء وأثره في سيادة الأمة

السخاء وأثره في سيادة الأمة (¬1) في الإنسان طبائع تقاسمها الناس على حسب اختلاف بيئاتهم، وطرق تربيتهم، وأطوار حياتهم. ففي الإنسان طبيعة رحمة وشفقة، وفيه طبيعة الغيرة على أن يكون وطنه في أمن وسلامة، وأمته في سعادة وكرامة، وفيه طبيعة حب الحمد، وأن يثنى عليه بألسنة صادقة. وينشأ عن هذه الطبائع خصلة بذل المال في وجوه الخير، وهي ما نسميه بالسخاء. وللسخاء باعث آخر قوي الأثر، هو: رجاء الفوز بما وعد الله به المنفق في الخير من الحياة الطيبة في الدنيا، والنعيم الخالد في الأخرى. وفي الإنسان طبيعة الخوف من الحاجة والفقر؛ يخاف ذلك على نفسه، أو على من يعز عليه من ورثته، وينشأ عن هذه الطبيعة طبيعة الحرص على جمع المال، وقد يشتد به هذا الخوف، حتى يمسك عن الإنفاق في وجوه الخير، وذلك ما نسميه بالبخل. وفي الإنسان طبيعة حب الشهوات على اختلاف ألوانها، وطبيعة حب المدح والإطراء -ولو بغير حق-، وينشأ عن هاتين الطبيعتين طبيعة بذل المال ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الرابع من المجلد الثاني عشر.

في الوصول إلى الشهوات الخارجة عن حد الاعتدال، أو في إشباع نهامة أولئك الذين يتمضمضون بالمديح نفاقاً وملقاً، وهي ما نسميه بالإسراف. فالبخل يقوم على مبالغة الرجل في الخوف من الفقر، والإسراف يقوم على استهانته بالمال حتى لا يبقى له بجانب شهواته قيمة. وقد يمسك الرجل يده عن الإنفاق في وجوه الخير، ويطلقها في اتباع الشهوات، فيجمع بين رذيلتي البخل والإسراف. أما السخاء، فيقوم على الشعور بأن للمال قيمة تستدعي عدم الإسراف في إنفاقه، وأن للحياة الفاضلة مطالب يبذل المال في سبيلها غير مأسوف عليه، فالسخاء إنفاق ما ينبغي إنفاقه في الوجه الذي ينبغي الإنفاق فيه. قيل لمحمد بن عمران بن طلحة بن عبيد الله: إنك تُنسب إلى البخل، فقال: "والله! إني لا أجمد في الحق، ولا أذوب في الباطل". وقيل لمفضال حكيم: لا خير في الإسراف، فقال: لا سرف في الخير. ويدخل في قبيل الأسخياء: من يكون له دين على آخر، فيطرحه عنه، ويخلي ذمته منه، وهو يستطيع الوصول إليه بدون تعب ولا عناء. كان لعثمان - رضي الله عنه - خمسون ألف درهم ديناً على طلحة بن عبيد الله، فجاءه طلحة يوماً، وقال له: قد تهيأ مالك، فاقبضْه، فقال عثمان: هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك. ويدخل في قبيل الأسخياء: من يستحق على عمل أجراً، ويترك الأجر من تلقاء نفسه، فالطبيب الذي يعالج الفقراء، ولا يقبل منهم ما يقدمونه له من أجور، يعد في الأسخياء، كمن يبذل المال للأطباء على معالجة الفقراء.

ويما أن السخاء يقوم على الرحمة، وحب الحمد الصادق، وقلة الحرص على جمع المال، كان متصلاً بفضائل أخرى، فالسخي في أغلب أحواله يأخذ بالعفو، ويتحلَّى بالحلم، ويجري في معاملاته على الإنصاف، فيؤدي حقوق الناس من تلقاء نفسه، وإذا قضى بين الناس، كان عادلاً، فلا تطمح نفسه إلى رشوة، ولا تحدثه أن يأخذ حق ضعيف إلى قوي، ولتجدنَّ السخي بحق متواضعاً: لا يطيش به كبير، ولا تستخفه الخيلاء، ولتجدنه أقرب الناس إلى الشجاعة، وعزة النفس، وإنما يخسر الرجل الشجاعة والعزة بشدة حرصه على متاع الحياة الدنيا. أما البخيل، فلفراغ قلبه من الرحمة، ولعدم اهتمامه بأن يكون له في الناس ذكر جميل، ولحرصه على جمع المال حرصاً يعمي ويصم، نجده قد فقد كثيراً من المكارم، وجمع إلى الشح كثيراً من الرذائل، كما قال أحد شعراء الحماسة: فإني رأيت الشح يا أم هيثم ... لصالح أخلاق الرجال سَروقُ ومن المعروف في سنن الله الحكيمة: أن السخي بحق يفوز بالحياة الطيبة، ولا تكون عاقبته إلا الرعاية من الله والكرامة. قالت خديجة - رضي الله عنها - للرسول الأكرم - صلوات الله عليه -: "والله! لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق". يتفاضل الناس في السخاء من وجوه شتى: يتفاضلون من جهة مقدار ما ينفق في الخير، فمن ينفق مئة أسخى ممن ينفق عشرة متى تساويا أو تقاربا فيما يملكان من المال.

يفضل الرجل بمقدار ما ينفق حتى يبلغ درجة الأريحية، وهي إنفاق مال كثير في غرض شريف. اشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة داره بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل، سمع بكاء أهل خالد، فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ فقالوا: يبكون لدارهم، فقال: يا غلام! ائتهم، فأَعلمْهم أن المال والدار لهم جميعاً. ويتفاضلون من جهة حال الإنفاق، فالذي ينفق في السر أكملُ في السخاء ممن لا ينفق إلا في العلانية. قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. ويتفاضلون من جهة استصغار ما ينفق واستعظامه، فالذي ينفق في الخير، وينسى أو يتناسى أنه أنفق، هو أسخى ممن ينفق، ثم لا يزال يذكر ما أنفق، ولاسيما ذكره في معرض الامتنان، قال شاعر الحماسة: فما كان مفراحاً إذا الخير مَسَّه ... ولا كان منّاناً إذا هو أنعما وقال عبد الله بن طاهر: أفرّق بين معروفي ومَنِّي ... وأجمع بين مالي والحقوق ويتفاضلون من جهة السرعة إلى البذل والتباطؤ عنه. فمن يبذل المال لذوي الحاجة لمجرد ما يشعر بحاجتهم، يفضل من لا يبذل لهم المال إلا بعد أن يسألوه. قال مروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة: مضى من كان يحمل كلَّ ثقلٍ ... ويسبق فضلُ نائله السؤالا

وقال سعيد بن العاص: قبّح الله المعروف إذا لم يكن ابتداء من غير مسألة. ومن هنا أنكروا على أبي تمام قوله يمدح بعض الأسخياء: تكاد عطاياه يجنّ جنونها ... إذا لم يُعَوِّذها بنعمة طالب وقالوا: ما بال هذا الممدوح يحوج عطاياه إلى الجنون، ويلتمس لها العوذ والرقى، وفي يده أن يمنحها ذوي الحاجات، ولا ينتظر بها نغمات السائلين؟!. ومن يقصد بالبذل موضع الحاجة، عرفه أو لم يعرفه، يكون أسخى ممن يخص بالنوال من يعرفهم ويعرفونه. سألت امرأة عبد الله بن جعفر، فأعطاها مالاً كثيراً، فلاموه، وقالوا له: إنها لا تعرفك، وإنما كانت يرضيها اليسير، فقال: إن كانت ترضى باليسير، فإني لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي. ومن يعطي عن ارتياح، وتلذذ بالعطاء يعد أسخى ممن يحسن، وفي نفسه حرج من العطاء: ولم أر كالمعروف أمّا مذاقه ... فحلوٌ وأمّا وجهه فجميلُ ومن هنا نرى الشعراء ينبهون عند المديح بالكرم على ابتهاج الممدوح وسروره عند البذل، كما قال ابن زمرك يمدح ملك غرناطة: يسخو الغمام ووجهه متجهَّمٌ ... والوجهُ منه مع الندى يتهلَّلُ ومن كان كرمه أصيلاً؛ أي: نشأ فيه منذ الولادة، يكون أكثر خيراً ممن يكون كرمه حديثاً، وقد يدل الأدباء على رسوخ الرجل في السخاء بأن

يقولوا لك: إن كرمه أصيل، ورثه عن أبيه، أو جدّه؛ كما قال مادح يحيى ابن خالد: سألت الندى: هل أنت حرٌّ؟ فقال: لا ... ولكنني عبدٌ ليحيى بن خالدِ فقلت: شراء؟ قال: لا بل وراثة ... توارثني عن والدٍ بعد والدِ ومن علامات رسوخ الرجل في السخاء: أن لا يجعل بينه وبين طالبي العرف حجاباً غليظاً؛ كما قال ابن أبي السمط: له حاجب في كل أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجبُ ومن علامات رسوخ الرجل في السخاء: أن يلاقي خدمه الزائرين والمستجدين بأدب جميل. قال محمد بن جرير الخارجي: سهل الفناء إذا حللت ببابه ... طلق اليدين مؤدّب الخدّام وكان الراسخ في السخاء من أهل البادية لا ينزل إلا بالأماكن المرتفعة؛ ليرى الناس منزله على بعد في النهار، ويبصرون ناره كذلك في ظلام الليل. قال أبو زياد الأعجم: له نار تشب على يَفاع ... إذا النيران ألبست القناعا وقال ابن هرمة: أغشى الطريق بقبتي ورواقها ... وأحل في نشز الربا فأقيم يتفاضل الناس في السخاء، وأرفع درجاته أن يكون الرجل في حاجة ملحة إلى ما عنده، ويدع حاجته، ويصرفه في وجه الخير، وذلك ما يسمى بالإيثار، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].

أثر السخاء في سيادة الأمة

والكتب عامرة بقصص من بلغوا هذه الرتبة في السخاء. قال أحد شعراء الحماسة: طويل نجاد السيف يصبح بطنه ... خميصاً وجاديه على الزاد حامد وأبلغ ما يدلك على أصالة كرم الرجل: أن يرق عطفه حتى يبسط يد إحسانه إلى ذي الحاجة، وإن كان من أعدائه؛ كما قال أحد شعراء الحماسة في سيرته مع ابن عشيرته: وأمنحه مالي وودي ونصرتي ... وإن كان محنيَّ الضلوع على بغضي * أثر السخاء في سيادة الأمة: تبلغ الأمة الأمد الأسمى من السيادة بحفظ دينها، وسعة معارفها، وسمو أخلاقها، وصيانة أعراضها، ونباهة ذكرها، وحياة لغتها، ومتانة اتحادها، وحماية أوطانها، وكل هذه المقاصد رفيعة الشأن إنما تتحقق بالمال الذي يبذله الأسخياء من الناس. للسخاء أثر في حفظ الدين: فالمساجد التي تقام فيها الصلوات، والمعاهد التي تدرس فيها علوم الدين ووسائلها، والجمعيات التي ترشد بمحاضراتها ومجلاتها إلى حقائق الدين، وتدعو إلى التمسك بعروته الوثقى، والمحاكم التي تقضي بشريعته، كل ذلك معدود من مآثر السخاء. وللسخاء أثر في تنمية العلوم، وذلك ما تجود به النفوس الكريمة من أموال تصرف في إنشاء مدارس للتعليم، وإرسال بعثات لتلقي العلوم من منابعها الغزيرة، أو طبع كتب قيمة، أو عقد مسابقات لتحقيق بحث علمي أو أدبي.

وللسخاء أثر في نبل الأخلاق وسلامتها، من جهة أنه يحفظ الدين، وينمي العلوم، وبحفظ الدين وبنمو العلوم ترتفع الأخلاق، وتبلغ الذروة من كمالها. ثم إن السخاء ينقذ أناساً كثيراً من الفقر الذي قد ينجرف بهم إلى فساد الأخلاق وضيعة الآداب. وللسخاء أثر في صيانة الأعراض، ذلك أن الكريم يبذل المال لذي الحاجة، فيصون ماء وجهه من الابتذال بالسؤال، والسؤال يزري بالرجل، ويجعل عرضه مضغة في الأفواه. ثم إن الأسخياء يصونون أعراضهم بما يسدون به أفواه أناس لولا عطاؤهم، لأطلقوا ألسنتهم بذمهم، واختلقوا لهم معايب هم منها براء. قال أسماء بن خارجة: ما أحب أن أرد أحداً عن حاجة طلبها؛ لأنه لا يخلو أن يكون كريماً فأصون عرضه، أو لئيماً فأصون عرضي عنه: أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال وللسخاء أثر في نباهة الذكر بعد سلامة العرض؛ فإن الفضائل -والسخاء في مقدمتها- تطلق الألسنة بالثناء، والثناء الصادق من النعم التي تقابل بالارتياح والشكر، ومن هنا نرى الأدباء يمدحون الرجل بأنه حفظ بسخائه الثناءَ من الضياع، أو أقام له سوقاً كانت خاملة، قال مهيار: لولاكم نُسي الثناء ولم يكن ... في الناس لا رفد ولا مرفود وقال أبو الشيص الخزاعي: وأقام سوقاً للثناء ولم تكن ... سوق الثناء تعد في الأسواق

وللسخاء أثر في حفظ اللغة ورقيها، والسخاء قد ساعد على هذه الثروة الأدبية التي بين أيدينا؛ فإن كثيراً منها جاء من سخاء أولئك الذين يقدرون اللغة، ويهتزون للشعر البارع، أو النثر البليغ ابتهاجاً، ويلاقون اللغويين والشعراء والكتاب باحتفاء وإكرام، وأشار إلى هذا من يقول: ما لقينا من جود فضل ابن يحيى ... ترك الناس كلهم شعراء وللسخاء أثر في ائتلاف القلوب، وتأكيد رابطة الإخاء، ذلك أنه يبذر محبة المحسنين في قلوب ذوي الحاجات. ثم إن من وجوه السخاء: صرف المال في نحو ضيافة، أو هدية -ولو لغير ذي حاجة-، وهذا مما يذهب بالجفوة، ويجعل القلب من القلب قريباً: وكل امرئ يولي الجميل محببٌ ... وكل مكان يُنبت العزَّ طَيِّبُ أما أثر السخاء في حماية الوطن، فإن إعداد وسائل الدفاع، إنما يكون بالمال، وعلى قدر سخاء الأمة يكون الاستعداد، وسخاء الأمة في سبيل الدفاع يأتي على حسب شعورها بالكارثة التي تقع فيها إذا هي تركت الدفاع حتى بسط العدو عليها سلطانه. وقد أشار القرآن المجيد إلى أن الإمساك عن الإنفاق في سبيل دفع العدو، إلقاءٌ باليد إلى التهلكة، فقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. يدافع الرجل عن وطنه وقومه بالسلاح فيقول: إذا لم أكن فيكم خطيباً فإنني ... بسيفي في يوم الوغى لخطيب ويدافع بقلمه فيقول:

ولي قلم في أنملي إن هززته ... فما ضرني أن لا أهز المهندا ويدافع بماله، كما قال لسان الدين بن الخطيب يمدح سلطان تلمسان: وأعنت أندلساً بكل سبيكة ... موسومة لا تعرف التدنيسا إن لم تجرَّ بها الخميس فطالما ... جهَّزت فيها بالنوال خميسا وقد أجاد في تشطير لامية ابن الوردي من قال: "أنا لا أختار تقبيل يدٍ" ... ما انتضت سيفاً ولا هزت أَسَلْ ويد شحَّتْ وما سَحَّتْ ندًى ... "قطعها أجمل من تلك القبل" سادتي! أمنيتنا أن نربي نشأنا على هذا الخلق العظيم: خلق السخاء، ونلقنهم أنه مرقاة السيادة والفلاح، كما كان فرضاً علينا أن ننذرهم سوء المنقلب الذي ينقلب إليه البخلاء والمبذرون، فإذا نحن فعلنا هذا، أخرجنا للناس أمة تسمو أن تنحدر في تلك المدنية الهازلة المرذولة، ولا يجد خصومها لقهرها أو سلب حق من حقوقها طريقاً: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

الحلم وأثره في سعادة الحياة الفردية والاجتماعية

الحلم وأثره في سعادة الحياة الفردية والاجتماعية (¬1) ترغب النفوس في أشياء، وتنفر من أخرى، وفي النفوس طبيعة غضب تثور عند منعها مما ترغب فيه، أو عند ملاقاتها لما تنفر منه، ومن المخل بنظام حياة الأفراد والجماعات: إطلاقُ العِنان لقوة الغضب، تثور كلما منعت النفوس مما تحب، أو لقيت ما تكره، بل الحكمة أن تكون قوة الغضب خاضعة للعقل خضوعاً يجري في النفس مجرى الطبيعة، حتى لا تهيج إلا للأمر الذي ينبغي أن تهيج له، وفي الوقت الذي ينبغي أن تهيج فيه، ولا تتجاوز الحد الذي ينبغي أن تقف عنده. ومن أبلغ أن تكون قوة غضبه منقادة للعقل، جارية على مقتضى العلم، فهو الحليم بحق. وليس من شرط الحلم أن يفقد الرجل قوة الغضب بحيث يكون حاله أمام الإساءة وعدمها سواء، وإنما شرط الحلم: أن لا يطغى الغضب حتى يدفع الرجل إلى الانتقام، أو يمنعه من الصفح حيث يكون الصفح أولى به. فالحليم قد يأخذه الغضب لجهل جاهل عليه، لكنه يكظم غيظه حتى لا يكون له أثر في غير نفسه: ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السادس من المجلد العاشر.

ولربما ابتسم الكريم من الأذى ... وفؤاده من حرِّه يتأوَّهُ وقد يسلم من الغضب للأمر الذي يستشيط له الأحمق غضباً. والحلم لا يعارض الأخذ بالحزم، شأن الفضائل، يأخذ بعضها بيد بعض، وتتلاقى لتتعاون على البرّ والتقوى، فإذا كان الحل سكون النفس، وعدم تهيجها للمكروه الذي يكفي في دفعه الصفح عنه، فإن من الحزم الغضب للأذى الذي يصدر عن لؤم، ويتمادى ولو مع الإغضاء عنه، قال المتنبي: إذا قيل رفقاً قال للحلم موضع ... وحلم الفتى في غير موضعه جهل وقال النابغة: ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوَه أن يُكدَّرا وقال الحسين بن عبد الصمد يمدح بعض الأمراء: عجبوا لحلمك أن تحوَّل سطوة ... وزلال خلقك كيف عاد مكدَّرا لا تعجبوا من رقة وقساوة ... فالنار تقدح من قضيب أخضرا وقال آخر: أناة فإن لم تغن عقَّب بعدها ... وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمُهْ والحلم لا يشتبه بالذلة في حال؛ فإن الذلة احتمال الأذى على وجه يذهب بالكرامة؛ أما الحلم، فهو إغضاء الرجل عن المكروه حيث يزيده الإغضاء في أعين الناس رفعة ومهابة: سياسة الحلم لا بطشٌ يكدِّرها ... فهو المهيب ولا تُخشى بوادره ولا يظهر معنى الحلم إلا مع القدرة على دفع الأذى باليد أو اللسان،

لهذا نرى كثيراً من الشعراء متى أرادوا مدح شخص بمزية الحلم؛ نبهوا على أنه يصفح، وهو قادر على أن يجزي السيئة بمثلها، أو بما هو أكبر منها، كما قال ابن زمرك يمدح سلطان غرناطة: ويغضي عن العوراء إغضاءَ قادرٍ ... ويرجح في الحلم الجبال الرواسيا وقال ابن زيدون يمدح بعض الأمراء: أرى الدهر إن يبطشْ فمنك يمينُه ... وإن تبسم الدنيا فأنت لها ثغرُ عطاء ولا مَنٌّ، وحكم ولا هوًى ... وحلم ولا عجز، وعزٌّ ولا كِبْرُ ونراهم متى أرادوا الفخر بالحلم، أشاروا إلى قدرتهم على مقابلة السوء بمثله؛ كما قال عمر بن قيس: وذي ضغنٍ كففت النفسَ عنه ... وكنت على مساءته قديرا ولو أني أشاء كسرتُ منه ... مكاناً لا يُطيق له جبورا وكل الأخلاق في حاجة إلى أن تتعهد بالتربية والتهذيب، وأشدها حاجة إلى ذلك التعهُّد: الحلم، ولم نسمع أحداً قال: ترددنا على فلان لنأخذ عنه الشجاعة أو الكرم -مثلاً-، ولكن الأحنف بن قيس يقول: لقد اختلفنا إلى قيس بن عاصم في الحلم كما نختلف إلى الفقهاء في الفقه. وكثيراً ما يشكو الأدباء من قلة الحلم في الناس، قال بعضهم: من لي بإنسان إذا أغضبته ... وجهلتُ كان الحلم ردَّ جوابه وقال أبو العتاهية: عذيري من الإنسان ما إن جفوته ... صفا لي ولا إن صرت طوع يديه

وإني لمشتاق إلى ظلَّ صاحب ... يرقُّ ويصفو إن كدرت عليه ويروى: أن الخليفة المأمون لما سمع هذين البيتين، قال: خذوا مني الخلافة، وأعطوني هذا الصاحب. ومكارم الأخلاق كلها خير، وكل مكرمة ترفع صاحبها في الشرف درجة أو درجات، ومن أعظمها أثراً في سعادة حياة الأفراد والجماعات: خلق الحلم، ويكفي الحلم شرفاً أن اسمه أخذ من بين أسماء الفضائل، وسمي به العقل، ومن الحكم الذائعة في كتب الأدب قولهم: ما أضيف شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ومن عفو إلى مقدرة. يقطع الحلم شراً لو قوبل بمثله، لتمادى، أو عظم خطره. قال أيوب: حلم ساعة يرفع شراً كبيراً. وقال الأحنف: من لم يصبر على كلمة، سمع كلمات، وربَّ غيظ تجرَّعته مخافة ما هو شر منه. وقد يضع الحلم مكان الضغينة مودة، ذلك أن الفضيلة محبوبة في نفسها، وتدعو إلى إجلال من يتمسك بها؛ وقد نبه القرآن المجيد لهذه الحكمة بقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. وبالحلم يحفظ الرجل على نفسه عزتها، إذ يرفعها عن مجاراة الطائفة التي تلذ المهاترة والإقذاع. كان عروة بن الزبير إذا أسرع إليه أحد بشتم أو قول سوء، لم يجبه، وقال: إني أتركك رفعاً لنفسي عنك.

ونرى الناس في جانب الحليم متى كان خصمه أو مناظره ينحدر في جهالة، ولا يندى جبينه أن يقول سوءاً. قال علي بن أبي طالب: "حلمك على السفيه يكثر أنصارك عليه". ومن فضل الحلم أن الرياسة صغيرة كانت أو كبيرة؛ لا ينتظم أمرها إلا أن يكون الرئيس راسخاً في خلق الحلم. قال معاوية لعَرابة بن أوس: بم سُدت قومك يا عرابة؟ قال: "يا أمير المؤمنين! كنت أحلم على جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في قضاء حوائجهم"؛ وذلك أن الناس يكرهون جافي الطبع، ولا يجتمعون حول من يأخذه الغضب لأدنى هفوة، إلا أن يساقوا إليه سوقاً، فمن قل نصيبه من الحلم، قل أنصاره، وذهبت من قلوب الناس مودته، والرئيس بحق من يملك القلوب قبل أن يبسط سلطانه على الرقاب. ثم إن أعزَّ غاية تعمل لها الجماعات: التمتع بنعمة الحرية، ولا تظفر الجماعات بهذه البغية إلا أن يكون الماسك بزمام سياستها على جانب عظيم من الحلم؛ فإن الحليم هو الذي يقدم الناس على نقد تصرفاته، ويصرحون له بآرائهم فيما لا يرضون عنه من أعماله. أغلظَ رجل إلى معاوية بن أبي سفيان القول، فحلم عنه، فقيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال: إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا. ويعجبني من الشعر المعبر عن الحلم البالغ أبياتُ محمد بن عميرة المعروف بالمقنَّع الكِندي التي يقول فيها: وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمِّي لمختلفٌ جِدّا

فإن أكلوا لحمي وَفَرت لحومَهم ... وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا حتى قال: ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا ونرى الرؤساء الأذكياء يقصدون إلى الوسائل التي قد تثير غضبهم على طائفة من الأمة، فيقطعونها. لما انتهت فتنة ابن المعتز، وعاد المقتدر إلى الخلافة، واستوزر علي ابن الفرات، حُمل إلى هذا الوزير من دار ابن المعتز صندوقان عظيمان فيهما جرائد بأسماء من بايعوا ابن المعتز، فلم يفتحهما الوزير، ورمى بهما في النار، وقال: لو فتحتهما، وقرأت ما فيهما، فسدت نيات الناس علينا. فسدَّ ابنُ الفرات بهذه السياسة باب الغضب على أشخاص قد يدفع الغضب عليهم إلى فتنة لا يدري كيف تكون عاقبتها. وإذا وجد الناس في التغلب على الغضب عسراً، فإن لدى الرؤساء أولي القوة ما يجعلهم أقرب إلى الحلم من غيرهم، وهو القدرة على الانتقام من المسيء متى شاؤوا. قال ابن المقفع: لا ينبغي للملك أن يغضب، فإن القدرة من وراء حاجته. والشعور بالقدرة على مجازاة المسيء إن لم يؤد إلى الصفح عنه، فإنه يساعد في الأقل على التمهل في العقوية؛ فكان اندفاع الرجل إلى العقوية عند ثورة الغضب قد يلقي به في العقاب على السيئة بأعظم منها. قال مروان بن الحكم في وصيته لابنه عبد العزيز عندما ولاه عاملاً على مصر: "إن كان بك غضب على أحد من رعيتك، فلا تؤاخذه به عند سَوْرة الغضب، واحبس عقوبتك حتى يسكن غضبك، ثم يكون منك ما يكون وأنت

ساكن الغضب، مطفأ الجمرة". وأعظم فوائد الحلم: الفوز برضا الخالق -جل شأنه-؛ فإنه قد دعا إليه في آيات كثيرة، قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. وقال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]. وكثير من المؤمنين يؤذَوْن، فيضبطون أنفسهم عند الغضب ابتغاء رضا الخالق تعالى اسمه. شتم رجل عمر بن ذر، فقال له: إني أَمَتُّ مشاتمة الرجال صغيراً، فلن أُحييها كبيراً، وإني لا أكافئ من عصى الله فيَّ بأكثر من أن أطيع الله فيه. وصفوة الحديث: أن الحلم يحتاج إليه عميد الأسرة في منزله، والتاجر في محل تجارته، والعالم في مجلس دراسته، والقاضي في مقطع أحكامه، والرئيس الأعلى في سياسة رعيته، بل يحتاج إليه كل إنسان مادام الإنسان مدنياً بالطبع، لا يمكنه أن يعتزل الناس جملة، ويعيش في وحدة مطلقة.

حالة الأمة في هذا العصر

حالة الأمة في هذا العصر (¬1) قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوة الحق، واحتمل في سبيلها أذى كثيراً، وشر الله له أسباب الهجرة، فهاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وبهذه الهجرة المباركة أخذت الدعوة حريتها كاملة، وأخذ الدين الحق ينتقل على طريق الحجة من وطن إلى وطن، ومن جماعة إلى جماعة، حتى أخرج خير أمة أخرجت للناس. وسيحدثكم عن الهجرة وشيء من آثارها حضرات الخطباء والشعراء من بعدي، أما كلمتي، فإنما أتحدث فيها عن حالة الأمة الإسلامية في هذا العصر من ناحية تمسكها بهدى الله الذي رفعت الهجرة لواءه، أو انصرافها عنه، حتى لا يكون حديثنا في هذا الاحتفال مقصوراً على ما أثمرته الهجرة من ظهور الإسلام وعزة المسلمين، أو على ما يؤخذ منها من عبر ينتفع بها في الأخلاق والسير في الحياة، بل ينبغي أن ندخل في هذه الذكرى ما يثير الأسف، ويهز العزائم، ويدفع النفوس إلى أن تجاهد في سبيل إعلاء الحق بكل ما أوتيت من قوة، فإذا ابتهجنا في ذكرى الهجرة بانتشار الإسلام على وجهه الصحيح، وفوزه على بقية الأديان من نحو اليهودية والنصرانية والمجوسية، كان علينا أن نفكر في حاضرنا، وكيف نعمل لمستقبلنا، فأقول: ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثامن من المجلد السادس عشر.

أخرجت هداية الإسلام أمة هي خير الأمم في كل ناحية من نواحي الكمال الإنساني؛ إيماناً صادقاً، وخلقاً سمحاً، وأدباً سنياً، وعملاً صالحاً، ورفع راية دولة هي أرشد الدول سياسة، وأعدلها حكماً، وأنفذها بصيرة، وأحكمها نظاماً. يشهد بهذا التاريخُ الصادق لعهد الخلفاء الراشدين، ومن اقتدى بسيرتهم من الأمراء، فكنت ترى أمة تتمتع بحياة آمنة زاهرة، على رأسها دولة كبيرة الهمة، فسيحة الصدر، تطلق عنان الحرية للناصحين، وتخفض جناحها للمستضعفين، فتأخذ بالتسامح في معاملة المخالفين، وتعتصم باليقظة والحزم في كبح جماح الباغين. وإذا أرانا التاريخ أو المشاهدة ضعفاً أو انحطاطاً في أمة أو دولة إسلامية، فإنما نجده في النواحي التي انحرفت فيها عن معالم الدين الحق، ويكون ضعفها أو انحطاطها على قدر انحرافها عن هذه المعالم. ينحرف الناس عن هدى الله لأهواء طاغية، أو لقلة العلم بما أرشدت إليه الشريعة، أو حذرت منه، وهاتان العلتان انتشرتا في الأمة، فشربتا دمها، وأذابتا لحمها، وأوهنتا عظامها، حتى كاد اليأس يحوم بنفوس حكمائها ودعاة إصلاحها. نشأ في أوطاننا فريق عرفوا جانباً من هداية الله، ولكن لبستهم الشهوات، فذهبت بهم في الخلاعة والبطالة إلى مكان بعيد. ونشأ في أوطاننا فريق يحملون أذهاناً راكدة تروج فيها المزاعم السخيفة، والأساطير المنبوذة، فيحسبونها علماً نافعاً، ويطرحونها في المجالس، ولا يشعرون بسخافتها وخروجها عن دائرة التفكير الصحيح.

ونشأ في أوطاننا فريق رزقوا أذهاناً تتقلب يميناً وشمالاً، ولكنها أذهان قد تحسب الشبهة حجة، والخيال حقيقة، فأنكروا جانباً من أصول الشريعة ونصائحها، وأخذوا يتأولون نصوصها، ويرتكبون في تأويلها طرقاً تأباها بلاغة القرآن وحكمة التشريع، ولا فرق بين هؤلاء وبين الملحدين علانية إلا هذا التأويل الذي هو كالقناع الشفاف لا يحجب ما وراءه. ونشأ في أوطاننا فريق نظروا إلى ما برع فيه الغربيون من علوم ومبتكرات، أو نظروا إلى أنهم المسيطرون على كثير من الشعوب الشرقية، فأكبروهم، وبالغوا في إكبارهم حتى خيل إليهم أنهم لا يقولون إلا صواباً، ولا يعملون إلا حسناً، ولم يتريثوا أن أصبحوا يحاكونهم في كثير من عاداتهم، وإن نهى عنها الدين الحنيف، ويقلدونهم في آرائهم، وإن كانت عارية من كل دليل، أو ما يشبه الدليل. ونشأ في أوطاننا فريق لم يدرسوا علوم الشريعة، أو لم يدرسوها بحق، ولكنهم درسوا علوماً دراسة كافية وعالية، وخُيِّل إليهم أن بلوغهم درجة الأساتذة في تلك العلوم يخولهم أن يخوضوا في مسائل الدين، ويظهروا بآراء لا يرجعون فيها إلى استدلال معقول، وإنما هي آراء تخرج من بين شهوات كامنة، أو أذواق غير صافية. ولا ننسى أن نذكر في سياق هذه الدعايات دعاية غزيرة المدد، كثيرة الأعوان، هي الدعاية التي يسمونها: "التبشير"، وهذه الدعاية -وإن عجزت عن تحويل أبناء المسلمين إلى دين النصرانية- قد وصلت إلى شيء من أغراضها، وهو زلزلة عقائد بعضهم، وإيقاعهم في إلحاد. نذكر هذه الفرق كنموذج لمظاهر الفساد الذي طرأ على حالتنا الاجتماعية

الإسلامية، وأقول في أسف: إن كلاً منها يدعو إلى نزعته، ويستهوي النشء بزخرف القول ونحوه من وسائل التغرير، فسرت تلك الدعايات في الأمة سريان الأوبئة الجارفة، ولم يقم التعليم بالمدارس ولا بالمعاهد الدينية بما يدفع شرها، فبلغت الحالة إلى ما نراه اليوم بأعيننا، ونسمعه بآذاننا، والأسف يمزق أكبادنا. يوجد هذا الشر في مقالات تنشر في الصحف، ومحاضرات تلقى في النوادي، ووسائل تصدر في أسفار منمقة، وشُبه لا تتورع عن أن تظهر على كراسي التعليم، ومحاورات في المجالس، وليس لهذه المعاول غرض إلا تقويض صرح الهداية، وصرف النفوس عن طريق إصلاحها. يجري هذا بين بيوتنا ونحن في غفلة عنه، وإذا شعرنا، لم يكن لشعورنا به من أثر سوى التحدث به، وتبادل عبارات الأسف لكارثته. وليست هذه الأمراض الفكرية أو الخلقية خاصة بشعب إسلامي دون بعض، بل أصابت الشعوب الإسلامية في الشرق والغرب، والشمال والجنوب. تلكم علل التطور المحزن، وطالما قلَّبنا النظر لعلنا نظفر بعلاج يستأصلها، أو يقف بها -في الأقل- عند حد، فلا نرى إلا مساعي أفراد وجماعات صغيرة لا تزيد على خطب تلقى، أو مقالات تحرر، وكنا نود لو أن رجال الدولة يعنون بالنظر إلى مكافحة هذا الخطر نظراً عميقاً متواصلاً، نصحاً لله ولرسوله وللمؤمنين، وتحقيقاً للمادة من الدستور التي تنص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام. ولا ننكر أن قسماً كبيراً من تبعة هذا التطور ملقى على أعناق علماء الدين، ولكنه تطور استغلظ، وضرب بعروقه في أرضنا، فلا يمكن اقتلاعه منها إلا

بعزيمة نافذة، وجهاد متواصل، ونفقات غير قليلة، وذلك ما لا يتم إلا تحت إشراف دولة مقتنعة بأن الإسلام حق، وأن كل سياسة لا تقوم على رعاية شريعته السمحة، والاستقاء من مواردها الصافية، سياسة لا تأتي بخير، ولا تستحق أن تقابل بالحمد. ولا نريد من هذا بخسَ حق الجماعات والعظماء من رجال الإصلاح، وتثبيط عزائمهم عن معالجة هذه الأمراض الشائعة، بل نريد لفت أنظار رجال الدول الإسلامية؛ لعلهم يبسطون أيديهم إلى الإصلاح بحق، ونضع أمام دعاة الإصلاح غاية ليس إدراكها بمتعذر، ولكنها تستدعي مجهوداً كبيراً، ووقتا غير قصير، هي: أن يعملوا على أن تكون الثقافة الإسلامية الصحيحة هي السائدة في الأمة، وبهذا تكون الأمة بمن فيها من رجال الدولة سائرة في سياستها وسائر شؤونها الاجتماعية على ما يلائم هذه الثقافة التي هي مطلع كل عزة وسعادة.

اليد العليا خير من اليد السفلى

اليد العليا خير من اليد السفلى (¬1) في الناس غني وفقير، وسعادة الأمم في حياتها الاجتماعية على قدر ما تتوفق له من مطاردة الفقر، وتخفيف ويلاته، والفقراء منهم العاجز عن الكسب، ومنهم القادر عليه، فلنتحدث عن فقر القادرين، ووجه معالجته، ثم نتحدث عن فقر العاجزين ووجه معالجته، فإذا نحن عالجنا الفقر من ناحيتيه، تهيأ لنا أن نسابق الأمم المصممة إذا عزمت، والصادقة إذا قالت، والمجدَّة إذا نهضت. سبب فقر القادر على الكسب سقوط همته وفتور عزيمته؛ فإن الرجل إنما يترك السعي للرزق حيث تنحط همته، وتزيِّن له التعرض لإحسان الموسرين، ومتى انحطت همته، ألف الراحة، وأنس البطالة، وهان عليه أن يتخذ من استجداء الناس حرفة. وقد عالج الشارع الحكيم سقوط الهمة، وفتورَ العزيمة في كل ناحية من نواحي الحياة. دعا إلى ابتغاء العزة، فقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الخامس عشر.

ودعا إلى الجد في العمل، فقال - عليه الصلاة والسلام -؛ "اعملوا، فكلٌّ ميسَّر لما خلق له". ثم ألقى الشارع نظرة خاصة إلى رفع الهمة، وتقوية العزيمة من جهة كسب الرزق، فأمر بالتعفف عن السؤال؛ لما في السؤال من إراقة ماء الوجه، والظهور بمظهر الذلة والمسكنة، وحث على الجد في سبيل القوت؛ لأن العمل يخرج الرجل من بيئة الكسل، ويجعله في غنى عما في أيدي الناس، فيصبح في جسم الأمة عضواً سليماً، والغني بعمله يمكنه أن يقف بجانب من شاء موقف النظير للنظير. عني الإسلام بترغيب النفوس في العمل، وتنفيرها من الطمع، فقبَّح السؤال، وفضَّل عليه بعض الأعمال التي يزدريها الناس، فقال - عليه السلام -: "والذي نفسي بيده! لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره، خير له من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله، فيسأله، أعطاه أو منعه". وأنذر الذين اعتادوا التكفف سوء العاقبة، ولقاء الخزي يوم البعث، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "مازال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم"، وتجرد الوجه من اللحم كناية عن الهوان، والمعنى: أنه يجيء يوم القيامة ولا قيمة له، ولا جاه. ونبه لرفعة منزلة المحسنين، وانحطاط منزلة المتلقين للإحسان؛ ليرغب في الإحسان إلى العاجزين، وينفر القادرين على الكسب من البطالة، والتعويل على ما يجود به المحسنون. خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة ذكر فيها الصدقة، والتعفف عن المسألة، وقال وهو على المنبر: "اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي

المنفقة، والسفلى هي السائلة". ولكون السعي في تحصيل الرزق يحفظ على الرجل دينه وعرضه، ويجعل حياته في طمأنينة وانتظام، تضافر الحكماء في مواعظهم وأشعارهم على الترغيب فيه، والتنفير من البطالة التي هي مدرجة الاحتياج، ثم الاستجداء. مر عمر بن الخطاب على زيد بن مسلمة وهو يغرس في أرضه، فقال له عمر: أصبت، استغن عن الناس، يكن أصون لدينك، وأكرم لك عليهم. وحث علي بن أبي طالب على التجارة، وقال: إنها ثلث الإمارة. وفضل عمر بن الخطاب الكسب بحرفة فيها شيء من الدناءة على السؤال، فقال: مكسبة فيها بعض الدناءة خيرٌ من مسألة الناس. وفضل مالك بن أنس كسبَ الرجل من طريق فيه شبهة على الاحتياج إلى ما في يد غيره، فقال: طلب الرزق في شبهة أحسنُ من الحاجة إلى الناس. البطالة تلبس الرجل ثوب حقارة، والعمل يكسوه كرامة. كان عمر بن الخطاب إذا رأى فتى، فأعجبه حاله، سأل عنه: هل له حرفة؟ فإن قيل: لا، سقط في عينه. وشريف الهمة: من أنس في نفسه القدرة على كسب الرزق من طريق العمل بيده، فنهض، ولو وجد شخصاً تطوع له بأن ينفق عليه من ماله الخاص. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع الأنصاري، في صدر الهجرة، فعرض سعد على عبد الرحمن أن يناصفه ماله، فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في مالك، دلني على السوق، فأتى السوق، وتعاطى التجارة حتى أصبح من أغنياء الصحابة.

ورحل أبو الوليد الباجي من الأندلس في طلب العلم حتى دخل بغداد في حالة بؤس، وكان في إمكانه أن يستدرَّ أيدي المحسنين غيرَ مبال بمواقف الهوان؛ كما يفعل كثير من الفقراء، ولكن الهمة التي دفعته إلى طلب العلم أبت له هذه المهانة، واختار أن يتعاطى عملاً، ولو لم يكن مناسباً لمقامه العلمي، فأجر نفسه لحراسة درب بغداد في الليل؛ ليستعين بأجرته على طلب العلم بالنهار. وأراد عمر بن الخطاب لأهل العلم عزة وكرامة، فوعظهم بأن تكون لهم أعمال تغنيهم عن انتظار ما تجود به عليهم أيدي الأفراد والجماعات، فقال: يا معشر القراء! ارفعوا رؤوسكم، واستبقوا الخيرات، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين. ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظَّموه في النفوس لعُظِّما تجعل البطالة الرجل كلّاً على الناس، فيتنكرون له، ولو كانوا ذوي قرباه. إذا المرء لم يكسب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لاقى الصديق فأكثرا وصار على الأدنين كلّاً ... وأوشكت صلات ذوي القربى له أن تنكَّرا وإذا ارتبنا في أن البطالة تقطع صلة الرجل بذوي قرباه، فلا نرتاب في أن الرجل إذا أظهر حاجته إلى رفاقه، أخذت الصلة بينه وبينهم لوناً آخر، وربما نفضوا أيديهم من رفقته، قال أبو العتاهية: أنت ما استغنيت عن ... صاحبك الدهر أخوه فإذا احتجت إليه ... ساعةً مَجَّكَ فوه

وكان يحيى السرقسطي من أدباء الأندلس جزَّاراً، ثم اشتغل بالأدب، وترك الجِزارة، وعاد بعدُ إلى الجزارة، فأمر الوزير ابن هود أبا الفضل أن يكتب إليه يوبخه على ذلك، فكتب إليه: تركت الشعر من عدم الإصابة ... وملت إلى التجارة والقصابة فأجابه السرقسطي بأبيات، ومما قال خطاباً للوزير: وحقِّك ما تركت الشعر حتى ... رأيت البخل قد أوصى صِحابه وحتى زرت مشتاقاً خليلاً ... فأبدى لي التحيل والكآبه وظن زيارتي لطِلاب شيء ... فنافرني وغَلَّظ لي حِجابه وإذا كان الشاعر الذي يزين المجلس بلطائف آدابه؛ كالسرقسطي، يلاقي من إخوانه متى رأوه في بطالة مللاً وإغضاء، فكيف يكون حال من لم يكن له في الأدب غدوة ولا روحة؟!. وإذا قيل: إن في السؤال مهانة، فإنما هو في طلب الشخص مالاً ينفقه في حاجته الخاصة، أما من يسأل الناس شيئاً من المال لينفقه في وجه من وجوه الخير، كإغاثة منكوب أو مسكين أو يتيم، أو إقامة مسجد، أو بناء حصن أو مستشفى، فإنه إنما يعمل صالحاً، ويدعو إلى معروف، وله في رسول الله أسوة حسنة؛ إذ صلى في يوم عيد، ثم جاء إلى النساء ومعه بلال ناشراً ثوبه، فوعظهن، وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تلقي قرطها. يخلد بعض الشبان وغير الشبان إلى البطالة على أمنية أن يتزوج بامرأة ذات ثروة، والمروءة تأبى للرجل -متى كان منفوض الكيس، أو قليل ما فيه- أن يجعل همَّه البحث عن امرأة موسرة؛ ليعيش بما تجود به عليه من مالها، ومن يرضى لنفسه هذا، فقد رضي أن تكون يده السفلى، ويد زوجته هي العليا.

في الموسرات مهذبات يتزوجن بمن يكافئهن في يسارهن، ويستطيع أن ينفق عليهن بالمعروف، فيصلح لهن، ويصلحن له، أما الفقير الذي لا يجد ما ينفقه ليتزوج بذات عمارات أو مزارع، فالشأن أن لا تكون صلة المعاشرة بينهما في صفاء، إلا أن يتنازل عن جانب كبير من إرادته أو رجولته. والتوكل على الله خصلةٌ من خصال التقوى، وهو اعتماد القلب على الله وحده مع تعاطي الأسباب، وانظروا كيف أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالتوكل عند العزم على القتال، فقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]. ومن قبض يده عن تعاطي أسباب المعيشة بدعوى أنه من أصحاب التوكل، فقد ذهب في فهم التوكل مذهباً غير المذهب الذي جعله الله من خصال الإيمان وتقوى القلوب. روي أن عمر بن الخطاب لقي ناساً من اليمين، فقال: ما أنتم؟ قالوا: متوكلون، فقال: ما أنتم متوكلون، إنما المتوكل: رجل ألقى حَبَّة في الأرض، وتوكل على الله. والزهد أثر من آثار طهارة النفس؛ إذ هو نقاء النفس من حب المال، ونعيمِ الحياة حباً يدفع صاحبه إلى كسب المال، ولو من طرق غير مشروعة، ومن أعرض عن تعاطي أسباب الرزق بزعم أنه ارتقى إلى مقامات الزاهدين، فقد خادعته نفسه، أو سولت له أن يخادع غيره، وإنما الزهد: التعففُ عما في أيدي الناس، والتماسُ الرزق من طريق الحلال، وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القدوة في الزهد، وما من أحد منهم إلا كان له عمل يرتزق منه.

نعظ الفقير القادر على الكسب، وننكر عليه إخلاده إلى البطالة، وليس معنى هذا أن يصرف النظر عنه، ويحرم من الإعانة في كل حال، بل له حق في أن يعجل له بإسعاف وقتي؛ كأن يسعى له في عمل يستدر به قوته، أو يقرضه من يثق بذمته، أو يمنحه من يهمه أمره مالاً على أن يستعمله في نحو تجارة أو صناعة، ويتخلص به من معرة البطالة. أما الفقير العاجز عن الكسب، فمعالجة حالته من ناحية الفقير نفسه أولاً، ومن ناحية ذوي الإحسان ثانياً. معالجتها من ناحية الفقير: باحتفاظه على آداب هي: أن يقنع بما يصله من المحسنين متى سد حاجته، ولا يتطوح به الطمع إلى أن يجعل من احتياجه مورداً لرزق واسع، ومن هذه الآداب: أن يتورع بالصبر ما استطاع، ولا يبادر إلى السؤال يلوكه بين يدي كل من يلاقيه. قال - عليه الصلاة والسلام -: "ليس المسكين هذا الطواف الذي يطوف على الناس، فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان"، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن الناس له، فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس". وقال تعالى في فقراء متعففين: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]. إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنياً وهو مجهود ومن المحتاجين من يسلكون في إظهار احتياجهم طريقة التعريض؛ لأنه أبقى لماء الحياء في وجوههم، وربما كان التعريض أدعى لعاطفة

السخاء من التصريح والإلحاح. وقفت إمرأة على باب قيس بن سعيد، وقالت له: أشكو إليك قلة الفأر في بيتي، فقال: ما أحسنَ ما وَرَّت عن حاجتها، املؤوا بيتها خبزاً وسمناً ولحماً. وأما معالجة حالة الفقير العاجز عن الكسب من ناحية الموسرين، فباحتفاظ هؤلاء بآداب هي التي تجعل أيديهم العليا خيراً من الأيدي التي تناولت منهم العطاء. ومن هذه الآداب: أن يبادروا إلى إغاثة الفقير ساعة يشعرون بحاجته، ولا يدعونه إلى أن يتجرع غصة السؤال بتصريح أو تعريض. زار رجل من أشراف أهل المدينة عمرو بن سعيد بن العاص، فإذا كمُّ قميص هذا الرجل قد ظهر من تحت جبته وبه خروق، فلما انصرف، أرسل إليه عمرو بن سعيد بضعة آلاف من الدراهم، وعشرات من الثياب، فأثنى الرجل على عمرو بأبيات يقول فيها: رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلَّتِ والمحسن بحق يجتهد في أن يواصل المحتاجين وهو يخفي نفسه؛ حتى لا يعلموا من أين جاءتهم الصلة. "كان أناس من المدينة يعيشون، ولا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات زين العابدين علي بن الحسين - رضي الله عنه -، فقدوا ما كانوا يؤتون به من الليل، فعلموا أنه هو الذي كان يواصلهم بذلك الإحسان". والمحسن بحق يبذل المعونة للفقير، وينسى أو يتناسى ما بذل، حتى لا يجري على لسانه وتعلمه نفس غير نفسه، وإلى هذا الأدب السامي يشير

قوله - صلى الله عليه وسلم - وهو بعد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "ورجل تصدق بصدقه، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". أفرِّق بين معروفي ومَنِّي ... وأجمع بين مالي والحقوق سادتي! رأينا كيف كانت البطالة جالبة للفقر، والفقر يلقي بالأفراد في هموم ومهانة، وإذا انتشر الفقر في أمة، ضاعت آمالها، وازدرتها أعين خصومها، فلو تعاون دعاة الإصلاح وأولو الأمر على مكافحة البطالة، وتعاونوا على غرس الهمم الشريفة في النفوس؛ حتى يقبل المستطيعون على العمل لأنفسهم، وتعاونوا على تربية عواطف الإحسان في القلوب؛ حتى يتسابق الموسرون إلى الإنفاق في إعانة العاجزين، وإغاثة الملهوفين، لو قام دعاة الإصلاح وأولو الأمر بهذا السعي المحمود خير قيام، لكثرت نهينا الأيدي العليا، وقلت الأيدي السفلى، واستقر الأمن على الأساس من الخلق العظيم، فإذا نحن في مقدمة الأمم قوةً وعزماً، وجمال مظهر، ونقاء سيرة. والسلام عليكم ورحمة الله.

خير نظام للحكم

خير نظام للحكم (¬1) تحدث فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين حديثاً قيماً عن خير نظام للحكم، مذكراً بعدالة حكم الإسلام، وضارباً المثل على أنه دين إنساني خالص، ونظام كفل المساواة التامة بين جميع الأفراد في الحقوق والواجبات: تجتاز مصر في أيامنا التاريخية الحاضرة أعظم انقلاب اجتماعي مر بها منذ قرون؛ لأنه الانقلاب الوحيد الذي ينشد لمصر النظام؛ لتتمكن من الاستقرار عليه، والاستمرار فيه إلى الأبد. ومما يلاحظ في هذا الموقف: أن التطورات الماضية لم تكن نتيجة طبيعية للوعي القومي، ولذلك كان الوطن يفاجأ بها مفاجأة، وكان نظام الحكم الذي يترتب على تلك المفاجآت يفرض على البلاد فرضاً، أما من استعمار قاهر، أو من مستبد متغلب. ولذلك قلما كان يلاحظ فيه حاجة الأمة واقتناعها، والأساليب التي ترتاح إليها، وتعتبرها منتزعة من روحها وذوقها، ومن المبادئ التي آمنت بها، ونشأت عليها، وترجع بذكرياتها وتقاليدها إلى ما حفظه التاريخ من مفاخرها وأمجادها، لذلك كان نظام الحكم في مصر في العصور الأخيرة بعيداً عن أمنية الاستقرار، وكان مؤيداً بالقوة القائمة عليه، لا بالاقتناع به، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء العاشر من المجلد الثالث والعشرين.

والطمأنينة له، والإيمان بصلاحه. والآن، وقد عزمت مصر على أن تختار نظامها بمحض إرادتها، فمن سعادتها أن يكون نظامها المرتجى منتزعاً من مثلها العليا التي تؤمن بها، وترتاح إليها، بوازع من النفس، وإيمان من القلب، لا بوازع من سلطان القوة الصماء، ونصوص القانون الذي كثيراً ما شكا أقطابه مواطن الضعف فيه. ولقد أخذ كل عالم بمزايا نظام من الأنظمة الأجنبية يعرض على الرأي العام مزايا ذلك النظام، محاولاً إقناع الأمة بالأخذ به. إن هذه الأنظمة -مع كثيرة عيوبها، وما يحف بها من مواطن الضعف- لا يتعاملون بها مع كل من يتعامل معهم من الشعوب القوية والضعيفة، والمشاهد من حالهم: أنهم مع الشعوب القوية في عداء متواصل، ومع الشعوب الضعيفة في بغي مخجل، وما هكذا يكون أصحاب المبادئ الإنسانية السليمة، والنظم البريئة التي يراد منها سعادة المجتمع في عصر يفتخر بحضارته وعلومه، فالوصف النظري الذي نسمعه من فصحائنا وخطبائنا لبعض تلك النظم الأجنبية عنا، لا نرى آثاره في البلاد التي اخترعته، وعملت به، وقلبت جميع الأوجه في تعديله وترقيعه وتحويره لينتج لها السعادة، فكان أملها منه في السعادة كأمل الظمآن بالسراب، فكيف بنا ونحن الأجانب عن تلك النظم المخترعة لغيرنا؟! ولو حاولنا استعارتها، لكانت لنا كما تكون اللبسة التي تستعار للممثلين. إن الدعاة لتلك الأنظمة قرروا في مؤلفاتهم، وأعلنوا في صحفهم: أنها كل لا يتجزأ، وهم يدعون هذه الأمة إلى أن تأخذ بهذا الكل الذي لا يتجزأ، شاءت أو أبت، والأمة لها نظام فطري نظيف ينظر إلى الحق من حيث هو حق، وإلى الخير من حيث هو خير، وتدين الله بقول خاتم رسله: "أيها الناس!

إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها"، وقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في رسالته المشهورة إلى أبي موسى الأشعري واليه على البصرة: "آسِ بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييئس ضعيف من عدلك". هذا النظام الفطري الذي يقيم الحدود على الكبير والصغير سواء، لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى، وحثَّ على استعمال الأصلح، واختيار الأمثل فالأمثل للولايات العامة والوظائف، وأوجبَ على ولي الأمر أن يقلد أعمال المسلمين لمن يجده صالحاً منهم؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. "من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين". وقد جاء كذلك عن عمر بن الخطاب: أنه قال: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين". ومعنى هذا: أن النظام الذي يكفل المساواة بين جميع الأفراد في الحقوق والواجبات، ويجعل من الواجب على كل من ولي شيئاً من أمر المسلمين أن يوجه في موضع، وفي كل عمل من الأعمال أصلحَ من يقوم به، ويؤديه الأداء الصحيح، فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره بسبب قرابة، أو صداقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو لضغينة في قلبه على الأحق، أو لعداوة بينهما، فقد

خان الله ورسوله والمؤمنين ... وهو النظام الذي يشعر الحاكم والمحكوم بأنهما سواء، وهذا أبو عبيدة الجراح يضرب لنا أروع الأمثال في هذا الباب، فقد فتح بلد حمص، فجاؤوا له بطعام فاخر صنع خصيصاً، فما كان منه إلا أن سأل: أهذا الطعام قد أطعم منه الجيش؟ فقالوا: كلا، وإنما هو لك. فقال: ردوه ... فإني لا آكل طعاماً لم يأكل الجيش منه!!. وقد جاء في الآثار: أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك، فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أفغرت أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم، وكان في مرض موته، فقال: يابني ... والله! ما منعتكم حقاً هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح، فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح، فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني ... هذه هي الأمثال التي تضرب في معنى العدالة في ولاية أمور الناس، وكلها تجمع على أن الإسلام دين إنساني محض، وهو نظامنا الذي نؤمن به؛ خلافاً للأنظمة الأجنبية عنا، وإن العمل به ليحول هذه الأمة إلى كتلة فولاذية مؤمنة بنظامها كإيمانها بكعبتها وقرآنها، والأمر أعظم وأخطر من أن ترتجل فيه الخطط والنظم. ونحن لا ندعو الأمة وأهل الحل والعقد فيها إلا إلى التروي والتفكير والدرس والمقارنة، مع العلم بأن مصر لا تعلم منذ عشرة آلاف سنة إلى الآن حكماً أعدل ولا أرأف ولا أسعد من الحكم الذي بسط جناح رحمته عليها

في المئة السنة الأولى من الفتح الإسلامي، ودليل عدله ورأفته وسعادته: أن مصر باختيار منها تحولت إليه بأرواحها وقلويها وألسنتها، فكانت الدرة المتألقة في تاج الوطن العربي والإسلامي، ويرجو لها كل محب لها أن تبقى كذلك إن شاء الله إلى ما شاء الله.

سعيد بن جبير والحجاج

سعيد بن جُبير والحجَّاج (¬1) سعيد بن جبير من أفاضل التابعين العالمين بتفسير كتاب الله، وسنة الرسول الأكرم - صلوات الله عليه - المعروفين بالتقوى والورع، ومواجهة الظالمين بقول الحق. وكان سعيد بن جبير مع عبد الرحمن بن الأشعث أيام خروجه على عبد الملك بن مروان، ولما قتل ابن الأشعث، وتفرق عنه أصحابه، التحق سعيد بمكة، وكان واليها خالد بن عبد الله القسري، فبعث به إلى الحجاج ابن يوسف، ولما دخل سعيد على الحجاج، جرت بينهما المحاورة الآتية: الحجاج: ما اسمك؟ سعيد: سعيد بن جبير. الحجاج: بل أنت شقي بن كسير. سعيد: بل كانت أمي أعلم باسمي منك. الحجاج: شقيت أمك، وشقيت أنت! سعيد: الغيب يعلمه غيرك. الحجاج: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظَّى. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد الرابع عشر.

سعيد: لو علمت أن ذلك بيدك، لاتخذتك إلهاً. الحجاج: فما قولك في محمد؟ سعيد: نبي الرحمة، وإمام الهدى. الحجاج: فما قولك في علي: أهو في الجنة، أو هو في النار؟ سعيد: لو دخلتها وعرفت من فيها، عرفت أهلها. الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟ سعيد: لست عليهم بوكيل. الحجاج: فأيهم أعجب إليك؟ سعيد: أرضاهم لخالقي. الحجاج: فأيهم أرضاهم للخالق؟ سعيد: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم. الحجاج: أحب أن تصدقني. سعيد: إن لم أحبك لا أكذبك. الحجاج: فما بالك لم تضحك؟ سعيد: وكيف يضحك مخلوق خلق من طين، والطين تأكله النار! الحجاج: فما بالنا نضحك؟ سعيد: لم تستو القلوب. الحجاج: ويلك يا سعيد! سعيد: لا ويل لمن زحزح عن النار وأُدخل الجنة. الحجاج: اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك؟

سعيد: اختر لنفسك يا حجاج، فو الله! لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة! الحجاج: أفتريد أن أعفو عنك؟ سعيد: إن كان العفو، فمن الله، وأما أنت، فلا براءة لك ولا عذر. الحجاج: اذهبوا هنا قتلوه. "أعوان الحجاج يأخذون سعيداً ليقتل بالسيف". "سعيد يخرج وهو يضحك". الحجاج: ردوه، وقال لسعيد: ما أضحكك؟ سعيد: عجبت من جرأتك على الله، وحلم الله عليك. "الحجاج يأمر ببسط النطع"، وقال: اقتلوه. سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين. الحجاج: وجهوا به لغير القبلة. سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله. الحجاج: كبوه على وجهه. سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى. الحجاج: اذبحوه. سعيد: أما إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني يوم القيامة. سعيد: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي!

"سعيد يقتل في شعبان سنة خمس وتسعين للهجرة بواسط". "الحجاج بموت بعده في شهر رمضان من تلك السنة". مأخذ العبرة من تلك القصة: إن المتضلع من حقائق الدين الحنيف، المستنير بعقائده، الراسخ في آدابه، لا يكبر في عينه أهل الدنيا، وإن بلغوا أعظم رياسة، ولا يروعه ما يحيط بهم من سيوف وأسنة، وإن كانوا يغمسون أيديهم في دماء الأبرياء إلى ما فوق المرافق، وكان من الميسور لسعيد أن يقول بين يدي الحجاج كلمات يستدر بها عفوه، ولكن النفس التي امتلأت بهدى الله، وأشربت حكمة القرآن المجيد، تأبى أن تطلب الحياة من طريق الذلة والخضوع لمن تدنست سمعته بارتكاب البغي والفساد في الأرض، وإذا رغبت في الحياة، فإنما ترغب فيها للازدياد من العمل الصالح، والكلم الطيب، وهل يرجى عمل صالح أو كلم طيب لنفس تقع في الملق، وتستجدي رضا المجرمين بإطرائهم، أو الانحطاط في أهوائهم؟!

استعمال الألفاظ في غير مواضعهما ومضاره الاجتماعية

استعمال الألفاظ في غير مواضعهما ومضاره الاجتماعية (¬1) وضعت الألفاظ ليعبر بها عما يجول في الضمائر من المعاني التي يراد نقلها إلى أذهان أناس آخرين، وقد تقصَّت المعاجم الألفاظ المفردة، وعينت لكل لفظ معناه اللائق به، ووضع النحاة وعلماء البيان قوانين يعرف بها كيف تؤلف هذه الألفاظ المفردة حتى تصير جملاً تؤدي صور المعاني القائمة في النفوس كما هي. فمن استعمل مفرداً في غير معناه المعروف في معاجم اللغة، أو مقاييسها، فقد ارتكب خطأٌ، وقد ينبني على هذا الخطأ خلل في تصوير المعنى الذي صيغ الكلام من أجله، وربما كان لهذا الخطأ ضرر على الأخلاق ونظام الاجتماع. ونضرب لهذا أمثلة تدلك على شيء من المضار الناشئة من استعمال الألفاظ في غير مواضعها. يجري في المديح لفظ: العزة والتواضع، وفي الذم: لفظ الكبير والذلة. والعزة: صون النفس عن مواضع الإهانة. والذلة: الانحطاط إلى هذه المواضع القذرة. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثامن عشر.

والكبر: التعاظم في مقام يقتضي حسن اللقاء وخفض الجناح. والتواضع: طهارة النفس من ذلك التعاظم الممقوت. ولا تتشابه معاني هذه الألفاظ في نظر من يميز المعاني بحدودها، ويضع كل لفظ في موضعه اللائق به، ولكنك تجد في الناس من يتعاظم، ويسمي تعاظمه عزة، أو يهوي إلى الأقدام ذلة، ويسمي تذلُّلَه تواضعاً، أو يرى في غيره عزة، فيسميها كبراً، أو يرى فيه تواضعاً، فيسميه ذلة، وإلى هؤلاء يشير الشاعر بقوله: وفي الناس من عدَّ التواضع ذلة ... وعدَّ اعتزاز النفس من جهله كبرا وقد اشتكى بعض العظماء من أناس سموا اعتزازه انقباضاً، ونبههم لخطئهم في استعمال كلمة الانقباض، فقال: يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذلِّ أحجما ويقال في المديح: فلان سليم القلب؛ أي: إن نفسه لا تنطوي على سوء، ولا تنزع إلى شر، ويقال في الذم: فلان خَبّ، والخَبُّ: الخدَّاع الذي يسعى بين الناس بالفساد، وقد جرى في أوهام بعض الناس أن سلامة القلب تقرن بالغباوة، وعدم التنبه للوجوه التي يأتي منها الشر، وأن الخَبَّ يقارنه الذكاء والنباهة، وجرَّهم هذا الوهم إلى أن يطلقوا على الشخص كلمة: "طيب"، أو "مبارك" على معنى: أنه ينخدع، ويقع في الشر من حيث لا يشعر، وأراد أحد الحكماء الأذكياء أن يدفع هذا الخطأ، فقال: "لست بخَبّ، والخَبُّ لا يخدعني". ومن الظاهر أن ذلك الوهم نشأ من الذهول عن أن العلم بوجوه الشر يشع الألمعية، وكثيراً ما يجمع الرجل بين الألمعية وسلامة القلب، قال

عمر بن الخطاب: من لا يعرف الشر يوشك أن يقع فيه. ويجري في صفات المديح لفظ: المداراة، وفي صفات الذم لفظ: المداهنة، والمداراة: أن تلقى من تخشى شره بتبسم، أو تخصه بإكرام، أو تترك محاورته في أمر يبطش بمن يحاوره فيه، أو تذكر ما عرفته من محاسنه، وتسكت عن مساويه، أما المداهنة، فهي أن تصفه بالعلم وهو جاهل، أو بالشجاعة وهو جبان، أو بالعدل وهو ظالم، أو يبدي رأياً خطأ، فتقول له: أصبت الحق. وقد يخطئ بعض الناس، فيحسب البشاشة في وجه المطبوع على الإساءة اتقاء لإساءته مداهنة، ويحسب آخرون أن التبسط في إطراء من يتقى شره مداراة، في حين أن علم الأخلاق يسمي الذي يجري على لسانه مديح الأشرار: منافقاً، ومداهناً. ويسمى أناس الإحجام حيث يجب الإقدام: حزماً، وإلى هؤلاء يشير المتنبي بقوله: يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم ويسمي أناس بسط اليد بالمال في وجوه البر: إسرافًا، وقال بعض هؤلاء لمن أنفق في سبيل الخير مالاً كثيراً: لا خير في الإسراف، فقال: "لا سرف في الخير". ويسمي أناس الأناة: إبطاء، وللأناة مقام غير مقام الإبطاء، قال شاعر الحماسة: منا الأناة وبعض القوم يحسبنا ... أنا بِطاءٌ وفي إبطائنا سرع ويسمي أناس إطلاق اللسان أو القلم بهجاء الأشخاص، أو بالنقد

المحشو بالسباب: حرية، وإنما الحرية في إبداء الآراء أو نقدها بأسلوب تأذن فيه الفضيلة، ولا تنكره آداب البحث. وقد يطلق الناس اسم المباح على المحظور؛ ليتناولوه، أو ليدعوا إليه في غير تحرج، وإلى هذا يشير النبي الأكرم - صلوات الله عليه - بقوله: "يشرب الخمر ناس من أمتي يسمونها بغير اسمها" (¬1). وقد تنبه لخطر تحريف الألفاظ عن مواضعها (كونفشيوس) زعيم المذهب الذائع في الصين "الكونفشيوسية"، وجعل من أسس مذهبه في الإصلاح الرجوع بالألفاظ إلى موضوعاتها الصحيحة، وقال: إذا لم تكن الأسماء صحيحة، لم يطابق الكلام حقائق الأشياء، وإذا لم يكن مطابقاً للحقائق، وقع الخلط في اللغة، واضطربت الأفكار، ولم تقع العقوبات على من يستحقها، فتتعطل الأعمال المدنية. وليس من شك في أن استعمال الألفاظ في غير مواضعها وسيلة من وسائل اختلال الشؤون الاجتماعية، وأنه من واجب المصلحين تنبيه الناس لهذه الناحية من الفساد، وأن يتداركوا إصلاحها بعناية وحكمة. ¬

_ (¬1) رواه الإمام النسائي في "سننه".

فضل شهر رمضان

فضل شهر رمضان (¬1) الأزمنة في أنفسها متماثلة، وتفاضلُها بما يظهر فيها من هداية وخير، وإلى هذا المعنى يشير الشاعر إذ يقول: وما فاقت الأيام أخرى بنفسها ... ولكن أيام الملاح ملاح وإذا نظرنا إلى شهر رمضان من هذا الوجه، وجدنا له مزايا تكسبه حرمة، وتجعل إقبال الناس فيه على الأعمال الفاضلة عظيماً. فكان هذا الشهر مظهر الكتاب الذي هو منار الهداية، ومطلع السعادة؛ كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. وإن شهراً ينزل فيه كتاب يملأ العقول حكمة، والقلوب طهارة، لذو طلعة مباركة، ومقدم كريم. ومن مزايا هذا الشهر: أنه الشهر الذي فتحت فيه مكة المكرمة، ذلك الفتح الذي علت به كلمة الإِسلام في البلاد العربية، وعلى أساسه قامت الفتوحات الإِسلامية في الشرق والغرب. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" الجزء الرابع من المجلد الخامس.

فقد جمع هذا الشهر بين مزيتين عظيمتين: أولاهما: أنه الزمن الذي أنزل فيه القرآن إلى سماء الدنيا جملة، أو ابتدئ فيه نزوله إلى الناس، ثم تواردت آياته على حسب ما تقتضيه الحكمة. ثانيتهما: أنه كان مظهر الفتح الذي استوثقت به عرا دولة الإِسلام التي مدت سلطانها العادل، وساست الأمم بشريعة تلائم مصلحة كل زمان ومكان. واقتضت حكمة الله تعالى أن يكون للناس من بين سائر الشهور شهر يقضون بياض نهاره في عبادة الصوم، واختار أن يكون شهر رمضان هو الشهر الذي تؤدى فيه هذه العبادات ذات الحكمة السامية، والثواب الجزيل. ولعظم ما يترتب على الصيام من إصلاح النفوس، وتهذيب الأخلاق، جُعلت فريضته في القواعد التي يقوم عليها الإِسلام، والدليل على أن القصد من الصيام: الإصلاح والتهذيب، لا تعذيب النفوس بنحو الجوع والعطش: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" (¬1). وليس معنى هذا الحديث: أن من يقول زوراً، ويعمل به، ليس له من صيام، وإنما القصد منه: التنبيه على أن الصيام لا يتقبله الله تعالى بقبول حسن إلا إذا اجتنب صاحبه قول الزور والعمل به. ولرفعه منزلة الصيام، وعظم آثاره في إصلاح النفوس وتقريبها من مقام الخالق تعالى، أخذ في نظر الشارع عناية خاصة، فجاء في الحديث ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري".

القدسي: أن الصوم لله، وأنه يتولى جزاءه بنفسه، ففي "الموطأ"، وغيره: "كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مئة ضعف، إلا الصيام، فهو لي، وأنا أجزي به". أضاف الله تعالى صيام العبد إلى نفسه؛ لأن سائر الأعمال تظهر على صاحبها، وقد يدخلها شيء من الرياء، والصوم لا يظهر على صاحبه، فيقع لله خالصاً، وأخبر في الحديث: أن الله تعالى يتولى جزاءه بنفسه؛ إيماء إلى عظم ثوابه؛ فإن أكرم الأكرمين لا يقابل العمل الصالح إلا بالجزاء الأوفى، وأكد ذلك بأن جزاء الصوم فوق الجزاء المضعّف إلى سبع مئة ضعف. أمر الشارع بالإنفاق في وجوه البر، وورد في السنّة ما يدل على أن للإنفاق في هذا الشهر فضلاً على الإنفاق في بقية الشهور، يظهر هذا من حديث ابن عباس، قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان"، وفضيلة التأسّي به - عليه الصلاة والسلام - تدعو إلى بسط اليد بالمعروف في هذا الشهر أكثر من بسطها فيما عداه من الشهور؛ حتى يجد الفقراء من إحسان الأسخياء راحة بال، فيقبلوا على الصيام والقيام بنشاط. أمر الشارع بتلاوة القرآن تمكيناً لحجته، واستضاءة بنور حكمته، وجاء في السنّة ما يرشد إلى الاستكثار من تلاوته، يظهر هذا من حديث ابن عباس في لقيّ جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي هذا الحديث: "وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن" (¬1)، والدراسة: القراءة، وما زال أولو الألباب من الناس يجعلون لشهر رمضان نصيباً من تلاوة القرآن أكثر من ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري".

نصيب كل شهر. والتهجد في جزء من الليل قربة يبعث عند الله مقاماً محموداً، ونبّهت السنّة على أن من جزاء القيام في ليالي رمضان غفراناً يمحو الذنوب السالفة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدم من ذنبه"، وظاهر الحديث: أن هذا الغفران المترتب على قيام رمضان، يأتي على ذنوب السالفة جميعاً فيسقطها، ولكن أهل العلم قصروه على صغائر الذنوب دون كبائرها، ورأوا أن فضل العمل الصالح لا يبلغ أن يسقط الكبائر من المعاصي، وصاحبها لم يتب عنها، أو لم تقم عليه العقوبة المقررة على من يرتكبها. يقولون هذا، وهم يسلّمون أن لمشيئة الله تعالى سلطاناً قد يفعل في كبائر الذنوب ما تفعله التوبة الخالصة أو إقامة الحدود. ومما استندوا إليه في تقييد المغفرة في هذا الحديث بصغائر الذنوب: أحاديث وردت في فضل أعمال أخرى، وقيدت فيها بمغفرة الذنوب باجتناب كبائرها. وكان - صلى الله عليه وسلم - يتهجد في ليالي السنّة بأسرها، وورد في الصحيح: أنه خرج في إحدى ليالي رمضان من جوف الليل، فصلّى في المسجد، وصلّى رجال بصلاته، جرى هذا ثلاث ليال، ولم يخرج في الليلة الرابعة، وقد ضاق المسجد على الحاضرين حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر، أقبل على الناس، ثم قال: "أما بعد: فإنه لم يخفَ عليّ مكانكم، ولكني خشيت أن تفترض عليكم، فتعجزوا عنها" (¬1). ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري".

والخوف من افتراض هذه الصلاة قد يكون من جهة أن الله تعالى جعلها في حقهم من الأمور المندوب إليها، ولم يأمرهم بفعلها في جماعة على نحو الصلوات المفروضة، رفقاً بهم، فإذا تظاهروا بالقوة عليها، وساروا بها سيرة ما افترضه الله عليهم من الصلوات، كانوا قد شددوا على أنفسهم في أمر جعل الله لهم فيه يسراً. فمن المحتمل أن يكون ما أخذوا به أنفسهم من الشدة سبباً لأن ينزل الوحي بفرض هذه الصلاة؛ ابتلاء لهم حتى يظهر عجزهم عن إقامتها، ويدركوا العسر الذي راعاه الشارع في عدم إيجابها، والتأكيد في الاجتماع لها، ومتى كان القصد من فرضها تنبيههم لوجه الرفق بهم في عدم فرضها أولاً، لم يلزم استمرار هذا الفرض حتى يقال: كيف يأمر الشارع الناس بما يعجزون عن المداومة عليه؟ وقد رأينا الشارع يسن أحكاماً لمقاصد سامية، حتى إذا أحس الناس بما فيها من عسر، عاد إلى ما يقتضيه أصل التشريع من الرفق والتيسير، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قصد بعدم خروجه لصلاة التراويح في المسجد قطع أمر من المحتمل أن يكون وسيلة لتكليف يثقل عليهم القيام به، ويظهر عجزهم عنه. وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن الناس يجتمعون في صلاة القيام برمضان على إمام واحد، وبقوا على هذا الحال إلى عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فأقام أُبيَّ بن كعب إماماً لهذه الصلاة، وجمع الناس على الائتمام به. قال عبد الرحمن القاري: "خرجت مع عمر بن خطاب - رضي الله عنه - ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه،

ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد، لكان أمثل، ثم عزم فجعلهم على أُبيّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم. قال عمر: نعم البدعة هذه" (¬1). فالذي فعله عمر بن الخطاب إنما هو جمعُ الناس على إمام واحد بعد أن كانوا يصلونها فرادى وجماعات في المسجد متفرقة، فعل هذا؛ لأن الأمر الذي ترك من أجله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إقامتها في المسجد في جماعة، وهو خوف الافتراض، قد انقطع بالوحي، فعمر بن الخطاب استند فيما فعل إلى عمل النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع تحقيق النظر في الوجه الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تركها من أجله، وأراد بالبدعة: هيئة اجتماع الناس على إمام واحد، وسماها بدعة؛ تشبيهاً لها بعد أن تركت سنين، بما أحدث على غير مثال سابق. وتفضل الله تعالى بليلة جعل العمل فيها خيراً من العمل في ألف شهر، وهي ليلة القدر. وجمهور أهل العلم على أنها تكون في رمضان؛ أخذاً بظاهر أحاديث أرشدت إلى التماسها في هذا الشهر. ومن ذهب من السلف إلى أنها تكون في ليلة من السنّة غير مقيدة بشهر، حمل تلك الأحاديث على التماس ليلة القدر في رمضان في تلك السنة خاصة. وهذه الأعمال الصالحات التي جعلها الشارع عمارة شهر رمضان؛ من نحو: الصيام، والقيام، وتلاوة القرآن، وبسط اليد بالمعروف، شأنها أن تهذب النفوس، وتحبب إليها التقوى، وتعودها على السماحة واحتمال ¬

_ (¬1) "صحيح الإمام البخاري".

المكاره، وتهيئها للثبات والمواظبة على صالح الأعمال في سائر أيام السنة. فمن اتقى في شهر رمضان بعض المحارم، ورأيته يصوم مع الصائمين، ويصلي مع المصلين، حتى إذا انقضى هذا الشهر، جعل يتباطأ عن أداء الواجبات، ويبادر إلى ما كان يتقيه من المحرمات، فذلك الذي أقام أعماله على غير إخلاص، ولم يخالط قلبه بشاشة الاستقامة على ما أمر الله. تكثر الطاعات في رمضان، فيكثر الثواب، وتقل فيه المعاصي، فيقل العقاب، وإلى هذا يشير قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء رمضان، فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين"، ففتح أبواب الجنة إشارة بطرق المجاز إلى كثرة الثواب، أو إلى ما يفتحه الله للناس في هذا الشهر من الطاعات؛ كما أن تغليق أبواب النار، وتصفيد الشياطين إشارة إلى قلة المخالفات وإغواء الشياطين، أو إلى ما يترتب عليها من قلة العقوبات (¬1). فُضِّل شهر رمضان بما وصفناه من المزايا، فاستحق اليوم الذي يلي آخر يوم منه أن يتخذ عيداً؛ لأنه يوم تمتلئ فيه قلوب الناس ابتهاجاً بما عملوا في هذا الشهر من خير، وأي نعمة يصيبها الإنسان في هذه الحياة تساوي نعمة أداء ركن من أركان الإِسلام، محفوفاً بضروب من أجل الطاعات، وأشرف الآداب؟! وأي ارتياح يساوي في نظر أولي الألباب ارتياح النفس عندما تشعر بأنها اتقت الله ما استطاعت؟! وإنما ارتياحها لما ترجوه من رضا الخالق، وما يتبعه من عزة في الدنيا، وسعادة في الأخرى. ¬

_ (¬1) هذا وجه في شرح الحديث أورده أهل العلم، وهم لا يرون مانعاً من حمل فتح أبواب الجنة، وتغليق أبواب النار، وتصفيد الشياطين على حقيقتها.

بحث موجز في أشهر الفرق الإسلامية

بحث موجز في أشهر الفرق الإِسلامية (¬1) * وحدة العقيدة في الصدر الأول: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى العقائد الصحيحة، وما زال الوحي ينزل حتى أتى على أصول ما يحتاج إليه في سلامة العقيدة، وطهارة النفس من الشرك، وكان المسلمون في عهد الوحي على طريقة واحدة في عقائدهم، وليس من المحتمل أن يجري بينهم خلاف في شيء من ذلك، ورسول الله - صلوات الله عليه - بين ظهرانيهم؛ وهو الذي يُسأل فيرشد، أو يقول فيكون قوله الفصل. واستمر المسلمون على هذه الطريقة المثلى في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، وما جرى بينهم من الاختلاف في ذلك العهد لم يتجاوز الاختلاف في أحكام عملية؛ كاختلافهم في محل دفنه - عليه الصلاة والسلام -، وثبوت الإرث منه، وقتال مانعي الزكاة، وأكثر هذا النحو من الاختلاف لا يلبث أن يتبين فيه وجه الحق، فيصير إلى وفاق. * انقسام المسلمين إلى فرق مختلفة: أخبر النبي - صلوات الله عليه - أن أمته ستفترق على بضع وسبعين فرقة، وأن فرقة من تلك الفرق ناجية، ووصف الفرقة الناجية بأنها الفرقة ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الرابع من المجلد العاشر.

التي تتمسك بما كان عليه هو وأصحابه، ففي "سنن أبي داود" من رواية أبي هريرة: "افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"، وفيها من رواية معاوية: ألا أن رسول الله قام فينا فقال: "إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة: اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة". وروى الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو: "إن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي ثلاثاً وسبعين ملة، كلهم في النار إلا واحدم"، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على ما أنا عليه وأصحابي". ورواه ابن ماجه من طريق حذيفة بن اليمان، ومن طريق أنس ابن مالك. والمراد من الأمة: من يصدق عليهم اسم الإِسلام، بدليل الإضافة في قوله: "أمتي"؛ فإن إضافة الأمة إلى الرسول ظاهرة فيمن كان لهم اتصال به في الواقع، وهم الذين يتبعونه، ولو في أصل الإيمان، والفرقة الخارجة من الدين ليست من هذا القبيل، فتكون الفرق المشار إليها في الحديث من انحرفوا عن السبيل، ولم ينكثوا أيديهم من أصل الدين. وحمل بعضهم الأمة على ما يشمل الفرق التي خرجت ببدعتها عن حوزة الدين، والتحقت بفرق الكافرين، والوعيد بالنار في الحديث مطلق، فيكون للفرق المنفصلة عن الدين عذاباً خالداً، وللفرق التي انحرفت ببدعتها انحرافاً لا يقطعها عن أصل الدين، عقاباً يتفاوتون فيه درجات، ثم

عوامل هذا الانقسام

يصيرون إلى دار السلام. والافتراض المشار إليه في الحديث يجري في العقائد، والأمر فيه واضح. أما الافتراق في أعمال تفعل على أنه شرع، فإن كان عن اجتهاد معتد به، فليس بموضع للذم والوعيد؛ لأن هذا الاجتهاد مأذون فيه شرعاً، وإن كانت المخالفة عن رأي فاسد، أو هوى غالب، وبلغت هذه الأعمال المبتدعة أن صارت شعار فرقة من الأمة، فالحديث يتناولها بوعيده؛ كما تناولها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار". * عوامل هذا الانقسام: نبحث عن عوامل انقسام المسلمين إلى فرق، فتبدو لنا وجوه كثيرة: أحدها: الخطأ في فهم بعض الآيات أو الأحاديث، ويرجع إلى هذا القبيل التمسك ببعض المتشابه من النصوص، وردّ المحكم إليه بطريق التأويل (¬1). ثانيها: اعتداد الشخص برأي يسبق إلى ذهنه، أو يتلقاه من غيره، فيعتقد أنه أصل صحيح، حتى إذا وجده مخالفاً لنصوص القرآن أو السنة، أخذ في تأويلها بما يوافق رأيه، ولو على وجوه بعيدة. ثالثها: تشبث الشخص بحديث ينقل إليه، فيحسن الظن بروايته، ويكون الحديث مصنوعاً. ¬

_ (¬1) المحكم: الأصل المعروف في معظم الشريعة، والواضح المعنى الذي لا يحوم عليه اشتباه. والمتشابه: ما يجيء في بعض المواضع، ويكون بظاهره مخالفاً لذلك الأصل الواضح، ويجري في الإلهيات وغيرها.

الفرق الإسلامية

رابعها: أن يقع في نفس الرجل خواطر، فيظنها إلهاماً خصه الله به، وإنما هوالحديث الذي يجري في النفوس من طرق مقطوعة عن منابع الشريعة. خامسها: الأهواء تأخذ بقلب صاحبها، إلى أن يبتغي الوصول إليها من طريق الدين، فيقرر رأياً على أنه من الدين، وهو يعلم أنه مخالف لما جاء في الكتاب والسنة. ولا نجهل أن زعماء بعض هذه الفرق قد يقصدون إفساد عقائد المسلمين؛ بإدخال آراء تفسد أصلاً من أصول الدين، أو تبطل حكماً من أحكامه، ومن درس آراء الفرق، لم يتردد في أن كثيراً منها قد وضعه أشخاص يريدون الكيد للإسلام. وأشد ما يظهر هذا الغرض في آراء تراها معارضة لنصوص الدين الصريحة، دون أن يستند صاحبها إلى نقل، أو شيء من العقل. وقد يكون للسياسة يد في إثارة الأهواء الحاملة على مخالفة الجماعة، وإحداث رأي في الدين؛ والدعوة إليه إلى أن يصير مذهب فرقة من المسلمين. * الفرق الإِسلامية: من ينظر في حال الفرق التي لها صلة بالإِسلام يجدها على قسمين: فرق داخلة في حدود الدين، ومن شأنها أن تتلاقى في جانب من الائتلاف والتناصر على إعلاء شأن الإِسلام. وفرق خرجت بهم بدعتهم عن حدود الدين، والتحقوا بطوائف المخالفين، ذلك أنهم اعتقدوا ما لا يلتقي بأصل الإيمان في نفس واحدة؛ كالبهائية، واليزيدية، والقاديانية، على ما نبينه بعد -إن شاء الله-.

الشيعة

وأصول الفرق التي سنحدثك عنها في هذا المقال سبعة: الشيعة، والباطنية، والمشبهة، والمحكمة، والجهمية، والمعتزله، وأهل السنّة (¬1). وقد نعرض عليك في بحث كل فرقة بعض آراء امتاز بها مذهبها، وإذا لم نتعرض فيما نكتب لنقد بعض هذه الآراء؛ فلوضوح أمرها، أو لأننا سنحدثك في بحث أهل السنة بما هو الحق فيما نرى. * الشيعة: ظهر مذهب التشيع في عهد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، بل ظهر في أقصى درجات الغلو. وكان الشيعة يومئذ ثلاث طوائف: طائفة كانت تفضل علياً على أبي بكر وعمر، مع الاعتراف بفضلهما، وصحة إمامتهما. وروى البخاري في "صحيحه" عن محمد بن الحنفية: أنه سأل أباه: من خير الناس؟ فقال: أبو بكر. قال: ثم من؟ قال: عمر. ثانيتهما: كانت تسب أبا بكر وعمر. يروى أن عبد الله بن السوداء (¬2) كان يسب أبا بكر وعمر، فطلبه علي، فهرب، وقيل: نفاه إلى المدائن. ثالثتهما: كانت تقول: إن علياً إله، وهم: عبد الله بن سبأ (¬3) وأتباعه. زعم ابن سبأ ذلك، ودعا إليه قوماً من غواة الكوفة، وبلغ علياً أمرهم، فأحرق فريقاً منهم (¬4) بعد أن دعاهم إلى التوبة وأجَّلهم ثلاثاً، ولم يقتل بقيتهم؛ ¬

_ (¬1) للإمام بحث عن "المعتزلة وأهل السنّة" انظر كتابه: "محاضرات إسلامية". (¬2) كان يهودياً من أهل الحيرة أظهر الإِسلام. (¬3) كان يهودياً أيضاً أظهر الإِسلام. (¬4) روى البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس، قال: "أتى علي بزنادقة، فحرقهم =

كابن سبأ، بل نفاه إلى المدائن؛ حذراً من اختلاف أصحابه عليه. ولما قتُل عليّ، زعم ابن سبأ أن المقتول شيطان تمثل بعلي، وأن علياً صعد إلى السماء، وأنه سينزل إلى الدنيا، وينتقم من أعدائه. وأتباع ابن سبأ يزعمون أن المهدي المنتظر هو علي، ويزعم بعضهم أنه في السحاب. وشاع بعد هذا في بعض الفرق القول بالرجعة، قال سفيان: كان الناس يحملون عن جابر (¬1) قبل أن يُظهر ما أظهر، فلما أظهر، اتهمه الناس في حديثه، وتركه بعض الناس، فقيل له: وما أظهر؟ قال: الإيمان بالرجعة، ثم روى مسلم في "صحيحه" عن سفيان: أنه سمع رجلاً يسأل جابراً عن قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ} [يوسف: 80]. فقال جابر: لم يحن تأويل هذه، قال سفيان: وكذب، فقلنا لسفيان: وما أراد بهذا؟ فقال: إن الرافضة تقول: إن علياً في السحاب، فلا نخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي منادٍ من السماء -يريد علياً- أنه ينادي: اخرجوا مع فلان. يقول جابر: فذا تأويل هذه الآية. وكذب، كانت في إخوة يوسف - صلى الله عليه وسلم -. وانقسمت الشيعة بعد هذا إلى أربع فرق: زيدية، وإمامية، وكيسانية، وغلاة ¬

_ = بالنار، ولو كنت أنا، لم أحرقهم؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعذب بعذاب الله، ولضربت أعناقهم؛ لقوله: "من بدل دينه، فاقتلوه". (¬1) هو جابر بن يزيد بن حارث الجعفي الكوفي، أحد علماء الشيعة، توفي سنة 128.

الزيدية

* الزيدية: هم أتباع زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، يفضلون الإمام علي بن أبي طالب على غيره من الصحابة، ويوالون الشيخين أبا بكر وعمر. خرج الإمام زيد بن علي على هشام بن عبد الملك، وسأله جماعة ممن بايعوه عن أبي بكر وعمر، فقال: رحمهما الله، وغفر لهما، ما سمعت أحداً من أهل بيتي يتبرأ منهما، ففارقوه، ونكثوا بيعته، فسموا: الرافضة. والزيدية يقصرون الإمامة في أولاد فاطمة الزهراء - رضي الله عنها -، فلا حق فيها لمحمد بن الحنفية وذريته، ولا يقولون بعصمة الأئمة، ولا باختفائهم. * الإمامية: هم فرق: منها: المحمدية، وهؤلاء يعتقدون أن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب لم يقتل (¬1)، ويزعمون أنه في جبل حاجر من ناحية نجد، وهو المهدي المنتظر (¬2). ¬

_ (¬1) كان محمد بن عبد الله خرج على أبي جعفر المنصور، واستولى على مكة والمدينة، فبعث أبو جعفر لحربه جيشاً، وقتل محمد -رحمه الله- في المعركة. (¬2) ظهور المهدي لم يرد به قرآن، ولا يقتضيه أصل من أصول الشرع، وإنما وردت فيه أحاديث؛ فالوجه في الاعتقاد به أو إنكاره يرجع إلى النظر في هذه الأحاديث على طريقة المحققين من علماء الحديث، وهي نقد سند الحديث بالبحث في حال رواته، فإذا وجدوا السند سليما لا غبار عليه نظروا في متن الحديث، فإن وجدوه مخالفاً لمحسوس أو معقول مقطوع به، أو لمعروف في الدين من طريق أقوى من طريق ذلك الحديث، وقفوا عن الأخذ به، ولم يبنوا عليه علماً ولا عملاً. =

الكيسانية

ومنها: الباقرية، وهؤلاء يقولون: الإمامة انتقلت من علي بن أبي طالب وأولاده إلى محمد بن علي المعروف بالباقر، وزعموا أن الباقر هو المهدي المنتظر. ومنها: الموسوية، وهؤلاء ساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق، وزعموا أن الإمام بعد جعفر ابنه موسى الكاظم، وأن موسى حي لم يمت، وأنه هو المهدي المنتظر. ومنها: الاثني عشرية: وهي الفرقة التي تحصر الإمامة في اثني عشر إماماً، هم: علي بن أبي طالب، وابنه الحسن، ثم الحسين، ثم علي زين العابدين، ثم محمد الباقر، ثم جعفر الصادق، ثم موسى الكاظم، ثم علي الرضا، ثم محمد الجواد، ثم علي الهادي، ثم الحسن العسكري، ثم محمد ابن الحسن العسكري، ويرون أن محمداً هذا هو المهدي المنتظر، وأنه حي مستور عن الناس إلى أن يأذن الله له بالظهور، فيظهر ويملأ الأرض عدلاً، ويذكرون في وجه هذا الترتيب: أن كل سابق من الأئمة نص على لاحقه، وأن هؤلاء الأئمة معصومون عن جميع الذنوب والسهو والنسيان، وسائر النقائص، ويوافقون المعتزلة في أن الحسن والقبح -بمعنى: ترتب استحقاق المدح والذم- عقليان. * الكيسانية (¬1): هم الذين يقولون بإمامة محمد بن الحنفية، ومن هؤلاء من ذهب إلى ¬

_ = ومن ينظر في أسانيد الأحاديث الواردة في المهدي، لم يجد فيها سنداً يصل في سلامته إلى المرتبة التي تعطي الأحاديث وصف الصحة بلا نزاع. (¬1) اختلف الكاتبون من أصحاب المقالات في وجه هذه النسبة، فقال بعضهم: نسبة =

الغلاة

أنه لم يمت، وأنه في جبل رضوى، وعنده عين من ماء، وعين من عسل، يأخذ منهما رزقه، وهو المهدي المنتظر. ومنهم من اعترف بموته، وقال: إن الإمامة من بعده انتقلت إلى ابنه أبي هاشم عبد الله. وقال آخرون: انتقلت إلى ابن أخيه علي زين العابدين بن الحسين، وقالوا: يجوز البدء على الله تعالى، وهو أن يريد شيئاً، ثم يبدو -أي: يظهر له غير ما كان ظاهراً له (¬1) -، ومن لوازم هذا المذهب: أن لا يكون الله -جل شأنه- عالماً بعواقب الأمور. * الغلاة: هم فرقة خرجوا بالتشيع من الدين الحنيف؛ كالفرقة التي تعتقد في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، أو أحد من آل البيت، أو زعيم مذهبهم: الإلهية، أو النبوة؛ مثل: البيانية أتباع بيان بن سمعان التميمي (¬2) الذين يقولون: إن ¬

_ = إلى كيسان، وهو لقب المختار بن أبي عبيد رئيس هذه الفرقة. وقال آخرون: نسبة إلى كيسان أبي عمرة مولى بجيلة الذي كان من أنصار المختار بن أبي عبيد ورئيس شرطته؛ وأشار ابن حزم في كتاب "الفصل" إلى الكيسانية، وقال: وكان رئيسهم المختار بن أبي عبيد، وكيسان أبو عمرة، وغيرهما، يذهبون إلى أن الإمام بعد الحسين هو أخوه محمد بن الحنفية، وهذا الوجه أقرب مما قبله. (¬1) سبب هذا الزعم فيما حكاه صاحب كتاب "الفرقة": أن المختار كان يدعي نزول الوحي عليه، وأنه موعود بالنصر، فلما انهزم جيشه في حرب دارت بينه وبين مصعب بن الزبير، قال له أصحابه: ألم تعدنا بالنصر على عدونا؟ قال: إن الله وعدني ذلك، لكنه بدا له. (¬2) رفع أمره إلى خالد بن عبد الله القسري، فقبض عليه، وصلبه، وقتله صلباً.

روح الله تناسخت في الأنبياء إلى أن حلت في علي، ثم في ابنه محمد بن الحنفية، ثم في ابنه أبي هاشم، ثم في بيان نفسه. ومثل: الخطابية أتباع أبي الخطاب الأسدي الذين يقولون: إن روح الله حلت في جعفر الصادق، ثم في زعميهم أبي الخطاب. ومثل: الغرابية الذين يقولون: محمد - صلى الله عليه وسلم - أشبه بعلي من الغراب بالغراب، فبعث الله جبريل إلى علي، فغلط في تبليغها لمحمد. ومثل: الأمرية الذين قالوا: إن علياً شريك محمد في أمره (¬1). * تنبيه: (لم نجد تتمة هذا البحث بين آثار الإمام، سواء المطبوع منها، أو المخطوط). ¬

_ (¬1) "تفسير القرطبي".

إصلاح المعاهد الدينية والدكتور طه حسين

إصلاح المعاهد الدينية والدكتور طه حسين (¬1) كتب الدكتور طه حسين في مجلة "الرابطة الشرقية" مقالاً تحت عنوان: "إصلاح الأزهر"، وقارئ المقال -ذكياً كان أو غير ذكي- لا يفهم منه إلا أن الكاتب يريد إلغاء المعاهد الدينية، لا إصلاحها، ويود إماتتها، لا إحياءها. إصلاح الأزهر فيما يبديه ذلك الكاتب أن يصير مدرسة وعظ وإرشاد، وأن لا يكون للمتخرجين فيه حق في مناصب الحكم، والتصرف في شؤون الدولة، وابتدع -بعد هذا- لطلاب العلم بالمعاهد الدينية رهبانية، فأشار عليهم بأن يدعوا الدنيا وأعراضها، وأخذ يضرب لهم المثل من القسس "رؤساء الديانة النصرانية". يقول الكاتب: "الغرض من الأزهر إنما هو إرشاد المسلمين إلى الخير، وتفقههم في الإِسلام، ودعوة غير المسلمين إلى الدين، وإقامة حجته عليهم ظاهرة بالرفق والحكمة والموعظة الحسنة. فأما تولي مناصب الحكم، والتصرف في شؤون الدولة، والتمكن من الكسب، فأشياء إضافية ليس من المحتوم أن يسعى إليها مصلحو الأزهر". ويقول: "وإنما نريد: أن الله يفرض عليهم تحقيق غرضين دينيين، والله ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الأول.

أرفق بهم وأعطف عليهم من أن يضارهم في تحقيق هذين الغرضين، ولكن الله لا يفرض عليهم أن يكونوا قضاة، ولا أن يكونوا أساتذة للغة العربية، ولا أن يتولوا من مناصب الدولة ما يطمحون إلى التسلط عليه". ويقول: "وليكن الأزهر مدرسة دين قبل كل شيء وبعد كل شيء". ويقول: "وهنا نصل إلى نقطة لا نشك أن كثيرين من أنصار الإصلاح الأزهري -وربما كان منهم الأستاذ المراغي نفسه- يخالفوننا فيها أشد الخلاف. فهم يريدون أن يؤاسوا بين الأزهريين وغيرهم من طلاب المدارس المدنية من حقوق التمتع بمناصب الحكم، والتصرف في شؤون الدولة". ويقول: "فخليق بالذين يسعون إلى إصلاح الأزهر أن يعرفوا لقانون توزيع الأعمال حرمة، فيتركوا القضاء للقضاة، والتعليم للمعلمين، ويكتفوا بما قسم الله لهم، وما فرض الله عليهم من الوعظ والإرشاد والدعوة الدينية". قال هذا، ثم حمد الله على أن الشعوب الإِسلامية لا زالت تقدس دينها، وتحرص عليه، وتتوق إلى رفع شأنه، وإعلاء كلمته في الأرض!!. وبعد أن ذهب إلى أن المتخرج في المعاهد الدينية لا يسمح له بعمل غير الوعظ والإرشاد والدعوة الدينية، وضع للتعليم بها منهجاً، وانقلب بعد وضع هذا المنهج صوفياً في مرقعة وبيده سبحة، فقال يعظ الأزهر، وهو يعني أهله: وليدع الدنيا للذين تعنيهم أعراض هذه الحياة الدنيا، فقد صدق الله حين قال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45]. فليدع الأزهر هذا الهشيم الذي تذروه الرياح، وليدع الأزهر هذا الزبد

الذي يذهب جفاء، وليعنَ الأزهر أشد العناية بما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وهو: تفقيه المسلمين في دين الله، ودعوة غير المسلمين إلى دين الله. هكذا يكتب الدكتور طه حسين في إصلاح المعاهد الدينية، ولولا الحذر من أن يكون لمثل هذا المقال أثر في بعض النفوس الغافلة، لضربنا عنه صفحًا، وتركناه يذهب كما يذهب الزبد جفاء، أو كما يذهب الهشيم الذي تذروه الرياح. الغاية من هذا المقال ماثلة أمام قرائه، وهو مصنوع على شكلة ما يكتبونه حين يقصدون إلى إيهام السذج أن الإِسلام دين لا صلة له بالقضاء، ولا بشؤون الدولة، ولطالما كتب أهل العلم في تقويمهم، وأروهم أن في الإِسلام أصولاً قضائية، ونظماً اجتماعية، فأصروا واستكبروا استكباراً. لنترك حوارهم في هذا الشأن؛ فإن المسلمين بحق يقرؤون كتاب الله، أو يستمعون إلى من يقرؤوه، فيشهدون أن الإِسلام أتى بأصول تسلك في شؤون الجماعة، وتتغلغل في أحشاء الدولة، وأنه أسمى من أن يرضى لعلمائه البعد عن مناصب الحكم، والنظر في إدارة شؤون الأمة. الغرض من المعاهد الدينية: درس العلوم الإِسلامية، والعلوم العربية، وما يتصل بها من نحو: المنطق والفلسفة والتاريخ، ثم ما تدعو إليه الحاجة من العلوم والفنون الأخرى بمقدار، وإذا سارت دراسة هذه العلوم على طريقة منتظمة، وأسلوب موزون، كان في وسع هذه المعاهد أن تخرج لنا رجالاً للقضاء، وأساتذة للغة العربية وآدابها، وكان في وسعها أن تخرج لنا رجالاً يقومون بجانب من إدارة شؤون الأمة، كما يكون في وسعها أن تخرج للناس

مرشدين إلى الآداب الفاضلة، ودعاة إلى الدين الحنيف. وإذا كانت علوم اللغة العربية وآدابها تدرس في هذه المعاهد بإتقان، وكانت علوم الفلسفة والمنطق والتربية والتاريخ تدرس ببسط، وعلى أسلوب قويم، فما الذي يمنع المتخرجين في هذه المعاهد من أن يكونوا أساتذة لهذه العلوم في مدارس الحكومة؟. وإذا كانت أصول الشريعة وأحكامها تدرس على مناهج تمكن الإخصائي فيها من أن يفصل في القضايا على سنة العدل والمساواة، فما الذي يمنعهم من أن يتقلدوا منصب القضاء، ويجلسوا للحكم بين الناس؟ وإذا بنى الكاتب مقاله على فرض إلغاء المحاكم الشرعية من القطر المصري، فقد بنى خيالاً على خيال؛ إذ لا يقدم على هذا العمل إلا الجاهل بنفسيات الشعوب يوم تشعر بحقوقها، وتطمح إلى أن تتمتع بحريتها، ولا حرية للشعوب الإِسلامية إلا أن تساس بأحكام شريعتها. نفهم جيدًا كيف لا يكون المتخرج في المعاهد الدينية مهندساً أو طبيباً، ونفهم جيداً كيف لا يكون المتخرج في المعاهد الدينية إذا لم يكن ملماً بلغة أجنبية وزيراً أو سفيراً، ولكنا لا نستطيع أن نفهم كيف لا يكون قاضياً في المحاكم، ولا نفهم كيف لا يكون أستاذاً للغة العربية في مدارس الحكومة، ولا نفهم كيف لا يطمع إلى التسلط على جانب من منصب الدولة. ألا إن الحكومة الرشيدة هي التي تدخل في مدارسها ومحاكمها ودوائرها من الطائفة التي أشربت روح الدين الخالص فريقاً يكونون وقاية لها من أن يسري فيها وباء الإباحية والزيغ فيهلكها، وما فشت الإباحية والزيغ في أمة إلا ذهبت قوتها المعنوية، وإذا لم يكن لها مع هذا قوة مادية كافية، فبطن

الأرض خير لها من ظهرها. تلك الحكومة التونسية -وهي تحت نفوذ دولة غير إسلامية- قد أدركت كفاية المتخرجين في المعهد الزيتوني للقيام بالقضاء، وإدارة شؤون الدولة، فلم تستطع أن تحرمهم من مناصب القضاء، والعمل بدوائر الحكومة، فتجد المتخرج في المعهد الزيتوني أستاذاً في مدارس الحكومة، وقاضياً بالمحاكم الأهلية، بلهَ المحاكم الشرعية، وتجده في دوائر الأوقاف والمالية والحقانية، بل تجد للزيتونيين مكاتب في الرياسة العامة، والفرنسيون أنفسهم يشهدون لهؤلاء الزيتونيين بالكفاية والبراعة في تطبيق النظم والقوانين، ولن تبلى مصر -إن شاء الله- برجال دولة يكونون أقسى قلوباً على أبناء المعاهد الدينية من الحكومة الفرنسية. وإذا شوهد في بعض المتخرجين في هذه المعاهد قصور في التعليم أو الإدارة، فهو بمقدار ما يقع فيه إخوانهم من المتخرجين في المدارس الأخرى، وإذا صح أن يكون هذا القصور ظاهراً فيهم أكثر مما يظهر في غيرهم، فإنما هو أثر التعليم الذي ننادي بإصلاحه وتنظيمه. ومتى صلح التعليم، وتهذبت طرقه، أخرجت هذه المعاهد رجالاً يجمعون إلى طهارة الذمم والاستقامة على الطريقة ثقافة صافية، وعملاً ناصحاً. وإذا كانت معرفة العلوم الإِسلامية في نظر الكاتب ذنباً أو عيباً يستحق به صاحبه أن ينفى من دوائر الحكومة ومدارسها ومحاكمها، فذلك رأي قد يوافقه عليه قوم لا يشعرون، وآخرون لا يهتدون، أما من لهم السلطان على هذه المعاهد، فلم يزالوا بنعمة الله يشعرون ويهتدون، وأخالهم حين يمرون بمقال هذا الكاتب لا يمرون به إلا كراماً، كما أنه لا يلقى من طلاب

هذه المعاهد إلا ازدراء. خير للكاتب أن يترك الخوض في إصلاح المعاهد الدينية جانباً، ففي هذه المعاهد اليوم حياة غير ما كان يعهد، وفي هذه المعاهد فتيان وكهول عرفوا قيمة ما يدرسون، فهم لا يبتغون سوى إصلاح مناهج التعليم، وهم لا يرضون إلا أن يقفوا مع إخوانهم المتخرجين في المدارس الأخرى جنباً لجنب، وكذلك حكمة الإِسلام الخالص تنبت في نفوس دارسيها إرادات قوية، وهمماً طماحة إلى المعالي، وتعلمهم أن يكونوا في الصف الأول من صفوف العاملين لإصلاح شأن البلاد، وإعزاز جانب الأمة. ولقد أبى ذلك الكاتب إلا أن يختم مقاله بشيء من المزح، فدعا طلاب العلم بهذه المعاهد أن يدعوا الدنيا وأعراضها، وتلا الآية الكريمة في غير موضعها. كلا. لا رهبانية في الإِسلام. وآية {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 45] إنما يراد بها كبح جماح المفتونين بزينة هذه الحياة، فخطابها لا يختص بالمتخرجين في المعاهد الدينية، بل هم، وأساتذة الجامعة، وسائر المسلمين أمام موعظتها الحسنة على سواء.

الأدوية المفردة بين دسقوريدس - وابن البيطار

الأدوية المفردة بين دسقوريدس - وابن البيطار (¬1) بحث تاريخي يرى فيه القارئ كيف انتقل فن الأدوية المفردة من اليونانية إلى العربية، وكيف نَمَّاه العرب بتجاربهم ومؤلفاتهم. اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاء، لا يعدل إلى الدواء، ومتى أمكن التداوي بالمفرد، لا يعدل عنه إلى المركب. ويذكر الكاتبون في سيرة الطبيب أبي المطرف عبد الرحمن بن محمد ابن وافد الأندلسي: "أنه كان لا يرى التداوي بالأدوية ما أمكن التداوي بالأغذية، أو ما كان قريباً منها، فإذا دعت الضرورة إلى الأدوية، فلا يرى التداوي بمركبها ما وصل إلى التداوي بمفردها، فإن اضطر إلى المركب منها، لم يكثر التركيب، بل اقتصر على أقل ما يمكنه منه". فشأن الطبيب أن يبحث عن حال الأغذية، والأدوية المفردة، والأدوية المركبة، ولهذا نرى في مؤلفات الأطباء ما يبحث فيه عن الأغذية وما يبحث فيه عن الأدوية المفردة، وما يبحث فيه عن الأدوية المركبة، ولما ندبني مجمع فؤاد الأول لتمثيله في المؤتمر الطبي الذي سينعقد في مدينة الإسكندرية في أيام عيد الأضحى سنة 1361 هـ، رأيت أن أقدم لهذا المؤتمر كلمة في تاريخ ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الخامس عشر.

كيف نقلت الأدوية المفردة إلى اللغة العربية؟

التأليف في الأدوية المفردة، والتنبيه لطريق نقلها من اليونانية إلى اللغة العربية، والتذكير بشيء من معاناة العرب للتأليف فيها. من بين الأطباء الذين ظهروا بعد أبقراط، وقبل جالينوس، نشأ الطبيب دسقوريدس المنسوب إلى عين زربى، أو زريه، وقد عني هذا الطيب بالأدوية المفردة بحثاً وتأليفاً وتصويراً، وكان يجول في البلاد لهذا الغرض النبيل، وقد قال في وصفه يحيى النحوي الإسكندراني: "النافع للناس منفعة جليلة، السائح في البلاد، المفتش لعلوم الأدوية المفردة في البراري والجزائر والبحار، المصور لها، والمحدد لمنافعها". ويقول الأطباء في القديم: إن دسقوريدس رأس كل دواء مفرد، وعنه أخذ جميع من جاء بعده. وجاء على أثر دسقوريدس أطباء من اليونان ألفوا في الأدوية المفردة كتباً حتى جاء جالينوس، فألَّف فيها، وفضل على تلك الكتب كتاب دسقوريدس، فقال: "إني تصفحت أربعة عشر كتاباً في الأدوية المفردة لأقوام شتى، فما رأيت فيها أتم من كتاب دسقوريدس الذي هو من أهل عين زربى". وممن ألف في الأدوية المفردة بعد جالينوس: عيسى بن قسطنطين، فله كتاب الأدوية المفردة، وهو -فيما يقال- أول من نقل كتب اليونانيين إلى اللغة السريانية. * كيف نقلت الأدوية المفردة إلى اللغة العربية؟ أول من نقل كتاب "الأدوية المفردة" لدسقوريدس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي اصطفن بن بسيل، وطريقته في الترجمة: أنه إن علم للمعنى الطبي اسماً في اللسان العربي، ذكره باسمه العربي، وإن لم يعلم له اسماً عربياً، أبقاه على اسمه اليوناني رجاء أن يأتي بعده من يعرف لذلك المعنى

اسماً عربياً يناسبه، وبعد أن أتم ترجمته، عرضه على حنين بن إسحاق، فصحح الترجمة، وأجازها، ووصل هذا الكتاب إلى الأندلس، فكان الناس ينتفعون بما عرف اسمه في العربية إلى أيام الخليفة عبد الرحمن الناصر. وفي سنة 337 هـ بعث أرمنيوس ملك قسطنطينية بهدايا إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر، ومن جملة هذه الهدايا: كتاب دسقوريدس باللسان الإغريقي اليوناني القديم، وكانت النسخة مصورة الحشائش بالتصوير الرومي، وقال أرمنيوس في كتابه للناصر: إن كتاب دسقوريدس لا تجتنى فائدته إلا برجل يحسن العبارة باللسان اليوناني، ويعرف أشخاص تلك الأدوية، فإن كان في بلدك من يحسن ذلك، فزت أيها الملك بفائدة الكتاب، واتفق أن لم يكن بقرطبة يومئذ من يقرأ اللسان الإغريقي، فبقي كتاب دسقوريدس في خزانة الناصر دون أن يترجم إلى العربي. ثم إن عبد الرحمن الناصر بعث إلى أرمنيوس أن يبعث إليه برجل يحسن التكلم الإغريقي؛ ليعلِّم من يصلحون لأن يكونوا مترجمين، فبعث أرمنيوس براهب كان يسمى: "نقولا" (¬1)، فوصل إلى قرطبة سنة 340 هـ، وكان الناس وقتئذ في حرص على معرفة ما جهلوه من أسماء عقاقير ذلك الكتاب. ومن الأطباء الباحثين عن تفسير تلك الأسماء، وتعيين أشخاصها: محمد المعروف بالشجار، وطبيب يعرف بالبسباسي، وأبو عثمان الحزاز، ومحمد بن سعيد، وعبد الرحمن بن إسحاق بن هيثم، وأبو عبد الله الصقلي. ¬

_ (¬1) قال ابن جلجل: أدركته، وصحبته في أيام الحكم بن عبد الرحمن في صدر دولته.

وكان الراهب يتكلم باليونانية، ويعرف أشخاص الأدوية، فتلقَّى عنه أولئك الأطباء تصحيح أسماء العقاقير، ووقفوا على أشخاصها بمدينة قرطبة، قال ابن جلجل في "أنباء أطباء الأندلس": "وقد أدركت هؤلاء الأطباء، وصحبتهم". أما كتاب جالينوس في الأدوية المفردة، فمن المعروف أن كتب جالينوس في الطب قد نقلت إلى اللغة العربية، وكان معظمها بنقل حنين بن إسحاق، أو تصحيحه لها بعد نقلها، ومن مؤلفات حنين بن إسحاق: اختصاره لكتاب جالينوس في الأدوية المفردة، وألفه بالسريانية، وهو إحدى عشرة مقالة، ثم نقل منه إلى العربية خمس مقالات، وهي الجزء الأول منه، ولكن ابن البيطار يقول في مقدمة كتابه الجامع: إنه استقصى فيه ما أورده جالينوس في الست المقالات من مفرداته بنصه، وذكروا في مؤلفات الفيلسوف ابن رشد تلخيصه لأول كتاب الأدوية المفردة لجالينوس. وتناول العرب كتاب دسقوريدس، وكتاب جالينوس، واستمدوا منهما، وأخذ هذا الفن ينمو، ويزداد تحقيقاً؛ كما صنع أبو المطرف عبد الرحمن ابن وافد؛ فقد ألف كتاباً جمع فيه ما تضمنه كتاب دسقوريدس، وكتاب جالينوس المؤلفين في الأدوية المفردة، ورتبة أحسن ترتيب، وقال صاعد: وأخبرني أنه عانى جمعه، وحاول ترتيبه وتصحيح ما تضمنه من أسماء الأدولة وصفاتها، وأودعه إياها من تفصيل قواها، وتحديد درجاتها نحواً من عشرين سنة. وكما صنع أبو جعفر أحمد بن محمد الغافقي إذ ألف كتاباً في الأدوية المفردة، واستقصى فيه ما ذكره دسقوريدس، وجالينوس، وأضاف إلى ذلك

ما تجدد للمتأخرين من الكلام في الأدوية المفردة. وكما صنع أبو داود سليمان المعروف بابن جلجل؛ فقد فسر أسماء الأدوية المفردة من كتاب دسقوريدس، وكشف مغلقها، ورفع إبهامها، وله مقالة في الأدوية التي لم يذكرها دسقوريدس في كتابه (¬1). وكما صنع أبو العباس أحمد بن مفرج المعروف بابن الرومية، ويعرف بالنباتي؛ فقد فسر أسماء الأدوية المفردة من كتاب دسقوريدس، قال ابن أبي أصبيعة في ابن العباس هذا: أتقن علم النبات، ومعرفة أشخاص الأدوية، وقواها ومنافعها، واختلاف أوصافها، وتباين مواطنها، وجال سنة 613 هـ في الشام والعراق ومصر، وعاين نباتاً كثيراً في هذه البلاد مما لم ينبت بالمغرب، وشاهد أشخاصها في منابتها، ونظرها في مواضعها، وعاد إلى المغرب، وأقام بإشبيلية. وألف في الأدوية المفردة من غير هؤلاء جمع كبير من الأطباء؛ مثل: حنين بن إسحاق، وإسحاق بن حنين، وإسحاق بن عمران، وإسحاق بن سليمان المعروف بالإسرائيلي، وأحمد بن أبي خالد المعروف بابن الجزار، وخص الرئيس ابن سينا الكتاب الثاني من كتاب "القانون" بالأدوية المفردة، وجاء بعد هؤلاء أبو محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن البيطار، وعني بالأدوية المفردة، وسافر إلى بلاد اليونان، وأقصى بلاد الروم، ولقي أناساً كثيرين من المولعين بهذا الفن، ورأى منابت الحشائش المذكورة في كتب الأدوية المفردة بعينه، وعاد بعد هذه الرحلة إلى الشام، وخدم ¬

_ (¬1) ألف ابن جلجل كتابه هذا في سنة 372 هـ بقرطبة أيام هشام بن الحكم.

بصناعة الطب الكامل بن العادل في دمشق، ثم خدم بها ولده الصالح بمصر، وتوفي في دمشق سنة 646 هـ. ولابن البيطار شرح على أسماء أدوية كتاب دسقوريدس، قال ابن أبي أصبيعة: قرأت عليه تفسيره لأسماء أدوية كتاب دسقوريدس، فكنت أجد من غزارة علمه ودراسته وفهمه شيئاً كثيراً، وكان يذكر أولاً ما قاله دسقوريدس في كتابه باللفظ اليوناني على ما قد صححه في بلاد الروم، ثم جمل ما قاله دسقوريدس من نعته وصفته وأفعاله، وأعجب من ذلك: أنه كان لا يذكر دواء إلا ويعين في أي مقالة هو من كتاب دسقوريدس، وفي أي عدد هو من جملة الأدوية المذكورة في تلك المقالة. ولابن البيطار كتابه المشهور المسمّى "الجامع"، وسماه الجامع؛ لأنه جمع فيه بين الأغذية والأدوية المفردة. قال ابن سعيد في كتاب "المغرب" بعد أن ذكر الأدوية المفردة: "وقد جمع أبو محمد المالقي الساكن الآن بالقاهرة بمصر كتاباً حشر فيه ما سمع به فقدر عليه من تصانيف الأدوية المفردة؛ ككتاب الغامقي، وكتاب الزهراوي (¬1)، وكتاب الشريف الإدريسي الصقلي، وغيرها، وضبطه على حروف المعجم، وهو النهاية في المقصد". وذكر ابن البيطار في كتابه "الجامع": أنه استوعب فيه مقالات دسقوريدس الخمس بنصها، وما أورده جالينوس في المقالات الست من مفرداته بنصها ¬

_ (¬1) هو أبو القاسم خلف بن عياش الزهراوي الأندلسي، له كتاب في الطب يسمى: "التصريف"، وهو الذي فاخر به ابن حزم، وقال: لو قلنا: إنه لم يؤلف في الطب أجمع منه، ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع، لنصدقن.

كذلك، وألحق بهما من أقوال المحدثين في الأدوية النباتية والمعدنية والحيوانية ما لم يذكراه. ولم يأخذ ابن البيطار فيما ينقله عن هؤلاء طريقة المتابعة المحضة، بل كان يتحرى طريقة النقد، فقال: "وما كان مخالفاً -في القوى والكيفية والمشاهدة الحسية في المنفعة والماهية- للصواب والتحقيق، أو أن ناقله أو قائله عدل فيه عن سواء الطريق، نبذته ظِهريّاً، وهجرتُهُ مليّاً، وقلت لناقله أو قائله: لقد جئت شيئاً فرياً، ولم أحابِ في ذلك قديماً لسبقه، ولا محدثاً اعتمد غيري على صدقه" ونبه في صدر الكتاب على أغراضه، وجعل من هذه الأغراض: التنبيه على كل دواء وقع فيه وهم أو غلط لمتقدم أو متأخر؛ لاعتماد أكثرهم على الصحف والنقل، واعتماد على التجربة والمشاهدة. وقد دل ابن البيطار في هذه الجمل على مبدأ لا يترقى علم الطب إلا به، وهو نقد الأقوال، وعدم تلقيها بالتسليم إلا أن تكون مصحوبة بدليل من نحو التجربة والمشاهدة. وقدّر الغربيون هذا الكتاب قدره، وأذكر أن الدكتور (لوكير) نقله من العربية إلى اللسان الفرنسي، وطبعت الترجمة بباريس.

كلمات وخواطر وآراء

كلمات وخواطر وآراء " يطالع القارئ الكريم في الصفحات التالية كلمات لفضيلة الإمام الأكبر محمد الخضر حسين - رضوان الله عليه - ألقاها في احتفالات دينية إسلامية رائعة، ومناسبات اجتماعية. كما يطالع القارئ خواطر وآراء متفرقة نشرها الإمام في مجلة "الهداية الإِسلامية". وقد ضممنا إلى تلك الكلمات والخواطر والآراء القيمة فواتح سنوات المجلة، التي كان يفتتح بها سنتها الجديدة عاماً بعد عام؛ لما في هذه الفواتح من توجيه صادق، ودعوة إلى الإصلاح. وغايتنا: أن نجمع كل التراث العظيم لذاك الرجل المصلح العظيم؛ خدمة للإسلام، وليعم النفع المسلمين، والله ولي التوفيق". * شعور الحاضرين بموضوع الخطبة (¬1): شعور الحاضرين بموضوع الخطبة -قبل أن يشرع الخطيب في إلقائها- يجعلهم على بصيرة من أمرها، فيتلقونها بآذان واعية، وأذهان حاضرة، ولاسيما حيث يكون الموضوع عزيزاً شيقاً، وفي إيذان الحاضرين بالغرض الذي ستلقى فيه الخطبة معونة على وقوعها في نفوسهم بصورة منظومة أجزاؤها، موصولة ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الأول.

جمعية الهداية الإسلامية - سبب تأليفها

أوائلها بأواخرها؛ فإن الخطيب قد يفتتح الخطبة بمقدمات لا يظهر القصد من إتيانه عليها إلا عندما يدخل في حديث الغرض نفسه، فإعلام المستمعين بالغرض يجعلهم يتلقون تلك المقدمات على تنبه لوجه المناسبة التي تنتظمها في نفسها، ثم للصلة التي تربطها بالغرض المصوغ من أجله الخطاب. دل التاريخ على أن العرب قد يأخذون بهذه العادة المعروفة اليوم؛ من تنبيه الملأ للموضوع الذي أزمع الخطيب أن يخوض بيانه. نجد في التاريخ: أن عبد الله بن الزبير قدم على الخليفة عثمان بفتح أفريقية، وقص عليه كيف كانت الواقعة، فأعجب عثمان بما سمع منه، وقال له: يا بني! أتقوم بمثل هذا الكلام على الناس؟ فقال: يا أمير المؤمنين! أنا أهيبُ لك مني لهم، فقام عثمان في الناس خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! إن الله قد فتح عليكم أفريقية، وهذا عبد الله بن الزبير يخبركم خبرها -إن شاء الله-، وكان عبد الله بن الزبير إلى جانب المنبر، فقام خطيباً. وكان أول من خطب إلى جانب المنبر. ولا ننسى مع هذا أن هناك أحوالاً تقتضي عدم إشعار الملأ بما يقصد من الخطبة؛ كان يكون الغرض الذي يرمي إليه الخطيب من الأمور التي عهدوا بإنكارها، أو عدم الاحتفال بشأنها، والخطيب في هذه الحال مضطر إلى أن يبهم الغرض من الخطبة؛ حتى يطرق مقدمات شأنها أن تهيئ نفوس السامعين لقبول ما يقرره من حقيقة، أو يدعو إليه من إصلاح. * جمعية الهداية الإِسلامية - سبب تأليفها (¬1): إن متانة أصول الإِسلام، وحكمة شريعته، ووضاءة آدابه، تجعلنا على ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الأول.

أمن من أن تمسه الدعايات المناوئة له بسوء، فلا نخشى على أصوله أن تزعزع، ولا على شريعته أن يبدو فيها مغمز، ولا على آدابه أن توزن بما هو خير منها، أو مثلها، ولكن قلة العناية بالقيام على هذه الأصول والشريعة والآداب، وتلقينها لنشئنا في أول طور من أطوار حياتهم العلمية، مهد الطريق لنفر يحملون ألقاباً إسلامية، ثم ما يكون منهم إلا أن يأتمروا على الإِسلام، ويبثوا سموم دعايتهم في بعض الصحف، ومجامع التعليم. دعاية سارت في استهواء بعض شبابنا خطوات غير قليلة، ومن أثرها: أن أصبح طائفة ممن يقعدون في مقاعد التدريس، أو السيطرة على جماعة من المسلمين، يطعنون في جانب هذا الدين الحنيف بكل صفاقة، لا يرعون في أهله ذمة، ولا يرقبون لآداب الاجتماع عهداً، ويريدون بعد هذا كله أن يسموا الإلحاد إصلاحاً، والخلاعة حرية. نحن على يقين من أن دعاية تكيد الإِسلام وتناصبه العداوة لا تتقدم بشيء من العلم أو المنطق، وإنما هي عوامل مادية تدفعها، ثم لا تجد أمامها قوة علمية منظمة تكفي الناس شرها، وتحمي الوطن من وبائها. ولو تمثلت عاقبة هذه الدعاية في أعين أهل العلم يوم أخذت تدرج في أوطاننا، لقضوا عليها قبل أن يقول قائل: "يجب القضاء على الدين الذي تتعدد فيه الزوجات"، ويقول آخر: "سيأتي الوقت الذي تعرفون فيه أن الميراث ليس من الدين"، ويؤلف ثالث كتاباً (¬1) يخادع فيه المسلمين بزعم أن القضاء ليس من الدين. ¬

_ (¬1) أشار إلى كتاب "الإِسلام وأصول الحكم" تأليف علي عبد الرازق. وقد رد عليه الإمام بكتابه الشهير "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم".

ولو اتخذ أهل العلم الصغائر مرآة يبصرون ما وراءها من الكبائر، لما بلغ بعض رؤساء الشعوب الإِسلامية أن يرهقوا ذلك الشعب طغياناً، ويحملوه على عوجاء نهارها كليلها، ثم لا يصغوا إلى توبيخ ضمائرهم حين يسمون الإرهاق حرية، ونور الإيمان غباوة. لا تستطيع أي قوة أن تقضي على الدين الذي تتعدد فيه الزوجات، ولن يأتي الوقت الذي يعتقد فيه الناس أن الميراث ليس من الدين، ولا ينخدع المسلمون لمن يكيد للإسلام، ويريد أن يخرجه لهم في صورة الدين الذي يمكن فصله عن القضاء والسياسة، ولا يستقيم الأمر لرئيس يجهل على الإِسلام، أو يتخذ ممن يجهلون على الإِسلام عضداً، فقد تيقظ المسلمون حقاً من خمولهم، وقام أهل العلم يطفئون فتنة الإغواء جهدهم. وعلى هذا القصد تألفت جمعية الهداية الإِسلامية. مبادئ هذه الجمعية ومساعيها: في اليوم الثالث عشر من شهر رجب سنة 1346 هـ الموافق 6 يناير سنة 1928 م تأسست جمعية الهداية الإِسلامية، وهي جمعية علمية أدبية، الغرض من تأسيسها: القيام بما يرشد إليه الدين الحنيف؛ من علم نافع، وأدب رفيع، وخلق كريم، وتعتمد في تحقيق هذا الغرض على الوسائل الآتية: 1 - السعي لتعارف الشعوب الإِسلامية، وتوثيق الرابطة بينها، ورفع التجافي بين الفرق الإِسلامية، والتعاون مع كل جمعية تسعى لهذه الغاية. 2 - نشر حقائق الإِسلام بأسلوب يلائم روح العصر. 3 - مقاومة الإلحاد والدعايات غير الإِسلامية في الأوطان الإِسلامية بالطرق العلمية.

4 - الجهاد في إصلاح شأن اللغة العربية، وإحياء آدابها. ويقوم أعضاء هذه الجمعية منذ أنشئت بإلقاء محاضرات في المساجد عقب صلاة الجمعة، ومحاضرات في بعض النوادي عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، وبتحرير هذه المجلة التي ستسير -بتأييد الله تعالى- على الصراط السوي، وتفتح صدرها لنشر ما تسمح به أقلام البلغاء، ودعاة الإصلاح من المباحث القيمة والنصائح السامية. الذين قاموا بالدعوة إلى تأسيس هذه الجمعية: السادة: ولي الدين أسعد المدني - حسين شكري الشواء - أحمد العربي المدني - يوسف عبد الرزاق المشهدي - محمد الحسن مصطفى - عبد الله مصطفى المراغي - هاشم دفتر دار المدني - محمد البسطامي - خلوصي الكيالي - صلاح الدين أبو علي - عبد القادر عبد العزيز يوسف - عبد الحليم علي النجار - محمد منجود. مجلس الإدارة: محمد الخضر حسين: رئيس - الشيخ محمد عبد المطلب مدرس بدار العلوم العليا: وكيل أول - الشيخ علي محفوظ المدرس بقسم الوعظ والإرشاد بالأزهر: وكيل ثان - الشيخ فكري يس مدرس بالأزهر: كاتم سر الجمعية - عبد الحميد أفندي مدكور: أمين الصندوق - الشيخ مصطفى بدر زيد مدرس بالأزهر: مراقب الجمعية. الأعضاء: الشيخ عبد ربه مفتاح المفتش العام للوعظ والإرشاد بالوجه البحري - الشيخ عبد الجليل عيسى مدرس بالأزهر - الشيخ علي مصطفى أبو درة مدرس بالأزهر - الشيخ عبد الوهاب النجار مدرس بقسم التخصص بالأزهر - الدكتور عبد العزيز قاسم بك - الشيخ يوسف حجازي مدرس بالأزهر - الشيخ محمد عبد السلام القباني مدرس بالزهر - الشيخ أحمد أبو سلامة مدرس

منهج ابن سينا في البحث

بالأزهر - الشيخ محمد سلامة مدرس بالأزهر - الشيخ حامد محيسن مدرس بالأزهر - الأستاذ محمد الأزهري الهاشمي بك المحامي بالاستئناف العليا. * منهج ابن سينا في البحث (¬1): يرتفع شأن طالب العلم، ويكون أرسخ قدماً في فهم الحقائق، متى أخذ نفسه بأدبين اثنين: أحدهما: أن لا يعجل إلى قبول ما يتلقاه من طريق الرواية إلا أن يثق بصحتها، ولا إلى تقليد ما يقف عليه من رأي إلا أن تؤيده الحجة. ثانيهما: أن لا يعجل إلى إنكار ما لم يستبن له أمره، بل يدعه إلى جانب الإمكان إلى أن يقوم له شاهد بامتناع وقوعه. وقد نبه على هذين الأدبين الفيلسوف ابن سينا في كتاب "الإشارات"، فقال: "إياك أن يكون تكيسك وتبرزك عن العامة هو أن تبرأ منكراً لكل شيء، فذلك طيش وعجز. وليس الخرق في تكذيبك ما لم تستبن جليته دون الخرق في تصديقك بما لم تقم بين يديك بينته، بل عليك الاعتصام بحبل التوقف، وإن أزعجك استنكار ما توعاه سمعك، ما لم يبرهن استحالته لك، والصواب: أن تسرح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان ما لم يردك عنها قائم البرهان، واعلم أن في الطبيعة عجائب، والقوى العالية الفعالة، والقوى السافلة المنفعلة اجتماعات على غرائب". يريك ابن سينا أن من الحمق إنكار الشيء الذي لم ينكشف لك وجه الحق منه، وليس هذا الحمق بأشد من حمق الذي يصدق بما لم تقم عليه ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الأول.

أبناء المسلمين في مدارس التبشير

بينة، إذن يجب عليك أن تزن ما يرد عليك من رواية أو رأي، فتضع هذا بمكان القبول، وتقابل ذلك بالرفض، وتطرح الآخر إلى جانب الإمكان؛ لعله يعود إليك محمولاً على عاتق الحجة. أما انصرافك عن الأشياء التي لم تستبن جليتها انصراف المنكر لها، فإنه يجعل بينك وبين كثير من الحقائق حجاباً مستوراً، فيخف في العلم وزنك، ويطيش في البحث رأيك، فتفسد أكثر مما تصلح، وتضل أكثر مما ترشد، وما أنت بأقل شراً ممن ينحط في هوى كل ناعق، وكلاكما عضو معتل يبعث من دمه الفاسد إلى جسد الأمة ما ينهك قوته، ويذهب ببهائه. * أبناء المسلمين في مدارس التبشير (¬1): من الذي يستطيع أن يهيئ لولده عيشاً راضياً، وينبته نباتاً حسناً، فينشأ سليم القلب، طاهر اللسان، صديقاً لأسرته، عاملاً على إعلاء شأن أمته، ولكنه يأبى أن يفعل هذا الذي ينصح به لولده، ويجني ثمار الحمد من عواقبه، فيعمد إليه وهو صافي الفطرة، فيلقيه في بيئة يتولاه فيها من لا يرقبون إلّاً ولا ذمة، فلا يزالون يلقنونه زيغاً، ويبذرون في نفسه شراً، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً. ذلك مثل المسلم الذي يهبه الله ولداً ليسلك به في هداية، ويعدَّه لأن يكون عضواً يرتاح لسعادة قومه، ويتألم لشقائهم، فإذا هو يبعث به إلى مدارس أسست لمحاربة الدين الحنيف، ولقتل العاطفة القومية، وهي المدارس التي تنشئها في بلادنا الجمعيات التي يقال لها: "جمعيات التبشير". ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الأول.

إن الذي يقذف بولده بين جدران هذه المدارس، لا تكون جريمته من جريمة أولئك الذين كانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق ببعيد، ألم يقم الدليل إثر الدليل على أن القائمين فيها بأمر التعليم يلقنون أبناء المسلمين معتقدات ديانة غير إسلامية، ويحملونهم على تقاليدها، ويتعرضون للطعن في شريعة الإِسلام بطرق شأنها أن تؤثر على الأطفال ومن هم بمنزلة الأطفال في عدم معرفتهم بحقائق الدين معرفة تقيهم من شر ذلك الإغواء؟! ليس ذلك الذي يزج بابنه في مدارس التبشير بالذي يقتل نفساً واحدة، ولكنه يقتل خلقاً كثيراً، ويجني بعد هذا على الأمة بأجمعها، ولا أقول هذا مبالغة، فقد يصير هذا الولد أستاذاً من بعد، ويفسد على طائفة عظيمة من أبناء المسلمين أمر دينهم ووطنيتهم، كما أفسد عليه أولئك القسس أمر دينه ووطنيته، وقد أرتنا الليالي أن من المتخرجين في هذه المدارس من يملك سلطة على قوم مسلمين، فيجدون فيه من الغلطة والمكر وعدم احترام الشريعة ما لا يجدونه في الناشئ على غير الإِسلام. قد ينال الطالب في هذه المدارس علماً، وليس هذا العلم في جانب ما يخسره من دينه، وما يفوته من الإخلاص لأمته، بالشيء الذي يثقل وزنه، ولكنها الأهواء تأخذ القلوب، فتبعث الرجل على أن يأخذ بيد ابنه وهو كالملَك طهراً وطيبة، ويقوده إلى حيث يشهد ازدراء قومه، والطعن في الحنيفية السمحة، فلا يلبث أن ينقلب ذلك الطهر رجساً، وذلك الطيب خبثاً، وتكون العاقبة ما نسمعه عن كثير من المتخرجين في هذه المدارس وما نرى. عرفت أيام كنت في دمشق أن ذا منصب في العسكرية رفيع، جاء بابنه الصبي إلى الأستاذ صاحب مدرسة التهذيب الإِسلامي، وذكر له أنه كان أدخل

مجلة الرابطة تزعم أنها لا تنصر دينا على دين

ابنه هذا في مدرسة من المدارس الأجنبية، فأزاغوا عقيدته، ويلغ به الحال أن صار يدعوني وأمه إلى النصرانية، ثم رغب إلى الأستاذ وهو مملوء حزناً وندماً أن يعالج قلب هذا الغلام، ويعرض عليه محاسن الإِسلام لعله يزكى. وقد عرف القراء اليوم نبأ ذلك القسيس الذي صدرت صحف هذا الشهر، شهر الصيام، طافحة بإنكار ما قاله وهو في درس يلقيه بإحدى هذه المدارس طعناً في الإِسلام، ملأ فمه بالطعن في الدين القيم دون أن يحترم شعور بعض أبناء المسلمين الذين سيقوا إلى الجلوس بين يديه، وقد حملت الغيرة أحد الطلاب الذين لا تزال فيهم بقية من إيمان على أن أنكر قوله، وفضح أمره، وإن في ذلك لعبرة لقوم يؤمنون. ونحن لا نكثر من الإنكار على ذلك القسيس، ولا على القائمين بشؤون هذه المدارس، فإنهم يقضون حاجة في نفوسهم، أو ينفذون خطة رسمت لهم، وإنما نوجه إنكارنا، بل موعظتنا إلى إخواننا المسلمين الذين يقذفون أبناءهم في بيئة لا يخرجون منها إلا وقد غشي نفوسهم ضلال، من فوقه ضلال، ومن فوقه لوثة أخلاق حقيرة: ظلمات بعضها فوق بعض، ولظلماتُ الآخرة أشد وأبقى. * مجلة الرابطة تزعم أنها لا تنصر دينا على دين (¬1): تقول مجلة "الرابطة الشرقية" (¬2) في عددها الثالث: "وقد أخذت مجلتنا على نفسها بأن تكون لسان الشرقيين جميعاً، لا تفرق بين أديانهم وأجناسهم، ولا تنصر ديناً على دين". ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الأول. (¬2) مجلة كانت تصدر بالقاهرة.

النقد التحليلي لكتاب في "الأدب الجاهلي"

تقول هذا في الرد على الأستاذ السيد محمد رشيد رضا حين نصح لها أن لا تنشر المقالات ذات الدعايات المناوئة للإسلام، ولقد عرفت لجنة تحريرها أن الناس لا يرجون منها أن تنصر دين الإِسلام على دين، وغاية ما يدعوها إليه عقلاء الأمة أن تسير في سبيل علمية أو أدبية أو اجتماعية، تحترس فيها من أن تمس عواطف الشعوب الإِسلامية بأذى، وإذا كانت مجلة الرابطة التي يديرها شيخ مشايخ طرق الصوفية تزعم أنها لا تنصر ديناً على دين، فما بالها تبتدئ عملها بنشر أقوال الطاعنين في الإِسلام من النصارى الأوربيين، ثم لا تستحي الأدب أن يراها تنشر مقالاً يكتبه بعض المخالفين في شأن مسيلمة الكذاب؛ كالموازنة بينه وبين أصدق الناس لهجة محمد بن عبد الله؟! وهل ضاقت على مجلة الرابطة مباحث الأوربيين العلمية والأدبية والاجتماعية بما رحبت، فرأت نفسها مضطرة إلى أن تملأ صحائفها بمثل هذه المقالات التي لا يخفى القصد من نشرها على القارئ النبيه؟!. ونحن لا نستطيع أن نفهم كيف يجتمع التصوف وفتح الصدر للدعاية التي يقوم بها أمثال سلامة موسى بارتياح؟! نعم، نستطيع أن نفهم كيف يلتقي هذا وذاك في نفس واحدة، متى استطاعت مجلة الرابطة أن تقنعنا بفساد ما أجمع عليه العقلاء قاطبة من أن النقيضين لا يجتمعان بمكان. * النقد التحليلي لكتاب في "الأدب الجاهلي" (¬1): كان الدكتور طه حسين وضع كتاباً سماه: "في الشعر الجاهلي" (¬2)، وارتكب فيه من الخطأ في البحث، ومن مناوأة الإِسلام ما دعا طائفة من حملة ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامة"- الجزء الخامس من المجلد الأول. (¬2) انظر كتاب: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" للإمام.

الأقلام إلى نقده وتقويم عوجه، وكان الأستاذ المفضال محمد أحمد الغمراوي ممن نقدوا ذلك الكتاب بمقالات نشرت في جريدة "البلاغ"، وكان أهل العلم والفضل يقرؤونها بإعجاب، واقترح بعض أهل الفضل على الأستاذ الغمراوي جمعها، وإبرازها في كتاب، فلم يسترح لأن يجيب رغبتهم؛ نظراً لأن الكتاب المنقود قد حجز، وفي حجزه أمان من أن يخالط عقولاً فيكدرها، أو يساور نفوساً فيزيغها، ثم إن الدكتور طه حسين حذف من الكتاب المحجوز أجهل جمل نال فيها من الدين الحنيف، وأضاف إليه حديثاً من أوله، وحديثاً من آخره، وسماه: كتاب "في الأدب الجاهلي". وعند هذا رأى الأستاذ الغمراوي أن تنبيه النشء لما يحمله هذا الكتاب من مزاعم وهمزات، إنقاذ لهم من أن يتخبطوا في غير علم، أو يسقطوا في غير هدى، فعاد إلى ما كان قد نشره في جريدة "البلاغ"، واتخذه نواة لنقد كتاب "في الأدب الجاهلي" الذي هو كتاب "في الشعر الجاهلي" روحاً وغاية وطريقة، فطعنه في صميم مباحثه، وأمتع القول في الكشف عن عيوبه. تناول الأستاذ الغمراوي كتاب "في الأدب الجاهلي" من ناحية العلم والأدب والتاريخ، ثم من الناحية التي تمس الدين الحنيف، فرفع الطلاء عما احتواه من أغلاط، وأقام الشاهد بعد الشاهد على أنه وليد فكر تندفع به الأهواء في غير طريق. فمن يقرأ كتاب "النقد التحليلي" يأخذه الإعجاب بما وهب الله صاحبه من سلامة الذوق، وأصالة الرأي، ولو أن كل شبابنا الذين يدرسون في البلاد الغربية، أو أكثرهم يعودون إلينا بمثل ما عاد به الأستاذ الغمراوي من علم موزون، وعقل راجح، ونفس مطمئنة، لكان لنهضتنا اليوم من القوة والاستحكام

الأستاذ متفوخ

ما يملأ النفوس أملاً، ويجعلنا من عهد الحياة الآمنة الزاهرة بمكان قريب. والكتاب متوج بمقدمة مكررة بقلم العلامة البليغ الأستاذ الأمير شكيب أرسلان، ولهذه المقدمة حظ عظيم من نقد كتاب "في الأدب الجاهلي" زيادة على ما عنيت به من النظر في كتاب "النقد التحليلي"، ووصفه وصف من قدره حق قدره، حتى قال: "وما لي وللتعليق على كتاب الغمراوي، واستقصاء ما فيه، وهو لم يترك في القوس منزع ظفر، ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة من الموضوع إلا وفاها حقها من البحث بطريقة علمية اعتادها من مباحثه في الكيمياء وعلم الطبيعة، وتم فيها حظه بملكة عربية متناهية في البلاغة". * الأستاذ متفوخ (¬1): لقيته في "برلين"، وهو أحد علمائها المستشرقين، وقد ترجم كتباً عربية إلى الألمانية، منها: كتاب "علاج العيون" لعمار الموصلي، وفصل: علاج العيون من كتاب علي بن عيسى في صناعة الطب، وفصل: علاج العيون لابن سينا، وكتاب "وقائع العرب" لأبي عبيدة بن المثنى الكبير والصغير، ونقل إلى الألمانية ترجمة حمزة الأصفهاني، وترجمة ابن سعد صاحب "الطبقات". * حول "خطاب مفتوح إلى حضرة محمد" (¬2): تقصد مجلة "الفتح" (¬3) الغراء أن تقدم إلى المسلمين -كلما اقتضى الحال- أمثلة تجعلهم على بصيرة من الحركة التي يقوم بها في البلاد التركية أولئك النفر الذين يعملون على إطفاء نور الإِسلام من ديارهم، ومن هذه الأمثلة: ما نشرته ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء السادس من المجلد الأول. (¬2) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء السادس من المجلد الأول. (¬3) مجلة كان يصدرها بالقاهرة الأستاذ محب الدين الخطيب.

في عدد 135، وهو: "خطاب مفتوح إلى حضرة محمد" لقومندان أوغلو قاسم توفيق صاحب جريدة "كنج دو شونجه لر"، وقد دل هذا الخطاب على ما بلغته تلك الحركة من الصفاقة والتلطخ برجس الزيغ والبهتان. قومندان أوغلو قاسم توفيق أراد أن يؤذي المسلمين بأبلغ ما يستطيع أن يؤذي به رجل أمة ذات دين عزيز، وشريعة حكيمة، فنحت من صميم قلبه أفحش سباب، وقذف به حضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يشف غليله أن يقول سفهاً، حتى أخرج سفهه في صورة خطاب مفتوح إلى حضرة الرسول الذي أخرج العالم من الظلمات إلى النور. دخل قاسم توفيق سوق الطعن في الإِسلام التي فتحها في البلاد التركية رهط لا يبصرون، وعرض من بضائع السباب أفضح ما يروج عند كبرائهم، وبقي يتمتع بهذا السباب، ويطلق فيه قلمه بضعة أشهر، وقلوبُ المسلمين تكاد يتميز من الغيظ، حتى قبض عليه البوليس السري وهو يقدم خريطة حربية لدار سفارة أجنبية، ولهذه الجريمة سيق إلى السجن، ولكن مجلة تسمى الخروج على الإِسلام إصلاحاً، عجلت إلى أن تخادع قراءها، فزعمت أن لسجن قومندان أوغلو قاسم توفيق صلة بالسباب الذي كان يتهجم به على الحضرة النبوية. وإن تعجب من بغضاء قوم للدين الحنيف بلغت ما يمثله "خطاب مفتوح إلى حضرة محمد"، فاعجبْ لنفر لا يزالون يسمون أنفسهم المسلمين، يعتبون على صحيفة "الفتح" أن تذيع بين المسلمين حقائق ما يقوله أو يفعله أولئك الرهط من دلائل عدائهم للإسلام، واستماتتهم في محاربته. ونحن لا نستطيع أن تتصور هؤلاء الذين يتخبطهم الغضب عند نشر

افتتاح نادي جمعية الهداية الإسلامية

المكائد التي تدبر للإسلام، إلا أنهم قوم لا يكادون يفقهون قولاً، أو أنهم يفقهون، ولكنهم لا ينصحون للقوم المسلمين، وعلى أي حال كان أولئك المحاربون، وهؤلاء الأغبياء أو الخائنون، لابد لأرباب الأقلام الرشيدة من أن ينقذوا العالم الإِسلامي من هذه الفتنة العمياء، ويحولوا بينه وبين عاقبة هي الخسران المبين. * افتتاح نادي جمعية الهداية الإِسلامية (¬1): أيها السادة! كنا نود أن لا نخطب أو نكتب إلا بحثاً في علم، أو حثاً على فضيلة، أو دعوة إلى إصلاح، وإنا لنكره أن نخوض فيما يمس الأمة من أمراض اجتماعية، أو فيما يبث بينها من زيغ وجحود، ولكنا نرى أنفسنا ملجئين إلى أن نصف حالتنا كما هي، وأن نذكر الحقائق كما يذكرها المؤرخ الذي يحرص على أن تكون نتائجه صادقة، وأحكامه في الأفراد أو الأمم عادلة، وإن الخطر لا يبلغ أن يكون كبيراً إلا أن يسكت عنه الناس يوم يظهر صغيراً. فإذا عرَّجنا في خطبنا على عوج في الأخلاق، أو مرض في القلوب، فإنما نقصد إلى السلامة من العوج، والحماية من المرض، ولا تنهض الأمة من كبوتها إلا أن تفتح صدرها لرجال ينقذونها على نصح، ويلفتون نظرها ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع من المجلد الأول. انتقلت إدارة جمعية الهداية إلى دار جديدة في شارع سوق السلاح بالقاهرة، واتخذت فيها نادياً لإلقاء المحاضرات، وأقامت لهذه المناسبة في يوم الخميس 15 ذي القعدة سنة 1347 هـ الموافق 25 أبريل "نيسان" سنة 1929 م حفلة ألقيت فيها خطب وقصائد تحوم على الغرض الذي أنشئت له الجمعية. وقد حضر هذه الحفلة جمع عظيم من العلماء والفضلاء، وطلاب العلم بالمعاهد والمدارس. وألقى الإمام بصفته رئيس جمعية الهداية الإِسلامية هذه الكلمة.

إلى ما يلقى في سبيلها من رجس وفساد. أيها السادة! ما من أحد في الشرق إلا يشعر بحاجتنا إلى أن ننهض كما تنهض الأمم المستقلة بتدبير شؤونها، نتحد في هذا الشعور، والذي يمكن أن تختلف فيه الأفراد أو الجماعات منا، إنما هو الوسائل التي نسلكها إلى مسابقة تلك الأمم الناهضة، بل إلى لحاقها؛ لأنها تقدمت علينا أشواطاً واسعة المدى. لا بأس في اختلاف الآراء النابتة في نفوس يعمرها الإخلاص، فإن الباحثين المخلصين لا يختلفون اختلافاً بعيداً، ولا يصرون على رأي شهدت الحجة على أنه غير سديد، وإنما البأس في آراء أو نزعات تقوم على أهواء، فهذه هي التي تطيش في عمى، وتنبذ إلى الأحلام الراجحة على سواء، وهذه هي التي تبعد بين الجماعات، فيتفرقون إلى غير ملتقى. في العالم الإِسلامي اليوم دعايتان بينهما من الاختلاف مثل ما بين بياض النهار وسواد الدجى: دعاية تقوم على ما أرشد إليه الإِسلام من حكمة وفضيلة ونظام، وحجةُ القائمين بهذه الدعاية -وهم المسلمون بحق-: أن الإِسلام لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من وسائل السعادة والعظمة إلا أرشد إليها، أو نبه على مكانها. وقد حدثت بجانب هذه الدعاية الرشيدة دعاية تقصد إلى صرف القلوب عن الهدى، وتسعى إلى أن تفتح في وجوه فتياننا وفتياتنا طرق المجون والخلاعة، والشبهةُ التي ينصبها القائمون بهذه الدعاية لاصطياد النفوس الغافلة، هي: أن هذه الأمم الباسطة سلطانها على كثير من أوطاننا، لا تتقلد الإِسلام ديناً، ولا تبالي أن تذهب في الخلاعة واتباع الشهوات أينما تشاء. يقولون هذا بأفواههم، كأنهم لا يعقلون أن تلك الأمم القوية إنما تسيطر

علينا بما تملك من القوة المادية، وبما تحوطها به من نحو الصبر وقوة الأمل، أما الجحود وإطلاق العنان في الشهوات، فوصمة في عرض الإنسانية، وعلة لا تشيع في جماعة إلا انقلبت خطواتهم إلى وراء، ولو أن أمة ملكت من القوة المادية مثل ما يملك هؤلاء، ثم استقامت على طريقة الرشد والعفاف، لكان لها من القوة المعنوية ما يجعلها أرجح وزناً، وأشد بأساً، وأرفع لواء، وأعز جانباً. كنا نشعر بدعاية الجحود والخلاعة، ونسمع لها صوتاً ضئيلاً، ونلمح لها أثراً حقيراً، حتى انطلقت الحرب العامة من عقالها، وفعلت في الحالة النفسية فعلتها، فإذا بعض النفوس التي كانت تغتبط بهدايتها وطهارة سرائرها، أصبحت تباهي بجحودها، وتنحط في أهوائها، وإذا بعض الأقلام التي كانت تدعو إلى خير وإصلاح، أخذت تنزع إلى شر، وتنادي إلى خسار، وإذا بعض من شأنهم أن يكونوا أنصاراً للحق والفضيلة، يتحيزون إلى دعاة الجحود والإباحية، ويضاهونهم في الكيد للدين القيم، ولكن من تحت ستار. ساعد هذه الدعاية على أن تبلغ ما بلغت، وتفسد من نفوس شبابنا ما أفسدت: أنها تتصل بطوائف من المخالفين، يحرصون على أن لا يبقى لشريعة الإِسلام عين ولا أثر، أفلا تنظرون إلى زعمائها كيف يتملقون حلفاءهم، فيلتقطون سيئات العرب وغيرهم من رجال الإِسلام بسمِّ الخياط، ويعمدون إلى مباهتة التاريخ، فيجعلون الفضل في كل صالحة إلى غير القوم المسلمين؟!. أن يسمعوا سُبَّة طاروا بها فرحاً ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا عرف فريق من نبهاء المسلمين أن هذه الدعاية لا تستند إلى رجاحة في الفكر، أو رسوخ في العلم؛ فإن زعماءها يبحثون فيخلطون، وينطقون فلا

يصيبون، ولولا مظاهر يأخذون بها أعين الغافلين من الناس، لذهبت مساعيهم كالنقش على الماء عبثاً. عرف هؤلاء النبهاء منشأ هذه الدعاية، وعرفوا الأيدي التي تشد أزرها، وتنفق عليها بسخاء، وعرفوا أنها تقوم على بهرج من القول، فلم يروا من الصعب عليهم أن يقعدوا لها كل مرصد، ويطاردوها بما استطاعوا من قوة، وما القوة إلا الرمي بالحجة والموعظة، فقاموا يؤلفون الجمعيات، وينشئون الصحف، ويفتحون النوادي، وقد ظهر لهذه المساعي النبيلة -بحمد الله- أثر عظيم. وعلى هذا النحو تنهض جماعة من أهل العلم إلى إنشاء جمعية إسلامية علمية أدبية فأنشؤوها، ولقبوها: "الهداية الإسلامية". فالغرض الأسمى لهذه الجمعية: حماية أبناء المسلمين وإنقاذهم من حفرة تلك الدعاية الغاوية. فشأن هذه الجمعية أن تعرض حقائق الدين الحنيف، وحكمة تشريعه في صورها الخالصة النقية، وشأنها أن تبحث في تاريخ رجال الإِسلام من العرب وغير العرب، تنبه على ما كان لهم من عبقرية في العلم، أو فضل في البيان، أو شرف في الأخلاق، أو رشد في السياسة. ولا تضل أمة وقفت على حكمة شريعتها، ودرست تاريخ الأعلام من رجالها. قال محمد بن إسحاق المعروف بأبي العباس: أدركت شيوخ الحي وهم يحضروننا ناديهم ونحن صبيان نسمع ما يتذاكرونه، وكانوا يفتتحون الكلام ويختتمونه بإنشاد هذا البيت: قد يعلم الناس أنا من خيارهم ... في الدين ديناً وفي أحسابهم حسبا

تعمل هذه الجمعية على إصلاح الأخلاق، ولا سيما خلق كالمداجاة والملق يكون لها في ظهور الباطل على الحق أثر شديد، وقد علَّمنا التاريخ والمشاهدة أن لا خير في نفوس تلقي بمودتها وتملقها إلى من يقطعون سبيل الرشد ويبغونها عوجاً، ويعجبني قول الشاعر الحماسي: ولست وإن قربت يوماً ببائع ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبُّبِ تحرص هذه الجمعية على أن ترى في العالم الإِسلامي رجالاً بارزين تسمو هممهم، ويجدُّ جدُّهم حتى يتركوا في الدنيا دوياً يمثل قول ابن الحسين: وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداولَ سمعَ المرء أنمله العشر دويٌّ، ولكنه يتفجر من نفوسٍ طينتها الإخلاص، وغذاؤها أشار الشرف الخالد على زهرة هذه الحياة، دويّ، ولكن يتموج فيه صوت الحق، فلا يسع الباطل إلا أن يخر له صعقاً زاهقاً. ومن علل الضعف الذي دخل في الإِسلام: تلكم الاختلافات التي كان مبدؤها اختلافاً في الرأي، ثم صار إلى اختلاف في القلوب، وإذا اختلفت القلوب، فلا شيء سوى التخاذل والتنازع، وإذا تخاذلت الأمة وتنازعت، فإنما هو الفشل، وإنما هي الدائرة التي يتربصها خصومها ليقضوا من سيطرتهم عليها وطراً. ولهذا أزمعت جمعية الهداية أن تعمل على رفع التجافي بين الفرق الإِسلامية، ولعلها تستطيع يتأبيد الله، وبوسيلة مجلتها الضاربة في الشرق يميناً وشمالاً، أن تضع مكان التجافي ألفة وسلاماً، وإذا عزَّ على زعماء هذه الفرق الوصول إلى تقليل مواقع الاختلاف في الآراء، فلا يعز عليهم أن يخففوا وقعه

في القلوب، ويكفوه عن أن يشيع فيها فاحشة التقاطع، والقصد إلى الأذى. يبدو لنا أن تلك الدعاية التي تأكل الطمأنينة والهمم الخطيرة من نفوس أبنائنا، لم يتيسر لها أن تبلغ ما بلغت إلا بالتفرق الضارب بين علماء الإِسلام، فإن من أهل العلم من لا يشعر بهذه الفتنة كما هي، ومنهم من يشعر بها وبسوء مغبتها، ويدري من أين تثور عاصفتها, ولكن تعظم في عينه حتى يأخذه اليأس من أن توجد قوة تطعن في مقاتلها. نظر القائمون على جمعية الهداية إلى هذه العلة: علةِ تفرق أهل العلم، فوضعوا في منهج الجمعية أن تعمل على تعارف العلماء المستنيرين أينما كانوا، حتى يكونوا على بينة من أمر هذه الدعاية، وينهضوا لإطفائها من حول فتياننا وفتياتنا قبل أن يصلَوها وهم لا يعقلون. لا يهولنا خطب هذه الدعاية النزقة، ولا يخالط أوهامنا أن أمرها قد نفذ، وأنها أصبحت الروح المتفشي في البلاد، فإننا نخاطب الفطر السليمة، والعقول النابهة، وإنما نخاطبها بالحجة. وما وقعت الحجة إلى فطرة سليمة، أو إلى عقل نابهٍ إلا كانت الهداية ثالثهما. ولقد قام محمد - صلوات الله عليه -، والروح السائدة في البلاد جحود وخلاعة، فجاهد بما أوتي من حكمة، فقلب الجحود إلى طمأنينة، والخلاعة إلى وقار وعفاف، ولم يقف أمام حكمته ما يملكه خصومه من ألفاظ وأساليب، ولا ما يملكونه من ثراء وزعامة. وهذا ما يملكه أعداء شريعته السمحة في هذا اليوم، فإن أومؤوا إلى الفلسفة، أو تفيقهوا باسم الفلسفة، قلنا: الصادق من نظراتها يخدم القرآن، وسفسافُها لا يلقي الشبهة في كلام البشر، فضلاً عن أن يعترض حكمة علام الغيوب.

وإذا قام اليوم نفر يريدون القضاء على اللغة العربية الفصحى، ويدعوننا إلى أن تتفرق شيعاً، ويزخرفون القول في أن يستعمل كل شعب أو وطن لغته الدارجة، فإن هذه الجمعية ستظل ثابتة على الدفاع عن هذه اللغة العامرة السامية، واضعة يدها في أيدي من يعملون لإعلاء شأنها، وبسط سلطانها على الشعوب الشرقية قاطبة. تسير هذه الجمعية على حكمة نطق بها أبو العباس المبرّد إذ يقول: ليس لقدم العهد يفضل القائل، ولا لحدثانه يهتضم المصيب، ولكن يعطى كل ما يستحق. فهذه الجمعية أكيسُ من أن تتمسك بالقديم على أي حال، أو تنبذ الجديد كيفما كان، بل شأنها أن تحترم الصالح، وإن كان ابن يوم أو ليلة، ولا تعبأ بغير الصالح، وإن بلغ من الكبر عتياً. فلا نقيم تقدم الزمن ولا لحداثته وزناً: ألا إنما الأيام أبناء واحد ... وهذي الليالي كلها أخواتُ وإنما نعتمد على أصول العلم الصحيح، وما تقضي به العقول البريئة من الأهواء. أخذت هذه الجمعية على نفسها أن لا تتعرض لشؤون السياسة؛ فإن الجمعيات التي تحوم على السياسة قد تقصر أعمارها، أو لا تستقر على مبادئها، ونحن نبغي لهذه الجمعية عمراً طويلاً، وجولة واسعة، وخطة قيمة راسية. أيها السادة! هذه مقاصد جمعيتنا الناهضة نعرضها على حضراتكم في وجه من الإيجاز، وقد أخذنا نعمل لتحقيقها في قرارة جأش، وحرية ضمير، وصراحة في القول، وإنا إن شاء الله لمهتدون.

تروتسكي "يعتنق الإسلام في بيئة تجهل على الإسلام"

* تروتسكي "يعتنق الإِسلام في بيئة تجهل على الإِسلام" (¬1): نقلت الصحف خبر اعتناق تروتسكي الزعيم البولشفي للإسلام، وهو منفي في تركيا، وجاء في حديث إسلامه: "أنه على أثر شفائه من مرضه في الآستانة، دعا مفتي الآستانة، فأجاب دعوته، وشهد اجتماعهما مندوب جريدة "وقت" التركية، فقال تروتسكي: كنت يهودياً، غير أن مبادئي لم ترق لبعض الحاخامين، فحرموني من ديانتي، ولكني لم أعر حرماني هذا اهتماماً كثيراً؛ لأن مبادئ الدين الإسرائيلي لم تكن لتروقني، فلم أحتجّ، ولم أعارض. وأما الآن، وأنا أتقدم في السن, فإني أشعر كغيري من الناس بأني في حاجة إلى إيمان ودين سماوي، ففكرت في وقت ما أن أصبح مسيحياً، غير أني عدلت عن ذلك؛ لكرهي اعتناق دين القياصرة المستبدين، وراسبوتين الراهب الشرير، فلم يبق أمامي غير الدين الإِسلامي الذي دققت في البحث في شرائعه، فوجدت فيه مزايا حسنة، منها: أنه يحض على المناقشة والمباحثة في أصوله، ولذا سأعتنق الإِسلام. وسيتناول فضيلة المفتي العشاء معي، ثم يبدأ بتلقيني الشرائع الإِسلامية" (¬2). مجلة "الهداية الإِسلامية": يحدثنا تروتسكي أنه اعتنق الإِسلام بعد أن دقق البحث في حقائق شريعته الغراء، ومن نظر إلى أن تروتسكي نشأ في منبت غير إسلامي، وأشرب مذهباً ذا مبادئ لا تلائم طبيعة الدين الحنيف، ثم وقع في بيئة أخذ مترفوها يفسقون عن الإِسلام علانية، وثق بأن مثل تروتسكي إنما يسلم على سلطان من الحجة مبين. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء السابع من المجلد الأول. (¬2) جريدة "الأهرام" عدد 19 أبريل (نيسان) سنة 1929.

حول نقل الكتب العربية إلى الألمانية

ولا عجيب أن يهتدي تروتسكي للإسلام، ويزيغ عنه نفر ترددوا على معاهد شريعته بضع سنين؛ فإن هؤلاء النفر لم ينظروا في حقائقه نظر الباحث النبيه، وما كانت تعاليمه إلا كالصور تقع على ظاهر قلوبهم دون أن تخالط سرائرها، فما هم من أولئك الذين يتجافون عنه بجهالة مطلقة ببعيد. ولنا الأمل في أن تصلح طرق التأليف والتعليم، فيسهل على كل ناشئ يدرس حقائق الشريعة أن يصل إلى لبابها، وينفذ إلى بالغ حكمتها. ولو عني القائمون على شؤون الدين بترجمة محفوفة بالاستدلال وبيان الحكمة، لأصبح عدد المعتنقين للإسلام من أمثال تروتسكي غير قليل. * حول نقل الكتب العربية إلى الألمانية (¬1): لقيت في "برلين" شاباً مستشرقاً يقال له: "ريشه"، وكان يقيم في الآستانة، وله اختصاص الأستاذ الشيخ إسماعيل حافظ أمين مكتبة بايزيد. نقل هذا الشاب من العربية إلى الألمانية قصائد أبي الأسود الدؤلي، "ومقامات الهمذاني"، و"أطباق الذهب" لعبد المؤمن الأصفهاني، و"مقامات الزمخشري"، و"الأدب الصغير" لابن المقفع، وكتاب "أحسن ما سمعت" للثعالبي، وهذا ما ترجمه وتم طبعه، واخبرني أنه ترجم "الأدب الكبير" لابن المقفع، ومقدار الربع من "فتوح البلدان" للبلاذري، وربما طبع الكتاب أو الرسالة كما هي، وعلق عليها بعض بيانات باللسان الألماني، مثل: "شرح ابن الأنباري لمعلقة زهير" و"شرحه لمعلقة عنترة"، ورسالة "المذكر والمؤنث" لابن جني، ورسالة "بقايا الأشياء" لأبي هلال العسكري. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الاسلامية" الجزء السابع من المجلد الأول.

للتاربخ

* للتاربخ (¬1): تلقى مدير هذه المجلة من أستاذ علامة كبير في رباط الفتح رسالة خاصة، دلت على غزارة علمه، وسعة اطلاعه في التاريخ, وعلو مكانته في الأدب، فنقتبس منها ما يأتي خدمة للتاريخ: "منذ برهة اجتمعت بحاضرتنا بالشيخ القاصر الصدام "أحد مدرسي جامع الزيتونة"، فكانت مجالس أنس، ومسامرات علم، ومحاضرات أدب، وكان أول ما جرى من الأحاديث مما يتعلق بكم، فاستعبر وبكى على فراقكم ... وأجبته تسلية له: بأن القاهرة المعزية هي كرسي الإِسلام وإيوانه كما يقول ولي الدين الحضرمي، والتاريح يعيد نفسه، ولذلك تجبى إليها ثمرات كل شيء، وليست هذه الأولى من نوعها، وذكرته بعهد أسد بن الفرات، وسحنون، ورحلتهما للعلم والغنم، والتدوين والتمدين، وعهد ابن خلدن، ثم "بيرم" القريب العهد. وعلى العكس من ذلك همّ الحافظ زين الدين العراقي بالرحلة لسماع "الموطأ"؛ لعلو خطيب "الزيتونة" بها، فلم يتفق له كما في "طبقات ابن فهد المكي". على أن فضل "الخضراء (¬2) " غير قاصر من هذه الناحية على جارتها الشرقية، بل سرى حتى إلى جارتها الغربية، وليس ببعيد ما عقده في العهد السليماني شيخ الإِسلام الرياحي تلميذ الشيخ إسماعيل التميمي مع الهيئة العلمية بالمغرب من أواصر الإخاء والصفاء، مما زاد في مفاخر الخضراء .. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد الأول. (¬2) من أسماء تونس.

على أن ذلك غير قاصر على الأعيان، بل شامل حتى للبنيان. وما زلت أسمع أن الملو ... ك تبني على قدِّ خطاها فإن الجامع الأزهر بمصر إنما بناه القائد جوهر القادم من تونس يوم السبت 24 جمادي الأولى سنة 359 كما هو مشهور ... وإن جامع القرويين بفاس إنما بنته القانتة أم البنين السيدة فاطمة بنت محمد الفهري القيرواني يوم السبت فاتح رمضان سنة 245 لما قدمت مع أبيها وإخوتها في وفد القيروان على مولانا إدريس باني فاس نجلِ الفاتح العظيم. فاستحسن ما ذكرته في "القرويين"، واستغربه، فأحلته إلى صحف التاريخ المغربي؛ كالقرطاس وغيره، وإنه من الحقائق المقررة في الحقائب، فحاول أن يجعل ذلك من الإنصاف، فقاومت بأن "حقائق الأشياء ثابتة"، وأن العلم رحم بين أهله، وأن الإِسلام لا وطنية له، وإنما المؤمنون إخوة". هذا ما كتبه فضيلة ذلك الأستاذ، وهو أحد أفاضل علماء المغرب الأقصى، ونحن لا ننسى ما للجامع الأزهر بالقاهرة، ولجامع القرويين بفاس من الأثر الكبير في نهضة العلم بجامع الزيتونة؛ فإن الكتب التي تدرس بجامع الزيتونة أغلبها من مؤلفات الأزهر، أو علماء المغرب الأقصى، ولتعاليم الجامع الأزهر، وتعاليم جامع القرويين أثر عظيم في الثقافة الزيتونية، ولا ننسى بعد هذا طائفة من علماء فاس قدموا إلى تونس، واتخذوها دار إقامة، وتلقى عنهم التونسيون من العلوم ما لم يكونوا يعلمون؛ مثل: الشيخ محمد الفاسي المتوفى سنة 1232، وأذكر الآن أن أحد الفضلاء من علماء مصر، وهو أبو المكارم هبة الله ابن الحسن المصري، رحل من مصر إلى الأندلس، وولي القضاء بإشبيلية، وانتقل إلى المغرب، وولي القضاء بفاس، ثم استصحبه السلطان يعقوب

فاتحة السنة الثانية

المنصور إلى تونس، وولاه قضاءها، واستمر قاضياً بها إلى أن توفي سنة ست وثمانين وخمس مئة، وكذلك كانت البلاد الإِسلامية ولا تزال في نظر الذين أوتوا الحكمة وطناً واحداً. * فاتحة السنة الثانية (¬1): أيها السادة! تشعر الأمة بعلل ضعفها، فتلجأ إلى الدواء الناجع، ودواءُ ضعف الأمم: التربية النقية، والعلم الموزون، وإذا ظفرت الأمة من التربية المهذبة بأمنيتها، وملأت من العلم النافع يدها، تقاربت عقولها، وتشابهت قلوبها، وإذا تقاربت الآراء، وتشابهت الهمم، فما هو إلا الوفاق والاتحاد، وبرابطة الاتحاد تبلغ الأمة أشدها، وتملك وسائل نجاتها، والأمة القوية باتحادها، المالكة لوسائل نجاتها، تتراءى لها الغاية الشريفة، فلا تتمالك أن تسعى لها سعيها, ولا ترضى إلا أن تقف عندها: شعورٌ فعلمٌ فاتحادٌ فقوةٌ ... فعزمٌ فإقدامٌ فإحرازُ آمالِ بمثل ذلك كانت الأمة الإِسلامية في عزة ضافية، وسلطان مكين، أدركت الأمة ذلك المقام المحمود يوم أخرج الإِسلام رجالاً استنارت عقولهم، وخلصت ضمائرهم، فأفاضوا على العالم حكمة ورشداً وإصلاحاً، ويوم كانت معاهدنا العلمية طافحة برجال لا يرضون من العلم إلا باللباب، ولا من المعالي إلا بالسنام، ولا يهابون الرئيس إلا أن يكون تقياً. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثاني. احتفلت جمعية الهداية الإِسلامية بمناسبة مرور سنة على صدور مجلتها في مساء يوم الجمعة 29 جمادى الأول سنة 1348 الموافق أول نوفمبر "تشرين الثاني" 1929، وألقى الإِمام هذه الكلمة.

أعقمت المعاهد إلا نزراً، ونضب معين العلم إلا ثمداً، أخلدت النفوس إلى الأهواء، تفرقت الأمة أيدي سبا، تداعى بناء تلك العزة، تقلص ظل ذلك السلطان، وإذا العاقبة ما ترون بأعينكم، أو تسمعون بآذانكم. لا أريد أن أتناول في هذا المقام ما يمس جماعتنا من مرض في الأخلاق، ولا ما تقاسيه بعض الشعوب من عسف وإرهاق، وشأني في هذا المقام أن ألفت أنظاركم إلى نزعة لو خلي سبيلها، وألقي حبلها على غاريها, لمزقت الأمة شر ممزق، ولبسطت بها في خسر دائم وشقاء بعيد. ثلة من المخالفين، وثلة ممن نشؤوا في بيوت المسلمين، تشابهت قلوبهم، وتواطأت آراؤهم على أن يقعدوا للحق في كل مرصد، ويطعنوه في كل مقتل، يعملون على هذا القصد في بعض الصحف، في بعض المؤلفات، في نوادي بعض الجمعيات، بل أخذ الزيغ بمجامع قلوبهم، فلم يبالوا أن يقذفوه في نفوس طلاب العلم، وقد جلسوا إليهم في فطر صافية، وأذهان خالية. ومما نقضي له أشد الأسف: أن يتخذوا في بعض المعاهد الإِسلامية أصابع يومئون بها إلى ما ابتغوا من إباحة منكر، أو استبدال جحود بإيمان. تخيل القائمون بهذه الدعاية الزائفة أن أولياء الحق في موتة فلا ينتبهون، أو أنهم في رهبة من رؤوس الضلال فلا يكافحون، فهاجموا الدين الحنيف من نواحي شتى، وأوشكت سهامهم -لولا وقاية الله- أن تنفذ في قلوب النشء، فيرتدوا على أعقابهم خاسرين. من مظاهر هذه الوقاية: أن كان في نشئنا فطر سليمة تدرك شر ما يوسوس به أولئك المنحرفون عن السبيل، وإن خرجوا في زي المرشد رياء، أو صاغوا دعايتهم زخرف القول غروراً. وقد رأينا بعض المتخرجين في المدارس التي

لا يعني فيها بدرس شيء من علوم الدين، يقفون أمام من يحاول إغواءهم موقف المزدري بأقوالهم، الضارب بها في وجوههم، وما هي إلا الألمعية المهذبة، أو ما يتلقى في البيت من تربية ناصحة، وأدب حكيم. وإذا نحن بحثنا عن نشأة هذه الجمعيات التي نهضت لتحول بين دعاة الجحود والإباحية وما يشتهون، نجد أكثر الداعين إلى تأسيسها، والقائمين بعبء ثقيل من أعمالها، هم الشبان الذين سمعوا أو قرؤوا ما يقوله أولئك المجرمون، فعرفوا أن أشرف جهاد في هذه الحياة العمل على إنقاذ الأمة من بلاء يثيره حولها قوم لا يهتدون. توفق فريق من الشيوخ والشبان إلى أن يدافعوا هؤلاء المنكرين بمثل سلاحهم الذين يحاربون، فألفوا الجمعيات كما ألفوا، وفتحوا النوادي كما فتحوا، وأنشؤوا الصحف كما أنشؤوا، وقد أخذوا من هذه الوسائل بما استطاعوا، فوجدوا لها في إزاحة الشر ودفع الخطر أثراً مشهوداً. وهذه جمعية الهداية الإِسلامية أنشئت، وليس لديها من وسائل الجهاد إلا الثقة بأن الله مع الذين يصلحون ولا يفسدون. افتتحت الجمعية أعمالها بمحاضرات تلقى لإرشاد الجمهور في مساجد القاهرة وغيرها من القرى، ومحاضرات تلقى عن طريقة البحث العلمي في بعض النوادي الأدبية. وأخذ مجلس الإدارة مع هذا يسعى لإنشاء مجلة تعمل لتحقيق مبادئ الجمعية. ظهرت المجلة، ولم نستطع بالنظر إلى مقدار ما تيسر من الوسائل المادية أن نصدرها في مظهر أكبر مما صدرت، وأقدمنا على إظهارها حسب الميسور؛

رجاء أن تكون من المشروعات التي تبدو صغيرة، ثم لا تزال تنمو حتى يتسع نطاقها، ويعظم في الناس أثرها. سارت المجلة في خطبتها المرسومة على نظر وبصيرة، فنالت في البلاد الإِسلامية حظوة، ولقيها أهل العلم في كل قطر بأحسن قبول. خطة المجلة: تتناول الخطة المرسومة للمجلة نواحي متعددة: قد تمكنا في السنّة الماضية من التحرير في بعضها، وسنمضي -بتأييد الله تعالى- في هذه الخطة، ونأتي على كل ناحية منها كما مست الحاجة إلى شيء من موضوعاتها. تبحث المجلة في حقائق الإِسلام، وفي كل إصلاح تتناوله أصول الشريعة الغراء، مع اجتناب الآراء المخالفة لما أجمع عليه الأئمة المجتهدون، والابتعاد عن الجمود الذي لا يليق بسماحة الدين الحنيف. تبحث عن حكمة التشريع الإِسلامي؛ لتري قراءها أن الإِسلام يرفع أولياءه بحق إلى أرقى ما يرام من السعادة في الحياة الأولى قبل الآخرة. تتصدى لدفع ما يلقى حول الدين من شبه، أو يوجه إليه من مطاعن، وتكشف اللثام عن الضلالة التي تجيء باسم التجديد مرة، واسم حرية الفكر مرة أخرى. تبحث عما يفعله الناس على أنه من الدين، وما هو من الدين في شيء، تتعرض لتراجم عظماء الرجال، ولا سيما من كان لهم في حياة المسلمين العلمية أو السياسية أو الاجتماعية أثر جليل. تبحث في الأخلاق والعادات من حيث حسنها، فتحث على التمسك بها، أو من حيث قبحها، فتنصح بتحاميها والإقلاع عنها.

ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الألمانية

تبحث عما يجري في المعاهد العلمية من أطوار التربية وأساليب التعليم؛ لتتناولها بالنقد، وتميز مساوئها من محاسنها. ينشر فيها ما يقضي الحال نشره من المباحث العائدة إلى علوم اللغة العربية وآدابها. وهي -بعد هذا- تعد صفحاتها لكل مقال يبحث عن شيء من أسرار الكون، أو ما وصل إليه العلم من نظريات ومبتكرات. هذا هو المنهج الذي تتوخاه المجلة فيما يستقبل من الأيام، وإنا -إن شاء الله- لمهتدون. * ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الألمانية (¬1): ترجم القرآن المستشرق "ركرت" المتوفى في أواسط المئة الماضية، ولكنه توفي قبل أن يتم ترجمته. ثم ترجمه المستشرق "هنينك"، وكان في أيام الحرب الكبرى يعيش في "فرنكفورت". إلا أن "ركرت" كان يراعي في الترجمة بلاغة اللسان الألماني، فيتصرف في الترجمة بنحو التقديم والتأخير، والتعبير بالحقيقة مرة، والمجاز أخرى، وأما "هنينك"، فكان يقصد إلى أن يترجم القرآن ترجمة حرفية، فيحافظ على ترتيب الآية، ويتحرى في الترجمة أداء المعنى الأصلي جهد استطاعته. وهناك ترجمة أخرى للقرآن لا أذكر صاحبها، وأخبرني بعض من اطلع عليها أنها مملوءة بالخطأ والتحريف، وأخبرني الأستاذ "هردر" أن إحدى الجمعيات راسلته تقترح عليه أن يترجم لهم آيات من سور متفرقة من القرآن، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثاني.

قسم التخصص بالأزهر الشريف

فاقتبس لهم مما ترجمه المستشرق "ركرت" آيات كثيرة في التوحيد والأخلاق والأحكام، وطبعوها مجموعة وصارت منتشرة بينهم انتشار التراجم الأخرى. * قسم التخصص بالأزهر الشريف (¬1): الغرض من إنشاء هذا القسم: إخراج علماء واسعي الاطلاع، راسخي الفهم فيما أقبلوا على التخصص فيه من العلوم، وهو من أعظم المفاخر التي امتازت بها مصر عن بقية الممالك الإِسلامية في هذا العصر، فنحن ننظر إلى هذا القسم كأنه مطلع حياة علمية إسلامية راقية، ولا نعد أنفسنا مبالغين إذا قلنا: إنه يراد من إنشاء هذا القسم: إخراج علماء بالتفسير؛ كالقاضي البيضاوي، ومحدثين؛ كالحافظ ابن حجر، وفقهاء؛ كالقفال في الشافعية، أو الكمال بن الهمام في الحنفية، أو أبي بكر الأبهري في المالكية، أو ابن قدامة في الحنابلة، أو إخراج نظار في الأصول؛ كابن إسحاق الشاطبي، وفلاسفة بلاغة؛ كعبد القاهر الجرجاني، وفلاسفة أخلاق؛ كأبي حامد الغزالي، وأدباء؛ كالجاحظ، وفلاسفة تاريخ؛ كابن خلدون. ولست من المتشائمين الذين يذهبون إلى أن قسم التخصص أبخل من أن تنبت فيه هذه العلوم نباتاً فائقاً، أو أن هذا الزمن أقصر يداً من أن يخرج لنا أمثال أولئك الأعلام النبغاء، بل أجدني على ثقة من أن هذه المعاهد الإِسلامية تحتوي كنوزاً من العلم قيمة، وليس بينها ويين أن تتدفق برجال يبهرون العيون علماً وجلالة، إلا أن تأخذ من إصلاح التعليم حظها، ويكون لأبنائها في نظر أولي الأمر مقام كريم. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثاني من المجلد الثاني.

خطب عظيم

* خطب عظيم (¬1): في الساعة الرابعة من صبيحة يوم السبت 27 ذي القعدة من هذا العام (¬2)، فجع العلم والدين والفضيلة بوفاة رجل قلما رأت العين مثله، ذلك هو صاحب السعادة العلامة الكبير أحمد تيمور باشا. فاجعة قطعت الأكباد حزناً، وأخذت الألباب ذهولاً، فما لي على أن أصف هذا العبقري بما يوفي حقه اليوم من قوة، وما مثلنا -وقد بلينا بفقده- إلا المدلجون يطلع عليهم القمر ساطعاً، فيستبينون به أعلام الطريق رشداً، حتى إذا ازدهتهم طلعته، وتدفقت حولهم أشعته، توارى بالحجاب، فإذا هم مظلمون. استأثرت المنون بأحمد تيمور، فخسرت مصر، بل خسر الشرق والغرب عالماً نحريراً، وباحثاً مدققاً، ومثالاً أعلى للخلق الجميل، والأدب الأصيل، تواضع في شمم، وغيرة على الحق لا تكفكفها رغبة في مدح، أو حذر من ذم، ينفق في سبيل الخير، وهو يكره أن تعلم شماله ما أنفقت يمينه، وإذا اغتبط أهل الدنيا يساراً ووجاهة أو منصباً، فأحمد تيمور لا يرى فخراً في غير علمه ودينه وقوة يقينه. قام طلاب العلم يدعون لإنشاء جمعية الهداية الإِسلامية، وشد أزرهم في هذه النهضة كثير من كبار أهل العلم، ولما أنس فيها الفقيد - رحمه الله - عزماً ورشداً، أخذ يؤازرها، ويمدها بما يوطد أملها، ويزيدها نشاطاً على ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء السابع من المجلد الثاني. انظر كتاب: "تراجم الرجال" للإمام، ففيه بحث قيم عن العلامة أحمد تيمور باشا - رحمه الله -. (¬2) عام 1348 هـ.

فاتحة السنة الثالثة

نشاطها، حتى جرى انتخابه عضواً في مجلس إدارتها، فتلقى هذا الانتخاب بارتياح، وجعل يسعى في تقدم الجمعية بما لديه من استطاعة حتى يكون لها في خدمة الإِسلام واللغة العربية العمل الجليل، وله بعد هذا في كل جمعية أدبية أو خيرية عارفة. كتب هذه الكلمات والأسى يملأ ما بين الجوانح، والقلم من هول مصابه جامح، وسنقضي حق البسط في مزايا الفقيد بحفلة تأبينه التي أزمعت جمعية الهداية الإِسلامية على إقامتها في أجل قريب، رحمك الله أيها الهمام المفضال، وطيَّبَ ثرى تربتك، وقيَّض للعلم والفضيلة والتقوى من يقتدي فيها على أثرك. * فاتحة السنة الثالثة (¬1): الحمد لله الذي جمع على الجهاد في سبيله كلمتنا، ووفق أولي الهمم الكريمة وأنصار الإصلاح لمؤازرتنا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث بأحكم كتاب، والداعي إلى أفضل السنن وأشرف الآداب، وعلى آله النبلاء، وصحبه الأجلاء. أما بعد: فقد قضت هذه المجلة حولين كاملين في العمل لمثل ما يعمل له المصلحون، وقد لقيت في سبيلها عقبات فاقتحمتها، ووقعت في أزمات فما زالت تعالجها حتى خرجت منها -بتأييد الله تعالى- قوية الساعد، محمودة الأثر. ولا ننسى أن نذكر بجميل الشكر أول من مدَّ يده إلى هذه المجلة بمعونة ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثالث.

جمعية الهداية الإسلامية

ذات بال، وهو فضيلة الزعيم السوري الكبير الأستاذ الشيخ محمد كامل القصاب، ونذكر -والحزن يساور أفئدتنا- فقيد العلم والدين العلامة الكبير الأستاذ المرحوم أحمد تيمور باشا، وما كان له من يد في حياة هذه المجلة بيضاء، بل كان له الأثر العظيم في نهوض الجمعية واتساع نطاقها، ونقدم خالص الشكر بعد هذا إلى كل من آزر الجمعية أو مجلتها مسألة أو بقلمه، أو بكلمة يدعو بها إلى المؤازرة. وستسير المجلة بإذن الله تعالى كاشفة عن حقائق الدين جهدها، دافعة لشبه المبطلين بساطع حججها، رافعة للغة العرب وآدابها لواء، ناشرة من تاريخ عظماء الإِسلام ما يجد فيه القاري سنى وسناء، وسيكون معظم موضوعاتها ما يلقى في نادي الجمعية من خطب ومحاضرات، وما يصل إلينا من الدروس التي يلقيها بعض المصلحين من علماء جامع الزيتونة في تونس، وما تجود به قرائح غير هؤلاء من مقالات أو محاضرات. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. * جمعية الهداية الإِسلامية (¬1): أنشئت جمعية الهداية الإِسلامية في القاهرة، ووفقها الله تعالى أن كان لدعوتها آثار في نفوس النشء حسنة، وأنشئت بعدها جمعية الهداية الإِسلامية في بغداد، فرأينا للقائمين بها علماً وشجاعة لا تخاف في الحق لومة لائم، ولا نشك في أن خيرها كان وسيكون عظيماً، واليوم قد زف إلينا فضيلة الأستاذ ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الثالث. تعليق الإِمام على خطاب المرحوم الشيخ محمود ياسين الذي أرسله للمجلة يعلن فيه تأليف "جمعية الهداية الإِسلامية" الدمشقية تستمد قوتها من "جمعية الهداية الإِسلامية" المصرية.

فقيد الإسلام والشرق مولانا محمد علي

الجليل الشيخ محمود ياسين هذه الرسالة تبشرنا بإنشاء جمعية الهداية الإِسلامية في دمشق. وقد سبق لنا أن عرفنا الأستاذ الشيخ محمود ياسين، وطائفة عظيمة من حضرات السادة الأساتذة علماء دمشق، فرأينا فيهم من الغيرة على الدين الحنيف، والوقوف في وجه المفتونين الزائغين، ما يقوي أملنا في نجاح هذه الجمعية، وثباتها في سبيل إظهار الحق، وإعلاء كلمة الفضيلة. وبقي لنا أن نرى في فلسطين وتونس والجزائر ومراكش جمعيات توافق جمعيات القاهرة وبغداد ودمشق في اسمها، والغاية التي تسعى إليه، وما غايتها إلا إرشاد الناس إلى ما فيه خير الدنيا وسعادة الآخرة. * فقيد الإِسلام والشرق مولانا محمد علي (¬1): يصاب الشرق بفقد رجال يواصلون جهادهم في النضال عن حقوقه السياسية، ويصاب الشرق بفقد رجال يجاهدون في إعلاء كلمة الإِسلام، وتأكيد رابطته السماوية. أما اليوم، فقد أصيب الشرق بفقد عظيم سياسي حكيم، ومجاهد إسلامي عظيم، هو المرحوم مولانا محمد علي (إنا لله وإنا إليه راجعون). ولو كانت الزعامة في زخرف من الخطابة أو التحرير، أو في ألمعية تلحق الأعمى بالبصير، لم تتمزق أفندتنا على هذا الزعيم الخطير؛ فإن لدينا من الخطباء والأدباء والأذكياء عدداً غير قليل، وإنما الزعامة الصادقة في السيرة القائمة على العقيدة السليمة، والأخلاق الرصينة، وقد كان هذا الراحل المأسوف ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الرابع من المجلد الثالث.

عليه خطيباً مصقعاً، وكاتباً مبدعاً، ومؤمناً صادقاً، ومجاهداً مخلصاً، وإذا كان لكل وطن زعيم، فمولانا محمد علي زعيم الشعوب الإِسلامية بأجمعها. توفي هذا الزعيم الكبير في "لندن" في منتصف شعبان من هذه السنة، ولما بلغ نعيه إلى فلسطين، بعث سماحة رئيس المجلس الإِسلامي الأعلى إلى آل الفقيد برقية يرجو فيها من أخي الفقيد مولانا شوكت علي أن يوافق على جعل مثوى الفقيد في جوار المسجد الأقصى، فأجاب بالموافقة، ووصلت جثة الفقيد إلى بورسعيد في صباح يوم الأريعاء 2 رمضان سنة 1349، ونقلت إلى القدس الشريف ليلة الجمعة، وشيعت الجنازة في موكب حافل عظيم، ودفن في جوار المسجد الأقصى يوم الجمعة، حيث دفن كثير من أبطال الإِسلام، وفي دفن هذا الزعيم الهندي بالقدس الشريف رمز إلى أن هذا البلد المقدس وطن لجميع الشعوب الإِسلامية قاطبة، فلا يدعون الدفاع عنه إلا أن يرضوا بالصغار، وقد أمرهم دينهم بأن يعيشوا في عزة، أو يموتوا في كرامهّ، وقد سافرت عند وصول رفات الفقيد إلى بورسعيد، ولقيت مولانا شوكت علي، وأبلغته تعزية جمعية الهداية وأسفها لهذا المصاب الكبير، وكان حديث هذا الزعيم في الجامعة الإِسلامية، وأشار وقتئذ إلى ملابسه مفتخراً بأنها من المصنوعات الوطنية ما عدا القفاز (¬1)؛ فقد اعتذر الزعيم بأن شدة البرد اضطرته إليه، فاشتراه من باريس، وقال: سأرميه عن يدي، ولا ألبسه بعد الآن. فنسأل الله تعالى أن يفيض على قبر الفقيد رحمة، ويعوض المسلمين منه خيراً. ¬

_ (¬1) ما يلبس باليد.

طريقة جمعية خيرية في مساعدة البائسين

* طريقة جمعية خيرية في مساعدة البائسين (¬1): كنت عرفت يوم كنت في ألمانيا أن هناك جمعية خيرية تبحث عن البائسين من طرق خفية، وتوجه إليهم على طريق البريد صدقات من غير أن يشعروا بمصدرها، وقص علي الأستاذ (هردر) أن إحدى البائسات كانت ترتزق بصنعة الخياطة، فجاءها ذات يوم أحد السعاة بادارة البريد بخمس مئة مارك، وناولها إياها، فدهشت فرحاً، وسألته عن مرسلها، فأبى أن يخبرها بالمرسل، وترى هذه الجمعية أن التبرع بقسط عظيم على بائس واحد أنفع من توزيعه على كثير ينال كل واحد شيء يسير. * خطاب ترحيب بالزعيم الإِسلامي مولانا شوكت علي (¬2): أيها الزعيم الكبير، ويا أيها السادة! جمع احتفالنا هذا مثلاً عالية لشعوب شرقية مختلفة البلاد، ولم يكن تلاقيهم هذا على وجه المصادفة كما يلتقون في متنزه أو معرض يشهدون فيه ما تلذ أعينهم، وإنما اجتمعوا إجابة لداعي عاطفة انبعثت من ذلك الكتاب الحكيم الذي يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10} , ويقول: {مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]. رابطة استحكمت في أسلافنا، فكانت مظهر عظمة وسيادة، ووهنت من بعد قوة، فسقطت مهابتنا من أعين خصومنا، حتى طمع فينا من لا يدفع عن نفسه، ورام ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الرابع من المجلد الثالث. (¬2) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الثالث. زار الزعيم الهندي الإِسلامي مولانا شوكت علي دار جمعية الهداية الإِسلامية مساء يوم الأربعاء 16 رمضان 1349، والتقى بجمع عظيم من أهل العلم والفضل. وألقى الإِمام هذا الخطاب.

استعبادنا من كانوا يعيشون في ظل سلطاننا أحراراً. وهنت تلك الرابطة بعد توكيدها، فولدت الليالي غرباناً: ذاك ينعق في بلاد الترك بالطورانية، وهذا ينعق في مصر بالفرعونية، وآخر ينعق في المغرب بالبربرية، خناجر صاغها خصومنا لتمزيق وحدتنا، وطمس عواطفنا، فافتتن بها أحداث يطيرون إلى تقليد كل ناعق، ولولا كتاب الله ينطق بالحق، لكان لتلك الصيحة المشؤومة مدى واسع، وأثر في إفساد النفوس غير قليل. والفضل -بعد كتاب الله- في تأكيد رابطة الدين المقدسة، لرجال يجاهدون في الإصلاح بصدق، ويهتدون في زعامتهم بمعالم الشريعة الغراء، ولو أشرب زعماء الشعوب الإِسلامية جميعاً النصح للدين، لكان للعالم الإِسلامي في حياته المدنية والسياسية غير هذا الشأن. ويسرنا أن نشهد في هذه الليلة زعمياً يعتصم في زعامته بعروة الدين الوثقى، وهو حضرة مولانا شوكت علي. إن الزعيم الذي يكون سلاحه العزم والإخلاص لا يلبث أن يفتح للحرية باباً كان مغلقاً، أو يقوِّم طريقاً للإصلاح كان عوجاً، وأقل ثمرة يجنيها الزعيم المخلص من جهاده الشريف: أن ينبه شعوراً خاملاً، وإذا شعرت الأمة بحقوقها، فليدعها؛ فإنها لا تسير إلا قدماً. أيها الزعيم الكريم! لجمعية الهداية الإِسلامية في بلاد الهند حاجة، وأن خير من توصيه بقضائها الزعيم المسلم الغيور، هي: أن في تلك الديار فرقاً حديثة؛ كالبهائية والقاديانية تفسد في دين الله علناً، أو من وراء نفاق، فإذا لم تبادروا إلى علاج هذا المرض بالدواء الناجح، انحط بالنفوس إلى هاوية الجهالة، وفتَّ في عضد الزعماء، فلا يجدون من ورائهم قوة الاتحاد الذي تخضع له كل قوة.

الناشئة والآداب الإسلامية

والدواء الناجع أن يقف الراسخون في العلم تجاه هذه الفرق الزائعة عن السبيل، ويدفعوا باطلها بالحجة وحسن البيان. فبغية جمعية الهداية الإِسلامية التي تضعها بين يدي حضرتكم: أن تكثروا من حث العلماء هناك على الجهاد في الحق بالطرق العلمية، ولا تدعوا تذكيرهم بأن ينقذوا الناس من وساوس تلك الفرق قبل أن يروج بهتانها، ويكون السواد الغالب في جانبها. هذا، وجمعية الهداية الإِسلامية تغتبط بزيارتكم دارها، وتقدم لكم جزيل الشكر على إجابة دعوتها، ونسأل الله تعالى أن يسدد خطواتكم، ويقرن بالنجاح غدواتكم وروحاتكم. * الناشئة والآداب الإِسلامية (¬1): السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد: فجمعية الهداية الإِسلامية رأت في مشروعات تقوم بها وزارة المعارف ما هو مخالف للدين الحنيف، وليس هو من الإصلاح في شيء. أنشأت وزارة المعارف معهداً للتمثيل ورقص الفتيان والفتيات، فكان لهذا النبأ أثر استياء في جميع الطبقات التي ترى سعادة الأمة في المحافظة على آداب دينها القويم. والإِسلام -يا صاحب المعالي- يحرم اختلاط المرأة بغير مَحْرمَ، ولا سيما اختلاط يبعد بها عن واجب الصيانة، وقد عرفت الأمم الغربية بعد التجارب الطويلة مضار هذا الاختلاط، وأصبح عقلاؤهم يرفعون أصواتهم بالتحذير منه. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الثالث - خطاب الإِمام بوصفه رئيس جمعية الهداية الإِسلامية إلى رئيس مجلس الوزراء بمصر.

ارتجال الشعر الألماني

جمعية الهداية الإِسلامية في مقدمة الداعين إلى الإصلاح، والأخذ بكل جديد نافع، ولكن معهد التمثيل والرقص لا صلة له بالإصلاح في حال، وهو -على الرغم من موافقته أهواء طائفة خاصة- يجر الأمة إلى مظهر من مظاهر الأخلاق المكروهة، وإذا كان الدين لا يرضى عن مثل هذا المشروع، وأصبح الناصحون لأممهم يشكون من سوء عاقبته، فإن جمعية الهداية الإِسلامية تستند إلى ما جاء به الإِسلام من تحريم اختلاط النساء بالرجال في لهو، ثم إلى نص المادة من الدستور المصري الصريحة في أن دين الدولة الرسمي هو الإِسلام. ونرجو من دولتكم أن تعدل وزارة المعارف عن ذلك المشروع الذي يعد مقدمة خطر يأتي على خلق الحياء والصيانة، ويجعل آداب الدين في غير رعاية. ونرفع إلى معاليكم بعد هذا: أن إدخال بعض المعروفين بأنهم دعاة التبشير القائمين عليه صباحاً ومساء في لجنة يوكل إليها وضع السياسة العامة للتعليم، قد جرح إحساس المسلمين، وأبعد آمالهم من أن يكون لمدارسنا صبغة إسلامية. فجمعية الهداية الإِسلامية ترجو معاليكم إبعاد ذوي الآراء المحاربة للدين من النظر في سياسة التعليم العامة، واعتبار الدين الإِسلامي الكفيل بسعادة البشر أساساً لتلك السياسة، وإدخاله في مناهج التعليم بجميع أدواره تحقيقاً للإصلاح المنشود، والتهذيب المرغوب فيه. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام. * ارتجال الشعر الألماني (¬1): كنت شهدت في "برلين" شاعراً يقف في جمع كبير، فيلقي عليه طوائف ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء السابع من المجلد الثالث.

من جمعية الهداية الإسلامية إلى وزير المعارف

من الحاضرين جملاً منثورة في معان مختلفة، وهو يكتبها في أوراق بيده جملة بعد أخرى، وعقب الفراغ من إلقاء الجمل، ينطق بكل جملة منها في شعر يؤديه بصوت جهوري. ويعد هذا من فكاهاتهم الأدبية. * من جمعية الهداية الإِسلامية إلى وزير المعارف (¬1): السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن جمعية الهداية الإِسلامية كانت في مقدمة من استنكروا من وزارة المعارف في العهد السابق بعض تصرفات غير صالحة، وعبرت عن استنكارها في خطاب وجهته إلى حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء. ومن تلك التصرفات المخالفة للدين الحنيف، الملقية في شر العواقب: إقامة معهد للتمثيل والرقص، وفتح باب اختلاط الفتيان بالفتيات، وقد شاء الله تعالى أن يصرف وزارة المعارف عن هذه الوجهة التي ضاقت لها صدور عقلاء الأمة قلقاً، فنقل زمامها إلى يد معاليكم، فوجدت الرأي الرشيد، والحزم اليقظ، فبادرتم إلى معالجة المرض الذي طرأ عليها لذلك العهد، فوضعتم الدواء مكان الداء، ومن أشد ما يفتك بالأخلاق الفاضلة: أن تهيئ الحكومة غرفاً أو قاعات يختلط فيها الفتيان والفتيات، ولا سيما اختلاط هو عين الاستخفاف بالصيانة، وطعن الكرامة بالنحر. ومما قابلته الجمعية بالارتياح والشكر، وقوّى في النفوس أمل أن يكون نشؤنا خير نشء يرفعون راية الشرف حتى لا تطاولها راية: ما نشرته الصحف ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الحادي عشر والثاني عشر من المجلد الثالث.

فاتحة السنة الرابعة

من أن عناية معاليكم قد توجهت إلى إصلاح مدارس الحكومة، باعطاء التعليم الديني في هذه المدارس حقه، وهي همة طالما سعى زعماء الإصلاح ليظفروا بها من وزير معارف لدولة دينها الرسمي الإِسلام، فكنْ -يا معالي الوزير- ذلك الرجل الذي يقدر الدين قدره، ويبذل النصح للأمة جهده، ومن النصح لها: أن تحافظ على ما فيه سعادة أبنائها، وقد أحس زعماء الإصلاح روح الحزم واليقظة في حديث معاليكم، فاطمأنت النفوس، فإذا مرّ على سمع معاليكم صوت يبتغي منكم أن تتبعوا خطوات من جهلوا حكمة الإِسلام، وزاغت أبصارهم عن حجته، فاستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم، وسيروا في طريقكم حتى تجعلوا وزارة المعارف مصدر العلم النافع، والتربية الخالصة من كل سوء. وفي الختام: أقدم إلى معاليكم باسم جمعية الهداية الإِسلامية جزيل الشكر على هذه الهمة النبيلة، والله في تأييدكم ما حرستم آداب دينه، وأهل العلم في رضا عن سيرتكم ما حميتم معاهد التربية العامة من كل فساد دخل فيها باسم التجديد، والتجديد النافع بريء منه. * فاتحة السنة الرابعة (¬1): نحمدك اللهم على أن وصلتنا بمعونتك، وحففتنا برعايتك، وحميتنا مما يقطع عن إقامة حجتك، أو يقف عثرة في سبيل إعلاء كلمتك. وأزكى صلواتك وسلامك على سيدنا محمد الهادي إلى مراقي السعادة، وعلى آله وصحبه الذين قادوا الأمم إلى سبيل القيام، فأحسنوا القيادة. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الأول من المجلد الرابع.

أما بعد: فقد قضت هذه المجلة سنتها الثالثة مجدّة في القيام بقسط كبير مما أنشئت له جمعية الهداية الإِسلامية: تنقل إلى حضرات القراء ما يلقى في نادي الجمعية من خطب ومحاضرات، ثم ما تجود به قرائح أهل العلم والأدب في مصر وغيرها من البلاد، فكانت خير الوسائل لتعارف العلماء والأدباء في الشرق والغرب، وكانت -بحمد الله- من أبعد القسيِّ مرمى، وأمضاها في الذود عن حمى الشريعة سهماً، والفضل في هذا -بعد توفيق الله- عائد إلى حضرات أعضاء الجمعية، وأصدقائها الذين يمدونها بثمرات أفكارهم، وقوة إخلاصهم، ثم إلى حضرات قراء المجلة الذين طبعوا على كرم النفس، وقدروا الغاية التي تعمل لها الجمعية، وعرفوا أن العمل في سبيل الهمم النبيلة لا ينتظم إلا بالمال، فكانوا يسارعون إلى بذل قيمة الاشتراك بباعث من أنفسهم، شاعرين بأن اليسير إذا انضم إلى اليسير صار كثيراً. قضت المجلة في جهادها ثلاثة أعوام صابرة مصابرة، وظهرت اليوم في مفتتح السنة الرابعة أمتن عزماً، وأوثق أملاً، يزيد عزمها متانة، وأملها وثوقاً: تلك المراحل التي قطعتها في نصرة الفضيلة، والذود عن الحقيقة؛ حتى شهدت ثمار سعيها يانعة على قدر ما أنفقت من مجهودها، ومن شواهد هذا: أن أعضاء الجمعية في نماء، وأصدقاءها في ازدياد، والرسائل العامرة بالعطف عليها ترد عليها في غير انقطاع. والمجلة تقدم جزيل شكرها إلى كل من آزرها بعلمه، أو بأدبه، أو بذات يده، أو بكلمة طيبة يقصد بها تشجيعاً، أو التوسل إلى ما فيه نفعها، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما يرضى، ويكفينا بأس من لا ينهى النفس عن الهوى.

النهضة الأدبية العلمية في جمعية الهداية الإسلامية

{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10]. * النهضة الأدبية العلمية في جمعية الهداية الإِسلامية (¬1): أيها السادة! إذا نظرنا إلى الأزهر من ناحية العلوم الأدبية، وجدنا نصيبه من أكثرها فوق كل نصيب، فللأزهر تبريز في مثل: النحو والصرف، والمعاني والبيان، ولكنه منذ حين غير بعيد، قلّت عنايته بصناعتي الشعر والنثر، وأصبح مصلِّياً (¬2) فيهما لا مجلِّياً (¬3). ولا نكتم أنفسنا أن في بيئات مصر غير الأزهر أنبتت في العهد الأخير كتّاباً وشعراء تجري أسماؤهم في الصحف والأندية أكثر من أسماء الكتّاب والشعراء الأزهريين، ولم يفت الأزهر أن يكون المجلّي في صناعتي الشعر والنثر؛ لتوقفهما على ذكاء حرم منه، أو اجتهاد يقصر عنه عزم طلابه، وإنما هو الإقبال على العلوم ذات المناهج الفسيحة، والمباحث العويصة، فأخذته بجلالتها عن أن يكون السابق في هاتين الصناعتين، مع علمه بلطف مسلكهما، ولذة مذاقهما، وحسن أثرهما في الإصلاح. أقول هذا في غير أسف شديد؛ لأني أرى اليوم في شباب الأزهر من بنحو في التحرير نحو البراعة، وينسج في الشعر على مثال الإبداع، ويذهب في المحاضرات مذهب قوة الإقناع، وحسن التنسيق، فلا نلبث -إن شاء الله تعالى- ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الرابع. كلمة الإِمام في حفل أقيم في نادي جمعية الهداية الإِسلامية لتكوين لجنة تعمل على ترقية ملكة الخطابة والمحاضرة والتحرير بأسلوب راق يلائم حال العصر. (¬2) ثاني خيول الحلبة. (¬3) أول خيول الحلبة.

كلمة في تأبين الفقيد الشيخ محمد عبد المطلب

أن نرى الأزهر يحمل لواء صناعتي الشعر والنثر باليد التي يحمل بها ألوية سائر العلوم الأدبية. وملاك النبوغ في علم الأدب: كثرة ترديد النظر على المنشات البليغة، ثم تربية ملكات النظم والإنشاء والنقد، وأخذها بالتمرين العملي حيناً فحيناً. وتزداد هذه الملكات قوة بإلقاء المحاضرات، وعقد المناظرات، وارتجال الخطب على أعين الناس. وقد دلت خطبتا الأستاذين الداعيين إلى هذا الاجتماع: أن القصد من إقامته النظر في تأليف رابطة أدبية تعمل لترقية الأدب ونفاق سوقه؛ فإن الكتابة والخطابة والشعر هي المظهر العملي لتلك العلوم التي نقضي في دراستها أعواماً، وقد جُرِّبت فكانت أنجح الوسائل إلى إيقاظ الأمة والنهوض بها حتى تبلغ الغاية من حريتها، وتنفي قذى المهانة عن ساحتها. فنشكر حضراتكم أيها السادة الداعون إلى هذا الاجتماع، والمتفضلون بإجابة الدعوة إليه، ونسأل الله تعالى أن يتولى سعيكم النبيل بالتوفيق، وما بعد توفيق الله إلا الظفر بحسنى العواقب والنجاح. * كلمة في تأبين الفقيد الشيخ محمد عبد المطلب (¬1): الله أكبر! حياة كانت عامرة بالعمل المجيد، وطويت طي السجل للكتاب، تلك حياة فقيد الدين والأدب الأستاذ الشيخ محمد عبد المطلب، سكنت أنفاسه وحسامُه مخضب بدم الجهاد في سبيل الحق، فلم يمت على فراشه ملقي السلاح كما يموت ضعيف العزيمة، أو مزلزل العقيدة، بل كان ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الرابع من المجلد الرابع. كلمة الإِمام في حفل تأبين المرحوم الشيخ محمد عبد المطلب الوكيل الأول لجمعية الهداية الإِسلامية.

قلمه ودواته أقرب إليه من قارورة الدواء الذي كان يعالج به مرضه الملقي به يد الموت. ولي قلم في أنملي إن هززته ... فما ضرني أن لا أهزّ المهنّدا انتخب الفقيد وكيلاً أول لهذه الجمعية، واقترح على مجلس الإدارة أن يعقد اجتماعاته في بيته الكريم ريثما نهيئ للجمعية منزلاً، فكان أول عضو شد أزر الجمعية بعد تأليفها، وما زال يمدها برأيه وأدبه وذاتِ يده حتى فجعت برحيله إلى الدار الباقية، فكان مصابها به عظيماً، وحزنها عليه شديداً، فإذا رأيتم اليوم ناديها موحشاً كاسفاً، فلأنه فقد منطقاً طالما وقف على هذا المنبر، فملأ الأسماع حكمة، وأوقد في النفوس حماسة. وضاءة أخلاق، في متانة دين، في براعة بيان، ثلاث خصال اجتمعت في الفقيد - رحمه الله -، وإذا رأيت الخلق وضيئاً، والدين متيناً، والبيان بارعاً، فإن هناك عظمة، فانسجْ من برود الثناء ما شئت، وأهدها إلى تلك العظمة. إذا بكاه الحق، فلأنه كان بطلاً لا يلوي جبينه عن طعان، وإذا بكاه عشاق الأدب، فلأنه كان غوّاصاً على درره الغالية، ونظّاماً لقلائدها الزاهية الرائعة، فكم أخذ الألباب بشعر ألقت عليه البداوة جزالة، وأودعته الحضارة معاني أنيقة!. وإذا وجد في الشعراء من لا يبالي أن يهيم في وادي الزور، أو يسقط في حفرة من الزيغ، فإن الفقيد - رحمه الله - قد جعل قوة الخيال تحت سلطان العقل، فاعتصم بحكمة الله من سقطات وقع فيها كثير ممن أوتوا خيالاً وحذقاً، ولم يؤتوا استقامة ورشداً.

احتجاج جمعية الهداية الإسلامية على حادثة التبشير

ومما امتاز به الفقيد - رحمه الله -: براءته من التصنع والرياء، فلم يكن بدويًا في شعره فقط، بل كانت البداوة تتمثل في صراحته، وجلاء سريرته؛ كما تتمثل الحضارة في لطف خطابه، ورقة حاشيته. لقيت الفقيد في كثير في المجالس التي اعتاد الناس في الحديث بها أساليب خاصة، وأذكر أنه كان يجول فيها بلهجة تدل على أن احترام الحقائق في نفسه يفوق كل احترام. هذه كلمة أفتتح بها هذه الحفلة الموقرة، وستستمعون -إن شاء الله تعالى- من حضرات الخطباء والشعراء خطباً ممتعة، وقصائد عامرة، ونسأل الله تعالى أن يفيض على جدث الفقيد رحمته، وإن رحمته لقريبة ممن هم بآياته يوقنون. * احتجاج جمعية الهداية الإِسلامية على حادثة التبشير (¬1): السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد: فإن أعز شيء على الأمة دينها، تسالم من يسالمه، وتشتد في مناوأة من يناوئه، وإن دعاة النصرانية الذين يهبطون مصر المسلمة، فيجدون في أهلها سماحة، وفي سياستها رفقاً، لَيندفعون إلى الطعن في الدين الإِسلامي علناً، ويقذفون مقام الرسالة العظمى بأشياء يفترونها افتراء، وها هي تلك الكتب التي يدرسونها في مدارسهم محشوة ببذاء يلمزون به الشريعة السمحة، ولا يتحامون ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الرابع. وجه الإِمام بوصفه رئيس جمعية الهداية الإِسلامية هذا الخطاب إلى رئيس مجلس الوزراء المصري.

أن يقرعوا به أسماع التلاميذ المسلمين الذين يلقي بهم آباؤهم الغافلون تحت سيطرتهم. ولم يقفوا عند هذا الحد، بل تجاوزوه إلى اصطياد نفوس الشبان والفتيات بوسائل تنكرها العقول، ولا تبيحها أي شريعة أو قانون، وما أكثر الحوادث التي يأتونها من هذه الطرق الممقوتة! ولولا أن حادثة يوسف أفندي عبد الصمد حفت بأحوال اقتضت إذاعتها, لذهبتْ كما ذهب غيرها من حوادثهم مطوية على ما يلتهب له قلب الإنسانية جزعاً. إن الخطر -يا صاحب الدولة- عظيم، وترك هؤلاء المبشرين يطعنون الدين، ويفسدون القلوب، فتنة لا تصيب من يقع تحت أيديهم من الأطفال خاصة، وإنما هي روح سامة ينفخونها في جسم الأمة؛ ليقطعوا أوصالها، ويلقوا بها في حفرة من البلاء بعد أن أنقذنا الله منها، وإذا كان لموعظة أهل العلم أثر في قلوب قوم يعقلون، فيكفون عن توجيه أبنائهم إلى تلك المدارس، فإن من تأخذهم زهرة الحياة الدنيا, ولا يتدبرون العواقب، غير قليل. لجمعية الهداية الإِسلامية -يا صاحب الدولة- أمل تضعه بين يدي رئيس حكومة دينها الرسمي الإِسلام، هو: أن تحموا البلاد من هذه الفتن، وتضعوا تلك المدارس تحت مراقبة وزارة المعارف، وتتخذوا التدبير الحازم في منعهم من التعرض لعقيدة التلميذ المسلم، أو إلزامهم له بأداء شعائرهم النصرانية، فإن وجهتم همتكم إلى هذا الباب من الفساد فأغلقتموه، كانت هذه الهمة مظهراً من مظاهر يقظة الدولة، وبقيت في الناس كلسان يعبر عن حكمة تدبيركم، ويستدعي جزيل شكركم، وتفضلوا -يا صاحب الدولة- بقبول عظيم الاحترام. والسلام عليكم ورحمة الله.

كلمة في تأبين الفقيد الشيخ مصطفى بدر زيد

* كلمة في تأبين الفقيد الشيخ مصطفى بدر زيد (¬1): عينتُ منذ خمس سنين في إحدى لجان الامتحان بقسم التخصص، فجئت الغرفة المعدة للامتحان، فوجدت فتى جالساً بها وحده، فسلمت، وجلست حتى انتظمت اللجنة، فإذا هذا الفتى أحد أعضائها، ورأيت من مناقشته للطلاب ما دل على ألمعيته، ورعايته الأمانة فيما يعهد به إليه، ذلك الفتى هو الأستاذ الشيخ مصطفى بدر زيد. انقضى عهد الامتحان، وقام طائفة من نجباء الطلاب يسعون لتأليف جمعية الهداية الإِسلامية، وأخذوا يتساءلون عمن يصلح لمجلس إدارتها، فخطر لي ما رأيته في ذلك الأستاذ من النباهة وحسن التصرف في العلم، فذكرت اسمه، فعرضوا عليه رغبتهم، فأجاب بالقبول، وانتخبوه مراقباً عاماً للجمعية، فقام بما ألقي إلى عهدته أحسن القيام. ولما قرر مجلس الإدارة إصدار المجلة، اختاره لإدارة شؤونها المالية، فنهض بهذا العمل مضافاً إلى مراقبة الجمعية، وكان له في نماء مشتركي المجلة أثر جليل. ومنذ عهد قريب ندبه مجلس الإدارة لعمل كاتم السر، فانتدب له بحزم، وما لبث أن زاره الداعي إلى لقاء الله، فرحل وزادُه عمل صالح، ونوره الذي يسعى بين يديه إيمان صادق، فالجنة -إن شاء الله تعالى- هي المأوى. فإذا تلظى قلب هذه الجمعية لمصابه، فلأنها فجعت بفقد رجل من رجالها الذين ولدت على أيديهم، وشبت تحت رعايتهم، فساروا بها على ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء السابع والثامن من المجلد الرابع. كلمة الإِمام في حفل تأبين الشيخ مصطفى بدر زيد المراقب العام لجمعية الهداية الإِسلامية.

حقيقة الدكتور طه حسين

الصراط المستقيم، وحنوا عليها حنو المرضعات على الفطيم، ولكن هذه الجمعية قد أنشئت لتذكر الناس بخصال السؤدد والمجد، ومن أعز هذه الخصال: لقاء الرزايا في دروع ضافية من الصبر، فجدير بها أن تتلقى مصيبة فقد الأستاذ في عزاء وسكينة. ولم تقم الجمعية هذه الحفلة لتظهر كما تظهر الثكلى جزعها، وإنما أقامتها لتنبه على فضل ذلك العضو المجاهد، وتدل على شيء من خصاله الحميدة، وليس في ذكر محامد المجاهدين بعد انتقالهم إلى حياتهم الأخرى من بأس. وستسمعون من حضرات الخطباء والشعراء شيئاً من آثار حياة الفقيد العلمية والخلقية، فنسأل الله تعالى أن يفيض على قبره رحمة، ويعوض الإِسلام منه خيراً. * حقيقة الدكتور طه حسين (¬1): حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: عرف الناس منذ سنين أن الدكتور طه حسين يعمل لهدم العقائد الإِسلامية، وإفساد الأخلاق الكريمة، فكانوا يأسفون الأسف الشديد على طائفة من شباننا يدخلون الجامعة ليتغذوا بلبان العلوم الصافية، والتربية الصحيحة فيقعون بين يدي هذا الرجل الذي يعمد إلى تلك الفطر السليمة، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثامن من المجلد الرابع. خطاب أرسله الإِمام بوصفه رئيس جمعية الهداية الإِسلامية إلى وزير المعارف في مصر.

الدكتور طه حسين أيضا

فينفخ فيها زيغاً، ويثير فيها أهواء، بل دلت محاضراته ومؤلفاته على أنه ينحو بالطلاب نحواً يبعد بهم عن طريق التفكير المنتجة، وطالما ضجت الأمة ورفعت صوتها بالشكاية من نزعته المؤذية للدين، المفسدة للأخلاق، المعكرة لصفو العلم. وطالما ترقبت أن ترى من ناحية وزارة المعارف ما يحقق أمنيتها، فكنت -يا صاحب المعالي- ذلك الوزير الذي عرفت حقيقة الدكتور طه حسين كما هي، فأقصيته عن دائرة التعليم، وأرحت ضمائر الأمة، فكفاك مفخرة أن حميت الدين والفضيلة والعلم من لسان شدَّ ما جهل عليها، وأفسد في طريقها. وإن جمعية الهداية الإِسلامية التي تنظر إلى تصرفات وزارة المعارف من ناحية الدين والعلم والأخلاق، لَتقدم لمعاليكم أخلص الشكر على هذه الهمة الدالة على ما رُزقتموه من غيرة وحزم وسداد رأي. وتفضلوا -يا صاحب المعالي- بقبول عظيم الاحترام. * الدكتور طه حسين أيضاً (¬1): حضرة المسلم الشهم الهمام الدكتور عبد الحميد سعيد المحترم رئيس جمعية الشبان المسلمين! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإن جمعية الهداية الإِسلامية التي ترى أن المهمة الملقاة على عاتق ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثامن من المجلد الرابع: نص الرسالة التي أرسلها الإِمام إلى الدكتور عبد الحميد سعيد عضو مجلس النواب المصري، ورئيس جمعية الشبان المسلمين.

كلمة في الاحتقال بالمولد الكريم

الجمعيات الإِسلامية مهمة واحدة، وترى أن الجمعيات الإِسلامية بتعاونها على أداء هذه المهمة تؤلف خط جهاد واحد، تسجل لكم بقلم الفخر والشكر موقفيكم الأخيرين في مجلس النواب يوم ذكرتم الحكومة بواجبها تجاه عدوان دعاة النصرانية، ثم يوم وقفتم أخيراً تعربون عن شكوى الأمة الإِسلامية من عدوان الملاحدة على الإِسلام، وعلى رأسهم عدو الله طه حسين، فكنتم موفقين من الله في كل ما أدليتم به من حجج نواصع، وحقائق روائع. وقد كلفني مجلس إدارة جمعية الهداية الإِسلامية أن أبلغكم شكره على هذا الموقف المحمود. وتفضلوا بقبول جزيل الاحترام. * كلمة في الاحتقال بالمولد الكريم (¬1): كان العالم يتخبط في ظلمات بعضها فوق بعض: ظلمة من الجهل، ظلمة من دناسة الأخلاق، ظلمة من منكر الأعمال، فبعث الله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ليخرج الناس من هذه الظلمات إلى نور يسعى بين أيديهم في الحياة الأولى، ويهديهم السبيل إلى السعادة في الحياة الأخرى. طلع محمد - صلوات الله عليه - بكتاب ممتع بالحكمة، مقوِّم للأخلاق، مصلح للأعمال، منظم لشؤون الحياة، تدبرته فئة قليلة، واتخذته قائدها المطاع، فكانت خير أمة جاهدت في الله فانتصرت، وغلبت فرحمت، وحكمت فعدلت، وساست فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت المعارف ينابيع بعد ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد الرابع، احتفلت جمعية الهداية الإِسلامية بذكرى مولد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مساء السبت 12 ربيع الأول 1351 هـ. وألقى الإِمام هذه الكلمة.

نضوجها. واسألوا التاريخ؛ فإنها قد استودعته من مآثرها الغر ما بصر بضوئه الأعمى، وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء. هذه حقائق لم أنحُ فيها نحو المبالغة؛ فإن المصطفى - صلوات الله عليه - قد قضى على عبادة الأوثان، والغلو في الخضوع لغير الواحد القهار، وقضى على الإلحاد وإنكار الإله، فأصبح المؤمنون أمماً بعد أن كانوا أفراداً، وأنتم تعلمون أن الغلو في تعظيم غير الله رجس من عمل الشيطان، وأن الإلحاد داعية الفسوق والطغيان، فلدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - الفضل الأكبر في رفع النفوس من حضيض الشرك إلى سماء التوحيد الخالص، ولها الفضل في تطهر النفوس من خبث الإلحاد الذي يشوه فطرتها، ويوفر أسباب شقوتها. جاهد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الجهل، وشرُّ الجهل عدم معرفة مبدع الكائنات بحق، وجاهد الأخلاق الرذيلة، فكرَّه للنفوس الجزع، والجبن، والبخل، والصغار، والكبر، والقسوة، والأثرة. وعلَّمها الصبر، والشجاعة، والكرم، والعزة، والتواضع، والرحمة، والإيثار. علَّمها الصبر، فهان عليها كل عسير، وعلمها الشجاعة، فحقر أمامها كل خطير، وعلمها الكرم، فجادت في سبيل الخير بكل نفيس، وعلمها العزة، فسمت إلى كل مقام مجيد، وعلمها التواضع، فتألفت كل قلب سليم، وعلمها الرحمة، والرحمةُ رباط التآزر والتعاون على تكاليف الحياة، وعلمها الإيثار، والإيثارُ أقصى ما يبلغه الإنسان من مراتب الكمال. رفع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أعلام العلم، وهدى إلى مكارم الأخلاق، ثم علم الإنسان كيف يعمل صالحاً، ويعيش آمناً، وهو الذي أوحي إليه بأصول تجعل المدنية محكمة البناء، وآداب تكسوها رونقاً وبهاء.

فاتحة السنة الخامسة

فإذا احتفلنا بذكرى مولد الرسول الأكرم، فإنما نحتفل بذكرى منقذ العالم من ظلماته الثلاث، وستستمعون من حضرات الخطباء والشعراء شيئاً من تفاصيل هذا الذي لوحت إليه بكلمتي الموجزة، والسلام عليكم ورحمة الله. * فاتحة السنة الخامسة (¬1): الحمد لله الذي هدانا إلى أقوم السبل، وأمدنا بعزم لم يأخذه فتور ولا ملل، ونفى من قلوبنا اليأس فقوي الأمل. والصلاة والسلام على سيدنا محمد المؤيد بأجلى آية، وأسطع برهان، والداعي إلى الدين الحق بأبلغ بيان، وعلى آل بيته السادة الأمجاد، وصحبه الذين فتحوا بحكمتهم القلوب، وبأسنتهم الوهاد والنجاد. أما بعد: فقد قضت هذه المجلة أربع سنين وهي تجاهد في سبيل الدين والعلم واللغة العربية خير جهاد، تعرض على قرائها ما يلقى في الجمعية من محاضرات نافعة، وخطب باهرة، وقصائد عامرة. أو ما تجود به قرائح أهل العلم والأدب في مصر أو في غير مصر من مقالات بارعة، ودروس محررة. فكانت -بتوفيق الله تعالى- في الصف الأول من صفوف المجلات العلمية الأدبية الداعية إلى الإصلاح، وإذا أدركها النقص من بعض النواحي، فأية الصحف أو الرسائل تظهر مبرأة من كل عيب؟ وإذا ألقيت عليها تبعة ذلك النقص، احتملتها وحدها، واستحيت أن تلقي على قرائها أو أصدقائها قسطاً من هذه التبعة. وقد نظر أستاذ مخلص من أعضاء الجمعية في حال هذه المجلة، فنقدها، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الأول من المجلد الخامس.

تكريم أعضاء الجمعية الذين أكملوا دراستهم العليا

وكتب مذكرة تشتمل على مقترحات ذات بال، وطرحها أمام مجلس الإدارة، فتلقاها منه بالقبول والشكر، وعقد مجلس الإدارة عزمه على العمل لتحقيق هذه الرغبات ما استطاع. دخلت المجلة في سنتها الخامسة، حامدةً حزم إدارتها، مغتبطة بإقبال الشيوخ والشبان على قراءتها، آملة نجاحاً فوق نجاحها، ومظهراً أسمى من مظهرها، فإن نشاط أعضاء الجمعية اليوم في ازدياد، وصدق عزمهم أورث المجلة أنصاراً في كثير من البلاد، وفي كثرة الأنصار قوة وعزة، ونصر الله أكبر وأبقى. ولا نضع القلم من أيدينا حتى نقضي واجب الشكر لحضرات الأساتذة الذين خصوا المجلة بنتائج بحثهم العلمي أو الأدبي أو اللغوي، خصوصاً الذين واصلوها على بعد ديارهم، وآثروها بمنشآتهم: من الشام وفلسطين وتونس وحضرموت وجاوة وغيرها، فأصبحت بما يجودون به ملتقى أفكار الناهضين من الشعوب الإِسلامية، وفي التقاء الأفكار صلة التعارف والتعاون على تحقيق الموضوعات العلمية، وإصلاح الشؤون الاجتماعية، نسأل الله تعالى أن يزيد هذه الصلة تأكيداً، ويمنحنا رحمة من لدنه وتأييداً. * تكريم أعضاء الجمعية الذين أكملوا دراستهم العليا (¬1): يحرز الإنسان في كمال النفس منزلة قاصية، فيحس في صدره ارتياحاً، ويكون ارتياحه أشد وأبلغ متى عرف أنه يعيش بين قوم يقدرون تلك المنزلة ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثاني من المجلد الخاص. أقامت جمعية الهداية الإِسلامية مساء يوم الخميس 6 جمادى الآخرة عام 1351 هـ حفلة تكريماً لأعضائها الذين أكملوا دراستهم العليا في ذاك العام. وقد ألقى الإِمام هذه الكلمة.

قدرها، وتقديرُ المنازل في العلم والفضل شأنه خطير، وأثره في انتظام الحياتين المدنية والعلمية كبير؛ فإنه يعين على العدل في المعاملة، ويشجع الناشئين على التنافس في سبيل المجد، والأمةُ التي تنظر إلى النبغاء بالعين التي تنظر بها إلى غير النبغاء جديرة بأن لا يكون بين أرضها وسمائها عبقرية، وإذا أنبتت على خلاف طبيعتها ألمعياً بارعاً، لم يجد من العزم ما يجعل ألمعيته البارعة كالشجرة المباركة تؤتي في كل حين تمراً زاكياً، قال علامة نحرير يعتذر عن فتور همته بكساد علمه بين قومه: غزلت لهم غزلاً رقيقًا فلم أجد ... لغزليَ نسّاجاً فكسَّرت مغزلي وقال ابن حزم يشكو قلة إقبال قومه عليه، وزهدهم فيما لديه من علم: أنا الشمس في جو العلوم منيرة ... ولكن عيبي أن مطلعي الغرب وقال: وإن مكاناً ضاق عني لضيق ... على أنه فُسْح مَهامهه سُهْب وإن رجالاً ضيعوني لَضُيَّع ... وإن زماناً لم أنل خصبه جدبُ وأذكر أن أحد كبار العلم بدينور قيل له: العلم لك، والصيت لأبي حامد، فقال: رفعت أبا حامد بغداد، وخفضتني دينور. والتاريخ يحدثنا وهو صادق فيما يحدث: أن النبوغ في العلم، والإبداع في العمل، لا يصلان إلى الذروة إلا في ظلال أمة أو دولة تزن رجالها وزن المثقال. عهد الناس تكريم العلماء والأدباء والأبطال منذ زمن بعيد، ولا أريد بتكريمهم تلكم البيضاء أو الصفراء يبذلها بعض الرؤساء أو الوجهاء لعالم

شهير، أو شاعر قدير، أو بطل خطير؛ فإن السخاء بالبيضاء والصفراء قد يكون مبعثه العطف والشفقة، وكثيراً ما يعطف الرجل أو يشفق على من لا يكون في نظره أهلاً للتوقير والإجلال، وإنما أريد من تكريم الرجل الماجد: مظاهرَ يؤذن بما له من مكانة تجلها القلوب. نظم ابن خميس التلمساني قصيدة يقول في طالعها: عجباً له أيذوق طعمَ وصالها ... من ليس يأمل أن يمر ببالها ولما وصلت هذه القصيدة إلى قاضي القضاة ابن دقيق العيد، قام إجلالاً لها، فقيام قاضي القضاة بالديار المصرية لشعر ابن خميس الجزائري تكريم لابن خميس. ورحل أبو علي القالي صاحب كتاب "الأمالي"، "والنوادر" إلى بلاد الأندلس، ولما دخلها، ابتهج لمقدمه الحكم بن عبد الرحمن الناصر- وكان كالوزير لوالده الخليفة عبد الرحمن-, وأرسل إلى أحد مسألة أن يتلقى أبا علي في وفد من وجوه الناس، ويجيء معه إلى قرطبة تكرمة له. وقد قصدت جمعية الهداية الإِسلامية أن يكون في سيرتها ما يدل على أنها تقدر النجابة والنبل، فجعلت من مبادئها: الاحتفال بتكريم العاملين المخلصين من أعضائها متى سابقوا في علم أو فضل، فسبقوا. وعلى هذا المبدأ أقامت هذه الحفلة تكريماً لهؤلاء الأساتذة؛ إذ أحرزوا شهادات عالية، وهم من العاملين في الجمعية بحزم وثبات. ولا أخالهم في حاجة إلى أن أصوغ كلمة في الثناء على حضراتهم؛ فإحرازهم لهذه الشهادات العالية نطق بألمعيتهم، وسمو هممهم، وانتظامهم في جمعية الهداية شاهد بطهارة قلوبهم، ورقي آدابهم، ومن ضم إلى الألمعية همة سامية، وإلى طهارة

فقد عالم نحرير ببلاد الجزائر

القلب آداباً راقية، كان حظه من خصال الحمد عظيماً. وفي هذه الحفلة دليل صادق على أن جمعية الهداية سائرة في خطة تنشرح لها صدور الناشئين على اختلاف معاهد تثقيفهم ومناهج تعليمهم، وفي هذه الحفلة ما يبشر بأن الجمعية قد نجحت في سعيها لبث روح الدين الحق في نفوس الشبان، وإراءتهم أن العلوم الكونية تجتمع مع الإيمان والتقوى في نفس واحدة. وأختم كلمتي بشكر هؤلاء الأساتذة المحتفَل بهم على ثباتهم في مؤازرة الجمعية، وأسأل الله تعالى أن يزيدهم هدى، ويجعل وجه الحياة في أعينهم مستبشراً، والسلام عليكم ورحمة الله. * فقد عالم نحرير ببلاد الجزائر (¬1): نعت إلينا صحف "الجزائر" الأستاذ الجليل الشيخ عبد الحليم بن سماية من أفضل العلماء بعاصمة الجزائر، وقد كان الأستاذ مدرساً بالمدرسة الثعالبية، وبالجامع الجديد، وقد تخرج من دروسه كثير من العلماء الذين تولوا مناصب القضاء والفتوى، والإمامة والتدريس، توفاه الله تعالى يوم الأربعاء السابع من رمضان سنة 1351، وشيعت جنازته بعد ظهر يوم الخميس في مشهد عظيم جامع للعلماء، ورجال الدولة، وأرباب الصحف، ورؤساء الجمعيات، وغيرهم من أهل الفضل، ولما وضعت جنازته، خطب في تأبينه مدير أمور الوطنيين، ومدير المدرسة الثعالبية، وخطب من تلاميذه: الشيخ حمود حمدان المدرس بالمدرسة الثعالبية، ثم السيد سامح فاتح بالنيابة عن جمعية التلاميذ، ثم الشيخ عبد القادر حاج حمو المدرس بالجامع الكبير، ثم السيد أحمد بن ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء السابع من المجلد الخامس.

افتتاح فرع الجمعية بالعباسية

يحيى الأكحل، ثم السيد عبد الرحمن الجلالي، ثم الشيخ قدور الحلوي، ثم أودعت جثته المكرمة في قبره، والعبرات دافقة، والقلوب محزونة (إنا لله وإنا إليه راجعون). وكنت لقيته -رحمه الله تعالى- عندما زرت عاصمة الجزائر في رمضان سنة 1321، فلقيت به عالماً بحاثاً شاعراً بمقتضيات العصر، ومسلماً غيوراً، وأديباً مهذباً، وشهدت درساً كان لقيه في ليالي رمضان بأحد المساجد، فأعجبت بحسن تصرفه، وبراءة بيانه، فنسأل الله تعالى أن يفيض على قبره رحمة، ويعوض الأمة منه خيراً. * افتتاح فرع الجمعية بالعباسية (¬1): نحمدك اللهم على أن هديتنا سبيل الفلاح، ونستعين بك على إعلاه كلمة الحق والدعوة إلى الإصلاح، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد الذي أوتي جوامع الكلم، ونطق بأبلغ المواعظ وأبدع الحكم، وعلى آله الذين قاموا على سنته فأحسنوا القيام، وأصحابه الذين جاهدوا في سبيل إسعاد البشر بالحجة والحسام. أيها السادة! كان العالم في فساد يملأ ما بين جوانبه، فقضت حكمة علَّام الغيوب أن نزل الروح الأمين بالكتاب الكريم، على الرسول العظيم، فبلغ - صلى الله عليه وسلم - ما أنزل إليه من ربه، وبينه أحسن بيان، وقام على إنفاذ أوامره بحزم وقوة، فأنار بدعوته بصائر كانت مغبَّرة، وأيقظ بدعوته قلوياً كانت عن طريق ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء العاشر من المجلد الخامس. أنشأت جمعية الهداية الإِسلامية فرعاً لها في حي العباسية بالقاهرة. وهذه كلمة الإِمام في أولى حفلاتها في ليلة الاثنين 27 محرم عام 1352 هـ.

السعادة غافلة، وزجر بماضي عزمه نفوساً كانت إلى الشر فازعة، فتألف حزب الله رويداً رويداً حتى فتحت مكة المكرمة، وأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وما أكمل الله الدين، وطوى بساط الوحي بوفاة خاتم النبيين، حتى نبت في مهابط الحكمة الإلهية رجال عرفوا السعادتين: الدنيوية، والأخروية، وأتقنوا علم السياستين: الحربية، والمدنية، فقاموا بتلك الفتوح التي رفعوا بها لواء العدل، وأقاموا بها قاعدة المساواة، وأطلقوا ريح الحرية يتنسمها الضعفاء والأقوياء على سواء. ساد الإِسلام في البلاد، وتفيأت ظلاله في الأغوار والأنجاد، والباحث في التاريخ بإنصاف يشهد أن تلك السيادة كانت تقوى وترسخ في الممالك على قدر استضاءة الأمة بعلوم الدين، وعملها بنصائحه، وتحليها بآدابه. ضعف المسلمون بعد تلك القوة، وانحدروا بعد الصعود، واستخف بهم أعداؤهم بعد أن كانت مهابتهم تملأ الصدور، فوقعوا فيما ترونه بأعينكم، وتسمعونه بآذانكم. وكان من سنة الأمم التي تصعد إلى ذروة العز والمجد، ثم تنحط إلى درك الهون والخمول: أن تقوم طوائف منها يبحثون عن علة ضعفها وانحدارها، ثم ينظرون في الوسيلة التي تعيد إليها شباب مجدها، وتملأ الصدور بمهابتها. قامت طوائف يرمون بخطبهم وأقلامهم إلى هذا الغرض، فمنهم المصيبون، ومنهم المخطئون، ولا أريد بسط القول في بيان من أصابوا منهم ومن أخطؤوا، بل أختصره اختصاراً، فأقول: وجد بين الباحثين عن علة ضعفنا واستضعافنا طائفة اهتدت إلى أن العلة هي انصرافنا عن نصائح الكتاب العزيز، ونكث أيدينا من الاعتصام بشرعه،

فنهضوا يخطبون ويكتبون في بيان حقائق الدين الإِسلامي، ويقيمون الحجة على صدق لهجته، ويديع حكمته، وعلى هذا المبدأ المقدس تألفت جمعية الهداية الإِسلامية. تألفت هذه الجمعية في شهر رجب سنة 1346، وافتتحت عملها بإلقاء المحاضرات في المساجد والنوادي، ثم عزمت على إصدار مجلة ينشر فيها ما يلقيه حضرات أعضائها من الخطب والمحاضرات، وما تجود به أقلامهم من الرسائل والمقالات، وقرنت عزمها بالعمل، وقرن الله عملها بالتوفيق والنجاح، فأصدرتها في غرة جمادى الثانية سنة 1347، وما زالت تصدر بانتظام وهي تغالب الأزمات، ولا تهاب ما يقف في وجهها من العقبات. وما زالت الجمعية تجاهد بمحاضراتها نحواً من ست سنين، وبمجلتها نحواً من خمس سنين، فقطعت في تحقيق أغراضها النبيلة مراحل بعيدة المدى. ولنذكر لحضراتكم أمثلة من نزعات الطوائف التي حاربتها الجمعية في قوة وحكمة: وجدت الجمعية رهطاً نشؤوا في عماية، وتخبطوا في سفاهة، فزعموا أن سبب سقوط الأمة الإِسلامية من مكانتها تمسكُها بدينها، ووقوفها عند حدود شريعتها، حتى قالوا: إن سبب فقدها لسلطانها الغالب ربطُها للسياسة بالدين. وقد أرتهم الجمعية أنهم قد قلبوا الحقيقة رأساً على عقب، وكانت تذكرهم بالتاريخ الصادق، وتعرض عليهم أحوال الشعوب المختلفة في العصور، فتناديهم بأن قوة الدولة وعزتها على مقدار إقامتها للشريعة السمحة،

وارتباطها بأحكامها العادلة. وجدت الجمعية فريقاً آخرين اشتدت عداوتهم للإسلام، وحدثتهم أنفسهم بالعمل لهدمه من أساسه، فابتدعوا نحلاً يخدعون بها الضعفاء والجهَّال، ويزعمون أنها الإِسلام، ومن أخبث هذه النحل: نحلتا البهائية، والقاديانية، وقد كشفت الجمعية عن سرائر هاتين النحلتين، وأقامت الحجة على أن مؤسسيها ملاحدة يخادعون الله والذين آمنوا, ولو ألقت حبلهما على غاربهما، وخلت لهما السبيل، لأضلوا كثيراً. وجدت الجمعية فريقاً لا يبحثون في علم، ولم يرزقوا فطراً سليمة تعينهم على السير في رشد، فاندفعوا إلى محاكاة غير المسلمين، حتى فيما تتبرأ منه الفضيلة، ويلعنه الدين الحق لعناً كثيراً، وقد عنيت الجمعية بحال هذا الفريق، وأخذت تنظر إلى ما يحاكون فيه الأجانب، وتزنه بميزان الحكمة، فتميز الخبيث من الطيب، وتدعوهم بالتي هي أحسن إلى أن يكونوا نابتة صالحة، وأغصاناً مثمرة. وجدت الجمعية فئة لا يفرقون بين ما هو من حقائق الدين، وما هو من المحدثات الملصقة به، فقد تعدُّ بعض ما تسعه أصول الدين بدعة، وتعدُّ بعض ما لا يقبله الدين سنَّة، فوقفت الجمعية في هذا الشأن على بصيرة، وجعلت مرجعها في الفرق بين السنة والبدعة، الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة. وجدت الجمعية بعد هذه الفرق جماعات من الأجانب يهبطون أوطاننا، ويفتحون مدارس ومستشفيات يتخذونها حبائل لإفساد عقائد أبنائنا، وإخراجهم من نور الإِسلام إلى النصرانية، فكان لمحاضرات الجمعية ومجلتها حظ عظيم

من مقاومة هذا النوع من التضليل. ولم تقصر الجمعية في محاضراتها أو منشآت مجلتها على هذه الموضوعات الدينية أو الاجتماعية، بل خدمت اللغة العربية وآدابها والتاريخ الإِسلامي أجل خدمة. وألقيت على منصة خطابتها محاضرات في بعض الفنون أو المخترعات العصرية، تسمح بذلك حيث ترى في إلقائها زيادة تنوير للأذهان، أو تمريناً لشبانها على صناعة المحاضرة والخطابة. ومن مقاصد الجمعية: تأكيد رابطة التعارف بين رجال العلم والفضل في مختلف الأقطار الإِسلامية، وقد أقامت لتحقيق هذا المقصد النبيل حفلات أتت بثمرات طيبة، وإن عزمها على أن تقيم أمثال تلك الحفلات كما سنحت الفرصة لَشديد. ومن أعمال الجمعية: تحرير مذكرات تقدمها لأولي الشأن عندما تقتضي المصلحة تقديمها؛ كمذكرتها في إلغاء البغاء، ومذكرتها في طلب العناية بالتعليم الديني في مدارس الحكومة، وإعطائه حقه. هذه مساعي الجمعية التي أنشأت هذا الفرع في حيكم الكريم، وترجو من الله تعالى المعونة والتوفيق، ومن حضراتكم الإقبال والمؤازرة، وإنكم -إن شاء الله- لفاعلون. * نداء من جمعية الهداية الإِسلامية إلى كل مسلم يحب العمل في سبيل الله (¬1): لقد انكشف الغطاء عما كان مستوراً من خفايا المدارس التي تريدها جمعيات التبشير، وما لهذه الجمعيات من ملاجئ ومستشفيات، وثبت ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء العاشر من المجلد الخامس.

للجمهور أن ما ارتكبه هؤلاء المضللون في بناتنا وأبنائنا مخالف للقوانين والمروءات وأصول الديانات، فضلاً عن إهانتهم الأمة بتحاملهم على دينها، واستخفافهم بقرارات الحكومة، ومحاولتهم مخالفة النظام. وقد رأى المسلمون بعيونهم، ولمسوا بأيديهم الخطر المحقق من إدخال أبناء المسلمين وبناتهم مدارس هؤلاء المعتدين على الإِسلام، ومن تردد الرجال والنساء على مستشفياتهم وملاجئهم. إن المبشرين لم يأخذوا أبناء المسلمين وبناتهم بالقوة من بيوت آبائهم، وإنما الذي قذف بهؤلاء البنات والأبناء إلى هذه المدارس هم آباؤهم، وولاة أمورهم، فجنوا بذلك على الوطن، وعلى الدين، وعلى رجال المستقبل وأمهات المستقبل، أعظمَ جناية. إن جمعية الهداية الإِسلامية توجه هذا النداء إلى كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بأن يعمل ما استطاع لإنقاذ هذه الضحايا من هذه الأماكن الخطرة. فمن وصل إليه هذا النداء من المسلمين والمسلمات، وله ابن أو بنت، أو قريب أو قريبة في آية مدرسة غير إسلامية، يجب عليه أن يبادر في الحال إلى إنقاذه منها, لا سيما والسنّة الدراسية انتهت، فيجب أن لا يتجدد دخول تلميذ مسلم أو تلميذة مسلمة مدرسة غير إسلامية بعد الآن مهما كانت الحال. وكل من يصل إليه هذا النداء من المسلمين والمسلمات، وهو يعلم أن لصديقه أو جاره أو زميله أو مواطنه ولداً أو بنتاً في مدرسة غير إسلامية، عليه أن يبذل ما استطاع من إقناع لحمل هؤلاء على إخراج أولادهم وبناتهم من ذلك الوسط الذي رأى الناس جميعاً شدة ضرره وخطره.

فاتحة السنة السادسة

لا ريب أن المسلمين في ألم عظيم من الإهانات الواقعة على الإِسلام في جهات كثيرة، وكل مسلم يسأل عن العمل الذي يستطيع أن يقوم به، فجمعية الهداية الإِسلامية توجه نظر كل من يقع نظره على هذا النداء من المسلمين إلى هذا النوع من أنواع الجهاد، وتؤكد لهم أن العمل فيه له عند الله ثواب العبادة. أيها المسلمون! يجب أن لا تبدأ السنة الدراسية الجديدة وفي مدارس المبشرين مسلم أو مسلمة، وإذا مضى سنتان أو ثلاث على مدارسهم، وليس فيها مسلم، فإنها ستقفل من نفسها، وتستريح الأمة منها. هذا ميدان من ميادين العمل، والله يحب العاملين. * فاتحة السنة السادسة (¬1): الحمد لله الذي أنطق الألسنة بالحكم الرائعات، وشرح القلوب بالعظات البالغات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الداعي إلى سبيل الرشاد، والمبعوث بالشريعة الخالدة إلى يوم التناد، وعلى آله المستقيمين على الطريقة المثلى، وأصحابه العاملين لإعلاء كلمة الحق، وجعلِ كلمة الباطل هي السفلى. أما بعد: فقد قضت مجلة "الهداية الإِسلامية" سنتها الخامسة وهي ثابتة على مبادئ الجمعية، عاملة لتحقيق مقاصدها، تضع بين يدي قرائها محاضرات أو مقالات تكشف عن حقائق دينية، أو تحرر مباحث علمية، أو تلم بشؤون ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الأول من المجلد السادس.

اجتماعية، أو تدني قطوف فوائد لغوية أو أدبية، وسيكون عزمها -بتوفيق الله تعالى- في هذه السنة أمتن، وجهادها أكبر، ونظامها أحكم، وما ذلك من أعضائها وأنصارها ببعيد. والمجلة تشكر لمن شدَّ أزرها بما آتاه الله من علم وحسن بيان، أو مدَّها بقيمة الاشتراك، أو بما طابت به نفسه من تبرع، عالماً أن المال ينفد، وما عند الله خير وأبقى. وتعتذر لحضرات من كانت ترسل إليهم في كل شهر، ولم يرعوا حقها، بأن حالتها المالية اضطرت إدارتها لأن تكف عن إرسالها إلا إلى من تكرموا بدفع قيمة الاشتراك في السنّة الماضية، أو رغبوا في الاشتراك فيها، وعرضوا رغبتهم على إدارة المجلة مباشرة، أو على طريق بعض وكلائها. وأما من بقي في ذممهم شيء من قيمة الاشتراك بعد الاطلاع على الخطاب الذي وجهته لتذكيرهم بهذا الحق، فقد وكلتهم إلى ضمائرهم، فمن وجد ضميره مرتاحاً لاهتضام جمعية تخدم الدين والعلم والأدب، فليبق على ذلك الارتياح ما شاء. هذا، وقد استحسن حضرات أعضاء مجلس الإدارة أن يكون أول سنة المجلة شهر رجب؛ لأنه مبدأ النصف الثاني من السنة، والشهر الذي أسست فيه الجمعية. ونرجو من الله تعالى أن يكون التوفيق رائدنا، وتأييد الحق في كل حال نصب أعيننا: {إِنْ أُرِيدُ إِلا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

كلمة في حفل تكريم المتبرئين من القاديانية

* كلمة في حفل تكريم المتبرئين من القاديانية (¬1): فضيلة الأستاذ أكبر، وأصحاب الفضيلة! ويا أيها السادة الكرام: أقدم لحضراتكم جميعاً عظيم الشكر على ما تفضلتم به من قبول دعوة الجمعية وتشريفها بالحضور. ساعة مباركة أقف فيها مغتبطاً بهذا الاحتفال البهيج، ومهنئاً حضرات إخواننا الذين استكشفوا دخيلة النحلة القاديانية، ثم عادوا إلى وطنهم الذي هو الإِسلام، وقلوبهم تتلألأ إيماناً خالصاً. وقد كان في اتصال هؤلاء الإخوان بتلك النحلة الزائفة، وإعلان براءتهم منها على رؤوس الأشهاد فائدتان عظيمتان: أما الأولى: ففائدة علمية؛ فإنهم اطلعوا على سريرة ذلك المذهب المنافق، وتركوه على بينة من أمره، ومن طريقهم اطلعنا على كتب ومقالات لغلام أحمد كانت عوناً لنا على سعة العلم بزيفه وسخف عقله، وقوة على نقض ما يورده هو وأتباعه من شبه وأباطيل. وأما الثانية: فخلقية؛ فإن حضرات الإخوان عندما وقفوا على فساد تلك النحلة، وخروجها على الدين الحنيف، حملتهم فضيلة الإنصاف والرجوع إلى الحق على أن يعودوا إلى صفوف المسلمين، ويجاهدوا في سبيل الرشد مع المجاهدين، وقليل من الناس من يرجع إلى الحق بعد الابتعاد منه، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثالث من المجلد السادس. كلمة الإِمام في حفلة جمعية الهداية الإِسلامية التي أقامتها مساء الخميس 19 شعبان من عام 1352 هـ تكريماً لإعلان رئيس طائفة القاديانية في مصر، والأذكياء البررة من أصحابه براءتهم من هذه النحلة.

وقليل من الناس من يعلن براءته من مذهب اتصل به، واستبان أنه مذهب غير رشيد. نحن نعلم أن القاديانية كالبهائية، فرع من تلك الشجرة الخبيثة؛ أعني: نزعة الباطنية، والباطنية -أيها السادة- نِحْلَة، بل مكيدة بيَّتها طائفة من المجوس؛ ليأخذوا -في زعمهم- بثأر المجوسية من الإِسلام، ومن درس تاريخ الباطنية، وجد مبادئها تتمثل في النحلتين القاديانية والبهائية في أجلى صورة، ومن مبادئها: أن يتظاهر زعماؤها بالدعوة إلى الإِسلام، وهم يعملون في الخفاء لتقويض أركانه، ولا يبوحون بما في صدورهم إلا لمن استدرجوه حتى وقع في حبالتهم، وأصبحت نفسه قريبة من نفوسهم، وكذلك يفعل دعاة هاتين النحلتين الخاسرتين. ليبث أولئك المضلون في غير بلاد الإِسلام ما شاؤوا من سموم قاتلة، وحرام على مصر وغير مصر من بلاد الإِسلام أن يتخذ فيها أذناب غلام أحمد، وأذناب عباس البهائي سوقاً ينادون فيه على بضائعهم الموبئة. ولا لوم على من يتصل بطائفة يزعمون أنهم دعاة إصلاح، حتى إذا وقف على خفي أمرهم، وضاق صدره من ظلمات إلحادهم، صرف وجهه عن وجوههم، وحذر الناس من الاتصال بهم، والإصغاء إلى هذيانهم، وإنما اللوم، بل غضب الله على من لم يسلَّ يده من أيديهم، ويرضى أن يكون من عُمّار مجالسهم، ومكثّري سوادهم. وأعود فأقول: إن حضرات إخواننا المحتفَل بهم، قد خدموا بهذه البراءة الدين الإِسلامي أجلّ خدمة، ورفعوا صرح فضيلة قلّ من يفي بحقها، وهي فضيلة الرجوع إلى الحق، فإذا احتفلنا بتكريمهم، فإنما نحتفل بتكريم

خطبة الإمام في حفل افتتاح فرع جمعية الهداية الإسلامية بالجيزة

جنود الحق، وأنصار الفضيلة، وتكريم الله لهم في هذه الحياة، وتلك الحياة خير وأبقى. * خطبة الإمام في حفل افتتاح فرع جمعية الهداية الإسلامية بالجيزة (¬1): أيها السادة! من الذي لا يدري أن المسلمين كانوا أقوم الأمم سيرة، وأسعدها حياة، وأشرفها مظهراً، يفجرون ينابيع العلم إذا فكروا، ويرفعون لواء الظفر إذا دافعوا، ويبسطون ظلال العدل إذا حكموا، وهم الذين أحكموا صناعة السياسة الممزوجة بالرفق، المحوطة بالحزم، يعرف ذلك شبانهم كما يعرفه شيوخهم، ويشهد به خصومهم كما يشهد به أعقابهم. فلست في حاجة إلى أن أعرض على حضراتكم صفحة من تاريخهم المجيد، وإنما أريد أن أذكركم بأن ذلك الانقلاب الخطير، بل الإصلاح الذي لا يعرف له التاريخ من نظير، لم يكن صنع مفكر عبقري، ولا نتيجة تدبير بشري، وإنما هو أثر الحكمة التي نزل بها القرآن الكريم، وجرت على لسان ذلك الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم -. فتح المسلمون الشرق والغرب، وحملوا إلى الأمم إصلاحاً لم تحمله إليها أمة من قبل ولا بعد، وحدث بعد هذا أن تزعزعت أركان عظمتهم، وكسفت شموس فخارهم، فإذا هم في ظلمات بعضها فوق بعض، فلم تبق لهم عين تبصر ماذا تعده الأمم الأخرى من قوة، ولم تبق لهم أذن تحس ما تبيته تلك الأمم من خطط الهجوم، فصاروا في غفلة وغيرُهم في يقظة، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامبة" - الجزء الثاني عشر من المجلد السادس. احتفلت الجيزة بافتتاح نادي فرع جمعية الهداية الإسلامية فيها مساء الأحد 23 جمادى الآخرة عام 1353 هـ، وألقى الإمام هذه الخطبة.

صاروا في بطالة وغيرهم في عمل، صاروا في لهو وغيرهم في جد، صاروا في تفرق وغيرهم في اتحاد، صاروا في تخاذل وغيرهم في تعاون، صاروا في خمول وغيرهم في ظهور، فكانت عاقبتهم شقاء بعد سعادة، ذلة بعد سيادة: ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا ... شكر عليه فإن الله ينزعه أطلق أولو الألباب أنظارهم ليتعرفوا أسباب هذه الحالة الممزقة للأفئدة، فاهتدوا إلى أن العلة التي أكلت اللحم، وشربت الدم، وأوهت العظم، هي انصرفنا عن أوامر الدين الحنيف، ونبذنا لوصاياه العالية وراء ظهورنا، فتهاوناّ بالواجبات، وانقدنا إلى الشهوات، ولم ننتفع بالعظات البالغات. قام دعاة الاصلاح يصفون تلك العلة القاتلة، وينادون بالرجوع إلى الدين الحق في غير تباطؤ، ويبينون كيف تنطبق أصوله الصحيحة وآدابه السنية، على قوانين مكارم الأخلاق، ومقتضيات المدنية الفاضلة، فأخذ الناس ينتبهون من سباتهم، ويفتحون لنصائح أولئك الدعاة قلوبهم، فقلنا: حياة جديدة، ونهضة مباركة. وحدث بعد هذا أن خرج بعض الزائغين في ثوب الدعوة إلى الإصلاح، وصاروا يقلبون الحقائق، ويدسون السم في الدسم، وبدت الزندقة والإباحية على أفواههم، حتى نعق غراب من غربانهم قائلاً: إن سبب تأخر المسلمين ربطُهم السياسة بالدين، ولا ندري متى ربط المسلمون السياسة بالدين فتأخروا، ولا متى فصلوها عنه فتقدموا!. وما كفى هؤلاء الزائغين أن يكونوا في أنفسهم ملاحدة إباحيين، بل تصدوا للدعاية إلى اللهو والباطل والفجور تحت اسم: الحرية والتجديد.

اتصلتْ هذه الدعاية الخائنة بشبان لم ينبتوا نباتاً حسناً، ولم يتعدوا قشور العلم إلى لبابه، فتزلزلت عقائدهم، وساءت أخلاقهم، وأصبحت الأمة تذكرهم في أسف، وتتمثل بقول الشاعر: وإخوان حسبتهم دروعاً ... فكانوها ولكن للأعادي وخلتهم سهاماً صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي وقالوا: قد صفت منّا قلوب ... نعم صدقوا، ولكن من ودادي وبلي المسلمون بعد طاعون الإلحاد بدعايات أخرى مضلة عن السبيل؛ كدعاية البهائية والقاديانية، ومن يسمون أنفسهم: المبشرين. ولحماية أبنائنا من مرض الإلحاد، وإنقاذهم من شرور تلك الدعايات، أسست جمعية الهداية الإسلامية، ويضاف إلى هذا: عنايتها بإحياء اللغة العربية، وترقية آدابها، ثم سعيها في عقد رابطة التعارف بين الشعوب الإسلامية، ولا سيما رجال العلم والأدب، ومن لهم سابقة في خدمة الإسلام والمسلمين. تعمل الجمعية لهذه الأغراض السامية بما يُلقيه حضرات أعضائها أو مؤازريها من خطب ومحاضرات، وبما يحررونه في مجلتها من مقالات، وبما تقيمه لتكريم العلماء أو الفضلاء المخلصين من حفلات، وقد قطعت -بتأييد الله تعالى- في العمل لهذه الأغراض أشواطاً بعيدة، وهي صحيحة العزم، رشيدة الرأي، ثابتة الخطا. ومن أسباب نجاح الجمعية -بعد توفيق الله تعالى-: أنها تتوخى في دعوتها سبيل الرفق والحكمة، وتتحامى أن تخوض في أمور تثير عداوة طائفة من الطوائف الإسلامية، فإن دعاها الحال إلى تقرير حقيقة يخالف فيها بعض الطوائف، بيناها بقول لين، دون أن نمس الطائفة المخالفة بكلمة جافية،

نفعل ذلك امتثالاً لنصيحة القرآن، وحذراً من أن نحدث تقاطعاً بيننا وبين قوم مسلمين. ومن أسباب نجاح الجمعية: أنها لم تحد عن الخطة التي أخذتها على نفسها من العناية بالشؤون الإسلامية والعلمية والأدبية والاجتماعية، وعدم التدخل في الشؤون السياسية والإدارية، والسياسةُ الرشيدة يناء أساسُه الإيمان الراسخ والآداب السنية، والعلوم الصحيحة، واللغة الراقية، ويكفي الجمعية أن توجه همتها لإصلاح الأساس حتى يكون البناء مستقيماً محكماً. هذه أغراض جمعية الهداية الإسلامية، وهذه سيرتها، وقد تعرفها نخبة من شباب الجيزة النجباء، فارتاحت لها نفوسهم الطيبة، ورأوا أن الجيزة في حاجة إلى جمعية تسير هذه السيرة، وتعمل لهذه الأغراض، فزاروا مركز الجمعية العام، وعرضوا رغبتهم في إنشاء فرع لها في هذا البلد الكريم، فرأينا سيماء الإخلاص في وجوههم، فأكبرنا همتهم، وبادرنا إلى إجابة رغبتهم، فأنشؤوا هذه الجمعية المحتفل بافاتتاحها، وألفوا مجلس إدارتها من أساتذة أجلاء، وفتيان مخلصين نبهاء، فجمعوا إلى تجارب الأساتذة ورويتهم، نشاطَ الفتيان ومضيَّ عزائمهم. ونحن على ثقة من أن هذه الجمعية ستسير بجانب الجمعية القائمة بالقاهرة، تقصد قصدها، وتنسج على مثالها، فنراهما -بتوفيق الله تعالى- متعاونين على الدعوة إلى الحق والفضيلة، يرودهما الإخلاص، ويحالفهما الثبات، وما كان الإخلاص رائده، والثبات حليفه، فذلك العمل الصالح الذي يكتب الله له النجاح، وينفع به الناس. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17].

فاتحة السنة السابعة

* فاتحة السنة السابعة (¬1): نحمدك اللهم حمد من هديته السبيل، وحميته من سوء التأويل، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد الداعي إلى أقوم حجة، بأبلغ محجة، وعلى آله الأخيار، وصحبه الأبرار، وكل من أخلص في طاعتك، واعتز بهدايتك. أما بعد: فقد قضت هذه المجلة سنتها السادسة في جهاد لا يحوم عليه فتور ولا ملل، أما سلاحها، فالحكمة والموعظة الحسنة، وأما غايتها، فظهور الرشد على الغي، وإقامةُ معالم المدنية الطاهرة، وتربية النشء على سموّ الهمة، والطموح إلى المعالي، والاعتماد على النفس، بل غايتها النهوض بالشرق إلى ذروة المجد، حتى تكون له العزة من بعد، كما كانت له من قبل. جاهدت المجلة في هذا السبيل، فكان لجهادها أثر لا يستهان به، والفضل في هذا النجاح -بعد توفيق الله تعالى- لحضرات المشتركين فيها، وأعضاء الجمعية وأنصارها، هذا ينفق عليها من علمه الغزير، وذلك يؤازرها بقلمه البارع الحكيم، أو رأيه الراجح الأمين، وآخر يمدها بما استطاع من مال كثير أو قليل، وقد اتصلنا على طريق المراسلة بطائفة عظيمة من أكابر العلماء ونوابئ الأدباء، في مصر وغيرها من البلاد، نستنهض أقلامهم المشهود لها بالبلاغة والإخلاص؟ لتحرير مباحث علمية، أو مقالات أدبية، أو قصائد إصلاحية، وإهدائها للمجلة، حتى يتحقق ما نسعى له في كل وقت، وهو أن تكون هذه المجلة كمعرض لآراء علماء الشعوب الإسلامية وزعمائها، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد السابع.

شعبة شباب الإصلاح لجمعية الهداية الإسلامية

وفي مثل هذا التعاون خير كثير. وأختم كلمتي هذه بشكر حضرات أولئك العلماء والأدباء والفضلاء الذين جردوا أقلامهم، أو أنفقوا شيئاً من أموالهم، أو قالوا كلمة طيبة في مؤازرة هذه المجلة، فلولا هذه المؤازرة، لما استطاعت القيام بشيء من الواجب الذي تؤديه اليوم في روية وحزم وتؤدة. والله المستعان على بلوغ المرام، وله الحمد في البدء والختام. * شعبة شباب الإصلاح لجمعية الهداية الإسلامية (¬1): تألفت جمعية الهداية الإسلامية منذ سبع سنين لمقاصد هي: بيان سماحة الإسلام، وبث آدابه العالية، والتحذير مما ألصق به من بدع وأباطيل، والعمل لتعارف الشعوب الإسلامية، وتوثيق الرابطة بينها وبين أفرادها وجماعاتها، والمحافظة على اللغة العربية، وترقية آدابها، والنظر في أحوال الاجتماع ومقتضيات المدنية، لترشد إلى ما كان صالحاً، وتحذر مما كان سيئاً .. سارت الجمعية في سبيل هذا الإصلاح، وبلغت -بحمد الله تعالى- غاية بعيدة، فعرفت بالإخلاص في الدعوة، والاستقامة على الطريقة، وما زالت تتبع علل الفساد، وتجتهد في مداواته، حتى ألقت على حال الشباب نظرة خاصة، فرأت في كثير منهم غفلة عن تعاليم الإسلام، وقلة احتفال بتاريخ عظمائه، وعدم إعطاء اللغة العربية حقها، وذلك ما بعثها على أن أنشأت في مركزها بالقاهرة شعبة سمتها: "شعبة شباب الإصلاح"، ووضعت لها ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد السابع. قرر مجلس إدارة جمعية الهداية الإسلامية إنشاء شعبة تدعى: "شعبة شباب الإصلاح" لجمعية الهداية الإسلامية. فوجه الإمام هذا النداء.

فاتحة السنة الثامنة

نظاماً يدور على إرشاد طلاب العلم إلى العقائد الصافية، والآداب السنية، وأخذهم بالأساليب الحكيمة إلى القيام على اللغة العربية وآدابها، وتمرينهم على الخطابة والتحرير والنقد، وإلقاء المحاضرات في العلوم والأخلاق، وآداب الاجتماع، ومساعدتهم على القيام برحلات علمية أو تاريخية، وفتح قاعة يجلب إليها من الكتب القيمة ما ترى فيه عوناً على تحقيق هذه الأغراض الشريفة، علاوة على ما تحتويه مكتبتها من الكتب الدينية والتاريخية والأدبية، فغرض الجمعية من إنشاء هذه الشعبة: أن تعد للمستقبل رجالاً يكونون مُثلاً كاملة للاعتزاز بالدين، والتحلي بالاستقامة، والاحتفاظ بالكرامة، والإخلاص في الدعوة إلى الإصلاح، والخبرة بطرق الإقناع. وأدرك فريق من أذكياء الطلبة خلوص الجمعية في إنشاء هذه الشعبة، ووثقوا بكفاية رجالها للقيام بالمشروعات الجليلة، فأقبلوا على الانتظام في سلكها، والسير على منهجها، وأقبلت عليهم الجمعية فسيحة الصدر، آخذة بالحزم في إنجاز الأمر، وأملها أن ينضم إلى هؤلاء الأذكياء كثير من أمثالهم، وما كثرة أعضاء هذه الشعبة إلا قوة تملأ سبيل الإصلاح ضياء، وتدع الدعايات الباطلة هباء، وعلينا الثبات واقتحام العقبات، ومن الله التوفيق والهداية لأقوم طريق. * فاتحة السنة الثامنة (¬1): حمداً لمن أنزل القرآن المجيد في أفصح لسان، وعلمنا كيف ندفع الشبهة بالبرهان، وصلاة وسلاماً على سيدنا محمد الذي أنشأه الله في حصن من العصمة، وأرسله إلى الناس رحمة، وعلى آله النبلاء، وأصحابه الأجلاء، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثامن.

وكل من جاهد في الحق على سواء، ولم يتخذ من المضلين أولياء. أما بعد: فقد قضت هذه المجلة سنتها السابعة في سيرة راضية، وجهاد حازم، تأخذ في دعوتها بالموعظة الحسنة، وتتحرى في مباحثها العلمية الأساليب السائغة، ترشد إلى الحقائق الدينية، وما يرجع إلى إصلاح حال المجتمع، وتتجاوزهما إلى موضوعات لغوية أو أدبية أو تاريخية، وتسع صفحاتها جانباً كبيراً من مباحث العلوم الكونية، وتلم بشؤون مما يجري في البلاد الإسلامية، ويتصل بالحركة الإسلامية، وتنقد ما تراه في بعض الصحف من الآراء المنحرفة عن أصول الدين، أو قوانين العلم، وتناقشها في حدود أدب البحث، ولا تبالي ما تلاقيه في سبيل ذلك من أذى. ومما زاد بعزم القائمين بهذه المجلة قوة: رغبة كثير من أهل العلم والأدب والفضل في الاتصال بها، وإقبالهم على اقتنائها، وشهادتهم لها بأنها صافية الموارد، بعيدة من لغو الحديث، آخذة في نقدها بقانون المنطق السليم. وقد حافظت المجلة على ما وصفت به نفسها من أنها مجلة العالم الإسلامي، فكانت ملتقى أقلام العلماء والأدباء في الشرق والغرب، وربما احتوى الجزء الواحد منها على مقالات واردة من أقطار مختلفة؛ كمصر والشام وتونس والمغرب الأقصى. وحقيق علينا أن نقدم خالص الشكر إلى حضرات أولئك العلماء والأدباء على ما تفضلوا به من تلك المقالات، أو المحاضرات، أو القصائد التي تزينت بها صفحات هذه المجلة، وكانت جهاداً في سبيل الدين والعلم والأدب والفضيلة.

نداء جمعية الهداية الإسلامية لمساعدة منكوبي فلسطين

وحقيق علينا أن نشكر أولئك الذين يقدرون ما تقوم به الجمعية من أعمال نافعة، ويشعرون بأن هذه الأعمال تستدعي نفقات غير قليلة، فيبادرون إلى مؤازرتها بإرسال قيمة الاشتراك فيها أو في مجلتها، ونعتذر لمن أرسلت إليه المجلة نحو السنتين، ولم تسمح له نفسه بإرسال قيمة الاشتراك على ضآلته، فأوقفت الإدارة إرسالها إلى حضرته، نعتذر إليه بأن تباطؤه عن مساعدة الجمعية بتلك القيمة الزهيدة، يشعر بضعف الرغبة في الاتصال بمجلتها. ونحن لا نحرص على أن نبعث بها إلا لمن يضعها موضع العناية. هذا، وقد اتصل بالجمعية رجال من أفاضل العلماء والكتاب، وسيكون للمجلة من منشآتهم ومحاضراتهم - إن شاء الله تعالى- حظ عظيم. {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]. * نداء جمعية الهداية الإسلامية لمساعدة منكوبي فلسطين (¬1): منذ تدفق سيل الهجرة الصهيونية على أرض فلسطين، وإخواننا العرب يلاقون أياماً قاسية، ولا أشد قسوة من هذه الأيام التي يذوقون فيها الشدائد ألواناً، ولا أظن ذا قلب يسمع أنباء ما يجري في تلك الأرض المقدسة من الحوادث المرهقة، ولا يذوب قلبه حزناً على ما يتجرعه أولئك المنكربون من غصص، إلا أن يكون هذا القلب مخلوقاً من الحديد أو الحجارة. وإذا كان الرجال يصبرون على الشدائد، ويخوضون الخطوب من غير مبالاة، فلنضع أمام أعيننا أطفالاً يتضورون جوعاً، ونساء فقدن القوت بفقد من كان يقوم عليهن، وهذا أشد ما يهز عواطفنا، فيبسط كل منا يده ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد الثامن.

فاتحة السنة التاسعة

بما يستطيع من معونة، عسى أن تخفف عن أولئك المنكوبين وقع الكارثة التي غَلَّت أيديهم، وأكلت لحومهم، وشريت من دمائهم. يكفينا في إثارة عواطف الأمة المصرية الكريمة لمساعدة منكوبي فلسطين أن نعرض عليها حال أولئك الأطفال والنساء والمستضعفين من الرجال؛ لأننا نعلم أن بين جوانحها أفئدة رقيقة، ونفوساً سباقة إلى الخير، ولكننا نذكِّرها -بعد هذا- بحق الجوار، وبواجب الدين الذي يدعو إلى التراحم والتعاون عند الشدائد، وإذا كان لرضا الخالق وسائل، فالتراحم من أقرب وسائله، وإذا كان للتراحم مظاهر، فمعونة المنكوبين من أجلِّ مظاهره. ونذكّر الأمة المصرية الكريمة بتاريخها المجيدة فإنه يشهد بأن لها في رعاية الجوار، والعطف على شعوب الشرق مواقف محمودة، والأمة المشهود لها بالزعامة، والطامحة إلى أن تكون أعلى ذروة من المجادة كالأمة المصرية، يسرها أن تعمر حاضرها كما عمرت ماضيها بالهمم العظيمة، والأيادي البيض، والمكارم التي تلبسها أطواق الشكر والثناء. وستشارك جمعية الهداية الإسلامية في هذا السبيل بما يتيسر جمعه من حضرات أعضائها وأصدقائها معتبرة بقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. * فاتحة السنة التاسعة (¬1): نحمدك اللهم على أن أريتنا سبيل الرشد واضحاً جلياً، والصلاة والسلام ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد التاسع.

على سيدنا محمد الذي أنزلت عليه قرآناً عربياً، ورفعت ذكره مكاناً علياً، وعلى آله الذين اقتبسوا من سيرته أدباً سنياً، وصحبه الذين جاهدوا في الحق، وعلى كل من كان للحق ولياً. أما بعد: فقد قضت هذه المجلة سنتها الثامنة، وهي تستمد من الله تعالى المعونة فيمدها، وتطلب من أولي العلم والأدب أن يهبوها من منشآت قرائحهم المبدعة، فتجدهم عند طلبها، فشكراً لهم على ما وهبوا من مقالات حكيمة، أو قصائد بليغة، أو محاضرات رفيعة. وستأخذ المجلة -بتوفيق الله تعالى- في عامها التاسع مظهراً أرقى من مظاهرها الأولى، وتضع بين أيدي قرائها مباحث غزيرة الفائدة، مختلفة الفنون، ومما يساعدنا على تحقيق هذا الأمل: أن شعبة الهداية قد التحق بها أعضاء من كليات الجامعة والمدارس العالية، اتصل هؤلاء الأعضاء بالجمعية اتصال شباب صفت فطرهم، وطابت منابتهم، والتهبت حماستهم، فأقبلوا يعملون في كل ناحية من نواحي الإصلاح الذي أنشئت له الجمعية، في حكمة وتؤدة. ومما عقدوا عليه عزمهم: أن يمدوا هذه المجلة بمقالات سامية المقاصد، يحررونها، أو ينقلونها بالتعريب من صحف أو مؤلفات غير عربية. وحيث انضم إلى الجمعية أعضاء قدروا سمو الغاية التي تدعو إليها، وأخذوا على أنفسهم النهوض بكل وسيلة من وسائل دعوتها، ستنتظم -بتأييد الله- المحاضرات على طريقة تجعلها أرقى طبقة، وأعظم فائدة. وسنبذل مجهودنا في إصدار المجلة أول كل شهر، ويساعدنا على هذا: أن عمل طبعها أصبح تحت إشراف الجمعية نفسها، والله المستعان في كل حال،

حفلة تكريم رئيس مجلس الشيوخ

والمعتصم في بلوغ الآمال. * حفلة تكريم رئيس مجلس الشيوخ (¬1): سادتي! هذه جمعية إسلامية أدبية، وقد أخذت على نفسها منذ نشأت أن لا تتعرض للشؤون السياسية، ولا سيما شؤون السياسة المصرية، وقد مضى على إنشائها تسع سنين، وهي سائرة على الخطة التي رسمها أعضاؤها المؤسسون، ولا أكتمكم أن أعضاء الجمعية -شيوخاً أو شباباً- قد تختلف آراؤهم في بعض المسائل السياسية، وقد تذهب عاطفة هذا إلى ناحية، وعاطفة ذاك إلى أخرى، ولكنهم يدخلون دار الجمعية برأي واحد يرمي إلى غاية واحدة هي إعلاء شأن الثقافة الإسلامية الصحيحة، والجهاد في سبيلها بالحجة وحسن البيان. وإذا أكبرت الجمعية ذا شخصية بارزة، فإنما تقدر فيه صدق الإسلام وأدبه، فإذا قامت اليوم تحتفل بتكريم الأستاذ الكبير محمود بسيوني، فلأنها عرفت فيه نفساً نشأت على هدى وسيرة نقية، ولأن سعادته يحمل عاطفة شريفة، عاطفة من يقول: وأتعب إن لم يمنح الناس راحة ... وغيري إذا لم يَتْعَب الناس يَتْعَبُ وتلك العاطفة هي التي جعلته يسعد ذوي الحاجات، ويبذل جاهه ووقته في قضاء مآربهم من غير سآمة ولا منة. نعم، نحتفل اليوم بتكريمه؛ لأن لنا الأمل الوثيق أن يصرف جانباً من ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد التاسع. أقامت جمعية الهداية الإسلامية حفلة تكريم للأستاذ محمود بسيوني رئيس مجلس الشيوخ المصري. وألقى الإمام هذه الكلمة.

الاحتفال بعودة الإمام من سورية

حكمته وشجاعته في نصح مصر بإن تقف موقف الرصانة، ولا تطيش مع الطائشين، أو تزيغ مع الزائغين، فتغضب الخالق، ولا ترضي المخلوق، ينصح لها أن تحافظ على روح الدين، وبهذه الروح يصدق قول الشاعر في القديم: من لم ير مصر ولا أهلها ... لم يبصر الدنيا ولا الناسا هذه أمنية جمعية الهداية الإسلامية، بل أمنية العالم الإسلامي من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. هذا، وأقدم خالص شكري لسعادة رئيس مجلس الشيوخ على التكرم بإجابة دعوة الجمعية، كما أقدم خالص شكري لحضرات السادة الذين أجابوا دعوتنا، وشاركونا في هذه الحفلة الموقرة. * الاحتفال بعودة الإمام من سورية (¬1): سادتي! رأى حضرات السادة أعضاء جمعية الهداية أن يقيموا حفلة بمناسبة عودتي من البلاد السورية، فقلت: إن الجمعية قد مرت على تأسيسها عشرة أعوام، وهي تجاهد في سبيل الإصلاح بإخلاص وثبات وروية، فلنقم الحفلة على هذه المناسبة وحدها، فلم يحظ اقتراحي لدى حضراتهم بالقبول، ولم يسعني أمام رأيهم القاطع إلا أن سكتُّ، ووضعت رأيي تحت قدمي. ولكني قرأت في ورقة الدعوة إلى الحفلة: أني رفعت ذكر الجمعية في البلاد السورية، فوجدت في نفسي شيئاً من الارتياح، ذلك لأن رفع ذكر ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية"- الجزء الثالث من المجلد العاشر. أقامت جمعية الهداية الإسلامية حفلة تكريم للإمام بمناسبة عودته من سورية مساء الجمعة 16 شعبان 1356 الموافق 22 أكتوبر تشرين الأول 1937، تحدث فيها عدد كبير من العلماء والأدباء عن فضل الإمام وعلمه وجهاده. وقد أجاب بهذه الكلمة.

الجمعية إنما هو بالحديث عن جهادها، واستقامة سيرتها، وسمو غايتها، وهذا الحديث في معنى ذكر مقاصد حضرات أعضاء الجمعية، وما يقومون به من جلائل الأعمال. فبرحلتي ازداد أهل البلاد السورية خبرة بأن في مصر شيوخاً وشباباً يعتزون بالدين الحنيف، ويقدرون اللغة العربية، ولا يبالون في سبيل إعلاء كلمة الحق، ورفع شأن لغة القرآن، أن يجاهدوا بأموالهم وأقلامهم، وبكل ما يملكون من قوة. فما أحرى هذه الحفلة أن تكون حفلة تكريم لحضرات أعضاء الجمعية وأصدقائها الذين يؤازرونها بمعارفهم ومنشآتهم وجاههم، ونفوذ كلفتهم، وإذا لم تسمَّ هذه الحفلة حفلة تكريم أعضاء جمعية الهداية وأصدقائها، فإنها لا تصلح إلا لهذا الاسم، ذلك أن نصيبي من العمل في الجمعية لا يزيد على عمل أي عضو من أعضائها، ولو بمثقال ذرة. ولكن إخواني الذين وضعت يدي في أيديهم للنهوض بأعباء الدعوة إلى الحق، يبالغون في حسن الظن بي، فيرون الصغير من عملي كبيراً، وربما عدوا في حساب عملي أعمالاً جليلة لم تكن إلا وليدة آرائهم وأيديهم. وإذا اغتبطت بشيء في الحياة، فإنما أغتبط بالعمل مع أمثال هؤلاء الرجال الذين يعملون في سكينة، والإخاء الصادق أو البنوة البارَّة تملأ ما بين جوانحهم. وإذا كان من المناسب أن أذكر لحضراتكم على وجه المثل أثراً من آثار دعوتهم الحكيمة الحازمة، فهو أن كثيراً من طلاب العلم في المدارس العالية وكليات الجامعة، قد اتصلوا بالجمعية ليتعرفوا حقائق الدين وآدابه من محاضراتها،

الاحتفال ببعثة الإخاء الإسلامي

ومجلتها، ومحاورات علمائها، وأصبحوا يقومون بجانب من أعمال الجمعية، ويتسابقون إلى تحقيق أغراضها بجد وحماسة. ومن الذي لا يشعر بأن أبناءنا الذين سيتولون مقاليد الأمور السياسية والإدارية والقضائية، في حاجة إلى تربية دينية صحيحة؟ ويغير هذه التربية لا تجد فيهم الأمة خيراً، بل يكونون بانحرافهم عن هداية الله عقبات في سبيل فلاح الأمة في الدنيا، وسعادتها في الآخرة. هذا وأقدم خالص شكري لحضرات السادة الذين أجابوا الدعوة، وصرفوا جانباً من أوقاتهم النفيسة في حضور هذه الحفلة، كما أقدم خالص شكري لحضرات أعضاء الجمعية بمركز القاهرة، وفرع الجيزة، على كرم هممهم، وسمو عواطفهم، وإذا ارتحت لهذه الحفلة، فلأنها مظهر رضا إخواني عن أن أعمل في صفوفهم، ولأنها محققة لغرض من أغراض الجمعية، وهو العمل لتعارف أهل الفضل والأدب، وتأكيد روابط الصداقة الفاضلة بينهم، ولأنها تسدي إلى بعض الجماعات أو الأفراد نصيحة، هي أن صلة الإخاء الإسلامي هي الصلة الني يدور عليها التعاون على الدعوة إلى خير الأوطان وإصلاح شؤونها. * الاحتفال ببعثة الإخاء الإسلامي (¬1): سادتي! كانت الأمة الإسلامية في قوة وعزة وسيادة، فسقطت إلى ضعف وذلة واستعباد، وإن من يسمو بنظره إلى تاريخنا أيام كنا نقول فنفعل، ثم يرجع ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد العاشر. أقامت جمعية الهداية الإسلامية حفلة تعارف إسلامي بمناسبة زيارة بعثة الإخاء الإسلامي، وبعثة فاروق الأول الصينيتين في يوم الجمعة 13 محرم 1357 - 25 مارس - آذار 1938 م. وقد ألقى الإمام هذه الكلمة.

بصره إلى حالنا الحاضر، ويرى ماذا تقاسيه الشعوب الإسلامية في الشرق والغرب من إهانة وعذاب، سال قلبه دماً قبل تساقط عبراته. أروني شعباً إسلامياً يتمتع بالحرية في إقامة شعائر دينه، والتقاضي إلى شريعته السمحة، وعنده من القوة ما يجعله في أمن من سطوة الأجنبي الغاشم!. من الأقطار الإسلامية ما يشكو بلاء الاحتلال الجائر، ومنها ما يتخبط تحت سلطان الإلحاد الفاجر، ومنها مالا يزال في استقلاله أو شبه استقلاله ماسكاً بجانب من إيمانه، إلا أنه لا يملك من القوة ما يرهب به عدوه المتخفر، أو يدافع به عدوه المهاجم. إذاً كل الشعوب الإسلامية في مرض وبلاء، وليس بينها شعب إسلامي يستطيع أن يزعم أنه في سلامة وأمن من سوء العاقبة. هذه حقيقة مُرَّة، يجب أن نقولها، ثم نقولها، ثم نقولها؛ لعلنا نضعها نصب أعيننا، ونبذل كل مجهود في علاجها. تسقط الأمم بالجهل والتفرق، وإذا اجتمع الجهل والتفرق، قال لهما البؤس: إني معكما، وقد ضرب الجهل بين الشعوب الإسلامية خيامه، وتفرقوا تفرق عِقد تقطَّع خيطه، فانتثرت حباته لا تقف حبة بجانب أخرى. سادتي! دواؤنا أن نتفقه في حكمة القرآن المهيد، ونجري على ما يرشد إليه من وسائل القوة والحياة الطيبة؛ فإنه لم يترك وسيلة من وسائل الخير إلا دل عليها، ولا باباً من أبواب الشر إلا حذر منه. ومن أعظم وسائل الفلاح في الأولى والآخرة: أن تتعارف ونتوادَّ، ونتعاون، وقد أرشد إلى هذه الوسيلة العظمى قوله تعالى:

{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]. وقوله تعالى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. إذاً يجب أن نتعارف، وإذا تعارفنا، تواددنا، وإذا تواددنا، تعاونا، وإذا تعاونا، لن تقف دون آمالنا الكبيرة عقبة. سادتي! لا نيئس، ولا نجبن؛ فقد خلق الله شيئاً آخر خيراً من اليأس والجبن، هو الحزم والإقدام في حكمة، ولنوجه عنايتنا إلى تأكيد رابطة الإخاء الإسلامي، تلك الرابطة التي ألف الله بها بين أقوام اختلفت قبائلهم وأوطانهم، وامتن بهذا التأليف، فقال تعالى: {مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]. وإذا كانت الشعوب الإسلامية مسؤولة عن هذه الرابطة المقدسة، فإن نصيب مصر من هذه المسؤولية فوق كل نصيب، ذلك أن موقعها في وسط البلاد الإسلامية، ثم إن ما امتازت به من غزارة العلوم، وكثرة المعاهد الدينية وغير الدينية، قد جعلها مورد الراحلين على تباعد أوطانهم، ومقصد طلاب العلم على اختلاف رغباتهم. ولعل ضيوفنا الكرام إذ يرون في هذا الاحتفال أساتذة وطلاباً من الجامعتين: الأزهرية والمصرية، وغيرهما من معاهد العلم، يلاقونهم في سرور، ويعبرون في خطبهم عما تحمله ضمائرهم لأبناء الأقطار الأخرى من عطف ووداد، يشعرون بأن في مصر روحا إسلامية لا تلبث أن تكون

مصاب تونس بوفاة عالم جليل

كلمتها هي العليا. سادتي! إذا أقمنا هذا الاحتفال لتأكيد رابطة التعارف والصداقة بيننا وبين حضرات إخواننا الصينيين وغيرهم من أبناء الأقطار الإسلامية، فإنما نعمل لناحية من نواحي الإصلاح، فنقدم جزيل الشكر لحضرات أعضاء بعثة الإخاء الإسلامي، وبعثة فاروق الأول، وسائر من أجابوا دعوتنا، فلجميعهم الفضل في هذه الحفلة القائمة على صفاء، المشرقة بنور الإخاء، والسلام عليكم ورحمة الله. * مصاب تونس بوفاة عالم جليل (¬1): أصيبت تونس بوفاة العلامة الجليل صديقنا الأستاذ الشيخ السيد محمد الصادق النيفر قاضي القضاة في تونس سابقاً، فقد كان الأستاذ - رحمه الله - أحد النوابغ الذين أنبتتهم الجامعة الزيتونية نباتاً حسناً، وكان له فضل كبير في النهضة العلمية الحديثة. وقد قدرت الجمعيات العلمية والأدبية في تونس قدر الأستاذ الراحل، فأقاموا له عند مرور أربعين يوماً على وفاته حفلة تأبين ألقى بها كثير من العلماء والأدباء خطباً وقصائد أتوا فيها على ما كان للفقيد من غزارة علم، وسمو أخلاق، وجهاد في سبيل الحركة الوطنية السياسية. وكانت لجنة هذه الحفلة أشعرت رئيس تحرير هذه المجلة بما عزمت عليه من تأيين صديقه الأستاذ، فاختار أن يشترك بتلك الحفلة بكلمة في صلة الصداقة التي انعقدت بينه وبين الأستاذ - رحمه الله -، وبعث إلى اللجنة بالكلمة الآتية: ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد العاشر.

طالعت المجلة الزيتونية الزاهرة، فوقع نظري على عنوان: "رثاء فقيد العلم الإمام محمد الصادق النيفر"، فرماني هذا العنوان بسهم من نار، فإذا الفؤاد يتلظى، والفكر يتقلب في ذكريات العهد الذي كنت اْتمتع فيه بصحبة الأستاذ الفقيد، ورابطة الصداقة بيني وبينه خالصة محكمة. تقدمت الأستاذ الراحل في تلقي العلم ببضع سنين، وكنت أراه فيمن أرى من طلاب العلم وهو يشار إليه بأنه حفيد العلامة القاضي في ذلك العهد الشيخ محمد الطاهر النيفر، وكنت ألاقي الفقيد في الطريق، فيبادرني بالتحية، فأقدر له ذلك الأدب السنيّ. واللبنة الأولى في بناء صداقته المتين: أني كنت جالساً يوماً بالجامع الأعظم، فأقبل - رحمه الله - وجلس يحييني في تواضع زاده في عيني رفعة، وأبدى رغبة في دراسة علمي العروض والقوافي، وأذكر -إن لم تخني الذاكرة- أنا قرأنا على وجه المذاكرة فصلاً أو فصلين من علمي العروض والقوافي بالحجرة القائمة على يمين المصلى بالمعهد الزيتوني، فعرفت في ذلك الفتى يومئذ نباهة الألمعي، وأدب الماجد السريّ، وانتظمت الصداقة بيني وبينه في صفاء وسماحة. وما زال ذلك الفتى البارع مجداً في طلب العلم، حتى رأيته أستاذاً يدرس الكتب العالية بالمعهد الزيتوني، وطلابُ العلم يزدحمون على دروسه، ويردونها ورود الظِّماء للماء الزلال. وأذكر أني أديت صلاة بعض الجمعات في جامع باب البحر، وكان الأستاذ الراحل - رحمه الله - يلقي على منبره خطباً بليغة، يراعي في اختيار مواضيعها ما يستدعيه الحال، وكنت أعجب بما أسمع، وآنس من تلك الخطب فواتح

إصلاح الخطابة المنبرية في تونس. ولا أنسى الليالي -ليالي الجمعة من كل أسبوع- إذ كان الأستاذ يتفضل فيها بالزيارة، ونقضيها في أسمار ممتعة، يجاذبنا أطراف أحاديثها فريق من طلاب العلوم والآداب. ثم لا أنسى أوقاتاً عصفت فيها رياح بعض الرياسات، وأدارت وجوه بعض الإخوان إلى ناحية غير ناحيتنا، ورأيت الأستاذ الراحل من أشد الإخوان احتفاظاً بحقوق الصداقة، شأن من يعتز بعلمه ومجده، ولا يرضى أن يكون لاتجاه بعض الرياسات أثر في وصل صداقته وقطعها. كانت ذكريات ذلك العهد تخطر، فتجد في النفس أمل لقاء ذلك الصديق الراحل، وتجديد ما درس من عهد الأنس به، فلا تثير من الأسى ما يجرح الفؤاد من كل ناحية، أما اليوم، وقد ذهب ذلك الأمل، فأراها تخطر فتثير أشجاناً يذوب لها القلب، وتتساقط لها العبرات. أجل! ذهب ذلك الأمل المروِّح على القلب، وأصبحت ذكريات تلك الصداقة تبعث الحسرات فتجعلها ركاماً، وإن كان هناك ما يخفف من وقع هذا المصاب، فهو أملنا أن يكون لعلم الأستاذ الراحل وفضله ورثة من أنجاله النجباء، يحفظون التالد، ويعززون التالد بالطريف. ويوطد هذا الأمل: أن بيت آل النيفر قد عرف بأنه منبت العلماء الراسخين، والأدباء البارعين، وإني ألمح في شباب هذا البيت اليوم همماً طماحة للمعالي، وجهوداً من أصدق الجهود التي تبذل لإعلاء شأن العلم والأدب والفضيلة. وأقدم لآل الفقيد على هذه الفاجعة خالص التعزية، وأسأل الله تعالى أن يفيض على ضريحه نوراً ورحمة، ويحسن جزاءه على ما بذل في سبيل الخير من همة،

تأبين الدكتور ستومو

وما غذِّى به العقول من علم وحكمة. * تأبين الدكتور ستومو (¬1): إن في الموت والحياة لعبرة، ولكن أين المعتبِر؟ روح ينزل من علا، ويتصل بجسد مصور من طين وماء، فإذا العقل يفكر، واللسان ينطق، واليد تعمل. يتصل الروح بالجسد إلى أجل مسمى: يجوز أن تبطئ المنايا ... والخلد في الدهر لا يجوز حتى إذا جاء الأجل، صعدت الروح إلى السماء، ونزل الجسد إلى باطن الثرى: نور تردد في طين إلى أجل ... فانحار علواً وخلَّى الطين للكفن والسعادة لمن فكر في رشد، ونطق في صدق، وعمل للكفن في استقامة. سادتي! ما زلنا نذكر يوماً غير بعيد، يوماً زار فيه هذا النادي زعيم من زعماء الشرق، وألقى في موقفي هذا خطاباً يفيض حماسة وحزناً على ما صار إليه الشرق من وهن واستعباد، خطاباً يدعو إلى تقوية رابطة الإخاء والتعاون بين الشعوب الإسلامية قاطبة، ذلك الخطيب هو الدكتور (ستومو). فارقنا ذلك الزعيم متقلباً في البلاد حتى عاد إلى وطنه، وقد ترك في قلوبنا أملاً لذيذاً، هو أن يعود إلى النهضة الجاوية، ويزيدها بجهاده قوة، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد العاشر. أقامت جمعية الأندنوسيين والملاويين بدار جمعية الهداية الإسلامية حفلة تأبين للزعيم الأندنوسي الدكتور ستومو. وألقى الإمام هذه الكلمة.

وما زلنا نتلقى خبراً بعد آخر عن جهاد ذلك الزعيم وثباته، حتى طرق أسماعنا اليوم نبأ هزَّ أفئدتنا هزاً عنيفاً، هو نبأ وفاته، إنا لله وإنا إليه راجعون. وكيف لا تهتز أفئدتنا فزعا لفقده، ونحن في أشد الحاجة إلى رجال عرفوا حقوق الأمة، وتحلوا بمزايا الإخلاص والإقدام والغيرة على الحقوق؟!. إن أرضنا -وأريد من أرضنا: الشرقَ كله- لم تزل فقيرة من وسائل النبوغ، ولم ترزق من العلم الصحيح والتربية الصادقة ما يجعلها منبتاً خصباً لعظماء الرجال، حتى إذا فقدنا رجلاً مجاهداً، قلنا في غير حسرة: إذا مات منا سيد قام سيد ... قَؤولٌ بما قال الكريم فعولُ حقاً إن أرضنا لا تنبت من المجاهدين المخلصين إلا قليلاً، ولا يغرنا كثرة أسماء الزعماء، فإن فيهم المرائي والجبان، وصاحب الذمة التي تباع بثمن بخس، ومن هؤلاء من ترونه ينوح على الإسلام علانية، ويقتل دموعه، ولكن بأنامل تبيت تطعن في مقاتله خفية، ولا عجب أن تروا الأنامل الملطخة بدم الجريح مبتلة بدموع البكاء عليها، فإن الذي يستطيع أن يلاقي الناس بوجهين، ويحادثهم بلسانين، يستطيع أن يتخذ دموعاً ليست من نوع الدموع التي تبعثها حرارة الإيمان والغيرة على الحق. ففي الزعماء ناصح للأمة يجاهد لسلامتها ورفعة شأنها، وفي الزعماء مخادع للأمة يتخذ زعامتها حبالة يصطاد بها مطعماً لذيذاً، أو ملبساً أنيقاً، بل يتخذ زعامتها معولاً يهدم به الباقي من صرح سيادتها، وفلاحُ الأمة في ممايزتها بين المخلص الأمين، والمداهن الأثيم، ولا تطمع الأمة أن تسير سيرة رشيدة، أو ترقى في عزة راسخة، إلا أن يكون في صدر سائسها إيمان بخالقها، وغيرة على حكمة شريعتها.

فاتحة السنة الحادية عشرة

وفي الختام: أقدم بالنيابة عن جمعية الهداية الإسلامية أخلص التعزية للأمة الأندنوسية والملايوية، ونسأل الله أن يملأ قبر الفقيد رحمة، ويعوض العالم الإسلامي منه خيراً. * فاتحة السنة الحادية عشرة (¬1): هديتنا اللهم صراطاً سوياً، وكنت لحماة الحق ناصراً وولياً، فنحمدك على نعمة هدايتك، راجين الفوز بنصرك وولايتك، رفعت سيدنا محمداً مقاماً علياً، وأنزلت عليه قرآناً عربياً، فبلغ الرسالة، وأنقذ من الضلالة، فصلِّ اللهم عليه صلاة زاكية سابغة، وسلِّمْ عليه وعلى آله وصحبه، ما نفذت عزيمة صادقة، وسطعت حجة بالغة. أما بعد: فقد قضت هذه المجلة عشر سنين متتابعة، وهي تدعو إلى الخير والإصلاح، وتواصل البحث عن الحقائق الدينية والعلمية والأدبية، سالكة في جهادها سبيل الحكمة، لا تجمد عن حق، ولا يطيش لها قلم في باطل، تهزها الغيرة على الحق أن تدفع عنه بقوة، ويأبى لها العلم أن تخرج عن أدب البحث، أو تجادل بغير حجة، تسير في خطة آمنة إلى غاية سامية، وما خطتها إلا الاقتداء بكتاب الله المجيد، والسنَّة النبوية الصحيحة، والاستضاءة بفتاوى الأئمة الذين سبقوا إلى إقامة الأصول، واستنباط الأحكام في عبقرية وخشية من الله، وما غايتها الا أن تسلم العقيدة، ويستنير الفكر، ويسمو الخلق، وتستقيم السيرة، وتتأكد روابط الإخاء، وتبلغ الأمة أسمى درجات العزة، ويعظم مقام الشريعة في أعين الخاصة والعامة، وتظهر لغة ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الحادي عشر.

القرآن في الشرق على كل لغة. تسير المجلة على هذه الخطة، ومن ذا يجحد أنها أقوم الخطط؟ وتعمل لتلك الغاية، ومن ذا يشك في أنها أشرف ما تتوجه إليه النفوس من الغايات؟. طالما نبهت المجلة لسنن الله في الخليقة، وأقامت الحجة بعد الحجة على أن جهاد المخلصين لابد أن يؤتي ثمرته، فنفذ صوتها في قلوب كانت في يأس، فاصبحت ترجو الخلاص والتمتع بنعيم الحرية الفاضلة؛ رجاء من يبصر بها، وليس بينه وبينها إلا شبر أو ذراع، استطاعت برفقها وبراعة بيانها أن تصل إلى أفئدة شباب كانت في غفلة عن حكمة الدين، فأصبحت عامرة بالإيمان والاعتزاز بهداية الله، وصار لهداية الله شباب يجمعون إلى النباهة رشداً، وإلى النشاط حسن الأناة، واستقادة الشباب بمعرفة الحق تدفعهم إلى الجهاد في سبيله، كما أن غيرة الشيوخ على الحق تبعثهم على تدبير خطط الدعوة إليه، والذود عن حياضه، فالفريقان من أسرة الهداية، يؤلفان جنداً دروعه الاستقامة، وسلاحه العزم وقوة الحجة. هذه كلمة في خطة المجلة وغرضها الذي تعمل لها ليلها ونهارها، سقناها لنذكر أن المجلة ستسير في المستقبل على خطتها، متجهة إلى غايتها، آملة أن تكون خطاها في السير أسرع، وأثر جهادها في النفوس أعظم. وقد دل التاريخ على أن الأمة قد تنحدر في غواية أو فسوق أو استعباد، حتى إذا أراد الله إنقاذها من الشر الذي تتخبط فيه، وضع مقاليد أمرها في يد ذي سلطان مصلح، قوي الإرادة، يرضي الخالق، ولو بما يغضب المخلوق، فإذا هي عائدة إلى رشدها، متمتعة بعزها وكرامتها. هذا وقد رأينا أن نفصل الموضوعات التي تبحث فيها المجلة

على الوجه التالي: ا- أسرار التنزيل: وينشر تحت هذا العنوان: تفسير آيات من الكتاب العزيز على طريقة يختار فيها أقرب الوجوه إلى البلاغة، ويعنى فيها بما تدل عليه الآية من أحكام وآداب، وما ترمي إليه من إصلاح أحوال الأفراد والجماعات. 2 - السنَّة والحكم النبوية: وينشر تحت هذا العنوان: شرح بعض الأحاديث النبوية الصحيحة. 3 - أصول الدين: وينشر تحت هذا العنوان: مقالات في علم الكلام وأصول الفقه. 4 - الفتاوى والأحكام: وينشر تحت هذا العنوان: المسائل التي ترد إدارة المجلة وأجوبتها، وما يستدعي الحال بيانه من أحكام شرعية علمية. 5 - المقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية: وينشر تحت هذا العنوان: مقالات تعقد فيها مقايسات بين أحكام شرعية، وقوانين وضعية، على طريقة البحث عن وجود المصالح والمفاسد. 6 - السيرة، وينشر تحت هذا العنوان: مقالات في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشمائله ودلائل نبوته، وحال دعوته وغزواته. 7 - الأخلاق والاجتماعيات: وينشر تحت هذا العنوان: مقالات في الأخلاق؛ كالشجاعة والسخاء، والأمانة وصدق اللهجة، أو في مقتضيات الاجتماع؛ كالبحث في الحرية والمساواة، وأسباب أزمة الزواج، وأسباب ارتقاء الأمم وسقوطها. 8 - البدع والعادات: وينشر تحت هذا العنوان: مقالات في المحَدثات المذمومة بلسان الدين؛ كصلاة الرغائب، وليلة النصف من شعبان، أو ما تجري

به عادة بعض الأقوام، وإن لم يكن من قبيل المحدثات في الدين؛ كوصف عادات بعض الجماعات في مساكنهم، أو ملابسهم، أو مطاعمهم، أو مراكبهم، أو مجالسهم، أو حروبهم، أو مظاهر فرحهم، ونحو هذا مما تختلف فيه العادات، وتسعه دائرة الإباحة الشرعية. 9 - دفع الشبه: وينشر تحت هذا العنوان: مقالات تدفع بها الشبه التي تعرض لبعض الشبان، أو يوردها بعض المخالفين على الدين. 10 - اللغة وآدابها: وينشر تحت هذا العنوان: ما يقتضي الحال نشره من المباحث العائدة إلى علم من علوم اللغة وحسن بيانها، وينشر تحت هذا العنوان أيضاً: قصائد أو خطب، أخذت من البراعة حظاً وافراً، سواء أكانت من منشآت القدماء، أم كانت من منشآت المحدثين. 11 - التاريخ الإسلامي: وينشر تحت هذا العنوان: مقالات في ماضي الإسلام؛ من نحو: الفتوحات، أو الوقائع الهامة، أو الشؤون السياسية أو الاجتماعية. 12 - تراجم عظماء الإسلام: وينشر تحت هذا العنوان: تراجم العظماء من رجال العلم والسياسة والأدب والفضيلة. 13 - العلوم والفنون: وينشر تحت هذا العنوان: ما نرى في نشره فائدة من المباحث العلمية أو الفنية؛ كالمباحث العائدة إلى حفظ الصحة، أو الدالة على حكمة سنن الله في مخلوقاته. 14 - الأحاديث الموضوعة: وينشر تحت هذا العنوان: الأحاديث التي تنسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كذباً؛ للتنبيه على وضعها. 15 - المزاعم الباطلة: وينشر تحت هذا العنوان: ما يدور بين الناس

بدعة فصل الدين عن السياسة

من أخبار أو آراء يظنونها صحيحة وهي باطلة. 16 - نصائح إسلامية: وينشر تحت هذا العنوان: رسائل مفتوحة توجهها الجمعية إلى بعض مشهوري الرجال عندما يصدر منهم مقال أو عمل، يعلنونه في الناس، ويكون مخالفاً لأمر من أوامر الدين التي أجمع العلماء على أن مخالفتها منكر يجب نصح من ارتكبه، وإرشاده إلى ما فيه الخير والسعادة. 17 - النقد والتقريظ: وينشر تحت هذا العنوان: المقالات التي يوصف فيها كتاب، أو مقال، أو خطبة، أو شعر، ويثنى عليه، أو ينبه لما فيه من خلل. هذا تفصيل الموضوعات التي ستجول فيها أقلام حضرات أعضاء الهداية وأصدقائها، ونرجو من الله تعالى أن يجعل جولاتها سديدة الخطا، عظيمة الأثر، وكذلك وعد الله المجاهدين المخلصين بالهداية إلى أقوم السبل، فقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]. ومن سلكوا أهدى السبل، وظفروا بتأييد الله، وصلوا بلا ريب إلى أمجد غاية، وأسعد عاقبة. * بدعة فصل الدين عن السياسة (¬1): اطلعنا في عدد 11 جمادى الآخرة سنة 1357 من جريدة "المصري" على مقال تحت عنوان: "من محام عاقل" تعرض فيه صاحبه لمسألة إسلامية عظيمة الشأن، هي منزلة السياسة من الدين الحنيف، وزعم أن الدين لا صلة له بالسياسة، فقال: "هذا فضلاً عما في هذا من خلط الدين بالسياسة، وقد اتفق الجميع على فصلهما، وقال به كثير من علماء المسلمين القدامى والمحدثين، أقربهم إلينا الشيخ علي عبد الرازق مؤلف كتاب "الإسلام وأصول الحكم" ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الحادي عشر. انظر البحث القيم للإمام: "ضلالة فصل الدين عن السياسة" في كتابه "رسائل الإصلاح".

الذي أوضح فيه أن الخلافة ليست من الدين الإسلامي في شيء، وهو ما قاله ابن خلدون في "مقدمته" من قبل". يقول حضرته: إن الجميع اتفقوا على فصل الدين عن السياسة، ولم يبين لنا من هؤلاء الذين اتفقوا جميعاً على فصل الدين عن السياسة، أهم المسلمون، أم غير المسلمين؟ فإن أراد بالمتفقين على الفصل: غيرَ المسلمين، فاتفاقهم ليس بدليل ولا شبه دليل، وأن أراد جماعة المسلمين، فمثل هذا الاتفاق يراعى فيه آراء علماء الإسلام، وعلماء الإسلام مجمعون على أن للشريعة أحكاماً وأصولاً تتعلق بالقضاء والسياسة، يفرض على أولي الأمر تطبيقها وتنفيذها ما استطاعوا. ثم إن حضرة المحامي بعد أن حكى الاتفاق على فصل الدين عن السياسة، جعله رأي الكثير من علماء المسلمين، فقال: وقال به كثير من علماء المسلمين القدامى والمحدثين. لندع البحث في رأي الشيخ علي عبد الرازق (¬1)، ونقول لحضرة المحامي: أن ابن خلدون لم يقل قط بفصل الدين عن السياسة، وهذه "مقدمته" بين أيدينا، فليدلنا حضرته على العبارة التي تصرح أو تلوِّح إلى فصل الدين عن السياسة، بل نرى ابن خلدون يصرح في مقدمته تصريحاً ليس وراءه تصريح: أن السياسة الرشيدة إنما هي السياسة الدينية؛ إذ يقول: "فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها، كانت السياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، ويقول: "مقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم، فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم"، ¬

_ (¬1) انظر كتاب الإمام: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" في الرد على علي عبد الرازق.

تكريم أعضاء البعثة المغربية

ويقول: "الخلافة حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا". فالحقيقة أن بدعة فصل الدين عن السياسة لم يقل بها ابن خلدون، ولا أحد من العلماء المسلمين، فننصح لحضرة المحامي المسلم أن يصرف نظره عن هذا الرأي الذي نسبه إلى اتفاق المسلمين، أو إلى كثير من علمائهم، وهم بريئون منه، ونذكره بأن هذا الرأي يفضي إلى إسقاط قسم عظيم من حقائق الدين، وهل يرضى حضرة المحامي المسلم أن يؤمن الناس ببعض الكتاب ويكفروا ببعض؟. * تكريم أعضاء البعثة المغربية (¬1): سادتي! نحتفل هذه الليلة بإخوان تربطنا بهم أشرف صلة تربط بين الجماعات والأمم، وهذه الصلة هي صلة الدين الحنيف، وهؤلاء الإخوان هم نخبة من أبناء المغرب الأقصى، وردوا مصر لغاية تعد من أنبل الغايات، وهي الارتواء من مناهل العلوم والآداب. ونحن نبتهج بكل بعثة ترد مصر؛ لما في هذه البعثات من تأكيد رابطة التعارف والإخاء، ولأن تلقِّي هذه البعثات العلوم في معاهد مصر، يساعد على غرض طالما نادى إليه المصلحون، وهو تقارب الشعوب في ثقافتها ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الحادي عشر. احتفلت جمعية الهداية الإسلامية باعضاء البعثة العلمية المغربية في القاهرة مساء الأربعاء 11 شعبان 1357. وهذه كلمة الإمام.

العلمية، وآدابها الاجتماعية. حق على أهل كل قطر أن يعملوا لتأكيد الرابطة الإسلامية، وكل عمل في هذا السبيل عمل لخلاص المسلمين، وإعادة سيادتهم، ولا ريب أن دائرة العمل في مصر أوسع، ونتائجه أسرع وأعظم، ولمزايا اختصت بها مصر أصبحت زعيمة العالم الإسلامي، وستنهض إن شاء الله تعالى بهذه الزعامة، وإن كره قوم لا يفقهون أو لا يؤمنون. ولي كلمة أوجهها إلى أبنائنا أعضاء البعثة المغربية على وجه التذكرة؛ لعلهم يضعونها نصب أعينهم، لا وراء آذانهم. أيها الأبناء النجباء! لا نقول لكم: فارقتم أوطانكم وعشائركم؛ فإن المسلم أينما حل من بلاد الإسلام فذلك وطنه، وبأي قوم من أهل العلم والفضل اتصل، فأولئك عشيرته، بل أقول: أنكم كنتم في بلاد هي المغرب الأقصى، وستعودون - إن شاء الله تعالى - إلى تلك البلاد بعد أعوام تقضونها في التردد على المعاهد العلمية والأدبية. وأذكركم بأنكم ستعودون إلى تلك البلاد، وأن علماءها وفضلاءها وأدباءها سيحاسبونكم على ما كسبتم في رحلتكم هذه، سيزنون معارف كل واحد منكم، وينقدون أخلافة وسيرته، فإن وجدوا عنده من العلوم والأخلاق الفاضلة والإيمان الصادق ما يملأ العين، ويثلج الصدر، حمدوا رحلته، وغمروه بالإجلال، ويستطيع بعد هذا أن يكون داعية إصلاح، وزعيماً سياسياً، يقول فيسمع لقوله، ويفعل فيتسابق الناس لأن يكونوا أنصاراً له. أيها الأبناء النجباء! ليستحضر كل منكم أباه أو عمه أو أخاه الأكبر يناجيه بمثل ما كتب به بديع الزمان الهمذاني إلى ابن أخت له يحثه على الجد في

وفاة علامه مجاهد كبير

طلب العلم إذ يقول: "أنت ولدي مادمت والعلم شأنك، والمدرسة مكانك، والقلم أليفك، والدفتر حليفك، فإن قصرت -وما أخالك-، فغيري خالك، والسلام". أيها الأبناء النجباء! إن في مصر خيراً كثيراً، وفيها شر غير قليل، وأريد من الشر نفوساً تنتمي إلى العلم، ولكنها ضلت السبيل، ولم تتزود من هدى الله كثيراً ولا قليلاً. فشأنها أن تخادع طلاب العلم، وتلقي بهم في ضلالة أو حيرة، فاستضيئوا بكتاب الله، وسنة رسول - صلى الله عليه وسلم -، تروا وجه الحق جميلاً مشرقاً، ووجه الباطل قبيحاً مظلماً. نرجو من الله تعالى أن يشرح صدوركم للعلوم النافعة، ويوفقكم جميعاً للسيرة التي تكسبكم رضا الله ورعايته، والسلام عليكم ورحمة الله. * وفاة علامه مجاهد كبير (¬1): فجعت المقامات الدينية والعلمية بوفاة علامة جليل، ومصلح خطير، هو الأستاذ الشيخ محمد شكر، فقد كان - رحمه الله - عالماً محققاً، ومجاهداً في سبيل الإصلاح مخلصاً. ولد - رحمه الله - في مدينة جرجا في شوال 1282، وتلقى العلم بالأزهر الشريف، ثم تولى أمانة الفتوى يوم كان المفتي الشيخ العباسي المهدي، ثم تولى نائب محكمة مديرية القليوبية، وعين بعد قاضياً لقضاة السودان، وهو أول من تولى هذا المنصب، ثم صار شيخاً لعلماء الإسكندرية، وعين بعد وكيلاً لمشيخة الجامع الأزهر، واختير عضواً في الجمعية التشريعية. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد الحادي عشر.

وعندما قامت الحركة الوطنية حوالي سنة 1337، وجدت من الأستاذ غيرة متقدة، ونظراً حكيماً، وجأشاً قوياً، وقلماً بليغاً، فكان في مقدمة القائدين لهذه الحركة، وامتلأت الصحف بمقالاته، وكان لها في نفوس الشعب أثر عظيم. وكان الأستاذ يجاهد في سبيل القضية الوطنية، وإذا تعرض كاتب لطعن في الدين، أو إنكار لبعض حقائقه، كان الأستاذ أول من يتصدى للرد عليه، لا يبالي الأذى الذي يلحقه من أولئك الكاتبين وأذنابهم، وكانت هذه الناحية من النواحي التي يمثل بها الأستاذ مقام العالم الناصح الأمين، وهكذا كانت مقالاته في الصحف، ما بين مقالات سياسية وطنية، ومقالات دينية علمية. وكان الأستاذ - رحمه الله - على خلق حميد، وأدب سني، يرى منه إخوانه وزائروه تواضعاً وحسن لقاء، ومن أجلِّ الخصال التي يحمد عليها: الشجاعة الأدبية، وقلة مسايرة الوجهاء في غير حق، وهي خصلة قد أخذت في التقلص حتى بين أهل العلم، وأصبحت سوقها خاملة، على أن العالم الديني لا يسمو مقامه، ويلاقي ربه طاهر الذمة، إلا أن يعطي هذه الخصلة حقها. وكنت أود أن لا أتعرض في تأبين عالم ديني لسلامة عقيدته، ولكن بلية الضلال والانحراف عن قصد السبيل قد انتشرت حتى وصلت إلى طائفة ممن يخرجون للناس في زي رجال الدين، فأخشى أن تستشرف نفس القارئ الذي لا يعرف الأستاذ بحق إلى كلمة تنبه لناحية الروح الديني الذي كان يعمر نفس الأستاذ، فأقول: إن الأستاذ - رحمه الله - كان صحيح العقيدة، قوي الإيمان، صادق اللهجة، ولم يكن من أولئك الذين يقصدون للعبث بالدين الحق، ويذهبون به مذهب التأويل الذي يدل على جهل مرتكبه قبل أن يدل

على ضعف إيمانه وانحلال عقيدته، فكان الفقيد - رحمه الله - يجمع بين الإيمان الصادق، واستنارة البصيرة في مقتضيات العصر الحاضر. ومن هنا كان النظام الذي وضعه للمعاهد الدينية أيام كان شيخاً لعلماء الإسكندرية أساساً صالحاً لأن يقوم عليه التعليم في المعاهد الدينية. وجه الأستاذ همته يومئذ لإصلاح نظام التعليم، ووجه همته لغرض آخر لا يقل شرفاً عن الأول، هو الاحتفاظ بكرامة أهل العلم من أساتذة وطلاب، وكان يبذل ما له من جاه في أن لا يلحق أستاذاً أو طالب علم بالمعهد، ما لا يناسب عزة العلم، كما يبذل بما له من سلطان في أن لا ينحرف أحد عن السيرة التي ينبغي أن يكون عليها طالب العلم، وإذ لم يكن للأستاذ - رحمه الله - غاية يعمل لها إلا إعلاء شأن العلم والعلماء، كان الأساتذة كما كان الطلاب أمام عاطفته الدينية العلمية على السواء. وقد جئت مصر في آخر سنة 1338، ووجدت ألسنة العلماء لا تزال تلهج بذكر النهضة الإصلاحية الدينية التي قام بها في عهد توليه شيخاً لمعهد الإسكندرية، ووكالة الجامع الأزهر. وكان الأستاذ - رحمه الله - يشد عزائم طلاب العلم على ما فيه خير للدين والعلم، ولا ننسى أن الطلاب الذين قاموا بإنشاء جمعية الهداية الإسلامية قد وجدوا منه تشجيعاً على المضي في سبيلهم، وها هو ذا قانونها الأساسي المشتمل على أسماء حضرات المؤسسين للجمعية يباهي بذكر اسم هذا الأستاذ العظيم. وما زال الأستاذ يجاهد في سبيل الدين والعلم وحرية الوطن حتى أصيب بفالج ألزمه الفراش، وكانت وفاته في يوم الخميس الحادي عشر من جمادى الأولى سنة 1358، فإلى مقام كريم، ونعيم مقيم.

الشيخ عبد الرحمن قراعة

وأسرة جمعية الهداية الإسلامية ترجو من الله تعالى أن يملأ ضريح الراحل العزيز نوراً ورحمة، وتقدم إلى حضرات أبنائه وأسرته أخلص التعزية. * الشيخ عبد الرحمن قراعة (¬1): في اليوم الرابع من شوال سنة 1358 فقد العلم والأدب والمجد رجلاً يعد من أكابر العلماء والأدباء والفضلاء، هو العلامة الأستاذ المرحوم الشيخ عبد الرحمن قراعة، فحزن لفقده كل من عرف قدره، أو شهد مجالسه العامرة بالفوائد العلمية، واللطائف الأدبية. ولد الراحل الكريم بمدينة أسيوط في أسرة علم ومجد، وتلقى عن والده -بعد أن حفظ القرآن العزيز- جانباً من العلوم الدينية والعربي، ثم رحل إلى الأزهر الشريف، وأقبل على الازدياد من العلم، وظهر نبوغه في العلم، وبرع في صناعة القريض والإنشاء، فكان من أركان النهضة الأدبية المصرية، ومن أساتذته: الشيخ الأنبابي، والشيخ المهدي العباسي، والشيخ حسن الطويل، وحضر بعض مجالس للشيخ جمال الدين الأفغاني، وأدى الامتحان في عهد مشيخة الشيخ حسونة النواوي، فأحرز شهادة العالمية. وتقلب الأستاذ في مناصب كثيرة إلى أن عين وكيلاً لمشيخة الأزهر الشريف، ومديراً عاماً للمعاهد الدينية، ثم تقلد منصب الفتوى بالديار المصرية. كان الفقيد - رحمه الله تعالى - غزير العلم، واسع الاطلاع في الأدب العربي، بارعاً في صناعتي الشعر والممر، ومن ثم كان مقامه جليلاً عند العلماء والأدباء، وكانت مجالسه أينما حل رياض علوم وآداب، أما آدابه النفسية، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الثاني عشر.

شعبة الأدب العربي لجمعية الهداية الإسلامية

فتمثل أدب العلماء الناشئين في بيوت مجد وتقوى، وأما غيرته الدينية، فتريك ما ينبغي أن يكون عليه علماء الشريعة من الإخلاص للدين، والاعتزاز به، وكانت له - رحمه الله - مواقف يغضب فيها للحق، ويواجه فيها بعض أولي الوجاهة بالنهي عما يأتونه من عمل تنكره الشريعة. وكنت أيام تحريري وطبعي لكتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، ثم كتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" أقدم للأستاذ - رحمه الله - كل كراسة يتم طبعها من الكتاب إلى أن ينتهي الطبع، وكان ما يبديه من الرضا عن أسلوب الرد يزيدني قوة على التحرير والطبع. وأذكر أن للأستاذ مؤازرة على نهضة جمعية الهداية الإسلامية؛ إذ كان يتكرم بحضور بعض حفلاتها أو محاضراتها، مع موالاته للاطلاع على مجلتها. هبطت مصر سنة 1339، وكان الأستاذ وكيلاً للأزهر الشريف، فكنت أزوره، وأجد بيته مورداً لأهل العلم على اختلاف طبقاتهم، وأراهم يجلونه بحق؛ إذ يشهمون في مجلسه وقار العلماء الأجلاء، ورقة حديث الأدباء النبلاء. وكان الأستاذ يسير في الفتوى سيرة عالم يخشى الله، ويوقن بأنه سيسأل عما كتبت يداه، وكانت همته التي نشأت في حجر الإيمان الصحيح، تأبى له أن يتخذ من ضعفاء الإيمان جليساً أو عضداً. * شعبة الأدب العربي لجمعية الهداية الإسلامية (¬1): سادتي! من أغراض جمعية الهداية الإسلامية: أن تنهض باللغة العربية، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثامن من المجلد الثاني عشر. أنشئت في جمعية الهداية الإسلامية شعبة الأدب العربي، وأقيمت لها حفلة افتتاح ألقى الإمام فيها هذه الكلمة.

وتنشر محاسنها وآدابها، وذلك أن للمحافظة على هذه اللغة، والقيام على أساليب بلاغتها، أثراً عظيماً في فهم مقاصد الدين الحق، وشأناً بالغاً في نجاح الدعوة إلى الإصلاح. أما أثر المحافظة عليها في معرفة مقاصد الدين، فلأن القرآن المجيد نزل في أعلى طبقة من طبقات الفصاحة والبلاغة، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبين الكتاب، ويعلِّم الحكمة في أساليب واسعة يقف البلغاء دونها بمراحل. وأما أثرها في نجاح الدعوة، فلأن الكلام المصوغ في أحسن بيان، يقع من النفوس موقعاً أشد من وقع الكلام الذي يؤدي المعنى، وهو مجرد من حلية كل بلاغة. ويضاف إلى هذا: أن بليغ القول من منظوم ومنثور يروِّح عن الخاطر، ويزيح عن النفوس ما قد يخالطها من قلق وضجر، ويجدد نشاطها للجد إن كانت من أصحاب الجد. وكان العلماء الأجلاء -وما زالوا- يقدرون أدب اللغة قدره، وينظرون إلى الكاتب البارع والشاعر المبدع باحترام. فهذا العلامة ابن دقيق العيد لما بلغته قصيدة ابن خميس التلمساني التي يقول في مطلعها: عجباً لها أيذوق طعمَ وصالها ... من ليس يأمل أن يمر ببالها اهتز لجودة سبك هذا الشعر، وقام من شدة طربه له. وعزم القاضي أبو البركات التلمساني على الرحلة إلى الشرق، فكتب إليه ابن خاتمة أحد شعراء تلمسان أبياتاً يقول فيها: أشمس الغرب حقاً ماسمعنا ... بأنك قد سئمت من الإقامهْ

وأنك قد عزمت على طلوع ... إلى شرق سموت به علامهْ لقد زلزلت منا كل قلب ... بحق الله لا تقم القيامهْ فقال أبو البركات: لا أرحل من إقليم فيه من يقول مثل هذا. ولما في أدب اللغة العربية من فضل وجمال، تلقينا رغبة نخبة من الأدباء في إنشاء شعبة للأدب العربي بالإجابة، وارتحنا له جد الارتياح. ويتناول عمل هذه الشعبة: البحث في علوم الأدب، وصناعة الكتابة والشعر والخطابة، وفي تراجم الأدباء من كتاب وخطباء وشعراء، ولا يفوتها -مع هذا- أن تخوض في نقد المنشآت القديمة والحديثة؛ لتمييز جيد القول من رديئه. وتقوم -بعد هذا- بإقامة حفلات تكريماً للأدباء الذين سلكوا بالأدب طرقاً حكيمة، واتجهوا به إلى غايات شريفة، وجادت قرائحهم بثمار بهيجة. وستنهض هذه الشعبة -إن شاء الله- بإلقاء محاضرات، ومناظرات، وتحرير مقالات في الصحف، وإذا تعدى بعض الناس باسم الأدب معناه اللائق به، وأطلقوه على ما يعده أهل الفضيلة دعوة إلى الرذيلة. وإذا ساغ للأديب أن يطلع على كل ما يتناوله اسم الشعر أو النثر الفني في عصر من العصور، فإن الأديب الصادق لا يرضى لنفسه إلا أن يكون من طبقة النبلاء الذين يستمدون معانيهم من منابع الحكمة، ويؤلفون أقوالهم من الألفاظ التي تجري في بيئة الطهر والنزاهة. وإنشاء هذه الشعبة في جمعية الهداية الإسلامية، يدلنا على أن المؤسسين لها لا يقصدون بإنهاض الأدب العربي قصداً واحداً، هو أنه فن فيه جمال وسلوة، بل يقصدون -مع هذا- قصداً أنبل وأعلى، هو التوسل بالأدب إلى

فاتحة السنة الرابعة عشرة

إصلاح النفوس، وتهذيب الأخلاق، وهو القصد الذي يستحق أن يجعل نصب العيون، وتبذل فيه الجهود. * فاتحة السنة الرابعة عشرة (¬1): الحمد لله الذي دعانا إلى دار السلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا صراطها السويّ، ولا صراط لها اليوم غير الإسلام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام المصلحين، وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في سبيل الحق، وكان أعظم سلاحهم براعة البيان، وقوة اليقين. أما بعد: فقد قضت هذه المجلة ثلاث عشرة سنة وهي تجاهد في سبيل الدعوة إلى الله، والذود عن حقائق الدين الحنيف، وتعمل لنشر الفضيلة والآداب الزاهرة، ومحاربة الضلالات والبدع الخاسرة، ولم تدع أن تضع يدها في أيدي العاملين لترقية اللغة العربية، وإظهار فضلها وروعة بيانها، وستمضي -إن شاء الله- في هذا السبيل، راجية منه -جل شأنه- التوفيق والتأبيد. * مهمة جمعية الهداية الإسلامية (¬2): سادتي! كان المسلمون على إيمان صادق، وطاعة لله خالصة، إلا نفراً لا يخلو منهم عصر، غلبت عليهم شقوتهم، فأصيبوا بمرض الإلحاد والإباحية، وكان هؤلاء النفر لا يتحدثون بإلحادهم وإباحيتهم إلا إذا خلا بعضهم إلى ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول والثاني من المجلد الرابع عشر. (¬2) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول والثاني من المجلد الرابع عشر. احتفلت جمعية الهداية الإسلامية مساء يوم الجمعة 27 شعبان 1360 بدار فرعها في الجيزة بمناسبة مرور سبع سنين على هذا الفرع. وألقى الإمام هذه الكلمة.

بعض، أو غمزوا بها غمزاً خفيفاً في بعض خطبهم، أو أشعارهم، أو مؤلفاتهم، وكان هؤلاء النفر يلاقون -بعد مقت الله تعالى- احتقار الأمة، والنظر إليهم كحيات سامة يجب الحذر منها. كان هذا شأن المسلمين، إلى أن بليت الشعوب الإسلامية بالاحتلال الأجنبي، وكان من أغراض الأجنبي: صرف قلوب الأمة عن إيمانها، والتمسك بشريعتها، فأخذ يرمي إلى هذا الهدف بكل ما أوتي من قوة ودهاء، حتى صارت معاهد العلم تخرج لنا أفواجاً من الملاحدة والإباحيين، ووقعت مناصب ذات بال في أيدي هؤلاء، فأخذوا يشجعون على المروق من الدين، ويعملون لإبعاد الدين عن معاهد التعليم، ومظاهر السياسة، فأخذ الإلحاد يرفع رأسه، ويحاول أن يرفع صوته، ولكنه يجد قوة إيمان من سواد الأمة، فيخشى سطوتها، ويختفي حيث لا يشعر به إلا النبهاء من المؤمنين. وعقب الحرب السابقة، ظهرت حركات وطنية ودعايات قومية، وقد يكون فيها خير، ولكنها لم تقف عند حد الاعتدال، وأخذت تنظر إلى الرابطة الإسلامية بعين الاستخفاف، بل مدت يدها إلى تمزيق أوصالها، ونالت منها شيئاً كثيراً، ووجد الملاحدة والإباحيون في هذه الدعايات مرتعاً، فأخذوا ينادون بإزالة الفوارق بين جماعات الشعب، ويريدون بإزالة الفوارق أن تهمل الجماعات أمر دينها، وتنكث يدها من شريعتها. وفي تلك الأيام ظهرت كتب جاهر مؤلفوها بالطعن في الدين، ووجدوا من بعض ضعفاء الإيمان القابضين على طرف من زمام الأمر مناصرة ومؤازرة، ووقعت الأمة يومئذ في دهشة، وتخيل أولئك الزائغون أن المسلمين انسلخوا من إيمانهم، وأن القرآن المجيد أصبح مودعاً في الخزائن ككثير من الآثار

العتيقة، فتقدموا في مناوأة الدين ومباهتته شوطاً واسعاً. ولما أسرف هؤلاء في التهجم على الدين الحق، وحاربوه في خطة مكشوفة، أخذ الشعور الذي يهتز وينمو في نفوس الخاصة والعامة من المسلمين، حتى اتقد في نفوس شباب موفقين، وقام بعض دعاة الإصلاح يفكرون في وسائل يدافعون بها عن الحق، ويردون بها هؤلاء الجاحدين على أعقابهم، فسعوا في تأليف جمعيات، وإصدار مجلات، وكان في مقدمة هذه الجمعيات والمجلات جمعية الهداية الإسلامية ومجلتها. فخطة جمعيتنا ومجلتنا: الجهاد في إعلاء كلمة الحق، والرد على هؤلاء المنكرين والإباحيين على طريقة آداب البحث، وقوانين المنطق الصحيح. الجمعية -بعد هذا- تعمل لتهذيب الأخلاق، وإصلاح شؤون الاجتماع، وتبذل مجهوداً كبيراً في ترقية اللغة العربية، وفي الاحتفاظ بها حفظ القرآن الكريم، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذلك صيانة الدين الحق، والشريعة الغراء. هذه أغراض الجمعية، ونحن في حاجة ملحة إلى من يؤازرنا عليها، ويرافقنا في طريق الوصول إليها، وإنما تقوم الأعمال الجليلة، وتدرك الغايات النبيلة، بالتعاون والتعاضد، واعلموا أن أفراداً قليلين ملئت قلوبهم غيرة على الحق، وإخلاصاً يثبتهم على الذود عنه، خير من كثير يتظاهرون بالغيرة، وأفئدتهم منها هواء. أيها السادة! إن هدى الله في خطر، وقد أصبحنا محاطين بشياطين الإلحاد والإباحية من كل جانب، ولو قلت: قد أصبحت الضلالة، وتقويضُ أركان الشريعة السمحة يأتيان من حيث كنا نرجو المناصرة، لم كن مخطئاً، فليكثر هؤلاء الزائغون، وليدعوا ما شاؤوا من أمثالهم إخوان الشياطين، ولتكن مظاهر

الاحتفال بذكرى الهجرة النبوية

الدعاية ووسائل التأثير في الأفكار بأيديهم؛ فإن يد الله فوق أيديهم، وإن عشرة من دعاة الحق يغلبون آلافاً من دعاة الباطل، وإنما يظهر الباطل عند غيبة الحق؛ أي: عند غيبة من يجدّ ويثبت في إعلاء كلمة الحق. ومما يقوي أملنا في وصولنا إلى الغاية الشريفة التي نرمي إليها: أن الذين بعثوا هذه النهضة الدينية المباركة من خمولها، هم شباب من طلبة الجامعة المصرية وغيرها من المدارس العليا، وشبان يتولون اليوم أعمالاً في دائرة الحكومة، فإذا سار هؤلاء الشبان الموفقون بجانب شيوخ درسوا شؤون الاجتماع، وتقلبت بهم التجارب أطواراً، وآثروا رضاء الله على منافعهم الشخصية، فهناك نرى النصر المؤزر، ونرى هداية الله في سمو وإشراق. {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]. * الاحتفال بذكرى الهجرة النبوية (¬1): كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتاباً يقول فيه: "إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ"، فجمع عمر الناس ليستطلع رأيهم فيما يكون به التأريخ، فقال بعضهم: أرّخ بالمبعث، وقال بعضهم: أرّخ بالهجرة، فقال عمر: "الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها". يقول عمر بن الخطاب: "الهجرة فرقت بين الحق والباطل"، وهذا إشارة منه إلى المزية التي استحقت بها الهجرة أن تكون مبدأ التأريخ العام في الاسلام؛ ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع والثامن من المجلد الرابع عشر. احتفلت جمعية الهداية الإسلامية في مساء يوم السبت 30 من ذي الحجة 1361 هـ بذكرى هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذه كلمة الافتتاح للإمام.

الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف

فإن الدعوة إلى الإسلام كانت تلاقي في مكة معارضة وعقبات توضع في سبيلها، وأخذت بعد الهجرة حريتها كاملة، ولم يستطع أحد أو جماعة الوقوف في طريقها، وكانت الدعوة بمكة تسير في طريق النجاح رويداً رويداً، وأخذت بعد الهجرة تنتشر بسرعة، فلم يمض عليها عشر سنين حتى عمت الجزيرة، وانضوى إلى الإسلام ملوكها ورؤساؤها وقبائلها فوجاً عقب فوج، وكان المشركون يبسطون ألسنتهم وأيديهم إلى المسلمين بالأذى، وبالهجرة تخلصوا من ذلك الأذى، وأصبحوا في أمن ليس لذي قوة عليهم من سبيل. وكانت الدعوة في مكة تتدرع بالصبر، واحتمال المكروه من أولئك الطغاة، أما بعد الهجرة، فقد رفعت الدعوة رأسها، وأذن للقائمين بها أن يجردوا الحسام في وجه كل من يناوئها، ويروم إطفاء نورها. فبالهجرة ظهر الإسلام في ثوب عزته الصافية، وتمكن من أن يفيض على العالم هداية ورحمة. ومن مآخذ العبرة في قصة الهجرة: أن الداعي إلى الإصلاح متى أوتى حكمة بالغة، وإخلاصاً نقياً، وعزماً صارماً، هيأ الله لدعوته بيئة طيبة فتقبلها، وزينها في قلوب قوم لم يلبثوا أن يسيروا بها في البلاد، ويطرقوا بها الآذان، فتسيغها الفطر السليمة، والعقول التي تقدر الحجج حق قدرها. * الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف (¬1): سادتي! لا يوجد في سير العظماء ما يوجد في سيرة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء العاشر من المجلد الرابع عشر. احتفلت جمعية الهداية الإسلامية مساء يوم الجمعة 9 ربيع الأول 1361 بذكرى مولد الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم -. وقد افتتح الإمام الحفل بهذه الكلمة.

من خصال الشرف، ومظاهر الكمال، فلا شرف يذكر، ولا كمال ينعت، إلا أخذ في السيرة النبوية مكاناً أوسع، وكان له أرفع شأن، وليس في الوقت كفاية، ولا في اللسان مقدرة على أن أتحدث عن هذا الشرف والكمال بما يشفي غليل السامعين، وقصارى ما يستطيعه الخطيب أن يقول كلمة يلمح بها إلى شيء من خصال كماله - عليه الصلاة والسلام -. وقد يقف الخطيب البارع وقفة المدهوش لكثرة ما يتراءى له من الأخلاق الباهرة، والآداب الرائعة، والهمم الفائقة. ولا أكتمكم أني وقعت في هذه الدهشة عندما استقبلت السيرة النبوية لأقتبس منها كلمة ألقيها في هذه الحفلة المباركة، وكدت أنقطع عند التكلم، لولا أن الاعتذار بهذا الوجه من العجز لا يجد عند كثير من الناس قبولاً. وقد أخذت -مع هذه الروعة- أروض الفكر إلى أن يملي على لساني شيئاً أضرب به في هذه الحفلة بسهم، عسى أن يكون لنا فيه قدوة حسنة، فما كان إلا أن ذكرت قول ابن الخطيب: أيروم مخلوق ثناءك بعد ما ... أثنى عليك الواحدالخلّاق فقلت: كتفي بتلاوة آية من الآيات التي أثنى بها الواحد الخلَّاق على رسوله الأكرم - صلوات الله عليه -، وتلك الآية هي قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. فمن واجب هذه الآية علينا أن ندرس السيرة النبوية حتى نعلم ما هو الخلق العظيم الذي كان عليه - عليه الصلاة والسلام -؛ لنعمل لتربيته في نفوس نشئنا، ونأخذ به أنفسنا ما استطعنا. ونحن إذا درسنا السيرة النبوية، نجده - صلى الله عليه وسلم - قد تجمل بأكمل الأخلاق

تأبين الأستاذ الشيخ علي محفوظ

وأسناها، فنجحت دعوته، واستقامت سياسته، وتألفت القلوب على محبته، والتفاني في حسن طاعته. إن كل ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - حق، ولكن الحق لا يطرق الأسماع، أو يتجاوزها إلى القلوب بنفسه، وإنما يطلع على الناس بوجهه الجميل، وتتملاه العقول لا تبغي عنه بدلاً، إذا كان القائمون بعرضه على الناس ذوي أخلاق عظيمة محكمة، تسعدها ألسنة تضع الكلم مواضعه. فلندرس السيرة النبوية؛ لنخرج للناس دعاة إلى الإصلاح وهم على خلق عظيم، ودراية بالأساليب التي تدخل بالدعوة إلى القلوب، فتنفي عنها الغواية وخواطر السوء، وتعمرها بالهداية والرغبة البالغة في فعل الخير. * تأبين الأستاذ الشيخ علي محفوظ (¬1): هما السهمان يشتبهان مرمى ... وما كلُّ السهام يصيد عُمرا وما سهم المنون كسهم قوسٍ ... إذا جريا إلى الأهداف قسرا فسهم القوس كالعشواء يعدو ... فيخطئ مرة ويصيب أخرى ولا ترمي المنون بغير سهم ... يهبّ بنصله ويصيب نحرا وأحزم من رأت عيني أريبٌ ... يقدم قبل أن يغشاه ذخرا ولا مثل امرئ يدعو بجدٍّ ... إلى طرق السعادة مستمرا تلين به قلوبٌ لو مددت الـ ... ـــــــــــــبنانَ يجسُّها للمست صخرا ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثامن والتاسع من المجلد الخامس عشر. أقامت جمعية الهداية الإسلامية حفلة تأبين كبرى لوكيلها الأول المرحوم الأستاذ الشيخ علي محفوظ، وذلك يوم الخمس 15 المحرم سنة 1362 هـ الموافق 21 يناير كانون الثاني سنة 1943. وقد ألقى الإمام هذه الكلمة.

يذكرنا بمنطقه وتهدي ... لنا أقلامه عظة وذكرى كذلك كان في الدنيا عليٌّ ... وعاقبة التقى رُحمى وبُشرى سادتي! في يوم الخميس الرابع من شهر ذي القعدة الحرام، طويت صحيفة حياة كانت مليئة بالهمم السامية، والأعمال الفاضلة، هي حياة العالم الكبير، والواعظ البليغ، الأستاذ الشيخ علي محفوظ. ولا أقصد في هذا المقام إلى الحديث عن سيرته، فأفصل القول في سماحة أخلاقه، وغزارة علمه، وامتلاء أوقاته بالمساعي الحميدة، وإنما أريد أن أقول في صدد هذه الحفلة: إن جهاد الفقيد - رحمه الله - في جمعية الهداية الإسلامية كان جهاد الموقنين بحكمة مبادئها، واستقامة اتجاهها؛ فقد انتخب - رحمه الله - وكيلاً للجمعية في أول جلسة عقدت لتأسيسها سنة 1346 هـ ومنذ انتخب - رحمه الله تعالى- لوكالتها، وهو يشد أزر الجمعية بإلقاء المحاضرات في دارها، أو في بعض فروعها، أو في بعض المساجد والنوادي باسمها. وهذا كله إنما هو نصيب الجمعية من مجهودات الفقيد التي ضربت بأشعته في أكثر الجمعيات والمساجد والنوادي، بعد أن أخذ التدريس بالجامع الأزهر نصيبه منه كاملاً. وسيعرض عليكم حضرات الخطباء والشعراء جانباً من تاريخ حياة الراحل الكريم، ويتحدثون عن علمه وخلقه وجهاده، ولا أدع مقامي هذا حتى أشهد للفقيد بخصلة من خصال المجد والحمد، هي خصلة الوفاء بالعهد، فقد تقبل الفقيد وكالة الجمعية، وأخذ يحمل لنهوضها بما أوتي من قوة، ومرت على الجمعية ظروف رأى فيما المتصلون بها أعذاراً لقطع صلتهم بها، ولكن الفقيد

تكريم إنكليزي دخل الإسلام

- رحمه الله - استمر ثابتاً أمام تلك الظروف، ولم تأخذ من عزمه وإخلاصه فتيلاً. والواقع أن الجمعية قد خسرت بوفاته رجلاً غزير العلم، عظيم الخلق، صافي السريرة، قوي العزم، وكان أسفها بمصابه أسف القافلة، تهتدي بالقمر في مهمه مغبرة أرجاؤه، فيخسف القمر خسوفاً كلياً، ويدعها في ظلمة لا تدري كيف تتقدم فيها إلى الأمام، ولو خطوة قصيرة. هذا، ونسأل الله تعالى أن يفيض على قبر الفقيد نوراً ورحمة، وأن يعوض العالم الإسلامي منه خيراً. * تكريم إنكليزي دخل الإسلام (¬1): سادتي! أقدم إلى حضراتكم جزيل الشكر على ما تفضلتم به من إجابة دعوة الجمعية إلى هذه الحفلة، التي أشعر كما تشعرون، أن روح الإخاء والإيمان تهب فيها من كل جانب. تحتفل الجمعية احتفاء بحضرة الأديب الأستاذ نور الدين جورج، وإنما تحتفل بشاب دخلها وهو يحمل بين جنبيه سراجاً من الهداية التي تدعو إليها، وتجاهد في سبيلها؛ أعني: هداية الإسلام. فلحضرة الأديب نور الدين مزية في اتجاهه إلى البحث عن دين يرتاح إليه ضميره في الدنيا، ويدرك به السعادة في الأخرى، ولله المنّة في أن وفقه ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء العاشر والحادي عشر من المجلد الخامس عشر. أقامت جمعية الهداية الإسلامية حفلة تكريم للأديب والشاعر الإنكليزي نور الدين جورج بمناسبة إعلان دخوله في الدين الحنيف. وقد افتتح الإمام الحفلة بهذه الكلمة.

للدين الحق، وأراه إياه في صورته النقية، وحليته التي يبتهج لها العقل السليم: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]. ودخول شاب اليوم في الإسلام دخولاً صادقاً، وهو لم ينشأ في بيئة إسلامية، يدل على أن في الشاب مزيتين فاضلتين: مزية اليقظة والحزم؛ حيث إنه لم يرض لنفسه التمادي في التقليد، واتجه إلى البحث عن السعادة من طريق الأدلة المقنعة. ومزية صفاء الفطرة، والسير على قانون المنطق المعقول؛ حيث اتجه في بحثه عن الدين إلى النظر في حقائقه وآدابه، ولم يزن الدين بحال من ينتسبون إليه. وإذا كانت سيرة جمهور المسلمين فيما سلف، تصلح أن تكون مرآة لدينهم الحكيم، فلا نكتم أحداً أن سيرتهم اليوم في ناحية، وحقائق الإسلام وآدابه في ناحية أخرى. ولا عجب أن نرى الإسلام، وهو صاحب الحجة الباهرة، والحكمة البالغة، قد وقف في انتشاره عند حد، أو صار يسير في المعمورة سيراً بطيئاً؛ فان قلة احتفاظ المسلمين بما أرشد إليه من الأخلاق الكريمة، والهمم السامية، والأعمال الصالحة، قد تكون عقبة في سبيل نجاح الدعوة إليه، هذا مع عدم نهوضهم بواجب الدعوة إليه في نظام وحكمة وحزم. سادتي! منذ خمس سنين احتفلت جمعية الهداية الإسلامية بتكريم فيلسوف كان إسرائيلياً، ثم دخل في الإسلام، وهو الدكتور أحمد سوسه أحد الموظفين بالعراق، واليوم تحتفل الجمعية بتكريم شاعر كان مسيحياً، ثم دخل في الإسلام، وهو الأستاذ نور الدين أحد الموظفين بالجيش الإنكليزي.

فاتحة السنة السابعة عشرة

ولم يكتف الدكتور أحمد سوسه بارتياح ضميره، وابتهاج نفسه بالدين الجديد، حتى ألف كتاباً قارن فيه بين الموسوية الحاضرة والإسلام، ودل على أنه دخل في الدين الحنيف من باب النظر والاستدلال، وسمى هذا التأليف: "في طريقي إلى الإسلام"، وقد أدى بهذا التأليف نصيبه من الدعاية إلى الدين الحق. ونحن نؤمل من الأستاذ نور الدين، وهو شاعر كاتب: أن ينفق شيئاً من وقته في الدعوة إلى الإسلام، فيكون عضواً في الأمة الإسلامية كاملاً في نفسه، مكملاً لغيره. {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. * فاتحة السنة السابعة عشرة (¬1): الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. جاء على حين فترة من الرسل، وانقطاع من الوحي، واستغراق في الضلالة، وفساد في الأخلاق، وجنوح عن العدل، وعزوف عن كمال النفس، وتهالك على عرض الدنيا، فأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وبصرهم بما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وسنّ لهم سبل المكارم، وشرع لهم نهج الفضائل بما أوحي إليه، وما نزل من الكتاب والحكمة عليه، فساد المسلمون وعزّوا، ويسطوا سلطانهم، وأذاقوا الناس راحة النصفة والمعدلة، وحلاوة المحبة والمساواة الإسلامية، وكان حكمهم يمناً وبركة على الناس ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الاسلامية" - الجزء الأول من المجلد السابع عشر.

في الهجرة بركة

أجمعين، فصلاة الله وسلامه عليه وعلى أصحابه نجومِ الهدى، ومصابيح الدجى، وأئمة الخير، وقادة الفكر الصحيح، وأولى الألباب المستقيمة. وبعد: فإن مجلة "الهداية الإسلامية" تستقبل سنتها السابعة عشرة، وهي تحمد الله على ما وفق وسدد من خطاها، وتشكر من شد أزرها، وشارك في ظهور بدرها من الكتاب والخطباء والمحاضرين، وأولي الفضل والأريحية، والنبل واللوذعية. وهي تعقد العزم -بعون الله- على المضي قدماً في خطتها، وسبيل جهادها في نشر الفضيلة، وتبيين محاسن الدين، ومآثر الشريعة الغراء، والدعوة بالحسنى إلى ما فيه رفعة الجماعة الإسلامية، وإعادة مجدها، والمساعدة في بث فروع الثقافة العامة مما ينير القراء، ويقفهم على ما يهمهم من العلم والمعرفة. والله المسؤول أن يسنّي أمر المسلمين، ويعيدهم فيما كانوا فيه من عزة، واتفاق كلمة، ونفاذ سلطان، وهو المستعان. * في الهجرة بركة (¬1): هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأخيار من مكة إلى المدينة، فظهرت بركة هذه الهجرة في المهاجرين أنفسهم، وفي البلاد التي هاجروا إليها، وفي انتشار الدين الذي هاجروا من أجل التمكن من الدعوة إليه. أما أثر بركة الهجرة في المهاجرين أنفسهم، فلأنهم - بعد أن كانوا يلاقون ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية"- الجزء السابع من المجلد السابع عشر. احتفلت جمعية الهداية الاسلامية بذكرى الهجرة النبوية مساء اليوم الثاني من شهر المحرم 1364، وألقى الإمام هذه الكلمة.

في مكة أذى كثيراً- أصبحوا في أمن وسلامة، ثم إن الهجرة ألبستهم ثوب عزة بعد أن كانوا مستضعفين، ورفعت منازلهم عند الله درجات، وجعلت لهم لسان صدق في الآخرين، وقد سمى الله تعالى الصحابة الذين فروا بدينهم إلى المدينة بالمهاجرين، وصار هذا اللقب أشرف لقب يدعون به بعد الإيمان. وأما أثر بركة الهجرة في البلاد التي هاجروا إليها، فإن فضل مكة كان معروفاً عند العرب من قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجاءها الفضل من جهة أن الله اختارها لأن يقام فيها بيته المحرم، وأمر رسوله إبراهيم - عليه السلام - ببناء ذلك البيت، ودعوة الناس إلى حجه، والتقرب إلى الله بالطواف به، وقد ازداد هذا الفضل بميلاد النبي - صلوات الله عليه -، ونشأته فيها، ثم نزول القرآن في أرجائها. وأما المدينة فلم تكن معروفة قبل الإسلام بشيء من الفضل على غيرها من البلاد، وإنما أحرزت فضلاً بهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المؤمنين بحق، وبهجرة الوحي معهم إلى ربوعها، حتى أكمل الله الدين، وأتم عليهم النعمة. وأما أثر بركة الهجرة في انتشار الإسلام وإعلاء كلمته، فلأن الإسلام كان بمكة في شيء من الخمول، ولم يكن الجهاد قد شرع؛ إذ لم تتهيأ أسبابه، أما بعد الهجرة إلى المدينة، فقد نزلت آيات في القتال؛ كقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]. وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190]. فإذا احتفلنا بذكرى الهجرة الشريفة، فإنما نحتفل بذكرى اليوم الذي ابتدأت فيه الهداية تسير سيرها الحثيث في الشرق والغرب، وذهبت فيه العزة

فاتحة السنة الثامنة عشرة

تمد ظلالها على كل جماعة تنادي بأرفع صوت: "حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح". * فاتحة السنة الثامنة عشرة (¬1): الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وآله الراشدين، وأصحابه الذين جاهدوا في سبيل نشر هدايته بأقوى الحجج، وأوضح البراهين. أما بعد: فقد قضت هذه المجلة -بتوفيق الله تعالى- سنتها السابعة عشرة، وهي سائرة في الدعوة إلى الإصلاح سيرة اليقظة والحزم، عاملة لتحقيق أغراض الجمعية بثبات وعزم. ولنا اليوم أمل وطيد في أن انقضاء عهد الحرب ستزول معه المصاعب التي كانت تقف أمام قصدنا إلى توسيع نطاقها، وجعلها أنهض بما أخذتها على نفسها من الدعوة إلى هداية الإسلام، وإعلاء صرح عزته، وترقية اللغة العربية، ونشر آدابها الزاهرة، وتعريف الخلف بعظمة رجال السلف، إلى نحو هذا مما تزداد به ثقافة شبابنا صفاء وضياء. ونقدم مع هذا واجب الشكر لحضرات الكتاب والشعراء الذين أسعدوا هذه المجلة بمقالات نافعة، وقصائد رائعة، ونرجو من الله تعالى التوفيق والتأييد {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. * فاتحة السنة التاسعة عشرة (¬2): الحمد لله الهادي إلى أقوم محجة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثامن عشر. (¬2) مجلة "الهدية الاسلامية"- الجزء الأول من المجلد التاسع عشر.

فاتحة السنة الحادية والعشرين

المبعوث بأوضح حجّة، وعلى آله الراشدين، وأصحابه المجاهدين. أما بعد: فقد قضت هذه المجلة سنتها الثامنة عشرة، وهي سائرة في الطريقة التي رسمتها لنفسها منذ صدورها، تجاهد في الحق، وتذكر بالفضيلة، وتدعو إلى الإصلاح ما استطاعت، - وقد قيض الله أساتذة من الكتاب البارعين، عزموا على أن يمدوها بما تجود به أفكارهم، وتحرره أقلامهم من الموضوعات الإصلاحية والأدبية، وإدارة المجلة تقدم لهم ولحضرات من أمدوها في السنة الماضية بمنشآتهم الممتعة جزيل الشكر. ولعل حضرات القراء قد لاحظوا من سيرة هذه المجلة أنها تسير بتوفيق الله تعالى في طريق وسط، وهي طريق من يعتز بدينه الحق، ويستخلص آراءه من الفطرة السليمة، والمقاييس المنطقية الصحيحة، فيحتفظ بالقديم الصالح، ويتقبل الجديد النافع. {إِنْ أُرِيدُ إِلا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. * فاتحة السنة الحادية والعشرين (¬1): نحمدك اللهم على أن دعوتنا إلى دار السلام، وهديتنا سبيلها، وما سبيلُها إلا الاعتصام بعهد الإسلام. ونصلي ونسلم على سيدنا محمد الأمين، المبعوث رحمه للعالمين، وعلى آله الأطهار، وصحبه الأبرار، وكل من جاهد في الحق بالسيف والسنان، ودعا إليه بالحكمة وحسن البيان. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الحادي والعشرين.

فاتحة السنة الثانية والعشرين

أما بعد: فقد قضت هذه المجلة سنتها العشرين، وهي تسير في الطريق الوسط، تتحرى به الحقائق، ولا تضع قلماً إلا فيما يرضي الخالق، وستستمر بتوفيق الله -جل شأنه- على هذه السيرة التي حمدها قراؤها، لاهجةً بحمده تعالى على أن سدد خطاها، وناطقة بشكر من أمدوها بمنشآت قرائحهم، فثبتوا قدمها بين عواصف من المثبطات، كادت تقطعها عن جهاد هو أعذب مواردها، وأعز مناها، والحياة ليل دامس، وسراجها الوهاج إنما هي الدعوة إلى الحق في ثبات، والمسارعة إلى الخير في إخلاص. {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. * فاتحة السنة الثانية والعشرين (¬1): نحمدك اللهم على أن هديتنا سبيل السعادة، وجعلت جزاء الذين أحسنوا الحسنى وزيادة، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد الداعي بأبلغ حجة إلى أقوم محجة، وعلى آله المهتدين، وأصحابه المجتهدين. أما بعد: فقد قضت هذه المجلة اثنتين وعشرين حجة وهي تؤيد الحق، وتكافح الباطل، وثابرت على الدعوة إلى الخير في العسر واليسر، حتى قطعت تلك السنين التي شأنها أن تذهل الأفكار، وتجعلها على مواصلة الدعوة في شغل، وستستمر على خطتها ما أمدها الله بقوة، مردِّدة شكر أولئك العلماء والأدباء ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثاني والعشرين.

تزويد أحد الشبان التونسيين بموعظة

الذين يؤثرونها بمنشآتهم البارعة، وبحوثهم النافعة. هذا وقد طرأ في الأشهر الماضية ما كان يعوق عن إصدار المجلة بانتظام، ومن أجل ذلك قرر مجلس الإدارة العود بها إلى أن يصدر كل جزء منها في أوائل شهره المعين له، وقرر أن يكون أول سنتها شهر المحرم فاتحة السنة العربية، فنرجو من حضرات أعضاء الجمعية والمشتركين في المجلة أن يتقبلوا هذا القرار الذي دعت إليه ظروف قاهرة. {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10]. * تزويد أحد الشبان التونسيين بموعظة (¬1): سر في هذه الحياة، واليقظة نور عينيك، والحزم عن يمينك، والتأني في الأمور عن يسارك، فإن من غلبت غفلته على يقظته، كان العطب أقرب إليه من السلامة، ومن فاته الحزم، ذهب شطر حياته سدى، ومن يقوم على الأمور قبل أن يتدبرها، لا يأمن أن يقع في غير رشد، ويعود بغير حمد، وإن رزقت الاعتماد على الله من صميم قلبك، وفقك لأن تكون يقظاً حازماً بصيراً بالعواقب. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر والثاني عشر من المجلد الحادي والعشرين.

19 - أحاديث في رحاب الأزهر

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (19) «أحَادِيثُ فِي رِحَابِ الأَزهَرِ» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة الإمام محمد الخضر حسين يشع هدى ونوراً، ويفيض علماً، وينتضي القلم جهاداً. بدأ رحلة الإيمان من مدينة "نفطة" في جنوب القطر التونسىِ، وانتهت به إلى مدينة "القاهرة". رفيقه الأوحد -ونعم الصاحب في الحل والترحال -كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنهَ، ومناضلاً بقلمه وفكره كل صنوف البغي السياسي، والانحلال الخلقي، والإلحاد الشرس. وبعد هذه الرحلة المؤمنة الشاقة والطويلة، أتته مشيخة الأزهر طائعة مختارة، تدق باب الإمام المتواضع برفق، وتدعوه لمزيد من الكفاح والعطاء، فيلبي النداء رغم الكهولة، وكيف لا يلبي الدعوة وهو القائل: ولولا ارتياحي للنضال عن الهدى ... لفتشت عن وادٍ أعيش به وحدي وباعتلائه قمة مشيخة الأزهر بعلمه وفضله، فقد شدَّ أواصر الصلة بين الزيتونة والأزهر، وفي هاتين القلعتين الإسلاميتين العظيمتين، سطَّر الإمام بين مطلع حياته الجليلة والسنوات الأخيرة من أيامه المباركة تاريخاً عبقرياً للرجل الداعية المسلم. لقد جمع إشعاع هذين الجامعين الكبيرين -جامع الزيتونهَ، والجامع

الأزهر- في قلبه الأنور، فكان الدرب في الحياة، والصراط المستقيم إلى مرضاة الله، وفيهما أخذ من العلم وارتوى، ومنهما أعطى وأروى. والإنسان المؤمن يقف خاشعا أمام هذا الفيض من الآثار الإسلامية واللغوية والأديبة القيمة، التي عزَّزت صرح الإسلام، وزادته قوة ومنعة على مدى الأيام. في حين ينفر من هذا التراث أولياء الشيطان اندحاراً وخساراً. جاءته مشيخة الأزهر تسعى إليه بنفسها، دون أن يفكر يوماً بهذا المنصب، فهو أزهد الناس بالألقاب وبالمناصب صغيرها وكبيرها، يكفيه من الدنيا كتاب يرتاح إليه ويقرؤه. وقلم يكتب الحق ليزهق الباطل، ولقيمات تبقي على قوة الجسد. لم تكن لديه في القاهرة عشيرة تكون له سنداً، ولا أسرة تدفع عنه، ولا أخ يشد أزره، ولا ولد يرفع عن كاهله عبء الحياة. وافته مشيخة الأزهر اعترافاً بفضله العميم، وعلمه الغزير، وسيرته التي هي مضرب الأمثال في التقوى والزهد والنضال والدعوة. ولمثل الإمام محمد الخضر حسين تعقد ألوية الدعوة والجهاد، ولأمثاله تعهد القيادات الإسلامية، ومثله مثل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. وهذه صفحات الكتاب تضم أحاديث الإمام محمد الخضر حسين في رحاب الجامع الأزهر، تلك التي نشرتها الصحف والمجلات -وخاصة جريدة "الأهرام" القاهرية التي أولت أحاديث الإمام عناية خاصة- بالإضافة إلى أقوال وتعليقات الصحافة من خلال اختياره للمشيخة. وقد رتبت حسب تاريخ صدروها، واختيرت العناوين المثبتة في مجلة

الأزهر مع الإشارة إلى نص العناوين الواردة في الصحف إن كان هناك اختلاف. ولا يفوتني في هذه المقدمة -طالما أن هذا الكتاب يتعلق بالإمام والأزهر- ذكر حادثة يعرفها أهله، ويتداولها أصدقاؤه وتلامذته من العلماء: والدة الإمام محمد الخضر حسين هي السيدة حليمة السعدية بنت التقي الصالح الشيخ مصطفى بن عزوز المدفون في مدينة "نفطة"، وشقيقة العلامة الأجل الشيخ محمد المكي بن عزوز دفين مدينة "إستنبول". تلك الأم الفاضلة التي لقنت ابنها الإمام علوم القرآن والفقه واللغة والأدب، وأشرفت على تربيته الإسلامية، تلك الأم المثلى التي كانت ترفع وليدها بين يديها في سنيه الأولى، وتداعبه وهي تنشد: إن شاء الله يا أخضر ... تكبر وتروح الأزهر من هناك، من مدينة "نفطة" في أقصى الجنوب التونسي، كانت تربِّت عليه، وتضمه ... وبعد ما يقرب من ثمان وسبعين سنّة، وفي شهر المحرم من سنة 1372 هـ؛ يصبح ذاك الوليد إماماً في الجامع الأزهر. واستجاب الله -سبحانه وتعالى- دعاء الأم الصالحة، والحمد لله رب العالمين. على الرّضا الحِسيني

شيخ الأزهر يتحدث إلى الأهرام

شيخ الأزهر يتحدث إلى الأهرام (¬1) كتب مندوب جريدة "الأهرام" الخاص في عددها الصادر يوم الخميس 12 المحرم سنة 1372 هـ (2 أكتوبر سنة 1952 م) يقول: لا يزال فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر يحتفظ ببساطته في كل مظهر من مظاهر الحياة العامة والخاصة، ومع أنه يشغل منصباً دينياً خطيراً، فلا تزال هذه البساطة التي درج عليها وألفها الناس عنه منذ وفد إلى مصر تلازمه. إن مجلسه لا يزال كما كان، يغشاه كل محب له، وكل مريد للعلم، كيفما كان مظهره ومخبره، ولقد أردت أن أقف على آراء فضيلته في طائفة من المشاكل الأزهرية التي تواجه المسؤولين عادة في مستهل كل عام دراسي، ولما أفضيت بهذه الرغبة، لم يشعر بالحرج الذي يشعر به الرسميون والمسؤولون عادة في مثل هذا الموقف، بل آثر أن يكون صريحاً على سجيته، واضحاً كما عرفته منذ نيف وعشرين عاماً. ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" -المجلد الرابع والعشرون، صفر 1372 هـ - أكتوبر تشرين الأول 1952 م. والحديث منشور في جريدة "الأهرام" العدد 24064 تاريخ 12 المحرم سنة 1372 هـ = 2 كتوبر تشرين الأول 1952 م، وتحت عناوين صحفية (الأزهر في مصر بمثابة الكعبة المشرفة في الحجاز -تنظيم البعوث الإسلامية تنظيم للدعوة الإسلامية- شيوخ المعاهد الدينية هم سفراء الأزهر الرسميون).

* تنظيم البعوث الإسلامية: قلت: إن مشكلة البعوث الإسلامية لا تزال قائمة، ولعل هذه المشكلة تكون هامة إذا عرفنا أن هذه البعوث إنما هي أداة صالحة للدعاية الإسلامية لمصر في مختلف الأمم التي تدين بالإسلام. فهل تزمعون فضيلتكم أن تعملوا على أن تكون هذه البعوث الإسلامية في نظامها الحاضر، وفي طريقة إعدادها متمشية مع ما نرجوه منها، وما نؤمله فيها؟ فقال فضيلته: لا شك أنني أقدر الرسالة التي يصح أن يضطلع بها طلاب البعوث الإسلامية في الأزهر تقديراً خاصاً، فهم رسلنا لدى أممهم، وهم ألسنتنا المعبرة عن أمانينا وآمالنا، بل لا أبالغ إذا قلت: إنهم المرايا التي تصورنا عند أممهم وشعوبهم بما فينا من خصائص ومزايا ومناقب أصدق تصوير. وإذا كان الأمر كذلك، فإن العناية بهم وبإعدادهم يجب أن تشغل حيزاً كبيراً من أوقاتنا. إنني أُعنى في هذه الأيام بوضع نظام خاص بإعدادهم إعداداً قوياً يمكنهم من أن يؤدوا رسالة الخير والسلام على خير الوجوه. إنني أَعد الأزهر في مصر بمنزلة الكعبة الشريفة التي يحج إليها المسلمون على مختلف أجناسهم ومذاهبهم؛ ليؤدوا فريضة دينية، والواجب يقتضي أن نُعني بكل ما يعود بالخير على الأزهر؛ لأنه يعود بالخير نفسه على مصر، وعلى الإسلام. ولا أذيع سراً إذا قلت: إنني كنت أسمع الكثير من الأنباء التي تحز في نفسي وتؤلمني؛ لأنها كانت تمثل العلاقة بين طالب البعوث وشيخ رواقه تمثيلاً لا أحبه ولا أرضاه. لذلك عُنيت كل العناية بأن أعمل على أن تقوم

بين الاثنين علاقة روحية قوامها الحب والمودة والإخاء والخير، وأعتقد أن هذه العلاقة سوف تقوم وتتوطد منذ الآن، فلا أعود أسمع مرة أخرى أن شيخاً ظلم تلميذاً له، أو أن تلميذاً لم يوقر شيخه التوقير الذي يليق به. * المكتبة الأزهرية: قلت: والمكتبة الأزهرية. ألا ترى فضيلتكم أنها اسم على غير مسمى، وعنوان لا موضوع له؟ وما هي الفائدة من أن يقال: "المكتبة الأزهرية"؛ أي: المكتبة التي تمثل أقدم جامعة دينية في العالم، ثم تعطل وظيفتها، فلا ينتفع بها طالب ولا عالم، ولا أجنبي ولا وطني، ولم لا تكون مكتبة على غرار "دار الكتب"؟ ولم لا تنشأ فيها غرفة للمطالعة، وأخرى للبحوث والدراسات؟!. فقال فضيلته: إن من الحقائق الثابتة: أن المكتبة الأزهرية تشغل مكاناً غير لائق بها، ويسمح لطلاب العلم والبحث والمعرفة بالانتفاع من كنوزها النفيسة، وذخائرها العلمية التي لا يوجد لها مثيل في جميع مكتبات العالم، إنها تشتمل على آلاف من الموسوعات العلمية والدينية ذات القيمة الخاصة في عالم البحث والمعرفة، وإن الأجانب الذين يترددون على الأزهر من العلماء والمستشرقين لا يعرفون كيف ينتفعون بما تشتمل عليه من النفائس والذخائر. ولذلك فإني أعمل الآن على تدبير مكان صالح لها، على أن تتوافر في هذا المكان الشروط التي يجب أن تتوافر في مكتبة تاريخية عامة تكاد تكون عالمية؛ كمكتبة الأزهر، فيكون فيها نظام الإعارة على نظام جديد، وأن ينتفع بها الطالب والعالم والباحث على الطريقة العلمية الصحيحة. وقد أفرغُ من دراسة هذا النظام في وقت

قريب إن -شاء الله-، وسوف يكون من شأن هذا النظام أن توحد المكتبات الأزهرية التي توجد في مختلف الأروقة، وتجمع كلها في المكتبة الأزهرية الكبرى، فيشرف عليها مدير واحد، ويكون نظامها واحداً. * المعاهد الدينية: قلت: أعرف أن فضيلتكم تشتغلون الآن في إعداد تنقلات بين أصحاب الفضيلة شيوخ المعاهد، فهل انتهيتم إلى رأي في هذا الموضوع الهام، وقد أصبحنا في مستهل السنة الدراسية؟ قال فضيلته: إنني أعتقد أن شيخ المعهد في الإقليم هو مظهره ورأسه المدبر، وعنوانه بين مختلف الطوائف والطبقات في هذا الإقليم، وأعتقد أن العناية باختيار شيخ المعهد بدرجته تحتاج إلى البحث عن صفات وشروط خاصة، فلا يصح أن يختار شيخ المعهد بدرجته أو أقدميته، وإنما يجب أن يختار بكفايته وأهليته ومكانته، سواء من ناحية العلم والخلق والكرامة، أو من أية ناحية أخرى. ولذلك فإني أستضيء في بحثي بهذه الاعتبارات؛ لأني أحرص على اختيار شيوخ يتَّسمون بالخلق والكرامة والكفاية، مع الغيرة الدينية؛ ليكونوا قدوة حسنة لأبنائهم من الطلاب، وليكون شيخ المعهد في إقليمه خير سفير يمثل المسلمين في هذا الإقليم. وإني لأرجو أن أنتهي من هذه المسألة في وقت قريب جداً، أو في أيام قلا ئل؛ ليكون كل شيخ على رأس المعهد الذي يعين شيخاً له في مفتتح العام الدراسي. * مدير مجلة الأزهر: قلت: ولا زلت أرى أن "مجلة الأزهر" في حاجة قصوى إلى أن يوضع

لها نظام صحفي يمكنها من أن تساير النهضات الاجتماعية في مختلف مرافق الحياة، وقد قرأت أن فضيلتكم قد قبلتم استقالة مديرها السابق الأستاذ أحمد حسن الزيات. وهنا قاطعني فضيلة الأستاذ الأكبر، وقال بصوت خفيت: إنني سوف أختار لهذه المجلة عالماً أزهرياً يجعل طابعها أزهرياً، ويمثل فيها الأزهر ببحوثه، أو بالبحوث التي ينشرها فيها. ولا شك أنني أرمي من وراء ذلك إلى أن تكون هذه المجلة اللسان المعبر عن نزعات الأزهريين المختلفة، وآرائهم في مختلف البحوث التي تتصل بالإسلام، أو بالحياة الإسلامية، فتنير الطريق أمام قرائها، سواء أكانوا مسلمين، أم غير مسلمين، في أمهات المشاكل ومعضلات المسائل العامة التي تكون موضع أخذ ورد بين الناس، وبهذا تكون المجلة قد أدت رسالتها على نحو سليم صحيح. وأنت تعرف أنني قد تحملت أعباء العمل في هذه المجلة بضع سنوات، فعرفت مواطن الضعف فيها، ومكان النقص في رسالتها، ولذلك فإني أسترشد بما لمسته من الحقائق، وأرجو أن يكون رائدي فيما أعتزمه من العمل، على أن يوضع لهذا النظام الذي يكفل لها الحياة والنمو والبقاء. * الأزهريون عنوان الخير والمحبة والسلام: قلت: وهل لفضيلتكم كلمة تستقبلون بها أبناءكم من العلماء والطلاب في مناسبة افتتاح السنة الدراسية؟ إنني قد رأيت في هذه الأيام الأخيرة أن هناك اتجاهات متناقضة تصور بعض الأزهريين على أن بينهم خلافاً مستحكماً. فقال فضيلة الأستاذ الأكبر: أنا أميل بطبعي إلى الخير والسلام، ولم أكن في يوم من أيام حياتي

متحزباً، ولا متعصباً، بل كنت دائماً أكره التحزب والتعصب، وأوثر أن آخذ الأمور باللين والرفق والهوادة، وأنت تعلم أن شيخ الأزهر هو الذي يمثل الأزهر، ودعوة الأزهر إنما تقوم على تحقيق معاني الخير والتواد والتحاب بين الناس أجمعين، والأزهريون -بحكم وضعهم ووصفهم- هم الذين يبصِّرون الناس في أمور دينهم ودنياهم، ولذلك كان طبيعياً أن يكونوا عنواناً للخير والمحبة والسلام، وأن يكونوا إخواناً متحابين في الله، متساندين؛ لتكون لدعوتهم صداها وأثرها في التوجيه والإرشاد في مختلف الأمم الإسلامية، إن علماء الأزهر هم أقرب الناس إلى معرفة أوامر الله ونواهيه، وهم من الأمة في مقام الأئمة والهداة، ومن أجل هذا وجب عليهم أن يكونوا حريصين على كل ما يرضي الله، وما يحقق الخير لهم وللناس، وأنت تعلم أن الصفح والعفو والمغفرة من صفات الرجل المؤمن بالله، العالم الإمام الحذق، وأن من أحب الأمور إلي أن تجتمع قلوبنا على ما يكون، وأن نستقبل الأيام بروح التسامح والمحبة حتى نصل إلى ما يرضي الله، ويحقق الصالح العام، والله وحده يهدينا إلى سواء السبيل. * ترجمة تفسير القرآن: قلت: هل أستطيع أن أقف على رأي فضيلتكم في ترجمة تفسير القرآن؟. فأجاب فضيلته: هل تريد ترجمة معاني القرآن، أم ترجمة تفسير القرآن؟ إن هناك فرقاً بين ترجمة معاني القرآن، وترجمة تفسيره، وعلى كل، فإني أرى أن نرجئ الكلام في هذا الموضوع حتى أتمكن من الاطلاع على ما سبق أن وضع من التقارير والمذكرات في هذا الموضوع، وإلى فرصة قريبة -إن شاءالله-.

من الأستاذ الأكبر إلى أبنائه الطلبة

من الأستاذ الأكبر إلى أبنائه الطلبة (¬1) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أما بعد: فباسم الله تعالى، وعلى بركته، نستقبل عاماً دراسياً جديداً في عهد جديد، والعهد الجديد يطلب من كل فرد أو جماعة أن يحقق الغاية التي يناط به تحقيقها. والغاية التي ناطها الله بكم، وجعلها أمانة في أعناقكم: هي غرس الدين، وتقوية اليقين في الأمة، وتربية الفضائل فيها، واجتثاث الرذائل منها، ونشر الأخوة الإسلامية والوطنية بين أفرادها، وإحلال المحبة والتراحم محل التباغض والتشاحن، وإحلال التعاون على البر والتقوى محل التعاون على الإثم والعدوان. بهذه التربية الرشيدة تنشأ الأمة مؤمنة قوية، شديدة الأسر، عزيزة الجانب، تأبى الضيم، وتنفر من الاستعباد، وتكون من الأمم -بحق- موضع الإجلال والكرامة، بل موضع القدوة والزعامة. ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الثاني -المجلد الرابع والعشرون- صفر 1372 هـ = أكتوبر، تشرين الأول 1952 م.

إن غايتكم هذه هي غاية الأنبياء والمرسلين، وقد جعلكم الله ورثتهم: تقومون بما قاموا، وتؤدون الله والوطن ما أدوا. إنها أسمى غاية وأنبلها، وبدونها يكون كل إصلاح -وإن اجتهد صاحبه- سطحياً ظاهرياً، لا ينفذ إلى باطن الأمر ولبه، بل يكون رقماً على الماء، أو نقشاً في الهواء، وقد نبه على ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". أبنائي! إن الأمر الجسيم لا ينال إلا بالعمل الجسيم، والإعداد القوي. فعليكم -أيها الطلاب- أن تعدوا أنفسكم لهذا الأمر الجلل، وذلك بأن تكملوا أنفسكم بالعلم، وتهذبوها بالخلق، وتجعلوا غايتكم أمامكم؛ لتسددكم وتقويكم، وتشد من عزائمكم. وستجدون -إن شاء الله- من أساتذتكم آباء رحماء، ينهلونكم من مناهل العلم والتثقيف، ويعنون بكم في الدرس وفي خارج الدرس، ويرعونكم ويوجهونكم، ويحلون ما يعرض لكم من مشكلات في حياتكم العلمية والاجتماعية. وسنربط بينكم -بإذن الله- رباط وثيق من المحبة والتعاون على بلوغ هذه الغاية العظمى. سددكم الله وقوَّاكم، وأعاننا وإياكم على هذا الإصلاح العظيم، في هذه النهضة العظيمة المباركة، والسلام عليكم ورحمة الله.

شيخ الأزهر يعترض على القبعة

شيخ الأزهر يعترض على القبعة (¬1) قالت جريدة "الأهرام" في عددها الصادر يوم الأحد 12 أكتوبر: ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الثاني -المجلد الرابع والعشرون، صفر 1372 هـ = أكتوبر، تشرين الأول 1952 م. جريدة "الأهرام" العدد 24074 تاريخ 12 - 10 - 1952 م. وقد أثار هذا التصريح بعض الرموز المعروفة في مصر بعدائها وتسخير أقلامها للنيل من الدعوة الإسلامية بتوجيه خبيث. كتب الصحفي محمد التابعي في "مجلة آخر ساعة"، وتحت عنوان ملأ كامل الصفحة: "المسلم يرتدي القبعة إذا كان جاسوساً"؛ ومما قاله: أي: أن شيخ الأزهر لا يريد أن يرتدي المسلم القبعة إلا إذا كان مكلفاً بالتجسس، ولكن الذي لم يوضحه شيخ الأزهر هو: هل يعتبر البدلة هي الأخرى مما يمتاز به المخالفون؟ وإذا كانت في نظره هكذا، فلماذا لا يصدر فتوى بتحريمها؟ "آخر ساعة" العدد 943 تاريخ 19 - 11 - 1952. ومن المعروف عن هذا الصحفي أنه يلبس القبعة، كما كتب التابعي نفسه في مقال آخر من زاويته "من أسبوع لأسبوع" في مجلة آخر ساعة تهجماً على الامام محمد الخضر حسين، لم يكن ليجرؤ على كتابته لو أن الشيخ مصري له عشيرة تحميه، وقد أنهى كلمته بالعبارة التالية: "إن صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر مشهود له بالتقى والعلم والورع ... ولكن أشهد أنه لم يكن موفقاً في حديثه المذكور ... حديثه المملوء بالمتناقضات"

على أثر ما أذيع خاصاً بأن اللجنة التي أُلفت لتوحيد الزي: أنها قد رأت استبعاد الطربوش كغطاء للرأس، والاستعاضة عنه بغطاء عملي مناسب؛ كالبيريه، أو القبعة، على أن يشمل توحيد الزي جميع المصريين، عدا هيئة كبار العلماء، والعلماء المشتغلين بالتدريس، توجه مندوب "الأهرام" إلى فضيلة الأستاذ الأكبر، وسأله رأيه في هذا الزي المقترح، فأفضى إليه فضيلته بهذا التصريح الهام: إنني علمت أنه قد اقترح أن يكون الزي الموحد هو الزي الأوربي؛ لأنه أصبح زياً عالمياً، ولأنه من الناحية العملية أكثر ملاءمة لهيئات العمال والفلاحين، وهذا الزي يتألف من بنطلون وقميص بأثمان مناسبة. وإنني أصرح بأن القبعة والبيريه ليستا زياً عالمياً، وأن مئات كثيرة من الملايين في آفاق لا حد لها من قارات الأرض لم تتخذ هذا الزي، ولذلك لم يبلغ أن يكون زياً عالمياً، ثم إنه ليس من الحتم على أية أمة أن تجاري الشكليات، حتى لو كانت عالمية، قبل أن تقتنع بأن ذلك أصلح لها. والأصلح لجو كل أمة هو ما دلتها عليه تجارب ألوف السنين، وإذا استوحى المصلحون من هذه التجارب الطويلة ما يكون به توحيد الزي، فانهم يصيبون بذلك الغرض من التوحيد والإفادة من تجارب الزمن. وإن مصر على الخصوص عضو ممتاز ومرموق في العالم الإسلامي الذي زاد تعداده في هذه السنوات على خمس مئة مليون، ومن غير المنتظر أبداً أن يرضى العالم الإسلامي بأن يفني شخصيته في غيره، ويندمج في الزي الأجنبي عنه المزعوم أنه عالمي، لاسيما وأن في سنن الإسلام الجوهرية التي لا يمكن أن يتساهل فيها المسلمون -إلا بانحرافهم عن دينهم- أن يكونوا

متميزين عن غيرهم. وأئمة المسلمين يعدون من الخروج على الإسلام: الانحراف عن زيه إلى زي غير المسلمين فيما اختصوا به من علاماتهم، وقد كان من علاماتهم في القرون السالفة "الزنار"، فكان لبس المسلمين يومئذ للزنار يعد في الفقه الإسلامي خروجاً عن الإسلام يستحق فاعله العقوبة. والمتعارف الآن عند المسلمين في مختلف أقطارهم: أن القبعة هي علامة غير المسلمين التي يفترقون بها عن أهل الإسلام، فلها الآن مثل حكم الزنار فيما مضى. وعلى كل حال، فإن شهوة الانغمار في الزي على زعم أنه عالمي -وما هو بعالمي- سيفصل المصريين -وهم قلة قليلة من المسلمين- عن إخوانهم من أمم العالم الإسلامي البالغ عددهم خمس مئة مليون، وأول ما سيكون من سوء الأثر لذلك في شطر وادي النيل الجنوبي. وقد جربت إحدى الأمم الشرقية هذا الأمر قبل نحو ربع قرن، وحملت شعبها عليه بالقوة، ومع ذلك لا يزال شعبها حزيناً آسفاً مكسور الخاطر مما حمل عليه. ولا يزال العالم الإسلامي ينظر إلى ذلك بعين الاستنكار والاستغراب، وقد كان القائمون بهذه التجربة يتوقعون هم والذين شجعوهم على ذلك أن يكونوا قدوة فيه لأمم إسلامية أخرى. فكان المسلمون أحصف من أن ينزلقوا في ذلك؛ لأنهم يعلمون أن به خروجاً عن سنَّة من سننهم التي احترموها والتزموها منذ أربعة عشر قرناً. إن فكرة توحيد الزي فكرة حسنة، ولكنها في أي قطر يغلب على سكانه العمل بأحكام الإسلام ينبغي أن لا يصطدم بسنَّة من سننه ليكتب لها النجاح والبقاء والرضا من جمهور الأمة.

وقد سأل مندوب "الأهرام" فضيلته عن الزي الذي يراه ملائماً لنا، فقال: للقائمين بالأمر أن يختاروا الزي الذي يرونه ملائماً لنا، على أن يكون مخالفاً لما امتاز به غير المسلمين.

لا قيمة للعلم ما لم تلازمه الفضائل الخلقية

لا قيمة للعلم ما لم تلازمه الفضائل الخلقية (¬1) سال مندوب "المصري" فضيلة الأستاذ الأكبر عن رأيه في التعليم، وموقف الإسلام منه، فقال فضيلته: كانت إساءة الاستعمار باحتلاله العسكري في السبعين سنة الماضية، ثم باحتلاله السياسي والاقتصادي، أهونَ شراً، وأدنى إلى دفع غوائله -على فداحتها- من إساءته إلى مصر على يد (دنلوب) فيما رسم من خطط لتوجيه الثقافة المصرية العامة توجيهاً آلياً، يعنى بالقشور والشكليات، وينأى بالمدارس ومعاهد العلم عن أن تكون لها رسالة سامية من رسالات الله في تهذيب النفوس، وإعداد الجيل الصالح، وتكوين الرجال الذين يعيشون لأمتهم، وينهضون بها إلى المستوى الكريم الذي يستحق أهله السعادة في أنفسهم وفي مجتمعهم، والاحترام من الأمم الأخرى. ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الثاني -المجلد الرابع والعشرون، صفر- 1372 هـ = أكتوبر، تشرين الأول 1952 م. جريدة "المصري" العدد 5349 تاريخ 20 - 10 - 1952 م، وجاء المقال تحت العناوين التالية: "شيخ الأزهر يصرح للمصري -لا قيمة للعلم ما لم تلازمه الفضائل الخلقية- إن سياسة الاستعمار أساءت إلى التعليم في مصر أبلغ إساءة - إذا أهملت أمة تربية أبنائها على الدين، فرّخ الإلحاد في أدمغتهم".

والمتاعب التي يواجهها الآن رجال الإصلاح في تطهير الأداة الحكومية وإصلاحها، وتقويم الاعوجاج الاقتصادي والاجتماعي، وتوجيه الأمة والوطن إلى الخير، لا شك أنها بعض نتائج هذه الناحية الضعيفة في نظام التعليم، كما رسم دنلوب خططه، ووضع أسسه؛ ليبتعد برجال المستقبل عن مواطن الخوف من الله وحده، وعن معايير الفضائل والأخلاق، وأن تكون للمصري المتعلم رسالة سامية في الحياة يحقق بها لوطنه السعادة والقوة والحيوية والنشاط الدائب الدائم، فطفقت هذه المصانع التعليمية تخرج الجيل بعد الجيل من المؤمنين بالمصلحة الذاتية وحدها دون المصلحة العامة، وبالرفاهية الشخصية من الحلال والحرام، وإن وصل الوطن إلى الحالة التي تتحدث عنها الصحف اليوم، وكان يبكي منها العقلاء دماء من قبل. هذا التعليم في المدارس المصرية من زمن (كرومر)، إلى يوم الناس هذا، تعليم جاف، لا يعنى بتكوين الإنسانية في الإنسان، ولا الإسلامية في المسلم، ولا الوطنية في ابن الوطن، ولا الرحمة والرفق والتعاون على البر والتقوى في قلب الرجل المثقف، ولا يصل حاضر الأمة بماضيها التي تحمل لنفسها وللإنسانية أكرم أمانات الله وأنبلها. ولعل أصدق شهادة على هذه الحقيقة جنوح عدد كثير من كبار رجال وزارة المعارف نفسها -فضلاً عن غيرهم- إلى تخريج أبنائهم في مدارس أجنبية، يعلمون أنها أسست لأبناء جاليات لا حاجة بهم إلى كثير مما يحتاج إليه التلاميذ المصريون في قوميتهم ودينهم، لكنهم اضطروا إلى الرضا لأبنائهم بهذه المدارس الغريبة عنهم، العارية عن أمسِّ حاجاتهم القومية والملية، فراراً من ناحية الضعف التي أزمنت عللها في مدارسنا، واستشرى داؤها مدة نصف قرن وأكثر.

والآن، وقد منَّ الله بهذا الانقلاب الذي هيأ برحمته أسبابه، فقد آن لمدارسنا أن تبنى على أساس أن اكتساب العلم والمعرفة غاية مطلوبة لذاتها، لا وسيلة يتذرع بها للحصول على الشهادة، ثم الحصول بالشهادة على الوظائف، نعم، إن الوظائف تحتاج إلى موظفين مثقفين من حملة الشهادات بشرط أن تكون في قلويهم مخافة الله في حقوق الأمة ومصالح أبنائها. وقد آن لها أن تبنى على أساس أن العلم إذ الم تلازمه الفضائل الخلقية، والخوف من الله، والحرص على مرضاته، فإنه يكون حينئذ كالسلاح في أيدي من لا يجيز القانون أن يكون في أيديهم. بل من هنا تولدت الحاجة العظمى اليوم إلى التطهير والإصلاح، وإذا لم يتغير اتجاه القطار في التعليم، فستبقى هذه الحاجة إلى التطهير والإصلاح ما دمنا على ما نحن عليه. وقد يظن البعيدون عن معرفة أثر الدين في نفوس الجيل أن العرض السطحي للأ خلاق في كتب المطالعة وأمثالها يغني الناشئة عن تثبيت عقيدتها بالله، وتوثيق معرفتها برسالات الله في مرحلتي التعليم الابتدائية والثانوية، وعن تحقيق ذلك بتطبيقه عملياً حتى يتمرن التلاميذ عليه، وتكون فضائله سجية، لاعادة. وكل تقصير في ذلك يجعل الانحراف الناشئ عن زيغ العقيدة أصعب صلاحاً من الانحراف الناشئ عن طغيان الشهوة؛ لأن زائغ العقيدة يستهين ببعض محاسن الآداب؛ بزعم أنها ليست من الحسن في شيء، أما المغلوب للشهوة وحدها، فإنه ينصرف عن الحسنة معترفاً بأنه أقبل على سيئة؛ لذلك كانت معالجة المغلوب للشهوة أهون من معالجة من زاغت عقيدته؛ لتهاون

المدرسة في حياطة هذه العقيدة، والقيام على أمانات الله فيها. وإذا كان سوء الأخلاق -الذي هو علة اختلال النظام- ينشأ من زيغ العقيدة تارة، ومن طغيان الشهوات تارة أخرى، فإن الإسلام دين ينير العقول بالحجة، ويهذب النفوس بالحكمة، وكم أخرجت مدارسه، ومجالس القوَّامين على هدايته من رجال يلاقون الأسود فيصرعونها، ويخفضون أجنحتهم تواضعاً للمستضعفين! وإن سماحة الدين، وما له من الأثر الخطير في إعداد أمة روحها البطولة، وزينتها التقوى، وغايتها السيادة، من أشد ما يبعث أولي الأمر منا على أن يضعوا علوم الدين بالمكانة العليا، والتربية على آدابه وفضائله؛ بالإشراف، والمراقبة، والتدريب، والقدوة، في مقدمة ما يطلب من مدرسة العهد أن تحققه من أجل هذا الوطن. إن هذه الأمة مسلمة، والأمة المسلمة لا ترضى إلا أن يكون أبناؤها مطمئنين بحجج الدين الحنيف، سائرين في ضوء حكمته الغراء، مسترشدين بسيرة عظماء السلف، وينشدون فيها مثلهم العليا. وإذا وجد في الناس من لا يؤلمه أن يكون ولده في ظلام من الغي، فأمثال هؤلاء -على قلتهم- استهواهم زخرف الحياة غروراً، وما كان للحكومة الرشيدة إلا أن تقيم سياستها على رعاية ما فيه خير النشء، ويكون قسط تلك الطائفة في هذه السياسة تقويم عوجهم. وإذا أهملت بلاد تربية أبنائها على الدين، باض الإلحاد وأفرخ في أدمغتهم يوم تكون في أيديهم أزمتها، ويا شقاء أمة يتولاها من لا يخاف الله، ولا يتوخى مرضاته.

سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين

سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين (¬1) قال مندوب "الأهرام": أتيح لي أن جلست وفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر جلسة طويلة ممتعة، وتحدثت إلى فضيلته في مختلف الشؤون، وكان في مقدمة هذه الشؤون: أهمية ما يتعلق بالأجانب المقيمين بمصر، وما حكم الشريعة الإسلامية في معاملتهم، وكيف ينظر إليهم الإسلام؟ وبماذا يأمرنا به نحوهم؟. ولقد تجلى فضيلة الأستاذ الأكبر في تجليتها، وتبيان أحكام الشريعة السمحة فيها، وقد كان فضيلته يعنى أكبر العناية بدعم آرائه بالكتاب الكريم، والحديث الشريف، والأثر الصالح عن السلف الصالح، قال فضيلته: ينظر الإسلام إلى رسالات الله كلها على أنها دين واحد، تتفق في أصولها وروحها وغاياتها، وإن اختلفت في صورها ومظاهرها وتطورها. ولذلك كان الإسلام هو الدين الوحيد الذي عرفه البشر داعياً إلى تكريم رسل الله وأنبيائه جميعاً، فقال -عَزَّ وَجَلَّ- في أواخر سورة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ ¬

(¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الثالث -المجلد لرابع والعشرون، غرة ربيع الأول- 1372 هـ = نوفمبر، تشرين الثاني 1952 م.

مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]. فنظرة الإسلام هذه إلى وحدة الأصل ووحدة الغاية في ديانات الله ورسالاته كلها، كان من أولى نتائجها: أن لا ينظر المسلمون إلى شيء من ديانات الله نظرة ضغينة أو عداء، وأن لا يذكروا أحداً من الذين حملوا رسالات الله إلى أهل الأرض إلا بالتعظيم والإجلال والتكريم، فإذا ذكروا أحداً منهم، قالوا مثلاً: "سيدنا إبراهيم عليه السلام"، و"سيدنا موسى الكليم عليه السلام"، و"سيدنا عيسى عليه السلام" يقولون ذلك عن عقيدة وإيمان؛ لأن كتابهم الحكيم طالبهم بأن يؤمنوا بذلك وأن يقولوا {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]. ولا شك عندنا بأن دين الإسلام هو أول دين في العالم أعلن هذا المبدأ، وهذا في سورة البقرة أيضاً: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ منَ الغَىِّ} [البقرة: 256] , بل لعل الإنسانية لم يطرق النداء بهذه العقيدة سمع أحد منها في أي بلد من بلاد الأرض قبل أن يفرض الإيمان بها في الحجاز، وقبل أن تقرر على أنها عقيدة من صميم الإيمان الإسلامي. فكل مسلم يخرج عليها، أويعمل بما ينافيها، فهو مخالف لشعبة عظيمة من شعب إيمانه بالإسلام. والقرآن يسمي المنتسبين إلى التوراة والإنجيل: (أهل الكتاب)، ومع تسامحه العجيب الذي لم يسبق له مثيل مع بني الإنسان جميعاً؛ فإنه خص أهل الكتاب بمنزلة أسمى، ومعاملة أكرم. ومن ذلك قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- في سورة العنكبوت: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُواءآمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ

وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]. وغير المسلمين في نظر الإسلام ثلاثة أصناف: محاربون، ومعاهدون، وأهل ذمة. وحكم الإسلام فيمن يحاربونه: أن يدفعهم المسلمون إذا هاجموا، وأن يبادروهم بما يكف باسهم إذا تحفزوا، وأن يقوِّموا اعوجاجهم إذا اعتدوا على الحق إلى أن يعودوا إلى الإنصاف، وفي ذلك يقول الله سبحانه في سورة الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ (أي: يقاتلهم المعتدون) بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا (أي: في حالة ظلم عدوهم لهم) وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]. ويقول في سورة البقرة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]. ثم إن القتال لا يكون في سبيل الله إلا إذا التزم فيه المسلمون مرضاة الله، والله لا يرضى منهم إلا الإنصاف والعدل والرحمة، وإيثار الحق على الباطل، والخير على الشر، في جميع التصرفات، وهذا هو سبيل الله، وما خالفه فليس من سبيل الله، والقتال فيه لا يكون عند المسلمين شرعياً. وإن تفصيل التشريع الإسلامي في القرآن الحكيم، وسنة نبيه الكريم فيما يتعلق بالحرب والمتحاربين، يدل على أنه قرر المبادئ الإنسانية السامية في ميادين القتال، وجعلها ديناً يحاسب أهله عليه بين يدي الله، فضلاً عما ينالهم في الدنيا من الخزي إذا خالفوا هذه المبادئ العليا. ولا نظن أن أمة بلغت مبلغ المسلمين في ذلك، فضلاً عن الرحمة والرفق في تطبيق هذه المبادئ منذ أربعة عشر قرناً. ومن الرفق الذي أقام الإسلام عليه سياسته الحربية: أنه منع التعرض

بالأذى لمن لم ينصبوا أنفسهم للقتال؛ كالرهبان، والفلاحين، والنساء، والأطفال، والشيخ الهرم، والأجير، والمعتوه، والأعمى، والمصاب بالزمانة (¬1)، بل من الفقهاء من لا يجيز قتل الأعمى والزَّمِن، ولو كان من ذوي الرأي والتدبير في الحرب. ولو أردنا الإفاضة في تفاصيل مبادئ الإنسانية العليا في أحكام الإسلام الحربية لاحتجنا إلى تأليف كتاب؛ لأنه لا يتسع له مقال في الصحف. أما المعاهدون، وهم الذين انعقد بهم وبين المسلمين عهد على السلم، فيجب على المسلمين الوفاء لهم بعهدهم كاملاً، وأن يستقيموا لهم ما استقاموا للمسلمين. وقد وصى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بالذين بينهم وبين المسلمين معاهدة، فقال: "من ظلم معاهداً، أو كلفه فوق طاقته، فأنا خصمه يوم القيامة". وحتى لو توقع المسلمون الغدر والخيانة من عدوهم المعاهد، فلا يجوز لهم أن يعجلوهم بالقتال إلا بعد إنذارهم وإعلانهم إلغاء حالة السلم التي كانت بين الفريقين. وهذا معنى قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- في سورة الأنفال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58} ومن تمام ذلك قوله سبحانه في سورة التوبة:: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4]. ثم قوله بعد قليل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]. ¬

_ (¬1) الزمانة: مريض يدوم.

وأكثر الأحكام التي يعامل بها المعاهدون في بلاد المسلمين مبنية -بعد الوفاء بالعهد- على مبدأ المقابلة بالمثل. فنعامل رعايا كل فريق من الذين بيننا ويينهم عهد بمثل ما يعاملون به رعايانا إذا دخلوا بلادهم، ويوصي الإسلام بنيه بأن يرتبطوا بهم في بلادنا برباط الألفة والعطف والتعاون، وأن يكونوا متمتعين بحقوقهم الدينية، آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. وأعظم من كل ما تقدم مكانة أهل الذمة في الإسلام، فلفظ (الذمة) معناه: ذمة الله وعهده وأمانته ورعايته. وقد ورد في الحديث النبوي: "من قذف ذمياً، حُدَّ يوم القيامة بسياط من نار". وروى الخطيب البغدادي، في تاريخه -وهو من كبار أئمة الحديث الشريف، وحفاظ السنَّة النبوية- عن عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من آذى ذمياً، فأنا خصمه، ومن كنت خصمه، خصمته يوم القيامة". وقد بنى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على هذا الحديث أوامره إلى قائده الأعظم في جيش الفتح المصري، وواليه الأول على وادي النيل، وهو أبو عبد الله عمرو بن العاص السهمي، فكتب إليه عقب فتح مصر يقول: "احذر يا عمرو أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك خصماً؛ فإنه من خاصمه، خصمه". ونص عمر بن الخطاب على نفسه فيما كتبه من العهد لأهل ييت المقدس عند فتحها، فقال: إنه "أعطاهم الأمان لأنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وسائر ملتهم، لا تسكن كنائسهم، ولاينقص منها، ولا من خيرها (أي: أوقافها وصدقاتها)، ولا من صُلبهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم".

وقد نص الفقهاء عند استنباط الأحكام التشريعية من حديث: "لا يبيع رجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته"، فقالوا: البيع على بيع غير المسلم الداخل في ذمة الإسلام كالبيع على بيع المسلم، والخطبة على خطبته كالخطبة على خطبة المسلم، كلاهما حرام. وفي آداب المعاشرة نبهوا على حقوق أهل الذمة، وندبوا إلى الرفق بهم، واحتمال الأذى في جوارهم، وحفظ غيبتهم، ودفع من يتعرض لأذيتهم. وقال الشهاب القرافي -وهو من كبار أئمة التشريع في الإسلام- في كتابه الشهير "بالفروق": "إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقاً علينا؛ لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا، وفي ذمةالله تعالى، وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ودين الإسلام. فمن اعتدى عليهم -ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو أي نوع من أنواع الأذية-، أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله تعالى، وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذمة دين الإسلام". وقال الإمام ابن حزم في مراتب الإجماع: "إن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه أي: يقصدون من كان في ذمة الإسلام -، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك؛ صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى، وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة". وبعد: فإن المسلمين قد استناروا بسماحة دينهم، وتعلموا من آدابه أن يحسنوا معاشرة أصحاب الأديان الأخرى ممن لا يكيدون لهم كيداً، ولا يُظاهرون عليهم عدواً، وأرشدهم إلى أن يعيشوا معهم في صفاء وتعاون على المصالح الوطنية المشتركة، وأنه لا ينحرف من المسلمين عن هذه الأحكام والآداب إلا المنحرفون عن دينهم، والعياذ بالله.

الميسر وورق اليانصيب

الميسر وورق اليانصيب (¬1) قابل مندوب جريدة "المصري" صاحبَ الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وسأله عن أحكام الإسلام في الميسر واليانصيب، فقال فضيلته: من الناس من يعد نفسه من ذوي الأخلاق الفاضلة، وهو مولع بلعب القمار، وهذا لا يعد في نظر الشارع وأهل الفضل ذا أخلاق كريمة؛ فإنه قصد إلى الاستيلاء على مال غيره بغير حق، فهو والسارق سواء، لا فرق بينهما، إلا أن السارق يمد يده إلى مال غيره بوجه خفي، والمقامر يمد يده إلى مال غيره، ولا يدري هل يصل إليه، أو يستولي غيره على ماله، فيبقى حزيناً كاسف البال، وهو على كلتا الحالتين منظور إليه بمقت وذم، ففي الحالة الأولى ممقوت؛ لأنه استولى على مال غيره بغير حق من عمل أو أمر آخر، وفي الحالة الثانية مذموم محتقر؛ حيث طمع في مال غيره، ومد يده إليه، غير أنه لم يصل إليه. فالشارع الحكيم أباح للإنسان أن يتمتع بما كان ملكاً لغيره إن دفع له في مقابله عملاً أو شيئاً كان في ملكه، فقال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الثالث -المجلد الرابع والعشرون، غرة ربيع الأول- 1372 هـ = نوفمبر، تشرين الثاني 1952 م.

وصاحب القمار لم يتاجر بماله، بل تاجر بأخلاقه قبل كل شيء. ولا يغرنك فعل الأمم الأوربية، واكتفاؤها برضا صاحب المال في ظاهر الأمر؛ فإنه إذا أخذ منه المال، انقلب رضاه غيظاً؛ بخلاف من اكتسب بماله عملاً، أو بضاعة ينتفع بها. والشارع الحكيم راعى في المعاملات أن تكون عن رضا من صاحبها ظاهر وباطن، وذلك وجه إباحته للتجارة، وحله للبيع، ومنعه من القمار، وإذا كان الأوربيون أغنياء، فإن لديهم معامل ومزارع متقنة، والقمار قليل بالنسبة إلى مصانعهم ومزارعهم وتجارتهم، والشارع الحكيم يحرم على المسلمين أن يدفعوا مالهم طمعاً في أن ينالوا من إنسان آخر مثله، فيعودوا بالمالين جميعاً، فمن المحتمل أن يذهب مال المقامر جملة، ولا يصل به إلى عمل أو إلى بضاعة. * اليانصيب للأعمال الخيرية: أما اليانصيب للأعمال الخيرية، فهو قمار بلا ريبة، وقد كان العرب في الجاهلية -كما ذكر ابن قتيبة في "الميسر والقداح"- عند شدة البرد، وجدب الزمان، وتعذر الأقوات على أهل الفقر والمسكنة - يقامرون بالقداح على الإبل، ثم يجعلون لحومها لذوي الحاجات منهم والفقراء، وهذا ما قصده القرآن بالمنفعة في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. ومع هذا، قد جعله القرآن بمنزلة الخمر؛ إذ قرنه بها في الآية. والشارع الحكيم يريد من أتباعه أن يكونوا خياراً كراماً، يدفعون أموالهم التي لا يتاجرون بها إلى الفقراء وذوي الحاجة العامة قاصدين وجه الله ورضوانه، دون أن يقصدوا إلى سلب مال غيرهم؛ فإن ذلك إثم كبير.

الاحتكار والربح الفاحش حرام كالربا

الاحتكار والربح الفاحش حرام كالربا (¬1) تحدث مندوب "الأهرام" الخاص إلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر عن الأزمة المستحكمة التي تعانيها في هذه الأيام المواد الغذائية الضرورية، بسبب اختزان بعض هذه المواد طلباً للربح الفاحش، وطلب إلى فضيلته أن يوضح للناس حكم الشريعة السمحة في مثل هذا الإجراء، وقد تفضل فضيلته بإجابة هذا الطلب، وقال: إن الاحتكار الذي حرمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- هو: إمساك شيء من الأغذية وضروريات الناس، والامتناع عن بيعها انتظاراً للغلاء، حتى إذا ازداد اضطرار الناس إليها، تحكم محتكرها ببيعها بالسعر الفاحش الذي يفرضه عليهم. وهذا العمل حرام شرعاً، ولا يعد من البيع الحر الذي أحله الله، ولذلك كان الكسب منه كسباً خبيثاً، لا يباركه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولا يرضى عن صاحبه. ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الثالث -المجلد الرابع والعشرون، غرة ربيع الأول- 1372 هـ = نوفمبر، تشرين الثاني 1952 م. جريدة "الأهرام" العدد 24104 تاريخ 11 - 11 - 1952 م تحت عنوان: "شيخ الأزهر يتحدث إلى الأهرام: الشرع يحرم احتكار الأغذية والامتناع عن بيعها -عاقبة المحتكر أن يضربه الله بالإفلاس وبمرض الجذام- الربح الفاحش حرام كالربا لا يباركه الله، ولا يرضى عن صاحبه".

إن مثل المحتكرين كمثل المرابين؛ من جهة استغلال الفريقين حاجة الناس، وتحكمهم فيهم بسبب الحاجة. غير أن المحتكرين يزدادون عند الله إثماً من جهتين: إحداهما: أن استغلال حاجة الناس إلى الأقوات والأغذية وما أشبهها أفظع من استغلال الحاجة إلى النقود. والثانية: أن استغلال المحتكرين لأقوات الناس وضروريا تهم يعم ضرره جماهير الناس، أما استغلال المرابين لحاجة من يحتاج إلى النقود، فإن نطاقه ضيق يخص عدداً قليلاً منهم، ولا يعم جماهيرهم؛ فإذا كان المرابي يأكل ربحه من الربا ناراً في جوفه؛ لاستغلاله حاجة عدد محدود من الناس، فالمحتكر يأكل ربحه من الاحتكار لهيباً من نار الجحيم بقدر ما ينال جماهير الناس من أذى جشعه الذي لن يبارك الله له بشيء منه. وقد صح في الحديث النبوي: أن عاقبة المحتكر: أن يضربه الله بالإفلاس، أو بأخبث الأمراض، وهو الجذام. روى الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - في "مسنده" بإسناد صحيح: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج إلى المسجد، فوجد طعاماً منثوراً، فقال: ما هذا الطعام؟ قالوا: طعام جلب إلينا. قال: بارك الله فيه، وفيمن جلبه. قيل: يا أمير المؤمنين! فإنه قد احتكر. قال: ومن احتكره؟ قالوا: فروخ مولى عثمان، وفلان مولى عمر. فأرسل أمير المؤمنين إليهما، فدعاهما فقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ قالا: يا أمير المؤمنين! نشتري بأموالنا ونبيع. فقال عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من احتكر على المسلمين طعامهم، ضربه الله

بالإفلاس، أو بجذام"، فقال فروخ عند ذلك: يا أمير المؤمنين! أعاهد الله وأعاهدك أن لا أعود -إلى الاحتكار- في طعام أبداً. وأما مولى عمر فقال: إنما نشتري بأموالنا ونبيع. قال أبو يحيى المكي راوي هذا الحديث: فلقد رأيت مولى عمر مجذوماً. ومما يلاحظ في هذا الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى الأغذية المعروضة للبيع: طعام المسلمين؛ لأنه إذا كان للذي يشتريها حق الثمن الذي يشتري به، ثم يتقاضاه في البيع، فإن إباحتها في السوق من حق المسلمين؛ لأنها طعامهم وغذاؤهم ومن ضرورياتهم، فبيعها لهم بالثمن هو من حق رأس المال، وأما إباحتها وعرضها في السوق، فهو من الحق العام الذي هو حق الأمة، واحتكارها اعتداء على الحق العام، وهضم لحقوق الأمة. وفي "مسند الإمام أحمد" أيضاً عن سعيد بن المسيب: أن معمر بن عبد الله بن فضلة القرشي - رضي الله عنه - قال: سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يحتكر إلا خاطئ". والخطأ في الشرع: الخروج عن سبيل الشرع، وسبيلُ الشرع هو سبيل الله، ويا ويل من يخطئ سبيل الله لأجل كسب حرام غير مشروع يستغل به ضرورات الأمة في غذائها وقوت عيالها، فيستحق عليه ما أنذره به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإفلاس أو الأمراض الخبيثة، ويعاقب عليه يوم القيامة بما يستحقه الذين يُسخطون الله في إيذاء مخلوقاته. وروى الإمام أحمد أيضاً في "مسنده" عن الحسن البصري عن معقل ابن يسار - رضي الله عنه -، وهو من أهل بيعة الرضوان، وهو الذي حفر نهر معقل بالبصرة بامر عمر بن الخطاب: أنه لم ثقل المرض على هذا الصحابي الجليل، جاءه

أمير البصرة عبيد الله بن زياد يعوده، فدار بينهما حديث، ثم قال معقل - رضي الله عنه -: أجلسوني. ثم قال: اسمع يا عبيد الله حتى أحدثك شيئاً لم أسمعه من رسول الله مرة ولا مرتين، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليُغليه عليهم، فإن حقاً على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة". فقال عبيد الله لمعقل: أأنت سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، غير مرة أو مرتين. ومن هنا يعلم كل مسلم يتاجر في المواد الغذائية والضروية للمسلمين: أن احتكارها ليس من البيع الذى أحله الله، بل هو كسب حرام، وأشد ضرراً على عامة المسلمين من المراباة، والعياذ بالله. والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنذر مرتكبه بالإفلاس والأمراض، وبنار جهنم يوم القيامة. فليعلم المحتكر عاقبة عمله قبل أن يقدم عليه.

أكمل رسالات الله

أكمل رسالات الله حديث لفضيلة الأستاذ الأكبر في احتفال الأزهر بالمولد النبوي الشريف (¬1) يحتفل العالم الإسلامي اليوم بمولد الإنسان الكامل، الذي اختاره الله لحمل أكمل رسالاته إلى البشر كافة، فكان هذا الحادث في تاريخ الإنسانية الحد الفاصل بين الحق مموهاً باهواء المتغلبين، ومطامع المغالطين، وأغراض الظالمين، فهو لذلك عرضة للتغيير والتبديل، وبين الحق الأبلج النقي من شوائب الأهواء والمطامع والأغراض، فهو لذلك ثابت خالد إلى يوم الدين. إنه احتفال بمولد الحق مجرداً خالصاً صافياً، ويدعوة الخير عامة شاملة كاملة. إنه احتفال بانتقال الإنسانية من عهد طفولتها ورعونتها، إلى ما ينبغي لها عند اكتمال نضجها وبلوغها عهد رشدها. كل ذلك مما يحتفل به العالم الإسلامي اليوم، إذ يحتفل بمولد خاتم رسل الله محمد- صلوات الله وسلامه عليه -. وقد كرمه ربه بما حف به ولادته من أصالة النسب، وصفاء الفطرة، وسلامة الخلق. ثم استرضع في بني سعد بين أخبية البادية وآفاقها، فازدادت آصرته بالبيئة السعيدة البعيدة عن شوائب المجتمع، وكان كلما شب بعد ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الرابع -المجلد الرابع والعشرون، غرة ربيع الأول-1372 هـ = ديسمبر كانون الأول 1952 م.

ذلك ونما، اتسعت شهرته بين قومه بالأمانة والصدق والاستقامة في الطريق المستقيم، حتى إذا بلغ مبلغ الرجال، دعته السيدة خديجة بنت خويلد إلى التزوج بها؛ لما اشتهربه من كريم الفضائل، ومعالي الأخلاق، فأجابها إلى ذلك، ورأى فيها من الكمال والوفاء ما قابلها عليه بأحسن منه. ولما قارب أمر الرسالة، جعل يختلي في غار حراء للتحنث والعبادة، ومناجاة الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فكانت زوجه السيدة خديجة - رضي الله عنها - تساعده على ذلك، وترسل إليه زاده في هذه الخلوة القدسية بينه وبين ربه. وآن أوان بعثته العامة الشاملة إلى الأمم كلها عندما بلغ من عمره الشريف نحو الأربعين، فأوحى الله إليه في سورة الأنعام -وهي مما أوحى به إليه في مكة قبل الهجرة-: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} الأنعام: 19] , فهو - صلى الله عليه وسلم - نذير برسالته لمعاصريه، ولكل من تبلغه دعوته في كل زمان ومكان تتلى بهما آيات هذا القرآن على ألسنة الأمم، فتبلغ أحكامها وحكمها مسامع الأجيال، ولأن رسالته عامة شاملة كتب رسالته المشهورة إلى ملوك الأرض في زمنه: قيصر، وكسرى، وهرقل، والمقوقس، والنجاشي، وملكي عمان، وغيرهم، يوجه فيها الدعوة إليهم وإلى أممهم بأن يدخلوا في دين الله. وقد تحمل- صلوات الله عليه - في سبيل أداء الرسالة وتبليغ الدعوة ما كان يتحمل أنبياء قبله من الأذى والجفوة، والصد عن قبول الحق، إلى أن استجاب له الأنصار، وبايعوه على الإيمان، ثم نهضوا مع إخوانهم المهاجرين لمقاومة من يقف في سبيل الدعوة، أو يصد عن انتشارها، فكتب الله النصر لدعوة الحق في بدر، ثم في غيرها، إلى أن فتح الله لرسوله مكة أم القرى،

وتم تطهير بيت الله الأعظم من لوث الوثنية، ودانت العرب كلها لهذا الدين القيم، فما انتقل - صلوات الله عليه - إلى الرفيق الأعلى حتى كان سكان جزيرة العرب كلهم قد آمنوا، إلا طائفة من اليهود والنصارى أبقاهم - صلى الله عليه وسلم - على دينهم، ومنحهم ذمة الإسلام المتكفلة بحماية أنفسهم وأموالهم وشعائرهم. ولقد عمل أصحابه الكرام - رضوان الله عليهم - بهدايته، وساروا على سنته السنية، فمضوا في الدعوة بعده إلى دين الحق، ملتزمين ما التزمه - صلى الله عليه وسلم - من العدل والرأفة والرحمة ومكارم الأخلاق، لا يفرقون في ذلك بين من اتبع دينهم أو خالفه، عملاً بقول الله -عَزَّ وَجَلَّ- في سورة المائدة:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] , وبذلك فتحت لهم الممالك، واستجابت لدعوتهم الأمم، ووجد شعوب الأرض في هذه الدعوة كل ما كانوا ينشدونه في مطالب الحياة من حقوق ومواريث، وآداب ومواعظ وأخلاق وحكم، وإرشاد لأكمل الأحكام في الحرب والسلم، وكل ما يحتاج إليه الفرد والمجتمع الصالح في هذه الحياة. ومع أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين خرجوا من جزيرة العرب ليحققوا الانقلاب العظيم، الذي أراد الله أن يكون به الحد الفاصل بين الحق والباطل، كانوا قلة بالنسبة إلى الممالك والإمبراطوريات التي واجهوها بدعوتهم، فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- جعل الغلبة لهم منذ تعلموا من هدايتهم القرآنية أن العبرة في الغلبة ليست للكثرة التي لم يلازمها الحزم والإخلاص للحق والصبر عليه، وذلك في قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- من سورة المائدة: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100] , وقد شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - الكثرة إذا تجافت عن

الحق والخير بأنها "غثاء كغثاء السيل"، وقال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في سورة البقرة: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. [البقرة: 249]. فجعل فضيلة الصبر على إقامة الحق من أسباب الغلبة والنصر، ولو كان القائمون بالحق الصابرون عليه قليلاً عددهم عند مواجهتهم الكثرة من أنصار الباطل، وبهذا ربى الإسلام من أبنائه الأولين كتلة حازمة لا تهاب الموت في سبيل عزتها والدفاع عن حقها، فعاش المسلمون الأولون سادة قادة ذادة، يحميهم الحق ويحمونه، وتجملهم فضائل الخلاق ويجملونها، ويملؤون الدنيا عدلاً ورحمة، وتحوطهم الدنيا بالعزة والغبطة والإعجاب. ولما فشلت كثرة الباطل في قمع الحق الذي بعث به صاحب هذه الذكرى - صلوات الله عليه -، أراد المبطلون في زمن البطن الأول من أصحابه أن يفسدوا دعوة الحق؛ بالانتساب إليها، ودس العقائد الباطلة فيها، فأفشوا في بعض الضعفاء دعوة تأليه علي- عليه السلام -، وبعض من ينتمي إلى آل البيت، فكان أول من غضب لهذه الدعوة، وبطش بالمبطلين من أصحابها، علي -كرم الله وجهه-، ومن ذلك اليوم انفتحت جبهة أخرى للدفاع عن الحق الذي بعث الله به رسوله؛ بقيام طائفة من أئمة الإسلام في كل زمان ومكان يفرقون بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، والصدق والكذب، وطريق أولياء الله السعداء وأعداءالله الأشقياء، وبهم حفظ الله دينه الذي وعد بحفظه إلى يوم الدين. إن ذكرى مولد صاحب هذا الانقلاب الإنساني العظيم، تذكرنا بكل ماكان لهذه الدعوة من أثرعظيم في عقول البشر وأخلاقهم ومداركهم، وبالنجاح المنقطع النظير بمن عملوا بها في أنفسهم، وتطوعوا لنشرها بين الناس، وهي

تدعونا إلى أن نرجع من جديد إلى هداية الإسلام كما كانت في صفائها ونقائها؛ ليرجع لنا أثرها من العزة في أنفسنا ودولتنا، والسعادة في بيوتنا وأوطاننا، والكرامة بين شعوب الأرض. صلى الله وسلم على معلم الناس الخير، وعسى الله أن يهدي أمته للرجوع إلى هذا الخير، في هذا العهد الطاهر المبارك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

موقف الإسلام من الشيوعية

موقف الإسلام من الشيوعية (¬1) كتب مندوب "الأهرام" الخاص يقول: كانت جلسة هادئة طيبة، تلك التي جلستها مع فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في حفلة خاصة، كان الشيخ الأكبر فيها ملتقى الأنظار، وموضع التقدير، وكان كل واحد يحب أن يستأثر به؛ ليقف على جلية حكم من أحكام الشريعة في موضوع معين، وقد رأيت أن انتهز هذه الفرصة الطيبة لأتبين موقف الإسلام من (الشيوعية)، وحكمه على (الرأسماليين)، ونظرته إلى الفقراء بين هذه وتلك، وقد حمدت لفضيلته أن آثر "الأهرام" بعنايته، فأجابني إلى طلبي، وتحدث إلي بقوله: من مظاهر الكمال في دين الإسلام وأحكامه: أنه لم يعارض الفطرة الإنسانية في طبيعة من طبائعها، وحتى ما كان فيه انحراف أو مظنة زلل من هذه الطبائع الإنسانية؛ فإن الإسلام اكتفى بتعديله، وتوجيهه وجهة خير، مع إقراره ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الرابع -المجلد الرابع والعشرون، غرة رييع الأول- 1372 هـ = ديسمبر كانون الأول 1952 م. * جريدة "الأهرام" العدد 24118 تاريخ 25 - 11 - 1952 م تحت عنوان: "شيخ الأزهر يتحدث عن الشيوعية: الإسلام يعترف بالملكية الفردية، ويقر التفاوت بين الناس في كسب الثروات".

أصل الفطرة، ومحاولته تهذيبها وإصلاحها. ولما كان مبدأ (التملك الشخصي) من مقتضى الفطرة، فإن الإسلام اعترف به، وأقره، لكنه جنح فيه إلى الاعتدال؛ كدأب الإسلام في الأمور كلها، واشترط أن يكون هذا التملك الشخصي بالأساليب المشروعة التي أحلها الله. ثم رتب عليه تكاليف شرعية، هي نصيب الجماعة من أموال أصحاب الأموال، كما حث أهل الغنى على الأخذ بأيدي أهل الفاقة؛ حتى لا يكون في المجتمع الإسلامي إلا المحبة والتراحم، والتعاون على البر والتقوى. وكما أقر الإسلام مبدأ التملك الشخصي، وجنح فيه إلى الاعتدال، ونظمه تنظيماً يسعد به المجتمع، كذلك أقر مبدأ آخر من مبادئ الفطرة، وهو تفاوت الناس في مواهبهم ومداركهم ومقدرتهم على الكسب لأنفسهم وعلى النفع للمجتمع، فهذا التفاوت موجود في كل زمان ومكان؛ لأنه من فطرة البشر، ويترتب عليه التفاوت والتفاضل في المعايش، لكن الإسلام -مع إقراره هذا الأمر الفطري- شرع الأحكام لتعديل آثاره، والتقريب بين طبقات الناس، وأوجد لهم مراتب أخرى يكتسبونها من فضائلهم الأدبية والخلقية، وجعل لذلك قيمة رفيعة في المجتمع الإسلامي؛ بحيث يغبط أهل الدرجات العليا في المال إخوانهم من أهل الدرجات العليا في الأخلاق والفضائل، بحسب ما سنَّه الإسلام لأهله في المجتمع الإسلامي. ومن أعظم ما اتخذه الإسلام لحماية الفقراء من استغلال الرأسماليين وأصحاب الأموال: تحريمه للربا، وقطعه لدابر المراباة في المجتمع الإسلامي. وهذه الحماية، لا نظن أن أمة من أمم الأرض -حتى ولا المحكومة بالشيوعية- تمتعت بمثلها في نظام غير نظام الإسلام.

وتزعم الشيوعية أنها نزعت عوامل الاستغلال ووسائل استعمال الثروة من أيدي الأفراد، فحرمت عليهم امتلاكها، ودفعت بها إلى الجماعة. والذي يتأمل في الواقع يرى أن ما زعموا أنهم فوضوا أمره إلى الجماعة في وسائل الإنتاج وتوزيع المنتجات والمصنوعات، إنما تولته في النظام الشيوعي هيئة قليلة العدد من الرجال المنظمين، فبعد أن كان هذا التملك خفيف الوطأة بما هو معرض له من المنافسة وتعدد المالكين، أصبح في النظام الشيوعي منحصراً في إدارة واحدة، يقوم عليه نفر قليل، يتمتعون الآن بمعايش وقصور لا تقل فخامة وسرفاً وغطرسة واستعداداً عما كان في قصور القياصرة، بينما الجماعة كلها مجندة في السلم والحرب لتقضي حياة مملة على وتيرة واحدة لا تزيد عن حياة العمال في البلاد الأخرى، غير أن العمال يملكون في البلاد الأخرى أمرهم، ويستقلون بإرادتهم وتصرفاتهم، فينتقل أحدهم من مصنع إلى مصنع إذا أراد. أما جمهور الأمة في النظام الشيوعي، فمسلوب الإرادة ولا يملك حق الانتقال من مصنع إلى مصنع؛ لأن المصانع كلها لا تتمتع بمزية التنافس ما دامت إدارتها في يد واحدة، تتصرف في جميع العمال كما تتصرف في المواد الخام. وبذلك تحول أغنياء البلاد المحكومة بالنظام الرأسمالي إلى رجل واحد في النظام الشيوعي، يتصرف بلا منافس في كل ما في البلاد من بشر وشجر وحجر، وكما تحول إقطاعيو البلاد الأخرى إلى أقطاعي واحد في النظام الشيوعي، فأضحى رعاياه محجوزين وراء ستار حديدي، لا يدخل عليهم أحد، ولا يتمكن من الانفصال عنه أحد. هذا في أمور العيش وحرية التملك، وأما في أمور الدين وحرية التدين،

فإذا كان أهل الديانات الأخرى يبكون من اضطهاد الشيوعيين لهم في كنائسهم، والسيطرة على عباداتهم، فإن المسلمين يزيدون على ذلك: أن دينهم لا يقتصر على أنه دين عبادة ومسجد، بل إن نظامه المالي والاجتماعي هو من صميم الدين، وحرمان المسلم من حريته في نظامه المالي والاجتماعي يعد حرماناً له من عناصر مهمة هي أيضاً من كيان الدين، وهي خير لكل مسلم من أي نظام آخر، ولاسيما النظام الشيوعي الذي يضطهد كل الأنظمة المخالفة له، ونظام الإسلام في طليعة الأنظمة المخالفة له من كل وجه. وإن الإسلام في اعتداله وكونه من الأصل لم تشرع أحكامه لمصلحة أي طائفة من الطوائف دون غيرها، ولا أي طبقة من الطبقات دون غيرها، بل إن الله شرعها لجميع بني الإنسان؛ بتعديل طبائعهم، وتهذيب فطرتهم بعد إقرارها والاعتراف بها، وبذلك جمع التشريع الإسلامي في نظامه الاجتماعي والمالي جميع الحسنات والمزايا التي توجد في كل نظام آخر، وجرده من جميع العيوب التي توجد في أي نظام آخر. وكان من أعظم ما أسيء به إلى الإسلام: إطلاق يد الأقوياء في معايش الضعفاء، حتى تجاوزوا حدود الاعتدال الإسلامي في التملك والتسلط والأثرة، بل لم يكتفوا بتجاوز حدود الاعتدال، حتى خرجوا عن نظام الإسلام إلى ما حرمه من الاستغلال المحرم، والبغي المنظم من الأقوياء على الضعفاء، فانتهز دعاة الشيوعية والمذاهب الباطلة هذه الحالة الشاذة، التي كانت سائدة في بعض بلاد المسلمين، فاحتجوا بها عند قليلي العلم بمزايا دينهم من عوام المسلمين، أو المتعلمين تعليماً أجنبياً، ومن هنا أصيب بعض أبناء هذه الملة بهذه النزعات التي انزلقت بها أقدامهم عن طريق الإسلام، فامتلأت بهم

السجون، وراح أهلهم وذووهم سادرين في أحزان مؤلمة بسبب هذا الضلال الاجتماعي والجهل بدين الإسلام. أما وقد منّ الله الآن بهذه النهضة التي أخذت في القضاء على أسباب البغي والأثرة والاستغلال، وانتزاعها من جذورها، فقد زال ما كان يحتج به دعاة الأنظمة الباطلة والمنافية للإسلام، وانفتح الطريق واسعاً أمام المستنيرين من شباب المسلمين؛ ليبثوا في الوعي القومي أن الإسلام باعتداله وعدالته ورحمته، وتعاونه ومواساته للجميع، هو أكمل أنظمة الدنيا في إسعاد الإنسانية؛ لأن النظام الإسلامي أقر المبادئ المقررة في فطرة الإنسان، ثم هذب ميولها، وعدل اعوجاجها، وأحسن توجيهها إلى الحق والخير. وإلى هنا شعرت أن الشيخ الأكبر قد وفى هذا الموضوع حقَّ توفيته، فشكرته على عنايته، واستأذنته على نشره، فأذن مشكوراً.

نداء فضيلة الأستاذ الأكبر إلى العالم الإسلامي بما يجب عليه لإخوانه المسلمين في تونس والجزائر والمغرب الأقصى

نداء فضيلة الأستاذ الأكبر إلى العالم الإسلامي بما يجب عليه لإخوانه المسلمين في تونس والجزائر والمغرب الأقصى (¬1) أذاع فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر البيان التالي على المسلمين في مشارق الأرض ومغاريها في صباح يوم الخميس 30 ربيع الأول: أيها المسلمون الآمنون في أوطانهم، المتمتعون من الله -عَزَّ وَجَلَّ- بنعمة العافية والاطمئنان! إن دماء إخوانكم في الأسلام تناديكم من الحدود الغربية لمملكة ليبيا إلى أقصى جبال الأطلس؛ لتكونوا عوناً لأهلها على درء الظلم عنهم، ووضع حد للبغي على حقوقهم الإنسانية والوطنية، وتمكينهم من أن يعيشوا في ديارهم أحراراً كراماً آمنين. إن إخوانكم هؤلاء هم ذرية الأبطال الذين كانوا مع طارق بن زياد في إيصال رسالة الإنسانية والحضارة والآداب والعلوم والعمران إلى غرب أوربا، وفيهم سلالة اللاجئين من الأندلس فراراً بدينهم وإنسانيتهم من مظالم دواوين التفتيش عند خروج المسلمين من ذلك الفردوس المفقود. وهذه أسلاك البرق وموجات الأثير تنقل إليكم بين كل ساعة وساعة صدى قذائف المدافع الرشاشة ومختلف الأسلحة وهي تغتال الأحرار بأساليب قطاع الطرق، وتحصد أرواح ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الرابع -المجلد الرابع والعشرون، غرة ربيع الأول- 1372 هـ = ديسمبر كانون الأول 1952 م.

المدنيين العزل من السلاح كما يفعل الجبناء، وتأخذ لأصحابها -من المسلمين الآمنين في تونس والجزائر ومراكش- الثأر الذي عجزوا عنه في شرق فرنسا لما وطأت أرضهم سنابك خيول الألمان في بداية الحرب العالمية الثانية. يقول نبي الرحمة - صلوات الله وسلامه عليه - فيما روى الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي هريرة: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله"؛ أي: لا يظلمه إذا كان في ولايته وتحت سلطانه، ولا يخذله إذا مسه الظلم من عدوله يبغي عليه. نحن -المسلمين العاملين بقواعد الإسلام-، وهو دين السلام - قد فتحنا أبوابنا، ووطأنا رحابنا للفرنسيين وغير الفرنسيين من أمم الأرض، فأقاموا بيننا مرافقهم ومدارسهم، وقصدوا أسواقنا بمصنوعاتهم ومنتجاتهم، ولقوا من حسن معاملتنا ورحابة صدورنا وسلامة قلوبنا ما لم يروه في أي بلد آخر. كل ذلك على أمل منا بأن يحسنوا معاملة كل من له علاقة بهم من إخواننا في الدين، وأن يقوموا لهم بحقوق الإنسان على أخيه الإنسان، وأن يحترموا حريتهم، ويحافظوا على كرامتهم. وإننا لا نزال على أخلاقنا وآداب ديننا مع جميع الأمم، ومن ينكر علينا، أو على طائفة من إخواننا في الدين ما يجب عليه أن يرعاه من حقوقهم الإنسانية والوطنية والملية، فإن أقل ما يجب على المسلمين حينئذ ألا يتعاونوا مع أهل البغي في تجارتهم وصناعتهم ومرافقهم، وأن يكون أول ما يفعلونه: مقاطعة مدارسهم ومعاهدهم، وكل وسائل التعاون معهم، وأساليب الاتصال بهم. والولاية في الإسلام هي: النصرة والتعاون، والاتصال من أوثق مظاهر الولاية، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول في كتابه العزيز: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]،

ولو أنهم قائمون لأبناء ديننا بحقوقهم، محافظون لهم على كرامتهم وحريتهم، فإن المسلمين من أصدق أمم الأرض عهداً مع غيرهم من الأمم. ومن كان منه لإخواننا المسلمين عكس ذلك من البغي والظلم؛ كما هو جار الآن من الفرنسيين في شمال إفريقيا، فإن أقل ما يتحقق به الواجب الشرعي على المسلمين في جميع بقاع الأرض مقاطعةُ أهل البغي في جميع وسائل التعاون، وأسباب الاتصال، إلى أن يعرفوا لإخواننا في الدين حقوقهم الإنسانية والوطنية والملية، ويقوموا بها حق القيام. بهذا تحكم الشريعة المطهرة، وبهذا تنادي دماء المسلمين المسفوكة في جناح الإسلام الغربي. ومن حق هذه الدماء وأهلها على المسلمين أن يبادروا، لها بإسعاف المنكويين، وتضميد جراح المجروحين، ومعاونة الأيامى والأيتام والمنكوبين. والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.

هل للمرأة أن تباشر الوظائف العامة؟

هل للمرأة أن تباشر الوظائف العامة؟ (¬1) عادت مسألة المرأة إلى الظهور على مسرح الحياة الاجتماعية والسياسية، وعادت (المرأة) نفسها تنادي بأن لها حقوقاً معينة، ومن هذه الحقوق: أن تكون عضواً في البرلمان، ووكيلاً للنائب العام، وضابطاً من ضباط البوليس، ومحضراً يعلن الأحكام، ويباشر عمليات الحجز التحفظي، أو الحجز على مختلف أنواعه. وهي تقول في هذا المقام: إنه ليس بدعاً في تاريخ الأديان، ولا في فقه التشريع أن تباشر مثل هذه المهام الاجتماعية والسياسية، وخاصة في هذا العصر الذي استطاعت المرأة فيه أن تظفر من الحقوق العامة بحق المساواة والحرية. ويمكن أن يقال في مقام التدليل على صحة هذه الدعوى: إن الحكومة قد وافقت أخيراً على أن تنشئ المرأة حزباً سياسياً، وهذه الموافقة فيها اعتراف ضمني بأن الحكومة قد أقرت المرأة على وجهة نظرها. ولكن فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر يرى أن في هذا قلباً للأوضاع المنطقية، ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الخامس -المجلد الرابع والعشرون-، جمادى الأولى 1372 هـ = يناير كانون الثاني 1953 م. * جريدة (الأهرام) العدد 24153 تاريخ 30 - 12 - 1952 م تحت عنوان: "هل للمرأة أن تباشر الوظائف العامة؟ الأستاذ الأكبر يرى أن هذا يتنافى وأحكام الشريعة الإسلامية، ويقول: إن الأزهر قد أعلن كلمة الشريعة في هذا الموضوع".

وأن المرأة قد جاوزت في هذه الدعوى القدر المحدود لها بحكم طبيعتها في الحياة العامة. وقد استهل فضيلته حديثه في هذا الموضوع الخطير بالسؤال عن الغاية التي تهدف إليها المرأة من وراء هذه الدعوى، وقال: هل تريد أن تهجر البيت؛ لتقضي وقتها بين الأندية والمجتمعات والمحافل السياسية في مناقشة القوانين، وفيما يجب أن يفرض من العقوبات، ويرسم من الحدود، وما إلى ذلك من مسائل التشريع والتقنين؟ إن كان هذا مقصدها، فهل لها أن ترشد أهل الصواب والمنطق والحق في أي عصر إسلامي كان هذا؟ وفي أي عهد من العهود التي ازدهرت فيها تعاليم الإسلام، وانتشرت أحكامه ومذاهبه تولت المرأة شؤون الولاية العامة؟!. ثم استطرد فضيلته فقال: إن الشريعة الاسلامية تحرم اختلاط المرأة بالرجال. والدعوى بمنح المرأة حقاً سياسياً إنما هي وسيلة من وسائل الاختلاط، تريد المرأة في هذا العصر أن تتذرع بها؛ لتكسو اختلاطها بالرجال ثوب المصلحة العامة، وهذا عمل لا تقره الشريعة الإسلامية، وليس جائزاً في أي مذهب من مذاهبها؛ لأن الشريعة قد فطنت إلى ما ينجم عن اختلاط المرأة بالرجل من مضار اجتماعية وخيمة، ومن شرور لو قلنا: إنها محتملة الوقوع، لكان ذلك الاحتمال كافياً لمنعها ودرئها. وإذا كانت المرأة تريد في سبيل تبرير دعوتها أن تلجأ إلى السباب، وإلى الغض من أقدار سلف العلماء، والطعن عليهم، والنيل من كرامتهم، وتحقير شأن من يريد أن يبصرها بالصواب والرأي السديد، فإنما تكون قد أقامت الدليل القاطع على أنها لا تصلح عضواً في

معترك الحياة؛ لأن مثل هذا الطريق لا يلجأ إليه إلا من ضعفت حجته، واختلطت عليه موازين الأشياء ومقاييس الأمور. ولقد سبق أن أفتت لجنة الفتوى في الأزهر فتوى شرعية بينت فيها -بمختلف طرق التبيين، على مختلف الآراء الفقهية- ما للمرأة من حقوق، وما عليها من واجبات، وفصلت لها نوع الولاية، وعرفتها أن الولاية العامة هي السلطة الملزمة في شأن من شؤون الجماعة؛ كولاية سن القوانين، والفصل في الخصومات، وتنفيذ الأحكام، والهيمنة على القائمين بذلك، وقالت: إن الشريعة الإسلامية قد قصرتها على الرجال إذا توافرت فيهم شروط معينة، وزادت على ذلك في مقام التبيين: أنه لم يثبت أن شيئاً من هذه الولايات العامة قد أسند إلى المرأة، لا مستقلة، ولا مع غيرها من الرجال، وقد كان في نساء الصدر الأول مثقفات فضليات، وفيهن من تفضل كثيراً من الرجال؛ كأمهات المؤمنين، وساقت قصة سقيفة بني ساعدة، في اختيار الخليفة الأول بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ بويع أبو بكر البيعة العامة في المسجد، ولم تشترك امرأة مع الرجال في مداولة الرأي في السقيفة، ولم تُدع لذلك. وقد أفاضت لجنة الفتوى في بيان أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بما يجب أن تمنع منه المرأة من الوظائف العامة، ودعمته بالبراهين القطعية، والأسانيد التاريخية، والأدلة اليقينية، وكان المأمول أن تقف المرأة عند حدودها التي رسمتها لها الشريعة الإسلامية، في بلد إسلامي، ودولة إسلامية، وأن تعمل من جانبها على أن تسترشد بما يراه أهل الرأي من الفقهاء في أمرها، فتلزم بيتها في رعاية زوجها وكنفه، ولكنها عادت مرة ثانية إلى المناداة بوجوب منحها حقوقاً سياسية معينة، ومع أن الشريعة الإسلامية قد أفسحت لها الطريق في

كل ما يتعلق بمسائل الولاية الخاصة، وقد ساوتها بالرجل في هذا النوع من الولايات؛ إذ جعلت لها حق التصرف في أموالها بالبيع والهبة والرهن والإجارة، وغير ذلك من مختلف ضروب التصرفات، وأجازت لها الوصاية على الصغار، والولاية على المال، والنظارة على الأوقاف، إلا أنها لم تقنع بما رسمته لها الشريعة الإسلامية، وأرادت أن تدفع نفسها بنفسها، وأن ترسم الطريق حسب أهوائها وغاياتها؛ لتتولى وظائف الدولة التي تدخل في نطاق الولاية العامة؛ كسن القوانين، والفصل في الخصومات، وتنفيذ الأحكام ... إلخ. وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد جعلت القوامة على النساء للرجال، وقد قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34]، وجعلت حق طلاق المرأة للرجل وحده، ومنعتها السفر دون محروم أو زوج أو رفقة مأمونة، وجعلت لها حق حضانة الصغار دون الرجل، وأوجبت على الرجل حضور الجمعة والجماعة والجهاد، ولم توجب عليها شيئاً من ذلك. أقول: إذا كانت الشريعة الإسلامية قد رسمت لها حدودها، وبينت لها مهمتها، فما بالها تريد أن تخرج على أحكامها؛ لتزج بنفسها في انتخابات تدافع فيها وتدفع، وتختلط في ميدانها بالجماعات والأفراد من الرجال، وهي بطبيعة أنوثتها غير مأمونة ولا معصومة؟! وما بالها تريد أن تريد أن تثير حولها الزوابع، وتخوض المعامع، في الوقت الذي كفتها فيه الشريعة مؤونة الكفاح، وجنبتها مواطن الزلل، ورسمت لها من الحدود ما يتكافأ وطبيعتها في ميدان العمل المنتج المفيد لها وللجماعة التي تعيش فيها. وأعتقد: أنه من المستحسن أن أسوق بعض ما رأته لجنة الفتوى في مقام التدليل الفقهي على منع المرأة من الاشتغال بوظائف الولايات العامة،

فقد استندت إلى ما رواه البخاري في "صحيحه"، وأخرجه أحمد في "مسنده"، والنسائي في "سننه"، والترمذي في "جامعه". قال البخاري: حدثنا عثمان بن الهيثم، قال: حدثنا عوف عن الحسن البصري، عن أبي بكرة، قال: لقد نفعني الله بكلمتين أيام الجمل: لما بلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن فارس ملَّكت ابنةَ كسرى، قال: "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة"، وقد ذهبت اللجنة في استنتاج المراد من هذا الحديث، وفي استنباط دلالته العامة مذهب صدق، فقالت: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقصد بهذا الحديث مجرد الإخبار عن عدم فلاح القوم الذي يولون المرأة أمرهم؛ لأن وظيفته - عليه الصلاة والسلام - بيان ما يجوز لأمته أن تفعله حتى تصل إلى الخير والفلاح، وما لا يجوز لها أن تفعله حتى تسلم من الشر والخسار، وإنما يقصد: نهي أمته عن مجاراة الفرس في إسناد شيء من الأمور العامة إلى المرأة، وقد ساق ذلك بأسلوب من شأنه أن يبعث القوم الحريصين على فلاحهم وانتظام شملهم على الامتثال، وهو أسلوب القطع بأن عدم الفلاح ملازم لتولية المرأة أمراً من أمورهم. ولا شك أن النهي المستفاد من الحديث يمنع كل امرأة في أي عصر من العصور أن تتولى أي شيء من الولايات العامة، وهذا العموم تفيده صيغة الحديث وأسلوبه، كما يفيده المعنى الذي من أجله كان هذا المنع. وهذا هو ما فهمه أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجميع أئمة السلف، لم يستثنوا من ذلك امرأة ولا قوماً، ولا شأناً من الشؤون العامة، فهم جميعاً يستدلون بهذا الحديث على حرمة تولي المرأة الإمامة الكبرى، والقضاء، وقيادة الجيوش، وما إليها من سائر الولايات العامة.

هذا الحكم المستفاد من هذا الحديث -وهو منع المرأة من الولايات العامة- ليس حكماً تعبدياً يقصد مجرد امتثاله دون أن تعلم حكمته، وإنما هو من الأحكام المعللة بمعان واعتبارات لا يجهلها الواقفون على الفروق الطبيعية بين نوعي الإنسان: (الرجل والمرأة)، ذلك أن هذا الحكم لم ينط بشيء من وراء (الأنوثة) التي جاءت كلمة (امرأة) في الحديث عنواناً لها، وإذاً، فالأنوثة وحدها هي العلة فيه. وواضح أن الأنوثة ليس من مقتضاها الطبيعي عدم العلم والمعرفة، ولا عدم الذكاء والفطنة؛ حتى يكون شيء من ذلك هو العلة؛ لأن الواقع يدل على أن للمرأة علماً وقدرة على أن تعلم كالرجل، وعلى أن لها ذكاء وفطنة كالرجل، بل قد تفوق الرجل في العلم والذكاء والفهم، فلا بد أن يكون الموجب لهذا الحكم شيئاً وراء ذلك كله. إن المرأة بمقتضى الخلق والتكوين مطبوعة على غرائز تناسب المهمة التي خلقت لأجلها، وهي مهمة الأمومة، وحضانة النشء وتربيته، وهذه قد جعلتها ذات تأثير خاص بدواعي العاطفة، وهي -مع هذا- تعرض لها عوارض طبيعية تتكرر عليها في الأشهر والأعوام من شأنها أن تضعف قدرتها المعنوية، وتوهن من عزيمتها في تكوين الرأي، والتمسك به، والقدرة على الكفاح، والمقاومة في سبيله، وهذا شأن لا تنكره المرأة من نفسها. ولا تعوزنا الأمثلة الواقعية التي تدل على أن شدة الانفعال، والميل مع العاطفة من خصائص المرأة في جميع أطوارها وعصورها. فقد دفعت هذه الغرائز المرأة في أسمى بيئة نسوية إلى تغليب العاطفة على مقتضى العقل والحكمة.

وآيات من سورة الأحزاب تشير إلى ما كان من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتطلعهن إلى زينة الدنيا ومتعتها، ومطالبتهن الرسول أن يغدق عليهن مما أفاء الله به عليه من الغنائم؛ حتى يعشن كما تعيش زوجات الملوك ورؤساء الأمم، لكن القرآن قد ردهن إلى مقتضى العدل والحكمة، من ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28 - 29]. وآية أخرى من سورة التحريم تحدث عن غيرة بعض نسائه - عليه الصلاة والسلام -، وما كان لها من الأثر في تغليبهن العاطفة على العقل؛ مما جعلهن يدبرن ما يتظاهرن به على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد ردّهن القرآن إلى الجادة: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]. هذه هي المرأة في أسمى البيئات النسوية، لم تسلم من التأثر الشديد بدواعي العاطفة، ولم تنهض قوتها المعنوية على مغالبة نوازع الغيرة، مع كمال إيمانها، ونشأتها في بيت النبوة والوحي، فكيف بامرأة غيرها لم تؤمن إيمانها، ولم تنشأ نشأتها، وليس لها ما تطمع به أن تبلغ شأوها، أو تقارب منزلتها؟! فالحق أن المرأة بأنوثتها عرضة للانحراف عن مقتضى الحكمة والاعتدال في الحكم، وهذا ما عبر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنقصان العقل، ورتب عليه -كما جاء في القرآن الكريم-: أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل. ومجمل القول في هذا كله: أن المرأة لا يجوز لها أن تباشر عملاً من

أعمال الولاية العامة مطلقاً، ولا يجوز لها كذلك أن تغشى الأندية والمحافل والمجتمعات العامة، مهما كان السبب الذي يدفعها إلى ذلك؛ لأننا أمة إسلامية، والإسلام يُلزمها هذه الحدود، ولا يجيز لها أن تتعداها.

الرفق بالحيوان في الشريعة الإسلامية

الرفق بالحيوان في الشريعة الإسلامية (¬1) كتب مندوب "الأهرام" الخاص يقول: هذه مسألة لم يألف الناس أن يتحدثوا فيها؛ إذ الحيوانات عندهم لا حقوق لها، وهي عجماوات لا تفصح، وخرساء لا تبين، ونحن نضربها ضرباً مبرحاً أليماً؛ حتى لنكاد نمزق أجسادها بالسياط، ونحمل عليها ما يرهقها، وما يثقل كاهلها. وغايتنا أن نحمل أثقالنا، ولا يعنينا ماذا تكون. ولقد أراد فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر أن يعطي هذه الناحية بعض عنايته؛ إذ الحيوانات خلق مثلنا، وعوالم تتعاون معنا في هذه الحياة. قال فضيلته: وهل جهل هؤلاء الذين يعنفون الحيوانات أنهم يخالفون قواعد دينهم، ويخرجون على تعاليمه السمحة؟ ثم استطرد فضيلته فقال: لقد أقام الإسلام هدايته على أساس الرحمة ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الخامس - المجلد الرابع والعشرون -جمادى الأولى- 1372 هـ = يناير كانون الثاني 1953 م. * جريدة "الأهرام" العدد 24157 تاريخ 3 - 1 - 1953 م تحت عنوان: "الحيوان في نظر الشريعة الإسلامية -الإسلام يأذن بقتل الحيوانات الضارة، ولكنه يأمر بالترفق في القتل- الأستاذ الأكبر يبين ضروب الرفق، ويعدد ما يجب نحو أنواع الحيوانات".

المحفوفة بالحكمة، والرحمة تبعث النفوس مبعث الرفق والإحسان، والحكمة تقف بالرحمة عند حدود لو تجاوزتها، انقلبت إلى ضعف ورعونة. وعلى هذا الطريق الوسط جاءت الأحكام والآداب الإسلامية الخاصة بالتصرف في الحيوان. فقد أذن الإسلام في قتل الحيوان المؤذي؛ كالكلب العقور، والفأر، لكنه أمر بالإحسان في قتله، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان في كل شيء، فإذا قتلتم، فأحسنوا القتلة". وأذن الإسلام في ذبح الحيوان؛ للاستمتاع بالطيب من لحومه، لكنه أمر بالإحسان في ذبحه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا ذبحتم، فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته". وقد ذكر أئمة المسلمين آداباً اقتبسوها مما جاءت به الشريعة في أصول الرفق بالحيوان، فقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "من الإحسان للذبيحة أن لا تجر الذبيحة إلى من يذبحها". وقال ربيعة أحد فقهاء المسلمين وأئمتهم في المدينة: من الإحسان: أن لا تذبح ذبيحة وأخرى تنظر إليها. ونص الفقهاء على: أنه يستحب للذابح أن لا يحد شفرته بحضرة الذبيحة، وأن لا يصرعها بعنف. وأباحت الشريعة صيد الحيوان، ولكنها منعت أن ينصب الحيوان غرضاً (أي: هدفاً) ليرمى بالنبال والرصاص، وفي "صحيح مسلم" قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً"؛ أي لتتعلموا به الصيد والرماية. وفي "صحيح مسلم" أيضاً: أن عبد الله بن عمر بن الخطاب مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، وجعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم،

فلما رأوا ابن عمر، تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن من اتخذ شيئاً فيه روح غرضاً. ومن الرفق بالحيوان: تجنب أذيته في بدنه بنحو الضرب الأليم. وورد النهي عن خصاء البهائم، كما جاء في "شرح معاني الآثار" للإمام الطحاوي من حديث عبد الله بن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يخصى الإبل والبقر والغنم والخيل. وحتى لو دعت الضرورة إلى ذلك في الحيوان الذي يخشى عضاضه، فإنه إذا وجد طريق لمنع أذاه من غير طريق الخصاء، فإنه لا خلاف في منع الخصاء حينئذ، لأنه تعذيب، وقد نهى الشارع عن تعذيب الحيوان. ومن الرفق بالدابة: أن لا يتابع السير عليها متابعة ترهقها تعباً، فقد روى مسلم، وأبو داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إذا سافرتم في الخصب، فأعطوا الإبل حظاً من الأرض". وورد في الصحيح: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت"، فذهب بعض أهل العلم في فهم الحديث مذهب الرحمة بالحيوان، وقال: إنه أمر بقطع القلائد من أعناق الإبل مخافة اختناق الدابة بها عند شدة الركض؛ لأنها تضيق عليها نفسها ورعيها، وكراهة أن تتعلق بشجرة، فتخنقها، أو تعوقها عن المضي في سيرها. ومن المحظور: وقوف الراكب على الدابة وقوفاً يؤلمها؛ فقد ورد في "سنن أبي داود" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر؛ فإن الله إنما سخرها لكم؛ لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس"، وحرمت الشريعة الإسلامية الإساءة إلى الحيوان بتحميله من الأثقال ما لا يطيق، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يعرفون أن من حمل دابة ما لا تطيق، حوسب

على ذلك يوم القيامة، حتى روى عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: أنه قال لبعير له عند الموت: يا أيها البعير! لا تخاصمني عند ربك، فإني لم أكن أحملك فوق طاقتك. ولا يجوز الحمل على ما لم يخلق للحمل؛ كالبقرة، قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا خلاف في أن البقرة لا يجوز أن يحمل عليها، وذهب كثير من أهل العلم إلى المنع من ركوبها؛ نظراً إلى أنها لا تقوى على الركوب، إنما ينتفع بها فيما تطيقه من نحو إثارة الأرض، وسقي الحرث. ومن الرفق بالدابة: أن لا يركبها ثلاثة أشخاص يكون عبؤهم عليها ثقيلاً. أخرج ابن أبي شيبة عن الكندي أحدِ علماء التابعين في الكوفة: أنه رأى ثلاثة على بغل، فقال: لينزل الثالث؛ فإن رسول الله لعن الثالث. وأخرج الطبري عن علي - رضي الله عنه -: أنه قال: "إذا رأيتم ثلاثة على دابة، فارجموهم حتى ينزل أحدهم". ومجمل هذه الآثار على حال ما إذا كان ركوب الثلاثة يرهق الدابة، فإن كانت تطيق ذلك؛ كالناقة، أو البغلة يركبها رجل وصبيان -مثلاً-، فليس به بأس، ولاسيما ركوبها في مسافة قصيرة، وهذا ما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة راكباً على بغلته، فاستقبله أغيلمة من بني عبد المطلب، فحمل واحداً بين يديه، والآخر خلفه. ومن الفنون التي يسلكها قساة القلوب في تعذيب الحيوان: تهييج بعض الحيوان على بعض؛ كما يفعل بين الكباش والديوك وغيرها، وهو من اللهو الذي حرمته الشريعة؛ لما فيه من إيلام الحيوان، وإتعابه في غير فائدة، وفي "سنن أبى داود"، والترمذي: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التحريش بين البهائم"،

والتحريش بينها: إغراء بعضها ببعض. وروى أبو داود عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن أبيه، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرَة -وهي طائر قد يسمى القُبَّرَة- معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تعرش -أي: ترتفع، وتطل بجناحيها-، فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها"، ورأى قرية نمل قد أحرقناها، فقال: "من أحرق هذه؟ "، قلنا: نحن، قال: "إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار". ونص علماؤنا على حرمة تمكين الصبي من التلهي بالطير على وجه فيه إيلام له. وروى الطبراني والبزار عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -رأى حماراً موسوماً على وجهه، فقال: "لعن الله من فعل هذا". وقال المقداد بن معدي كرب: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن لطم خدود الدواب. وفي "صحيح مسلم": أن امرأة كانت على ناقة، فضجرت، فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بإعراء الناقة مما عليها، وإرسالها؛ عقوبة لصاحبتها، وفي رواية أنه قال: "لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة". ووردت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل سقي الحيوان وإطعامه، وعدهما من عمل الخير الذي تنال به الزلفى عند الله، فجاء في "صحيح البخاري": أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فتأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة". وفي "صحيح البخاري" أيضاً: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينما رجل يمشي

بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: قد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكره الله، فغفر له"، فقالوا: يا رسول الله! وإن لنا من البهائم أجراً؟ فقال: "في كل ذات كبد رطبة أجر". وفي "صحيحي البخاري ومسلم"، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عُذبت امرأة في هرة لم تطعمها ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض". وقرر الفقهاء وجوب القيام على سقي الدابة وإطعامها، وصرحت طائفة منهم بأن القضاء الإسلامي يجبره على ذلك إذا قصر فيه، فإن لم يقم للدابة بما يجب عليه من حسن تغذيتها وسقيها، باعها ولي الأمر، ولم يتركها تحت يده تقاسي. وفي "سنن أيي داود": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه، فقال: "اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة -أي: التي لا تقدر على النطق-، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة". وبلغ من تأثر الصحابة والمسلمين الأولين بهذا الأدب في الرفق بالحيوان أن كان عدي بن حاتم يفت الخبز للنمل، ويقول: إنهن جارات، ولهن حق، روى ذلك النووي في "تهذيب الأسماء". وبلغ من أدب إمام الشافعية أبي إسحاق الشيرازي في الرفق بالحيوان: أنه كان يمشي في طريق يرافقه فيه بعض أصحابه، فعرض لهما كلب، فزجره رفيق الإمام أبي إسحاق، فنهاه الإمام وقال: أما علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك؟!.

وإذا كانت جمعية الرفق بالحيوان في إنجلترا قد تأسست سنة 1824 م، فإن الإسلام أيقظ عاطفة الرحمة بالحيوان في قلوب جميع المسلمين، فأسس منهم -منذ بضعة عشر قرناً- أعظم وأقدم جماعة في الدنيا للرفق بالحيوان، فضلاً عن الرفق بالإنسان، ولا يشذ أحد منهم عن ذلك إلا بعد أن يكون قد شذ عن آداب دينه وأوامر شريعته.

خير نظام للحكم

خير نظام للحكم (¬1) أثيرت في الأيام الأخيرة بحوث حول نظام الحكم: كيف يكون؟ وعلى اْي وضع يقوم؟ والحق أن هذا الموضوع من الدقة والخطورة بحيث يصح أن يستأثر بشيء كبير من عناية الباحثين. وقد كانت فرصة طيبة تلك التي أتيحت لي في مساء أمس؛ إذ التقيت بفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وتحدثت إلى فضيلته في هذا الموضوع الحيوي، وكان الأستاذ الأكبر صريحاً على عادته، فتحدث إلي يقول: تجتاز مصر في اْيامها التاريخية الحاضرة أعظم انقلاب اجتماعي مر بها منذ قرون؛ لأنه الانقلاب الوحيد الذي ينشد لمصر النظام؛ لتتمكن من الاستقرار عليه، والاستمرار فيه إلى الأبد. ومما يلاحظ في هذا الموقف: أن التطورات الماضية لم تكن نتيجة طبيعية للوعي القومي، ولذلك كان الوطن يفاجأ بها مفاجأة، وكان نظام الحكم الذي يترتب على تلك المفاجآت يفرض على البلاد فرضاً، إما من استعمار قاهر، أو من مستبد متغلب. ولذلك قلما كان يلاحظ فيه حاجة الأمة واقتناعها، والأساليب التي ترتاح إليها، وتعتبرها منتزعة من روحها وذوقها، ومن المبادئ ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء السادس -المجلد الرابع والعشرون- غرة جمادى الثانية - 1372 هـ = فبراير شباط 1953 م.

التي آمنت بها، ونشأت عليها، وترجع بذكرياتها وتقاليدها إلى ما حفظه التاريخ من مفاخرها وأمجادها، لذلك كان نظام الحكم في مصر في العصور الأخيرة بعيداً عن أمنية الاستقرار، وكان مؤيداً بالقوة القائمة عليه، لا بالاقتناع به، والطمأنينة له، والإيمان بصلاحه. والآن قد عزمت مصر على أن تختار بمحض إرادتها، فمن سعادتها أن يكون نظامها المرتجى منتزعاً من مثلها العليا التي تؤمن بها، وترتاح إليها، بوازع من النفس، وإيمان من القلب، لا بوازع من سلطان القوة الصماء، ونصوص القانون التي كثيراً ما شكا أقطابه مواطن الضعف فيه. ولقد أخذ كل عالم بمزايا نظام من الأنظمة الأجنبية يعرض على الرأي العام مزايا ذلك النظام، محاولاً إقناع الأمة بالأخذ به. إن هذه الأنظمة -مع كثرة عيوبها، وما يحف بها من مواطن الضعف- لا يتعاملون بها مع كل من يتعامل معهم من الشعوب القوية والضعيفة، والمشاهد من حالهم: أنهم مع الشعوب القوية في عداء متواصل، ومع الشعوب الضعيفة في بغي مخجل، وما هكذا يكون أصحاب المبادئ الإنسانية السليمة، والنظم البريئة التي يراد منها سعادة المجتمع في عصر يفتخر بحضارته وعلومه. فالوصف النظري الذي نسمعه من فصحائنا وخطبائنا لبعض تلك النظم الأجنبية عنا، لا نرى آثاره في البلاد التي اخترعته، وعملت به، وقلبت جميع الأوجه في تعديله وترقيعه وتحويره لينتج لها السعادة، فكان أملها منه السعادة كأمل الظمآن بالسراب، فكيف بنا ونحن الأجانب عن تلك النظم المخترعة لغيرنا؟! ولو حاولنا استعارتها، لكانت لنا كما تكون الألبسة التي تستعار للممثلين.

إن الدعاة لتلك الأنظمة قرروا في مؤلفاتهم، وأعلنوا في صحفهم: أنها كل لا يتجزأ، وهم يدعون هذه الأمة إلى أن تأخذ بهذا الكل الذي لا يتجزأ، شاءت أو أبت، والأمة لها نظام فطري نظيف ينظر إلى الحق من حيث هو حق، وإلى الخير من حيث هو خير، وتدين لله بقول خاتم رسله: "أيها الناس! إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف، تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم، أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، قطع محمد يدها"، وقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في رسالته المشهورة إلى أبي موسى الأشعري واليه على البصرة: "آس الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييئس ضعيف من عدلك". هذا النظام الفطري الذي يقيم الحدود على الكبير والصغير سواء، لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى، وحث على استعمال الأصلح، واختيار الأمثل فالأمثل للولايات العامة والوظائف، وأوجب على ولي الأمر أن يقلد أعمال المسلمين لمن يجده صالحاً منهم؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، خان الله ورسوله". وفي رواية أخرى لهذا الحديث: "من قلد رجلاً على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين". وقد جاء كذلك عن عمر بن الخطاب: أنه قال: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً، وولَّى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين"، ومعنى هذا: أن النظام الذي يكفل المساواة بين جميع الأفراد في الحقوق والواجبات، ويجعل من الواجب على كل من ولي شيئاً من أمر المسلمين أن

يوجه في كل موضع، وفي كل عمل من الأعمال أصلحَ من يقوم به، ويؤديه الأداء الصحيح، فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره؛ بسبب قرابة أو صدقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو لضغينة في قلبه على الأحق، أو لعداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين. وهو النظام الذي يشعر الحاكم والمحكوم بأنهما سواء، وهذا أبو عبيدة الجراح يضرب لنا أروع الأمثال في هذا الباب، فقد فتح بلد "حمص"، فجاؤوا له بطعام فاخر صنع له خصيصاً، فما كان منه إلا أن سأل: أهذا الطعام قد أطعم منه الجيش؟ فقالوا: كلا، وإنما هو لك. فقال: ردوه؛ فإني لا آكل طعاماً لم يأكل الجيش منه!!! وقد جاء في الآثار: أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك، فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أفغرت أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم. وكان في مرض موته، فقال: يا بني! والله! ما منعتكم حقاً هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح، فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح، فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني. هذه هي الأمثال التي تضرب في معنى العدالة في ولاية أمور الناس، وكلها تجمع على أن الإسلام دين إنساني محض، وهو نظامنا الذي نؤمن به، خلافاً للأنظمة الأجنبية عنا، وإن العمل به ليحول هذه الأمة إلى كتلة فولاذية مؤمنة بنظامها كإيمانها بكعبتها وقرآنها، والأمر أعظم وأخطر من أن ترتجل فيه الخطط والنظم.

ونحن لا ندعو الأمة وأهل الحل والعقد فيها إلا إلى التروي والتفكير، والدرس والمقارنة، مع العلم بأن مصر لا تعلم منذ عشرة آلاف سنة إلى الآن حكماً أعدل ولا أرأف ولا أسعد من الحكم الذي بسط جناح رحمته عليها في المئة السنّة الأولى من الفتح الإسلامي، ودليل عدله ورأفته وسعادته: أن مصر باختيار منها تحولت إليه بأرواحها وقلوبها وألسنتها، فكانت الدرة المتألقة في تاج الوطن العربي والإسلامي، ويرجو لها كل محب لها أن تبقى كذلك إن شاء الله إلى ما شاء الله.

قضية فلسطين وإخلال ألمانيا الغربية بحيادها في اتفاقية التعويضات لإسرائيل

قضية فلسطين وإخلال ألمانيا الغربية بحيادها في اتفاقية التعويضات لإسرائيل (¬1) قال مندوب "الأهرام" الخاص: أتيح لي أن أقضي بعض الوقت مع فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر، وهو رجل أحبه، وأوثره المودة والتقدير؛ لما جبل عليه من صفات الرجل المؤمن، وكان على غير عادته؛ إذ كان يبدو غضبان أسفاً. وقد أعرب حقاً عن ألمه البالغ حين تحدث إلي في مسألة إسرائيل، والتعويضات التي رأت ألمانيا الغربية أن تمدها بها. قال الشيخ الأكبر في عنف وغضب: لو أن المؤرخين أرادوا أن يؤرخوا أسوأ مثل لأقبح حادث أسيء به إلى الإنسانية ومبادئها في القرن العشرين، لما وجدوا أبلغ من تاريخ هذا الحادث المروع الذي تألبت فيه بعض دول الغرب، وعاونت على إخراج أهل فلسطين الشرعيين من بيوتهم وبساتينهم وحقولهم، ومتاجرهم ومصانعهم؛ ليحلوا ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء السادس -المجلد الرابع والعشرون- غرة جمادى الثانية - 1372 هـ = فبراير شباط 1953 م. * "جريدة الأهرام" العدد 24175 تاريخ 21 - 1 - 1953 م تحت عنوان: "التفتح ألمانيا الغربية أبوابها لليهود، وليعد المشردون من عرب فلسطين إلى وطنهم الشرعي، أما التعويضات التي يراد إعطاؤها لإسرائيل، فإخلال صريح بالحياد".

إن هتلر طردهم من بلاده- عن الخسائر التي تكبدوها، مع أن هؤلاء اليهود الذين طردوا من ألمانيا كانوا رعايا ألمانيين. والقوانين الدولية لا تلزم أية حكومة بدفع تعويضات من غير طريق القضاء، في الدعاوى التي تقام من أشخاص كانوا من رعايا تلك الدولة، وفضلاً عن ذلك، فإن إسرائيل التي يراد دفع هذه التعويضات إليها ليست هي التي تستحقها، وكان الوضع السليم يقضي على ألمانيا -بدلاً من أن تدفع هذه التعويضات- أن تفتح أبوابها ليعود إليها كل يهودي يثبت أنه أخرج من ملك كان له في ألمانيا، وأن يعود إلى فلسطين كذلك كل عربي يثبت أنه أخرج من ملك كان له في فلسطين، أما العدول عن ذلك إلى أن تعطي ألمانيا الغربية مئات الملايين من الدولارات لإسرائيل، وهي في حالة حرب مع مصر والدول العربية والعالم الإسلامي، فإن ذلك يعد من ألمانيا الغربية إخلالاً بقواعد الحياد، ويصورها في صورة الضالع مع أحد الطرفين المشتبكين في حرب ضروس سجال، وتعده الدول العربية تهديداً لها، وإطالة لحياة حكومة إسرائيل عشرة أعوام أخرى أو أكثر، بينما هي تعيش الآن على الصدقة والاستجداء، وسيكون هذا العمل من ألمانيا الغربية سابقة تستعين بها إسرائيل على أخذ تعويضات أخرى من بلاد يزعمون أن بني جلدتهم اضطهدوا فيها أيضاً، ومنها: النمسا، وألمانيا الشرقية، وهنغارية، ورومانيا، وبولندا ... إلخ. ويجب أن تعلم ألمانيا الغربية: أن مساعدتها هذه لإسرائيل ستخل بالتوازن الحالي في الشرق الأدنى، وتمكن إسرائيل من القيام بعدوان جديد على البلاد العربية، بينما الذين يدعون أنهم الأوصياء على السلام العام واقفون يتفرجون على هذه المهزلة التي لم يسبق لها نظير في العالم.

إن إسرائيل ليست وريثة لحقوق اليهود المزعوم أنهم تضرروا من حكومة هتلر، لذلك لا يجوز أن تعتبر طرفاً في تسوية مع ألمانيا الغربية، على حقوق يهود لم يكونوا يومئذ من رعايا إسرائيل، بل لم تكن حكومة إسرائيل هذه موجودة في الدنيا يوم وقع الاضطهاد المزعوم من ألمانيا على رعاياها اليهود. وحكومة إسرائيل هذه لا تعترف بحق التعويض في القانون الدولي، ولو كانت تعترف بهذا الحق الموهوم بالنسبة لليهود الألمان الذين كانوا قبل وجودها، لكان ينبغي لها أن تعترف بالحق الأبلج الماثل أمام أعينها وأعين رجال حضارة القرن العشرين للاجئين العرب الذين أخرجوا من ديارهم وبساتينهم وحقولهم، ومتاجرهم ومصانعهم، وقررت الأمم المتحدة التعويض لهم، فهزأت إسرائيل بقرارات الأمم المتحدة، وألقت بها في سفط المهملات. إن يهود ألمانيا الموجودين الآن في فلسطين، وتزعم إسرائيل أنها تتقاضى التعويضات من ألمانيا الغربية باسمهم، قد هاجر معظمهم إلى فلسطين قبل اضطهاد هتلر لليهود، وقسم كبير منهم جاء إلى فلسطين بعد انقضاء حكم النازيين في ألمانيا، وقد جاؤوا إلى فلسطين في الحالتين عندما كانت فلسطين آهلة بأصحابها الشرعيين من العرب، فكان مجيئهم الاختياري إلى فلسطين اضطهاداً منهم للعرب، ويغياً عليهم، واغتصاباً لوطنهم، حتى بلغ عدد العرب الفلسطينيين الذين شردوا من وطنهم الشرعي تحت ضغط الصهيونية العالمية أكثر من مليون نسمة نساء ورجالاً، أطفالاً وشيوخاً، فانتزعت منهم ديارهم في غير شفقة ولا رحمة، ولأول مرة في التاريخ يشرد سكان متوطنون في بقعة ما؛ ليحل محلهم أناس غيرهم يزعم أنهم شردوا من بقاع أخرى.

إن النازي غير موجودين اليوم، فأعيدوا المشردين الألمان إلى وطنهم ألمانيا، وأعيدوا المشردين من عرب فلسطين إلى وطنهم فلسطين، وإلا، فإن دعوى الإنسانية والحق في بلاد الغرب المتمدنة تكون من أكبر الأكاذيب التي سيسجلها التاريخ لتخجل منها الأجيال الآتية ما دام للإنسانية ومبادئها أنصار صادقون في العالم.

الدعوة إلى عقد المؤتمر الإسلامي في القاهرة

الدعوة إلى عقد المؤتمر الإسلامي في القاهرة (¬1) كتب مندوب "الأهرام" يقول: يعد اجتماع المؤتمر الإسلامي في مدينة القاهرة حدثاً تاريخياً له دلالته وأهميته، ولعل أولى نتائجه: أن الأمم الإسلامية سوف يتاح لها أن تجتمع في صعيد واحد؛ لتتدارس ما يعتورها، أو ما كان يعتورها من مختلف العوامل لتقول كلها كلمة واحدة، ولتضع نظاماً واحداً من شأنه توحيد الجهود لمقاومة العدو المشترك، سواء أكان هذا العدو مرضاً وفقراً وجهلاً، أم كان مستعمراً بجثو فوق رؤوسنا وصدورنا بعدده وعدته وخيله ورجله. وقد رجعت إلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر؛ لأقف منه على ما قد يعرض على هذا المؤتمر في اجتماعه المقبل من أمهات المشكلات المشتركة بين الأمم الإسلامية، والحق أن فضيلته قد تردد كثيراً في إجابتي إلى ما طلبت، وذكر لي: أن من الخير أن لا نتحدث عن مثل هذه المشكلات قبل أن يتخذ المؤتمرون فيها قراراً عملياً قد يكون له أثره المرتقب، ولكني ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء السادس -المجلد الرابع والعشرون- غرة جمادى الثانية - 1372 هـ = فبراير شباط 1953 م. * "جريدة الأهرام" العدد 24193 تاريخ 8 - 2 - 1953 م تحت عنوان: "الدعوة إلى عقد المؤتمر الإسلامي في القاهرة".

شرحت له أن هذا الاعتبار -وإن كان اعتباراً له قدره- إلا أنه لا يصح أن يقف حائلاً دون الإعداد والتمهيد، فقال فضيلته: * زعماء المسلمين: لقد تقرر أن يجتمع كبراء المسلمين، وزعماؤهم في مؤتمر عام يعقد في القاهرة، كما عقد في مدينة "كراتشي" في العام الماضي؛ للتفاهم، أو للتفكير والبحث في "التعاون" على البر والتقوى. واستطرد فضيلته، فقال متسائلاً: فهل لنا أن نمهد لذلك بالتفكير في أنفسنا، ثم في بحوثنا عن سبل الانتفاع الصادق بهذه الرابطة التي عقدها الله بين قلوب خمس مئة مليون مسلم على الحق والخير، وأباح لهم جميعاً سبل التعاون على الانتفاع بكل ما في أوطانهم من نعمة مدخرة. إن التفكير في ذلك من مصلحتنا، ومن أسباب سعادتنا، ولاسيما إذا استلهمناه من روحنا الأصيلة، ومن مبادئ ميثاقنا الأقوم، معتبرين الأخوة التي عقدها الإسلام بيننا خطوة إلى الإنسانية التي تنشدها الأمم اليوم وتتمناها، ولكن العصبيات القومية، والاختلافات الوطنية، والتنافس على توافه المتع وسفاسف الرغائب تحول بينهم وبين ذلك. ولو وفقنا نحن إلى شيء من ذلك، لضربنا المثل به لأمم الأرض، فتستكشف بضوئه مسالكها إلى السعادة والتعاون في أسمى معانيه. * المسلمون أسرة واحدة: كانت الإنسانية في بدء تكوينها أسرة واحدة، تتعاون كما تتعاون الأسرة الواحدة، وتتراحم كما تتراحم، ثم تكاثرت واتسعت، فطرأت عليها العصبيات والاختلافات والتنافس على توافه المتع وسفاسف الرغائب.

وما زالت هذه العصبيات والاختلافات تنمو وتستفحل حتى نشأت عنها العداوات والإحن بين الأسر، فالمجازر والمذابح بين القبائل، حتى إذا تمكنت الأثرة والأنانية من النفوس، وانتقلت من القبائل إلى الشعوب، جاء الإسلام وهذا المرض الإنساني في مقياس واسع بين الروم والفرس، فكان من أعظم رسالات الله إلى الإنسانية على لسان خاتم النبيين: دعوة الأمم للرجوع بالإنسانية إلى وحدتها الأولى متآلفة بميثاق جديد، وهو ميثاق الحق حيثما كان، والخير كيفما يكون. * رسالة الإسلام: جاء الإسلام بهاتين الكلمتين: (الحق)، و (الخير) باسطاً يده إلى أمم الأرض، لا فرق بين أصفر وأحمر، وأبيض وأسود، فكل من دخل منهم في ميثاق الحق والخير، كان أخاً للداخلين فيه، لا فضل في ذلك لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بقدر مبادرته في الاستجابة لهذا الميثاق الإنساني، وتجنبه كل ما يخالفه أو يخل به. * الإخاء في الإسلام: وفي ظل هذا الميثاق الإنساني الأعظم كان الإسلام قد عقد الإخاء بين الأوس والخزرج، فكانوا جميعاً أنصار هذا الحق، ودعوة هذا الخير، ثم عقد الإخاء بين الأنصار والمهاجرين بما لم يسبق له نظير في تاريخ الإنسانية لما تتمناه الإنسانية من التواسي والتراحم والتعاون في أسمى معانيها، وإن هذا المثل الإسلامي الأعلى لا يزال مضروباً للناس جميعاً -وفي مقدمتهم المسلمون-؛ ليعودوا إليه، فيعظموا به، وليأخذوا بمبادئه، فيقوموا ويسعدوا. روى الحسن بن أبى الحسن البصري: أن خطيب قريش سهيلَ بن عمرو،

أحدَ بني عامر بن لؤي، وأبا سفيان بن حرب بن أمية، والحارث بن هشام ابن المغيرة المخزومي، وغيرهم من أشراف قريش كانوا بباب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكان في بابه أيضاً بعض الموالي؛ كصهيب، وبلال، وغيرهما ممن شهد بدراً، فخرج إذنُ عمر للموالي، وأخر عنهم أولئك الأشراف، فامتعض بعض هؤلاء، وقال أبو سفيان: لم أر كاليوم قط، يأذن لهؤلاء العبيد، وتركنا على بابه لا يلتفت إلينا؟!. فقال سهيل بن عمرو -وكان من ذوي أحلامهم-: أيها القوم! إني أرى -والله- الذي في وجوهكم، إن كنتم غضاباً، فعلى أنفسكم فاغضبوا، دعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟!. هذه هي أخوة الإسلام التي رفعت الضعفاء جزاء مبادرتهم في الاستجابة لدعوة الحق والخير، وساوت بلالاً وصهيباً وأمثالهما بأشراف قريش وساداتها، بل قدمتهم عليهم. الحق والخير من مبادئ الإنسانية الأولى من الأزل، وسيبقيان جديدين إلى الأبد، وميثاق الحق الخير مدعوٌّ إلى الأخذ به كل إنسان يعرف قدر الإنسانية، والذي يستجيب لدعوته التي نادى بها الإسلام، يضمن بذلك السعادة لنفسه وذويه، والإسلام لا يطلب منه جزاء على ذلك، وأول من ينبغي لهم أن يستجيبوا لدعوة الحق والخير، وإحياء ميثاقهما: هم المسلمون، وسيجدون أنفسهم وبلادهم وأممهم بعد ذلك قد استحالت خلقاً آخر غير الذي كانت فيه. وتعال نتساءل: ما بالنا -نحن المسلمين- لا نفكر في ذلك؟! وما بالنا لا نحسن إلى أنفسنا بالرجوع إلى مبادئ الإسلام الطيبة، وأساليبه الحكيمة

الطاهرة في الأخوة والتعاون؟! ألسنا نعلن في كل يوم: أن الناس بخير ما تعاونوا؟!. لماذا نستحسن التعاون على قروش في مواد البقالة، ولا نجرب التعاون على السعادة بحذافيرها في مواد الحياة ومبادئها؟!. لقد دعانا الإسلام لنكون إخوة متعاونين، لا على الأمور الصغيرة؛ كفتح دكاكين البقالة وحسب؛ فإن هذا التعاون مطلوب بعد الإيمان بمبدأ التعاون الاسمي فيما هو أسمى من ذلك، وأوسع نطاقاً، وأعظم آفاقاً. نحن الآن أمة لا يقل عددها عن خمس مئة مليون أو تزيد، فما أقوانا وما أسعدنا لو تعاونا على كل ما نشترك في الانتفاع به من معادن نفوسنا، ومرافقنا ومدخراتنا، وما أكثرها وأعظمها وأثمنها! بل لماذا لا نتعاون في آلامنا وأوصابنا، وأوجاعنا، وما أشدها! وفي آمالنا لحاضرنا ومستقبلنا، وما أوسع آفاقها!. لقد أنعم الله علينا بدولتين جديدتين مستقلتين: الباكستان، وأندونسيا، وفيهما أكثر من ربع عدد المسلمين في العالم، وأنعم علينا بتطهير أرض الكنانة من أسوأ نظام وأبشعه، وأنعم علينا باليقظة في كل مكان، والاستعداد للأخذ بما هو أحسن؛ حتى نصل إلى الاستقرار والطمأنينة، والرضا بالحق، والإقبال على الخير، وفي ميثاقنا الإنساني الأول الذي أنعم الله به علينا في أكرم رسالاته ما يحقق ذلك كله لنا على أتم الوجوه وأجملها، فلماذا لا نمد يدنا إلى هذا الماء النمير العذب الصافي فنغترف منه؟ وفي أوطاننا الإسلامية من أقصى أندونسيا إلى آخر دنيا المسلمين كل أنواع المعادن والمحصولات والمنتجات والمواد الأولية، فلماذا لا نتعاون مع إخواننا من أهلها على تبادل هذه المنافع، وإكمال

ما ينقصنا من أوطان إخواننا الذين يكثر ذلك عندهم؟ لماذا لا نعتبر الوطن الإسلامي وطناً واحداً في تبادل منافعه بالحق والخير، مع الاعتراف لأهل كل بقعة بأن الأقربين لها أولى بالمعروف، وأن عليهم أعباءها في مقابل ذلك، ثم علينا معاونتهم ولنا عليهم أن يكونوا في عوننا؟ ولماذا لا نفتح لهم قلوبنا ليفتحوا لنا قلوبهم، وبذلك نحصل على مفاتيح الخير كلها في السماوات والأرض؟ * ميثاق الإنسانية: إن عقبة واحدة واقفة في طريق تحقيق ذلك، وهي أننا تناسينا ميثاق الإنسانية الذي عقدته رسالة الإسلام بين الأصفر والأحمر، والأسود والأبيض، وقد علّمنا الاستعمار في داخل فصول مدارسنا التي ننفق عليها من أموالنا بأن المسلمين أجانب عن المسلمين، وأن الإسلام نفسه شبح مخيف يجب أن نتنكر حتى للأخلاق التي يدعو إليها، وللمثل العليا في التاريخ التي ضربها أبطال التاريخ الإسلامي للعالم بما بنوا من أمجاد، وبما أقاموا من حق، وبما نشروا من دعوة الخير، فنشأ أبناؤنا ومعاصرونا غرباء عن هذا الجو، متخوفين من فتح نوافذهم إلى ناحيته، ولهذا بقي المسلمون متقاطعين فيما بينهم، ومقاطعين لميثاقهم الإنساني الأعظم، ومتجافين عن أخلاق دينهم التي بعث الله نبيهم ليتمم مكارمها، ويجمل الإنسانية بها. وإذا كانت مدارسنا لا تحب أن تعلم هذه الأشياء لأبنائنا، فلماذا لا يقوم سليمو النية من أفاضلنا وأذكيائنا ومثقفينا بدراسة روح الإسلام من ناحيتها التعاونية والتعاملية، ويحاولون استنباط معادن الخير منها؛ لننتفع بها في أزماننا الحاضرة؟.

جيل يؤمن بالأخلاق

جيل يؤمن بالأخلاق (¬1) قال مندوب جريدة "الأهرام" الخاص: حضر أمس الأول فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين ثميخ الجامع الأزهر اجتماعاً عاماً انتظم عديداً من ذوي المناصب العامة المختلفة؛ من ضباط الجيش، ورجال القانون والهندسة والطبابة، كان خطباء الاجتماع يتسابقون في تعداد الصفات التي يجب أن نتسلح بها لنواجه المستقبل الحافل بجسام الأمور. فتوجه فضيلته بالحديث إلي قائلاً: إن الأمم الناهضة تحتاج نفوسها إلى الغذاء الجيد؛ من الأخلاق والسجايا؛ لتقوى به على مواصلة النهوض إلى المعالي، كما تحتاج أجسامها إلى الغذاء الجيد من الطعام؛ لتقوى به على مواصلة الكفاح في سبيل المعايش، والشجاعة غذاء من أغذية الأمة في طور التحرير، لا يتهاون به إلا صغار النفوس، والذين يستعذبون موارد العبودية، وإن لم تفرض عليهم، وأصل الشجاعة: أن تعرف الحق: حق الله، وحق الأمة، وحقوق المواطنين، وحقك الشخصي، ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء السابع -المجلد الرابع والعشرون- غرة رجب - 1372 هـ = مارس آذار 1953 م. * "جريدة الأهرام" العدد 24207 تاريخ 22 - 2 - 1953 م تحت عنوان: "العهد الجديد في حاجة إلى جيل يؤمن بالأخلاق".

فتوطن نفسك على أن تكون صادق العزم في إعطاء كل ذي حق حقه بالعدل والإنصاف. وقد أوصى المسلمين بأن يكونوا أهل الشجاعة في مواقف الدفاع عن الحق، ما داموا يرجون لهذا الحق العزة والاستعلاء، فقال -عَزَّ وَجَلَّ- في سورة النساء: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104]، فأرشدهم الله إلى أنهم بما يرجون من إقامة الحق، ومعونة الله عليه، ينبغي لهم أن يكونوا أبعد من أعداء الحق عن الوهن والضعف؛ لأن المؤمن الذي يرجو الحق، ويعيش له، ويعد نفسه لإعلانه ونصرته، يجب أن يكون من أبعد الناس عن الوهن في سبيله. ومن هنا يتبين لنا: أن الشجاعة العسكرية وليدة الشجاعة الأدبية؛ لأن كلا نوعي الشجاعة منبعث عن الولاء للحق، وتوطين النفس على إقامته ونصرته. وإن الرجل الشهم الذي يوطن نفسه على الدفاع عن الحق، ويؤدي الشهادة الصادقة على نحو ما علم، دون أن يهاب ذا جاه أو سطوة، لا يقل عن البطل الصنديد في موقفه بساحة العرب أمام نيران العدو مدافعاً عن حق أمته وملته ووطنه. واستطرد فضيلته قائلاً: إن المسلم الذي يعلم أنه لم يكن مسلماً إلا بشهادة الحق: (لا إله إلا الله) يوطن نفسه على ألا يشهد إلا بالحق، ولو على نفسه وعلى والديه، في كل المواقف، متمثلاً دائماً في ذهنه أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- للمسلمين: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].

ولما ربى الإسلام أبناءه على إقامة الحق ونصرته ومحبته، والشهادة به والإعانة عليه، ربى فيهم بهذه السجية، خلق الشجاعة في النفوس، فأخرج منهم أمة لا تهاب الخطوب، وترى الموت في سبيل إعلاء كلمة الحق خيراً من ألف حياة يقضيها صاحبها في مشاهدة الباطل يمشي في الأرض مرحاً. انظروا إلى قول الخليفة الأول أبي بكر الصديق في وصيته لقائده العظيم خالد بن الوليد: "احرص على الموت توهب لك الحياة"، فباقتحام موارد الموت في سبيل إقامة الحق تبرهن الأمة على أنها جديرة بالحق، وبهذا نكون من أهل الحياة، وأن الشهداء من رجالها أحياء عند ربهم، وأحياء في قلوب عباده، والذين لم ينالوا منهم نعمة الشهادة يتمتعون بالحق، وبما يفيضه عليهم الحق من نعمة الحياة. وإلى هذا المعنى يشير الفارس الشاعر حصين ابن الحمام، أحدُ بني سهم بن مرة: تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما جلس القائد المجاهد الشهير مسلمة بن عبد الملك، مع أخيه الخليفة الأموي هشام، ذات ليلة، فقال له أخوه الخليفة: "يا أبا سعيد! هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو؟ "، فأجاب مسلمة: "ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه إلى حيلة، ولم يغشني فيها ذعر سلبني رأيي"، فقال له هشام: "هذه هي البسالة". ولما كان الحكم والسلطان في إسبانيا للخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر، رفع أحد التجار قضية على الخليفة إلى القاضي الأكبر في عاصمة الأندلس "قرطبة"، وهو العالم الفقيه الورع ابن بشير، فحكم ابن بشير للتاجر على الخليفة، ولم يكتف بإصدار الحكم، بل كان حريصاً على سرعة تنفيذه،

فذهب إلى الخليفة يخبره بنص الحكم الذي صدر عليه، وينذره بالاستقالة من القضاء إن لم يبادر الخليفة بالتنفيذ. وحتى في أحط أدوار الدولة العبيدية بمصر، دخل الإمام أبو بكر محمد ابن الوليد الطرطوشي على الملك الأفضل، ابن أمير الجيوش بدر الجمالي -وكان الأفضل وزير مصر للمستنصر، والمستعلي، والآمر-، فتكلم الطرطوشي موجهاً الموعظة والنصيحة للملك الأفضل. ولاحظ في أثناء موعظته: أن إلى جانب الملك رجلاً لا يؤتمن على الدولة، ولا تهمه مصلحة الملة، فختم الطرطوشي موعظته بالحديث عن ذلك الرجل غير المؤتمن، وأشار إليه بيده، فلم يكن من الملك الأفضل-لما استشعر من صدق الإمام الطرطوشي وغيرته على الحق وشجاعته في إعلانه - إلا أن أمر ذلك الرجل الجالس إلى جانبه بأن يتنحى عن ذلك المقام. إن الأمة الضعيفة المسكينة لا تستحق الحياة، وهي لا تقوى وترتقي وتعتز إلا إذا شاع في أفرادها -ولاسيما شبابها، خصوصاً المثقفين منهم - خلقُ الصدق، ومحبة الحق، وتوطين النفس على نصرته، والصراحة فيه، والدفاع عنه. ومن هذا الخلق يولد الجيش الباسل الذي لا يغلب، بل من ذلك الخلق يولد الجيل الفاضل الذي لا يطمع في حق غيره، ولا يطمع غيره في حقه. والحق شطر الإسلام، بل هو عظامه التي تقوم بها بنيته، أما الشطر الآخر، فهو الخير، وهو في مقام اللحم والشحم من بنية الإسلام. ولم يرد في الإسلام أمر ولا نهي إلا وهو يرجع إلى شعبة من شعب الحق، أو إلى شعبة من شعب الخير. والمسلمون لن يعودوا كإخوانهم الذين حملوا لواء الحق، ونشروا قانونه في الأرض إلا إذا تضلعوا من معين الحق،

وارتووا من موارد الخير، فأصبحوا يعرفون بين الأمم بأنهم أمة الحق والخير، وحينئذ يكون منهم الجيش الغالب الظافر الذي يقتحم كل عقبة تحول بينه وبين الحق، ويجتاز كل مخاضة تمنعه من الوصول إلى أهداف الخير. وكما ينبغي أن يجهز الجيش بالدبابات، والمدافع الضخمة، والطائرات النفاثة، والقنابل الذرية، فإن كل هذه المعدات لا تنفعه إن لم يستمد جنوده وضباطه من أمة تربَّت على الصدق، وآمنت بالحق، ووطنت نفسها على محبة الخير. بل إن تجهيز الأمة بسجية الصدق، وتربيتها على الإيمان بالحق، وعلى الإيمان بالخير، هو الذي ييسر لها الأسلحة من كل نوع، والأنصار من كل أمة، وهو الذي يملأ بالهيبة والحرمة لها قلوب الأمم جميعاً. وهكذا الأخلاق لا تزال معيار الأمم، وهي مفتاح الأماني المغلقة، وهي السبيل إلى استرداد الحقوق، وتيسير السبل إليها. إن إعداد شباب الجيل بسجية الصدق، وتربيتهم على الإيمان بالحق، وعلى محبة الخير، عنصر من عناصر الإسلام. ولقد صرنا الآن إلى عهد قام بالأخلاق، وهو في حاجة إلى الاستعانة بجيل يؤمن بالأخلاق. والمصانع المصرية لتربية الأخلاق هي معاهد العلم التي يتوقف عليها نجاح هذا العهد، ويكون لأمتنا منها الجيش الظافر الذي هي بحاجة إليه في مصيرها القريب، وكل يوم تضيعه معاهدنا العلمية، وتحجم فيه عن البدء في مناهجها الصالحة، يكون خسارة على الأمة، وعلى حقوقها. إن الأمر جد، والوقت أثمن من أن يضيع بغير عمل.

لماذا صار المسلمون هدفا للمستعصرين؟

لماذا صار المسلمون هدفاً للمستعصرين؟ (¬1) تفضل فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر فأدلى بالبيان التالي إلى جريدة "الأهرام"، ونحن ننقله عنها. قال: إن مصر وجميع أقطار العالم الإسلامي تجتاز الآن دوراً من أعظم أدوار التاريخ، وكلما أدرك أهلها واجبهم، ووطنوا أنفسهم على القيام به، وبذل التضحيات الثمينة في سبيله، عجل الله لهم بثمراته الطيبة، وكافأهم بأضعاف ما كانوا يأملون. والإسلام قد تكفل لأهله بالتوجيه السليم إلى كل ما يقيم لهم الكيان القوي، والمجتمع الصالح، والدولة العادلة المهيبة. ولو أنهم لم ينحرفوا في العصور الأخيرة عن التوجه الإسلامي في أنفسهم وجماعاتهم وحكوماتهم، لما وجد الاستعمار سبيلاً إليهم، فقد أراد الإسلام لأهله أن يكونوا أقوياء بالإيمان الصحيح، والأخلاق الكريمة، والعمل الصالح، وأقوياء بالاستعداد ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء السابع -المجلد الرابع والعشرون- غرة رجب - 1372 هـ = مارس آذار 1953 م. * "جريدة الأهرام" العدد 24220 تاريخ 7 - 3 - 1953 م تحت عنوان: "لماذا صار المسلمون هدفاً للمستعمرين؟ الإسلام يحض على التماسك والترابط والإلفة بين القلوب".

الحربي، والتأهب دائماً للدفاع عن كيان الأمة وحقوقها. وقد كانوا بالفعل هم أهل العزة في الأرض، والهيبة في عيون الأمم، عندما كانوا منقادين لهذا التوجه الإسلامي، وعاملين به، فلما تهاونوا به في المئات الأخيرة من السنين، وقصروا في الاستعداد من كل نواحيه؛ لتقصيرهم في معرفة الحقوق التي أتاحها الإسلام لهم، والواجبات التي أوجبها عليهم، طمعت دول الاستعمار حينئذ في استعبادهم، واستغلال خيراتهم، وتذرعت بأوهى الأسباب لبسط سلطانها عليهم، وكان ما قد حدثنا عنه التاريخ من استيلاء الهولنديين على جزائر أندونسيا قبل نحو ثلاث مئة سنة، ومحاولة البرتغاليين السطو على سواحل العالم الإسلامي، وتوغل الإنجليز في الهند وغيرها، واستيلاء فرنسا على الجزائر، ثم على بقية شمال أفريقيا. وهذا كله لتقصير المسلمين في معرفة ما لهم من الحقوق، وما عليهم من الواجبات التي بيّنها الإسلام لهم، ثم لتهاونهم في متابعة التوجيه الإسلامي أفراداً وجماعات وحكومات. ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى ذلك بنور الله -عَزَّ وَجَلَّ- من وراء العصور الكثيرة، ويصدر في بيانه لأمته عن وحي صادق من الله فيما أنذرهم به، وذلك فيما رواه الإمام أحمد في"مسنده" من حديث ثوبان مولى رسول الله، وقد رواه عن ثوبان أيضاً الإمام أبو داود في الباب الخامس من كتاب: الملاحم من "سننه": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلويكم الوهن"، فقال قائل: وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت".

فالمسلمون لما وهنت قلوبهم في العصور الأخيرة؛ لإيثارهم توافه الدنيا على المثل العليا، ولتهيبهم الموت في سبيل حقائقهم وحقوقهم، نزع الله حينئذ من صدور الأمم ما كان يملؤها من مهابة المسلمين بسبب ما شاهده من موت هممهم، وانحطاطهم فيما كان أسلافهم يمتازون به من سمو الخلق، وعلو النفس، والغيرة على الحقوق والحقائق، فأصبح المسلمون بسبب ذلك كالغثاء التافه الذي يطفو على سطح الماء في الأنهار ومجاري السيول، وحينئذ طمعت فيهم الأمم المستعمرة، وتداعت لالتهامها كما يتداعى الجائعون إلى التهام الطعام. ثم كان ما كان من جثوم الاستعمار كالكابوس البغيض على صدور المسلمين في مشارق الأرض ومغاريها، وإن كان المحتل يجد في من ينتمي إلى الإسلام قلوباً يقلبها بأصبعه كما يشاء، وألسنة يحركها في أغراضه كما يريد، فإن تلك القلوب وتلك الألسنة -إلا من عصم الله- أصبحت مأمورة بالشعور الذي يريها الحقوق رأي العين، ويمنعها من أن تستخدم إلا في صالح المحتل، وتمكنه من احتلال ما شاء. وفي الأمثال البديعة: أن أشجاراً رأت فأساً ملقى بجانبها، فانزعجت منه، فقالت لها شجرة منهن: لا تخافوا منه، فإنه لا يكسرنا إلا إذا دخل فيه عود منا (¬1). ¬

_ (¬1) وللإمام محمد الخضر حسين في معنى هذا المثل أبيات بديعة في ديوانه "خواطر الحياة"، وعنوانها: خائنو أوطانهم: عجت يوماً برياض أجتني ... عبراً مما أرى أو أسمع فلمحت الفأس ملقاة ومن ... حولها أعناق دوح خُضَّع =

والآن وقد أخذت اليقظة تدب في أرواحنا، وانتشرت الدعوة بيننا إلى معرفة حقوقنا، والاستمساك بها، والتعويل على الدفاع عنها بأي ثمن، فقد أصبح من الواجب على كل فرد منا أن ينتظم في صفوف هذا الدفاع في كل مكان. وقد رأى المسلمون بعد الحرب العالمية الأخيرة كيف أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- كافأ أهل كل قطر إسلامي هب للدفاع عن حقوقه، فوهبه الظفر بأمانيه، والتوفيق بالحصول عليها بأسرع مما كانوا يأملون. وإن قيام دولتي أندونسيا وباكستان أعظم شاهد ملموس في هذه السنوات على صدق ما وعد الله به الذين يجاهدون في سبيل حقوقهم من المسلمين. ومن سنَّة الله في هذه الأمة أن يعلي مقامها، على قدر ما تعرف من حقوقها، وتؤديه من واجباتها. والدنيا كلها بين حق وواجب، وما ضاع حق سعى له أهله من طرقه المعقولة الحكيمة، ولم يخيب الله أمة قامت له بما يجب عليها. ¬

_ = دوحة تلحظها قائلة ... والأسى ساورها والفزع هذه قاصمة الظهر متى ... نزلت بالدوح حان المصرع فأجابت جارة تطفئ من ... روعها والروع نار تلذع لا يروعنك الحديد الصلب في ... أرضنا ينحط أو يرتفع فهو ما لم يلق من أعوادنا ... عضداً يسعده لا يقطع قلت: مرحى حكمة لو ساغها ... خائنو أوطانهم لارتدعوا

التقليد والمحاكاة في نهضتنا الحاضرة

التقليد والمحاكاة في نهضتنا الحاضرة (¬1) تفضل فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، فخص "الأهرام" بهذا المقال الذي ننشره فيما يلي: نحن الآن في طور من أطوار التاريخ، عزمنا فيه على أن نعالج أسباب ضعفنا، وأن نأخذ -إن شاء الله- بجميع وسائل القوة؛ لنعود كما كنا أمة صالحة سليمة الاتجاه، سعيدة العيش، محترمة من الأمم، ومتبادلة معها صنوف المصالح والمنافع، ومتعاونة مع الجميع على التقدم بالإنسانية إلى أهدافها العليا. وأول ما ينبغي لنا تمييزه في معالجة أسباب الضعف، والأخذ بوسائل القوة: أن نكون على بينة مما نأخذ عن غيرنا، وما ينبغي لنا التمسك به من أصولنا ومبادئنا، وما به قوام كياننا. إن الإسلام يأمرنا أمراً دينياً بأن نكون أمة قوية بأخلاقها، قوية بعلومها النافعة، وصناعاتها التي عليها مدار العمران، قوية باستعدادها العسكري للدفاع دائماً وفي أي لحظة عن كل مالنا من حقوق، وما نؤمن به من حقائق. فالأخذ بأسباب القوة من جميع هذه النواحي، والاضطلاع بالعلوم ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الثامن -المجلد الرابع والعشرون- غرة شعبان - 1372 هـ = إبريل نيسان 1953 م.

اللازمة له من طبيعة وكيمياء، وميكانيكا ورياضة، واقتصاد وإحصاء، فرض لازم على المسلمين؛ لأن دينهم أمرهم بأن يكونوا أقوياء، فأصبح ذلك واجباً عليهم، وكل ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب. ومما ينبغي لنا في هذه الأمور: ألا نقتصر على المحكاة والتقليد، بل الواجب أن نعد الأذكياء من أبنائنا وشبابنا للتقدم فيها، حتى يكونوا من أئمتها المبتكرين، وعلمائها المخترعين، وقد وهبهم الله من الألمعية والذكاء وعظيم الاستعداد ما يساعدهم على ذلك في سنوات قريبة -إن شاء الله-. هذا هو الجد، وبهذا تتم النهضة، فنأخذ في طريق الفلاح، ونبلغ مقام الإمامة في العلوم، ونتأهل لما وراء ذلك، مما استخلف الله به الإنسانية الكاملة في الأرض. أما الأمور التي بها قوام كياننا، والعمل بمبادئنا، والرجوع إلى أصولنا، فهذا مما لا يجوز لنا محاكاة غيرنا فيه، بل إن كل أمة تحترم نفسها، وتعتز بكيانها، تترفع عن محاكاة غيرها في أصولها ومبادئها، وإننا لا نزال نذكر ما وقع في إنجلترا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ فإن أعضاء حزب العمال في وزارة (تشرشل) كانوا يطالبون بتجديد الانتخابات النيابية، وكان (تشرشل) يحب أن يتأنى في ذلك، فكتب إلى (مستر أتلي) يقترح أن يستعاض عن تجديد الانتخابات بعمل استفتاء عام، فأجابه (مستر أتلي) بكتاب لا يزال يرن صداه في الآذان حتى اليوم، إذ قال فيه: "إن فكرة الاستفتاء (اختراع أجنبي)، وليس من الخير أن يسمح له بدخول البلاد البريطانية". ولقد كان (مستر أتلي) على حق في هذا؛ لأن كل أمة ذات أصول ومبادئ تتصل بنظامها الخاص بها، وبكيانها الذي تعتز به في تاريخها، لا يجوز لها أن تفرط في أصولها ومبادئها

لتحاكي غيرها في شيء من ذلك، وهذا الاعتزاز بأصول الأمة ومبادئها من مظاهر قوة الأمة، بل هو من وسائل تلك القوة. أما التفريط في ذلك، والتلون بالألوان الغريبة، فإنه من مظاهر الضعف، ومن وسائله، وهذه الحقيقة الاجتماعية قررها ابن خلدون في مقدمة "تاريخه"، وبرهن عليه، ولا تزال من حقائق الاجتماع إلى الآن، على أنه لو لم يكن هذا من حقائق الاجتماع، فإن الإسلام حتمه على أهله، وألزمهم بالتزامه، وكان أسلافهم أقوياء يوم كانوا ملتزمين به، ولو قيض الله لهذه الأمة علماء من أهل البصائر النيرة، يدرسون ما عندنا من هذه الأصول والمبادئ دراسة علمية بلا تعصب ولا غرض، لتبين لهم أنها هي المبادئ السليمة، والأصول الصحيحة التي تقوى بها الأمة وترقى، وأن التفريط فيها من مدارج الضعف، وأعراض الانحطاط. ونحن إذا عمدنا إلى التفريط فيها، نكون متناقضين مع أنفسنا فيما نحاوله من أسباب القوة في مرافقنا المادية؛ من زراعية وصناعية، واقتصادية وعسكرية، وغير ذلك؛ إذ لا معنى لذلك إلا الجمع بين أسباب الضعف وأسباب القوة في وقت واحد. إن هذه القاعدة المزدوجة -وهي الأخذ بكل ما وصلت إليه الأمم من علوم القوة والتقدم العمراني وأسبابهما، مع التمسك بالأصول والمبادئ الخاصة بنا، والموروثة عن أسلافنا- هي التي ينبغي لنا أن نعمل بها في أنفسنا أفراداً، وفي بيوتنا وأسواقنا ومجتمعنا ودولتنا، فالفرد منا يجهز نفسه وبيته بكل ما يحتاجه مما توصل إليه العلم؛ كالأدوات الكهربائية، والتليفون، وأمثال ذلك، وفي الوقت نفسه يتوقى كل ما لا يتفق مع آداب دينه؛ كاختلاط النساء بغير محارمهن.

وفي مصانعنا نستعين بكل ما وصل إليه العلم من آلات دقيقة وسريعة؛ لننافس الأمم بتقدمنا وجودة إنتاجنا، وفي الوقت نفسه نتعامل مع عمالنا وعملائنا بكل ما أرشد إليه ديننا من رفق وتراحم، وتعاون وإخلاص وأمانة، وحفظ للمواعيد، وتمسك بالعهود، وتجنب لنقيصتي البخل والإسراف، والمحاباة والإجحاف. وفي مجتمعنا نتحرى المبادئ والقواعد الخاصة بنا في كل ما نحاوله من تنظيم وعمل، مع ما نحرص عليه من أسباب القوة والتقدم والنجاح؛ ليتصل حاضرنا بماضينا، ولنكون به قدوة لمن يأتي بعدنا من الأجيال. إن النهضة التي تقوم على هذين الأساسين هي النهضة الصادقة الثابتة الخطا، الوثيقة الدعائم، وهي التي تتقبلها الأمة بالاستبشار؛ لأنها توافق مصلحتها، وتتفق مع راحة ضمائرها، وتكون بذلك عبادة؛ لأنها جمعت بين سعادة الدنيا، وفضائل الدين. أما الذين يشغلون الأمة عن سعادة الاستعداد للنهوض بالتعرض لأمور تراها الأمة ماسة بأصول ومبادئ عزيزة عليها، وهي في الوقت نفسه لا دخل لها فيما نحن آخذون به للنهوض بالمرافق الصناعية والزراعية والعسكرية؛ كمحاولة محاكاة الأمم الأجنبية في نظام الأسرة، وشؤون الزواج، والأمور الشكلية؛ كالأزياء وما إليها، فإن ذلك كله ليس من مصلحة الوطن، ولا خير فيه لهذه الأمة، وهي في هذا الطور العظيم من أطوار نهوضها وتقدمها. ومما ينبغي لجمهور الأمة أن يكون على علم به: أن كل ما طرأ علينا من عدوى أجنبية في حياتنا الاجتماعية؛ كالإضراب عن الطعام احتجاجاً على أمر من الأمور، أو الإضراب عن العمل لاختلاف بين العمال وأصحاب الأعمال،

فإنه مما لا يليق ببلد إسلامي؛ لأن الإضراب عن الطعام انتحار، والانتحار يسخطه الله، وصاحبه يبتعد عن حياة الدنيا وحياة الرضا في الآخرة، والإضراب عن العمل قتل للوقت، وسخط للرزق، وتعطيل لمصالح الأمة، وما دامت أبواب العدل مفتوحة، ومرافق الدولة مستعدة للنظر في الشكاوى، والتوفيق بين المصالح، فذلك هو الطريق للوصول إلى الحقوق العادلة، وإن هذا الشرق الإسلامي في حاجة إلى أن يأخذ عن غيره أسباب القوة، لا وسائل التعطيل والانتحار، ومن أدق موازين الحكم على الوعي القومي، والنضوج الاجتماعي: مراقبة ما تأخذه الأمة عن غيرها من خير، وما تتجنبه مما لا خير فيه، ونحن اليوم في هذا الطور من أطوار التاريخ، والتاريخ يراقبنا في هذا الامتحان ليرى ما نأخذ وما ندع.

الأزهريون والتدريبات العسكرية

الأزهريون والتدريبات العسكرية (¬1) زخرت إدارة المعاهد الدينية بجماهير حاشدة من العلماء والطلاب الأزهريين، وقد قابلوا فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وذكروا لفضيلته رغبتهم في الانضمام إلى التدريبات العسكرية التي تنتظم في هذه الأيام طوائف الأمة على بكرة أبيها، وقالوا: إنه يجمل بهم أن يكونوا في مقدمة تلك الطوائف مراناً على حمل السلاح للجهاد في سبيل الدفاع عن الوطن، وقد استمع فضيلة الأستاذ الأكبر لرغباتهم، ثم ذكر: أن ما يرغبون فيه واجب مقدس في سبيل الوطن، وعليهم أن لا يدخروا جهداً في سبيل الانضمام إلى معسكرات التدريب، وأن يكسبوا من المران على حمل السلاح وغيره من أدوات الجهاد ما يكفيهم في ميدان الدفاع عن الوطن. وقد رأى مندوب "الأهرام" أن يرجع إلى فضيلته؛ ليقف على رأي الإسلام في هذه التدريبات العسكرية، فقال فضيلته: الدفاع عن الوطن ركن من أركان الإسلام، وفريضة من فرائض عباداته، وإن الاستعداد له، والتمرن على حمل السلاح، وحسن استعماله؛ للقيام بذلك عند الحاجة، معدود من لوازم هذه الفريضة، والعلماء مطالبون بالعمل به ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء التاسع -المجلد الرابع والعشرون- غرة رمضان - 1372 هـ = ماي أيار 1953 م.

كغيرهم من سائر المسلمين، بل قبل غيرهم من إخوانهم أفراد الأمة، ولذلك كان علماء الصحابة أسبق الناس إلى ساحات الجهاد، وأولهم استعداداً له، ومبادرة لإجابة دعوة الداعي إليه. ولما استعر القتال باليمامة (¬1) وغيرها أيام فتنة الردة، كان علماء الصحابة، وحملة كتاب الله في طليعة المجاهدين والشهداء، ولذلك بادر الصحابة إلى جمع القرآن وكتابته؛ لئلا يضيع شيء منه مع حُفَّاظه من علماء الصحابة الذين كانوا أسرع من غيرهم إلى نيل مقام الشهادة في سبيل الله. وما من حرب نشبت في صدر الإسلام إلا كان علماء الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان في طليعة المجاهدين، وأسماؤهم في السطور الأولى من قائمة الشهداء، ومواقفهم في ساحات القتال، وعلى الحدود، وفي الثغور معلومة مشهورة. ولما فتح المسلمون صقلية (¬2) سنة 212 هـ، كان قائد أسطولها، والرئيس الأعلى لجيوش الفتح البرية والبحرية إماماً من أئمة الفقه، وقاضياً من قضاة الشرع، هو الإمام أسد بن الفرات تلميذ الإمام مالك بن أنس، والإمام محمد ابن الحسن صاحب أبي حنيفة، وطبقتهما، فهو الفاتح الأول لهذه الجزيرة الإيطالية المنيعة التي نعمت بسببه بالحكم الإسلامي الرحيم زمناً طويلاً، فكان ¬

_ (¬1) بلاد وسط الجزيرة العربية من مقاطعات نجد، ويقال: إن الاسم يرجع إلى زرقاء اليمامة الرائية الشهيرة، سكنها بنو جديس في الجاهلية، ثم بنو حنيفة بن لجيم الذين اعتنقوا الإسلام. (¬2) جزيرة في البحر المتوسط لا يفصلها عن أوربة إلا مضيق مسينا، دخلها أسد بن الفرات على رأس الجيش في ربيع الأول سنة 212 هـ.

فاتحها الفقيه الإمام الكبير من أبرع حملة السلاح بيمينه التي اشتهرت قبل ذلك بتدوين أحكام الشرع وبتبيين آداب الإسلام وسننه الرفيعة. واستشهد أبو الربيع الكلاعي في واقعة أثيجة بالأندلس، وهو يتقدم الصفوف، وينادي بالجند: أعن الجنة تفرون؟ حتى قتل صابراً، وكان حافظاً للحديث، مبرزاً في نقده. وقال ابن خلدون في"مقدمته": ربما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطوائف. وكان القاضي يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالطائفة إلى أرض الروم، وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية بالأندلس. هكذا كانت حال علماء الإسلام في كل عصر ومصر، وعندما حشد صلاح الدين الأيوي الجيوش الإسلامية سنة 583 هـ لقمع الصليبيين، وإجلائهم عن فلسطين، كان في جحافله عدد لا يحصى من العلماء والفقهاء، والصالحين، نذكر منهم: الإمام موفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي مؤلف أجود الكتب وأشهرها في الفقه الحنبلي، وأخاه الأكبر الشيخ أبا عمر مؤسس المدرسة العمرية الشهيرة في سفح جبل قاسيون بدمشق وكانت لهما ولتلاميذهما في معسكر صلاح الدين خيام تتنقل مع الجيش من معركة إلى معركة، ومن نصر، إلى نصر حتى ختم الله ذلك الجهاد بموقعة حطين الفاصلة التي انتهت بإخراج جميع الأوربيين من فلسطين. ولما عظم البغي من وثنيي التتار، وزحفت جيوشهم على الشرق العربي، كان الإمام تقي الدين بن تيمية هو معلن النفير بالجهاد العام، وهو الذي قدم من الشام إلى مصر لاستنفار حكومتها وشعبها وجيشها للاشتراك في الدفاع، وكان ابن تيمية في تلك الحرب أول شاهر بالسيف مقاتل به، على ما هو معروف

من سيرته، فكان بذلك من أعلام المجاهدين بالسيف، كما كان من أعلام المجاهدين بدروسه ومؤلفاته. إن جهاد علماء المسلمين في كل كتيبة خاضت غمرات الحرب استمر من صدر الإسلام في كل عصوره، حتى في العصور المتأخرة اشتهر جهاد الإمامين الشهيدين: السيد أحمد بن عرفان من تلاميذ الشيخ عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي، وصنوه الشيخ إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي؛ فقد قاما في الهند على رأس جيش من المسلمين في الدفاع عن حياة الأمة ببسالة منقطعة النظير إلى أن نالا مقام الشهادة في سبيل ذلك، وهما من العلماء الأعلام في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، فكان جهادهم امتداداً لما سبقهم إليه أئمة الإسلام وعلماؤه من أقدم عصوره، وكانوا في ذلك المثل الأعلى لجهود المسلمين في التضحية والجهاد، وحفظاً للأوطان، وإرضاء للرحمن، وعلى غرار هؤلاء الأسلاف يسير العلماء وطلبة العلم الإسلامي في مصر وغيرها، كلما دعاهم داعي الجهاد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

الإسلام لا يقر المحسوبية

الإسلام لا يقر المحسوبية (¬1) إن عناية الإسلام بالناحية الخلقية للفرد والجماعة من أبرز النواحي التي تناولتها نصوصه؛ لأن من أكبر مقاصده: تكوين الأمة الصالحة، وأول وسائل ذلك: تقويم أخلاق أفرادها وجماعاتها، وحسن توجههم إلى كل ما يرضي الله -عَزَّ وَجَلَّ- من مكارم الأخلاق، لذلك كانت المحسوييات والوساطات للتوصل إلى المقاصد من غير استحقاق لها في مقدمة ما قاومه الإسلام، وصان أهله عن الانزلاق فيه. ولو لم يكن منع الإسلام للوساطات والمحسوبيات داخلأ في رسالة الإسلام الخلقية التي قال فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فإنها داخلة في إقامة الحق الذي هو ركن عظيم من أركان الإسلام، وقد سماه الله-عَزَّ وَجَلَّ-: {دِينَ الْحَقِّ} [التوبة: 29] في مواضع متعددة من كتابه الحكيم. وأي غمط للحق أكبر من إيثار امرئ بما لا يستحقه من المنافع أو المناصب لأنه محسوب لجهة لا يمت إليها آخر هو أكثر استحقاقاً وأهلية لتلك المنفعة، أو ذلك المنصب؟ وأي غمط للحق أعظم من أن يحابى امرؤ في درء حد من حدود الله عنه، أو إعفائه من حق وجب عليه؛ رعاية لجهة قوية ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء التاسع -المجلد الرابع والعشرون- غرة شوال- 1372 هـ = جوان حزيران 1953 م.

ينتمي إليها، أو وساطة ذي مكانة ما كان لولاها ليعفى من القيام بالحق الذي وجب عليه؟. وأكثر المسلمين يحفظون في ذلك موقف النبي- صلى الله عليه وسلم - من المرأة المخزومية التي سرقت، فخاطبت قريش أسامة بن زيد؛ ليكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إسقاطه الحد عنها، فقال - صلوات الله عليه -: "أتشفع في حد من حدود الله؟ "، ثم أتى المسجد، فخطب خطبته المشهورة التي قال فيها: "أيها الناس! إنما هلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف فيهم، تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم، أقاموا عليه الحد، وايم (¬1) الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها". ومن هذا الينبوع أخذ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب المبدأ الإسلامي العظيم الذي قرره في رسالته إلى أبي موسى الأشعري واليه على البصرة، فقال له فيها: "آس بين الناس في مجلسك، وفي وجهك، وفي قضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييئس ضعيف من عدلك". ثم مضى على هذا المبدأ أئمة المسلمين وولاتهم وقضاتهم، وقد رأس القضاء بأجمعه في الفسطاط (¬2) عاصمة الوطن المصري، عظيمٌ من فقهاء الإسلام، وهو إبراهيم بن أبي بكر الأجنادي، فكان مما قال مترجموه في وصفه: "كان لا يقبل وساطة ولا شفاعة، بل يصدع بالحق، ولا يولي إلا مستحقاً". وابراهيم بن إسحاق قاضي مصر ذكروا في ترجمته: أنه حكم في قضية ¬

_ (¬1) اليمين، يقال: يمين الله، وأيمُن الله، وأيمُ الله. (¬2) أول مدينة أسسها العرب في مصر، بناها عمرو بن العاص بين النيل وتلال المقطم نحو 643 هـ، وبنى فيها مسجداً وداراً للإمارة.

لرجل على آخر، وكان المحكوم عليه قريب الصلة بالأمير، فتشفع المحكوم عليه بالأمير ريثما يصطلح المتقاضيان. فما كان من القاضي إبراهيم بن إسحاق إلا أن أقفل باب المحكمة، وترك القضاء، وذهب إلى منزله، فأرسل إليه الأمير يساله الرجوع قائلاً للقاضي: إني لا أعود إلى الوساطة في شيء أبداً، وليس في الحكم شفاعة. ومن المعلوم في أحكام الفقه الإسلامي: أن الحاكم ليس له أن يشير على الخصوم بالصلح إلا إذا لم يتبين له الحق. وقد بقيت هذه الأخلاق في علماء المسلمين حتى أيام الدولة العثمانية، فقد ذكر التاريخ: أن السلطان بايزيد حضر إلى المحكمة بين يدي شمس الدين محمد بن حمزة الفناري قاضي القسطنطينية ليشهد في قضية رفعت إليه، فما كان من القاضي الفناري إلا أن رد شهادة السلطان، ولم يقبلها، ولما سأله السلطان عن وجه رفى ها، قال له: إنك تارك للصلاة مع الجماعة، فبنى السلطان في الحال جامعاً أمام قصره، وعين لنفسه موضعاً فيه، ولم يترك صلاة الجماعة بعد ذلك. فالمسلم الذي يأمره إسلامه برد شهادة شاهد لسبب من الأسباب، فيرد شهادته، مع أنه صاحب السلطان المطلق عليه، لا شك أنه ذو دين قد ريي أهله على إقامة الحق في كل الظروف، وعلى ألا ينحرف أحد منهم عن الحق لأية عاطفة من عواطف الحب والبغض، والرغبة والرهبة.

الجهاد أعلى مراتب العبادة

الجهاد أعلى مراتب العبادة (¬1) أعد فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر بياناً في توضيح مراتب الجهاد في الإسلام، وتبيان نظامه العسكري في زمن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكيف أنه كان يستعرض بنفسه أبناء المسلمين مرة في كل عام، وكيف كان يعُدُّهم وهم في الحول الخامس عشر رجالاً مكلفين بأداء ضريبة الدم، ويجيز لهم حمل السلاح تحت إشراف القيادة، ونحن ننشر هذا البيان فيما يلي: الرسالة الإسلامية رسالة (سلام)، ومنه اشتق الله اسم (الإسلام)، غير أنها قبل أن تكون رسالة سلام، كانت رسالة (الحق)، ومن تمام رسالة الحق: حمايته. وقد جمع الله سبحانه بين هاتين الحقيقتين في آيتين متعاقبتين من سورة الأنفال، فقال-عَزَّ وَجَلَّ-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]، ثم قال بعدها: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]. فالحق والسلم هما غاية الإسلام، ولما كان من دأب الإنسانية أن أهل الحق معرضون فيها دائماً لبغي أهل الباطل عليهم، وطمعهم فيهم، واعتدائهم ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء التاسع -المجلد الرابع والعشرون- غرة رمضان - 1372 هـ = ماي أيار 1953 م.

على حقهم، فقد أمر الله أهل الحق بالاستعداد لحمايته بكل ما في طاقتهم، ويأكل ما يصل إليه العقل البشري، والعلم الإنساني من وسائل القوة وفنونها، وأنظمتها وصناعاتها، بحسب ما تقتضيه حاجة العصر، وعلى قدر ما تمس إليه الحاجة. ويالفعل صار هذا (الاستعداد) من آداب الإسلام، ومن شيمة المسلمين. لقد كان من نظام الإسلام العسكري في زمن النبي- صلى الله عليه وسلم -: أن يستعرض النبي بنفسه أبناء المسلمين مرة في كل عام، فمن بلغ منهم الخامسة عشرة، عدّه من الرجال المكلفين بضريبة الدم، وأجازه ليحمل السلاخ تحت إشراف القيادة، وأمره بالاستعداد لإبراز نشاط رجولته، ومن كان دون الخامسة عشرة، ردّه إلى أن يبلغ هذه السن، وكان غلمان المهاجرين والأنصار يتنافسون في هذه الشهادة لهم بأنهم صاروا رجالاً، وأنهم نالوا شرف الانخراط في سلك المجاهدين، ويحزن الغلام منهم أشد الحزن إذا أرجئ إلى سنة أخرى، حتى إن سمرة بن جندب لما ردّه النبي- صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يبلغ الخامسة عشرة، قال له: يا رسول الله أجزت فلاناً، ورددتني، ولو صارعني، لصرعته فتبسم - صلى الله عليه وسلم - وقال له: "صارعه"، قال: فصارعته، فصزعته، فأجازني. وهكذا كان المسلمون أمة دفاع وكفاح، وجهاد وتحرير، من يوم يبلغون الحلم إلى أن يلقوا الله. فهم في حربهم أمة عسكرية لا يتخلى فيها عن ضريبة الدم أحد من عالم، أو تاجر، أو سري، أو عامل، أو زارع، إلا أن تشغله الدولة في جهاد آخر هو من لوازم الجهاد العام، وفي حالة السلم يتمرنون باستمرار على فنون الحرب واستعمال السلاح. روى البخاري في "صحيحه" من حديث سلمة بن الأكوع: أن النبي- صلى الله عليه وسلم -

خرج على نفر من قبيلة أسلم وهم ينتضلون (أي: يترامون بالسهام على سبيل التمرين)، فقال لهم: "ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان"، فلما قال ذلك، أمسك الفريق الآخر عن الرمي، فقال لهم: "ما لكم لا ترمون؟ "، قالوا: كيف نرمي وأنت معهم، قال: "ارموا وأنا معكم كلكم". وفي كتب السنن من حديث عقبة بن عامر: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه، والرامي به، والممد به -أي: الذي يناول الرامي النبل للرمي به-"، ثم قال: "ارموا، واركبوا، وأن ترموا أحبُّ إلي من أن تركبوا، كل لهو باطل إلا ثلاثاً: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله. ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه، فإنها نعمة تركها". وفي "صحيح مسلم" من حديث عقبة بن عامر أيضاً: أن فقيماً اللخمي قال له: تختلف بين الغرضين -أي: بين الهدفين اللذين تسدد السهم نحوهما- وأنت شيخ كبير يشق عليك؟ فقال له عقبة: لولا كلام سمعته من رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، لم أعانه، سمعته يقول: "من علم الرمي ثم تركه، فليس منا". وفي "صحيح البخاري ومسلم"، وغيرهما من حديث عروة بن الجعد: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير -الأجر والمغنم- إلى يوم القيامة". وفي "سنن أبي داود" من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يضمر الخيل يسابق بها. والاستعداد للجهاد من تمام الجهاد. بل هو كالسلاح، عنصر أساسي

من عناصره، وممارسة الاستعداد بنية الجهاد عبادة كعبادة الجهاد؛ لأن المجاهد إذا لم يستعد للجهاد بالتمرين، وممارسة استعمال السلاح، لا يقوى على هذه المهمة عند الحاجة إليها. والمسلمون الأولون كانوا دائماً على قدم الاستعداد لكل طارئ حربي، فلم يستطع عدو أن يفاجئهم بسوء وهم على غرة. وإن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان مفطوراً على اليقظة للطوارئ، وهو أعظم استعداداً لاستقبالها منهم جميعاً. روى البخاري ومسلم، وأصحاب السنن، ومؤلفو كتب السيرة النبوية: أن أهل المدينة فزعوا ذات ليلة لصوت استغاثة سمعوه، فانطلق ناس منهم إلى جهة الصوت، فما راعهم إلا أن رأوا النبي- صلى الله عليه وسلم - راجعاً قد سبقهم إلى جهة الصوت، واستبرأ الخبر على فرس عُرْي لأبي طلحة، والسيف في عنقه وهو يقول: "لن تراعوا". وتنظيم الصفوف عند القتال، وفي التمرين للاستعداد له من أعظم القربات عند الله. والنبي- صلى الله عليه وسلم - كان يقوم به بنفسه، ويندب له خاصة رجاله. وقد ذكر الإمام أبو منصور الماتريدي وغيره في تفسير آية: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121]: أنها تشريع في تعاهد ولاة الأمر أحوال الجند، وتنظيمهم، ودفع الخلل والضياع عنهم، وأن على الأمة طاعة الأئمة في هذا التنظيم. وللإمام أبي الوليد الطرطوشي فصل في تفصيل ذلك بحسب نظام الجند في زمانهم، وهو في كتاب "سراج الملوك" وهو يقول: إن على كل أمة إسلامية أن تقوم بالتنظيم العسكري اللائق بزمانها. ونقل قول الحكماء:

"الملك بناء، والجند أساسه، فإذا قوي الأساس، دام البناء، وإذا ضعف الأساس، انهار البناء". وكل الذي تقدم خاص بالاستعداد والتمرين في زمن السلم، أما الجهاد عند وقوع الحرب، فهو أعلى مراتب العبادة في الإسلام، والنصوص على ذلك تملأ الكتب. روى البخاري ومسلم من حديث أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القانت بآيات ربه لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع". وروى البخاري من حديث عبد الله بن عباس: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله، فتمسه النار".

الاستعمار يقرب من نهايته

الاستعمار يقرب من نهايته (¬1) خاض الغرب معركة استعماره للشرق في القرنين الماضيين مستعيناً بما كان يسود ظروف تلك المعركة من متناقضات. فالغرب كان قد أخذ يستنير بمعارفه المادية، ويقوى بآلاته الصناعية، وأنظمته المبتكرة، وأسلحته الجديدة. غير أن لجج الظلام كانت قد بدأت تغمره بنزعات الإلحاد والتحاسد، والجشع والبغي، والفراغ السياسي من الدافع الأعلى، كما يقول المؤرخ (ولز)، بينما الشرق كان قد أخذ ينحط بضعف حكوماته، وتخلفها وتقاطعها، وإن كانت شعوبه لم تزل يومئذ ممتازة ببقية كريمة من الأخلاق النبيلة؛ كالقناعة، والتراحم، والأمانة، والثقة، حتى لقد شهد (المسيو جومار) أحد مهندسي الحملة الفرنسية على مصر بأنه رأى بعينه الغلال وبضائع التجار تكدس على ساحل النيل في فرضة بولاق التي كان فيها جمرك القاهرة، فلم يكن يمسها أحد بسوء ليلاً ولا نهاراً، مع أنها متروكة في العراء بلا حراسة ولا خفراء. فالاستعمار كان في القرنين الماضيين بغياً من القوة المادية على شعوب ذات فضائل وأخلاق، منتهزاً فرصة الضعف الذي دب إلى حكومات تلك الشعوب الطيبة الأعراق، الآمنة في أوطانها، السعيدة بقناعتها وأمانتها وتراحمها. ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء العاشر -المجلد الرابع والعشرون- غرة شوال 1372 هـ - جوان حزيران 1953 م.

وكان الغرب يمنّ على الشرق في استعماره؛ بأنه حمل إليه الحضارة والنظام والمعارف، وهو لم يحمل إليه من الحضارة إلا قشورها، ومن النظام إلا ما يجعل الشرق آلة في يد الغرب، ومن المعارف إلا ما يستعمر به القلوب والعقول بعد استعمار الأرض وخيراتها، وبذلك كان الغُنم في كل هذه الأمور للمستعمر، وغُرمها على الشعوب التي رُزئت باستعماره بلادها، واستغلاله كنوزها وخيراتها. هذه هي قصة استعمار الغرب للشرق في سيرة هولندا مع الأندونسيين، وفي سيرة إنجلترا مع الهنود، وسكان ملايو، والمصريين، والسوادنيين، وفي سيرة فرنسا مع الجزائريين، والتونسيين، والمراكشيين. إن استيلاء فرنسا على الجزائر مثال من أمثلة التاريخ على الظروف المتناقضة التي نشأ عنها الاستعمار، فالشعب الجزائري كان يومئذ من أقوى شعوب الأرض بأخلاقه وحيويته، بينما حكومة الجزائر التي كانت تتولى أموره كانت من أفسد الحكومات في الأرض، وأضعفها وأحمقها، والمستعمر كان يستعد قبل ذلك طويلاً للبغي على الجزائر، ويتخذ لذلك مختلف الذرائع التي تنافي الدافع الأعلى. فلما وقعت الواقعة، خارت قوى القائمين بالحكم على الجزائر، وتخلفت الحكومة العثمانية التي كانوا تابعين لها من أن تؤدي واجبها في هذا الموقف، وهنا تجلت حيوية الشعب الجزائري وأخلاقه، فنظم صفوف جهاده بقيادة الأمير عبد القادر، وظل يجاهد ببطولة منقطعة النظير مدة ثمانية عشر عاماً، ومن ذلك الحين إلى الآن والحوادث تبرهن على ضعف المستعمر الأدبي، وفراغه السياسي من الدافع الأعلى، وعلى قوة الشعب الجزائري الأدبية، وحيويته في

مقاومة ما لا يستطيع مقاومته إلا أعظم الأمم بطولة من صنوف البغي الاستعماري الذي لا يجنح إليه إلا أضعف الدول في أخلاقها ومبادئها الأدبية. وقِس على حيوية الجزائر حيوية جارتها في الشرق والغرب، تونس، والمغرب الأقصى، ولو أن مؤرخاً من الحكماء أمثال (فولتير، وجيبون، وولز) أراد أن يقارن بين قوة فرنسا وضعفها في بداية استعمارها لشمال أفريقيا ونهايته، وبين قوة المغاربة وضعفهم بين تلك البداية والنهاية، لحكم مطمئناً بأن فرنسا اليوم تعاني في شمال أفريقيا أعراض الاضمحلال بالنسبة إلى ما كانت عليه في سنّة 1830 م. بينما ضحايا بغيها من المغاربة لم يزدهم البغي إلا قوة وحيوية، وقد استيقظوا من غفلتهم، وتخلصوا من ضعف حكوماتهم، وأصبحوا من نتائج الفوز والفلاح قاب قوسين أو أدنى. وما يقال عن فرنسا في شمال أفريقيا يقال مثله عن الهند التي شاهدنا باعيننا، وشاهد التاريخ معنا عواقبَ الاستعمار البريطاني فيها، واضطراره إلى الانسحاب من تلك الربوع، وازدهار الحيوية في بكستان والهند، حتى صارت منهما دولتان من كبريات الدول، وشاهدنا كذلك عاقبة الاستعمار الهولندي في أندونسيا، بعد أن رسخت أقدامه فيها 300 سنة، فاضطر أخيراً إلى التسليم بالأمر الواقع. لقد شب عمرو عن الطوق، بل لقد استيقظ العملاق من نومه، فأخذ يبحث عن مكانه اللائق بين الأمم، وإن الحوادث المتكررة برهنت على أن اعتماد الاستعمار على قوته المادية لا تجديه نفعاً، وأنه إنما أتي من ناحية ضعفه الأدبي؛ لأنه قائم على البغي، وآخر الشواهد على ذلك: هذه المؤامرة الاستعمارية على إخراج نحو تسع مئة ألف فلسطيني من وطنهم الذي هم

أصحابه منذ دهور، وتشريدهم في العراء لإحلال أجانب غرباء في أرضهم وأملاكهم الشرعية، ومثل هذه المؤامرة لا يمكن أن يرضى بالاشتراك فيها إلا الذين يعيشون في فراغ سياسي من الدافع الأعدى، كما يقول المؤرخ (ويلز)، والاستعمار الذي يعيش في هذا الفرغ المخزي لا شك أنه اليوم أضعف مما كان في بداية بغيه قبل مئة سنة. أما فريسة الاستعمار التي وقعت فيما مضى بين يديه بسبب ضعف حكوماتها المتهافتة، وأخذت تنقه من الضعف الذي جرتها إليها تلك الحكومات، وقد نهض فيها رجال يحسنون التعاون مع شعوبهم، ولا شك أن يقف الجميع معاً أمام الاستعمار الضعيف موقف المؤمن بحقه، الحازم في دفاعه عنه، المصمم على التخلص من هذا العدو الذي أنهكه جشعه. وإني أقدم لأمتي النصيحة مخلصاً بأن أقوى أسلحتها لمقاومة الاستعمار إنما هو الأخلاق، والدين هو الذي يهدي إلى مكارم الأخلاق، وإذا كان على ولاة الأمور أن يفكروا في توفير أسباب القوة المادية، وتنظيم استعمالها، فإن على كل فرد من أفراد الأمة أن يتسلح بالأخلاق، وأن يتعامل بها مع أفراد أمته، وأن يعلم أن أعظم رسالات الله، وأكملها، إنما جاءت للتعامل بمكارم الأخلاق.

العلم بين الأساتذة والطلاب

العلم بين الأساتذة والطلاب (¬1) في هذه الفترة بين عام دراسي أوشك أن ينقضي، وبين عام جديد يستقبله المدرسون والطلبة بعد أشهر الاستجمام، رأيت أن أتحدث إلى إخواني مدرسي المعاهد وأبنائهم الطلبة بما ينبغي للفريقين أن يطيلوا التأمل فيه، عندما يفرغون من فترة الاستجمام؛ استعداداً لاستئناف عهد جديد في الحياة الدراسية. إن أجمل ما فهمه المسلمون من معاني (العلم) قول أبي حامد الغزالي فيه: إنه عبادة القلب، وصلاة السر، وقربة الباطن إلى الله، وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر من الأحداث والأخباث، فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته من خبائث الأخلاق. وهذا الفهم الجميل لمعنى العلم في الإسلام، إذا كان ينبغي لمدرسي المعاهد الأزهرية وطلبتها أن يجعلوه دستوراً لهم في حياتهم الدراسية في جميع المعاهد، فإن أولى ما ينبغي لهم أن يتخذوه دستوراً في هذا العهد الذي أخذ يتجدد فيه نظر الأمة إلى جميع أوضاعها؛ استعداداً لاستئناف حياة سعيدة مباركة ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء العاشر -المجلد الرابع والعشرون- غرة ذي القعدة - 1372 هـ جويليه تموز 1953 م.

النتائج، ويانعة الثمرات- إن شاء الله-. من المأثور عن رسول الرحمة - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يقول لأصحابه -وهم الطبقة الأولى من طلبة العلم في تاريخ الإسلام-: "إنما أنا لكم مثل الوالد لولده". وإن المدرس في المعاهد الإسلامية ينبغي له أن يستقبل سنته الدراسية المقبلة بهذه الروح العالية، وبهذا الأدب الإسلامي الرحيم، فيكون لطلبته مثل الوالد مع الولد. روى الذين دونوا ترجمة الإمام الفاتح أسد بن الفرات: أنه لما كان يأخذ العلم عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة، كان الإمام محمد بن الحسن إذا رأى تلميذه أسد بن الفرات غلب عليه النوم، وهو يسهر في تلقي العلم عنه، نضح على وجهه رشاشاً من الماء؛ ليجدد له نشاطه؛ شفقة عليه، ورغبة منه في أن ينهض إلى مستوى الإمامة في العلم. ولولا أن محمد ابن الحسن تأدب بأدب الإسلام، وعمل بالمبدأ المحمدي في أن يكون لتلميذه كما يكون الوالد لولده، لانتهز فرصة غلبة النوم على تلميذه، وأرجأ الدرس إلى الليلة الثانية، هذا ما نعلمه من مقام الإمام محمد بن الحسن في الدولة، وكئرة أعماله العلمية، لكنه لما كان يعلم أن من أدب الإسلام أن يكون التلميذ بمنزلة الولد من الوالد، التزم مع أسد بن الفرات هذا الأدب الرحيم، وكان من نتيجته: نبوغ أسد بن الفرات، وقيامه للملة الإسلامية بما لا يقوم بمثله إلا أفذاذ النوابغ من صفوة البشر. وهذا الشيخ ابن التلمساني، أحد كبار علماء شمال أفريقية سأله السلطان عن مسألة، فقال: إن تلميذي فلاناً يحسن الجواب عنها، فوجه السلطان السؤال إلى تلميذ ابن التلمساني، فأحسن الجواب، فأجازه، وأحسن منزلته، وكان ابن

التلمساني أعلم من تلميذه فيما سأله عنه السلطان، لكنه لاعتباره تلميذه بمنزلة ولده، أراد أن ينوه به في حضرة السلطان كما لو كان ولده حقاً. والطلبة في دستور الإسلام عرفوا كيف يقابلون هذا العطف الأبوي من أساتذتهم بما يكافئه من حرمة ومحبة وإجلال. ومن أقدم الأمثلة على ذلك: ما رواه الشعبي: أن زيد بن ثابت صلّى على جنازة، ثم قربت إليه بغلته ليركبها، فبادر إليه عبد الله بن عباس، فأخذ بزمام البغلة ليساعده على الركوب، فقال له زيد: خل عنه يا ابنَ عم رسول الله، فأجابه ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء. وقد حافظ ذرية ابن عباس على هذا الأدب من التلاميذ نحو أساتذتهم، بعد أن صار بنو العباس ملوك الدنيا، فقد نقل برهان الإسلام الزرنوجي، في كتاب "تعليم المتعلم"، وهذا الكتاب ترجمه (رولاند) إلى اللغة اللاتينية، وطبعه في مدينة "أوتراخت" بألمانيا قبل نحو مئتين وخمسين سنة: أن أمير المؤمنين هارون الرشيد بعث ابنه إلى الأصمعي؛ ليعلمه العلم والأدب، فرآه يوماً يتوضأ، وابن الخليفة يصب الماء على رجله، فعتب الخليفة على الأصمعي؛ لأنه لم يأمره بأن يصب الماء بإحدى يديه، ويغسل رجل أستاذه باليد الأخرى، ورأى أن تقصير ابنه في ذلك تقصير في أدب التلميذ مع أستاذه. وروى الزرنوجي في هذا الكتاب أيضاً عن شيخه برهان الدين، صاحب "الهداقي": أن أحد كبار أئمة "بخارى" وهو في حلقة درسه في المسجد رأى ابن أستاذه يمر أمام باب المسجد، فقام له؛ تعظيماً لحق أستاذه. وقد علمنا من سيرة ابن خلدون: أنه لما رزئ بوفاة كبار شيوخه، "وكان منهم: قاضي القضاة محمد بن عبد السلام، والرئيس أبو محمد الحضرمي،

والعلامة محمد بن إبراهيم الأبلي، ضاق به وطنه، فترك مقامه الوجيه الذي وصل إليه في قصر الإمارة، ورحل عن تونس إلى الجزائر والمغرب الأقصى؛ لأن مقام أساتذته كان في نفسه فوق كل مقام. وهذه المحبة الصحيحة التي يكنها التلميذ لأستاذه هي التي حملت العالم أحمد بن القاضي على أن يقول في شيخه المنجوري: "وصارت الدنيا تصغر بين عيني، كلما ذكرت أكل التراب للسانه، والدود لبنانه". ومن ذلك قول ابن عرفة: إذا لم يكن في مجلس الدرس نكتة ... وإيضاح إشكال بأحسن صورة الأبيات، فيجيبه تلميذه الأُبِّي بقوله: يميناً بمن أولاك في العلم رتبة ... وزان بك الدنيا بأحسن زينةِ لمجلسك الأعلى كفيل بكلها ... على حينما عنه المجالس ولَّتِ ووقت خروج جنازة أستاذنا الشيخ عمر بن الشيخ من منزله ليصلَّى عليها في جامع الزيتونة، ذكرتُ خروجه منه لدرس كتاب "المواقف"، والشيوخ ينتظرونه بموضع الدرس، وذكرت قول أحد الأساتذة في قصيدة ألقاها عند ختم الكتاب: إذا عمر بن الشيخ وافى لدرسه ... تعال التقط دراً بملء جفانِ ففاضت عيناي بالدموع. إن هذا الأدب الإسلامي الذي جعل من الطلبة أبناء للأساتذة كفلذات كبادهم، وجعل من الأساتذة آباء لتلاميذهم، يعطفون عليهم أكثر من عطف الآباء على أبنائهم، هو الأدب اللائق بنا أن نرجع إليه لنجدد في تاريخنا عهداً

سعيداً، فننعم به، ونسعد بنعمته، والطلبة الذين يكتسبون من دراستهم مثل هذا الأدب ينالون به من السعادة أضعاف ما ينالون به من دراسة العلم مهما تقدموا فيه.

الحج المبرور

الحج المبرور (¬1) بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ورد في "صحيحي البخاري ومسلم" عن أي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "إيمان بالله وبرسوله"، قال السائل: ثم ماذا؟ قال: "ثم الجهاد في سبيل الله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "ثم حج مبرور". وقد ثبت في "صحيحي البخاري ومسلم لما أكثر كتب السنة المعتبرة: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". والحج المبرور: هو الذي وُفيت أحكامه، ولم يخالطه شيء من الإثم. والذي يستعرض أعمال الحج وأحكامه يجدها ترجع إلى عناصر يكمل كل منها الآخر، ومدارها على أن يجدد المسلم حياته بالحج، فيقطع صلته بكل ما كان يعلق بها من شوائب الإثم، أو الانحراف عن طريق الله ووسائل مرضاته، ويبدأ حياته جديدة نقية، بنفس راضية تقية، بعد توبة نصوح ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الأول -المجلد الخامس والعشرون، غزة المحرم 1373 هـ - سبتمبر أيلول 1953 م.

يُشهد الله عليها في أطهر بقاع الأرض، مخاطبا ربه -عَزَّ وَجَلَّ- قائلاً: "لبيك اللهم لبيك"، وملتزماً أن لا يعمل من ذلك الحين إلا ما يرضي الله من عمل، وأن لا يقول إلا ما يقربه إلى ربه من خير وحق، وأن لا يعود إلى أهله ووطنه إلا وهو إنسان آخر، يؤثر مرضاة الله في كل ما يصدر عنه، ويكون في جانب الحق في كل ما يصطدم فيه الحق والباطل، ويحرص على أن يكون من أهل الخير، كلما دعته الظروف، وسنحت له الفرص لعمل الخير. كما أن المدرسة مصنع يدخله غير العارفين، ثم يتخرجون منه علماء عارفين، كذلك الحج فرصة من فرص الحياة يتعرض لها المسلمون بما ارتكبوا في حياتهم من هفوات، وما وقع منهم مما لا يرضى الله عنه، فيجددوا توبتهم العظمى في البلد الحرام، والشهر الحرام، ويهتفون من أعماق قلوبهم معاهدين ربهم على التزام أوامره واجتناب نواهيه قائلين: "البيك اللهم لبيك"، فلا ينتهون من مناسكهم إلا وهم على عهد مع الله -عَزَّ وَجَلَّ- بأن يكونوا من أهل الاستقامة في حياة جديدة قامت مناسك الحج حائلاً بينها وبين شوائب الماضي، فيعفو الله عما سلف على قدر ندم صاحبه عما فرط منه، وعلى قدر ثباته على عهده مع الله بأن يكون من أهل السلامة والاستقامة والتقوى. إن عشرات الألوف من المسلمين يقفون بين يدي الله -عَزَّ وَجَلَّ- في عرفة، في البقعة المباركة التي وقف بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وصفوة خلق الله من أصحابه الأكرمين والتابعين لهم بإحسان. وهذه الألوف التي لا تحصى، ترفع أصواتها بالدعاء إلى الله الرحمن الرحيم معلنة أنها أجابت دعوته، وأنها تعاهده -عَزَّ وَجَلَّ- على أن تتوخى رضاه في أقوالها وأفعالها. ولن تكتفي هذه الجموع العظمى بهذا العهد العظيم مع الله،

بل إنها بعد الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة تدفع من مزدلفة إلى منى قبل أن تطلع الشمس، وفي منى تعلن مقاطعتها للشيطان، وترمز لهذه المقاطعة برميه عند الجمرة الكبرى، ثم عند الجمرة الوسطى، وجمرة العقبة في أيام التشريق، وهي الأيام الثلاثة التي بعد يوم النحر. هذه المقاطعة الرمزية للشيطان في كل ما ينتظر أن يسول به للمسلم في حياته من شر أو إثم، يقوم بها الحجاج بعد ذلك العهد الذي قطعوه لربهم كلما هتفوا له: "لبيك اللهم لبيك"، فتخرج نفوسهم نقية طاهرة منيبة إلى الله، مستريحة من أوزار الماضي، ومستقبلة حياة جديدة صالحة، وأياماً سعيدة هنيئة. هذا هو الحج المبرور؛ لأنه يرجع بالمسلم إلى الله، ويرجع المسلم إلى سعادته التي كفلها له الإسلام، ودله على طريقها، وضمن له الجنة إذا التزم هذا الطريق فلم يخرج عنه. يا حجاج بيت الله الحرام إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد هيأ لكم الفرصة الثمينة لتجددوا أنفسكم، وترجعوا إلى ربكم، وتكونوا من خيرة أبناء بلادكم وأمتكم، فتسعدوا في الدنيا، وتكونوا من أهل الجنة في الآخرة. وسبيل ذلك: أن تكونوا من أهل الحج المبرور، ولا يكون حجكم مبروراً إلا بالتوبة الصادقة، ومقاطعة الشيطان إلى الأبد، وفي كل شيء. نسال الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يتم عليكم هذه النعمة، وأن يجعلكم من عباده الصالحين. والسلام عليكم ورحمة الله.

جددوا أنفسكم في هذا العيد كما جددتم ثيابكم

جددوا أنفسكم في هذا العيد كما جددتم ثيابكم (¬1) بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها المسلمون! في مثل هذا اليوم المبارك من حجة الوداع خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسلمين الأولين، وكانوا بشهادة الله لهم خير أمة أخرجت للناس، فأعلن فيهم بدء حياة جديدة، يتناسون فيها ما كان بينهم من إحن وشحناء، وترات وبغضاء، وتعامل بما لا يرضي الله، واختلاف بالباطل على الأموال، وتعامل بالربا، وخروج عن سنن الإسلام إلى سنن الجاهلية. وبذلك جدد فيهم الأخوة والمحبة، والتعاون على الخير، والتعامل بشرع الله وأخلاق الإسلام، وجعل ذلك نظاما لأمته جميعاً، من حضر منهم تلك الخطبة النبوية العظيمة، ومن غاب عنها. وقد فعل ذلك بأمر من الله، ولذلك أشهد الله على ما فعل، وأمر الذين شهدوا خطبته وسمعوا مقالته أن يبلغ الشاهد الغائب. ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الأول -المجلد الخاص والعشرون، غزة المحرم 1373 هـ - سبتمبر أيلول - 1953 م. حديث أذيع من دار الإذاعة المصرية.

وإذا كنا نحن -أيها المسلمون- ممن غاب عن تلك الأوامر والإرشادات المحمدية، فقد أبلغنا ذلك الرواة الثقات العدول. أيها المسلمون! إن أمل نبيكم فيكم لعظيم، وإنكم أمة مباركة، أولها خير وآخرها، ولذلك قال- صلى الله عليه وسلم - في خطبته التي خطبها في حجة الوداع: "ربَّ مبلغ أوعى من سامع". وها أنتم هؤلاء ممن بلغتهم دعوة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تجددوا أنفسكم في هذا العيد المبارك كما جددتم ثيابكم، فاجعلوا نفوسكم نقية طاهرة، كما جعلتم ثيابكم وبيوتكم طاهرة نقية، كونوا من أمة نبيكم المباركة؛ لتكونوا من أهل الخير كما كان سلفكم الأول من أهل الخير، وكونوا من أهل الوعي لهذا الإرشاد العظيم؛ لتسعدوا به، ولتكونوا ممن قال فيهم - صلوات الله وسلامه عليه -: "رب مبلغ أوعى من سامع". أيها المسلمون! إن هذا العيد يفرح فيه المسلمون بما كتب الله لإخوانهم حجاج بيت الله الحرام من تجديد في حياتهم بما خلعوا عنهم من سيئات الماضي وآثامه، وبما عاهدوا الله عليه عندما هتفوا له: "لبيك اللهم لبيك" بأن يكونوا من أهل مرضاته. فهذا العيد هو عيد الفرح بأن هذا الجمع الأعظم من المسلمين الذين حجوا بيت الله الحرام قد طهروا نفوسهم وقلوبهم من درن الآثام، وصاروا من صالحي أمة محمد - عليه الصلاة والسلام -، وإذا كان هذا مما يفرحنا، ونعيِّد لأجله، فلماذا لا نشاركهم في هذا العيد الذي نعقده مع الله -عَزَّ وَجَلَّ- بأن نكون نحن أيضاً من أهل الخير، وأن نتعامل فيما بيننا بما يرضيه، وأن نتعاون على البر والتقوى؟.

أيها المسلمون! عاهدوا ربكم على ذلك، وجددوا حياتكم؛ لتلقوا الله وأنتم من أهل السعادة، وإذا عاد إليكم حجاج بيت الله الحرام، فراقبوهم، وصاحبوهم، وكلما هفا أحد منهم هفوة تخالف ما عاهد الله عليه عندما نادى ربه قائلاً: "لبيك اللهم لبيك"، فذكروه بعهده مع الله، وتعاونوا على ما يرضي الله؛ لتكونوا بعد اليوم أمة صالحة سعيدة، تعيش الحق وللحق، ويما يرضي الحق، جلت عظمته، وعز سلطانه. أيها الأغنياء من المسلمين! إن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي في هذا العيد المبارك بكبشين سمينين عظيمين، فإذا صلى وخطب الناس، أُتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه، فذبحه، ثم يقول: "اللهم إن هذا عن أمتي جميعاً؛ ممن شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ"، ثم يؤتى بالكبش الآخر، فيذبحه ويقول: "هذا عن محمد وآل محمد"، فيطعمهما جميعاً للمساكين، ويأكل هو وأهله منهما. فالنبي- صلى الله عليه وسلم - كان يعيش لأمته، ويحمل عن أمته. فيا من أغناهم الله! اشكروا نعمة الله عليكم؛ بأن تعيشوا أيضاً لأمتكم، وتحملوا عن أمتكم، وإن الزمان قد استدار، وإن أمتكم قد عزمت بحول الله وحسن توفيقه على أن تبدأ حياة جديدة يدعمها كل فرد منا بما يستطيعه من الناحية التي هو فيها، وبالموهبة التي وهبها الله له من مال أو علم أو صناعة، أو غير ذلك من نعم الله عليه. فكل فرد من أفراد الأمة مدعو إلى بذل ما يستطيعه، وما يتيسر له من تضحية؛ ليتمتع هو الآخر من مجموع تضحيات.

وعيد الأضحى رمز إسلامي قديم لمعنى التضحية، ولما يجب على المسلم من بذل في دائرة مقدوره، وبمجموع ذلك يكون التعاون، وإن الحياة بهذا التعاون وهذه المحبة تكون جميلة وسعيدة، وفي أيدينا أن نكون من أهل السعادة -إن شاء الله-، وهذا العيد المبارك يذكرنا بهذا كله، أعاده الله عليكم بالهناء والسعادة، وتحقيق الأماني.

موقف الإسلام من حوادث مراكش ومعاهدة ليبيا

موقف الإسلام من حوادث مراكش ومعاهدة ليبيا (¬1) قال مندوب "الأهرام": أديت فريضة المغرب أمس مع فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر. وعقب الصلاة اتجه إلى الله رافعا يديه نحو السماء، داعياً أن ينصر الإسلام، ويحرر بلاد العرب من الاستعمار والمستعمرين، ويخلصها من الأذناب الموالين للأعداء. * أذناب الاستعمار شر خلق الله: ثم التفت فضيلته إليَّ وقال: إن شر ما تصاب به الأمم المستعمَرة: أن يجد أعداء البلاد من بنيها أتباعاً وأشياعاً وأذناباً يخونون ربهم ووطنهم، ويفقدون كرامتهم وإنسانيتهم، فيعملون في خدمة أولئك الأعداء على حساب البلاد التي نبتوا فوق أرضها، واستظلوا بسمائها، وشربوا ماءها، وهؤلاء هم شر خلق الله، وأبعدهم من رحمته ورضاه؛ لأنهم منافقون؛ يقابلون مواطنيهم بوجه وطني، ويقابلون أعداء البلاد بوجه استعماري، لا يثقون في أنفسهم، ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الأول -المجلد الخامس والعشرون- غرة المحرم 1373 هـ -سبتمبر أيلول- 1953 م.

ولا يؤمنون بوطنهم، ويدعون إلى الهزيمة والخيانة: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 10]. * حوادث مراكش: فسألته عن رأي الإسلام في الأحداث الجارية في مراكش، وما تمخضت عنه من خلع سلطانها الشرعي. فقال فضيلته: إن مراكش وبلاد المغرب الأقصى تعد من أعرق الدول الإسلامية في التاريخ، ولقد أخذت طريقها إلى مجدها ونهضتها من قديم، حتى ضرب عليها الاستعمار الفرنسي حمايته قبيل الحرب العالمية الأولى، وكاد لأهلها شراً، وأبى الوطنيون المسلمون أن يخضعوا لهذه الحماية التي يأباها الإسلام، وترفضها كرامة العروبة، فسقط في ميدان الجهاد كثيرون من أبنائها، وشرد المجاهدون وسجنوا، وسجل الاستعمار وثيقة حمايته للبلاد قسراً، وفرض عليها قيوداً، وما من يوم مر بتاريخ هذه البلاد إلا سجل فيه الاستعمار خزياً جديداً، واعتداء سافراً على حقوق الوطن والوطنيين في تونس ومراكش. ولما أعيتهم الحيل، لجؤوا إلى أحدث أساليب الاستعمار، فمزقوا وحدة أبنائهما المسلمين، وخلقوا منهم شيعاً يضرب بعضهم رقاب بعض لصالح الاستعمار نفسه. ووجد الخونة الذين يبيعون بلادهم بأبخس الأثمان للمحتلين، ويعينونه على خلع السلطان الشرعي للبلاد، ولا شك أن الإسلام يأبى الخضوع للمستعمرين، ويطالب بتقليم أظافر المعتدين.

* المعاهدة البريطانية في ليبيا: وسألت شيخ الأزهر عن رأيه في المعاهدة الإنجليزية التي عقدتها ليبيا أخيراً. فقال فضيلته: إن الاستعمار ملة واحدة، والذي يقرأ نصوص المعاهدة الليبية يدرك تماماً أهداف المستعمرين من تثبيت قدم الاحتلال في هذه المنطقة العربية. ولقد صدر بيان هيئة كبار العلماء، وحدد المسؤولية الإسلامية بشأن هذه المعاهدة، والأحداث الجارية في مراكش. * الدول تنحرف كالأفراد: ثم أضاف فضيلته قائلاً: إن الدول تنحرف أحياناً كما ينحرف الأفراد، وتعاقب على خيانة العهد وموالاة الأعداء، ومن نكد الدنيا، وفساد الطبائع، أن يجد أعداء الإسلام من أرباب المنافع الشخصية في البلاد قوماً يودونهم ويوالونهم، ويعملون لدعم قواعد احتلالهم لأوطانهم، وتحقيق أهدافهم الاستعمارية، ومعاونتهم في القضاء على الدين والدولة والأوطان، إما جرياً وراء نفع مادي، وإما خشية سوء العواقب. وذلك على الحالين مرض في القلب، وخيانة لله والرسول، ونفاق يأباه الشرع، وتمقته المروءة، ويرفضه القرآن الذي قال عنهم: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52]. * لا مودة لأعداء الله والوطن: واستطرد فضيلته فقال: لقد حرم الاسلام مودة أعداء الله ورسوله بالغةً ما بلغت صلتهم بالانسان، حتى لو كانوا آباء أو أبناء، أو أهلاً أو عشيرة،

فما بالك بأعداء لا تربطنا بهم إلا أسوأ صلة هي صلة الاستعمار والاضطهاد؟. والله - سبحانه وتعالى- يأمرنا بالاستعداد دائماً لمحاربتهم، ومقابلة قوتهم بالقوة، فيقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]. ويجرد أنصارهم من الإيمان، فيقول الله تعالى في قرآنه العظيم: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]. * وجوب التكتل لمواجهة الاستعمار: وقد أمر الله المسلمين في جميع بقاع الأرض بأن يتكتلوا، وأن يواجهوا أعداءهم صفاً واحداً، وأن يقلموا أظافر الخونة الذين يوالون أعداء الدين والوطن، وأن لا يضعفوا أمام أية عاطفة في سبيل جهادهم، فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]. * الإسلام ومعاهدة الأعداء: وقلت لفضيلة الشيخ الأكبر: إني أطلب رأياً في هذه المعاهدات التي تعقد بين هذه الدول الغادرة، والبلاد العربية المنكوبة، وهل هي نوع من ولاية الكافر على المؤمن؟ وما هو رأي الإسلام فيمن يتولى عقدها مع هؤلاء الأعداء خشيهَ بطشهم، أو قصد الحصول على أموالهم، في سبيل بيع حرية البلاد، ويفضلهم على بني جنسه وعروبته؟!.

فقال فضيلته: لقد أجاب القرآن الكريم إجابة حاسمة عن كل هذا في آية صريحة واضحة لا شبهة فيها ولا التباس، فقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)} [النساء: 139]. * قصيدة للأستاذ الأكبر: وختم الأستاذ الأكبر حديثه بأن أنشد قصيدته الجديدة التي صاغها لمناسبة الأحداث الجارية في مراكش وليبيا وتونس، وقد جاء فيها: لا تسامى كلما خضتَ غِمَاراً ... وإذا رُضْتَ جواداً لا يجارى هاتِ من عزمك ما ترقى به ... أمة هيضت جناحاً وفقارا إن يصح العزم من قوم ... فلا يلتقي شانِئُهُم إلا تَبارا ولقاء الموت في ذودك عن ... ساحه يكسب ذكراك فَخارا فأسال المغرب كيف امتلكوا ... بعد الاستعمار زرعاً وعَقاراً أبرموا العهد ولم يوفوا على ... أنهم لاقوا كراماً وخيارا ورعينا منهم الجارَولو ... أنصفونا حمدوا منا الجوارا لارعى الله عهوداً قد كست ... بلظى الضيم صِغاراً وكبارا وختم الأستاذ الأكبر حديثه قائلاً: "إنني أتمنى على الله أن أعيش حتى أشهد مصرع الاستعمار في كل البلاد الإسلامية والعربية". فقلت لفضيلته: حياك الله، وأحياك حتى تبلغ مناك، فهي مُنى جميع العرب والمسلمين.

إشاعات السوء وموقف الإسلام منها

إشاعات السوء وموقف الإسلام منها (¬1) إشاعات السوء عن شؤون الأمة وسير أعمالها، وأهداف إصلاحاتها، ومقاصد رجالها، لا تقل ضرراً في كيان الأمة وسلامة الوطن عن التجسس للعدو على دخائلها، ومواطن قوتها وضعفها. فكل ذلك خدمة للعدو، وموالاة له. وقد خاطب الله المسلمين بقوله: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} {الممتحنة: 1]. بل إن موالاة العدو -في حال عدوانه-، وترويج ما ينفعه في مضرة الإسلام وأهله تُخرج الموالين له عن تبعيتهم لأمتهم، وتلحقهم بأمة عدوهم. وفي ذلك يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]. * ترويج إشاعات السوء: ومن أشد ما يوالي به المنافقون من يكيد للأمة من أعدائها: ترويج إشاعات السوء، والإصغاء إليها، وقد ورد في ذلك قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60 - 61} ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الثاني -المجلد الخامس والعشرون- صفر 1373 هـ -أكتوبر تشرين الأول- 1953 م.

وكان مما كانوا يرجفون به: ما ذكره الله عنهم في قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]. ولهؤلاء المنافقين خلفاء في كل عصر من عصور الإسلام، وفي كل وطن من أوطانه، يخذلون الناس عن أئمتهم وولاة أمرهم، ويشيعون السوء عن برامجهم وخططهم، وهذا مرض في القلوب كما وصفه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وعلى من يصاب بهذا المرض أن يعالج نفسه قبل أن يعالج بأحكام الله. وفي هؤلاء أيضاً ورد قول الله سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83]؛ أي: أفشوه؛ حيث لا يكون من المصلحة العامة إذاعته وافشاؤه، وقد يكون ما يذيعونه كذباً ومضراً بالمصلحة، فيكون ذلك من الإثم المزدوج الذي طهر الله قلوب المؤمنين منه. واللائق بالمسلمين إذا سمعوا قالة السوء أن يكونوا كما أراد الله للمسلمين في قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)} [النور: 12]، إلى أن قال سبحانه: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 15 - 16]. ولما عاد المسلمون من غزوة أحد، كان فيهم من اختلفوا في الحكم على المنافقين والمرجفين، فقال فريق للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "اقتلهم "، وقال فريق: "لا تقتلهم"، فنزل في ذلك قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]، وفي ذلك ورد الحديث النبوي: "إنها طيبة -أي: المدينة- تنفي خبثها كما تنفي النار خبث الحديد"، وفي رواية: "خبث الفضة". وأول فتنة فىِ الإسلام، وهي الجرأة على خليفة رسول الله وصهره

سيدنا عثمان، كان منشؤها إشاعات السوء الكاذبة، وتضليل البسطاء وضعاف الأحلام، فجرّ ذلك على الأمة من الضرر ما لم تتوصل إلى مثله الدول المعادية بما لديها من جحافل وقوات حربية. وفي الليلة الأخيرة قبل نشوب حرب الجمل، توصل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفريقين إلى التفاهم على ما يرضي الله -عَزَّ وَجَلَّ- من إقامة الحدود الشرعية على من يثبت عليه أن له يداً في مصرع أمير المؤمنين عثمان، وبات أبناء كل فريق في معسكر الفريق الآخر بأنعم ليلة، وأسعدها، وأرضاها لله، فما كان من قتلة عثمان، ومن يتبعهم من قبائلهم إلا أن أنشبوا القتال في الصباح الباكر، وأشاعوا في كل معسكر من المعسكرين بأن المعسكر الثاني هو المهاجم له، على خلاف ما اتفقوا عليه بالأمس، وبذلك كانت الإشاعات بين الطرفين أفتكَ بهما، وأضرّ على الإسلام من أسلحة البغاة الفاتكة. أيها المسلمون! إن إشاعات السوء سلاح العدو، والذي يصغي إليها يمكن العدو من الفتك بالأمة والوطن، {وتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]. فاعملوا في ذلك بهداية الله -عَزَّ وَجَلَّ- وإرشاده حين يقول: {ولَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]. وعلى ولاة الأمر أن يتصرفوا فيمن يثبت عليهم ذلك وفقاً لحكم الله تعالى حين يقول لنبيه: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60 - 61]. إن الأمة تجتاز اليوم مرحلة من أدق مراحلها في تاريخ نضالها العنيف،

هي مرحلة تقرير المصير. وهذه المرحلة -بما لها من الخطر والأثر في مستقبل الأمة وحاضرها- تقتضي منا أن نتيقظ لكل ما يراد بنا، سواء من العدو الغاصب، أو من أعوانه، وأن نحذر دعاة الفتنة، والذين يعملون على إشاعتها بين طبقات الأمة، ولنعلم أن هؤلاء وأولئك يستهدفون غرضاً واحداً، ويعملون لغاية واحدة، هي: تمزيق الشمل، وتشتيت الجمع، وتفريق الكلمة، وإشاعة الكراهية بين الحاكم والمحكوم، وإلقاء العداوة بين المؤتمين والمأموم. وهم بهذا يعملون للفتنة ومن أجلها، فإذا ما تحققت غايتهم، فإن الفتنة لا تصيبهم وحدهم، ولا تصيب طائفة دون أخرى، وإنما هي تصيب الأمة بأسرها. وقد حذرنا الله تعالى منهم ومن فتنتهم، فقال- جل شأنه-: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25} , واتقاء الفتنة يكون بدفعها وإدحاضها، وإنزال العقوبة الرادعة على كل من يثبت عليه أنه كان سبباً فيها، أو في عنصر من عناصرها، ويرى علماء الشافعية أن تكون العقوبة هي (الإعدام) لكل من يثبت عليه أنه أحدث بين المسلمين فتنة. وأما علماء المالكية، فإنهم يتركون الحد على هذه الجريمة لاجتهاد الإمام؛ أي: الحاكم، ومن هنا نرى أنه لا سبيل إلى الهوادة أو المهادنة في إقامة الحد على هذه الجريمة النكراء، جريمة إحداث الفتنة بين الصفوف؛ مناصرة لعدو البلاد الأكبر، وهو المستعمر الغاصب. فلنتق الله في أمتنا ووطننا، وتقوى الله تدفع كل شيء، وتحول دون أي مكروه، والله يوفقنا، ويسدد خطانا إلى ما فيه النجح والرشاد. وإلى هنا كان الشيخ الأكبر قد أوفى على الغاية، وأصاب المحز، فأماط اللثام عن حكم الله في مثل هذه الطامة الكبرى، فشكرت لفضيلته، واستأذنت في نشره، فتفضل وأذن.

لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام

لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام (¬1) استعباد البشر للبشر قديم جداً، لا يعرف له التاريخ بداية؛ فقد رأيناه بجميع أنواعه في أقدم ما نعرفه عن الصين، وفي الهند كانوا يدينون بأن من لم يكن برهمياً، فهو مخلوق ليكون عبداً للبرهمي، ويسمونه: (سودرار). وكان الرقيق في النظام الفرعوني هو أداة العمل، وعلى كتاف الرقيق بنيت الأهرام، وكان الرق عريقاً في تاريخ الآشوريين والفرس، أما في بني إسرائيل، فقد أباحت التوراة الاسترقاق بطريق الشراء، أو سبياً في الحرب، بل أباحت التوراة للعبري أن يُستعبد إذا افتقر، فيبيع نفسه لغني، حتى يوفي له الثمن، أو يخدمه ست سنين، ثم يتحرر، وإذا سرق العبري ماشية وذبحها، أو أي شيء استهلكه، ولم يكن في يده ما يعوضه به عن سرقته، يباع السارق بسرقته، كما نصت على ذلك التوراة في: سفر الخروج، وأباحت التوراة للعبري أن يبيع بنته، فتكون أمةً للعبري الذي يشتريها. * الرق عند اليونان: وكان استعباد البشر للبشر مطلقاً وبكثرة في حضارة اليونان، وكان قرصانهم يتخطفون أبناء الأمم الأخرى في مختلف السواحل، ويبيعونهم في ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الثاني -المجلد الخامس والعشرون- غرة صفر 1373 هـ -أكتوبر تشرين الأول- 1953 م.

أسواق "أثينا"، وغيرها، ولما صارت لليونان مستعمرات في آسيا الصغرى، صارت لهم فيها أسواق للاتجار بالرقيق، حتى امتلأت بيوت الإغريق بالإماء والعبيد، يستعبدهم اليونان جميعا، لا فرق بين غني وفقير، ولم تؤثر في تاريخهم كلمة واحدة عن أي حكيم من حكمائهم باستنكار استعباد الإنسان، لأخيه الإنسان أو الترغيب في تحريره. وعند الرومان: أما الرومانيون، فإن النخاسين كانوا يتخذون الحروب الكثيرة مواسم لتجارتهم، فيصحبون الجيوش إلى أوطان الشعوب الأخرى؛ ليشتروا الأسرى والمغلوبين من صبيان وينات، ورجال ونساء بأبخس الأثمان، حتى لقد كان النخاس إذا كان غنياً يشتري ألف إنسان صفقة واحدة، عقب نصر كبير تعده الإنسانية خزياً، ويعده تاريخ الاستعمار الروماني عظمة ومجداً، وفي مدينة "رومية" العظمى كانت للرقيق سوق تعرض فيها هذه البضائع للمزاد العلني على رابية مرتفعة، فيكون الرقيق عرياناً من كل ما يستره، ذكراً كان أو أنثى، كبيراً أو حدثاً، ولمن شاء من الناس أن يدنو من هذا اللحم الحي المعروض للبيع، فيجسه بيده، ويقلبه كيف شاء، ولو لم يشتره في النهاية، والقانون الروماني لم يكن يعتبر الرقيق إنساناً له شخصية ذات حقوق على الإنسانية، بل يعتبره شيئاً من الأشياء كسائر السلع التي يباح الاتجار بها. * نظام كان معترفاً به: ولما جاءت المسيحية، كانت عبودية الإنسان شائعة في كل العالم. نقل الدكتور (جورج برست) أحد رجال الجامعة الأمريكية في بيروت، في المجلد الثاني من كتابه "قاموس الكتاب المقدس" (ص 60 - 61) طبع المطبعة

الأمريكية في بيروت سنّة 1901 م قول العالم (شاق): إن المسيحية لم تعترض على العبودية من وجهها السياسي، ولا من وجهها الاقتصادي، ولم تحرض المؤمنين على منابذة جيلهم في آدابهم من جهة العبودية، حتى ولا على المباحثة فيها، ولم تقل شيئاً ضد حقوق أصحاب العبيد، ولا حركت العبيد إلى طلب الاستقلال، ولا بحثت عن مضار العبودية، ولا عن قساوتها، ولم تأمر باطلاق العبيد حالاً. وبالإجمال: لم تغير النسبة الشرعية بين المولى والعبد بشيء، بل بعكس ذلك، فقد أثبتت حقوق كل من الفريقين وواجباتهما. هكذا كانت عبودية الإنسان في أمم الأرض عندما ظهر الإسلام. فهو نظام كان معترفاً به من كل الأمم، وأسواقه قائمة في كل مكان، وآثاره موجودة في بيوت الناس ومجتمعاتهم، وفي أنظمة الدول ومرافقها. ثلاث جهات: وأبرز مواقف الإسلام من الرق كان من ثلاث جهات: أولاً: أمر المسلمين بحسن معاملة من تحت أيديهم من الرقيق إلى أقصى ما يمكن أن تسمو إليه الفضائل الإنسانية. ثانياً: الترغيب في تحرير الرقيق إلى أقصى ما ينتظر من دين عالمي جاء ليعالج عيوب المجتمع بحسن توجيهه نحو الفضائل. ثالثاَّ: وضع قاعدة المعاملة بالمثل في الحروب الدولية فيما يتعلق بالأسرى ومبدأ الاسترقاق. وكلما وجد الإسلام دولة ترضى أن تتعامل معه بمبدأ ينطبق على أهدافه في تحرير الإنسانية من الرق، فإنه كان دائماً على استعداد للاتفاق معها على تحقيق هذه الأمنية بالفعل. إن النصوص الصحيحة المأثورة عن الدين الإسلامي في القرآن، وكتب

السنّة النبوية المشهورة بصحة رواتها، إذا أردنا أن نقتصر منها على المعاني الإنسانية الخاصة بالرقيق، فإنها وحدها تبلغ كتاباً، وإذا حاولنا أن ننقل الوقائع التاريخية عن عظماء المسلمين وأئمتهم، وأخبارهم في تطبيق هذه النصوص والمبادئ والأحكام بالعمل، لكان من ذلك مجلدات كئيرة. ويمكننا أن نعلن ونحن مطمئنون بصحة ما نقول: أنه من أول ابتلاء الإنسانية بنظام الرق، واستعباد البشر للبشر، إلى طروء الضعف على دول الإسلام في العصرين الأخيرين، لا تعرف الإنسانية حضارة، ولا ديانة، ولا فلسفة قاومت الرق، وحاولت التخفيف من أضراره، وتهذيبه بما يلائم الإنسانية كما فعل الإسلام وحده، دون غيره من أنظمة البشر ومذاهبهم وطوائفهم. * تحرير الرقاب: أما نص القرآن على ايجاب تحرير الرقيق، فنجده في سورة التوبة (الآية 60) التي فرض فيها الإسلام ضريبة على المسلمين لهذا الغرض، وهي الزكاة، فجعل من مصارفها تحرير الرقاب؛ (أي: تحرير المملوكين): {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. والرقيق الذي يطلب من مالكه أن يتعاقد معه على مبلغ من المال يدفعه له بسعيه وعمله ليتحرر من الرق، قد وردت (الآية 33) من سورة النور بأمر المسلم المالك للرقيق أن يجيب هذا الطلب، وذلك في قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]. وتحرير الرقيق قد جعله الإسلام فدية عن أمور كثيرة؛ كقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-

في (الآية الثالثة) من سورة المجادلة: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3}. وكقوله سبحانه في (الآية 89) من سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]. ومما أوصى الله به المسلمين في (الآية 36) من سورة النساء، قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36]. * النبي يوصي بالرقيق: أما الأحاديث النبوية في هذا الموضوع الإنساني، فكثيرة جداً لا يكاد يأتي عليها الحصر؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - ما برح يحدث أمم الأرض بها، ويحث القبائل والشعوب على العمل بها مدة ثلاث وعشرين سنة، منذ بعثه الله بالنبوة إلى أن اختاره للرفيق الأعلى. ونحن نورد هنا نماذج قليلة منها؛ لندل على سائرها مما يتسع له المقام. من ذلك: ما ورد في كتاب: الإيمان من "صحيح الإمام مسلم"، من حديث أبي ذر: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال في الرقيق: "هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كفلتموهم، فأعينوهم". وفي ذلك الكتاب من "صحيح مسلم" أيضاً، عن أبي هريرة: أن

النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "من لاءمكم من خدمكم، فأطعموه مما تأكلون، وأكسوه مما تلبسون -أو قال: تكتسون-، ومن لا يلائمكم، فبيعوه، ولا تعذبوا خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ-. * الاسترقاق الشرعي: ثم إن الاسترقاق الشرعي هو الذي يقع في حرب يراد بها إعلاء كلمة الحق، وأن يأذن بها الحاكم العام، وأن يعامل المسترق بالرفق والإحسان كما يعامل الابن والأخ. وقد أصدر أحمد باي تونس سنة 1262 هـ أمراً بتحرير المسترقين في المملكة التونسية، حيث إن غالب المالكين لا يعاملونهم بما أمر به الإسلام من الرفق وحسن المعاملة، ووافق الشيخ إبراهيم الرياحي رئيس الفتوى في تونس على ذلك. ونص الفقهاء على أن من أضر برقيق ضرراً بيناً يعتقه القاضي عليه، وقد قدمنا أن الرق ليس بواجب من واجبات الحرب، إنما أباحه الإسلام للحاكم العام إذا اقتضته مصلحة الحرب، فلو اتفقت الدول على أن لا استرقاق، فرغبة شارع الإسلام في الحرية تجيز للحاكم العام أن يتفق مع المحاربين هذا الاتفاق، ويبطل الاسترقاق من أصله.

الدعوة لتحديد النسل هدم لكيان الأمة، وجريمة في حقها

الدعوة لتحديد النسل هدم لكيان الأمة، وجريمة في حقها (¬1) قال مندوب "المصري" لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر: كان لا بد للقراء أن يقفوا على رأيكم في مشكلة تحديد النسل، وهي مشكلة الساعة، وحديث الناس في محافلهم ومجالسهم. فقال فضيلته: إن التفكير في تحديد النسل لأفراد الأمة كلها أمر لا يجيزه الدين بحال، ولا ترضاه الشريعة الإسلامية السمحة، وإلى جوار ذلك، فإنه عمل لا يمكن تحقيقه بقانون عام يطبق على جميع الأفراد. ومضى فضيلته يقول: وفيم هذا الهلع من كثرة النسل، ونحن في هذه الحياة قد تكفل المولى- جل شأنه- بأرزاقنا إذ يقول {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] [هود: 6]. ويقول- جل شأنه-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} {الإسراء: 31]. ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الثاني -المجلد الخامس والعشرون- غرة صفر 1373 هـ -أكتوبر تشرين الأول- 1953 م.

* النيل: ثم قال فضيلته: وهذا الكلام -أعني: الالتجاء إلى تحديد النسل- لا يقال في هذا البلد الذي وهبه الله النيل ليحيل صحراءه إلى نعيم، وأرضه إلى ثروات، وتساءل فضيلته قائلاً: هلا حاول الذين ينادون بتحديد النسل -قبل مناداتهم بهذه الدعوة- البحث عن وسيلة فعالة تحقق للبلاد الانتفاع بمياه النيل التي تذهب إلى البحر سدى أيام الفيضان؟ والانتفاع بهذه المياه لا شك يساعد على النهوض باقتصاديات البلاد وإنتاجها، ويساعد على قيام عديد من المشروعات النافعة الهامة. هلا فكروا في شيء من هذا وإبداء الآراء النافعة للنهوض بموارد البلاد. * مشكلة الأيدي العاملة: وماذا يمكن أن يجدي تحديد النسل على الجميع غير الضيق، ونقص الأيدي العاملة المنتجة؟ إننا نرى الرجال في الريف يفرحون بكثرة الأبناء؛ لأنهم يساعدونهم في أعمالهم الزراعية، ويضاعفون إنتاج آبائهم، فكيف إذن يحد نسل هؤلاء؟ ... إن لدينا مساحات واسعة يمكن تعميرها، والمشكلة مشكلة الأيدي العاملة، لا كثرتها. * تقسيم صوري: أما قلة الدخل وكثرته الذي تجعله الهيئة الصحية العالمية مقياساً لتقسيم الأمم إلى متأخرة ومتوسطة ومتقدمة، ففي نظري يكاد يكون تقسيماً صورياً لا غير، ذلك أننا إذا قسمنا متوسط الدخل في مصر، وهو 30 جنيهاً تقريباً للفرد في العام، بمتوسط دخل الطبقة الأولى، وهو مئتا جنيه في العام؛ كما هو الحال في أمريكا وبعض ممالك أوربا، فإننا نجد النسبة محفوظة؛ لأن الحالة

المعيشية في مصر أرخص جملة مرات من الحياة في أمريكا أو أوربا، والفرد الذي يعيش في مصر بثلاثين جنيهاً في العام لا يستطيع أن يعيش بمئتين أو ثلاث مئة في أمريكا وأوربا. أفما كان من الواجب مراعاة رخص الحياة أو إغلائها في مثل هذا الإحصاء؟. * أصحاب الضرورة: وتحدث فضيلته عن أصحاب الضرورة، والحالات الخاصة، فقال: أما أصحاب الضرورات؛ كالمرضى -مثلاً-، فإن هذه الضرورة تقدر بقدرها. وفي غير حالات المرض من الزوجين لا يجوز تحديد النسل في حالات فردية خوفاً من الفقر، وقد كان العزل جائزاً في أول الإسلام، ثم نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عنه بقوله: "إن العزل هو الوأد الخفي". وذهب ابن حزم إلى أن العزل قد نسخ بهذا الحديث الشريف، ولا يباح إلا لضرورة المرض. * الأمة الناهضة: وأكد فضيلته المعنى بقوله: ألسنا أمة ناهضة؟! ألسنا في حاجة إلى إعداد جيشنا إعداداً يتفق ومقتضيات العهد الجديد؟ وهذا لا يتأتى إلا عن طريق أبناء الأمة وإكثار عددهم. * هدم لكيان الأمة: وختم فضيلته الحديث بقوله: إن دعوة تحديد النسل هدم لكيان الأمة وجريمة في حقها.

رأي الإسلام في شروط من يعينون في الوظائف

رأي الإسلام في شروط من يعينون في الوظائف (¬1) جرى حديث لمندوب "المصري" مع فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر عن رأي الإسلام في شروط التوظف، والسن التي يجب توافرها فيمن يلي الوظائف في الإسلام، فأجاب فضيلته على ذلك بقوله: ولاية الأمور العامة في الإسلام يتوخى فيها شرطان أساسيان: أحدهما: الكفاية العلمية التي تناسب العمل العام الذي يراد ممن يتولاه أن يقوم بأعبائه. والآخر: العنصر الخلقي، ومناطه الإخلاص. ومهما تتبع الدارس الشروط والمؤهلات التي يطلبها الإسلام فيمن يلي الأمور العامة، ويصف بها ولاة الأمر المثاليين، وعمال الحكومة الصالحين، فإنه يجدها لا تخرج عن هذين الشرطين. وانظر ما وصف الله به أنبياءه الذين تولوا شؤون أممهم؛ كنبي الله يوسف - عليه السلام -؛ فقد جاء في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- على لسانه: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} {يوسف: 55]. ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الثالث -المجلد الخاص والعشرون- غرة ربيع الأول 1373 هـ - نوفمبر تشرين الثاني- 1953 م.

فذكر العلم، وفيه الإشارة إلى الكفاية العلمية، وذكر الحفظ، وهو يستلزم العنصر الخلقي المطلوب في مثل هذا العمل، وهو الأمانة والإخلاص. وقال الله -سبحانه وتعالى- مخاطباً داود: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، فذكر الحكم بين الناس بالحق، ولا يكون ذلك إلا بالعلم ومعرفة الأحكام، وشرط الانتهاء عن اتباع الهوى، وفي ذلك إشارة إلى العنصر الخلقي، ومناطه الإخلاص. وتاريخ الولاية في الإسلام يدور في نصوصه وتطبيقها في أصلح عهوده حول هذين الشرطين، من غير نظر إلى السن والقدم؛ لأن المطلوب في العمل: الكفاية للقيام به والإخلاص فيه، وهذه هي الأهلية لولاية العلم العام في الإسلام. وقد ورد في "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة". إن العلم واسع ومتشعب، ولا حدود له، والمطلوب منه في ولاية الأمور العامة: ما يحتاج إليه في حسن إدارتها، وتوخي المصلحة في شؤونها. ففي الأمور العسكرية والحربية يكون العلم المطلوب هو العلم العسكري، وفنون الحرب، وفي الأمور المالية: علوم الحساب، وتدبير المال، وفي الأمور الإدارية أو الهندسية أو الطبية أو القضائية: الإلمام الكافي بكل واحد منها لمن يتولاه بقدر ما يلزم للإحسان فيه. ومما يدل على أن المعرفة والإخلاص هما اللذان كان الإسلام يتوخاهما في تولية العمال دون السن أو القدم: ما ذكره التاريخ من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تم له فتح مكة -وهي يومئذ أعظم أمصار الإسلام، وفيها بيت الله، وهي وطن مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - اختاره للولاية عليها عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن

أمية، وكان عمره حين تولاها نيفاً وعشرين سنة، فأحسن الولاية عليها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقره أبو بكر عليها إلى أن مات يوم مات. وقد برهن طول مدة ولايته على كمال الكفاية الإدارية، والإخلاص لله. روى عبد الله بن يسار عن عمرو بن أبي عقرب: أنه سمع عتاب بن أسيد وهو مسند ظهره إلى بيت الله يقول: "والله! ما أصبت في عملي هذا الذي ولاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ثوبين معقدين كسوتهما مولاي كيسان!. ومن أمثلة ولاية اكفاء للعمل، وإن كانوا حديثي السن: تأمير النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد على جيش كان من جنوده أبو بكر وعمر وأمثالهما، لميزات توفرت لأسامة في ذلك العمل، وانتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، واختار المسلمون أبا بكر للخلافة عليهم، فأقر ولاية أسامة على ذلك الجيش، وأراد أن يستبقي عمر في المدينة؛ ليكون مستشاره ووزيره، فلم يأمر أسامة بالتخلي عن عمر، بل (استأذنه) في ذلك باعتبار أن أسامة هو الآمر على عمر، فلا يجوز -ولا للخليفة- التصرف في أمره إلابإذن آمره المباشر، وهي سنّة من سنن الإسلام الحكيمة في نظام الحكم سنها ولاة أمور المسلمين في صدر تاريخهم، ولم تتوصل إلى مثلها الدول العريقة في تقاليد الحكم إلا بعد دهر طويل. ومما يدل على التقدم بالكفاية دون السن والقدم: أن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب كان يُحضر عبد الله بن عباس، وهو شاب حديث السن في جملة كبار المهاجرين والأنصار، ويستشيره؛ لما بدا له من معرفته وإخلاصه. والكفاية المطلوبة لكل عمل هي التي فيها مصلحة الدولة والأمة في مدة العمل. قال القاضي أبو الحسن الماوردي في "الأحكام السلطانية": "إذا كان

أحد المرشحين للإمامة أعلم، والآخر أشجع، يراعى في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت، فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى؛ لانتشار الثغور، وظهور البغاة، كان الأشجع أحق، وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء، وظهور أهل البدع، كان الأعلم أحق". وقال في شروط تقليد الوزارة: "إنه يحتاج فيه إلى شرط زائد على شرط الإمامة، وهو أن يكون من أهل الكفاية فيما وكل إليه من أمر الحرب والخراج خبرة بهما، ومعرفة بتفصيلهما؛ فإنه مباشر لهما تارة، ومستنيب فيهما أخرى، فلا يصل إلى استنابة الكفاة إلا أن يكون منهم، كما لا يقدر على المباشرة إن قصر عنهم، وعلى هذا الشرط مدار الوزارة، وبه تنتظم السياسة". وقال في شرط ولاية كاتب الديوان: "المعتبر في صحة ولايته شرطان: العدالة، والكفاية، فأما العدالة، فلأنه مؤتمن على حق بيت المال والرعية، فاقتضى أن يكون في العدالة والأمانة على صفات المؤتمنين، وأما الكفاية، فلأنه مباشر لعمل يقتضي أن يكون في القيام به مستقلاً بكفاية المباشرين". وأنت ترى أن مدار الولاية في الإسلام على الكفاية الممثلة في معرفة ما يلزم للعمل الذي يراد تولية العامل عليه، والعنصر الخلقي، ومناطه الإخلاص، والغرض من ذلك: أن يكون العامل جامعاً للصفات التي تتحقق بها مصلحة الدولة والأمة في ذلك العمل بحسب ظروفه الزمانية والمكانية. ومن هنا يقال في تولية ولي الأمر أقاربه، فإن كانت ظروف العمل، والصفات التي يتحلى بها أقارب الإمام تقتضي توليتهم؛ لما يتوسم فيهم من الحرص على بقاء الدولة ونجاحها، والإخلاص في جلب المصالح لها، ودرء

المفاسد عنها، فتكون توليتهم من مقاصد الإسلام وسنته، واعتبر ذلك بجهاد مسلمة بن عبد الملك في خلافة أبيه صاخوته؛ فقد قام للإسلام بما لو حرمت الدولة من قيادته وولايته، لكان ذلك خسارة كبيرة على الإسلام، أما إذا كانت ظروف العمل، والصفات التي يتصف بها أقارب الإمام تنافي المصلحة في تعيينهم، فيكون من سنّة الإسلام اجتناب ذلك. ولما طُعن أمير المؤمنين عمر، وأراد أن يجعل الأمر شورى في الستة الذين سماهم، اقترح عليه بعض الصحابة أن يستخلف ابنه عبد الله -وإن ابنه عبد الله من أعلم الصحابة وأكملهم-، ومع ذلك، فإنه عمر رأى الخير في الطريقة التي رسمها، وأبى أن يستخلف ابنه؛ لأنه كان يتوخى مصلحة الكيان الإسلامي على ما يحب أن يلقى الله عليه. إن سنن الإسلام في تولية العمال قائمة -كما ذكرنا- على عنصري: المعرفة، والإخلاص، ومدار ذلك: على ما تتحقق فيه مصلحة الدولة والأمة، وقد كانت الدولة الإسلامية والأمة الإسلامية في خير إلى أن خرج الأنانيون من الحكام عن هذه السنن، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

نداء الأستاذ الأكبر إلى الطلاب بمناسبة افتتاح العام الدراسي بالأزهر

نداء الأستاذ الأكبر إلى الطلاب بمناسبة افتتاح العام الدراسي بالأزهر (¬1) في يوم السبت 22 صفر بدأت الدراسة في الأزهر، ومعاهده، وكلياته، وقد وجه يومئذ صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر السيد محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر هذا النداء: أبنائي طلاب الأزهر والمعاهد الدينية سلام الله عليكم ورحمته. أما بعد: فإنكم اليوم تستقبلون عاماً جديداً من حياتكم الدراسية الميمونة، وإنه ليطيب لي ولأساتذتكم أن نتلقاكم بالابتهاج والترحيب، وأن نؤازركم فيما تبغون من خير، وتنشدون من آمال، وأن أبذل لكم النصح، راجياً لكم التوفيق والسداد. أبنائي! إنكم تعدون لغاية نبيلة، ومقصد عظيم، يتقاضاكم أن تتزودوا من العلم، وأن تتحلوا بأحاسن الأخلاق، وتتجملوا بآداب الإسلام، فارصدوا لذلك أوقاتكم، وقفوا له جهودكم، واصرفوا فيه مواهبكم مخلصين صادقين. ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الثالث -المجلد الخامس والعشرون- غرة ربيع الأول 1373 هـ -نوفمبر تشرين الثاني- 1953 م.

فبإخلاصكم ومثابرتكم تبلغون آمالكم، وتبنون مجدكم، ومجد الأمة التي تحوطكم بقلويها، وتعلق عليكم آمالها؛ فإن العلم أهدى سبيل إلى المجد، وأقوى دعامة لحضارة الأمم ورقيها. وقد نهضت الأمة إلى المجد، واطرحت حياة البطالة واللهو، فاستشعروا الواجب عليكم لدينكم ولأمتكم، وكونوا في طليعة العاملين، وفقكم الله، وعصمكم الله من بواعث الشر، ونفعكم بالعلم ونفع بكم ... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مولد رسول مولد رسالة

مولد رسول مولد رسالة (¬1) يحتفل المسلمون الآن بمولد خير الخلق، المبعوث بالهدى ودين الحق. إنه مولد الإنسان الكامل، الذي ولدت بمولده رسالة الإنسانية الكاملة. والإنسان الكامل الذي نحتفل بذكرى مولده، قد تمكن -في ثلاث وعشرين سنّة هلالية قضاها في حياته النبوية على الأرض- من أن يقدم للتاريخ أنموذجاً للأمة المثالية يعرضه على الأجيال منذ نحو أربعة عشر قرناً؛ لتقوم حجة الله على الناس فيما ينبغي لهم أن يأخذوا به، وما ينبغي لهم أن يتحرجوا منه، فيكونوا هم أيضاً صورة أخرى من صور الأمة الكاملة التي صنعها الله بيدي حامل أكمل رسالاته، فإن فعلوا، كانوا من أهل الهدى ودين الحق، وفتح الله لهم كنوز السعادة، ينعمون فيها بنعمة الطمأنينة والرضا إلى أن يلقوا الله راضياً عنهم، وهم راضون عنه. إن هذا المولود الكامل - صلوات الله وسلامه عليه - لم يكن في زمن مضى، ولا في زماننا هذا بحاجة من الإنسانية إلى تخليد ذكراه؛ فإن الله قد رفع له ذكره منذ شرح صدره للهدى والحق، وقرن اسمه إلى اسمه -عَزَّ وَجَلَّ- في شهادة الملايين له آناء الليل وأطراف النهار؛ بأنه أدى رسالة الله كاملة، واعترفت ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الرابع -المجلد الخامس والعشرون- غرة ربيع الثاني 1373 هـ -ديسمبر كانون الأول- 1952 م.

له الأمم -على اختلاف العصور- بأنه صنع من أمته أمة لا يعرف تاريخ الإنسانية أمة بلغت شأوها في فضائلها، وأقدار ساداتها وعظمة عظمائها. إن هذا المولود العظيم - صلوات الله وسلامه عليه - ليس في حاجة إلى إحياء ذكراه وتخليدها؛ فإن الدهر يفنى ولا تفنى ذكراه الطيبة الخالدة، ولكننا نحن- معاشر المسلمين المنتسبين إليه، المغتبطين بأننا من أهل الإجابة لدعوته- فىِ أشد الحاجة لأن يذكر بعضنا بعضا بأن سعادتنا وهناءنا، وكرامتنا وقوتنا، وصدق انتسابنا إلى صاحب هذه الذكرى، كل ذلك موقوف على أن نعود إلى الأخذ برسالته وأنظمتها: في أنفسنا، وييوتنا، وأسواقنا، ومجتمعاتنا، ومحاكمنا ودور حكمنا، في كل ما اشتملت عليه هذه الرسالة الكاملة من أغراض ومبادئ وأخلاق، وأحكام ومقاصد. علينا أن نحتفل اليوم بإحياء ذكرى (رسالة الإسلام) في عمومها وشمولها. وأول المظاهر فىِ إحياء هذه الذكرى: أن نتخذ الأسباب للعمل بها، وأول العمل بها أن يعمل بها كل مسلم في ذات نفسه، وفيما بسط الله عليه سلطان مسؤوليته وولايته من أهل وولد، أو أمة وبلد. إن الرسالة التي بعث الله بها صاحب هذه الذكرى - سلام الله ورحمته عليه - تنحصر في كلمتين اثنتين هما: (الحق)، و (الخير)، وإن وراء هاتين الكلمتين من مدلولات المعاني والأماني ما لا آخر له، ومجموع ذلك هو الإسلام الذي بعث الله به صاحب هذه الذكرى - صلى الله عليه وسلم -، ولا نعرف أحداً يخالف الحق والضرِ، أو يمتعض منهما، ويعارض في إقامتهما وظهورهما، إلا أن يكون مبطلاً، أو شريراً. ولذلك كانت رسالة الإسلام عامة إلى جميع الأمم في كل زمان ومكان.

وجدير بكل من يحب الحق والخير أن يتدبر رسالة الإسلام، وما اشتملت عليه منهما؛ ليعمل بما انطوت عليه من حق وخير بقدر ما يرى فيها من مواتاة الحق والخير، وأن يصلي ويسلم عند ذلك على صاحب هذه الرسالة؛ لأنها رسالة الإنسانية الكاملة، والإنسان -من حيث هو إنسان- جدير به أن يؤمن بها، وأن يكون من أوليائها، وأن يحيا عليها إلى أن يموت عليها. أيها المسلمون! إذا كان الإنسان -من حيث هو إنسان- جديراً به أن يتدبر الرسالة التي ولدت بمولد هذا الرسول الكريم، وأن يعمل بها، وأن يصلي ويسلم من أعماق قلبه على المختار من الله لحملها، والدعوة إليها، وطبع أمم الأرض بطابعها، فأنتم أجدر الناس بأن تعاهدوا الله في هذه الذكرى المباركة بأن تجعلوا تدبر رسالة الإسلام أعظم أعمالكم، وأن تؤمنوا بكل ما انطوت عليه من حق وخير، وأن تعيدوا إليها جمالها بما يراه الناس من ذلك في أعمالكم. وهذا العهد أوفق العهود لذلك، ولاسيما في ذكرى مولد خير الخلق، المبعوث من الله بالهدى والحق، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه، وكل من عمل برسالته. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ليس للمرأة شرعا أن تمارس السياسة لأن درء المفاسد المترتبة على ذلك مقدم على ما فيه من مصالح

ليس للمرأة شرعاً أن تمارس السياسة لأن درء المفاسد المترتبة على ذلك مقدم على ما فيه من مصالح (¬1) قال مندوب "الأهرام": كان فضيلة الأستاذ الأكبر أمس عاكفاً على دراسة طائفة من المراجع الفقهية التي تحدثت في استفاضة وإبانة عن حقيقة موقف المرأة في نظر الشريعة الإسلامية، وقد ذكر لي فضيلته، أنه سوف يضع مذكرة مدعمة بالأدلة والبراهين القاطعة التي لا تدع مجالاً لقائل بأن للمرأة أن تمارس شأناً من شؤون السياسة العامة، وسوف يفرغ من هذا البحث في خلال أيام قليلة. * الإسلام دين الفطرة: ومضى الأستاذ الأكبر فقال: لست أريد بهذا البحث أن أدخل في جدل حول موقف المرأة نفسها، ولكني ساتحدث عن حكم الشريعة الإسلامية بوجه عام. ومن الحقائق الدائرة على الألسنة، المقررة بين علماء الإسلام: أن الإسلام دين الفطرة، وكان ذلك من أسباب سرعة انتشاره، واستمرار حيويته، وازدياد الإقبال عليه في كل العصور، ولو أتيح له أن يُعرف كما هو، لكان ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الرابع -المجلد الخاص والعشرون- غرة ربيع الثاني 1373 هـ - ديسمبر كانون الأول- 1952 م.

هو نظام الإنسانية كلها. ومن مظاهر كون الإسلام دين الفطرة: أنك مهما استقصيت أوامره، لا تجده يأمر إلا بما فيه مصلحة عامة، ومهما أحصيت نواهيه، لا تجده ينهى إلا عما فيه مفسدة، والإسلام يترك غير المسلمين يتحاكمون إلى أهل ملتهم، وإذا تحاكموا لدى القاضي المسلم، حكم بينهم، أو بينهم وبين المسلمين بالعدل؛ فإن العدل تابع للتحاكم، لا للإسلام، وذلك شأن دين الفطرة. وقد توصل علماء الإسلام إلى أن يستخرجوا من مجموع نصوص الشريعة وأحكامها قواعد عامة؛ كاستخراجهم قاعدة: الضرر يزال، من مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار"، ويتفرع على ذلك أحكام لا تحصى في الفقه والقضاء. ثم قال: إن القواعد شأنها أن تؤخذ من موارد متعددة في الشريعة، ولهذا كانت في نفسها قطعية، وإنما الظن القوي في تطبيقها، وذلك كاف في حق المجتهد. وقد يرى واضع القانون الضرر الصغير في الواقع، فيمنعه، ويبيحه الشارع؛ لأنه وقاية من ضرر كبير، ومن هنا نشأت قاعدة: "ارتكاب أخف الضررين لما، ومن أصولها قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا] [الكهف: 79]؛ فإن عيب السفينة ضرر، لكنه أخف من أخذها غصباً. وينظر بعضهم إلى مصلحة تظهر من شيء، ولا تقع أنظارهم على المفاسد التي تنجم عنه، فيظهر لهم أنه أحكم من منعه؛ نظراً إلى مفاسده، ومن هنا نشأت في الشريعة قاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" ومن ذلك ما يدعيه القائلون بإعطاء المرأة حقوق الرجل السياسية؛ فإنهم نظروا

إلى ما في المرأة من مزايا، وغفلوا أو تغافلوا عما يترتب على ذلك من مضار تشاهد في كل مكان، فدفعُ المضار مقدم على ما يذكرون من المزايا. ثم تحدث الأستاذ الأكبر مبيناً ما في الشريعة الإسلامية من النصوص والبراهين المؤيدة لهذا، فقال: من قواعد التشريع الإسلامي قاعدة: "العادة محكمة" أي: أنها تجعل حكما في إثبات الأحكام إذا لم يعارضها نص، وابتنى عليها قولهم: "الممتنع عادة كالممتنع حقيقة"، وقولهم: "المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً"، وقولهم: "التعيين بالعرف كالتعيين بالنص"، وقولهم: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان"؛ أي: أن الأحكام التي كانت مبنية على عرف طرأ عليه التغير، تتغير بتغير ذلك العرف، فتبنى دائماً على العرف الذي لا يخالفه نص. ثم قال: إن القواعد -كما قلنا- مأخوذة من النصوص، والنصوص لا تأتي إلا للمصلحة العامة، والمصلحة العامة تتمشى دائماً مع الفطرة الإنسانية وسعادتها، فإذا لم تجز الشريعة للمرأة أن تمارس حقاً من حقوق السياسة، فإنما قصدت بذلك الخير الشامل للمجتمع الإنساني؛ فإن وظيفة المرأة الأولى أن تكون أما، وأن تكون ربة بيت، وقد أبيح لها أن تمارس الوظائف التي تتمشى مع طبيعتها، فإذا هي أرادت أن تتعداها، فإنما تكون قد خرجت عن الطريق التي رسمت لها، والتي تتفق مع طبيعة تكوينها، وفي هذا مضرة بها، ومضرة بالمجتمع، وشر بالإنسانية جمعاء يجب أن نتكاتف على دفعه، والله الموفق.

طغيان الاستعمار وخطر الشيوعية ما نأخذ من نظم الغرب وما ندع

طغيان الاستعمار وخطر الشيوعية ما نأخذ من نظم الغرب وما ندع (¬1) قالت "جريدة القاهرة": استقبل حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر صحفياً ألمانياً يمثل صحفاً ثمانياً، وهو (أتوبونجراتش) الذي قدم إلى مصر، وسيسافر إلى سوريا؛ ليوافي صحفه بمشاهداته في الأقطار الإسلامية. وقد سأل الصحفي فضيلته عن رحلته في ألمانيا، فقال فضيلته: كانت هذه الرحلة في أيام الحرب الكبرى، وكنت مع الأسرى الإفريقيين أتردد عليهم، وأعود إلى برلين. وقد زرت ألمانيا مرتين: أولاهما استغرقت تسعة أشهر، والثانية سبعة أشهر. ثم سأل الصحفي الأستاذ الأكبر عن أهم مشكلة في نظر المسلمين. فقال فضيلته: إننا نعمل على التخلص من طغيان الاستعمار على حقوق الأوطان الإسلامية والعربية. ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الرابع -المجلد الخامس والعشرون- غرة ربيع الثاني 1373 هـ - دبسمبر كانون الأول- 1952 م.

وسأل: إذا كانت روسيا من الدول الاستعمارية، فما هو خطرها على العالم الإسلامي؟ فأجاب فضيلته: إن الشيوعية نظام يخالف الإسلام، والمبادئ الشيوعية يقف الإسلام في وجهها، ولن تروج عندنا، وللأزهر وعاظه في أنحاء القطر، ومهمتهم نشر الفضائل الإسلامية، ومقاومة التطرف في أي صورة من صوره، ولن تروج الشيوعية إلا عند أفراد لا يتخذون منها مذهباً أو عقيدة، وإنما يجعلونها مغنماً مالياً. سأل الصحفي الألماني عن رأي الإسلام والمسلمين في طرق الحياة الغربية عامة. فأجاب شيخ الأزهر: في نظم الغرب ما يوافق الإسلام. وهنالك نظم وتقاليد يجري عليها الغرب لا يقرها الإسلام. والذي يدعو إلى تقليد الغرب في كل شيء مغالط. ونحن نخالف هؤلاء الدعاة فيما يخالف تقاليدنا الإسلامية؛ مثل: إعطاء المرأة الحرية المطلقة. قال الصحفي: هل تقصد فضيلتكم أن تبقى المرأة على النظام القديم؟ فأجاب: أعني: أنها لا تختلط بالرجال الأجانب عنها. وسأل الصحفي الألماني: هل على المرأة أن تطيع زوجها؟ فأجاب: عليها الطاعة فيما هو الحق والمصلحة. وقص فضيلته معنى ما روي عن عمر بن الخطاب: كنا معاشر قريش نغلب نساءنا، فجئنا الأنصار وهم قوم تغلبهم نساؤهم، فأخذ نساؤنا بأدب الأنصار، وكلمت زوجتي، فراجعتني في القول، فأنكرت عليها، فقالت: نساء النبي يراجعنه في القول.

فنحن نريد زوجة تطيع فيما هو حق، ولها أن تراجع زوجها متى كان الحق في جانبها. فلما قال الصحفي: ومن يحكم بين الزوجين في الخلاف؟ أجابه الأستاذ الأكبر: المدار على خلق الزوج. وإذا كان الخلاف كبيراً، فالمرجع إلى القاضي؛ مثل: الخلافات المالية إذا عجز الأهل والأقارب عن حلها. وهل يبيح الإسلام أن تشكو المرأة زوجها؟ نعم، لها أن تذهب إلى القاضي. وانتقل الصحفي إلى أنه كان مع درية شفيق، وأنها تحتج على رأي الأستاذ الأكبر بالنسبة لتعدد الزوجات. وهنا ابتسم فضيلة الأستاذ الأكبر، وقال: تحتج على رأي الأسلام؟ ... و ... الإسلام أباح تعدد الزوجات، وليس للزوج أن يتعدى ما حددته الشريعة. لقد اشترطت الشريعة العدل والإنفاق، ورخصت للقادر أن يتزوج من أربع، وإذا خشي عدم القدرة على الإنفاق، كان عليه أن يقتصر على زوجة واحدة، والحكمة في تعدد الزوجات ظاهرة؛ لأن الزوجة قد تكون مريضة، وقد تكون عقيماً، والزوج يريد إنجاب الأولاد. وكثيراً ما ترضى الزوجة أن تظل مع زوجها، وتسمح له بالزواج من غيرها. والرجل ممنوع شرعاً من مباشرة غير زوجته، فإذا لم يبح الإسلام له الزواج، ربما ضاعت عفته. ولما قال الصحفي: إن التعدد يشاهد كثيراً بين أفراد الطبقة الفقيرة.

أجاب الأستاذ الأكبر؛ بأن الإسلام اشترط العدل في الإنفاق والمبيت ... {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] والعرب كانوا يكثرون من الزوجات، فحارب الأسلام هذا الإكثار، ونظمه، وحدده. واستفسر الصحفي عن معنى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34} , وهل يدل ذلك على أن طبقات الرجال أعلى من طبقات النساء؟ فقال فضيلة الشيخ: إن عقول الرجال أوسع من عقول النساء، وفي النساء من هن أرجح عقلاً. والقوامة للرجال من جهة المال والإنفاق على النساء، والزوجة ذات المال غير مسؤولة عن نفقتها، ولا نفقة أولادها، إلا إذا تبرعت بمساعدة الزوج والأولاد. ومهمتها في البيت مهمة عظيمة، والإسلام لا يمنعها من التعلم والتثقيف، على أن تباعد بينها وبين الاختلاط بالرجال الأجانب عنها. والإسلام يرعى صالح المرأة، ويحرص على كيان الأسرة لإنشاء المجتمع القوي في الحياة.

المعاهدات في الدول الإسلامية

المعاهدات في الدول الإسلامية (¬1) كتب مندوب "الأهرام" يقول: آثر الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر أن يستريح طيلة يوم أول أمس في منزله، وقد رأيت أن أقضي في صحبته بعض الوقت. وطاب له أن يطرق مع زائريه مختلف الأحاديث في عديد من الشؤون العامة الهامة. وقد رأيت أن أنتهز هذه الفرصة الطيبة؛ لأقف على رأي الإسلام حيال (المعاهدات) الدولية التي يبرمها الأقوياء مع الضعفاء، وحيال المعاملة التي يصح أن يعامل بها المسلمون ضيوفهم من (الأجانب) الذين يقيمون بين ظهرانينا، وقد تفضل فضيلته فاستهل حديثه بقوله: * العهود بين الدول: لا شك أن العهود بين الدول في أزمان السلم والحرب هي مناط الثقة في الحضارة الإنسانية، وعليها يتوقف الأمن الدولي العام، والاستقرار الاقتصادي، إذا قامت على أسس من العدل، والإخلاص في الوفاء. * الدس الخفي: غير أن مما لا ينكره أحد: أن أكبر العقول في كل فى دولة تتجه عند تدوين ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" الجزء الرابع -المجلد الخامس والعشرون- غرة ربيع الثاني 1373 هـ - ديسمبر كانون الأول- 1952 م.

المعاهدات إلى الدس الخفي؛ ليكون حجة في التأويل عند الحاجة إلى ادعاء ما لم يكن واضحاً منه في وقت التدوين. وإذا كانت المعاهدات والعقود الدولية بين قوي وضعيف، أو بين غالب ومن قضت عليه الظروف أن يكون مغلوباً، فقد لا يبالي القوي بأن يحتمل عناء التأويل. وإن الإنسانية لا تنسى في الحربين العالميتين تسمية الأقوياء للمعاهدات؛ بأنها (قصاصات ورق)، ونستطيع أن نضرب الأمثال على هذا النوع من المعاهدات، وفي طليعتها: صك الانتداب على فلسطين الذي تعهد فيه أصحابه تعهداً رسمياً صريحاً بعدم المساس بحقوق العرب، وقد رأيت ما انتهى إليه ذلك الصك من الظلم الصارخ على أصحاب البلاد الذين سلبت منهم أوطانهم وأملاكهم وحقوقهم سلباً، وقذف بهم في العراء تحت الأمطار والعواصف. * المعاهدة الملغاة: بل إن معاهدة (سنة 1936) التي فرضت على مصر تحت ضغط الاحتلال منصوص فيها على أنه لا يسمح للإنجليز بأن يكون لهم في منطقة القنال إلا عشرة آلاف جندي، وخلافاً لذلك التعهد ضاعفوا عدد تلك القوة إلى ثمانية أضعاف ما تعهدوا به ووقعوا عليه. * المثل العليا: واستطرد فضيلته فقال: إن المعاني الإنسانية العليا، ومدلولات الحق والعدل، هي آخر ما يخطر على البال عند الدول الحديثة عندما يجلسون إلى الموائد الخضراء ليكتبوا صيغ المعاهدات ونصوصها. أما الإسلام فقد كان في نصوصه، وتطبيقها العملي دلائلُ قائمة على أن المعاني الإنسانية لها شأن كبير في العهود التي

يعقدها المسلمون مع غيرهم في حالتي السلم والحرب. وأظهر ما تمتاز به هذه العهود إذا صدرت عن المسلمين أن تكون صريحة واضحة لا لبس فيها ولا إبهام، وكثيراً ما يراعى فيها المقابلة بالمثل، صرف النظر عن قوة أحد الطرفين وضعف الطرف الآخر. * الوفاء بالعهد: ويرى فقهاء المسلمين: أن المسلم إذا كان أسيراً في يد العدو، وأطلقوه بشرط أن يبعث إليهم مالاً، وإن عجز عن إحضار المال، عاد إليهم، لزمه الوفاء لهم؛ عملً بقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]، وقول نبيه - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون على شروطهم". وفي منح الأمان للعدو من المعاني الإنسانية في الشرع الإسلامي ما لا يوجد في أي تشريع آخر قديم أو حديث. ومن المعقول أن يمنح الحاكم الأعلى أماناً للأعداء جميعاً، ومن المعقول أيضاً أن يمنح قائد جيش أماناً للجيش المقابل له، ولكن مما لا يعرف إلا في التشريع الإسلامي أن يصدر عن جندي عادي في جيش إسلامي لجندي من جنود العدو، أو لبضعة جنود، أو لقافلة كاملة، ثم يصبح الجيش الإسلامي كله ملزماً بقبول هذا الأمان، والعمل به. إن هذا لا يعرف في تاريخ الأمم إلا عند المسلمين، وفي تشريعهم، وإلى هذا يشير الحديث النبوي: "ويسعى بذمتهم أدناهم"، وقد أمضى النبي - صلى الله عليه وسلم - تأمين أم هانئ بنت أبي طالب لرجل من الأعداء، وقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ "، وهذا الخبر في "صحيح البخاري". ومن عجائب التشريع الإسلامي، والمعاني الإنسانية العليا التي يرمي إليها: أن الجيش الإسلامي إذا كان محاصِراً لحصن، أو بلد، وتقدم له من

الحصن أو البلد من يتطوع بفتح الحصن في مقابل إعطائه الأمان، ثم بعد فتح الحصن اشتبه أمره، واختلط بغيره، كان على الجيش الإسلامي أن يمتنع عن قتل الجميع، والتعرض لحريتهم؛ لأن القاعدة الشرعية: أن المباح إذا اشتبه بالمحرم، وجب تغليب التحريم. وفي الحالات التي يترتب فيها على ذلك ضرر حربي عام: يؤخذ من أهل الحصن أي واحد بالقرعة، ويُعطى الأمان الذي كان موعوداً به ذلك الشخص المتطوع بفتح الحصن. وفي كل الأحوال ينبغي للمسلمين إذا وعدوا بوعد أن يفوا بوعدهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وفي مذهب المالكية: أن الوعد إذا كان مسبباً، ووقع السبب، وجب الوفاء به. أما إذا لم يكن مسبباً، فالوفاء به من مكارم الأخلاق. وإذا تبينت للجيش الاسلامي قرائن واضحة على أن العدو المعاهد يريد خيانة العهد، فلا يجوز للمسلمين المبادرة إلى نقض العهد السابق بينه وبينهم؛ اعتماداً على تلك القرائن مهما كانت قوية، بل ينبذون إليهم عهدهم علانية، وهذا منتهى النبل في آداب الحرب بين الأمم. * ما يجب على المسلمين نحو الأجانب: إن المخالفين للمسلمين ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: محاربين، ومعاهدين، وذميين. فالمحاربون: هم الذين حدثناك ببعض أحكام الإسلام المتعلقة بهم. والمعاهدون: تقوم عهودنا معهم على أنبل الأسس الإنسانية، وأقلها مراعاة قاعدة: المعاملة بالمثل. والذميون: ضمن لهم الإسلام أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. وواجب

على الحكومة الإسلامية حفظهم، ومنع الغير من أذاهم، واستنقاذ من أسر منهم. والبلاد التي فتحها المسلمون في زمن الصحابة كان في إمكان الفاتحين أن يلغوا الأنظمة الدينية التي وجدوها في البلاد، ولكنهم لم يتعرضوا لها، وأقروا رؤساء الأديان على ما كانوا عليه، بل أحسنوا معاملتهم أكثر مما كان يعاملهم به الحكام السابقون الذين كانوا من أهل دينهم، وأباحوا من الشعائر والطقوس والأحكام ما لا تبيحه الدول الأخرى غير الإسلامية حتى في زماننا هذا. والمنصفون من المؤرخين وغيرهم يعترفون بهذه الحقائق، ولاسيما عند المقارنة بين الأنظمة والتشريعات. وكلما كان المواطنون -على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم- أكثر إخلاصاً لأوطانهم ومواطنيهم كانت السعادة أشمل لهم جميعاً، وعاشوا مع مواطنيهم في تعاون وتراحم، وتبادل للحقوق على أحسن الوجوه وأسعدها. وإلى هنا رأيت أن الشيخ الأكبر قد أوفى على الغاية في وضوح، فاستأذنت فضيلته في نشر هذه الآراء الطيبة، فأذن مشكوراً مقدوراً.

كفانا قوتا من الكلام

كفانا قوتاً من الكلام (¬1) عندما أخذت طريقي لزيارة شيخ الأزهر الجديد -فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين-، ووصلت إلى حجرة مكتبه في داره، كان الشيخ الجليل قد انتهى من أداء فريضة الظهر، إلا أنه بقي جالساً على سجادة الصلاة، يقرأ في كتاب "دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة" وهنا سألت الأستاذ الأكبر: هل اعتاد القراءة عقب الصلاة؟ أجاب: إنني أقرأ يا بني في كل وقت، وأعيد ما أقرأ؛ لأنني أجد لذة وطلاوة في الإعادة. تماماً كما تسمع أنت قطعة موسيقية جديدة، فلا تتذوقها إلا بعد أن تستعيد سماعها مرات ومرات. * القراءة رياضة: ولما طلبت من الشيخ الوقور أن يحدثنا عن نوع الكتب التي يفضلها، أجاب بأنه يحب كتب الأدب القديمة والحديثة، ويعتبر كتاب ابن القيم، في الرد على المنطقيين أحسن كتب المنطق على الإطلاق، وعندما جاء ذكر بعض الكتب الحديثة، ابتسم في طيبة وهو يقول: هذه يُسأل عنها الشباب مثلكم .. ثم أطال الشيخ النظر إلى الكتاب الذي في يده ذاكراً أنه يعتبر القراءة رياضة فكرية لازمة، لا مجرد هواية، وهو يقرن هذه الرياضة الفكرية برياضة أخرى بدنية يمارسها، وهي المشي لمسافات طويلة. ¬

_ (¬1) مجلة "المصور" العدد 1459 تاريخ 26 - 9 - 1952 م - القاهرة.

* هذه مؤلفاتي: وعندما أردنا أن نحصل على المزيد من المعلومات حول حياة الشيخ العلمية، سألناه: هل يهوى الكتابة أيضاً؟ فأجاب باسماً: وهل هناك من يجيد القراءة ولا يكتب؟ ثم قام إلى رفوف الكتب ليتناول منها بعضاً قائلاً: هذه مؤلفاتي، هذا الكتاب رد على كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، وهذا نقد لكتاب طه حسين في الشعر الجاهلي"، وهذه "رسائل في الإصلاح"، وهذه مجاميع مجلة "السعادة" التي كنت أصدرها في تونس، وهذه مجلدات مجلةا الأزهر" التي رأست تحريرها سنوات، إنني كما ترى صحفي مثلكم. * رسالة رجل الدين: وقمنا إلى الصالون المتواضع -وكل شيء في دار الشيخ يتحدث عن البساطة والتواضع-، وإذا بالشيخ يسرع بغلق (الراديو) الذي كان يعلن عن إذاعة أغنية طائشة، والتفت إلينا شيخ الأزهر يقول: إن الناس يسمون المناداة بالإصلاح -من قبل رجال الدين-: رجعية وتعصباً، ويسمونها: حسماً وحزماً إذا ما أتت من رجال الحكم، ولذلك أرى أن رسالة رجل الدين تقتضيه أن ينبه الحكام إلى الشر، ويترك لهم مكافحته والقضاء عليه. * لن أذيع برنامجي عن الأزهر: وقلنا للأستاذ الأكبر: ما هو برنامجك الإصلاحي في الأزهر؟ فأجاب في بساطة: ليس لدي برنامج مدروس، إذ كنت لا أتوقع أبداً أن أكون يوماً شيخاً للأزهر، بعد أن قضيت عمرأ طويلاً أدرس علم السياسة الشرعية في كليتي الشريعة وأصول الدين، ثم أحلت على المعاش بعد عشرين عاماً في

هذا العمل، ولزمت بيتي. واليوم فإني ساعد برنامجاً للأزهر، ولكني لن أذيعه، فأنا لا أرضى لنفسي أبداً أن يخيب في أمل أو رجاء، أو أتهم بالكذب والخدل، إذا ما اعترضت مشروعاتي العقبات، ولم أستطع تنفيذها. إنني أفضل أن أترك أعمالي المنجزة تتحدث بدلاً من أن أذيع برامج مفصلة قد تتم، وقد لا أتمكن من إتمامها. * لست عجوزاً: وسكت الشيخ لحظة، ثم استطرد يقول: ولعلكم تنظرون إلي نظرتكم إلى رجل عجوز هرم، ولكن هذه الشيخوخة البادية هي نتيجة الكفاح السياسي، أما القلب والرأس، فما زالا فتيين. ولما حدثت الشيخ عن الوقود الذي تحتاج إليه الثورة الإصلاحية؟ ابتسم ابتسامة خفيفة وهو يقول: "أليس الحطب اليابس هو وقود النار، والعيدان الخضراء الطرية لا تستطيع أن تشعل النار وحدها أبداً ... لقد تخرجت وطنياً متطرفاً في مدارس الثورات، قبل أن أتخرج عالماً دينياً في جامع الزيتونة بتونس". وهنا حاولنا أن نحمل الشيخ على أن يتحدث فيما شاب مشيخة الأزهر من أخطاء قديمة، فأجاب: (لا حق لي في أن أنصب نفسي قاضيا على أعمال الناس، وإنما علي أن أعتبر من هذه الأخطاء). * الأفندية الثلاثة: ولما دعونا الأستاذ الأكبر أن يحدثنا عن ظروف اختياره للمنصب الديني الكبير، قال: "كنت أتأهب للنوم بعد العاشرة مساء، عندما جاءت الخادم

تنبئني أن (ثلاتة أفندية) جاؤوا لزيارتي، وفوجئت بهذا؛ لأن أحداً لا يزورني في مثل هذه الساعة، خصوصاً وأنا أعيش -مع زوجتي- وحيدين معتكفين، ولم يرزقنا الله بأولاد". وخرجت إلى الزائرين، فعرفت منهم: فضيلة الشيخ الباقوري وزير الأوقاف، الذي أعرفه معرفة وثيقة قديمة، فسارع يقول: لقد وقع الاختيار عليك لتكون شيخ الأزهر، وقد جئت مع زميلي -ثم قدمهما إلي-؛ لنبلغك هذا القرار، ولما حاولت الاعتذار بعدم استحقاقي للمنصب الخطير؛ لضعف صحتي، قال الشيخ الباقوري: "هذا أمر تجنيد، وفي هذا العهد المبارك تجند الكفاءات النزيهة لخدمة مصر" فأجبت: "وأنا لا أهرب من الجندية، وليوفقنا الله"، وودعني الوزراء الثلاثة الكرام، بعد أن ألقوا إلي بهذه المهمة الكبيرة ...

فقدان الحياء بين النساء هو السبب في أزمة الزواج

فقدان الحياء بين النساء هو السبب في أزمة الزواج (¬1) قال مندوب "الأهرام": قلت لفضيلة الأستاذ الأكبر: إن التطور المبارك الذي أقبلت عليه مصر منذ تم الانقلاب الأخير قد وجه الأنظار إلى كئير من أوضاعنا الاجتماعية، وما ينبغي أن يتناولها من إصلاح. وفي مقدمة ما يخطر على البال الآن من ذلك: حالة المرأة في خارج منزلها. وقد رأينا كثيرين من الرجال، بل ومن النساء يحبون أن يقفوا على الحدود التي عينها الشرع الإسلامي في ذلك؛ ليلتزموها، حتى تكون الأمة صالحة في كيانها العائلي، فيتم لها بذلك ما تنشده الدولة من الصلاح الاجتماعي. فهل لكم أن تتفضلوا ببيان حكم الشريعة الإسلامية في هذه الناحية الاجتماعية ذات الأثر والخطر؟ وقد أجاب فضيلته بقوله: إن صلاح الأسرة هو الأساس الذي يقوم عليه صلاح المجتمع، وإصلاح الأسرة يحتاج من قادة الرأي وحكماء الأمة إلى تفكير طويل، وإرشاد حكيم، سيتسع له الوقت في المستقبل القريب -إن شاء الله-. أما الآن، فإن أهل القابلية للخير من الرجال والنساء، يستطيعون أن يخطوا الخطوة الأولى ¬

_ (¬1) مجلة "الأهرام" - العدد 24089 تاريخ 27/ 10/ 1952 م.

بتعميم الحشمة، وإيثار الصيانة والستر، والحرص على كمال المظهر للمرأة المسلمة إذا كانت في خارج منزلها، أو مع غير ذي محرم. ومن نعم الله على مصر -وعلى سائر الأقطار الإسلامية أيضاً-، أن السواد الأعظم من الأمة، وهم سكان الريف، يكاد يكون ما اعتاده نساؤهم من لبس الثياب السابغة، والبعد عن الزينة والتبرج، وستر رؤوسهن بالخمار الوطني المألوف، هو الذي يطلبه الإسلام من نسائه. ولو أن نساء المدن والعواصم ظهرن في خارج منازلهن بالأثواب السابغة، وهي التي لا تكون مقطعة على قدر الجسم، ولا مزيداً عليها ما لا حاجة إليه مما يقصد به تزيينه، لكان ذلك أبعد لهن عن استهواء الأبصار، وتطلع الأشرار. روى الإمام ابن جرير الطبري في "تفسيره" (ج 1 ص 93) عن عائشة أم المؤمنين، قالت: (دخلت عليّ ابنةُ أخي لأمي عبدِ الله بن الطفيل مزينةُ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعرض، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن ابنة أخي جارية (أي: فتاة لم تتزوج)، فقال: "إذا عركت المرأة (أي: حاضت)، لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها، وإلا ما دون ذلك"، وقبض على ذراع نفسه، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى). وفي "سنن أبي داود" من حديث عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -: أن أختها أسماء دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "يا أسماء إذا بلغت المرأة الحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا"، وأشار إلى وجهه وكفيه. ومعنى هذا: أن المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تظهر لغير محارمها إلا

بمثل ما تكون عليه في صلاتها، هذا هو الدين. وإن أكثرية المسلمين والمسلمات يحبون -ولله الحمد- أن يعرفوا الدين؛ ليقوموا به، ويلتزموه، فيكونوا من الذين - رضي الله عنهم -، ورضوا عنه. لذلك فإن المرأة المسلمة لا ينبغي لها أن تظهر في خارج بيتها، ولا مع غير محرم لها إلا بثوب سابغ لا ينم عن شيء من أعضاء الجسم. وأن تتصور دائماً: أن الله يراها في جميع أحوالها، كما يراها وهي في صلاتها. ومما أمر الله به نساء المسلمين في سورة النور من كتابه الحكيم: أن لا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن. والزينة في كل ما يقصد به التجمل من ملبس وحلي أو كحل، أو ما إلى ذلك. إن في المسلمين خيراً كثيراً، وأمة محمد كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره، وكما فى خلت الأمة الآن في عهد جديد من إصلاح النفوس والقلوب والمعايش والأخلاق، فإن الذين يتوخون رضاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- من رجال المسلمين ونسائهم يستطيعون أن يبدؤوا عهداً جديدأ في التقرب من الشريعة الطاهرة في كل ما يستطيعونه من حياتهم البيتية والاجتماعية، وفي طليعتها: تعديل مظاهر النساء، والابتعاد بها عما يسخط الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وينافي آداب الإسلام. وكما أن للشر عدوى تنتقل من أهله إلى غيرهم، كذلك للخير عدوى تنتقل من أهله إلى غيرهم. ومتى بدأ أهل الخير من المسلمين والمسلمات بالتزام شريعتهم من هذه الناحية، فإن عدوى هذا الخير لا تلبث أن تسري منهم إلى سائر الناس، وأول ما سينتج عن ذلك من أثر طيب: إقبال الشباب على الزواج باحثين عن البيوت التي تغلب عليها الحشمة، والتي تتربى بناتها على آداب الدين؛ لأن هذا العنصر هو المطلوب الآن لتأسيس البيوت، وإنشاء

الأسر، وما الإعراض عن الزواج إلا بسبب ما يتوهمه طلاب الزواج من فقدان الحياء بين النساء؛ لما يشاهدونه بأعينهم في الشوارع والأسواق مما هو معروف للجميع. وإن الدين خير كله، ومن أعظم الخير في الدين: ما أرشد إليه النساء المسلمات من آداب يكسبهن كمالها جمالاً هو الذي يبحث عنه الرجل الكامل؛ ليقيم عليه دعائم البيت السعيد ... وهنا رأيت أن فضيلته قد أوفى على الغاية، وأماط اللثام عن حكم الشريعة الإسلامية فيما يجب أن تكون عليه المرأة خارج المنزل وفي الشوارع والأسواق العامة، في المجتمعات والحفلات. فاستأذنت فضيلته في نشر هذا الحديث فتفضل وأذن.

النفاق والملق والمداراة أمام الحكام

النفاق والملق والمداراة أمام الحكام (¬1) للفضائل حدود تنتهي عندها، فإذا تجاوز المرء بفضيلة من الفضائل الحدود التي تنتهي عندها خرج بها عن مدلولها، وأوشك أن ينزلق في مهاوي الرذيلة التي تناقضها. ومن هذه الفضائل (المداراة). وقد التبست على كثير من الناس، فاطلقوها على ما يصدر عنهم من أقوال أو أعمال هي أدخل في باب (المداهنة) وأشبه بها. والمداهنة ما شاعت في جماعة إلا تقلصت الكرامة من ديارهم، وكانت الاستكانة شعارهم، ومن ضاعت كرامتهم، وداخلت الاستكانة نفوسهم. جالت أيدي الطغاة في حقوقهم، وكان الموت أقرب إليهم من حبال أوردتهم. إن الناس خلقوا للاجتماع لا للعزلة، والتعاون لا لينفرد كل واحد بنفسه، وللإنسان عوارض نفسية من الرضا والغضب، والحب والبغض، والاستحسان والاستهجان. فلو أنه كاشف الناس بكل ما يعرض له من هذه الشؤون في كل وقت وعلى أي حال، لاختلَّ المجتمع، ولانقبضت الأيدي عن التعاون، فكان من آية الله في خلقه أن هيأ لهم أدب المداراة، ليتحاموا به ما يحدث التقاطع بينهم أو يدعوهم إلى التخاذل. ¬

_ (¬1) جريدة (الأهرام) - العدد 24185 تاريخ 31/ 1/ 1953.

والمداراة، يبتغى بها رضا الناس وتأليفهم في حدود ما ينبغي أن يكون. ولا ينافيها القضاء بالقسط ولا إلقاء النصيحة في رفق. ومن ذلك قول أبي حازم، من أعلام التابعين للخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، حين فى خل عليه ووعظه، فقال له: (إنما أنت سوق، فما نفق عندك حمل إليك من خير أو شر، فاختر أيهما شئت). وينبغي أن تكون مداراة العاقل لمن يرجو منه العود إلى الرشد، ويأنس من فطرته شيئاً من الطيب، فوق مداراته لمن شاب على لؤم الخلق وعوج العقل، حتى انقطع رجاؤه من أن يصير ذا خلق كريم أو عقل سليم. والمداراة خصلة كريمة يحكمها الأذكياء، ولا يتعدى حدودها الفضلاء، والحكيم يراعي في مقدراها وطريقتها ما ينبغي أن يكون. قال الإمام سحنون، في وصيته لابنه محمد (وسلّم على عدوك وداره، فإن رأس الإيمان بالله مداراة الناس). وفي سيرة القاضي يحيى بن أكثم، أنه كان يداعب خصمه وعدوه. وقد تبلغ المداراة إلى إطفاء العداوة وقلبها إلى صداقة، قال محمد بن أبي الفضل الهاشمي، قلت لأبي: لم تجلس إلى فلان وقد عرفت عداوته؟، قال: أخبي ناراً وأقدح وداً. أما المداهنة فهي إظهار الرضا بما يصدر من الظالم أو الفاسق من قول باطل أو عمل مكروه، وهي تضم تحت جناحها الكذب وإخلاف الوعد. أما الكذب فلأن المداهن يصف الرجل بغير ما يعرفه منه، ومن دخل إلى الكذب من باب، سهل عليه بعد ذلك أن يأتيه من سائر الأبواب. وأما إخلاف الوعد فلأن المداهن يقصد إلى إرضاء صاحبه في الحال، وليس من الصعب عليه -وقد مرن على الكذب- أن يخلف الوعد

ويختلق لإخلافه عذراً. والمداهنون يجعلون ألسنتهم طوع مرضاة القوي والوجيه، فيعجلون إلى قول ما يشتهي أن يقولوا، يمدحون ما يراه حسناً وإن لم يكن في الواقع حسناً، ويذمون ما يعدّه سيئاً، وإن لم يكن في الواقع سيئاً. أما الذين يعرفون ما في المداهنة من شر، ويحزنهم أن يظهر الشر على يد من في استطاعته الخير، فيربؤون بالسنتهم أن تساير أحداً في غير حق، ويؤثرون نصح القوي والوجيه على أن يزينوا له ما ليس بزين. إن العبور إلى النفع على جسر من المداهنة يحرم صاحبه من أفضل الأخلاق وأعلاها وهو الصدق، بعد أن يحرمه من أطيب لذة وهي ارتياح الضمير. وإذا كان في الناس من يحرص على أن يكون صديقاً للطوائف المتباينة، فإن الرجل الطيب منهم يأبى أن يلوث صدره بصداقة من يتملق الرجل الخبيث. قال رجل لعبد الله بن عمر بن الخطاب: إنا ندخل على أمرائنا، فنقول القول، فإذا خرجنا قلنا غيره، فأجابه عبد الله بن عمر: (كنا نعد ذلك نفاقاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يعد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه). ومن عظماء الرجال من يبغض المداهنة ولا يقبل من جليس مبالغة في مدح أو مسايرة. ومن المثل الكامل لهؤلاء العظماء عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، فإنا نقرأ في سيرته، أنه قال لجرير، الشاعر حين دخل عليه بقصيدة يهنئه فيها بالخلافة: اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقاً. وقال له رجل مرة: طاعتكم مفروضة، فقال له: كذبت، لا طاعة لنا عليكم إلا في طاعة الله.

وكتب طاهر بن الحسين في كتاب وصيته الذي بعث به إلى ابنه عبد الله بن طاهر: وليكن كرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيباً لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في ستر، وإعلامك بما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك لك. ولما ابتنى الخليفة عبد الرحمن الناصر، الأموي صرح (القبيبة) في قصر الزهراء، اتخذ لسطحه قراميد من ذهب وفضة، وجلس فيه أعيان الدولة، وكان مما قاله لهم مفتخراً: هل رأيتم أو سمعتم من فعل هذا قبلي؟ فقالوا: إنك الأوحد في شأنك كله. ثم تكلم القاضي المنذر بن سعيد، فوعظ الخليفة وعظأ بليغاً، وتلا عليه قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]. فأطرق الناصر ملياً، ثم أقبل على المنذر بن سعيد وقال له: جازاك الله يا قاضي عنا وعن نفسك خيراً، وعن الدين والمسلمين أجل جزاء، فالذي قلت هو الحق. وقام من مجلسه ونقض سقف (القبيبة) وأعاد قرمدها تراباً. والأجلاء من علماء الإسلام الذين كانوا يداخلون رجال السياسة فينعقد بينهم التئام أو صداقة، كانوا يأخذون بسنة المداراة، ولم يكونوا فيما قرأناه من سيرتهم، يتلطخون برجس المداهنة، ولو شئنا أن نضرب الأمثال على ذلك من التاريخ لامتلأت بفضائلهم المجلدات. ويحدثنا التاريخ أن بعض المنتمين إلى العلم من عبيد الدنيا، كانوا يتملقون أولي الأمر من المسلمين، وقد يفتونهم بغيو ما أنزل الله، ومنهم من يتملق الغاصبين ويرضى أن يكون جسراً يعبرون عليه إلى قضاء مآربهم التي يكيدون بها للإسلام والمسلمين.

وقد يسمي المنتمي للعلم من هؤلاء تملقه للظالمين أو المخالفين الغاصبين مداراة ليقضي بعض المآرب الشخصية، وربما زعم أنه يقضي بهذا التملق مصالح وطنية، والواقع أن اتصال العالم بالمخالفين الظالمين، وهو يستطيع أن لا يتصل بهم، وصمة في عرضه لا يغسلها ماء، وجناية على الدين خاصة والأمة عامة، أما أنه وصمة في عرض هذا العالم، فلما عرف عن الظالم أو الغاصب أنه لا يقبل بوجهه ولا يضع يده إلا في يد من اختبر سرائرهم ووثق من إخلاصهم، وأما أنه جناية على الدين، فلأن ذلك الاتصال الآخذ اسم الصداقة للغاصب خروج عن الدين الذي ينهي عن مودة أعدائه، وأما أنه جناية على الأمة عامة، فإن هذا المنتمي للعلم لا يتحامى أن يرضي المتغلبين المخالفين بالمساعدة على أعمال يفسدون بها على الأمة أمر دينهم أو دنياهم. إن واجبات أساتذة التربية ودعاة الإصلاح في هذا العهد، أن يعنوا بتطهير نفوس النشء وقلوب الشباب من هذا الخلق الذميم، خلق المداهنة، وينفوه من أرضنا وتكون أوطاننا ومدارسنا منابتها نشء يميزون المداهنة من المداراة، فيخاطبون الناس في أدب رقيق وشجاعة نبيلة، ويحترمون من لا يلوث أسماعهم بالملق ولا يكتمهم الحقائق متى اتسع المقام لأن يحدثهم بها في صراحة ووضوح. وسكت الشيخ الأكبر، وعاد بعد هنية يقول: أظن أنني قد أوضحت رأي الشريعة الإسلامية في هذا الخلق الذميم الذي يمشي به بعض الناس في هذا العصر، وما دروا أنهم يجنون على أنفسهم بآثاره، قبل أن يجنوا على غيرهم من الناس.

موقف الإسلام من الإلحاد والمذاهب الهدامة

موقف الإسلام من الإلحاد والمذاهب الهدامة (¬1) سأل مندوب مجلة الصداقة التي تظهر بالقاهرة فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر عن رأيه في موقف الإسلام من الإلحاد والمذاهب الهدامة فأجاب الأستاذ الأكبر قائلاً: إن من المذاهب التي تسيطر على بعض نفر من الناس الاتجاه إلى الإلحاد، وهو ريط الإنسانية بالطبيعة وأحداثها، دون الالتجاء إلى خالق مدبر لهذا العالم. والأزهر باعتباره مركزاً للثقافة الإسلامية، وهي ثقافة مستمدة من تعاليم الإسلام، يحارب الإلحاد في جميع صوره، ويحارب الملحدين أنّى وجدوا، لأن مثل هذا الاتجاه لو ساد جماعة من الجماعات، لتغير نظامها من استقرار إلى اضطراب، وأصبح أفرادها جميعاً ينشدون ما على وجه الأرض، ويتخاصمون ويتنابذون بالألقاب في سبيل الحصول عليه، ومثل هذه الخصومة لا تجعل هناك طمأنينة لهذه الجماعة، وتجعلها أقرب ما تكون إلى الهدم منها إلى البناء، وأميل إلى الحرب منها إلى السلام. ومن المذاهب والاتجاهات التي يجعلها الأزهر مناوئة للإسلام وتعاليمه، الشيوعية العالمية، فضلاً عن أنها تقوم على محاربة الأديان وتمكين النزعة ¬

_ (¬1) جريدة (الأسبوع) التونسية العدد 333 لعام 1953.

المادية وحدها في توجيه الناس، فإنها تدعو من جانب آخر إلى تقويض كثير من تعاليم الإسلام سواء أكانت في دائرة الأسرة أو في معاملة الأفراد بعضهم ببعض، أو في مجال الحرية الفردية. والإسلام إذا حارب النزعة المادية سواء أكان في الاتجاه الإلحادي أو في المذهب الشيوعي فإنه ينشد سعادة الأفراد وسعادة الجماعات والشعوب، كما يريد أن يجعل من الجزاء الأخروي جزاء له قيمته في نظر الناس يفوق الجزاء المادي. وإذا ساد اعتقاد الناس في الله وفي جزائه في الحياة الأخرى وفي عدله في هذا الجزاء، فإنهم لا شك مقتربون بعضهم إلى بعض، وبالتالي طارحون للمنازعات الشخصية الفردية حول الرغبات المادية، لأنهم سيجدون عوضاً أيما عوض في الجزاء الأخروي بدلاً عن هذا الجزاء الدنيوي المادي. وخصومة الإسلام لتعاليم الشيوعية في الأسرة والجماعة والمجال الحيوي للفرد، وهو ينشد في هذه الخصومة أيضاً تحقيق سعادة الأفراد والجماعات وتقديس أنواع المعاملات يين الأفراد بعضهم إلى بعض وتقدير الأنساب الإنسانية في الأسرة وروابط الزيجة فيها. والأزهر بعنايته بنشر الاسلام والثقافة الإسلامية، يبغي مكافحة سيطرة النزعة المادية والإلحادية، ويرغب رغبة كيدة في أن يكون للجانب الروحي مكانه في توجيه الإنسان، إذ الإنسان في نظر الاسلام ليس مادة جسمية فقط، وإنما هو روح قبل كل شيء يتصل بها هذا الجسم المادي. وقال المندوب: هل لي الآن بعد أن عرفت موقف الأزهر تجاه هذا الموضوع أن أعرف على سبيل الإجمال الوسيلة التي يتخذها الأزهر في مكافحة المذاهب الهامة؟

فأجاب فضيلته الأستاذ الأكبر: إن الأزهر كمركز للدراسات الإسلامية والعربية في العالم الإسلامي كله، ينتسب إليه أكثر من ثلاثة وعشرين ألفاً من الطلاب، سواء كانوا من مصر أو وافدين من البلاد الإسلامية الأخرى، ففي كل عام يتخرج عدد كبير منهم، يبقى في مصر بعضه، ويعود إلى وطنه البعض الآخر، وهؤلاء جميعاً متفاوتون في التوجيه، فمنهم من تخصص في مهنة التدريس، ومنهم من تخصص في الوعظ والإرشاد، ومنهم من تخصص في وظائف القضاء. وهؤلاء جميعاً أيضاً هم دعاة للفكر الإسلامي وللتعاليم الإسلامية، دعاة للترابط بين المسلمين بعضهم ببعض وتوجيههم وجهة واحدة، ودعاة أيضاً لمكافحة المذاهب المنحرفة الهدامة بين الجماعات والشعوب الإسلامية، وبحكم اختلاف المتخرجين في الأزهر في التوجيه والمهنة، ونيط ببعضهم تثقيف النشء وتوجيهه الوجهة الإسلامية وتعليمه اللغة العربية، ونيط بالبعض الآخر تثقيف عدا هؤلاء من أفراد الجماعة وبالأخص الجماهير، فالمدرسون منهم توكل إليهم مهمة التربية في المدارس والمعاهد، والمتخرجون في الوعظ والإرشاد يوكل إليهم تثقيف الجماهير في المساجد أو في المجتمعات العامة أو في الشوارع في الثقافة الإسلامية وتوجيههم نحو مبادئ الإسلام التي من أهمها تقريب الصلة بين العبد والله، والاعتقاد بتمايز الأفراد في الرزق والكسب، وبأن الدنيا وزخرفها ليسا كل شيء في الوجود ولكن هناك متعة أخرى وجزاء آخر هو ما يقع في الدار الآخر. والمصريون من المتخرجين في الأزهر، لا يقصر مجال نشاطهم على مصر، وإنما يذهبون لمعاونة إخوانهم ممن يتخرجون من الأزهر من البلدان

الأخرى في أوطانهم ويشتركون معهم سواء في مساعدة النشء أو في توجيه الجماهير والجماعات. فرسالة الأزهر ليست رسالة ثقافية دينية محلية وإنما هي مهمة عالمية إسلامية، والإسلام نفسه ليس ديناً روحياً للفرد وحده، وإنما هو دين للفرد والجماعة في أصغر صورها وهي الأسرة إلى أكبر هذه الصورة وهي الناس قاطبة. والأزهر كما يُعنى بمكافحة هذه المذاهب الهدامة في مصر وفي البلاد الإسلامية الأخرى، يُعنى بنشء آخر له أهمية، وهو توطيد حسن العلاقات بين الشعوب الإسلامية من جانب والشعوب الكتابية من جانب آخر، لأنه يرى أنه من مصلحة السلام عامة أن يوجد حسن التفاهم هذا، وذلك عن طريق نشر الإسلام في صورته الصحيحة في هذه البلدان غير الإسلامية، لإعطاء صورة واضحة عن الإسلام والحياة الإسلامية في صورها المختلفة، لأنه يرى أن إعطاء صورة سليمة صحيحة عن الإسلام كفيلة بتقدير غير المسلمين للمسلمين، وبالتالي كفيلة بتحسين العلاقات بين الفريقين.

أعجبتني هذه الكتب

أعجبتني هذه الكتب (¬1) سأل محرر هذه الصحيفة فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر، أن يكتب رأيه عن أحسن كتاب قرأه، فتفضل بكتابة هذا المقال: طالعت كتباً كثيرة في الفنون التي درستها، فاستفدت منها ما يرتضيه العقل لاستناده إلى أصل مسلم به أو نقل صحيح. ويعجبني تفسير ابن عادل المسمى "اللباب في علوم الكتاب" ومؤلفه ¬

_ (¬1) جريدة (المصري). وصلتني المقالة قصاصة من الجريدة دون ذكر رقم العدد أو تاريخه من رجل فاضل محب للإمام يعمل في خدمة الكتاب الإسلامي وقد أرفقها بكلمة يقول فيها: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). سيدي الأستاذ علي الرضا، أعلى الله قدره وحفظه آمين. السلام عليكم ورحمة الله ويركاته، وبعد فإني أعتذر عن تقصيري في التحرير لسيادتكم حيث أني كنت ولا زلت مريضاً. وإني إذ أبعث هذا الخطاب المقتضب لأرجو الحق تعالى أن يمن عليّ بالشفاء العاجل ببركة دعائكم وجاه أجدادكم العلماء الأعلام. ومرفق طيه ما سبق أن نشرته جريدة المصري في أحد أعدادها لفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر السابق رحمه الله وقدس سره، فلقد كان من أعظم المجاهدين في سبيل الله تعالى بكل قواه، تغمده الله برحمته، وجعلكم مرآة كاملة لجهوده. وختاماً أرجو قبول أسمى الأماني. المخلص عبد الحميد الشيمي.

أبو حفص عمر بن علي المعروف بابن عادل الدمشقي من علماء آخر القرن التاممع الهجري، ويوجد منه أجزاء في دار الكتب المصرية ومكتبة جامع الزيتونة. ويعجبني كتاب "قانون التأويل" للحافظ أبي بكر بن العربي المتوفي سنّة 543 هـ، وهو تفسير للقرآن الكريم، وقد رأيت منه جزءاً في دار الكتب المصرية، ونبه فيما طالعته على أن المفسر للقرآن لا يصح له أن يذكر فيه الإسرائيليات، وإنما ينظر فيه إلى ما يطيعه اللفظ والروايات الصحيحة. وأطلعت له على كتاب (ترتيب المسالك في شرح موطأ الإمام مالك) في بلاد الجزائر، كما اطلعت له على كتاب (القبس شرح موطأ مالك بن أنس) موزعة أجزاؤه في تونس والجزائر، واطلعت على جزء في تونس وجزأين في الجزائر، ويعجبني في مؤلفاته أنه يصرح برأيه الخاص في الحكم الذي يذكره مستنداً للدليل. ويعجبني في النحو "شرح الخلاصة" لأبي إسحاق الشاطبي صاحب "الموافقات"، فإنه أحسن الشروح على ألفية ابن مالك، وتوجد منه أجزاء في مكتبة الأزهر ودار الكتب المصرية، وجزآن في المكتبة الصادقية بتونس، وكنت أطالعه أيام كنت أدرس "شرح الأشموني على الخلاصة" بجامع الزيتونة. ويضل الإنسان في الغوص على مسائل الإعراب بهذا الكتاب. وقد علمت وأنا بتونس أنه يوجد في خزائن كتب جامع الزيتونة. ويعجبني كتاباً "في الصناعتين" غير كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري، ويوجد في المكتبة الصادقية بتونس، وهو ناقص من أوله بعض صحائف، ولم أر في مكاتب الشرق التي زرتها مثله أو نسخة منه، ومكتوب

على ظهره مناهج الأدب لحازم. ورأيت في "عروس الأفراح" أن من الكتب التي اطلع عليه مؤلفها كتاب "مناهج البلاغة وأسرار الأدباء" لحازم. وقال بعض المؤرخين في تونس يترجم لحازم: وله كتاب اسمه "سراج البلغاء" في البلاغة. ولكن الإنسان يعرف بمطالعته كيف يغوص على أسرار الأدب، ويدرك الشعر الفائق من الشعر النازل، والنثر الداني من النثر الرفيع. وعرفت أخيراً أنه أخذت منه نسخة على ما هو عليه بآلة التصوير (المكروفيلم) ووضع في دار الكتب المصرية. وحازم هذا هو أبو الحسن حازم بن محمد القرطاجي المتوفي بتونس سنّة 684 هـ. قدم تونس ومدح أميرها المستنصر بالله بمقصورته المشهورة وقصيدته الطائية التي يقول فيها: كأن ضياء الشمس وجه أميرنا ... إذا ازداد بشراً في الوغى وإذا أعطى وقصيدته الرائية التي يقول فيها: وقد شابه الأعداء جمعاً مؤنثاً ... لذاك غدت في حالة الفتح تكسر وهكذا ضمنها بعض أحكام عربية يبعد بها عن الشعر العربي، وإنما يرتاح له من درس العربية إذ يرى التورية محكمة.

الملحق

الملحق " رأيت من الأمانة العلمية والواجب القائم عليَّ نحو الإمام محمد الخضر حسين أن ألحق أحاديثه في رحاب الأزهر بملحق موجز. ولئن كان هذا الملحق بما تضمنه من مدح وثناء وأخبار وأنباء -لا يقدم ولا يؤخر في مكانة الإمام عند ربه- غير أني وجدت فيها ما قد ينتفع به الباحث والمؤرخ والدارس ورجل الفكر من معلومات قد تسعفه في غرض يرمي إليه. وإيراد ما قيل في الإمام على لسان العلماء والأدباء والشعراء ورجال الصحافة يحتاج إلى مئات من الصحف يضيق عنها المجال، كما أنه ليس ميدانها هذا .. وقد اكتفيت ببعض منها، اخترتها حسب ما اعتقدت أن فيها النفع إن شاء الله. يتضمن الملحق: - أخبار مشيخة الإمام للأزهر. واستقالته. - ما قاله علماء أزهريون في الإمام. - ما نظمه الشعراء في الإمام. - وفاة الإمام وما قيل بالمناسبة. ونسأل الله أن يلهمنا الصواب في أعمالنا آمين". علي الرّضا الحسيني

قرار تعيين الإمام شيخ الجامع مع الأزهر

قرار تعيين الإمام شيخ الجامع مع الأزهر باسم حضرة صاحب الجلالة ملك مصر والسودان. هيئة الوصاية. بعد الاطلاع على المرسوم بقانون رقم 26 لسنة 1936 بإعادة تنظيم الجامع الأزهر والقوانين المعدلة له، وبناء على ما عرضه رئيس مجلس الوزراء وموافقة رأي هذا المجلس. أمرت بما هو آت: 1 - عين الشيخ محمد الخضر حسين عضو جماعة كبار العلماء شيخاً للجامع الأزهر بدلاً من الشيخ عبد المجيد سليم الذي أحيل إلى التقاعد بناء على طلبه. 2 - على رئيس مجلس الوزراء تنفيذ هذا الأمر. صدر بقصر عابدين في 2 المحرم سنة 1372 22 سبتمبرسنة 1952 محمد عبد المنعم -محمد بهي الدين بركات- قائم مقام أركاب حرب محمد رشاد مهنا.

نص كتاب اللواء محمد نجيب إلا شيخ الأزهر

نص كتاب اللواء محمد نجيب إلا شيخ الأزهر حضرة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر: يسرني أن أبلغ حضرتكم -مع مزيد الارتياح- صورة الأمر الملكي الصادر بتوجيه مشيخة الأزهر إلى عهدتكم. وإني أنتهز هذه الفرصة فأقدم إلى حضرتكم عظيم التهاني على هذه الثقة الكريمة، وأرجو للأزهر وأهله على أيديكم كل تقدم ورقي. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام. رئيس مجلس الوزراء محمد نجيب القاهرة في 4 من المحرم سنة 1372 24 سبتمبر سنة 1952

الأزهر للمسلمين جميعا

الأزهر للمسلمين جميعا ً اختار الوزراء الشيخ الخضر حسين ليجلس في المكان الذي خلا باستقالة الشيخ عبد المجيد سليم في مشيخة الجامع الأزهر. والشيخ الخضر حسين عالم مناضل، اشتهر بالتقوى والصلاح وسعة الأفق، وهذه هي المرة الأولى التي يقع فيها الاختيار على عالم من غير المصريين ليكون شيخاً للجامعة التي شع منها ضوء الإسلام ليغمر العالم، إذ أن فضيلة الشيخ خضر من أصل تونسي. "مجلة المصور -العدد 1464 - تاريخ 31/ 10/ 1952"

أزمة الشيخ

أزمة الشيخ رفضت الوزارة إجابة طلبات الشيخ عبد المجيد سليم حتى لا تحدث انقساماً في الأزهر، وراحت تبحث عن شيخ محايد يستطيع أن يجمع الصفوف وأن يخفف من حدة الخلافات بين المعسكرات. واضطرت الوزارة أن تلجأ إلى التاريخ لتجد هذا الشيخ المحايد. فقد اختارت فضيلة الشيخ الخضر حسين الذي يقف بقدم على عتبة التسعين ويمد الأخرى إلى سن المائة، وقد اعترض بعض الوزراء على هذا الاختيار، لأن الشيخ الجديد تونسي الأصل، ولم يحصل على الجنسية المصرية إلا من عهد قريب. ولكن الوزير الشيخ الباقوري أقنع الوزراء بأن منصب شيخ الإسلام يجب أن يكون للمسلمين قبل أن يكون للمصريين. "جريدة أخبار اليوم -العدد 411 - تاريغ 20/ 9/ 1952 - 30 - ذي الحجة-1371"

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر السيد محمد الخضر حسيين

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر السيد محمد الخضر حسيين (¬1) طلعت جريدة الأهرام في صباح يوم الأربعاء 27 من ذي الحجة سنة 1371 (17 سبتمبر سنة 1952) العدد 24049 وفي صدرها المقال الآتي: كانت مفاجأة حين خرج ثلاثة من حضرات الوزراء: هم السادة فتحي رضوان وأحمد حسن الباقوري وعبد العزيز علي، من مجلس الوزراء أثناء انعقاده، وتوجهوا إلى جهة لم يشاؤوا ولم يشا أحدهم أن يذكر عنها شيئاً، ولكن الصحفيين رأوا أن يقتفوا أثرهم، ولشدَّ ما كانت دهشتهم بالغة حينما رأوهم يدخلون بيتاً صغيراً من البيوت الواقعة في شارع خيرت، ويطرقون باب شقة متواضعة يسكنها فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد الخضر حسين عضو جماعة كبار العلماء ورئيس تحرير مجلة الأزهر سابقا. ولئن كانت هذه المفاجأة قد أدهشت الصحفيين، فإن فضيلة الشيخ الجليل الأستاذ محمد الخضر حسين كان أكثر منهم دهشة حين تحدث إليه الوزراء ¬

_ (¬1) مجلة "لأزهر" الجزء الثاني -المجلد الرابع العشرون، صفر 1372 - أكتوبر تشرين الأول 1952. مقال مأخوذ عن جريدة "الأهرام" منشور فيها تحت عنوان رئيسي يملأ الصفحة الأولى (مجلس الوزراء يعرض مشيخة الأزهر على الشيخ الخضر حسين -الشيخ الجديد يحكم عليه بالاعدام في تونس فيلجأ إلى مصر- مقابلته اليوم للرئيس).

الثلاثة، وعرضوا عليه مشيخة الأزهر باسم مجلس الوزراء واسم الرئيس اللواء محمد نجيب. ويقول مندوب "الأهرام" لخاص: إن فضيلة الشيخ قد قبل منصب المشيخة الجليلة، ورجا أن يوفق في تحمل أعبائها. وقد أردت أن أقف من فضيلته على ما إذا كان له برنامج معين، فقال: إنها مفاجأة لم أتمكن حيالها من أن أضع برنامجاً معيناً أو أرسم سياسة خاصة. فسألت فضيلته: وهل لكم رأي معين في كبار علماء الأزهر الذين يشغلون مناصب هامة؟ فقال: ليس لي رأي معين في واحد من حضراتهم، وكلهم موضع إجلالي واحترامي وتقديري. فقلت: وما رأيكم في المطلب الخاص بإقصاء أربعة من كبار العلماء الرسميين الأزهريين عن مناصبهم؟ فقال وهو يبتسم: طبعاً لن يكون هناك إقصاء، ومن رأي أن تؤخذ المسائل بالرفق واللين. قلت: ومتى أخذتم الجنسية المصرية؟ فقال فضيلته: أخذتها في نحو سنة 1938. قلت: إن العالم الإسلامي يسره كثيراً أن تسند مشيخة الأزهر إلى رجل جليل مثلكم بعيد عن التيارات المختلفة، فهل لكم كلمة تتوجهون بها إلى هذا العالم في هذه المناسبة؟

فقال: إن الكلمة التي أتوجه بها إلى العالم الإسلامي هي أنني أرجو المعونة من الله أن يحقق أمل المسلمين في الأزهر الشريف. قلت: وهل تقصدون غداً (اليوم) إلى مشيخة الأزهر؟ فقال: إن فضيلة السيد أحمد حسن الباقوري سوف يحضر إلي غداً (اليوم) لأتوجه معه إلى دار الرئاسة حيث أقابل الرئيس اللواء محمد نجيب. * من تاريخ حياته: وقد ولد فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين في بلدة (نفطة) من أعمال تونس في سنة 1293 هجرية، فعمره الآن 78 عاماً، ولما بلغ الثانية عشرة من عمره، انتقل إلى تونس، والتحق بجامعة الزيتونة، وحصل منها على شهادة العالمية في العلوم الدينية والعربية (¬1). وقد استهل فضيلته حياته العملية بالعمل في الصحافة حيث أنشأ مجلة (السعادة) (¬2) وراح يدبج فيها الفصول القيمة يعالج بها الشؤون الدينية والأدبية. ثم تولى القضاء في بلدة (بنزرت) والبلاد المجاورة لها، ولبث يمارس القضاء حتى سنة 1324 هـ، ثم عين مدرساً للعلوم الدينية والعربية في جامعة ¬

_ (¬1) ليس في جامع الزيتونة شهادة بهذا الاسم، ولعل الكاتب يقصد الشهادة (العالية) والمتخرج من جامع الزيتونة يحصل على شهادة (التطويع). (¬2) مجلة "السعادة العظمى" مجلة علمية أدبية إسلامية. أول مجلة صدرت في تونس، في 16 محرم 1322 هـ واستمرت إلى العدد الواحد والعشرين الصادر في غزة ذي القعدة 1322 هـ، كانت تصدر في غزة كل شهر عربي وفي سادس عشرة

الزيتونة، وكذلك تولى التدريس في المدرسة الصادقية وهي المدرسة الثانوية الوحيدة في تونس. * يحكم عليه بالإعدام: وقد اشتهر بعدائه للسياسة الفرنسية إذ كان يهاجمها في مجلته، وكان يبث روح العداء لها في تلاميذه، يريد أن يغرس فيهم الروح الوطنية والحرية الإنسانية التي يدعو إليها الإسلام، فحقد عليه ساسة الفرنسيين وأكنوا له الحفيظة، ودبروا له مكيدة سياسية قدموه من أجلها إلى المحاكمة حيث حكم عليه غيابياً بالإعدام، فهاجر فضيلته إلى الشام ومعه عائلته، وفيها تولى تدريس العلوم العربية والدينية في المدرسة السلطانية. وقد أوفده أنور باشا وزير الحربية التركية يومئذ إلى ألمانيا في مهمة سياسة، فقضى فيها نحو تسعة أشهر، رجع بعدها إلى الشام، تولى التدريس في تلك المدرسة، حتى رؤي الانتفاع به في وزارة الحربية التركية فعين محرراً عربياً في ديوان تلك الوزارة. ورؤي مرة أخرى أن يعود إلى ألمانيا في مهمة سياسية كذلك، فذهب إليها وقضى فيها نحو سبعة أشهر، ولما رجع إلى تركيا رأى ولاة الأمور فيها -بالاتفاق معه- أن يعود إلى الشام لمتابعة دروسه هناك، ولكنه حين رجع إلى هذه البلاد وجد الفرنسيين قد احتلوها، فهرب إلى مصر لاجئاً سياسياً، وظل فيها منذ سنة 1922 م يشتغل بالكتابة والتحرير والدرس حتى سنة 1931 م. إذ رأى فضيلة الأستاذ الأكبر المرحوم الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، أن ينتفع به في تحرير مجلة الأزهر، وكانت تسمى وقتئذ مجلة "نور الإسلام"

فعينه رئيساً لتحريرها، وقد لبث في هذه الوظيفة حتى عين فيها الأستاذ محمد فريد وجدي، فانتقل فضيلته إلى رئاسة تحرير مجلة "لواء الإسلام" التي يصدرها الأستاذ أحمد حمزة، وزير التموين السابق. * في جماعة العلماء: وقد قدم فضيلته رسالة علمية نال بها العضوية في جماعة كبار العلماء (¬1). ¬

_ (¬1) رسالة (القياس في اللغة العربية) طبعة مستقلة، كما طبعت ضمن كتاب "دراسات في العربية وتاريخها" للإمام.

مشيخة الأزهر في أكمل ما شهدنا من عهود

مشيخة الأزهر في أكمل ما شهدنا من عهود (¬1) إذا أراد الله بطبقة من أهل هذه الملة الإسلامية خيراً، هيأ لمستقبلهم القريب الحكم الصالح، ويسر لهم الإمام الذي انطوت سيرته النقية الطاهرة في جميع أدوارها على ما تستقيم لهم به القدوة، وتحسن به الأسوة، وتشيع به عدوى الإخلاص لله -عَزَّ وَجَلَّ- في السر والعلن والقول والعمل. وأحسب أن طلبة الأزهر الشريف لهذا العهد سيكون منهم لهذه الملة في مستقبلها القريب الخير الكثير، ولذلك كان من حظهم أن قيَّض الله لهم الحكومة التي تتحرَّى للولاية أكفاءها، كما قيض لهم القدوة والأسوة في سيرة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر مدَّ الله في عمره وأدام النفع به. إنهم الآن ليسوا أمام مركز رسمي تولاه كفؤه بالعلم والصلاح فحسب، بل هم أمام مَثلٍ أعلى للمسلم الكامل الذي ابتدأ حياته بنية الكفاح عن الإسلام وأهله، والاضطلاع برسالته، وتحمُّل أماناته كاملة وافية. و (النية) هي الإبرة المغناطيسية التي يتوجه بها المسلم إلى هدفه من الحياة. ولذلك قال معلم الناس الخير صلوات الله وسلامه عليهه "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، والحياة وتصرفات المرء باتجاهاته في جميع أدوارها هي جماع ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" - الجزء الثاني من المجلد الرابع والعشرين.- صفر 1372 اكتوبر، تشرين الأول 1952.

الأعمال، فهي أحوج إلى النية الوثيقة الثابتة الصادقة ليكون ما يصدر عن الإنسان من الأعمال في حياته تبعاً لها لا تحيد عنها مهما غالبته الظروف، ولا ينحرف عن اتجاهها ما استطاع، وإن انحرفت به الأهواء والمؤثرات. وطالب العلم الإسلامي إذا نوى من بدء حياته أن يقتصر على مطالب العيش ومتاع الدنيا بقي هدفه محدداً بهذا النطاق الضيق، وعاش على هامش الحياة عيشة تتناسب مع نيته، وكان في نظر نفسه -ثم في أنظار الناس- موزوناً بهذا المقدار، لا ينخدع به الناس بأكثر من ذلك، ولا يستطيع أحد أن يخدعه عن نفسه بأنها فوق ذلك. أما إذا نوى طالب العلم الإسلامي أن يعيش مكافحاً عن حقائق الإسلام -مهما كانت- وعن حقوق المسلمين حيثما كانوا، فإن حياته كلها تصبح حينئذ حياة عبادة، ويكون قدره عند الخالق والخلق متناسباً مع قدر النية القدسية التي عاش على ضوئها، وعوَّل على السير في الحياة بتوجيهها. يقول فضيلة الأستاذ الأكبر شيخنا السيد محمد الخضر حسين متعه الله بالقوة والعافية والتوفيق: ولولا ارتياحي للنضال عن الهدى ... لفتشت عن واد أعيش به وحدي (¬1) ونحن تلاميذه، ومعنا إخواننا من طلبة الجامع الأزهر وكلياته ومعاهده ¬

_ (¬1) ديوان الإمام "خواطر الحياة" البيت الأخير من أبيات تحت عنوان (الصداقة والعزلة) يقول في مطلعها: أريد أخاً كالماء يجري على الصفا ... نقياً فيصفو لي على القرب والبعد وفي هذا المعنى، له أبيات قالها (في الحبس) عندما سجنه جمال باشا في دمشق لأسباب سياسية ومنها: أنا لولا همة تحدو إلى ... خدمة الإسلام آثرت الحماما

الذين يعدون بالألوف، ينبغي لنا أن يكون لنا في حياة شيخنا القدوة الصالحة، وأن تكون لنا فيه الأسوة الحسنة، فيكون أول ما نرتاح إليه هو النضال عن الهدى، ولا يناضل عن الهدى إلا الذي تحرى معرفته، وتتبع ما جل أو دق من علوم أئمته وتراث علمائه، وجعل من نفسه حلقة متواضعة في سلسلته الذهبية التي أولها عند أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان، وآخرها عند شيخنا الجليل إمام الهدى السيد محمد الخضر حسين بارك الله في جهاده. إنه أحسن النية لله منذ البداية فاتخذ منها إبرة المغناطيس التي توجه سفينة حياته في سيرها، فما تعارضت دنياه وآخرته إلا اختار ما يبقى له في آخرته على ما هو زائل من بهرج دنياه. ومن عادة الله فيمن يؤثر الآجلة على العاجلة أن يجعله راضياً عن نصيبه في دنياه. وقد يعلن الله كرامته لأوليائه بمكافأتهم حتى في إعلان مقامهم في الدنيا جزاء إيثارهم ما يرضاه لهم في يوم الدين. أيها الطلبة الأزهريون، إنكم تستقبلون في أول سنتكم الدراسية المباركة إن شاء الله مناهج لتثقيف عقولكم بعلوم الشريعة التي عليها رسالة دينكم، وما يعين عليها من علوم العربية والسنن الكونية. ثم إنكم تستقبلون في هذا العام ما لا يفترق عن هذا أعني به خلاصته، وثمرته الناضجة، وغايته العليا، وهو الأخلاق المحمدية ممثلة بسجايا أستاذنا الأكبر وسيرته في أكثر من سبعين عاماً، وكفاحه في سبيل حقائق الإسلام وحقوق المسلمين وتستقبلون مع هذا وهذا، عهداً يتحرى الحق والخير، والحق والخير جناحا الإسلام ومادة رسالته.

فهنيئاً لكم سنتكم الجديدة، وبارك الله لنا ولكن بحياة شيخنا وشيخكم، وكونوا في عهد الحق والخير من خاصة أهلهما، ومن أنشط الأعوان على تأهيل هذا الشعب للإفادة منهما، وبذلك إن شاء الله أمة صالحة، وبذلك نكون من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، والله يتولى الصالحين.

شيخ الأزهر محكوم بالإعدام

شيخ الأزهر محكوم بالإعدام (¬1) كان أصحاب الفضيلة كبار رجال الأزهر يلعبون -طوال الأسبوعين الماضيين- لعبة الكراسي الموسيقية حول كرسي شيخ الجامع الأزهر. كانوا يتنافسون على ضجيج الحوادث حول الجلوس على الكرسي المرموق، وكان كل منهم يتحين الفرصة للتربع على المقعد الكبير دون الآخرين، إلى أن هبط من السماء عالم لم يكن في المباراة. بل ولم يكن من المتفرجين، ولا ممن يعلمون قليلاً أو كثيراً عن هذا السباق. وجلس الأستاذ محمد الخضر حسين على كرسي المشيخة دون أن يدور حوله، أو ينافس غيره، أو يسعى ليقف بين صفوف المتسابقين. وأصبح الصبح على مفاجأة كبرى لم تخطر لأصحاب الفضيلة ببال، فقد غدا الرجل المتواضع الذي يقف على أبواب الثمانين، المتوسط القامة، الخفيض الصوت، بحيث لا يكاد يسمع وهو يتكلم، غدا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وإمام المسلمين في العالم أجمع. * قصة طويلة: وقصة الأستاذ الأكبر طويلة شاقة، مليئة بالمفاجآت، وهو من بيت ¬

_ (¬1) مجلة (آخر ساعة) العدد 936 الصادر بتاريخ 11 المحرم سنة 1372= 1 أكتوبر سنة 1952. وقد أجرى المقابلة وحرر البحث الأستاذ أحمد لطفي حسونة.

علم ودين، فوالده الأستاذ الحسين بن علي (¬1) من الجزائر وكان متصوفاً لا يعرف إلا العبادة، وشيخاً للطريقة الخلوتية وله جامع باسمه في بلدة "نفطة" آخر بلاد تونس من جهة الجزائر، وهي البلدة التي ولد فيها الأستاذ الأكبر. وله أخوان، أحدهما زين العابدين (¬2)، وقد اشتغل بالتدريس في دمشق وأحيل إلى المعاش وله ابن اسمه كاظم (¬3) يشتغل بالتدريس هناك، والثاني المكي بن الحسين (¬4) وهو أديب معروف في تونس. * صحفي منذ نشأته: وقد ولد الأستاذ الأكبر في سنة 1293 هجرية بنفطة، وانتقل منها، وعمره إحدى عشرة سنة، إلى تونس حيث التحق بجامعة الزيتونة ونال العالمية (¬5) وجذبته الصحافة، فأنشأ في تونس مجلة "السعادة" (¬6) وتفرغ لتحريرها وخدمتها إلى أن تولى القضاء في مدينة "بنزرت". ثم عاد إلى جامعة الزيتونة مدرساً ¬

_ (¬1) الحسين بن علي بن عمر ولد في مدينة "طولقة" بالجنوب الجزائري سنة 1246 هـ وتوفي بمدينة تونس سنة 1309 هـ. من رجال الصلاح والتقوى والتصوف. (¬2) شقيق الإمام المربي اللغوي زين العابدين بن الحسين التونسي، هاجر مع أخيه إلى دمشق، وعمل في التربية والتوجيه، وله عدة مؤلفات في العلوم الإسلامية واللغة ولد في تونس وتوفي بدمشق (1305 - 1397 هـ = 1888 - 1977 م) وتصانيفه مذكورة في آخر الكتاب. (¬3) موسى الكاظم بن زين العابدين من رجال التربية في مدينة دمشق. (¬4) العلامة اللغوي محمد المكي بن الحسين ولد وتوفي بتونس (1301 هـ - 1382 هـ) له مؤلفات لغوية. (¬5) شهادة (التطويع). (¬6) مجلة "السعادة العظمى".

بها، وكان يقوم بتدريس النحو والفقه والأصول والبلاغة، وكان في نفس الوقت مدرساً بالمدرسة (الصادقية) وهي المدرسة الوحيدة في تونس. وقد تزوج الأستاذ الأكبر في هذه المرحلة من حياته خمس مرات، وكان الموت أو الطلاق يفرق بينه وبين زوجاته، وظل عزباً إلى ما بعد هجرته إلى مصر، حيث بنى بزوجته السادسة التي تقيم معه الآن، وهي من عائلة مدكور، ولم يرزقه الله أولاداً من زوجاته الست (¬1). * هجرة إلى الشام: في سنة 1331 هجرية وعمره 38 عاماً، انتقل مع والده وإخوته إلى الشام، وكانت بلاد الشام في هذا الحين دولة واحدة تضم سورية ولبنان وفلسطين، ومنذ ذلك التاريخ، أي منذ قرابة أريعين عاماً، لم يعد إلى تونس، وكانت هجرته لخدمة الإسلام ولضيقه بالحياة في موطنه، نظراً لفظائع الفرنسيين وسلوكهم المعوج، ورغبة منه في أن يعيش في كنف دولة إسلامية. وتولى التدريس في المدرسة العربية السلطانية في دمشق، ثم أرسلته الحكومة إلى ألمانيا لحث أسرى الحرب من التونسيين والجزائريين والمراكشيين على الانضمام للجيش التركي ضد فرنسا، واستمرت رحلته في ألمانيا تسعة شهور عاد بعدها إلى سوريا ثم الآستانة، حيث تولى التحرير بالقلم العربي في وزارة الحربية التركية سنة 1917. * يعود مع الصلح: وفي سنة 1918، أثناء الهدنة، سافر الأستاذ الأكبر إلى ألمانيا مرة ثانية ¬

_ (¬1) له ابنة من زوجته في تونس.

للدعاية لاستقلال البلاد العربية، وكان ممن سافروا معه على نفس الباخرة للغرض ذاته المرحوم عبد العزيز جاويش والدكتور عبد الحميد سعيد واللواء يوسف مصطفى، وكان يوم وصولهم إلى ألمانيا هو يوم عقد معاهدة الصلح، فمكثوا فيها سبعة شهور، عاد بعدها الأستاذ الأكبر إلى تركيا حيث اشتغل بالتدريس في المدرسة السلطانية، ثم سافر إلى دمشق، وكانت تحت الاحتلال الإنجليزي، وظل فيها إلى أن نزل الإنجليز عن احتلالها للفرنسيين. * حكم الإعدام يتعقبه: وشيخ الأزهر الحالي محكوم عليه بالإعدام، حكماً لم يصدر عنه عفو حتى الآن، ولولا هذا الحكم ما كان لفضيلته نصيب في الجلوس على كرسي مشيخة الأزهر. فقد أصدرت السلطات الفرنسية في سنة 1916 حكماً يقضي بإعدام الشيخ محمد الخضر حسين والشيخ صالح الشريف من تونس لاتهامهما بالتعاون مع الدولة التركية ضد فرنسا. وقد ظل هذا الحكم يطارد الرجل المجاهد ويحول بينه وبين العودة إلى تونس أو الإقامة في بلد يحتله الفرنسيون، ومن ثم هاجر الشيخ سنة 1919 إلى مصر لاجئاً سياسياً بمجرد عودة الفرنسيين إلى احتلال دمشق. * أول ليلة له في مصر: ويروي الأستاذ الأكبر قصة إفلاته من أيدي الفرنسيين فيقول: إنه غادر دمشق بعد أن احتلها الفرنسيون بعشرة أيام، وكانت الأداة الإدارية ما تزال في يد الإنجليز، فتمكن من الحصول على جواز خروج من دمشق، ورحل بطريق البر إلى القاهرة، وقضى أول ليلة فيها في (لوكاندة دار السلام) قريباً من مسجد

سيدنا الحسين، وبات ليلته حتى الصباح. وأشرق الصبح على اللاجئ الغريب، فأخذ يفكر. أين يذهب وهو لا يعرف مكاناً يذهب إليه في القاهرة؟ ومن يقابل وهو لا يعرف شخصاً واحداً بين ملايين المصريين؟ وماذا يعمل وهو لا يرى طريقاً واحداً يسلكه للحصول على عمل في مصر؟ * إلى الرواق: وهبطت الفكرة مع وحي لا يدري مصدره، وحي يحثه على الذهاب إلى أحد الأروقة في الأزهر الشريف، ودخل الرواق فلم يعرف أحداً، ثم اتجه إلى رواق المغاربة حيث لم يهتد إلى وجه ليعرفه، ولكن المغاربة اشتبه عليهم أمره، ثم عرفوه ورحبوا به وزاملوه وأكرموه. ويقول الشيخ في تواضع وطيبة: ثم بحثت عن مأوى آوي إليه، حتى اهتديت إلى حجرة في الربع قريبة من الجامع الأزهر إيجارها الشهري 25 قرشاً، فاستأجرتها وأقمت بها، وظللت أتردد بين مسكني والرواق، وأقطع وقتي في القراعة والتأليف، وأنفق من الدراهم التي أتيت بها إلى مصر. * البحث عن العمل: وظل الأستاذ الأكبر على هذه الحال قرابة السنتين، وهو ينفق من القليل الذي ادخره ويجهد النفس في البحث عن مصدر من مصادر الرزق. فاتجه التفكير إلى الحصول على الشهادة العالمية، وقدم طلباً إلى شيخ الجامع الأزهر الشيخ أبي الفضل، ليسمح له بدخول امتحان شهادة العالمية الأزهرية، غير أن نفراً من العلماء وقفوا في وجهه، وقالوا عنه أنه طريد سياسات مختلفة، ألمانية وتركية وعربية وفرنسية، فرفض طلبه، ولما تولى جعفر والي

وزارة المعارف، وكان يعرف الشيخ محمد الخضر عن قرب، عينه مصححاً في دار الكتب بمرتب شهري قدره تسعة جنيهات وكان مدير دار الكتب في ذلك الوقت أحمد صادق بك. * بحر لا ساحل له: وفي سنة 1922، شاء القدر أن يفتح أبوابه للاجئ الوحيد، ليدخره في جعبته، ويحمله بعد ثلاثين عاماً إلى كرسي المشيخة. وشاء القدر أن يهيئ الفرصة أمامه، فيتعرف على المرحوم أحمد تيمور باشا، الذي كان حينئذ صديقاً للسراي. ومقرباً من المغفور له محمد توفيق نسيم باشا، واستعمل أحمد تيمور نفوذه ليهيئ للشيخ فرصة الامتحان، وهي كل ما كان يطلبه. وتم للشيخ ما أراد، ووافق الأزهر على أن يتقدم الشيخ محمد الخضر لامتحان العالمية، وتشكلت لجنة من قساة الممتحنين ليؤدي امتحانه أمامها، وبهر الرجل الممتحنين بغزارة علمه، وفاض عليهم بما وهبه الله من معرفة. ونال الشيخ شهادة العالمية من الأزهر، ونص في القرار على أن اللجنة (امتحنت الشيخ محمد الخضر فوجدته بحراً لا ساحل له ...). ثم عين مدرساً بتخصص كلية أصول الدين، ورئيساً لتحرير مجلة نور الإسلام (وهي مجلة الأزهر الآن) وظل يلقن دروس الدين والسياسة الشرعية في كليات الأزهر إلى أن أحيل إلى المعاش. * عضو في جماعة كبار العلماء: وكانت الخطوة الباقية أن يدخل الشيخ عضواً في جماعة كبار العلماء، وفي سبيل ذلك قدم رسالة موضوعها (القياس في اللغة العربية) حوت بحثاً

لم يطرقه أحد من علماء الأزهر من قبل، وفي 29 أبريل من سنة 1951 صدر أمر ملكي رقم 22 لسنة 1951 بتعيين الشيخ محمد الخضر حسين عضواً في جماعة كبار العلماء. وكانت هذه العضوية هي سبيله إلى عرض اسمه على مجالس الوزراء، عندما أراد المجلس اختيار شيخ الأزهر من بين كبار العلماء. * هل انتهى الصراع؟ ويتساءلون في الأزهر اليوم، هل انتهى الصراع الذي عاش في الأزهر سنين وسنين؟ واتخذ أشكالاً ومظاهر ما كان يجوز أن يكون مصدرها الأزهر الشريف وعلماءه الأجلاء. إن الشيخ الجديد لا يعرف كيف يحب ولا يعرف كيف يكره، والشيخ الجديد ليس له في مصر أقرباء ولا محاسيب، والشيخ الجديد ليس من بحري ولا من قبلي، والشيخ الجديد ليس طرفاً في المنافسة والسباق حول الكرسي الكبير، والشيخ الجديد لم يفكر في المنصب العالي الخطير ولم يحلم به. ولكن هل يسلم من مناورات الذين سعوا للجلوس فوق الكرسي، فوجدوا أنفسهم فجأة يفترشون الأرض؟ نتمنى أن يسلم من هذه المناورات، فحياة الرجل قصة كفاح طويل، وقصة حياة كلها مفاجآت، والرجل مؤمن بالله، نقي القلب، طاهر السريرة، شريف القصد.

اجتماع جماعة كبار العلماء

اجتماع جماعة كبار العلماء * جماعة كبار العلماء (¬1): في صباح الأربعاء 25 المحرم اجتمعت جماعة كبار العلماء برياسة الأستاذ الأكبر السيد محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر لأول مرة بعد توليه منصبه، وقد افتتح الجلسة باسم الله -عَزَّ وَجَلَّ-، والدعاء إليه تعالى أن يوفقه إلى العمل لخير الأزهر. وعلى إثر ذلك تلي الأمر الملكي الخاص بتعيينه شيخاً للأزهر، فرحب به حضرات الأعضاء، وألقيت في ذلك كلمات من الأساتذة المشايخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية وعبد اللطيف السبكي، ومحمد عرفة، أشادوا فيها بصفاته الحميدة، وعاهدوه على أن يكونوا يداً واحداً لخير الأزهر والأزهريين. وأخذت الجماعة بعد ذلك في توزيع الأعمال على الأعضاء، فاختار بعضهم البحث أو التدريس، واختارهما بعضهم معاً. وعرض الأستاذ الأكبر على الأعضاء ما قد يذاع عن الإسلام من آراء لا تتفق معه، ويحسبها بعض الناس من صميم الإسلام وهي ليست منه في ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" - الجزء الثاني من المجلد الرابع والعشرين.

شيء، وبعد البحث تقرر أن تؤلف لجنة من حضرات الأعضاء للرد على هذه الآراء. كما تقرر أن تؤلف لجنة أخرى لتنظيم إلقاء المحاضرات بقاعة المحاضرات الكبرى بالأزهر، وألفت لجنة ثالثة لتنظيم أعمال اللجان وتحديد مهمة كل لجنة بالتفصيل على أن يقدم ذلك كله إلى جماعة كبار العلماء لإقراره في اجتماعها المقبل. ثم تحدث الأستاذ الأكبر في مسألة التبرع لمشوهي الحرب، فتقرر أن يساهم الأزهر في هذا العمل الإنساني النبيل، وتبرع أعضاء الجماعة لذلك بخمسة في المائة من مرتباتهم عن شهر أكتوبر، ثم ينظر في تقدير نسبة معينة تؤخذ من الموظفين والعلماء من مختلف الدرجات من مرتباتهم عن الشهر نفسه.

جماعة كبار العلماء تعلن تأييد الأستاذ الأكبر

جماعة كبار العلماء تعلن تأييد الأستاذ الأكبر (¬1) اجتمعت جماعة كبار العلماء في الساعة العاشرة من صباح أمس برئاسة فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر للنظر في موضوع تنظيم أعمالها، وتأليف اللجان التي يصح أن يناط بها هذا التنظيم، وبعد أن افتتح الاجتماع، وقف فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية وقال: إنني أشكر باسم جماعة كبار العلماء فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر، وأعلن تضامننا معه وتأييدنا له فيما نشره من الأحاديث العلمية القيمة في جريدة "الأهرام" في مختلف الموضوعات التي تناولها بعلمه الغزير وعقيدته الراسخة، مما كشف عن رغبة صادقة في إحياء مجد الأزهر، وفي إطلاع عامة المسلمين على حقيقة الإسلام فيما يهمهم من هذه الشؤون التي تحدث فضيلته عنها. وقد استطرد بعد ذلك فقال: إن جماعة كبار العلماء حين تشرح الحقائق الإسلامية إنما تعبر عن رأي العلماء قاطبة لا في الأزهر وحده، بل في جميع الدول الاسلامية والأزهر بوصفه المركز العام للمسلمين، جدير بأن ينبعث منه صوت الحق ونور الهدى ليشع في جميع الآفاق، وكلمته التي يدلي بها، لا شك ¬

_ (¬1) جريدة (الأهرام) - العدد 24120 تاريخ 27/ 11/ 1952.

أنها تحتمل من نفوس المسلمين في كل مكان أسمى مكانة، وإن التشريع الإسلامي فيه الخير كله والمصلحة كلها لكل من يستظل براية الوطن على اختلاف المذاهب والأديان. وإن علماء الاسلام ليحرصون الحرص كله على صفاء ما بيننا وبين إخواننا من أهل الأديان الأخرى، كما كنا في العهود السابقة ندعو إلى الوفاق والمحبة، ونحرص عليهما بالقول والفعل صادقين مخلصين. وبعد أن انتهى فضيلته من هذه الكلمة، تحدث فضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت وفضيلة الشيخ عبد الرحمن حسين والأستاذ الشيخ عبد اللطيف السبكي، وأيدوا فضيلة الشيخ المفتي، وبينوا وجهة نظرهم في وضوح وجلاء.

عناوين موجزة من جريدة الأهرام

عناوين موجزة من جريدة الأهرام العدد 24049 - 17/ 9/ 1952. - مجلس الوزراء يعرض مشيخة الأزهر على الشيخ الخضر حسين. العدد 24050 - 18/ 9/ 1952. - الشيخ الجديد يقوم بإعداد برنامج شامل لإصلاح الأزهر. العدد 24051 - 19/ 9/ 1952. - حياة شيخ الأزهر الجديد. - شيخ الأزهر يرفض المساس بحقوق العلماء. العدد 24055 - 23/ 9/ 1952. - شيخ الأزهر الجديد يباشر مهام منصبه. العدد 24058 - 26/ 10/ 1952. - شيخ الأزهر يتبادل الزيارة وسلفه. العدد 24064 - 2/ 10/ 1952. - الأزهر في مصر بمثابة الكعبة المشرفة بالحجاز - حديث الإمام. العدد 24074 - 12/ 10/ 1952. - شيخ الأزهر يعترض عفى القبعة.

العدد 24086 - 24/ 10/ 1952. - بيان شيخ الأزهر للطلبة لمناسبة افتتاح العام الدراسي الجديد. العدد 24089 - 27/ 10/ 1952. - فقدان الحياء بين النساء هو السبب في أزمة الزواج - حديث الإمام. العدد 27096 - 3/ 11/ 1952. - الشريعة الإسلامية توجب علينا التعاون مع الأجانب - حديث الإمام. العدد 24104 - 11/ 11/ 1952. - الشرع يحرم احتكار الأغذية والامتناع عن بيعها. العدد 24109 - 16/ 11/ 1952. - زيارة اللواء محمد نجيب للإمام الأكبر في الأزهر. العدد 24118 - 25/ 11/ 1952. - الإسلام يعترف بالملكية الفردية. العدد 24119 - 26/ 11/ 1952. زيارة اللواء محمد نجيب للأزهر. العدد 24120 - 29/ 11/ 1952. - جماعة كبار العلماء تعلن تأييد الأستاذ الأكبر. العدد 24122 - 29/ 11/ 1952. شيخ الأزهر: هدية العلماء لفاروق كانت غصباً. العدد 24122 - 29/ 11/ 1952. - الصبر من أسباب الغلبة والنصر - حديث للإمام.

العدد 24129 - 9/ 12/ 1952. - زيارة اللواء محمد نجيب والملك إدريس السنوسي للإمام الأكبر. العدد 24136 - 13/ 12/ 1952. - الإمام الأكبر واللواء محمد نجيب وأديب الشيشكلي يؤدون صلاة الجمعة في الأزهر. - واجب الشباب إزاء التوسع الصناعي والزراعي - حديث للإمام. العدد 24145 - 22/ 12/ 1952. - زيارة شيخ الأزهر للواء محمد نجيب في رئاسة الجمهورية. العدد 24153 - 30/ 12/ 1952. - هل للمرأة أن تباشر الوظائف العامة. العدد 24157 - 3/ 1/ 1953. - الإمام الأكبر واللواء محمد نجيب يؤديان صلاة الجمعة بالأزهر. - الحيوان في نظر الشريعة الإسلامية - حديث للإمام. العدد 24171 - 17/ 10/ 1953. - خير نظام للحكم هو النظام الذي يكفل الحرية والمساواة في الحقوق - حديث للإمام. العدد 24175 - 21/ 1/ 1953. - لتفتح ألمانيا الغربية أبوابها لليهود، وليعد المشردون من عرب فلسطين إلى وطنهم الشرعي، أما التعويضات التي يراد إعطاؤها لإسرائيل فإخلال صريح بالحياد.

العدد 24185 - 31/ 1/ 1953. - النفاق والمداراة أمام الحكام وذوي السلطان - حديث للإمام. العدد 24186 - 1/ 2/ 1953. - المعادلات الدراسية في كليات الأزهر. - شيخ الأزهر يتحدث إلى الرئيس نجيب. العدد 24193 - 8/ 2/ 1953. - الدعوة إلى عقد المؤتمر الإسلامي في القاهرة. العدد 24207 - 22/ 2/ 1953. - العهد الجديد في حاجة إلى جيل يؤمن بالأخلاق - حديث للإمام. العدد 24220 - 7/ 3/ 1953. - لماذا صار المستعمرون هدفاً للمستعمرين - حديث للإمام. العدد 24223 - 10/ 3/ 1953. - كتاب من شيخ الأزهر إلى رئيس الوزراء. - المساواة بين متخرجي الكليات الأزهرية وزملائهم في الجامعات.

استقالة شيخ الأزهر

استقالة شيخ الأزهر اعتكف فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر في منزله صباح أمس وكتب استقالته من منصب مشيخة الأزهر. وفي الساعة الواحدة بعد الظهر، استقل فضيلته سيارته وقصد إلى قصر الجمهورية، حيث سلم الشيخ عبد الحليم بسيوني مدير مكتبه كتاب الاستقالة للصاغ إسماعيل فريد السكرتير العسكري لرئيس الجمهورية. ثم قصد فضيلته بعد ذلك إلى منزل الرئيس اللواء محمد نجيب، وترك بطاقته للشكر. "جريدة الأخبار - العدد 480 - تاريخ 3/ 1/ 1954"

قبول استقالة شيخ الأزهر

قبول استقالة شيخ الأزهر * على أثر ارفضاض جلسة مجلة الوزراء التي عقدت أمس، أذيع أن المجلس وافق على تعيين فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد الرحمن تاج أستاذ الشريعة الإسلامية في جامعة إبراهيم باشا شيخاً للجامع الأزهر خلفاً لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر السابق الذي استقال من منصبه بسبب رغبته الشديدة الملحة في قراءة العلم وكتابته على حد تعبير فضيلته. "جريدة الأهرام - العدد 24521 - تاريخ 8/ 1/ 1954" * استن فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين - شيخ الأزهر السابق سنة حميدة، فما كاد يعلم بنبأ تعيين خلفه فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد الرحمن تاج شيخاً للأزهر، حتى بادر بالتوجه إلى داره، حيث زاره مهنئاً بإسناد مشيخة الأزهر إلى فضيلته متمنياً للأزهر في عهده الخير والتوفيق. وعقب انتهاء الزيارة مباشرة، توجه فضيلة الأستاذ الأكبر إلى دار سلفه فضيلة الشيخ الخضر حسين، حيث زاره شاكراً ومقدراً جهوده لخير الأزهر، وأمضى الشيخان معاً بعض الوقت في تبادل الحديث عن الأزهر وشؤونه والنهوض برسالته الدينية والعالمية. "جريدة الأهرام - العدد 24522 تاريخ 9/ 1/ 1954"

رأي عالم أزهري في الاستقالة

رأي عالم أزهري في الاستقالة تلقيت بتاريخ 18 شعبان 1397 هـ كتاباً من فضيلة الأستاذ عبد الحكيم حمادة من علماء الأزهر برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة عن طريق الصديق الأستاذ سعدي أبو جيب، تحدث فيه كاتبه عن الإمام ومشيخة الأزهر ومما جاء فيه قوله (¬1): الإمام الأكبر المغفور له الشيخ الخضر حسين، عالم، عامل، زاهد، عابد، عارف بالله، صغرت الدنيا في عينيه، ... فكان بحق شيخ العلماء العارفين وإمام الزاهدين العابدين، عرفته شيخاً للأزهر الشريف، فقاده في فترة هوجاء عاصفة الرياح تدمر كل شيء، فقاد الأزهر إلى بر السلام في تلك الفترة. أرادت السلطات الحاكمة بتعليمات مستوردة أن تغرس غراسها في عقول أبناء الشعب المصري، فرأت الأزهر الشريف عائقاً دون تحقيق أمالهم، فطلبت من فضيلته تغيير ملامح الأزهر، وأعدت له مشروعاً أسمته (تطوير الأزهر الشريف) واضعة نصب عينيها أن يكون الأزهر مدرسة علمية فقط، فأبى الشيخ وثار على هذا القانون ثورة يسجلها له التاربخ، ووقف الشعب ¬

_ (¬1) الكتاب موجه إلى علي الرضا الحسيني.

وراءه، وهو يناضل سلطان البغي حينذاك صابراً محتسباً، فألقى الله في قلوبهم الرعب والخوف، فهادنوه مؤقتاً، حتى يهدأ الشعب من ثورته ضدهم. التف الشعب حول شيخه يطلب المزيد من علمه، فتحولت داره إلى حلقة دينية تجمع صفوة العلماء والمفكرين وأبناء الشعب العامل. غيَّرت السلطات الحاكمة حربها ضد الشيخ، فبدأت تكيد له المكائد باتجاهها نحو شراء بعض من لا خلاق لهم من أبناء الأزهر بحجة أن خريجي كلية الشريعة وأصول الدين ليس لهم حظ في الحياة، وأغلقوا أبواب الرزق عليهم، وتكاملت حلقات المؤامرة وترابطت، فثار الطلبة على شيخهم، وكم حاول توضيح الرؤيا أمام أبنائه، ولكن بدون جدوى، والسلطة تزيد الثورة اشتعالاً، فشغلت الشيخ بأبنائه، وعزيز على النفس الأبية أن تقهر العدو في الخارج ومن داخلها كان أبناؤه يقهرونه، فاضطر رضوان الله عليه أن يقدم استقالته بعد أن أوضح أبعاد المكيدة لأبنائه. ولكن ثورة الشباب صمّت الآذان عنه، واعتكف في بيته، فهلل الشيطان انتصاراً على قهر الشيخ وقبلت السلطات استقالته فور تقديمها، واعترفت للطلاب الثائرة بشهاداتهم وعينتهم في وظائف عالية. رأت السلطات الحاكمة أنه لا يمكن تنفيذ قانون تطوير الأزهر إلا إذا اختارت شيخ الأزهر بمواصفات خاصة، وسلبته جميع حقوقه، وأسلمتها إلى وزارة أنشأتها خصيصاً لذلك، حتى يكون الوزير طوع يدهم. وبهذا تمكنت السلطات من تنفيذ قانون تطوير الأزهر، وحولته إلى مدرسة علمية. وأدخلت فيه غير أبنائها حتى لا يقوم للأزهر قائمة، وهكذا تم لها ما أرادوا، وغرسوا ما غرسوا، ولكن أرض مصر بعون الله أبت على الغرس

أن ينبت، ومن نبت خرج هزيلاً فمات، ورفض نيل مصر أن يسقيها، فحفظ الله دينه. {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]. وعاد الأزهر صلابة وقوة يؤدي حقه نحو الله. ولما توفي شيخنا خرجت مصر عن بكرة أبيها تشيع قائد ثورتها الدينية إلى مثواه الأخير. رحم الله شيخنا وأنزله منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. عبد الحكيم حمادة من علماء الأزهر الشريف برابطة العالم الإسلامي 18/ 8/ 1397 هـ

من كتاب "حياتي في رحاب الأزهر"

من كتاب "حياتي في رحاب الأزهر" * من كتاب "حياتي في رحاب الأزهر - طالب ... أستاذ ... ووزير" يقول الدكتور محمد البهي: والشيخ (الخضر حسين) عليه رحمة الله -وهو تونس الأصل- كان من أمثل العلماء في الدفاع عن الإسلام، وفي الجهاد في سبيله، ولم يقع يوماً تحت إغراء الدنيا، اتصلت به يوم كان أستاذاً للبلاغة في قسم التخصص الذي أنشئ في سنة 1925 والذي تخرجت فيه، وسافرت تواً بعد التخرج إلى ألمانيا، وعرفته شيخاً للأزهر عن قرب وأنا أباشر العمل في مراقبة الثقافة بإدارة الأزهر بجانب أستاذية الفلسفة في كلية اللغة العربية، وكان رئيساً لجمعية "الهداية الإسلامية" ومديراً لمجلتها، كما كان أسلوبه في المجلة يتميز بالوضوح، والمنطق، والإيمان، ولم يتزلف يوماً ما لحكم، ولا لكبير في وظيفته، ولم يهادن أو ينافق إطلاقاً في إعلان كلمة الحق. عرفته في حياته الداخلية في مسكنه، وفي عيشته، عرفته الزاهد، المتقشف، الورع. رأيته قبل المشيخة، وفي أثنائها، وبعدها، وهو يلبس (القبقاب) في المنزل، مع عظمة المؤمن العارف بالله. ولا أنسى موقفه -وكان اللواء محمد نجيب رئيساً للجمهورية ولمجلس الوزراء في عهد ما يسمى بالثورة - عندما نشر بالصحف: أن الحكومة تعزم

على تعديل قانون هيئة كبار العلماء بالأزهر. وحضر إلى إدارة الأزهر مبكراً، ولم يذهب إلى مكتبه أولاً، وإنما دخل مكتبي، وجلس وأنا وحدي معه، وسألني هل قرأت الخبر الخاص بجماعة كبار العلماء؟ فأجبته بإيجاب، فاخرج مكتوباً من جيبه، وقال: اقرأ هذا الخطاب، وإذا به خطاب موجه إلى رئيس الجمهورية يقدم فيه استقالته احتجاجاً على تدخل الحكومة في شؤون الأزهر بلغة لا تعوزها الصراحة، وبإيمان لا يقبل التردد بحال، وبعزيمة صادقة لا تعرف المناورة. فقبّلت يده بعد أن قرأت الخطاب، وشكرت له غيرته على الأزهر وكرامة العلماء. إلى أن أرسله إلى رئيس الجمهورية. ورأت فيه الحكومة قوة لا تستطيع معها أن تقدم أي تغيير في الأزهر طالما الشيخ في وظيفته، فقبلت استقالته.

الشيخ ومواقف لا تنسى: للكاتب الإسلامي محمد عبد الله السمان

الشيخ ومواقف لا تنسى: للكاتب الإسلامي محمد عبد الله السمان (¬1) (عين الشيخ شيخاً للأزهر عام 1952 وعمره يناهز الثمانين، لذلك أشفق عليه من هذا المنصب تلامذته وعارفو قدره على ماضيه المشرق الحافل بأنصع الصفحات، ولكن الشيخ الذي كان يتمثل بيت الشاعر: إن الثمانين وبلِّغتَها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان كان بين جنبيه نفس أبية، وقلب فتي، وإيمان شجاع، واطمأننت حين علمت من مصادر موثوق بها أن الشيخ لا يعتبر هذا المنصب غاية يصبو إليها، لذلك فمنذ توليه المنصب وهو يحتفظ في جيبه باستقالة محررة، ونسخة منها يحتفظ بها مدير مكتبه. وقد قال له، أي لمدير مكتبه: إذا أحسست بضعفي في موقف من المواقف، فقدم استقالتي نيابة عني. وفي عام 1953 عزلت فرنسا السلطان محمد الخامس الولي الشرعي للمغرب مستعينة بعملائها الخونة من المواطنين، فجمع الشيخ هيئة كبار العلماء، وأصدر بياناً اعتبرت فيها هؤلاء المارقين خارجين على الإسلام. وأرسل البيان إلى الصحف فلم تنشره، وفي الصباح أرسل بياناً مرفقاً به ¬

_ (¬1) مجلة "اكتوبر" المصرية - العدد 349 تاريخ 3 تموز 1983. من مقال الكاتب الإسلامي محمد عبد الله السمان تحت عنوان "أعلام العلماء - الشيخ الخضر حسين".

قال الدكتور عبد الحليم محمود في بثه عن الغزالي

استقالته إلى رئيس الجمهورية. وكان أن نشر البيان وكان له أثر في الحركة الوطنية في المغرب). * قال الدكتور عبد الحليم محمود في بثه عن الغزالي: (فضيلة العالم الجليل الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر السابق، وهو عالم لا يتهم بعصبية، والآراء مجمعة على أنه من العلماء الذين حاولوا جاهدين أن يكون كل ما يصدر عنهم إنما يراد به وجه الله) (¬1). * قال الأستاذ محمد عبد اللطيف السبكي - عضو جماعة كبار العلماء: (ولعل من الفأل الحسن أن تقترن هذه الوثبة باستقبال الأزهر لشيخ تقي يستعين بالله حقاً، ولا يقول إلا صدقاً، وهو بعد لا تخدعه الزلفى، ولا يغره الثناء، وعلى مثل هذا الشيخ يتوكأ الأزهر وينهض، ويستفيد ويفيد، والله المستجيب) (¬2). * قال الدكتور محمود حمدي زقزوق - عميد كلية أصول الدين بالقاهرة: (لقد كان الشيخ صاحب غيرة دينية ونزعة إصلاحية معتدلة، تجلت في مقالاته وبحوثه ومؤلفاته، وقد اهتم في مقالاته العديدة التي جمعت فيما بعد في كتابه "رسائل الإصلاح" بمجالات الدين والأخلاق والاجتماع، واهتم بصفة خاصة بالميدان الأخلاقي، فركز على الخصال التي يجب أن يتحلى بها الفرد، وبخاصة العالم، وما يجب أن تتحلى به الأمة حين تسلم ¬

_ (¬1) من كتاب "تراث الإنسانية" طبع وزارة الثقافة بالقاهرة. (¬2) من مقال "الدين والقوة وسيلتان إلى غاية واحدة" -مجلة "الأزهر"- الجزء الثاني من المجلد الرابع والعشرين.

من التفكك والانحلال. وتعرض لموضوع الإسلام والمدنية الحديثة مبيناً أهمية الدين في المجتمعات الحديثة وضرورة عناية حكوماتها بنشره، وأن تستمد قوانينها من تشريعه الواسع النطاق وهاجم (العلمانية). وقد كان الشيخ من دعاة الرابطة الإسلامية، المدافعين عن الدين ودعوة المسلمين إلى ضرورة المحافظة عليها، وكان من دعاة الاجتهاد، وقد بين قيمته في الشريعة الإسلامية مؤكداً أن الشريعة الغراء تساير كل عصر وتحفظ مصالح كل جيل. ومن منطلق الغيرة الدينية أيضاً رأينا الشيخ يرد على الدكتور طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي) عام 1926. وقد رد الشيخ الخضر حسين رداً تفصيلياً على كل ما جاء في كتاب الدكتور طه حسين مؤكداً أنه لا يعارض المؤلف في انتهاج الأسلوب الذي يريد في بحثه بشرط ألا يكون في ذلك مساس بالدين الإسلامي وانحراف عن الحقيقة، وبين أن منهج الشك ليس جديداً فقد ذهب إليه الغزالي وابن خلدون قبل ديكارت. وقد نال كتاب الشيخ الخضر حسين (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) تقدير عدد من علماء الإسلام المعاصرين والأدباء العرب البارزين في ذلك الوقت لما اشتمل عليه من نقاش موضوعي، ولما قدمه من حجج لغوية وتاريخية) (¬1). ¬

_ (¬1) جريدة "الأهرام" المصرية - العدد الصادر يوم الأحد 4 رمضان 1412 هـ مارس آذار 1992 - تحت عنوان (من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر).

امتزاج الأزهر بالزيتونة للعلامة محمد الفاضل بن عاشور

امتزاج الأزهر بالزيتونة للعلامة محمد الفاضل بن عاشور (وإنه ليحق لهذه الحقبة من التاريخ التي تظلنا أن تفخر بأنها التي بلغت فيها الصلات بين الأزهر والزيتونة أوجها، فقد احتضن الأزهر إماماً من أئمة الأعلام، كان أحد شيوخ الزيتونة العظام. وهو الشيخ محمد الخضر حسين. إذ استقر بمصر وأحرز على شهادة العالمية، وسمي أستاذاً في قسم التخصص، وعين في هيئة كبار العلماء، ثم سمي شيخاً للأزهر سنة 1374. فكان خير تاج توجت به الأخوة بين المعهدين في مبلغها الأقصى وذروتها العليا) (¬1). * مشيخة الشيخ محمد الخضر حسين للدكتور محمد أحمد عوف: من مواليد عام 1293 بتونس، ولقد كانت له مجلة "السعادة العظمى" وله عدة مواقف ضد الاستعمار، ولقد كانت له عدة جولات، بالدول الإسلامية، واستقر فترة في الآستانة، ولقد كان له عدة أنشطة فكرية وأدبية واسعة. وكان الشيخ الخضر رئيساً لتحرير مجلة "الأزهر" وعضواً بمجمع اللغة العربية، ثم تولى رئاسة تحرير "لواء الإسلام" وعين عضواً بجماعة كبار العلماء. ¬

_ (¬1) امتزاج الأزهر بالزيتونة - موضوع قدم للمؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية، 1389 هـ - 1971 م. ونشر في كتاب "ومضات فكر".

في مجمع اللغة العربية

وتولى عام 1371 هـ - 1952 م مشيخة الجامع الأزهر إلى أن استقال عام 1377 هـ - 1954 م. وبعدها توفي عام 1958. وللشيخ الخضر عدة مؤلفات أدبية وفكرية، وله آراء في الفرق الإسلامية كالقاديانية والبهائية، وله عدة قصائد شعرية منها قصيدته المشهورة "أعمار زائفة". والشيخ الخضر كان يعرف عدة لغات، وكان أول شيخ للجامع الأزهر في عهد الثورة (¬1). * في مجمع اللغة العربية (¬2): استأنف مجمع اللغة العربية نشاطه يوم 6 كتوبر بعد انتهاء العطلة الصيفية، فعقد جلسة قام فيها فريق من أعضاء المجمع بإلقاء كلمات ترحيب، تتضمن التكريم الذي لحق المجمع باختيار حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر السيد محمد الخضر حسين شيخاً للأزهر الشريف. وقد عددوا مآثر فضيلته، ونوهوا ببحوثه العلمية والدينية التي كان لها الأثر الكبير في النهوض بمختلف الشؤون الدينية. ¬

_ (¬1) من كتاب "الأزهر في ألف عام". (¬2) مجلة "الأزهر" - الجزء الثاني من المجلد الرابع والعشرين.

تهنئة الأزهر الشريف بشيخة الجديد للشاعر محمد العيد

تهنئة الأزهر الشريف بشيخة الجديد للشاعر محمد العيد (¬1) من قصيدة مطلعها: بارقٌ من بوارِق الرُّشْدِ لاحا ... جرَّ للشرقِ غبطةً وفَلاحا ويقول منها: وحَبا الأزهرَ الشريفَ رئيساً ... عبقرياً ومُصلحاً مِسماحا وإماماً مجدَّداً مغربياً ... رفعَ المغربَ المهيضَ جناحا ¬

_ (¬1) الشاعر محمد العيد ولد في مدينة عين البيضاء سنة 1323 هـ - 1904 م. شاعر الجزائر بحق، ومن كبار شعراء المغرب، بل ومن كبار شعراء العربية والإسلام في عصره. تلقى علومه في بسكرة ثم انتقل إلى جامع الزيتونة في تونس. وعاد إلى وطنه وعمل في ميدان التعليم معلمًا ومديرًا لمدرسة (الشبيبة الإسلامية) في الجزائر العاصمة، ومديراً لمدرسة (العرفان) في عين المليلة، كان عضواً في جمعية (العلماء المسلمين الجزائريين" وسجن لأعماله وأشعاره الوطنية، ونشر في صحف ومجلات: الإصلاح - الشهاب - البصائر. توفي عام 1979 بالجزائر. * له ديوان شعر كبير مطبوع عدة مرات (ديوان محمد العيد محمد علي خليفة). * وهذه الأبيات من قصيدة طويلة تضم سبعين بيتاً قالها في تهنئة الأزهر بالإمام ونشرت في العدد (208) من جريدة "البصائر" الجزائرية سنة 1952. وموجودة في ديوانه.

هنِّئ الأزهرَ الشريفَ بشيخٍ ... طاب أنساً به وزاد انشراحا رأسَ الأزهرَ الشريف فخِلنا ... سادن البيتِ أوتي المفتاحا وجلا الحقَّ "بالهداية" حيناً ... فنفى عنه غيمه وأزاحا حارب الجهلَ والتعصُّبَ والإلـ ... ـحادَ والدَّجلَ والخَنا والسِّفاحا بيراعِ يفري المشاكل عضْباً ... وحجى يكشف الدجى لمّاحا حاز آل الحسين (بالخضر) الحـ ... ـرَّ مدى فخرهم وفازوا قداحا أورث الله منه (طولقة) العر ... ق وأورى (بنفطة) المصباحا (تونسٌ) تقبلُ التهاني نشوى ... وتهادي (الجزائر) الأفراحا إنَّ كلتا الأختين من خمرة البشـ ... ـرى تعاطت على الصَّفا أقداحا قد طوى سبعةً وسبعين عاماً ... ناشراً نورَ علمِهِ وضّاحا رائع المنشآتِ يفتن كالرسّا ... م فيها ويعرض الألواحا طيِّبُ الريحِ طيِّبُ الخُلق كالر ... يحانِ يُذكي أريجَه نفاحا مدَّ في عمره الإله وأبقا ... هـ مناراً لنا وبدراً لياحا يا بني الأزهر المبارك طلتم ... أيدياً عمَّتِ الرُّبى والبطاحا إنما الأزهر المبارك روضٌ ... بَثَّ في الكونِ طيره صدّاحا فاستطيبوا بطيبه واستظلوا ... دوحةً فيه فاقت الأدواحا قد رمى (شيخكم) بكم مطْلَعَ النجـ ... ـم فسيروا خطاً إليه فساحا

تحية للشاعر أحمد بن شفيع السيد

تحية للشاعر أحمد بن شفيع السيد (¬1) سيعيد للإسلام فضلَ جلاله ... شيخٌ سما بفعاله وخلاله نور الهداية في أسرّة وجهه ... متألقٌ كالبدر عند كماله "شيخ الشيوخ" لقد حللت مكانة ... في الشرق بين العزِّ من أبطاله سيَّان ماضيك المجيد وحاضر ... كالضوء عند ضحاه أو آصاله علَمٌ له في كل عِلْمٍ جولة ... حتى ليلقى من كبار رجاله "الأزهر المعمور" يأمل فيكم ... تحقيق ما يرجوه من آماله إنَّا لنعرف فيك ديناً قيماً ... "عوذت دينك بالنبي وآله" ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" - الجزء الثاني من المجلد الرابع والعشرين.

قصيدة الشاعر محمد صادق عرنوس إلى العلامة الجليل السيد محمد الخضر حسين بمناسبة سفره إلى الأقطار الحجازية

قصيدة الشاعر محمد صادق عرنوس إلى العلامة الجليل السيد محمد الخضر حسين بمناسبة سفره إلى الأقطار الحجازية (¬1) سافر إلى الحجّ ميموناً بك السفرُ ... واقضِ المناسكَ مَزهواً بك الحجرُ جاهدتَ في الله فانزل في ضيافته ... لك المثوبةُ والإكبارُ والظفر إنَّ الصفا مذ نويت الحج مغتبطٌ ... لزورة العالِمِ الربِّي منتظرُ وهل رأى منذ حين في مواسمه ... كموسمٍ حجَّ فيه السيد (الخضر) هذا النحيف المغالي في تواضعه ... به الحنيفية البيضاء تفتخر كم ذاد عنها أعاديها بمفرده ... في موقف تتحاشى مثله الزمر فلم تصب منهم يوماً بكارثةٍ ... إلا وكان له في دفعها أثر كأنه ديدبانٌ في حِراستها ... هيهات يثنيه عن إنقاذها وطر اقرأ له الردَّ بعد الرد يرسله ... على العدا أين منه الصارم الذكرُ! في قالبٍ لم يطف هُجرٌ بساحته ... لكنه من صميم الحق منحدر في مهبط الوحي سَلْ عن دائنا فثةً ... نامت وطال بنا في المحنة السهر ألم يعد ثمَّ في إنقاذنا أملٌ ... هل انطفا نورُه واستفحل الخطر؟ ¬

_ (¬1) مجلة "الفتح" العدد 338 - السنة السابعة تاريخ 4 ذي الحجة 1351 - القاهرة.

قل للحجيج إذا وافيتهم بمنى ... قولاً لبما وقعه فالحجُّ مؤتَمَر هنا انبثاقُ الهدى يا قومُ فاتعظوا ... ومهبط الروح بالتنزيل فاعتبروا يا أيها الناس دين الله منتهكٌ ... أينَ الكتاب وأين الآي والسور؟ اللفظ باقٍ ومعناه الكريم مضى ... والروح إن فُقدت ما تنفعُ الصور غوصوا على دره المكنون والتمسوا ... منه الشفاء ففيه الورْد والصدَر يا للعجائب ظمأى والحيا معكم ... لو شئتم انهلّ عذباً ما به كدر موقوفة عودة العزّ القديم على ... أن يعمل العقل في التنزيل والبصر إذا غدا عادةً فيكم مؤثلة ... تقلص الذل عنكم وانجلى الضررُ

قصيدة الأستاذ علي سيد أحمد منصور بقسم التخصص بالأزهر

قصيدة الأستاذ علي سيد أحمد منصور (¬1) بقسم التخصص بالأزهر عُدْ ناصرَ الدّين عَوْدَ النَّصر والظَّفر ... يا حجةَ العصر بل يا مرشدَ البشرِ إنَّ الليالي التي قضّيتها سفراً ... كانت تمر بنا والنفسُ في ضَجَر لكنك الشمس إن غابت فمرسلة ... من ضوئها قبساً للناس في القمر لما نويتَ النوى من قطرنا وجِلت ... منا القلوب وبات الكل في كدر أما البلاد التي أزمعت تقصدها ... طارت بكم فرحاً للفوز بالوطر فأنت كالغيث كلُّ الناس تطلبه ... لأنه دافع للبؤس والضرر لقد حللتَ بأوطانٍ مشرفةٍ ... وعدتَ تحمل خيرَ الخُبْر والخَبَر فاشرحْ لنا مجدها شرحاً يزيّنه ... منك البيان الذي يزهو على الدرر واذكر لنا كيف كان البيت في عظمٍ ... وكيف سيرك بين الحِجْر والحَجَر وكيف طفت مع الطُوّافِ في أدبٍ ... وكيف ذكرك للخلّاق في السحر وهل شربت مياهاً كان يشربها ... خيرُ الخلائق من بدوِ ومن حضر ينبوع زمزم هل باقٍ تفجره ... أمْ غاص من أثر الأهوال والغير ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد الخامس. قصيدة ألقيت في دار الجمعية ليلة 10 محرم 1352.

وهل حللت بغارٍ حل ساحته ... مَن دِينُه مقنعٌ للعقل والفطر ما أحسن السير في أرض مقدسة ... منها أتانا الهدى والذكر ذو السور كرِّرْ بربك عن ركب الحجيج على ... هذي المسامع ما شاهدت من عبر كم كان فيه من الآفاق من أمم ... شقوا إليه سبيل السهم والوعر جاؤوا على شغف يبغون مغفرة ... من غافر الذنب مهما كان في الكبر لما وقفتم على عرفات وامتلأت ... منه الرحاب بأشكال من الزمر بأي عين نظرت الركب مجتمعاً ... وكيف قلبك لم يقفز ولم يطر في ذلك المجمع الميمون قد جمعت ... شتى الوسائل للإنقاذ من خطر فهل تعارف أهل الدين واشتوروا ... فيما يقدمهم من صائب الفكر لا شكَّ قلبك أضحى يوم سيركم ... نحو المدينة في بشر وفي حصر أما السرور فشوقاً نحو ساكنها ... والضيق حزناً على بيت الهدى العطر تلك الصحارى التي جزتم مفاوزها ... هل ذكّرتكم عهود الأنس والسمر أيام كنا تخاف الناس سطوتنا ... وكان أعظمهم منا على حذر يا لهف قلبي على أيام عزتنا ... ولّت سراعاً فلم ترجع ولم تزر لما أتيتَ إمام الخلق كلهم ... ماذا صنعت بذاك الموقف الخطر هل ذبت شوقًا وإجلالاً لحضرته ... أم كنت ثَبْتاً فلم تفرق ولم تحر وقلت ما قلته من قبل في أسفٍ ... يا سيد الرسل نجِّ الدين من شرر وهل دعوتَ لنا في روضةٍ شرفت ... لما دنت من ضياء القلب والبصر قد نلْتَ ما تبتغي فارجع بعافيةٍ ... يحفك السعد في مَكْثٍ وفي سفر

نادي الهداية نادى وقتَ ظعنكم ... من لي بمجلس أنس السيد (الخضر) والآن قد جئتهُ فاهتز من فرحٍ ... كأنه سامعٌ يهتز من وتر فلا فتئت سراجاً فيه تملؤه ... نوراً وعلماً فيغدو بهجة النظر ولا برحت تعذّيه بحكمتكم ... حتى يتم ويضحي طيب الثمر وزادك الله علماً زانه عملٌ ... وبسطةً في لذيذ الرزق والعُمُرِ

قصيدة الشاعر سالم ضيف

قصيدة الشاعر سالم ضيف (¬1) قف فوق منبر مجد الشرق يا (خضرُ) ... واهتف بأن العلى بالعلم يعتبرُ ولا حياة لهذا الشرق راقية ... إلا بعلم وأخلاق لها أثر وبالفنون فنون العصر أجمعها ... ما هيَّ إلا من الإسلام تنحدر ومن يرى غير هذا رأيه خطر ... إلى العروبة والإسلام يحتقر (أبا محمد) يا من فزت واتجهت ... لك المحافل واهتزت لك الفكر يا أيها (الخضر) المحمود سيرته ... الفوز يأتي لمن يسعى ويصطبر يا (ابن الحسين) أيا من زان أمته ... أنت العظيم وبحر كله درر ها هي الإمامة قد جاءتك طائعة ... بالجامع الأزهر السامي لها عبر تقول: يا من له في العلم منزلة ... رفيعة إنني أهواك يا قمر عصر المحاباة قد ولى بخسته ... وجاء عصر إلى الأكفاء ينتصر إلى الهداية والإصلاح بغيته ... وبالعروبة والإسلام يفتخر فاهنأ بما نلته بالعلم محترماً ... وكن كأنت إلى الإسلام تنجبر ¬

_ (¬1) مجلة (الأسبوع) التونسية - العدد 309 تاريخ 10/ 11/ 1952. والشاعر مدينة (نفطة) حيث ولد الإمام.

فالجامع الأزهر الزاهي بطلعتكم ... قد اعتراه سرور ليس ينحصر ومصر كلها مثل الشرق في فرح ... وتونسٌ جذلي لما جاءها الخبر و (نفطة) أمك السمحا تباهي بكم ... وتدعوا يا ابني لك الإسعاد مزدهر

تحية الهداية الإسلامية

تحية الهداية الإسلامية (¬1) الهداية الإسلامية بشرى فقد رجعت إليَّ حياتي ... بهداية الإسلام بعد مماتي أهلاً بها وبمن يحررها ومن ... يملي بأسطرها أجل عظات و (الخضر) أهل فعينها ومُعينها ... كالبدر مدَّ النجم هدي سراة دامت بافق القطر شمس وجودها ... وأمدّها الرحمن بالنفحات ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" الجزء الخامس من المجلد الحادي عشر - أبيات من قصيدة الأستاذ الشيخ مصطفى يحيى إبراهيم بمعهد الإسكندرية، وهو من أصدقاء المجلة من أول نشأتها، وحدث أن انقطعت عنه المجلة لظروف عارضة قلما تلقاها ثانية جادت قريحته بالقصيدة.

تحية رابطة أبناء الأزهر الأدبية

تحية رابطة أبناء الأزهر الأدبية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى مقام حضرة صاحب الفضيلة أستاذنا اكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر بمناسبة تشريفه حفل الرابطة بالمولد النبوي الشريف الاثنين 20 من ربيع الأول سنة 1372 هجرية (¬1). أجلُّ ما أنزل المولى على البشر ... وخير ما علَّم الرحمن من سورِ نهديه حبًا وإجلالاً سما وصفا ... من القلوب إلى أستاذنا (الخضر) شيخ الشيوخ وأتقاهم وأكرمهم ... وقائد الأزهر المعمور ذي الخطر أدامه الله في أمن وعافية ... وخصه ربنا بالنصر والظفر رابطة أبناء الأزهر الأدبية مريدكم محمد عبد المنعم محمد العربي نقيب الرابطة 20 من ربيع الأول 1372 ¬

_ (¬1) كتابة على غلاف القرآن الكريم المهدى من رابطة أبناء الأزهر الأدبية إلى الإمام.

كلمة الأستاذ محمد خلق الله أحمد

كلمة الأستاذ محمد خلق الله أحمد (¬1) سادتي: قضى نظام المجمع أن أشغل مكاناً كان يشغله من قبلي عالم من جلة علماء العربية، وشيخ من شيوخ جامعتنا الدينية الكبرى هو المرحوم الأستاذ محمد الخضر حسين، أسأل الله أن يجعل لي أسوة حسنة في إخلاصه للدين والعلم وخدمته للغة والأدب. كان رحمه الله (أحد العشرين الأولين في حياة هذا المجمع) وقد سجلت مضابط الجلسات بحوثه في: (تصحيح الألفاظ والأساليب)، وفي (نواحي الإصلاح في متن اللغة)، وفي (طريق المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية)، وغير ذلك من البحوث، كما سجلت ما شارك به في النقاش والتعقيب، وأشارت إلى قصائده التي كان يمتع بها المجمع في دوراته ومؤتمراته، والحق أن فقيدنا الكبير كان متنوع نواحي النشاط العلمي واللغوي، وكانت تتمثل فيه طائفة كبيرة من خصائص تفكيرنا العربي الإسلامي في تلك المرحلة التي مرت بها نهضتنا الحديئة منذ أواسط القرن الماضي، فقد كان علينا - ونحن نكافح ¬

_ (¬1) من كلمة الأستاذ محمد خلف الله أحمد التي ألقاها في مجمع اللغة العربية بعد أن شغل بعضويته مكان الإمام بعد وفاته.

في سييل نهضتنا الفكرية وإصلاح أوضاعنا الاجتماعية من جهة أخرى - أن نجاهد في إحياء تراثنا، والضاظ على تقاليدنا، وأن نتعهد أركان ماضينا بالدعم والتثبيت، وقد انتدب لهذه الناحية من جهادنا نفر من الراسخين في العلم فولوا وجوههم شطر ثقافتنا العربية الإسلامية، ينشرون صحائف مجدها، ويدفعون ما يوجه من شبه وتهم. وسار جهاد هؤلاء في ناحيتين متكاملتين: أحدهما إبراز سماحة الإسلام والدعوة إلى التمسك بمبادئه وتعاليمه، والثاني التمكين للغتنا الفصحى، والكشف عن ذخائرها، وتقريب بحوث القدماء فيها إلى أذهان المحدثين. وكان من هؤلاء السلفيين عالمنا الأستاذ (الضر حسين) فقد شهدت مجامع (تونس) و (دمشق) و (القاهرة) ألواناً خصبة من ثمار نشاطه، في هاتين الناحيتين. وسجلت لنا كتبه المطبوعة بعض هذه الثمار في صورة محاضرات ألقاها ورسائل نشرها، وفي كل جلاء لبعض خصائص ودراسات عن (حياة اللغة العربية)، وعن (الخيال في الشعر العربي)، وعن (القياس في اللغة العربية)، وعن (نشأة علم البلاغة)، إلى مسامرات ويحوث عن (الحرية في الإسلام) وعن (الدعوة إلى الإصلاح)، وعن (مدارك الشريعة الإسلام وسياستها)، وعن (السيرة النبوية) وعن (علماء الإسلام في الأندلس) إلى غير ذلك من ثمار التصنيف والتحقيق. ومنذ ثلاثين سنة، اتسعت دائرة جهاده وامتدت آثارها إلى مختلف أقطار العروية والإسلام، حين ألف هو وجماعة من المصلحين في القاهرة جمعية للهداية الإسلامية وأنشأوا لها مجلة تنشر دعوتها، وتكون ملتقى لأقلام الباحثين من الشيوخ والشباب. والذي يرجع إلى أعداد هذه المجلة يرى فيها صورة حية لنواحي الثقافة الإسلامية والعربية ومشكلاتها في تلك الفترة، ويلمس القيم التي ظل الأستاذ (الخضر حسين) طول حياته ينافح عنها في نثره وشعره،

وكانت عضويته في المجمع استمرار في خدمتها، وتتويجاً لجهاده في سبيلها. وليس المقام اليوم مقام إطالة في تحليل اتجاهات عالمنا السلفي ومواقفه من مختلف الدعوات والمناهج والآراء في إحياء اللغة وتيسيرها، وخدمة التراث الإسلامي وتجديده، ولكنه مقام الذكرى والوفاء، واهتداء الخلف بما شرع السلف من سنن صالحة في نزاهة البحث ووضوح القصد. وقد كان من أكبر أماني سلفي أمنية عبر عنها من قبل في بحثه عن (القياس في اللغة العربية)، هي أن يهيء الله لهذه اللغة -كما هيأ لبعض لغات العالم الكبرى- (مجمعاً ينظر فيما تجدد أو يتجدد من المعاني، ويضع لكل معنى لفظاً يناسبه، فإن العلوم تتدفق تدفق السيل، ومقتضيات المدنية تتجدد تجدد النهار والليل، وكل من المعاني العلمية والمرافق الحيوية يحتاج إلى أسماء تلتئم مع سائر الألفاظ العربية التئام الدرر النقية في أسلاكها ..) (القياس في اللغة العربية ص 20 المطبعة السلفية - القاهرة 1353 هـ) وقد كرمه الله فحقق أمنيته بإنشاء (مجمع اللغة العربية)، وزاد إكرامه فجعله من المؤسسين الأولين لنهضة هذا المجمع والمربين لتقاليده، وأنا أحب أن أقتدي به.

في ذكرى الإمام كلمة الدكتور زكريا البري

في ذكرى الإمام (¬1) كلمة الدكتور زكريا البري أيها الإخوة - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. في هذا المسجد الإلهي المبارك استجبنا لدعوتكم الكريمة، إحياء لذكرى المولد النبوي الشريف، ومشاركة منا في إحياء ذكرى عالم مجاهد كبير، ارتبط بكم، وارتبطم به، هذا الرجل في رأيي ورأي تلاميذه وفي رأي عامة المسلمين ممن يعرفونه، يدخل في أولياء الله الصالحين. ذلك أن هذا الرجل، وقد ارتبطت به في حياتي طالباً درست عليه، ثم بعد ذلك عاملاً بجواره في مشيخة الأزهر، حيث رغب إفي أن أشرف على مجلة الأزهر، ثم بعد ذلك رغب إلي رغبة خاصة في أن أعاونه في كتابة مذكراته وذكرياته. ترددت عليه في منزله العامر في شارع (صفية زغلول)، بعد أن انتقل إليه من شارع (خيرت). وبدأ يمليني مذكراته وأنا كتبها، وأحياناً كان يخط بيده مسودات هذه المذكرات، ثم أتناول تبيضها في منزلي، وقد توقفت في ¬

_ (¬1) أقيم احتفال بالقاهرة في ذكرى الإمام. وقد تلقيت من أحد أقارب الإمام شريطاً مسجلاً للحفل أخذت منه الفقرات المنتخبة، وذلك نظراً للكلمات المطولة التي ألقيت. وجرى الحفل في المسجد القائم في طريق الأهرام نزلة البطران.

بعض كلماتها لأنه عليه رضوان الله كان يكتب بالخط المغربي، ويضع نقطة الفاء تحتها وهكذا. ولكني بشيء من الممارسة استطعت أن أربط الألفاظ بعضها ببعض، واستمر هذا طويلاً أثناء المشيخة بعد صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، بل قد يطول الوقت إلى أكثر من ذلك. ثم ذهبت إليه في يوم معين وقلت له: إذن سنواصل، وصلنا إلى كذا ... فلنبدأ من هنا ... قال وضحك، أو بعبارة أدق، ابتسم، لأن سمته كان سمت هدوء وقال: لقد مزقت هذه المذكرات. كان في ذلك الوقت الأخ المرحوم الدكتور الشيخ عبد المنعم البهي يعمل في جريدة (المصري)، واتصل بي، وقد علم أنني أعاون الشيخ الأكبر المجاهد الإسلامي في كتابة هذه المذكرات. ورغب أن ينشرها تباعاً في جريدة المصري، فقلت له: إن هذا شيء لا أملكه، ولا أملك استئذانه فيه، وإنما الحل عندي أن تأتي لتزوره في يوم كذا، في هذا الوقت الذي سأواصل فيه الكلام وكتابة المذكرات. وجاء الدكتور المرحوم الشيخ لذلك، وحدثه عن نشرها تباعاً في جريدة (المصري) ليستفيد بها الناس، ويروا تاريخ رجل فاضل، ولد في تونس، وهاجر إلى أوربا تحت ضغط الاستعمار الذي حكم عليه بالإعدام و ... الخ. فإني أذكر كثيراً مما كتبه في هذا المقام. قال له بأدب: دعني أفكر، لأنه كان لا يريد نشر هذه المذكرات ... دعني أفكر، واترك لي فرصة. وخرج الدكتور البهي رحمه الله وخرجت معه. ثم جئت في المقابلة التي حدثتكم عنها، وقلت له: إذن نواصل ما كنا يه، قال: لقد مزقت هذه المذكرات. قلت: وفيما كان هذا؟ وقد أسعدتني

بكتابة هذه المذكرات، وشاركت فيها. قال: إن اقتراح زميلك المرحوم الدكتور البهي جعلني أفكر في نشرها أو عدم نشرها، واستخرت الله، ووجدت أن نشرها يعتبر حديثاً عن النفس، وفيه تزكية لنفسي، وأنا لا أريد أن أزكي نفسي، وليستفد من شاء بما شاء من كتاباتي، أما هذه المذكرات فقد عدلت عن المواصلة فيها، وانتهى أمرها إلى ما قلته لكم من أنه مزقها. أذكر لكم بعض ما فيها من أسرار: كان الشيخ اسمه الشيخ محمد الخضر حسين، قال: وأظن أن هذه الورقة بالذات مسودتها عندي في بيتي احتفظت بها، لأني كنت آخذ كما قلت لكم بعض كتاباته وأبيضها أحياناً أولاً بأول - قال: إن أمه حينما ولدته وكبر، قالت له: إنها كانت تربت عليه وهو صغير وتقول له: إن شاء الله يا أخضر ... تكبر وتروح الأزهر هذا هو الأزهر، وسمعته عند سيدة هناك في تونس، وعندها كلية الزيتونة، وهي كلية جامعية تشبه الأزهر تماماً، ولكن الأزهر هو الأزهر عندي هذه القصاصة بخطه رحمه الله. وكأن السماء كانت تستجيب لهذه السيدة، لأنها هناك في قرية من قرى تونس، ثم بعد ذلك تربت على وليدها وتدعو له هذا الدعاء، وإذا بالقدر يخرج الخضر حسين من تونس إلى ألمانيا ... إلى ... إلى أن استقر وجاء هنا إلى الأزهر. ووجد الناس في الخضر بن حسين في العشرينيات عالماً غريباً وعجيبباً، ولم ينشأ في الأزهر، وإنما نشأ في بلاده، وكوّن نفسه، وظهر فضله في كتاب ألفه في الرد على كتاب الدكتور طه حسين (كتاب نقض كتاب الشعر

الجاهلي). وتسامع الناس بهذا العالم، من أين؟ إلى أن عرفوا أن هذا عالم جليل، رباه الله، وصنعه على عينه، وجاء إلى مصر مهاجراً لأن الاستعمار كان قد أصدر حكماً بإعدامه. هنا تطلع الأزهر إلى أن يفوز بهذا العالم، وأعطاه شهادة العالمية، ثم أعطاه بعد ذلك عضوية جماعة كبار العلماء. ثم أنشأ الشيخ الخضر حسين جمعية "الهداية الإسلامية" ورأسها، ثم ... ثم بما لا أستطيع أن أطيل فيه لأن الوقت يحكمني مهما كنتم على استعداد لأن تستمعوا. ثم بعد ذلك يجيء شيخاً للأزهر، وكان هذا شيئاً أبعد عن خياله، بل عن خيالنا نحن وعن توقعات أي سياسي وأي أزهري أن يجيء الشيخ الخضر حسين شيخاً للأزهر وهو في ضعف الشيخوخة، وهو لا يتطلع إلى ذلك، وليس له أنصار ينادونه، بل كان هناك فلان وفلان من أعلام مصر الكبار الذين يستحقون هذه المشيخة. لكن إرادة الله تقتضي بحكمته أن يثور خلاف في مجلس الوزراء حول اختيار هذا أو ذاك، وإذا بالمجلس يفاجئ الشيخ الخضر حسين، وكان بيته في شارع خيرت، بينه وبين لاظوغلي مجلس الوزراء في ذلك الوقت خطوات، وإذا بالشيخ الخضر حسين، وهو في بيته نائم، إذا بوزراء يدقون بابه، ثم بعد ذلك عرف منهم أن مجلس الوزراء قد انتهى خروجاً من الخلاف إلى أن يختار شيخاً للأزهر. ثم ... ثم ... مسائل كثيرة، وتاريخ هذا الرجل في حاجة إلى أن يكتب أحد عنه، وهذا ما سأحاوله إن شاء الله، رسالة ماجستير، أو رسالة دكتوراه، لأن له تاريخاً غريباً، هو تاريخ الأئمة، هو تاريخ المجاهدين. ألّف في أصول الفقه، وألف في رسائل الإصلاح، ألف في القياس في

اللغة العربية ... هذا الرجل، أقول إننا في حاجة لمن يكتب عنه كتابة حرة، وكتابة منهجية في رسالة دكتوراه، ورسالة ماجستير. وأختم بكلمة قالها لي، في يوم أن خرج من المشيخة. خرج من المشيخة، كان قد استقال، وقدم استقالته لأنه غضب من بعض الأمور التي أرادتها الثورة في الأزهر، وقال: لا أوافق عليها مطلقاً. ثم بعد ذلك زاره وزير الأزهر في ذلك الوقت، وهو موجود الآن، وقد حدثني بهذا أيضاً، وحدثته حينما نقلت إليه ما قاله لي الشيخ الخضر حسين، قال: هذا حقيقي. زاره وقال له: إن استقالتك واعتكافك سببت للدولة متاعب سياسية، وأنا باسم الدولة أنصح باسترداد الاستقالة وبالعودة إلى العمل، قال: بشرط أن تستجاب المطالب التي تقدمت بها، وأن تعدل الثورة عما تريده نحو الأزهر. قال: ولك هذا. وذهب إلى مشيخة الأزهر يوماً واحداً أظنه يوم الخميس، ثم بعد ذلك في يوم السبت على ما أذكر إذ به يقرأ في بيته قبل أن يخرج قبول استقالة شيخ الأزهر أو بعبارة أدق تعيين شيخ آخر. فزرته في المساء وقلت له: كيف كان ذلك، فقال: لا أعلم، أنا ذهبت لمصلحة الأزهر حيث حدثني الوزير المختص بذلك، ثم بعد ذلك لم يتحدثوا عن استقالتي، وإنما تحدثوا عن خروجي وتعيين غيري: يا بني إن كانت جنة فقد دخلتها وإن كانت ناراً فقد خرجت منها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كلمة الدكتور عبد الغني الراجحي

كلمة الدكتور عبد الغني الراجحي (كلمات الأخ الوزير أثارت في نفسي شهوة جامعة لأن أتشرف بالحديث عن فضيلة الشيخ المرحوم الخضر حسين ... والله لكأنه أمامي الآن جالس في مسجد (الخزندارة) في شبرا والجامع خلف ظهره ونحن أمامه يدرس لنا، وكنا في قسم الدراسات العليا ... يدرس لنا على الطريقة الأزهرية القديمة، وكان سمته ووقاره ومنظره وهيئته تدعو إلى العلم، حتى قبل أن ينبث ببنت شفة. والمسألة التي أثارها الدكتور زكريا في أن له كتاب في القياس، كان يتناول موضوعاً لغوياً دقيقاً، هل اللغة العربية يدخلها القياس أم هي مأثورة فقط؟!. الشيخ كان يمتاز بأنه يضرب في جميع العلوم والنواحي بسهم وافر، يتكلم في الأصول، يتكلم في اللغة، يتكلم في التفسير، يتكلم في كذا وكذا ... كان موسوعة علمية. وأنا أتذكر في مشكلته مع رجال الثورة، في إبقائه بالأزهر أم عدم إبقائه، أنه لما غضب مما أريد من الأزهر، هذه الكلمة ذكرناها وأشعناها، قال لمحدثيه: لماذا أحرص على الأزهر، وماذا أريد من الأزهر، أنا يكفيني في غذائي اليومي بعض أشياء من التمر مع كوب من اللبن الحليب. هذا غذائي وهذه حياتي،

فلا أورط الأزهر في شيء، ولا أبغي من ورائه مالاً أو قصوراً أو جزاءاً. رحم الله فضيلة الشيخ، وأنا أشهد بأنني حضرت عليه، وأنه والد لي، وأضمه إلى جميع الذين تلقيت عنهم العلم فملؤوني عزة وكرامة).

كلمة الدكتور عبد الصبور شاهين

كلمة الدكتور عبد الصبور شاهين بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: (هذه أول مرة أعلم للأستاذ الأكبر محمد الخضر حسين له في مصر قرية، وقد كنت أتخذه دليلاً على قضية أؤمن بها وهي أن العالم الإِسلامي كله قرية متكاملة لا تتميز، وأنه ليس من الغريب أن يكون العالم التونسي الشيخ محمد الخضر حسين شيخاً للأزهر؛ لأن الأزهر ليس مؤسسة مصرية ولكنه معقل الإِسلام، وكل عالم جدير بأن يؤم المسلمين وصالح لأن يكون شيخاً للأزهر، ولكن الناس وقد غاب هذا المعنى، فهموا أن هذه المسألة غريبة جداً أن يكون تونسي شيخاً للأزهر).

فقيد الإسلام والعروبة

فقيد الإِسلام والعروبة (¬1) انتقل إلى جوار ربه شيخ الجامع الأزهر السابق وعضو جماعة كبار العلماء وعضو المجمع اللغوي ورئيس جمعية الهداية الإِسلامية شقيق السيد زين العابدين التونسي من كبار العلماء بدمشق والسيد محمد المكي بن الحسين من كبار العلماء بتونس، وعم السادة كاظم المدرس بدمشق وعلي الضابط بحلب وأحمد بالجيش السوري وعبد الرحمن وحسين الطالبين بدمشق، وحمادي ومحمد علي نجلي الشيخ حسونة بتونس، وجد محمد بوزارة الدفاع السعودي والطيب صالح التونسي مدير سلاح الصيانة السعودية وعبد الرحمن صالح بالبعثة التعليمية بالرياض، وصهر الشيخ محمد سحنون الجزائري من طلبة العلم بالمدينة المنورة ومحمد الشريف بالطائف وقريب عائلات عمر وعزوز بجمهورية تونس ومدكور بمصر والبطران بالجيزة. وسيصلى على الفقيد اليوم بالجامع الأزهر على أثر صلاة الظهر، ثم يشيع جثمانه إلى مقره الأخير بالإمام الشافعي، ويدفن مع صديقه الأوفى المغفور له أحمد تيمور باشا بمدفن الأسرة التيمورية تنفيذاً لوصيته، وتقام ليلة المأتم أمام منزله رقم 16 شارع صفية زغلول، تغمده الله بواسع رحمته. "جريدة الأهرام - العدد 25988 - الاثنين 14 رجب 1377 - 3 فبراير 1958" ¬

_ (¬1) وردت مئات برقيات التعزية من داخل وخارج مصر ومن مختلف الرؤساء والعلماء والوزراء وأهل الفكر.

نعي من مشيخة الأزهر

نعي من مشيخة الأزهر مشيخة الأزهر تنعي بمزيد الأسى إلى العالم الإِسلامي والعربي المغفور له فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر السابق. اختاره الله لجواره بعد حياة حافلة بالآثار الطيبة والجهاد في سبيل العروبة، وهي إذ تنعاه تفقد بوفاته علماً من أعلام الإِسلام. تغمده الله العلي الكبير بواسع رحمته، وأجزل له المثوبة وأكرم مثواه جزاء ما قدم للعلم والدين. "جريدة الأهرام - العدد 25988 - تاريخ 3/ 2/ 1958"

نعي من سفارة الجمهورية التونسية بالقاهرة

نعي من سفارة الجمهورية التونسية بالقاهرة تنعي سفارة الجمهورية التونسية إلى العالم العربي الإِسلامي فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر سابقاً. كان رحمة الله عليه من المجاهدين الأوائل الذين أرسوا دعائم الحركة الوطنية التونسية، وممن شردهم الاستعمار عن وطنهم، فهاجر يحمل صوت بلاده إلى مختلف الأقطار، حتى استقر به الطواف في مصر الشقيقة حيث واصل نشاطه في سبيل الإِسلام والعروبة. رحمه الله رحمة واسعة وأقر عين الإِسلام والعروية بما كان الشيخ الخضر يأمله لهما. "جريدة الأهرام - العدد 25988 - تاريخ 3/ 2/ 1958"

نعي من مجلة "لواء الإسلام"

نعي من مجلة "لواء الإِسلام" استأثرت رحمة الله تعالى بعلم من أعلام الإِسلام المجاهدين الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر ورئيس مجلة لواء الإِسلام السابق. ومجلة لواء الإِسلام تنعي إلى العالم الإِسلامي عالماً جاهد في سبيل الله بقلمه ولسانه ونفسه، وإماماً من أئمة السلف الصالح في خلقه وورعه وزهده وتقواه، طرح الدنيا في سبيل عزة الإِسلام وكلمة الحق. تغمده الله بواسع رحمته، وعوض الإِسلام فيه خيراً. "جريدة الأهرام - العدد 25988 - تاريخ 3/ 2/ 1958"

شكر الأزهر

شكر الأزهر مشيخة الأزهر تذكر بخالص الشكر وعظيم التقدير جميل مواساة السيد الرئيس جمال عبد الناصر والسيد الرئيس شكري القوتلي لتفضلهما بايفاد مندوبين للاشتراك في تشيع جنازة المغفور له فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر السابق. ونرجو الله أن يديم لهما نعمة العافية. كما تقدم عظيم شكرها لكل من تفضل بالتعزية، ولا سيما السادة الوزراء والسفراء ورجال الأديان والتعليم وسائر الهيئات. ونسأل الله أن يجزيهم أحسن الجزاء. "جريدة الأهرام - العدد 25990 - تاريخ 5/ 2/ 1958"

خطبة تأبين من العلامة الشيخ محمد العزيز جعيط

خطبة تأبين من العلامة الشيخ محمد العزيز جعيط أما بعد: فيا عباد الله، إن موت العلماء الراسخين ثلمة في الإِسلام، تثير الانزعاج والأحزان والآلام، ذلك أنهم الذابّونَ عن الدين، الحارسون له من كيد الكائدين الذائدون عنه افتراء المفترين، وتحريف المبطلين. يجتهد العلماء الأبرار في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، في دفعهم إلى سلوك ما يفضي إلى الابتهاج والحبور، وينقذهم من الشرور والثبور، ويدأبون على تخليصهم من الأوهام الباطلة، ويغرسون في نفوسهم الأخلاق الفاضلة، ويبذلون ما استطاعوا لانتشالهم من الأيدي العاتبة الصائلة. فهم ما بين مقاومة للطغيان، ونشر للعرفان، وإعزاز للأوطان، اشتهر من هؤلاء جماعة من الأخيار، في مختلف الأقطار، على مرور الأعصار، ويعد من بين هذا الفريق بحق العلامة النظّار، ابن هذه الديار، الشيخ الخضر الحسين الرفيع المقام، الذي وافاه الحمام، في هذه الأيام. فأثار نعيه لعارفيه الآخذين عنه الأسف والسقام، إذ كان رحمه الله كنيفاً ملئ علماً، وعبقرياً فإنْ نبلاً وفضلاً وفهماً، مصلحاً صادقاً لا يخشى في الحق لوماً ولا هضماً، رحل عن هذه الديار، فراراً من بغي الاستعمار، واستنكافاً من تحمل الذل والصغار، بعد ما أرّج الأرجاء التونسية بذكره المعطار، واشتهر علمه اشتهار الشمس في رابعة

النهار، وتدفقت تحريراته العلمية الإصلاحية المزرية بالأزهار، وما أن رحل إلى الربوع الشرقية حتى تلقته بالإجلال والإكبار، ورسمته في سلك علمائه الكبار، فأخذ يبث مختلف العلوم، ويحل منها المعكوم والمختوم، وينشئ الرسائل والتآليف الفاضحة زيغ الزائغين، ويقوم اعوجاج المتنطعين، ويبذل في نهوض الأوطان عصارة الفكر وسحر البيان، فولته مصر اعترافاً بفضله مشيخة الأزهر الرفيعة الشأن، فاقدروا أيها الإخوان هذا العالم الراحل حق قدره، وسلوا الله أن يجزيه جزيل ثوابه وأجره، وتأسوا به في طلب العلم وشد أزره (¬1). ¬

_ (¬1) من كتاب (إرشاد الأمة ومنهج الأئمة) نشر الشركة التونسية للتوزيع - تونس.

طود هوى

طود هوى ورد نبأ من القاهرة يعلن وفاة علم من الأعلام الذين أنبتهم وطننا التونسي، ثم قدمهم إلى الشرق العربي مفاخراً ومعتزاً. هذا العلم هو فضيلة العلامة الجليل والبحاثة الفذ والنبراس المنير، شيخ الشيوخ، وطود الرسوخ، الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر السابق، وعضو هيئة كبار العلماء في الجامعة الأزهرية، وعضو المجمع اللغوي العربي بمصر. والفقيد على مكانته العلمية الفائقة رجل عمل وإصلاح، طوى حياته على تقوى ورضوان من الله، يخشى ربه، ويقدر واجبه كعالم، ويعمل لصلاح أحوال الإِسلام والمسلمين في نطاق الدين وفي دائرة ما أمر به الله. لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يأبه لما قد يصيبه بعد قولة الحق. وقد لازمته هذه الخلال الطيبة منذ عهد شبابه، ودفعت به إلى الهجرة من وطنه ومسقط رأسه، فجاب البلاد الإِسلامية المختلفة عاملاً في سبيل ما أخذ نفسه من العمل لصلاح أحوال المسلمين وجمع شتاتهم، جاعلاً نصيباً كبيراً من سعيه موقوفاً على خدمة وطنه الأصلي وخدمة بنيه الذي يحطون رحالهم في أي بلد يكون فيه. وكان من نتائج جهاده في سبيل تونس أن حكم عليه قضاء الاستعمار بالموت غيابيًا، وباستصفاء مكاسبه في مسقط رأسه، فما أبه لذلك

وما صده قضاء الاستعمار عن المضي في سبيله الذي اختطه لنفسه، والذي حافظ على السير فيه إلى آخر نفس من حياته. ومنذ أسابيع قليلة تلقى أحباؤه وعارفوا فضله الجم بسرور بالغ وشكر جزيل نبأ الدعوة الكريمة التي وجهها إليه فخامة رئيس الجمهورية، وتقبلها فضيلته قبولًا حسناً على أمل أن يلبيها في شهر مارس المقبل. ولكن المنية عاجلته، وحالت بينه وبين أن يرى التقدير اللائق بمقامه وعرفان الجميل من وطنه الذي سيعرب له عنه باسم هذا الوطن العزيز فخامة رئيس الجمهورية. رحمه الله رحمة واسعة، وأغدق على مرقده الطاهر شآبيب الرضوان، وأسكنه فسيح الجنان مع الأبرار والصديقين، جزاء ما قدمه للعلم والإِسلام والمسلمين من جليل الخدمات (¬1). ¬

_ (¬1) جريدة (الاستقلال) التونسية - لسان اللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري التونسي - العدد 119 - السنة الثالثة تاريخ 18 رجب 1377 - 1958. رئيس التحرير السيد محمد المنصف المنستيري.

20 - تونس وجامع الزيتونة

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (20) «توْنس وَجامِعُ الزَّيْتُونَة» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة لئن كان العلامة الإمام الأكبر المرحوم محمد الخضر حسين لم يدع باباً من أبواب العلوم الدينية والعربية إلا زانه، ولئن كان - رضوان الله عليه - علَماً إسلامياً خفاقاً في العالم الإسلامي أجمع، يجاهد في ميادينه الواسعة بقلمه وفكره، فإنه -رحمه الله- كان دائم الذكر والحنين لتونس التي ولد فوق أديمها الطاهر، وتحت سمائها الصافية، من أسرة شرف وعلم، فخصَّها ببعض الدراسات والتراجم لبعض عظماء رجالها ومعاهدها، وازدهارها العلمي والأدبي، مما يطالعه القارئ في هذا الكتاب. ففي الجنوب التونسي "نفطة" ولد الإمام -رحمه الله-، وفي تونس العاصمة، وفي جامعها الإسلامي "جامع الزيتونة" - الذي حفظ وحافظ على دين وعروبة المغرب العربي الكبير، بما دفع من أجيال مؤمنة قادت الثورات، فحررت الأرض، وحمت العرض، في هذا الجامع دَرَسَ ثم درَّس، وتولى القضاء في "بنزرت": وخاض غمار الصحافة، وأسس مجلة "السعادة العظمى"، فأغلقتها سلطات الاستعمار الفرنسي، ولم يدع درباً إلا سلكه في سبيل تحرير تونس، فألهب حماسة الجماهير فوق منابر المساجد والميادين، وفي الدروس الخاصة والعامة، وبثَّ في طلبة العلم روح النضال، ولما شعرت دولة الاحتلال بالأثر الذي أحدثه في الجماهير، لا حقته، وضيقت

عليه السبل، فخرج فراراً بدينه إلى الشرق حاملاً قلمًا بليغاً، وعقلاً مؤمناً، يتابعه حكم بالإعدام أصدرته السلطة الفرنسية، وحطَّ به الترحال في دمشق؛ ليتابع فيها جهاده الكبير. بعد رحيله إلى القاهرة لاجئاً سياسياً عام 1920، بدأ هناك بالعمل السياسي إلى جانب الدعوة إلى الإسلام، وكانت داره "سفارة" تونس في القاهرة، يؤمها الأحرار والمناضلون من أبناء المغرب، وأسس "رابطة تعاون جاليات أفريقيا الشمالية"، فعقدت المؤتمرات، وشرحت قضايا المغرب العربي للعالمين العربي والإسلامي. وأنشأ "جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية" التي قامت بدور هام وفعال في توحيد نضال أبناء المغرب العربي -تونس والجزائر والمغرب-، وكانت إحدى الطعنات التي مزقت صدر الاستعمار الفرنسي. والحديث عن الكفاح السياسي للعلامة محمد الخضر حسين لا تسعة هذه المقدمة، وإنما نتركه لكتاب يضم أمثولة عالم مجاهد، له في ميادين الدين جولات، وفي ميادين الدولة صولات (¬1). والحنين إلى تونس نجده في شعر الإمام، وهو على كثرته -فإننا نكتفي- بأبيات نوردها من ديوانه "خواطر الحياة": وتحت عنوان "أنباء تونس" قال: عندما زاره أحد الأدباء القادمين من تونس إلى القاهرة: أمحدِّثي رُبيّتَ في الوطن الذي ... رُبيّتُ تحتَ سمائه وبلغتُ رشدا وجنيتَ زهْرَ ثقافةٍ من روضةٍ ... كنتُ اجتنيتُ بنَفسجاً منها ووردا ¬

_ (¬1) انظر كتابنا: "جبهة الدفاع عن إفريقية الشمالية - صفحات من جهاد الإمام محمد الخضر حسين".

هاتِ الحديثَ فإنني أصبو إلى ... أنباء تونسَ من صميمِ القلب جِدّا والروضة في البيت الثاني هي جامع الزيتونة. وكان أمير شعراء تونس الشاذلي خازندار قد بعث إلى المؤلف قصيدة مطلعها: يزجي القوافيَ بين الأنجم الزُّهْرِ ... تحنانُ تونسنا الخضراء (للخِضْر) فأجابه المؤلف بقصيدة نقتطف منها الأبيات التالية: دَرَيتَ حقاً وما أدراكَ أنّيَ من ... حرِّ اشتياقي إلى الخضراء في ضَجَرِ من لي بأن أردَ الأرض التي صدرتْ ... منها وأفتح في أرجائها بصري هناكَ ما شئتَ من علمٍ ومن أدبٍ ... ومن حدائقَ تؤتي أطيب الثمر ومن قصيدة أجاب بها على أبيات بعث بها إليه صديقه الحميم العلامة محمد الطاهر بن عاشور يذكر فيها تونس: فأين ليالينا وأسمارها التي ... تُبَلُّ بها عند الظّماءِ كبودُ ليالٍ قضيناها بتونسَ ليتها ... تعودُ وجيشُ الغاصبينَ طريدُ ومن قصيدة راسل بها الأديب التونسي محمد المأمون النيفر رداً على أبيات بعث بها إلى الإمام: ذكرتُ ربي المرسى الأنيقة والصَّبا ... تذيعُ شذا أزهارها البهجاتِ وسامرَ آدابٍ حسانٍ كأنّهُ ... مراتعُ ما بالقاعِ من ظَبياتِ وروضةَ علمٍ كنتُ أجني ثمارَها ... وأرشِفُ منها أعذَبَ اللَّهجاتِ ومن قصيدة في محاورة شعرية مع صديقه الشيخ علي النيفر قال:

طلعتَ علينا واشتياقي لتونسٍ ... يقلب جمراً بين جنبيَّ واقِدا وفي حب الوطن ينشد: وطني علَّمتني الحبَّ الذي ... يدعُ القلبَ لدى البينِ عليلا لا تلمني إن نأى بي قدرٌ ... وغدا الشرقُ من الغربِ بديلا عزمةٌ قد أبرمتها همةٌ ... وجدَتْ للمجدِ في الظَّعنِ سبيلا أنا لا أنسى على طولِ النَّوى ... وطناً طاب مبيتاً ومقيلا في يميني قلمٌ لا ينثني ... عن كفاح ويرى الصَّبرَ جميلا وللإمام قصيدة (تحية الوطن) قالها متشوقاً إلى تونس ومن فارقهم بها من الأصدقاء: حيّا ربى تونس ذات الزهور ... عهد السُّرور وافترَّ في طلعة تلك القصور ... أنس البدور يا نسمة ماست كشارب راح ... قبل الصباح هُبي وهاتي نفح أنس قَراح ... يشفي الجراح هذا الحب الصادق لبلد رأى النور في رحابه، وتلقى العلوم في معهده العظيم جامع الزيتونة، وفي ميادينه سطر الصفحات الأولى من كفاحه الإسلامي المشهود له. هذا الحب كان له أثره الكبير في توجيه الإمام مجلة "الهداية الإسلامية" التي أصدرها في القاهرة في ثلاث وعشرين سنة إلى التعريف بتونس ورجالها وثقافتها (¬1)، وفتح صفحاتها أمام كبار العلماء والكتاب ¬

_ (¬1) انظر كتابنا: "روائع مجلة "الهداية الإسلامية" - تونس التاريخ والثقافة" خصصناه بالمواضيع والأنباء التي نشرتها المجلة عن تونس.

التونسيين؛ أمثال: الإمام محمد الطاهر بن عاشور، والعالم محمد البشير النيفر، وغيرهما. وقلّما نجد جزءاً من المجلة لا يضم اهتماماً بتونس، وأثراً لها. والحمد لله رب العالمين علي الرّضا الحسيني

فقهاء تونس

فقهاء تونس (¬1) ألقيت نظرة على تاريخ الفقه في تونس، واستخلصت منه هذا الحديث: وإذا تحدثت عن فقهاء تونس، فلا أتحدث عمَّن يحفظ أقوال أهل العلم ويلقيها في الدرس، أو يجمعها في كتاب على نحو ما حفظها، وإنما أتحدث عمَّن درس أحكام الشريعة، وعرف وجه ارتباطها بأصولها، وإذا تجددت حادثة، استطاع أن يرجع إلى دلائل الشريعة، ويستنبط لها حكماً ينطبق عليها. أخذ الفقه الإسلامي يدخل البلاد التونسية منذ ابتداء فتحها في عهد معاوية بن أبي سفيان؛ فقد توارد عليها أيام الفتح جماعات من الصحابة والتابعين والمتفقهين في الدين؛ مثل: عبد الله بن الزبير، وعقبة بن نافع، وينبئنا التاريخ: أن الفقه كان في عهد عمر بن عبد العزيز يتلقى في تونس على طريق الدراسة والتعليم، فإن هذا الخليفة ندب عشرة من أعيان التابعين، وبعث بهم إلى أفريقية ليعلموا البربر واجبات الدين وأحكامه، ومن بين هؤلاء الأعيان: عبد الرحمن بن رافع التنوخي، وهو أول من ولي القضاء بالقيروان، وكانت مدينة القيروان يومئذ مقر الإمارة، فأصبح جامعها الذي أسسه الفاتحون ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول والثاني من المجلد السادس عشر الصادران في رجب وشعبان 1362.

الأولون معهداً للعلوم الإسلامية، ومصدراً للفتاوى والأحكام. وأخذ أهل تونس يرحلون إلى الشرق لتلقي علوم الشريعة، ومن هؤلاء الراحلين: عبد الرحمن بن زياد المعافري، فتلقى العلم عن جماعة من التابعين، وكان من رفقائه في طلب العلم الخليفة أبو جعفر المنصور، ثم عاد عبد الرحمن إلى القيروان بعلم غزير. ورحل بعد هذه الطبقة طائفة أخذوا عن الإمام مالك وغيره من الأئمة، ثم عادوا إلى تونس بعلم واسمع؛ مثل: علي بن زياد، وهو أول من دخل تونس بموطأ مالك بن أنس، ومثل أسد بن الفرات الذي تلقى العلم عن مالك بالمدينة، ثم عن محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة بالعراق، وعاد إلى تونس وهو على علم بأصول مذهبي مالك وأبي حنيفة وفروعهما، وهذا الفقيه هو البطل الذي فتح صقلية في عهد الأغالبة، فجمع بين القضاء العادل، وقيادة الجيوش المظفرة. وما أتى على تونس مئتا سنة من الهجرة النبوية إلا وقد ظهر فيها أعلام بلغوا الذروة في الفقه، وأحكموا صناعة القضاء وظهر بعد هؤلاء الذين لاقوا مالكاً طبقة أشهرهم: الإمام عبد السلام ابن سعيد المعروف بسحنون، نشأ سحنون وشبّ في القيروان، ثم رحل إلى مصر، وتلقى فقهاً كثيراً عن ابن القاسم، وألف كتاب "المدونة"، وعنه انتشر مذهب مالك في تونس، بل في المغرب كله، وتخرج بين يديه رجال خدموا الفقه بالاستنباط والتدريس والتأليف. هذا هو الأساس الذي ارتفع عليه صرح الفقه في تونس، واستمر جامع القيروان يخرج للناس أكابر الفقهاء الذين بلغوا درجة الاستنباط أو الترجيح

بين الآراء، وألفوا فأحكموا صناعة التأليف، كما أخرج في المئة الثالثة محمد ابن إبراهيم بن عبدوسي، والقاضي موسى بن عمران المعروف بالقطَّان، وأخرج في المئة الرابعة عبد الله بن أبي زيد صاحب كتاب "النوادر"، وأخرج في المئة الخامسة عبد الحميد المعروف بابن الصائغ، وعلي بن محمد المعروف باللخمي، وعبد الخالق السبوري. وبين أيدي هؤلاء الأساتذة تخرج الإمام محمد بن علي المعروف بالمازري، فازدهرت بعلومه المئة السادسة. وفي أواخر المئة السادسة انتقل كرسي الإمارة إلى مدينة تونس؛ حيث اختارها عبد المؤمن بن علي وخلفاؤه مقراً للإمارة، وأصبحت الحركة العلمية تنمو في هذه المدينة إلى أن صار جامع الزيتونة محطَّ رحال طلاب العلم بدل جامع القيروان. وظهر في المئة السابعة علماء أجلاءة مثل: أبي أحمد المعروف بابن زيتون، وهو أول من أظهر بعد عودته من الشرق مؤلفات فخر الدين الرازي في الأصول، ودرسها بتحقيق. وظهر في المئة الثامنة أعلام يشار إليهم بالبنان؛ مثل: محمد بن عبد السلام الهواري، ومحمد بن هارون الكناني، وتحدث أبو عبد الله المقري قاضي فاس عن زيارته لتونس في ذلك العهد، وذكر لقاعه لهذين الإمامين، ثم قال: "ولقيت غير واحد من علمائها". ومن تلاميذ محمد بن عبد السلام: أبو عبد الله محمد بن عرفة، وأبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، وتخرج في دروس ابن عرفة علماء ازدانت المئة التاسعة بدراساتهم وآرائهم ومؤلفاتهم؛ مثل: أبي عبد الله

الأبي، وأبي القاسم البرزلي. وجرت في تونس بعد هذا فتن وحروب عطلت سير العلم، وأتلفت كثيراً من خزائن الكتب حتى كادت المئة العاشرة تنقضي دون أن يكون هنالك رجال لهم في الفقه أقدام راسخة، وأنظار ثاقبة. وفي آخر المئة العاشرة التحقت تونس بولايات الدولة العثمانية. ويقول المؤرخون: أول من كسا القضاء فيها عظمة وكرامة بعد الاستيلاء العثماني: أبو الحسن النفاتي المتوفى سنة 1049. وكان القضاة بعد هذا يبعثون من البلاد التركية، وهم متفقهون على مذهب أبي حنيفة، وورد غيرهم من العلماء، فشدوا أزر النهضة العلمية، فسارت في قوة ونشاط، وأخذت تونس تخرج كبار الفقهاء؛ مثل: الشيخ محمد زيتونة، والشيخ محمد سعادة. ومن هنا رأى الأمير محمد حسين باي أن البلاد في غنى عن القضاة الذين يبعثون من الآستانة، وعين من الوطنيين قاضياً مالكياً، وقاضياً حنفياً، وكان هذا الأمير يصطفي لمجلسه صفوة العلماء، فأقام للعلم سوقاً نافقة، وما أقبلت المئة الثالثة عشرة حتى كانت تونس عامرة بأجلة الفقهاء. وجاء الأمير أحمد باي، ونظم التعليم بجامع الزيتونة سنة 1256 هـ، فازدادت النهضة العلمية قوة على قوتها، واشتهرت بيوت بإقبال أبنائها على العلم، وتوليهم للمناصب الشرعية، كآل النيفر، وآل عاشور بين فقهاء المالكية، وآل بيرم، وآل أبي الخوجة بين الفقهاء الحنفية. كان نظام التعليم بالمعهد الزيتوني من أسباب تنافس أصحاب المذهبين: المالكي، والحنفي في ميدان العلم، ويضاف إلى هذا: أن في العاصمة محكمة

مالكية، ومحكمة حنفية، وكل منهما يتألف من قاض، ورئيس للفتوى، وثلاثة أو أربعة من المفتين، أما القضاة والمفتون في سائر البلاد، فيعينون من الفقهاء المالكية، نظراً إلى أن المذهب المالكي هو الذي يأخذ به معظم الوطنيين. وقد أخرج جامع الزيتونة بعد هذا النظام فقهاء أجلة، يعتزون بعلمهم، ويزهدون في المناصب، إلا أن تحيط بها العزة والكرامة، وأدركت من هؤلاء الفقهاء أساتذة بلغوا غاية بعيدة في سعة العلم، وتحقيق البحث؛ مثل: الشيخ عمر بن الشيخ، والشيخ أحمد بن الخوجة، والشيخ محمد النجار، ومن نظر في فتاوى هؤلاء الأساتذة، أو رسائلهم التي حرروا بها بعض المسائل العويصة، رآهم كيف يرجعون إلى الأصول والقواعد ومراعاة المصالح، ولا يقنعون بنقل الأقوال دون أن يتأوَّلوها بالنقد والمناقشة. ويدلنا التاريخ القريب أن بعض رجال الدولة وجدوا عندما اتجهوا إلى إصلاح الحالة السياسية أو العلمية أو الاجتماعية فقهاء يدركون مقتضيات العصر، ويعرفون كيف تسعها أصول الشريعة بحق، فكانوا يعقدون منهم بعض لجانهم، ويستنيرون بآرائهم؛ مثل أساتذتنا: الشيخ عمر بن الشيخ، والشيخ سالم أبي حاجب، والشيخ مصطفى رضوان. وما زال الرسوخ في الفقه، وربط الأحكام بأصولها، من عناية الأساتذة في جامع الزيتونة، يشهد بهذا ما نقرؤه من محاضراتهم وفتاواهم ومقالاتهم التي تنشر في الصحف التونسية أو المصرية. وإذا كان لهذا الحديث خلاصة، فهي: أن كثيراً من فقهاء تونس كانوا يدرسون الفقه بأنظار مستقلة، وآراء تستضيء بالأدلة، وكانوا يتنافسون في هذه الطريقة، ويتفاوتون فيها على قدر تفاضلهم في العبقرية وسموِّ الهمة.

فإذا ما تصدى مؤرخ للحديث عن الفقهاء الذين برعوا في فهم حكمة التشريع، وشملوا الحقوق برعاية وصيانة، فإن كثيراً من فقهاء تونس أهل لأن يذكروا في مقدمة أولئك الفقهاء.

شعراء تونس

شعراء تونس (¬1) دخل أدب اللغة العربية البلاد التونسية مع الفتح الإسلامي؛ فقد كان في الفاتحين الأولين من يجيد الشعر؛ مثل: أبي الخطار الحسام بن ضرار، والحسن بن حرب الكندي. ونشأ في أوائل المئة الثانية من الهجرة أدباء يقولون الشعر الجيد؛ مثل: عبد الرحمن بن زياد، وهو أول مولود ولد للعرب في أفريقية، ومما قاله في بغداد وقد عزم على العود إلى القيروان: ذكرتُ القيروانَ فهاج شوقي ... وأين القيروانُ من العراقِ مسيرة أشهرٍ للعير نصاً ... وللخيل المضَّمرة العتاق فبلِّغ أنعماً وبني أبيه ... ومن يرجو لنا وله التلاقي بأنّ الله قد خلى سبيلي ... وجدَّ بنا المسير إلى فراق وفي ذلك العهد ولِّي القيروان يزيد بن حاتم، وقصده الشعراء من المشرق؛ مثل: مروان بن أبي حفصة، وربيعة بن ثابت الذي مدحه بذلك البيت السائر: لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم واليزيد بن حاتم ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الخامس والسادس من المجلد الخامس عشر الصادران في ذي القعدة وذي الحجة 1361.

ويزيد نفسه كان شاعراً، وهو القائل: لا يألف الدرهم المضروب صرتنا ... لكن يمر عليها وهو منطلق وما من شك في أن ولاية أمير سخي يقدر الأدب قدره، من أقوى أسباب نهوض أدب اللغة، ولا سيما أميراً يفد إليه الشعراء البلغاء من آفاق شتى. ويتراءى لنا في المئة الثالثة أدباء يجيدون الشعر؛ مثل: أحمد بن سليمان الربعي، بل نجد فيها أديبات ينظمن الشعر الجيد؛ مثل: ابنة الحسن بن غلبون، ومن شعرها الذي رثت به أخاها غلبون: يا شقيقاً ليس في وجدي به ... علة تمنعني من أن أجنّ وإذا تبلى وجوه في الثرى ... فكذا يبلى عليهن الحزن ومن بين أولئك الأدباء علماء تعلقوا بعد العلم بصناعة الشعر؛ مثل: عيسى بن مسكين؛ فقد كان معدوداً في زمرة الفقهاء الأدباء، ومن شعره قوله آسفاً على عهد الشباب: لعمري يا شبابي لو وجدتك ... بما ملكت يميني لارتجعتك ولو جعلت لي الدنيا ثواباً ... بما فيها عليك لما وهبتك واشتملت المئة الرابعة على أدباء يقولون الشعر الحسن؛ مثل: زياد ابن يونس اليحصبي، وعلي بن العباس الأيادي، ومن شعره قوله في وصف سجع الحمائم عند فلق الصبح: قد ولد الصبح فمات الدجى ... صاحت فلم ندر غِنا أم نواح وابن عبدون السوسي، ومن شعره قوله متشوقاً إلى القيروان:

يا قصر طارق همي فيك مقصور ... شوقي طليق وخطوي عنك مأسور إن نام جارك إني ساهر أبداً ... أبكي عليك وباكي العين معذور عندي من الوجد ما لو فاض من كبدي ... إليك لاحترقت من حولك الدور وتناول الشعر في ذلك العهد بعض السيدات المهذبات؛ مثل: خديجة بنت أحمد بن كلثوم المعافري. وفي هذا العهد ورد القيران من الأندلس الشاعر المعروف أبو القاسم بن هانئ، واستوطنها، وشأن البلاد التي يستوطنها شاعر عبقري كابن هانئ أن تزداد فيها نهضة الأدب قوة وصفاء. أما المئة الخامسة، فقد ازدهر فيها الأدب بتونس، وأصبح بمنزلة هي منزلته في أرقى البلاد، وأبهج العصور، ويصح لي أن أقول: إن هذا العصر واسطة عقد العصور الأدبية من جهة الإبداع في الخيال، وإتقان صناعة النظم. ومن مهيئات هذه النهضة الفائقة: أن المعز بن باديس الذي تولى الملك بالقيروان في طالعة المئة الخامسة كان أديباً بارعاً، ومعنياً بإكرام الشعراء، حتى اجتمع حول قصره -فيما يقصه التاريخ- نحو مئة شاعر يرأسهم أستاذه ووزيره علي بن أبي الرجال. فلا عجب أن يظهر في ذلك العصر أمثال: الحسن بن رشيق، ومحمد ابن شرف، وإبراهيم الحصري صاحب كتاب "زهر الآداب"، وابن خالته علي الحصري صاحب قصيدة: ياليل الصبُّ متى غده ... أقيام الساعة موعده وظهر في المئة السادسة أدباء لهم شعر رائق؛ مثل: عبد العزيز بن أبي الصلت، وعلي بن فضال، ومن شعره الأبيات السائرة:

وإخوان حسبتهم دروعاً ... فكانوها ولكن للأعادي وخلتهم سهاماً صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي وقالوا قد صفت منا قلوب ... نعم صدقوا ولكن من ودادي وإذا ألقينا نظرة على المئة السابعة، وجدنا للأدب نهضة ذات آثار مليحة، ومن رجال هذه النهضة: عثمان بن عتيق المعروف بابن عريبة. ومن أسباب نهوض الأدب في هذا العهد: أن أمير تونس أبا زكريا يحيى بن عبد الواحد، وابنه المستنصر بالله، عنيا بنشر العلم، والإقبال على الشعراء، وكان أبو زكريا هذا معدوداً من الشعراء، وفي عهد ولايته قدم من الأندلس محمد المعروف بابن الأبار، وأنشده قصيدته في الاستنهاض لإنقاذ الأندلس، وطالعها: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا وفي هذا العهد ورد تونس من الأندلس أيضاً الأديب الكبير علي بن سعيد متمم كتاب "المغرب"، ومدح السلطان بقصائد بليغة. وفي عهد ولاية ابنه المستنصر، وفد حازم بن محمد القرطاجني من الأندلس، ومدح المستنصر بمقصورته القصيدة الطائية التي يقول في طالعها: أمن بارق أودى بجنح الدجى سقطا ... تذكرت من حل الأجارع والسقطا ولما وجد هؤلاء الأدباء الثلاثة سوق الأدب في تونس نافقة، اتخذوها وطناً، وكان لهم في رقي الأدب أثر كبير. وكانت المئة الثامنة عامرة بكثير من الأدباء، ومن أعيانهم: أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، وأخوه يحيى بن خلدون، وشعر ابن خلدون معروف،

ومن شعر يحيى القصيدة التي يقول في مطلعها: ما على الصب في الهوى من جناح ... أن يُرى حلف عَبرة وافتضاح أما المئة التاسعة والعاشرة، فقد انقطعت عنا أخبار أدبائها؛ لما كان يحدث في تونس من الحروب والفتن السياسية، وإنما وصل الباحثون في تاريخ الأدبي التونسي إلى طائفة قليلة جدّاً؛ مثل: أحمد بن عبد الرحمن بن الخلوف، ومثل: أبي الفتح محمد بن عبد السلام، ولهذا العالم الأديب قصيدة يتحسر فيها على ما حل بتونس لذلك العهد من حوادث اضطربت لها الحالة العلمية والسياسية. ورجع الأدب في المئة الحادية عشرة إلى الظهور، وأخذ التاريخ يحدثنا عن رجال عاشوا في ذلك العهد، وكانت لهم في الأدب أقدام راسخة؛ مثل: الشيخ محمد فتاتة. واتصل أدب هؤلاء بأدب المئة الثانية عشرة، فكان حظ هذه المئة فوق حظ المئة السالفة. ومن أعيان أدبائها: الشيخ حمودة بن عبد العزيز، والشاعران البارعان: أبو عبد الله محمد الورغي، وأبو الحسن علي الغراب، ولكل منهما ديوان معروف عند التونسيين. وكان لنهوض الأدب في المئة الثانية عشرة أثر كبير في رواج سوقه في المئة الثالثة عشرة، ومن أدباء ذلك العهد: الشيخ محمد الخضار، والشيخ إبراهيم الرياحي، والشيخ بيرم الرابع، والشيخ محمود قبادو، ولهؤلاء دواوين من الشعر، والذي طبع منها: ديوان الشيخ محمود قبادو، وهو أول من أخذ ينحو بالشعر نحو ما يقتضيه حال العصر، وأذكر من قصيدة له يحث فيها الأمة على مسايرة الأمم المجدة في إعداد وسائل القوة والعظمة: لعمري ليس الميت من أودع الثرى ... ولكن مطيق للغنى بان عدمه

وممن برعوا في النثر الفني: الأستاذ أحمد أبو الضياف، فقد تولى رياسة الديوان في عهد الأمير أحمد باي، وأخذ ينسج في مراسلاته على مثال لسان الدين بن الخطيب، فسار النثر الجيد بجانب الشعر، وما أتى هذا العصر -وهو القرن الرابع عشر- حتى تهيأت في تونس نهضة أدبية محكمة الأساس، فلم تتبطأ أن صارت تنافس نهضة الأدب في البلاد الشرقية.

الحالة العلمية بجامع الزيتونة

الحالة العلمية بجامع الزيتونة (¬1) في قارة أفريقية ثلاثة معاهد إسلامية: الجامع الأزهر بالقاهرة، وجامع الزيتونة بتونس، وجامع القرويين بفاس. أما الأزهر، فله الشهرة في الشرق والغرب؛ لأن دائرة التعليم فيه أوسع، وطلاب العلم يؤمونه من كل ناحية، والمكاتب -عامة أو خاصة- لا تكاد تخلو من مؤلفات علمائه. أما المعهدان الآخران، فلعل موقعهما الجغرافي، وحال محيطهما الاقتصادي وقفا منهما دون أن يحوزا كما حاز الأزهر سمعة لم تدع داراً إلا غشيتها، ولا أذناً إلا ولجتها، فما كنت لأعجب إذا لقيت رجالاً من أهل العلم لا يعرفون من شأن جامع الزيتونة كثيراً أو قليلاً. ولما كانت جمعية الهداية الإسلامية قد أخذت على نفسها أن تكون وسيلة تعارف بين جماعات المسلمين عامة، ورجال العلم خاصة، رأيت أن ألقي كلمة في الحالة العلمية بجامع الزيتونة، ولعلّ الجمعية توفّق إلى إلقاء محاضرة في الحالة العلمية بجامع القرويين، وبهذا العمل تكون الصلة ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام في نادي جمعية "الهداية الإسلامية" بالقاهرة، ونشرت في الجزء الرابع من المجلد الثالث من مجلة "الهداية الإسلامية" لعام 1349 هـ. مع ملاحظة التبديل الطارئ على النظام والمنهج وعدد المدرسين والطلاب في جامع الزيتونة حتى الآن.

بين المعاهد الثلاثة كما تقتضي مصلحة الأمة على متانة وصفاء. وقد رأيت أن أمر بنظرة قصيرة على حال العلم منذ نشأته في تلك البلاد إلى أن دخل جامع الزيتونة في هيئته النظامية؛ لنرى كيف كان العلم هنالك ضارباً بشعاعه منذ أعصر قديمة، وإن اختلفت حالته قوة وضعفاً، وظهوراً وخمولاً. * نشأة العلم في البلاد التونسية: كان الذين يعمرون البلاد التونسية والجزائرية والمراكشية صنف البربر، ولكن بعد الفتح الإسلامي هاجر إليها خلق كثير من العرب الخلص، فانتشرت هنالك اللغة العربية، وأصبح سكان تلك البلاد بعد هذا الاختلاط أقواماً مستعربين، إلا قبائل متفرقة، معظمها بالمغرب الأقصى، ويعضها في الجزائر، وقليل منها في تونس. وإذا نحن رجعنا إلى التاريخ؛ لنعلم كيف أخذت العلوم الإسلامية تنتشر في تلك البلاد، نجد أن الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ندب عشرة فقهاء من أعيان التابعين، وبعثهم إلى أفريقية؛ ليعلموا البربر واجبات الدين وأحكامه. وكان رئيس هؤلاء المبعوثين: أبا عبد الرحمن عبد الله الحبلي، ومن بينهم: أبو الجهم عبد الرحمن بن رافع التنوخي، وهو أول من ولي القضاء بالقيروان. ومن ذلك العهد ابتدأ أهل تونس يرحلون إلى الشرق لتلقّي ما فيه من علوم، ومن هؤلاء الراحلين: عبد الرحمن بن زياد المعافري: رجل قروي من جماعة من التابعين، وكان قد صحب أبا جعفر المنصور طلب العلم، وعاد إلى القيروان بعلم غزير، وأدب جم، حتى تقلد أبو جعفر المنصور

الخلافة، فولاه قضاء القيروان، وكانت مدينة القيروان عاصمة الإمارة، ومحط رحال طلاب العلم حتى أواخر المئة الخامسة. ورحل في طلب العلم بعد طبقة عبد الرحمن بن زياد طائفة لقوا مالك بن أنس وغيره من الأئمة، ثم عادوا بما جمعوا من علم؛ مثل: علي بن زياد، وعبد الله بن غانم، وأسد بن الفرات فاتح صقلية. وكانت المئة الثالثة مستنيرة بأمثال سحنون ومن أخذوا عنه؛ كأبي سعيد البرادعي، وحماس بن مروان الهمذاني. وأذكر أن يحيى بن عمر رحل إلى العراق، ثم جاء القيروان، وحضر مجلساً كان يعقده حماس هذا للمذاكرة في الفقه، وبعد أن انصرف من المجلس، قال: ما تركت في بغداد من يتكلم في الفقه بمثل ما سمعت اليوم. ومما قال أبو القاسم الفزاري أحد أدباء القيروان لذلك العهد: فهل للقيروان وساكنيها ... عديل حين يفتخر الفخور بلاد حشوها علم وحلم ... وإسلام ومعروف وخير عراق الشام بغداد وهذي ... عراق الغرب بينهما كثير بلاد خطها أصحاب بدر ... وتلك اختط ساحتها أمير وفي ذلك العهد ظهر في تونس الطبيب المعروف بابن الجزار صاحب المؤلفات التي عني بها الأوروبيون، ونلقوها من العربية إلى اللاتينية. * في القرن الرابع: ومن أعلام المئة الرابعة: أبو العباس عبد الله بن إسحاق المعروف بالإبياني، وكان من حفاظ مذهب مالك، ويميل إلى مذهب الشافعي، ورد مصر، فقال في حقه ابن شعبان: ما عدا النيل منذ خمسين سنة أعلم منه.

ومن أعلام هذا القرن أبو محمد عبد الله بن أبي زيد صاحب المؤلفات التي من جملتها كتاب "النوادر"، والزيادات على "المدونة"، وقد أخرجه في نحو مئة جزء. * في القرن الخامس: ومن أعلام المائة الخامسة عبد الحميد بن محمد الهروي المعروف بابن الصائغ، وأبو الحسن علي بن محمد المعروف باللخمي صاحب كتاب "التبصرة"، وله آراء في الفقه، وإليه يشير بعض الأدباء بقوله: لقد مزقت قلبي سهام لحاظها ... كما مزق اللخمي مذهب مالك وفي هذا العهد ظهر الأدب في تونس ظهوره في العراق والشام والأندلس، فظهر بالقيروان: الحسن بن رشيق صاحب كتاب "العمدة"، وابن شرف صاحب الرسائل التي من جملتها "أعلام الكلام"، وأبو إسحاق إبراهيم الحصري صاحب كتاب "زهر الآداب"، وابن خالته أبو الحسن علي الحصري صاحب القصيدة التي حاكاها كثير من الأدباء في القديم والحديث: ياليلُ الصبُّ متى غده ... أقيام الساعة موعده * في القرن السادس: ومن أعلام المئة السادسة: أبو عبد الله محمد بن علي المعروف بالمازري، وكان معدوداً فيمن بلغوا رتبة الاجتهاد، ومن مؤلفاته "شرح كتاب البرهان" لإمام الحرمين، و"شرح التلقين" للقاضي عبد الوهاب. * في القرن السابع: ومن أعلام المئة السابعة: أبو أحمد بن أبي بكر المعروف بابن زيتون،

رحل إلى الشرق، وأخذ عن عز الدين بن عبد السلام، وعاد إلى تونس، وكان بها قاضي القضاة، وهو أول من أظهر ودرَّس في تونس مؤلفات فخر الدين الخطيب الأصولية. وفي هذا العهد أنشأ الأمير أبو زكريا يحيى داراً للكتب جمع فيها نحو ستة وثلاثين ألف مجلد. وورد تونس في هذا القرن حامل لواء العربية بالأندلس علي بن موسى المعروف بابن عصفور، وأقام حتى توفي، وقبره بمكان قريب من جامع الزيتونة. * في القرن الثامن: ومن أعلام المئة الثامنة محمد بن عبد السلام، وهو معدود فيمن بلغوا رتبة الاجتهاد، ومن مؤلفاته "شرح جامع الأمهات لابن الحاجب". ومن أعلام هذا القرن: أبو عبد الله محمد بن عرفة المؤلِّف في الفقه والتفسير والمنطق، وأصول الفقه، وأصول الدين، ومر في رحلته إلى الحج بالقاهرة، وأخذ عنه البدر الدماميني، واجتمع بالملك الظاهر، فأكرمه، وأوصى أمير الحج بخدمته. ومن أعلامها: المؤرخ الشهير عبد الرحمن بن خلدون المتوفى في القاهرة سنة 807. * في القرن التاسع: ومن أعلام المئة التاسعة: محمد بن عمر الأبي شارح "المدونة"، و"صحيح الإمام مسلم"، وأبو القاسم البرزلي صاحب "الفتاوى"، ويحكى: أن الشيخ ابن عرفه ليم على كثرة الاجتهاد، وإتعاب نفسه في النظر، فقال:

وكيف أنام وأنا بين أسدين: الأبي بفهمه وعقله، والبرزلي بحفظه ونقله. وفي هذا القرن أنشأ الأمير أبو فارس عبد العزيز خزانة كتب في الجانب الشمالي من جامع الزيتونة، ووقع عليها آلافاً من المجلدات. * في القرن العاشر: وكان الأمير في مبتدأ القرن العاشر أبا عبد الله محمد الحفصي، وكان له عناية بالعلم، ومن آثاره: إنشاء مكتبة لجامع الزيتونة، وهي التي تسمى الآن: "المكتبة العبدلية". وفي سنة 70 من هذا القرن بليت تونس بحلول عساكر الإسبان، فعاثوا في المكاتب، وأطلقوا أيديهم في إتلافها حتى صارت نفائس الكتب ملقاة في الطرق تدوسها خيلهم بأرجلها، ولم يبق في مكتبة جامع الزيتونة -فيما يقال- إلا بضع نسخ من "صحيح الإمام البخاري". ويقول بعض الشيوخ معتذراً عن قلة ما يوجد من مؤلفات التونسيين: إن هذه الكارثة الإسبانية قد أتلفت وأضاعت كثيراً مما ألفوا. ولكن البلاد لم تلبث بيد الإسبان حتى جاء الأتراك وطردوهم منها سنة 981، وصارت تونس من الأقطار المتعلقة بالدولة العثمانية، ويظهر من مطالعة التاريخ: أن سوق العلم بتونس كانت في القرن العاشر خاملة؛ إذ لم نجد فيها ما وجدنا في القرون قبلها أو بعدها من الأعلام الذين يدل وجودهم في القطر على أن هناك علوماً ساطعة، وأنظاراً واسعة، وأفهاماً راسخة. * في القرن الحادي عشر: بمناسبة اتصال تونس بالدولة العثمانية وردها في أوائل القرن الحادي

عشر بعض علماء الروم، فأخذت بهم الحركة العلمية نشاطاً، ومن هؤلاء الواردين: أستاذ يقال له: "منلاً أحمد"، كان بارعاً في الفقه والأصول والتفسير والنحو والبيان والمنطق، فتخرج في درسه جماعة من أعلام القرن الحادي عشر؛ مثل الشيخ: محمد الغماد، والشيخ أبو يحيى الرصّاع. وينبئكم برسوخ منلا أحمد هذا في الفهم: أن بعض الطلاب أراد أن يسرد عليه تركيباً من كتاب، فقال له: إني لست بقصاص، فعبر لي من شدقك بعبارة تنبئ عن مراد المؤلف. * في القرن الثاني عشر: تدلنا آثار كثيرة على أن الحياة العلمية في القرن الثاني عشر قد أخذت في نشاط؛ فإنا نرى لكثير من أمراء تونس في ذلك العهد اعتناء بإحياء العلم، وتهيئة وسائله. نرى محمد بن مراد باي المتوفى سنة 1108 بنى مدارس في نواح مختلفة من المملكة؛ كالقيروان، والكاف، وقابس، وباجة، والجريد، ونرى الأمير حسين بن علي مؤسس الدولة الحسينية القائمة حتى الآن قد أنشأ مدارس بالحاضرة، والقيروان، وسوسة، وصفاقس، ونفطة. ونرى علي باشا قد أنشأ مدارس، ووقف في كل مدرسة خزانة من الكتب، وأرسل الشيخ حسين البارودي مفتي دولته إلى الآستانة ليشتري له ما يصل إلى يده من الكتب القيمة. ونقرأ في تاريخ حسين بن علي الثاني: أنه كان من الأدباء والشعراء، ومن شعره قصيدة ميمية شرحها الشيخ أبو عبد الله محمد الشافعي، وقصيدة قافية شرحها العلامة الشيخ محمد صالح الكواش.

ونقرأ في تاريخ علي باي بن حسين بن علي: أنه كان مشتركاً في العلوم، وكان يصطفي العلماء. ويقص علينا التاريخ: أن طائفة من العلماء كانوا قد رحلوا إلى تلقي العلم بالأزهر؛ مثل: علي بن موسى الأندلسي، ورد الأزهر، فأخذ عن الشيخ الأجهوري، وعبد الباقي الزرقاني، ومحمد الخرشي، وعاد إلى تونس بعلم كثير. ومن أعلام هذه المئة الشيخ محمد زيتونة، والشيخ محمد الخضراوي، والشيخ حموده فتاتة، ونجم الدين المعروف بابن سعيد صاحب "حواشي شرح الخيصي"، "للتهذيب وحواشي شرح الأشموني للخلاصة". وفي ذلك القرن كان للأدب سوق نافقة، وظهر فيها الشاعران: علي الغراب الصفاقسي، ومحمد الورغي، بل نجد في أشعار أهل العلم جزالة وإحكام نسج. وأذكر من شعر الشيخ ابن سعيد قوله يشكو حساده: ومالي ذنب عندهم غير أنني ... إذا شئت قلت الشعر وهو رقيق وإن خضت في بحر من العلم لجَّ بي ... تطاير دُرٍّ فوقه وعقيق خليلي هل يجني على المرء مجده ... فإني بالمجد العريق حريق وأذكر من شعر الشيخ حمودة بن عبد العزيز يتحدث عن الحرب: فلا وأبي لا يبلغ المجد عاجز ... يعلل نفساً بالأماني الكواذبِ ولكن فتى قد جرَّد السيف طالباً ... به من حقوق الحمد أسنى المطالبِ يهاب الدنايا أن تدنس عرضَه ... وليس لأسباب المنايا بهائبِ

هي الحرب من يعلق بها يبلغ المنى ... وهل نال أقصى المجد غير المحاربِ * نشأة جامع الزيتونة: كانت القيروان منذ الفتح الإسلامي عاصمة للملكة التونسية، وكان جامعها الذي اختطه عقبة بن نافع - رضي الله عنه - من أكبر المعاهد التي يؤمها طلاب العلم من نواح مختلفة، ولما استولى على القطر الفرنسي أصحاب المهدي بن تومرت: عبد المؤمن بن علي وحلفاؤه، اتخذوا مدينة تونس دار الإمارة، وبقيت العاصمة إلى هذا اليوم. وبعد أن صارت مدينة تونس عاصمة البلاد، أصبحت مورد العلوم، ومحط رحال العلم، فأخذ جامع الزيتونة يغالب جامع القيروان، وأخذ اسمه يتردد أكثر مما كان يتردد على الألسنة والآذان. ابتدأ بناء جامع الزيتونة الأمير حسان بن النعمان الغساني الداخل لإفريقية سنة 79، ثم جاء الأمير عبد الله بن الحبحاب الداخل سنة 114، وأتم بناءه سنة 141، ولما تولى زيادة الله بن الأغلب الإمارة بالقيروان، أحدث به أبنية فخمة، وصار من أحسن الجوامع القائمة على أساطين من المرمر والرخام. * جامع الزيتونة والنظام: رأى أمير تونس المشير أحمد باشا أن تكون الدولة قائمة بنفسها، وأخذ ينظر في وسائل القوة والمنعة، وأول ما يعنى به طالب القوة: ترقية شأن التعليم، وإنبات طلاب العلم نباتاً حسناً، فكان من تدبير هذا الأمير: أن قصد إلى تنظيم التعليم بجامع الزيتونة، وأصدر في ذلك مرسوماً سنة 1258، وتلي هذا المرسوم في يوم مشهود، ورسم في صحيفة محاطة بإطار، وعلق داخل باب من أبواب الجامع يقال له: "باب الشفاء".

واقتضى هذا المرسوم أن ينتخب للتدريس بجامع الزيتونة خمسة عشر عالماً من المالكية، ومثلهم من الحنفية، على أن يقرئ المدرس في كل يوم -ما عدا يومي الخميس والجمعة- درسين من أي فن أراد، وفي أي وقت تيسر له، وإذا فقد أحد هؤلاء المدرسين، انتخب نظَّار الجامع بدله أعلم الموجودين في العصر، وإذا اشتبه عليهم الحال فيمن يستحق ولاية التدريس، عقدوا مسابقة بين من يرغبون في إحرازها بطريق المسابقة، ومن وقع عليه الاختيار، فصل في تعيينه المشايخ النظّار، وبعثوا قرارهم إلى حضرة سمو الباي يصدر مرسوماً في ولايته. وفي عهد الأمير محمد الصادق باي، ووزيره المصلح خير الدين باشا صاحب كتاب "أقوم المسالك في أحوال الممالك"، دخل على نظام التعليم تبديل وتهذيب، ووضعت مناهج سارت به إلى الإمام مرحلة كبيرة، وكان هذا الوزير يتردد على الجامع، ويشهد حلقات الدروس بنفسه، فكان فيما يظهره رجال الدولة من العناية بهذا المعهد الإسلامي داعية إقبال وتنافس في ميدان العلوم. وفي سنة 1310، وسنة 1312 دخل على هذا النظام شيء من التنقيح. وفي سنة 1329 عقدت الحكومة لجنة من كبار أهل العلم وبعض رجال الدولة؛ للنظر فيما تحتاج إليه مناهج التعليم من تهذيب وإصلاح، فصار التعليم بما قررته اللجنة أقرب إلى التعليم المحاط بالنظم المدرسية من كل جانب. وكانت أقسام التعليم من ابتدائي وثانوي وعال، كلها في نفس جامع الزيتونة، وفي سنة 1345 فصل التعليم الابتدائي عن الثانوي والعالي، فخصص

للابتدائي جامع فسيح يقال له "جامع سيدي يوسف"، ويقي القسمان الثانوي والعالي في جامع الزيتونة. ونؤمل من ذوي الشأن هنالك أن ينشئوا في الجامعة الزيتونية قسماً للتخصص؛ حتى تسير تلك الجامعة بجانب الأزهر الشريف في المستقبل كما سارت بجانبه فيما سلف من الأيام. وظهر في عهد النظام نبغاء في علوم الدين واللغة العربية؛ مثل: الشيخ معاوية الذي يذكره الشيخ الأنباني في تقاريره البيانية، فيناقشه تارة، ويسلم آراءه تارة أخرى. وفي أوائل ذلك العهد أخذت تونس في حياة مدنية نامية، وصارت في مقدمة الشعوب التي تيقظت لما تحتاج إليسه من إصلاح. ومن شواهد هذا: قصائد المفتي المالكي الشيخ محمود قبادو المتوفى حوالي سنة 1280، فإن قارئها يجد فيها تذكرة وتنبيهاً على جانب من طرق الإصلاح، ويحضرني من شعره قوله في إحدى القصائد: أرى الملك مثل الفلك تحت رئيسه ... عويزاً إلى الأعوان فيما يؤمُّه فذلك نوتيٌّ يعين بفعله وآخر ... خِرِّيتٌ قُصاراه علمُه ومقصده جري السفين وحفظها ... ليسلم كل أو ليعظم غنمه أيركب هول البحر دون مقاوم ... وفي طيه حرب كما يؤذن اسمه لذاك ترى ملك الفرنج مؤثلاً ... بعلم على الأيام يمتد يَمُّهُ ومملكة الإسلام يقلص ظلها ... وينقص من أطرافها ما تضمُّه على أنها أجدى وأبسط رقعة ... وأوسط إقليماً من الطبع عظمه

وأعرق في منمى الحضارة موضعاً ... وأطول باعاً يقلق الهام دمه ودوخ مغزاها الأقاليم سبعة ... وتاخمها من سد يا جوج رَدْمُه ويقول في الأمم الغربية: هم غرسوا دوح التمدن فرعه الر ... ياضي والعلم الطبيعي جذمه أيجمل يا أهل الحفيظة أنهم ... يبزوننا علماً لنا كان فخمه ويقول: لقد قتلوا دنيا الحياتين خبرة ... فمن لم يساهمهم فقد طاش سهمُه ومن نبغاء ذلك العهد: الأستاذ الشيخ أحمد بن أبي الضياف، تولى رياسة الديوان بالوزارة الكبرى، وكان الأمير أحمد باي قد جعل اللسان الرسمي للدولة اللغة العربية بعد أن كانت المراسلات تحرر باللسان التركي، فأخذ الشيخ ابن أبي الضياف ينسج في رسائل الدولة على طرز لسان الدين ابن الخطيب، وتلاه الشيخ محمد العزيز بوعتور في رياسة الديوان، وكان كاتباً بليغاً، فصارت مخاطبات الحكومة ببراعة هذين الأستاذين ومن ينحو نحوهما تحرر بأقلام راقية. * إدارة المعهد الزيتوني: يتولى إدارة شؤون ذلك المعهد أربعة من الشيوخ، وهم: رئيس الإفتاء الحنفي، ورئيس الإفتاء المالكي، والقاضي الحنفي، والقاضي المالكي، ويسمى هؤلاء الشيوخ من جهة نظرهم في شؤون المعهد: "المشايخ النظّار"، ويرأس المجلس شيخ الإسلام الحنفي، واكتسب الحنفية التقدم على المالكية في المواطن الرسمية؛ حيث إن أمراء الدولة الحسينية القائمة لهذا العهد

يتقلدون مذهب الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه -. يجتمع النظار بمكان معد لهم بجانب من المعهد في صبيحة يوم السبت من كل أسبوع، ثم يتناوبون بعد هذا بقية الأيام، فيجيء كل واحد منهم في يوم لإجراء ما قرروه عند اجتماعهم، وينص القانون على أن للناظر أن يختبر أحوال المدرسين بنفسه، فيجلس قريباً من المدرس بحيث يسمع إلقاءه؛ حتى تتميز عنده مراتب المدرسين. ويساعد المشايخ النظار في الإشراف على التعليم أستاذان من المدرسين يحضران جلسات المشايخ النظار، ولهما إبداء ملاحظاتهما في تلك الجلسات، ولا يعتد برأيهما عند الاقتراع. وهذان الأستاذان يحرران -أو أحدهما- كل يوم أحوال الطلبة، وأحوال المدرسين غيبة وحضوراً، ويعرضان ذلك على من يحضر من المشايخ النظار في يومه. * العلوم والفنون التي تدرس بالمعهد الزيتوني: يدرَّس في ذلك المعهد: التفسير، والحديث، والسير، والتوحيد، والقراءات، والمصطلح، والفقه، والأصول، وآداب الشريعة، والنحو، والبيان؛ واللغة، والأدب، وعلم العروض، والمنطق، والتاريخ، والجغرافية؛ والحساب، والهندسة، والهيئة والميقات، والمساحة. ينص القانون على أن هذه العلوم والفنون تدرس في نفس الجامع، ولكن الطلاب -فيما أعرف- يتلقون بعض العلوم الحديثة؛ كالجغرافيا والهندسة بمدرسة الخلدونية، وهي مدرسة بمقربة من المعهد تقوم بها جمعية أهلية، إلا أنها تتناول مساعدة سنوية من إدارة الأوقاف.

ولم يكن الإنشاء مما يتلقاه الطلاب على طريقة التمرين، وأذكر أني كنت وجهت إلى المشايخ النظار خطاباً مفتوحاً أطلب فيه العناية بدرس الإنشاء على طريقة عملية، آثرت أن يكون الخطاب نظماً، ويحضرني منه الآن: بذلتم في نَفاق العلم وسعاً ... وذللتم طرائقه الصعابا فأصبح معهد العرفان صرحاً ... رفيعاً لا نظير له غرابا ولكن الخصاصة في فنون ... تساورنا المخافة أن نعابا أصاب صناعة الإنشاء محل ... وغاض معينها إلا سرابا أنرمي نحو وادينا بقشر ... ويحرز غيرنا منها اللبابا * * * أفي علم البيان نغوص فهماً ... ونملأ من جواهره الوطابا وإن ركبت أناملنا يراعاً ... تعاصى أن يشق بها عبابا ومن ركب الأتان لدى سباق ... أبى إلا الزراية والعتابا وليس بنافع تقليد رمح ... لشخص لم تعلمه الحرابا وأذكر منها: ولا ترقى شؤون الشعب إلا ... بأقلام تناقشه الحسابا وتكشف عن شموس الجو لبساً ... تراكم تحت غرتها سحابا وما الحادي بشعر أبي فراس ... وقد جست أنامله الربابا بأعذب من صدى قلم تهادى ... على طرس يخط به كتابا

وأرشق منظراً من لحظ قلبي ... توسد باللوى الذهب المذابا دواة في زجاجتها مداد ... نصوغ على البعاد به خطابا * الكتب التي تدرس بالقسم العالي: أقتصر هنا على ذكر ما يدرس في المرتبة العالية من الكتب؛ إذ هي التي يعرف بها مدى التعليم، وكفاية المتخرجين الذين استمروا على تلقي العلم إلى انتهاء أمد الدراسة. يعين القانون لقراءة التفسير: "الجلالين"، و"أسرار التنزيل" للقاضي البيضاوي، ولقراءة الحديث: "الموطأ بشرح الزرقاني"، و"صحيح الإمام البخاري بشرح القسطلاني"، و"صحيح الإمام مسلم بشرح الأبي"، وكتاب "الشفا" للقاضي عياض بشرح الشهاب. ولقراءة علم الكلام؛ "العقائد العضدية بشرح السعد"، و"المواقف بشرح السيد الشريف"، ولقراءة الأصول: "التوضيح بشرحه المسمى بالتلويح"، و"مختصر ابن الحاجب بشرح العضد"، و"جمع الجوامع بشرح الجلال المحلي". ولقراءة علم النحو: "مغني اللبيب"، و"شرح الأشموني على الخلاصة"، ولعلم البلاغة: "التلخيص بشرح المطول للسعد"، والقسم الثالث من "المفتاح بشرح السيد"، ولقراءة علم اللغة والأدب: "المزهر" للسيوطي، و"الحماسة بشرح المرزوقي"، و"المثل السائر لابن الأثير"، ولقراءة المنطق: "شرح القطب على الشمسية"، ومما يدرس للتاريخ: "مقدمة ابن خلدون". ومن هنا يستبين الناظر أن الأزهر وجامع الزيتونة يتحدان في أغلب ما يدرس من الكتب، إذن، فالثقافة في المعهدين واحدة، أو متقاربة.

المدرسون: الذين يقومون بالتدريس في ذلك المعهد ثلاث طبقات: 1 - مدرسون من الطبقة الأولى، وهم ثلاثون مدرساً. 2 - ومدرسون من الطبقة الثانية، وهم اثنا عشر مدرساً. 3 - ومدرسون من الطبقة الثالثة، وهم خمسون مدرساً. وبعد هؤلاء أستاذان يختصان بدرس القراءات. والمدرسون من الطبقة الأولى يقرئون كتب المرتبة العالية، ويشتركون مع مدرسي الطبقة الثانية في إقراء كتب المرتبة المتوسطة، والمدرسون من الطبقة الثانية يدرِّسون كتب المرتبة المتوسطة، ويشاركون في تدريس كتب المرتبة الأخيرة. والمدرسون من الطبقة الثالثة مقصورون على دراسة كتب المرتبة الثالثة، وللنظارة أن تأذن لهم في إقراء كتب المرتبة المتوسطة. لا يجلس للتدريس في المعهد إلا من كان بيده شهادة من نفس المعهد، أما العلماء الذين يردون على حاضرة تونس، فإنما يسوغ لهم التدريس بعد إجازة المشايخ النظارة، وموافقة الدولة. ويحتوي القانون على نصائح وآداب للمدرسين؛ كما يقول: "على المدرس أن يتثبت في الفهم والنقل حتى يكون على بصيرة من أمرهما، ولا يتوثق بأول بارق، ويستبرئ لدينه ولعوضه من نقل الخطأ عنه، وإذا أخطأ في فهم أو نقل، فعليه بمقتضى ديانته أن يصدع بالحق". ومما يقول: "ليس لأحد أن يبحث في الأصول التي تلقتها العلماء جيلاً بعد آخر، ولا أن يكثر من تغليط المصنفين؛ فإن كثرة التغليط أمارة الاشتباه

والتخليط، بل عليه أن يبذل الوسع في فهم مراد الفضلاء، ولا يلقي البحث إلا بعد التحري والإحاطة بأطراف الكلام، والتدبر في فهم المراد". * التلاميذ: يتخذ كل تلميذ دفتراً يكتب له فيه أساتذته في كل شهر شهاداتهم بالحضور، وحال المواظبة، ودرجته في النجابة والفهم، ويذكرون الباب أو المسألة التي كانت مبدأ حضوره في الكتاب، كما يذكرون البحث الذي انتهى إليه وقت كتابة الشهادة. ويبلغ عددهم في هذا المعهد زهاء ألفين، ومعظمهم من القطر التونسي، ومن بينهم كثير من القطر الجزائري، ويوجد من بينهم طلاب من طرابلس الغرب، والمغرب الأقصى. وقد اشتمل قانون المعهد على نصائح وآداب للطلاب؛ كما يقول: "يلتزم التلميذ آداب السؤال، فيسأل سؤال مسترشد ملتزماً اللطف في سؤاله". ويقول: "لا يسوغ للتلميذ التلهي عن الدرس بحديث أو غيره، وإذا سأل التلميذ، فليس لغيره من الطلاب أن يجيبه إلا إذا أذن له الشيخ في الجواب". ويقول في التلميذ يسيء الأدب مع أستاذه: "فعلى الشيخ أن يلومه أولاً فيما بينهما، فكان عاد، وبخه بمحضر أقرانه، فكان عاد، رفع الأمر للنظارة كتابة؛ لتجازيه بما ترى من لومه أو توبيخه أو رفته من المعهد رفتاً مؤقتاً أو باتاً". * الامتحان: تعقد عند انتهاء أيام الدراسة من كل سنة لجان من المدرسين لاختبار التلاميذ فيما قرؤوه في تلك السنة، (وهو امتحان النقل).

ويجرى امتحان لأخذ شهادة "التطويع"، وهذه الشهادة منظور إليها كشهادة العالمية في الأزهر؛ من جهة ما يترتب عليها من نيل بعض المناصب، إلا أن دراسة الطالب نحو سبع سنين تكفي لقبوله للامتحان، وإحرازه هذه الشهادة، والمقرر لهذا الامتحان مقالة تحرر ارتجالاً، وعلى مرأى من المراقبين في باب من أبواب الفقه، ثم إلقاء درس بعدها في الأصول، أو الفقه، أو الكلام، أو النحو، أو المنطق، أو البلاغة، على حسب ما تقع عليه يد الطالب من أوراق كثيرة تعين فيها دروس من هذه العلوم، وتوضع في ربعة، ومدة مطالعة الدرس -فيما أعرف- ست ساعات، ثم تلقى على الطالب في يوم بعد يوم الدرس تسعة أسئلة من تسعة علوم ليجيب عنها حال السؤال، والعلوم التي تطرح منها الأسئلة هي: الفقه، والنحو، والصرف، والمنطق، والبلاغة، والحساب، والهندسة، والجغرافية، والتاريخ. يتولى هذا الامتحان المشايخ النظار بأنفسهم، ويلقي الممتحنون الدروس، وتلقى عليهم الأسئلة في مجمع عام يشهده من شاء من المدرسين والطلاب وغيرهم. والذي يلاحظ: أن ليس في مواد الامتحان علم الحديث والتفسير، مع أنهما يدرسان في المعهد، ونحن نود أن يكون هذا العلمان في أول ما يجري فيه الامتحان، ولو أفضى الحال إلى مد أجل الدراسة سنتين أو ثلاثاً. ونود لو أن المشايخ النظار يأخذون بطريقة مناقشة الطلاب في درس الامتحان حتى يتضح مقدار فهم الطالب جلياً، ولتكون هذه المناقشة من دواعي مواظبتهم على الدروس، وإقبالهم على ما يقرره الأستاذ؛ ليكونوا من كل ما يلقيه على بينة.

* مثل ممن تلقينا عنه في ذلك المعهد: أذكر لحضراتكم من كبراء أساتذتنا ثلاثة امتاز كل واحد منهم بناحية جعلته عبقرياً متناهياً: أحدهم: أستاذنا المرحوم الشيخ سالم أبو حاجب، حضرت دروسه عندما أخذت في قراءة الكتب العالية، فشعرت بأني دخلت في مجال أفسح للنظر، وأدعى لنشاط الفكر؛ إذ لم يكن الأستاذ مما يقصر مناقشته على عبارات المؤلفين، بل كان يتجاوزها إلى نقد الآراء نفسها، ويتجاوز النقد إلى الغوص على أسرار المباحث، دينية كانت أم عربية، ولا يترك في درس الكتب الشرعية أن يعقد الصلة بين أصول الإسلام ومقتضيات المدنية الحاضرة. ثانيهم: أستاذنا المرحوم الشيخ عمر بن الشيخ، وكان هذا الأستاذ نافذ الفكر في المباحث الغامضة، قديراً على حل المسائل العويصة، ولكنه لا يكثر من مناقشة المؤلفين وذوي الآراء، وإذا ناقش في عبارة أو رأي، فبأدب واحترام، وقد درس هذا الأستاذ كتاب "المواقف" من فاتحته إلى منتهاه، وكان يوم ختمه لهذا الكتاب يوماً مشهوداً. ثالثهم: أستاذنا المرحوم الشيخ محمد النجار، وكان هذا الأستاذ واسع الاطلاع، غزير العلم، وإذا صح لنا أن نعد الأستاذ الشيخ سالم أبا حاجب إخصائياً في علوم اللغة والنحو والبلاغة والأدب؛ لظهور رسوخه في هذه العلوم أكثر من غيرها، وصح لنا أن نعد الأستاذ الشيخ عمر بن الشيخ إخصائياً في الفقه والكلام والمنطق والفلسفة؛ لظهور مكانته في هذه العلوم أكثر مما سواها، فإن الأستاذ الشيخ محمد النجار كان نحريراً في العلوم

التي تدرس في جامع الزيتونة في درجات متساوية أو متقاربة. هذا ما وسع المقام من الحديث عن الحالة العلمية في جامع الزيتونة، وكانت الحكومة منذ أشهر قد ألفت لجنة للنظر في إصلاح قانون ذلك المعهد، ونرجو أن تكون اللجنة قد عملت صالحاً.

الدولة الحسينية في تونس

الدولة الحسينية في تونس (¬1) بقيت البلاد التونسية منذ الفتح الإسلامي ولاية تابعة للخلافة في الشرق حتى تولى أمرها إبراهيم بن الأغلب بعهد كتبه له هارون الرشيد سنة 184 هـ، فأسس دولة تسمى: الدولة الأغلبية، ثم انقرضت هذه الدولة، وقامت بعدها الدولة العبيدية، ومؤسسها عبيد الله المهدي جد المعز لدين الله الذي انتقل إلى مصر وأسس الدولة الفاطمية. وخلفت الدولة العبيدية الدولة الصنهاجية، ومؤسسها بلكين بن زيري من قبيلة صنهاجة إحدى القبائل البربرية، ثم وقعت البلاد في يد عبد المؤمن بن علي، أحد أصحاب المهدي بن تومرت، فساسها الموحدون حيناً، ولم تلبث أن تولاها أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد الحفصي، فأعلن استقلاله عن سلطان مراكش من آل عبد المؤمن، وأقام بانفصاله عنهم دولة تسمى: الدولة الحفصية، ولما ذهبت ريح هذه الدولة، وتداعت إلى السقوط، أزمع خير الدين باشا -الذي كانت صناعته (القرصنة) في البحر الأبيض- الاستيلاء على تونس، وضمها إلى ممالك الدولة العثمانية، فدخلها سنة 935، وخطب بها للسلطان سليمان القانوني. ثم أن الأمير الحفصي الذي فر من وجه خير الدين باشا استنجد بملك ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" -الجزء السادس من المجلد الأول الصادر في ذي القعدة 1347.

إسبانيا (شارلكان)، فأمده بقوة بحرية استطاع بها أن يستعيد ملك تونس، ولكن تحت الحماية الإسبانية. ثم إن علي باشا أحد ولاة الدولة العثمانية ببلاد الجزائر زحف إلى تونس فطرد منها الإسبان سنة 977، وأخذ البيعة للسلطان سليم الثاني. وقدم بعد هذا أسطول ملك إسبانية، واستولى على تونس مرة أخرى، ونصبوا بها محمد بن الحسن الحفصي على شرط الحماية والمشاركة. ثم إن السلطان سليمان الثاني جهز أسطولاً، وبعث به تحت قيادة الوزير سنان باشا سنة 981، فأنقذ تونس من يد الإسبان، وخطب فيها باسم السلطان سليم، ووضع لحكومتها نظاماً، ثم قفل راجعاً إلى الآستانة. ومما صنع في هذا النظام: أن رتب لحراسة البلاد عسكر، وجعل على كل مئة منهم ضابطاً يلقب بالداي، وجعل لهؤلاء الضباط رئيسا يدعى: (الآغا)، وأقام لجباية الأموال والياً يلقب: (الباي)، وعهد بالسفن الحربية إلى قائد يدعى: (قبودان رائس)، أما ما سوى هذا من قضاء، أو تدبيرِ شأن، فيجتمع إليه هؤلاء الأمراء بمحضر طائفة اختارهم سنان باشا من أعيان البلاد. واستقل بالأمر بعد هذا رؤساء يلقبون بالدايات، وظهرت بعدهم الدولة المرادية، وكان رجالها يلقبون بالبايات، وصارت الولاية من بني مراد إلى المدعو إبراهيم الشريف باي الذي أقام حسين بن علي تركي (مؤسس الدولة الحسينية) كاهية له، يتولى النظر في كثير من شؤون الحرب والسياسة. وجرى بعد هذا ما دعا أهل الحل والعقد من العقلاء والأعيان ورجال العسكرية أن اجتمعوا، وبايعوا حسين بن علي تركي في 20 ربيع الأول 1117،

وكان هذا مبدأ عهد الدولة الحسينية. وعلي تركي من "كندية" (بلد بجزيرة كريت)، وفد إلى تونس في عهد الدولة المرادية، وانتظم في الجندية إلى أن توفي سنة 1103، ونشأ ابنه حسين تحت رعاية البايات من بني مراد، وتقلب في مناصب كبيرة إلى أن بويع الإمارة كما قصصنا. ومن مآثر حسين باي: أنه شاد بمدينة تونس (المسجد الحسيني)، وأقام بجانبه المدرسة الحسينية، وأنشأ مدرسة إزاء جامع الزيتونة يقال لها: مدرسة النخلة، وبنى مدارس بالقيروان، وسوسة، وبلاد الجريد. وقام بالأمر بعده ابن أخيه علي بن محمد، وكان حسين باي قد وجه عنايته إلى تعليمه حتى أدرك في العلم منزلة عالية، وله على كتاب "التسهيل" لابن مالك شرح لا يزال موجوداً بالمكاتب التونسية. ومن مآثره: المدرسة الباشية، والمدرسة السليمانية (نسبة إلى ابنه سليمان)، ومدرسة بئر الحجار، ومدرسة حوانيت عاشور، وأقام في كل مدرسة بالحاضرة وغيرها من البلاد خزانة كتب، وكان قد بعث الشيخ حسين البارودي أحد كبار أهل العلم إلى الآستانة ليشتري له جانباً من أعز الكتب وأنفسها، ومن الأدباء الذين اشتهروا في عهده: الشاعر علي الغراب الصفاقسي، وأبو عبد الله محمد الورغي. وقام بالأمر بعده محمد الرشيد بن حسين باي، وكان عالماً بارعاً في الفنون الأدبية، وما لبث أن توفي سنة 1172، وخلفه أخوه علي بن حسين باي، كان مولعاً بمجالسة العلماء، وله مشاركة في العلوم الإسلامية، وبالأحرى: علم الحديث.

ومن منشأته: المدرسة التي أقامها بجانب تربته، وملجأ (تكية) يحتوي قسمين: قسماً للرجال، وآخر للنساء، ووقف عليه ما يقوم بحاجاتهم من طعام وكسوة وفراش، ومما يذكر عنه: أنه قاد إليه بنفسه نفراً من العُمي، وأطعمهم بيده، ومن محامده: أنه هدم الحانات، ونفذ حكم الشرع في المنع من تعاطي المسكرات. وخلف علي بن حسين ابنه حمودة بن علي، قرأ هذا الأمير العلوم الدينية والأدبية، ومن مزاياه: أنه كان يفاخر بمصنوعات مملكته، ويسابق إلى لبسها، فيقتدي به رجال الدولة وغيرهم، ومن أقواله المأثورة: "الحلية للنساء لا للرجال، وزينة الرجل ماله وأعماله"، ومن آثاره: المسجد المعروف بجامع حمودة باشا (¬1). وقام بالأمر بعده أخوه عثمان بن علي، وتولى بعد عثمان محمود بن محمد الرشيد. وتولى بعد محمود ابنه حسين باي الثاني، وهو الذي أمر أرباب الوظائف والرتب العسكرية بتغيير زيهم على نحو ما جرى في الدولة العثمانية. وقام بالأمر بعده أخوه مصطفى بن محمود باي، وهو أول من وضع أوسمة الافتخار تصاغ مرصعة بالألماس، ومنقوشاً عليها اسم ملك البلاد. وتولى الملك بعده ابنه أحمد باي، ونحا هذا الأمير في سياسته نحو الاستقلال التام، فأنشأ مدرسة حربية بباردو، وطلب إليها أساتذة من أوروبا ¬

_ (¬1) جرى تصحيح في المجلد الأول - الجزء الثامن - من مجلة "الهداية الإسلامية" تضمن أن الجامع المعروف بجامع حمود باشا هو من حسنات حمودة باشا المرادي ثاني ملوك الدولة المرادية المتوفى سنة 1076 هـ.

سنة 1255، وأخذ في ترجمة كتب في الفنون العسكرية، وهو أول من وضع نظاماً للتعليم في جامع الزيتونة، وأقام به نحو عشرين خزانة من الكتب القيمة، وهو أول من احتفل بمولد أفضل الخليقة محمد - عليه الصلاة والسلام - في المظهر الذي يقام به في الحاضرة لهذا العهد، فيشهد الملك في اليوم الحادي عشر صلاة العصر، ثم صلاة العشاء في جامع الزيتونة، وهو حافل بقراءة القرآن، ثم يعود في صبيحة اليوم الثاني عشر إلى الجامع نفسه ليحضر تلاوة قصته التي ألفها الأستاذ الشيخ إبراهيم الرياحي. ومما يذكر في تاريخ هذا الأمير: أنه أصدر أمراً بمنع بيع الرقيق في المملكة التونسية سنة 1262، وبعتق كل من كان بها من الأرقاء، وقد رأيت للعلامة الشيخ إبراهيم الرياحي -الذي كان يمثل في كثير من مواقفه أمام أمراء تونس موقف عز الدين بن عبد السلام في مصر والشام- كتاباً يستحسن فيه ما صنعه هذا الأمير من تحرير الأرقاء، ومنع الاتجار بهم، استناداً إلى أن أصل الاستيلاء عليهم لم يكن على وجهه المشروع، ونظراً إلى ما غلب على مالكيهم من سوء معاملتهم، وعدم الاحتفاظ بما تأمر به الشريعة من الرفق بهم، واتخاذهم كإخوان أو أبناء، وهو أول من خاطب الدولة العثمانية في مكاتبيه باللسان العربي، وكانت قبل هذا تحرر باللسان التركي. وقام بالأمر بعد أحمد باي ابن عمه محمد بن حسين الثاني، ومما يذكر به هذا الأمير: أنه وضع قانوناً أساسياً يكفل لسكان البلاد الحرية والمساواة في الحقوق، ويدعى هذا القانون: "عهد الأمان"، وقرئ هذا القانون في موكب شهده رجال الدولة، وأعيان البلاد، ومعتمدو الدول الأوربية في 20 المحرم سنة 1274، وحلف الملك في هذه الحفلة على إنفاذه.

وعني هذا الأمير بتنظيم المحكمة الشرعية، فأقام دار الشريعة التي تسمى: "الديوان"، وحضر يوم فتحها بنفسه، وهو أول من استجلب أدوات الطباعة، واستعملها في البلاد التونسية، وأول من ضرب السكة باسمه جاعلاً اسمه، في أحد وجهي المسكوك، واسم السلطان العثماني في وجهه الآخر. وتولى بعد محمد باي أخوه محمد الصادق بن حسين الثاني، نظم هذا الأمير منهج التعليم في جامع الزيتونة، وأضاف إلى خزائنه التي أنشأها أحمد باي كتباً كثيرة، وأنشأ هذا الأمير مدرسة الصادقية، وهي معهد أنشأه لتدرس فيه مبادئ العلوم الإسلامية والعربية، ثم العلوم العصرية واللغات الأجنبية، وأحيا المكتبة القائمة بجوار جامع الزيتونة، وهي مكتبة عامة تدعى: (المكتبة الصادقية)، وأوسع العمل بدار الطباعة، فظهرت بها الصحيفة التي تسمى: "الرائد التونسي"، وانتخب للتحرير بها أساتذة من كبار العلماء بجامع الزيتونة، فكانت صحيفة علمية أدبية سياسية، زيادة على ما تنشره من القوانين والمرسومات الحكومية. وقام بتنفيذ مشروع عهد الأمان الذي أسسه محمد باي، وأنشأ مجالس أهلية، وألف مجلساً أعلى للنظر في مصالح الأمة. وفي عهد هذا الأمير وضعت الدولة الفرنسية يدها على تونس، ولم يلبث أن توفي سنة 1299، وخلفه أخوه المغفور له علي باشا باي، وبعد وفاته سنة 1320 انتقل الملك إلى المغفور له ابنه محمد الهادي باي، وعرف هذا الملك بشهامة وغيرة جذبتا إليه قلوب الأمة، وكان أثرها يظهر في شؤون الدولة بقدر الإمكان، وتوفي سنة 1324، وورث الملك بعده المغفور له ابن عمه محمد الناصر بن محمد باي حتى توفي سنة 1340، وخلفه المغفور له

محمد الحبيب بن المأمون بن حسين الثاني، وهو الذي توفي في يوم الاثنين غرة رمضان من هذه السنة، وجلس على عرش الملك بعده حضرة صاحب الجلالة أحمد باي، وهو أحمد الثاني بن علي باي الثالث بن حسين الثاني ابن محمود بن محمد الرشيد بن حسين الأول مؤسس الدولة الحسينية. ومجمل القول: أن آثار البيت الحسيني في نشر العلوم، والمحافظة على أصول الدين الحنيف غير قليلة، وما زهت العلوم الإسلامية والعربية وغيرها في تونس، وتسابق فيها العلماء والأدباء إلى غاية بعيدة إلا بما كان يظهره أمراء هذه الدولة من العناية بالعلم ورعاية العلماء، ولولا جامع الزيتونة، وما أحيوا فيه من علوم، لبقيت تلك البلاد في عذاب من الجهالة مهين.

الشعر التونسي في القرن الخامس

الشعر التونسي في القرن الخامس (¬1) نهضة أدبية راقية، ظهرت بتونس في القرن الخامس للهجرة، نهضة أشرقت سماؤها بنجوم زاهرة، وقذفت بحارها بدرر فاخرة، ولهذه النهضة مهيئات ساعدت على نشأتها، وسمو غايتها، وبهجة أثرها. من مهيئاتها: أن للأدب في القرن الرابع وأوائل القرن الخامس سوقاً قائمة في الشرق؛ أعني: العراق والشام ومصر، وسوقاً قائمة بالغرب؛ كبلاد الأندلس. وموقع البلاد التونسية بين هاتين النهضتين، بحيث يعبر عليها أدب الشرق إلى الغرب، وأدب الغرب إلى الشرق، فلا جرم أن تهز تونس نشوة البلاغة حتى تسابق في حلبة البيان بخطا واسعة المدى. ومن مهيئات تلك النهضة الأدبية: أن القيروان التي هي مبعث نورها، كانت دار العلوم بالمغرب، يرحل إليها طلاب العلم، ويغترفون من بحار معارفها الزاخرة، ومن بين علومها الزاهرة: علوم اللغة العربية وآدابها. ولا أطيل الحديث عن ازدهار هذه العلوم بالقيروان، فقد ألف في أخبار القيروان وتراجم علمائها وأدبائها كتب كثيرة، وأكتفي بأن أقول: ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد التاسع الصادر في رجب 1355.

إن من علمائها الذين عاشوا في أواخر القرن الرابع، أو أدركوا بضع سنين من القرن الخامس رجالاً يشار إليهم بالبنان؛ مثل: محمد بن جعفر القزاز صاحب المؤلفات في اللغة والأدب ونقد الشعر، وهو صاحب كتاب "ضرائر الشعر"؛ أي: الضرورات التي يجوز للشاعر ارتكابها دون غيره، ومثل: عبد العزيز بن أبي سهل الخشني؛ فقد كان من الراسخين في اللغة والنحو، وكان الشعراء الحذاق يجلسون بين يديه، ويعرضون عليه أشعارهم لنقدها. وانتشار علوم اللغة وآدابها في وطن، مما يبعث قرائح أبنائه على صناعة الشعر، ويساعدها على أن تصوغ القريض في أسلوب حكيم. ومن مهيئات تلك النهضة الراقية: أن الشعر التونسي كان له في القرن الرابع جودة وحسن بيان، ومن حذاق شعرائه: علي بن العباس الأيادي، وهو الذي وصف سجع الحمائم عند فلق الصبح في أبيات قال فيها: قد ولد الصبح فمات الدجى ... صاحت فلم ندر غِنا أم نواح ومنهم: ابن عبدون السوسي، رحل إلى صقلية، ومما قال أيام رحلته متشوقاً إلى القيروان: يا قصر طارق همي فيك مقصور ... شوقي طليق وخطوي عنك مأسور إن نام جارك إني ساهر أبداً ... أبكي عليك وباكي العين معذور عندي من الوجد ما لو فاض من كبدي ... إليك لاحترقت من حولك الدور ويدلكم على ازدهار الشعر التونسي في القرن الرابع: أنه كان في متناول بعض السيدات المهذبات؛ مثل: خديجة بنت أحمد بن كلثوم المعافري. وفي ذلك القرن ورد القيروان الشاعر المبدع أبو القاسم المعروف

بابن هانئ، وحط بها رحله، ونال لدى المعز العبيدي حظوة وكرامة. وأديب عبقري كابن هانيء ينزل وطناً، لا بد أن يكون له في حركته الأدبية أثر مبين. ومن مهيئات تلك النهضة الراقية: أن الحضارة بالقيروان ما زالت تتقدم شوطاً فشوطًا، إلى أن أدركت في أوائل القرن الخامس غاية بعيدة، وأخذت مناظر أنيقة، فارتقت الصناعة، واتسعت طرق التجارة، وأنشئت القصور المشيدة، والمتنزهات الرائقة، فكان في بدائع المدنية وزخارف العمران ما ينمي قوة التخيل، وشماعدها على أن تسرح في حدائق فسيحة، وتصوغ المعاني في صور غريبة. ومن مهيئات تلك النهضة الأدبية: أن المعز بن باديس الذي تولى الملك سنة 406 كان على جانب عظيم من علوم اللغة وآدابها، فكانت دراسته لآداب اللغة العربية معينة له على تقدير قيمة الشعر، وباعثة له على الاحتفال بنوابغ الشعراء؛ ويحدثنا التاريخ: أنه كان لا يسمع بشاعر بارع إلا ويدنيه من حضرته، حتى اجتمع حول قصره نحو مئة شاعر يرأسهم أستاذه ووزيره علي بن أبي الرجال. وتولى الملك بعد المعز ابنه تميم، وكان أديباً بليغاً، وقصدته الشعراء من الآفاق، فكانوا يجدون عنده من الاحتفاء البالغ ما كانوا يجدونه من والده المعز. ولا شك أن إقبال المعز وابنه تميم من بعده على الشعراء إقبالاً يفتح في وجوههم أبواب الأمل، ويجعلهم في هناءة وراحة بال، مما يزيد الهمم تعلقاً بهذه الصناعة النبيلة.

ثم إن الأمة التي يجد منها الشعر أذواقاً لطيفة، وإحساساً رقيقاً، شأنها أن تحتفل بالأدباء، ولا ترفع إلا من رفعه أدبه، وذلك ما يدعو إلى التنافس في صوغ القريض، وإطلاق القرائح في مراعيه الخصيبة، وفنونه البهيجة. تجمعت هذه المهيئات بتونس، فولدت في القرن الخامس نهضة أدبية، قلما تجود بمثلها الأيام، فظهر في هذا العهد رجال أحكموا صناعة القريض، وذهبوا في فنونه كل مذهب، وأتوا بما يسترعي الأسماع، ويأخذ بالألباب. ولا يسع المقام أن أذكر من عرفتهم من شعراء ذلك العصر؛ وأورد لكل شاعر شيئاً مما قرأته له من الشعر، وإنما أريد أن أسوق شواهد على أن الشعر التونسي في ذلك العهد يساير الشعر الراقي في سائر البلاد العربية جنباً لجنب، وأن شعاره جودة التصرف في المعاني، وإيرادها في صور شيقة، ثم تخيّر الألفاظ المأنوسة الرشيقة ووضعها في سلك الوئام والائتلاف. فمن الأدباء البارزين في ذلك القرن: أبو علي الحسن بن رشيق، وشعره يدور في كتب الأدب كثيراً، ومن بديع شعره: قوله مخاطباً لشخص كان ابن رشيق قد رجاه في أمر، فساوفه فيه، ثم قطع رجاءه: رجوتك للأمر المهم وفي يدي ... بقايا أُمَنِّي النفس فيها الأمانيا فساوفت بي الأيام حتى إذا انقضت ... أواخر ما عندي قطعت رجائيا وكنت كأني نازف البير طالباً ... لإجمامها أو يرجع الماء صافيا فلا هو أبقى ما أصاب لنفسه ... ولا هي أعطته الذي كان راجيا ويعجبني من شعره قوله: قد أحكمت مني التجا ... رب كل شيء غير جودي

أبداً أقول لئن كسبـ ... ـت لأقبضن يدي شديد حتى إذا أثريت عد ... ت إلى السماحة من جديد وممن أحرز شهرة في ذلك العصر: أبو إسحاق المعروف بالحصري، وهو صاحب، كتاب "زهر الآداب". ومن شعره يصف سجع الحمائم في الأسحار: يا هل بكيت كما بكت ... وَرْقُ الحمائم في الغصون هتفت سحيراً والربا ... للقطر رافعة العيون ذكرتني عهداً مضى ... للأنس منقطع القرين فتصرمت أيامه ... وكأنها رجع الجفون ومن هذه الطبقة: أبو الحسن علي بن عبد الغني المعروف بالحصري أيضاً، ومن شعره السائر في الأندية قصيدته التي يقول في طالعها: يا ليلُ الصبُّ متى غده ... أقيام الساعة موعده وقد وازنها جماعة من الشعراء في القديم والحديث. ومن لذيذ شعره: قوله متشوقاً إلى صديقه أبي العباس النحوي ببلنسية من بلاد الأندلس: قامت لأنفاسي مقام طبيبها ... ذكرى "بلنسية" وذكر أديبها حدثتني فشفيت مني لوعة ... أمسيت محترق الحشا بلهيبها ما زلت أذكره ولكن زدتني ... ذكراً وحسب النفس ذكر حبيبها أهوى بلنسية وما سبب الهوى ... إلا أبو العباس أنس غريبها هب النسيم وما النسيم بطيب ... حتى يشاب بطيبه وبطيبها

ومن هذه الطبقة الذائعة الصيت: محمد بن شرف، وشعره كشعر قرينه ابن رشيق، يجري في نوادي الأدب كثيراً، ومن أبدع تشابيهه قوله: إني وإن عَزَّني نيلُ المنى لأرى ... حرص الفتى خلّة زيدت على العدمِ تقلدتني الليالي وهي مدبرة ... كأنني صارم في كف منهزم وقوله: غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم هؤلاء الأدباء الأربعة: ابن رشيق، وابن شرف، والحصريين، قد طارت لهم سمعة في الشرق والغرب، وترددت أسماؤهم وأشعارهم في كتب الأدب كثيراً، وهناك شعراء أدرك أسماءهم شيء من الخمول، ولم يحفظ التدوين من آثارهم إلا قليلاً. ومن أهل هذه الطبقة: علي بن حبيب التنوخي الصفاقسي، ومن شعره يتشوق إلى ليال قضاها عند صديق كناه بابن حسين: قوله: يا ليالي في ذرا ابن حسين ... هل معاد قبل الممات إليّا قد نشرنا صحائف الحزن نشراً ... وطوينا العزاء بعدك طيّا وأطلنا البكا عليك وإني ... لعليم أن ليس يرجع شيّا فإلى الله من فراق رماني ... عنك بعد الدنو مرمى قصيّا ومن هذه الطبقة: الشاعر المعروف بالتراب السوسي، ومن رقيق شعره: قوله من قصيدة يمدح بها جبارة بن كامل المتغلب على سوسة: بات بالأبرق برق يتسامى ... فجفا الجفن لرؤياه المناما طلعت راياته خافقة ... خفقان القلب صبّاً مستهاما

بذمام الحب يا برق عسى ... لك علم، حبهم أعيا الأناما آنسوا عاماً فلما ملكوا ... رِقَّ قلبي أوحشوا عاماً فعاما ومنهم: علي بن فضال القيرواني، ومما ينسب إليه من الشعر: تلك الأبيات السائرة: وإخوان حسبتهم دروعاً ... فكانوها ولكن للأعادي وخلتهم سهاماً صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي وقالوا قد سعينا كلَّ سعي ... لقد صدقوا ولكن في فساد ولم تكن نهضة الأدب في ذلك العهد واقفة عند حد البراعة في النظم، وحسن التصرف في المعاني، بل تجاوزت هذه الناحية إلى ناحية النظر في قوانين هذه الصناعة، ووجوه نقدها، وفنون محاسنها، ففي هذا العهد ألف ابن رشيق كتاب "العمدة في صناعة الشعر ونقده"، وكتاب "قراصنة الذهب في نقد أشعار العرب"، وألف ابن شرف كتاب "مسائل الانتقاد" تعرض فيه لنيف وخمسين شاعراً، ونبه فيه لبعض أصول النقد، وألف قبلهما عبد الكريم ابن إبراهيم النهشلي كتابه المسمى "الممتع" بيَّن فيه أساليب النقد ومناحيه، ومن نظراته السامية: قوله في فصل من هذا الكتاب: "قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد، فيحسن في وقت مالا يحسن في آخر، ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن عند أهل غيره، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجيد فيه؛ وكثر استعماله عند أهله بعد أن لا تخرج من حسن الاستواء، وحد الاعتدال، وجودة الصنعة". دقت صناعة النقد في ذلك العهد، حتى نرى الأدباء يلحظون من خفي

المآخذ في الشعر ما لا يتنبه له إلا ذو ألمعية متقدة، وكان المعز بن باديس نفسه يباري الأدباء في هذا المجال، فيبدي لبعض الشعراء عثرات قد يخفى عليهم مكانها، وهم من أبصر الناس بصناعة الشعر، وأدراهم بوجوه نقده، ومما يساق مثلاً لهذا: أن ابن رشيق أنشده قصيدته التي يقول أولها: تثبت لا يخامرك اضطراب ... فقد خضعت لعزتك الرقاب فعاب المعز قوله في هذا البيت: "تثبت"، وقال له: متى عهدتني لا أتثبت! أيها السادة! هذا الحديث نبهنا به لنهضة الشعر بتونس في القرن الخامس؛ وإذا كانت صروف الأيام قد جعلت البلاد بعد ذلك العهد لا تنبت من الشعراء المبدعين إلا قليلاً؛ فليس ببعيد أن يكون لتلك النهضة الفذة أثر في رقي الشعر التونسي لعهدنا هذا؛ حتى تقف تونس في صف أخواتها: مصر والشام والعراق؛ فإن القوم الذين يشعرون أن لأسلافهم ضرباً من شواهد النبل والفخار جالت فيه يد الحوادث، يجدون من الحرص على إحيائه؛ والجد في رفع بنائه، ما لا يجد مثله العاملون لإنشاء فخار لا عهد لهم به من قبل. وقد ظهر في شباب تونس اليوم أدباء ينحون في الشعر نحو الإجادة، بل الإبداع؛ وكأني بعهد الحصريين، وابن شرف، وابن رشيق، قد عاد؛ ولكن في زي يلائم روح هذا العصر؛ وأرجو أن يسير مع المدنية الفاضلة شبراً بشبر، وذراعاً بذراع؛ ولله الأمر من قبل ومن بعد.

حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية

حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية (¬1) * نسب ابن خلدون: هو وليُّ الدين عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي (¬2). ويتصل هذا النسب إلى وائل بن حجر الصحابي الذي وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبسط له رداءه، وأجلسه عليه، ودعا له. ذكر ابن خلدون نسبه على هذا النسق، وقال: لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هؤلاء العشرة. * دخول سلفه إلى الأندلس: كان خلدون المذكور قدم من المشرق في رهط من قومه أهل حضرموت، ونزل "إشبيلية"، وهي حمص التي يقول فيها صاحب مرثية الأندلس: وأين حمصٌ وما تحويه من نُزَهٍ ... ونهرها العذب فَيّاضٌ وملآن ¬

_ (¬1) محاضرة ألقاها الإمام في (جمعية تعاون جاليات أفريقيا الشمالية) بالقاهرة مساء يوم الجمعة 5 صفر 1343. (¬2) خلدون بفتح أوله كما نص عليه صاحب "الحلل السندسية" (مخطوط)، وصاحب "نيل الابتهاج" (ص 169 هامش الديباج المذهب). وأصل اسمه خالد، وعرف بخلدون كما جاء في تاريخ المترجم به.

تفرّع آل خلدون في إشبيلية، وكانت لهم فيها زعامة ورياسة، ثم رحل جده الحسن عقب فتنة خفقت ريحها في تلك البلاد، فنزل "سبتة"، ثم أرخى زمام مطيته متوجهاً إلى مدينة "عناية"؛ لصلة كانت بين بعض أسلافه وبين صاحبها الأمير زكريا، فلقيه الأمير باحتفاء، وأدخله في سلك رجال دولته، وجرى ابنه محمد على سنته في خدمة الدولة، وأدرك ما ناله والده من وجاهة وإقبال. وانتهى أمر ابنه محمد -الذي هو الجد الأدنى للفيلسوف ابن خلدون- إلى السكنى بمدينة "تونس"، والانتظام في هيئة الدولة، وكان السلطان أبو يحيى إذا خرج من مدينة تونس يستعمله عليها، ولكن ابنه محمداً -وهو والد الفيلسوف المتحدث عن حياته- عدل عن مسلك السياسة وخدمة الدولة، وآثر مدارسة العلم ومجالسة الأدباء، فأصبح معدوداً في زمرة العلماء، ومشهوداً له بالتقدم في فن الأدب. * نشأة ابن خلدون في تونس: في هذا البيت -الذي تقلَّب رجاله في أطوار خطرة، ثم بسط فيه العلم أشعة باهرة- ولد أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون في غرة رمضان سنة 732، فكانت نشأة ابن خلدون في أسرة امتطت ذرا الرياسة، وخفق فيها روح العلم والأدب، مما ساعد ذكاءه الفطري على أن يشتعل بشدة، وجعل نفسه الذكية بمقربة من الهمم الكبيرة. نشأ ابن خلدون وكانت رياض العلم في مدينة تونس زاهية، وسوق الأدب نافقة. فاستظهر بالقرآن، وتلقى فن الأدب عن والده، ثم أقبل يجتني ثمار العلوم بشغف، ويتردد على مجالسة العلماء الراسخين - مثل: قاضي القضاة محمد بن عبد السلام، والرئيس أبي محمد الحضرمي، والعلامة الأبلي -.

ولم يكد يستوفي سن العشرين حتى تجلت عبقريته، واستدعاه أبو محمد ابن تافراكين المستبد وقتئذ إلى كتابة العلامة عن السلطان أبي إسحاق، وهي "الحمد لله، والشكر لله" تكتب بالقلم الغليظ ما بين البسملة وما بعدها من مخاطبة أو مرسوم، وهذا مبدأ دخول ابن خلدون في حياته السياسية. * عزمه على الارتحال: تولى هذا العمل وهو يطوي ضميره على الرحلة من إفريقية؛ لوحشة أثارها في نفسه معظمُ شيوخه، وانطواء مجالس كانت أنهار علومها دافقة، وقطوف آدابها دانية. ويمكنك من هاهنا أن تعرف لابن خلدون وهو في شرخ شبابه مبدأ من مبادئ الفطرة السليمة، والهمة الشامخة، وهو الاستخفاف بالمقام الوجيه لدى الدولة، وإيثار ما فيه كمال نفسي ولذة روحية على مظاهر الأبهة ومواطن الراحة والنعيم. * رحلته إلى بجاية: لبث ابن خلدون بعد تقليده رسم العلامة أمداً غير بعيد حتى أمكنته الفرصة من أمنيته، وغادر تونس سنة 753 إلى "قفصة"، ثم إلى "بسكرة"، ونزل فيها ضيفاً مكرماً لدى صاحبها يوسف بن مزني. ثم خرج منها قاصداً السلطان أبا عنان، وهو يومئذ "بتلمسان"، فصرفه عن قصد أبي عنان، وحمله على المسير معه إلى "بجاية"؛ ليغتبط بصحبته، وتزدهي بمثل ابن خلدون أيام دولته. * ابن خلدون عنه سلطان تونس: لم يكد ابن خلدون يقضي في كنف صاحب "بجاية" برهة حتى طار صيته، وعبق ذكره في حضره السلطان أبي عنان، وقد جعل هذا السلطان

بعد عوده إلى "فاس" يؤلف من جلة العلماء مجلساً حافلاً، فاستدعاه من "بجاية" سنة 755، فأكمل به نظام مجلسه العلمي، واختاره للكتابة والتوقيع بين يديه. قال ابن خلدون: "فتحملت هذا العمل على كره مني؛ إذ كنت لم أعهد مثله لسلفي". * اتهامه بالمؤامرة على ما يغضب السلطان: حظي ابن خلدون لدى أبي عنان، وارتقى في دولته مكاناً علياً، فأخذ حَرُّ الحسد يلفح قلوب بعض منافسيه، فأخذوا يبيِّتون له المكايد، وينصبون له شرك السعاية، حتى استطاعوا أن يدخلوا إلى إفساد قلب السلطان عليه من باب السياسة؛ إذ رموه بالدخول في مؤامرة مع الأمير محمد صاحب "بجاية". ولتهمة الائتمار على نقض شيء مما تبنيه يد الدولة سهام لا تكاد تخسأ، إذا لم تصب المقاتل، أوهت العظم، وقلقلت الحشا، وسلبت الأجفان نومتها الهادئة، ويالأحرى حيث لم تكن قضاياها مما يوكل إلى اجتهاد محكمة عادلة، وإنما ينفرد بسماع بلاغها، ويستبد بتقدير عقوبتها أحد الخصمين الذي هو الرئيس الأعلى. * ابن خلدون في السجن: انطلت تلك التهمة على فكر أبي عنان، فقبض على ابن خلدون والأمير محمد، وزجَّهما في السجن. وكانت هذه النكبة أول ما لقيه ابن خلدون من بلاء السياسة، وأيقن بها أن إقبال الدولة سرعان ما ينقلب إدباراً، وأنَّ عزاً تبنيه للرجل صباحاً قد يأتي عليه المساء فإذا هو الدرك الأسفل من الهوان. ثم إن السلطان أطلق سبيل الأمير محمد، وترك ابن خلدون يقاسي شدة

الحبس، ويتجرَّع مرارة المحنة، حتى التجأ في استعطافه وجلب مرضاته إلى وسيلة الشعر والمديح، وخاطبه بالقصيدة التي يقول في طالعها: على أيَّ حال لليالي أعاتبُ ... وأيَّ صروفِ للزمان أغالبُ وقد تنجح شفاعة الشعر لدى الحاكم المطلق، وتأتي بالأثر الذي تذهب الحجج الساطعة دونه عبثاً، وما كان من أبي عنان إلا أن هشَّ للقصيدة -وكان وقتئذ بتلمسان-، ووعد بالإفلاج عن ابن خلدون عند حلوله بحاضرة "فاس"، ولكنه لم يلبث بعد إيابه إلى الحاضرة إلا خمس ليالي، فطرقه الوجع، لقي أجله قبل أن يفي بوعده لابن خلدون. * خروجه من السجن، وولايته كتابة السر وخطَّة المظالم: وبعد مهلك السلطان بادر الوزير الحسن بن عمر إلى إطلاق سراح ابن خلدون من الاعتقال، وخلع عليه من الإكرام بُرداً ضافياً، وأعاد إليه ما كان يتقلده من أعمال الدولة. وعندما استلم السلطان أبو سالم زمام الملك استعمل ابن خلدون على كتابة سرِّه، وألقى إليه الأمر في إنشاء مخاطباته، فعدل بالإنشاء عن طريقة التسجيع، وأخذ به في طريق الترسل -ولم يكن كتَّاب الدولة لذلك العهد من يجيد صناعة الترسل-، فكانت هذه المزية من أسباب تفوقه، وإحرازه قصب السبق في حلبة البيان والتحرير. ولم تزل مكانته لدى أبي سالم راضية، ولم تزحزحه سعاية ابن مرزوق -التي تناولت أكثر رجال الدولة- عما كان يتولاه من كتابة السر، وإنشاء المخاطبات، بل لم تقف في سبيل تقليده خطةَ المظالم آخر عهد الدولة، حتى ثار الوزير عمر بن عبد الله على السلطان، ونبذ الناس بيعته من أعناقهم.

* ابن خلدون في دولة الوزير عمر بن عبد الله: وقع زمام الحكم في قبضة الوزير عمر بن عبد الله، وكانت بينه وبين ابن خلدون قبل توليه أمر الدولة مودة وصحبة، فأقره على ما كان يتولاه من العمل، وزاد في جرايته. وكان ابن خلدون يطمح بطغيان الشباب إلى غاية أسمى مما يتولى من الأعمال، وفي أمله أن عناية صديقه المقتدر لا تتريث في إسعافه ببغيته. ولما لاح له أن الوزير أخلَّ بعهد الصحبة، أخذه الاستياء من تقصيره إلى أن انقطع عن دار السلطان وهجرها إدلالاً بسابق المودة، ولكن منصب الوزارة أنسى عمر بن عبد الله أن من أساليب عتب الأصدقاء وتذكيرهم بحق أغمضوا عنه هجرهم من غير جفاء، وصرف القدم عن زيارتهم لا عن ملل، ولم يشأ منصب الوزارة إلا أن يفهمه أن تقاعد ابن خلدون عن مقر السلطان زلةٌ، جرَّه إليها تعاظمه، وقلة وفائه بما يستحق مقام الرياسة العليا من إكبار وخضوع، فبدلاً من أن يرعى الوزير مقام الصداقة، ويجعله أرفع مكاناً، وأقوى سلطاناً من مقام الرياسة، أخذته نخوة السلطة، وقابل هجر العتاب والإدلال بهجر الجفاء والتقاطع. ولما رأى ابن خلدون منه التنكر، والإصرار على الإعراض عنه، استأذنه في العود إلى أفريقية، فلم يجز له ذلك، وشدَّد في منعه، حتى دخل عليه يوم عيد الفطر، وخاطبه بقصيدة يقول في طالعها: هنيئاً لعيد لا عراه قبول ... وبشرى لعيد أنت فيه منيل فحلت هذه القصيدة عقدة من إبائه، وأذن له في السفر، على شرط أن لا يتخذ سبيله إلى "تلمسان"؛ كراهة أن يتصل بصاحبها أبي حمو، ويشتد به أزر دولته.

* رحلة ابن خلدون إلى الأندلس: احتمل ابن خلدون هذا الشرط، ووليَّ وجهه شطر الأندلس وافداً على السلطان ابن الأحمر بغرناطة. ولما بات بمقربة منها، وافته من وزيرها لسان الدين بن الخطيب رسالة يهنئه فيها بالقدوم، ويعبِّر بها عن شدة ابتهاجه للقياه، ووضع في صدر الرسالة أبياتاً -على سنة من يجيد صناعتي الشعر والنثر-، وهي: على الطائر الميمون والرحب والسهل ... حللت حلولَ الغيثِ في البلد المحْلِ يميناً بمن تعنو الوجوه لوجهه ... من الشيخ والطفل المعصب والكهل لقد نشأت عندي للقياك غبطةٌ ... تُنَسي اغتباطي بالشبيبة والأهلِ * إرساله سفيراً إلى ملك الإسبان: نزل ابن خلدون من السلطان ابن الأحمر منزلة الاحتفاء والإنعام، وندبه للسفارة بينه وبين ملك الإسبان، فعرف الملك قيمته، وأعجب بكماله ومقدرته، حتى دعاه إلى الإقامة معه بدار ملكه "إشبيلية"، ملتزماً له بأن يرد عليه ما كان لسلفه من أملاك، فرفض ابن خلدون هذه الدعوة، ولم يكن ممن يشغفه المال حبًا، فيؤثره على المقام بين أمته التي يشرف بشرفها، وينحط شأنه بانحطاط سمعتها. * تنكر وزير الأندلس له: حاز ابن خلدون لدى ابن الأحمر رعاية ضافية، فجأش الحسد في نفوس بعض معاديه، وطفقوا يُسرون لابن الخطيب ما يزلزل الصداقة بينه وبين ابن خلدون، حتى اغبرَّ صدره، وبدا عليه انقباض أحسَّ به ابن خلدون، فجعل وجه البلاد في عينيه قاتماً، ولم يسعه بعد تنكر ابن الخطيب -وهو

القابض على مقاليد الدولة- إلا أن يعتزم على الرحلة، واتفق أن وافته كتب من أبي عبد الله صاحب "بجاية" يستدعيه للقدوم عليه، فاتخذها ذريعة لاستئذان السلطان في الانصراف إلى أفريقية دون أن يطلعه على ما كان بينه وبين ابن الخطيب، فامتعض في مبدأ الأمر ضَناً بفراقه، ثم ادكر أن للحنين إلى الوطن حكماً لا يغالب، فأذن له بالظعن، وأصدر في تشييعه مرسوماً من إملاء ابن الخطيب، يشهد له فيه برفعة القدر، واستقامة السيرة، والتحقيق في العلم، ويوصي قواد الدولة وأعوانها برعايته وإسعافه في كل حال. * سفره الثاني إلى بجاية: سافر إلى "بجاية" سنة 766، وأقيمت له يوم مقدمه حفله مشهودة، فأركب السلطان خاصته لاستقباله، وهرع إليه أهل البلد بنفوس متعطشة إلى لقائه، وانهالوا يمسحون أعطافه، ويلثمون يده. فاجتمع له في هذا الاحتفال إقبال الدولة، وانعطاف الأمة، وهما لا يجتمعان لشخص بانتظام إلا حيث تكون الدولة رشيدة، وإذا كانت الدولة قد تقبل على غير عظيم، فإن الأمة لا تخلع عطفها وإجلالها إلا على من تقدر عظمته، وتثق بإخلاصه. * ولايته الحجابة لسلطان "بجاية": تقلد ليوم خلا من قدومه منصب الحجابة، وهي لدى دول المغرب: الاستقلال بإدارة شؤون الملك، والانفراد بالوساطة بين السلطان وبين أهل دولته. بيد أنه استلم زمام السياسة بعد أن نشأت بين السلطان أبي عبد الله وابن عمه أبي العباس صاحب "قسنطينة" فتنة نفدت التدابير دون إطفائها، وما برحت تتأجج إلى أن كانت عاقبتها قتل أبي عبد الله، واستيلاء أبي العباس على "بجاية".

خرج ابن خلدون باسطاً يد الطاعة إلى أبي العباس، ولقي منه احتفاء وإنعاماً، وسرعان ما أنكفأت عقارب السعاية به تدب حول السلطان، فلم ينشب أن استأذنه في الانصراف، فأجاب طلبه بعد تمنع، وارتحل حتى عرَّج على "بسكرة"؛ لصحبة كانت بينه وبين أميرها أحمد بن يوسف بن مزني. * انصرافه إلى العلم: وما كان يمتحن به ويقاسيه من مشاكسة المنافسين له في مقاعد الرياسة، ونصبهم حبائل السعاية به، ثم تنكر السلطان له بعد الرعاية والإقبال، صرفَ قلبه عن التعلق بأسباب السياسة، وجعله يفرغ همته في تحقيق العلوم ودراستها. ومن أجل هذا قعد عن السفر إلى أبي حمو صاحب "تلمسان" حين استدعاه ليقلده الحجابة وكتابة العلامة، ووجه إليه أخاه يحيى ليقوم بعمل هذه الوظيفة مكانه. * المراسلة بينه وبين الوزير ابن الخطيب: بعث إليه الوزير ابن الخطيب من "غرناطة" برسائل يشكو فيها مضض النوى، ويتلهف على عهد اللقاء. وقلوب الأصدقاء قلَّما تتصدع بحزازات الوشاية، وتعود إلى عنفوان ودها الصميم، ولكن الرقة الدافقة على ذوق ابن الخطيب، والأدب المنسجم في مزاج خلقه الرصين، ذهبا بأثر ما سعى به إليه قوم لا يفقهون، ونهضا به إلى تأكيد صداقة انتظمت بينه وبين رجل يدانيه علماً وأدباً، ويضاهيه في طرق التفكير، والعمل لرقي نظام الاجتماع. وإذا كانت الرسائل مثالاً لمنهج الرجلين في المحاورة ساعات اللقاء، فإن هذه المراسلة تنبئك أن المجالس التي كانت تعقد بين هذين الوزيرين

الخطيرين لم تكن مضمار علم وأدب فقط، بل كانت ممتعة بالنظر في الشؤون السياسية الداخلية والخارجية، فقد أتى ابن الخطيب في بعض هذه الرسائل على تفاصيل من أحوال الدولة بغرناطة، وألم فيها بأنباء عن دولة الإسبان في إشبيلية. وكذلك تجد ابن خلدون تعرض في الجواب عن تلك الكتب لحوادث دول شتى: فنسق فيها قسطاً من الحديث عن شؤون دول: تونس، والجزائر، والمغرب الأقصى، والحجاز، ومصر. ولو أن علماء الإِسلام أخذوا في هذا السبيل أينما كانوا، ومدوا جانباً من عنايتهم إلى الاطلاع على تصاريف الدول ومجاري سياستها، لبلغوا منتهى السؤدد، وبرئوا من تبعة وقوع الشعوب الإِسلامية في هذا البلاء المبين. * مساعيه السياسية وهو في بسكرة: أقام ابن خلدون في "بسكرة" مقبلاً على دراسة العلم، ولم ينكث يده مع ذلك من التدخل في شؤون الدولة، فكان يشايع أبا حمو صاحب "تلمسان" حين نهض يجلب بخيله ورجله على "بجاية"، فكان وسيلة إلى توثيق عرا الصلة بينه وبين السلطان أبي إسحاق صاحب "تونس". وحمل بعض القبائل على مناصرته حتى سار إليه بطائفة من قبيل "الذواودة"، والتقى به في البطحاء، ثم قفل معه راجعاً إلى تلمسان، إذ بلغ أبا حمو أن السلطان عبد العزيز صاحب "المغرب الأقصى" يتحفز للوثوب على "تلمسان". ولما اقتربت ساعة استيلائه عليها، وأخذ أبو حمو في أهبة الانجلاء عنها إلى الصحراء، اعتزم ابن خلدون على الارتحال إلى الأندلس، وحمله أبو حمو رسالة إلى ابن الأحمر صاحب "غرناطة"، فاتصل نبأ سفره بالسلطان عبد العزيز، ونمى إليه أنه يحمل وديعة إلى ابن الأحمر، فأنفذ إليه سرية اعترضت سبيله، فلم تلق عنده ما يحقق هذه

التهمة، وانقلبت به إلى السلطان، فلقيه حوالي تلمسان، فقضى ليلته في اعتقال، وفي الغد أطلق سبيله، فانصرف إلى رباط الشيخ أبي مدين، ونزل بجواره على قصد التفرغ للعلم، ونثرِ درره الشائقة بين يدي طلابه. * استدعاؤه إلى فاس: ولم يزل متمتعاً بحياة علمية خالصة، حتى استدعاه السلطان عبد العزيز، وأوعز إليه في الخروج إلى بلاد "رياح"؛ ليجمعهم على طاعته ومناصرته، فانبعث يعمل في هذا السبيل بكلمة نافذة، ودعاية ناجحة، إلى أن قضى المأرب، وبلغ الغاية المنشودة، وكان يسعى إلى هذه المهمة السياسية وهو مقيم ببسكره في جوار أميرها أحمد بن يوسف بن مزني الذي هو صاحب زمام رياح، وما راع ابن خلدون إلا أن أخذ حساده ينفثون سموم الوشاية في أذن أحمد بن مزني، فهاجوا غيرته، وأوغروا صدره حتى تنفس بالشكوى منه إلى صاحب شورى السلطان، وترمار بن عريف، ورفع صاحب الشورى هذه الشكوى إلى السلطان، فما كان من نظره إلا أن استدعى ابن خلدون إلى حاضرة "فاس"، فخرج بأهله وولده. ولقيه في الطريق نعي السلطان، وتولية ابنه الصبي أبي بكر السعيد في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي، فدخل "فاس"، وكان له مع الوزير سابق صحبة، فأدرَّ عليه من معصرات بره وكرامته فوق ما يحتسب، وظل عاطفاً على التدريس، صارفاً همته إلى الوجهة العلمية إلى أن ظهر السلطان أحمد ابن أبي سالم على الوزير أبي بكر بن غازي، واجتذب مقاليد الأمر من يده، ولم يستقر به الحال حتى قام وزيره محمد بن عثمان يدخل عليه الريبة من جانب ابن خلدون، ويغريه بالقبض عليه.

وما هذا الوزير بأول من ازدهت به الرياسة، وتطوحت به في غرور حتى عمي عليه أن لأعاظم الرجال كابن خلدون تاريخاً باقياً، وصحائف لا تغادر صغيرة ولا كبيرة من مجاملة أهل عصره له، أو إساءتهم إلا أحصتها. * عودته إلى الأندلس سنة 776: قبض عليه السلطان ابن أبي سالم، وسرعان ما نهض إلى خلاصه الأمير عبد الرحمن الذي شارك السلطان في حرب الوزير أبي غازي، واتفق معه على أن يستقل بولاية "مراكش" وأعمالها، ولم يطمئن به المقام بعد أن رأى من تنكر السلطان وسوء طوية وزيره ما رأى، فابتغى الوسيلة إلى إذن السلطان له الانصراف إلى الأندلس؛ ليتفرغ للعلم ومدارسته في ظل دولة ابن الأحمر الذي أولاه في رحلته الأولى سابغ الكرامة والإنعام، ولم يظفر بالجواز إلا بعد تسويف، وعلى رغم من وزيره ورجال دولته. دخل الأندلس سنة 776، فجرى السلطان على عادته من بسط يد الإكرام، وإنزاله منزلة الاحتفاء والرعاية إلى أن وفد على "غرناطة" مسعود ابن ماسي من حاضرة "فاس"، وأبلغ السلطان بإغراء من رجال دولتها أن ابن خلدون كان يبذل مساعيه وجاهه في خلاص لسان الدين بن الخطيب (¬1)، ¬

_ (¬1) كان لسان الدين بن الخطيب -بفضل ما له من التبحر في العلم والأدب، والخبرة بمذاهب السياسة- قبض على زمام دولة ابن الأحمر، وانفرد بالتصرف في شؤونها، فشجيت به بطانة السلطان وحاشيته، وانسابوا إلى السعاية به من كل حدب، حتى أحس بأنها أخذت من السلطان مأخذ القبول، فاحتال للتخلص من الأندلس، والتجأ إلى السلطان عبد العزيز صاحب المغرب الأقصى، وبقي في ظل رعايته، ثم في حماية الوزير أبي بكر بن غازي من بعده. ولما استولى أحمد بن أبي سالم =

فانقلب عطف السلطان عليه جفاء، وأنسه به وحشة، وأجلاه إلى "العدوة" من بلاد المغرب الأقصى. وموضع العبرة في هذه الواقعة: أنك تقارن بين عودتيه من الأندلس، فتجده في المرّة الأولى قفل من "غرناطة" والسلطان يبسط له يد المجاملة، ويودعه بقلب يأسف لفراقه، ثم هو متوجه نحو "بجاية"، والدولة متأهبة لاستقباله بأجمل ما يتصور من مظاهر الاحتفاء. وتراه في هذه المرة انصرف عنها والسلطان يكره إقامته، وتطوى عنه بساط أنسه، خرج وهو لا يدري أين يلقي عصا التسيار: هذه دولة الأندلس تنفيه من أرضها، وتلك دولة المغرب الأقصى تلحظه بعين الحنق، وترمي من ورائه بسهام الكيد والأذى، وهذا أبو حمو صاحب "تلمسان" لم يزل ينقم عليه مشايعته للسلطان عبد العزيز، وسعيه في صرف وجوه العرب عنه يوم كان طريداً في الصحراء. بيد أن أبا حمو كان على روية لا يفوتها أن الأخذ في معاملة رجل خطير كابن خلدون بالرفق والأناة إنما توضع في حساب الحسنات التي ينوه بها التاريخ، ويرتقي بها شأن دولته، فسمح له بدخول "تلمسان"، فجاءها وقد ذاق من صروف السياسة عذاب الهون، فما كان إلا أن تجرد للقراءة، ولم يشغل وقته بسوى المذاكرة في العلم ودراسته. وقد يكون انحراف الدولة عن النابغة، أو اضطهادها له، أشد داعية ¬

_ = على حاضرة فاس حسبما قصصناه في المحاضرة، وكان استيلاؤه عليها بمساعدة وموالاة من السلطان ابن الأحمر، قام سليمان بن داود يغري السلطان بالقبض عليه، فأودعوه السجن، وائتمروا على قتله بدعوى أنه وقعت له كلمات في كتاب "المحبة" تنطق بزندقته. ثم أوعز سليمان بن داود إلى بعض الأوغاد بقتله، فهجموا عليه ليلاً، وقتلوه خنقاً في محبسه.

إلى بذله كل ما يملك من الجد والألمعية في توسيع دائرة معارفه، أو الحذق في صناعة التأليف أو الاستنباط؛ فإن الكدر الذي قد يثيره تغابيها عن مكانه، أو بخسها من قيمته إنما يكشفه ارتياح النفس وتمتعها باستطلاع حقائق العلوم التي هي أصفى لذة، وأبقى سؤدداً من نيل الحظوة، والقرب من مجالس الأمراء. * تصنيف ابن خلدون تاريخه ومقدمته: ما برح ابن خلدون منقطعاً لبث العلم، حتى بدا لأبي حمو أن يبعثه سفيراً إلى "الذواودة"؛ ليراوضهم إلى طاعته، ويجمعهم على ولائه، فلبى طلبه في الظاهر، وخرج وهو يسر في نفسه أن لا يعمل لهذا السبيل بعلَّة أنه أصبح يعزُّ عليه بذلُ شيء من أوقاته في غير الوجهة العلمية، ولعله سئم التدخل في السياسة التي قد تلتوي به مع أهواء الأمراء، وتحمله على أن يسعى في استنجاد القبيلة لمن كان يغريها عليه. ولما وصل إلى البطحاء، ولى وجهه عن ناحية الذواودة جانباً، وثنى عنانه إلى أولاد عريف، فأنزلوه بقلعة أولاد سلامة، وأقام بينهم أربع سنين في جو هادئ، وبيئة لا تجيش فيها مراجل الحسد، ولا تنفث فيها الوشاية سماً ناقعاً. وفي هذه السنين -التي كانت مهبط السكينة وصفاء الفكر وارتياح الضمير- شرع في تأليف "تاريخه" الفائق، ولذلك الحين أتم في "مقدمته" على نسجها الحكيم، وتحقيقها البديع. * عودته إلى وطنه: سلّ يده من كل شاغل، وألقم فكره ثدي الاستنتاح والتفقه في المقاصد العلمية والشؤون العمرانية، حتى بلغ في مجالها شأوا لا يشق غباره. فتاقت

نفسه إلى زيادة التوغل في أسرار العلم، والاستفادة من كتب لا تنالها الأيدي إلا في الحواضر، فراسل صاحب تونس أبا العباس بالعودة إلى تونس التي هي مسقط رأسه، ومسحب ذيل شبابه، ومجرى جياد أنسه، فما تريث أن طلع عليه جواب السلطان يأذن له بالقدوم، ويحثُّه عليه، فانبرى يطوي الفيافي حتى أوى إلى ظل عنايته، وأنزله منزلة المغتبط بسابقات عزه ومظاهر كرامته. ظن ابن خلدون -مذ حطَّ رحله بين قومه، وسحب رداء العز في وطنه- أن الزمان صافحه بيد المصافاة، وأن الحوادث أصبحت تهاب أن تغشى ساحته، فإذا تقريب السلطان له، واستخلاصه جليساً يضرم في قلوب فريق من الناس نار الغيرة والحسد، فلم يتمالكوا أن باتوا ينصبون له حبائل الوشاية، يهمسون في أذن السلطان بما يوغر صدره عليه، ومما تعلقوا به في أسباب الكيد به: تخليه عن صوغ الشعر في مديح السلطان، وزعموا لديه أنه لم يعن بمديحه كما عني بمديح سلاطين المغرب والأندلس؛ استخفافاً بمقامه، وكفراناً لنعمته. وقد ضلَّ هؤلاء عن سواء السبيل: فإن العالم الأديب قد يهفو به نزق الشباب، أو ينساق بحكم الضرورة إلى مديح بعض الرؤساء، حتى إذا بلغ في العلم أشده، وخلع عليه التقدم في السن حلة السكينة والوقار، عافت نفسه ذلك الفن المزري من الشعر، وجمدت قريحته دون أن تنطف فيه بقطرة. فيجب على صاحب الدولة الرشيدة أن يكون على همة أسمى من أن تتشوف إلى سفاسف الأمور، وأطهر من أن ترضى للذين أوتوا الحكمة أن يلقوا بأنفسهم في حضيض الملق والاستعطاف، بل الأمجد لذكره، والأدعى لحمده: أن يكون إكرام العلماء في نظره حقاً تقتضيه العلم بنفسها.

* تقديم تاريخه إلى صاحب تونس: فاجأه صديق له -كان أحد بطانة أولئك السعاة- بما يكيدونه به تحت ستار، وكان قد اعتزم على أن يقدم للسلطان نسخة مما أكمل من "تاريخه"، فانتهز الفرصة، وأنشده ساعة إهدائه الكتاب قصيدة أمتعها بذكر سيره وفتوحاته، ونسج في ذيلها الاعتذار عن انتحال الشعر بأسلوب بليغ. ويقول في هذا الاعتذار: وإليكها مني على خجل بها ... عذراء قد حليت بكل نفيسِ لولا عنايتك التي أوليتني ... ما كنت أعني بعدها بطروسِ والله ما أبقت ممارسة النوى ... مني سوى رسم أمرِّ دريس أضنى الزمان عليَّ في الأدب الذي ... دارسته بمجامع ودروس فسطا على فرعي وروَّع مأمني ... واجتث من روح النشاط غروسي ورضاك رحمتي التي أعتدُّها ... تُحيي مُنى نفسي وتُذهب بوسي * ابن خلدون في مصر: وما برحوا يركبون في السعاية به كل فن، حتى شاهد أثرها في معاملة السلطان له، فرام التخلص من مثار هذه الفتنة، وابتغى الوسيلة إلى ذلك باستئذان السطان في السفر لأداء فريضة الحج، وقدم الاسكندرية لمضيِّ عشر ليال من جلوس الملك الظاهر على عرش الملك، ثم انتقل إلى القاهرة، وتصدى للتدريس بالجامع الأزهر، واتصل بالسلطان، فأكرم مثواه، وأعاد ليل غربته ووحشته صباح أنس وطمأنينة، وأولاه وظيفة التدريس بمدرسة القمحة، ثم قلده خطة قضاء المالكية على وفق النظام المتبع لذلك العهد من إقامة قضاة على عدد المذاهب الأربعة، يلقب كل واحد منهم بقاضي

القضاة، فتحرى بهذه الخطة صراطاً سوياً، ولم يدخر وسعاً في العمل على إصلاحها، وتجديد ما درس من معالمها، ولم تألف العامة الصرامة في إقامة الحق على وجهه الصريح، ولم يعتد ذوو الجاه والشوكة من رجال الدولة إغلاق باب الشفاعة والتوسل في وجوههم، فتعاقد الفريقان على التظلم منه، والتهويش عليه لدى السلطان؛ بدعوى أنه غير خبير بالتقاليد المعبر عنها بالمصطلح، وانضم إلى هذه المحنة نكبته في أهله وولده إذ أبحروا من تونس ليلتحقوا به، فغشيتهم ريح عاصف، وهلكوا في البحر غرقاً. وقف السلطان تجاه تلك الشكوى موقف الحكمة، فجمع بين الحزم في السياسة، وكرم الهمة، ففصله عن الخطة؛ تهدئة لثائرة الجمهور، واستمر على مواصلته بالرعاية والإنعام؛ وفاء بحق العلم، واقتناصاً لمفاخر يزدهي بها وجه تاريخه المجيد. * ابن خلدون والوزير ابن زمرك: وبعد أن قضى ثلاث سنين عاكفاً على التدريس والتحرير، خرج لقضاء فريضة الحج سنة 789، وقفل راجعاً إلى القاهرة، واتصل حين بلغ الينبع بكتاب يحتوي على شعر ونثر راسله به أبو عبد الله بن زمرك وزير السلطان ابن الأحمر صاحب "غرناطة"، ولجودة نظمه، وصفاء ديباجته بحيث يسوغ لنقاد الأدب أن يضعوه بالمكان الأسمى من الشعر، ويقضوا له بالسبق في حلبة البلاغة، رأينا من اللائق بهذه المحاضرة أن نحلي جيدها بطوق فرائده، ومما يقول في أوائل هذه القصيدة: ويا زاجري الأظعان وهي ضوامرٌ ... دعوها ترد هيماً عطاشاً على نجدِ ولا تنشقوا الأنفاس منها مع الصَّبا ... فإن زفير الشوق من مثلها بعدي

براها الهوى بري القداح وحطها ... حزون على صفح من القفر ممتدِّ عجبت لها أنّي تجاذبني الهوى ... وما شوقها شوقي ولا وجدُها وجدي لئن شاقها بين العذيب وبارقٍ ... مياه بفيء الظل للبان والرند فما شاقني إلا بدور خدودها ... وقد لِحْن يوم النفر في قُضُب مُلْدِ وكم صارمٍ قد سل من لحظ أحورٍ .. وكم ذابلٍ قد هز في ناعم القدّ خذوا الحذر من سكان رامة إنها ... ضعيفات كسر اللحظ تفتك بالأُسد واسترسل في هذا الطرز البديع والنسيب الساحر حتى تخلص إلى خطاب ابن خلدون بقوله: إليك -أبا زيد- شكاة رفعتها ... وما أنت من عمرو لديَّ ولا زيدِ بعيشك خبرني ولا زلت مفضلاً ... أعندك من شوق كمثل الذي عندي فكم ثار بي شوق إليك مبرِّح ... فظلت يد الأشواق تقدح في زندي يقابلني منك الصباح بوجنة ... حكى شفقاً فيه الحياء الذي تبدي وتوهمني الشمس المنيرة غرة ... بوجهك وإن الله وجهك عن ردِّ محياك أجلى في العيون من الضحى ... وذكرك أحلى في الشفاه من الشهد واطرد في هذا النسق المعبر عن الوداد المحض، والشوق الطافح، وبلوغ الشعر في جودته إلى هذا الحد مما ينبه على رفعة منزلة ابن خلدون في نفس الوزير ابن زمرك؛ إذ الشاعر وإن كان مغلقاً لا يطيل نفس الشعر ويرتقي في إبداعه إلى هذا المظهر إلا عن داعية تزعج قريحته، وتأخذ بمجامع عنايته. وليست الداعية في هذا المقام سوى الإعجاب بكمال ابن خلدون، والحنين إلى حدائق آدابه الزاهرة.

وبعد عودته إلى القاهرة تقلد خطة القضاء مرة ثانية، ثم عزل عنها، وقد تولاها مراراً، وبلغت ولايته لها، ثم تخليه عنها منذ هبط مصر إلى أن توفي نحو ست مرات. * ابن خلدون والطاغية تيمورلنك: وكان الملك الناصر فرج يسلك في رعايته والإقبال عليه بوجه البر والإنعام مسلك أبيه الملك الظاهر، واستصحبه في خروجه إلى الشام أيام الفتنة التترية، فكان ابن خلدون ممن وقعوا في الأسر، ثم غشي مجلس تيمورلنك في طائفة من الأعيان والقضاة، ومكنه دهاؤه وبراعته في فن السياسة من افتتاح باب المخاطبة، والدخول معه في حديث أصاب مواقع هواه، وأخذ بمجامع لبه، حتى أحرز لديه مكانة الرعاية والإكرام، وحمله الإعجاب بسمو مداركه، وكياسة منطقه على اصطفائه لنفسه، والانقلاب به إلى مقر ملكه؛ ليكون شهاباً ثاقباً في سماء دولته، ودرة وضاءة في سلك علمائه. ولم تطب نفس ابن خلدون لأن يحط في أهواء هذا الطاغية، ويتطوح في مجاراته أن يدخل في شيعته، ويعمل تحت لوائه، وتلطف في مخادعته باستئذانه في العودة إلى مصر؛ ليجمع أمره، ويضم إليه أهله وكتبه، فنفذت الخدعة، وبلغ أمنيته، فعاد إلى القاهرة، ومدَّ بها طنب الإقامة إلى أن أدركه أجله وهو في منصب القضاء لأربع بقين من رمضان سنة 808، ودفن في مقابر الصوفية خارج باب النصر. وقبره غير معروف، شأن من يوافيه الحمام في دار غربة، أو يقبره قوم كسدت لديهم بضاعته الغالية، وكلَّت أبصارهم دون الوصول إلى مراميه السامية.

* أخلاق ابن خلدون: يمكن للناظر فيما اقتبسناه من سيرة ابن خلدون أن يشهد له ببعض خصال سامية؛ كعلو الهمة، ورقة الحاشية، وقلة المبالاة باقتحام المصاعب والأخطار، وقد وصفه لسان الدين بن الخطيب في كتاب "الإحاطة" ببعض أخلاق شريفة إذ قال: "هو حسن الخلق، جم الفضائل، ظاهر الحياء، وقور المجلس، عالي الهمة، عزوف عن الضيم، صعب المقادة، قوي الجأش، طامح لقنن الرياسة. جواد، حسن العشرة، عكف على رعي خلال الأصالة". ووصفه الوزير أبو عبد الله بن زمرك في قصيدته المومأ إليها آنفاً بشدة الحياء إذ قال: يقابلني منك الصباح بوجنة ... حكى شفقاً فيه الحياء الذي تبدي وبحسن الخلق إذ قال: لقيتك في غريب وأنت رئيسه ... وبابك للأعلام مجتمع الوفد فآنست حتى ما شكوت بغربة ... وواليت حتى لم أجد مضض الفقد وعدت لقطري شاكراً ما بلوته ... من الخلق المحمود والحسب العدِّ وقد أثنى عليه الأستاذ إبراهيم الباعوني الشامي، وكانت بينهما مودة وصحبة، ووصفه بعلو الهمة. وأومأ ابن الخطيب إلى مغمز في خلقه، وهو بعده عن حسن التأني، وشغوفه بثقوب الفهم، وجودة الإدراك، وجعل هذا هو العلة في تحامل رجاك الدولة عليه، وانطلاق ألسنتهم في السعاية به لدى السلطان. ولمزه ابن حجر في كتاب "رفع الإصر" بخلق كبير، والازدراء بمقام غيره.

وذكر في شواهد هذا: أن القضاة دخلوا للسلام عليه حين تولى منصب القضاء، فلم يقم لأحد منهم، واعتذر لمن عاتبه على ذلك. ومن تقصى أخبار النوابغ من أهل العلم والأدب، وجد أكثرهم يتطوح في الاحتفاظ بالمظهر اللائق بعظمته إلى الحال الذي يعده علم الأخلاق في قبيل الكبر والخيلاء. وقذفه ابن حجر بخلق الفظاظة، وجفاء الطبع أيام كان قاضياً، وحكى عنه: أنه كان يعزر الخصوم بالصفع -ويسميه: الزج-، فإذا غضب على إنسان، قال: زُجُّوه،. فيصفع حتى تحمرَّ رقبته. وتجاوز ابن حجر في التشنيع عليه، حتى رماه بارتكاب ما لا يحل لنا الأدب الجميل إيراده في هذه المحاضرة، فإلى الله إيابهُما، وعليه حسابهما. ومن قرأ ما كتبه ابن حجر في ترجمة ابن خلدون، وجدها منسوجة على قصد الحط من شأنه، وكتم شيء من فضله، فلا يبعد أن يدخل في عبارته غلو، أو يتساهل في النقل عمن كان بينه وبين المترجَم له منافسة وتحاسد. * مكانته في العلم: أنبتت المعاهد العلمية الإِسلامية من فحول العلماء رجالاً لا تحيط بهم أقلام الحاسبين، ولكن الرجال الذين يتسنمون في العلم الذروة القصوى، وتنفجر قرائحهم بمدارك فائقة، فيخرجوها للناس في أسلوبها الحكيم، ليسوا بكثير، ومن هذه الطائفة العزيزة المثال: أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون. كان بعيد الشأو في العلوم الشرعية والعربية، خبيراً بالعلوم النظرية، ضليعاً في الفنون الأدبية، ويشهد له بالرسوخ في العلم: الكتب التي درسها؛ مثل: "تهذيب البرادعي" في الفقه، و"مختصري ابن الحاجب الأصلي والفرعي"،

وكتاب "الموطأ"، و"صحيح مسلم"، وغيرهما من الأمهات في علم الحديث، وكتاب "التسهيل" لابن مالك في النحو. وأخذ العلوم العقلية والمنطق وسائر الفنون الحكمية والتعليمية عن أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الأبلي. وحسبكم شاهداً على تقدمه في هذه العلوم النقلية والعقلية: مقدمة تاريخه التي أمتع فيها البحث عن حقائق هذه العلوم وفلسفتها على طرز لا يبتكره إلا من مارسها على بينة من أمرها، وتوغل في أحشائها. وأضاف إلى ثقافة الفكر، والتبريز في الفهم: قوةَ الحفظ، فكان يحفظ القرآن الكريم، والمعلقات، وديوان الحماسة، وشعر حبيب، وقطعة من شعر المتنبي، وسقط الزند، وطائفة من أشعار كتاب "الأغاني"، وغير ذلك من المنظومات العلمية. * ابن خلدون والحافظ ابن حجر: قصد الشيخ ابن حجر الحط من شأنه في العلم، فقال في "رفع الإصر": وقد ذكره ابن الخطيب في "تاريخ غرناطة"، ولم يصفه بعلم، وإنما ذكر له تصانيف في الأدب، وشيئًا من نظمه. وقد نقل صاحب "نفح الطيب" ترجمة ابن الخطيب لابن خلدون في كتاب "الإحاطة"، وهي تتضمن وصفه بالعلم؛ حيث قال: متقدم في فنون عقلية ونقلية، متعدد المزايا، سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصور. وقال ابن حجر: وقد كان شيخنا الحافظ أبو الحسن بن أبي بكر يبالغ في الغض منه، فلما سألته عن سبب ذلك، ذكر لي أنه بلغه أنه ذكر الحسين ابن علي في "تاريخه"، فقال: قتل بسيف جده، قال ابن حجر: ولم توجد

هذه الكلمة في التاريخ الموجود الآن، وكأنه ذكرها في النسخة التي رجع عنها. والعجب من الحافظ أبي الحسن حين يغض من مقام ابن خلدون لبلاغ مزوِّر عنه، ثم من الحافظ ابن حجر حين ينفي ذلك من "تاريخه"، ويرجو أن يكون ذكره في النسخة التي رجع عنها. والحقيقة أن ابن خلدون أورد ذلك في الفصل الذي عقده في ولاية العهد من "المقدمة"، عازياً له إلى القاضي أبي بكر بن العربي المالكي، ومتعقباً له بالرد، ونصه: "وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا، فقال في كتابه الذي سماه: "بالعواصم والقواصم" ما معناه: أن الحسين قتل بشرع جده، وهو غلط، حمله عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل، ومَن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء؟! ". ومن مثل هذا يستدل على أن بعض الطاعنين على ذوي الآراء الإصلاحية، قد يؤتون من عدم اطلاعهم على نفس مقالاتهم، واستيفاء النظر في مؤلفاتهم. ثم قال ابن حجر مستشهداً على ما يدعي من ضعف مكانة ابن خلدون العلمية: "حتى إن ابن عرفة لما قدم إلى الحج، قال: كنا نعد خطة القضاء أعظم المناصب، فلما بلغنا أن ابن خلدون ولي القضاء، عدنا بالضد من ذلك". غير بعيد صدور هذه المقالة من الشيخ ابن عرفة؛ فإن ابن خلدون لم يكن مملوء الحافظة بتفاصيل علم الفقه؛ بحيث يكون أخصائياً في أحكام نوازله الجزئية، وهذا هو المنظور إليه في أهلية القضاء لذلك العهد. أما أن يكون الرجل مكيناً في علم الأصول، قاتلاً قواعد الفقه خبرة، ذا حذق في

صناعة تطبيق القواعد على ما يعرض من الوقائع -وهي المرتبة التي لا يقصر عنها ابن خلدون فيما نعتقد-، فلهم أن ينفوا عنه أهلية القضاء، ويطرحوه من حساب من يتقلدها بحق. ثم أن البون الشاسع الذي كان بين مسلكي الشيخ ابن عرفة وابن خلدون في العلم يقتضي أن يكون بينهما من المنافسة ما لا يمنع أحدهما من القدح في مكانة صاحبه، وقد كان بينهما في تونس مجافاة، وادعى ابن خلدون أن لابن عرفة إصبعاً في السعايات التي بلوه بها لدى صاحب الدولة التونسية. * مؤلفاته: أتى ابن الخطيب في كتاب "الإحاطة" على بعض مؤلفات ابن خلدون، فقال: شرحَ البردةَ شرحاً بديعاً دلَّ به على انفساح ذرعه، وتفنن إدراكه، وغزارة حفظه، ولخص كثيراً من كتب ابن رشد، وعلق للسلطان -يعني: ابن الأحمر- أيام نظره في العقليات تقييداً مفيداً في المنطق، ولخص "محصل" الإمام فخر الدين الرازي، وألف كتاباً في الحساب، وشرع في هذه الأيام في شرح الرجز الصادر عني في أصول الفقه بشيء لا غاية فوقه في الكمال. وقال صاحب "نفح الطيب" بعد نقل ما جاء في "الإحاطة" من التعريف بابن خلدون: هذا كلام لسان الدين في حق المذكور في مبادئ أمره وأوسطه، فكيف لو رأى "تاريخه الكبير"؟!. ومما قاله المقريزي في وصف "مقدمة" هذا التاريخ: وإنه لعزيز أن ينال مجتهد مثالها، إن هي إلا زبدة المعارف والعلوم، وبهجة العقول السليمة

والفهوم، توقف على عنه الأشياء، وتعرف حقيقة الحوادث والأنباء، وتعبر عن حال الوجود، وتنبح على أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدر النظيم، وألطف من الماء مر به النسيم. ورام الشيخ ابن حجر أن يبخس كل أثر له، حتى هذه المقدمة، فقال في كتاب "رفع الإصر" بعد حكايته كلام المقريزي: وما وصفه به فيما يتعلق بالبلاغة والتلاعب بالكلام على الطريقة الجاحظية، فمسلم، وأما ما أطراه به زيادة على ذلك، فليس الأمر كما قال، إلا في بعض دون بعض، إلا أن البلاغة تزين بزخرفها حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن. وقد نقلت هذه المقدمة إلى لغات أخرى: تركية، وإيطالية، وفرنسية، فكانت أحد الآثار العربية التي شهد بها الغربيون كيف يرتقي الفكر الناشئ في معاهد العلوم الإِسلامية حتى يتسنى له أن يبحث في نظم الاجتماع، وطرق الإصلاح، على وجه بديع، وأسلوب حكيم. ومتى صح أن النابغة لا يبدع في فن من فنون النظر، ويطيل فيه النفس إلى الأمد الأقصى إلا أن يتقدمه سلف يكون كواضع الأساس، أو يحظى بصحبة من ينسج في البحث والمحاورة على منوال ذلك الفن؛ فإنا لم نر من الرجال الذين لقيهم ابن خلدون من يصح أن يكون مساعداً له على هذا المسلك الفلسفي الاجتماعي غير لسان الدين بن الخطيب، ولهذا كان ابن خلدون ينوه بشأنه، ويشيد بذكره أينما حل. قال الشيخ إبراهيم الباعوني الشامي -فيما رآه صاحب "نفح الطيب" بخطه-: وكان -يعني: ابن خلدون- يكثر من ذكر لسان الدين بن الخطيب، ويورد من نظمه ونثره ما يشنف به الأسماع، وينعقد على استحسانه الإجماع،

وتتقاصر عن إدراكه الأطماع. * شعره: يعد ابن خلدون في قبيل الشعراء المجيدين، ولكن انكبابه على مدارسة العلوم، وقلة غدو قريحته ورواحها على النظم، عاقه عن أن يبلغ في إتقان نسجه والإبداع في فنون التخيل مبلغ المشهود لهم بالتفوق في هذه الصناعة. وقد اعترف هو نفسه بما يجده من استصعاب الشعر عليه، وبعدِ مأخذه منه عندما يحاول نظمه، قال في "مقدمة تاريخه": ذاكرت يوماً صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر -وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة-، فقلت له: أجد استصعاباً علي في نظم الشعر متى رمته، مع بصري به، وحفظي للجيد من الكلام؛ من القرآن، والحديث، وفنون من كلام العرب، وإن كان محفوظي قليلاً، وإنما أتيت -والله أعلم - من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية، والقوانين التأليفية، وعدَّدَ جملة من محفوظاته، ثم قال: وامتلأ حفظي من ذلك، وخدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها. فنظر إلى ساعة معجباً، ثم قال: لله أنت! وهل يقول هذا إلا مثلك! ولصفاء فطرته، وسلامة ذوقه، قد يدرك شعره مع تلك العلة التي أومأ إليها غاية بعيدة في الإجادة. ومن مُثُله الرائقة: قصيدته التي أنشدها سلطان المغرب ليلة الميلاد النبوي عام 763، وافتتحها بقوله: أسرفن في هجري وفي تعذيبي ... وأطلن موقف عَبرتي ونحيبي وأبين يوم البين ساعة وقفة ... لوداع مشغوف الفؤاد كئيبِ

ومنها: يا سائق الأظعان تعتسف الفلا ... وتواصل الإسآد بالتأويب متجافياً عن رحل كل مذلل ... نشوان من أينٍ ومس لغوب تتجاذب النفحات فضل ردائه ... في ملتقاها من صبا وجنوب إن هام من ظمأ الصبابة صحبه ... نهلوا بمورد دمعه المسكوب أو تعترض مسراهم سدف الدجى ... صدعوا الدجى بغرامه المشبوب هلا عطفت صدورهن إلى التي ... فيها لبانة أعين وقلوب فتؤمَّ من أكناف يثرب مأمناً ... يكفيك ما تخشاه من تثريب حيث النبوة آيها مجلوة ... تتلو من الآثار كل غريب ومن أجود شعره وأعلاه مطلعاً في البلاغة: قوله من قصيدة يهنئ بها أبا حمو بعيد الفطر: هذي الديار فحيهن صباحا ... وقف المطايا بينهن طلاحا لا تسأل الأطلال إن لم تروها ... عبرات عينك واكفاً ممتاحا فلقد أخذن على جفونك موثقاً ... أن لا يرين مع البعاد شحاحا ايه على الحي الجميع وربما ... طرب الفؤاد لذكرهم فارتاحا وتعرض الشيخ ابن حجر لشعر ابن خلدون، وقال: إنه لم يكن ماهراً في النظم، وكان يبالى في كتمانه، مع أنه كان جيداً لنقد الشعر. وعدم مهارته في الشعر مسلم على معنى أنه لم يصل إلى درجة من أفرغوا جهدهم في هذه الصناعة، وأصبحوا لا ترى تراجمهم إلا في طبقات الشعراء. وقد أريناك من شعره مثلاً يشهد بأن له قوة شاعرية فطرية، وهو المثل الأعلى لشعر من

انصرف بهمته إلى التضلع من العلوم النقلية والنظرية، ثم مد يده إلى الشعر على وجه التحلي بفن من فنون الأدب الجميلة. * مُثل من فلسفته الاجتماعية: لابن خلدون في الاجتماع والسياسة آراء سامية استمدها من مطالعاته الواسعة في التاريخ، ومشاهداته أزمان الرحلة؛ إذ تقلب في أمم، ودخل في أحشاء دول. ولنسق إليكم أمثلة من فلسفته الاجتماعية التي لها مساس بمشروع جمعية أدبية كجمعية تعاون جاليات أفريقية الشمالية: * المغلوب مولع بتقليد الغالب: يقول ابن خلدون: إن المغلوب "مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته، وسائر أحواله وعوائده". وعلل هذا بأن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها، وانقادت إليه، إما لنظرة بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو بما تغالط به نفسها من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب. وهذه نظرية صحيحة، وعلتها ظاهرة، وهي مطردة في الأقوام الجاهلة والشعوب التي يلقى حبلها على غاربها، فتأخذ في تقليد الغالب، والتشبه به في الشعار والعادات، وتفرط في ذلك حتى تندمج في بني جنسه، وتفنى في قبيل عنصريته. فجدير بزعماء الشرق ودعاة إصلاحه اليوم ألا يدعوا النشء منهمكاً في تقليد الأمم الغربية، ويحق عليهم أن يمعنوا النظر في أحوالها ومظاهر مدنيتها، ويميزوا بين ما كان من أسباب رقي حالتها الاجتماعية، وانبساط يدها إلى القبض على أزمَّة السياسة في الشرق، فيحرضوا الشرقيين على اقتباسه،

وإضافته إلى وسائل حضارتهم، وما كان من الأوضاع المنكرة، أو أنه كان ناشئاً عن عادة ولدتها البيئة الخاصة، ضربوا عنه صفحاً، وأنذروا الشرق عاقبة الاقتداء به. وفحصُ أحوال تلك الأمم، وتمييزُ طيبها من خبيثها يحتاج إلى نظر حكيم، وذوق سليم، فقد يجد الناظر ما قد يكون نافعاً في أوطانهم، ولكن عمله في بلادنا اليوم ضرر محض. ومن أمثلة هذا: إضراب التلاميذ عن الدروس احتجاجاً على قضية سياسية، فهذا النوع من الإضراب قد يلتجئ إليه تلاميذ دولة مستقلة حريصة على ترقيتهم في العلوم والفنون، فيكون نافعاً لهم، وذريعة لنجاح مطلبهم، ولكن الدولة الأجنبية لا يسوءها أن ينقطع أبناؤنا عن التعلم ليالي وأيامًا، بل يرتاح ضميرها إلى أن تغلق المدارس أحقاباً؛ حتى يتسنى لها أن تسوقهم كالأنعام إلى حيث تشاء. * الأمة المغلوبة يسرع إليها الفناء: يقول ابن خلدون: "إن الأمة إذا غُلبت، وصارت في ملك غيرها، أسرع إليها الفناء". وجعل العلة في هذا ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها عليها، وصارت بالاستعباد آلة لسواها، فيقصر الأمل، ويضعف التناسل، والاعتماد إنما هو عن جدة الأمل، وما يحدث عنه من النشاط في القوة الحيوانية. وهذه النظرية حادثة، وعلتها معقولة، فيتحتم على زعماء الشعوب المغلوبة للأجنبي أن يعالجوا هذا الداء القاتل للأمم الجاهلة بما يبثونه فيها من أمل الخلاص، ويضربوا لها الأمثال بالأمم التي تخلصت من سلطة الغريب؛ مثل: اليونان، وبلغاريا، ورومانيا، وأمريكا، ويعلموها أن وسيلة النجاة منافسة

الغالب في أسباب القوة من المال والعلم والاتحاد، ويربُّوها على العظمة وإباءة الضيم واستصغار العظائم؛ فإنها تعود إلى حياة وقوة تصارع بها حاكمها الغاصب، وإن كانت فئة قليلة، وبلغت جنود خصمها من الكثرة ما لا يخطر على البال. لا تحقرن صغيراً في مخاصمة ... إن الذبابة أدمت مقلة الأسد * العرب والسياسة: عقد ابن خلدون في "مقدمة تاريخه" فصلاً ذهب فيه إلى أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك. وتدور هذه المقالة على ألسنة بعض من يريد الحطَّ من شأن العرب، ولا سيما الأعاجم الذين يريدون استعمار بلادهم، وإدخالهم تحت سيطرتهم، ويسوقونها كالشاهد على أن العرب لا يصلحون لأن يديروا سياستهم بيد مستقلة، وينقلها بعض العرب أو أنصارهم، فيرمي ابن خلدون بسفه الرأي في هذه القضية، ويحكم على تخطئته بحجة سداد نظرهم في السياسة، واتساع فتوحاتهم أيام الخلفاء الراشدين، ومن اقتفى أثرهم من دهاة الأمراء وأبطال الرجال. والتحقيق أن ابن خلدون إنما يقصد العرب الذين يعيشون بالبادية، وقبل أن يخرجوا من ظلمات جاهليتهم إلى الاهتداء بمعالم الإِسلام. وعباراته صريحة في هذا الصدد. ومما قال في هذا القصد: "وإنما يصيرون إلى سياسة الملك بعد انقلاب طباعهم وتبدلها بصبغة دينية". ثم قال: "واعتبر ذلك بدولتهم في الملة لما شيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهراً وباطناً، وتتابع فيها الخلفاء، عظم حينئذ ملكهم، وقوي سلطانهم".

خرجت يوماً من "برلين" على سكة الحديد إلى بعض نواحيها، وكان في رفقتي اثنان من مستشرقي الألمان. وبعد قليل أقبل عليَّ أحدهما، وقال لي: أليس هكذا يقول ابن خلدون: إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك؟ فقلت له: إنما يريد العرب في عصر جاهليتهم، وأما بعد أن تحلوا بهدي الإِسلام، فقد أصبحوا كغيرهم من الأمم: يجيدون النظر في السياسة، ويديرون زمامها على بينة. فلاح على وجهه الامتعاض من هذا الجواب. وليست ألمانيا أقل شرهاً وحرصاً على استعباد الشعوب الشرقية من بقية دول الاستعمار. ويوضح ما قاله ابن خلدون من قلة خبرة العرب أيام جاهليتهم بمذاهب السياسة: أنهم كانوا مغلوبين لطبيعتين لا ينتظم معهما أمر الملك وإدارة شؤون الجماعة: إحداهما: الانتصار لمثل الجار والقريب، والصاحب والحليف، وإن كان ظالماً، وكانوا يرون هذه الطبيعة من مقتضيات صحة العهد، وعزة الجانب. والسياسة إنما تقوم على قاعدة المساواة، وحماية الحقوق من أيدي المعتدين عليها، لا فرق بين بعيد وقريب، وعدو وحبيب. ويعتبر هذا بالحكومات الأجنبية، فإنك تجدها تعبث بقاعدة المساواة في البلاد المحتلة، فتستخف بحقوق الوطنيين، وترفع أبناء جنسها عليهم درجات، وهذا أول العلل التي تجعل سياستها منكرة، ووطأتها لا تطاق. ثانيهما: المسارعة إلى مؤاخذة المسيء والانتقام منه بدافع طبيعة إباية الضيم، والسياسة تقضي باحتمال بعض الأذى، والإغضاء عن كثير من الهفوات.

وأقم الوزن بالقسط في الحكومات السائدة، فإنك ترى الحكومة التي هي أطيش حلماً، وأخف يداً إلى إرهاق من تسميهم مجرمين سياسيين، فتستيقن أنها أقصر عمراً، وأن بغضها في قلب شعبها أحر من جمر الغضا. وقد حارب الإِسلام هاتين الطبيعتين حتى أخرج من العرب موازين قسط وعدالة؛ كعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنهما -، وجبال حلم وأناة؛ كمعاوية بن أبي سفيان، والمأمون بن هارون الرشيد. أيها السادة! هذه كلمات في حياة الفيلسوف التونسي عبد الرحمن بن خلدون، ألقيناها على مسامعكم رجاء أن يأخذ منها طلاب العلم بالأزهر الشريف عبرة، حتى ترى منهم أوطانهم بعد العودة أمثال ابن خلدون في علمه وتفكيره، وما ذلك على الله بعزيز.

حياة أسد بن الفرات

حياة أسد بن الفرات (¬1) أيها السادة! أعرض على حضراتكم آثاراً من سيرة رجل يدخل في سلك العلماء الراسخين، وتقرؤون اسمه في سلك الأبطال الفاتحين، وهو مؤلف "المدونة"، وفاتح صقلية: أسد بن الفرات. قضى أسد بن الفرات معظم حياته بمدينة القيروان، ولحياته صلة بالعلم، وصلة بالسياسة، فيحسن بنا أن نفتتح المحاضرة بكلمة نأتي بها على موقع القيروان، ونلم فيها بحالته السياسية والعلمية للعهد الذي نشأ وعاش فيه أسد ابن الفرات. * القيروان: لا يغيب عن حضراتكم أن تونس فتحت أولاً في عهد عثمان بن عفان بسيف عامله على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكانت آخرة هذا الفتح أن لاذ الروم والبربر بطلب الصلح، فصالحهم الفاتحون على مقدار وافر من المال، تسلموه منهم، وولوا عنهم إلى مصر وما وراءها راجعين. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الثامن عشر الصادر في رمضان 1364.

وبعد أن وقعت الخلافة في يد معاوية بن أبي سفيان، بعث إلى إفريقية (¬1) جيشاً يقوده معاوية بن أبي حديج الكندي، ففتح منها بلاداً كثيرة، ثم عاد إلى مصر، وخلفه عقبة بن نافع الفهري، فجعل من فاتحة أعماله أن خطط تلك المدينة التي تسمى: "القيروان"، وهي واقعة من مدينة تونس في ناحية الجنوب، تبعد عنها بمسير خمس ساعات في سكة الحديد، وتقدر هذه المسافة في القديم بنحو مئة ميل. * الحالة السياسية: ظلت القيروان منذ أنشأها عقبة بن نافع عاصمة أفريقية، وظل ولاتها يفدون عليها من قبل الخليفة في الشرق إلى أن اضطرب حبل الأمن, وحل بعض الزعماء فيها وكاء الفتنة، فبعث أبو جعفر المنصور جيشاً على رأسه محمد بن الأشعت سنة 144 هـ، فأخمد الثائرة، وصارت ولاية أفريقية عقب هذا إلى المهلبيين، ومنهم: يزيد بن حاتم الذي مدحه ربيعة الرقي بالشعر المتداول: لَشتانَ ما بين اليزيدينِ في الندى ... يزيدِ سُليمِ واليزيدِ بنِ حاتمِ ثم إلى الأغالبة، ومؤسس دولتهم إبراهيم بن الأغلب، وكان إبراهيم هذا قد رغب إلى الخليفة هارون الرشيد في أن يمنحه إمارة أفريقية، فأجاب رغبته، وكتب له عهد الإمارة سنة 184، فاستقل بشؤون أفريقية الداخلية، وأقام دولة يقال لها: دولة بني الأغلب، وكان يجمع في سياسته بين الحزم والرأفه، ويضيف إلى هذه الخصلة الحميدة علماً وأدباً، فامتدت ¬

_ (¬1) تطلق إفريقية على ما بين برقة وطنجة، وقد تطلق على القيروان؛ لأنها كانت عاصمة ملك أفريقية.

في أيامه ظلال الأمين وألقت إليه القبائل بحسن الطاعة حتى توفي سنة 196، فخلفه ابنه عبيد الله، وذهب في سياسته مذهب الشطط والعسف، وما لبث أن هلك، وصار الأمر لأخيه زيادة الله، فبايعه الأهالي سنة 201، ثم جاءه التقليد من قبل الخليفة المأمون، وكان زيادة الله فصيح المنطق، مكيناً في العربية وآدابها، وفي عهده تولى أسد بن الفرات قضاء القيروان، وقيادة الجيش الفاتح لصقلية. فأسد بن الفرات عاش ما بين مدينتي القيروان وتونس أيام تداول سياسة ذلك القطر المهلبيون، ثم الأغالبة، وفي كلتا الدولتين رجال علم وأدب وهمم سامية، وذلك مما ينهض بأمثال أسد في النباهة والذكاء إلى أن يكون من عظماء الرجال الذين يذكرهم التاريخ بتمجيد وإجلال. * الحالة العلمية: لأهل تونس -في العهد الذي نشأ فيه ابن الفرات وما يقرب منه- عناية بالعلوم الإِسلامية، فكانوا يرحلون إلى بلاد الشرق للأخذ من علمائها، ومن أشهر هؤلاء الراحلين: أبو البقاء عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري؛ فإنه رحل إلى الشرق، وأخذ عن جماعة من التابعين، ثم عاد إلى القيروان، وبث ما عنده من علم، ورحل مرة أخرى إلى العراق، واجتمع بأبي جعفر المنصور، وهو يومئذ الخليفة، وكان قد عرفه أيام رحلته الأولى، وصاحبه في طلب العلم، فعرض عليه الخليفة المقام ببغداد، فأبى، فقلده قضاء القيروان، وتوجه في جيش ابن الأشعث الذي سار لقمع ثورة البربر بأفريقية. وكان عبد الرحمن هذا في طليعة العلماء الذين نشروا في البلاد التونسية علماً وأدباً، وظهروا بالإقدام على نصيحة ولاة الأمور، ومن آثاره الأدبية:

قوله في أبيات نظمها خطاباً لابنه أنعم حين أخذ في التوجه من العراق إلى القيروان: ذكرت القيروان فهاج شوقي ... وأين القيروان من العراق مسيرة أشهر للعير نَصّاً ... وللخيل المضمرة العتاق فبلغ أنعماً وبني أبيه ... ومن يرجو لنا وله التلاقي بأن الله قد خلَّى سبيلي ... وجدَّ بنا المسير إلى فراق وهذه الأبيات -على سهولة لفظها، وقرب مأخذها- تدل على أن لصاحبها قدماً في الأدب راسخة. ومن دلائل إقدامه على نصيحة أولي الأمر: أنه حين دخل على أبي جعفر المنصور قال له: كيف رأيت ما وراء بابنا؟ قال: رأيت ظلماً فاشياً، وأمراً قبيحاً، قال له أبو جعفر: لعله فيما بَعُد من بأبي، قال: بل كلما قربت، استفحل الأمر وغلظ، قال: ما يمنعك أن ترفع ذلك إلينا، وقولك مقبول عندنا؟ قال: رأيت السلطان سوقاً، وإنما يرفع إلى كل سوق ما ينفق فيه، قال له: كأنك كرهت صحبتنا! قال: ما يدرك المال والشرف إلا من صحبتكم، ولكني تركت عجوزاً، وإني أحب مطالعتها، فولاه قضاء أفريقية، وتوجه في جيش ابن الأشعث كما قصصنا. وظهر بعد عبد الرحمن هذا طبقة من أهل العلم راقية، رحلوا إلى الشرق، وأخذوا عن مالك بن أنس؛ كعبد الله بن أبي حسان اليحصبي، وعبد الله بن غانم، وعبد الله بن فروخ، وعلي بن زياد الذي هو أحد أساتذة أسد بن الفرات. فأسد بن الفرات شب وعاش في بيئة علم واسع، وأدب غزير، وقد

ساعدته هذه البيئة على أن يكون انتفاعه من الرحلة التي تقلبت به في الحجاز والعراق والقاهرة عظيماً سريعاً، وسنقص على حضراتكم شيئاً من أنبائها، وأنباء ما عاد به إلى وطنه من علم وافر نبيل. * مولد أسد ونشأته: المعروف من نسب أسد أنه أسد بن الفرات بن سنان مولى سليم، وأصله من نيسابور أحد أعمال خراسان، وكان أسد يقول على وجه الاستملاح: أنا أسد، والأسد خير الوحوش، وابن الفرات، والفرات خير المياه، وجدي سنان، والسنان خير السلاح. ولد أسد ببلد حران من ديار بكر سنة 142 هـ، وكان أبوه الفرات من جند خراسان، فلما بعث أبو جعفر المنصور محمد بن الأشعث لإخماد فتنة البربر بأفريقية، وكان الفرات في الجيش الذي يقوده محمد بن الأشعث، فأخذ ابنه أسداً وقد بلغ من العمر حولين، فنزل بالقيروان، وهي يومئذ عاصمة أفريقية. بقي أسد بالقيروان نحو خمس سنين، ثم انتقل به أبوه إلى مدينة تونس، وأقام بها سنين توفق فيها أسد إلى طلب العلم، فتلقى من شيوخ أشهرهم: علي بن زياد الذي لقي مالكاً، وأصبح أفقه العلماء بأفريقية. ولم يقنع أسد بما تلقاه من شيوخ أفريقية، وتاقت نفسه لأن يزداد بسطة في العلم، فأزمع الرحلة إلى الشرق، وكانت الرحلة ولا زالت السبب الأقرب إلى تثقيف العقل، والنبوغ في العلم، متى كان الراحل مجداً غير هازل، نبيهاً غير خامل، ولولا رجال من الأمة يرحلون، فيردون مناهل العلوم ثم يصدرون، لبقي كثير من الأمم في جهلهم، أو على مقدار من العلم لا يرفع

ذكرهم، ولا يقوم بحاجاتهم. * رحلته إلى الحجاز: غادر أسد بن الفرات تونس سنة 172، فدخل المدينة وعالمها الذي تضرب إليه أكباد الإبل وقتئذ مالك بن أنس، فلزم مجالسه، وسمع منه كتاب "الموطأ"، وبعد أن فرغ من سماعه، قال لمالك، زودني يا أبا عبد الله، فقال له مالك: حسبك ما للناس. وكان أصحاب مالك -ابن القاسم وغيره- يهابون مالكاً، فلا يسألونه أو يناقشونه في العلم إلا بمقدار، ولما رأوا في أسد جرأة، أخذوا يدفعونه إلى سؤال مالك، ويلقنونه ما شاؤوا من المسائل يبتغون أجوبتها، فكانوا إذا أجابه مالك عن مسألة، يقولون له: قل له: لو كان كذا وكذا، كيف يكون الحكم؟ قال أسد: فأقول له، حتى ضاق علي يوماً، وقال لي: "سلسلة بنت سلسلة، إذا كان كذا، كان كذا وكذا، إن أردت هذا، فعليك بالعراق". وكان الإمام مالك يكره السؤال عن أحكام الحوادث قبل وقوعها؛ ذلك لأن أصول الشريعة محكمة، ومقاصدها واضحة، ووسائل الاستنباط ممهدة، فمتى وقعت الواقعة، وجدت من أئمة الاجتهاد من يفصل لها حكماً موافقاً. * انتقاله إلى العراق: قصد أسد المسير إلى العراق ليتعلم من علمائه ما لم يكن يعلم، فدخل على مالك مودعاً، وقال له: أوصني. فقال له مالك: "أوصيك بتقوى الله، والقرآن، والنصيحة لهذه الأمة". رحل أسد إلى العراق، فلقي هنالك أصحاب الإمام أبي حنيفة، وكان

يشهد مجالس محمد بن الحسن العامة، ولم يكتف بما كان يستفيده من هذه المجالس حتى اقترح على محمد بن الحسن أن يسمح له بوقت يخصه فيه بالدراسة، فتقبل محمد بن الحسن اقتراحه، وقال له: اسمع مع العراقيين بالنهار، وقد جعلت لك الليل كله وحدك، فتبيت عندي، وأسمعك. قال أسد: فكنت أبيت في سقيفة بيت يسكن هو في علوه، فكان ينزل إلي، ويضع بين يديه قدحاً فيه ماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال الليل، ورآني نعست، ملأ يده ماء، ونضح به على وجهي، فأنتبه؛ فكان ذلك دأبي ودأبه حتى أتيت على ما أريد من السماع عليه. صنيع أسد بن الفرات يرينا كيف كان طلاب العلم في الإِسلام، فلا نعجب لمن يقص علينا التاريخ أنهم بلغوا في العلم -وهم لا يبعدون عن سن العشرين- منزلة سامية فائقة. وصنيع محمد بن الحسن يرينا كيف كان الأساتيذ يحنون على طلاب العلم حنو المرضعات على الفطيم، ويقضون ليلهم ونهارهم في إنارة عقولهم، وتوسيع دائرة معارفهم. * انتقاله إلى مصر: بعد أن تضلع أسد مما عند علماء العراق من علم، انتقل إلى مصر، وقد ظهر بها وقتئذ أصحاب الإمام مالك: ابن القاسم، وأشهب، وغيرهما، فحضر أسد لأول قدومه مجلس أشهب بن عبد العزيز، فصادف أن بدرت من أشهب كلمة تطاول بها على الإمامين مالك وأبي حنيفةَ، فأخذت أسداً الحميةُ لهما؛ ولم يتمالك أن قال: يا أشهب! فأسكته الطلبة، وقالوا له: ماذا أردت أن تقول له؟ قال: أردت أن أقول له: مثلك ومثلهما مثل رجل

أتى بين بحرين، فبال، فرغى بوله، فقال: هذا بحر ثالث. وكان ابن القاسم وأشهب يخالفان مالكاً في بعض الفتاوى، غير أن في ابن القاسم أناة، فلا يضم إلى الخلاف قولة جافية، أما أشهب، فكان لا يبالي أن يزيد على الخلاف كلمة يتظاهر فيها باستقلال النظر ما شاء. ثم اتصل أسد بابن القاسم، وكان يغدو إليه في كل يوم يلقي عليه مسائل ليجيبه عنها بما يرويه عن مالك، أو تقتضيه أصول مذهبه، حتى دوّن ستين كتاباً سماها: الأسدية. ولما عزم أسد على العودة إلى القيروان، سأله طلاب العلم هنا بمصر أن يسمح لهم باستنساخ ما دونه عن ابن القاسم -أعني: الأسدية-، فأبى عليهم ذلك، فحسبوا أن هذا من الحقوق التي يتناولها القضاء، فشكوه إلى القاضي، وهو يومئذ عمرو بن مسروق الكندي، فقال لهم: وأي سبيل لكم عليه؟! رجل سأل رجلاً فأجابه، ها هو المسؤول بين أظهركم، فاسألوه كما سأله. ثم إن القاضي رغب إلى أسد في أن يسمح لهم باستنساخ الأسدية، فأجاب طلب القاضي، وسلمها لهم حتى فرغوا من نسخها. * عودته إلى القيروان: قضى أسد في رحلته نحو عشر سنين، ثم عاد إلى القيروان سنة 181، وانتصب للتدريس، وبث ما كسب من علم، فأقبل عليه الطلاب يجتنون من ثمار رحلته، ويتلقون عنه "الموطأ". وكتاب "الأسدية"، وممن أخذ الأسدية: الإمام سحنون، ثم إن سحنون رحل إلى مصر سنة 188، وقرأ الأسدية بين يدي ابن القاسم نفسه، وكان ابن القاسم قد رجع في بعض مسائلها، وقررها على غير ما سمع منه أسد بن الفرات، ولما فرغ سحنون من قراءتها، كتب

ابن القاسم رسالة إلى أسد يأمره فيها بأن يصحح "مدونته" على النسخة التي يحملها سحنون، عاد سحنون بالمدونة، ودفع كتاب ابن القاسم إلى أسد، فأبى أسد أن يغير مدونته المسماة: الأسدية على نحو ما سمعها عن ابن القاسم، ولكن مدونة سحنون هي التي انتشرت في الآفاق، وعول عليها الناس في الفتوى، وهي التي تناولها الفقهاء بالشرح والاختصار. * مكانته العلمية: عرفنا مما سلف أن أسداً تفقه عن علي بن زياد في تونس، ثم رحل وأخذ عن مالك بالمدينة، ثم عن أصحاب أبي حنيفة بالعراق، ثم عن عبد الرحمن ابن القاسم بالقاهرة، وأن مدة رحلته بلغت تسع سنين، وإن تسع سنين يقضيها العالم الذكي في الازدياد من العلم بجد وتلهف، لكفيلة بأن تخرجه للناس نحريراً فائقاً، وبما نال أسد في هذه الرحلة من علم كان يقول مغتبطاً ومعرضاً ببعض معاصريه بالقيروان: "ضربنا في طلب العلم آباط الإبل، واغتربنا في البلاد، ولقينا العلماء، وغيرنا طلب العلم خلف كانون أبيه، ووراء منسج أمه، ويريدون بعد ذلك أن يلحقونا". وتحدث محمد بن الحسن عن أسد في مكة، فوصفه بالدراسة والمناظرة والسماع، وكان قاضي القيروان عبد الله بن غانم يشاوره، ويعجب بعلمه، وقال أبو بكر بن الأبار في "الحلة السِّيراء": "وكان لأسد بيان وبلاغة، إلا أنه بالعلم أشهر منه بالأدب". ومما امتاز به أسد عن معاصريه: أنه كان يسرد في مجالسه أقوال أهل العراق، ثم أقوال أهل المدينة، وبهذه الطريقة اتسعت دائرة علم الفقه في تونس، وأصبح طريق النظر في أحكام الشريعة ومداركها مألوفاً ميسراً، وقد

تقدم إلى فتح هذا الباب بالقيروان عبد الله بن فروخ؛ فإنه رحل إلى الشرق، ولقي مالكاً وأبا حنيفة، وكان يعتمد في فقهه على مالك، ويأخذ بطريق النظر والاستدلال، وقد يميل إلى قول أهل العراق حين يستبين له أنه أرجح حجة، وأقوم قيلاً. * ولايته القضاء: توفي قاضي القيروان عبد الله بن غانم، فأقام زيادة الله مكانه أبا محرز ابن عبد الله الكتاني، ثم إن علي بن حميد وصف لزيادة الله فضل أسد، ومكانته في العلم، وسعى لديه في أن يصرف أبا محرز عن القضاء، ويقلده أسد بن الفرات، فلم يوافق زيادة الله على عزل محرز، ولكنه قلد أسداً القضاء مع أبي محرز سنة 204، فكانا يقضيان كل منهما بمكانه؛ بحيث يكون المتداعيان بالخيار. وفي مدينة تونس لهذا العهد محكمتان: إحداهما تحكم على المذهب المالكي، وأخراهما تحكم على مذهب أبي حنيفة، ويسيران في القضاء على أن الخيار للمدعى عليه، وعباراتهم الخيارية في هذا المعنى: "المطلوب يتوجه حيث شاء". أما تولية قاضيين لتطرح بينهما القضايا، ويصدرا فيها حكماً واحداً، فقد كان الخليفة المهدي استخلف على القضاء محمد بن علاثة، وعافية بن يزيد، فكانا يقضيان معاً في مسجد الرصافة. * شجاعته الأدبية: كان أسد على شاكلة العلماء الذين يصغر في أعينهم أهل الدنيا، ولا تملك عليهم سطوة السلطان ألسنتهم، فيُدهنوا. دخل أسد وأبو محرز

على منصور الطبري يوم ثار على زيادة الله، واستولى على القيروان، وهما قاضيان، فقال لهما ذلك الثائر في كلام دار بينهما: "اخرجا عني، أما تعلمان أن هذا البائس -يعني: زيادة الله- ظلم المسلمين؟ ". أما أبو محرز، فخالطه رعب، وقال له: وظلم اليهودَ والنصارى. وأما أسد، فإنه ملك جأشه، وآثر أن يقول كلمة حق على أن يسكت أمام صولة باطل، فقال له: كنتم أعواناً له قبل هذا الوقت، وأنتم وهو على مثل هذا الحال، ولما وسعنا الوقوف عنه وعنكم، فكذلك يسعنا الوقوف عنه وحده. ولما دافع أسد بهذه الكلمة، صال عليه بعض الجند القائمين على رأس الثائر، ثم انصرف القاضيان وهما يتوقعان بطشة الثائر الغشوم، ولكن الله صرف قلبه عنهما، فلم يمسهما بأذى. * فتحه صقلية (¬1): صقلية: جزيرة في البحر المتوسط، لا يفصلها عن أوربا الإيطالية إلا مضيق مسينا، وهي التي تسمى: "سيسيليا". أما سبب فتحها، فهو أنه كان بين زيادة الله وصاحب صقلية عقد هدنة، ومما احتواه هذا العقد: أن من وقع إلى صقلية من المسلمين، ورغب أن يرد إلى بلاد الإِسلام، كان عليهم أن يردوه إليها، ثم إن صاحب صقلية قصد إلى الإيقاع بزعيم يقال له: (فيمه)، فتخلص هذا الزعيم وأتباعه من صقلية، وهبطوا القيروان يستنجدون بصاحب الدولة زيادة الله بن الأغلب، ¬

_ (¬1) ضبطها صاحب "القاموس" بكسر الصاد والقاف، وضبطها ابن خلكان بفتحهما، وكذلك يقول ابن هشام اللخمي في "لحن العامة": ويقولون: سقلية -بسين مكسورة- والصواب: صقلية- بصاد وقاف مفتوحتين.

ورفعوا إليه أن في أيدي الروم أسارى من المسلمين، لم يمكنوهم من العود إلى أوطانهم، فجمع زيادة الله وجوه الناس، وأحضر أسد بن الفرات، وأبا محرز، وسألهما الرأي فيما يصنع، فأما أبو محرز، فقال: نتأنى في هذا الأمر حتى نكون فيه على بينة، وأما أسد بن الفرات، فقال: نتبين الأمر من رسلهم، فإن شهدوا بأن هناك أسرى، أصبح عقد الهدنة بيننا وبينهم منقوضاً، فقال له ابن محرز: كيف نعتمد على قول الرسل في مثل هذا؟ فقال أسد: بالرسل هادناهم، وبالرسل نجعلهم ناقضين، فارتاح زيادة الله لقول أسد، وسأل الرسل، وكان بين الرسل رجل مسلم، فشهدوا بأن لدى الروم مسلمين محبوسين عن العود إلى أوطانهم. أمر زيادة الله يومئذ بالخروج إلى صقلية، فعرض أسد نفسه ليخرج في الجيوش المحاربة، فتباطأ زيادة الله عن إجابته، وامتعض أسد من تباطئه حتى قال: قد أصابوا من يجري لهم مراكبهم من النوتية، وما أحوجهم إلى من يجريها لهم بالكتاب والسنة، ولما وثق زيادة الله من صدق عزيمته، أذن له بالخروج على أن يكون أمير الجيش في هذه الغزوة، فكره أسد الإمارة؛ ظناً منه أنه سيتقلدها بدل القضاء، وقال لزيادة الله عندما عزم عليه في ولايتها: أصلح الله الأمير، من بعد القضاء والنظر في حلال الله وحرامه، يعزلني ويوليني الإمارة! فقال له زيادة الله: إني لم أعزلك عن القضاء، بل وليتك الإمارة، وأبقيت لك اسم القضاء، فأنت قاض أمير، فرضي أسد عند ذلك بالإمارة. ويقول المؤرخون: لم تجتمع الإمارة والقضاء لأحد ببلد أفريقية إلا لأسد وحده. وأما في غير أفريقية، فقد اجتمع القضاء وإمارة الجيوش لبعض علماء بغداد والأندلس. قال ابن خلدون: "وربما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد

في عساكر الصوائف، وكان يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالصائفة إلى أرض الروم، وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية بالأندلس". أذن زيادة الله بأن تهيأ السفن وتساق إلى مرسى مدينة "سوسة"، وكانت نحواً من مئة سفينة، وجهز جنداً يقدرون بعشرة آلاف رجل، وتسع مئة فارس. خرج أسد في ربيع سنة 212 متوجهاً إلى مدينة "سوسة" ليقلع منها إلى صقلية، وكان يوم خروجه من القيروان يوماً مشهوداً، خرج وجوه أهل العلم لتشييعه، وأمر زيادة الله أن لا يبقى أحد من رجال الدولة إلا شيعه، فركب أسد، وسار في محفل عظيم من الناس، ولما رأى حملة الأقلام والسيوف يحتفون به من كل جانب، لم يشأ أن تمر هذه الفرصة دون أن ينوه فيها بفضل العلم، وينبه على ما يلقاه العالمون من خير وعزة، فقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والله يا معشر الناس! ما ولِّي لي أب ولا جد ولاية قط، وما رأى أحد من سلفي مثل هذا قط، وما رأيت ما ترون إلا بالأقلام، فأجهدوا أنفسكم، وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، وكابدوا عليه، واصبروا على شدته؛ فإنكم تنالون به الدنيا والآخرة". ركب أسد البحر يوم السبت منتصف ربيع الأول سنة 212، وألقى مراسي السفن على مدينة مأزر بلاد صقلية يوم الثلاثاء، وزحف إليه صاحب صقلية (بلاته) في جيوش عظيمة، والتقى الجمعان، فكانت العاقبة أن فشلت جيوش الروم، وارتدت على أعقابها خاسرة، وبث أسد السرايا في كل ناحية، واستولى على عدة حصون حتى ضرب الحصار على "سركوسة"، وفي أثناء

حصاره لهذه المدينة توفاه الله في ربيع الآخر، وقيل: في شعبان سنة 113 (¬1) بجراحات شديدة أصابته في إحدى الوقائع؛ إذ كان أسد يحمل اللواء بيده، ويدعو الناس إلى الإقدام، ثم يخوض بهم مواقع القتال. قال ابن أبي الفضل -وكان فيمن شهد يوم فتح صقلية-: "رأيت أسد ابن الفرات وفي يده اللواء، فحملوا عليه، وكانت فينا روعة، فقال للناس (مشيراً إلى جيش العدو): هؤلاء عجم الساحل (¬2)، هؤلاء عبيدكم، لا تهابوهم، وحمل اللواء، وحمل الناس معه، فانهزم (بلاته)، وأصحابه، فلما انصرف أسد، رأيت والله! الدمَ قد سال مع قناة اللواء على ذراعه حتى صار الدم تحت إبطه". وكان أسد يرجو من الله ما لا يرجوه الجبناء ضعفاء الإيمان، فكان على ثقة من أنه سيكسر جيش الروم، بلغ من الكثرة ما شاء أن يبلغ، ويدل على هذا أن الزعيم (فيمه) تأهب لأن يقاتل هو والذين معه بجانب جنود الإِسلام، فأبى أسد، وقال له: اعتزلنا، فلا حاجة لنا بأن تعينونا. وقال له ولأصحابه: اجعلوا على رؤوسكم سيما تعرفون بها؛ لئلا يتوهم واحد منا أنكم من هؤلاء الموافقين لنا، فيصيبكم بمكروه، فاتخذوا في ذلك اليوم سيماهم حشيشاً يضعونه على رؤوسهم. ومما يشهد على أن أسداً كان يحمل في صدره قلب البطل الذي لا يرى مرارة الموت إلا في الخوف منه: أن الجيش الإِسلامي بُلي بعد نزول ¬

_ (¬1) ودفن هنالك، وقال ابن خلدون: في قصر بأنه. وكتب زيادة الله بفتح صقلية على يد أسد إلى المأمون. (¬2) يريد: أنهم الذين فروا من ساحل أفريقية عند فتحها.

صقلية بمجاعة اضطرته إلى أكل لحوم الخيل، فمشى فريق منهم إلى زعيم يقال له: سحنون بن قادم؛ ليسعى لدى أسد في الرجوع بهم إلى أفريقية، فمضى إلى أسد، وخاطبه في هذا الشأن، فكان جواب أسد أن قال: ما كنت لأكسر غزوة على المسلمين، وفي المسلمين خير كثير، فاستجرأ عليه ابن قادم، وقال: على أقلِّ من هذا قُتل عثمان بن عفان، فتناوله أسد بالسوط، وخفقه به ثلاثاً أو أربعاً، ثم مضى على عزيمته، فقاتل حتى فتح أكثر البلاد، وأتم فتحها من بعده أفراد يعزمون فيفعلون. وأنا لا أشك في أن تعاليم الإِسلام متى تلقيت بحق، طبعت النفوس على الشجاعتين: الأدبية، والحربية، فلا عجيب أن يخرج من بين مجالس مالك بن أنس، ومحمد بن الحسن، وعبد الرحمن بن القاسم بطل تحمل يمناه السيف بعد أن كانت تحمل اليراعة، وتتخضب بحمرة الدم بعد أن كانت تتخضب بسواد المداد، فيعيش عالماً صالحاً، ويموت قائد جيش فاتحاً. ذلك هو أسد بن الفرات، رحمه الله، ورحم كل من جاهد في سبيل سعادة الأمة وإعلاء شأنها، ما استطاع إلى الجهاد سبيلاً.

نظرة في أدب الشيخ محمود قبادو التونسي

نظرة في أدب الشيخ محمود قبادو التونسي (¬1) أول أديب تونسي نحا في جانب من شعره نحو إصلاح الاجتماع والسياسة، ونبه على وسائل الرقي، وحذر من الإخلاد إلى الخمول، هو المرحوم الأستاذ محمود قبادو. تلقى الشيخ محمود قبادو مبادئ علم النحو في تونس، ثم سافر إلى طرابلس الغرب، وبقي بها سنين عرف فيها بجودة الشعر، ثم عاد إلى تونس، وجلس للتلقي عن بعض الشيوخ؛ مثل: الشيخ أبي العباس أحمد ابن الطاهر، وندب لتعليم ابن السيد سليمان كاهية أحد كبار رجال الدولة، ثم ارتحل إلى الآستانة، ونظم يوم خروجه من تونس قصيدة يقول في مطلعها: أسمعت بومَ البينِ خفق فؤادي ... أَمْ كنتَ مشغولاً بصوتِ الحادي ومكث في الآستانة سنين، ورجع إلى تونس في جمادي الثانية 1257، وقد أشار في بعض قصائده إلى تلك الرحلة، والعود إلى الوطن، فقال: رعى الله أياماً لنا وليالياً ... سعينا بها للمجد والدهر مُسعِدُ تطارحني الآمال وهي مطيةٌ ... وتغضي جفون النائبات وأسهدُ ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثامن من المجلد السابع الصادر في صفر 1354.

ليالي لم أذمم بها شقة النوى ... ولولا اغترابي كنت أُثني وأَحمدُ قضيت بأرض الروم منها مآرباً ... وعدت لأرض كان لي فيه مولدُ وما عن قِلى ولَّيت عنها ركائبي ... ولكنها الأوطانُ للحرِّ أَعْوَدُ طويت لها البيداء بين مَهامهٍ ... ويممت لجّ البحر والبحر مُزبدُ وتقلد بعد عودته إلى تونس التدريس بالمدرسة الحربية، وكان له يد في تربية تلاميذها على الآداب الإِسلامية، وقيامهم على اللغة العربية. وعنيت الحكومة لذلك الحين بتعريب كتاب فرنسي في أصول الحرب، وقام الأستاذ قبادو بتهذيب ذلك التعريب، وصدَّره بمقدمة جيدة إنشاء ومعنى. ثم تولَّى التدريس بجامع الزيتونة، وصار بعد ذلك قاضياً بباردو (قاضي العسكر)، ثم تولى سنة 1285 خطة الفتوى، وصار عضواً بالمحكمة الشرعية. وما زال يقوم بالتدريس في جامع الزيتونة، ويقضي حق الإفتاء بالمحكمة إلى أن أدركه المنون؛ فتوفي -رحمه الله- في 3 رجب سنة 1288. وكان الأستاذ سليمَ الصدر، لا يحمل لأحد حقداً، وإذا اغبر صدره من أحد تعرض له بمكروه، فأول معذرة أو كلمة يحاول بها استرضاءه، تذهب بكل ما في نفسه، وقد تحدَّث في شعره عن حاله مع بعض حساده، ودلَّ على أنه كان يقابل سعاياتهم بالإعراض عنها، والاعتماد في دفع شرها على من يده فوق كل يد. ومما جاء في هذا المعنى قوله: كم أوغروا من صدور باختلاقهم ... وغيَّروا من حميم زال إذ زعموا

وأشردوا عن علومي جد مقتبسٍ ... فلم يكادوا وردَّ الله كيدَهم وكم عفوتُ، وكم حاولت سلمهم ... وما لحرب حسود يرتجى سَلَمُ ولو جزيتُهم عن سيئاتهم ... بمثلها لم أكن بالظلم أَتَّسِمُ لكنني صنتُ نفسي عن مواردهم ... وقلت حسبي فيهم من هو الحكمُ وإذا كان شِعْرُ الرجل يدل على جانب من أخلاقه وآدابه، لم تلبث أن تشهد للشيخ قبادو عندما تلقي نظرة على ديوانه، بأنه كان ممن يحافظ على حقوق الصداقة، ويغتفر للإخوان عثراتهم، علماً منه بأن الصديق المهذب الذي لا يغفل عن حق الصداقة، أو لا تأخذه جفوة في بعض الأحيان، بعيدُ المنال. ومما قال في بعض قصائده: أأنكث حبل الود بعد توافق ... ولي حيلة في حمل بادرة الصحب وقال: إذا ظفرتْ كفّاك يوماً بصاحب ... فأودعْه في جفن الرعاية والهُدب وخذ منه عفو القول والفعل واطَّرحْ ... مِراء ولوماً حين ينبو وإذ يُنبي وحرره عن رِقِّ التكاليف تلقَهُ ... أخاً مسترَقاً ذا انتداب إلى الحُبِّ ثم قال: فلا راحة إن قوبل الذنب بالجفا ... ولا سؤددٌ إن جوزي الذنبُ بالذنبِ * حكمه ومواعظه: للأستاذ قبادو حكم سامية ترد في أثناء قصائده؛ كقوله: وما خسر الإنسان وجه سعادة ... إذا من فنون العلم وفّر سهمه

وقوله فيها: لعمري ليس الميت من أودع الثرى ... ولكن مطيق للغنى بان عدمه وكقوله من قصيدة أخرى: وفي الناس من عد الهوان تواضعاً ... وعدّ اعتزاز النفس من جهله كبرا وقوله من قصيدة أخرى: هل العز إلا في اطراح المراتب ... وصون المحيا عن سواد المطالب ومن كدَّرت أطماعُه نهرَ فكره ... طفا فيه من أقذائه كل راسب وقوله من قصيدة أخرى: لم تطبع الدنيا على شكل الوفا ... فعلام في قلب الحقائق يطمع عش ما تشاء بها فإنك ميت ... واحبب بها من شئت فهو مودِّع فسل الثرى كم من نواصي عفرت ... فيه وكان المسك منها يسطع وبدورِ تَمٍّ قد هوت لرغامِه ... كانت منازلها الصياصي المُنَّعُ وقوله في أخرى: لا أرى الموت غير موت نفوسٍ ... وئدت في مقابر الأبدان * شعره الاجتماعي والسياسي: يصح للمؤرخ أن يقول: إن أول شعر ظهر في تونس يدعو إلى مجاراة الغربيين في العلوم والفنون والصنائع، وأول شعر كان مظهر الأسف على ما وقع فيه المسلمون من إهمال الاستعداد لخصومهم، وأول شعر يرمي إلى أغراض سياسية عالية، هو شعر الأستاذ محمود قبادو، فانظر إلى قوله في بعض قصائده:

وكل فنون العلم للملك نافع ... ولا سيما ما ساير الملك حكمه أرى الملك مثل الفلك تحت رئيسه ... عويزاً إلى الأعوان فيما يؤمه فذلك نوتي يعين بفعله ... وآخر خِرِّيت قُصاراه علمه ومقصده جريُ السفين وحفظها ... ليسلم كل أو ليعظم غُنمه أيركب هول البحر دون مقاوم ... وفي طيه حرب كما يؤذن اسمه لذاك ترى ملك الفرنج مؤثلاً ... بعلم على الأيام يمتدُّ يَمُّهُ ومملكة الإِسلام يقلص ظلُّها ... وينقص من أطرافها ما تضمُّه على أنها أجدى وأبسط رقعة ... وأوسط إقليماً من الطبع عظمُه إلى أن يقول: فمن لم يجس خبراً أوربا وملكها ... ولم يتغلغل في المصانع فهمه فذلك في كن البلاهة داجنٌ ... وفي مضجع العادات يلهيه حُلْمه ومن لزم الأوطان أصبح كالكلا ... بمنبته منماه ثُمَّةَ حَطْمُه هم غرسوا دون التمدن فرعه الـ ... ـرياضي والعلم الطبيعي جذمُه أيجمل يا أهل الحفيظة أنهم ... يبزُّوننا علماً لنا كان فخمه وربما رمى في مديحه إلى غرض سياسي؛ كقوله في وصف بعض الوزراء: تراه فلا تدري لإفراط بِشْرهِ ... تودّدَ أم دارى لأمر يهمّه وكانت الحكومة التونسية اتخذت قانوناً أقامته على أصول الشرع، وأسمته: عهد الأمان، فنظم شاعرنا قصيدة في ذلك، ومدح المشير الصادق

باشا على إقامة المجالس لإجرائه، ومما قال فيها يتحدث عن الدولة: لما رأت مصباح شرع محمد ... بتلاعب الأهواء ذا خفقان جعلت له القانون شبه زجاجة ... لتقيه هب عواطف الطغيان وقال يذكر ما سيكون لعهد الأمان من الأثر في العمران: وكأننا بمنازه الخضراء قد ... أنست مَغاني الشِّعب من بَوَّانِ (¬1) وكأننا بقصورها قد شيدت ... وقصيرها كخورنَق النعمانِ وكأنها بحضارة ونضارة ... ورُفُوه سكانٍ رياضُ جِنان معمورة بجوامع وصنائع ... ومزارع وبضائع ألوان وإذا لم يطلق الأستاذ العنان في هذه الأغراض الاجتماعية والسياسية كما يطلقه فيها كثير من شعرائنا اليوم، فلأنه عاش في عهد ما زالت أمته تتمتع فيه بنعمة استقلالها، ولو نشأ في عهد رأى فيه بعينه كيف وقع زمامُ أمته في يد غير وطنية، لكان لشعره في شؤون الاجتماع والسياسة أفسح مجال. * براعته في التشطير: عُني صاحب الترجمة بتشطير أبيات أو قصائد مشهورة، فيحسن وصل صدر الأصل بعجز، أو عجزه بصدر من عنده، حتى يخيل إليك أنهما انحدرا من قريحة واحدة، تدرك هذا في تشطيره لقصيدة بِشْر المعروفة: "أفاطم لو شهدتِ ببطن خبت" انظر إلى تشطيره البيت الرابع منها، وهو مع التشطير: (أنلْ قدميَّ ظهر الأرض إنِّي) ... أرى قدميَّ للإقدام أحرى ¬

_ (¬1) موضع عند شيراز كثير الشجر والماء، وهو من أحسن منتزهات الدنيا.

ولست مزحزحي شيئاً ولكن ... (رأيت الأرض أثبت منك ظهرا) ثم إلى تشطير البيتين السابع والثامن، وهما مع التشطير: (نصحتك فالتمس يا ليث غيري) ... فلي بقيا عليك وأنت أدرى ومهري قائل لك لا تخلني ... (طعاماً إن لحمي كان مرّا) (ألم يبلغك ما فعلته كفي) ... ألست ترى بها الأظفار حمرا ألم تلك طاعماً أشلاء فتكي ... (بكاظمة غداة قتلتُ عَمرا) ثم انظر إلى تشطير البيت الخامس عشر، وهو مع التشطير: (وقلت له يعز عليَّ أني) ... أراك معفراً شطراً فشطرا وأستحي المروءة أن تراني ... (قتلت مناسبي جلداً وقهرا) * استعماله الألفاظ الغريبة: يعذب الشعر، ويقع موقع القبول متى كانت كلماته مأنوسة الاستعمال، فالشاعر الذي يستطيع التأثير على النفوس، فيجعلها راغبة في الشيء، أو نافرة منه، ولا سيما شعراً يخاطب فيه الجمهور، هو الذي يتخير الألفاظ الدائرة في كلام البلغاء، فتقع معانيه في الأذهان عندما تطرق ألفاظه الآذان، وعلى هذا المنوال ينسج شاعرنا في كثير من شعره، ولا يبالي في جانب منه أن يستعمل الألفاظ الغريبة، وربما نظم البيت الواحد في سهولة وحسن تأليف، ويضع فيه كلمة غريبة يحتاج أكثر الأدباء في فهمها إلى مراجعة المعجمات؛ كقوله من قصيدة يرثي بها شيخ الإِسلام الشيخ محمد بن الخوجة: والناس بالآجال سفر رواحل ... والدهر عاد لا يريح وَسُوجه (¬1) ¬

_ (¬1) يقال: جمل وسوج؛ أي: سريع.

وقوله: واحذر مفاجأة المنايا للمنى ... واقنع برشف علالة مذلوجه (¬1) وقوله: أنفاسنا ونفوسنا ما بين مَقْـ ... ـصور الهوى ومديده منعوجه (¬2) ولعل عذره في استعمال هذه الألفاظ الغريبة أن الشعر لذلك العهد إنما يدور في مجالس أهل العلم، ولو أدرك العصر الذي كثرت فيه الصحف، وأصبح الشعر فيه معدوداً من الطرق المسلوكة لتنوير أفكار الجمهور، وتهذيب أخلاقهم، لتحامى أمثال هذه الألفاظ التي يحتاج في فهم معانيها إلى معجم، أو راسخ في علم اللغة. وظهر في ذلك العهد رجال من علماء جامع الزيتونة لهم أقدام راسخة في علوم اللغة، واطلاع واسع على ما تحتويه معاجمها المبسوطة؛ مثل: المرحوم الشيخ أحمد الورتاني، والمرحوم أستاذنا الشيخ سالم أبي حاجب، وأستاذنا أبو حاجب هذا قد نظم أبياتاً في رثاء شاعرنا المتحدث عنه، وتاريخ وفاته، وأذكر منها قوله: والدهر مهما ينتبذ درَّة ... من جيده لم يرج إخلافُها فكم لآلي حكمة بالثرى ... تقذف والأجداث أصدافُها فانظر لهذا الرَّمس كم ضم من ... معارف لم تحص أصنافُها وقال: ¬

_ (¬1) ذلج الماء: جرعه، فهو مذلوج. (¬2) العنج: أن يجذب الراكب خطام البعير، فيرده على رجليه.

أما رحى الآداب فهو الذي ... بفقده قد حان إيقافُها أسدى له الرحمن أضعاف ما ... ترجو من أهل الجود أضيافُها ولا عدت سحب الرضى تربة ... آواه في التاريخ أشرافُها

نظرة في حياة وزير تونسي

نظرة في حياة وزير تونسي (¬1) من كبار الرجال الذين تولوا الوزارة في تونس، فجمعوا بين العلم وجودة النظر في السياسة الأستاذ الجليل المرحوم الشيخ محمد العزيز بوعَتُّور، وقد رأينا أن نحدِّث قراء هذه المجلة عن شيء من سيرته العلمية الأدبية الاجتماعية، ففيها موضع قدوة. * نسبه ونشأته: هو الشيخ محمد العزيز بن محمد الحبيب بن محمد الطيب ابن الوزير محمد بن محمد بوعتّور، ويتصل نسبه بالشيخ عبد الكافي القرشي دفين "صفاقس"، والشيخ عبد الكافي هذا قد جاء في التاريخ أنه من ذرية الخليفة الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. ولد صاحب الترجمة في مستهل رجب سنة 1240 في تونس، ونشأ تحت رعاية أبيه الشيخ محمد الحبيب، فلقنه القرآن حتى حفظه على ظهر القلب، والتحق بطلاب العلم في جامع الزيتونة سنة 1254، فتلقى العلوم الدينية والعربية وغيرها عن كبار الأساتذة؛ مثل: الشيخ إبراهيم الرياحي، والشيخ محمد بن الخوجه، والشيخ محمد النيفر، والشيخ محمد سلامة، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن السادس والسابع من المجلد السابع الصادران في ذي الحجة 1353، والمحرم 1354.

والشيخ الطاهر بن عاشور. برع صاحب الترجمة في العلم والأدب والذكاء، حتى بلغ صيته مجلس أحمد باشا أمير تونس لذلك العهد، فاستدعاه، وولاه خطبة الكتابة بديوان الإنشاء سنة 1262. قال صاحب الترجمة عند حكايته طلب الأمير له، وتردده في قبول الولاية: "ويشهد الله أني ما فكرت قط في وظيفة مدة قراءتي للعلم، وما قرأت إلا طلباً للكمال العقلي، ولقد فاجأتني الأقدار بما آل إليه أمري، والإنسان مسير لا مخير". ثم اختاره أحمد باشا لتلاوة الأوراق والحجج التي تعرض عليه؛ لما رأى فيه من فصاحة اللسان، وحسن الإيجاز، وكان يصاحب ولي العهد محمد باي عند تجوله في البلاد، ولما توفي الأمير أحمد باي، كانت مكانة صاحب الترجمة عند الأمير الجديد محمد باي راسخة، حتى إن هذا الأمير كان يحليه في بعض أوامره بقوله: "محبّنا". ولما انتقلت الإمارة إلى الأمير محمد الصادق باي، كان صاحب الترجمة من أكبر الرجال العاملين في دولته، فأسند إليه رياسة كتبة وزارة المال، ثم كتابة سر الملك، ثم رقاه لرتبة أمير اللواء في شوال سنة 1277، ثم عينه عضواً بالمجلس الأكبر، ومستشاراً للملكة، وكتب إذ ذاك على قانون عهد الأمان تعليقاً نحا فيه نحو المجتهدين في الفقه، العارفين بسياسة العمران، ثم سماه الأمير مستشاراً بمجلس شورى الملك سنة 1277، ومستشاراً لوزارة المال في سنة 1279، وترقى في سنة 1270 لرتبة أمير الأمر، وتولى بعد رياسة الكتاب، ووزارة القلم، فكان أول من جمع يين المنصبين بالدولة التونسية.

وفي سنة 1283 أسند إليه خطبة وزير المالية، وفي سنة 1290 وجد منه الوزير خير الدين العضد الأقوى، فشاركه في تنظيم التدريس بجامع الزيتونة، وترتيب المدرسة الصادقية، وإدارة الأوقاف والسجون، والمستشفى الصادقي، والمحاكم الشرعية، وبيت المال، إلى غير ذلك من شؤون الدولة. وما زال صاحب الترجمة ناهضاً بأعباء منصبيه: وزارة القلم، ورياسة الكتابة حتى وضعت الحكومة الفرنسية يدها على البلاد. وفي سنة 1299 قلده الأمير محمد الصادق باي الوزارة الكبرى، ولندع سيرته السياسية إلى مقام آخر، والذي يعنينا التعرض له في هذه المجلة إنما هي سيرته العلمية والأدبية. * مكانته العلمية: كان صاحب الترجمة من العلماء أولي الآراء المستقلة، وكان مولعاً بمطالعة الأمهات من كتب العلوم الدينية والعربية وغيرها، وإذا حضر مجلسه أكابر العلماء، جلسوا وهم يشعرون بأنهم في مجلس عالم ذي نظر مستقل، واطلاع واسع، ومما كتبه أستاذنا العلامة المرحوم الشيخ مصطفى رضوان في بعض ما كتب: "ونحن الآن في دولة وزير (يعني: صاحب الترجمة) عالم، قد رمى به الجامع (جامع الزيتونة) من أفلاذ كبده. . . إلخ". ومن المعروف أن المحكمة الشرعية العليا إذا اختلف أعضاؤها في فهم بعض النصوص، أو تطبيق بعض القواعد، رفعوا إليه ما يجري بينهم من الخلاف، فتكون كلمته القول الفصل، كثيراً ما يرجح رأى واحد من أولئك الأعضاء، وإن خالفته الأكثرية. ولمكانته في علوم الشريعة ووسائلها، عظمت غيرته على المحاكم

الشرعية، وجامع الزيتونة، فكان يدافع عنهما بكل ما يستطيع من قوة. ولهذا الوزير، وطولِ مدة ولايته رياسة الكتابة والوزارة فضل كبير في رقي الإنشاء العربي بدواوين الحكومة التونسية. * استقامته وآدابه: كان صاحب الترجمة يحافظ على أداء صلاة الصبح في وقتها، ويتلو كتاب "الشفاء"، ويقرأ "صحيح الإمام البخاري" في رمضان حتى يختمه، وكان معروفاً بالصبر، ومتانة الخلق، والتؤدة، ولا يعرف عنه أنه باشر أحداً بكلمة جافية، بل كان يسلك في تأديب العاملين في منزله -من نحو الخادم وسائق العربة- الرفق، والعبارات الخالية من كل إهانة، وكان يلبس بعد عودته من ديوان الوزارة الملابس العربية؛ من نحو العمامة والجبة. * وفاته: أصيب -رحمه الله- بنزلة صدربة، وتوفي يوم الخميس غرة محرم سنة 1325 - 4 فبراير سنة 1907 - بسرايته بالمرسى، وصلَّي عليه بإمامة شيخ الإسلام الخنفي الشيخ محمود بن الخوجة، ودفن بالتربة الخاصة بالأسرة الملكية الحسينية، وإليك العبارات المنقوشة على حجر قائم على قبره: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم صل وسلم على النبي الكريم" إنا لله وإنا إليه راجعون هذا ضريح الوزير الأكبر، العلامة الشهير، أستاذ العلم والتحرير، صاحب الرأي المتين، مازج الحياة بالوقار؛ والعزيمة باللين، الشيخ محمد العزيز بوعتور العثماني القرشي، المولود في رجب سنة 1240، المتوفى في 1 محرم سنة 1325 بعد أن درس وحرر، فأظهر فكرُه وقلمه آيات من

المفاخر بينات. ونيطت بأمانته استشارة وزارات. كانت خاتمتها: الوزارة الكبرى، التي نالت به خمساً وعشرين سنة مجداً وفخراً، وكان في جميعها مثال النصح والشرف والاستقامة، ونهى نفسه منذ النشأة عن الهوى، فأطاع ربه وخاف مقامه، حتى انتقل إلى ما عند الله، ومحاسنه ما بين أمثال سائرة، فآتاه الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة". * صلتي بصاحب الترجمة: كنت أيام الشباب أحاول نظم الشعر في بعض الأوقات، فدعاني ما عرفته عن هذا الوزير من الرسوخ في العلم والأدب أن أهنئه في يوم عيد بشيء من الشعر، فدخلت في طائفة من أهل العلم لتهنئته، وتلوت عليه أبياتاً وأنا جالس أمامه، فأصغى إليها بإقبال، وتناولها مني ببشر ودعاء، وكان في الحضرة سبطه العلامة الأستاذ السيد محمد الطاهر بن عاشور شيخ الإسلام المالكي بتونس لهذا العهد، فودعت الوزير وخرجت، وصحبني الأستاذ ابن عاشور، وكان ذلك اليوم فاتحة عهد اتصالي بالوزير، وعهد صداقة استوثقت بيني وبين حفيده الأستاذ ابن عاشور، وبلغت هذه الصداقة في صفائها وثباتها أقصى غاية. وأصبح صاحب الترجمة منذ ذلك العهد ينظر إليَّ بعين الأب العطوف، وفي عهده أصدرت مجلة علمية أدبية تدعى: "السعادة العظمى"، ورأيت من تشجيعه ما أطلق القلم، وجعلني لا أبالي بصخب من يثورون في وجه كل ما يخالف العادات والآراء المألوفة، وفي عهده توليت قضاء بلدة "بنزرت" وملحقاتها، ووجود هذا الوزير العلَّامة على رأس الوزارة ساعدني على أن أقتدي بما أقرؤه في سيرة القضاة الذين لا يخافون في الحق لومة لائم.

الشيخ محمد ماضور من علماء تونس وأدبائها

الشيخ محمد ماضور من علماء تونس وأدبائها (¬1) * نسبه ومولده ونشأته: أصله من الجالية الأندلسية التي فرت بدينها من عدوان الإسبان سنة 1009، وكان سلفه بالجزيرة من حماة الثغور ينتسبون إلى أبي القاسم أحمد ابن يحيى محمد بن عيسى بن منظور القيسي عالم "إشبيلية" وقاضيها المتوفى سنة 520، وبعد جلائهم نزلوا بقرية "الجديدة" قرية خربة الآن على بعد بضعة أميال من "قرنبالية" تبعد عن مدينة تونس بنحو خمسين ميلاً، ولا تزال قبورهم معروفة هناك بضريح صالح يدعى: "سيدي سليمان"، والمهاجر الأول منهم يدعى: الحاج محمد، وتسلسل من نسله ستة من المحمديين خامسهم صاحب الترجمة. ولد صاحب الترجمة ببلدة "سليمان" التي هاجر إليها قومه بعد خلاء قريتهم، واستوطنوها، وهي بلدة أنيسة، جميلة الموقع، حسنة المناخ، تبعد من مدينة تونس بنحو 30 كم، وكانت ولادته عام 1150 أيام ولاية والده قضاء تلك البلدة وما يليها من شنة جزيرة شريك. وكان أبوه من جلة العلماء المشاركين في حركة التجديد العلمي بتونس ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع من المجلد الثاني الصادر في ذي الحجة 1348.

بعد دروس معالمه أثناء فتنة الاحتلال الإسباني وما تلاه من الحوادث. وقد رحل إلى الشرق، ولقي أعلامه؛ كالسيد البليدي، والصعيدي العدوي، والحفني، والطحلاوي، والدري، وغير هؤلاء ممن كتب له بخطه تقريظ بعض مؤلفاته التي حملها لهم في رحلته إلى حج البيت الحرام عام 1164، وعاد إلى بلده، وتقلد الإمامة والتدريس إلى أن توفي سنة 1199. نشأ صاحب الترجمة تحت رعاية هذا العالم المحنك، واختص به، وقرأ عليه العلوم الشرعية والعربية والعقلية، وقد رأينا بديوانه قصيدتين بليغتين في تهنئة والده بختم تفسير "الكشاف". ثم انتقل إلى الحاضرة حيث تلقى العلم عن أعيان علماء ذلك العصر، فأخذ القراءات عن الشيخ أبي يونس حمودة إدريس، والعربية عن الشيخ حمودة بن حسين باكير، والبلاغة عن قاضي باردو الشيخ منصور المنزلي، وأخذ عن شيخي الإسلام: حسين البارودي، ومحمد بيرم الأول، وعن أبي الفضل قاسم القلشاني، والشيخ أبي عبد الله محمد الشحمي. * حياته ووظائفه: ولما امتلأ وِطابُه علماً، واشتد نظره فهماً، أقبل على التدريس بالجامع الأعظم إلى أن توفي والده، وأجمع أهل بلده على طلبه لأن يقوم مقامه في القضاء والإمامة والتدريس ببلد سليمان، فتقدم لذلك مكرهاً كما يظهر من نفثات شكواه التي أودعها ديوانه الحافل. * أخلاقه: كان سمح السجية، وفياً، ذا ذوق سليم، وطبع رقيق، قال ابن أبي ضياف يصفه: "وكان عالما فقيهاً أديباً، ذا فهم سديد، وفكر ثاقب، خيراً،

عفيفاً، نقياً، عالي الهمة، ولشعره ديوان معروف". * علمه وأدبه: كان على طول باعه في علوم اللغة والشريعة يتعاطى ما بلغه العلم إذ ذاك من المعارف الطبية، وخواص المفردات الطبيعية، وله تعليقات على "ألفية ابن سينا"، وله إلمام بأحكام النجوم، ويستعمل لذلك الإسطرلاب والأرباع التي اخترعها العرب. وله يد في الحساب والهندسة، وأما أدبه، فله شعر سهل المأخذ، رقيق المعاني، ينم عن شاعرية مطبوعة، وذوق لطيف. * آثاره وخاتمته: له من المؤلفات -عدا ديوانه العامر، والتعاليق الكثيرة على كتبه في فنون شتى- مقالة نفيسة في مراتب العلوم، ومختصر في رسم القراءات، وآخر في مخارج الحروف، والدر المكفوف في رواية قالون، والتطبيق في التوثيق، ومختارات أدبية. قال ابن أبي الضياف في تاريخه: ولم يزل معظماً مكرماً، نبيه الشأن إلى أن لبى داعي الرحمن في ذي الحجة سنة 1226 - رحمه الله، وتقبله بالعفو-. * نموذج من أدبه المنظوم: قال -رحمه الله- يشكو دهره وحساده في قصيدة مطولة: وما غريب الدار في غربة ... وإنما الغربة فقدُ المثال والعلم نعمَ الخدنُ لكنه ... مثير حساد وقيل وقال

ما أهنأ العيش مع الجهل لو ... ينفع في الحشر وعند السؤال وقال في أخت له، وقد أراد أبوها أن يزوجها من غير كفؤ: قولوا لمن نشأت بعز دلالها ... مع أهلها مأنوسة مودوده في دار مكرمة جرت أمياهها ... مسكوبة وظلالها ممدوده هذا أبوك يريد دفنك حية ... فابكي لنفسك: إنك الموءوده ومن رقيق شعره في النسيب: أفي حكم هذا الدهر أن يؤسر الحشا ... بأرض وفي أخرى أبيت وأُصبحُ إذا الجانب الغربي لاحت بروقُه ... أهش كأني بالمدامة أطفح وأقطع بالتسهاد ليلي صبابةً ... وزندُ الأسى في باطن الأرض يقدحُ فيا عجباً رامٍ بتونس سهمه ... براشٍ، وقلبي في "سليمان" (¬1) يُجرح ¬

_ (¬1) بلد صاحب الترجمة.

الشيخ محمد النجار من أفاضل علماء تونس

الشيخ محمد النجار من أفاضل علماء تونس (¬1) * ترجمته: هو العلامة أبو عبد الله محمد بن عثمان بن محمد النجار، ويتصل نسبه بالشيخ عبد السلام بن مشيش، فهو شريف حسني، وأمه شقيقة العلامة المفتي الشيخ محمود قبادو النابغة الأفريقي. ولد صاحب الترجمة في 15 شعبان عام 1255، ودخل جامع الزيتونة سنة 1270، وتلقى العلم عن والده الذي كان له مزيد اختصاص بالرضيات؛ كالهندسة والهيئة والميقات. ثم عن خاله الشيخ قبادو، وعن أعيان علماء عصره؛ مثل: شيخي الإسلام: محمد معاوية، وأحمد بن الخوجة، وكبير الشورى المالكية الشيخ محمد الشاذلي بن صالح، والمشايخ المفتين: الأستاذ محمد النيفر الأكبر، والأستاذ محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ البنا، والشيخ علي العفيف، والشيخ محمد الشاهد، والشيخ سالم أبو حاجب، والشيخ عمر بن الشيخ. ابتدأ التدريس بجامع الزيتونة عام 1272، وانتخب مدرساً من الرتبة الثانية عام 1284، ثم ارتقى إلى الرتبة الأولى عام 1287، وفي 12 صفر ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثالث الصادر في جمادى الثانية 1349.

عام 1312 تولى منصب الإفتاء، وكان يجمع بين الفتوى والتدريس بجامع الزيتونة، حتى توفي منتصف ليلة السادس عشر من رمضان سنة 1331 - أفاض الله على قبره رحمة ونوراً-. كان الأستاذ -رحمه الله- غزير العلم، كريم الأخلاق، يحب البحث، ويتلقى مناقشة الطلاب بصدر رحب، كنت ممن حضر درسه لكتاب "المواقف"، ودرسه لتفسير القاضي البيضاوي، ودرسه لشرح عبد الباقي الزرقاني على المختصر الخليلي، ولشدة استقصاء الأستاذ لما يقرره الكاتبون، وعنايته بنقد ما يوردونه من الآراء، مكثنا بضع سنين في أبواب من هذه الكتب معدودة، وكنت أستفيد من مجالسه ما لا يقل عما أستفيده من دروسه، إذ كان -رحمه الله- ذا ذاكرة لا تخونه فيما يستودعها إياه من علم، ولم نر له في سعة الاطلاع والمحاضرة بالعلوم على اختلاف فنونها من نظير. وكان على طريقة علمائنا الراسخين في التواضع والحلم والتقوى، والعطف على طلاب العلم، فما رأينا منه في يوبم الكراهةَ لبحث باحث، أو الإعراضَ عن سائل، فضلاً عن أن يسمع منه الطالب كلمة جافية. * مؤلفاته: من آثار الأستاذ: مجموعة أختام (إملاءات) على أمهات أحاديث "صحيح الإمام البخاري" كان أملاها بجامع سيدي أحمد بن عروس منذ عام 1282، وبجامع الحرمل منذ عام 1311، ومنها "مجموع الفتاوي" في ثمانية مجلدات، وله كتاب "بغية المشتاق في مسائل الاستحقاق"، وهو مجلد ضخم، جمع فيه ما تفرق من مباحث هذا الكتاب، وحرر فيه أحكام النوازل التي تعرض بالقطر التونسي كثيراً، وله محررات فقهية كتبها بمناسبة

ما يعرض من النوازل الهامة بالمحكمة الشرعية. وألف كتاباً بعد هذا رسائل في مواضيع عامة أيد فيها مذهب أهل الحق، وزاد حججهم بياناً، وله تأليف ممتع في رؤية الهلال، حرر في أثناء بحثه مسائل فقهية وأصولية وفلكية، وله إملاء حافل على حديث: "لا عدوى" ألفه بمناسبة تفشي مرض الوباء بالقطر التونسي عام 1329، فكان خاتمة مؤلفاته -جازاه الله عن الإسلام خيراً-، وقد رثاه كثير من أهل العلم والأدب بقصائد بليغة، منها: قصيدة الشاعر المجيد الأستاذ المرحوم الشيخ محمد الصادق بن ضيف، وأذكر منها قوله: كان المدافع عن شريعة جده ... ومجاهراً بالحق ليس يداري ومنها: قصيدة الأديب الكبير الأستاذ الشيخ السيد العربي الكبادي، ومما يقول فيها: سيبكيك تفسير الكتاب وسنَّة ... مصححة كم شدت في شرحها قصرا ستبكيك يارب العلوم "مواقف" ... أمطت بتحقيق على وجهها السترا سيبكيكم الإفتاء يا خير أهله ... فما أحد فيه روى عنكم وزرا

أحمد أبو خريص

أحمد أبو خريص (¬1) هو أبو العباس أحمد بن علي أبو خريص، ولد في "وسلات" سنة 1156 هـ. وقدم مدينة تونس صحبة والده سنة 1175، وأقبل على تلقي العلم في جامعة الزيتونة، فقرأ على الشيخ محمد الشحمي، والشيخ صالح الكواش، والشيخ محمد الغرياني، وغيرهم من علماء ذلك العصر، وبعد أن تضلع بالعلوم الدينية والعربية، تصدى للتدريس، فأقرأ كتباً كثيرة في جامع الزيتونة، وبمسجد المحرزية. وولي الإمامة والخطابة بجامع الحلق، وألقى على منبره الخطيب البليغة من إنشائه، ثم قلده الأمير محمود باشا خطبة القضاء في رييع الثاني سنة 1230، فجرى على طريق العدل، وكان لا يسمح لأحد الخصوم أن يقابله في داره، ولكنه لبث في هذا المنصب أربعة أشهر فأخذ الله نور عينه إلى بصيرته، واستعفي من القضاء، وعاد إلى التدريس حتى وافاه الأجل المحتوم في ربيع الأول سنة 1240، ورثاه الشيخ إبراهيم الرياحي بقصيدة يقول فيها: كم رحيق معطر مختوم ... في كؤوس المنطوق والمفهوم ¬

_ (¬1) مجل "الهداية الإسلامية" - الجزء العاشر من المجلد الأول الصادر في ربيع الأول 1348.

قد سقاها أبو خريص ندامى ... أطربتهم بسرها المكتوم في دروس أنوارها ساطعات ... في سماء النهى بحسن فهوم وكان صاحب الترجمة طيب السريرة، حسن اللقاء، أميناً فيما ينقل.

الشيخ محمد بيرم الثاني نسبه وولادته ونشأته

الشيخ محمد بيرم الثاني نسبه وولادته ونشأته (¬1) * نسبه وولادته ونشأته: بيت بيرام المشتهر الآن ببيرم من أشهر الأسر العلمية الحنفية بالديار التونسية، تداولت أفرادها مشيخة الإسلام بينهم نحو قرن ونصف، ولا زالت مقاليدها بيد أعقابهم إلى الآن. وقد تأصلت أرومتها من جندي تركي قدم متطوعاً مع سنان باشا وزير السلطان سليم الثاني الذي فتح تونس من يد الإسبان سنة 981. والمحمدون من هذا البيت بلغوا لحد التاريخ سبعة، ولي مشيخة الإسلام منهم خمسة، والأربعة الأول تتركب منهم حلقات السلسلة الأصلية الماجدة. فأولهم: شيخ الإسلام محمد بن الحسين بيرم، ولد سنة 1130، وأفتى سنة 1169، وتوفي سنة 1214، واختصر " أنفع الوسائل" للطرسوسي، وكتب رسالة في السياسة الشرعية، وغير ذلك. وثانيهم: هو ابن المترجم هاهنا. وثالثهم: ابنه المولود سنة 1201، وأول خطيب بجامع صاحب الطابع، وشيخ الإسلام بعد أبيه، والمتوفى سنة 1259، وشارح "إيساغوجي" وغيره. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الثاني الصادر في شوال 1348.

ورابعهم: ابنه العالم الأديب المتفنن، السياسي الماهر، ولد سنة 1220، وولي مشيخة الإسلام بعد أبيه، وبلغ بها شأواً لم يعهد؛ حيث أحدث دار الشريعة بتونس، وسن قوانينها، ونظم دواوينها، وكانت له خزانة عزيزة النظير. ترجم لخطباء الحنفية، وجمع شعر المتأخرين بكتابه "الجواهر السنية"، وشرح قواعد عهد الأمان، وهو دستور البلاد التونسية، وتوفي سنة 1278. والخامس: هو ابنه القاضي المفتي أبي النخبة مصطفى ابن شيخ الإسلام الأول، ولي القضاء سنة 1290، والفتوى سنة 1309، ومشيخة الإسلام سنة 1315، وتوفي 1318. والسادس: هو العالم الرحالة الأديب المعروف في تونس برئيس جمعية الأوقاف، صاحب "صفوة الاعتبار"، وغيرها، وهو ابن الشيخ مصطفى رئيس ولاية الحسبة بتونس ابن شيخ الإسلام الثالث، النازح إلى مصر، والمتوفى بها سنة 1307. والسابع: المفتي محمد شهر السلامي نجل شيخ الإسلام الرابع، ولد سنة 1274، وولي الفتوى سنة 1326، وانصرف عنها إلى إمامة جامع باردو سنة 1341، وتوفي سنة 1345. وأنبغ هؤلاء وأشهرهم في عالم التأليف هو مترجمنا شيخ الإسلام الثاني، ولد في السادس عشر من ذي القعدة سنة 1162، وأخذ عن خلاصة أعلام عصره؛ كالقاضي محمد قار بطاق، والمفتيين: محمد الدرناوي، وأحمد الثعالبي البرانسي، والشيخ صالح الكواش، والشيخ محمد الشحمي، وغير هؤلاء، واختص بوالده.

* وظائفه: درس بالمدرسة الباشية نيابة عن والده، واستقلالاً بها، وبالجامع الأعظم، وغيرهما، وقلد القضاء بعد عزل قار بطاق في ربيع الأول سنة 1192، واستقال فأُقيل في رجب سنة 1193، ثم أعيد لأربع بقين من ربيع الثاني سنة 1194، وطلب الإقالة فلم يجب، وولي نقابة الأشراف سنة 1206، ومشيخة الإسلام بعد والده في 5 محرم سنة 1251. * علمه وسيرته وصفاته: كان من أقطاب مجددي الحركة العلمية بعد وقوف دولابها أثناء الاحتلال الإسباني بتونس، وما حمل في مطاويه من فواجع وفظائع، وحسب التاريخ التونسي أن يحفظ لمترجمنا هذه الصفة المعتبرة، وكان غزير الحفظ، جيد الفكر، ناظماً ناثراً، وهو من قضاة العدل المشاهير، يتوجه بنفسه في معارضة الحبس لنظر العوض، ويسأل عن القيمة غير الأمناء المعينين لذلك، وهو الذي سنّ الزيادة على القيمة تحرياً لجانب الوقف والمولى عليهم، كما هو معمول به الآن في المحاكم الشرعية بتونس، وكان وقور المجلس، مهيباً عند الخاصة والعامة، محبباً إلى الناس، متبركاً به، هيناً ليناً، رقيق القلب، واسع الصدر، متواضعاً. نقل جميع ذلك ابن أبي ضياف. * آثاره: جمع له من الفتاوى الشرعية العملية مجلد ضخم هو قطب رحى الدائرة الحنفية اليوم بالمجلس الشرعي. ومن أشهرها رسالة "طلوع الصباح على المتحير في أجر الملاح" قرظها والده وجلة العلماء؛ كأحمد البارودي، ومحمد المحجوب رئيس المالكية، وحسن الشريف، و"رسالة في صحة

الرجوع عن الوصية التي التزم صاحبها عدم الرجوع عنها"، جرى فيها على أصول مذهبه؛ حيث لم يجدها منصوصة في فروعه، ونحا منحى أهل الترجيح، وأيد مذهبه بما يطابقه من المذهب المالكي، وقرظها له شيخ الجماعة الرياحي وغيره، وشرح رسالة صاحب البحر "شفاء الغليل في وقف العليل"، وتحقيق الكلام فيما لإجارة متولي الوقف المنحصر استحقاقه فيه إذا مات في أثناء المدة من الأحكام، و "تحقيق المقال فيما يعبر عنه بالمغارسة والاستنزال"، وغير ذلك مما لا يعد كثرة، ونظم جماعة المفتين الحنفية بتونس في رجز سماه "قلاده اللآل في حكم رؤية الهلال" في 409 أبيات. * وفاته: توفي -رحمه الله- في 16 جمادى الأولى سنة 1247، وحمل سريره الأمير وأولاده تعظيماً له.

الشيخ محمد الخضار من علماء تونس الأجلاء

الشيخ محمد الخضار من علماء تونس الأجلَّاء (¬1) هو الأستاذ أبو عبد الله محمد بن محمد الخضار، كان والده يحترف ببيع الخضراوات، ولم يكن من ذرية الشيخ علي الخضار الأندلسي المتوفى حالة سجوده من صلاة العصر بجامع الزيتونة سنة 1065 كما وقع في بعض الأوهام. ولد صاحب الترجمة سنة 1209 هـ، وطلب العلم، فأخذ عن الشيخ حسن الشريف، والشيخ الطاهر بن مسعود، والشيخ إبراهيم الرياحي، والشيخ محمد الستاري، وتلقى دروساً من "المواقف" عن العلامة الشيخ محمد الفاسي، وأقبل على مطالعة الكتب الفلسفية، واجتمع مع رفيقه الشيخ محمد البحري على مطالعة "شرح القاضي زاده على الجغميني في علم الهيئة" بالمكان المعروف في جامع الزيتونة بمقصورة النواورية، ويحضر هذه المطالعة الشيخ عثمان النجار المعول عليه في هذا الفن لذلك العهد إلى أن أتوا على آخر الكتاب. رحل صاحب الترجمة إلى حج البيت الحرام، واجتمع في مكة المكرمة والبلاد الشامية بكثير من كبار أهل العلم، وعاد إلى تونس بعد أن قضى في رحلته خمس سنين، واستمر على التدريس بجامع الزيتونة، وتولى قضاء ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الثالث الصادر في شعبان 1349.

العسكر سنة 1248، وولّي الإمامة والخطابة بجامع التوفيق، فكان يلقي من إنشائه خطباً بليغة، وتقلد منصب الفتوى سنة 1253، وعين للتدريس عند وضع النظام لجامع الزيتونة سنة 1258، فكان يجمع بين خطتين: التدريس، والفتوى. وكان صاحب الترجمة فصيح القلم، طلق اللسان، محققاً في العلوم العقلية، راسخ القدم في الفنون الأدبية، وقد أورد من شعره العلامة الأستاذ الشيخ محمد السنوسي في كتاب "مجمع الدواوين التونسية" مقداراً وافراً. طرأ على بصره في آخر عمره ضعف، ولم ينقطع عن التدريس حتى توفي -عليه رحمة الله- سنة 1267.

السيد محمد النيفر من كبار علماء جامع الزيتونة في القرن الماضي

السيد محمد النيفر من كبار علماء جامع الزيتونة في القرن الماضي (¬1) * نسبه وولادته ونشأته: هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن قاسم النيفر، يتصل نسبه بالشيخ محمد الرفاعي أخي الشيخ أحمد الرفاعي الشهير. ولد صاحب الترجمة سنة 1222، ونشأ في حجر والده السيد أحمد النيفر من كبار التجار بسوق العطارين، وبعد أن حفظ القرآن الكريم، شمر عن ساعد الجد في طلب العلم، فأخذ عن أعلام ذلك العصر؛ مثل: الشيخ إسماعيل التميمي، والشيخ إبراهيم الرياحي، والشيخ محمد بن الخوجة، والشيخ محمد بيرم الثالث. * مكانته العلمية: أحرز صاحب الترجمة في العلم مرتبة عالية، وانتصب للتدريس وهو ابن ثماني عشرة سنة، ودرَّس بجامع الزيتونة كتباً عالية؛ مثل: "شرح القطب على الشمسية"، و"شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع"، و"تفسير القاضي البيضاوي"، وهو من المشهود لهم بالبراعة الفائقة، وحسن البيان، وكان أستاذه الشيخ محمد بيرم الثالث يستمع إلى درسه، فيعجب لحسن ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد الثاني الصادر في رجب 1348.

إلقائه حتى قال مرة: "هذا يجري على سنن أولي الطبقة العالية ممن بعد العهد بمثلهم". وكان يجلس للتدريس في سكينة ووقار، حتى إنه لا يستعين في التقرير بأية حركة أو إشارة. وتخرَّج في دروسه طائفة كبيرة من كبراء أهل العلم؛ مثل: شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن الخوجة، وشيخ الإسلام أبي العباس أحمد كريم، وشيخ الإسلام أبي الثناء محمود بن الخوجة، والعلامة الشيخ سالم بو حاجب، والعلامة الشيخ عمر بن الشيخ، والوزيرين: الشيخ محمد العزيز بوعتور، والشيخ يوسف جعيط. وأخذ عنه ابناه: قاضي الجماعة الشيخ الطاهر النيفر، وكبير أهل الشورى الشيخ الطيب النيفر، وكثيراً ما كان الأستاذ الشيخ يشبه دروس المترجم له برسائل تحوي تحارير بديعة، وتحقيقات نفيسة، مع ما يراعي فيها من حسن الترتيب، وإحكام الصلة بين الباحث. * مؤلفاته: لم يكتف صاحب الترجمة بالتدريس، بل ألَّف -عدا التعاليق والفتاوى- رسائل ممتعة وكتبا محررة، منها: "رسالة في البسملة"، و "حصر الخلاف فيها بين المفسرين والفقهاء والقراء"، و"رسالة في تقديم المسند إليه على المسند الفعلي"، وتعليقات على شرح الأشموني على الخلاصة". * أدبه: كان صاحب الترجمة يجمع إلى غزارة العلم رسوخاً في صناعة الأدب، يظهر هذا في فواتح مؤلفاته، وفي قطع بقيت من شعره حتى اليوم، ويحضرني الآن من نظمه قوله يوم ولي الفتوى:

ولو أنني استقبلت من أمري الذي ... لعمري قد استدبرت ما كنت قاضيا ولكنها الأقدار تجري على الورى ... بإرغام ذي كره ومن كان راضيا ومن يلتمس غُنماً فغنمي تخلص ... وأنجو كفافاً لا علي ولا ليا * ما تقلد من الخطط العلمية: تولى رواية الحديث في جامع باب الجزيرة المعروف بجامع القنيطرة، ونظارة مدرسة بئر الحجار، وقضاء المحلة بباردو، ثم تولى قضاء الجماعة (أي: قاضي القضاة) بالحضرة التونسية سنة 1263، وفي يوم ولايته تولى العلامة الكبير الشيخ البنا خطبة الفتوى، ومما قاله الأستاذ الشيخ إبراهيم الرياحي الشهير للأمير في ذلك اليوم: "أصبت، لا زال الله يصيب بك، هما خير زمانهما علماً وديناً". قال الشيخ أبي ضياف: "وناهيك بشهادة من ذلك العدل في ذلك المشهد! ". * استقامته ووفاته: نشأ صاحب الترجمة على الفضيلة والتقوى، وسار في القضاء سير السلف العادلين، واستمر في منصب القضاء إلى أن دعاه صلاحه إلى حج بيت الله الحرام، فخاطب صاحب الدولة في أن يقيله من القضاء، ويأذن له في السفر إلى البيت الحرام، فأجاب طلبه، ورفعه إلى خطبة الإفتاء سنة 1267، وهيأت له الحكومة باخرة دولية تحمله ومن شاء أن يرافقه، فقضى فريضة الحج، ثم قفل عائداً، وحج ثانياً متطوعاً سنة 1272، ثم عزم على أداء حجة ثالثة، فعز على أمير البلاد مفارقة الأستاذ للبلاد، وأرسل إليه الوزير أبا الضياف ليحل عزيمته على السفر، حتى قال له الوزير: إن نفع درس التفسير متعدد، ونفع الحج قاصر، وقد أديت الفريضة، وتطوعت بعدها،

ولكن صاحب الترجمة لم يُصغِ إلى قول الوزير، ورحل إلى مكة المكرمة، ثم هبط المدينة المنورة، وهناك فاضت روحه الطاهرة في سنة 1277 - تغمده الله برحمته ورضوانه-.

السيد محمد الطاهر بن عاشور

السيد محمد الطاهر بن عاشور (¬1) * نسبه: هو السيد الشريف الطاهر بن محمد بن محمد الشاذلي بن عبد القادر ابن محمد بن عاشور، التونسي النشأة، الأندلسي الأصل، ولد بتونس سنة 1230 هـ في بيت شرف وعلم وصلاح من الأسر الأندلسية، وفد جده العالم الصالح سيدي محمد بن عاشور على تونس سنة 1060 حسب ما ذكره الوزير السراج في "تاريخه"، وبسط القول فيه. * حياته: أقبل بعد حفظ الكتاب العزيز على مزاولة العلوم بجامعة الزيتونة على كبار أساتذة العصر؛ كأخيه الشيخ محمد بن عاشور، والشيخ إبراهيم الرياحي، والشيخ محمد بن الخوجة، والشيخ عاشور الساحلي، والشيخ محمد الخضار، وظهر نبوغه في مقتبل عصره، فانتخب للإفادة، وفي سنة 1262 سمي مدرساً من الطبقة الأولى بجامع الزيتونة، وفي رجب سنة 1267 ولاه أحمد باشا قاضياً للحضرة التونسية، وكان معجباً بانتخابه إياه. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثاني الصادر في جمادى الثانية 1348.

قال المؤرخ التونسي الشيخ أحمد بن أبي ضياف في ترجمته: "وكان الباي كثيراً ما يقول لي: ما فعل القاضي الشريف؟ فأحكي له ما يبلغني عنه من غريب منازعه، ووجيه أبحاثه، فأرى السرور بوجهه، قال: وباشر الخطة بميزان عدل، لا يلتفت إلى خوف ولا عذل، وشرَّد أهل الزور، وغلَّ أيدي الملحدين وأهل الفجور". وفي سنة 1277 ولاه محمد الصادق باشا خطبة الفتيا، ثم أسند إليه نقابة الأشراف، والحسبة على الأوقاف الخيرية، والنظارة على بيت المال، وسمي عضواً بمجلس شورى الملك المؤسس بمقتضى قانون عهد الأمان. قال الشيخ ابن أبي ضياف: "وتوفي يوم الاثنين في 21 ذي الحجة سنة 1284، فمشى في جنازته الباي ورجال دولته، وكاد أن لا يتخلف عن شهودها أحد في البلاد، ورثاه الشيخ قابادو بقصيدة كلها عيون"، وهي القصيدة الرائية الثمينة في ديوانه، ودفن في زاوية جده سيدي محمد بن عاشور المشهورة بضاحية سيدي علي الزواوي بمدينة تونس. * أخلاقه: قال الشيخ ابن أبي ضياف: "كان عالي الهمة، زكي النفس، سليم الصدر، حسن الأخلاق، بعيداً عن التصنيع في الأزياء، حسن المحاضرة، أبيَّ الضيم، سخياً، محباً لتلامذته، يعاملهم معاملة الأنداد، حتى حل في نفوسهم أرفع محل". ومما اشتهر عنه: أنه كان شديداً في إقامته الشريعة. * علمه وآثاره: درَّس بجامع الزيتونة النحو والبيان والأصول والحديث، فدرس المطول،

وخاض في بحور "المفتاح" وشروحه، ولم تقف همته عند ذلك، فاستجلب كتاب "دلائل الإعجاز"، استنسخه من بعض مكاتب الآستانة على طريق بعض التجار، ولم يكن ذلك الكتاب بتونس من قبل، فكانت لدرسه رنة عظيمة في المحافل العلمية، ودرَّس "المحلي على جمع الجوامع"، فتعالى عن القشور، وقصد إلى لب علم الأصول، مع التنبيه على ما يعرض للناظرين من الأوهام، ودرَّس "صحيح مسلم"، وشرع في تدريس "تفسير البيضاوي"، فاقرأ من أوائله قليلاً، ثم عاجله الحِمام. وتخرج عنه أعلام العصر الماضي؛ كالوزير العلامة الشيخ محمد العزيز بوعتور، والوزير العلامة الشيخ يوسف جعيط، والعلامة شيخ الإسلام الشيخ أحمد بن الخوجة، والعلامة اللغوي كبير أهل الشورى الشيخ سالم بوحاجب، وشيخ الإسلام الشيخ محمود بن الخوجة، والعلامة المفتي الشيخ محمد النجار، وشيخ الإسلام العلامة أحمد كريم، والمفتي المحقق الشيخ حسين ابن حسين، والعالم المؤرخ الشيخ محمد بيرم دفين مصر، وغيرهم من جهابذة تونس، وعلماء بلدان المملكة. قال الشيخ ابن أبي ضياف: "وكان في مدة مباشرته للقضاء يرتاح إلى التدريس، ورغب منه أعيان تلامذته أن يكمل لهم درس "المحلي على جمع الجوامع" الذي كان شرع فيه قبل ولايته القضاء، فأجابهم إلى ذلك، وأقرأه بين العشاءين". وقد كان في تدريسه يفتح للتلامذة أبواب التفكير، ويجرئهم على مجاراة الكاتبين بأنظارهم، فأخرج لهم خبايا العلوم بطريقته المبتكرة يومئذ بجامع الزيتونة، وهي نفوذ النظر من أول الأمر لِلُباب المسائل، والتوسع فيها بالنظر في أصولها ونتائجها، مع تسقيط ما لم يجر على تلك

السنة من أقوال الكاتبين، تلك النزعة التي ظهرت بعده من نبغاء تلاميذه، فكان في المترجم -رحمه الله- بطل تلك النهضة العلمية التي حدثت في أواسط القرن الثالث عشر. - كتب حاشية على "القطر" مهمة طبعت بمصر. - وشرحاً على "بردة البوصيري" طبع بمصر. - وحاشية على عبد الحكيم على "المطول" سماها: الغيث الإفريقي، لم تطبع. - وحاشية على "المحلي على جمع الجوامع" لم تطبع. - وحاشية على "ابن سعيد على الأشموني" جمعها من خطبة تلميذه الشيخ أحمد كريم، لم تطبع. - وحاشية على "شرح العصام لرسالة البيان" لم تطبع. - وتعليقه على ما قرأه من "صحيح مسلم" لم يطبع. * أدبه: قال الشيخ ابن ضياف: "كان عذب البيان، كاتباً شاعراً بليغاً". وله شعر جزل ينحو به المنحى العربي القديم، أعانه على الإجادة فيه تبحره في علوم اللغة وآداب العرب، ومن شعره موشح بديع عارض به موشح ابن سهل، وكان مقلاً مجيداً، وله نثر بليغ، وخطب معدودة في مواقف مشهودة، وقد اشتهر في عصره بالفصاحة، وبداهة الجواب. * فقهه في القضاء والفتوى: قال الشيخ ابن أبي ضياف: "جرى مع فحول الفقهاء في مضمارهم

ومعارك أنظارهم، يحذو في الفقه حذو العلامة إسماعيل التميمي من مشاركة الأصول بالفروع، فلا يذكر فقهاً إلا مرجحاً بدليله، ويقول: لا يعجبني أن أقول: هكذا قال الفقهاء، وما يمنعني أن أعلم الدليل كما علموه، وعلى وجود حساده وتظاهر أضداده لم يجدوا في قضائه موضعاً لانتقاده". ولما ولي الفتيا، صدرت منه الفتاوى التي سارت صداها في الحاضرة، وبلدان المملكة، وأظهر فيها من تطبيق الفقه على الأصول ما غفل عنه كثير من الفحول -رحمه الله رحمة واسعة، وشمله برضوانه- جزاء صادق خدماته للعلم والدين.

عمر بن الشيخ من أعاظم أساتذتي بجامع الزيتونة في تونس

عمر بن الشيخ من أعاظم أساتذتي بجامع الزيتونة في تونس (¬1) هو عمر بن أحمد بن علي بن حسن بن علي بن قاسم المعروف بابن الشيخ، ولد الأستاذ بقرية يقال لها: "الماتلين" من عمل "بنزرت"، في حدود سنة 1239 هـ، وقدم به والده تونس صبياً، فنشأ بها، وعندما بلغ أمد التعليم، أقام له معلماً للقرآن المجيد، ثم دخل الجامع الأعظم جامع الزيتونة سنة 1259، فتلقى العلم على كبار الأساتذة؛ مثل: الشيخ محمد بن مصطفى البارودي، والشيخ محمد الخضار، والشيخ محمد سلامة، وشيخ الإسلام الشيخ محمد معاوية (¬2)، والشيخ محمود قبادو الشاعر الشهير، والشيخ الشاذلي ابن صالح، والعلامة الشيخ محمد النيفر، والعلامة الشيخ محمد بن الخوجة، والعلامة الشيخ حمده بن عاشور، والعلامة الشيخ محمد الشاهد، والعلامة الشيخ محمد البنا، والأستاذ الكبير الشيخ إبراهيم الرياحي. ولما اشتد ساعد الأستاذ فهماً، وامتلأت وطابه علماً، جلس للتدريس بجامع الزيتونة سنة 1266، ثم صار مدرساً من الطبقة الثانية سنة 1268، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد الثامن الصادر في جمادى الآخرة 1355. (¬2) صاحب "الحواشي على مختصر السعد"، والذي ينقل عنه المرحوم العلامة الشيخ الأنباني، أو يناقشه في تقريراته على "حواشي البناني على المختصر".

ثم صار مدرساً من الطبقة الأولى سنة 1283. ودرَّس الأستاذ كتباً عالية في علوم شتى، تدريسَ بحث وتحقيق، منها: "الشرح المطول على متن التلخيص"، و"شرح الأشموني على الخلاصة"، وكتاب "مغني اللبيب"، و"شرح المحلي على جمع الجوامع"، و"شرح السعد على العقائد النسفية"، و"شرح الزرقاني على المختصر الخليلي"، و"تفسير القاضي البيضاوي"، انتهى فيه إلى قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]. ودرَّس كتاب "المواقف بشرح السيد"، ولم يكن من الكتب التي تدرس لذلك العهد، حتى أتى على نهايته، وتليت عند ختمه القصائد البليغة، وكان يحضره أكابر المدرسين. وأذكر من القصيدة التي ألقاها يومئذ العلامة خالي المرحوم الشيخ محمد المكي بن عزوز قوله: إذا عمر بن الشيخ وافى لدرسه ... تعالَ التقطْ دراً بملء جفان وكان الأستاذ قد عقد للمذاكرة في هذا الدرس خاصة مجلساً ليلياً في منزله، يشهده كثير من العلماء الذين يحضرون الدرس نفسه في جامع الزيتونة وغيرهم، وبعد أن ينصرفوا يخلو الأستاذ بنفسه للمطالعة، فيجيء إلى الدرس صباحاً وقد قتل مسائله بحثاً وتحقيقاً. أما أسلوب الأستاذ في التعليم، فمن أنفع الطرق، كان يقرر عبارة المتن، ويبسطها حتى يتضح المراد منها، ثم يأخذ في سرد عبارات الشرح، وما تمس الحاجة إليه من الحواشي والكتب التي بحثت في الموضوع، لا سيما الكتب التي استمد منها شارح الكتاب، ويتبعها بالبيان جملة جملة،

ولا يغادر عويصة أو عقدة إلا فتح مغلقها، وأوضح مجملها؛ بحيث يتعلم الطالب من دروسه كيف تلتقط جواهر المعاني من أقوال المؤلفين، زيادة عما يستفيده من العلم. فالأستاذ لم يأخذ في دروسه بطريقة الإملاء، كما يصنع كثير من كبراء الأساتذة، إلا أن له مزية التحقيق والكشف عن أسرارها بوجه يدلك عمَّا له من سعة العارضة، والغوص في أعماق المباحث إلى أبعد غاية. وعادته أن لا يورد بحثاً، أو جواباً عن اعتراض، إلا بعد التثبيت، والاستناد فيه إلى قاعدة مسلَّمة، ومن هنا كان الغالب على أفهامه الاستقامة، وإصابة المرمى، وإذا عثر على خلل لبعض المؤلفين، التمس له المعذرة ما أمكنه، وإلا، قرر وجه الخلل، ونبه على مكانه بأدب ولطف في البيان، وكان له عقل أشرب قوانين المنطق، فلا يروج عليه الزيف، وإن صدر من عظيم، أو خرج في زخرف من القول. وانتخب الأستاذ -رحمه الله- سنة 1278 عضواً في المجلس الأكبر، ونائباً لرئيس المجلس الاعتيادي، فظهرت له براعة فائقة في تطبيق القوانين. ولما تخلى الوزير مصطفى خزنه دار عن الوزارة، وعزمت الدولة محاسبته على الأموال التي وردت بيت خزينة المال مدة ولايته، عقدت مجلساً لذلك، واتخذت صاحب الترجمة وكيلاً عنها؛ ثقة بما عرف به من رجاحة العقل وسداد الرأي، ولما انتهت هذه المسألة، قلدته خطبة قضاء باردو (قاضي الجيش) سنة 1290. وكان لصاحب الترجمة اليد الطولى في نظام التعليم بالجامع الأعظم في عهد وزارة خير الدين؛ فقد كان أحد أعضاء اللجنة التي شكلها الوزير

خير الدين لوضع القانون تحت رياسته (¬1). وكان كل واحد من أعضاء هذه اللجنة يضع ما يبدو له، ثم يجتمعون وينقحون ذلك، ويدونونه فصولاً، حتى انتهى ذلك القانون سنة 1292، وبعد انتهائه عرض عليهم الوزير خير الدين قانوناً حرره بنفسه لنظارة الجامع، وإقامة نائبين عن الدولة، وسمى صاحب الترجمة نائباً أول عن مستشار المعارف أمير الأمراء السيد حسين، فوقف الأستاذ على تنفيذ القانون أحسن قيام، وأصبحت إدارة الجامع العلمية بيد صاحب الترجمة، فكان مثال العدالة والاستقامة. وولِّي صاحب الترجمة في عام 1308 خطبة الفتوى بحاضرة تونس، فاهتز لولايته ارتياحاً كل من يقدره ويعرف إخلاصه، ونهض بأعبائها نهضة الناصح الأمين، وامتاز بالبراعة في تطبيق الأصول على الفروع. قلَّدته الدولة خطبة الإفتاء، وأبقت له منصب النيابة عن وزارة المعارف في نظارة الدروس؛ لشدة ثقتها بأمانته، وحرصِه على إجراء ما تقتضيه التراتيب العلمية. وأحبَّ صاحب الترجمة أن يتزود من الأعمال التي لا تنقطع بعد الموت، فأضاف إلى العلم الذي بثه في صدور الرجال أن تنازل سنة 1324 عن مرتب التدريس للمتطوعين بالتدريس في الجامع الأعظم مدة حياته، وأوصى لهم ¬

_ (¬1) هذه اللجنة: رئيسها الوزير خير الدين. ووكيل الرئيس وزير القلم لذلك العهد الشيخ محمد عبد العزيز بوعتور، والأعضاء: الشيخ عمر بن الشيخ، الشيخ أحمد بن الخوجة، الشيخ الطاهر النيفر، الشيخ أحمد الورتاني، الشيخ مصطفى رضوان، الشيخ محمد بيرم، السيد العربي زروق.

بقطع من المزارع يصرف لهم ريعها بعد وفاته. وفي سنة 1325 أدرك جسمه ضعف الكبر، ودعاه الحال يومئذ إلى تقديم استعفائه من منصبي الفتوى والنيابة بالجامع، فأعفته الدولة منهما، وأبقت له لقب مفتٍ ونائبٍ اسماً شرفياً، وعينت له في السنة أربعة آلاف وسبع مئة وأربعين فرنكاً مرتباً دائماً. وجرى الأستاذ على العناية بأمر التدريس، وبذل المجهود في تحرير المسائل وتنقيحها بدون أن يعنى بأمر التأليف، إلا ما يقتبسه تلاميذه من تحريراته القيمة، ويضعونه على حواشي نسخهم؛ ليرجعوا إليه عند إقراء ذلك الكتاب. وكان صاحب الترجمة ذا جبين طلق، وصدر رحيب، يقابل الأذى بالحلم، وربما ابتسم للكلمة يرمى بها، وهو شاعر بما تنطوي عليه من سوء، ولا تأخذه رفعة منصبه عن الانبساط اللفقراء والأميين، والنزول إلى محادثتهم بقدر ما يفهمون. وله عطف على سائر المتعلمين، واعتناء بالغ بالأذكياء منهم. كما اشتهر بالمحافظة على إجلال أساتيذه، ورعاية حقوقهم حال الغيبة واللقاء. تلقيت عن الأستاذ -رحمه الله- دروساً من "تفسير الييضاوي" (¬1)، ودروساً من "شرح التاودي على العاصمية"، ودروساً من "شرح الشيخ عبد الباقي على المختصر الخليلي". وكنت بعد أن استقال من منصبي الفتوى ونظارة ¬

_ (¬1) حضرت عليه من تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} [آل عمران: 15] إلى تفسير قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ} [آل عمران: 18]، وهي الآية التي انتهى إليها الأستاذ في قراءة هذا التفسير.

الجامع أزوره كثيراً؛ حرصاً على الاستفادة من علمه، ورأيت يومئذ كيف يقبل الناس على ذي المنصب، حتى إذا اعتزله، قل زائروه، وإن كان عظيماً في علمه وفضله، وما زالت مجالس الأستاذ تفيض علماً، ووجهه يتهلل بشراً، ولسانه لا يقول إلا خيراً، إلى أن توفاه الله تعالى ليلة الثلاثاء في الثالث من المحرم عام 1329 - أسبغ الله عليه رداء رضوانه، وأرسل عليه وابل رحمته وإحسانه-.

أحمد كريم

أحمد كريم (¬1) أحد علماء تونس وأدبائها الذين تركوا من خلفهم آثاراً قيمة، وهو الشيخ أبو العباس أحمد بن محمود بن عبد الكريم المدعو: كريم بن عصمان. ولد صاحب الترجمة في 27 صفر سنة 1243، والتحق بطلاب العلم في جامع الزيتونة سنة 1265، فتلقى العلم عن أساتذة كبار؛ مثل: الشيخ معاوية، والشيخ إبراهيم الرياحي، والشيخ الطاهر بن عاشور، وتولى التدريس في جامع الزيتونة سنة 1265، وأقرأ به كتباً عالية، منها: كتاب "التلويح" لصدر الشريعة. وعقدت الحكومة التونسية مجالس للنظر في الجنايات، فعينت الأستاذ نائباً لرئيس هذه المجلس سنة 1277، فدل على براعة استحق بها أن صار الرئيس هذه المجالس من بعد، ثم تقلد خطبة الإفتاء على مذهب الإمام أبي حنيفة سنة 1280، وتولى مع ذلك الخطابة والإمامة والتدريس بالجامع الحسني سنة 1284، فكان يلقي خطباً بليغة من إنشائه، وتولى مشيخة الإسلام بعد هذا، فألبسها كرامة، ولم يلوثها بالتملق لذي سلطان، حتى انتقل إلى رحمة ربه سنة 1315. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" -الجزء السادس من المجلد الأول الصادر في ذي القعدة 1347.

للأستاذ تقييدات ومؤلفات في الفقه الحنفي وغيره، منها: شرح لمنظومة المحبي في الفقه الحنفي، وتعرض في هذا الشرح لما يجري به العمل في الديار التونسية، وتصدى في تأليفه لربط الأحكام بأصولها، وشرح قصيدة كعب بن زهير "بانت سعاد" شرحاً وافياً، وله شعر جيد كان قد جمعه في ديوان يسمى: "السحر الحلال"، وأذكر من شعره قصيدة خاطب بها الأمير محمد الصادق باي شاكراً له على ما قام به من تطبيق القانون المسمى: (عهد الأمان)، ومما يقول فيها: تيقن أن العدل أبقى لملكه ... فأضحى لطرق الجور ينسفها نسفا ثم قال: وأمنت أهل القطر من كل ضائر ... ولولا وجوب الحتف أمنتنا الحتفا جعلت أساس العدل فيهم أمانهم ... على العرض والأبدان والمال مستوفى وسوَّيت في الأحكام بين جليلهم ... وبين ضعيف كان في الحق يستخفى وألزمت أحكاماً هي الفيصل التي ... توافقنا شرعاً ونعتادها عرفا يقر لها بالعدل كل معاند ... يعض على غيظ أنامله لهفا شهدت له دروساً كان يلقيها بالجامع الحسيني في شهر رمضان، فكنت أسمع بحثاً دقيقاً، وعبارات أنيقة، وكان الأستاذ -رحمه الله- فصيح المنطق، حسن السمت، لطيف المحاضرة.

محمد بن الخوجة من أركان النهضة العلمية بجامع الزيتونة

محمد بن الخوجة من أركان النهضة العلمية بجامع الزيتونة (¬1) ولد في 8 ذي الحجة سنة 1244، ونشأ بين يدي والده، وتلقى عنه العلم، وعن شيوخ آخرين؛ مثل: الشيخ أبي محمد حسن الشريف، وشيخ الإسلام أبي عبد الله محمد بيرم الثاني، وجدَّ في طلب العلم حتى أحرز فيه المرتبة السامية. * مكانته في العلم: وصفه الشيخ أحمد بن أبي الضياف في "تاريخه"، فقال: "تصدر للتدريس، ونشر الدر النفيس، بتقرير يدل على امتداد باع، وسعة اطلاع، تقف دونه الأطماع، فاستحدث من شمس علومه البدور، وانتفعت به العامة والصدور" وقال: "كان هذا المحقق تقياً نقياً ورعاً، معدوداً في درجة المجتهدين، خاتمه المحدثين، كاد يحفظ "صحيح البخاري"؛ لأنه اتخذ قراءته كل يوم وِرداً، ذا فكرة يدعوها فلا تتوقف، ويلقي عصاها فتتلقف، رفع للعلم راية خافقة، وأقام لها سوقاً نافقة، وجرى في ميادينه طلق الأعنة، ماضي الظُّباتِ والأسنة". ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" -الجزء السادس من المجلد الثاني الصادر في ذي القعدة 1348.

* ما تقلد من المناصب: تولى صاحب الترجمة في 26 جمادى الثانية سنة 1251 خطبة القضاء بالمذهب الحنفي، وسار فيها سيرة العلماء المصلحين. قال الشيخ أحمد بن أبي الضياف يصفه: "تولى خطبة القضاء، فأجرى الحق، وأوضح ما خفي، وبرع في تطبيق الأحكام على النوازل، مسوياً بين الخصوم، وإن اختلفوا في المنازل، بعدلٍ ميزانه قائم، وجزالة لا تنثني عن الحق بلائم". وفي 29 ربيع الأول سنة 1259 انتقل إلى خطبة الفتوى. وفي 10 جمادى الأولى سنة 1278 أسند إليه منصب شيخ الإسلام، فقام عليه خير قيام إلى أن أدركه أجله، وتغمده الله برحمته. * استقامته ومتانة أخلاقه: كان صاحب الترجمة متجملاً بالعفاف ولطف الشمائل، وإطلاق اليد في عمل الخير، قال الشيخ أحمد بن أبي الضياف في سياق الحديث عنه: "ما شئت من كرم أخلاق، وأياد في الأعناق، ألزم من الأطواق، ونفس لطيفة الشمائل والشيم، ومحاضرة يفوق نفعها الديم". وكان -رحمه الله- يمثل في شرف همته سيرة العلماء الذين يرون في مقامهم العلمي ما يسمو بهم عن أن يضعفوا أمام الرؤساء وذوي الوجاهة، تلك الخصلة التي تكسو العالم جلالة، وتجعله في الناس ناصحاً أميناً. ومما يشهد باستقامة صاحب الترجمة -كما وصفنا-: أن صاحب الدولة مصطفى باي ظهر له أن يهب أرضاً يقال لها: (هشام) لوزيره مصطفى صاحب الطابع؛ لقربها من بستانه المعروف بسبالة الكاهية، وكانت هذه الأرض من

أحباس جد الباي، وهو من المستحقين، فأرسل الباي الوزير الشيخ أبا الضياف لخطاب صاحب الترجمة، وهو يومئذ في خطبة القضاء؛ ليأذن بعقد المعاوضة، فخاطبه فامتنع، ولج في الامتناع. قال الأستاذ أبو الضياف: "ثم استأذنت الباي أن كلمه بمحضر الجماعة (بقية أعضاء المحكمة الشرعية)، فقال لي: "تكلم بالنيابة عني"، فجلست مجلس الخصوم، وأعدت المطلب، فقال لي في ذلك المشهد: يابني! (إن بدني لا يطيق النار)، ثم التفت إلى الباي، (وكان في الحضرة)، وقال له: (إني نائب عنك، ولم تظهر لي مصلحة في هذا العوض، فإن ظهرت لك المصلحة، فافعل، وكاتبك هذا (يعني: ابن أبي الضياف) يحسن الكتابة، وأنت تحسن النظر، فرجع الباي على عادته في الوقوف مع الحكام الشرعية، والأدب معها". ومن حرصه على نصيحة السلطان: أن أمير البلاد المشير الأول أحمد باشا باي كان قد أمر بقتل سبعة من العساكر في قريب من شهر رمضان. وكان صاحب الترجمة ممن يلقون دروساً في رمضان تسمى هنالك بالأختام، فجعل موضوع الدرس قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ. . .} [النساء: 93] إلخ الآية. وكان الباي ممن شهد حفلة الختم. فأخذ الشيخ يقرر معنى الآية، ويورد ما ورد في قتل النفوس من الوعيد، حتى ظهر على الباي أثر الغضب، وأوجس الحاضرون خيفة أن يسرع إلى الانتقام منه، ولكن النصيحة التي تصدر من سريرة خالصة لا تأتي في غالب الأحوال إلا بثمرة طيبة، وعاقبة وحسنة. "إن التقي إذا غالبته غلبا". وكان ملوك تونس يرغبون في حضوره مجالسهم غير الرسمية، فإذا

بعثوا إليه، تمثل للرسول بهذين البيتين: قل للملوك نصيحة ... لا تركنن إلى فقيهِ إن الفقيه إذا أتى ... أبوابكم لا خير فيهِ ثم يقول له: "أبلغ أتم سلامي إلى الأمير، وقل له: إن العبد حاضر متى أمرتموه بتحرير مسألة". * وفاته: توفي في يوم عاشوراء من سنة 1279 بجبل المنار، ونقل إلى داره بحاضرة تونس، وقدم لحضور جنارته صاحب المملكة محمد الصادق باي من حلق الوادي، ودفن بزاوية سيدي عطية، واتفق أن كان تاريخ وفاته في لفظ: (عاشوراء)، ورثاه طائفة من العلماء، منهم: الشيخ محمود قبادو المفتي المالكي، ومرثيته في ديوانه المطبوع. * مؤلفاته: لصاحب الترجمة مؤلف في الفقه سماه: "المحررات الفقهية" في ثلاث مجلدات، وله تعليقات على "حاشية الشيخ عبد الحكيم على تفسير البيضاوي"، وسماها: "معين المعاني على علم المعاني"، وتعليقات على كتاب "الدرر"، وحاشية على "شرح المكودي للخلاصة"، وكتب شرحاً لحكم أرسططاليس "العالم بستان. . . إلخ" باقتراح من المشير أحمد باي، إلى غير هذا من الرسائل والأختام التي هي دروس تلقى في رمضان بعد تحريرها في هيئة رسائل. ملأ الله قبره نوراً ورحمة.

أحمد الورتاني

أحمد الورتاني (¬1) من علماء تونس الذين بلغوا في العلم رتبة سامية، وأحرزوا سمعة طيبة: أبو العباس أحمد بن سالم بن إبراهيم الورتاني، ولد سنة 1246، وبعد قراءة القرآن على والده التحق بطلاب العلم في جامع الزيتونة، وتلقى عن علماء أجلة؛ مثل: الشيخ الطاهر بن عاشور، والشيخ ابن ملوكة، والشيخ معاوية، والشيخ محمد بن سلامة، والشيخ محمد الشاهد، ورحل لأداء فريضة الحج سنة 1270، ولقي بالقاهرة الشيخ إبراهيم الباجوري، وأجازه إجازة مطلقة، وفي سنة 1271، ندبه الوزير مصطفى خزنه دار لتأديب أبنائه وتعليمهم، وفي سنة 1285 أقبل على التدريس في جامع الزيتونة بتحقيق ومواظبة، وفي سنة 1287 تولى منصب التدريس، وعرف بالتثبت فيما يقول، وبإنصاف الطلاب عند البحث، وكان يمتاز عن أقرانه بسعة الاطلاع في التاريخ واللغة، وسافر إلى الآستانة يوم كان الصدر الأعظم بها خير الدين باشا التونسي، وأقام بها حيناً، ثم عاد إلى تونس راجعاً، وعين عضواً في مجلس إدارة الأوقاف، وصار بعد هذا نائب رئيس المجلس، وفي سنة 1297 ولاه المشير أحمد باي رئاسة الأوقاف، ونظارة ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الاسلامية" - الجزء السابع من المجلد الأول الصادر في ذي الحجة 1347.

المطبعة الأميرية، وفي سنة 1299 فصل عن نظارة المطبعة، وبقي على رئاسة الأوقاف. وفي جمادى الثانية سنة 1303 تقدم في طائفة من الفضلاء يعرض على الدولة بعض مطالب وطنية، وبقي بعد هذا على خطبة التدريس وحدها حتى توفي ليلة السادس عشر من ذي الحجة في هذه السنة، وهي السنة 1303، فذهب إلى رحمة الله، وقد ترك في نفوس مريديه علماً نافعاً، وعلى ألسنة الأمة التي شهدت منه الغيرة والاستقامة ثناء فاخراً.

محمد الطاهر بن عاشور شيخ جامع الزيتونة الأعظم في تونس

محمد الطاهر بن عاشور شيخ جامع الزيتونة الأعظم في تونس (¬1) * نسبه ونشأته: هو السيد محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، من بيت آل عاشور الأشراف الأندلسيين، وجده للأب الشيخ محمد الطاهر بن عاشور قاضي الحضرة التونسية، وصاحب المؤلفات القيمة، وجده للأم العلامة الوزير الشيخ محمد العزيز بوعتُّور. ولد الأستاذ بتونس سنة 1296، وشب على تعلم القرآن حتى أتقنه حفظاً، وفي سنة 1310 دخل جامع الزيتونة، فثابر على تعليمه حتى أحرز شهادة (التطويع) سنة 1317. وفي سنة 1320 فاز في مناظرة التدريس من الرتبة الثانية، وفي سنة 1324 ارتقى بمناظرة أيضاً إلى التدريس من الرتبة الأولى. وفي سنة 1321 سمي مدرساً بالمدرسة الصادقية، مع بقائه مدرساً بالجامع الأعظم، وفي سنة 1325 سمي نائباً عن الدولة لدى نظارة جامع الزيتونة العلمية، فابتدأ أعماله بإدخال نظم مهمة على التعليم بحسب ما سمح به الحال، وحرر يومئذ لائحة في إصلاح التعليم، وعرضها على ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الخامس الصادر في شوال 1351.

الحكومة، فأمكن تنفيذ شيء منها، وأبقي كثير منها إلى فرص أخرى، كما سعى في إحياء بعض العلوم العربية بالجامع، وقد كان غالب أهل العلم يقتصر منها على النحو، وعلى المعاني والبيان، فأكثر من دروس الصرف في مراتب التعليم الثلاث، ومن دروس أدب اللغة، وشرع في تدريس "ديوان الحماسة" بنفسه. ولما تأسست لجنة النظر في تنقيح برنامج التعليم سنة 1329، كان الأستاذ ابن عاشور عضواً في هذه اللجنة، وهو الذي تولى تقرير حالة التعليم، وكان الاعتماد على لائحته المشار إليها آنفاً. وقدم لائحة في إيجاد تعليم ابتدائي إسلامي منظم في خمس مدن من مدن المملكة: القيروان، وسوسة، وصفاقس، وتوزر، وقفصة. وفي تلك السنة سمي عضواً بالمجلس المختلط العقاري. وفي سنة 1331 أسندت إليه خطبة القضاء المالكي بعاصمة تونس، ودخل في هيئة النظارة العلمية التي تدير شؤون جامع الزيتونة. وفي سنة 1341 سمي مفتياً مالكياً بالديار التونسية، وعاد إلى التدريس بالجامع الأعظم وبالمدرسة الصادقية، وفي سنة 1343 عهد إليه بأمر النيابة عن الشيخ (باش مفتي) رئيس المالكية، وفوض إليه مباشرة وظائفه الشرعية والعلمية. وفي سنة 1345 ارتقى إلى رتبة باش مفتي بالأصالة؛ أي: صار رئيساً للمجلس الشرعي المالكي، وتلك الخطة تخوله أيضاً أن يكون أحد رئيسي المعهد الزيتوني، واستمر على إقراء دروسه في مواقيتها، مع أن خطته تخوله الانقطاع عن التدريس؛ إذ لم يبق معها في صف المدرسين. وفي جمادى الأولى سنة 1351 صدر الأمر الملكي بتلقيبه (شيخ الإسلام

المالكي)، وتسويته بزميله (شيخ الإسلام الحنفي) تسوية تامة. وفي جمادى الأولى من هذه السنة (¬1) صدر الأمر الملكي بتعيين رئيس للنظر في شؤون التعليم بجامع الزيتونة يلقب بشيخ الجامع الأعظم، وأسندت هذه الرئاسة إلى الأستاذ صاحب الترجمة، وصرح له حضرة صاحب الجلالة أمير البلاد بأنه يعتمد عليه في إصلاح حال التعليم بجامع الزيتونة وترقيته. وقد احتفل بولايته شيخاً للجامع يوم السبت 25 جمادى الأولى من هذه السنة في محفل علمي جليل، وألقى فيه الأستاذ خطبة بسط فيها القول على أحوال الجامع، وبين مبدأه في إصلاحه، ونقلت هذه الخطبة البليغة الصحف التونسية. * علمه وأدبه: شب الأستاذ على ذكاء فائق، وألمعية وقادة، فلم يلبث أن ظهر نبوغه بين أهل العلم، ولما كان بيني وبينه من الصداقة النادرة المثال، كنا نحضر دروس بعض الأساتذة جنباً لجنب؛ مثل: درس الأستاذ الشيخ سالم أبي حاجب لشرح القسطلاني على البخاري، ودرس الأستاذ الشيخ عمر بن الشيخ لتفسير البيضاوي، ودرس الأستاذ الشيخ محمد النجار لكتاب "المواقف"، وكنت أرى شدة حرصه على العلم ودقة نظره متجليتين في لحظاته وبحوثه. تقلب الأستاذ في مناصب التدريس، وقام بتدريس كتب عالية في جامع الزيتونة، فدرَّس "دلائل الإعجاز"، و"الشرح المطول" للتفتازاني، و"شرح المحلى لجمع الجوامع"، و"مقدمة ابن خلدون"، وهو اليوم يقوم بتدريس تفسير القرآن الكريم، و"موطأ" مالك بن أنس، و"ديوان الحماسة". ¬

_ (¬1) سنة 1351 هـ.

وللأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان، ويضيف إلى غزارة العلم وقوة النظر: صفاء الذوق، وسعة الاطلاع في آداب اللغة، وأذكر أنه كان يوماً في ناحية من جامع الزيتونة، ومعه أديبان من خيرة أدبائنا، وكنت أقرأ درساً في ناحية أخرى من الجامع، فبعث إلي بورقة بها هذان البيتان: تألقت الآداب كالبدر في السحر ... وقد لفظ البحران موجهما الدرر فمالي أرى منطيقها الآن غائباً ... وفي مجمع البحرين لا يفقد (الخضر) انعقدت بيني وبينه سنة 1317 صداقة بلغت في صفائها ومتانتها الغاية التي ليس بعدها غاية، وصدافة بهذه المنزلة تقتضي أن نلتقي كثيراً، وأن يكون كل منا يعرف من سريرة صاحبه ما يعرفه من سريرته، فكنت أرى لساناً لهجته الصدق، وسريرة نقية من كل خاطر سيئ، وهمة طماحة إلى المعالي، وجداً في العمل لا يمسه كلل، ومحافظة على واجبات الدين وآدابه، وبالإجمال: ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه، وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم. وعقب سفري إلى البلاد الشامية سنة 1331 بلغني خبر ولايته للقضاء، فأرسلت إليه أبياتاً تهنئة بهذه الولاية، وتذكيراً له بما كنت أعرفه فيه من حرصه على إصلاح القضاء والتعليم، ثم إبداء عظيم شوقي، وأسفي للفراق، وأذكر منها قولي: أنسى ولا أنسى إخاءك إذ رمى ... صرف الليالي بالنوى أشباحا أسلو ولا أسلو علاك ولو أتت ... لبنانَ تهدي نرجساً وأقاحا أفلم نكن كالفرقدين تقارنا ... والصفو يملأ بيننا أقداحا

* مؤلفاته: للأستاذ حواش على "التنقيح" لشهاب الدين القرافي في أصول الفقه، ونقد علمي في الرد على كتاب "الإسلام وأصول الحكم" تأليف علي أفندي عبد الرازق، وكتاب في أصول الإنشاء والخطابة، وله مؤلفات أخرى لم تطبع بعد.

علي الدرويش من علماء تونس الفضلاء

علي الدرويش من علماء تونس الفضلاء (¬1) هو أبو الحسن علي بن يوسف بن أحمد الدرويش من "باجة" بلدة بالقطر التونسي. ولد في شعبان سنة 1198، طلب العلم، فأخذ عن علماء عصره: الشيخ الطاهر بن مسعود، وشيخ الإسلام بيرم الثاني، والشيخ حسن الشريف. ولاه الأمير محمود باشا إماماً بمسجد "باردو" سنة 1230، ثم تولى خطة القضاء سنة 1232، فقام بها محمود السيرة نحو تسع عشرة سنة، ثم صار مفتياً سنة 1251، وأضاف إلى الفتوى التدريس بجامع الزيتونة عند وضع الترتيب الأحمدي، حتى وافاه الأجل في ذي القعدة سنة 1262، ورثاه الشيخ محمد بيرم الرابع بقصيدة يقول في مطلعها: هو الدهر يبري صائبات سهامه ... فيورد نفس المرء حوض حِمامه وكان صاحب الترجمة عفيفاً، متثبتاً فيما يجري بين يديه من القضايا، متيقظاً لما يقدم إليه من المراسلات التي يضع عليها ختمه، وترسل إلى نوابه في القطر، كتب بعض المتنسبين للإشهاد بين الناس مراسلة، وقدمها ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء العاشر من المجلد الثاني الصادر في رييع الأول 1349.

إليه ليضع عليها ختمه، فوجدها غير موافقة للشرع، فأبى ختمها، وردها إلى صاحبها، فأعادها ذلك الشاهد مراراً؛ رجاء أن تصادف ساعة غفلة من الشيخ، فيضع عليها ختمه، فلم يكن منه إلا أن يردها، ولما تكرر ورودها عليه، بعث إلى الشاهد قائلاً له: "إني على بصيرة مما يرد عليَّ"، ولم يزد على ذلك.

تونس

تونس (¬1) * التعريف بتونس: المملكة (¬2) التونسية، واقعة بشمال القارة الإفريقية، يحدها شمالاً وشرقاً البحر المتوسط، وغرباً عمالة قسنطينة من بلاد الجزائر، وجنوباً الصحراء الكبرى في بعضها، وولاية طرابلس في بعضها الآخر المنحرف إلى الشرق. ومساحتها مئة وثلاثون ألف كيلو متر مربع تقربياً، وهذه المساحة تساوي نحو الخمس من مساحة فرنسا. وسكان هذه المملكة نحو ثلاثة ملايين نسمة، وهم بحسب أصولهم يرجعون إلى أجناس مختلفة، إلا أن السائد فيهم العنصر العربي، ومن كانوا من غير عنصر عربي؛ كالبربر، والترك، فقد أصبحوا عرباً لغة وعادات، فهم ما بين عرب خُلَّص، ومستعربين، فمن الحق أن تونس بلاد عربية شعباً وحكومة، وهي جديرة بأن تعد في مقدمة الشعوب والدول العربية. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" -الجزء الحادي عشر من المجلد السابع عشر- 1364 هـ. وهي نص مذكرة الإمام بصفته رئيس (رابطة الدفاع عن أفريقيا الشمالية) إلى دول العالم. (¬2) مقالة الإمام قبل إعلان الجمهورية في تونس.

وقد بلغت تونس في العهود السالفة من المعارف والمدنية وقوة السلطان غايات عزيزة المنال، ولا أذهب في الحديث عن هذا السؤدد إلى عهود بعيدة كانت فيها المملكة التونسية مطلع العلماء الأعلام، ورجال السياسة العظام، ومحط رحال الأدباء والشعراء والكتاب، فذلك شأن من تكون غايته البحث عن تاريخ البلاد، وسيرِ رجالها؛ ليقرر حقائق، أو يستمد مفاخر، أو ينبه لمآخذ عبرة، وإنما غايتنا من هذه المذكرة عرض حالة تونس في عهد نهوضها بنفسها قبل الاحتلال الفرنسي، وعهد وقوعها تحت هذا الاحتلال؛ ليرى الناظر كيف كانت تونس تسير في السبيل الذي تسير فيه الأمم الناهضة، وكيف أتى الاحتلال الفرنسي وأخذ يرجع بها إلى وراء. * تونس قبل الاحتلال: كانت القيروان منذ الفتح الإسلامي العربي عاصمة إفريقية، ومنها خرج الجيش الذي فتح بقية بلاد المغرب، والجيش الذي فتح بلاد الأندلس، والجيش الذي فتح صقلية، وفي القرن السادس الهجري صارت عاصمة أفريقية مدينة تونس نفسها، وما زال الشعب التونسي يتمتع بحرية كاملة، ولواء الاستقلال يخفق على أرجاء تلك البلاد إلى أن امتدت إليها يد الإسبان سنة 942 هـ وتخلصت منهم على يد الدولة العثمانية سنة 981 هـ، وصارت من ذلك الحين ولاية عثمانية، إلا أنها تتمتع بجانب عظيم من استقلالها الداخلي، إلى أن تولى أمرها المشير أحمد باشا باي عاشر أمراء الدولة الحسينية سنة 1253، فنهض بهذه المملكة من الوجهة السياسية والعسكرية والعلمية. اتجه إلى أن تكون الحكومة التونسية حكومة عربية إسلامية، يربطها

بالدولة العثمانية الاعتراف بسيادتها من جهة أنها دولة الخلافة، فسعى لدى الدولة العثمانية لتسقط على تونس المقدار المالي الذي كانت تؤديه لها سنوياً، معتذراً بأن القطر التونسي في حاجة إلى نفقات كبيرة تصرف في شؤونه العلمية والجندية والعمرانية. وحوَّل المراسلة بينه وبين الدولة العثمانية من اللغة التركية إلى اللغة العربية، معتذراً لها بأنه لا يحسن به أن يضع ختمه على كلام لا يفهم أسراره. وأقبل على حال الجند، فنظم العساكر على الأسلوب الجديد، وأنشأ مدرسة حربية، واستدعى إليها معلمين من أبرع ضباط أوربا. ووجّه عنايته إلى إعداد أسطول، فأعد مرسى حربية، وابتدأ بشراء بواخر وبوارج، وابتنى دار صناعة لإنشاء السفن، ومعملاً لصنع الأسلحة، ومستودعات للذخائر الحربية. وأحدث لقب وزير في المناصب السياسية، فكان لحكومة تونس في عهده رئيس وزراء، ووزير داخلية، ووزير خارجية، ووزير حربية، ووزير بحرية، ووزير مالية. وتولى بعده أخوه محمد باشا باي، فجرى على سيرة سلفه، ووضع لسياسة الحكومة دستوراً سمي لذلك العهد: "عهد الأمان"، وقرئ هذا الدستور في حفل عظيم حضوه أعيان الأمة وعلماؤها، وسفراء الدول الأجنبيية، في (20 المحرم سنة 1274 - 10 سبتمبر سنة 1857)، وأقسم الباي على أن يعمل بهذا القانون، ويجري في سياسة الحكومة على مقتضاه. ويشتمل هذا الدستور على إحدى عشرة مادة، ونصها:

"القاعدة الأولى: تأكيد الأمان لسائر رعيتنا، وسكان إيالتنا، على اختلاف الأديان والألسنة والألوان، في أبدانهم المكرمة، وأموالهم المحرمة، وأعراضهم المحترمة، إلا بحق يوجبه نظر المجلس بالشورى، ويرفعه إلينا، ولنا النظر في الإمضاء، أو التخفيف ما أمكن، أو الإذن بإعادة النظر. القاعدة الثانية: تساوي الناس في أصل قانون الأاء المرتب، أو ما يترتب. كان اختلف باختلاف الكمية؛ بحيث لا يسقط القانون عن العظيم لعظمته، ولا يحط على الحقير لحقارته، ويأتي بيانه موضحاً. القاعدة الثالثة: التسوية بين المسلم وغيره من سكان الإيالة في استحقاق الإنصاف؛ لأن استحقاته بوصف الإنسانية، لا لغيره من الأوصاف، والعدل في الأرض هو الميزان المستوي، يؤخذ به للمحق من المبطل، وللضعيف من القوي. القاعدة الرابعة: إن الذميَّ من رعيتنا لا يجبر على تبديل دينه، ولا يمنع من إجراء ما يلزم ديانته، ولا تمتهن مجامعهم، ويكون لهم الأمان من الإذاية والامتهان؛ لأن ذمتهم تقتضي أن لهم مالنا، وعليهم ما علينا. القاعدة الخامسة: لما كان العسكر من أسباب حفظ النوع، ومصلحته تعم المجموع، ولا بد للإنسان من زمن لتدبير عيشه، والقيام على أهله، فلا نأخذ العسكر إلا بترتيب وقرعة، ولا يبقى العسكري في الخدمة أكثر من مدة معلومة، كما نحرره في قانون العسكر. القاعدة السادسة: إن مجلس النظار في الجنايات إذا كان الحكم فيه بعقوبة على أحد من أهل الذمة، يلزم أن يحضره من نعينه من كبرائهم، تأنيساً لنفوسهم، ودفعاً لما يتوهمونه من الحيف، والشريعة توصي بهم خيراً.

القاعدة السابعة: إننا نجعل مجلساً للتجارة برئيس وكاتب، وأعضاء من المسلمين وغيرهم من رعايا أحبابنا الدول؛ للنظر في نوازل التجارات بعد الاتفاق مع أحبابنا الدول العظام في كيفية دخول رعاياهم تحت حكم المجلس، كما يأتي إيضاح تفصيله؛ قطعاً لتشعب الخصام. القاعدة الثامنة: إن سائر رعايانا من المسلمين وغيرهم لهم المساواة في الأمور العرفية، والقوانين الحكمية، لا فضل لأحد على الآخر في ذلك. القاعدة التاسعة: تسريح المتجر من اختصاص أحد به، بل يكون مباحاً لكل أحد، ولا تتاجر الدولة بتجارة، ولا تمنع غيرها منها، وتكون العناية بإعانة عموم المتجر، ومنع أسباب تعطيله. القاعدة العاشرة: إن الوافدين على إيالتنا لهم أن يحترفوا بسائر الصنائع والخدم، بشرط أن يتبعوا القوانين المرتبة، والتي يمكن أن تترتب مثل سائر أهل البلاد، لا فضل لأحد على الآخر، بعد الانفصال مع دولهم في كيفية دخولهم تحت ذلك كما يأتي بيانه. القاعدة الحادية عشرة: إن الواردين على إيالتنا من سائر أتباع الدول، لهم أن يشتروا سائر ما يملك من الدور والأجنَّة والأرضين، مثل سائر أهل البلاد، بشرط أن يتبعوا القوانين المرتبة، والتي تترتب من غير امتناع، ولا فرق في أدنى شيء من قوانين البلاد، ونبين بعد هذا كيفية السكن بحيث إن المالك يكون عالماً بذلك، وداخلاً على اعتباره، بعد الاتفاق مع أحبابنا الدول". وأنشا هذا الأمير مجلساً بلدياً في مدينة تونس تحت رياسة مستشار الخارجية، وتولى هذا المجلس تنظيم المدينة، وإصلاح طرقاتها، وتنوير

شوارعها، وجلب أدوات الطباعة العربية إلى البلاد. وتولى الإمارة بعده أخوه محمد الصادق باي، وشد أزره الوزير المصلح خير الدين باشا، فألَّف مجلساً أعلى يتألف من ستين عضواً من الوطنيين للنظر في مصالح الوطن. وسنّ للفلاحة قانوناً راعى فيه مقتضيات حال القطر. ووزَّع الأراضي الحكومية على صغار الفلاحين، ووضع أول مجلس صحي لمراقبة الأمراض الوبائية. وسعى في تقدم الصناعات الأهلية، وتوسيع دائرة التجارة الوطنية. ونظَّم مناهج التعليم بجامع الزيتونة قرينِ الجامع الأزهر في كل ما يدرَّس فيه من العلوم الدينية والعربية، وأنشأ بجانبه المكتبة التي تدعى: "المكتبة الصادقية". وأسس المدرسة الصادقية، وهي أول معهد أنشئ لدراسة العلوم العصرية واللغات الأجنبية، وصدرت في عهده سنة 1277 هـ صحيفة "الرائد التونسي"، وهي الصحيفة الثالثة العربية للصحيفتين الأخريين: الوقائع، والجوائب. وأطلق هذا الأمير على الحكومة اسم: الدولة، وأعطى لنفسه لقب: الملك، يوجد هذان اللقبان في نصوص القانون المسمى بقانون الدولة. يرى الناظر من هذه الشذرات الموردة من تاريخ تونس: أنها أخذت منذ عهد المشير أحمد باشا باي تسير سير الأمم المتيقظة، وأنها قطعت في إصلاح شؤونها السياسية والعسكرية والعلمية والعمرانية شوطاً يشهد بأنها تستطيع القيام بواجبات استقلالها بنفسها، وأنها ليست في حاجة إلى ما يسمونه: حماية.

* كيف وقع الاحتلال الفرنسي؟ بعد أن تم لفرنسا احتلال الجزائر، اتجه نظرها إلى احتلال تونس، وحصلت على موافقة بعض الدول في المؤتمر الذي عقد في "برلين". ويقال: إن بسمارك أغراها باحتلال تونس بقصد إيقاع الشحناء بينها وبين إيطاليا التي كانت حريصة كل الحرص على ائتلاف هذا القطر. ادعت فرنسا أن بعض العربان التونسيين الذين يقيمون بالقرب من حدود الجزائر يعتدون على بعض جيرانهم من الجزائريين، واتخذت هذه الدعوى وسيلة لاحتلال المملكة بأسرها، وأجلبت على تونس بخيلها ورجلها، وتجاوزت بها إلى داخل البلاد، وكانت الحكومة التونسية تسجل وتتشكى وتعارض بأنها مستعدة لتربية قبائلها الذين هم في نفس الأمر إنما اتخذوا وسيلة فقط (¬1). * المعاهدة كيف أُمضيت؟ زحفت فرنسا بجنود من ناحية الجزائر، وزحفت بجند آخر من ناحية "بنزرت" حتى وصل هذا الجند إلى العاصمة، وأحاط بقصر الملك، وفي هذه الحال قدمت إليه معاهدة ليضع إمضاءه عليها، فتوقف الباي عن الإمضاء، وطلب من نائبي فرنسا: قنصلها، وقائد عساكرها أن يمهلاه مدة ليتأمل فيما تضمنته المعاهدة من الشروط، فأبيا له ذلك، فجمع الباي رجال مجلس الشورى، وكان ممن عارض في إمضاء المعاهدة: السيد العربي زروق رئيس البلدية، ونصح للباي بأن لا يوقع عليها، وقال له: إن ما تخشاه من عدم الإمضاء سيقع لا محالة، فالتمسك بعدم الإمضاء أشرف وأسلم، ولكن ¬

_ (¬1) "صفوة الاعتبار" للشيخ محمد بيرم.

الباي رأى نفسه مضطراً إلى توقيع المعاهدة، فأمضاها، وكانت المعاهدة مشتملة على عشرة مواد، وتعريبها: "إن دولة جمهورية فرنسا، ودولة باي تونس أرادوا أن يقطعوا بالمرة التحبير المخرب الذي وقع قريباً في حدود الدولتين، وفي شطوط تونس، وأرادوا أن يربطوا مخالطتهم القديمة التي هي مخالطة مودة وجوار حسن، فاعتمدوا على ذلك، وعقدوا معاهدة في نفع الجهتين المهمتين، فعلى موجب ذلك رئيس الجمهورية الفرنسية، سمى وكيله (مسيو الجنرال بريار) الذي يتفق مع حضرة الباي السامية على الشروط الآتية: أولاً: المعاهدات الصلحية والودادية والتجارية وغيرها الموجودة الآن بين الجمهورية الفرنسية وحضرة الباي يتحتم تقريرها واستمرارها. ثانياً: ليسهل على الدولة الجمهورية إتمام الطرق للتوصل إلى المقصود الذي يعني الجهتين العظيمتين، فحضرة الباي يرضى بأن الحكم العسكري الفرنسي يضع العساكر في المواضع التي يراها لازمة؛ لتقرر وترجع الراحة والأمان في الحدود، والشطوط، وخروج العساكر يكون عندما يتوافق الحكم العسكري الفرنسي والتونسي على أن الدولة التونسية تقدر على تقدر الراحة. ثالثاً: دولة الجمهورية الفرنسية تتعهد لحضرة الباي بأن يستند عليها دائماً، وهي تدافع عن جميع ما يتخوف منه لضرر ما، إما في نفسه، أو في عائلته، أو فيما يجير دولته. رابعاً: دولة الجمهورية الفرنساوية تضمن في إجراء المعاهدات الموجودة الآن بين دولة تونس والدول المختلفة الأوروباوية.

خامساً: دولة الجمهورية الفرنساوية تحضر نحو حضرة الباي وزيراً مقيماً بينظر في إجراء هذه المعاهدة، وهو يكون واسطة فيما يتعلق بالدولة الفرنسية، وذوي الأمر والنهي التونسيين، وفي كل الأمور المشتركة بين المملكتين. سادساً: إن النواب السياسيين، والقناصل الفرنسيين في الممالك الخارجية يتوكلون ليحموا أشغال تونس، وأشغال رعيتها، وفي مقابلة هذا، فحضرة الباي يتعهد بأن لا تعقد معاهدة عمومية من غير أن تعلم بها دولة الجمهورية، ومن غير أن يحصل على موافقتها من قبل. سابعاً: دولة الجمهورية الفرنسية، ودولة حضرة الباي أبقوا لأنفسهم الحق في أن يؤسسوا ترتيباً في المالية التونسية؛ ليمكن لهما دفع ما يلزم الدين التونسي العام، وهذا الترتيب يضمن في حقوق أصحاب الدين التونسي. ثامناً: إن غرامة الحرب يغصب عليها القبائل العصاة بالحدود والشطوط، وتفعل دولة الجمهورية مع حضرة الباي فيما بعد شروطاً على كميتها، وكيفية دفعها، ودولة حضرة الباي تضمن في ذلك. تاسعاً: للمدافعة على منع إدخال السلاح والآلات الحربية للمملكة الجزائرية الفرنسية، فدولة باي تونس تتعهد بأن تمنع دخول الأشياء المشار إليها من جزيرة "جربة"، ومرسى "قابس" وسائر المراسي الجنويية في المملكة. عاشراً: إن هذه المعاهدة توضع لدى رضاء دولة الجمهورية الفرنسية، وترجع في أقرب مدة ممكنة لحضرة الباي السامية. حرر في 12 مايو سنة 1881 بالقصر السعيد الإمضاء: محمد الصادق باي، والجنرال بريار

* كيف كان وقع هذا الاحتلال في نفوس الوطنيين: قابل الوطنيون هذا الاحتلال بحزن وجزع بالغين، وقامت بعض المدن والقبائل في وجه جيش الاحتلال، واستمر دفاعهم حيناً، ولكنهم لم يجدوا مدداً يساعدهم على إطالة مدة الحرب، فاستطاع جيش الاحتلال أن يلجئهم بكثرة عدده، وإطلاق مدافعه إلى التسليم. * معاهدة المرسى: رأت فرنسا أن معاهدة "باردو" تسمح لها بأن تبسط نفوذها في كل شأن من الشؤون الداخلية، فعزرتها بمعاهدة ثانية، وقدمتها إلى المرحوم علي باي للتوقيع، وتعريبها: 1 - الفصل الأول: لما كان مراد حضرة الباي المعظم أن يسهل للحكومة الفرنسية إتمام حمايتها، تكفل بإجراء الإصلاحات الإدارية والعدلية والمالية التي ترى الحكومة المشار إليها فائدة في إجرائها. 2 - الفصل الثاني: الحكومة الفرنسية تضمن قرضاً يعقده حضرة الباي المعظم لتحويل، أو لدفع الدين الموحد البالغ 125 مليون فرنك، والدين السائر الذي لا يمكن أن يتجاوز قدره 17550000 فرنك، ولكنها هي التي تختار الزمن والشروط الموافقة لذلك، وقد تعهد حضرة الباي المعظم أن لا يعقد قرضاً في الاستقبال لحساب الإيالة التونسية دون الحكومة الفرنسية. 3 - الفصل الثالث: يأخذ حضرة الباي من مداخيل الإيالة أولاً: المبالغ اللازمة للقيام بمقتضيات القرض الذي تضمنه فرنسا، ثانياً: راتبه السنوي الملكي، وقدره 1200000 فرنك، وما زاد على ذلك يعين بمصاريف إدارة الإيالة ودفع مصاريف الحماية.

4 - الفصل الرابع: هذا الاتفاق يكمل ويثبت المعاهدة المنبرمة في 12 سنة 1882 فيما يحتاج منها إلى التئبيت والتكميل، ولا تغير له التراتيب التي سبق وضعها فيما يتعلق بتقدير الغرامة الحربية. 5 - الفصل الخامس: يعرض هذا العقد على الحكومة الفرنسية لتوقيعه، وتعاد حجة التوقيع إلى حضرة الباي المعظم بما أمكن من السرعة، وإيذاناً بصحة ما تقدم. حرر هذا الرسم، وختمه الموقعان بختمهما، وكتب في المرسى 8 يونية سنة 1883. لا يزيد بسط الكلام في هذا الغرض، وندع البسط إلى مقام أفسح من هذا المقام، وإنما نسوق أمثلة بقدر ما يقتضيه الحال، وعسى أن يلم بها القارئ، فتوقد في نفسه غيرة تهزه إلى العطف على ذلك الشعب، ومؤازرة الساعين بالطرق الحكيمة لأن تعاد إليه حريته، حتى يعيش في كرامة وسلام. الاحتلال ومناصب الحكومة الرئيسية وغير الرئيسية: كان لتونس قبل الاحتلال وزراء من الوطنيين كما أشرنا إليه آنفاً، ولما احتلت فرنسا البلاد، جعلت وزير الخارجية سفيرها "المقيم العام"، وعينت للحربية، والبحرية، والمالية، والزراعة، والتجارة، والأشغال، والبريد، والمعارف رؤساء فرنسيين، ولم تسمح للوطنيين إلا بوزارة الداخلية، ولكنها أحدثت بجانب وزير الداخلية وظيفة "كاتب عام"، ويتقلد هذه الوظيفة فرنسي، ومكتبه بالقرب من مكتب الوزير، ويعرض عليه كل ما هو من اختصاص وزير الداخلية، وله القول الفصل في كل صغير وكبير. وسمحت بعد سنين طويلة بأن يكون وزير العدل وطنياً، ولكنها وضعت

له وكيلاً فرنسياً هو صاحب الرأي النافذ في إدار شؤون هذه الوزارة. ووضعت إدارة المحافظة في أيدي فرنسيين، فرئيس الشرطة، ومراقب الشرطة، والمكلف بالإبعاد والصحافة كلهم فرنسيون. ورضيت بأن يكون رئيس المجلس البلدي وطنياً، ولكنها جعلت له وكيلين فرنسيين، والوكيل الفرنسي في لغة الاحتلال هو الرئيس الذي يملك الرأي دون من سواه. لم تكتف حكومة فرنسا المحتلة بتولي المناصب الرئيسية، حتى ملأت الدوائر الحكومية بصغار الموظفين من الفرنسيين، وأتت إلى المملكة، وقسمتها 18 مديرية، وولت في كل مديرية فرنسياً يدعى: "المراقب"، وهو الذي يسيطر على المديرية كما يشاء. * عدم التسوية بين الوطنيين والفرنسيين في المرتبات: قد تكون وظيفة الفرنسي ووظيفة الوطني متساويتين في الدرجة، متماثلتين في العمل، ويتفاوتان في المرتب تفاوتاً واسعاً، بحيث يزيد مرتب الفرنسي على مرتب الوطني زيادة فاحشة، ونذكر في سنة 1339 بدا لمدير المعارف في ذلك العهد أن يجعل مرتبات الموظفين في إدارته متساوية، لا فرق بين فرنسي وتونسي، بناء على أن الاتحاد في العمل يقتضي ذلك، وأصدر بذلك قراراً أبلغه الوطنيين، ولكن حزب الاستعمار من الفرنسيين، ونوابهم في المجلس الشورى غضبوا لهذا القرار، وأصروا على إلغائه، فلم يكن من إدارة المعارف إلا أن أبطلت هذا القرار قبل إنفاذه. * الاحتلال ومالية الحكومة: تقرر ميزانية تونس بوزارة الخارجية في فرنسا، وترسل إلى تونس

للتنفيذ، وإذا كانت تعرض على المجلس الشوري الذي أحدثته من مدة غير بعيدة، فإن رأيه استشاري فقط، على أن أكثرية أعضائه من الفرنسيين. ويدلكم على أن المالية لا تقرر على مقتضى المصالح الوطنية كما هو الواجب: أنها قررت في ميزانية سنة 1922 منح مليونين من الفرنكات إعانة لإقامة المؤتمر الإفخارستي الكاثوليكي، وحاول بعض أعضاء المجلس مناقشة الحكومة في هذا التبرع، فكان جوابها المنع من المناقشة في هذا الموضوع؛ حيث إن هذه الإعانة مقررة من وزارة الخارجية، فاحتج بعضهم على هذا العمل، ورددت الصحافة التونسية هذا الاحتجاج، فلم تجد أذناً واعية. * الاحتلال وأراضي الدولة: حصرت فرنسا أراضي الحكومة، وأنشأت لها إدارة فرنسية تسمى: "إدارة الفلاحة"، وفوضت إليها بيع هذه الأراضي قطعاً للفرنسيين، فصارت تبيعها لهم، ومقسَّط أثمانها على عشر سنين، وتأبى أن يكون البيع بالمزايدة؛ خشية أن يزاحمهم فيها الوطنيون. * الاحتلال والأوقاف: قررت عدم بيع أراضي الأوقاف بالمزاد العلني، وأذنت لإدارة الفلاحة بشرائها لنفسها بأثمان زهيدة؛ لتوزعها على المعمرين الفرنسيين بأثمان زهيدة كذلك، ولما صنعته في أراضي الحكومة وأراضي الأوقاف أصبح معظم أملاك الحكومة وأراضي الأوقاف ملكاً للفرنسيين. * الاحتلال والقضاء: في تونس محاكم شرعية، وفيها محاكم أهلية تتولى فصل القضايا بين

الوطنيين، وأنشأت فرنسا سنة 1884 م -أي: بعد الاحتلال بنحو ثلاث سنين- محكمة فرنسية للفصل في جميع القضايا التي تقع بين الأوربيين، أو بين الوطنيين والأوربيين، سواء كان الوطنيون مدعين، أو مدعى عليهم، ولهذا المحكمة فروع في نواحي القطر، والحكام في المحكمة الكبرى (التريبونال) وفروعها كلهم فرنسيون، ويسميهم رئيس الجمهورية الفرنسية، ويحكمون بقوانين فرنسية، وباسم الدولة الفرنسية. * الاحتلال والجندية التونسية: لما احتلت فرنسا تونس، ألغت المدرسة الحربية التي أسسها المشير أحمد باي، ولم تمكن الحكومة التونسية من أن ترسل طلاباً إلى فرنسا أو غيرها لتلقي فنون الحرب، ولهذا لا يوجد في الجنود الوطنيين متعلم في مدرسة حربية، ولا يتجاوز التونسي رتبة "يوزباشي". استمر التجنيد في تونس، وأخذت حكومة الاحتلال تضم الجنود التونسيين إلى الجيش الفرنسي الذي هو تحت إمرة قائد الاحتلال، وإنما تركوا للباي بضع مئات من الجنود التونسية يسمون: "الحرس الملكي". ولا تبالي الحكومة أن تسوق الجنود التونسيين إلى حروب خارج المملكة التونسية، كما أرسلت منهم فرقاً إلى "مدغشكر" سنة 1895 ميلادية، وأرسلت قسماً منهم إلى "التونكين" على حدود "يونان فو" بالصين، وساقت فرقاً منهم إلى محاربة الألمان في الحرب الماضية. * الاحتلال والتعليم الديني والمدني: عرفت فيما أسلفنا أن وزير المعارف في تونس فرنسي، ولهذا الوزير التصرف المطلق في التعليم العام والفنون المستظرفة، فإليه يرجع النظر في

جميع المعاهد العلمية، ومديرو المدارس الحكومية كلهم فرنسيون؛ كالمدرسة الصادقية، والمدرسة العلوية، والمدرسة العليا للآداب العربية. وتعمل حكومة الاحتلال على تضييق دائرة التعليم ما استطاعت، فلا يوجد في المملكة كلية للطب، ولا كلية للهندسة، ولا مدرسة للصنائع أو الكيمياء أو الطبيعيات، ولا يبرع من التونسسين في علم من هذه العلوم إلا الذين يرحلون إلى أوريا، ويحوزون على الشهادة العليا من إحدى جامعاتها، ومن العجب أن تكون المدارس القرانية الأهلية تابعة لوزير المعارف، وهو فرنسي، وقرأنا في جريدة "مرشد الأمة"، وهي جريدة تصدر بتونس: أن أهل "باجة" طلبوا رخصة فتح مدرسة قرآنية، فأجابهم ذلك الوزير بالحرمان. وبقي جامع الزيتونة قرينُ الجامع الأزهر مدة بعد الاحتلال تابعاً في إدارته إلى وزير المعارف الفرنسي، ثم ألحقوه بوزارة الداخلية، ولا بد من عرض شؤونه على الكاتب العام، ووزارة الداخلية والكتابة العامة متحدان في الأعمال. * الاحتلال وحرية الصحافة: في تونس صحف عربية، ولكنها لا تملك من الحرية ما تملكه صحف الجالية الفرنسية بتونس، وقد انتقد المرحوم محمد بك فريد في رحلته التونسية الضغط على الصحافة العربية هنالك، وجاهر بذلك (المسيو بادو) وكيل الكاتب العام، فأجابه: "بأن الأهالي شديدو الحمية والشكيمة، ولو أطلق لهم عنان حرية الجرائد، لثاروا، وقاموا في وجه الحكومة الفرنسية". * الاحتلال واللغة العربية: لغة الكتابة في القطر العربية الفصحى، ولغة التخاطب هي العربية مشوبة

بانحراف كما وقع لغيرها من اللهجات العربية الحاضرة، ولكن حكومة الاحتلال هضمت حق اللغة العربية؛ إذ جعلت حظها في التعليم بمدارس الحكومة دون حظ اللغة الفرنسية، وجعلت الفرنسية كاللغة العربية لغة رسمية، وجرت على أن لا يقبل في إدارة البريد برقية إلا أن تكون مكتوبة باللغة الفرنسية. * مجلس الشورى في تونس: أنشأت فرنسا بتونس سنة (1325 هـ - 1905 م) مجلساً شورياً للنظر في مصروفات الدولة، ويتألف هذا المجلس من فرنسيين وتونسيين، والأعضاء الفرنسيون 56، والأعضاء التونسيون 41، من بينهم 7 من اليهود، وآراء هذا المجلس استشارية فقط، لا تتقيد بها الحكومة، واستثنت من هذا فصولاً من المالية لا تعرض على هذا المجلس؛ كمصروفات الدَّين التونسي، ومرتب الوزير المقيم وأعوانه، ومصاريف العدلية الفرنسية التونسية، ومصاريف الأمن العام. * غطرسة المعمرين واحتقارهم للوطنيين: يرى أولئك المعمرون أنهم أرفع من الوطنيين في الإنسانية درجات، ويعاملونهم معاملة السادة للخدم، وتأبى هذه الغطرسة إلا أن تظهر في أقوالهم وأعمالهم؛ كأنهم يفهمون أن الاحتلال لا يقف على أقدام راسخة، ولا يملكون به السيادة المطلقة، إلا إذا أشعروا الوطني بأنه في منزلة محتقرة؛ حتى لا يطمع في أن يقف بجانبهم موقف الأنسان من أخيه الإنسان، وأسوق مثلاً على هذا: أن الحكومة عندما أنشأت مجلس الشورى الذي أسلفنا الحديث عنه، أظهر هؤلاء المعمرون -وهم أغلب أعضاء هذا المجلس- نفوراً من أن يجتمعوا

مع الأعضاء الوطنيين في قاعة واحدة، ويتبادلون الرأي وجهاً لوجه، فبعثوا وفداً منهم إلى "باريز" ليبلغ حكومتهم استياءهم من أن يجلسوا مع الوطنيين في مكان واحد، بل طلبوا إلغاء مشاركة الوطنيين لهم في الشورى، ولكن المقيم العام بتونس أراد تخفيف ثورتهم، فقسم الاعضاء قسمين: معمرين، ووطنيين، وخصص لكل قسم مكاناً، وأقام حاجزاً بين مقاعد المستعمرين والوطنيين. وأذكر أن (مسيو بارجو) وكيل الدولة في المملكة الفرنسية بتونس، قال وهو يدافع في قضية اعتدى فيها أحد المعمرين على وطني: "إن هؤلاء المعمرين قد لوثوا بجريمتهم سياسة فرنسا، ودنسوا وجهها الجميل، وأسقطوا سمعتها بين الأقوام الذين أتينا لحمايتهم". * الاحتلال والتجنس بالجنسية الفرنسية: ليس الوطنيون في نظر الحكومة المحتلة بأهل لأن يمنحوا الحرية التي يتمتع بها الفرنسيون، ولكنها فتحت باب التجنس بالجنسية الفرنسية على أن يكون للمتجنس الحقوق التي يتمتع بها الفرنسي الأصل، فعلت هذا ترغيباً للوطنيين في الخروج عن قوميتهم العربية إلى الجنسية الفرنسية، ولكن الوطنيين المسلمين أدركوا أن هذا التجنس يسلخهم من دينهم، ويطعن في قوميتهم ووطنيتهم، فأحجموا عنه إلا نفراً قليلاً استهوتهم منافعه العاجلة، فأثاروا سخط الأمة عليهم، وصارت تنظر إليهم بإنكار وازدراء، وأصرت على أن لا يدفنوا في مقابرها حتى اضطرت الحكومة، ورسمت لهم مقبرة خاصة بهم. * الاحتلال وجرح عواطف الوطنيين الدينية: معلوم أن الحكومة الفرنسية لا دينية، ولكنها تعمل في البلاد المحتلة

كحكومة مصبوغة بالمسيحية الكاثوليكية، وأذكر أن مناقشة جرت بالبرلمان الفرنسي في فصول من الميزانية الفرنسية تتضمن العناية بجمعيات التبشير، فقام وزير الخارجية، وقال ما معناه: "إن فرنسا غير متدينة داخل حدودها، وإنها متدينة في الخارج". والوطنيون لا يأخذون على فرنسا أن تكون مصبوغة بالمسيحية خارج بلادها، وإنما ينكرون عليها إجراءات تتحيز فيها للمبشرين، وتجرح بها إحساس المسلمين، أو تهضم بها حقاً من حقوقهم، ومثال هذا: أنها نصبت في أشهر ميدان من ميادين العاصمة تمثالاً للكردينال "لا فيجري" شاهراً صليبه، رافعاً إياه فوق رؤوس المارين من العرب المسلمين، ومثال آخر: هو أنها عينت بالمؤتمر الإفخارستي الكاثوليكي الذي قام في تونس سنة 1930، وساعدته بمليوني فرنك من خزينة الحكومة التونسية، علاوة على ما أرصدته إدارة الأشغال العامة للإنفاق على رصف الطرقات، ونصب المظلات للوافدين بمكان انعقاد المؤتمر. * جهاد التونسيين في سبيل قضيتهم: لم يغمض التونسيون أعينهم عن سالف مجدهم، ويستلموا استسلام الشعب الميت لما يلاقونه من عهد الاحتلال من عسف، بل كانوا يقابلون ذلك بالغضب والإنكار بما استطاعوا، ولهم في جهادهم مواقف حفظها التاريخ، وكم قاموا بمظاهرات تعرضوا بها للنار والحديد، وابتلوا بالاعتقال والسجن والإبعاد إلى أطراف القطر وخارجه، وكانوا يحتملون ذلك الأذى، ويتلقونه بالتجلد والتصميم على العمل لخير وطنهم. ولا أطيل الكلام بسرد الوقائع في هذا الغرض، وأقتصر على حديث

الحزب الدستوري ومطالبه الشاهدة بصدق ما وصفنا به الحكم في عهد الاحتلال. في سنة (1329 هـ -1919 م) تألف الحزب الحر الدستوري، وقام هذا الحزب بمطالب قدمها إلى جلالة الملك، والسفير الفرنسي، يقصد بها تخفيف وطأة الاحتلال، وهي أقصى ما يمكن أن تطالب به أمة يحيط بها استبداد دولة قوية من كل ناحية، ونص هذه المطالب: 1 - المادة الأولى: مجلس تفاوضي يتألف على التساوي من نواب تونسيين وفرنسيين معينين بالانتخاب العام، يملك حق عرض المسائل على المفاوضة، وله سلطة مالية غير محدودة. 2 - المادة الثانية: مسؤولية الحكومة أمام هذا المجلس. 3 - المادة الثالثة: التفريق بين السلط: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. 4 - المادة الرابعة: قبول التونسيين في كل الوظائف الإدارية بشرط الكفاءة. 5 - المادة الخامسة: المساواة التامة في مرتبات الموظفين الذين يشغلون منصباً واحداً بدون ميز. 6 - المادة السادسة: تشكيل مجالس بلدية بالانتخاب العام في كافة مدن المملكة. 7 - المادة السابعة: حرية الصحافة والاجتماعات والمؤسسات. 8 - المادة الثامنة: التعليم الإجباري. 9 - المادة التاسعة: مشاركة التونسيين في شراء أراضي الاستعمار وأملاك الدولة. ورأت فرنسا أن هذه المطالب ما يخالف شروط الحماية؛ حيث إن

العميد أجاب الوفد الذي قدم له المطالب بجواب جاء فيه: "إن كلمة دستور التي تعودتم استعمالها، ربما يكون تفسيرها بمرادفها الفرنسي منافياً لأصول الحماية المؤسسة طبق معاهدات وقعت بين سمو الباي والحكومة الجمهورية، وذلك يؤدي إلى وجود مجلس أمة وحكومة مسؤولة أمامه، وهذان الأمران يخالفان المعاهدات الموجودة بين الدولتين". وما زالت الحركات السياسية الوطنية في تونس تنهض مرة بعد أخرى، وتردد مطالبها على آذان الحكومة، وتعقد مظاهرات، وتقدم احتجاجات عند كل تشريع أو تصرف يجحف بحقوق الأمة، حتى غشيتها هذه الحرب القائمة، فوقف زعماء تلك الحركات يرتقبون عواقبها، ويرجون انتصار الحرية على الاستبداد، والعدل على الجور، ورأوا الظروف في هذه الأيام مساعدة على مواصلة السعي، فقاموا يجاهدون في سبيل قضيتهم، وما هي إلا أن تنال تلك البلاد حقوقها كاملة. * أهداف هذه المذكرة: تذكر الرابطة دول الحلفاء الذين قرروا في ميثاق الأطلنطي إنقاذ الشعوب الواقعة تحت وطأة الاستبداد، بأن تونس من الشعوب التي اعترفت الدول من قبل باستقلالها، كما وقع في مؤتمر "أيلس لا شابيل" الذي انعقد في بلجيك سنة 1810 م، وهي اليوم تقاسي من صنوف الاضطهاد والحرمان من الحقوق الضرورية لحياتها السياسية والاجتماعية ما تذوب له القلوب كمداً وحسرة. وتذكرة الرابطة دول الاتحاد العربي بأن تونس عربية شعباً وحكومة، فلا فرق بينها وبين العراق وسوريا وفلسطين وغيرها من البلاد العربية في

جنسيتها العربية، وثقافتها التي تؤهلها لأن تقف في صفوفهم، وتكون لبنة في بناء اتحادهم. وتذكر الرابطة حكومة فرنسا الحرة بأن الشعوب المغلوبة على أمرها، قد انتقلت إلى طور جديد، واتجهت إلى الجهاد في حريتها بتصميم، فإن أراد الفرنسيون الأحرار أن يكونوا براء من تبعة ما سردناه من الحقائق في تصوير حال الشعب التونسي في عهد الاحتلال، فلينظروا إلى تونس بالمرآة الصافية، ويقدروا ما يشهدونه فيها من كفاية لأن تدير شؤونها بنفسها، فقد حظيت باستقلالها شعوب ليست بأفضل منها مدنية، ولا أرقى ثقافة، ولا أدرى بمذاهب السياسة.

سالم بوحاجب آية من آيات العبقرية

سَالم بوحَاجب آيَة من آيَات العبقريّة (¬1) نعت إلينا الصحف التونسية فضيلة أستاذنا الشيخ سالم أبي حاجب واسطة عقد العلماء، ورئيس المحكمة الشرعية المالكية بالديار التونسية، فكان نعيه لدى العارفين بمقامه الأسنى كقبس من نار تذوب له القلوب لوعة، وتتساقط له العبرات أسفاً. كان الفقيد -رحمه الله- آية من آيات العبقرية، وأحد العلماء الذين لا تجود بهم يد الأيام إلا في أوقات معدودة، فلا جرم أن أنثر على بساط هذا الاحتفال الجامع شذراً من آثار حياته الزاهرة خدمة للعلم والأدب والتاريخ، وإنَّ في سيرة العظماء من الرجال لعبرة لأولي الألباب. ¬

_ (¬1) مجلة "المنار"- الجزء السادس من المجلد الخامس والعشرين (ص 475) وما بعدها. القاهرة. قدمت المجلة كلمة الإمام محمد الخضر حسين بقولها: أقام طلاب العلم من جاليات شمال أفريقية حفلة بالجامع الأزهر مساء يوم الاثنين الحادي عشر من الشهر الجاري؛ لتأبين الماسوف عليه الأستاذ الكبير الشيخ سالم أبي حاجب مفتي الديار التونسية. افتتحت الحفلة بقراءة آيات من الذكر الحكيم، ثم قام محرر هذا المقال، وألقى خطبة في نشأة الفقيد، ومواهبه السامية، وعلمه الغزير.

ولد الفقيد حوالي سنة 1244 بقرية من قرى الساحل تسمى: "بنبلة"، ثم ارتحل منها عندما بلغ سن التعليم إلى حاضرة تونس لتلقي العلم بجامع الزيتونة الأعظم، ولم يلبث أن سطع بين جدران ذلك المعهد شعاع ألمعيته ونبوغه، وصلاحيته في أندية العلم والأدب، ولا سيما إذ كانت له في صناعة القريض براعة فائقة، وفي نقده الشعر ذوق لا يقل عن ذوق العربي الصميم. ترقى الفقيد في مدارج العلم حتى تقلد وظيفة التدريس بالمعهد الزيتوني، درس من علوم الشريعة والعربية كتباً عالية؛ مثل "شرح العضد على مختصر ابن الحاجب"، و"شرح القسطلاني على صحيح الإمام البخاري"، و"الشرح المطول للسعد التفتازاني". وكان يجلس لدرس هذه الكتب وغيرها على منصة التحقيق، ويخوض عبابها بنظر مستقل، وينطق فيها بلهجة مجتهد نحرير، فلا ينتهي من تقرير موضوع إلا بعد أن يعقد لما يجري فيه من الخلاف محاكمة يدخل إلى القول الفصل فيها من باب الحرية والإنصاف. ولِما وضع في فطرته من حبِّ البحث، والغوص في أغوار المسائل، كان يتلقى أسئلة التلاميذ في الدرس بصدر رحب، وكثيراً ما يغمر الباحث النجيب بعبارات الثناء؛ تشجيعاً له على البحث، وأخذاً بيده إلى أن يسير مع أصحاب الآراء والمؤلفين على مقتضى حكمة من يقول: "هم رجال، ونحن رجال". ولعلمه الراسخ، وعبقريته البارزة، كان بعض أقرأنه مثل: الأستاذ الشيخ مصطفى رضوان يقرر في درسه عازياً شيئاً من الأفهام التي انفرد بتحقيقها، وكثيراً ما يورد الفقيد في مجالسه أو دروسه في صدد الاستشهاد على بعض المعاني اللغوية عبارة "القاموس" بنصها، حتى ظن كثير من أهل العلم أنه يحفظه

على ظهر قلب. وأغلب مسائل "الشرح المطول"، و"المغني" لابن هشام، و "شرح السيد على المفتاح"، و "شرح الدماميني على التسهيل". تجري على طرف لسانه مهما تدعو الحاجة إلى الاستشهاد بشيء منها. ولم يكن الأستاذ ممن يسارع إلى الاعتقاد بصدق من يخرج في زي المجذوبين، أو يدعي أنه من أرباب الولاية والكرامة، وظهر منه هذا الخلق في مجلس بعض رجال الدولة، فقالماله: اعتقد ولا تنتقد. فقال الأستاذ: ليس الاعتقاد مما تعتنقه النفس بمجرد الاختيار، وإنما هو من قبيل العلم الذي لا يرتسم فيها إلا بمؤثر من حجة وبرهان. وكان يحارب الخرافات، والاَراء السخيفة، والأقوال المسندة إلى الشريعة بمجرد الدعوى، أو بأحاديث غير ثابتة، وكان يبدي رأيه بكل صراحة، وإن صادم المعروف بين شيوخ عصره؛ كإنكاره لوجود جبل قاف، ومشاهدة الجن بعين الباصرة، ويرى أن ما يزعم من ذلك إنما هو من قبيل تأثير الخيال. أحرز الفقيد بين رجال الدولة مكانة إكبار وإجلال، وانتظم له هذا الأقبال إذ كان من أولي النظر الواسع في شؤون الاجتماع، وما تقتضيه المدنية الراقية، وكذلك كانت دروسه في علوم الشريعة مملوءة بالبحث عن أسرارها من حيث المطابقة لما تستدعيه مصالح الشعوب. ومن هذا الوجه كان للأستاذ حياتان: علمية، وسياسية، فاتخذه الوزير خير الدين باشا من مساعديه في تنظيم التعليم، وإصلاح الإدارة قبل الاحتلال، وتقلد وظيفة العمل بإدارة المال، مضافة إلى وظيفة التدريس بجامع الزيتونة. سافر الأستاذ إلى إيطاليا مبعوثاً من طرف الحكومة التونسية قبل الاحتلال؛

لينوب عنها في قضية أقامتها على ورثة أحد قابضي أموالها المدعو "نسيم"، وأقام هنالك زمناً واسعاً، التقى فيه خلاله بكثير من علمائها، ودارت بينه وبينهم محاورات علمية، وكانوا يلقون عليه أسئلة فيما يشكل عليهم من بعض الأحكام الإسلامية، فيذهب في الجواب عنها إلى طريق النظر الفلسفي، حتى تقع أجوبته لديهم موقع القبول والتسليم. وكان الأستاذ يقول: إن هذه الرحلة مجموعة عنده في كتاب. وقصّ علينا أنه دخل إلى بعض المكاتب الحاوية لكتب عربية، فتناول كتاباً منها، فكان أول جملة وقع عليها بصره: "كان العرب إذا خطبهم لاعب الشطرنج، منعوه، وقالوا: إنه ضرة ثانية": وفي هذه الرحلة بعمث الأستاذ بصورة فتوغرافية إلى الوزير محمد البكوش، وكتب عليها من نظمه: لما شكتْ شحطَ النوى روحي التي ... أبقيتها عند الأَحبَّةِ بالوطنْ أرسلتُ تمثالي لها بوّاً عسى ... تسلو فلا تبغي التحاقاً بالبدنْ وسافر الفقيد رفيقاً للوزير خير الدين باشا إلى الآستانة، وامتدح السلطان العثماني بقصيدة، فأمر بمكافأته عليها بوسام، فأبى، وقال للمرسل من جانب السلطان: إن حمل الوسام مما لا يرغب فيه أهل العلم ببلادنا، بل يرونه بحكم العادة مزرياً بمقامهم. وكان يلقي في شهر رمضان من كل سنة درساً من "صحيح البخاري" بجامع (سبحان الله) ودرساً من كتاب "الموطأ" في المدرسة المنتصرية، ويشهدهما صاحب المملكة التونسية سمو الباي وكبير الوزراء في مجمع حافل من أعيان العلماء، وتجري فيهما مباحثات من أقران الأستاذ، أو نجباء تلاميذه، وقد يورد بعض الأبحاث الأمير نفسه متى كان من رجال العلم؛ مثل: المغفور

له الناصر باي، وهذه الدروس التي كان يلقيها الفقيد بعناية، لا تزال محفوظة، إذ كان يحررها كتابة قبل يومها المشهود. واشتهر بالفلسفة في العلوم الإسلامية، فكان مورد المستشرقين، ومن تشتد عنايتهم للاطلاع على حقائق الإسلام من فرنسيين وغيرهم، فيجاذبهم أطراف المحاورة بنفس مطمئنة، وأدب جميل. وكان يقوم بالخطابة والإمامة بالجامع المعروف بجامع (سبحان الله)، ويلقي خطباً يراعي في إنشائها ما تستدعيه حال الزمان والمكان. ومما ابتكره في الخطابة: أنه كان يعمد إلى ما يرد في الخطبة من حديث أو آية يسبق إلى ظنه أنه بعيد الماخذ من أفهام السامعين، فيشرحه بعبارات يصوغها على طريقة بيانه في التدريس، وقد ظهر قسم من هذه الخطب مطبوعاً في تونس منذ ثلاث عشرة سنة. وكان يشد أزر القائمين على بعض الأعمال الإصلاحية، وكان النشء الناهض يلتف حوله، ولهذا انتخبوه للخطابة في حفلة افتتاح المدرسة الخلدونية التي تعد شعبة من جامع الزيتونة لدراسة العلوم الرياضية والطبيعية والتاريخ. وأذكر أني كنت أنشأت مجلة علمية أدبية تسمى: "السعادة العظمى"، فتحركت بعض النفوس الخاملة لكتم أنفاسها، فقال لي الأستاذ حال انصرافنا من درس "صحيح البخاري": لا تعباً بما يلقيه هؤلاء في سبيل عملك، وتأس بالنبي - عليه الصلاة والسلام - إذ قال له ورقة بن نوفل: لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي. وكان للفقيد عاطفة أدبية تسمو به إلى الاحتفاء بالعلماء الوافدين على الحاضرة، ويذل المستطاع في مجاملتهم. زار فيلسوف الإسلام الأستاذ الشيخ

محمد عبده البلاد التونسية سنة 1321، ونزل ضيفاً مكرماً في بيت حضرة السيد خليل أبي حاجب نجل الفقيد، وهو اليوم وكيل وزير الداخلية بتونس، فعرف الفقيد فضل الأستاذ الشيخ محمد عبده، وكان يقضي جلّ أوقاته في مؤانسته ومذاكرته العلمية أو الأدبية أو الإصلاحية. وورد عالم الجريد الشيخ إبراهيم أبو علاق الحاضرة، وأتى درس الفقيد بجامع الزيتونة، ولم تنعقد صلة التعارف بينهما بعد، فأخذ يناقش الأستاذ في المبحث الذي كان بصدد تقويره، ولما طال أمد المناقشة، ووقع في ظنّ الفقيد أن ليس الغرض منها طلب الحقيقة، بدرت منه كلمة كبرت على مسمع الشيخ أبي علاق، فانصرف عن الدرس وقال: تقاصرتُ مذ أبدى التطاولَ سالمٌ ... وسالَمتُ والقاصي المكان يُسالمُ ولما وصل نبأ هذا البيت إلى مجلس الفقيد، نهض في الحال للقاء الشيخ أبي علاق، فاسترضاه، وخطب مودته، ودامت بينهما الصداقة المحكمة. وتحلى الفقيد بآداب راقية؛ مثل: التواضع، والحلم، والصراحة، فازداد شرفاً على شرف العبقرية، وانجذبت لا القلوب بعاطفة المحبة بعد امتلائها بمهابته وإجلاله، حتى إذا حضر مجتمعاً خاصاً أو عاماً، مسك بعنان المجلس، وأخذ ينشر على أسماع الحاضرين من غرائب المسائل ولطائف الأدب ما يخيل إليهم ئنهم في جنة عالية، لا تسمع فيها لاغية، وكنا نرى أهل العلم والأدب يقصدون في الاحتفالات الجامعة إلى أن تكون مجالسهم بمقربة من مجلس الفقيد؛ حرصاً على اقتباس أدب مؤنس، أو اقتناص علم غريب. وانفود بين علماء جامع الزيتونة بأنه كان يتزيا في لباسه بزي علماء

الشرق؛ أي: يلبس القفطان والجبة المفتوحة من أمام، ويضع عليهما البرنس، ولم يكن يلتزم تقاليد أهل العلم وذوي المناصب الشرعية في بلاده، حتى إنه كان يلبس الجزمة أيام كان لبس أهل العلم لها شيئاً نكراً، ويتجول في بعض المتنزهات العامة راجلاً، وغيره من ذوي المناصب العالية لا يغشونها إلا مروراً في عرباتهم. وكانت له عند افتتاح الكلام عقدة خفيفة لذيذة على السمع، حتى إذا انطلق لسانه في التقرير، سمعت العربية الفصحى، ولهجة تتسوغها الأسماع بارتياح وإعجاب. ومن المعروف عن الأستاذ: أنه كان يطمح إلى طول الحياة، ويمثل حركة الساعة الميقاتية بحسيس الأرَضَة في كلها من عمر الإنسان، وينقل عنه في تعليل عدم حمله للساعة: أنه يكره أن يسمع أو يرى آلة تذكره كيف تنقضي حياته العزيزة شيئاً فشيئاً. هذا ما أجده في الذاكرة من مآثر حياة الأستاذ الذي فارقته -وبودي لا أفارقه- برحلتي الى بلاد الشرق سنة 1331، وقد ناهز التسعين من عمره. اهـ. * عِلاوة: حكى الأستاذ: أن أحد الباشاوات من قواد الجند بالآستانة دعاه إلى منزله في طائفة من أهل العلم، ومما دار بينهم في المذكرة: أن صاحب المنزل سأله عن حكم تعلم الجغرافية، فقال له: إن تعلمها من فروض الكفاية. قال الأستاذ: فالتفت ذلك الباشا الى أحد الفقهاء بالمجلس، وقال له: لماذا كنت تقول في: ان تعلمها حرام؟ فأقبل ذلك الفقيه على الأستاذ وقال له:

ما دليلك على ما تقول من أن تعلم الجغرافية من الواجبات؟ قال: فلم أرد أن أطيل الحديث في الاستدلال بمثل قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، واخترت أن أورد كلمة تكون أقرب إلى فهم السائل، فقلت موجهاً الخطاب لصاحب المنزل: إذا صدرت إرادة السلطان، يأمرك أن تسير بقسم من الجيش إلى بعض بلاد العدو، وكنت تجهل المسافة التي بينك وبين ذلك البلد، ثم لم تكن على خبرة مما يوجد في تلك النواحي من ضروريات حياة الجند وما لا يوجد، فإنك بلا ريب تذهب على غير هدى، ولا تأمن أن يقع الجيش في تهلكة. فوقع الجواب من نفس الباشا موقع الارتياح والقبول. وفيما حكى الأستاذ من هذه المحاورات: أن أحد المستشرقين سأله عن الوجه في إباحة الإسلام تزوج المسلم بالكتابية من مسيحية أو إسرائيلية، ومنعه المسلمة من أن تتزوج مسيحياً أو إسرائيلياً. وقال السائل: ما هذا الحكم إلا ضرب من التعصب في الدين! فأجابه الأستاذ: بأنه حكم قائم على حكمة عمرانية بالغة، وهي أن النكاح يقصد به التعاون على مرافق الحياة، وهذا الغرض لا يتحقق إلا مع التآلف، وانتظام حلّة المعاشرة، ومن المعروف أن المسلم يؤمن بالرسول الذي تؤمن به الكتابية، ويعتقد بصحة دينها في الجملة، فلا يتوقع أن يصدر منه ما يجرح إحساسها، ويكدر صفو المعاشرة بينهما، وأما الكتابي غير المسلم، فإنه لعدم إيمانه بصحة الإسلام وصدق الرسول الذي جاء بشريعته، قد يؤذي المسلمة بما يقذفه من كلمات يطعن بها في أصل دينها، أو ينال بها من كرامة الرسول الذي تعتنق شريعته. وحكى لنا الفقيد: أن الأستاذ الشيخ محمد عبده تكلم على ضرورة

الاجتهاد في الأحكام الشرعية، حتى قال: ينبغي إهمال كتب الفقهاء وإتلافها بالإحراق. قال: فقلت له: لا بأس بإبقائها والاستعانة بها؛ لأنها لا تخلو من فوائد. فقال لي: فلتبق.

21 - من أوراق ومذكرات الإمام محمد الخضر حسين

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (21) «مِنْ أورَاقِ وَمُذَكَّرَاتِ الإمام مُحمد الخَضِر حُسَين» " رَسَائِلُ الخَضِر" للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة " من مذكرات وأوراق الإمام محمد الخضر حسين" -رضوان الله عليه- أضع بين يدي الباحث والقارئ بعضاً من رسائله التي عثرت عليها بعد بحث وجهد. كان الإمام -رضوان الله عليه- مقلاً غيرَ مكثر في رسائله، فلم يراسل إلا أشخاصاً معينين تربطه بهم صلة قربى، أو صداقة ترقى إلى مرتبة تدنو من الأخوة، أو الأخوة ذاتها عند بعض الأصحاب الذين قرؤوا معاً في جامع الزيتونة، ونهلوا من معين العلوم ونبعها الصافي كؤوس المعرفة الخالصة. لما باشرت في جمع أوراقه ورسائله، لم أعثر بادئ ذي بدء إلا على وريقات متناثرة بين كتب ومخطوطات العم المرحوم محمد المكي بن الحسين في تونس، وسعدت بها سعادة الظامئ وقد ابتلت شفتاه بقطرات من الماء الفرات، وقلت: حمداً لله على نعمائه، وفرزتها في مغلف خاص منتظراً المزيد منها. ثم جاءتني صور من رسائل أخرى زودني بها الأخ الدكتور عياض عاشور حفيد وابن العالمين افي جلين محمد الطاهر بن عاشور، ومحمد الفاضل بن عاشور. كما أكرمني الأخ العلامة المفضال الشيخ محمد الشاذلي النيفر -حفظه الله- بتقديم ما لديه من رسائل الإمام إلى الشيخ محمد الصادق النيفر.

لا شك عندي أن رسائل الإمام أكثر مما يضمه هذا الكتاب، فأصدقاؤه في أنحاء العالم الإسلامي متتشرون، ومحبوه أكثر من أن يحصون، ولكن تعذر عليَّ الإحاطة بها، والوصول إلى من قد تقبع في مكتبته، وسألتُ وخاطبتُ كل من عرفت عن تلك الرسائل، فلم أسعف إلا بالذي طربت بجمعه وتقديمه. لم يكن الإمام يحتفظ بصور عن رسائله، فكان يخطها بيده الكريمة، ويبعث بها إلى المرسل إليه وحيدة فريدة. قلت: إن الإمام كان مقلاً في رسائله، فقد بنيت هذا القول على ندرة الخطابات التي كانت ترد من الإمام في القاهرة إلى شقيقه سيدي الوالد زين العابدين بن الحسين -رضوان الله عليه- في دمشق، وأذكر أن الرسالة تطل مرة أو مرتين في العام الواحد، ويكون الوالد في عيد خلال قراءتها رغم اختصارها في سطور قد لا تتجاوز أصابع الكفين، ولا تتعدى في مضمونها المجاملة التي اعتاد عليها الأهل في رسائلهم حول الصحة والاطمئنان على الأسرة، وذكر المهم من الأسماء التي يعنيها المرسل بتحيته وشوقه. بين أيدينا بعض رسائل الإمام، التي حفظها الزمن، ولم تعبث بها عاديات الإهمال، فإذا ما طرحناها تحت نظر الباحث، نجدها محاطة بعدة ملاحظات: أولها: توخينا من نشرها على الناس الفائدة العلمية التي يتطلع إليها الفقيه والمؤرخ والأديب والباحث والدارس، وفيها أسماء كتبٍ وتواريخ حوادثَ، وأحداثٌ وأخبارٌ، وأعلام لها نفع كبير في إصدارها ضمن كتاب. ثانيها: من الأمانة في العلم القول: إنني قد صرفت النظر عن بعض رسائله الخاصة جداً التى تتعلق بشؤون لا فائدة من وراء إعلانها.

ثالثها: أوردت الرسائل بنصها الكامل دون أي حذف، ولو كلمة واحدة، ورتبتها حسب تواريخ تحرير الإمام لها. وفي الرسائل الخالية من تاريخ خطها -وهي قليلة جداً- استخرجت من مضمونها ما يشير إلى تاريخها على وجه التقريب، وقد أشرت إليه في الحاشية. وفي حال تعذر ذلك جعلتها في آخر الكتاب. رابعها: ذكرت شرحاً مقتضباً للأعلام المذكورين في الرسائل؛ ليكون المطلع عليها عارفاً بهم. كما عرّفت بالأسماء والكتب والعناوين والأماكن والوقائع باختصار، ولم أشر إلى القليل النادر مما لم أعثر على ترجمة أو تعريف به. خامسها: إذا حصلت على المزيد من رسائل الإمام، فإني أعد -إن شاء الله تعالى- بنشرها مستقبلاً. وأدعو الله -سبحانه وتعالى- أن يتقبل أعمالنا خالصة لخدمة الإسلام. علي الرّضا الحسيني

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور (¬1) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فضيلة العلامة النحرير (¬2)، ومجد الإسلام الذي هو بعلاجه بصير، الأستاذ صديقي الوحيد الشيخ سيدي محمد الطاهر بن عاشور (¬3)، أيَّده الله تعالى. ¬

_ (¬1) هذه أول رسالة بين الأخوين الإمامين: محمد الخضر حسين، ومحمد الطاهر بن عاشور، وصداقتهما حديث المجالس والناس بصفائها وصدق مشاعرها. بعث بها من مدينة "بنزرت" عندما كان قاضياً فيها سنة (1323 هـ - 1905 م) إلى صديقه في مدينة تونس. والرسالة خالية من ذكر السنة التي حررت فيها، وإذا كانت خطبة قضاء الإمام سنة 1323 هـ، فتكون هي سنة التحرير. (¬2) الحاذق الماهر العاقل المجرب المتقن الفطن البصير بكل شيء لأنه ينحر العلم نحراً. (¬3) محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، إمام تونس، فقيه لغوي أديب مؤرخ، (1296 - 1394 هـ = 1879 - 1973 م)، تلقى العلم بجامع الزيتونة على يد كبار الشيوخ، منهم: صالح الشريف، وسالم بو حاجب، وإبراهيم المارغني، وعمر بن الشيخ، ومحمد النجار، ومحمد النخلي، وأحرز على شهادة التطويع سنة (1317 هـ - 1896 م)، عمل مدرساً في الجامع الأعظم سنة (1324 هـ - 1903 م)، وقاضياً مالكياً. وسمي: شيخ الإسلام المالكي، سنة (1351 هـ - 1932 م)؛ كما سمي شيخنا لجامع الزيتونة وفروعه سنة (1364 هـ - 1944 م). =

تحية كاملة، وتشوقاً مفرطاً، ورد عليَّ مكتويكم يشفّ عن مودة شريفة الغاية، طاهرة الذمة، بعد أن قلبت وجه الانتظار إليه ليالي وأياماً. ثبطني (¬1) عن مكاتبكم أيها الصديق قبل وروده -مع قوة الباعث على الأخذ بأطراف الأحاديث بيننا- ما هتف على خاطري من أنها ربما قصرت بها الأهمية أن تطأ موطئاً ينال من الالتفات نيلاً. علّك أيها النقّاد تعلق على هذا الاعتذار ملاماً أطول باعاً مما قبله مما يلوح على ظاهره من مبدأ سوء ¬

_ = ويقول فيه الإمام محمد الخضر حسين: "وللأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان، ويضيف إلى غزارة العلم وقوة النظر: صفاء الذوق، وسعة الاطلاع في آداب اللغة .... وبالإجمال ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه، وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم". سافر لأداء فريضة الحج، وزار المشرق وأوروبا، وشارك في مؤتمر المستشرقين سنة 1951 بإستنبول. زار دارنا في دمشق عام 1951 م، وسعدت برؤياه، وألقيت بين يديه قصيدة. من مؤلفاته: التحرير والتنور، بالتفسير، في ثلانين مجلداً - أصول الإنشاء والخطابة - أليس الصبح بقريب - قصة المولد النبوي الشريف - مقاصد الشريعة الإسلامية - شرح قصيدة الأعشى في مدح المحلق - الوقف وأثره في الإسلام - النظام الاجتماعي في الاسلام - التوضيح والتصحيح حاشية على التنقيح للقرافي في أصول الفقه - كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ - موجز البلاغة - النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح - أصول التقدم في الإسلام - أمالي على دلائل الإعجاز - شرح ديوان الحماسة - ديوان بشار بن برد - الواضح في مشكلات المتنبي، وغيرها. (¬1) ثبطه عن الأمر ثَبْطاً، وثَبَّطه تثبيطاً: عوَّقه ويَطَّأ به عنه، وفسره الجوهري بـ: شغله عنه.

الظنة، فأعترف بأنه هاتف خيالي، وما كنت بالرجل الذي تؤثر عليه عوامل الخيال، ويتبع آثار روايته قبل أن يتخبطني البعاد من الحس، أخشى أن ألقي إليك بمعذرة تزاحم الشواغل عليَّ، فلا تدفع حرج الملامة من الصدر دفاعاً بليغاً. لا أمتري (¬1) أن من الأشغال حقوقاً لا يرضى أربابها غير اقتضائها (¬2) خلاف شأن الحقوق الودادية من التربص بها إلى مساعفة الغرض ولا جناح. بيد أني يتمثل في فراغ بعض دقائق من الوقت، فأراها فرصة مساعفة على عمارتها بمناجاة ذلك الودود، فيتردد مع النفس هاجس عتاب، لا يسكن إلا بعد حين أغالب فيه الخيال. من ها هنا آثرت ذلك الاعتذار، وإن كان محلاً للتعليق، واقتبست من مكتوبكم عن التخلف عذراً واضحاً غير ما صرحتم به إلي. بشرتموني باقتراب وفائكم بموعد الزيارة، عندما يأخذ الشيخ منبع الآداب في تمام الشفا والارتياح. وعراني أسف على ما عرض للشيخ من السقم، فنرجو له مزيد العافية والسلامة، ويبلغ له منا أتم السلام. نبأتموني بموضوع المسامرة التي أردتم التفضل بها، وهو غرض صعب المراس، وما هو عن جنابكم الذي أبدع السباحة في لجج الفصاحة والتحرير ببعيد المنال، وقد عقدت القصد على الحضور ليلتها إن شاء الله. أما ما أشرتم إليه من انتخابي لإلقاء مسامرة أدبية أو علمية بناء على ما طلبه منكم رئيس جمعية قدماء المدرسة الصادقية (¬3)، فلا أظنه يعسر، فإن ¬

_ (¬1) امترى في الشيء: شكَّ فيه. (¬2) إشارة إلى انصرافه إلى العمل القضائي، وإعطائه كل وقته للقضاء بين الناس. (¬3) تكونت "جمعية قدماء الصادقية" آخر سنة (1323 هـ - 1905 م) في مدينة تونس، =

رأى جنابكم عرض بعض موضوعات تلائم منهج الجمعية أرسل بها إليَّ عسى أن نعيّن منها ما يمكن لنا تحريره في أجل مسمى، ودمتم في عز وتأييد. والسلام من أخيكم محمد الخضر بن الحسين كتب يوم الأحد 14 في صفر ¬

_ = وابتدأ نشاطها أوائل سنة (1324 هـ - 1906 م). وهدفها: ربط أواصر الإلفة والتعاضد الودادي بين من ضمتهم "المدرسة الصادقية"، وتلقوا علومهم فيها. والعمل على إصلاح المجتمع وتطويره ثقافياً، ويث العلوم العصرية من أجل النهوض بالبلاد في شتى نواحي الحياة. وشارك في التأسيس: علي بأس حانبة، والبشير صفر، وخير الله بن مصطفى، وغيرهم ... وفي تقرير الجمعية لعام 1924 م ذكرت في معرض نشاطها: "فأسست دروساً ليلية بحارات المدينة كانت تلقى بها أهم ما تحتاجه العامة من مبادئ العلوم الرياضية وأصول القراءة والكتابة ... وسعت جهدها في تغذية النخبة المستنيرة بمسامرات في موضوعات شتى جلبت إليها أكابر العلماء والأدباء من زيتونتين ومدرسين وإفرنسيين ... فكنت ترى في ناديها أمثال المرحوم الشيخ سيدي محمد النخلي، وفضيلة النحرير سيدي الطاهر بن عاشور ... والأستاذ الضليع الشيخ الأخضر بن الحسين (الإمام محمد الخضر حسين) ... يخلبون الألباب بنفثات قرائحهم ... ". وما زالت قائمة حتى اليوم.

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور (¬1) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جناب العلامة العمدة (¬2) النحرير الأكمل صديقنا الأعز الشيخ سيدي محمد الطاهر بن عاشور -حرسه الله تعالى-. أما بعد إهداء أكمل السلام وأسناه: فنقدم إلى حضرتكم أن الفاضل الخير الزكي الشريف سيدي عبد الرحمن ابن علي التمس مني أن أخاطب جنابكم، وأستلفت نظركم الكريم إلى أن تهبوا له شيئاً من مساعيكم الحميدة بإدخاله في زمرة المنتفعين من فواضل "التكية" (¬3). ¬

_ (¬1) تشير هذه الرسالة إلى الخلق السامي الذي كان يتحلى به الإمام من إغاثة الملهوف، وتزويد أصحاب الحاجات بتوصية إلى ذوي الشأن للنظر في أمورهم بعقل حكيم وقلب سليم، ولم يكن يضن بمكانته الرفيعة أن تكون سبباً يفرج به كربة المؤمن. (¬2) العُمدة: ما يعتمد عليه. (¬3) التكية: كلمة تركية تعني: رباط الصوفية. وانصرفت في العصر الحاضر إلى المكان الذي يأوي الفقراء والمحتاجين، ويقدم لهم الطعام أو المسكن أو بعض المال، وتنفق عليه دائرة أو جمعية الأوقاف الإسلامية.

وقد كان بيده مكتب لتعليم الصبيان انتزع منه، وسيشرح لكم حالته، والمرجو من مكارمكم أن تشملوه برعاية خاصة كانعهد منكم، ودمتم في عز واحترام. والسلام من أخيكم محمد الخضر بن الحسين وكتب 26 في ذي القعدة عام 1323 هـ

رسالة إلى محمد الصادق النيفر

رسالة إلى محمد الصادق النيفر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. جناب العلامة النحرير الأمجد الأستاذ أخينا الشيخ سيدي محمد الصادق النيفر (¬1) -حرسه الله تعالى-. أما بعد إهداء أكمل التحية: فإنّا نحمد الله على ما شملنا من العافية، نهنيكم بإحرازكم على خطبة ¬

_ (¬1) محمد الصادق بن محمد الطاهر النيفر، من عائلة علم وفضل، أخذ علومه في جامع الزيتونة عن كبار شيوخه: سالم بوحاجب، ومحمد النخلي، ووالده، ومحمد رضوان، ومحمد بن يوسف، وغيرهم. تولى التدريس بجامع الزيتونة مدرساً من الطبقة الأولى، كما تولى الإمامة والخطابة في جامع باب البحر "المعروف بجامع الزرارعية"، وكان له تأثير كبير في المصلين، ونال سمعة ومكانة في الميدان العلمي. عمل في الحزب الحر الدستوري. اشتغل قاضياً في صرامة وعدل. مؤلفاته: حاشية على شرح التاودى للعاصمية -ذيل الديباج المُذْهب لابن فرحون- سلوة المحزون في تتمة كشف الظنون. مولده ووفاته بمدينة تونس (1299 - 1356 هـ = 1882 - 1938 م). وكتب الإمام عنه كلمة بعد الوفاة في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد العاشر.

التدريس (¬1)، بل نهنئ الجامع الأعظم (¬2) على انتظام مثلكم في سلك مدرسيه. تلقيت مكتويكم العزيز، فملأ قلبي أنساً، ولكنه أذكى لاعج الشوق إلى مجالسكم المؤسسة على المصافاة، المطرزة بالآداب. تأخر عني مكتويكم، فقلت: لعله أمر اقتضاه الحال؛ لأني على ثقة من خالص ودكم، وأعلم أن بُعْدَ الدار لا ينقص منه فتيلاً، حتى وافى وهو يعرب عن عذر واضح، بل يبشر بمنْية طالما استشرفت لها النفس، وعلق بها رجاؤها. تعين أخونا زين العابدين (¬3) من الآستانة معلماً ابتدائياً في هذا المكتب السلطاني أيضاً. دخل أخونا المكي (¬4) معلماً ابتدائياً في مكتب أهلي. ¬

_ (¬1) خطبة التدريس: ويقصد بها: وظيفة التدريس. (¬2) الجامع الأعظم: جامع الزيتونة الذي عرفت به تونس، وعُرف بها. من أعظم مراكز الإشعاع الإسلامي، وإذا تحدثنا عن أهم المعاهد الإسلامية لقلنا: الجامع الأزهر في القاهرة، وجامع الزيتونة بتونس، وجامع القروين بفاس. ابتدأ بناء جامع الزيتونة على يد الأمير حسان بن النعمان الغساني الذي دخل أفريقية سنة 79، ثم جاء الأمير عبد الله بن الحبحاب الداخل سنة 114 هـ، وأتم بناءه سنة 141 هـ ثم أحدث فيه الأمير زيادة الله بن الأغلب التحسينات، وأصبح من أفضل الجوامع المبنية من الرخام والمرمر. وتطورت نظم التعليم فيه من ابتدائي وثانوي وعالٍ "انظر كتاب: تونس وجامع الزيتونة - للإمام محمد الخضر حسين". (¬3) شقيق الإمام، وستأتي ترجمته. (¬4) محمد المكي بن الحسين بن علي بن عمر، باحث لغوي، أديب وشاعر. ولد ببلدة "نفطقه" في الجنوب التونسي، وتلقى علومه بجامع الزيتونة، وحصل على =

لقينا من أهل دمشق حفاوة واحتراماً فوق ما نستحق، لا سيما من الناشئة المتأدبة، وكثير من أهل الفضل والعلم، حتى ظهر منهم الاستبشار، وأقبلوا على تهمئتنا عندما بلغهم تعييننا لتدريس آداب اللغة العربية والفلسفة بمكتبهم (¬1). يعنون بآداب اللغة العربية: الإنشاء، والبيان والبديع، وقرض الشعر، والعروض، وبيان أطوار اللغة في الجاهلية والإسلام، وشرح قصائد انتخبوها لبلاغتها، وما يشاكل ذلك. وهذا الدرس كدرس الفلسفة، يحضره التلامذة الذين سبق لهم في التعليم نحو عشر سنين. سافر في الجمعة الماضية الشيخ عبد العزيز جاويش (¬2) في وفد لتأسيس ¬

_ = شهادة "التطويع"، رافق عائلته في هجرتها إلى دمشق (1331 هـ - 1912 م). وقام بالتدريس في مدارس دمشق. وعاد إلى تونس عام (1338 هـ - 1920 م)، واستقر بها منصرفاً إلى البحث اللغوي حتى وفاته (1301 - 1382 هـ = 1883 - 1963 م). مؤلفاته مطبوعة. (¬1) المدرسة السلطانية بدمشق. (¬2) عبد العزيز بن خليل جاويش، تونسي الأصل، من أهل العلم والأدب، ومن رجال الحركة الوطنية المصرية، ولد بالإسكندرية، وتوفي بالقاهرة (1293 - 1347 هـ = 1876 - 1929 م)، تلقى علومه في الأزهر ودار العلوم، وكان أستاذاً للأدب العربي في جامعة "كمبردج"، وعاد إلى مصر مدرساً، ثم مفتشاً للغة العربية، وسجن لمقال كتبه عن حادثة دنشواي. ورحل إلى الآستانة. له تصانيف عديدة، منها: أثر القرآن الكريم في تحرير الفكر البشري -خواطر في التربية والسياسة- الإسلام دين الفطرة.

مدرسة كلية بالمدينة المنورة، وأقاموا احتفالاً منذ خمسة أيام هناك عند وضع الحجر الأول، وتليت خطب. تعين السيد أحمد تكالي التونسي معلم اللسان الفرنسوي بهذا المكتب؛ أي: الدمشقي. تعين السيد محمد الصالح جمل التونسي معلم اللسان الفرنسوي بمكتب بيروت. هذا الانقلاب الذي وقع بالحاضرة (¬1) كان وقوعه في منزلة المتحقق عندنا، سنَّة الله في الذين ظلموا، وكنا نظن أن نراه رأي العين، ولكن وقع بعد أن سار بنا القدر إلى معترك ثاني من الحياة. أرجوكم أن تبلغوا أعز السلام مع طلب الدعاء إلى والدنا الشيخ الأكبر (¬2)، وكافة من يحويه ناديكم، ولا تتأخروا عنا بمراسلتكم، فينها تطفئ شيئاً من لوعة الشوق، وتخالط أفئدتنا بأنسها اللطيف، وبواسطتها يكون كل منا على بينة من حال صديقه. ودمتم في عز كامل. والسلام من أخيكم محمد الخضر بن الحسين وكتب 20 محرم عام 1331 دمشق ¬

_ (¬1) مدينة تونس العاصمة، والحاضرة هي خلاف البادية. (¬2) الشيخ محمد الطاهر النيفر والد الشيخ محمد الصادق.

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور بعد هجرة الإمام من تونس إلى دمشق سنة 1331 هـ، بعث إليه صديقه الإمام محمد الطاهر بن عاشور وهو قاضي القضاة بتونس رسالة مصدرة بالأبيات المنشورة في الحاشية. وأجابه بالقصيدة التالية: أَيَنْعَمُ في بالٌ وأنتَ بَعيدُ ... وأَسْلو بِطَيْفٍ والمَنامُ شَريدُ إذا أَجَّجَتْ ذكْراكَ شَوْقيَ أُخْضِلَتْ ... لَعَمْري -بدَمْعِ المُقْلَتَيْنِ- خُدودُ (¬1) بَعُدْتُ وآمادُ الحَياةِ كثيرَةٌ ... وَلِلأَمدِ الأَسْمى عَلَيَّ عُهودُ (¬2) بَعُدْتُ بِجُثْماني وَروحي رَهينَةٌ ... لَدَيْكَ وَللْوِدِّ الصَّميمِ قُيُودُ (¬3) عَرَفْتُكَ إذْ زُرْتُ الوَزيرَ وَقَدْ حَنا ... عَلَيَّ بِإقْبالِ وأنْتَ شَهيدُ (¬4) فَكانَ غُروبُ الشَّمْسِ فَجْرَ صَداقَةٍ ... لَها بَيْنَ أَحْناءِ الضُّلوعِ خُلودُ ¬

_ (¬1) أجج: ألهب. أخضلت: ابتلت. (¬2) آماد: جمع أمد: الغاية. (¬3) الجثمان: الجسم. (¬4) الوزير: محمد العزيز بو عتور (1240 - 1325 هـ) من كبار رجال السياسة والعلم في تونس. الشهيد: الحاضر والمطلّع. والبيت إشارة إلى أول لقاء بين الشاعر والعلامة ابن عاشور.

لَقيتُ الوِدادَ الحُرَّ في قَلْبِ ماجِدَ ... وأَصْدَقُ مَنْ يُصْفي الوِدادَ مَجيدُ ألمْ تَرْمِ في الإصْلاخ عَنْ قَوْسٍ ناقِدٍ ... دَرَى كَيْفَ يُرْعَى طارِفٌ وتَليدُ (¬1) وقُمْتَ عَلى الآدابِ تَحْمي قَديمَها ... مَخافةَ أن يَطْغى عليهِ جَديدُ أتذْكُرُ إِذْ كُنَّا نبُاكِرُ مَعْهَداً ... حُمَيَّاهُ عِلْمٌ والسُّقاةُ أُسودُ (¬2) أتذكُرُ إِذْ كُنَّا قَرينَيْنِ عِنْدَما ... يَحينُ صُدورٌ أَوْ يَحينُ وُرودُ (¬3) فَأيْنَ لَيَالينا وأَسْمارُها الَّتي ... تُبَلُّ بِها عِنْدَ الظَّماءِ كُبودُ لَيالِ قَضَيناها بتونسُ لَيْتَها ... تَعودُ وجَيْشُ الغاصِبينَ طَريدُ (¬4) محمد الخضر حسين دمشق - سنة 1331 هـ ¬

_ (¬1) الطارف: المال الحديث المستحدث. التليد: المال القديم. (¬2) نباكر: نأتي بكرة. المعهد: جامع الزيتونة بتونس. الحميّا: شدة الغضب، وأوله، يعني هنا: النثاط. ويريد بالسقاة الأسود: أساتذة المعهد، وما كان لهم من مهابة وإجلال في قلوب المتعلمين. (¬3) القرين: لدة الرجل؛ أي: الذي ولد وتربى معه. الصدور: الرجوع عن الماء. الورود: بلوغ الماء. (¬4) جيش الغاصبين: الجيش الفرنسي الذي كان يحتل تونس قبل الاستقلال. * نص قصيدة العلامة محمد الطاهر بن عاشور: بعدت ونفسي في لقاك تصيد ... فلم يغن عنها في الحنان قصيد وخلفت ما بين الجوانح غصة ... لها بين أحشاء الضلوع وقود وأضحت أماني القرب منك ضئيلة ... ومر الليالي ضعفها سيزيد أتذكر إذ ودعتنا صبح ليلة ... يموج بها أنس لنا وبرود =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وهل كان ذا رمزاً لتوديع أنسنا ... وهل بعد هذا البين سوف يعود ألم تر هذا الدهر كيف تلاعبت ... أصابعه بالدر وهو نضيد إذا ذكروا للود شخصاً محافظاً ... تجلى لنا مرآك وهو بعيد إذا قيل من للعلم والفكر والتقى ... ذكرتك إيقاناً بأنْكَ فريد فقل لليالي جددي من نظامنا ... فحسبك ما قد كان فهو شديد وكتب تحتها ما يتلو: "هذه كلمات جاشت بها النفس الآن عند إرادة الكتابة إليكم، فأبثها على علاتها، وهي وإن لم يكن لها رونق البلاغة والفصاحة، فإن الود والإخاء والوجدان النفسي يترقرق في أعماقها".

رسالة إلى محمد الصادق النيفر

رسالة إلى محمد الصادق النيفر الحمد لله، والصلاة على رسول الله. جناب العلامة النحرير المفضال أخينا الشيخ الصادق النيفر - حرسه الله تعالى -. أما بعد التحية الكاملة، والاشتياق البالغ: فإني قدمت إلى الآستانة منذ ثمانية أيام، وقد عينتني الدولة مدرساً بمكتب سلطاني (¬1) بدمشق، والمرتب مئة فرنك وثمانون فرنكاً في الشهر، وقالوا: هذه بداية، ووعدوني بالزيادة، وإن شاء الله بعد خمسة أيام نتوجه إلى دمشق، فإن تفضلتم بالكتابة، فإليها. وقد كنت أرسلت لكم مكتوباً في رمضان، ولعله لم يصلكم. وسلامي إلى العلامة والدنا الشيخ سيدي الطاهر -أبقاه الله تعالى-. إني متشوق إلى الاطلاع على أحوالكم -أجراها الله طبق ما تريدون-. والسلام من أخيكم محمد الخضر بن الحسين وكلتب في 17 ذي القعدة عام 1331 - الآستانة ¬

_ (¬1) المدرسة الحكومية، والتي كانت تدعى بالمدرسة السلطانية نسبة الى سلاطين الترك ... وهناك: المدرسة السلطانية الأولى، والمدرسة السلطانية الثانية ... وهكذا ...

[حاشية] هل يمكن إفادتنا بشيء من أثر الانقلاب الشرعي (¬1)؟ ¬

_ (¬1) ويقصد به: التغيرات التي حصلت في إدارة جامع الزيتونة، وخاصة بين المدرسين.

رسالة إلى محمد الصادق النيفر

رسالة إلى محمد الصادق النيفر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. جناب العلامة النحرير، صاحب الأخلاق العالية والعهد الصحيح، صفوة الخيرة، صديقنا العزيز الشيخ سيدي الصادق النيفر -حرس الله كماله-. أما بعد إهداء التحية الكاملة والاحترام: فقد طلع علي مكتوبكم الكريم، والفؤاد في شوق إليه عظيم، فاقتطفت منه العلم بتمام عافيتكم، وارتشفت منه أنساً أعاد علي شيئاً من صفو تلك الليالي التي مرت لنا بمسامراتكم اللذيذة. زارنا منذ أيام نقيب الأشراف بمكناسة (¬1) قادماً من المدينة، قاصد السفر على طريق تونس، وله سماع بفضيلتكم تلقاه من علماء فاس، ولا أدري هل تم له المرور بطرفكم؟ توفي منذ أسبوع الشيخ جمال الدين القاسمي (¬2) أحد علماء دمشق، ¬

_ (¬1) مدينة مكناس بالمغرب. (¬2) جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق، من كبار علماء الشام في الدين والأدب، كان يلقي الدروس العامة بتكليف من الحكومة لمدة أربع سنوات، وانصرف بعدها إلى التأليف، ومن مصنفاته: محاسن التأويل، في التفسير 17 مجلداً -تعطير المشام في مآثر دمشق الشام، أربع مجلدات- دلائل التوحيد -ديوان خطب- =

ولعلكم اطلعتم على بعض تآليفه المستقلة، وتحريراته بمجلة المنار (¬1) -رحمه الله-. توفي الشيخ محيي الدين الخياط (¬2) أحد علماء ييروت، وهو من المؤلفين أيضاً المحررين بالجرائد في لهجة إسلامية. زارنا منذ مدة السيد العربي بسيس قادماً (¬3) من طريق الحج ... وقد أخجلنا في بعض المجالس حيث أطلق لسانه بمديح، ... (¬4) وإطرائه، ووصفه له بأنه من المصلحين المثقفين، وهكذا كان يفعل بالمدينة المنورة. وهذا ما دعانا إلى عدم مراجعته في كثير من المجالس الذي يمكنه أن يطلع عليها بواسطتنا، سلك ذلك الغلو في مجلس أحد العلماء يقال له: الشيخ بدر الدين (¬5)، فلم ... (¬6) أن قال له: قال - صلى الله عليه وسلم -: "من علامات الإيمان: الحب ¬

_ = الفتوى في الإسلام. وغيرها ... ولادته ووفاته بدمشق (1283 - 1332 هـ = 1866 - 1914 م). (¬1) مجلة كان يصدرها الشيخ رشيد رضا في القاهرة. (¬2) محيي الدين بن أحمد بن إبراهيم الخياط، شاعر وأديب، ولد في مدينة صيدا، وتوفي ببيروت (1292 - 1332 هـ = 1875 - 1914 م) من مصنفاته: دروس النحو والصرف -دروس التاريخ الإسلامي- دروس القراءة - وله شعر. (¬3) أحد الموظفين في حكومة الباي بتونس آنذاك ومن حاشيته. (¬4) هكذا في أصل الرسالة عدة نقاط، ولم يذكر الاسم المقصود. ويظهر لي أنه "الباي". (¬5) محمد بن يوسف بن عبد الرحمن، بلر الدين الحسني، المحدث الأكبر في الشام، مراكشي الأصل، ولد وتوفي بدمشق (1267 - 1354 هـ = 1851 - 1935 م) اشتهر بالعلم والورع والتقوى والزهد والبعد عن الدنيا. (¬6) كلمة غير واضحة في الأصل.

في الله، والبغض في الله". انفصلت مع بنت السيد عمر العتكي بطلاق، حيث لم يمكن مرافقتها لنا، عوضنا الله بما هو أسعد. إنني وجميع الأهل في عافية تامة، وعيش ناعم، نحمد الله عليه بجميع قلوبنا وألسنتنا في الصباح والمساء. قررت نظارة المعارف أن تزيد في مرتبنا بعد خمسة أشهر مئة فرنك في كل شهر، جاءني الإعلام بذلك منذ يومين. شرعت في تأسيس مكتبة لي، فنقحت مما عندي من الآثار القديمة كتباً، وأخذت أشتري ما أحتاجه مقدماً الأمم فالأهم. يبلغ لكم السلام من سائر إخوتنا المخلصين في مودتكم واحترام فضيلتكم. التلامذة الذين يحضرون بدروسنا في المدرسة يبلغ عددهم الآن نحو ثمانين تلميذاً يتلقون القواعد النحوية والصرفية، ويتعلمون صناعة الإنشاء والخطابة، وعلمي البيان والبديع، وشرح قصائد من المنظومات البليغة. كما نيط بعهدتنا درس الفلسفة؛ أي: أحوال النفس التي هي راجعة إلى القوى المدركة، والأخلاق، ثم المنطق. وقد أخذنا نجني ثمرة التعليم، حيث تقدم التلاميذ في صناعة الإنشاء والخطابة شوطاً يبشر بنجاح في المستقبل - إن شاء الله تعالى -. أنها سيرتنا بدمشق، فإنها لم تتغير عن الطريقة التي كنا نسلكها في تونس، وهو أن معظم أدبائها وكبرائها يعرفوننا ونعرفهم بالسماع والتحية عند الملاقاة، أنها التزاور، فإنه يكون لمناسبة كيدة، أو صحبة خالصة،

وبالجملة: فقد لقيت منهم أخلاقاً حسنة، وآداباً مؤنسة، وفيما بلغني أنهم راضون عن سيرتنا، ومعجبون بمسالكنا في التعليم. كما أن للتلاميذ أدب كامل معنا، وعواطف زائدة، لا سيما نجباؤهم، وكثيراً ما أحادثهم بالحالة العلمية في تونس (¬1)، وأحاضرهم بشؤون جامع الزيتونة وعلمائه، فأصبحوا يجلون التونسيين، ويدركون شيئاً من مقدرتهم العلمية. وسلامي الكامل المقرون بالاحترام البالغ إلى الشيخ والد الجميع، مع طلب الدُّعاء، ودمتم في أكمل عز وسناء. والسلام من أخيكم المتشوق إلى ملاقاتكم محمد الخضر بن الحسين وكتب في 29 جمادى الأولى 1332 - دمشق [حاشية] ولا تأخرون عنا مراسلتكم، فإنا نشتاق إليها اشتياق الظمآن إلى الماء الزلال. أبقاكم الله. وبلغوا من فضلكم سلامي وشوقي إلى الشيخ القاضي سيدي محمد الطّاهر بن عاشور، وقد انفتح بيني وبينه باب المراسلة. ¬

_ (¬1) عبارات الخطاب تشير إلى اهتمام الإمام محمد الخضر حسين ببلده تونس، والحرص على التعريف بها وعن مكانتها العلمية.

رسالة شعرية إلى محمد الطاهر بن عاشور

رسالة شعرية إلى محمد الطاهر بن عاشور " قيلت هذه الأبيات في مدينة دمشق تهممة لصديقه الإمام محمد الطاهر ابن عاشور عندما تولى القضاء في تونس سنة 1332 هـ. وبعث بها في خطاب إلى صديقه". بَسَطَ الهَناءُ عَلى الْقُلوبِ جَناحا ... فَأعادَ مُسْوَدَّ الحَياةِ صَباحا إيهِ مُحَيَّا الدَّهْرِ إنَّكَ مُؤْنِسٌ ... ما افْتَرَّ ثَغْرُكَ باسِماً وَضَّاحا (¬1) وَتَعُدُّ ما أوْحَشْتَنا في غابِر ... خالاً بِوَجْنَتِكَ الْمُضيئَةِ لاحا (¬2) لَوْلا سَوادُ اللَّيْلِ ما ابْتَهَجَ الْفَتَى ... إنْ آنَسَ المِصْباحَ وَالإصْباحا (¬3) ياطاهِرَ الهِمَمِ اْحتَمَتْ بِكَ خُطَّةٌ ... تَبْغي هُدًى وَمُروءَةً وَسَماحا (¬4) سَحَبَتْ رِداءَ الْفَخْرِ واثِقَةً بِما ... لَكَ مِنْ فُوادٍ يَعْشَقُ الإصْلاحا ¬

_ (¬1) إيه: اسم فعل أمر، ومعناه: طلب الزيادة من حديث أو عمل. المُحيَّا: الوجه. افتر: تبسم وضحك ضحكاً حسناً وأبدى أسنانه. (¬2) الغابر: الماضي. (¬3) آنس: أبصر. الإصباح: الفجر. (¬4) الخطة: الأمر والطريقة، ويطلقها أهل الأندلس على أي منصب من مناصب الحكومة، فيقال: خطة الفتوى، وخطة التعليم.

سَتَشُدُّ بالَحزْمِ الَحكيمِ إزارَها ... والَحزْمُ أَنْفَسُ ما يَكونُ وِشاحا (¬1) وتَذودُ بالعَمْلِ الْقَذى عَنْ حَوْضِها ... والْعَدْلُ أَقْوى ما يَكونُ سِلاحا (¬2) في النَّاسِ مَنْ ألْقى قِلادَتَها إلى ... خَلَفِ فَحَرَّمَ ما اْبَتغى وَأباحا فَالِحرْ قَضاياها بِفِكْرِكَ إنَّهُ ... فِكْرٌ يَرُدُّ مِنَ الْعَويصِ جِماحا (¬3) أَنْسى ولا أَنْسى إخاءَكَ إذْ رَمى ... صَرْفُ اللَّيالي بالنَّوى أَشْباحا (¬4) أَسْلو ولا أَسْلو عُلاكَ وَلَوْ أتَتْ ... لُبْنانُ تُهْدي نَرْجِساً فَيَّاحا (¬5) أَوَ لَمْ نكُنْ كالفَرْقَدَيْنِ تَقارنا ... والصَّفْوُ يَمْلأُ بَينَنا أَقْداحا (¬6) محمّد الخضر حسين دمشق سنة 1332 هـ ¬

_ (¬1) الإزار: الملحفة. الوشاح: شيء شبه قلادة تلبسه النساء. (¬2) تذود: تطرد. القذى: ما يقع في العين أو الشراب من تبنة أو غيرها. الحوض: مجتمع الماء. (¬3) العويص: الأمر الصعب. الجماح: ركوب الرأس لا يثنيه شيء. (¬4) الصَّرْف: الحدثان والنوائب. والنوى: البعد. (¬5) أسلو: سلا الشيء: نسيه وذهل عن ذكره. الفياح: للمبالغة؛ أي: فياض بالعطاء الواسع الكثير. (¬6) الفرقدان: نجمان قريبان من القطب يهتدى بهما.

رسالة إلى محمد الصادق النيفر

رسالة إلى محمد الصادق النيفر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. جناب العلامة النحرير الهمام، صديقي العزيز الأستاذ الشيخ سيدي الصادق النيفر -حرسه الله تعالى-. أما بعد إهداء أكمل التحية، والإعراب عن شوق بلغ أشده: فقد بلغني مكتوبكم العزيز أواخر رمضان، وكتبت لكم كتاباً لذلك العهد. وقد وقع سهو لمن كلف بإرساله، فبقي في ضمن أوراق. وحيث علمت اليوم بتأخره، وقعت في خجل، فالمؤمل منكم العفو عن التأخير، أنها الكتاب الذي أشرتم إلى بقائه عندنا ... (¬1) لا شعور لي به الآن، وقد جاءتني الكتب التي أبقيتها عند الشيخ عمر العتكي، وما وجدتها في جملتها، وقد كنت عند عزمي على السفر أعدت إلى صديقنا الشيخ القاضي (¬2) كتبه، فإن ظهر لكم التعريض بسؤاله عنه؛ لعله اندمج في جملتها، ولم يشعر به. شرعنا في التعليم منذ أسبوع، أنها التأهل، فلم نعتمد الآن على رأي؛ لأن أخلاق النساء هنا غير ملائمة لأخلاقنا وعوائدنا، وقد عرض علي بعض ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في الأصل. (¬2) من العلماء الزيتونيين.

أهل العلم أن أتاهل من بيوتهم، ولا زلت أفكر في ذلك. نهنئكم بمصاهرة الشيخ محمد العنابي (¬1)، ونرجو للجميع سعادة واسعة، ووفاقاً دائماً. آجرنا داراً بسوق سروجه (¬2) بها ستة بيوت داخلاً، وبيت بالدريبة (¬3) للضيوف والزائرين بعشرين ليرة في السنة. ألقيت دروساً بالجامع الأموي (¬4) في شهر رمضان. إننا بخير والحمد لله، ومن فضلكم تبلغ سلامنا إلى الشيخ الكبير والد الجميع، مع طلب الدعاء، وعسى الأيام تجمع بيننا في القريب، وما ذلك على الله بعزيز. وإن إخوتنا يبلغون إليكم أكمل السلام، ودمتم بخير وأكمل عز. السلام من أخيكم محمد الخضر بن الحسين كتب في ذي القعدة عام 1333 هـ دمشق [حاشية] لا تنسونا من مراسلتكم؛ فإني والله! أبل بها صدى الشوق، وأكشف بها غيم الوحشة، عندما أتذكر الأيام التي قضيناها بذلك المعهد الخصيب (¬5). ¬

_ (¬1) من عائلة اشتهرت بالعلم والأدب في تونس. (¬2) كذا في الأصل. والمعروف اليوم بـ: "سوق ساروجة"، حي من أحياء مدينة دمشق القديمة. (¬3) الدريبة، من الدرب؛ أي: غرفة في مدخل الدار منعزلة بباب يفصل بين داخل الدار وخارجها. (¬4) أكبر مساجد مدينة دمشق، بناه الوليد بن عبد الملك سنة 708 هـ. وهو آية من آيات الفن المعماري بزخارف الفسيفساء المذهبة والملونة التي تزين جدارنه في الداخل. (¬5) يعني به: جامع الزيتونة، وفيه تلقى الإمام علومه.

رسالة شعرية إلى خليل مردم بك

رسالة شعرية إلى خليل مردم بك (¬1) ما النَّجْمُ تَجْري بهِ الأفْلاكُ في غَسَقِ ... كالدُّرِّ تَقْذِفُهُ الأقْلامُ في نَسَقِ ¬

_ (¬1) خليل بن أحمد مختار مردم بك، شاعر الشام، ورئيس المجمع العلمي العربي، استلم وزارة المعارف والخارجية. ولد وتوفي بدمشق (1313 - 1379 هـ = 1895 - 1959 م)، له ديوان شعر مطبوع، ومن مؤلفاته: شعراء الشام في القرن الثالث - أئمة الأدب - جمهرة المغنين - الأعرابيات. مناسبة القصيدة: كان الإمام محمد الخضر حسين مقيماً في دمشق، وعزم على الارتحال منها إلى تونس، فكتب إليه الشاعر الكبير خليل مردم بك وزير خارجية سورية رئيس المجمع العلمي العربي بها في ذاك العهد كتاباً رقيقاً قال فيه: "سيدي! إن من خير ما أثبته في سجل حياتي، وأشكر الله عليه، معرفتي إلى الأستاذ الجليل السيد محمد الخضر التونسي وإخوانه الفضلاء، وصحبتي لهم، فقد صحبت الأستاذ عدة سنين رأيته فيها الإنسان الكامل الذي لا تغيره الأحداث والطوارئ، فما زلت أغبط نفسي على ظفرها بهذا الكنز الثمين حتى فاجأني خبر رحلته عن هذه الديار، فتراءت لي حقيقة المثل: "بقدر سرور التواصل تكون حسرة التفاصل". فلم يعد لي إِلا الرجاء بأن يكون لي نصيب من الذكر في قلبه، وحظ من الخطور على باله، لذلك فأنا أتقدم بهذه القصيدة الوطنية لتكون لي رتيمة عنده، وذكرى =

لَقَدْ سَلَوتُ مُحَيَّا الْبَدْرِ إذْ طَلَعَتْ ... عَقيلَةُ الطِّرْسِ والأجفانُ في أرَقِ (¬1) وكُنْتُ أرْشُفُ مِنْ جَدْوى بَلاغَتِها ... راحاً فَيَهْدَأُ ما في الجَأْشِ مِنْ قَلَقِ (¬2) تَخْشى إذا أفْصَحَتْ عمَّا تَوَهَّجَ مِنْ ... حَماسَةٍ أن تَشُبَّ النَّارُ في الوَرَقِ فَألْبَسَتْها أساليبَ النَّسيبِ، وَكَمْ ... ذاقَ الحَشا لَوْعةً مِنْ ناعِسِ الحَدَقِ هِيَ "الرَّتيمَةُ" فيما قالَ مُبْدِعُها ... وَهَلْ يَغيبُ السَّنا عَنْ طَلْعَةِ الْفَلَقِ (¬3) إنِّي عَلى ثِقَةٍ مِنْ أن ذِكْرَكَ لا ... يَنْفَكُّ مُرْتَسِماً في النَّفْسِ كالخُلُقِ وكَيْفَ أنسى "خَليلاً" قَدْ تَضوَّعَ في ... حُشاشَتي وُدُّوُ كالعَنْبَرِ الْعَبِقِ وفي الوَرى خَزَفٌ لَكِنْ تَبَرَّجَ في ... نضَارَةِ الذَّهبِ الصَّافي أوِ الْوَرِقِ وَلَوْ عَصَرْتَ بِكَفِّ النَّقْدِ مُهْجَتهُ ... لَما تَقاطَرَ غَيْرُ الضِّغْنِ والْمَلَقِ (¬4) لا عَتْبَ إنْ ضاقَ باعي في القَريضِ فَلمْ ... يُضِئْ كما ضاءَت الجوْزاءُ في الأُفُقِ ¬

_ = أحد المخلصين إليه، أمتع الله به، وأدام الكرامة، وكتب له السلامة في حله وترحاله". 5 صفر سنة 1338 ثم أتبع الخطاب بقصيدة مطلعها: طيف للمياء ما ينفك يبعث لي ... في آخر الليل إن هوَّمت أشجانا (¬1) الطرس: الصحيفة. (¬2) الجأش: نفس الإنسان. (¬3) الفلق: ما انفلق من عمود الصبح. (¬4) الملق: اللطف الشديد، الود.

فَإنَّ إحْساسيَ الشِّعْرِيَّ أوْشَكَ أن ... يَجودَ بالنَّفَسِ الأقْصى مِنَ الرَّمَقِ (¬1) لَمْ تُبْقِ لي حادِثاتُ الدَّهْرِ مِنْهُ سِوى ... أَثارَةٍ كَبَقايا الشَّمْسِ في الشَّفَقِ (¬2) حافظ عهدكم محمّد الخضر حسين القاهرة صفر سنة 1338 ¬

_ (¬1) الرمق: بقية الروح، جمع أرماق. (¬2) أثارة: بقية.

رسالة شعرية إلى عبد القادر المبارك

رسالة شعرية إلى عبد القادر المبارك (¬1) عندما ألف الإمام كتابه "الخيال في الشعر العربي" بعث إليه اللغوي الفاضل الأستاذ عبد القادر المبارك قصيدة قرظ بها الكتاب -وهي المنشورة في الحاشية-، وقد أجابه الإمام بالقصيدة التالية: يا رُبىً تَرْفُلُ في حُسْنِ وَطيبِ ... والصَّبا تَخْفِقُ بالغُصْنِ الرَّطيبِ (¬2) هاجَ ذِكْراكِ شَذا الأنْسِ الَّذي ... هَبَّ مِنْ أرْدانِ واديكِ الخَصيبِ (¬3) هاجَ ذِكْرى زَمَنٍ يَبْسِمُ في ... جِلَّقَ الْفَيْحاءِ بالثَّغْرِ الشَّنيبِ (¬4) ¬

_ (¬1) عبد القادر بن محمد بن محمد المبارك الجزائري الدمشقي، عالم باللغة والأدب، وواسعالاطلاع على المفردات اللغوية، من أصل جزائري، كان عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، له تصانيف عديدة منها: شرح المقصورة الدريدية -فرائد الأدبيات العربية- وله شعر. ولد وتوفي بدمشق (1304 - 1364 هـ = 1887 - 1945 م). (¬2) الربى: جمع ربوة: ما ارتفع من الأرض. ترفل: تجر ذيلها، تتبختر. الصَّبا: ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. (¬3) أردان: جمع الردن، وهو أصل الكم. (¬4) جلق والفيحاء: من أسماء دمشق. الفيحاء: الواسعة من الدور. الشنيب: من به شنب؛ أي: ماء ورقَّة وبرد وعذوبة في الأسنان.

كَيفَ أسْلوهُ وَفي الْقَلْبِ لَهُ ... شَوْقُ مِهْيَارَ لِيَوْمٍ بالجَريبِ (¬1) مُهْدِيَ الشِّعْرِ الَّذي باكَرَنا ... في ضِفافِ النِّيلِ بالْبُردِ الْقَشيبِ (¬2) أنْتَ بَحْرُ اللغَةِ الْفُصْحى وكَمْ ... جُدْتَ بالمأنوسِ مِنْها والْغَريبِ فَلِماذا تَنْسُجُ الأشْعارَ مِنْ ... حَبَبِ الْكَأسِ وأخلاقِ الأديبِ صُغْتَ (عَبْدَ الْقادرِ) التَّقْريظَ في ... طَرْزِ حَسَّانَ وإبداعِ حَبيبِ (¬3) لَم أُجِدْ صُنْعاً ولا هَزَّتْ يَدي ... قَلَماً يَبْهَرُ بالسِّحْرِ الْعَجيبِ وبديعُ السِّحْرِ في وِدٍّ صَفا ... وأراكَ الحُسْنَ في وَجْهِ المَعيبِ خُضْتُ في بَحْرِ خَيالٍ وأنا ... مُوجِسٌ خِيفَةَ تَثْريبِ الرَّقيبِ (¬4) ¬

_ (¬1) مهيار: مهيار بن مرزويه الديلمي (... - 428 هـ) شاعر كبير، وكاتب فارسي الأصل من أهل بغداد، وتوفي بها، جمع بين فصاحة العرب ومعاني العجم، درس على شيخه الشريف الرضي، وأسلم على يديه بعد أن كان مجوسياً. له ديوان مطبوع من أربعة أجزاء. الجريب: اسم مكان، وهذا البيت إشارة إلى قول مهيار: نظرة منك ويوم بالجريب ... حسب نفسي من زماني وحبيبي (¬2) باكر: أتاه بكرة. القشيب: الجديد، الأبيض، النظيف. (¬3) التقريظ: المدح. حسان: (... - 54 هـ) حسان بن ثابت الأنصاري، شاعر النبي - صلى الله عليه وسلم -، أدرك الجاهلية والإسلام، وكان من سكان المدينة، وتوفي بها، له ديوان مطبوع. حبيب: (188 - 231 هـ) أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، أحد أمراء الشعر والبيان، ولد في جاسم بسورية، وتوفي بالموصل، له ديوان مطبوع. (¬4) التثريب: العتاب واللوم.

إذْ خَيالُ الشِّعْرِ مِنْ مَرْعى الْفَتى ... وَيَراعي ارْتادَهُ حالُ المَشيبِ (¬1) رادَهُ في سَحَرِ الْعُمْرِ وَما ... سَحَرُ الْعُمْرِ لِلَهْوٍ بنَسيبِ (¬2) إنَّما عَلَّلْتُ نفساً راعَها ... ذلِكَ الْبَيْنُ بِمَرآهُ الْكَئيبِ (¬3) وتَأسَّيْتُ بِذي الجدِّ الَّذي ... يَدْخُلُ الحِكْمَةَ مِنْ بابِ النَّسيبِ (¬4) أمْحَضُ الأستاذَ شُكْراً ساطِعاً ... بَيْنَ صافي الوِدِّ والشَّوْقِ المُذيبِ (¬5) ¬

_ (¬1) اليراع: القصب، ويقصد به: القلم. (¬2) راد الشيء: طلبه. السحر: قبيل الصبح. النسيب: القريب. (¬3): فزع. البين: الفرقة. ويشير هنا إلى مفارقته دمشق. (¬4) تأسى به: جعله أسوة. النسيب: تشبيب الشاعر بالمرأة. (¬5) محض: أخلص. * نص قصيدة الأستاذ عبد القادر بن المبارك التي بعث بها إلى الشاعر: لمحمد الخضر الحسين التونسي ... سامي كتاب خيال شعر مؤنس يحوي فنون قوى المفكرة التي ... هي ربَّة المعنى الأغر الأنفَس طالعته فظننت أن قد ضمني في ... جَنَّة الشعراء أبهى مجلس أسرى إليه بي الخيال ودأبه ... أن يقطع الفلوات غير معرِّس فتمثلت لي ثروة الشعر التي ... هي سر إغناء الخيال المفلس ورأيت أفلاكاً كواكبها النهى ... ومقامها فوق الجواري الكنس زمانها أسحار ليل مقمر ... في الطيب أو آصال يوم مشمس ونوابغ الشعراء فيها استعمروا ... وطناً بغير نبوغهم لم يحرس لاذوا به من غلظة الأرض التي ... لولا مزاج بارد لم توبس وهنالك "الخضر" اجتلى بخياله ... ما يجتلي الطيار فوق الأرؤس =

وَسَلاماً مِنْ بَعيدٍ كُلَّما ... عَزَّ إلقاءُ سَلامي مِنْ قَريبِ محمّد الخضر حسين القاهرة سنة 1340 هـ ¬

_ = في جو شعر العرب حلق راسماً ... أسمى عروس شعور تلك الأنفس وعلى اتساع خيالهم وسموِّه ... لم يبق في آفاقه من حندس فبدا خيال الشعر لي ببيانه ... كالجسم موصوفاً برأي مهندس بل كاد من روح البيان يقول لي ... أنا جوهر فانظر إليَّ أو المس يسلو الأديب على نزاهته به ... عن مطربيه وعن شموس الأكؤس ويكاد يغريه انسجام حديثه ... بالزهد في إستبرق أو سندس وكأن كل صحيفة من صحفه ... ضمت غذاء الروح للمتلمس صفحاته تسعون لذ سميرها ... فيها مسامرة الخيال الكيس لم أنتقد إِلا على خطأٍ جرى ... في طبعه وخلوه من فهرس فليحي رب يراعة في شرعها ... حتى الخيال حقوقه لم تبخس دهر يجود به لعمري محسن ... فعلام يوصم بالبخيل وبالمُسي

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين الحمد لله. الفاضل أخونا السيد محمد المكي بن الحسين - حفظه الله -. السلام عليكم. أما بعد السؤال عنكم: فتصلكم قصيدة الشيخ عبد القادر وجوابها. وبلغوا أعز سلامنا إلى فضيلة الشيخ أخينا وأستاذنا الشيخ سيدي أحمد الأمين (¬1)، وأخينا الشيخ سيدي مصطفى (¬2)، وكافة الأهل والإخوان. ¬

_ (¬1) أحمد الأمين بن المدني بن المبروك بن أحمد بن إبراهيم بن عزوز، من العلماء الصالحين، والناظمين في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم -. تلقى علومه من شيوخ أجلاء، منهم: عمر بن الشيخ، وسالم بوحاجب، ومحمد المكي بن عزوز. ولد في مدينة "نفطة" بالجنوب التونسي سنة 1277 هـ، وتنقل في كثير من البلدان الإسلامية، واستقر بالمدينة المنورة، وتوفي بها سنة 1354 هـ. وهو ابن الخالة للإمام محمد الخضر حسين. له منظومات في المديح النبوي حققتها وطبعتها في كتاب "منظومات ابن عزوز". (¬2) مصطفى بن علي بن الحسين، ابن شقيق الإمام. توفي بتونس سنة (1369 هـ - 1949 م)، من العلماء المنصرفين للدعوة إلى سبيل الله.

تصلني جريدة "الوزير" (¬1)، فإذا لقيتم صاحبها، فبلغوه السلام مع الشكر، وكذلك جريدة "النديم" (¬2) تصلني، فبلغوا صاحبها أيضاً السلام مع الشكر، غير أن جريدة "الوزير" تأتي بعنوان "الخذر"، فإذا أمكن الإشارة إليه بتصحيح الاسم، فلا بأس، ودمتم بخير. والسلام من أخيكم محمد الخضر وكتب في 17 - 1 - 1923 - القاهرة [حاشية] وقد أرسلت لكم قصيدة الشيخ عبد القادر بخطه، وهي النسخة التي جاءتني منه. ¬

_ (¬1) صحيفة إسلامية إصلاحية أسبوعية ثم يومية، صدرت في تونس خلال الفترة من (4/ 5/ 1920 حتى 1/ 26/ 1956) مع الانقطاع بسبب إغلاقها من قبل السلطة. وصاحبها شيخ الصحافة التونسية السيد الطيب بن عيسى. وهو من تلامذة الإمام محمد الخضر حسين، وله عدة بحوث عن الإمام. ولذ الطيب بن عيسى في تونس سنة 1819 م، جزائري الأصل، ودرس في جامع الزيتونة، وأصدر جريدة "المشير" عام 1911 م، وله تصانيف منها: من مشاهير المهاجرين - خواطر حاج - ذكريات سجين. توفي بتونس سنة 1965 م. (¬2) صحيفة فكاهية أخلاقية انتقادية أسبوعية، صدرت في تونس من (2/ 12/ 1921، وحتى 4/ 28/ 1921 م)، وصاحبها الأستاذ حسين الجزيري مولده في تونس عام 1888 م، ووفاته عام 1974 م.

رسالة إلى صديق أديب

رسالة إلى صديق أديب (¬1) أشكركم على تنبيهي لتحرير مقال يرفع اللبس الذي حام على بعض الخواطر من فحوى كلمات وردت في مجلة "البدر" (¬2). وقد جاذبكم القلم باستفساركم هذا إلى التعرض لبعض حقائق ما كنت أنوي الخوض فيها على صفحات الجرائد، حيث أرى أن مهمه السياسة لم يزل مغبر الأرجاء بشيء ¬

_ (¬1) كتب أحد الأدباء التونسيين إلى الإمام محمد الخضر حسين رسالة يستوضح منه ما جاء في ترجمة حياته في مجلة "البدر" التونسية، وما ورد في الترجمة من عبارات يستشف منها انحياز الإمام لخدمة الدعوة العربية دون الجامعة الإسلامية، فكتب الرسالة التوضيحية، وبعثها إلى صديقه في تونس. وحصلت جريدة "لسان الشعب" التونسية على نص الرسالة، ونشرتها في العدد 113 الصادر بتاريخ (16 صفر 1342 هـ الموافق 26 سبتمبر أيلول 1923 م). وبالرجوع إلى ترجمة الإمام المنوه عنها في مجلة "البدر" العدد الأول من المجلد الثالث لكاتبها الأستاذ زين العابدين السنوسي، نستطلع العبارة التالية: "فلما نزل مصر، تعرف بكثير من دعاة الرابطة العربية؛ مثل ... ". وهذه الجملة هي التي حرضت الصديق الأديب للاستفسار من الإمام. (¬2) مجلة علمية أدبية تاريخية شهرية، صدرت من (جويليه تموز 1920 ولغاية نوفمبر تشرين الثاني 1924 م). وقام بتحريرها الأستاذ زين العابدين بن محمد بن عثمان السنوسي، مولده ووفاته بتونس (1318 - 1385 هـ = 1901 - 1965 م).

من الأوهام والغطرسة، علاوة على أن طلاب الحقيقة وذوي البصائر التي تنفذ من معاني الألفاظ إلى مناجاة روح منشئها ليسوا بكثير. ولكني ألقي إليكم نبذة من تاريخ حياتي في الشرق أيام كان العرب في اتصال مع الدولة العلّية، وهي -فيما أحسب- كافية لكشف اللبس الذي ثار من خلال تلك الكلمات. قدمت سورية سنة 1331 هـ فشعرت من نفحات بعض الجرائد، ولحن بعض الخطب والمسامرات: أن من بين سكانها فئة قليلة تعمل للانفصال عن الدولة العلّية، غير متحرزة من عقر الوقوع في قبضة دولة أجنبية، ولكن الجمهور منهم إنما يشكون شيئاً من سوء الإدارة، ولا تزيد أمنيتهم على أن يصلح هذا الخلل، ويعيشوا في ظل الخلافة هادئين. ولما أمسكت القلم لأطرق باب الدعوة إلى الوفاق، بدا لي أن أكون على بينة من مجرى السياسة؛ لأجمع بين النصح للدولة، وعدم الإغضاء عن حق الأمة، فكنت أنشر مقالات وقصائد في مجلة "البلاغ" (¬1) وغيرها، أقيم فيها الحجة على أن في نفوس أولئك المتطرفين لطخاً من الغباوة، أو القصد إلى العبث بمستقبل الأمة، ثم أنبه الدولة على وجه التذكرة لإصلاح بعض مغامز هي بأجمعها لا تبلغ جزءاً من مئة إذا قيست بما تعانيه الشعوب الإسلامية الأخرى من أخف الدول الأجنبية وطأة. ومما قلت في قصيدة أدعو فيها إلى اتحاد العنصرين: ما العرب والترك إِلا إخوة نشآ ... في مهددين فكانوا السيف والبطلا ¬

_ (¬1) مجلة كانت تصدر في بيروت، ويرأس تحريرها محمد باقر.

وقد حاز هذا الأسلوب الذي توخيته رضاء الدولة، وارتاحت له نفوس الطبقة العالية من أهل الفضل والعلم. وكانت الدولة العلية حينئذ تصغي أذنها إلى المطالب العادلة، وأخذت تعمل على تنفيذها؛ كإنشاء مدارس يكون التعليم فيها باللسان العربي، وتشريك أبناء العرب في تقلد المناصب الكبيرة، وفتح باب حرية التحرير والخطابة في النوادي الجامعة على مصراعيه، إلى أن أقبلت سنة 1914 تجر من ورائها الحرب الطاحنة، وما كان مني إِلا أن أدرت القلم عن مواقع الإصلاح جملة، وأخذت أعمل على ما تقتضيه حال دولة ينشب بها العدو مخالبه من كل ناحية، وتساورها من تحت ثيابها. ضئيلة .............. من الرقش في أنيابها السم ناقع أما اعتقالي "بخان مردم بك" (¬1) ستة أشهر وأربعة عشر يوماً، فسببه ¬

_ (¬1) المكان المخصص لاعتقال رجال السياسة في عهد جمال باشا السفاح. ومن أجمل الشعر ما قاله الإمام في سجنه: غلَّ ذا الحبس يدي عن قلم ... كان لا يصحو عن الطرس فناما هل يذود الغمض عن مقلته ... أو يلاقي بعده الموت الزؤاما أنا لولا همة تحدو إلى ... خدمة الإسلام آثرت الحماما ليست الدنيا وما يقسم من ... زهرها إلا سراباً أو جهاما ومما قاله في السجن، وكان معه في الاعتقال الأستاذ سعدي ملا الذي أصبح رئيساً للوزارة في لبنان، وقد جرى بينهما حديث حول الحضارة والبداوة: جرى سمر لما اعتقلنا بفندق ... ضحانا به ليل وسامرنا رمس فقال رفيقي في شقا الحبس إن في الـ ... حضارة أنساً لا يقاس به أنس فقلت له: فضل البدواة راجح ... وحسبك أن البدو ليس به حبس

أني حضرت مجلساً أخذ فيه بعض المحامين يخوض في سياسة الدولة بعبارات جافية، حتى استفتى في نكث العهد من طاعتها، فأخذت أكافحه بالحجة، وأقاومه بالموعظة وضرب المثل، كما شهد بذلك الشيخ صالح الرافعي، واعترف به هو نفسه لدى المحكمة العرفية، إلى أن انقطع الكلام، وانفصم عقد المجلس، فانصرفت، وتحاميت لقاءه من ذلك اليوم. وما مرَّ مقدار شهرين على الواقعة، حتى بلغ الحكومة أن ذلك المحامي يسعى في تكوين جمعية باغية، وانجر البحث إلى استدعاء الشيخ صالح الرافعي المذكور آنفاً؛ لما بينه وبين ذلك المحامي من صلة القربى. فكان مما بثه بين يدي إدارة البوليس: أن ذلك المحامي كان يطعن في سياسة الحكومة، ويسأل عن حكم الخروج عنها، وذكر لها عني أني كنت حاضراً في هذا المجلس، وأنكرت عليه حتى قنع ولاذ بالتوبة. دعتني إدارة البوليس، وسألتني عما جرى، فأخبرتها بالواقع، ولم تتهمني إدارة البوليس بأن لي علاقة بهذه الجمعية قط؛ بدليل أنها لم ترسل من جانبها من يتحرى ما في منزلي من الأوراق كما فعلت مع كل من اشتبهت في أمره. ولكنها ألحت في استجوابي، عسى أن يكون ذلك المحامي حين نثر بعض ما في كنانته بذلك المجلس، قد تحدث بأكثر مما قصصته عليه، ثم رأتني مسؤولاً عن عدم إبلاغ ما صدر من ذلك المحامي للحكومة في حينه، وأذنت باعتقالي حتى يرى المجلس العرفي رأيه. وكان جوابي عن هذا السؤال: أنه لم يكن لدي ما يشهد بثبوت ما أبلغه عن المتهم إذا وقع على قضية طالبتني الحكومة بالإثبات، وذكرت لهم قضايا غضبت منها الحكومة على من بلغها أشياء، ولم يستطع إثباتها،

ونسبته إلى الافتراء والتهويش عليها، بل حكمت على بعضهم بالسجن الطويل حيث أبلغها عن أناس أنهم يعقدون مؤامرة ضدها، وعجز عن إثبات ذلك. وقد تلقى المجلس العرفي هذا العذر بالقبول، وحكم بالبراءة، وتلطف عليَّ رئيس المجلس فخري باشا، وقال لي في نفس الجلسة: هل لك مطلب لدى الدولة نتوسل لك في قضائه؟ فأجبته باني لا أبتغي شيئاً، وعدها بعض الحاضرين إضاعة لفرصة سنحت. وقرر المجلس ما قدم له المدعي العمومي من مخاطبة جمال باشا بطلب مكافأتي على القيام في وجه ذلك المحامي، والإنكار عليه، ولكني لم أتشبث بهذا القرار. وقنعت بما ظهر للدولة والأمة من طهارة ذمتي، وعدم تسرعي إلى النفخ في لهيب الفتنة على غير هدى. لم أنحرف عن مبدأ تأييد الدولة العلية ومقاومة خصومها جهد استطاعتي، حتى في أثناء مدة اعتقالي، وكان "سعدي أفندي الملا" أحد أعيان طرابلس الشام الذين رافقوني بمكان الاعتقال يقول في شأني للوفود التي ترد عليه للتهنئة بالإفراج عنه: ما رأيت أحداً يدافع عن الحكومة وهو في معتقلها إِلا فلاناً. وحيث لم يقدح في نفس الحكومة خاطر اتهامي بمشاركة الذين مالؤوا أعداءها عليها، عينتني بعد تخلصي من ضائقة الاعتقال محرراً بالقلم العربي في دائرة من أقسام وزارة الحربية، وكنت أصل إلى سرائر لا يدنو منها إِلا من نزل عندها منزلة الناصح الأمين، وتماديت على العمل إلى أن عقدت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها. لم يسعني بعد انعقاد الهدنة ورجوعي من أوربا إِلا أن قفلت راجعاً إلى الشام مفوضاً الأمر إلى الله، وبعد أن استقر بي النوى في دمشق، أضمر

لي قائدها العربي ما لا تحمد عاقبته، وشرع يناقشني الحساب بواسطة إدارة الأمن العام على علاقتي بالدولة العثمانية، وكان بيني وبينه تعارف أدبي كدت أسميه صداقة، ولما انتهى خبر هذه المعاملة الجافية إلى بعض أصحابنا الذين لهم به صلة متينة، تقدموا إليه باللائمة والإنكار، وجادلوه بشدة، حتى أقنعوه بنني لا أرجح عنصراً على غيره، إِلا العمل لترقية شأن الأمة الإسلامية، وتأكيد جامعتها، فطوى عندئذ بساط المناقشة والاستجواب، وكتب بيده إلى وزير المعارف يذكر أني عالم فاضل، وأنه لابد من الاستفادة من مقدرتي. قدمت دمشق، فوجدت بها لجنة دولية أعلنت بأن لمن لحقه أذى من الحكومة العثمانية، مالياً أو غيره، أن يقدم طلب تعويض؛ لتسجله، وتدفع له المقدار المطلوب في وقت قريب، وهي ترجع به من بعد على الحكومة العثمانية، فتهافت عليها الناس من كل حدب، ومن بينهم طائفة اعتقلوا بضعة أشهر، وبرئت ساحتهم، فتقدموا إلى اللجنة يطلبون ألفي جنيه تعويضاً، وقررت لهم اللجنة ذلك، ولقد حثني بعض القوم على أن أفعل مثل ما فعلوا، فاجبته: بأن الدولة لم تظلمني فتيلاً، واقتضاء المال من بيت مال المسلمين على هذا الوجه غير سائغ بإجماع. هذا ما أسمح اليوم ببثه، وأراه كافياً في إماطة اللبس الذي أتى من ناحية بعض الكلمات المعبر عنها في مجلة "البدر"، وللتاريخ بعد هذا لهجة ينكشف لصراحتها كل لبس، وحكم نافذ ليس من ورائه استئناف. محمّد الخضر حسين القاهرة - سنة 1342 هـ

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين الحمد لله، والصلاة على رسول الله. الفاضل الأخ السيد محمد المكي حسين - حفظه الله -. السلام عليكم. أما بعد: فقد بلغني المكتوب البغدادي، واستفدت من ظرفه أنكم بخير، فأحمد الله على ذلك .. أقمنا منذ ليلتين حفلة تأبين للأستاذ الشيخ سيدي سالم بوحاجب (¬1) في رواق المغاربة بحضور جمع غفير من الطلبة وغيرهم، فقرئ نصيب من القرآن، ثم ألقيت محاضرة مرتجلة في آثار حياة الأستاذ ومقامه العلمي، ¬

_ (¬1) سالم بن عمر بوحاجب البنبلي، فقيه، لغوي، أديب، شاعر من أعلام عصره. ولد في بنبلة من قرى مدينة المنستير بتونس، وتلقى علومه في جامع الزيتونة، له ذكاء وحافظة نادرة. ومن رجال الإصلاح، وأحد المدرسين من الطبقة الأولى في جامع الزيتونة، سافر إلى إيطاليا وفرنسا، وتولى الفتوى سنة 1323 هـ. وتوفي بالمرسى في الضاحية الشمالية لمدينة تونس. من مؤلفاته: تقارير على شرح الأشموني على الخلاصة الألفية لابن مالك -تقارير على شرح صحيح البخاري- ديوان خطب - ديوان شعر - رحلة - شرح على ألفية ابن عاصم في الأصول. مولده ووفاته (1244 - 1342 هـ = 1828 - 1924 م).

وإن شاء الله ننشر خلاصتها في بعض الجرائد المصرية، وبلغوا أعز التحية إلى ابنتنا البغدادية (¬1)، وبناتها، وسائر الإخوان. وقد سرنا ولاية الأستاذ ابن عاشور (¬2) كاهية باش مفتي، وولاية الأستاذ الشيخ أبي الحسن النجار (¬3) مفتياً، فبلغوهما أعز التحية والتهنئة عندما تساعد الفرصة على ذلك، ودمتم بخير. والسلام من أخيكم محمد الخضر وكتب في 14 - 8 - 1924 القاهرة [حاشية] تأخرت عنا مكاتيبكم، وليس من عادتكم انتظار مكاتيبنا، ونكاتبكم بعد هذا -إن شاء الله-. انتهى كتاب "المغني عن الحفظ" (¬4) في الأحاديث الموضوعة، ولنا ¬

_ (¬1) إحدى قريبات الإمام في مدينة تونس. (¬2) محمد الطاهر بن عاشور - مرت ترجمته. (¬3) بلحسن ابن الشيخ محمد بن عثمان النجار، أبو الحسن، من كبار الفقهاء والمحققين، ولد بمدينة تونس، وتلقى علومه في جامع الزيتونة، وارتقى فيه إلى التدريس من الطبقة الأولى، تولى خطة الإفتاء في ذي الحجة (1342 هـ - 1924 م). وتوفي بتونس (... -1373 هـ = ... - 1953 م). (¬4) كتاب "المغني عن الحفظ والكتاب" من الكتب التي قدم لها، وعلق عليها الإمام، والكتاب من تأليف الشيخ الحافظ أبي حفص عمر بن بدر الموصلي الحنفي ... طبع للمرة الأولى سنة 1342 هـ. وأعدت طباعته سنة (1414 هـ = 1994 م).

أمامه مقدمة في الكلام على وضع الحديث، وتعليق على أصل التأليف، كما انتهى "شرح التبريزي على المعلقات" (¬1)، وعليه تعليقات لغوية، وسنرسل إليكم من الكتابين نسختين. ¬

_ (¬1) "شرح القصائد العشر" للإمام الخطيب أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي المتوفى سنة 502 هـ. وللإمام تعليقات هامة على الكتاب. طبع للمرة الأولى سنة 1343 هـ في القاهرة، وأعدت طباعته بدمشق سنة (1414 هـ - 1994 م).

رسالة شعرية إلى أحمد تيمور باشا

رسالة شعرية إلى أحمد تيمور باشا (¬1) نظم الإمام هذه الأبيات وأرفقها ببقية القلم الذي كتب به تأليفه الشهير: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" وفيه الرد على كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين، وبعث بها إلى صديقه الكبير أحمد تيمور باشا. سَفَكَتْ دَمي في الطِّرْسِ أنْمُلُ كاتب ... وَطَوَتْنِيَ المِبْراةُ إلّا ما تَرى (¬2) ناضَلْتُ عَنْ حَقٍّ يُحاوِلُ ذُو هَوًى ... تَصْوِيرَهُ للنَّاسِ شَيْئاً مُنْكَرا (¬3) لا تَضْرِبوا وَجْهَ الثَّرى بِبَقِيَّةٍ ... مِنِّي كما تُرمى النَّواةُ وَتُزْدَرَى (¬4) ¬

_ (¬1) أحمد بن إسماعيل بن محمد تيمور باشا. من العلماء المؤرخين والباحثين المحققين، كان عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق. تجمعه مع الإمام صداقة متينة تتجلى في وصية الإمام أن يدفن في مقبرة آل تيمور جانب صديقه. وتم ذلك بالفعل. ولد في القاهرة، وبها توفي (1288 - 1348 هـ = 1871 - 1930 م)، وللأستاذ تيمور مصنفات كثيرة في التاريخ والأدب واللغة. (¬2) سفكت: صبت. الطرس: الصحيفة. المبراة: السكين يبرى به القلم. (¬3) الهوى: العشق يكون في الخير والشر، ويقال: فلان من أهل الأهواء: أي: ممن زاغ عن الطريقة المثلى. المنكر: ما ليس فيه رضا الله. (¬4) الثرى: الأرض. النواة: عجمة التمر ونحوه؛ أي: حبه أو بزره، جمع نوى ونويات. تزدرى: تحتقر ويستخف بها.

فَخِزانَةُ الأُسْتاذِ "تَيْمورَ" ازْدَهَتْ ... بِحِلًى مِنَ العِرْفانِ تُبْهِرُ مَنْظَرا فأنا الشَّهيدُ وَتلْكَ جَنَّاتُ الهُدى ... لا أبْتَغي بِسِوى ذُراها مَظْهَرا (¬1) محمّد الخضر حسين القاهرة سنة 1345 هـ ¬

_ (¬1) الشهيد: القتيل في سبيل الله. الذرا: جمع ذروة، والذروة من الشيء: أعلاه.

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. الأخ الفاضل السيد محمد المكي حسين -حفظه الله-. السلام عليكم. أما بعد: فقد بلغني مكتوبكم، فأحمد الله على عافيتكم، تصلكم ورقة بها حوالة 400 فرنك لابنتنا (¬1). إني بخير والحمد لله. ألقيت محاضرة في الرد على علي عبد الرازق (¬2)، ونشرت في "الفتح" (¬3)، عنوانها: "العظمة" (¬4)، ثم طبعت ¬

_ (¬1) له ابنة اسمها سكينة من زوجة تونسية. (¬2) علي بن حسن بن أحمد عبد الرازق، درس في الأزهر، وفي أكسفورد، عين قاضياً شرعياً، وضع كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، وأثار ضجة مشبوهة. ورد عليه الإمام محمد الخضر حسين بكتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم". ولد في "أبي جرج" المنيا، وتوفي بالقاهرة (1355 - 1386 هـ = 1888 - 1966 م). (¬3) صحيفة "الفتح" أسسها السيد محب الدين الخطيب في ذي الحجة من عام (1344 وحتى 1367 هـ = 1926 - 1948 م) في القاهرة. ونشرت مقالة "العظمة" في العدد 68 من السنة الثانية لعام (1346 هـ -1927 م). (¬4) محاضرة للإمام في الرد على مقالة علي عبد الرازق التى كان نشرها في جريدة =

مستقلة، وسنرسل إليكم نسخاً -إن شاء الله-. نشرت "الزهراء" (¬1) أبياتاً نظمناها في "السعيديات" (¬2) وبلغوا أعز تحيتنا إلى البغدادية، ونفيسة (¬3)، ووالدتها، وكافة الأهل والإخوان. ودمتم بخير. والسلام من أخيكم محمد الخضر القاهرة ربيع الثاني 1347 هـ - 7 نوفمبر 1927 [حاشية] بلغوا أعز تحيتنا إلى أستاذنا الشيخ سيدي أحمد أمين، وخالنا الشيخ سيدي الأزهري (¬4)، وصاحبنا المفضال الشيخ سيدي الحسين بن المفتي (¬5). ¬

_ = "السياسة" بالقاهرة يوم 12 ربيع الأول 1346 هـ. ونشرت المحاضرة في كتاب "محمد رسول الله وخاتم النبيين" للإمام. (¬1) مجلة أصدرها محب الدين الخطيب في القاهرة. (¬2) ديوان الشاعر التونسي سعيد أبو بكر. (¬3) ابنة أخيه السيدة نفيسة بنت الشيخ محمد الجنيدي، توفيت بتونس سنة (1409 هـ - 1988 م). (¬4) الأزهري بن مصطفى بن عزوز، خال الإمام محمد الخضر حسين، من رجال التصوف، تولى مشيخة الزوايا الرحمانية في شمال أفريقيا بعد وفاة أخيه الحفناوي، وكان مشرفاً على زاوية والده في "نفطة". توفي سنة (1350 هـ - 1931 م). ودفن إلى جانب والده في "زاوية نفطة". (¬5) الحسين بن المفتي: من علماء تونس.

جاءني مكتوب من أمين مكتبة الأمل، وسأجيبه -إن شاء الله-. احرصوا على الأخ السيد الأمين (¬1) أو السيد الطاهر (¬2) في أن يخبرني باسم من أدفع له قيمة الحوالة. ¬

_ (¬1) الأمين بن مصطفى صاحب المكتبة العلمية في نهج الكتبية بتونس مع أخيه الطاهر. (¬2) الطاهر بن مصطفى صاحب المكتبة في نهج الكتبية مع أخيه الأمين.

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين (¬1) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. الأخ الفاضل السيد محمد المكي حسين -حفظه الله-. السلام عليكم ورحمه الله. أما بعد: بلغني مكتوبكم، وأحمد الله على عافيتكم، وقد أسفنا شديد الأسف لوفاة الشيخ الكامل (¬2)، فنرجو الله تعالى له الرحمة الواسعة. وقد كتبت يوم التاريخ كتاباً تعزية لابنه السيد عبد الرحمن (¬3). أرسلنا ¬

_ (¬1) رسالة خالية من تاريخ التحرير في الأصل، وأعتقد أنها كتبت في - ذي القعدة سنة 1347 هـ تقريباً. فقد نشرت مجلة "الهداية الإسلامية" في الجزء السابع من المجلد الأول الإعلام التالي: انحقلت إدارة جمعية الهداية إلى دار جديدة في شارع سوق السلاح بالقاهرة. واتخذت فيها نادياً لإلقاء المحاضرات، وأقامت لهذه المناسبة في يوم الخميس (15 ذي القعدة سنة 1347 هـ الموافق 25 أبريل نيسان سنة 1929 م) حفلة. وبالمقارنة بين مضمون الرسالة وهذا الخبر أمكن تحديد تاريخ الرسالة على وجه التقريب. (¬2) الشيخ الكامل بن محمد المكي بن عزوز، ابن خال الإمام. (¬3) عبد الرحمن بن الكامل بن عزوز.

أعداد المجلة لمن كتبتم لنا أسماءهم، غير أن الأعداد الأول والثاني والثالث نفدت؛ لأنا طبعنا منها ألف نسخة فقط. اتخذنا لجمعية "الهداية" (¬1) ومجلتنا منزلاً فسيحاً، وهو يحتوي على بهو واسع لإلقاء المحاضرات، وستقيم الجمعية حفلة كبيرة بمناسبة افتتاح النادي، ولعلكم تقرؤون ما يلقى في هذه الحفلة من خطب وقصائد عندما تنشر في المجلة. وبلغوا أعز تحيتي إلى حضرة صاحب الفضيلة أستاذنا الشيخ سيدي أحمد الأمين، وخالنا الشيخ سيدي الأزهري، وكافة الأهل والإخوان. ودمتم بخير. والسلام من أخيكم محمد الخضر - القاهرة [الحاشية] أنها محل الجمعية، ففي سوق السلاح رقم 62. أرسلنا المجلة من العدد الأول إلى العدد الخامس إلى من ذكرتم في مكتوبكم، فرجعت من تونس مكتوب عليها: "ترد لمرسلها"، ولعلها لم تصل إلى الشيخ نفسه. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" شهرية إسلامية علمية أدبية اجتماعية، أصدرها الإمام في القاهرة عن جمعية "الهداية الإسلامية"، ويرأس تحرير المجلة والجمعية، غايتها السعي لتعارف الشعوب الإسلامية، ونشر حقائق الإسلام بأسلوب يلائم روح العصر، ومقاومة الإلحاد والدعايات غير الإسلامية بالطرق العلمية، والجهاد في إصلاح شأن اللغة العربية، وإحياء آدابها. صدر العدد الأول من المجلة في جمادى الثانية من عام 1347 هـ وتابعت صدورها ما يزيد على ثلاث وعشرين سنة بإشرافه العلمي والعملي وتوجيهه القيم.

بعث لنا السيد صالح بن محمود (¬1) غويلة صاحب المكتبة الإسلامية بنهج الكتبية يطلب أن نرسل له من المجلة 25 من كل عدد، وبما أننا لا نعرفه، توقفنا على السؤال عنه، فأفيدونا إذا لم يكن من الإرسال إليه من بأس. ¬

_ (¬1) صاحب المكتبة الإسلامية في تونس.

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين (¬1) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. الأخ الأديب السيد محمد المكي -حفظه الله-. السلام عليكم ورحمه الله. بلغني كتاب "الجواهر" (¬2). إذا كان ابننا الحسين (¬3) قدم وخلص من اشتراكات المجلة، فليدفع للشيخ محمد المؤدب ثلاث جنيهات، ومصاريف البريد، ويخبرني لندفعها للجمعية هنا. فإن لم يكن ابننا الحسين هناك، وتيسر أخذ هذا المقدار من السيد الأمين؛ لأن لإدارة المجلة عنده نحو ست جنيهات فيما أظن، كان لم يمكن هذا ولا ذاك، أخبرني لنرسلها له، وبلغوه أعز سلامنا. وصلني أيضاً "حاشية التنقيح" للشيخ جعيط (¬4)، وإن ¬

_ (¬1) رسالة خالية من سنة إنشائها، ومن المحتمل أن تحريرها تم في 2 ذي الحجة سنة 1348 هـ، فقد تضمنت نبأ وفاة المرحوم أحمد تيمور باشا المتوفى عام 1348 هـ. (¬2) كتاب "الجواهر السنية" في شعراء الديار التونسية جمع العالم رابع المحمدين من آل بيرم المتوفى عام 1278 هـ. (¬3) ابن أخيه الحسين بن علي بن الحسين. (¬4) محمد بن حمودة بن أحمد بن عثمان جعيط، فقيه أصولي، من المدرسين =

شاء الله نكتب عنها كلمة في الجزء الآتي، أصبح الشغل عندي متواصلاً؛ لأني أدرِّس يومين في الأسبوع بالتخصص، وباقي الأيام أشتغل في الصباح بمجلة "نور الإسلام" (¬1)؛ لأني عينت محرراً بها من ثلاثة آخرين من أهل العلم، وهم: الشيخ يوسف الدجوي (¬2)، والشيخ إبراهيم الجبالي (¬3)، والشيخ حسن منصور (¬4). والمجلة تظهر -إن شاء الله- في غرة محرم، أنها في المساء، فإني أذهب إلى إدارة الجمعية من الساعة 4 مساءً إلى الساعة 8، وأحياناً إلى التاسعة. ¬

_ = الزيتونبين ورجال الفتوى، مولده ووفاته بتونس (1268 - 1337 هـ = 1852 - 1918 م). من مؤلفاته: منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح، وهو حاشية على تنقيح الفصول للقرافي، فى جزأين -تقارير عن صحيح مسلم- رسالة في الأضحية - رسالة في صلاة الوتر. (¬1) مجلة صدرت عن الجامع الأزهر بالقاهرة في محرم سنة 1349 هـ باسم "نور الإسلام"، وعمل الإمام رئيساً للتحرير فيها من جزئها الأول إلى ربيع الآخر سنة 1352 هـ. وعرفت هذه المجلة فيما بعد باسم: مجلة "الأزهر". (¬2) يوسف بن أحمد بن نصر بن سويلم الدجوي، فقيه مالكي، ضرير، من علماء الأزهر، ولد في قرية "دجوة" من أعمال القليوبية وتوفي بضواحي القاهرة، ودفن في عين شمس (1287 - 1365 هـ = 1870 - 1946 م). له تصانيف عديدة منها: خلاصة علم الوضع -تنبيه المؤمنين لمحاسن الدين- والرد على كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق. (¬3) من علماء الأزهر، ومن أعضاء جمعية "الهداية الإسلامية"، ومن كتاب مجلة "الهداية الإسلامية". (¬4) من علماء الأزهر، ومن أعضاء جمعية "الهداية الإسلامية"، ومن كتاب مجلة "الهداية الإسلامية".

أصيبت الجمعية بوفاة العلامة أحمد تيمور باشا (¬1)؛ لأنه كان يساعدها مادياً وأدبياً نرجو من الله تعالى أن يعوضها منه خيراً، والواقع أن هذا الرجل خسره الإسلام؛ لأنه كان يساعد الحركة الدينية بكل ما يستطيع، والغيرة الدينية التي توجد عنده لم أرها عند غيره. وقد كان حبه لنا، ومبالغته في الحفاوة بنا فوق ما يتخيل، وستقيم الجمعية له حفلة تأبين، نرجو الله التوفيق، وسترون في المجلة عدد ذي الحجة وفاة السيد توفيق الدوجي (¬2) بدمشق -رحمه الله- وبلغوا أعز تحيتنا إلى الشيخ الأستاذ سيدي محمد المقداد (¬3)، مع أخلص الشكر على هديته القيمة. زار أعضاء الجمعية اليوم قبر تيمور باشا، وألقى بعض الأعضاء خطباً، وكان الموقف محزناً، وستقيم له الجمعية حفلة تأبين كبرى، وكان الرجل عديم المثال في أخلاقه وتواضعه، وغيرته الدينية. ودمتم بخير، والسلام من أخيكم محمد الخضر في 2 ذي الحجة [حاشية] بلغني مكتوب فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ سيدي الصادق النيفر بمناسبة الرسم، فبلغوه أعز التحية، مع الشكر العظيم على عاطفته الرقيقة، ووداده الصافي، نرجو من الله تعالى أن يديم فضله، والنفع به. ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في الكتاب "رسالة شعرية إلى أحمد تيمور باشا". (¬2) توفيق الدوجي من علماء دمشق، قرأ على الشيخ بدر الدين الحسني، وعطا الله الكسم، وأمين سويد، وعمل في التجارة. ولد وتوفي بدمشق. (¬3) انظر ترجمته في الكتاب "رسالة شعرية إلى محمد المقداد الورتتاني".

توفي تيمور باشا فجأة تقريباً؛ لأنه مريض بضعف القلب، وفي بعض الأحيان يعتريه ضيق نفس، فاعترته هذه الحالة الساعة الثالثة بعد نصف الليل، وتوفي في الساعة الرّابعة ونصف تقريباً -رحمه الله-. وكان قبل وفاته بليلة عندنا بالجمعية، بل في هذه الليلة -أي: ليلة الجمعة- رحنا إلى سفير الأفغان الجديد، ودعاه ليقيم له حفلة تكريم بالجمعية، واستعد لأن ينفق عليها عشرين جنيهاً مصرياً، ولا حول ولا قوة إِلا بالله.

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين (¬1) حضرة الأخ الفاضل السيد محمد المكي بن الحسين -حفظه الله-. السلام عليكم ورحمة الله. بلغني خطابكم، وفي طيه كلمة "العالم الأدبي" (¬2)، فأحمد الله على عافيتكم. أنها تلك الكلمة، فإنها لا تضرنا -إن شاء الله-، ولا تنفعهم. يصلكم كشف به أسماء من وجدت إدارة المجلة قطعت عنهم المجلة، وقد أعدنا إرسال المجلة لهم، وكتبنا لكل واحد خطاباً في العدد الأخير الذي أرسل إليه بأن يخاطبنا أو يخاطب الشيخ الثميني وكيل المجلة ببيان الأعداد التي تأخرت عنه؛ لنرسلها إليه. وصل الشيخ محمد شكر (¬3) العالم الصفاقسي إلى مصر عائداً من الحجاز. ¬

_ (¬1) رسالة خالية من التاريخ، ولما كانت كلمة مجلة "العالم الأدبي" وردت في العدد التّاسعمن السنة الثالثة عام 1349 هـ. فتكون هذه الرسالة في سنة 1349 هـ. (¬2) مجلة العالم الأدبي، علمية أدبية شهرية، صدرت في تونس عام (1349 هـ - 1935 م) للأستاذ زين العابدين بن محمد عثمان السنوسي. (¬3) محمد بن محمد شاكر، فقيه وأديب وشاعر وصوفي. ولد بمدينة صفاقس على الساحل التونسي، وتوفي بها (1292 - 1383 هـ = 1875 - 1963 م). حصل على شهادة "التطويع" من جامع الزيتونة. وعمل في التدريس والتوجيه الديني في =

بلغوا أعز تحيتنا إلى حضرات الأساتذة؛ الشيخ ابن عاشور، والشيخ الصادق النيفر، والشيخ محمد المقداد، وكل من يسأل عنا. أما "العارضة" (¬1)، فقد شرع في طبعها، وقد نجز منها طبع ثلاثة أجزاء، وشرعوا في الرابع، وستكون 8 أجزاء، والمراد: الاستعانة بنسخة الأستاذ الشيخ أبي الحسن النجار؛ لصحتها فيما سمعت، والقائم بطبعها هنا تاجر مغربي يقال له: التازي. وبلغوا أعز تحيتي إلى الأخ الشيخ أبي الحسن النجار، وإن كان له تحرير في بعض الموضوعات العلمية، فليتكرم بإرساله؛ لينشر في المجلة ... وصلني درس الشيخ محمد البشير النيفر (¬2)، وقد نشرنا قسماً منه في ¬

_ = صفاقس. من مؤلفاته: الرد الوافي على زعم الشيخ الكافي - عقيدة الفلاح ومنهج الرشاد والإصلاح. (¬1) كتاب "عارضة الأحوذي في شرح الترمذي" تأليف محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، أبو بكر بن العربي، قاض من حفاظ الحديث، بلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، ولد في إشبيلية، وتوفي قرب فاس (468 - 543 هـ = 1076 - 1148 م). (¬2) محمد البشير بن أحمد بن محمد النيفر، من كبار العلماء التونسيين، تلقى علومه في جامع الزيتونة، وتولى إماماً أولاً بالجامع، كما أسندت إليه خطة الإفتاء سنة 1359 هـ. وتولى القضاء سنة 1362 هـ. ولد في تونس، وتوفي بها (1306 - 1394 هـ = 1887 - 1974 م). من تصانيفه: تراجم المفتين والقضاة -شمول الأحكام الشرعية لأول الأمة وآخرها- نبراس المسترشدين في أمور الدنيا والدين. وله عشرات المقالات في الصحف والمجلات.

عدد صفر، وننشر القسم الباقي في عدد ربيع الأول؛ لأنه بحث مفيد، ونريد إطلاع المصريين وعلماء الشرق على آثار علماء تونس، وخصوصاً بعد أن رأيناهم يعجبون بما يكتبه أولئك الأساتذة، ويقوم لديهم شاهد على أن في تونس نهضة علمية راقية. وكذلك محاضرة شيخ الإسلام قرؤوها بغاية الاستحسان، وسلموا لنا على ابننا عبد العزيز (¬1)، ووالدته. ودمتم بخير، والسلام من أخيكم محمد الخضر حسين ¬

_ (¬1) عبد العزيز بن الحسين بن علي، من أحفاد شقيق الإمام، وكان الإمام يرعاه، ولد في دمشق سنة (1338 هـ - 1919 م). وتوفي بتونس صغيراً عام (1358 هـ - 1939 م).

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين الحمد لله، والصلاة على رسول الله. حضرة الأخ الفاضل - حفظه الله-. السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد: فقد بلغتني مكاتيبكم، فأحمد الله على ما أنتم عليه من الصحة، وصل من دمشق الشيخ المكي الكتاني (¬1)، وسي الحاج رابح (¬2)، واليوم يتغدون عندنا، عملي اليوم كعملي في السنة الماضية، أخرج بالساعة 7 إلى كلية أصول الدين، فأصلها (ثمانية إِلا ربع)؛ لأنها في شبرا بضواحي القاهرة، ¬

_ (¬1) محمد المكي بن محمد جعفر الكتاني الحسني، رئيس رابطة العلماء المسلمين في دمشق، مفتي المالكية، ولد بمدينة فاس، وتوفي بدمشق (1312 - 1393 هـ = 1894 - 1973 م)، تلقى علومه في جامع القرويين بفاس، وأقام في الحجاز، وانتقل إلى دمشق، واستقر فيها حتى وفاته. عمل في الحقل الوطني، والتوجيه الإسلامي من خلال الدروس التي يلقيها في مساجد دمشق، وفي داره. (¬2) محمد كبير بن رابح بلقاسم التلمساني الجزائري الحسني، من رجال الصلاح والتقوى، والملازمين للعلماء، ولد في عين الصفراء بالصحراء الجزائرية، وتوفي بدمشق (1302 - 1380 هـ = 1884 - 1960 م). هاجر إلى دمشق مع عائلته سنة 1328 هـ.

ونستمر في الدرس إلى الساعة التاسعة ونصف، وأذهب منها إلى "نور الإسلام" (¬1)، وأبقى بها إلى الساعة 2 بعد الظهر، وفي الساعة الخامسة أذهب إلى جمعية الهداية. أقامت جمعية الهداية حفلة تأبين للشيخ محمد عبد المطلب المعروف في الصحف بالشاعر البدوي، وكان وكيلاً أول للجمعية، وسينشر في المجلة ما ألقي من قصائد وخطب في الحفلة، وحضر الحفلة شيخ الجامع الأزهر، ولعلّكم تقرؤون في الصحف عن المدرسين المفصولين من الأزهر، وهم ستة يرأسهم الشيخ الزنكلوني، وهؤلاء هم المعروفون ببث العقائد الزائغة في الأزهر، وقد كانوا يساعدون أبا زيد في تفسيره، ويعد طبع التفسير كانوا يعملون على ترويجه، وفي فصْلهم تطهير للأزهر من شرور كثيرة. وصلني خطاب ومقال من حضرة الشيخ الشاذلي النيفر (¬2)، وسأكتب له -إن شاء الله-، أما المقال، فأرجأناه لفرصة أخرى. كان فضيلة الأستاذ الشيخ محمد بشير النيفر بعث إلي مقترحاً أن يكون دفع ثمن أجر طبع الختم على دفعتين، ولم نر مانعاً من ذلك، وقد طبع منه 12 مئة نسخة، وهي حاضرة بالمطبعة السلفية منذ مدة، وأصحاب المطبعة ¬

_ (¬1) مجلة صدرت عن الجامع الأزهر في محرم سنة 1349 هـ، وهي المعروفة اليوم باسم "الأزهر"، وقد تولى الإمام رئاسة تحريرها في أول عهدها. (¬2) محمد الشاذلي بن محمد الصادق النيفر، من كبار علماء تونس، تلقى علومه في جامع الزيتونة، وعمل أستاذاً فيه، وعميداً لكلية الشّريعة، وعضواً في المجلس النيابي، ولد في مدينة تونس سنة (1329 هـ = تموز 1911 م) -حفظه الله-. له مؤلفات عديدة.

ينتظرون الثمن ليرسلوا له النسخ، أو تصرف على حسب ما يأمر به، فبلغوه أزكى تحياتنا، وإذا بدا له أن يأخذ نصف النسخ بنصف القيمة، ويدع النصف الآخر للسلفية في مقابلة النّصف الآخر، فالسلفية لا تجد مانعاً من ذلك، وإذا بدا له أخذ النسخ جملة، أرسل القيمة ومصاريف البريد، فترسل لفضيلته في الحال. والسلام عليكم ورحمة الله أخوكم محمد الخضر حسين في 15 شعبان 1350 هـ القاهرة [حاشية] تأخر إرسال هذا الخطاب إلى يوم الأحد 2 رمضان. وصلنا مقال السيد علي عبد الوهّاب، وسنشره -إن شاء الله-. بلغوا هذه البطاقة إلى حضرة الأستاذ الشيخ البشير النيفر.

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين الحمد لله، والصلاة على رسول الله. الأخ الفاضل السيد محمد المكي بن الحسين -حفظه الله-. السلام عليكم ورحمه الله. أما بعد: فقد وصلني مكتوبكم الآن؛ أي: في مبدأ الساعة التاسعة صباحاً من يوم الأربعاء الثاني عشر من رمضان (والصيام هنا كان يوم السبت) وأنا جالس على مكتبي بجمعية الهداية الإسلامية، أما محاضرة فضيلة شيخ الإسلام، فقد كنت قرأتها في جريدة "الزهرة" (¬1)، وأعجبت بها، غير أن الجريدة تحفظ في مجلة "نور الإسلام"، وفي دار الهداية، فلا بأس في إرسال نسخة من هنالك. وربما يظهر لفضيلة الأستاذ شيء من الزيادة فيها، وننشرها -إن شاء الله- عند وصول النسخة إلينا من غير عزو إلى صحيفة .. ¬

_ (¬1) جريدة سياسية أدبية نصف أسبوعية ثم يومية، صدرت في تونس (من 20/ 6/ 1890 إلى 9/ 4/ 1959 م) تخللتها فترات انقطاع عن الصدور. ورأس تحريرها الأستاذ عبد الرحمن الصنادلي، ثم الأستاذ محمد الصنادلي.

أسفت جداً لما اطلعت عليه في جريدة "النهضة" (¬1) من حادثة الشيخ معاوية (¬2) في درس الأستاذ الشيخ باش مفتي، ونتمنى أن ينقطع ذلك النزاع على أحسن حال. ودمتم بخير محمّد الخضر حسين يوم الأربعاء 12 رمضان 1350 [حاشية] بلغوا سلامنا إلى جميع الأهل والإخوان. ¬

_ (¬1) جريدة سياسية إخبارية يومية إصلاحية، صدرت في تونس منذ 1/ 10/ 1923، وكان الأستاذ الشاذلي القسطلي صاحبها، والأستاذ بكار العروسي رئيساً للتحرير. (¬2) معاوية بن الطاهر بن صالح الماجري التميمي، عالم زيتوني، كان مدرساً من الطبقة الأولى بالمذهب المالكي، ولد ببلدة منزل تميم، وتوفي بتونس (1309 - 1363 هـ = 1891 - 1944 م).

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين الحمد لله، والصلاة على رسول الله. الأخ الفاضل السيد محمد المكي بن الحسين -حفظه الله-. السلام عليكم ورحمة الله. وصلني خطابكم، فأحمد الله على عافيتكم. وصل الأستاذ حسن أفندي حسني عبد الوهاب (¬1)، وزارنا مراراً، وزرناه، وسافر أول أمس إلى فلسطين، ومنها إلى الشام، ثم يعود إلى تونس، وقد قوبل هنا، ولا سيما من وزارة المعارف بالاحترام، إذ رأوا فيه نباهة وفضلاً. أسفُنا شديد على وفاة خالنا المرحوم الشيخ سيدي الأزهري، نرجو له الرحمة الواسعة. كان ابن أخينا الحسين أرسل إلي كشفاً بأسماء من أبوا أن يدفعوا قيمة الاشتراك لمجلة الهداية، فقطعنا إرسالها إليهم. عزل طه حسين (¬2) من ¬

_ (¬1) حسن حسني بن صالح بن عبد الوهاب بن يوسف الصمادحي، باحث ومؤرخ، ولد في تونس، وتوفي بها (1301 - 1388 هـ = 1884 - 1968 م)، كان عضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة. له تصانيف منها: الإمام المازري - خلاصة تاريخ تونس - شهيرات التونسيات - المنتخب المدرسي من الأدب التونسي. (¬2) طه بن الحسين بن علي بن سلامة، أستاذ جامعي، كفيف البصر، ولد بالصعيد المصري في قرية "الكيلو"، وتوفي بالقاهرة (1307 - 1393 هـ = 1889 - 1973 م)، درس في الأزهر، وفي باريس. له مؤلفات عديدة. ومنها كتابه "في الشعر =

الجامعة، ومن خدمة الحكومة، واستقال لطفي السيد (¬1)، كما طرد من الأزهر بعض مدرسين يتهمون بالإلحاد، منهم: الشيخ الزنكلوني، ووزير المعارف اليوم يريد تطهير الجامعة والمدارس من الإلحاد، قابلناه بالأمس، وشكرناه باسم الجمعية على إبعاد طه حسين من الجامعة. سننشر محاضرة الشيخ بيرم. طلبت من شيخ الجامع أن ترسل المجلة إلى الشيخين: الشيخ الطاهر بن عاشور، والشيخ أحمد بيرم هدية، فأجاب إلى ذلك، وسترسل إليهم من أول السنة الثالثة. قرر مجلس الوزراء منحي التجنس بالجنسية المصرية، وسعيت في هذا؛ لأن تعييني للتدريس على وجه ثابت يتوقف عليه. ودمتم بخير 5 من ذي الحجة 1350 - القاهرة [حاشية] خذوا من السيد الثميني أو السيد الأمين نصف جنيه مصري لكم، ونصف جنيه لعبد العزيز، وأخبروني لمن ندفعها هنا، ونصف جنيه لوالدة عبد العزيز. وبلغوا سلامنا إلى كافة الأهل والإخوان. ¬

_ = الجاهلي"، ورد عليه الإمام محمد الخضر حسين بكتابه "نقض كتاب في الشعر الجاهلي". (¬1) أحمد لطفي بن السيد، رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة، ولد في قرية "برقين" بمركز السنبلاوين بمصر، (1288 - 1382 هـ = 1870 - 1963 م)، درس الحقوق، وعمل في المحاماة والسياسة، ووزيراً للمعارف والداخلية والخارجية، نقل إلى العربية كتب أرسطو. وله مقالات في المجلات والصحف.

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين الحمد لله، والصلاة على رسول الله. الأخ الفاضل السيد محمد المكي بن الحسين -حفظه الله تعالى-. السلام عليكم ورحمة الله. وصلتني منكم مكاتيب، فأحمد الله على عافيتكم، وفي هذه المكاتيب أن مجلة "الهداية الإسلامية" لا تصل إلى بعض المشتركين، وقد كان ابننا الحسين أرسل إلينا كشفاً في أسماء من لم يدفعوا، وطلب قطع المجلة عنهم، فقطعتها الإدارة. وها هو هذا كشف في أسماء بقيت أسماؤهم مقيدة، وترسل إليهم المجلة، والمراد: إعلامنا بمن لم تصله المجلة من هؤلاء، وما هي الأعداد التي لم تصله. وإذا كان من غير الموجوين في هذا الكشف من يرغب في أن تعاد إليه المجلة، فأخبرنا لنرسلها إليه. وبالجملة: فأخبرنا بأسماء من يرغبون في الاستمرار على الاشتراك في المجلة من المكتوبة أسماؤهم في هذا الكشف أو غيرهم. ما كتب في مجلة "الفتح" من ترجمتنا هو منقول من جريدة "الأهرام" (¬1)، ¬

_ (¬1) جريدة يومية سياسية تصدر في القاهرة.

والمنشور في جريدة الأهرام كتبه مسيحي يقال له: توفيق حبيب (¬1) وهو الذي يمضي باسم: صحافي عجوز، وما كتبه أخذ بعضه من الشيخ الصادق عرجون (¬2)، وبعضه من محب الدين أفندي الخطيب (¬3). . . . . (¬4) كان ابننا الحسين يغيب كثيراً عن تونس، ونريد أن يكون الاشتراك في "مجلة الهداية" منتظماً، فخاطبوا الشيخ الثميني (¬5)، أو السيد الأمين على أن يكون وكيل المجلة في تونس، وأخبرونا من تحسنونه للوكالة. وسلامنا إلى كافة الأهل والإخوان. لا زلنا ننتظر كتاب "العارضة" من الأستاذ الشيخ أبي الحسين النجار ¬

_ (¬1) توفيق بن حبيب ملكية، من رجال الصحافة في مصر. كان يوقع بعض المقالات باسم: "الصحافي العجوز"، ولد وتوفي بالقاهرة (1297 - 1360 هـ = 1880 - 1941 م) (¬2) من علماء الأزهر، ومن كتاب مجلة "الهداية الإسلامية". (¬3) محب الدين بن أبي الفتح محمد بن عبد القادر بن صالح الخطيب، كاتب إسلامي كبير وصحفي، ولد في دمشق، وتوفي بالقاهرة (1303 - 1389 هـ = 1886 - 1969) عمل في السياسة، وحكم عليه الأتراك بالإعدام غيابياً، أصدر في القاهرة مجلتي: "الزهراء"، و"الفتح"، وكان من مؤسسي "جمعية الشبان المسلمين" مع الإمام محمد الخضر حسين، وله المطبعة السلفية ومكتبتها، له تصانيف عديدة: الحديقة - تاريخ مدينة الزهراء بالأندلس - الرعيل الأول في الإسلام - ذكرى موقعة حطين - وغيرها. (¬4) كلمة غير واضحة في الرسالة، وأعتقد أنها (إذا). (¬5) محمد الثميني وعبد العزيز أصحاب مكتبة - نهج ابن عروس تونس.

ليستعان به على التصحيح، وقد أعطيتهم نسختي، ولكنها محرفة تحريفاً فاحشاً. سننشر في عدد محرم محاضرة شيخ الإسلام في مجلة "الهداية الإسلامية". ودمتم بخير، والسلام من أخيكم - محمد الخضر حسين

كتاب موجه إلى وزير المعارف المصرية

كتاب موجه إلى وزير المعارف المصرية (¬1) حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد عرف الناس منذ سنين أن الدكتور طه حسين يعمل لهدم العقائد الإسلامية، وإفساد الأخلاق الكريمة، فكانوا يأسفون الأسف الشديد على طائفة من شبابنا يدخلون الجامعة ليتغذوا بلبان العلوم الصافية والتربية الصحيحة، فيقعون بين يدي هذا الرجل الذي يعمد إلى تلك الفطر السليمة، فينفخ فيها زيفاً، ويثير فيها أهواء، بل دلت محاضراته ومؤلفاته على أنه ينحو بالطلاب نحواً يبعد بهم عن طريق التفكير المنتجة. ¬

_ (¬1) محمد حلمي عيسى باشا، حقوقي، وزير، من أفاضل رجال مصر، عضو في المجلس النيابي، عمل في القضاء والإدارة، وكان وزيراً للمواصلات، ثم للمعارف، ولد في "أشمون" بالمنوفية، وتوفي بالقاهرة (... - 1373 هـ = ... - 1953 م). له كتاب "شرح البيع في القوانين المصرية والفرنسية وفي الشريعة الإسلامية". ونشرت مجلة "الهداية الإسلامية" في الجزء السادس من المجلد الرابع وتحت عنوان "وزير المعارف يقوض صرح الإلحاد في مصر" الكلمة التالية: في الأسبوع الثاني من هذا الشهر أصدر معالي حلمي عيسى باشا وزير المعارف =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قراراً بنقل الدكتور طه حسين من مرتبة عميد كلية الآداب بالجامعة المصرية إلى مرتبة التفتيش بالديوان العام في الوزارة، فوقع هذا القرار من نفوس الناس جميعاً -ما عدا إخوان الدكتور- موقع الارتياح، ولهجت الألسنة بشكر معالي الوزير. وفي يوم الخميس 10 ذي القعدة 1350 هـ وقف معالي الوزير، وألقى بياناً ضافياً إجابة عن سؤال النائب المحترم أحمد والي الجندي. جاء في هذا البيان ما يأتي: "ومن هذا الكشف ترون أن الدكتور طه حسين منذ اشتغل بالتدريس في الجامعة بدأ عمله في إخراج كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي قامت حوله ضجة في قاعة مجلس النواب في يوم الاثنين 13 سبتمبر 1926، وتقدم بشأنه اقتراح نصه: 1 - مصادرة وإعدام كتاب طه حسين المسمى: "في الشعر الجاهلي" بمناسبة ما جاء فيه من تكذيب القرآن الكريم ... إلخ. 2 - تكليف النيابة العامة برفع الدعوى على طه حسين مؤلف هذا الكتاب؛ لطعنه على الدين الاسلامي دين الدولة. 3 - إلغاء وظيفته من الجامعة ... إلخ، وقد استبدل به الدكتور طه حسين كتاب "الأدب الجاهلي"، وله رسائل منها ما ترجمه عن اللغات الأجنبية، وأبحاث ألقيت كمحاضرات في بعض المؤتمرات، والباقي رسائل جمعت مما نشر في الصحف ... إلخ". وقد تكلم الأستاذ أحمد والي الجندي بعد انتهاء الوزير من بيانه، فقال: إلي كلمتان موجزتان بعد هذه الإجابة القيمة، فأما الكلمة الأولى، فهي أن معالي الوزير كشف لنا عن حقائق رسمية لا يرتقي إليها الشك بحال. فكان من هذه الحقائق: أن الدكتور طه حسين لم تتجاوز مؤهلاته العلمية منزلة غيره من أساتذة الجامعة ... إلخ. ومنها: أن هذا الرجل الذي يزعمون أنه المثل الأعلى في التخلق بفضيلة العلم لم يستبح لنفسه أن يخون أمانة العلم وحدها، ولكنه استباح لها أيضاً أن يخون أمانة المال. وإذن، فوجب أن نضيف إلى هذه الحقائق حقيقة أخرى، وهي أن الضجة التي افتعلوها تؤيد هذه الخيانات، ثم تساءل قائلاً: هل تجتزي وزارة المعارف، وقد تكشف لها سيرة الدكتور طه حسين عما يسوقه إلى مجلس التأديب؟ أبعد هذا تجتزي الوزارة بنقله إلى وزارة المعارف؟ ". وفي غضون هذه الحوادث استقال مدير الجامعة لطفي بك السيد صديق الدكتور، وفي =

وطالما ضجت الأمة ورفعت صوتها بالشكاية من نزعته المؤذية للدين، المفسدة للأخلاق، المعكرة لصفو العلم، وطالما ترقبت أن ترى من ناحية وزارة المعارف ما يحقق أمنيتها، فكنت يا صاحب المعالي ذلك الوزير الذي عرفت حقيقة الدكتور طه حسين كما هي، فأقصيته عن دائرة التعليم وأرحت ضمائر الأمة. فكفاك مفخرة أن حميت الدين والفضيلة والعلم من لسانِ شدّ ما جهل عليها، وأفسد في طريقها، وإن جمعية الهداية الإسلامية التي تنظر إلى تصرفات وزارة المعارف من ناحية الدين والعلم والأخلاق، لتقدم لمعاليكم أخلص الشكر على هذه الهمة الدالة على ما رزقتموه من غيرة وحزم وسداد رأي. وتفضلوا يا صاحب المعالي بقبول عظيم الاحترام رئيس جمعية الهداية الإسلامية رئيس جمعية الهداية الإسلامية محمّد الخضر حسين محرم 1351 ¬

_ = يوم 21 مارس الجاري استدعي طه حسين للتحقيق، فامتنع، ونشرت الجرائد أن معالي الوزير قرر مصادرة كتاب "الأدب الجاهلي". وفي يوم الاثنين 21 ذي القعدة انعقد مجلس النواب، وعرض فيه استجواب النائب المحترم الدكتور عبد الحميد سعيد الموجه إلى معالي وزير المعارف خاصاً بهذه المسألة، فألقى صاحب الاستجواب خطاباً أتى فيه على سلسلة إساءات من طه حسين للدين والأخلاق، وطلب تنحيته من وزارة المعارف حتى لا يكون له تأثير على مناهج التعليم، وكان المجلس بأجمعه مشاركاً لحضرة الخطيب فيما أورده من الحقائق، وفيما طلبه من وزارة المعارف ... إلخ".

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين الحمد لله، والصلاة على رسول الله. حضرة الأديب الأخ محمد المكي حسين -حفظه الله-. السلام عليكم ورحمه الله. عدت من الأقطار الحجازية في خير، والحمد لله. تأخرت مكاتبتي لكم؛ لكثرة أشغال المجلة والجمعية والتدريس، مع شؤون أخرى هي من متعلقات سفرنا إلى الحجاز. أختنا لا زالت هنا، ولعلها تسافر بعد أسبوع، وصل السيد الطاهر، وزارنا بالأمس في "نور الإسلام"، وفطوره اليوم عندنا بالبيت. نظمت قصيدة ضمنتها شيئاً من رحلتنا، وما قضيناه من المناسك، وزيارة الروضة الشريفة، وهي من بحر قصيدة: ألبرقٍ لائحٍ من أندرينْ ... ذرفت عيناك بالماء المعينْ (¬1) ¬

_ (¬1) أدى الإمام محمد الخضر حسين فريضة الحج سنة 1351 هـ. ونظم قصيدة بعنوان: (مشاهداتي في الحجاز) 82 بيتاً، ومطلعها: ألمجد لا ينال القاطنين ... ودعَّ الصحب وحيا الظاعنين نشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد الخامس، وفي ديوان الإمام "خواطر الحياة".

ورويِّها. التقيت في إحدى المحطات بطريق المدينة بالسيد الحاج محمد بن الشيخ صالح برغريسي، وفي منى بأحد الإخوان بالدويرات أخبرني أنه مقدم لابن أخينا سيدي مصطفى (¬1)، وفي مكة بالسيد الحاج مازوز إلخ. وسأرسل لكم السُّبح مع السيد الطاهر بن مصطفى، وبلغوا سلامنا إلى كافة الأهل، والسيّدة (¬2) في خير، وكذلك خالتها، وسيدي أحمد الأمين (¬3) في خير، وقد أقمت في المدينة المنورة 8 أيام، وسننشر -إن شاء الله- شيئاً مما كتبناه في الرحلة. والسلام عليكم ورحمة الله أخوكم محمّد الخضر حسين في 2 صفر 1352 - القاهرة ¬

_ (¬1) مصطفى بن علي بن الحسين - ابن أخ الإمام. (¬2) ابنة أخ الإمام، توفيت بالمدينة المنورة، وهي زوجة المرحوم العالم صالح الفضيل التونسي المدرس في الحرمين المكي والنبوي .. (¬3) ابن خال الإمام، وقد مرت ترجمته.

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور الحمد لله، والصلاة على رسول الله. حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ العلامة أخي العزيز الشيخ سيدي محمد الطاهر بن عاشور شيخ جامع الزيتونة الأعظم. السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد: فأقدم لفضيلتكم حضرة الماجد الأديب السيد أحمد فكري أحد طلاب بعثة الفنون الجميلة في باريس، وهو نجل حضرة المفضال الأستاذ صديقنا علي أفندي فكري (¬1) الأمين الأول لدار الكتب المصرية. وقد وضع السيد أحمد رسالته التي يريد تقديمها للامتحان في الحضارة الإسلامية، وهذا يستدعي دراسة الآثار والمساجد الإسلامية. وقد عزم السيد المذكر على زيارة تونس، وأخذ صور لمساجدها، ومن جملتها الجامع ¬

_ (¬1) علي بن عبد الله فكري، كان مدرساً بوزارة المعارف، ونقل إلى دار الكتب المصرية سنة 1913، كثير المصنفات، منها: القرآن ينبوع العلوم والعرفان - آداب الفتى - آداب الفتاة - عظة النساء - مسامرات البنات - المكاتبات الفكرية - الآداب الإسلامية - السمير المهذب - أحسن القصص - المعاملات المادية والأدبية - الإنسان ... وغيرها. ولد وتوفي بالقاهرة (1296 - 1372 هـ = 1879 - 1953 م).

الأعظم، فأرجو من فضيلة الأستاذ المعروف بكرم الأخلاق وسماحة الآداب وتشجيع طلاب العلم أن يساعد الفاضل أحمد أفندي فكري على مهمته، والسماح بأخذ صور للجامعة الزيتونية، حتى يعود لمصر وهو لمساعدة فضيلتكم من الشاكرين. وأعز تحيتي إلى السادة الفضلاء الأساتذة: السيد علي الرضا، والسيد موسى الكاظم، والسيد الفاضل، وآل بيتكم الطاهر قاطبة، وتفضلوا بقبول عظيم احترامي. أخوكم محمّد الخضر حسين في 7 ربيع الأول 1352 - القاهرة

خطاب مفتوح إلى الأستاذ السيد محمد رشيد رضا

خطاب مفتوح إلى الأستاذ السيد محمد رشيد رضا حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا (¬1) صاحب مجلة "المنار" الغراء. السلام عليكم ورحمة الله. ¬

_ (¬1) صدرت مجلة "نور الإسلام" عن الجامع الأزهر في محرم سنة 1349 هـ، واستلم رئاسة تحريرها الإمام الخضر حسين من الجزء الأول فيها حتى ربيع الآخر سنة 1352 هـ. وقدم في الجزء الأول من المجلة شرحاً لسياسة المجلة. نشر السيد محمد رشيد رضا مقالاً في مجلة "المنار" الجزء الصادر في ربيع الأول، تضمن تقريظاً ونقداً، ولكن بيدو أن النقد هو الغاية المتقدمة، والتقريظ غلاف لها. كما يبدو أن المكانة العلمية التي حفت بالإمام منذ أن حل بالقاهرة، قد أثارت في صدور بعض الناس أشجاناً ... وضربوا في طريق بعيد عن النهج العلمي. ولما كان القرآن الكريم هو خلق الإمام محمد الخضر حسين، فقد جاء الرد على النقد والتقريظ في حدود الأدب الإسلامي. وندع الحكم للقارئ في مضمون الرسالة .. ولا نزيد على ذلك .. نشر الخطاب المفتوح في مجلة "الهداية الإسلامية" الجزء الأول من المجلد الثالث تحت عنوان: "للحقيقة والتاريخ". كما نشر رد تحت عنوان: "لحقيقة والتاريخ - نقد مقال في مجلة المنار" في الجزء الرابع من المجلد الثالث.

أما بعد: فقد قرأت ما كتبتموه في الجزء الصادر في ربيع الأول من مجلتكم الزاهرة تقريظاً ونقداً لمجلة "نور الإسلام"، فأشكركم على النقد بمقدار ما أشكركم على التقريظ. وإنا لنعلم أن مجلة كمجلة "نور الإسلام" يراقبها طوائف تختلف مذاهبهم، وتتفاوت أنظارهم، وتتباعد أغراضهم، ليس في استطاعة القائمين بها أن يخرجوها على ما يوافق رغبة الطوائف بأجمعها حتى لا تلاقي إلا رضاً عنها وتقريظاً. فنحن على اعتقاد يشبه اليقين: أن المجلة ستواجه ضروباً مختلفة، هذا ينقدها في إشفاق ورفق، وذاك ينقدها في قسوة وعنف، وربما كان من الفريقين حسن النية سليم القصد، وما علينا إلا أن ننظر إلى وجه النقد، فنتقبله إن كان في نظر الدين والعلم وجيهاً، فإن رأينا الصواب في جانبنا، قررنا وجهة نظرنا بالتي هي أحسن؛ حرصاً على أن يكون العلم صلة تعارف وائتلاف، فلا عتب علينا إذا كنا قد قرأنا في تقريظكم كلمات معدودة، ألقيتموها بقصد خدمة الحقيقة والتاريخ، فلم تقع الموقع الذي قصدتم إليه، فكانت وجهة نظرنا فيها غير وجهة نظركم، وشعرنا بأن الحقيقة والتاريخ لا يسمحان لنا بالسكوت عنها، وفضيلتكم من أول الداعين إلى إيثارهما على كل ما يقضي الأدب الجميل برعايته. قلتم في التقريظ: "إن فضيلة الشيخ محمد مصطفى المراغي (¬1) شيخ ¬

_ (¬1) محمد بن مصطفى بن محمد بن عبد المنعم المراغي، إمام الجامع الأزهر، وعالم بالتفسير، ولد في "مراغة" من صعيد مصر، وتوفي بالإسكندرية، ودفن بالقاهرة =

الجامع الأزهر قد جعلني مدرساً في قسم التخصص من الأزهر بعناية خاصة استثنائية". والواقع أن مجلس الأزهر الأعلى قد ندبني للتدريس بقسم التخصص قبل ولاية فضيلة الشيخ المراغي مشيخة الأزهر بنحو سنة، وكان الذي يرأس المجلس الأعلى وقتئذ حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة (¬1) مفتي الديار المصرية سابقاً، وكان لذلك الحين رئيساً لقسم التخصص أيضاً. قلتم: "إنكم عجبتم لي حيث لم أذكر الشيخ محمد مصطفى المراغي في الخلاصة التاريخية التي كتبتها في فاتحة العدد الأول من مجلة "نور الإسلام"، مع أن له الفضل في تنفيذ هذا المشروع، كما أن له الفضل علي، وإن لم أكن من أعضاء جمعيته أو حزبه". إذا لم أذكر اسم فضيلة الأستاذ الشيخ المراغي، فقد ذكرت أن المجلس الأعلى حينما أخذ ينظر في ميزانية سنة 1929 أدرج فيها مبلغاً للمجلة، ومعلوم من ذكر التاريخ أن المجلس الأعلى الذي قرر هذا المبلغ كان تحت رياسة الأستاذ الشيخ المراغي، فللأستاذ المراغي نصيبه من فضل هذا المشروع، ولا يلزم المندوب لرياسة تحرير المجلة أن يكون على علم من مقدار هذا النصيب حتى إذا لم يتعرض له في فاتحة المجلة عد متهاوناً بحق ¬

_ = (1298 - 1364 هـ = 1881 - 1945 م، له تصانيف عديدة في تفاسير بعض السور، وبحوث في التشريع الإسلامي. (¬1) عبد الرحمن بن محمود بن أحمد قراعة، من كبار علماء الأزهر، ومفتي مصر، ولد في بندر أسيوط، وتوفي بالقاهرة (1279 - 1358 هـ = 1862 - 1939 م)، له رسالة "بحث في النذور وأحكامها".

التاريخ، أو غير معترف بالفضل. وما بال فضيلتكم تعجبون لعدم ذكر رئيس المجلس الأعلى الذي قرر المبلغ الذي ينفق على المجلة، وتعدونه استخفافاً مني بحق التاريخ، ونكراناً لفضل ذلك الرئيس علي، ولم يعجب أحد من مريدي صاحبي الفضيلة الأستاذ المرحوم الشيخ أبي الفضل (¬1)، والأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة لعدم ذكر اسميهما، وقد كان الشيخ أبو الفضل يرأس المجلس الأعلى الذي قبل اقتراح مشروع المجلة سنة 1926، وكان الأستاذ الشيخ قراعة يرأس المجلس الذي ألف لجنة لوضع تقرير في هذا الاقتراح سنة 1927، وهذا العمل بالنظر إلى كونه الأساس الذي يقام عليه المشروع عمل لا يستهان به. ولا أرى إلا أن مريدي فضيلة الأستاذين الشيخ أَبى الفضل والشيخ قراعة قرؤوا فاتحة المجلة، وقد حضرهم أن المندوب لرياسة التحرير إذا نسب العمل إلى المجلس الأعلى، مع ذكر تاريخ انعقاده، فقد قضى واجب التاريخ عليه، وليس من واجب التاريخ عليه أن يسمي رئيس المجلس، أو أعضاءه في خلاصة قصد بها الإشارة إلى تاريخ نشأة المشروع والأطوار التي مر عليها، حتى صار عملاً ظاهراً. وعلى فرض أن كون قد أجملت القول في مواضع تعلمون منها أكثر مما أعلم، كان لفضيلتكم أن تكتبوها للتاريخ في صفاء خاطر، متحامين الكلمات التي يسبق إلى أذهان بعض الناس أنها مصنوعة لتثير غبار فتنة، ¬

_ (¬1) محمد أبو الفضل الوراقي الجيزاوي، فقيه مالكي، وشيخ الجامع الأزهر، ولد في وراق الحضر بضواحي القاهرة، وتوفي بالقاهرة (1263 - 1346 هـ = 1847 - 1927 م). من مصنفاته: كتاب على شرح العضد وحاشيتي السعد والسيد.

ومثل هذه الفتنة لو أيقظها غيركم، لكان من واجب الدين وسماحة الأخلاق عليكم أن تبادروا إلى إخمادها، وواجب الدين وسماحة الأخلاق قبل كل داعية. وأنا لا أستنكف أن يكون للأستاذ المراغي عندي يد، ولكن التدريس الذي تعنونه بقولكم: "كما أن له الفضل عليه نفس" قد عرف الناس أني ندبت له من قبل أن يتولى فضيلته منصب المشيخة، على أني أربأ بكم أن تزنوا العلم بهذا الميزان، وتجعلوه أنقص قدراً من متاع هذه الحياة؛ إذ سميتم ندبي للتدريس فضلاً من النادب علي، بدل أن تجعلوه إخلاصاً منه للمعهد الذي تولى أمره ليدير شؤونه بنصح وأمانة. وإذا لم أكن من جمعية الأستاذ الشيخ المراغي، فلأني لا أذكر أن أحداً من الناس عرض علي قانون جمعية أو حزب يدعى بهذا الاسم فأعرف مبادئه، والغاية التي تألف من أجلها، ولست ممن يحب أن يحشر نفسه في كل حزب أو جمعية، وإن لم يعرف مبادئها، ويطمئن إلى الغاية التي ترمي إليها. نقدتم ما جاء في فاتحة المجلة من أنها لا تمس السياسة في شأن، وقلتم: إن هذا حرمان لمحرريها من خدمة الإسلام، والدفاع عنه بالسكوت عن أمور كثيرة يجب بيانها، وجواب هذا: أن المجلة إذا تجنبت التدخل في النزعات السياسية، فإن أقلام محرريها لا تقف دون الكتابة فيما يصيب الشعوب الإسلامية من مكاره، أو فيما تراه مخالفاً للدين، ولو كان من أعمال الإدارة الداخلية، غير أنها تكتب في مثل هذا على وجه الوعظ والإرشاد، فلا يخرج عن دائرة مجلة "نور الإسلام" أن تكتب في إنكار بعض تصرفات يعتدى بها على حق ديني لأحد الشعوب الإسلامية، ولا يخرج عن دائرتها أن تطالب

بنحو إلغاء البغاء الرسمي، أو احترام المحاكم الشرعية فيما إذا خطر لأحد رجال الإدارة أن ينقص مما هو داخل في اختصاصاتها، أو الاحتفاظ باللغة العربية فيما إذا رأى ذو سلطة اهتضام جانبها، إلى غير هذا من الشؤون التي تحفظ على الأمة دينها ولغتها، ويرغب أولو السياسة الرشيدة أنفسهم أن يعلموا حكم الدين في أمثالها. ونقدتم ما جاء في فاتحة المجلة من قولنا: "لا تنوي أن تهاجم ديناً بالطعن، ولا أن تتعرض لرجال الأديان بمكروه من القول"، وحملتم هذه العبارة على معنى أنها لا ترد على المخالفين إذا هاجموا الإسلام، وقلتم: "إن العلماء لا يستطيعون القتال بالسلاح، فهم يستطيعون الجهاد بالقلم واللسان، ومجادلتهم بالتي هي أحسن، وإن كرهوها". ولو صدر هذا النقد من غير فضيلتكم، لقلنا: إنما يريد أن يكثر سواد وجوه النقد، ولكن مكانكم أرفع من أن يقصد إلى هذه الغاية، ذلك لأنا نقول في فاتحة المجلة: "تناقش المجلة الأشخاص والجماعات الذين يقولون في الدين غير الحق، مقتدية في مناقشتها بأدب قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]. وإذا قالت: إنها لا تنوي أن تهاجم ديناً بالطعن، أو قالت: لا تتعرض لرجال الأديان بمكروه من القول، فإنما تريد الترفع عن بذاءة القول، والخروج عن دائرة البحث العلمي إلى ما يهيج البغضاء، دون أن يكون له في تقرير الحقائق أو إزهاق الباطل أثر كثير أو قليل. وأظن حضرات قراء مجلة "نور الإسلام" إنما يذهبون في فهم هذه الجمل إلى أننا نظرنا عند صوغها إلى قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا

الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. وقد أصبح حكماء الكتاب يصوغون دفاعهم على قدر بيان الحق، أو كشف شبه الباطل، ولا يحسون من أقلامهم نزوعاً إلى السوء من القول، ومن كان في ثروة من الحجج، لا يرى نفسه في حاجة إلى أن يستعين في دفاعه أو هجومه بشيء من اللمز والبذاء. هذا وظننا في الأستاذ أنه ينقد في إخلاص، ويتلقى الجواب في سكينة وإنصاف، وسلام عليك يوم تقرظ ويوم تنقد، ويوم تكون للحق ولياً. محمّد الخضر حسين

للحقيقة والتاريخ نقد مقال في مجلة المنار

للحقيقة والتاريخ نقد مقال في مجلة المنار كتبت مجلة "المنار" الغراء مقالاً سمته: رداً تتجلى فيه الحقيقة والتاريخ، وقد وقع في هذا المقال -على الرغم من سلامة ضمير الأستاذ صاحب المجلة، وقصده إلى بيان الحقيقة- جمل غير قابلة لأن تدخل في التاريخ الصحيح، وأحق هذه الجمل بتهذيب يجعلها صالحة لأن تدل على حقيقة، أو تحفظ تاريخاً ثلاثة مواضع، أحسسنا أن التاريح يدعونا بإلحاف أن نقول فيها ما نعلم، وللتاريخ الذي يتحرى الحقائق دعوة لابد لها من إجابة، وما عدا هذه المواضع الثلاثة ليس في وقتنا ما يسع نقده. قال فضيلة الأستاذ متعرضاً لجمعية الهداية الإسلامية: "ويعتقد كثير من الناس أن لجمعية الخضر مقاصد حزبية". والواقع أن طائفة من طلاب العلم شعروا بالحاجة إلى تأسيس جمعية إسلامية، فقاموا يترددون على كثير من كبار العلماء، يعرضون عليهم هذه الحاجة، فوجدوا من الأساتذة ارتياحاً وتشجيعاً، وجاءني بعض هؤلاء الطلاب، وكنت يومئذ مصححاً في دار الكتب، ودعوني إلى حضور أول اجتماع عقدوه، فأجبت الدعوة، وشهدت اجتماعهم الأول الذي قرؤوا فيه قانون الجمعية للتنقيح، وفي الاجتماع الثاني سمعتهم يلقون خطباً في الأسف على ما هوجم به الدين من ناحية الإلحاد، فكان لهذه الخطيب وقع في النفس كبير، وعزمت

وقتئذ على أن أكون فيمن يشد أزرهم، ثم اجتمعوا لانتخاب مجلس الإدارة، وحضر هذا الاجتماع أساتذة من الأزهر، وأساتذة من دار العلوم، وكان المنتخبون أعضاء لمجلس الإدارة حضرات الأساتذة: الشيخ علي محفوظ (¬1)، والشيخ محمد عبد المطلب (¬2)، والشيخ عبد الوهاب النجار (¬3)، والشيخ علي أبو درة (¬4)، والشيخ عبد الجليل عيسى (¬5)، والشيخ مصطفى بدر (¬6)، والشيخ ¬

_ (¬1) علي محفوظ المصري، من هيئة كبار العلماء، ومن كبار الواعظين، وأستاذ الوعظ والإرشاد في كلية أصول الدين بالجامع الأزهر (... - 1361 هـ = ... -1932 م). من مؤلفاته: سبيل الحكمة - هداية المرشدين إلى طرق الوعظ والخطابة. (¬2) من علماء الأزهر، ومن مؤسسي جمعية "الهداية الإسلامية". (¬3) عبد الوهاب بن الشيخ سيد أحمد النجار، من الفقهاء المصريين، ولد في القرشية من قرى الغربية بمصر، وتوفي بالقاهرة (1278 - 1360 هـ = 1862 - 1941 م)، عمل أستاذاً للتاريخ الاسلامي في الجامعة المصرية، وأستاذاً للشريعة في دار العلوم، له تصانيف عديدة، منها: تاريخ الإسلام في ستة أجزاء - قصص الأنبياء - تاريخ الخلفاء الراشدين. (¬4) محمد بن عبد المطلب بن واصل، أديب وشاعر وخطيب، ولد في "باصونة" من قرى جرجا بمصر، وتوفي بالقاهرة (1288 - 1350 هـ = 1871 - 1931 م)، تلقى علومه في الأزهر، وعمل مدرساً، له مصنفات، منها: تاريخ أدب اللغة العربية -إعجاز القرآن- وله ديوان شعر مطبوع. (¬5) عالم أزهري من مؤسسي جمعية "الهداية الإسلامية". (¬6) مصطفى بن بدر زيد، تلقى علومه بالجامع الأزهر، وعمل مدرساً في كلية الشريعة، ولد في شباس الملح في الغربية، وتوفي بالقاهرة (... - 1350 هـ = ... - 1931 م)، من تآليفه: المنتخب في تاريخ أدب العرب - البلاغة التطبيقية - رسالة التكسب بالشعر.

عبد الله عبد المقصود (¬1)، والشيخ يوسف حجازي (¬2)، والشيخ عبد الباقي سرور (¬3)، والشيخ أحمد مصطفى المراغي (¬4)، والشيخ عبد ربه مفتاح (¬5)، والشيخ محمد الأودن (6)، والدكتور عبد العزيز قاسم (6)، وعبد الحميد أفندي مدكور (6)، والدكتور عبد الحميد الغمراوي (¬6). هؤلاء أعضاء مجلس الإدارة، ولو كان للحزبية يد في تأسيس هذه الجمعية، لظهر لها أثر في انتخاب مجلس الإدارة، وأهل القاهرة، بل أهل مصر يعلمون أن هيئة مؤلفة من هؤلاء الأساتذة لا تخدم حزباً، ولا تعمل لغير مصلحة الإسلام والأمة. وبعد انتخاب مجلس الإدارة، بقي أياماً يجتمع في بيت فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد المطلب، ثم انتقل إلى غرفة صغيرة بعيادة الدكتور عبد العزيز قاسم، استمر على الاجتماع بها نحو سنة، وهو مكتف من العمل بالقاء ¬

_ (¬1) عالم أزهري من مؤسسي جمعية "الهداية الإسلامية". (¬2) عالم أزهري من مؤسسي جمعية "الهداية الإسلامية". (¬3) عبد الباقي سرور نعيم، كاتب إسلامي تعلم بالأزهر، وتولى تحرير جريدة "الأفكار" اليومية، ولد وتوفي بقراقص من قرى دمنهور بمصر (... - 1347 هـ = ... - 1928 م). له تصانيف، منها: الإسلام ماضيه وحاضره - تنزيه القرآن الشريف عن التغيير والتحريف. (¬4) أحمد بن مصطفى المراغي، من العلماء المفسرين، عمل مدرساً في دار العلوم، توفي بالقاهرة (... - 1371 هـ = ... - 1952 م). من تصانيفه: تفسير المراغي في ثمانية مجلدات - الوجيز في أصول الفقه - علوم البلاغة. (¬5) عالم أزهري من مؤسسي جمعية "الهداية الإسلامية". (¬6) من مؤسسي جمعية "الهداية الإسلامية"، والعاملين في الدعوة الإسلامية.

محاضرات في المساجد، وأخرى في نادي جمعية الشبان المسلمين، أو جمعية مكارم الأخلاق، وطالما فكر في إنشاء مجلة، ولكنه لم يجد من المال ما يسهل عليه الإقدام على هذا المشروع، حتى زار فضيلة الأستاذ الزعيم الكبير الشيخ كامل القصاب غرفة الجمعية، واجتمع ببعض الأساتذة من أعضاء مجلس الإدارة، واطلع على غرض الجمعية، وعندما ذكرت له بأن الجمعية تهم بإنشاء مجلة إسلامية، ارتاح لهذا العمل، وهزته غيرته الدينية إلى أن أمدَّ الجمعية بعشرين جنيهاً، فجمع إليها حضرات أعضاء مجلس الإدارة ما تيسر، وكان هذا أساس إنشاء المجلة. ثم رأى المرحوم الأستاذ أحمد تيمور باشا الجمعية سائرة في خدمة الدين على خطة مرضية، فأخذ يساعدها ما استطاع، حتى ظهرت، وعرف الناس إخلاصها، وبلغت ما بلغته اليوم، وها هي تلك مجلتها قد دخلت في سنتها الثالثة، فهل وقف لها قراؤها على صحيفة أو سطر في التعرض لحزب، أو الانتصار لحزب، صراحة أو تعريضاً؟؟! فأعضاء جمعية الهداية الإسلامية برآء من أن يتخذوا اسم الدين وسيلة إلى مقاصد حزبية، وإذا كان في أهل العلم من يعمل لغير الدين باسم الدين، فذلك صنف لا تعرفه جمعية الهداية. وهل لفضيلة الأستاذ أن يقيم شاهداً، أو أمارة -ولو خفية- على أن الجمعية أنشئت لمقاصد حزبية؟. وإذا كان هذا الشيء قد أوحاه إليه بعض من مرد على مناوأة الجمعيات الإسلامية، فما كان للأستاذ أن ينسى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

وذكر فضيلة الأستاذ ندبي للتدريس بقسم التخصص سنة 1927، وقال: إنه "بمكافاة شهرية قدرها ثمانية جنيهات مصرية في كل شهر من شهور الدراسة فحسب". وقال: "هذا ما كان قبل مشيخة المراغي، وأما ما كان فيها، فهو أنه قد عرض على مجلس الأزهر الأعلى مذكرة بطلب تعيين الشيخ الخضر مدرساً بالأزهر براتب قدره خمسة جنيهات في كل شهر بعقد من 16 نوفمبر سنة 1927، فوافق المجلس عليها، فصار مدرساً ثابتاً، وارتقى ما يأخذه من مكافاة في مدة العمل، وقدرها 72 جنيهاً إلى راتب يبلغ في السنة 180 جنيهاً". الواقع أنني كنت مصححاً بالقسم الأدبي من دار الكتب، وأتسلم منها نحو ثلاثة عشر جنيهاً في الشهر، ثم ندبت للتخصص على أن ألقي فيه أربعة دروس في الأسبوع بمكافأة قدرها ثمانية جنيهات، وكنت أجمع بين التدريس في التخصص، والتصحيح بدار الكتب، وانقضت السنة وأنا أقوم بالعملين، وأتسلم المكافأتين، وليس بموافق للحقيقة ما جاء في عبارة فضيلة الأستاذ من أن المكافاة في التخصص لشهور الدراسة فحسب، بل كنت أتسلمها لشهور السنة كلها، إذن كانت مكافأتي من التخصص 96 جنيهاً، لا 72 كما قال صاحب الفضيلة. ولما جاء عهد مشيخة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ المراغي، جرى حديث مع المشيخة أن أترك التصحيح بدار الكتب، وأقتصر على التدريس بالأزهر، فزيد على المكافأة سبعة جنيهات، وصارت الدروس سبعة في الأسبوع بعد أن كانت أربعة، وكتب على هذا عقد بسنة فحسب، والتعيين بعقد لا يصير

به المعين مدرساً ثابتاً كما جاء في عبارة فضيلة الأستاذ، وبعد انتهاء مشيخة فضيلة الأستاذ الشيخ المراغي جدد العقد لسنتين، وجعلت الدروس خمسة فحسب. وقال فضيلة الأستاذ: إني فرنسي تبعة، وإني مشمول بالحماية الفرنسية، والواقع أني بارحت تونس بقصد الإقامة في دمشق الشام سنة 1331، وعندما نزلتها، كتبت اسمي في سجل التابعين للحكومة العثمانية، وأعطيت الورقة الرسمية المسماة: "ورقة النفوس"، وبعد انتهاء الحرب قدمت مصر، وكلما اقتضى الحال أن أكتب تبعيتي في ورقة رسمية، أثبت فيها أني تابع للحكومة المحلية، ولا أعرف إلى كتابة هذه الأسطر مكان السفارة أو القنصلية الفرنسية في القطر المصري، ولا أدري في أي شارع من شوارع القاهرة هي، فإن أراد فضيلة الأستاذ من الحماية أو التبعة: أن فرنسا واضعة يدها على تونس، فذلك وصف يشترك فيه من وقعت أوطانهم تحت تلك اليد الأجنبية؛ كالجزائر، ومراكش، وسوريا. ونحن نذكر فضيلة السيد بأن مثل هذا الذي شغل به صحفاً كثيرة من مجلته الدينية الخلقية غير أهل العلم أقدر عليه من أهل العلم. محمّد الخضر حسين

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. حضرة العلامة الجليل الأستاذ الشيخ سيدي محمد الطاهر بن عاشور -أبقاه الله للعلم والفضيلة-. السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد إبداء أحر الشوق: فإن ما حررتموه في الوقف قد ألقي محاضرة في الجمعية بعد. . . . (¬1) في الصحف، ألقيت قسماً منه بنفسي، ولم أستطع إتمامه لأثر نزلة شعبية عرضت لي منذ شهر، وأتم المحاضرة أحد أعضاء الجمعية، وهو الشيخ عبد الوهاب سليم (¬2) من علماء التخصص. وكان لها وقع حسن في الحاضرين. وأخذ الحديث عنها ينتشر في نوادي أهل العلم والمحاكم الشرعية حيث إن للمسألة شأناً في هذه الظروف. وقد نشرنا نصفها في الجزء الرابع من المجلة (¬3)، وننشر الباقي في ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في الأصل (¬2) من كبار علماء الأزهر، وعضو جمعية "الهداية الإسلامية". (¬3) مجلة "الهداية الإسلامية".

الجزء الخامس، ثم تطبع منها 500 نسخة لتوزع على أعضاء مجلس الشيوخ والنواب. أخبرتني محطة الإذاعة بأنها عينت لمحاضرتنا "الشعر المصري في عهد الدولة الأيوبية" (¬1) الساعة الثامنة والنصف من مساء يوم الثلاثاء 2 فبراير. وأرجو إبلاع أزكى التحيات إلى حضرات السادة: آل عاشور، وآل محسن (¬2)، وسائر إخواننا الأعزاء. ودمتم في رعاية الله. وتفضلوا بقبول أسنى تحيتي وعظيم احترامي حافظ عهدكم أخوكم محمّد الخضر حسين 22 يناير - القاهرة في 9 ذي القعدة ¬

_ (¬1) محاضرة أدبية نشرت في العدد السادس من المجلد التاسع - مجلة "الهداية الإسلامية". وضممتها إلى دراساته الأدبية في كتاب "الخيال في الشعر العربي، ودراسات أدبية". وطبع عدة مرات. (¬2) من العائلات المعروفة في تونس بالصلاح والتقوى والعلم. وتوجد قرابة بينهم وبين آل عاشور. والشيخ محمود محسن من أئمة وخطباء جامع الزيتونة ابن خالة الإمام محمد الطاهر بن عاشور.

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. فضيلة العلامة النحرير، الأستاذ الهمام، صديقي الأعز الشيخ سيدي محمد الطاهر بن عاشور -أبقاه الله تعالى للعلم والصداقة الخالصة-. السلام عليكم ورحمة الله. تشرفت بخطاب فضيلتكم، وخفف بما بعثه في نفوسنا من الأنس بعض ألم البعد، فأرجو أن يطيل الله بقاءكم، ويشملكم بالعز والرعاية. وصلني بحث "المترادف"، وهو بحث ممتع بديع، وقد قدمته إلى رئيس المجمع محمد توفيق رفعت باشا (¬1)، بعد أن ذكرت له سمو مقامكم العلمي، وهو سلمه إلى لجنة المجلة، ولا أظنهم إلا أن يعجبوا به، وسأتصل بهم بعد مطالعتهم له. السيد عبد الوهاب التازي (¬2) لم يقدم، وأصحاب المطبعة ينتظرون قدومه، أو قدوم والده، فعندما يقدم أحدهما أنهي معه ¬

_ (¬1) محمد توفيق بن أحمد رفعت "باشا"، وزير المعارف والمواصلات، ورئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ولادته ووفاته بالقاهرة (1283 - 1363 هـ = 1866 - 1944 م). (¬2) ملتزم طبع كتاب "العارضة" في القاهرة، وأعتقد أنه من التجار التونسيين المقيمين فيها.

مسألة كتاب "العارضة". اليوم انتهت الدورة الثالثة للمجمع، وقد عقدنا خمساً وثلاثين جلسة كعادته في السنين الماضية، وسيؤلف من جديد، ويكون أعضاؤه ثلاثين، ويقال: إن في نية الوزارة إعادة تعيين الأعضاء الموجودين، وتزيد عليهم أحد عشر عضواً مصرياً. وقد مر القانون الجديد على مجلس النواب، وبقي عرضه على مجلس الشيوخ، ولعل أمره ينتهي بعد مدة لا تزيد على شهر. طبعنا من تأليفكم في الوقف خمس مئة نسخة زائدة عما طبع بالمجلة؛ لتوزع على مجلسي الشيوخ والنواب. وأعز تحيتي إلى حضرات السادة الأماجد: سيدي الرضا (¬1)، وسيدي الكاظم (¬2)، وسيدي محمد محسن (¬3)، وسيدي الفاضل (¬4)، وسيدي الحبيب ¬

_ (¬1) علي الرضا بن عاشور شقيق الإمام محمد الطاهر بن عاشور، تلقى علومه بجامع الزيتونة، وعمل في القضاء والمحاماة، ولد بتونس، وتوفي بالمرسى ضاحية بشمال مدينة تونس (1304 - 1373 هـ = 1886 - 1953 م). (¬2) موسى الكاظم بن عاشور شقيق الإمام محمد الطاهر بن عاشور، تلقى علومه بجامع الزيتونة، وعمل في القضاء، وتولى وزارة العدل، وتوفي وهو رئيس محكمة التعقيب "النقض". ولادته ووفاته بتونس (1310 - 1379 هـ = 1892 - 1959 م). (¬3) محمود بن محمد بن مصطفى محسن، تلقى علومه بجامع الزيتونة، وتولى الإمامة والخطابة فيه. وهو ابن خالة الإمام محمد الطاهر بن عاشور. (¬4) محمد الفاضل بن محمد الطاهر بن عاشور، العالم والأديب الخطيب، من رجال النهضة الحديثة في تونس، كان عميداً للمعهد الزيتوني، وعمل في خطة القضاء، ثم الفتوى. ومن أعضاء المجمع اللغوي بالقاهرة. ولد وتوفي بتونس=

الجلولي (¬1)، وسيدي المقداد، وكل من ينتظم به مجلسكم السامي. وتفضلوا بقبول أسمى تحيتي وعظيم احترامي أخوكم محمّد الخضر حسين 21 ذو الحجة 1355 - القاهرة [حاشية] ألقي بالأزهر كلية أصول الدين خمسة دروس في الأسبوع: ثلاثة في الملل والنحل، ودرسان في علوم السنة. اشتغل المجمع في هذه الدورة بالنظر في مصطلحات في علوم الطب (¬2) والأحياء، ومصطلحات الفنون الجميلة والشؤون العامة، ومصطلحات في علم الحقوق، وقرر بعض قواعد من جمع التكسير، وأصدر قراراً في الاستشهاد ¬

_ = (1327 - 1390 هـ = 1909 - 1970 م) له تآليف عديدة، منها: الحركة الأدبية والفكرية في تونس - تراجم الأعلام - أركان النهضة الأدبية بتونس. (¬1) محمد الحبيب الجلولي - عمل في القضاء والإدارة، وتولى رئاسة جمعية الأوقاف، ثم وزارة العدل، ولادته ووفاته بتونس (1297 - 1377 هـ = 1879 - 1957 م)، وهو زوج شقيقة الإمام محمد الطاهر بن عاشور. (¬2) للإمام بحث "طرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية" قدمه إلى المؤتمر الطبي العربي المنعقد بالقاهرة سنة 1939 م بصفته مندوب المجمع اللغوي- انظر كتابه: "دراسات في العربية وتاريخها".

بالحديث في اللغة (¬1) مع بعض قيود. وأعضاء المجمع ينتظرون تأليف المجمع على النظام الجديد الذي سيكون فيه طه حسين، وإنا معهم لمن المنتظرين، وعلى فضيلتكم أزكى السلام. ¬

_ (¬1) قدم الإمام بحثاً إلى المجمع اللغوي تحت عنوان "الاستشهاد بالحديث في اللغة" وقد نشر في الجزء الثالث من مجلة المجمع - انظر كتابه: "دراسات في العربية وتاريخها".

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور فضيلة العلامة الأجل صديقي الشيخ سيدي محمد الطاهر بن عاشور -دام مجده-. بعد تقديم أعز التحية: تشرفت بخطابكم المبشر بأن لكم قصداً في القدوم إلى مصر، فسررت -والله- سروراً عظيماً. وأرجو من الله تعالى أن ييسر ذلك في أقرب وقت. وليس من شك في أن قدومكم إلى مصر فيه خير كبير إلى تونس، وسيكون له أثر عظيم في النوادي العلمية بمصر. وهو بعد هذا سيكون في سلسلة حياتكم العامرة بالمفاخر حلقة بديعة. وأرجو أن تخبروني هل شرعتم في أسباب تحقيق هذا العزم. ومن فوائد قدومكم -فيما أرى- تأكيد الصلة بينكم وبين المجمع اللغوي، وعسى أن تبلغ هذه الصلة أن يفتخر المجمع بعضويتكم في مجلسه. وتفضلوا بقبول عظيم احترامي حافظ عهد أخوتكم محمّد الخضر حسين في 20 ذو الحجة 1355 - القاهرة

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حضرة صاحب الفضيلة العلامة الهمام صديقي الأعز الشيخ سيدي محمد الطاهر بن عاشور -أدام الله النفع بعلمه وفضله-. السلام عليكم ورحمة الله. وصلت إلى دمشق (¬1) في التاريخ الذي كنت ذكرته في مراسلة فضيلتكم، ولقينا من أهل العلم والفضل ورجال النهضة احتفاء، وكثرة التزاور والدعوات كانت من أسباب تأخير مراسلتكم، سأرسل إلى فضيلتكم نسخاً من "الوقف وآثاره" بعد عودتي إلى مصر. كتاب "العارضة" تم طبعه، ولكن السيد عبد الواحد التازي بالمغرب، وتسلم النسخة موقوف على قدومه، كما أن نسختنا ما زالت بالمطبعة، فعند رجوعي إلى مصر نكاتبكم في شأنها. ألقيت محاضرة باقتراح من المجمع العلمي (¬2) في المجمع عنوانها: "أثر الرحلة في الحياة العلمية والأدبية" (¬3)، وحضرها وزير المعارف بسوريا، ¬

_ (¬1) قام الإمام بزيارة دمشق في جمادى الآخرة من سنة 1356 هـ. (¬2) المجمع العلمي العربي بدمشق، والإمام عضو فيه. (¬3) نشرت في مجلة المجمع - الجزء السابع والثامن من المجلد الخامس عشر، كما =

وقد دعانا اليوم لتناول الغداء عنده، ورجال الدولة هنا يودون بقائي، وأهل العلم كذلك، حتى إن بعض الهيئات تقدموا باقتراح لهذا لدى الحكومة، وألقوا خطباً في بعض الحفلات التي حضرها بعض رجال الدولة، وخاطبني بعض الوزراء في هذا، ولكني لم أصرح بالقبول ولا بالرفض، وقلت لهم: لا أرى مانعاً من ذلك عندما تساعد الظروف، وبلغني أنهم ينوون إنشاء كلية دينية، وإذا تم المشروع، خاطبوني بطريقة رسمية، وأنا لا أرجح مصر إلا أنها مجال للعمل العام، ونرجو من الله التوفيق. وقد سررنا بما أشرتم إليه من قرب الملاقاة، حقق الله ذلك، أخونا السيد زين العابدين يقدم إلى فضيلتكم أزكى التحية مع خالص الشكر. وأرجو أن يبلغ أزكى سلامي إلى حضرات السادة: سيدي الرضا، وسيدي الفاضل، وسيدي الكاظم، وسيدي محمود محسن، وسيدي محمد المقداد، وسيدي الطاهر المهيري. وأرجو لسيدي الكاظم الشفاء التام، وأسافر إلى مصر -إن شاء الله- يوم السبت القادم. 4 في سبتمبر. وتفضلوا بقبول أسنى تحيتي وعظيم احترامي عظيم الشوق إلى لقائكم أخوكم محمّد الخضر حسين في 21 جمادى الآخرة - القاهرة ¬

_ = نشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد العاشر. وطبعتها ضمن كتاب "الرحلات" التي جمعت فيه رحلاته. وألقيت المحاضرة في جمادى الآخرة عام 1356 هـ.

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور سيدي الأخ الأجل -نفع الله بعلمه وفضله، وأبقاه الله للصداقة الخالصة-. أما بعد إهداء أسنى التحية، وإبداء أعظم الأشواق: فقد بلغني كتاب "هدية الأريب" (¬1)، فأقدم لفضيلتكم خالص الشكر على الهدية القيمة، وقد سررت لزفاف نجلكم النابغة السيد الفاضل، فأرجو أن يكون هذا القران محفوفاً بيمن وهناءة دائمين، وأن يطيل الله بقاءكم وبقاءه في صفاء وخير كثير. أهل الأدب ممن نلاقيهم يسألون عن ديوان بشار (¬2)، وشرح فضيلتكم له، ومتشوقون لظهوره، لا زال السيد عبد الواحد التازي يعد ويماطل، وقد كلفت منذ يومين أحد المتصلين به بالإلحاح عليه في إرسال نسخة فضيلتكم، ورد نسختي من "العارضة"، وقد وعدني بأنه سيتولى ذلك. وضع للمجمع نظام جديد في عهد حكومة الوفد، ووصل هذا النظام إلى مجلس الشيوخ، وبتغير الأحوال بقي هناك لم يبت فيه بشيء، والمجمع ¬

_ (¬1) "هدية الأريب إلى أصدق حبيب" للشيخ أبي عبد الله محمد الطاهر بن عاشور الشريف التونسي المالكي المتوفى سنة 1284، وهو حاشية على "شرح القطر" لابن هشام. (¬2) ديوان "بشار بن برد" طبع في أربعة أجزاء بتحقيق الإمام محمد الطاهر بن عاشور.

سائر على نظامه القديم، وسأتسلم من المجمع مقال فضيلتكم في الرسم، وأنشره في "الهداية"، ولعل عدم نشرهم له توهم أنه غير داخل في منهج المجلة، وأعز تحيتي لحضرات الأساتذة والسادة آل عاشور، وآل محسن، ومن يتم به أنس مجلسكم الرفيع. أعجبت بمقالكم في تجديد أمر الدين، وردكم لما قاله ابن السبكي (¬1) غايةَ الإعجاب، ولا أدري هل عد الزمخشري (¬2) في هذا الباب مما يسهل قبوله، أخشى أن يقال: إن شرط المجدد أن يكون على هدى في عقيدته، والمتمسكون بطريق أهل السنة يرون في الزمخشري مآخذ من حيث العقيدة، ولهذا أبقيت القطعة الأخيرة المتعلقة به إلى جزء ربيع الأول، وتضاف إلى بقية المقال المنتظر وروده من فضيلتكم عسى أن تزيدوا ما يتعلق بالزمخشري بياناً، أو يكون لفضيلتكم رأي آخر. سألقي -إن شاء الله- محاضرة (¬3) موضوعها: "الشجاعة وأثرها في عظمة الأمة"، وقد عينت لها محطة الإذاعة الساعة التاسعة ونصف من مساء يوم ¬

_ (¬1) عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، أبو النصر، قاضي القضاة والمؤرخ، ولد في القاهرة، وتوفي بدمشق، من تصانيفه: طبقات الشافعية الكبرى - معيد النعم ومبيد النقم - جمع الجوامع. (727 - 771 هـ = 1327 - 1370 م). (¬2) محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي الزمخشري، إمام في الفقه والتفسير واللغة والأدب، ولد في زمخشر من قرى خوارزم، وتوفي بالجرجانية من قراها (467 - 538 هـ = 1075 - 1144 م)، من مصنفاته: الكشاف في تفسير القرآن - أساس البلاغة - المفصل. (¬3) محاضرة نشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - العدد الحادي عشر من المجلد العاشر، وفي كتاب "رسائل الإصلاح" للإمام.

الاثنين 28 من هذا الشهر "شهر مارس". ألف المجمع لجنة لعمل معجم وسيط، وشرعت اللجنة في العمل، واللجنة تتالف من 6 أعضاء من المقيمين بالقاهرة، كما قررت المعارف وضع معجم للمصطلحات العلمية، وقرر المجمع أيضاً تأليف لجنة للنظر في تسهيل الكتابة العربية، لما أراد المجمع تأليف لجنة للنظر في الكتابة العربية، وقف السيد حسن حسني، وقال: أقترح أن يكون أعضاء هذه اللجنة هم فلان وفلان، وذكر أسماء الأعضاء المقيمين في القاهرة، ولم يترك من أسماء أساتذة دار العلوم والأزهر إلا اسمي، حتى قام بعض الأعضاء المصريين، واقترحوا ضمي إلى هذه اللجنة! وإن كان لفضيلتكم رأي في طريقة كتابة الحروف العربية بحيث تقرأ على وجه صحيح مع المحافظة على أصول الحروف العربية، فتفضلوا بتوجيهه ليعرض على اللجنة. ودمتم للعلم والفضل. وتفضلوا بقبول أسنى تحيتي وعظيم احترامي أخوكم المخلص محمّد الخضر حسين 18 مارس 1938 القاهرة 16 في المحرم سنة 1357

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور سيدي الأخ الأعز -أبقاه الله تعالى للدين والعلم والصداقة الخالصة-. بعد تقديم أسنى التحية، وإبداء أبلغ الشوق. أقدم لفضيلتكم جزيل الشكر على ما تفضلتم به من إهدائي تأليف المنعم جدكم العلامة الكبير، وقد بلغتنا محاضرتكم البديعة في مجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وألقيت في الاحتفال، ووقعت موقع الإعجاب، ونشرت في المجلة بتمامها. مجلة المجمع لها شأن غريب: مواد الجزء الرابع قدمت للمطبعة منذ سنة، وفيها مقالة فضيلتكم "المترادف"، ولم تجمع حروف الجزء إلا في هذه الأيام، فهو الآن تحت التصحيح، وهكذا كل جزء لا يصدر إلا بعد أن تبقى مواده في المطبعة نحو سنة، وعلة ذلك: أنه يطبع في المطبعة الأميوية الرسمية، ومطبوعات الوزارات والدوائر كثيرة، وقد أذنت المعارف الآن بطبع المجلة في دار الكتب المصرية، وهذا ييسر صدورها في أقرب وقت. ما زال عبد الواحد التازي يماطلنا في تسليم نسخة كتاب "العارضة" التي تسلمها منا، وما زلت ألح عليه في إرسال نسخة فضيلتكم، وقد وعدني أخيراً بأنه سيرسلها مع نسخ مطبوعة، ونرجو أن يكون في هذا الوعد من الصادقين.

ابتدأنا في وضع معجم وسيط (¬1)، واللجنة التي ألفها المجمع أعضاؤها: الأستاذ الجارم (¬2)، والأستاذ الشيخ إبراهيم حمروش (¬3)، والدكتور منصور فهمي (¬4)، والأستاذ العوامري بك (¬5)، وكاتب هذا الخطاب. توفي من أعضاء المجمع المرحوم الأستاذ الشيخ أحمد الإسكندري (¬6)، ¬

_ (¬1) "المعجم الوسيط" صدر عن مجمع اللغة العربية في القاهرة بطبعته الأولى عام 1380 هـ - 1960 م -وكما هي عادة الأحياء في السكوت عن جهد الأموات- لم يشر بكلمة واحدة عن الأعمال الكبيرة التي قام بها الإمام واللجنة الأولى التي ساهمت في وضعه. بل اكتفت اللجنة الأخيرة بتقاسم الشكر فيما بينهم، والأمانة في العلم تلح على المجمع أن ينوه بفضل كل ذي فضل. (¬2) علي بن صالح الجارم، شاعر وأديب، من أعضاء المجمع اللغوي، ولد في "رشيد"، وتوفي بالقاهرة (1299 - 1368 هـ = 1881 - 1949 م)، له ديوان شعر في أربعة أجزاء، ومن مؤلفاته: فارس بني حمدان -هاتف من الأندلس- الذين قتلتهم أشعارهم. (¬3) ولد في قرية "الخوالد" مركز بحيرة سنة (1298 هـ - 1880 م)، كان عضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وأصبح شيخاً للأزهر سنة (1371 هـ - 1951 م). من مؤلفاته: عوامل نمو اللغة. ونال به عضوية كبار العلماء. (¬4) منصور فهمي بن علي فهمي، من أصل مغربي، له اطلاع بالفلسفة والأدب والتربية، كان مديراً لدار الكتب المصرية، ومديراً لجامعة الإسكندرية، وعضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ولد في "شنقاش" التابعة إلى طلخا، وتوفي بالقاهرة (1303 - 1378 هـ = 1886 - 1959 م). من مؤلفاته: خطرات نفس. (¬5) أحمد العوامري، أديب من أعضاء المجمع اللغوي، نشأ بالإسكندرية، وتوفي بالقاهرة (1293 - 1374 هـ = 1876 - 1954 م). له مشاركة في مؤلفات مدرسية عديدة. (¬6) أحمد بن علي عمر الإسكندري، عالم ولغوي وأديب، عمل في التعليم، وكان =

وقد اطلعتم فضيلتكم على شيء من آثاره في مجلة المجمع. وكان -رحمه الله- بالنظر إلى المعلومات التي يحتاجها المجمع اللغوي هو أوسع الأعضاء علماً، وأكثرهم نفعاً. لا يزال المجمع سائراً على نظامه القديم، ونظامه الجديد ما زال في مجلس الشيوخ لم ينظر فيه المجلس بعد. وأزكى تحيتي إلى حضرات السادة آل عاشور، وآل محسن، وسائر أصدقائكم الكرام، أبقاكم الله وأمتع بكم. وتفضلوا بقبول أسمى تحيتي وعظيم احترامي حافظ عهدكم أخوكم محمّد الخضر حسين القاهرة في 15 ربيع الثاني 1357 ¬

_ = عضواً في المجمع اللغوي، ولد بالإسكندرية، وتوفي بالقاهرة (1292 - 1357 هـ = 1875 - 1938 م)، له تصانيف عديدة، منها: تاريخ آداب اللغة العربية في العصر العباسي - نزهة القارئ.

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين حضرة الفاضل البارع أخينا السيد محمد المكي بن الحسين -حفظه الله-. السلام عليكم ورحمة الله. بلغني خطابكم، فأحمد الله على ما أنتم عليه من الصحة، وقد سافرت إلى "برت سعيد"، وصعدت إلى البابور حيث إن نزول ركابه غير مأذون به، ولقيت هنالك ابن خالنا الشيخ التبريزي، وابن عمنا الشيخ عبد الرحمن الحاج (¬1)، والسيد حسن حسني عبد الوهاب. ويقيت معهم نحو ست ساعات، والمسافة بين مصر وبرت سعيد مسير أربع ساعات ونصف في القطار، وقد سافرت قبل وصول الباخرة بيوم، وأنسنا بلقائهم على قصر مدة الملاقاة. وبلغوا أزكى تحيتي أخانا الشيخ سيدي مصطفى، والسيد الحسين، ووالدتنا السيدة بيَّة، وابنة أخينا السيدة نفيسة، وكل من يسأل عنا من الإخوان، ¬

_ (¬1) عبد الرحمن بن الحاج بن علي بن عثمان بن علي بن عمر، عالم فاضل، والمشرف على زاوية "طولقة" في الجنوب الجزائري. ابن عم الإمام. له رسالة سماها: "الدر المكنوز في حياة سيدي علي بن عمر وسيدي ابن عزوز" طبعت سنة 1350 هـ.

وإذا أمكن أخذ مئة فرنك لكم، ومئة فرنك لابنة أخينا من بعض أصحاب المكاتب، فأخبروني لمن أسلمها هنا. ودمتم بخير، والسلام من أخيكم محمد الخضر حسين القاهرة في 5 من ذي الحجة سنة 1358 هـ

رسالة شعرية إلى زين العابدين بن الحسين

رسالة شعرية إلى زين العابدين بن الحسين (¬1) " قصيدة في رسالة جواباً على الدعوة التي جاءت من أخيه لزيارة دمشق، ويصف فيها حسن مناظر الربيع وطيب الهواء". دَعَوْتَ إلى دِمَشقَ وَفي فُؤادي ... لَها شَوْقٌ أَحَرُّ مِنَ الهَجيرِ (¬2) تَقولُ: حَنا الرَّبيعُ عَلى رُباها ... وَحاكَ طَنافِسَ الزَّهْرِ النَّضيرِ (¬3) وهَبَّ نَسيمُها الْفيَّاحُ يُهْدي ... إلى أَرْجَائِها أَذْكى عَبيرِ ¬

_ (¬1) رسالة محررة في القاهرة. زين العابدين بن الحسين بن علي بن عمر، شقيق الإمام محمّد الخضر حسين، ولد في مدينة تونس، وتوفي بدمشق (1306 - 1397 هـ = 1888 - 1977 م)، عالم، مربٍّ، لغوي - تلقى علومه في جامع الزيتونة، وحصل على شهادة "التطويع"، وهاجر إلى دمشق مع إخوته وعائلته سنة 1331 هـ واستقر بها، وعمل في التربية والتوجيه. له مؤلفات عديدة منها: المعجم في الكلمات القرآنية - المعجم في النحو والصرف - المعجم المدرسي - الدين والقرآن - الأربعون الميدانية في الحديث - دروس الوعظ والإرشاد - القرآن القانون الإلهي. (¬2) الهجير: شدة الحر. (¬3) حنا: عطف. حاك: نسج. الطنافس: الواحدة طنفسة، وهي البساط. النضير: الذهب والفضة.

هَلُمَّ نُعِدْ بها عَهْداً مَليئاً ... بِما نَهْواهُ مِنْ عَيْشٍ غَريرِ (¬1) أزَيْنَ الْعَابِدينَ لمَحْتَ مِني ... قُصوراً في اللِّقاءِ فَكُنْ عَذيري أثَرْتَ بِمُهْجَتي ذِكْرى لَيَالٍ ... قَضَيْناها بِدُمَّرَ في حُبورِ (¬2) تِملَّيْنا سُلافَ الأنْسِ صِرْفاً ... وَلا قَدَحٌ سِوَى أدَبِ السَّميرِ (¬3) مَضى عَهْدُ الشَّبيبَةِ في صَفاءٍ ... وَرَنَّقَ كَأْسَنا عَهْدُ الْقَتيرِ (¬4) يَضيقُ الباعُ عَنْ هِمَمٍ جِسامٍ ... فَيا وَيْلي مِنَ الْباعِ الْقَصيرِ وفَلَّ الدَّهْرُ عَزْماً كانَ يَسْطو ... عَلى الأخْطارِ مَصْقولَ الأثيرِ (¬5) أعِدْ لي يا زَمانُ حُسامَ عَزْمٍ ... يُناهِضُ صَوْلَةَ الخَطْبِ الْعَسيرِ (¬6) وخَلِّ سِوايَ يَسْتَمْتِعْ بِعَيْشٍ ... حَلا بَيْنَ الخَوَرْنَقِ وَالسَّديرِ (¬7) محمّد الخضر حسين القاهرة سنة 1363 ¬

_ (¬1) غرير: طيب. (¬2) دمر: منتزه جميل في ضاحية غرب مدينة دمشق. (¬3) السلاف: ما سال من عصير العنب قبل أن يعصر. الصرف: الخالص. (¬4) رنَّق: كدّر. القتير: أول ما يظهر من الشيب. (¬5) فلَّ: كسر وهزم. الأثير: وشي السيف وجوهره. (¬6) الحسام: السيف القاطع. الخطيب: الأمر صغر أو عظم. (¬7) الخورنق: موضع في العراق قرب النجف، سكنه بنو إياد، أقام فيه النعمان اللخمي قصراً أشاد بذكره شعراء الجاهلية. السدير: قصر في الحيرة قريب من الخورنق، اتخذه النعمان الأكبر لبعض ملوك العجم.

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فضيلة العلامة الهمام صديقي الأجل الأستاذ الشيخ سيدي محمد الطاهر ابن عاشور-أبقاه الله تعالى مطلع علم وهداية، محفوفاً باجتبار منه ورعاية-. أما بعد إهداء أطيب التحية، وإبداء أبلغ الأشواق: فقد طلع علي كتابكم الرفيع الشّان، البديع البيان، فتلقيته تلقي البلد الطيب لغيث وافاه بعد ظمأ شديد، ولكني كدت ألفّ له رأسي استحياء من الإخاء الصادق أن يراني وأنا أتلظى، أتلقاه وقد افتتحتم به طريق المراسلة، ولم يكن قلمي هو الذي بادر إلى فتح هذا الطريق الذي انسد بيننا نحواً من أربع سنين، وكان حقاً عليّ أن أسبق الأستاذ إلى هذا المظهر من مظاهر الوفاء بالعهد التي طالما كان -أبقاه الله- فيها مجلياً، وكنت مصلياً. وعندما أقبلت على نفسي أعنفها على ذلك التباطي، لم تَفُه في الاعتذار ببنت شفة، أولم تجد عذراً يليق إبداؤه بجانب صداقتنا المنقطعة النظير. ولا أكتم الأستاذ أني قد عزمت على مراسلته لأول يوم انكشف فيه عن تونس ذلك البلاء، وعادت المواصلات إلى حالتها الأولى، ولكن حوادث خاصة عرضت وطال أمدها، فأخذت تؤخر ذلك العزم من اليوم إلى غده، إن لم نقل: من الصباح إلى مسائه، وساعدها على إرجاء المراسلة أخبار مبشرة

بسلامتكم وطيب حياتكم نتلقاها من الوافدين، أو من بعض المكاتيب الواردة من هنالك. وهلّ مكتوبكم الكريم إلى مصر وقد غادرتها إلى الشام لزيارة الأهل، ولتمثيل مجمع فؤاد الأول للغة العربية بالمؤتمر الطبي الذي عقد في هذه السنة ببيروت، وحوِّل إلى الشام، وتسلمته بالأمس، فتمليته والشوق إلى مجالسكم بالغ أقصاه. أما زيارة تونس، فهي البغية التي لا تعرف لها السلوة طريقاً، ولعل الفرصة تسنح في وقت قريب، فاغتنمُها، وليس بيني وبينها إلا أن تتيسر وسائل السفر، وتنضم إلى داعيته التي هي حنين إلى الوطن، وشوق إلى ملاقاتكم التي نعدها من أكبر المنن. وسأجعل بإذن الله منزلكم السامي محل إقامتي؛ لتكثر أوقات اللقاء والأنس. وأشكر الأستاذ على التهنئة بسلامة عقيلتي (¬1) من المرض الذي ألم بها أشهراً، ثم أنعم الله بكشف الكرب وإزالة الخطر. وقد رافقتني إلى الشام وهي في دَور النقاهة، راجياً لها تمام العافية. في النية العود إلى مصر في أوائل الشهر الآتي "أغسطس"، أرجو التفضل بإبلاع أعز تحيتي لحضرات الأساتذة: سيدي علي رضا، وسيدي موسى الكاظم، وحضرات الأنجال الكرام: سيدي الفاضل، وسيدي عبد الملك (¬2)، ¬

_ (¬1) السيدة زينب رحيم من عائلة مصرية محافظة، آل رحيم. (¬2) الابن الثاني للإمام محمد الطاهر بن عاشور، تلقى علومه بالمدرسة الصادقية، وعمل في الوظائف الإدارية، ويشرف على "المكتبة العاشورية". ولد في المرسى بضواحي تونس الشمالية سنة (1332 هـ - 1913 م).

وسيدي زين العابدين (¬1). وأخونا الشيخ زين العابدين يقدم لكم أزكى السلام، وعند كتابة هذا الخطاب كان في المجلس الأستاذ بهجة البيطار (¬2)، فرغب مني إبلاغكم تحيته وإجلاله لكم، وإنا لفي سرور بالغ من الأخبار التي نتلقاها عن علم الأستاذ الفاضل بن عاشور ونبوغه. ولا زلنا نسمع عنكم أطيب الخبر وألذه للنفس، أبقاكم الله للعلم والفضيلة والصداقة التي هي المثل الأعلى. وتفضلوا بقبول أسنى تحيتي وعظيم احترامي حافظ عهدكم محمّد الخضر حسين في 25 رجب 1363 - دمشق ¬

_ (¬1) الابن الثالث للإمام محمد الطاهر بن عاشور، وأصغر أولاده، عمل بالوظائف الإدارية. ولد في المرسى، وتوفي بها. (1334 - 1386 هـ = 1915 - 1966 م). (¬2) محمد بهجة بن بهاء الدين بن عبد الغني بن حسن بن إبراهيم الشهير بالبيطار. عالم جليل لغوي باحث، من أصل جزائري. ولد بدمشق، وتوفي بها (1311 - 1396 هـ = 1894 - 1976 م)، تولى الخطابة والتدريس في جامع كريم الدين الشهير بالدقاق حتى وفاته. كان عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، وعمل فترة في مكة المكرمة، وقام بالتدريس بعد عودته في مدارس دمشق، وكلية الآداب، وكلية الشريعة بالجامعة السورية. له تصانيف عديدة منها: حياة شيخ الإسلام ابن تيمية - تفسير سورة يوسف - الرحلة النجدية الحجازية.

[حاشية] وأرجو إبلاع تحيتي للأستاذ سيدي محمود محسن، والأستاذ الشيخ سيدي محمد المقداد الورتتاني.

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه. حضرة صاحب السماحة العلامة الهمام صديقي الأعز الأستاذ سيدي محمد الطاهر بن عاشور -أبقاه الله تعالى للعلم والإصلاح-. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فقد تلقيت خطابكم العزيز، والشوق إليكم بالغ أشده، فأحمد الله تعالى على سلامتكم، وأهنئ من صميم قلبي آل جامع الزيتونة أساتذة وطلبة بولايتكم النظر في شؤون هذه الجامعة الراقية النافعة، وأرجو لكم من الله تعالى الرعاية والتوفيق. وأملُنا في أن تسعد الأقدار بلقائكم كبير. أدامكم الله للجهاد في رفع لواء العلم والدين الحق. وإحالتنا على المعاش هيأت لنا الاتجاه في آخر حياتنا إلى ابتغاء الأعمال المرضية عند الله على طريق يستدعينا إليه سن السبعين. وتفضلوا بقبول أزكى التحية وعظيم الاحترام. من أخيكم وحافظ عهد ودادكم محمّد الخضر حسين القاهرة في 6 جمادى الأولى سنة 1364

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور حضرة صاحب السماحة العلامة الهمام صديقي الأعز الأستاذ الشيخ سيدي محمد الطاهر بن عاشور -دام عزه وفضله-. بعد إهداء أطيب التحية، وإبداء أبلغ الأشواق: أرجو أن تكونوا وسائر الأسرة الكريمة في أتم صحة وعافية. طالت المدة التي لم أوفق فيها للمراسلة، وقد عرضت في أثنائها أعذار صحية وغير صحية. والحمد لله على كل حال. اجتمعت ببعض القادمين لأداء فريضة الحج، وسرني ما تلقيته عنهم من تمتعكم بالصحة، وطموحكم السامي إلى إصلاح الجامعة الزيتونية. تحدثت في إدارة الأزهر عن مكانتكم العلمية والأدبية والاجتماعية، ورغبوا في الاتصال بكم، ثم أخبروني بأنهم فعلوا. وتفضلوا بقبول أسنى التحية وعظيم الاحترام حافظ عهدكم في القرب والبعد محمّد الخضر حسين القاهرة 18 ذو الحجة 1365 هـ

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور

رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حضرة صاحب الفضيلة صديقي الأعز الأستاذ الأجل الشيخ سيدي محمد الطاهر بن عاشور -حفظه الله-. بعد إهداء أطيب التحية، وإبداء أعظم الشوق إلى اللقاء: عقد المجمع اللغوي جلسة لتعيين أعضاء مراسلين، وقد عرضت اسم فضيلتكم، ووقع الإجماع على انتخابكم عضواً مراسلاً للمجمع، وهذه العضوية، ترشح صاحبها لعضوية المجمع من بعد عند الحاجة إلى ذلك. ولهذا رضيت الاكتفاء بهذه العضوية، وإن كان مقامكم أعلى منها. كما انتخب لهذه العضوية الشيخ الحجوي من فاس، وبعض العلماء من سورية والعراق. طبع ديوان الشعر "خواطر الحياة" (¬1)، وسأرسل إلى فضيلتكم اليوم نسخة منه، وقد جمعت فيه ما وجدته بين يدي من أوراق، أو ما علق بالحافظة. ¬

_ (¬1) طبع ديوان "خواطر الحياة" للمرة الأولى في القاهرة سنة (1366 هـ - 1946 م)، والطبعة الثانية مع تعليق الأستاذ محمد علي النجار سنة (1373 هـ - 1953 م). والطبعة الثالثة سنة (1398 هـ - 1978 م) مع تعليقات علي الرضا الحسيني، الطبعة الرابعة سنة (1410 هـ - 1990 م).

وأرجو إبلاع تحيتي إلى الأستاذ الفاضل بن عاشور، وآل عاشور الأماجد قاطبة، أدامكم الله فخراً للمغرب، بل للعالم الإسلامي. وتفضلوا بقبول أسنى تحيتي وعظيم احترامي حافظ عهدكم أخوكم محمّد الخضر حسين القاهرة 21 جمادى الأولى سنة 1367 هـ

رسالة شعرية إلى علي النيفر

رسالة شعرية إلى علي النيفر (¬1) تلقى الإمام قصيدة من الشيخ علي النيفر العالم الأديب -المنشورة في الحاشية- بعث بها من تونس فأجابه بالقصيدة التالية: رَعى الله حُسْنَ الْعَهْدِ هَزَّ قَريحَةَ ... فَألْقَتْ عَلَيْنا مِنْ حَلاها فَرائِدا وَما الْكَلِمُ الْفُصْحى سِوى دُرَرٍ إذا ... تَلاقَتْ عَلى الْقِرْطاسِ صارَتْ قَلاِئدا (¬2) وَرُبَّ قَصيدٍ هاجَ ذِكْرى تُثيرُ مِنْ ... تَباريحِ شَوْقِ ما يُذيبُ الجَلامِدا (¬3) قَصيدٌ بَدا مِنْ أُفْقِ أرْضٍ نَشَأْتُ في ... مِهادِ رُباها لا عَدِمْتُ الْقَصائِدا (¬4) أبا الحَسَنِ اسْتَسْمَنْتَ ذا وَرَمٍ أما ... تَرى عَزْمَهُ بَيْنَ الجَوانِحِ خامِدا (¬5) ¬

_ (¬1) من مشاهير علماء جامع الزيتونة، تلقى فيه العلم، ثم درَّس فيه، عالم وشاعر وأديب، ولد وتوفي بتونس (1318 - 1405 = 1901 - 1985 م)، له كثير من القصائد الشعرية في شتى الأغراض. (¬2) الكلم: جمع الكلمة. القرطاس: الصحيفة التي يكتب فيها. القلائد: جمع القلادة: ما جعل في العنق من الحلي، وقلائد الشعر: البواقي على الدهر؛ أي: التي لا تزال محفوظة لا تنسى لنفاستها. (¬3) الجلامد: جمع الجلمد والجلمود: الصخر. (¬4) الأرض: يريد بها تونس حيث ولد الشاعر. المهاد: الفراش والأرض. (¬5) أبا الحسن: الشيخ علي النيفر.

وَلا خَيْرَ فْيمَنْ عادَ صارِمُ عَزْمِهِ ... كَهاماً وَيَرْضى أنْ يُسَمَّى المُجاهِدا (¬1) وأَطْرَيْتَ ظمآنَ اسْتَبانَ لِداتُهُ ... مَوارِدَ عِرْفانٍ وَضَلَّ الموارِدا (¬2) نَظَرْتَ بِعَيْنِ الوِدِّ سيرَتَهُ فَما ... دَريتَ الَّذي تَدْرِيه لَوْ جِئْتَ ناقِدا حَمِدْنا سُراكُمْ يَوْمَ وافَيْتَ قادِماً ... عَلى الطَّائِرِ المَيْمونِ لِلْحَجِّ قاصِدا (¬3) طَلَعْتَ عَلَيْنا وَاْشتِياقي لِتونُسٍ ... يُقَلِّبُ جَمْراً بَيْنَ جَنْبَيَّ واقِدا فَأَهْدَيْتَ طاقاتِ مِنَ الأُنْسِ طالما ... بَكَرْتُ لَها بَيْنَ الخَمائلِ ناشِدا (¬4) لَقِيتُ بِلُقْياكَ الأريبَ الَّذي حَكى ... بِسيرتِهِ الحَسْناءِ جَدّاً وَواِلدا (¬5) ذَكَرْتُهما عِنْدَ اللِّقاءِ، وَإنَّما ... ذَكَرْتُ عُلوماً جَمَّةً ومَحامِدا وَلَمْ أَنْسَ أَنْ كانَ المُوَقَّرُ جَدُّكُمْ ... غَداةَ امْتِحاني مُسْتَشاراً وشاهِدا (¬6) فَنَوَّهَ بي عَطْفاً وَتَنْويهُ مِثْلِهِ ... يُرَوِّجُ ذِكْراً مِثْلَ ذِكْرِيَ كاسِدا ¬

_ (¬1) كَهام: كليل، يقال كَهِم السيف: كَلَّ. (¬2) أطريت: بالغت في المدح. لِدات: جمع لِدَة: وهو الذي ولد معك وتربى. (¬3) السُّرى: سير عامة الليل. الطائر الميمون: يقال: "سر على الطائر الميمون": دعاء للمسافر، ويقال: "هو ميمون الطائر"؛ أي: مبارك الطلعة. (¬4) الطاقات: جمع الطاقة، وهي القدرة على الشيء. بكر؛ أتى بكرة. الخمائل: جمع خميلة: الموضع الكثير الشجر. (¬5) الأريب: العاقل، والماهر والبصير. (¬6) هو المرحوم العلامة الشيخ محمد الطيب النيفر القاضي المالكي في تونس لذلك العهد.

بِعَيْشِكَ حَدِّثْني عَنِ المَعْهدِ الَّذِي ... قَضَيْتُ بِهِ عَهْدَ الشَّبيَبةِ رائدا (¬1) حَظِيتُ بِأَشْياخِ مَلأْتُ الْفُؤادَ مِنْ ... تَجِلَّتِهِمْ لَمَّا خَبِرْتُ الأَماجدا بَيانُ أديبٍ يَقْلِبُ اللَّيْلَ ضَحْوَةً ... وفِكْرَةُ نِحْريرِ تَصيدُ الأَوابِدا (¬2) فَلَمْ يُرِني أَدْرى وأَنْبَلَ مِنْهُمُ ... رَحيلٌ طَوى بي أَبْحُراً وَفَدافِدا (¬3) وَيَأْبى قَريضيِ وَهْوَ ضَيْفُ حِماكَ أنْ ... يَمُرَّ بِمَرسىَ المَهْدَوِيِّ مُحايِدا (¬4) فَلي في نقَاها جِيِرةٌ كُنْتُ أقْنَني ... طَرائفَ مِنْ إيناسِهمْ وَتَلائِدا (¬5) فَدَعْهُ يُحَيِّيهمْ حِفاظاً لِعَهْدِهِمْ ... وَيَأْوِي إلى مَغْناكَ في الطِّرْسِ عائدا (¬6) محمّد الخضر حسين القاهرة - محرم 1369 ¬

_ (¬1) المعهد: جامع الزيتونة بتونس. الرائد: الرسول الذي يرسله القوم ينظر لهم مكاناً ينزلون فيه. (¬2) النحرير: الحاذق الماهر العاقل المجرب المتقن، البصير بكل شيء؛ لأنه ينحر العلم نحراً. الأوابد: جمع الآبدة، وهي القافية الشاردة. (¬3) الفدافد: جمع فدفد، وهي الفلاة. (¬4) مرسى المهدوي: بلدة في ضاحية تونس. (¬5) النقا: القطعة من الرمل. الجيرة: يعني بهم: صديقه العلامة المرحوم محمد الطاهر ابن عاشور. (¬6) المغنى: المنزل. الطرس: الصحيفة. * نص قصيدة العالم الأديب الأستاذ علي النيفر: أزج القوافي شرَّداً وأوابدا ... لحمى يعجُّ مكارماً ومحامداً =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأنخ كرائمها لديه فساحُه ... ترعى القصيدَ ولا ترد القاصدا غيل الأعارب ملتقى أبطالهم ... وربيعُ مُسنتهم وحسبك رافدا حيث الرضا الخضر الحسين تخال ما ... يبديه من غرر البيان قلائدا حيث ابتنى في مصرللخضراء من ... عرفانه علماً يغيظ الحاسدا أعلى مناراً "للهداية" في مغا ... نيها فعاد به المغفل راشدا وبه "لوا الإسلام" يخفق عالياً ... فأظل ممروراً وأدفأ صاردا قد أذكرانا منه صرح "سعادة" ... عظمى بتونس كان أعلى شائدا والأزهر المعمور حبَّرَ سِفره ... حقباً وأطلع في سماه فراقدا ولكم به قد بثَّ علماً نافعاً ... نقع الغليل لمن أتاه واردا يحكي الذي أحيا به "زيتونة" الـ ... ـعرفان في علم أضاء معاهدا "والمجمع اللغوي" في مصر غدا ... فيه لما يعلي العروبة ماهِدا وبحسبه أن راح يرأس "جبهة" ... لدفاع من ناوى المغارب صامدا ما زال يرأسها بعزمة أيّدٍ ... في صحبة الأبرار يدأب ذائدا سبحان من أولاك علماً واسعاً ... وتقى وخلقاً مثل خِيمك ماجدا يا فخر تونس يا ميمم من نأى ... عنها بمصر مهاجراً أو واردا يا أنس مغترب وموئل لاجئ ... وكفى بما شهد البرية شاهدا أهدي لكم مني تحتية شائق ... لكريم خلقكم الهنيّ مواردا ما زالت أذكرها بمصر مجالساً ... لكمُ علينا قد نثرن فرائدا أبقاك من رقاك أرفع رتبة ... وحباك في كل الأمور مَراشدا وبقيت من كل الخطوب مسلَّماً ... لجميع ما ترجو وتأمل واجدا تونس - 27 ذو القعدة 1368 هـ

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين

رسالة إلى محمد المكي بن الحسين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أرجو أن تكونوا في خير وعافية، وقد أبطات في مكاتبتكم، والعذر هو انحراف الصحة، وأحمد الله، فالحالة في هذه الأيام خير، وقد شرعت في تنظيم مذكراتنا في الحياة التي اخترت أن أسميها: "مراحل الحياة" (¬1). ¬

_ (¬1) مذكرات في ثلاثة مجلدات، باشر الإمام في إعدادها للنشر، ثم عدل عن ذلك، ومزقها، وبين يدي بعض المسوَّدات منها. وكان يمليها على بعض أهل العلم ممن تلقوا عنه في القاهرة، ومنهم: العالم الفاضل عبد الرحمن حبنكة الميداني، والدكتور زكريا البري. يقول هذا الأخير في إحدى خطبه: "وبدأ يملي علي مذكراته وأنا أكتبها، وأحياناً كان يخط بيده مسودات لهذه المذكرات، ثم أتناول تبييضها في منزلي، ... كان في ذلك الوقت الأخ المرحوم الشيخ عبد المنعم البهي يعمل في جريدة "المصري" .. واتصل بي، وقد علم أنني أعاون الشيخ الأكبر المجاهد الإسلامي في كتابة هذه المذكرات، ورغب أن ينشرها تباعاً في جريدة "المصري"، .. وجاء الدكتور البهي لذلك، وحدثه عن نشرها تباعاً في جريدة المصري ليستفيد بها الناس، ويروا تاريخ رجل فاضل، ولد في تونس، وهاجر تحت ضغط الاستعمار الذي حكم عليه بالاعدام و ... إلخ ... فقال له بأدب: دعني أفكر ... ثم جئت في المقابلة وقلت له: إذن نواصل ما كنا فيه، قال: لقد مزقت هذه المذكرات. قلت: وفيما كان هذا؟ قال: إن اقتراح زميلك =

وأرجو أن ترسلوا إلي القصيدة التي نشرت في مجلة "السعادة" (¬1): "أيعاتب الزمن الذي لا يسعد" وقصيدة كنت رثيت بها المرحوم الشيخ عمر بن الشيخ (¬2)، وإذا تيسر لكم إرسال ما كتبناه في جريدة "الزهرة" عن رحلتنا (¬3) إلى الشرق 1330، ¬

_ = المرحوم الدكتور البهي جعلني أفكر في نشرها وعدم نشرها، واستخرت الله، ووجدت أن نشرها يعتبر حديثاً عن النفس، وفيه تزكية لنفسي، وأنا لا أريد أن أزكي نفسي، وليستفد من شاء بما شاء من كتاباتي، أما هذه المذكرات، فقد عدلت عن المواصلة فيها ... (¬1) مجلة "السعادة العظمى" أول مجلة عربية إسلامية إصلاحية نصف شهرية أصدرها الإمام في تونس في شهر محرم سنة (1322 هـ - 1904 م)، وظهر منها واحد وعشرون عدداً، وتوقفت في شهر ذي القعدة سنة (1322 هـ - 1905 م). وقد أعدت طباعتها مجموعة واحدة في دمشق سنة (1405 هـ - 1985 م) على الشكل الذي صدرت فيه بتونس. (¬2) عمر بن أحمد بن علي المعروف بابن الشيخ، من كبار الفقهاء والعلماء الزيتونيين، ولد في "الماتلين" من قرى مدينة "بنزرت" شمال تونس، وتعلم في جامع الزيتونة، وحصل على شهادة "التطويع"، وارتقى إلى الطبقة الأولى في خطة التدريس في الجامع. وقرأ عليه الإمام محمّد الخضر حسين، وخاله العلامة محمد المكي بن عزوز، وتولى خطة الإفتاء المالكي سنة (1303 هـ - 1895 م). وتوفي بمدينة تونس (نحو 12239 - 1329 هـ = 1826 - 1911 م). وقد ترجم حياته باختصار الإمام محمد الخضر حسين في كتاب "تونس وجامع الزيتونة". مؤلفاته: رسائل في مسائل العلوم - فهرسة صغرى - فهرسة كبرى. (¬3) "خلاصة الرحلة الشرقية"، وهي الرحلة العلمية الأولى التي قام بها الإمام إلى =

أكون شاكراً لكم. وبلغوا أعز تحيتي إلى سائر الأهل والأخوان، وسأكاتبكم قريباً إن شاء الله. والسلام من أخيكم محمد الخضر حسين في 4 رجب 1369 - القاهرة [حاشية] كتبت خطاباً للسيد محمد الأمين في شأن كتاب طبع في المغرب، وهو كتاب جمع فيه مؤلفه ما اتفق عليه الصحاح الست فيما بلغنا، وقد أخبرني الأستاذ النابغة السيد عثمان الكعاك (¬1) بأنه توجد منه نسخة في ¬

_ = مصر وفلسطين ولبنان وسورية وتركيا سنة 1330 هـ، ونشرت في جريدة "الزهرة" بتونس بين العدد المؤرخ في (17 ربيع الثاني 1331 هـ - الموافق 25 مارس آذار 1913 م والعدد المؤرخ في 20 جمادى الأولى 1331 هـ - الموافق 26 أفريل نيسان 1913 م). كما نشرت في مجلة "الحقائق" بدمشق - الأجزاء: العاشر والحادي عشر والثاني عشر من المجلد الثاني. وقد ضممتها إلى كتاب "الرحلات" للإمام - طبعة دمشق (1369 هـ - 1976 م). (¬1) عثمان بن محمد بن العربي بن عثمان الكعاك العياضي من سلالة القاضي عياض. أديب، لغوي، مؤرخ. ولد في "قمرت" من ضواحي تونس الشمالية، وتوفي بمدينة "عنابة" في الجزائر قبل ساعات من موعد إلقاء محاضرة في ملتقى الفكر الإسلامي. ودفن في تونس (1318 - 1396 هـ = 1900 - 1976 م). مؤلفاته تزيد عن الأربعين كتاباً منها: المجتمع التونسي على عهد الأغالبة - مراكز الثقافة بالمغرب العربي - الحضارة العربية في حوض البحر المتوسط.

المكتبة العامة التي يشرف عليها، فأرجو تحريض السيد الأمين على إرساله، وإخباري بثمنه لأسلمه إلى من يوصله إليه، والسلام. بلغوا أعز تحيتي أخانا الشيخ سيدي التبريزي بن عزوز.

رسالة شعرية إلى محمد الشاذلي خزنه دار

رسالة شعرية إلى محمد الشاذلي خزنه دار (¬1) بعث أمير شعراء تونس محمد الشاذلي خزنه دار بتحية شعرية -وهي منشورة في الحاشية- وأجابه الإمام بالقصيدة التالية: طالَ البَقاءُ وباعُ العَزْمِ في قِصَرِ ... فَما قَضَيْتُ بِهِ لِلْمَجْدِ مِنْ وَطَرِ أبيتُ سَبْعينَ عاماً والهَوى يَقِظٌ ... أرى بِمرآتِهِ الحَصْباءَ كالدُّرَر (¬2) وحُسْنُ ظَنِّكَ بي وارى نقَائصَ لا ... تَغيبُ عَنْ أَعْيُنِ النُّقَّادِ لِلسِّيَرِ (¬3) وللرِّضا مَنْطِقٌ لَوْ شاءَ صَوَّرَ لي ... وَجْهَ الدَّميمَةِ مَنْحوتاً مِنَ الْقَمَر ماذا يرى شاعِرُ الخضْراءِ في صِلَةٍ ... شَدَّتْ عُراها يَدٌ مَحْمودَةُ الأثَرِ (¬4) ¬

_ (¬1) محمد الشاذلي بن محمد المنجي بن مصطفى خزنه دار، أمير شعراء تونس الكبير، وأديب. درس العلوم الحربية في باريس، كما تابع علومه في جامع الزيتونة، وبالخصوص على يد العلامة سالم بوحاجب، قصائده في الوطنيات، ولد وتوفي بتونس (1297 - 1373 هـ = 1879 - 1954 م). له ديوان شعر مطبوع - وحياة الشعر وأطواره الحاضرة. طبع بتونس سنة (1338 هـ - 1920 م). (¬2) سبعون عاماً: إشارة إلى سن صاحب الديوان بتاريخ نظم القصيدة. الحصباء: الحصى، والواحدة حصبة. (¬3) وارى: ستر وأخفى. (¬4) الخضراء: تونس.

ذَكَرْتَ عَهْداً ذَكَتْ آدابُهُ وَزَهَتْ ... كما زَهَتْ حِلْيَةٌ في سَيْفِ مُنْتَصِرِ نَسيتُ نَفْسيَ إنْ أُنْسِيتُهُ وَلَهُ ... في طَيِّها صورَةٌ مِنْ أَبْهَجِ الصُّوَرِ ما زِلْتُ أذْكُرُ ما خَطَّتْ يَمينُكَ في ... سِفْرِ السَّعادَةِ مِنْ آدابِكَ الغُرَرِ (¬1) وَلَمْ تَفُتْني قَوافٍ كُنْتَ تُرْسِلُ في ... يَوْمِ النِّضالِ بِها نَبْلاً مِنَ الشَّرَرِ (¬2) وأنْفَعُ الشِّعْرِ ما هاجَ الحَماسَةَ في ... شَعْبٍ يُقاسي اضْطِهادَ الجائِرِ الأَشِرِ (¬3) لَوْ لَمْ أَخَفْ وَخْزَ تَثريبٍ يَصولُ بهِ ... عَلَيَّ ناقِدُ شِعْري مِنْ بَني مُضَرِ (¬4) لَقُلْتُ: لا شِعْرَ إلّا في قَريحَةِ مَنْ ... يَبيتُ مِنْ شِقْوَةِ الأَوْطانِ في سَهَرِ مَنْ ذا يُقيمُ على أرْضٍ يُظَلِّلُها ... ضَيْمٌ وُيحسِنُ وَصْفَ الدَّلِّ والحَورِ (¬5) دَرَيْتَ حَقّاً وما أَدْراكَ أنِّيَ مِنْ ... حَرِّ اشْتِياقي إلى الخَضْراءِ في ضَجَرِ (¬6) أَقْبَلْتَ تَبْحَثُ عَين ذِكرى أَبيتُ لَها ... في سَلْوَةٍ عُصِرَتْ مِنْ جَأْشِ مُصْطَبِرِ (¬7) ¬

_ (¬1) السفْر: الأثر. السعادة: مجلة "السعادة العظمى" التي أصدرها الشاعر بتونس. الغرر: جمع الغرة: كل شيء ترفع قيمته. (¬2) القوافي: جمع القافية، وهي آخر كلمة تكون في البيت. النبل: السهام العربية. (¬3) الجائر: الظالم. الأشِر: الذي يكفر بالنعمة. (¬4) التثريب: اللوم. مضر: ابن نزار الجد الأعلى لفريق من القبائل العربية العدنانية. (¬5) الضيم: الظلم. الدل: الدلال. الحور: اشتداد بياض وسواد العين. (¬6) الضجر: القلق من غم وضيق نفس مع كلام. (¬7) السلوة: النسيان. جأش: رواع القلب إذا اضطرب عند الفزع.

وصُغْتَها كالصَّبا في رِقَّةِ فَسَرَتْ ... والطَّلُّ بَلَّلَ زَهْرَ الرَّوْضِ في سَحَرِ (¬1) وافَتْ فَخِلْنا صَباحَ العيدِ حَنَّ لَنا ... وَعادَ كَيْ نتَمَلّى الأُنْسَ في صَفَرِ (¬2) مَنْ لي بِأَنْ أرِدَ الأرْضَ التي ... مِنْها وَأفْتَحَ في أَرْجائِها بَصَرِي (¬3) هُناكَ ما شِئْتَ مِنْ عِلْمٍ وَمِنْ أَدَبٍ ... وَمِنْ حَدائِقَ تُؤتي أَطْيَبَ الثَّمَرِ أُسيمُ طَرْفيَ "بالمَرْسى" وشاطِئِهِ ... وأَحْتَسي بِلِقاها قَهْوَةَ السَّمَرِ (¬4) وَمِنْ نفَائِسِها أنَّي صَحِبْتُ بِها ... مَنْ لَوْ كَدِرْتُ لَلاقَى بِالصَّفا كَدَري (¬5) ما ضَرَّ "أريانَةَ" الْغَنّاءَ لَوْ قَرُبَتْ ... مِنْ مِصْرَ في نَفْحَةٍ مِنْ وَرْدِها الْعَطِرِ (¬6) نَصَحْتَ يا شاذِليُّ الْقَوْمَ في عَذَلٍ ... وَغَيْرُكَ اخْتانَهُمْ في زِيِّ مُعْتَذِرِ (¬7) والنَّاسُ مُذْ دَرَجوا فَوْقَ الثَّرى اخْتَلَفَتْ ... طُعومُهُمْ كاخْتِلافِ الشَّهدِ والصَّبِرِ (¬8) ¬

_ (¬1) الصّبا: ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. الطّل: أخف المطر وأضعفه، الندى. (¬2) صفر: الشهر المعروف في السنة الهجرية بعد المحرم. (¬3) يصور الشاعر في هذا البيت حنينه إلى تونس موطنه الأول. (¬4) المرسى: بلدة في ضاحية العاصمة تونس على البحر. (¬5) هذا البيت إشارة إلى ما كان بينه وبين العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من ود خالص. (¬6) أريانة: ضاحية من ضواحي تونس. (¬7) العذل: الملامة. (¬8) درجوا: مشوا. الشهد: العسل ما دام لم يعصر من شمعه. الصبر: عصارة شجر مر.

تَفاوَتوا بِالنُّهى حَتَّى جَرُؤَتُ على ... رَهْطٍ وَبَرَّأْتُ مِنْهُمْ أُسْرَةَ الْبَشَرِ (¬1) هَذا دَرِيٌّ بِأَسْرارِ الأُمورِ فَلا ... يَرْمي إلى هَدَفٍ إلَّا عَلى حَذَرِ وذاكَ كالظِّلِّ يَقْفو الدَّهْرَ صاحِبَهُ ... والرَّأْيُ في خَطَلٍ والْقَوْلُ في هَذَرِ (¬2) كُلٌّ لَهُ نَزْعَةٌ تَدْعو الحكيمَ إلى ... ما يَنْتَقي في دُعاءِ الخَيْرِ مِنْ عِبَرِ (¬3) ما أقْرَبَ الرُّشْدَ مِنْهُم والْفَلاحَ إذا ... ما ساسَهُمْ مُحْكِمٌ لِلْوِرْدِ والصَّدَرِ (¬4) محمّد الخضر حسين ¬

_ (¬1) الرهط: قوم الرجل وقبيلته. (¬2) يقفو: يتبع. الخطل: الكلام الفاسد الكثير. الهذر: سقط الكلام الذي لا يعبأ به. (¬3) الحكيم: العالم صاحب الحكمة المتقن للأمور. (¬4) الورد: الماء الذي يورد. الصدر: الرجوع عن الماء. * نص قصيدة أمير الشعراء محمد الشاذلي خزنه دار: يزجي القوافيَ بين الأنجم الزهُر ... تحنانُ تونسنا الخضراء (للخَضِرِ) في كل منحىً لزيتونيِّ جامعه ... يعقوب يوسفَ يستأسيه للبصر وفي الشوارد من (مكيّهِ) أدب ... فيه استعادة ما للشيخ من أثر وللأخوَّة منه والبنوَّة في ... أبناء جلدته مستلفت النظر و"للسعادة" فيما خط من صحف ... ذكرى تعيد لمثلي سالف العمر لي في البواكر من غرسي بروضتها ... ما استظهرته بنات الفكر من زهر للجانبين بها الذكرى تعيد لنا ... عهد الشباب ونيل الفخر من صغر سائل "سعادتنا العظمى" وثالثنا ... فيها (ابن عاشور) شيخ الجامع النضر ما بيننا نصف قرن برزخ فصلت ... فيه الحقائق واجتزناه بالصور =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يسائل (النيل) يا أستاذ (مجردة) ... فيم استبيح بك استئثار محتكر و (للكنانة) في الإيثار من قدم ... شواهد المبتدا في النحو والخبر ذرني وشأن الليالي في تحكمها ... فلست أجهل ما فيها من العبر راجعت ملهمتي في ما اهتممت به ... مما عليه عموم الناس من غير لا سيما ما عليه نحن من خطل ... ومن مَخازٍ ومن خُلْف ومن خَوَر براً وبحراً تولانا الفساد فما ... في القوم من خلق ترضى ولا سير أما الديانة فالموءودة انطمست ... آثارها وانمحت محواً من الزبر قالوا الصدور قبور للرفات وفي ... يوم القيامة نحييها لمنتظر زلوا وضلوا وحلوا كل رابطة ... وحللوا كل محظور من الكبر واستبدلوا الخالص الأزكى بزيفهم ... واستهدفوا في الهوى للمأزق الخطر لم يلق في المظهر القومي من أثر ... يرضيك مرآه من أنثى ومن ذكر ساد التنطع واسترعى بصائرهم ... فلا استنارة للأذواق والفكر عزّ التطبب واستعصى الشفاء فهل ... من رحمة تنقذ المرضى من الخطر لا يأس عندي وللديان متجهي ... ما دام مثلك في الأزكى من البشر فلتحي يا أيها الأستاذ منتصراً ... للدين في ذروة التوفيق والظفر وهذه نزعتي فالخلق أجمعهم ... دون اعتقاد أولو الإفساد في نظري وما عليه الحياة اليوم من قلق ... يكفي دليلاً وتكفي ومضة الشرر فلنسع سعي الهداة الراشدين معاً ... أمّا النجاح فموكول إلى القدر

رسالة شعرية إلى محمد المقداد الورتتاني

رسالة شعرية إلى محمد المقداد الورتتاني (¬1) " أبيات قالها الإمام جواباً على بيتين بعث بهما إليه صديقه الشيخ محمد المقداد الورتتاني من تونس صحبة مروحة من سعف النخيل". يا أخا الآدابِ صُغْتَ الشِّعْرَ مِنْ ... كَلِمٍ يَعْذُبُ في سَمْع وفَمْ (¬2) وَدَرَيْتَ الحَرَّ في مِصْرَ إذا ... أَقْبَلَ الصَّيْفُ تَلَظَّى واحْتَدَمْ (¬3) ¬

_ (¬1) محمد المقداد بن نصر بن عمار الورتتاني، عالم، مؤرخ، شاعر، ولد في قبيلة "ورتتان" الضاربة جنوبي مدينة الكاف قرب مدينة "أبَّة" وتلقى علومه في جامع الزيتونة، ونال شهادة "التطويع". عمل نائباً لجمعية الأوقاف بالقيروان، وتوفي بتونس (1292 - 1369 هـ = 1875 - 1950 م). له تصانيف، منها: البرنس في باريس (تتضمن رحلته إلى فرنسا وسويسرا) - الرحلة الأحمدية - وغيرها. أرسل للإمام مروحة من سعف النخيل هدية مع بيتين، وهما: مروحة من تونس ... إلى الأعز الأخضر نسيمها يهدي له ... أزكى سلامٍ عطرٍ فأرسل إليه الإمام هذا الخطاب. (¬2) تلظى: تلهب. احتدم: اشتد. (¬3) بلاد النخل: تونس حيث يكثر في جنوبها النخيل.

فَتَخَيَّرْتَ لأِنْ تُهْدِيَ لي ... مَنْ بِلادِ النَّخْلِ مِهْداءَ النَّسَمْ (¬1) أنا في حَرٍّ مِنَ الشَّوْقِ فَما ... طُبُّ حَرِّ الشَّوْقِ إنْ شَوْقٌ ألَمْ طُبُّهُ النَّاجِعُ مَلْقاكَ ألا ... تَبْتَغي مِصْرَ سَبيلاً لِلْحَرَمْ (¬2) هَذِهِ مِرْوَحَةُ الرُّوحِ وَدَعْ ... سَعَفَ النَّخْلِ إلى لَحْمٍ وَدَمْ (¬3) محمّد الخضر حسين القاهرة ¬

_ (¬1) المهداء؛ الذي من عادته أن يهدي. (¬2) الناجع: المؤثر. مصر سبيل للحرم؛ أي: طريق بين تونس ومكة المكرمة لأداء فريضة الحج، وفي هذا البيت دعوة لزيارة القاهرة. (¬3) السعف: جريد النخل وورقه.

رسالة شعرية إلى سعيد أبو بكر

رسالة شعرية إلى سعيد أبو بكر (¬1) " أبا بَكْرٍ" نَظَمْتَ وما مَدَحْتا ... فَهأنذا أقَرِّظُ ما نَظَمْتا (¬2) ومَا التَّقْريظُ إلَّا الشُّكْرُ يُهْدى ... على ما صُغْتَ مِنْ أَدَبٍ وصُنْتا ولسْتُ أقولُ ذا دُرٌّ نَضيدٌ ... لأنَّكَ ما الْتَقَطْتَ ولا نَضَدْتا (¬3) وَلَسْتُ أقولُ ذا زَهْرٌ أنيقٌ ... لأنْكَ ما غَرسْتَ ولا قَطَفْتا (¬4) ولستُ أقولُ راحٌ في زُجاحٍ ... لأنَّكَ ما عَصَرْتَ ولا سَبَكْتا (¬5) وَقَدْ لَهَجوا بِقَوْلهِمُ "بديعٌ" ... "بليغُ" "فائقٌ" حَتّى سَئِمْتا (¬6) ¬

_ (¬1) ولد في مدينة "المكنين" على الساحل التونسي بين مدينتي سوسة والمهدية، شاعر، صحافي، أصدر مجلة شهرية "تونس المصورة"، وتوفي بتونس (1317 - 1367 هـ = 1899 - 1948 م). من تصانيفه: السعيديات: ديوان شعر - دليل الأندلس - الزهرات: شعر. (¬2) قرظ فلاناً: مدحه وهو حي. (¬3) نضيد: نضد المتاع: جعل بعضه فوق بعض. (¬4) أنيق: حسن مُعْجِب. (¬5) الراح: الخمر. سبك الذهب: أذابه وخلصه من خبثه. (¬6) لهج بالشيء: أغري به، فثابر عليه.

"أبا بَكْرٍ" أرى شِعْراً عَبوساً ... فأذْكُرُ سَيْفَ بِشرٍ والسَّبَنْتَى (¬1) وَأَقْرَأُ تارةً شِعْراً رَصيناً ... أتَنْحِتُهُ مِنَ الجَوْزاءِ نَحْتا تُجاهِدُ في سَبيلٍ يَبْتَغيها ... غَريبٌ غاشِمٌ عِوَجاً وَأَمْتا (¬2) تُكافِحُهُ وَقدْ طَفَحَتْ يَداهُ ... بِعَسْفٍ يَمْلأُ الأَفْواهَ صَمْتا (¬3) وَلَيْسَ الشِّعْرُ بالصَّمْصامِ يَلْوِي ... ذِراعَيْ مَنْ يَصُبُّ الهُوْنَ بَحْتا (¬4) بَلِ الشِّعْرُ الحَكيمُ ثِقافُ سُمْرٍ ... تُسَمِّيها الْقُلوبُ إذا نَطَقْتا (¬5) شُعور فَائْتِلافٌ فَاتِّحادٌ ... فَعَزْمٌ يَسْحَتُ الإرْهاقَ سَحْتا (¬6) "أبا بَكْرٍ" أعيذُكَ مِنْ خَيَالٍ ... يَروغُ عَنِ الهُدى وَيَحوكُ بَيْتا وفي الشُّعَراءِ مَنْ ضاقَتْ خُطاهُ ... وَفاتَتْهُ الحَقائقُ وهي شَتّى فَراحَ يَخالُ لَهْوَ الْقَوْلِ جِدّاً ... وَيَنْفُثُ في مَكانِ الرُّشْدِ بُهْتا (¬7) ¬

_ (¬1) بشر: بشر بن عوانة العبدي الذي أتى على ذكره بديع الزمان الهمذاني في المقامة البشرية، الذي عرض له أسد وهو يبتغي مهراً لابنة عمه، فثبت له وقتله. السبنتى: النمر. (¬2) الغريب: المستعمر إطلاقاً، ويريد هنا: المستعمرين الفرنسيين. الغاشم: الظالم والغاصب. الأمت: الوهن والضعف. (¬3) طفحت: امتلأت. العسف: الظلم. (¬4) الصمصام: السيف لا ينثني. والهُوْن: الهوان والذل. البحت: الصِّرف والخالص من كل شيء. (¬5) الثقاف: آلة تسوَّى بها الرماح، السُّمْر: واحدها الأسمر، وهو الرمح. (¬6) سحت الشيء: استأصله. (¬7) ينفث: يرمي من فيه. البهت: الكذب.

وَشِعْرُ الْعُرْبِ ذو نَظْمٍ، فَرِفْقاً ... بِها إنْ شِئْتَ رِفْقاً واسْتَطَعْتا لَعَلَّ الذَّوْقَ لا يَسْلو نِظاماً ... تَزَحْزَحَ عَنْهُ بَعْضُ الْقَوْلِ بَغْتا (¬1) وكانَ قَريضُ "تونُسَ" في صَفاءٍ ... وإبْداعٍ يُضاهي الشُّهْبَ نَعْتا (¬2) فَلاقى مِنْ صُروفِ الدَّهْرِ عَسفاً ... فَنَضَّبَ ماؤُهُ واغْبَرَّ نَبْتا (¬3) أيَزْهى بُلْبُلٌ في كَفِّ طِفْلٍ ... يُمِضُّ الْبُلْبُلَ الْغِرِّيدَ مَقْتا (¬4) وما هُوَ كالطَّليقِ يَميسُ تِيهاً ... وَيشْدو فَوْقَ أُمْلودٍ تَمَتَّى (¬5) "أَبَا بَكْرٍ" أَخَذْتَ تُعيدُ مَجْداً ... هَوى فَابْغِ الأناةَ إليْهِ سَمْتا (¬6) وخَلِّ الْبَخْتَ يَسْعى لِلْكُسالى ... وَسَمِّ الحَزْمَ والإقْدامَ بَخْتا محمّد الخضر حسين ¬

_ (¬1) بغتا: فجأة. (¬2) القريض: الشعر. يضاهي: يشابه. النعت: الصفة. (¬3) العَسف: الظلم. نضب الماء: غار في الأرض. (¬4) يمضّ: يؤلم ويوجع. الغريد: المطرب بصوته. (¬5) يميس: يتبختر. التيه: الصلف والكبر. أُملود: الناعم من الناس والغصون. تمتَّى: تمطَّى. (¬6) هوى: سقط من علو إلى أسفل. الأناة: الحلم والوقار. السمت: الطريق.

رسالة شعرية إلى محمد المأمون النيفر

رسالة شعرية إلى محمد المأمون النيفر " بعث الأديب التونسي الأستاذ محمد المأمون النيفر إلى الإمام بقصيدة -المنشورة في الحاشية- تنم عن عاطفة أدبية رقيقة. وقد أجابه بالقصيدة التالية": أَهَذي تَحايا الوِدِّ والْبَرَكَاتِ ... أَمِ الرَّوْضُ يُهْدي أَطْيَبَ النَّفَحاتِ؟ وهذا رَقيمٌ لَوْ بَدَوْتُ لَخِلْتُهُ ... وَقَدْ جادَ بالإيناسِ لَحْظَ مَهاةِ (¬1) أَجَلْ هُو شِعْرٌ يَحْمِلُ الأُنسَ مِن ربُى ... بلادٍ بِها قَضَّيْتُ صَدْرَ حَياتي (¬2) ذَكَرْتُ ربُى المرْسى الأنيقَةِ والصَّبا ... تُذيعُ شَذا أزْهارِها الْبَهِجاتِ (¬3) وَسامِرَ آدابٍ حِسانٍ كأنَّهُ ... مَراتِعُ ما بالقاعِ مِنْ ظَبَياتِ (¬4) ¬

_ (¬1) الرقيم: الكتاب. بدوت: خرجت إلى البادية. اللحظ: باطن العين. مهاة: البقرة الوحشية. (¬2) يقصد الشاعر تونس حيث ولد وعاش صدر حياته بها. (¬3) ربى: جمع ربوة: ما ارتفع من الأرض. المرسى: بلدة جميلة في ضواحي العاصمة تونس. الصَّبا: ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. تذيع: تظهر. (¬4) السامر: مجلس السمار. المراتع: واحدها المرتع، وهو مكان اللهو. القاع: أرض سهلة مطمئنة انفرجت عنها الجبال والآكام. ظبيات: واحدها الظبية، وهي أنثى الغزال.

ورَوْضَةَ عِلْمٍ كُنْتُ أَجْني ثِمارَها ... وأَرْشِفُ مِنْها أَعْذَبَ اللَّهَجاتِ (¬1) فَيا مُذكِري عَهْداً طَوَتْهُ يَدُ النَّوَى ... وأَذْكَتْ له في مُهْجَتي حَسَراتِ أُحَيِّيكَ مِنْ مِصْرٍ تَحِيَّةَ والِدٍ ... تبرُّ بِهِ الآصالَ والْغُدواتِ (¬2) بَعَثْتَ بِشِعْرٍ طارِفٍ لَمَعَتْ بِهِ ... مِنَ الأدَبِ الموْروثِ خَيْرُ سِماتِ (¬3) أراكَ ظَلَمْتَ الْغِيدَ إذْ صُغْتَ لُؤْلُؤاً ... ونَضَّدْتَهُ شِعْراً على صَفَحاتِ (¬4) وأَهديْتَ طاقاتِ الثَّناءِ وَلَيْتَني ... مَلأتُ يَدي مِنْ تِلْكُمُ الحَسَنَاتِ فَيا أَسَفاً لَمْ أقْضِ حَقَّ الْعُلا وما ... بَلَغْتُ مِنَ الْعِرْفانِ شَأْوَ لِداتي (¬5) وآنستُ في روح الخطاب سَنا الهُدى ... وبَعْضَ بَني الأَمْجادِ غيرُ هُداةِ (¬6) وما أَبْصَرَتْ عَيْنايَ أَجْمَلَ مِنْ فَتىً ... يَخافُ مَقامَ اللهِ في الخَلواتِ ولا خَيْرَ إلا في نُفوسٍ تَرَشَّفَتْ ... لِبانَ التُّقى مِنْ حِكْمةٍ وعِظاتِ (¬7) ¬

_ (¬1) الروضة: عشب وماء، ويريد بها الشاعر: جامع الزيتونة الذي تلقى فيه العلم. (¬2) تبرّ: تصدِّق. الآصال: واحدها الأصيل: الوقت بعد العصر إلى المغرب. الغدوات: واحدها الغدو: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. (¬3) الطارف: المال الحديث المستحدث. (¬4) الغيد: جمع غيداء، وهي المرأة الناعمة اللينة الأعطاف. (¬5) شأو: الأمد والغاية. اللدات: جمع لِدَة، وهو الذي ولد معك، وتربى معك. (¬6) هداة: جمع هادٍ. (¬7) ترشفت الماء: بالغت في مصه. اللبان: الرضاع. * من قصيدة الأديب محمد المأمون النيفر: أزف تحايا الود والبركات ... وأهدي سلاماً عاطر النفحات =

فَأَحْمَدُ مِنْكَ الوِدَّ والْقَلَمَ الذي ... جَنى ليَ طاقاتٍ مِنَ الدَّعواتِ ولا زِلْتَ مِثْلَ الغُصْنِ يَنْمو بِمَنْبِبٍ ... كَريمٍ فَيُؤْتي أَطْيَبَ الثَّمَراتِ محمّد الخضر حسين ¬

_ = وأرسل طاقات الثناء جميلة ... منضدة الأوراد والزهرات إلى عالم أخباره ذاع صيتها ... وآثاره أضحت حديث رواة بصير بأدواء النفوس طبيبها ... إذا ما رماه حادث بشكاة وهذه أجزاء "الهداية" بيننا ... تدل على الإبداع في النظرات مثابة تحقيق، ومهبط حكمة ... وعنوان تدقيق ونبع عظات وروضة حسن قد تفتق زهرها ... وفاح فأحيا لي ربيع حياتي جزاك إله العرش أفضل ما جزى ... به ناصحاً عن نافع الخدمات ولا برح اللطف الخفى يحفكم ... وأنتم لدين الله خير حماة

رسالة شعرية إلى محمد المكي بن عزوز

رسالة شعرية إلى محمد المكي بن عزّوز (¬1) " العلامة محمد المكي بن عزوز خال الإمام وأستاذه، وعليه تلقى بواكر العلوم. وقد قرظ كتاب أستاذه " السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني" بقصيدة لم تنشر في ديوان "خواطر الحياة". وقد كتبها في تونس سنة 1310 هـ وهي من أوائل قصائده". ¬

_ (¬1) محمد المكي بن مصطفى بن محمد بن عزوز البرجي، محدث، مقرئ، صوفي، خال الإمام محمّد الخضر حسين، وأستاذه، ولد بمدينة "نفطة"، وتوفي بإستنبول (1270 - 1334 هـ = 1854 - 1916 م). حصل على شهادة "التطويع" من جامع الزيتونة، وتولى الإفتاء في مدينة "نفطة"، ثم القضاء، وقام بالتدريس في جامع الزيتونة، كان مغرماً باقتناء نفائس الكتب. وانتقل إلى إستنبول، وتولى تدريس الحديث بدار الفنون، وكذلك في مدرسة الواعظين، مؤلفاته تزيد على المئة. وقد طبعت منها ما عثرت عليه في كتاب "رسائل ابن عزوز". من مؤلفاته: كتاب "السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني" رد فيها على رسالة "الحق الظاهر في شرح حال الشيخ عبد القادر" لمؤلفها علي بن محمد القرماني الذي أنكر فيها نسب الشيخ عبد القادر الجيلاني. وقد أرخ الإمام محمد الخضر حسين هذا الكتاب بقصيدة لم ينشرها في ديوانه "خواطر الحياة".

صلي واسألي آل المجادة عن ذكرى ... أذو شرفٍ مثلي لديهم بذا القُطْرِ (¬1) أصيلٌ كريمُ النفسِ ذو همةٍ سَمَتْ ... وذو وَلَع بالمَكْرُماتِ وبالفَخْرِ عبوسٌ على أَهلِ الضَّلالِ غَضَنْفَرٌ ... وإني مع القومِ الهداة لَذُو بِرِّ (¬2) ومِنّي نجادُ السيفِ للعزِّ مقبلٌ ... ولستُ على كأسِ المذلَّةِ ذا صبرِ فكيف وآبائي لأشرفُ سادةٍ ... سراةٌ أولو المجدِ المؤثَّلِ والذِّكْرِ كرامُ المعالي منبعُ الفضلِ مَنْ سَمَوْا ... بمجدٍ لهم كالشمسِ بين الورى يسري وأسحبُ أذيالَ الفخارِ بتونسٍ ... أيا حبذا مأوى عيونِ الظِّبا السُّمْرِ فكم بِتُّ من ليلٍ أُقبِّلُ مبسماً ... وأرشِفُ من تحت النقاب لَمَى الثَّغْرِ أَذُبُّ عن المظلومِ بالمال ناصراً ... وإِلَّا بسيفٍ في رقاب العدا يَفْري (¬3) أَجولُ به بينَ الأُسودِ ولم أَخَفْ ... أَذىً بل به يسمو لدى وفدِهم ذِكري ولكنَّ سَيْفَ العِلْمِ أعطبُ فاتكٍ ... وأعظمُ رُزْءٍ للمُعَنِّتٍ ذو أَزْرِ وأَشْرَفُ ما يسمو به المرءُ رتبةً ... يعزُّ بها فالجهلُ عارٌ على الحرِّ فإنْ رُمْتُمُ نيلَ المعارفِ دُونَكُمْ ... ومنبعها السامي فما البحرُ كالنهرِ ألا إن يَنبوعَ العلومِ وسعدَها ... محمدُ المكيُّ الرِّضا غُرَّةُ العصرِ كريمُ الورى كنزُ المعارفِ من غدتْ ... مفاخرُهُ تنمو عن العدِّ والحَصْرِ ¬

_ (¬1) المجادة: الشرف والكرم. (¬2) الغضنفر: الأسد. (¬3) أذبُّ: أدفع عنه.

ولو عادتِ الأشجارُ والبحرُ والملا ... مِداداً وأقلاماً لما جيء بالعُشرِ فمن جاء يحكيه يُقال له لقد ... حَكَوْتَ وما تدري بما قيل في الشعرِ فما كلُّ من قادَ الجوادَ يسوسها ... وما كل من يجري يقال له يجري فمالك يا هذا بأي فضائلٍ ... تقيس، وهل قيس المُمَوَّهُ بالتبِر ألا فهو سَحْبانُ البلاغةِ مَطْلَعُ ... السيادة يَنبوعُ المجادَةِ والبِرِّ (¬1) فكم من عويصاتٍ أَمَطْتَ حِجابَها ... وكم مُلِئَتْ منكَ الحقائبُ بِالدُّرِّ (¬2) وكم أثمرتْ منك الغروسُ وزُخرفِتْ ... بأفخرِ آدابٍ ويالكَ مِنْ فَخْرِ تآليفُه منها الأباطحُ أشرقَتْ ... كما يُشرق الليل البهيمُ من البدرِ فانعمْ بما أبداه ردّاً على ذوي ... اعتراضٍ على الآلِ المحلين بالسِّرِّ بمطلعهِ لاحَ الكمالُ بتونُسٍ ... فأصبحَ سعدُ الدّين مُبْتَسِمَ الثَّغْرِ وناظِرُه أَمْسى كناظرِ روضةٍ ... ببهجتها زاهٍ ومنشرحِ الصدرِ هو العِقْدُ في جِيدِ المهاة أو السَّما ... كواكبُه تبدو لدى مَطلع الفَجْر هو السعدُ إرشاداً هو الروض مرتعاً ... هو العَضْبُ للأعدا تَأَزَّر بالنصرِ (¬3) أيا حبّذا التأْليفُ عِقداً مرصَّعاً ... تهلَّلَ من حَلْيِ الجواهرِ والدُّرِّ ¬

_ (¬1) سَحْبان وائل: سحبان بن زفر بن إياس الوائلي، يضرب به المثل بالفصاحة والخطابة والبيان. توفي (54 هـ - 674 م). أسلم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) عويصات: جمع عويصة: الأمر الصعب. (¬3) العضب: السيف القاطع.

أيا حبذا سيفاً يزين نجادَه ... طرازٌ لعمري ما بدا سالف الدهرِ (¬1) أيا حبذا روضاً غدا اليوم مثمراً ... عرائسَ أفكارٍ تَبَدَّتْ من الخِدْرِ ألا فارتَشِفْ كأسَ المدامَةِ واقتطِفْ ... مِنَ أزهارِه زهرَ الرُّبى طَيِّبَ النَّشْرِ هو الرشد لا تجنحْ لقولِ مُعَنِّتٍ ... عليه انثنى خُبْثُ الَّلآمَةِ بالشَّرِ فتعساً له هلاً وقى دينه بُكىً ... عليه كَمبْكى أُخْتِ صَخْرٍ على صَخْرِ يحاول أن يطفي سَنا الشمسِ بينما ... نحاه لقد خابت مقاصدُ ذا الغمرِ أَيَطْفَاُ نورُ اللهِ ما لَكَ آفِكاً ... تَهيمُ بآفاقِ الظلامِ ولا تدري ألا ليت شعري هل دريتَ عذابَـ ... ـكَ الأليمَ ومأواكَ الجحيم ألا فادْرِ فلم لا وقد ضلَّتْ يداك وسَطَّرَتْ ... سواداً به مَسَّتْ حمى مفرد القدر إمامِ الهدى الجِيلِيِّ من شاعَ صيتُه ... وسارتْ به الركبانُ في البَرِّ والبحر ولكنْ ضِيا سيفِ الكمالِ محا لما ... له رَقَّمَتْ أَيدي الجَهالةِ والوِزْرِ ولاح جمال الطبع بالنفع شاملاً ... جميعَ الورى لا سيما شارد الفكرِ ولولا انتشار الطبع بين أُولي النهى ... لما بان كنهُ العلم من شاسع المِصْرِ فقلت وفي طبع الكتاب مؤرخاً ... بذا البيت تاريخ بكلٍّ من الشطر بدا سيفُ نصرٍ في يدِ الطوْدِ دوحة الـ ... ـكمال الهدى محيي العلوم أَبي الفخر محمّد الخضر حسين سنة 1310 ¬

_ (¬1) النجاد: حمائل السيف.

22 - الرحلات

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (22) «الرِّحْلات» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة قام فضيلة الإمام الأكبر المرحوم محمد الخضر حسين - رضوان الله عليه - برحلات علمية باعتبارها وسيلة لترقية العلوم والآداب، وتهذيب النفوس، وإصلاح حال الاجتماع. فقد نفر الإمام الأكبر إلى بلاد طلباً للعلم والتفقه في الدين، وسار في الأرض للاطلاع والاعتبار بأحوال الأمم الماضية والحاضرة. وخرج من تونس إلى الشرق مهاجراً في سبيل الله ورسوله بعد أن سلط عليه الاحتلال الفرنسي سيف الإرهاب، وأصدر عليه حكماً بالموت، كما هاجر من دمشق إلى القاهرة لنفس السبب، وقضى حياته في مصر داعياً إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ومدافعاً عن الإسلام بكل ما أوتي من قوة وجرأة وإقدام، حتى وافاه الأجل فيها، ووقع أجره على الله. قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. وقال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100].

قام المؤلف - رحمه الله - بالعديد من الرحلات العلمية إلى الشرق والغرب. فقد زار طرابلس بليبيا عام 1317 هـ - 1889 م، وفي عام 1321 هـ - 1903 م قام برحلته العلمية الأولى إلى الجزائر، وعاد لزيارتها عام 1322 هـ - 1904 م. كما بدأت رحلته الأولى إلى الشرق عام 1330 هـ -1912 م في الشهر السابع حتى الشهر الحادي عشر، زار خلالها مالطة، والإسكندرية، والقاهرة، وبورسعيد، ويافا، وحيفا، ودمشق، وبيروت، وإستنبول، ثم عاد إلى تونس، ولم يمض شهر حتى عزم على الهجرة إلى دمشق فراراً بدينه. فارتحل إليها متنقلاً من مصر إلى الشام والحجاز، ثم ألبانيا وبعض بلاد البلقان والآستانة وألمانيا. وفي عام 1920 م ارتحل إلى القاهرة، واستقر فيها حتى آخر حياته، وقام خلالها برحلات إلى سورية ولبنان والحجاز. وكم كان متشوقاً للعودة إلى الوطن الأم تونس، بعد أن نالت استقلالها. وقد طلب إليه الرئيس الحبيب بورقيية العودة، وكانت يين الرجلين مودة وصلة وثيقة منذ أيام الجهاد والكفاح في مصر. وما إن قبلها الشيخ الخضر، وتهيأ لها، حتى أدركته المنية بعيداً عن الوطن. لقد دوّن - رحمه الله، وأجزل إليه الثواب - مشاهداته عن بعض الرحلات التي قام بها إلى البلدان الأخرى، ونحن إذ نقدم للقارئ المسلم هذه الرحلات، فإن الدافع لذلك هو ما تضمنته من محادثات وتحارير علمية غايتها الدعوة إلى الحق والإصلاح في كل زمان ومكان. ولم نتمكن من العثور -رغم ما بذلناه من جهد- على مذكراته كاملة عن ألمانيا، والتي نشرت في "صحيفة البلاغ" في بيروت عام 1918 م، وجريدة

"المقتبس" بدمشق والأمل أن نجدها كاملة في المستقبل إن شاء الله تعالى. وقد اكتفينا بنشر ما اختصرته مجلة "المقتبس" من المشاهدات في الجزأين السابع والثامن من المجلد التاسع 1332 هـ - 1913 م نقلاً عن جريدة "المقتبس" والتي لم نعثر عليها رغم الجهد المبذول. هذه صفحات من رحلات مشرقة مليئة بالإيمان والجهاد والبذل والتضحية، وهي لمحات عن حياة عالم مجاهد أمضى عمره داعياً إلى الإسلام، مدافعاً عن الإسلام، والله نسأل السداد والتوفيق. علي الرّضا الحسيني

أثر الرحلة في الحياة العلمية والأدبية

أثر الرّحلة في الحياة العلمية والأدبية (¬1) يكثر الراحلون من بلاد إلى أخرى، والغرض من هذه المحاضرة: البحث عن رحلات أهل العلم والأدب، وما تأتي به من ثمار طيبة؛ لنعرف كيف تكون الرحلة من وسائل ترقية العلوم والآداب، وتهذيب النفوس، وإصلاح حال الاجتماع. ولعل قائلاً يقول: إن فائدة الرحلة قد عرفها الناس على اختلاف أصنافهم، وتفاوت طبقاتهم، وأصبحت من المعلومات الموضوعة على ظاهر اليد، فالحديث عنها صرف للوقت في غير جدوى. وأقول في الجواب: إني في شك من هذا؛ لأني أرى كثيراً ممن وهبهم الله القدرة على الرحلة، وهيأ لهم وسائلها، لا يُقبلون عليها، وينصرفون عنها انصرافهم عن الأشياء التي يرونها خالية من كل فائدة ولذة. على أني أريد التنبيه لما في الرحلة من فوائد؛ ولأضعها أمام نشئنا، حتى إذا خطر لهم ما في الرحلة من حرج وعناء، نظروا إلى هذه الفوائد، فيخف وزن تلك المتاعب، وتذهب أمام أنظارهم غير محتفل بها. ¬

_ (¬1) محاضرة الإمام بالمجمع العلمي العربي بدمشق في جمادى الآخرة عام 1356 هـ. ونشرت في مجلة "المجمع" - الجزء السابع والثامن من المجلد الخامس عشر. كما نشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد العاشر.

الرحلة في نظر الإسلام

* الرحلة في نظر الإسلام: لم يدَع الإسلام وسيلة من وسائل الرقي إلا نبه علمِها، وندب إلى العمل بها، وهذا شأنه في الرحلة، فقد دعا إليها رامياً إلى أغراض سامية، منها: طلب العلم، قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. ويلحق بالتفقه في الدين: كل علم يعد في وسائل الرسوخ في علوم الدين؛ كالنحو، والبلاغة، بل يلحق بالتفقه في الدين كل علم يتوقف عليه استقلال الأمة وسلامتها من أيدي أعدائها؛ كفنّ صنع الغواصات والطيارات وما شاكلها من وسائل القوة المشار إليها بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. ومن هذه الأغراض: الاعتبار بأحوال الأمم الماضية، قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11]. ويلحق بأحوال الأمم الماضية: أحوال الأمم الحاضرة، متى كان في النظر إليها عبرة ينتفع بها في وجه من وجوه الإصلاح. ومن هذه الأغراض السامية: التخلص من دار البغي والضلال إلى الإقامة في دار عدل وهداية، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100]. هذه الآية وأمثالها واردة في قوم كانوا يقيمون في دار غواية وعسف، وكان في هجرتهم إلى المدينة بعد عن مشاهدة المنكرات، وشد لأزر المسلمين، وتكثير لسوادهم، فإذا تشابهت البلاد في الاستخفاف بأمر الدين، فعلى كل عالم أن يجاهد في الدعوة إلى الحق والإصلاح أينما كان.

المثبطات عن الرحلة

* المثبطات عن الرحلة: لا أريد من المثبطات عن الرحلة: العوائق التي ليس في استطاعة الشخص علاجها؛ كفراغ يده من نفقات السفر، وكقيامه على أسرة إذا فارقها، وقعت في حاجة ونكد من العيش، بل أريد من المثبطات: ما يعرض للنفوس الضعيفة، ويغلب على أمرها، ولولا ضعفها، لما كان له عليها من سبيل. ومن هذه المثبطات: استعظام الرجل مفارقة من يعزّ عليه من قريب أو صديق. ألقي على إمام الحرمين وهو على المنبر سؤال، وهو: لماذا كان السفر قطعة من العذاب؟ فقال: لأن فيه فراق الأحبة. وفي الناس من يذكر ما في الرحلة من متاعب بدنية، فيحجم عنها، وأكثر من يعرض لهم هذا المثبط أولئك الذين ينشؤون في ترف وانحلال عزيمة، فيخشون أن يفوتهم ما اعتادوا من راحة ورفاهية، ولو أياماً قليلة. وقد يحجم الرجل عن الرحلة مخافة أن ترمي به بين أقوام لا يعرفون أدبه أو حسبه، فيجد من مرافقتهم أو معاشرتهم كدراً، وإلى مثل هذه الآلام النفسية أشار ابن جبير بقوله: لا تغترب عن وطنٍ ... واحذرْ تصاريفَ النوى أما ترى الغصنَ إذا ... ما فارق الأصل ذوى وقال الرحالة ابن سعيد الأندلسي متألماً من بعض ما لاقاه في بلاد الشرق: وأنادَى مغربياً ليتني ... لم أكن للغرب يوماً أُنسبُ

علاج هذه المثبطات

نسبٌ يشرك فيه خامل ... ونبيه أين منه المهربُ؟ أتراني ليس لي جدٌّ له ... شهرة أو ليس يُدرى لي أبُ * علاج هذه المثبطات: يعالج الرجل هذه المثبطات الناشئة عن ضعف النفس وقلة تمرينها على احتمال المكاره؛ بأن يذكر ما تأتي به الرحلة من الفوائد العلمية أو الأدبية، خاصة أو عامة، فإذا وثقت نفسه بغايتها النبيلة، وعواقبها الحميدة، سهل عليها كل صعب، واستهانت بكل خطر. قال عبد الملك بن سعيد في وصية ابنه علي عندما أراد الرحلة إلى بلاد الشرق: وكلّ ما كابدته في النوى ... إياك أن يكسر من همتك وليذكر أن هذه المؤلمات تذهب، وأن ثمرة الرحلة لذيذة باقية. قال القاضي محمد بن عيسى أحد الراحلين من الأندلس إلى الشرق بعد أوبته: كأن لم يكن بَيْنٌ ولم تك فرقةٌ ... إذا كان من بعد الفراق تلاقي كأنْ لم تؤرق بالعراقين مقلتي ... ولم تمْرِ كفُّ الشوق ماء مآقي ولم أزر الأعراب في جنب أرضهم ... بذات اللوى من رامة وبراق ولم أصطبح بالبيد من قهوة الندى ... وكأس سقاها في الأزاهر ساق ونرى في كتب الأدب شعراً كثيراً يقصد ناظمه الرد على من يحاول تثبيطه عن الرحلة، كما قال أبو تمام: أآلفةَ النجيب كم افتراق ... أظلّ فكان داعية اجتماع

فوائد الرحلة

وقال آخر: تقول سليمى لو أقمت بأرضنا ... ولم تدر أني للمقام أطوفُ وقال ابن دراج: ألم تعلمي أن الثواء هو النوى ... وأن بيوت العاجزين قبور ويروى: أن المأمون أراد الخروج في بعض الحروب، فوقفت له جارية ممن شغف بهن، ورغبت إليه أن لا يخرج، فقال: لولا قول جرير: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهارِ لما خرجت. * فوائد الرحلة: إذا درسنا تاريخ العلماء والأدباء الذين رحلوا عن أوطانهم، ووجهنا النظر إلى ما نتج عن رحلاتهم من فوائد تعود عليهم أنفسهم، أو على قومهم، أو على الأوطان التي نزلوا بها، وقفنا على فوائد كثيرة يقدرها الباحثون عن وسائل رقي الأفراد والجماعات. * أثر الرحلة في حياة الراحل: من أنفس ما يكسبه الرجل في رحلته: أن يعلم أشياء لم يكن يعلمها من قبل، فكم من عالم لم يبلغ المقام الذي يشار إليه بالبنان إلا بالرحلة! ولابن خلدون في "المقدمة" مقالة افتتحها بقوله: "إن الرحلة في طلب العلم ولقاء الأساتذة مزيد كمال من التعلم"، وختمها بقوله: "فالرحلة لابد منها في العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ والتلقي عن الرجال". وفي الرحلة عون على التمكن من بعض الأخلاق السامية، مثل: خلق

الصبر؛ لكثرة ما يلاقيه الراحل من متاعب بدنية، وآلام نفسية، ومثل: أدب المداراة؛ فإن البعيد عن وطنه أشد شعوراً بالحاجة إلى هذا الأدب ممن يعيش بين قوم يعرفون من حسبه ومكانة بيته ما يجعل صراحته خفيفة على أسماعهم. ولا يخلو الراحل من أن يلاقي في رحلته رجالاً صاروا مثلاً عالية في مكارم الأخلاق، فيزداد بالاقتداء بهم كمالاً على كمال. بقي يحيى بن يحيى بن بكير النيسابوري عند مالك بعد أن أتم الرواية عنه، وقال: أقمت لأستفيد من شمائله. وقد يرى الرجل في وطنه سلطاناً طاغياً، وحكماً جائراً، فيتخلص بالرحلة إلى بلد يكون مجال الحرية فيه أوسع. كان أَبو جعفر أحمد بن صابر القيسي كاتباً للأمير أبي سعيد فرج بن الأحمر ملك الأندلس، فكان يرفع يديه في الصلاة على ما صح في الحديث، فبلغ ذلك السلطان، فتوعده بقطع يده، فقال: إقليم تمات فيه سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى يتوعد بقطع اليد عليها، لجدير أن يرحل منه، فخرج، وقدم مصر. وقد ينشأ الفتى في نبوغ، ويضيق بلده عن أنظاره الواسعة، فيرحل إلى مدينة تكون أوسع مجالاً للآراء الخطيرة، فتعظم مكانته، ويكثر الانتفاع بحكمته، ولولا الرحلة، لما عظم شأنه، ولما كثرت ثمرات نبوغه. أذكر أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام مر عند خروجه من الشام بالكرك، فتلقاه صاحبها، وسأله الإقامة عنده، فقال له الشيخ: بلدك صغير عن علمي. وتوجه إلى القاهرة. وأسوق شاهداً على هذا: أن القاضي يوسف بن أحمد بن كج الدينوري

قد بلغ في العلم مرتبة كبيرة، وقال له بعض من لقيه: يا أستاذ! الاسم لأبي حامد الغزالي، والعلم لك، فقال القاضي: ذاك رفعته بغداد، وأنا حطتني الدينور. وقد تكون رحلة العالم أو الأديب من أسباب ظهور علمه أو أدبه، وانتشاره في الآفاق. قال الأديب أَبو بكر المعروف بابن بقي: ولي همم ستقذف بي بلاداً ... نأت إما العراق أو الشآما لكيما تحمل الركبان شعري ... بوادي الطلح أو وادي الخزامى وكيما تعلم الفصحاء أني ... خطيب علّم السجع الحماما وقد أطلعتهن بكل أرض ... بدوراً لايفارقن التماما وربما أدرك الرجل في وطنه ضيق عيش يخشى أن يعوقه عن الازدياد من العلم، أو التفرغ لنشره بالتدريس والمذاكرة، فيرحل حيث يلقى كفافاً أو يساراً يساعده على أن يقبل على الدرس والبحث بنفس مطمئنة. رحل القاضي عبد الوهاب بن نصر من بغداد إلى مصر، ونبه على سبب رحلته فقال: سلامٌ على بغداد في كل موطنٍ ... وحوّلها مني السلام المضاعف فو الله ما فارقتها على قلى لها ... وإني بشطي جانبيها لعارف ولكنها ضاقت عليّ بأسرها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف وكذلك قال أَبو سعد النبرماني: فقد سرت في شرق البلاد وغربها ... وطوّفت خيلي بينها ورِكابِيا

ماذا يستفيد قوم الرجل من رحلته؟

فلم أر فيها مثل بغداد منزلاً ... ولم أر فيها مثل دجلة واديا ولا مثل أهليها أرقّ شمائلاً ... وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا وكم قائل لو كان حبك صادقاً ... لبغداد لم ترحل فكان جوابيا يقيم الرجال الموسرون بأرضهم ... وترمي النوى بالمقترين المراميا ومما يظفر به الرجل الفاضل في رحلته: أن يتخذ في البلاد التي ينزل بها أصدقاء يغتبط بصداقتهم، والصداقة الخالصة من ألذّ ما يمتع به الإنسان في هذه الحياة، وكتب الأدب مملوءة بالرسائل والقصائد التي دارت بين علماء وأدباء اختلفت مواطنهم، وهي عامرة بروابط ناشئة بوسيلة الرحلة. وهذا ابن خلدون ارتبط بصداقات كثيرة من علماء البلاد؛ كلسان الدين ابن الخطيب، وابن زمرك، وجرت بينه وبينهم مراسلات، وأذكر من قصيدة بعث إليه بها ابن زمرك بعد نزوله مصر قوله: بعيشك خبرني ولا زلت مفضلاً ... أعندك من شوق كمثل الذي عندي ومثل الحافظ ابن عساكر رحل إلى بلاد العجم بعد بلاد العرب، وأذكر من قصيدة بعث بها إلى صديقه أبي سعد السمعاني قوله: أنسيت ثدي مودة ... بيني وبينك وارتضاعه * ماذا يستفيد قوم الرجل من رحلته؟ قد تحظى البلاد بالعلم بعد انقطاعه عنها، أو تقوم سوقها فيها بعد خمولها، والفضل في ذلك لرجال يرحلون إلى الحواضر التي هي منبع العلوم، ثم يعودون وقد امتلؤوا مما اغترفوه من العلوم والفنون. وقد بلغت الحالة العلمية بالأندلس بعد عودة أبي الوليد الباجي من

ماذا تستفيد البلد ممن يرحلون إليهم من ثمرات أفكارهم؟

رحلته المشرقية منزلة أرفع وأرسخ مما كانت عليه قبل أن يعود. وارتحل أبو القاسم بن زيتون التونسي في أوساط المئة السابعة إلى المشرق، فبرع في العقليات والنقليات، ورجع إلى تونس، فأتبعها بعلمه الكثير، وأسلوب تعليمه البديع. ويرحل العالم أو الاديب من وطنه وهو يحمل علماً غزيراً، أو يتحلى بأدب سني، وينزل بين جماعات من بلاد مختلفة، فيرونه مثالاً لأهل العلم والأدب من قومه، فيرتفع شأن قومه في أنظارهم، هذا إلى ما يصفه لهم من محاسن قومه، أو ينقله إليهم من ثمرات أفكارهم. * ماذا تستفيد البلد ممن يرحلون إليهم من ثمرات أفكارهم؟ يرحل العالم أو الأديب، وينزل ببلد، فيبذر بها متى كانت في حاجة إلى أمثاله: علماً، أو أدباً، ومن ذا ينكر أن بلاد الأندلس قد استفادت من العلماء الذين رحلوا إليها من الشرق، مثل: تاج الدين بن حمويه السرخسي، وأبي علي القالي، كما استفادت دمشق من أمثال ابن مالك، وابن السبكي، واستفادت مصر من أمثال أبي حيّان، وابن خلدون؟. وهذا المعري يحمد السفر الذي جاء بالقاضي عبد الوهاب بن نصر من بغداد إلى المعرة، فقال: والمالكي ابن نصر زار في سفرٍ ... بلادنا فحمدنا النأي والسفرا إذا تحدث أحيا مالكاً جدلاً ... وينشر الملك الضليل إن شعرا وتفقه البربر في علوم الدين عن عشرة من فقهاء التابعين بعثهم عمر ابن عبد العزيز لهذا الغرض خاصة. ونرى في تراجم كثير من العلماء الراحلين: أنهم كانوا يُلقون في البلاد

أثر الرحلة في تنمية العلوم

التي ينزلون بها دروساً، أو يُدرسون بها علوماً يتلقاها عنهم بعض أهل العلم. فرحلات العلماء والأدباء تنقل العلم والأدب من بلد إلى آخر على وجه أثبت وأنفع مما تنقله المؤلفات وحدها. * أثر الرحلة في تنمية العلوم: للرحلة فضل في نماء العلوم واتساع دائرتها، وكم من كتاب يعدّ في علمه من أمهات الكتب هو وليد الرحلة! ذلك أن أسد بن الفرات الراحل من القيروان إلى الشرق ورد مصر بعد أن تلقى العلم في الحجاز والعراق، وألقى على ابن القاسم أسئلة يطلب الجواب عنها على مقتضى مذهب الإمام مالك، وجمع تلك الأسئلة وأجوبتها في كتاب يسمّى: "الأسدية"، ثم رحل سحنون من القيروان بالأسدية إلى ابن القاسم، وعرضها عليه، وهذّبها، وأضاف إليها مسائل أخرى، وصارت تسمى: "المدونة"، وهي المشار إليها بقول بعض أهل العلم: أصبحت فيمن له علم بلا أدبٍ ... ومن له أدب عار عن الدين أصبحت فيهم فقيد الشكل منفرداً ... كبيت حسان في ديوان سحنونِ وبيت حسان الذي لم يرد في "المدونة" غيره من الشعر هو قوله: وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير ومن فضل الرحلة: أنها حفظت جانباً عظيماً من التاريخ، حفظته الكتب التي يودعها مؤلفوها ما شاهدوه في أسفارهم من وقائع وأحوال، مثل: رحلة ابن بطوطة، ورحلة العبدري، ورحلة ابن جبير، ورحلة خالد بن عيسى البلوي، وغيرها؛ فإنا نرى في هذه الرحلات أشياء لا نجدها فيما بين أيدينا من كتب التاريخ.

أثر الرحلة في ثراء الأدب

* أثر الرحلة في ثراء الأدب: للرحلة أثر في ثراء الأدب لا يقل عن أثرها في ثراء العلم، فكم من قصيدة لا ينظمها الشاعر إلا حين يعزم على الرحلة لإلقائها بين يدي ملك أو وزير أو وجيه، مثل قصيدة: أدرك بخيلك خيل الله أندلُسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا فإن صاحبها أبا عبد الله بن الأبار الراحل من الأندلس قد نظمها استنجاداً لأمير تونس، وألقاها بين يديه. ومما يرجع الفضل فيه للرحلة: ذلك الشعر الوارد في التشويق إلى الوطن، أو الأهل، أو الإخوان، ومن هذا الباب: قول محمد بن يوسف الدمشقي يتشوق إلى دمشق وهو ببلاد الروم: بعادٌ يزيد الجوى والحنينا ... وبَيْنٌ يعلّم قلبي الأنينا فراقٌ أذاب الحشا أدمعاً ... فأجرى بصافي الدماء العيونا إلى أن قال: وجاد الحيا أربعاً بالشآم ... وسلّم صحباً بها قاطنينا رحلنا فما تابعتنا القلوب ... وسرنا فظلت لديكم رهونا وأذكر بهذه المناسبة: أن أستاذنا المرحوم الشيخ سالم أبا حاجب كان قد سافر إلى إيطاليا، وبعث رسمه إلى بعض أصدقائه في تونس، وكتب عليه البيتين: لما شكت شحط النوى روحي التي ... أبقيتها عند الأحبة بالوطنْ

أثر الرحلة في تعارف الشعوب

أرسلت تمثالي لها بوّاً (¬1) عسى ... تسلو فلا تبغي التحاقاً بالبدن * أثر الرحلة في تعارف الشعوب: لا ينزل الرجل الفاضل بوطن إلا التقى بطائفة من فضلائه، والشأن أن يصف لهم بعض النواحي من حياة قومه العلمية والاجتماعية، ثم إذا عاد إلى قومه، وصف لهم حال الأوطان التي نزل بها، فيكون كل من الشعوب التي رحل منها، أو نزل بها، على خبرة من حال الشعوب الأخرى. وقد نبهنا على أن الرجل الطيب السريرة يتخذ في كل وطن أصدقاء، وهذه الصداقات تعد فيما يربط بين الشعوب الرابطة الوثيقة، وتعارف الشعوب بوسيلة العلماء والأدباء يثير في نفوسهم عواطف الائتلاف والاحترام. وإذا كان من أفضل آثار الرحلة: عقد رابطة التعارف والتعاطف بين الشعوب، فعلى المستطيعين منا أن يخصوا البلاد الشرقية بجانب عظيم من رحلاتهم، ولو وجدوا في سبيل ذلك مشاق فوق ما يلاقونه في سبيل الرحلة إلى البلاد الأجنبية. * أدب الرحلة: الآداب السنية هي كمال الإنسانية، فيجب على الإنسان الاحتفاظ بها في وطنه كما يحتفظ بها في غير وطنه، ورأينا بعض الحكماء يوجهون إلى الغريب، أو من رام الغربة عنايةً خاصة، فيؤكدون عليه في الاحتفاظ بالآداب الشريفة، كما قالوا: يا غريباً! كن أديباً. ¬

_ (¬1) البو: جلد الحوار (ولد الناقة) يحشى ثماماً أو تبناً، فيقرب من أم الفصيل، فتعطف عليه، فتدر.

ومن هذا القبيل وصية عبد الملك بن سعيد الأندلسي لابنه علي بن سعيد عند عزمه على الرحلة إلى بلاد الشرق، تلك الوصية التي يقول فيها: أودعك الرحمن في غربتك ... مرتقباً رحماه في أوبتك فلا تطل حبل النوى إنني ... والله أشتاق إلى طلعتك وقال: فليس يدرَى أصل ذي غربة ... وإنما تعرف من شيمتك ونبه لآداب سامية فقال: وامش الهوينى مظهراً عفة ... وابغ رضا الأعين عن هيئتك وكل ما يفضي لعذر فلا ... تجعله في الغربة من إربتك ولا تجادل حاسداً أبداً ... فإنه أدعى إلى هيبتك وقال: وانطلق بحيث العيّ مستقبح ... واصمت بحيث الخير في سَكْتتك ومن أدب الراحل: أن ينصف البلد التي ينزل بها، فيذكر محاسنها؛ ويغتبط بما يلاقيه به أهلها من احتفاء ومؤانسة. ورد تاج الدين بن حمويه السرخسي بلاد المغرب، فسأله سلطان المغرب يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن قائلا: أين هذه البلاد من بلادك الشامية؟ فقال السرخسي: بلادكم حسنة أنيقة، وفيها عيب واحد، فقال السلطان: ما هو؟ قال: أنها تنسي الأوطان. وممن قاموا على هذا الأدب الجميل العلامة المقري صاحب كتاب "نفح الطيب"؛ فقد نظم في الثناء على دمشق أشعاراً، وتمثل فيها بأشعار،

ومما أنشده: قول شمس الدين الأسدي: إذا ذكرت بقاع الأرض يوماً ... فقل سقياً لجلّق ثم رعيا وقل في وصفها لا في سواها ... بها ما شئت من دين ودنيا وأختم هذه المحاضرة بأبيات خطرت لي معانيها عندما نزلت دمشق، وإني لست بشاعر، ولكني درست علم العروض، فأستطيع أن أقول كلاماً موزوناً، وإلى حضراتكم هذه الأبيات: زارها بعد نوى طال مداها ... فشفى قلباً مجدّاً في هواها راح نشوان ولا راح سوى ... أن رأى الشام وحياه شذاها نظرة في ساحها تذكره ... كيف كان العيش يحلو في رُباها ما شكا فيها اغتراباً وإذا ... حدثته النفس بالشكوى نهانا من يحث العِيس في البيد إلى ... بردى يحمد للعيس سُراها فهنا قامت نوادي فتية ... تبلغ النفس بلقياهم مناها أدب يزهو كزهر بهج ... أرشفته السحب من خمر نداها خلق لو نصح الخوْدَ به ... ناصح لاتخذت منه حِلاها ملؤوا جلّق أُنساً فأرى ... ليلها طلق المحيا كضحاها شدّ ما لاقوا خطوباً فانتضوا ... مرهفات العزم طعناً في لهاها عزة الأمة في نشء إذا ... نشبت في خطر كانوا فداها وجناحا فوزِها استمساكُها ... بهدى الله وإرهاف قناها هي عين والهدى إنسانها ... فإذا ما فسقت لاقت عماها ...

رتِّل الذكر ملياً تره ... يغرس الحكمة أو يدني جَناها أطلق الأفكار من أصفادها ... فمضت ترعى الثريا وسهاها * * * خضْ علوم الكون أحقاباً وسِرْ ... في سماها إن تشأ أو في ثراها لا ترى في الدين إلا مغرياً ... بحلاها أو مزيحاً لقذاها * * * ذكرونا سلفاً قاموا على ... سيرة غرّاء والدهر طواها أمة يذكي التقى غيرتها ... مثلما يذكي الندى نار قِراها شرف لو آنسته الشمس في ... أُفقه الأعلى لظنته أباها * * * أوَ يُجدي مجدُ أسلاف إذا ... غرقت أجفان خلف في كراها أمة تلهو بذكرى تالد ... عن طريف لم ترم عهد صِباها فابعثوها همماً تسمو كما ... سمت الجوزاء تزهو في سناها ما الفخار الحق إلا نهضة ... أحكم الإيمان والعلم عُراها

النهضة للرحلة

النهضة للرّحلة (¬1) تشهد أساتذة الحكمة وجهابذة الفلسفة، ويزكيهم طول الاختيار والتجربة الصادقة: أن من انتشر بالأمصار، وجاس خلال البلاد، وعاشر طوائف الناس بنباهة قائمة، وضبط جيد، وعقل لا تأخذه سنة الذهول، يكون أبسط ذراعاً، وأطول باعاً في معرفة ما لنوعه البشري من طباع متباينة، وآراء متشعبة، وعوائد مختلفة، وأهواء متفرقة، وأنه أشد تمكناً في التخلق بالأحوال التي تقربه عند أولي الألباب، بحيث لا تصدر أقواله وأفعاله إلا عن إرادة قوية، وروية ثابتة، فما يلفظ من قول إلا صادف مرماه، ولا يكسب عملاً إلا كان حسنه في عيون أهل الفضيلة، وذلك لإحاطة مداركه بأوجه السياسة العامة خُبراً، يعرف حيث يستدل اللين بالحدة، وفي أي حين تستعمل الشدة بدلاً عن الأناة، ولا يخفى عليه في أي المواضع يتعاظم بعزة النفس، وإلى أي حد ينتهي التواضع، وهلمّ جُرّاً. وضعُ الأشياء مواضعَها المناسبة حتى تلائم فضلاء الناس أمرٌ عسير، لابدّ له من اجتهاد عظيم، لا ينبغ فيه من ينشأ في الحلية، ولا يهدج إلا حول بيته، تجد في الذين يريدون علواً في الأرض، من لا يمشي فيها إلا مرحاً، وهو ¬

_ (¬1) مجلة "السعادة العظمى التونسية"- العدد التاسع من المجلد الأول والتي أصدرها الإمام في تونس عام 1322 هـ.

يشمخ بأنفه كأنما يريد أن يثقب به الفلك الأطلس، ومتى صوبت نظرك إلى قدمه، وجدتها سائخة في الدرك الأسفل من المهانة. علّة ذلك: أنه لم يفتح عينه إلا على وجوه آخر له جباهها سجّداً، ولا يخاطب إلا بأفواه تتدفق عليه أشداقها بعبارات التعظيم والإطراء، فيكون ارتياحه لذلك غشاوةً على بصره تحجب عنه ما ارتكز في سريرته من النقائص، ولو امتطى غوارب الأسفار، وهبت به على المواطن التي لا يعباً فيها إلا بطارف المجد، ولا يعتنى فيها إلا بالكمال الذي يجري مع صاحبه حيث أصاب وأبصر رجالاً بمنزلة الجن في تفنن الأعمال وإبداعها، وآخرين يضاهون طبقة الملأ الأعلى في أخلاقهم المقدسة، لترفعت همته عن القناعة بما تداهنه به عبيد المطامع الواسعة، وتداجيه به ألسنة الذين في قلوبهم مرض النفاق، وطفق يسعى وراء ما أرشدته إليه المشاهدة إرشاداً صحيحاً، وينسج على منوال ما دلته عليه التجارب دلالة واضحة. ومن الذين يريدون الحياة الدنيا، من تنبت له الفضاضة في نفوس بعض الأرذلين بذور الرهبة والإكبار، فينتزع من ذلك قياساً يظنه مطرداً، حتى إذا هجس في خاطره استرقاق بعض الضمائر الحرة، أسرع إلى جرح إحساساتها، ولربما عمد إلى إرهابها بمد يده إلى إنقاذ مقاتلها، ولو مارس مثل هذا أبناء الزمان شعوباً وقبائل، واختبرهم ظهراً وبطناً، لعلم علم اليقين أن من الأفئدة ما لا يستعبده إلا الجميل من القول، ولا يرد جماحه إلا بزمام الرفق والملاطفة. ومما كان للناس عجباً: أن يحل الرجل بعض النوادي، فيرمي بالكلمة ولا يلقي لها بالاً، فتهتز لها الرؤوس عجباً، وتبتسم لها الثغور اعترافاً بحسن

موقعها، فيأخذ أحد قرنائه في العمل على شاكلتها، فتصاعر له الخدود، وتقطب له الوجوه، كأنما جاء شيئاً فرياً. النكتة في هذا المثال: اغترار هذا القرين بأن تلك الكلمة إنما أودعت في القوم نشوة بانسجام لفظها، أو إصابة معناها، لا لأنها وردت عليهم مخضبة بصبغة الانتساب إلى مصدر خاص، والمطلع على ما لبني جلدته من المذاهب المتنوعة، والشؤون المتخالفة، المتصرف فيها تصرفاً واسعاً، لا يلدغ من مثل هذا الأغوار الضيقة. وكأني بمن يترصد مواضع النقد في الكلام، يوحي إلينا: أن من أبناء السبيل من لم يزدهم الاغتراب إلا خوراً في طباعهم، وانحلالاً في عقدة إيمانهم، وتشدقاً في الأقوال مع عجز في الأعمال، غمسوا وجوههم في الخبائث حتى نضب منها ماء الحياة، وانسدل عليها من السماجة والقحة قناع كثيف، ثم تمادوا يبنون معتقداتهم على ما يسمى عندهم: بحرية الفكر، حتى تلفقت لهم ديانة لا شرقية ولا غربية، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]. ولو انزوت هذه الفئة في حنايا بيوتهم، لكان خيراً لهم، وأخف فتنة على السماعين لهم. فنقول: هذا لا ينصدع به الجدار الذي كنا بصدد إقامته؛ إذ لم نقل: إن السفر النافع هو مبارحة الأوطان كيفما اتفق، والجولان بالمدن والقرى كيفما كان الحال. السفر لا يربي لصاحبه ملكة بالأدب إلا إذا قارنته فطنة مستيقظة تبحث عن أسرار الاجتماع، وتدقق النظر في تمييز الحسن من المعيب، لو قلت: إن هذه الشرذمة لم تهتد إلى غير المنازل التي تأوي إليها الأراذل، وتسكن إليها

السفلة، استناداً إلى دعاويهم الطائلة، وأفكارهم الخاوية، لم أكن مخطئاً. أما انحلال عقيدة إيمانهم، فلأن عقائده الحقة إنما بنيت عندهم على هاوية التقليد، فلما هبت عليها أعاصير الشبه، نسفتها من صدورهم نسفاً، فغادرتها قاعاً صفصفاً، فأصبحوا وهو في ريبهم يترددون. وتلك آيات الكتاب الحكيم التي لم تترك للأدب وجهاً جميلاً إلا كشفت لثامه، ولا شرعة لأعلاء النفوس الطاهرة إلا فتحت أبوابها، وقومت ما نشز من كعوبها، تحثنا على سلوك هذه الجادة حثاً أكيداً، وتنبئنا بغياتها التي هي: الآداب الروحية، والمعارف التي تكمل بها السعأدة في الدنيا، ويتوسل بها إلى السعادة في الآخرة. قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122} الآية. والتفقه في الدين كما يصدق على الأحكام التي تتلقى بطريق السمع، يندرج فيه التنبه لفهم الدقائق والأسرار التي تؤخذ من الأمور الحاضرة بواسطة المشاهدة، ولقد كان لعلمائنا العناية الكبرى، والعزيمة الماضية في النهوض للرحلة، والتجلد على اقتحام ما كان فيها من المشاق. كان السفر قطعة من العذاب، بل العذاب كله، فمن اتخذ سبيله في البحر سرباً، لا يزال ينظر إلى أمواجه نظر المغشي عليه من الموت، كأنما ينفتح له ما بين كل موجتين قبر، وعواصف الرياح تقلبه ذات اليمين وذات الشمال، فيقضي شهوراً، أو ما قدر له، وهو على أعواد مشرف على الهلاك، لا يمسكه عن الوقوع في مهواته إلا خيط أجله، وإن كان السفر براً، فلا تسل عما يحيق بأهله عندما يحمى بهم وطيس الظهيرة، أو يجمد عليهم زمهرير الغدو والآصال، والمخاوف تنسل عليهم من كل فج عميق.

أما الآن، فقد أصبح السفر قطعة من النعيم، فمن لقي من إقامته نصباً، ورام اغتنام الراحة وصفاء البال، بادر له بكل حزم ونشاط، غيرَ متوجس خيفة من تلك الغوائل المزعجة. وبعد، فهل لإخواننا الكرام أن يسمحوا لنا بأن نعرض عليهم حاجة في أنفسنا ليقضوها، وإن قال قائل منهم: إنها كبرت كلمة تخرج من أفواهنا. وهي: أن نستنهض هممهم، ونستمنح من عواطفهم أن يطرحوا شيئاً من الشغب بالمنازل، والعكوف على الإقامة بها، ويسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين سعوا جهدهم في خدمة الدين والوطن، ويساهموهم فيما يعودون به على أنفسهم وذوي أخوتهم من المساعي الحميدة، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

الرحلة الجزائرية

الرحلة الجزائرية (¬1) كنت أُسعفت فيما سلف من الزمان بإجراء سياحة في أطراف المملكة الجزائرية، وبقيت النفس مستشرفة إلى إعادتها تارة أخرى إلى مدينة الجزائر نفسها؛ لنكون على بينة من مقدار ما تبلغ إليه حالتها العلمية، وجلية من أمر أخلاق أهلها الغالبة، وعاداتها العامة؛ فإن لسان العيان أفصح من لسان البيان. وما برحت هذه الأمنية تتمثل في الخيال، وتجول في العقل، حتى مكنتنا الفرصة من توطيدها وإبرازها إلى حيز الوجود في شهر رمضان المعظم من هذه السنة. ولما استقر بنا النوى من حيث ابتدأ، وصقل الإياب مرآة الصدور مما مسها به البعاد من الصدأ، قبضت قبضة من آثار سفرنا هذا، ونبذتها في صحائف هاته المجلة؛ عسى أن يعتبرها مطالعوها الكرام بمثابة فصل انتزعت شذوره من مجلد ضخم في أنباء الأمة الجزائرية من جهة معارفها وأخلاقها. * سوق أهراس: عقدت العزيمة على الظعن في الساعة الثامنة صباحاً من اليوم الخامس ¬

_ (¬1) نشرت هذه الرحلة في العددين الأول والثاني من مجلة "السعادة العظمى" التي أصدرها الإمام في تونس عام 1322 هـ كما نشرت في كتابه: "السعادة العظمى".

من الشهر المذكور (شهر رمضان سنة 1322 هـ) (¬1)، واتخذت سبيلي في البر؛ لأنه أجمل منظراً، وأقل خطراً، فانسحب بنا القطار وهو يطوي البيد طياً، ويجوب من المفاوز الفسيحة مكاناً قصياً، إلى أن نفخ نفخة الغيور الكريم، ثم سار سيراً رويداً، واستوى على محطته الواقعة على جناح من بلد "سوق أهراس" (¬2) في الساعة الرابعة مساء. فهبطت متدلياً إلى المنزل الذي أعدّ لنا، وبعد أن نفضت نقع على ما علق بنا من النصب، تطوفنا في أغلب مناهجها المتسعة، وفسحنا الخاطر في بناءاتها المتناسبة، ولعدم أكبر ساحتها يمكن الإحاطة بها في مدة وجيزة. وعند مغيب الشفق توجهت إلى مسجد لاغتنام فضيلة الجماعة، وبعد أن قضيت الصلاة، وتأهبنا للانصراف، قام من الجماعة رجل تلوح على وجهه سمة أهل العلم، ودنا مني، وسلم عليّ سلام ذي المعرفة، ثم مسك بيدي، وتقدم بي إلى محراب المسجد، وأومأ إلي بالجلوس، ثم استدارت الجماعة على هيئة درس، ورأيت في يد أحدهم سفراً، فالتفت إلى ذلك الفاضل، وقلت له: هل لكم درس في هاته الساعة؟ فقال: نعم، درس في التوحيد، ولكن نريد أن نعوضه بمسامرة علمية معكم. فجرت على بساط المسامرة مسائل بعضها في العبادة، وبعضها في غير ذلك، منها: قول بعض المسترشدين: هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحلق رأسه أم لا؟ وما حكم عدم الحلق؟ فكان الجواب: أن الآثار الصحيحة تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحلق لغير نسك، فيحتمل أن يكون ترك الحلق من باب ترك الأخذ بالعرف، والجري ¬

_ (¬1) ويوافق يوم 12 تشرين الثاني - لعام 1904 م. (¬2) سوق أهراس: بلدة على الحدود الجزائرية التونسية.

على ما هو العادة عند قومه، وعلى هذا، فمن جرى عرف قومه بالحلق، كان الأولى في حقه العمل على مقتضاه، ويحتمل أن يكون على وجه التشريع، فيكون سنّة، وهو ما فهمه أَبو الوليد الطرطوشي، وابن العربي، وصرّحا بأن حلق الرأس لغير نسك بدعة، والذي يقوى في النظر: أن ترك الحلق هو من باب العادة، فلا يعد الحالق مبتدعاً، وقد يقال: لا تثريب على من ترك حلق رأسه بقصد التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الصحابة والسلف الصالح كانوا يحافظون على الأسوة به في العادات؛ كما يحافظون عليها في السنن، فيعارض بأن الشارع قد أمر بموافقة ما جرى به العرف في غير ما شرّعه. وبعد أن ختمت المسامرة، وانفضت الجماعة، تجاذبنا مع ذلك المدرس محادثة خاصة، فاستجلينا من خلالها: أنه الشيخ محمد الصالح بن الشايب العدل بالمحكمة القضائية. ومما جرى في خاتمة المجلس لفظ: "منطاد"، فقلنا: هو الآلة التي تطير في الهواء المسماة بالبالون، وهو لفظ عربي، في "القاموس" (¬1): الانطياد: الارتفاع في الهواء صعداً، والمنطاد: البناء المرتفع. ويوجد في هذه البلد مدرس آخر، وهو الشيخ عبد المجيد، كنت في السنة الفائتة أتيت المسجد الذي يدرس فيه "المختصر الخليلي"، وقد سبقت لنا معرفته بالحاضرة، فرحب بنا، وأحسن لقاءنا، ثم سعى بنا إلى محل الدرس، فجلس عن يسارنا، وشرع في تقريره بطريقة مقتصدة خالية عن التطويل، بعيدة عن الاختصار، وطالعُ الدرس: قول صاحب المختصر: "وعفى عما يعسر"، وبأثر انقضائه عقدنا معهم المسامرة، اشتمل غالبها على تفسير ¬

_ (¬1) "القاموس المحيط".

تبسة

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122} الآية. وعلقنا عليها ما حضرنا في فضل التعليم والتعلم. * تبسة: وفي الساعة الخامسة صباحاً، سافرت إلى "تبسة"، فوصلنا بعد مسير القطار نحو خمس ساعات، ويعد أن أزحنا بالاستراحة ما سامنا من عناء السفر، خرجنا نتدرج بأنحاء البلاد إلى أن استقصينا غالب مناهجها جولاناً، وألفيناها منفوضة الجراب من آثار التعليم، سوى أن بعض المتخرجين بالجامع الأعظم (¬1) من أهالي الجريد (¬2) يجاور بها نحو خمسة أشهر في السنة، يلقي فيها دروساً من الكتب الابتدائية. وبعد صلاة التراويح، زارنا جماعة من أعيان تجارها لهم عناية أكيدة بالمسائل التي تعرض لهم في أمور التجارة، وهو من أعظم الأدلة على متانة الديانة، والتوقي من الشبهات، منها قول بعضهم: "وما تقولون في رجل اقترض مالاً من عند آخر، واشترى به أشياء تجب فيها الزكاة، وعنده ملك آخر يفي بخلاص ذلك الدين، فهل تجب فيها الزكاة فيما اشتراه بمال القرض إن مرّ عليه الحول، أو لا تجب؛ لأنه مدين؟ ". فكان الجواب: أن المدين الذي لا تجب عليه الزكاة هو الذي ليس له من الملك ما يسد به خلة ما عليه من الدين، أما إذا كان مالكاً لما يجعله في مقابلة ذلك الدين، فلا يعد الدين مُسقطاً للزكاة كما في "الموطأ". ¬

_ (¬1) جامع الزيتونة بتونس. (¬2) الجريد: منطقة بالجنوب الغربي من الجمهورية التونسية، وهي على الحدود الجزائرية، تشتهر بالنخيل، كما أنها أنجبت عدداً من العلماء والأدباء.

عين البيضاء

* عين البيضاء: ومن الغد قصدت "عين البيضاء" في الساعة السادسة مساءً، فركبت عربة يجرها أربعة جياد؛ لعدم ارتباط البلدتين بسكة حديد، فوصلنا في الساعة الخامسة صباحاً، وبعد أن أخذنا سنة من النوم، أفاضت علينا من الاستراحة شيئاً يسيراً، وفد علينا بعض أهل العلم، مثل: الشيخ محمد العربي بن قشوط، والشيخ المسعود بن علي، والشيخ أحمد بن ناجي، فاستنارت صدورنا تأنساً بمحاورتهم العلمية في سائر ذلك اليوم. ومن المسائل التي طرحت بيننا: مسألة الفرق بين الكل والكلية، فقررنا أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل ذلك لم يكن" لما قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ هو من باب الكلية، لا من باب الكل كما يقول بعض المصنفين؛ بدليل قول ذي اليدين: قد كان بعض ذلك يا رسول الله، وقوله في الرواية الأخرى: "ما قصرت الصلاة، وما نسيت". وإن المعنى: كل ذلك لم يكن في ظني، فيكون مطابقاً للواقع والاعتقاد، ولا داعي إلى تأويل الحديث بتوجيه النفي إلى المجموع، بل لا يصح تحريجه على ذلك. وبعد صلاة التراويح، دعانا الشيخ أحمد بن ناجي إلى المسجد الذي يدرِّس فيه "المختصر الخليلي"، فلما وافينا المسجد، وجدناه غاصاً بتلامذة ذلك الدرس وغيرهم، ففسحوا لنا مقعداً في المحراب، ثم قام رجل منهم، ووزع أجزاء نسخة قرآن على الحاضرين، وهذه عادتهم في كل ليلة جمعة، وبعد ختامها انتدب منا ذلك الشيخ أن نذاكرهم بتقرير بعض الأحاديث، فوقع اختيارنا على حديث: "سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل ... إلخ" الحديث، فأملينا بعض ما نعهده في شرحه، وأسبغنا المقال في شأن التوادد

قسنطينة

والتعاون عند قوله: "ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك، وافترقا عليه", وشاهدنا من الحاضرين رغبة مفرطة، وإقبالاً زائداً على تلقي التعاليم الدينية. * قسنطينة: بارحت "عين البيضاء" في الساعة السادسة صباحاً، فوصلنا "قسنطينة" بعد مسير الرتل ست ساعات تقريباً، وأعدنا الاستطلاع على بعض معالمها الدينية، وآثارها القديمة والحديثة. بهذه المدينة مدرسة إسلامية معدة لتخريج القضاة والعدول، وثلاثة جوامع تقام فيها الجمعة: الجامع الكبير، والجامع الأخضر، والآخر يسمى: بجامع سيدي الكتاني، وفي هذا الجامع منبر من الرخام مرقوم فيه بيت من الشعر يتضمن اسم مؤسسه، وتاريخ تأسيسه، وهو: بنى منبراً بالعزّ والنصر صالح ... له سبل الخيرات تاريخه رشد (¬1) وأسس الجامع الأخضر سنة 1256 هـ، وبها مكتبة عمومية تحتوي على عدة من الكتب المطبوعة المتداولة. والتقينا بأشهر علمائها الشيخ حمدان بن الونيسي الذي كان زار الحاضرة منذ عهد قريب. والعالم الشيخ أحمد بن الحبيبات، وهو رجل عليه سمة أهل الخير والصلاح، ولما حان وقت صلاة العشاء، ذهبت إلى الجامع الكبير، وبعد انقضاء الصلاة، رأيت جماعة مستديرة في جانب من الجامع، والناس يستبقون نحوها زمراً، فأخبرني بعض من معي بأن للشيخ حمدان درساً في التفسير، فدنوت منه، وأصغيت ¬

_ (¬1) كلمة رشد مجموع حروفها بحساب الجمل عند المغاربة يساوي ر 200 + ش 1000 + د 4 = 1204

إليه، فإذا هو يقرئ في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106} الآية. بتفسير الخازن. وبعد أن تم الدرس، تقدم إلينا بعض الطلبة الذين سبقت لهم بنا معرفة مسترشداً عن مسائل، منها: كيف يجمع بين قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، وقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]؟ فكان الجواب: أن الله لا يؤاخذ أحداً بزلة أحد، وإنما يستحق العقوبة صاحب الذنب، إلا أن الله فرض على كل مسلم رأى منكراً أن يغيره، فإذا لم يفعل ما استطاع من تغييره، وسكت، كان عاصياً، فينخرط مع صاحب الذنب في العقوبة، أحدهما بفعله، والآخر برضاه. قال تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79]. فالفتنة في الواقع لا تصيب إلا صاحب الذنب، كما قال عمر - رضي الله عنه -: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عملوا المنكر جهاراً، استحقوا العقوية. واجتمعنا بأحد الثقات من بلد "المسيلة"، فحكى لنا أن بعض الطلبة في تلك الجهة يعمل في صيامه بقواعد الحساب، وتارة يؤم الناس في صلاة العيد وهو صائم، فقلنا: ورد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا غمّ عليكم، فاقدروا له"، فذهب مطرف بن عبد الله أحدُ التابعين إلى أنّ معنى "اقدروا له": احسبوا له بحساب المنجمين، واستدل بقوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]. والحق أن معنى "اقدروا": أكملوا العدد ثلاثين، بدليل رواية: "فإن غمّ عليكم، فكملوا العدد ثلاثين"، ثم إن الشرع مبني على ما تعلمه الجماهير،

باتنة

وأمر الحساب لا يعرفه إلا قليل من الناس، ولو كان الحساب طريقاً يعتد به في ثبوت الشهر، لعلّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة كما كانوا يعلمون أوقات الصلوات، ويرد استدلال مطرف: بأن المراد من الآية: الاهتداء في طريق البر والبحر. يبلغ عدد سكان هذه المدينة نحو 55 ألف نسمة، نصفهم من المسلمين، وأربعة آلاف من اليهود، والباقي من الإفرنج. * باتنة: ثم التقيت بابن عمنا الشيخ الحسن، فربطنا النية على المرافقة في السفر، فتوجهنا إلى "باتنة"، فوصلنا في الساعة الثامنة مساء. وبعد أن وضعنا أوزار الأتعاب، تجولنا في شوارعها، فإذا هي فسيحة العرض، متناسقة البناء، منورة بالكهرباء، وفي أثناء المطاف قال لي رفيقنا المذكور: إني أعرف هنا رجلاً من أهل العلم والأدب، فقلت: تلك الضالة التي ننشدها في مثل هاته الليلة، اسع بنا إلى أن نروح الخواطر بأسماره. فمضينا حتى انتهينا إلى محل معدّ للتجارة، فوجدنا جماعة جالسين على شكل نصف دائرة، فلما رأونا، انتفضوا قائمين، وعلى وجوههم نضرة البشر والابتهاج، وعلى تحيتهم طلاوة الأدب واللطافة، فكان ذلك براعة استهلال لما ينبغي ملاحظته في ذلك المنتدى، واتفق أن كان من زمرة هؤلاء الفضلاء: الشيخ أحمد البوعوني المشار إله، والشيخ إبراهيم بن السلمي، ولكل منهما فصاحة منطق، وسجية نزاعة للأدب، ولأولهما شعر جيد، فقضينا في السمر مقدار ثلاث ساعات، كانت لتلك الليلة نطاقاً جميلاً. ولما أزمعنا الانصراف، ووقفنا موقف الوداع، تكدرت خواطرهم؛ لانصداع إيوان تلك المؤانسة، وتقطع أسبابها، فألقوا على مسامعنا عبارات يتمشى التحسر والتأسف في مناكبها، فقلنا لهم: العود أحمد، وأنشدنا لهم:

عاصمة الجزائر

لا تأس يا قلب من وداعٍ ... فإن قلب الوداع عادوا * عاصمة الجزائر: وفي الساعة الخامسة صباحا تحرك بنا القطار من "باتنة"، ولم يزل يخبُّ ويضع، ويحمل ويضع، حتى ضرب سواد الليل أطنابه، وفي الساعة الثامنة أشرفنا على عاصمة الجزائر، فتراءت لنا مصابيح أنوارها بمنظر أنيق، وأشكال متناسقة، وذلك لأن المدينة قائمة على أكمة مرتفعة يبتدئ العمران من أعلاها، ثم يمتد متدلياً إلى حافة البحر، فيبصر الداخل عند استقبال شوارعها المنورة، وهي طبقات بعضها فوق بعض، رونقاً مليحاً. وبعد أن اصطفينا محلاً لمقامنا ووضع متاعنا، وتناولنا من الراحة جزءاً يسيراً، تكفأنا نجول في بعفالنواحي، فالتقينا بالسيد علي بن الحداد أحد أعيان تجارها الأفاضل، فبسط علينا من الحفاوة والترحاب رداء ضافياً، ولهذا الفاضل محل تجاري يتسامر فيه جماعة من أعيان العلماء والفضلاء، تعارفنا مع بعضهم في تلك الليلة. ومن الغد تشرفنا بزيارة الولي الصالح الشيخ سيدي عبد الرحمن الثعالبي (¬1)، وزرنا بإزائه المدرسة الثعالبية التي تم بناؤها في هذه السنة، وافتتحت باحتفال رسمي يوم الاثنين 17 أكتوير، وأسست هذه المدرسة لتعليم الوطنيين العلوم العقلية والنقلية، ومنها يتخرج القضاة والعدول. ثم بعد الزوال بساعة، ذهبت إلى الجامع الجديد، ويقال له: الجامع الصغير، فوجدت ¬

_ (¬1) من كبار علماء الجزائر، ولد فيها عام 1386 م، وتوفي بها عام 1468 م. من مؤلفاته: "الجواهر الحسان في تفسير القرآن".

العالم الفاضل الشيخ بوقندورة المفتي الحنفي جالساً في زاوية منه، وحوله جماعة من الطلبة على شكل دائرة يتناوبون سرد "صحيح الإمام البخاري" واحداً بعد واحد، والشيخ مصغ إليهم، فإذا ناب أحدهم خطأ، استرده إلى ما هو الصواب، وهذه عادتهم في سائر أيام رمضان. وبعد صلاة الظهر تنقلنا إلى الجامع الكبير، فالتقينا بالشيخ عبد الحليم ابن سماية، فغمرنا بنفحات خلقه الناضر، واختلب ألبابنا بفصاحة لسانه الساحر، ولم نلبث معه عند هذه الملاقاة إلا مدة قصيرة لأمر عارض حال بيننا وبين استطالة الجلسة. وفي ذلك اليوم دعانا السيد علي بن الحداد لزيارة وقت الغروب، وبعد أن تناولنا معه الفطور، توجهنا إلى ضريح الشيخ سيدي عبد الرحمن الثعالبي، بقصد الحضور بدرس الشيخ علي ابن الحاج موسى، فمكثنا غير بعيد حتى دخل الشيخ وهو محفوف بسكينة ووقار، وجلس بالمحراب، ثم رفع يديه بقراءة الفاتحة قبل افتتاح الدرس، وبعد ذلك أخذ في تقرير مبحث: صفة الكلام من كتاب "الصغرى" للشيخ السنوسي بصوت جهور، فوضّح معناها، ثم أقام عليها الدليل ثانياً، وتعرض في أثناء ذلك إلى جلب مسائل لها تتعلق بالمبحث؛ كتنبيه على أن الحدوث الذي وصف به القرآن في بعض الآيات؛ كقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] هو عائد إلى الألفاظ التي نتلوها، لا إلى المعنى الذي هو قائم بالذات العلية. ومما يدل على صلاح حال هذا الرجل، وصفاء سريرته: أنه ما جرى ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على لسانه إلا ارتعد صوته، وفاضت دموعه، ثم أقيمت صلاة العشاء، فتقدم ذلك الشيخ وصلى بالجماعة إماماً، وقرأ في الركعة الأولى

سورة القارعة، فلما بلغ إلى قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة: 10] أخذته عبرة شديدة. وسمعته يجهر بالتأمين بعد الفاتحة في الصلاة، فعجبت من مخالفته للرواية المشهورة، وهي عدم تأمين الإمام في الجهر، وبلغني أنه خوطب في ذلك، فأجاب بأنه يختار رواية المدنيين؛ لترجحها بالحديث الصحيح. يريد بذلك قوله - عليه الصلاة والسلام -: "إذا أمّن الإمام، فأمنوا"، وهو ظاهر في تأمين الإمام في الصلاة الجهرية، والمتمسكون برواية البصريين المشهورة يؤولون "أمن" على: بلغ موضع التأمين؛ كأنجد: إذا بلغ نجداً؛ بدليل حديث: "إذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين"، ولعل الشيخ ممن يستبعد ذلك التأويل، ولا يرى الحديث الأخير ظاهر الدلالة على عدم تأمين الإمام. وعرجنا في إيابنا على محل السيد أحمد بن مراد المعد لبيع الكتب، فالتقينا بالشيخ محمد بوشنب أحد المدرسين بالمدرسة الثعالبية، فأخذنا معه أطراف محاورة أطلعتنا على ماله من النباهة التامة، والتفقه في الأمور الحديثة، زيادة عما له من التفنن. ثم انصرفنا، وصحبنا أحد الفضلاء فذكر لفظ "مجلة"، فاستنبأنا عن معناه لغة، فسقنا إليه عبارة "القاموس": مجلة - بالفتح-: الصحيفة فيها الحكمة، أو كل كتاب. وفي اليوم الثاني من أيام إقامتنا، دعانا الشيخ عبد الحليم بن سماية إلى زورة محله في الساعة الخامسة مساءً، وكان منزله في أقصى المدينة وأعلاها، فصعدنا إليه على السيارة الكهربائية، سارت بنا في خطها الحديدي نحو 20 دقيقة، ووقفت أمام ضريح الولي الكامل الشيخ سيدي محمد بن عبد الرحمن الأزهري المتوفي سنة 1208 هـ، فنزلنا هناك، ووجدنا الشيخ

عبد الحليم في انتظارنا، فذهب بنا إلى داره، وارتقى بنا إلى طبقتها العليا، وتنفست مدة المسامرة، فتواصلت حلقاتها نحو ست ساعات. جرتنا المناسبة إلى الخوض في شؤون المدرسين، فقلنا: ليس المدرس حقيقة من يلقى المسائل على حسب ما تحويه الأوراق جيدها على رديها من غير أن يعرضها على محك النقد، ويزنها بمعيار النظر؛ فإن من المسائل ما لم تحط التآليف بتحقيقاتها واستخراج خباياها، فقال لي الشيخ: مثال ذلك من فن البيان: الاستخدام؛ فإن البيانيين يعدونه من المحسنات المعنوية، ولا يبينون كيف يعود حسنه إلى المعنى، ثم استرسل في بيان رجوعه إلى المعنى بكلام يشهد لصاحبه بسلامة الذوق، والولوع بالكشف عن أسرار المسائل، دون الاكتفاء بتصوراتها المجردة، ثم استطردنا أن الاستخدام لا يختص بالضمير كما نص عليه الشهاب الخفاجي في "حواشي البيضاوي"، بل يكون بغيره؛ كالاستثناء؛ نحو: أبداً حديثي ليس بالمنسوخ إلا في الدفاتر، والتمييز نحو: أخثِ الغزالة إشراقاً وملتفتاً والعطف، وعليه خرج قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 4]. فالمراد من الصلاة: معناها الشرعي، ووقع عطف {وَلَا جُنُبًا} باعتبار معناها المجازي، وهو المسجد. وأطلعني على صدر مقالة له فصيحة المباني، شريفة الموضوع، مفرغة في قالب الإنشاء العصري، ووعدنا بإرسالها عند استكمالها. وكان هذا الفاضل زار الحاضرة قديماً، وأقام بها نحو ثمانية أيام أخذ فيها "المقولات العشر" تدريساً عن الشيخ محمد بن عيسى الجزائري

- رحمه الله -، والتقينا بالعالم الشهير الشيخ عبد القادر المجاوي بعد شهودنا مجلس درسه "جوهرة التوحيد" بمسجد سيدي محمد الشريف، فحيانا بتحيات أكدت للتعارف القديم ميثاقاً، وصبّت علينا شيمه الشريفة من المؤانسة كأساً دهاقاً، وحينما عزمنا على الانصراف، أخذ علينا عهداً على تجديد الزيارة في الليلة القابلة، فعقبنا ذلك العهد بالوفاء، وبعد صلاة التراويح ذهب الشيخ ونحن في صحبته إلى جامع الشريف، وأقرأ به درسه الاعتيادي من "الأربعين النووية" في مجمع عظيم من الخاصة والعامة، وكان حديث تلك الليلة: "الدين النصيحة"، ثم عدنا إلى السمر، ومعنا جماعة من التلامذة. نستحسن من دروس هذا الشيخ اقتصاره في كل فن على تقرير مسائله التي يشملها موضوعه، وعدم خلط بعضها ببعض. وقد كنت -عافاكم الله- ممن ابتلي درسه باستجلاب المسائل المختلفة الفنون، وأتوكأ في ذلك على أدنى مناسبة، حتى أفضى الأمر إلى أن لا أتجاوز في الدرس شطر بيت من ألفية ابن مالك -مثلاً-، ثم أدركت أنها طريقة منحرفة المزاج، عقيمة عن الإنتاج، ونرجو أن تكون توبتنا من سلوكها توبة نصوحاً. ولهذا الشيخ أيضاً خلق عظيم نحمده عليه، وهو سلوكه في معاملة التلامذة طريقاً وسطاً، لا ينحط عن مكانة عزة النفس، ولا يرتفع عن ساحة التواضع، تحمله عواطف النسب العلمي على العناية بشؤونهم، وبذل الوسع في قضاء مآريهم، ويصده علو الهمة عن مجاراتهم فيما يزري بخطته الشريفة. أأغرسه عزاً وأجنيه ذلة ... إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما ولعل هذا الخلقال في لا ينبل الرجل إلا به، هو الذي غرس له في قلوب الجمهور مودة واحتراماً. وغالب القضاة وعدول المملكة الجزائرية

تخرجوا على يديه؛ لأنه كان درّس بقسنطينة أيضاً سنين متطاولة. وشهدت مجلس ختم العالم الفاضل الشيخ السعيد لصغرى السنوسي بجامع سيدي رمضان، بحضرة جماعة من العلماء، وجمّ غفير من غيرهم، فقرع الأسماع بمواعظ حسنة، ونصائح مفيدة، ودبجها بمسائل شتى من النحو والبيان والبديع، وساق في أثنائها أحاديث فضل التسمية باسمه - صلى الله عليه وسلم - "محمد". وفي صبيحة تلك الليلة اجتمعنا ببعض المنتسبين للعلم، فسألنا عن رتبة تلك الأحاديث، فقلنا: قد نقلها جماعة من المحدثين، ولم يتعقبوها بشىِء، وإلى ذلك استند الشيخ في إيرادها، ثم ذكرنا له ما نعهده لملَّا علي قاري في شأنها، وهو: من علامات وضع الحديث مناقضته لما جاءت به الشريعة مناقضة ظاهرة، ومن ذلك أحاديث من اسمه محمد أو أحمد، وإن كل من تسمّى بهذا الاسم لم يدخل النار، فهذا يناقض ما علم من الدين: أن النار لا يجار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجاة منها بالإيمان والأعمال الصالحة. واجتمعنا بالعالم البارع الشيخ محمد بن مصطفى خوجة بدكان السيد أحمد بن مراد، فمد علينا من الملاطفة رواقاً، وفتح علينا رياض أنس كانت مغلقة أبوابها إغلاقاً، فنظم في سلك المسامرة فرائد، وأنشدنا من بنات أفكاره قلائد، ثم ختمنا بالتعريج على ما هو الأحسن في طرق التعليم، فأبديت ما نراه الطريقة المثلى في هذا الموضوع، خلاصته: هو أن الرتبة الابتدائية والرتبة الوسطى، ينبغي للمعلّم الاقتصار فيها على تقرير المسائل مجردة عن ذكر الخلافات، والأدلة الطويلة الذيل، حتى إذا اقتصر المتعلم على إحدى

الرتبتين، أو عاقته دون الترقي لما بعدها عوائق، فقد نول ما فيه كفاية من غير أن يخفق مدة من حياته فيما لا فائدة فيه لمثله. أما الرتبة العليا التي لا يقصدها إلا من طمحت همته إلى أن يكون عالماً معلّماً، فلابد فيها من تتبع عروق المسائل، واستقصاء آثارها، وحث مطية الفكر في أنجادها وأغوارها، على شريطة أن لا يلتفت المعلم إلى المباحث المتعلقة بعبارات المصنفين؛ فإنها داعية إلى خلط الفنون بعضها ببعض من غير كبير فائدة، والاشتغال بتحرير أصل من أصول العلم وصناعتها أفيد للطالب وأجدى، ويستغنى في تقوية الملكة وتشحيذ الذهن بالمباحث المتعلقة بنفس المسائل. ودعانا السيد مصطفى بن الأكحل إلى منزله، وهو من أفاضل القوم، لا يحل بالبلد غريب، ولاسيما إن كان من أهل العلم، إلا وأكرم مثواه، وأحسن ضيافته، وحضر تلك المأدبة جماعة من أعيان العلماء؛ مثل: العالم الفاضل الشيخ بوقندورة، والشيخ عبد الحليم، والشيخ محمد بن مصطفى خوجة، فنضحوا بماء لطافتهم عن صدورنا وحشة الاغتراب، وتساقط من بين مذكراتهم العلمية ما تلذه عيون الألباب. وجرت بمناسبة قول بعض الجماعة: أنا لا آكل لحماً، وقد آكل حوتاً، مسألة: من حلف أن لا يأكل لحماً هل يحنث بأكل الحوت أم لا؟ فقال أولئك السادة: لا يحنث؛ رعاية للعرف بمقتضى المذهب المتمسكين به مذهب أبي حنيفة، فسقنا نحن ما نقله ابن كمال باشا في "تفسيره" من أن سفيان الثوري أنكر ذلك على أبي حنيفة محتجاً بآية: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12].

فقال أَبو حنيفة لرجل: اسأل سفيان عمن حلف لا يجلس على بساط، وجلس على الأرض، هل يحنث أم لا؟ فإن قال: لا يحنث، فقل له: قال تعالى: {الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19]، فلما سأله وأجابه بعدم الحنث، وأورد عليه الآية، علم أن ذلك تلقين من أبي حنيفة. وذهب المالكية إلى الحنث؛ تمسكاً بالآية، وهو عند تحقق العرف بعدم تسمية الحوت لحماً مشكل لقاعدة: أن العرف مقدم على القصد اللغوي، ولم يحضرني حيئذ إلا أنه فرع مشهور بني على قول ضعيف، وهو أن المقصد اللغوي يقدم على العرف، أو العمل بقاعدة: أن الحنث يقع بأقل الوجوه؛ بخلاف البر، فقاعدته: أنه لا يقع إلا بأكمل الوجوه، فمن حلف ليسافر، لا يبر في يمينه إلا إذا سافر مسافة القصر، وإن سمّي ما دونها سفراً عرفاً ولغة، ومن حلف لا يسافر، حنث بسفره دون مسافة القصر. وبعد طي بساط ذلك المجلس، ذهبنا إلى المسجد الذي أسسه السيد مصطفى بن الأكحل، فشهدنا مجلس ختم الشيخ عبد الحليم لكتاب في التوحيد لا أتذكر الآن ما هو؛ لأن الشيخ إنما قرر ما يتعلق بسورة الإخلاص، وبين كيف ينتزع منها العقائد الدينية بطريقة استحسنتها جداً، حتى إني كنت من المحرضين له على إقراء درس في التفسير زيادة عما هو بصدد إقرائه مثل درس السعد على "التلخيص". ثم عدنا إلى السمر، وتناولنا أطراف البحث في مسائل، منها: مسألة اشتراط الولي لعقد نكاح المرأة، فأفادنا الشيخ محمد بن مصطفى خوجة: أن أبا يوسف، ومحمد بن الحسن يقولان باشتراط الولي، وهو قول عامة الفقهاء، وأسند ذلك إلى "عقود الجواهر المنيفة"، ثم مال بنا الكلام إلى أن

الواجب على العلماء أن يسعوا في بيان أحكام الشريعة، وبث تعاليمها في صدور الناس، وإن لم يسألوا عن ذلك. فنقل لنا ذلك الشيخ عن ابن العربي ما يؤيد هذا، وهو أن المسائل الدينية يجب على العالم تعليمها، ولو بدون سؤال، بخلاف غيرها، فلا يطالب بتعليمها إلا عند السؤال. وأخذ الجماعة في استحسان السفر، وييان فوائد الرحلة، فقلنا: تأييد ذلك: أن ابن العربي بعد أن حقق إباحة الاستياك للصائم بالنقل عن القاضي سيف الدين في كتاب "العارضة" قال: ويوم حصلت هذه المسألة، قلت: الحمد لله الذي أفادني هذه في الرحلة، وعلمت أني لو لم أحصل غيرها، لكفتني. وقال في "الأحكام" عند قوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} [الأعراف: 189]: اختلف علماؤنا في راكب البحر، هل حكمه حكم الصحيح، أو الحامل؟ فقال ابن قاسم: حكمه حكم الصحيح، وقال الأشهب: حكمه حكم الحامل إذا بلغت ستة أشهر، وابن القاسم لم يركب البحر، ولو عاين ما يشاهده المسافر فيه، لكان رأيه كرأي أشهب. والتقينا بالفاضل البارع السيد يوسف بن سماية، فوقفنا معه موقف التسليم والوداع أمداً لم يتجاوز 20 دقيقة، وقد لاح لنا على خطاباته ملاطفة جميلة تشف عن جودة فكرة، وحلاوة في الأخلاق. استطلع رأينا في تفسير قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185} على معنى: ابتدئ فيه نزول القرآن، فقلنا: ذلك التفسير صحيح، ونسبه المفسرون إلى ابن إسحاق، والأحاديث الدالّة على

إنزال القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وإن كانت صحيحة، لا يتعين حمل الآية على معناها. ودفعتنا المناسبة إلى الكلام على العمل بالحديث الضعيف، فقلنا: قال الفقهاء: إن الحديث الضعيف لا يعمل به في أحكام الحلال والحرام مطلقاً، ويعمل به في فضائل الأعمال بثلاثة شروط: أن لا يكون شديد الضعف، ولا يعتقد العامة نبوته؛ لئلا ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله، وأن يتدرج بمعناه تحت قاعدة كلية من قواعد الشريعة. وذهب أبو بكر بن العربي إلى أن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقاً. وسامرنا بدكان السيد علي بن الحداد الشيخ مصطفى بن الطالب أحد علماء تلمسان، والمتولي خطة الفتوى بصور الغزلان (¬1)، وكان له ميل شديد إلى المباحثات العلمية، ويحب التطلع على علل المسائل، وربما هجم على إبداء ما يلوح له من ذلك. حاول في أثناء المذاكرة أن يفرق بين الكفارة والحدِّ في عرف الشريعة؛ بأن الكفارة تستعمل في عقوبة ما هو حق لله، والحد يطلق على عقوبة ما فيه حق لمخلوق، فنازعه بعض المحاضرين بأن عقوبة الزنى تقع على ما هو حق لله، وتسمى حداً، فقلنا: إن كثيراً من الفقهاء يطلقون القول بأن الحق في الزنى لله، ويبنون على هذا: أنه إن تاب، برئت ذمته، والتحقيق أن لأقارب المرأة المزني بها في ذلك حق أيضاً؛ لما يلحقهم من العار وهتك الحرمة، وذلك مما لا تغفره التوبة، كسائر الحقوق المتعلقة بالمخلوقين، والأمثل أن يقال: إن الحدود تستعمل في العقوبات الخالصة، والكفارة يغلب إطلاقها ¬

_ (¬1) بلدة بالجزائر.

على الطاعات التي تقع في مقابلة جناية. وانجر بنا البحث إلى مسألة تقديم الكفارة على الحنث، وذكر الخلاف في إجزائها، فقلنا: ذهب أبو حنيفة إلى أن سبب الكفارة هو الحنث، وعليه فلا يجزي التكفير قبله، ورأى أن الكفارة بدل عن البر، فلزم أن يكون موضعها عدم المبدل منه، وذهب مالك إلى أن سبب الكفارة هو اليمين، والدليل عليه قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]. فإن المعاني إنما تضاف إلى أسبابها، وعليه، فيجزي التكفير، ولا يلزم عليه تقدم الحكم على شرطه؛ لأن الحنث إنما هو شرط في انحتام الكفارة من غير تخيير، لا شرط في أصل وجوبها، وحدثنا الشيخ مصطفى المذكور: أنه كان قرر درساً بمحضر بعض الإفرنج، وقال في خلاله: إن العرب هم سكان الحاضرة وإن كانوا أعاجم، والأعراب هم سكان البادية، وإن لم يكونوا من العرب، فعارضه بعض الحاضرين بأن المتعارف: أن العرب اسم الجيل المخصوص، سواء سكنوا البادية، أو الحاضرة، والأعراب اسم لمن يسكن البادية من ذلك الجيل، فطالعنا وقتئذ بعض كتب في اللغة، فعثرنا فيها على شبهة فيما قرره الشيخ في "المصباح": وأما الأعراب -بالفتح-، فأهل البدو من العرب، الواحد أعرابي، وزاد الأزهري فقال: سواء كان من العرب، أو من مواليهم، قال: فمن نزل البادية، وجاور البادين وظعن بظعنهم، فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف، واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها ممن ينتمي إلى العرب، فهم عرب، وإن لم يكونوا فصحاء، وذكر حديث: "أحب العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي". فقال الشيخ مصطفى: هذا الحديث تكلم فيه. بيان ما أشار إليه: أن

الحديث رواه البيهقي في "الشعب"، والحاكم في "المستدرك"، والطبراني في "معجمه"، وكلهم من طريق يحيى بن بريد، وهو ممن يروي المقلوبات، وضعفه أحمد وغيره، وتابع يحمى على رواية هذا الحديث محمد بن الفضل ابن عطية، ومحمد بن الفضل متفق على ضعفه واتهامه بالكذب، فلا يصح للمتابعات، ولكن للحديث شاهد رواه الطبراني في "معجمه الأوسط" من رواية شبل بن العلا عن أبيه عن جده، عن أبي هريرة، مرفوعاً: "أنا عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي". وهذا الحديث ضعيف فقط، لا صحيح، ولا موضوع، ولا يثبت به أن كلام أهل الجنة عربي؛ إذ الأحاديث الضعيفة لا يكتفي بها في العلميات. وزرنا المكتبة العمومية، فرأينا فيها عدة من الكتب الغريبة، مثل: "القبس على موطأ مالك بن أنس"، "وترتيب المسالك على موطأ مالك"، هجت أسفاً على أني لم أتمكن من زيارتها إلا في آخر يوم من أيام إقامتنا، حتى إني لم أستوف مطالعة أنموذج الكتب بتمامه (¬1). ¬

_ (¬1) لم ينشر الإمام تتمة الرحلة في مجلة "السعادة العظمى"؛ لتوقفها عن الصدور، ولم نعثر عليها في مجلات أخرى، أو بين أوراقه. ومن خلال مطالعاتي لمجلدات مجلة "الهداية الإسلامية" وجدت في العدد السابع من المجلد الحادي عشر (ص 582) وتحت عنوان "الشيخ الأخضري صاحب السلم والجوهر المكنون" ما كتبه الإمام: هو من علماء بلاد الجزائر، ولد سنة عشرين وتسعمائة وبلغ من السن اثنين وثلاثين سنة بالوقوف على التاريخ معاينة، وأظنه توفي سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة، وقبره اليوم مشهور ويُزار في "ينطيوس" وهي قرية قريبة من بلدة بسكرة من عمل الجزائر. اطلعنا على هذا في نسخة محفوظة من شرح الشيخ محمد بن محمد بن علي بن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = موسى الشغري الجزائري للجوهر المكنون. وقد وقفت على قبره في القرية المذكورة في بعض رحلاتي إلى بلاد الجزائر. ملاحظة: هذا الشرح يؤكد أن الإمام محمد الخضر حسين زار الجزائر عدة مرات، وأنه زار ولاية "بسكرة" ومدينة "طولفة" التابعة لها وهي مكان ولادة والده الحسين وجده علي بن عمر. ولكن تتمة الرحلة -للأسف- لم نقع عليها. ذكرت هذه الملاحظة رداً على همسات في الجزائر. لماذا لم يقم الإمام بزيارة موطن آبائه وأجداده!

خلاصة الرحلة الشرقية

خلاصة الرّحلة الشرقية (¬1) اقترح عليّ جماعة من الفضلاء أن أحرر خلاصة في آثار رحلتنا الشرقية، فعطفت عنان القلم لمساعفة اقتراحهم، بعد أن رسمت له الوجهة العلمية والأدبية سبيلاً لا يحيد عن السير في مناكبها، ولئن لم يلتقط الناظر منها درة علمية فائقة، فإنها لا تخلو من أن تنبسط له بملحة أدبية رائقة، وإليك التحرير: سنح لي باعث على الرحلة إلى بلاد الشام، وهو زيارة الأهل؛ وفاء بحق صلة الرحم، فامتطيت الباخرة يوم الخميس الرابع من شعبان سنة 1330 هـ، وعندما أقلعت من مرساها، وأخذت المباني التونسية تتوارى عن أبصارنا، أخذ الحنو إلى الوطن يتزايد، وحرّ الأسف لمفارقة الأصحاب يتصاعد، حتى أصغيت إلى نفسي وهي تخاطب رائد السفينة بقولها: حادي سفينتنا اطْرَحْ من حمولتها ... زاد الوقود فما في طرحه خطر وخذْ إذا خمدت أنفاس مِرْجَلها ... من لوعة البين مقباساً فتستعر ¬

_ (¬1) نشرت هذه الرحلة في جريدة "الزهرة" التونسية بين العدد المؤرخ في 17 ربيع الثاني 1313 هـ - الموافق 25 مارس آذار 1913 م - والعدد المؤرخ في 20 جمادى الأولى 1331 هـ - الموافق 26 أفريل نيسان 1913 م. كما نشرت في مجلة "الحقائق" بدمشق- الأجزاء: العاشر والحادي عشر والثاني عشر من المجلد الثالث.

الوصول إلى مالطة

وإني لأدرك في مثل هذا الموطن دقة نظر إمام الحرمين حين قيل له: لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور بقوله: لأن فيه فراق الأحبة. * الوصول إلى مالطة: رست الباخرة على جزيرة "مالطة" عند مغرب يوم الجمعة، ولم نر من فائدة في نزولنا والليل قد ضرب أطنابه، قضينا ليلتنا على متن البحر، وانحدرنا صباحاً إلى المدينة التي هي مقر حكومتها، وتسمى: "فاليتا" (¬1)، فتجولنا في مناهجها المتناسقة، وشهدنا من خطاباتهم كيف تنحط العربية، وتندرس أطلال فصاحتها بين الأمة التي تجهل مكانتها، وتزهد في تعاليمها إلى أن تلتحم بأخلاط من لغة أخرى؛ فإن لغة أهل هذه الجزيرة عريية محرفة، وأكثر ما يتخللها قطع من اللغة الطليانية، وإنما انساقت إليها العربية حتى استولى عليها أبو الغرانيق محمد بن الأغلب سنة 255 هـ. ويشعرك بانتشار العربية وآدابها بينهم لذلك العهد: ما قصه المؤرخون من أن ملك مالطة صنع له بعض مهندسي بلده تمثال جارية يتعرف بها أوقات الصلاة، وكانت ترمي ببنادق على الصنج "قصاع الآبنوس!، فقال أبو القاسم ابن رمضان المالطي أحدُ شعرائها لعبد الله بن السمنطي المالطي، وكانت له براعة في صناعة الشعر: أجز هذا المصراع: "جارية ترمي الصنج" ... بها القلوب تبتهج فقال له: ¬

_ (¬1) عاصمة مالطة.

السفينة في مرسى الإسكندرية

كأن من أحكمها ... إلى السماء قد عرج وطالع الأفلاك عن ... سرّ البروج والدرج ثم عدنا إلى الباخرة حيث أزف رحيلها، وجعلت أنظر إلى زوارقها المزخرفة وهي تحوم حولنا واردة وصادرة، فوقع بصري على زورق يطوف به على جوانب السفينة سائل مقعد، فأراني إحدى رجليه نحيفة ملتوية، فقذفت له مسكوكاً، فالتقطه وهو يقول: بالسلامة بالسلامة. وحيث لم يتعرض لي قبل هذا سائل في زروق قلت: عهدت الذي يسعى على متن زورق ... إلى الرزق يدلي نحوه شرك الصيد وذا قانص في اليمّ يرمي إلى العلا ... حبالة أقوال فتظفر بالقصد * السفينة في مرسى الإسكندرية: بارحنا "مالطة" عند الزوال يوم السبت، واسترسلت السفينة على بحر صامت، ما عدا نسمات لينة تخطر علينا غسق الليل وأطراف النهار، حتى قدمت على مرسى الإسكندرية ضحوة يوم الأربعاء، فنزلنا منزلاً ألقينا فيه رحلنا، وبعد أن طفئت حرارة الهاجرة، خرجت صحبة رفيق يعرف شعاب المدينة، إلى أن وافينا باب مسجد، فجزته لأداء صلاة الظهر، وإثر ما قضيت الصلاة، جلس إمام المسجد مستنداً إلى أسطوانة، ودنا له طائفة من الناس، فقرأ لهم نبذة من كتاب "الشفا" العياض، مع بعض بيانات تدل على أنه ذو حظ من علوم الدين، ثم حان وقت العصر، وبعد أن انصرف من صلاتها، ألقى عليّ السلام متعرفاً لأثري، وعرض عليّ المبيت بمنزله في طرف البلد، فاعتذرت له بقصر مدة الإقامة، وقصد الاستطلاع على مناظر البلد ومعاهدها العلمية.

رسالة "الدعوة إلى الإصلاح"

امتطيت عربة أتت بنا على مكتبتها القائمة لإزاء إدارة البلدية، فطالعت صحائف متفرقة من نموذج كتبها، ولم يقع بصري فيما طالعته على كتاب نادر يستحق أن نذكره، ثم اجتزنا إلى متحف يقال له: "عمود السواري" يحتوي على تماثيل عتيقة، وعلى عمود قائم ذكر لنا الدليل المكلف باستطلاع الغرباء على المتحف أن ارتفاعه يبلغ ستًا وأربعين ذراعاً، وذكر المقريزي في "الخطط": أن ارتفاعه سبعون ذراعاً، وقال المقريزي أيضاً: ويذكر أن هذا العمود من جملة أعمدة كانت تحمل رواق أرسطاطاليس الذي كان يدرس به الحكمة. وقصدنا لزيارة مقام الشيخ الأبوصيري، ثم مقام أستاذه أبي العباس المرسي، ويتجمع حول هذين المقامين عدد وافر من الطائفة الظاهرة في زي المجاذيب. التقينا بالسيد حسن بن عياد من أهالي "جربة" القاطنين بتلك المدينة، وذهب بنا إلى ناد حافل يقال له: "المنشية" فقضينا به جانباً من الليل في أسمار مؤنسة، واستطلاع على مجامع متنوعة، وهيئات من الملابس المختلفة؛ فإن هذا النادي يأوي إليه السائحون من بلاد الشرق، ولا تتجافى عنه الطبقة العالية من الأهالي، ومما يذود عن جفنك الكرى هنا: أن باعة الجرائد يخترقون الصفوف والمجامع، وهم يصرخون بأسمائها، وأيدي القوم تتلقفها واحدة عقب واحدة. * رسالة "الدعوة إلى الإصلاح": وأبثّ الأسف هنا حيث لم يتمهد لنا التعارف بفضيلة العالم الأستاذ الشيخ السيد عبد الفتاح المكاوي أحد العلماء بمشيخة الإسكندرية قبل مقدمي

الطريق إلى القاهرة

هذا، حتى أحظى بسعادة لقائه؛ فإنه بعث لي رسالة بعد، وأنا حينئذ بدمشق، خاطبني فيها على أن أوجه له بنسخة من رسالتنا: "الدعوة إلى الإصلاح"، فما لبثت أن قدمتها لفضيلته بواسطة البريد، فطالعها بعين الكرم، وتفضل -حفظه الله- بالكتاب الذي قصرت اليراعة أن تبسط باعها بما يستوجبه من الشكر، ونصه بعد الديباجة: "فقد تلقيت خطابك السامي، ورسالتك الداعية إلى الإصلاح والخير والفلاح، وبمطالعتها علمت أن الإسلام لم يعدم أنصاراً، ولم يزل للإرشاد دعامة هي الخير الدعامات، قلتَ فبرهنت، ودعوت فسددت، وأحييت سنّة الخلفاء والمصلحين، فربطت بهذا آخر العالم الإسلامي بأوله، ولا يسعني إلا تهنئة الحاضرة التونسية بك، بل الأقطار الإفريقية، بل الممالك الشرقية، وإني وايم الله! لقد امتلأ قلبي سروراً، وأفعم فرحاً من تعاليم جامع الزيتونة؛ حيث انتخبت مفكراً وعالماً دينياً بصيراً مثلك، ولقد ضاقت عليَّ سبل الشكران، أأشكرك على ما قدمته للإسلام والمسلمين من براهينك الساطعة، وحججك الدامغة؟ أم أشكرك على ما أهديته للحركة الفكرية العصرية مما تلقته البصائر بالإجلال والإعظام؟ أو على عنايتك الكبرى بتبديد الخرافات التي علقت بأفئدة سواد كثير من المسلمين؟ أو على شجاعتك المتناهية في إزالة سحب الجهالات التي أخرتنا إلى الوراء أميالاً ليست بقليلة؟ أو أشكرك على إهدائك لي ما أعده ذكراً حسناً، وأثراً خالداً؟ ". * الطريق إلى القاهرة: باكرنا يوم الخميس إلى القطار المصري، فانطلق يهرع ما بين أشجار وأنهار، ومزارع وقرى، منها: دمنهور، وطنطا، وبنها العسل. وأسماء الأماكن

زيارة مساجد ومعاهد القاهرة

التي يقف عندها القطار مرسومة بالقلم العربي، وباعة الصحف والمتكففون يلجون عربات الرتل، ويتحولون فيها المسافة البعيدة مجاناً. * زيارة مساجد ومعاهد القاهرة: وصلنا إلى مصر، وتبوأت بيتاً في قصر يسمّى: "الكلوب المصري"، ثم هويت من المنزل يرافقني السيد محمد القديدي القيرواني، ودرجنا إلى مسجد سيدنا الحسين - رضي الله عنه -، وفيه منفذ للمكان الذي اشتهر أنه مشهد رأسه الشريف، ورأيت زوّار هذا المسجد وزائراته كيف يزدحمون على بابه ما بين وارد وصادر، وللعلماء بالروايات مقال في هذا المشهد الحافل، فإن منهم من يقول: إن مدفن رأس الحسين - رضي الله عنه - بعسقلان (¬1)، ولعلنا نقص أثر هذا المطلب في مقام آخر. ثم توجهت إلى زيارة المعهد العلمي الشهير بالأزهر، ولما وافيته، نهض لي زمرة من التلامذة تونسيون وجزائريون، وكان بعضهم ممن تقدم له الحضور بالدروس التي نلقيها بالمعهد الزيتوني، فطافوا بنا في زوايا الجامع وحواشيه، ثم جلسنا برواق المغاربة مدة وجيزة، وأزمعت على الإياب تخلصاً من متاعب السفر، فالتمسوا مني العودة لزيارتهم مساء. وجنح بنا السبيل إلى منزل صديقنا السيد الشريف بن حمودة، فلما وقع بصره على رؤيتنا، انطلق لسانه بعبارات الترحاب والإعجاب، فلبثنا لديه ساعة أنس خففت عنا معظم ما مسنا من النصب، ثم آويت إلى محل الإقامة. اكتفيت بحظ من الراحة يسير، وانصرفت لإنجاز الموعد الذي أخذه ¬

_ (¬1) مدينة على الساحل الفلسطيني.

صلاة الجمعة بالأزهر

مني التلامذة، فقضينا أمداً في محاورة علمية بحسب ما تجذب إليه المناسبة، ثم ذهبنا نتجول في المناهج والأسواق، ومن رفقائنا: الشيخ محمد الصالح الشواشي، والسيد محمود بن رشيد التونسي، حيث برزنا إلى جسر ممدود على وادي النيل، وعبرناه إلى حديقة ناضرة، فذكرت قول صلاح الدين الصفدي: رأيت في أرض مصر مذ حللت بها ... عجائباً ما رآها الناس في جيلِ تسودّ في عيني الدنيا فلم أرها ... تبيضّ إلا إذا ما كنت في النيل وقلت: عبرت على جسرٍ أرى النيل تحته ... إلى روضة فاشتقت منْهَلَ زغوانِ (¬1) صراط وفردوس وسلسال كوثرٍ ... وما قيظُ أشواقي سوى وهج نيرانِ * صلاة الجمعة بالأزهر: شهدت صلاة الجمعة بالجامع الأزهر، والخطيب من أبناء الشيخ السقا صاحب الخطب الشهيرة، فكان موضوع الخطبة: فضل ليلة النصف من شعبان، ولكنه ألقاها بصوت جهير في هيئة مرتجل دون أن يمسك في يده ورقة، وحينما شرع في دعاء الخطبة الثانية، أخذ ينزل من موقفه الأعلى، فانتهى من الدعاء عند الدرجة السفلى من المنبر. أجبنا دعوة الشيخ محمد عبان القيرواني، وناولنا كؤوساً من الشاهي، وهو يلتمس العذر؛ كأنه يعد نفسه مقصراً في الضيافة، فأنشدته قول الصاحب ابن عباد: ¬

_ (¬1) نهر زغوان في تونس.

مسامرات علمية

نسائلكم هل من قرى لنزيلكم ... بملء جفون لا بملء جفان * مسامرات علمية: التقينا مساء هذا اليوم بأساتذة أزهريين، أحدهم: الشيخ الزنتاتي من طرابلس الغرب، وأتى في المذاكرة الحديث عن الشيخ ابن عرفة، فقال ذلك الأستاذ: إن الفخر به لأهل طرابلس؛ لأن قبيلة الشيخ لذلك العهد كانت من ملحقات طرابلس، فقلت له: إنما يعود فخره إلى التونسيين؛ لأن نشأته الأدبية وحياته العلمية إنما كانت في تونس. * الصلاعة: وجرى في المحادثة لفظة: "صلاعة" على معنى: الاستراحة من التعليم، فقلنا: هي كلمة في أصلها عربية، قال في "القاموس": صِلاع الشمس؛ ككتاب: حرّها. وأيام الاستراحة هي أوقات الحَرّ غالباً. والكلمة الشائعة في معنى الاستراحة من التعليم عند كثير من أهل الجزائر، ولا سيما المتخرجين من المدارس هي لفظ: "فكّانس"، وهي حرف فرنسوي. * إنا أنزلناه في ليلة مباركة: دعانا الشيخ إبراهيم صمادح أحد المجاورين بالأزهر للسمر عنده ليلة يوم السبت، فقضينا نصف هذه الليلة في أسمار علمية، ومحاورات أدبية، ممن جاذبنا أطرافها: الشيخ أحمد أمين الشنقيطي أحد العلماء الذين تجولوا في بلاد الشام والحجاز، والشيخ عبد المعطي السقا أحد المدرسين بالأزهر. وفيما طرح من المباحث بمناسبة خطبة ذلك اليوم: تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3]. حيث ساق بعض الخطباء الآية في فضائل ليلة النصف من شعبان كما

درس في التفسير

ينقله بعض المفسرين عن عكرمة، وأوردنا في هذه المذاكرة إنكار أبي بكر ابن العربي لهذا التفسير، وتحقيقه: أن المراد من الليلة المباركة: ليلة القدر، وهي التي يفرق فيها كل أمر حكيم. واتصل الكلام بالبحث في البدعة، وسقنا تحرير أبي إسحاق الشاطبي في ضابطها، وهو أن يكون السبب الذي استند إليه العامل قائماً زمن شرع الأحكام، ويسكت عنه الشرع، ولا يقرر له حكماً. ويصح أن يضرب المثل لهذا بصلاة الرغائب، فقد ألف الشيخ عز الدين بن عبد السلام رسالة وضح فيها أنها بدعة. وهذا مما لا تدخله الريبة؛ فإنه إذا ثبت أن الحديث الذي يروي في شأنها موضوع، كما حقق ذلك أبو الفرج بن الجوزي، انطبق عليها أنها عمل لم يحدث له موجب، ولا ورد فيه أثر عن صاحب الشريعة، وهذا بخلاف ما يكون السبب الموجب له طارئاً بعد زمن الوحي؛ كتدوين علم العربية، وجمع القرآن في المصاحف. * درس في التفسير: سايرني بعد أن انتثر عقد المجلس بعض التلامذة، واقترحوا عليّ إقراء درس من التفسير، وحكوا أن لغيرهم من أهل العلم حرصاً أكيداً على هذا الاقتراح، فبسطت إليهم بمعذرة أني قد ربطت العزم على الرحيل صبيحة يوم الأحد، فقالوا: يمكن أن نعيِّن لميقات الدرس عشية غد، ونكتفي بالمقدار الذي يتيسر جمعه وبيانه، والغرض إنما هو المحافظة على سنّة الكثير من أهل العلم حيث يمرون بالأزهر، فما وسعني إلا أن ساعدت مرغويهم، فأحضروا "تفسير القاضي البيضاوي"، ووقع الاختيار على أن يكون موضوع الدرس: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] إلى آخر الآية.

تعليم الصبيان

افتكرت في المنهج الذي نتبعه في تحرير الدرس، فسبق لي استحسان إبرازه في الأسلوب المتعارف في جامع الزيتونة، فلا أسلّ يدي من تقرير ما يناسب من مباحث عربية أو أصولية، أو أحكام فرعية؛ لأن المقترحين للدرس أزهريون. أتينا صباح يوم السبت على المسجد الذي ابتدعه عبد الرحمن بن الشيخ عليش - رحمه الله - وشاهدنا بأعيننا ما رسمه في أعلى مفتحه بالقلمين الأفرنجي والعربي، وأنكره عليه علماء الإسلام. ثم مضينا للوفاء بموعد الشيخ عبد المعطي السقا، فجاز بنا إلى داخل منزله، وأهداني كتاباً حافلاً ألَّفه فضيلة جده المنعم في فضل عمارة المساجد، وللشيخ عبد المعطي عناية كبرى بالفحص عن التآليف النادرة، والسعي الحثيث في تحصيل ما نشرته المطابع في البلاد القاصية. وقد تفضل عليّ بردّ الزيارة، فاتفق أن كنت في خارج المنزل، فكتب بطاقة يشعرني فيها بزيارته، ويتأسف لعدم الملاقاة، وأودعها لدى ناظر "الكلوب". * تعليم الصبيان: ذهبت إلى الجامع الأزهر لأذان العصر، وانتدبت للتحية مكاناً بين مجمعين لتعليم القرآن، فانشق صدري أسفاً لأحد المعلمين؛ إذ كان لا يضع العصا من يده، ولا يفتر أن يقرع بها جنوب الأطفال وظهورهم بما ملكت يده من القوة، وربما قفز الصبي آبقاً من وجع الضرب الذي لا يستطيع له صبراً، فيثب في أثره بخطوات سريعة، ويجلده بالمقرعة جلداً قاسياً، حتى قلت لأزهري كان بجني: من جلس إزاء هذه المزعجات، فقد ظلم نفسه. وذكرت أني كنت ألقيت خطبة في أدب تعليم الصبيان ببلد بنزرت (¬1) حالما كنت ¬

_ (¬1) مدينة على الساحل التونسي تولى الإمام القضاء فيها عام 1905 م.

إلقاء درس في التفسير

قاضياً بها، وأدرجت فيها ما قرره صاحب "المدخل" من الرفق بالصبي، وعدم زيادة المعلم إن اضطر إلى ضربه على ثلاثة أسواط، وتحذيره من اتخاذ آلة للضرب مثل عصا اللوز اليابس، والفلقة. ولما خطبت في هذه الآداب، أرسل لي بعض المعلمين كتاباً على طريق البريد يعترض فيه على نشر هذه الآداب، ويقول: إن هذا مما ينبه قلوب التلامذة للجسارة علينا. وكان أمامي في هذه الجلسة تلميذان يتفاهمان كتاباً في العربية يطالعانه، بمقربة منهم تلميذ ثالث، حتى أتيا على قول الشاعر: . . . . . . . . . . . . . . ... على أن فاها كالسلافة أو أحلى فقال أحد التلميذين: السلافة: الخمر، فقال له ذلك التلميذ الذي هو بمعزل عنهما: السلافة: حيوان، فأعاد عليه الأول القول بأنها الخمر، وكرر الآخر القول بأنها حيوان، فقال له صاحبه منبهاً له على وجه خطئه: "أو أحلى، أو أحلى! "، فرجع وقال: السلافة شيء ضيق، قال هذا ليلائم تشبيه الفم بها، وأظنه اشتبه عليه أولاً لفظ السلافة بالسلحفاة. * إلقاء درس في التفسير: سبق في ظني أن مقترحي الدرس قصدوا أن يكون إقراؤه برواق المغاربة، فانصرفت بعد صلاة العصر متوجهًا لذلك الرواق، فأنبؤوني بأنهم اختاروا أن يكون بوسط الجامع، وعرضوا عليّ منصة بعض الأساتذة، فلم يسعني إلا أن أجلس حيث عزموا. أقبلت قبل الشروع في تقرير الدرس على تلميذ أعرفه بحفظ القرآن، وصرفِ الهمة في تجويده، واقترحت عليه أن يجهر بتلاوة الآية؛ ليسمعها الحاضرون، فمنعه الحياء، وتقدم تلميذ آخر، فرفع بها قراءته، ورتلها ترتيلاً.

ونودع في هذه الخلاصة جملة من المباحث التي أوردناها في تفسير الآية، عسى أن تكون أنظار بعض القارئين قد طمحت إلى الإلمام بمقاصدها. قررنا في فاتحة الدرس قول الشيخ ابن عرفة: "من الناس من ينظر في وجه المناسبة بين الآية وما قبلها؛ كابن الخطيب، ومنهم من لا يلتزمه في كل آية؛ كالزمخشري، وابن عطية، ومنهم من يمنع النظر في ذلك، ويحرمّه؛ لئلا يعتقد أن المناسبة من إعجاز القرآن، فإذا لم تظهر المناسبة للناظر، وهم في دينه، ووقع له خلل في معتقده"، وعلقنا عليه: أن هذا الاختلاف إنما يقع لهم في الآيات التي لم تقترن بنحو حرف العطف؛ إذ يمكن الاكتفاء في بعضها بأن اتصال الآية بما قبلها معتبر فيه الترتيب بينهما في النزول الوارد على حسب الوقائع والحاجات، أما إذا اتصل بها حرف الوصل، كهذه الآية، فتطلُّب المناسبة متعين؛ لأن رعايتها حينئذ داخلة في حقيقة البلاغة التي هي الركن الأعظم في الإعجاز. ثم أتينا على عقد المناسبة بين هذه الآية وما قبلها. ثم انتقلنا إلى بيان قول القاضي في تفسير الآية: "لا يستقيم للمؤمنين أن ينفروا جميعاً لنحو غزو، أو طلب علم، كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعاً؛ فإنه يخل بأمر المعاش". والبيان: أما خطر انصراف الناس قاطبة إلى اجتناء ثمر العلوم، وإخلاله بمطالب حياتهم، فلأن الإنسان يفتقر في تحصيل معاشه ووسائل بقائه إلى مساعدة أبناء جنسه، ولا يستطيع أحد أن يقوم بها وحده، وإن بلغ أشدّه في استقامة البنية، وسعة الفكر، فإذا نفر الشعب بحذافرهم، وولوا وجوههم شطر الارتواء من العلم، ضاعت واجبات اجتماعهم، وانتقضت عليهم قواعد العمران من زراعة وصناعة وتجارة.

وأما تخلفهم جميعاً، وقعودهم عن الرحلة في طلب العلم، فإنه يخل بنظام العيش من جهة أن جهل القبيلة بما أرشدت إليه الشريعة من العقائد والأخلاق، وخلوّها عما فصّلته من قوانين الاجتماع وضروب السياسات، يفضي إلى انتشار المفاسد، واشتعال نار الفتن مثلما كانت عليه حال العرب في جاهليتها، ولا تخالجنا الريبة في هذه الحقيقة، متى شاهدنا انتظام شؤون العمران، وتوفر أسباب الراحة لدى بعض الأمم العارية عن الصبغة الدينية، فإنها ما وصلت إلى تلك التراتيب التي ضربت بها أطناب الأمن والسكينة، إلا بعد أن فتحت أعينها في نظامات الشرائع السماوية، أو اقتدت على آثار الأمم المتدينة. وفضائل العبادات أيضاً لها مدخل في انتظام العيش بمعنى: قرار النفس، ورضاها عما سخر الله لها من العيش، وهذا يعتبره الإنسان من نفسه متى نظر إلى حالته، وهو ملتفت بقلبه إلى زخارف الدنيا، وقاسها بحالته إذا أقبل بسريرته على ما يقربه إلى فاطر السموات والأرض؛ فإنه يجد في هذه الحالة من لذة اليقين، وراحة الخاطر ما يكشف له عن كدر كان يمازج قلبه، وحزازة هي أثر القساوة والإعراض بجانبه عن الطاعة، فيرى أن العيش المنتظم على الحقيقة إنما هو عيش الفائزين بهداية الدين علماً وعملاً. وعبر في الآية بالمؤمنين دون الناس؛ لأن الآية مسوقة للحثّ على القيام بعمل، والأعمال إنما يرجى الامتثال فيها من المؤمنين، ولو كان الأمر هنا بواجب من العقائد، لناسبه التعبير بنحو: الناس. وقد قرر بعض المفسرين -فيما أعهده-: أن من عادة القرآن التعبير بمثل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] إذا كان المخاطب به مما يرجع إلى أصل من أصول الدين، فإذا كان المأمور به

فرعًا من الفروع، صدر الخطاب بنحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104]. أو يقال: إن ذكر المكلفين هنا بوصف الإيمان؛ لمقوية داعيتهم، وإغرائها على العمل بأسلوب لطيف؛ فإن في تسميتهم بالمؤمنين تلويحاً إلى صفة الإيمان بالله من شأنها أن تبعث على حسن الطاعة، والمسارعة إلى امتثال أوامره. وتعرضنا عقب هذا إلى البحث في لفظة: "كافة"، فقررنا أن ابن هشام ذهب في "مغني اللبيب" إلى أنها من الأسماء التي لا تخرج عن النصب على الحال، وخطأ الزمخشري في قوله بخطبة "المفصل": "محيطاً بكافة الأبواب"، وقد صحح الشهاب في "شرح درة الغواص": أنها لا تلزم النصب على الحالية: ومما استشهد به القائلون بانفصالها على الحالية: قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:، قد جعلت لآل بني كاهلة على كافة بيت مال المسلمين لكل عام مئتي مثقال ذهباً إبريزاً". قال الدماميني: إن صح هذا، سقط القول بملازمتها للنصب على الحالية. وتعليق الدماميني مفارقة "كافة" للحالية على صحة الأثر مما جرى فيه على سنن التحقيق؛ فإن المحرر في الأصول العالية لعلم العربية: أن الكلمة إذا وردت في محل، ولم يسمع استعمالها في غيره، فإنما تطرد في الموضع الذي سمعت فيه، ولا يقاس عليه غيره من المواضع، ومن هذا تخصيصهم: "فل، ولومان، ونومان" بالنداء، ونحو: "قط، وعوض" يختصان بالظرفية، وبنى على هذا الشيخ ابن الحاجب أن لفظة "كل" إذا أضيفت إلى الضمير، لم تستعمل في كلامهم إلا توكيدًا، أو مبتدأ، فيمتنع

جعلها مفعولاً به، أو فاعلاً. ثم قلنا: ويندرج في التفقه في الدين: تعلم ما يرجع إليه من أحكام وعقائد وأخلاق، وأما إطلاق الفقه على معرفة الفروع خاصة، فعرْفٌ حادث بعد نزول القرآن، فلا يصح تفسير الآية به؛ فإن القرآن أنزل بلسان عربي؛ ليتمكن العرب من فهمه، فينتفعوا بالعلم به في أنفسمهم، ويبلغوه إلى غيرهم من الأمم لعلهم يتذكرون، وهذه الحكمة تستدعي أن يكون الكتاب جارياً في سائر استعمالاته على المعاني المألوفة لهم في موضوعات لسانهم، وأساليب كلامهم، وإذا ألقى إليهم قولاً مجملاً، أو كلمة لم يسبق لهم علم بمدلولها، لم يتمادوا على الجهل بها، وتعلموا بيانها عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فإذا لم تكن الكلمة معهودة الاستعمال في معنى وقت الوحي، ولم يعينه صاحب الشريعة في بيانها امتنع حملها عليه، وبهذا يظهر عدم صحة ما قاله بعض البيانيين في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء: 22] إلخ الآية، من أن استعمال "لو" في الاستدلال بامتناع الفساد على امتناع تعدد الآلهة وارد على قاعدة أهل المعقول، والصحيح ما قاله الشيخ ابن الحاجب من أنه استعمال عربي فصيح، كما لا يستقيم قول بعض الكاتبين على قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس: 69]: إن المراد: الشعر الذي هو أحد أقسام القياس، وقد أنكر الشيخ ابن تيمية على من فهم التأويل في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران: 7] على معنى صرف اللفظ عن المعنى الراجح لدليل يقترن به؛ لأنه معنى اصطلح عليه طوائف من المتأخرين، ولم يكن معروفاً للسلف بهذا الوضع، بل مسمّى التأويل في لغة القرآن هو نفس المراد بالكلام من الأمور الموجودة في الخارج.

ثم قررنا تفاوت العلوم في الشرف، واستطردنا أن الإقبال على العلم أفضل من الاشتغال بالعبادة لوجهين: أحدهما: أن مصلحة العبادة خاصة، ومصلحة التعليم عامة، وما له مصلحة عامة أشرفُ مما مصلحته خاصة. ثانيهما: أن في التعليم درء مفسدة، وفي العبادة جلب مصلحة، ودر المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولا سيما ما يدرأ الخلل في الدين، قال ابن جماعة في "كشف المعاني" عند قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]: المستعاذ به في هذه ثلاث صفات، والمستعاذ منه شيء واحد، وهو الوسوسة، والمستعاذ به في السورة قبلها صفة واحدة، والمستعاذ منه أربعة أشياء؛ لأن المطلوب في سورة الناس: سلامة الدين من الوسوسة القادحة فيه، والمطلوب في سورة الفلق: سلامة النفس والبدن والمال، وسلامة الدين أعظم وأهم، ومضرته أعظم من مضرة الدنيا، فموقع الدين من النفوس شديد، ولهذا كان تأثيرها للاستخفاف بشأنه، أو تحريف بعض حقائقه فوق كل تأثير، وانظروا إلى فرعون لما أراد صرف وجوه القوم عن اتباع موسى - عليه السلام - كيف قدّم لهم التخوف منه على تبديل دينهم، فقال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر: 26]. هذا في دين يفتضح صاحبه لأول كلمة ترمى لإبطاله، فما بالكم بدين كشف عن صفاء فطرته كتاب حكيم، وخضع لسطوته كل فكر مستقيم. ثم أوردنا -بعد تقرير ما أمرت به الآية من تعلم أحكام الدين- قول العضد في خطبة "المواقف" ناقلاً عن بعض الأئمة: إن المراد من الاختلاف في حديث: "اختلاف أمتي رحمة": اختلاف هممهم في العلوم، فهمّة واحد

في الفقه، وهمّة آخر في الكلام، كما اختلفت همم أصحاب الحرف؛ ليقوم كل واحد بحرفة، فيتم النظام، وعلقنا عليه: أن الذي يحمل الحديث على هذا المعنى يقصد التباعد من فهم الأثر على معنى: اختلاف الأمة في آرائها، ولا يرضيه أن تدخل الرحمة من ناحية اختلاف الآراء، ولو في الفروع؛ لأن نصوص الشريعة طافحة بالنهي عن الاختلاف بإطلاق، وذوو الاجتهاد مأمورون ببذل الوسع في إزالته، والتلاقي في مذهب واحدة كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} [النساء: 59} إلخ الآية، لكنهم إذا أفرغوا جهدهم في البحث عن الأدلة، وأمعنوا النظر فيها بقصد الوصول إلى ما هو حق، ثم أدركهم العجز عن الاتفاق، فالعذر قائم، وباب العفو مفتوح، والعفو عن هذا الاختلاف وعدم مؤاخذتهم عليه لا يقتضي أن في الخلاف رحمة، وأنه أصلح من الوفاق، وأسعد من تضافر الآراء على مذهب. نقلت قول القاضي: أن في الآية إيماء إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم من العلم: أن يستقيم، ويقيم غيره، وتخلصنا منه إلى أن أعظم درجات الإنسان وأشرفها أن يكون كاملاً في نفسه، ومنبعاً يتدفق منه الصلاح والكمال إلى غيره. ووصلنا هذا بنكتة لطيفة أعهدها لبعض المفسرين عند قوله تعالى: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] وهي أنه وقع تشبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسراج دون أن يمثله بنحو القمر الذي هو أغزر نوراً؛ لأن القمر يضيء في نفسه، ولا يمكن أن يستمد من ضوئه عدة أجرام تكون مضيئة في نفسها؛ بخلاف السراج، فإنه في ذاته، ويمكن أن يقتبس منه سرج لا يشملها الإحصاء، فالتمثيل به أو فى بالمراد، وأقرب مطابقة لحاله - عليه الصلاة والسلام -.

أتينا هنا على أن المنذر يتعين عليه أن يتحرى في إنذاره؛ بحيث لا يستند فيه إلا إلى علم صحيح من آية، أو حديث ثابت، أو نص من يقتدى به من الأئمة، وخرجنا منه إلى جريمة الحكم بغير ما أنزل الله، وقررنا ما نعهده للرازي في آية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ} [المائدة: 44] وفيما نقلناه من الأجوبة عن آية: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]: أن المشار إليهم بالكفر هنا من حكموا بغير ما أنزل الله معتقدين أن ما قضوا به أوفق بالسداد، وأحفظ للمصالح. وأدرجنا هنا دقيقة للشيخ ابن عرفة، وهي: أن أسلوب الآية أبلغ من أن لو قيل: "ومن حكم بغير ما أنزل الله"؛ فإن هذه العبارة لا تتناول من تقدم إليه الخصمان بقضية، فأهملها، وهو يستطيع فصلها؛ بخلاف الآية؛ فإنها تتناول من حكم في القضية بالباطل، ومن أبي الحكم فيها بما أنزل الله، وسكت، وهو منتصب في مقام الفصل بين الناس. انتقلنا إلى أن للإنذار بالقرآن تأثيراً بالغاً على النفوس؛ بحيث لا يقوم كلام البشر مقامه، وإن ارتقى من البلاغة ذروة سامية. واستطردنا مقالة نفيسة لصاحب "المنهاج"، وهي: أن الله تعالى خصّ القرآن بأنه دعوة وحجة، ولم يكن مثل هذا لنبي قط، إنما كان لكل واحد منهم دعوة، ثم يكون له حجة غيرها، وقد جمعها الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في القرآن، فهو دعوة بمعانيه، حجة بألفاظه، وقلنا عقب هذا: إن القرآن حجة بمعانيه أيضاً؛ فإن استقامة سائر ما احتوى عليه من القضايا، وانطباقها بجملتها وتفاصيلها على مناهج الحكمة، ورسوم السياسة العادلة، يدل دلالة مثل فلق الصبح على أنه وحي سماوي، وأنه بريء من أن تبتدعه أفكار البشر، وبهذا يمكن للعجم الذين لا يحسنون

العربية أن يدركوا وجهاً من إعجازه متى نقلت لهم معانيه الأولية بترجمة محررة. ثم قررنا عند قوله: {قَوْمَهُمْ} [النساء: 90]: أن إضافة القوم هنا للعموم، ومعلوم أن الجمع المضاف من صيغ العموم، فتفيد الآية: أنهم ينذرون بما تعلموه من الفقه كل فرد من أفراد قومهم، فيبطل ما يزعمه بعضهم من أن لأهل التصوف أحكاماً خاصة يتلقونها بطريق الباطن. قال أبو إسحاق الشاطبي: لم يشرع الله تعالى إلا ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتلقاه منه الصحابة، ثم العلماء. والتصريح بإبطال أن يكون للعارفين بالله أحكام تخصهم فيه سد لباب الخروج عن تقاليد الشريعة، زيادة على كشفه عن الحقيقة؛ فإن فتح هذا الباب يفضي أن ينبذ كثير من الناس الجادة، بدعوى: أنهم بلغوا درجة الولاية، وأنهم متعبدون بأحكام باطنة، وأهل التصوف الخالص أنفسُهم يصرحون بهذا. قال الإمام الجنيد -حسبما نقله الزركشي في شرح "جمع الجوامع"-: من لم يحفظ القرآن، ويكتب الأحاديث، لن يقتدى به في هذا الأمر؛ لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة. ذكرنا استدلالهم بالآية على أن خبر الآحاد حجة، ثم قلنا: اشتهر بين الأصوليين أن خبر الآحاد حجة في العمليات، وأما المسائل العلمية، فلا يتمسك فيها إلا بقاطع، قال الإمام في "المحصول": إن ورد خبر الآحاد في مسألة علمية، وليس في الأدلة القاطعة ما يعضده، رد، وإلا، قبل. واختار الشيخ ابن عرفة أن المسائل العلمية التي لا ترجع إلى العقائد يكتفى فيها بالأدلة الظنية؛ كخبر الآحاد، وإنما يشترط القطع في العمليات الراجعة إلى العقائد الإيمانية.

واستطردنا هنا مسألة اعتراض خبر الآحاد لقاعدة كلية، وأوردنا في مساقها ما ذكره أبو بكر بن العربي في تفصيل مذاهب الأئمة الثلاثة، وهو قوله: إذا جاء خبر الآحاد معارضاً لقاعدة من قواعد الشرع، هل يجوز العمل به، أو لا؟ فقال أبو حنيفة: لا يجوز العمل به، وقال الشافعي: يجوز، وتردد مالك في المسألة، ومشهور قوله، والذي عليه المعول: أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى، قال به، وإن كان وحده، تركه؛ كحديث العرايا؛ فإنه صادمته قاعدة الرب، وعاضدته قاعدة المعروف. وأتى بنا سؤال من أحد الحاضرين إلى معنى القاعدة ومأخذها، فقلنا: هي قضية تنتزع من دلائل متفرقة في الشريعة حتى تكون قطعية في نفس من استقرأها من المجتهدين؛ كقاعدة: ارتكاب أخف الضررين، فمن مأخذها قوله تعالى: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] فإن إعابة السفينة ضرر، ولكنه أخف من أخذ الملك لها بسلطة غاصبة، ومن منازعها حديث الأعرابي الذي جعل يبول في المسجد، وزجره بعض الصحابة، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزرموه"؛ فإن بوله في المسجد ضرر، إلا أنه أخف من الضرر الذي ينشأ من إمساكه عن البول قبل فراغه. وجئنا في تفسير: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122} على اختلافهم في حرف الترجي الواقع في كلام الله تعالى؛ فإن منهم من يخرجه على معنى التعليل؛ كما ذكره ابن هشام في "مغني اللبيب"، ومنهم من يصرفه إلى المخاطبين؛ كما نقله صاحب "الإتقان" عن سيبويه؛ حيث قال في معنى قوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: 44]: اذهبا على رجائكما وطمعكما. ويجري على هذا كل ما فيه حرف تَرَجٍّ، نحو قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189].

الاجتماع بأهل العلم والفضل

وكان بعض التلامذة حين شرعت في إقراء الدرس قائمين على أقدامهم من ورائي يوردون أسئلة، ويطالبون إعادة بعض التقارير، وما لبثوا أن انقلبوا إلى السكينة والإصغاء، وكانوا يلهجون عند الاستحسان بكلمة: "كويس" تصغير كيّس. * الاجتماع بأهل العلم والفضل: رافقني بعد انفصالنا عن الدرس طائفة من التلامذة، فمررنا بمنزل كان أحد الجلساء به الأستاذ الشيخ الزنتاني، فوقف موقف التحية، وحدثه أحد الرفقاء بما كنا بصدده من قراءة التفسير، فتوجه لي وقال: قد أحييت سنّة الشيخ ابن عرفة، فذكر له الرفيق: أن الدرس أيضاً يحتوي على مباحث متعددة منقولة عن الشيخ ابن عرفة. تفضل عليّ بالزيارة في هذا المساء السيد شرف أحد الأعيان في عائلة أشراف مكة المحترمة، فمثّل لنا بعلو همته، وسلاسة أخلاقه كيف تكون همم بني هاشم وآدابهم، ثم أخذ بيدي حتى امتطينا عربة سارت بنا لإجابة دعوة السيد الشريف بن حمودة، ولما انقضت المسافة، ضرب كل منا بيده إلى كيسه ليتولى خلاص أجر الركوب عن سائر الجماعة، فكانت يد السيد شرف أسرع في فتح الكيس ومناولة الدراهم لسائق العربة، وأكد علينا أن نرد إلى الأكياس بضائعها، فقال له الشيخ محمد الصالح الشواشي على وجه الدعابة: لا تقسم علينا أيها الشريف متطاولاً، فنحن أشراف أيضاً، فتبسم منبسطاً لهذه الجسارة المشعرة بسلامة الضمير وحريته. وقد تذكرت بهذه المداعبة ما كتبه الشريف الرضي إلى الإمام القادر بالله، وهو:

زيارة بورسعيد

عطفاً أمير المؤمنين فإنّنا ... في دوحة العلياء لا نتفرّق ما بيننا يوم الفخار تفاوتٌ ... أبداً كلانا في المعالي مُعرقُ إلا الخلافةَ قلّدتك فإنني ... أنا عاطلٌ منها وأنت مُطَوَّقُ مضى لنا مع الشرف والشريف مجلس أنس يحاكي نسيم الأسحار، إذا جاءت متضمخة بنفحات الأزهار، ولكننا مررنا عند إيابنا بامرأة جالسة بقارعة الطريق، والناس ملتفة حولها وهي تتلو القرآن بصوت رخيم. أخذ مني الأسف مأخذه، لما قدمت على المعهد الأزهري حين طويت منه محاضر الدروس، وبرز أساتذته العظام لقضاء أمد الراحة الصيفية في أماكن الرياضة ومهابِّ النسيم، ولم يتفق لي أن أشاهد محضرة درس بهذا الجامع العظيم، وأنبأني التلامذة بأن سائر دروس الجامع معطلة، ولا يقرأ به في هذه الأيام ولو درساً واحداً. * زيارة بورسعيد: سافرت صباح يوم الأحد إلى (بور سعيد) (¬1)، ومررنا على جانب من فتحة السويس التي وصلت البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، وحقّ لي عندما بلغت إلى مجمع هذين البحرين أن أذكر بيتين كان العلامة البليغ صاحبنا الشيخ السيد محمد الطاهر بن عاشور (¬2) قد أرسلهما إليّ في بطاقة يدعوني بها إلى زيارته حيث حل بحضرته اثنان من أولي العلم والأدب، وهما: ¬

_ (¬1) مدينة "بورسعيد" على قناة السويس. (¬2) من كبار علماء تونس، ومن الأصدقاء الأوفياء للإمام. انظر ترجمته في كتابه: "تونس وجامع الزيتونة".

تألقت الآداب كالبدر في السحر ... وقد لفظ البحران من موجها الدُّرَرْ فما لي أرى منطيقها الآن غائباً ... وفي مجمع البحرين لا يفقد الخَضِرْ شأن القرآن في سرد القصص وضربها أمثلة الاكتفاء بماله مدخل في الموعظة والاعتبار، فتجده -في الغالب- لا يصرح بأسماء الأماكن التي تجري فيها الوقائع؛ كقصة ملاقاة موسى للخضر - عليهما السلام -؛ فإنه لم يعين المراد بمجمع البحرين؛ حيث لا ينبني على التعيين فائدة في الإرشاد؛ لأن الحكمة من مساق هذه القصة: التذكير بما اشتملت عليه من المحامد والآداب؛ كسفر العالم للازدياد في العلم، وتكبده المشاق في السير له، ولو بعدت المسافة سنين؛ فإن موسى - عليه السلام - يقول: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60] , والإيماء إلى أن التوكل: اعتماد القلب على الله، لا في نكث اليد من الأسباب؛ فإنه - عليه السلام - حمل معه الزاد، ودلّ على هذه بقوله: {آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 62] إلى غير هذا من الفوائد، ولكن بعض المفسرين كثيراً ما يسردون أقوالاً في أسماء ما جاء مبهماً في القرآن؛ كاختلافهم هنا في المراد من البحرين، فقيل: هو بحر فارس والروم، وقيل: بحر القلزم (¬1) وبحر الأردن، ومجمع البحرين عند طنجة، أو بإفريقيا، وقيل: هو بحر الأندلس والبحر المحيط، والتعيين في مثل هذا لا يعول عليه إلا إذا جاء به حديث صحيح، ومن العجائب قول بعضهم كما نقله الأبي في "التفسير": إنه يقع في نفسي أن مجمع البحرين هو مجتمع البحر المالح، ووادي مجردة عند الدرسة، وهو الذي يقال له: حرق الجسرين، والصخرة: صخرة أبي ربيعة، والجدار في "المحمدية". ¬

_ (¬1) القلزم: مرفأ قديم على البحر الأحمر يرجع إلى عهد الفراعنة.

الرسو في يافا

* الرسوُّ في يافا: امتطينا الباخرة الخديوية مساء هذا اليوم، وتعارفنا فيها بالشيخ عبد القادر ابن الشيخ زاده أحد علماء طرسوس (¬1)، فأرانا السكينة في أحسن تقويم، وما برحنا نروح الخاطر بمحادثته إلى أن رست الباخرة أمام بلد "يافا"، فغرب عنا بدر فضله بعد أن أعطانا ملء صدورنا أنساً. * جولة قصيرة في حيفا: وصعد إلى الباخرة من بلد "يافا" الفاضلان: السيد المختار بو هاشم التونسي، والشيخ موسى البديري أحدُ المدرسين بجامع القدس، وهو عالم استقى من الأزهر، ثم من مدارس الآستانة، وقد صحبنا صحبة ذي عهد قديم، وجاملنا مجاملة الصديق الحميم. نزلنا رفيقين إلى بلد "حيفا" لما أرست الباخرة تجاهها، وتجولنا يميناً وشمالاً، ثم آوينا إلى جامعها الكبير، ووقفنا على مشكاة يذكرون أن بها شعرات من آثار الحضرة النبوية، ورأينا في هذا الجامع أربع معلقات مقرراً فيها فرائض الصلاة، وسننها، ومستحباتها، ومكروهاتها، ومبطلائها، كل معلقة مرسومة على مذهب إمام من المذاهب الأربعة. لبثنا في "حيفا" مقدار أربع ساعات، ثم ودعت رفقائي الفضلاء: السيد مسعود المحيرصي، وأخاه السيد عثمان، والسيد محمد القديدي، وانقلبنا إلى الباخرة. كنت أسمع كثيراً من الناس يذكرون الصخرة بالقدس، ويعتقدون بأنها ¬

_ (¬1) طرسوس: مدينة في تركيا.

المرور في بيروت إلى دمشق

قائمة في الهواء، ولكن بعض الأمراء بنى حذاءها جداراً ملاصقاً لها؛ ستراً لشأنها العجيب؛ لئلا يفتتن بها الناس، وقد رأيت هذا في بعض الرحلات أيضاً، وفي ظني أنها رحلة خالد بن عيسى البلوي، وطالما يجري بيني وبين من يعتقد صحة هذا مناقشة. ولما نبأني الشيخ موسى أنه يقوم بالتدريس عند فنائها، حادثته بقصتها، فحدثني بأنها موضوعة على بناء راسخ في الأرض، وأن هذه خرافة افتراها بعض الدجالين هناك، ثم أخذ خلفهم يلقونها إلى الواردين البسطاء لغرض واضح. * المرور في بيروت إلى دمشق: بلغنا إلى "بيروت" يوم الأربعاء، وأقمت بها نحو ساعتين، ثم توجهت إلى محطة الرتل، فأخذت في بعض بيوته مقعداً، وسار الرتل متدرجاً من بطاح بيروت إلى جبل لبنان، وكان أحد الجلساء عارفاً بأسماء المواقع، وله ذوق في الأدب، فاستفدت من تعاريفه، حتى انحدرنا على الرياض المتصلة بدمشق، وقد أنشأت في هذا الحال: لجّ القطار بنا والنار تسحبه ... ما بين رائق أشجارٍ وأنهارِ ومن عجائب ما تدريه في سفر ... قوم تقاد إلى الجنات بالنارِ * مع علماء وفضلاء دمشق: وصل القطار إلى مدينة دمشق بعد الساعة العاشرة مساء، وحيث لم أكن على خبرة مفصلة بالمنزل الذي حلته عائلتنا، عمدت إلى بيت في أحد القصور المعدة للغرباء، واسترحت بها بقية سواد الليل، وما انصرفت إلى مسكن العائلة حتى مطلع الفجر. جاء لنا طائفة من فضلاء المدينة وعلمائها بزيارة التسليم، ولاقونا بحفاوة

صلاة الجمعة في المسجد الأموي

بالغة حين غشيت منازلهم زائرين، وفي مقدمة هؤلاء الكرام: المفتي الجليل الشيخ محمد أبو الخير بن عابدين من عائلة الشيخ ابن العابدين الحنفي الشهير، والشيخ السيد أديب نقيب الأشراف، والأمير عبد الله بن الأمير عبد القادر، والأساتذة الشيخ يوسف النبهاني الشهير، والشيخ عارف منير، والشيخ حسن الأسطواني، والشيخ عطاء القسم، والشيخ مصطفى طنطاوي، والشيخ رضا مفتي آلاي، وابنه الشيخ يحيى المكتبي، والشيخ محمود، والشيخ سعيد الجزائري. * صلاة الجمعة في المسجد الأموي: زرت مسجدها الشهير بالجامع الأموي، وشاهدت من تنميقه واتساع أركانه ما يعز نظيره فيما رأيت من المساجد الجامعة، ولم نلف به لذلك الحين سوى درسين: أحدهما: في الوعظ يقوم به أحد المشايخ الصادرين عن الجامع الأزهر. وثانيهما: في الفقه المالكي يتولى قراءته الشيخ عبد القادر من فقهاء الجزائر. شهدت به صلاة الجمعة، فكان مع هذه السعة في الطول والعرض غاصاً بالمصلّين، وحدثني الشيخ سعيد الجزائري، وقد التقيت به عقب الصلاة: أن بعض الباحثين قدَّر المصلين به في مثل هذا اليوم بحساب محرر، فبلغ عددهم سبعة آلاف. أما خطباؤه، فإنهم يلقون الخطب بلهجة صادعة، وأسلوب مؤثر، ولا ترى بيد واحد منهم عند الخطبة ورقة، فهم يمثلون هيئة الخطابة عند العرب، ويحفظون أثراً من آثار الفصاحة، بمعنى: طلاقة اللسان، والنطق

زيارة مقام ابن العربي

بالحروف متمكنة من مخارجها. * زيارة مقام ابن العربي: وقصدت إلى مقام الأستاذ الشهير الشيخ محي الدين بن عربي - رضي الله عنه - في بناءات تسمى: "الصالحية" تتصل بطرف دمشق، وقرأت على ضريحه رسماً به بيتان يحتوي ثانيهما على تاريخ، وفاته. وهو: إن سألتم متى توفي حميداً ... قلت أرخت: (مات قطب همامُ (¬1)) ويرى الزائر بجانب منه ضزيح الأمير عبد القادر الجزائري، قد رسمت عليه أربعة أبيات تشتمل على تاريخ وفاته، أولها: لله أفق صار مشرق دارتي ... قمرين هلّا من بلاد المغربِ وآخرها: من نال مع أعلى رفيق أرّخوا ... (أزكى مقامات الشهود الأقرب (¬2)) ¬

_ (¬1) في عجز البيت: مات قطب همام بحساب الجمل تساوي: مات = 40 + 1 + 400 = 441. قطب =100 +9 + 2 = 111. همام = 5 + 40 + 1 + 40= 86. المجموع: 441 + 111 + 86 = 638، وهي سنة وفاة ابن عربي الهجرية. (¬2) عجز البيت بحساب الجمل يساوي: أزكى = 1 + 7 + 20 + 10 = 38. مقامات = 40 + 100 + 1 + 40 + 1 + 400 = 582. الشهود = 1 + 30 + 300 + 5 + 6 + 4 = 347. الأقرب = 1 + 30 + 1 + 100 + 200 + 2 = 334. =

المكتبة الظاهرية ودار الحديث

وكان لهذا الأمير صبابة بفتوحات الشيخ ابن عربي، حتى إنه أرسل عالمين من علماء دمشق إلى "قونية" لتصحيح نسخة "الفتوحات"، ومقابلتها على النسخة التي حفظت هناك، وعليها خط يد المؤلف نفسه. * المكتبة الظاهرية ودار الحديث: وكنت أزور مكتبة الملك الظاهر، وهي مكتبة حافلة، وفيما رأيته من كتبها: "تفسير البقاعي" الذي أخذ على قلمه، وشرط على نفسه، أن يحرر فيه المناسبات بين الآيات. ودخل أبو المحاسن الشيخ يوسف النبهاني المؤلف الشهير يوماً، وأوصى حافظ المكتبة برعايتنا، وقال له: إن هؤلاء من بيوت الفضل بتونس. وزرت مدرسة دار الحديث التي أنشاها الملك الأشرف، وفوّض تدريسها إلى الشيخ تقي الدين المعروف بابن الصلاح، ثم تولى مشيختها الإمامان: النووي، وتقي الدين بن السبكي، وهي التي يقول فيها ابن السبكي: وفي دار الحديث لطيف معنى ... على بسط لها أصبو وآوي عسى أني أمسّ بحرٍّ وجهي ... مكاناً مسّه قدمُ النواوي ويشير بالبسط في البيت: إلى بساط رسم عليه الملك الأشرف -وهو واقف المدرسة- اسمه، وبسطه في أرضها. قال تاج الدين السبكي في "الطبقات": وكان يجلس عليه والدي "تقي الدين" وقت الدرس. ¬

_ = المجموع = 38 + 582 + 347 + 334 = 1300، وهي السنة الهجرية التي توفي فيها الأمير عبد القادر.

مسامرات أدبية

ولقيت في هذه المدرسة فضيلة العالم المحدّث الشيخ بدر الدين، وجلسنا لديه حيناً، فكانت عمارة الجلسة: بحث الأستاذ عما يوجد في الديار التونسية من الكتب الغريبة؛ مثل: "شرح الإمام المازري" لبرهان إمام الحرمين، و"حاشية الشيخ معاوية على مختصر السعد"، والحواشي التي علقت على "مختصر ابن الحاجب" في الأصول، ولهذا الأستاذ درس في "صحيح البخاري" يقرئه في الجامع الأموي يوم الجمعة فقط، يشرع في قراءته عقب صلاة الجمعة، والجوامع كلها تصلي لوقت الزوال، وينتهي لوقت العصر، شهدت هذا الأستاذ وهو يلقي الدرس بترسل، ويملي ما يبسطه الكاتبون على الحديث، وإذا استطرد حديثاً، ساقه بسنده، وله دروس أخرى يقرئها بمدرسة دار الحديث؛ فإن مشيختها اليوم بيده. * مسامرات أدبية: وزارنا الشيخ عبد الرحمن بن سلام أحد علماء بيروت، والسيد عبد النبي أحد معلمي المدارس الأميرية، ومعرب جريدة سوريا الرسمية، ونثر الشيخ على أسماعنا نبذة من جواهر أشعاره، وهو من الأدباء الذين يحذون في نطقهم الاعتيادي حذو العربية الصحيحة، ومما قاله في حاكي الصدى: أنا الفنغراف مهما قُلْنَ أقبلُه ... إن شئت قلْ حسناً أو شئت قلْ خشنا لكنه سوف يدري من يخاطبني ... أني لسان الذي قد ظنني أذنا وقال وقد سافر إلى "بعلبك"، ولم تتبرج له تبرج البلاد الرائعة: أتيت لبعلبك ومن أتاها ... يرى لديارها شيئاً عجيبا كأن بيوتها أبيات شعري ... فلا حشواً تضم ولا غريبا

محادثات علمية في المدرسة التجارية بدمشق

* محادثات علمية في المدرسة التجارية بدمشق: وزرنا المدرسة التجارية، فتلقانا مديرها الشيخ مصطفى طنطاوي، وأحد مدرسيها الشيخ محمود بكامل المبرة، وعرّفنا الشيخ مصطفى بنموذج تعليمها. وبمناسبة ذكر اللغة الفارسية في جملة اللغات التي تدرس بها، قلنا: إن للغة الفارسية مزية، ولهذا أجاز أبو حنيفة - رضي الله عنه - القراءة بها في الصلاة لمن عجز على العربية، فقال لي: بل الإمام يجيز القراءة بأي لسان، اتفق، ولا يخص هذا الحكم بالفارسية، وقد كنت طالعت هذه المسألة مقيدة بالفارسية في كتاب "الأحكام" لأبي بكر بن العربي، ثم أعدت النظر في بعض كتب المذهب الحنفي، فوجدت أحد الفقهاء، وهو الشيخ البرادعي نص على تخصيص الحكم بالفارسية، ولعل الراجح في المذهب خلافه. ومما أورده في المحادثة: أن الحريق الذي حدث بدمشق لهذه السنة، قد أحاط بساحة المدرسة من جهاتها الأربع، ولم يتناول من مبانيها فتيلاً، فقلت له: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17] فوقعت لديه موقع الارتياح. ودار على البساط حكم العلوم الرياضية والطبيعية في نظر الإسلام، ومما أدرجناه في هذه المحاورة: قول القرافي في "فروقه": قد يغمض على الفقيه والحاكم الحق في كثير من المسائل بسبب الجهل بالحساب والطب والهندسة، فينبغي لذوي الهمم العلية أن لا يتركوا الاطلاع على العلوم ما أمكنهم، وتجاذبنا خلاصة ما حققه الإمام أبو حامد الغزالي في كتاب "المنقذ من الضلال" عند بحثه عن علم الطبيعيات، ونصه: "أما علم الطبيعيات، فهو بحث عن أجسام العالم: السماوات، وكوكبها، وما تحتها من الأجسام المفردة؛

كالماء، والهواء، والتراب، والنار، ومن الأجسام المركبة؛ كالحيوان، والنبات، والمعادن، وما تحتها، وعلى أسباب تغيرها، واستحالتها وامتزاجها، وذلك يضاهي بحث الطبيب عن جسم الإنسان وأعضائه الرئيسية والخادمة، وأسباب استحالة مزاجها، وكما ليس من شروط الدين إنكار علم الطيب، فليس من شروطه إنكار ذلك العلم، إلا في مسائل معينة ذكرناها في "تهافت الفلاسفة"، ثم قال: "وأصل جملتها: أن يعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى، لا تعمل بنفسها، بل هي مستعملة من جهة فاطرها، فالشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، لا فعل لشيء منه بذاته عن ذاته". فهذا التقرير من إمام عرف شعاب هذه العلوم، بعد أن رسخ في العلم بمقاصد الشريعة الإسلامية، يشهد شهادة عادلة بأن الإسلام يسع صدره لكل ما يتدرج في حقيقة العلم ما لم يتحقق ضرره؛ كعلم السحر. ودعانا هذا الشيخ إلى احتفال أقامه في هذه المدرسة لتوزيع الشهادات على تلامذتها، وكان النادي يحتوي على ما يناهز خمسمائة نسمة، فيهم العلماء، وأرباب المناصب العالية، فوضعوا في صدره منصة شامخة، وصعد عليها فريق من التلامذة، وألقوا خطباً من محفوظاتهم باللغات الثلاث: العربية، ثم التركية، ثم الفرنسية، ويعد هذا قام غلام على المنصة، وألقى على التلامذة خطاباً أودع في ضمنه: أن هذه الشهادات التي سيبسطون أيديهم لتناولها، إنما منحوا بها محاباة، وأنهم سيتقلدونها عن غير استحقاق، فنهض أحد التلامذة، وأجابه عن ذلك الخطاب بمقال أومأ فيه إلى كفاءتهم، وأوسع له المجال في اختبارهم، فأجرى ذلك التلميذ عليهم الاختبار واحداً عقب آخر، وعرض عليهم أسئلة في العلوم التي تزاول بالمدرسة؛ كالحساب، والهندسة، والجغرافيا،

خضاب الشيب

والنحو، والصرف، والتوحيد، والفقه، والفرائض، لكن السؤال في هذا الفن الأخير كان من قييل المسائل التي يوردها الفرضيون في قالب الألغاز، ويتخلل هذا الاحتفال فترات يترنم فيها التلامذة بأناشيد وطنية. * خضاب الشيب: وممن تواصل بيننا وبينهم اللقاء: الأديب السيد رشيد الرافعي من العائلة الرافعية الشهيرة بطرابلس الشام، وهو أحد الأذكياء الذين استقوا معارفهم من الأزهر، وعكفوا على التحرير بالجرائد. جلسنا يوماً بدكان لشراء متاع، فقص علينا بعض الأميين أنه يوجد خضاب للشيب يبقى ساتراً لبياضه سنين، فالتفت إليّ السيد رشيد مستطلعاً رأي في هذا الحديث، فسقت لهم من "عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء والفضلاء ببجاية" (¬1) ذكرى في ترجمة أبي العباس الجدلي: أنه وصل إلى أفريقية في خلافة المستنصر بالله، وسأله عن البلاد التي دخلها، والغرائب التي اطلع عليها، فمن جملة ما ذكر: أنه رأى ببلاد الهند صبغة إذا خضب بها الخاضب يقيم الثلاثين سنة لا يفتقر إلى خضاب، وكان من جملة الحاضرين بالمجلس "المروزي" من فضلاء الأطباء، فأنكر هذه القضية، وأنكرها الخليفة؛ لأن هذا إما أن يمنع نمو الشعر، أو يحيل الطبيعة بأن يؤثر هذا الصبغ في الشعر الذي ينبت من بعده، ولم يتفق له اجتماع بعد ذلك بالخليفة، وهكذا ينبغي للرجل أن لا يفتح سمعه لقبول الروايات إلا بعد أن يضعها على محك النظر والاعتبار، ثم التفت السيد الرشيد إلى ذلك الرجل، وأعاد عليه القصة بعبارات يفهمها. ¬

_ (¬1) مؤلفه أبو العباس الغبريني المتوفي عام 714 هـ - 1304 م.

الشيخ عبد القادر الخطيب

* الشيخ عبد القادر الخطيب: شهدت درس الأستاذ عبد القادر الخطيب لصحيح الإمام البخاري بالجامع الأموي، وكان الدرس لذلك اليوم: أول حديث من كتاب الصوم، فعجبنا بفصاحته، وكثرة ما يجلب مما كتب في شرح الحديث. ومن سنّتهم: أن يتقدم -قبل أخذ الأستاذ في تقرير الدرس- أحد القائمين بتجويد القرآن، ويتلو منه بعض آيات بترتيل. وليس من المكروه في عادتهم أن يقوم الجالس بحلقة الدرس، وينطلق إلى درس آخر، ثم يحن إلى الدرس الأول، فيعود إليه، أو يقف قبالة الأستاذة لينظر إليه ماذا يقرر، أو ليقتنص منه فائدة، ويفارقه إلى درس آخر، ثم إذا شاء انقلب إليه. ودعانا الشيخ رضا مفتي آلاي إلى منزله، وصعد بنا إلى بيت نضد فيه من الكتب ما يجعله مكتبة حافلة، ومما أطلعنا عليه: تآليف لطائفة الدروز بثوا فيها عقائدهم السرية، وقد انساقت إليه هذه الكتب حين خرج صحبة سامي باشا لتمهيد ثورتهم. ومن أصول عقائدهم: التصديق بألوهية الحاكم بأمر الله المتوفى قتيلاً بمصر سنة 411 هـ. * درس في الجامع الأموي: بعثني ما شاهدته من إقبال العامة، واحتفالهم بدروس الوعظ: أن ألقي دروسًا بالجامع الأموي، فألقيت نحو اثني عشر درساً في أحاديث جامعة، وكانت الأسئلة في الدروس عندهم نادرة؛ فإني حضرت بمقربة من دروس متعددة، ولم يتفق أن أسمع باحثاً يتفاهم مع أستاذ. ومما جرى لنا في الدرس الأول: أن أحد المستمعين الذين لهم صلة بالقراءة، ألقى بحثاً في موضوع كنت آخذاً في تقريره، فتعرض له بعض

درس آخر في المسجد الأموي

الحاضرين، فأومأت إليه بعدم التعرض، وقلت له: إن التفاهم في خلال الدروس مما لا بد منه. وجاريت السائل، ولكنه تشعب في المجادلة إلى أن شعرت بأن مباحثته مبنية على أن الموعظة التي كنت بصدد بثها لم تلتئم بما تهواه نفسه، ويوافق غرضه، فذكرت قول المتنبي: إنما تنجح المقالة في المرء ... إذا صادفت هوى في الفؤاد ثم أرسلت له عبارة مقنعة في الجواب، ومضيت في تقرير مطلب آخر، وبعد انقضاء الدرس، دنا إليّ، والتمس الإغضاء عفا فرط منه، فقلت له: إنا متعودون بالبحث وتوسيع المجال للتفاهم. * درس آخر في المسجد الأموي: أخذت يوماً في إقراء حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - المسوق في اتباع سنّته - عليه الصلاة والسلام -، وسنّة الخلفاء الراشدين من بعده، فأقبل جماعة من العلماء، وتفضلوا بالحضور في حلقة الدرس، منهم: الشيخ المفتي أبو الخير، والشيخ عبد القادر الخطيب، والشيخ أديب نقيب الأشراف، والشيخ السعيد الجزائري، وجرت بيننا وبين هؤلاء الأساتذة في أثناء الدرس مباحثات لطيفة. وقد تحلى علماء دمشق بهذا الخلق العالي، وهو حضورهم بدروس الحديث من تلقاء أنفسهم؛ استمداداً لبركة الحديث، ومجاملة لمن انتصب لتدريسه. وبسطنا هنا المقال في البدعة، وأتينا على تقسيم القرافي لها إلى خمسة أقسام، وتعقبناه بحصر أبي إسحاق الشاطبي لها في قسمين فقط: المحرّمة، والمكروهة، وأورد بعض الشيوخ على هذا الحصر قول سيدنا عمر بن

الخطاب - رضي الله عنه - في شأن صلاة التراويح: "نعمت البدعة"، فقلت: ذلك الإطلاق ملاحظاً فيه المفهوم اللغوي، وهو معنى المحدث، وأبو إسحاق الشاطبي يراعي البدعة في مقصد الشارع، وقد عرف بعض المحققين البدعة بأنها: ما يفعله الإنسان على أنه قربة، مع عدم ثبوته عن الشارع، وذلك لأن الفعل إنما يصير بأمرين: أحدهما: النية الفاضلة. والثاني: موافقته لوضع الشرع وشرطه. فإذا تجرد عن الأمر الأول، كان عبثاً، وإذا اختل فيه الأمر الثاني؛ بأن أصدره صاحبه في أسلوب لم يثبت عن الشارع، كان بدعة. وبعضهم يتسامح للعامة في كثير من المحدثات يأتونها، ويلتمس لهم المعذرة؛ بأن نواياهم صالحة، وبما تقرر في تعريف البدعة تسقط هذه المعذرة؛ ويتضح أن القصد الجميل وحده لا يقلب العمل طاعة، ونضرب المثل لهذا بما رأيته بعيني من بعض زائري المقام الذي اشتهر أنه يضم قبر خالد بن سنان - عليه السلام -؛ حيث يرى الناظر أفواجاً من العامة يطوفون بشجرة جوار ذلك المقام كما يطوف الحاج ببيت الله الحرام. وأذكر أني حللت ببعض البلاد، فرأيتهم إذا بلغ الصبي سورة البقرة، أحضروا بقرة، ووضعوا عليها زينة من الحلي، وتتجول بها جماعة في الطرقات العامة، وهم يقتفون أثرها بالدفوف والأذكار، فألقيت عليهم خطبة في البدع، ونصصت فيها على هذه المحدثة، فتلقاها الفضلاء وأهل العلم بالاستحسان؛ لأنهم يشعرون بسماجة هذه البدعة قبل أن أخطب، وقال طائفة من العامة: لو كان هذا أمراً بدعة، لنهانا عنه الشيخ فلان، أو الشيخ فلان -رحمهما الله-.

واستطردنا بمناسبة التعرض لفضيلة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حديث إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - له في الصلاة بالجماعة، وإشارته إليه بعد خروجه - عليه السلام - من حجرته الشريفة بالبقاء في مكان الإمامة، ودرج بنا التقرير على قاعدة تقديم الأدب، أو الامتثال، وفصلنا مجمل ما قاله الشيخ ابن حجر في "فتح الباري"، وهو: أن سيدنا أبا بكر إنما تأخر، ولم يقف عندما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبقاء؛ لأنه فهم أن إيماءه - عليه السلام - له بالمكث في مكان الإمام من قبيل مجاملة شخصه، وإظهاره عاطفة محبته وحرمته، وإذا كان الأمر من هذا الوجه، فإذا امتثل الصديق، فإنما يستوفي حقاً يعود عليه بالفضيلة وحده، وإذا تأخر، فإنما يسقط حقاً من حقوقه الخاصة؛ بحيث أصبح الأمر بمنزلة الأوامر الواردة للإباحة، فاختار الصديق التأخر؛ إيثارًا لجانب الأدب، وليست هذه الواقعة كقصة امتناع سيدنا علي بن أبي طالب من محو لفظ: رسول الله من صحيفة صلح الحديبية، حين أبي كفار قريش كتابتها؛ فإن الاستدلال بتقديم الأدب على الامتثال هنا ظاهر؛ لأن الأمر بالمحو ليست فيه فائدة تعود على علي بن أبي طالب وحده، حتى يكون عدم امتثاله من قبيل إسقاط ما هو حق له. قررت هذا، فقال لي أحد الأساتذة: من أين فهم أبو بكر - رضي الله عنه - أن الأمر إنما صدر على وجه الإجلال له، وإظهار فضيلته، دون أن يكون الباعث على الأمر وجه آخر؟ ولم يسنح لي في الجواب وقتئذ سوى أن الدال على ذلك قرينة المقام؛ فإن أمره بالاستمرار على موقف الإمامة، والإمام الأعظم بالحضرة، لا يظهر له وجه سوى الإعلان بكرامته. انتهينا من الدرس لصلاة العصر، وإثر الصلاة تألفت حلقة لأستاذ مصري يقرئ إزاء المكان الذي كنت أدرس فيه، وتأخر ذلك الأستاذ عن وقته المتعارف

رسالة "الحرية في الإسلام"

مهلة، فقال بعض أهل العلم هناك للمجتمعين: إن الأستاذ المصري ليس من عادته التدريس في هذا اليوم الجمعة، ثم التفت إلي، وقال لي: لا يتفرق هذا الجمع عن غير فائدة، وعندما سمعه أولئك المتجمعون، وهو يقترح عليّ أن أقوم لهم مقام ذلك الأستاذ، انقلبوا إليّ، وأكدوا رغبتهم في سماع بعض الأحاديث، فوقفت وقفة المتردد، حتى تقدم الأديب السيد السعيد أحد الشبان الذين صدروا من مدارس الآستانة، وقال لي مخافتاً: إني أعرف الأستاذ المصري يقرئ يوم الجمعة، فكان هذا الإعلام عذراً فاصلاً للتخلص من حرصهم الشديد. * رسالة "الحرية في الإسلام": واجهت ناظم باشا، وهو الوالي بالشام في ذلك الحين؛ للتفاهم معه في حاجة تخص العائلة، فكانت التحية بيننا أولاً إشارة باليد، ثم تقدم الفاضل السيد محمد بن شطه الجزائري ليترجم بيني وبينه، وكانت المخاطبة بينهما باللسان الفرنساوي؛ إذ كان لا يحسن النطق بالعربية، وذكروا أنه يقرأ بها، ويفهم جيداً، وقال له السيد محمد بن شطه في التعريف بشأني: هذا مؤلف رسالة "الحرية في الإسلام" (¬1)، وأخبرني أنه كان قد اطلع عليها، فنهض قائماً، ومد يده لمصافحتي، وأعطى عبارة في الشكر على تأليفها. * حفل علمي: حضرنا حفلة وداع التلامذة: محيي الدين القضماني، وسعدي عرابي، وسعيد الرشاش، حين عزموا على الرحلة للتعلم، فافتتح السيد محمد علي بخطاب بيّن فيه الغرض من الاحتفال، وتلاه الأمير عارف الشهابي بخطبة ¬

_ (¬1) انظر كتاب الإمام: "محاضرات إسلامية"، وهو يضم هذه المحاضرة.

أتى فيها على فوائد البعثات العلمية، ثم خطب تلميذ يقال له: "مردم" في التعليم بمدارس "سويسرة"، ثم خطب السيد مصطفى أخو الأمير عارف في الزراعة ومنافعها، ثم ألقى أخونا المكي بن الحسين (¬1) قصيدة في فضل العلم، ومما قاله فيها: ومن برح الأوطان في طلب العلا ... لدى الناظر السامي هو الرجل الحرُّ بني الشعب هبّوا للمعارف إنها ... فخاركم الأعلى فلا عدم الفخرُ وتلك كنوز لا من التبر صنعها ... وهل ساد عن علم يزين الورى تبرُ كذا الجهل وزر في الأنام وإن زهت ... معارفهم يوماً فقد وضع الوزر وتلاه السيد صبحي الحسيبي، وخطب في العلم والأغنياء، ثم قام الشيخ عبد الرحمن القصار، وتلا قصيدة جيدة يقول فيها: رد منهل العلم الصحيح لترتوي ... واصدره كي يروي بك الظمآنُ فالعلم غصنٌ والمدارس جنة ... تزهو وأنت بروضها رضوان يا أيها التلميذ جدّ وغداً تكو ... ن معلماً ترقى بك الفتيان ثم ارتقى أحد الحاضرين إلى مرتقى الخطابة، وأوهم أنه سيقوم بخطبة كما قام الخطباء قبله، حتى التفت إلى التلامذة، وقص عليهم: أنه كان رأى في جريدة كذا: أن ملك الجابون (¬2) أرسل طائفة من التلامذة ليتعلموا بأوربا، فلما عادوا إلى وطنهم، اقترح عليهم الملك أن ينشئوا له باخرة، فنظر بعضهم إلى ¬

_ (¬1) العلامة اللغوي المشهور، وهو شقيق الإمام، ولد في تونس عام 1306 هـ - 1886 م، وتوفي بها عام 1382 هـ - 1963 م، وترك مؤلفات لغوية قيمة. (¬2) ملك اليابان.

احتفال علمي بتوزيع الشهادات

بعض، فكرر عليهم عبارة الاقتراح، فقالوا: لا يمكننا صنع البواخر إلا بحضور أحد أساتذتنا، فأمر بصلبهم؛ ليكونوا عبرة لغيرهم من التلامذة، فلا يرجعون من تعليمهم حتى يبلغوا ما بلغت الأساتذة، ثم أقبل على التلامذة الثلاثة، وقال لهم: وأنتم أيضاً إن عدتم إلينا غير قادرين على العمل، فإنا نشنقكم، ونزل فاهتز النادي ضحكاً. * احتفال علمي بتوزيع الشهادات: ودعينا إلى الحضور باحتفال في مدرسة قرب الجامع الأموي أقاموه لتفريق الشهادات على تلامذتها. حضر هذا الاحتفال خلق كثير، وطائفة من العلماء وأرباب المناصب، مثل: الشيخ القاضي، والشيخ المفتي أبو الخير، والسيد نقيب الأشراف، وكان على جانب اليمين مني الشيخ صادق الميداني أحد العلماء الأذكياء، يجاذبني المحادثة والملاحظة في مظاهر الاحتفال، ويعرب لي بعض ما يلقونه من الخطب والمحاورات باللغة التركية. ألقى التلامذة خطباً بالعربية، ثم التركية، ثم الفرنسوية، وأنشدوا قصائد حماسية؛ كقصيدة ابن سناء الملك التي يقول في طالعها: سواي يهاب الموت أو يرهب الردى ... وغيري يهوى أن يعيش مخلداً ثم عقدوا محاورات طريفة، منها: محاورة جرت بين تلميذين في التفاضل بين العلم والمال، ونصبوا تلميذاً ينظر في حججهما، ويتولى فصل الخلاف بينهما، وبعد أن نفض كل منهما ما في كنانته، قضي بتفضيل العلم على المال؛ فإن المال من نتائج المعارف. ومن اللطائف في هذه المحاورة: أن التلميذ الذي كان يفاضل عن المال قال لمفضل العلم بعد فصل القضية: أستمنح منك العفو؛ فقد كنت أنازعك

الأستاذ أحمد كرد علي

وأنا على خطأ، فقال له التلميذ الحاكم: لا تسأله العفو؛ فإن المجادلة لم تكن بين شخصيكما، وإنما كانت جارية بين الحق والباطل. ومنها: محاورة انعقدت بين تلميذين في المفاضلة بين السيف والقلم، أحدهما ينطق بلسان القلم، والآخر يفاخر بلسان السيف، وبعد أن توسعوا في أطراف المحاورة بجلب الأدلة والشواهد؛ كقول الناطق بلسان القلم: ولي قلمٌ في أنملي إن هززته ... فما ضرّني ألّا أهز المهنّدا وقول المفاخر بلسان السيف: السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب فصل الحاكم المفاخرة بتفضيل القلم على السيف، وقال تنفيذاً للحكومة: قم أيها السيف وقبل رأس القلم. ووقعت بعد هذا محاورة باللسان التركي بين تلميذين مَثَّلا فيها أساليب التعليم العتيقة والحديثة. * الأستاذ أحمد كرد علي: وممن لقيناه من الأدباء، فتهلل منبسطاً لهذا اللقاء: الفاضل المهذب السيد أحمد كرد علي صاحب "جريدة المقتبس" الزاهرة، وقد نشرت هذه الجريدة تقريظاً مطنباً في الرسائل: "الحرية في الإسلام"، و "الدعوة إلى الإصلاح" و"حياة اللغة العربية" (¬1)، وقالت في صدر هذا التقريظ: "تنم معظم تآليف التونسيين الأخيرة على فضل علم وأدب، وإن خاصتهم لا يؤلفون في الغالب إلا إذا اعتقدوا، واعتقد الناس فيهم الكفاءة العلمية إلخ". ¬

_ (¬1) انظر كتاب: "دراسات في العربية وتاريخها" للإمام.

أثر حياة الأمير عبد القادر

* أثر حياة الأمير عبد القادر: وممن زارنا وزرناه: العالم الشيخ السيد عبد الباقي المفتي المالكي، وقد جذبتنا طبيعة الاجتماع به إلى الخوض في أثر حياة الأمير عبد القادر -رحمه الله-؛ حيث كان هذا الفاضل من أصهاره، ومررنا في حديثنا على أن هذا الأمير قد ساعده القدر على أن توفر لديه من الشهرة بخصال كاملة ما عزّ أن يتفق لغيره من فضلاء عصره، فترى له كتائب ومجالس تنظمه في سلك العلماء، وسخاء يقف به في صف ذوي السماح، ومصانعة تنظر منها إلى مقدار غوصه في غامض السياسة، ومواقع يدخل منها إلى فضيلة الإقدام، وقريض يرفع في نوادي الأدب ذكراً، ونثرنا في هذا البساط جوهرة قوله في مقام الحماسة: ومن عادة السادات بالجيش تحتمي ... وبي يحتمي جيشٌ وتحرس أبطالُ ولوحظ في هذا: أنه وارد على خلاف النظامات الجارية في الحروب؛ فإن الرئيس لا يضع نفسه في موقع أمام الجيش؛ حذراً من أن تصيبه القاضية، فيختل النظام بعده، وينتشر في عظام قومه الفشل، ولكن ميدان الحماسة والفخر أوسع مجالاً من ميدان الحروب وتدابيرها. * درس الأستاذ زين العابدين بن الحسين: حضرت في اليوم الثامن والعشرين من رمضان لدرس ألقاه أخونا زين العابدين بن الحسين، ختم به دراسة كتاب "الأربعين النووية" بجامع "التوبة"، وحضر من الأساتذة: الشيخ عطاء الكسم، والشيخ يحيى القلعي، والشيخ محمود، وكان هؤلاء الأساتذة قائمين في العشرة الأخيرة من شهر الصوم بسنّة الاعتكاف في هذا الجامع، وقال لهم أحد الفضلاء في محاورة بعد الدرس: قد شغلناكم وأنتم عاكفون، فقلت له: يقول أبو بكر بن العربي: إن المذاكرة في

ليلة العيد

المسائل العلمية من قبيل الطاعات الملائمة لمقصد الاعتكاف، وكان هذا الجامع -كما قال ابن خلكان- خاناً يعرف بابن الزنجاري، وقد جمع أسباب الملاذّ، ويجري فيه الفسوق والفجور، فقالوا للملك الأشرف: إن مثل هذا لا يليق أن يكون في بلاد المسلمين، فهدمه، وعمره مسجداً جامعاً، وسمّاه الناس: جامع التوبة؛ كأنه تاب مما كان فيه. ومن المسائل التي تعرض لها صاحب الختم: حكم القيام للوارد على المجلس؛ لأنه عادة يبالغ أهل المشرق في الاحتفاظ بها إلى أن يعيدوا القيام للرجل الواحد في المجلس الواحد ما تكرر دخوله، وقرر ما بسطه القرافي في "فروقه"، وانفصل على أن القيام قد يتعين إذا أدى تركه إلى انكسار خاطر، وانصداع شمل ألفة. وأنا أعهد لأبي بكر بن العربي في كتاب "الأحكام" تفصيلاً آخر؛ فإنه بعد أن ساق الأحاديث الواقعة في هذا الغرض، قال: وهذا راجع إلى حال الرجل ونيته، فإن انتظر ذلك، واعتقده لنفسه، منع، وإن كان على طريق البشاشة والوصلة، فإنه جائز، وخاصة عند الأسباب؛ كالقدوم من السفر ونحوه. * ليلة العيد: كنت جالساً ليلة العيد بالمنزل يسامرني وإخوتي بعض الفضلاء، فذكر أحدهم قول الخطباء في العيد: "ليس العيد لمن لبس الجديد، وإنما العيد لمن خاف يومَ الوعيد"، فنظمت لهم في هذا الغرض بيتين، وحشروهما في زمرة محفوظاتهم، وهما: ما العيد للشعب في تنميق أثواب ... ولا ملاقاة إخوان وأصحابِ وإنما العيد أن تحيا بصائرهم ... بنور هدي وعرفان وآداب

من دلائل النبوة

اتفق لنا السمر ليلة بمنزل الأمير علي باشا، ولاقينا من ابنه الأمير عبد القادر تجلَّة فائقة، ولم يقنع بجلوسنا في المنزل الذي يتلقى فيه عامة الضيوف، حتى تجاوز بنا إلى دار بعده، وأطلعنا على آثار للأمير جده -رحمه الله-، ولما نهضنا للرواح، وسايرنا مودعاً، اعترضنا أحد القرّاء وارداً منزل الأمير ليتلو لهم كعادتهم ما تيسر من القرآن، فرغب منا هذا الأمير الرجوع لسماع تلاوته، فرتل ذلك الحافظ نصيباً من الآيات بلهجة مؤثرة جداً. * من دلائل النبوة: زرنا يوم العيد الأمير عبد الله بن الأمير عبد القادر، واحتفل المجلس بطائفة من أهل العلم، فجرت محادثات علمية دينية يأخذ أطرافها نظر ذلك الأمير الفاضل، وقرر الشيخ السعيد الزواوي في هذا المجلس: أن فيما يظهر له من دلائل النبوة: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا نبي بعدي"، وذلك لأنه ثبت أنه - عليه السلام - في أنهى درجة من الحكمة، وهذا يعترف به كل من ألقى نظره في أقواله وسيرته، ولو لم يعتقد برسالته، والرجل الحكيم يتحاشى أن يقضي على المستقبل بعبارة قاطعة؛ إذ لا يدري ما تلده الأيام، وتبرزه للناس من تصرفات الأقدار التي تنكث أقواله، وتحل عقد ما تنظمه من الشيعة والأتباع. فإقدامه - عليه الصلاة والسلام - على هذه العبارة الفاضلة، مع ما مر من تلك القرون المتطاولة، ولم يظهر في الوجود ما ينقضها، بحيث لم يدّع أحد منصب النبوة وله شبهة في ادعائه، دليل على أنه إنما ينطق عن وحي سماوي ينزل به الروح الأمين على قلبه المنير. فقلت له: وأنا أيضاً مما أعضد به إيماني ما جاء في القرآن من التشابه؛ فإني كثيراً ما أقول في نفسي: لو كان هذا القرآن من بشر يزعم الرسالة، لتحرى فيه العبارات الصريحة في العقائد التي يدعو إليها، واحتفظ غاية جهده أن يسوق

زيارة القبور

فيه ما يشتبه على الأنظار، ولا يصح الاععقاد بظاهره، فورود الآيات المتشابهات في أثناء المحكمات، إنما يكون لحكم غامضة لا تخطر في عقول البشر. والعلماء الذين بسطوا شيئاً من تفاصيلها؛ كالفخر الرازي، إنما اهتدوا إلى البحث فيها بعد أن اطلعوا على المتشابه، واعتقدوا بأنه لا يأتي في كلام الله إلا لأسرار بديعة، ولو لم ترد هذه النصوص المتشابهة، لما خطر على عقولهم تلك الحكم المقتضية لاندماجها في سلك المحكمات. وقد قرروا في جملة هذه الحكم: أن من مقاصد الإسلام: الإذن للعقول أن تسرح في النظر، وتنبسط في الاعتبار، فكان من وسائل هذا: أن وردت في الشريعة أقوال لا يفهم المراد منها لأول سماعها، حتى يضطر السامع لعمل البحث، وإجالة الفكر في الوصول إلى ما يراد منها، وفي هذا تمرين للعقول على النظر والاتساع في الفكر، وإذا تعودت العقول بطبيعة التفكر والنظر، عافت الجمود، واستقذرت التقليد في معتقداتها. وجرى في هذا المجلس حديث: "كما تكونون يولّى عليكم" فسقنا على هذا: أن أبا بكر الطرطوشي قال: بلغني هذا الحديث، فأخذت أفحص عنه من جهة السند، فمر علي وأنا أتلو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} [الأنعام: 129] الآية. فاكتفيت بها عن الحديث. وهذا الحديث ذكره السيوطي في "الفتاوى الحديثية"، وقال: رواه ابن جميع في "معجمه"، وذكر ابن الأنباري في بعض كتبه: أن الرواية: "تكونوا" بحذف النون، وتكلم هنالك على وجه إعرابه. * زيارة القبور: ومن عوائد الشام: أنك ترى زائرات القبور يوم العيد يحملن غصوناً

محاورة مع الشاعر خير الدين الزركلي

ذات أوراق طرية ليضعنها على القبور، باعتقاد أنها تنفع الموتى كما تنفعهم الصدقات، ويستندون في هذا إلى حديث: غرز النبي - عليه الصلاة والسلام - عودين من جريد على قبر من لا يستتر من بوله، ومن كان يمشي بنميمة، وقوله: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا". وقد فاوضني في هذه العادة أحد الفضلاء من الأرناؤوط يوم العيد، وذكر الحديث، فقلت له: إن غرز النبي - صلى الله عليه وسلم - للعود الرطب لداعٍ غيبي، ومعنى يختص به، مثل أن تكون مدة بقاء الطراوة فيه غاية لما وقع فيه الطلب من تخفيف العذاب عنهما. وما يفعله - عليه الصلاة والسلام - لعلة غائبة عن أبصارنا لا ينبغي لنا أن نقدم إلى فعل مثله؛ فإن العلة غير متحققة بالنسبة لنا، ونظير هذا: حديث نزوله - عليه الصلاة والسلام - والصحابة معه بالوادي، واستمرار النوم به إلى أن طلعت الشمس؛ فإنه - عليه الصلاة والسلام - أمر بالرحيل، وقال: "إن هذا واد به شيطان"، فلا يصح لنا أن نقيس عليه حالتنا، حتى إذا طلعت الشمس علينا، ونحن بواد، تحاشينا أن نصلي فيه؛ لأن العلة التي استند عليها - عليه الصلاة والسلام - لا طريق لنا إلى معرفتها كما قال أبو الوليد الباجي. وبعد هذه المفاوضة اطلعت على إنكار أبي بكر الطوطوشي لهذه العادة، ومتابعة صاحب "المدخل" على هذا الإنكار. * محاورة مع الشاعر خير الدين الزركلي: ومن أدباء دمشق: الشاعر المجيد السيد خير الدين الزركلي، رأيته ينحو في شعره نحو فلسفة المعري، فخاطبته بقولي: يا محضراً في برد شعر للنهى ... روح المعرّي كي تغازل بالحِكَمْ

الشيخ عطاء الكسم

من علّم الشعراء أن يستحضروا ... روحاً تردّى جسمها ثوب العَدَمْ فأجابني بقصيدة من شعره البليغ تحتوي على نحو ثلاثين بيتاً يقول في طالعها: من للقريض إذا دعوت وللقلم ... والشرق صار به السبات إلى العدم ألف السهادَ النائمون به كما ... ألف العلاءَ الناهضون من الأمم ثم يقول: ولربّ ذي خطلٍ يلقب عصرنا ... عصر الرقي صحا فأنكر ما زعم ثم قال: لو أن فيه أبا العلاء تحطمت ... أقلامه ولما شدا، ولما نظم * الشيخ عطاء الكسم: أهدى إليّ الشيخ عطاء الكسم من تأليفه رسالة في التوسل، وكتابة جمع فيها أصول المذهب الحنفي بأسلوب وجيز، وهذا الفاضل من أشهر علماء دمشق، وكان قد ابتدأ قراءة "صحيح الإمام البخاري" دراية، وانخرط في سلك درسه أخونا العروسي بن الحسين، وقدم له أبياتاً يقول في طالعها: بشرى فشمس الهدى تجلت ... للفكر في حلّة الجمال * قصيدة في تسمية حروف الهجاء: وأطلعني أحد الأدباء في مجلة شرقية على رسالة للخليل بن أحمد في تفسير حروف الهجاء عند العرب نقلت من مجموعة في العراق، فأنشدته أبياتاً من قصيدة لأبي عبد الله الهواري الأندلسي في تسمية هذه الحروف كنت ظفرت بها من مجموعة في رحلتي للجزائر سنة 1321 هـ، وحيث كانت هذه الرسالة من

التآليف النادرة، وتشتمل على بعض معان لم نعثر عليها في كتاب "القاموس"، ولا في "لسان العرب"، ننقل ملخصها هنا، وإليك التلخيص: (الألف): الرجل الفرد. (الباء): الرجل الكثير الجماع. (التاء): البقرة تجلب. (الثاء): العين من كل شيء. (الجيم): الجميل المغتلم. (الحاء): المرأة السليط. (الخاء): شعر الاست. (الدال): المرأة السمينة. (الذال): عرف الديك. (الراء): القراد الصغير. (الزاي): الرجل الأكول. (السين): الرجل كثير التنحنح. (الشين): الرجل الكثير النكاح. (الصاد): الديك المتمرغ في التراب. (الضاد): الهدهد يرفع رأسه ويصيح. (الطاء): الرجل الشيخ الكثير الجماع. (الظاء): ثدي المرأة إذا انثنى. (العين): سنام البعير. (الغين): الإبل الواردة. (الفاء): زبد البحر. (القاف): المستغني عن الناس. (الكاف): الرجل المصلح للأمور. (اللام): الشجرة الناضرة. (الميم): النبيذ. (النون): السمك والدواة. (الهاء): أثر اللطمة في خد الظبي. (الواو): البعير ذو السنام. (الياء): النار. وفي الجزء الثاني من "أدب اللغة العربية" لجرجي زيدان: من الكتب التي تنسب للخليل: كتاب في معاني الحروف في مكتبة ليدن، ومكتبة برلين. أما قصيدة أبي عبد الله الهواري، فنقتطف منها أبياتاً؛ ليظهر أن هذه الرسالة كالشرح لها، وإليك المقتطف: (الباء) واحرص على المجد حرص الباء حين يرى ... حسناء تفتنه بالمنظر الحسن

(الثاء) وابحث على الثاء في كل الأمور فمن ... رأى الحقائق أمسى وهو ذو فطنِ (الجيم) وكن إذا الخطب مثل الجيم جدّ به ... طول المسير ولم يتعب ولم يَهِنِ (الحاء) لا تخدعنك حاء لا حياء لها ... فإنما هي كالخضراء في الدمن (الدال) وإنما الحسن في دال منعمة ... حبيبة زانها صمت على لسن (الذال) لا تخل نفسك من مجد تماز به ... فالديك لولا وجود الذال لم يبنِ (الزاي) واقنع ولا تك مثل الزاي من رجل ... إذا رأى الأكل يسعى سعي مفتتن

(الشين) وانهل إلى الخير مثل الشين لاح له ... وجه وَقَدٌّ كمثل البدر والغصن (الصاد) وكن مع الدهر مثل الصّاد يقنعه ... عفر التراب ولقط الحب في الدمن (القاف) والزم غنى النفس إن القاف شرّفه ... غناه عما بأيدي الناس من منن (الكاف) ما أسعدَ الكافَ بين الناس من رجلٍ ... يراقب الله في سرٍّ وفي علن (الميم) فإن دنياك مثل الميم تُسكر من ... صَبا إليها وإن أمسى أخا فطن (الهاء) وأدّب النفس لولا اللطم في أدب ... لم يزه بالهاء خد الشادن الحسن

لقاء مع رجالات دمشق

(الياء) لا تركنن لياءٍ لا أمان لها ... واطلب جناب كريم النفس مؤتمن * لقاء مع رجالات دمشق: ولاقينا من فضلاء المدينة الناهضين: السيد شكري العسلي أحد مبعوثيها، والأمير الطاهر حفيد الأمير عبد القادر، والسيد محمد عابدين المعاون بهيئة المحاسبة، فكشف لنا لقاؤهم عن كرم خلق، وألمعية مهذبة، وقد زارنا الأخير في إحدى ليالي رمضان، ومما دار في السمر هذه الليلة: أن المناظرة في فروع الدين مع من لا يعتقد بصحة أصوله ليس لها كبير فائدة، وإنما تبدأ المناظرة مع من أرادها في الأصول والعقائد؛ فإنه يجد فيها الناظر الأداة المبكتة، والبراهين المسكتة، فإن لم تقع موقع التسليم، كانت المباحثة في الفروع غير مجدية، وإذا أخذت من نفسه مكاناً راسخاً، ذعن بعد ذلك لكل ما جاءت به الشريعة من التكاليف، ووضعها على كاهل الطاعة، ولهذا لا نجد نصوص الشريعة تتبسط في حكم التكاليف العملية وأسرارها، كما تنبه على دلائل العقائد الواجبة، بل تلقيها إلى المكلفين مجردة عن حكمتها في الغالب؛ فإن من يعتقد بأنها تنزيل من حكيم حميد، يلزمه الامتثال لأمرها، ولا يتوقف عن العمل بها إلى أن يدرك ثمرتها، كما قال تعالى في الرد على من قالوا: إنما البيع مثل الربا: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. فلم يزد على أن نسب تحريم الربا إليه، دون أن يذكر له حكمة تفرق بينه وبين البيع، وفيه إيماء إلى أن معرفة الحكمة من الأحكام التي تضعها الشريعة السماوية غير لازمة، وليس القصد من هذا التقرير سد باب النظر

فراق دمشق

في الحكمة من قوانين الشريعة؛ فإن الاطلاع على ذلك مما يزداد به القلب اطمئناناً، ويقوى به اليقين ارتباطاً، ولكن الغرض الذي نرمي إليه: أنها على فرض أن نبحث عن حكمة عمل شرعه الدين، ولم يظهر لنا سره واضحاً، فإنا نفوض العلم بحكمته إلى شارعه الذي قام الدليل على أنه عزيز حكيم، ولا يكون عدم اطلاعنا على الحكمة خادشاً في الاعتقاد بصحته، وانطباقه على رسم الصواب. فإذا ناظرنا أجنبي عن الدين في عمل مشروع، فلا يأخذنا الخجل، أو تحوم حول قلوبنا الشبهة، إذا قصرنا أن نكشف له عن حكمة جلية تقع لديه موقع القبول. * فراق دمشق: عزمت على السفر من دمشق يوم الاثنين في شوال (¬1)، وزارنا قبل أن أبارح المنزل بساعة الفاضل الأمير عبد الله، يرافقه السيد الصادق المحمودي التونسي، وكان هذا الاجتماع آخر عهد بلقاء أولئك الفضلاء. امتطيت الرتل، فأخذ يرغو ويضع، ويحمل ويضع، وكان فراق العائلة قد أخذ يلسع الحشاشة بذبالة ناره حتى قلت: لئن صعدت حرّاء أنفاس راحلٍ ... رمى شمله قوس من البين راشقُ فما لي أراك اليوم يا رتلُ ناحباً ... وشملك إذ تطوي الفلا متناسقُ * المبيت في المريجات: وحيث غادرنا دمشق، وما برح بعض الأمراض يتعهدها، قضينا أربعة ¬

_ (¬1) من عام 1330 هـ.

محاضرة شفيق المؤيد

أيام في "المريجات" بلد من جبل لبنان اتخذت محجراً صحياً لمن يرد من نواحي دمشق، ولو أني لبثت هذه المدة عن داعية خاطر مني، لحسبتها في أيام الارتياض بمشاهدة المناظر الزاهرة. وممن قاسمني في هذه الإقامة، وقد سبقني إليها بيوم: الذكي السيد إبراهيم المستنطق بعدلية بيروت، وكان يسايرني في شعاب هذه القرية التي هي على قمة جبل، ويطوف بي على ما حولها من الرياض الرائقة، والأنهار الدافقة، وربما جلسنا على ربوة مطلة على مظاهر لا تسأم العيون من التمتع بمرآها الجميل، وكان في خلال ذلك المطاف يطارحني الأدب، وينشدني من شعره باللسانين العربي والتركي، وقلت في هذه الإقامة: بين "المريجات" ما تحلو مناظره ... للطرف لكنّ نفسي سامها ضجرُ والنفس تضجر من دار المقام على ... رغم وإن كان من سمّارها القمر انطلقنا من "المرايجات" يوم الجمعة، وصعد من بعض مواقف الرتل رجل من أهالي لبنان يقارب في نطقه العربية الصحيحة، وكان هذا الرجل يلاحظ عباراتي، ويتفقدها من حيث الإعراب، حتى قال لي في آخر المحادثة، عندما أزمع على الانصراف: "هل جميع التونسيين يلفظون بالعربية؟ "، فقلت له: "لا يتفاوتون في قرب ألسنتهم منها، وإنما الذين ينسجون على منوالها، ويتحرون أساليبها هم طوائف أهل العلم والأدب. * محاضرة شفيق المؤيد: وصل الرتل إلى محطة ييروت، فألفيت السيد إبراهيم الذي كان يصاحبنا بالمريجات في انتظارنا، فقصدنا إلى خان يسمى: "قصر البحر"، وهذا القصر من أجمل المنازل من حيث التنسيق والموقع، ومن أهم ما روعي في مرافقه:

بيت فسيح، فيه زرابي مبثوثة أعد لأداء الصلوات، وطالعت في أحد جدران مقعده العام معلّقة، رسمت بها قصيدة للشاعر الشهير السيد معروف الرصافي في وصف هذا القصر، يقول في طالعها: لعمرك إن قصر البحر قصرٌ ... به يسلو مواطنَه الغريبُ وتمتلئ العيون به ابتهاجاً ... إذا نظرت وتنشرح القلوبُ ثم قال: كأن الموج في الدلتا رجالٌ ... وهذا القصر بينهم خطيب تخاطبهم مبانيه فيعلو ... من الأمواج تصفيق مهيب وما انفردت به بيروت حسناً ... ولكن القصور بها ضروب أعلمني السيد إبراهيم بأن السيد شفيق المؤيد سيلقي محاضرة في هذه الليلة بنادي جمعية "الحرية والائتلاف"، فذهبنا عند وقتها المحدود، يرافقنا السيد محمد صبحي بن الشيخ عبد الرزاق العطار، فتبوأنا مكاناً في الطبقة العليا من النادي، وأخذ الناس ينسلون فرادى وزمراً إلى أن أفعموا الطبقتين، وغصّ بهم المجلس على سعته، فأقبل السيد المحاضر تحف به طائفة يترنمون بأنشودة حماسية من نظم السيد سليم الجزائري إلى أن ارتقى على منصة الخطابة، فتقدم السيد عبد الغني العروسي صاحب جريدة "الائتلاف العثماني"، وألقى خطاباً أعلن فيه بموضوع المحاضرة، وأدبج فيه نبذة في التعريف بشأن المحاضر، ومن جملة ما قصه في حقه: أنه كان أحد مبعوثي الشام، وأنه خرج يوماً من مجلس "المبعوثان" بالآستانة، فبسط إليه أحد الرجال يده ليصافحه، فقبض يده، وقال له: "لا أصافح يداً خانت أمتها".

مفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا

كان موضوع المحاضرة: الدعوة إلى حزب الائتلافيين، ونكث اليد من حزب الاتحاديين، وقد تذكرت في هذا المقام قول معروف الرصافي: فهم كالبحر يعطب راكبوه ... ويسلم منه من لزم الضفافا ولكنه أتى فيها على تفاصيل، وضرب لها أمثالاً من التاريخ، فأنبأتْ بسعة اطلاعه في الأحوال الداخلة والخارجة. * مفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا: زارني إلى قصر البحر فضيلة العالم الشيخ السيد مصطفى نجا المفتي ببيروت، يصاحبه بعض أهل العلم، ودارت في هذا المجتمع مسائل جرنا إليها سؤال بعض الحاضرين من ذوي التجارة، منها: حكم التعاقد مع شركة تأمين البضائع، فصرح الشيخ المفتي بأن الشريعة الإسلامية لا تبيح الدخول في هذه العقدة؛ إذ لا شبهة أنها من قِبل أكل أموال الناس بالباطل، فقد لا يطرأ على البضاعة تلف، فيكون المال الذي يدفعه صاحبها قد ضاع عنه بغير عوض، وإذا وقعت في متلفة، يكون قد أخذ قدراً من المال عن غير مقابل، وهذا هو الغَرر البين، والربا الفاحش الذي حرمته الشريعة تحريماً مغلظاً. وقصّ علينا الشيخ المفتي نبذة من وقائع قصد بعض الرجال أن يخرقوا بها سياج المروءة والدين، فقام الشيخ إلى من بيده الأمر، وخاطبه خطاب الرجل الغيور، فكان لحمايته عن حرم المروءة والإنسانية فائدة وتأثير. وذكرت لهم بمناسبة ما قص الشيخ المفتي: أن علي باشا أحد الأمراء بتونس، كان يستدعي إلى مجلسه أعيان العلماء، وفي زمرتهم الشيخ حمودة الريكلي أحد علماء ذلك العصر، فقال لهم الباشا يوماً: إني أكرم مثوى العلماء، وأرفع مقامهم أن يسوم حقوقهم خسف، كما كان يلحقهم فيما

الشيخ راغب التميمي

سلف، فشكر له بعض الحاضرين هذه الميزة، ولم يستطع الشيخ حمودة الريكلي أن يطوي حقيقة خطرت على ضميره الحر، فقال له: الوجه في هذا: أن من تقدم من العلماء كانوا يعترضون الأمراء فيما يسوقهم إليه عامل الاستبداد، فيطفئونهم حتى لا تكون حياتهم نوراً يكشف عن مساوئ أعمالهم، ونحن -أيها العلماء- قد ألقينا السلم، وتغاضينا عن كل سيئة، فبأي عذر تهضم حقوقنا، أو تنتهب أعمارنا؟! وقد وقع لهذه الموعظة أثر بالغ في نفس الباشا، فجازى الشيخ بالمكرمة، وأعاده إلى منزله على مركبه الخاص به، وعدّت هذه الواقعة منقبة فائقة للعالم والأمير. وممن احتبك به هذا المجلس، وأخذ بطرف المحاورة فيه عن فكرة متنبهة: السيد نصوحي بك العظم من بيوت الفضل بدمشق، وله إقامات بمصر وعلاقات مالية، وكان قد شهد بعض دروسنا التي نلقيها بالجامع الأموي، وحدث الشيخ المفتي بأنه يراها دروساً مفيدة، حيث كانت تتحرى في بيان مقاصد الشريعة الطريقة المعتدلة. * الشيخ راغب التميمي: ولاقيت الشيخ راغب بن مصطفى التميمي أحد الأعيان بنابلس، وكان هذا الشيخ قاضياً بمصراته، ومر على الحاضرة منذ سنتين، كما لقيت ابنه زكي الدين في طائفة من وجهاء نابلس، وأقاموا لنا من مجاملتهم وثنائهم على صديقنا السيد محمد الصادق الجبالي التونسي دليلاً صادقاً على ما يتردد على أسماعنا من أن أهل هاتيك البلاد يلاقون الغريب بوجوه منبسطة، وصدور راضية. دخلت إلى مطعم يرافقني السيد صبحي العطار، فجلسنا حول السفرة، وكان بمقربة منا شيخ متعمم يحادث صاحب المطعم، ويلاحظنا أحياناً، ولما

بين الاستبداد والعدل

وقفنا للانصراف، قام ذلك الشيخ، وناجى رفيقي مستكشفاً عن أثري، فأعطاه خبره، فأقبل عليّ مسلماً، وقال لي: كنت أصغي إلى حديثكما، فراقني بساط المحادثة، فهممت أن أدنو منكما، ولكني خشيت أن لا يقع دخولي في بساط حديثكما موقع الارتياح لديكما، حيث لم يسبق رابط التعارف، ثم عقد موعداً على زيارتنا مساء بعد أن عرفني رفيقي بأنه الشيخ عرفات المصري أحد المعلمين بمدرسة في رأس بيروت. * بين الاستبداد والعدل: دعيت للحضور بحفلة في إحدى المدارس لتفريق الشهادات على التلامذة، وكان رفيقاي في الذهاب والحضور: الشيخ عرفات، والسيد إبراهيم المستنطق بالعدلية، ولم يقع في هذا الاحتفال سوى أن شخَّص التلامذة رواية تضرب المثل لرذيلة الاستبداد المطلق، وفضيلة العدل، وقد ضحك الحاضرون لكل من الدورين، ففكرت في سر انبساطهم لتمثيل الاضطهاد والتعسف، وشأن النفوس الحرة أن تقطب لمنظرها الفظيع، فلاح لي في وجه ذلك: أنهم قد تصوروا من خاتمة الرواية انقلاب ذلك المشهد التعيس إلى نظام وعدالة، وكذلك الرجل يشاهد الباطل يعبث في مجمع من مجامع الحقيقة، وقد بصر يناصر الحق حين التفت إليه، وتأهب لدرئه عن مكان الجد، فإنه ينبسط ضاحكاً مما سيدحض هذا الباطل، حتى يستفيض من سكرة المتصابي، أو غشية المختبل. كنت أمرّ في مناهج البلد، ومما أراه مرسوماً على بعض جدرانها لفظ: "إلى العلم"، ودخلت إلى جامع قرب محل الحكومة، فرأيت معلقة بإزاء محرابه كتب فيها بخط متسع: "اطلبوا العلم".

بحث في الحرية

* بحث في الحرية: جاذبني السيد إبراهيم إلى البحث في الحرية، فقلت: الحرية يتطوع بها الرؤساء العادلون إذا عافت نفوسهم استعباد من ولدتهم أمهاتهم أحراراً، وقد تتبرج الأمة في بردها الشريف، حين يستولي عليها الشعور، وتتغلب عليها المعرفة بواجباتها، سنّة الله في سير الأمم؛ فإن العلم والأدب يثبت في نفوسهم أكبر الهمة، وإباية الاضطهاد، ويرفعها إلى مكانة واحترام في نظر الماسكين على أمرهم، فيعتدلون في سياستهم، ويغلّون يد من يعمد إلى جرح عواطفهم؛ محافظة على أن تكون قلوب رعيتهم الواقية ماسكة بطاعتها، راضية عن الإقامة تحت سلطتها. * نفحة شعرية: تجولت مع الأديب السيد إبراهيم السيد في بعض بساتين ذات أشجار وأنهار، وما برحنا نتطارح الآداب التي لها مساس بمقام الأشجار، حتى ذكرت له: أني كنت سمعت في دروس بعض أساتذتنا أيام التعلم بيتين، وهما: عذ بالخمول ولذ بالذل معتصماً ... بالله تنج كما أهل النهى سلموا فالريح تحطم إن هبت عواصفها ... دوح الثمار وينجو الشيح والرتمُ فحولتها بعد انتهاء الدرس إلى قولي: ذر الخمول ولذ بالعز معتصماً ... بالله كي تتوقى جيدك القدم فالشيخ يحطمه دوس الثعالب إذ ... لم يعل هاماً وينجو الضال والسَّلَمُ فاهتز لهما قائلاً: تحطيم الرياح، ولا وطئات الثعالب. * رسالة للشيخ البوسي: أطلعني من يد الشيخ عبد الرحمن أحد علماء بيروت على رسالة للشيخ

الشيخ سيدي محمد المكي بن عزوز

البوسي في الفرق بين العرضي والذاتي بقلم مغربي، فإذا هي جامعة في الموضوع، وأول ما قابلني منها: أن تعريف الإنسان بقولهم: الحيوان الناطق للفلاسفة، وهم لا يقولون بوجود الملك، فلا يرد عن التعريف أن فصله غير مانع من دخول الملائكة. * الشيخ سيدي محمد المكي بن عزوز: كان خالنا العلامة القدوة الأستاذ الشيخ سيدي محمد المكي بن عزوز قد كتب لي كتاباً من الآستانة بثّ في مطويه الشوق إلى اللقاء، وقد مضى لنا في مدة فراق فضيلته خمس عشرة سنة، فانتفض الفؤاد اشتياقاً إلى زيارته المؤكدة بواجب القربى، وحقِّ الدروس التي كان قد ملأ أسماعنا بجواهرها الثمينة. عزمت على أن أعرج في إيابي على الآستانة، فعمدت إلى باخرة روسية، وفي حين ما صعدت على متنها، لقيت رجلاً عليه زي علماء الأزهر، وفي يده سِفر، فقلت له: ما هذا الكتاب الذي تنظر فيه؟ فقال لي: ديوان شاعر يقال له: مسلم بن الوليد، فقلت له: أول من أفسد الشعر العربي أبو تمام، ومسلم ابن الوليد. فقال لي: لعلك صاحب أدب، فقلت له: وفي بعض الأحيان يجيش به صدري، فانعقد التعارف بيننا، واستمرت المرافقة إلى الآستانة، وهو الشيخ أحمد بن كمال الغزي اللبابيدي، قرأ بالأزهر نحو سبع سنين، وتولى التدريس بمدرسة الكمال والنجاح في مصر، وحرر مقالات أخلاقية وعمرانية في جرائد كثيرة. جمعت هذه الباخرة طائفة عظيمة من أهل العلم، ما يين أساتذة وتلامذة، فحصل لنا من محاضرتهم ولطفهم ما يكشف ضجر الاغتراب، ويسلي النفس عن معاهد أنسها، فمن هؤلاء الفضلاء: الشيخ راغب التميمي، وابنه السيد

كلام على اللؤلؤ

زكي الدين، والسيد عبد الهادي من بلد الخليل، والسيد علي بن صالح من بلد إحدى القرى السورية. وهذان الأديبان استقيا معارفهما من الأزهر، ثم من مدارس الآستانة، ولهما ذوق جيد في الشعر العربي، وفيما يصحبهما من الكتب: ديوان المتنبي، فكانا كثيراً ما ينشدان من قصائده، ويجري بيننا التفاهم في بعض أبياتها، وربما أمليت بعض انتقادات علقت عليها من قبل؛ كقوله في بعض أبياتها: ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بدُّ فإن لفظ الصداقة هنا ركِّب في غير نظمه؛ إذ الإنسان إنما يضطر في معاملة عدوه إلى مداراته، لا إلى صداقته التي يؤخذ في معناها الإخلاص بالضمير، فكان التعبير بالمداجاة أشد التئاماً بالمراد. كنت جالساً على طرف من الضابور، فجاءني رجل عليه سمة أهل العلم، وخاطبني خطاب من سبقت له معرفتي، وقال لي: إني متشوق إلى لقائكم؛ حيث حدثني بخبركم الشيخ عرفات ببيروت، وهذا الرجل هو الشيخ كمال الدين بن كامل المغربي، أعلمني بأن جده تونسي، وأنه من عائلة درغوث الشهيرة بالحاضرة، وقد أخذ هذا الشيخ معارفه من الأزهر، واستولى خطة القضاء بالسويداء من ولاية الشام، ثم في القطيف من ولاية البصرة، ويقيم الآن بعيداً، ويرافقه في السفر أخوه السيد محمود بقصد استكمال معلوماته في الآستانة. * كلام على اللؤلؤ: ونثر في بعض المحاضرات الكلام على اللؤلؤ، وأطلعنا أحد الرفقاء على كتابة لبعض المتأخرين في التعريف بنشأته، فاقتبست منها ما يأتي: قال

القدماء: إن اللؤلؤ متكون من مطر ينزل في شهر نيسان، فتتلقى بعض قطراته الحيات، ويقع بعضها في الأصداف، فما وقع في أفواه الحيات، صار سماً ناقعاً، وما وقع في الأصداف، تبلور وصار لؤلؤاً، وقد عقد الشاعر العربي هذا المعنى بقوله: أرى الإحسان عند الحر ديناً ... وعند النذل منقصة وذمّا كقطر الماء في الأصداف دُرٌّ ... وفي جوف الأفاعي صار سمّا وقال المحدثون في تكوين اللؤلؤ على ما ورد للعلامة الحوراني في كتابه: "الآيات البينات": إنه يستخرج من أصداف حيوانات عجيبة الصنع والتركيب، تعوم في أول نشأتها على وجه الماء، وتغتذي، ثم تهبط الأعماق تسكن هنالك، وتحمل إليها اللجة الهواء والغذاء، ويتكون عليها الصدف من المواد الكلسية للوقاية من الأخطار، والدرُّ متولد في لحمها من مادة أصدافها عينها، وأعمقه مغاصاً كبره حجماً. والجمهور اليوم على أنه ينشأ من تجمع رمل أو حيوانات ضارة تدخل الصدفة قسراً، فيفرز حيوانها مادة لزجة يغطيها بها، ثم تجمد وتتحجر. ويذهب بعض العارفين: أن السبب الصحيح لإحداث اللؤلؤ إنما هو مرض يأخذ الحلز؛ بدليل أنه متى كان المغاص حسناً، تنمو فيه المحار كثيراً، وتبلغ حجماً عظيماً، وهي نقية ليس لسطحها الخارجي درن ولا ثؤلول، ولا نقوب تحدثها الديان، بل تراه ملساً جميلاً، يدل مجمع حالة على تمتع الحلز بالعافية، متى كان ذلك، ترى اللؤلؤ نادراً قليلاً، وأما إذا كانت الأصداف مشوهة الظاهر، متضخمة عند أسفلها، ملأى بالعقد والأدران، فهذه هي الأصداف الملأى باللآلئ الفاخرة، والدرر النادرة.

مكانة العلم

وقد وجد المحار اللؤلؤي في كثير من الأنهار المنحدرة من جيال بريطانيا وكندا، ولكنه دون اللآلئ البحرية جنساً وقدراً. وأشهر مغاص واقع عند ثغور الخليج الفارسي، والبحر الأحمر، وشواطئ جزيرة العرب، والبحر الهندي، وأستراليا، وبناما، وكاليفورنيا، وفينزويلا، وجزيرة مرغريتا، ويختلف ذوق الناس في لونه، فالأورييون يؤثرون الأحمر، والهنود وسائر من جاورهم يستحسنون الأصفر، وغيرهم وغيرهم. * مكانة العلم: عرض الكلام في شأن العلم، وكيف أدركت الأمم الشاعرة قيمته، فذكر بعضهم أن امرأة أميركانية ألّفت رواية، فاشتراها منها أحد أصحاب المطابع الأمريكانيين بثلاثة آلاف وسبع مئة وخمسين جنيهاً، وكذلك كانت الأمة الإسلامية قبل هذا تشعر بحقيقة العلم، وتمهد العقبات المعترضة في سبيل الطالبين؛ فقد حكى ابن السبكي في "الطبقات": أن أبا نعيم الأصبهاني المتوفى في محرم سنة 430 هـ، لما صنف كتاب "الحلية"، وحمل إلى نيسابور حال حياته، اشتروه بأربع مئة دينار. ذكرنا لهم: أن الشيخ ابن عرفة حكى في درس تفسيره: أن أحمد بن يوسف السلمي الكتاني قال: قلت لشيخنا ابن عصفور: لم أكثرت من الشواهد في شرحك للإيضاح على "كأين"؟ قال: لأني دخلت على الأمير أبي عبد الله المنتصر، فألفيت ابن هشام خارجاً من عنده، فأخبرني أنه سأله عما يحفظ من الشواهد على قراءة "كأين"، فلم يستحضر غير بيت "الإيضاح": وكأين بالأباطح من صديق ... يراني لو أصبت هو المصابا قال ابن عصفور: فلما سألني أنا، قلت: أحفظ فيها خمسين بيتاً، فلما

معنى كلمة المسجد

أنشدته نحو العشرة، قال: حسبك، ثم أعطاني خمسين ديناراً. فمحاضرة هذا الأمير لأهل العربية في دقائقها واحداً بعد واحد، ومكافأته في مثل إنشاد البيت الواحد بخمسة دنانير، مما يتوجه بعزائم قومه إلى التسابق في طرق التعليم، ويشد رغبتهم في الاستقاء من موارده العالية. * معنى كلمة المسجد: ومما عرض في المذاكرة: أن بيت المقدس كان عند نزول قوله تعالى: {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] خرب، وقال ابن عساكر في "تاريخه": إن بيت المقدس حين فتحت كانت منقوضة، وإن عمر هو الذي أمر ببناء المسجد. وكان الجواب عن الآية: أن المسجد اسم للمكان الذي أعد للسجود، وليس من شرط إطلاق المسجد على المكان أن يكون محاطاً ببناء، وعلى إرخاء العنان، وتسليم اعتبار شرط البناء في هذا الإطلاق، فباب المجاز مفتوح، فقد كان قبل نزول الآية ذا بناء كما صار أمره بعد نزولها إلى إقامة جدرانه. * ساعات في الإسكندرونة: وقفت الباخرة بمرأى من طرابلس الشام، وفاتنا أن ننزل إلى داخل البلد؛ لما سبق في ظننا أن الباخرة لا تلبث المدة الكافية للتجول بها، ولكنها أقامت عشية وضحاها. سارت الباخرة إلى أن وصلت مرساها إزاء إسكندرونة، فنزلنا للاستطلاع عليها، لبثنا فيها نحو ثلاث ساعات، ثم عدنا إلى الباخرة، وهذه البلد يحيط بها الجبل من جهة البر، ولغة أهلها العربية والتركية. جلسنا على سطح الباخرة قبل أن تقلع، فطلع القمر من رأس الجبل، وبسط شعاعه على البحر، فأنفذ لنا منظراً يهز القرائح لنسج القريض، فأنشأ

التعصب للمذهب

الشيخ أحمد الغزي شطراً في الغزل، وطلب مني إجازته، فأجزته، واستمرت المساجلة إلى أن تألف منها نحو ستة أو سبعة أبيات، رسمها ذلك الأديب بورقة بقيت عنده، ومما قاله في هيئة القمر حين أخذ في الطلوع، وظهر نصفه فوق الجبل: لاح شطر البدر من فوق الربى ... وله في البحر تمثالٌ أغر فاطمأن اليوم قلبي إذ رأى ... رأي عين كيف ينشق القمر ورأيت الباخرة الخديوية قادمة إلى المرسى والجبل أمامها، فقلت: هذي السفينة تغري الموج جارية ... لمستقرٍّ لها كي تدرأ الكللا فأذكرتني بمسراها إلى جبل ... قول الخليفة: يا سارية الجبلا بلغنا إلى "مرسين" فنزلتها رفيقاً للشيخ مصطفى راغب، والشيخ سالم ابن عثمان أحد علماء يافا، والسيد محمود درغوث، فطفنا بأكثر مناهجها وبعض مساجدها، ثم آوينا إلى جامعها الكبير لأداء صلاة الجمعة، فأخذ قارئ مصري يرتل القرآن بأسلوب يستنبط الدمع من الآماق، ثم صعد الخطيب المنبر، فأحسن الخطابة، ومن جملة ما نطق به في الخطبة قوله: أيها المسلمون! ما بال الإسلام في نزول، وغيره في صعود؟! وما بال المسلمين في نحوس، وغيرهم في سعود؟! وما بال الشرع في عدم، وغيره في وجود؟! ... إلخ. ركب الباخرة من "مرسين" طائفة من العلماء، منهم: الشيخ أحمد بن محمد شكري، والشيخ ولي الدين بن والي، والشيخ علي رضا، فتعززت بهم اجتماعاتنا العلمية، وازدادت بهم رنة الأدب نغمات لذيذة. * التعصب للمذهب: دار الكلام على التعصب للمذهب، والذين يطلقون ألسنتهم في الازدراء

النزول في أزمير

بالمذاهب التي لا يتقلدونها، هذا إنما يقع في الغالب ممن اكتفى بقراءة الفروع في مذهبه، فهو؛ لجهله بغيره من المذاهب، يحملها على ضعف المدرك، والرمي بها على غير بينة، أما من طالع جملة في شرح الحديث والتفسير، ونظر في كتب الخلاف، فإنه يقف على مدارك الأئمة، ويراهم كيف يتحرون مقصد الشريعة، ويستندون فيما يقررونه من الأحكام إلى الدلائل المنصوبة من قبل الشارع، وإذا سبق له أن هذا قد أحكم الاستدلال في قضية، فقد يظهر له أن الآخر قد أصاب المفصل في قضية أخرى. * النزول في أزمير: رست الباخرة على "أزمير"، فسألت طائفة من رفقائنا: هل سبقت لهم معرفة بدخولها؟ فذكر بعضهم أنه أتى عليها مرتين أو ثلاثاً، ولم يتفق له النزول إلى داخلها، فقلت: ننزل قضاء لحق الجغرافيا، فانحدرنا في زورق، وتجولنا بها مقدار ساعتين، ثم انقلبنا إلى الباخرة، وصاحبنا في الزورق عند معادنا أحد المدرسين بقرية قريبة من أزمير، فخاطبه رفيق تركي بلغته، وقال له مشيراً لي: هذا يتكلم بالعربية، فنطق ذلك المدرس بلسان عربي قائلاً: "أنا لا أفهمه إلا إذا خاطبني بالعربية الفصحى"، فتجاذبنا طرف الحديث، إلى أن وصلنا إلى الباخرة. * الوصول إلى إستنبول: عرجت الباخرة على جزيرة "رودس"، وأقامت تجاهها نحو ثلاث ساعات، ثم أقامت وسارت إلى أن ولجت "بوغاز الدردنيل" فسبحت فيه ليلة ونصف يوم إلى الآستانة، وألقت مراسيها قريباً من الرصيف، فانحدرنا في زورق إلى إستانبول، فلقينا فضيلة المحقق الهمام الشيخ سيدي محمد

الكلام على الحلول والاتحاد

المكي بن عزوز في انتظارنا، وأقمنا بمحل حضرته "باشكطاش". زرت جامع آية صوفيا، وشهدت به درسين يقرران باللسان التركي، أحدهما في التفسير، والآخر في الفقه. ثم زرت جامع بايزيد، وشهدت به دروساً أيضاً باللسان التركي، ويقال: إن الشيخ الفناري الذي كان قاضياً بالآستانة، عاتب السلطان بايزيد على عدم حضوره الصلاة في الجامع، فأنشأ هذا الجامع؛ ليحرز فيه صلاة الجماعة. * الكلام على الحلول والاتحاد: وزرت مكتبة راغب باشا، فلقيت بها الشيخ أحمد باي أحمد علماء بغداد، أخبرني أنه طالع "الفتوحات المكية" مرات عديدة، وزاول الكتب العالية في الأصول والحكمة والبلاغة، واتفق أن لم يبسط في هذا المجلس سوى الكلام على الحلول والاتحاد الذي ينسب للصوفية، وقال: إن المعترضين لم يفهموا مرادهم، وأخذ يقرر محاضرين باللسان التركي، فالتفت نحوي أحدهم، وقال لي: مالك لا تتكلم في هذه المسألة؟ فقررت حينئذ ما أعهده للشيخ أبي عبد الله محمد بن قاسم البكي في شرح عقيدة أبي الحاجب، وذلك أقرب ما يفهم، وأوجز ما علق بذهني في هذا المطلب، وهو أن من الناس من ينسب القول بالاتحاد والحلول إلى الصوفية، بل إلى الكل منهم، كما وقع ذلك للشيخ أبي حامد في كتبه، أخذاً من ظاهر كلام الأشياخ؛ كأبي يزيد البسطامي، وهذا إنما يتوهمه فيهم من ليس له اطلاع على أحوالهم، على أنه لم يرد في اصطلاح القوم شيء من إطلاق الحلول والاتحاد، إلا ما وقع في اصطلاح المتأخرين؛ كالشيخ ابن الفارض ومن معه من إطلاق لفظ الاتحاد، وأما الحلول، فلم يطلقه أحد، ومراد الشيخ ابن الفارض في الاتحاد: ما ذكره بعض المتأخرين

الخطباء من الترك

في الاصطلاح، وهو شهود اتحاد تعلق الموجودات كلها به -جلّ وعلا-؛ إذ هي به موجودة لا بنفسها، وهذا هو المسمّى عندهم: بالفناء في التوحيد، كما صرح به الشيخ أبو حامد الغزالي في كتاب: الصبر في "إحيائه". ولا يبعد أن تكون طائفة قد انتمت إلى الإسلام ظاهراً، واستعارت لباس الصوفية، لما علمت من مكانتهم في معتقد الأمة، وأخذت تبث هذه المقالات الناقضة لأساس الدين، وهذا الشيخ محيي الدين بن عربي، الذي هو أبعد الصوفية مرمى في هذا المقام يقول في (صحيفة 39) من أول "فتوحاته": "تعالى الله أن تحله الحوادث، أو يحل في الحوادث". وحدثني خالنا الأستاذ: أن راغب باشا لما أنشأ هذه المكتبة، فكر ليضع لها تأريخاً، ففطنت به امرأة عارفة، فقالت: "فيها كتب قيمة (¬1) "، فكانت هذه الجملة تأريخ تأسيس المكتبة، وقد رسموها في لوح معلق الآن في ناحية بابها. * الخطباء من الترك: شهدت الجمعة بالجامع الذي أنشأه السلطان عبد الحميد إزاء قصر "يلدز" ثم جامع "آية صوفيا"، ثم جامع الشيخ ظافر. لا يبسط الخطباء من الترك في الموعظة، وإنما يأتي الخطيب بالديباجة من حمد وصلاة ورضا عن الصحابة، ثم يلقي جملة فيها أمر بالتقوى، ويضيف إليها حديثاً أو آية. وذاكرت في هذا أحد الأساتذة، وقلت: لعلهم يراعون أن غالب الحاضرين لا يفهمون العربية، فيقتصرون على القدر الذي يتم به نصاب الخطبة؟ فقال: كان هذا من أثر العصر السالف حيث يخشى من استطالة الخطبة أن تبث فيها آراء سياسية. ¬

_ (¬1) تأسست عام 1068 هـ.

الشيخ إسماعيل الصفايحي

* الشيخ إسماعيل الصفايحي: زرت فضيلة العلامة الهمام الأستاذ الشيخ سيد إسماعيل الصفايحي (¬1) بمنزله القريب من السراي، فبذل لنا من المبرة والابتهاج باللقاء ما لا يسع اللسان شكره. زرت هذا الأستاذ مرة، وجاوزت الحديقة إلى البيت الذي يلاقي فيه الزائرين، فألفيته مستقبل القبلة، وهو يقرأ "صحيح البخاري" بلهجته الطيبة، فجلست بكرسي على جانب منه، ولم أشعره بحضوري في البيت؛ ليستمر على القراءة ما شاء، ولكنه لحظني، فقرأ بعد ذلك حديثاً أو حديثين، ثم أطبق السفر، وختم بالدعاء، وأقبل على بالترحاب. زرت في صحبة فضيلته الزكي الفاضل السيد أليفي شيخ مشايخ الطرق، وتناول حضرة الأستاذ، إلى أن ألقى في تقديمي إلى الشيخ وتعريفه بحالي، عبارات صاغها خلوص ضميره، ورقة عواطفه عليّ، فقد كنت كلفاً بأساليب تعليمه، ومعظم ما أدركت في التعلم من دروسه. وبينما نحن جالسون إلى حضرة هذا الشيخ، ورد على المجلس شيخان، أحدهما عربي، والآخر تركي، فأخذ الأول يتكلم في اصطلاحات صوفية؛ كالفرق بين المظهر والتجلي، ثم قدم إلى شيخ الشيوخ إجازة ليطالعها. * تسمية كتاب "الشفا": مما أعلمني به فضيلة خالنا الأستاذ: أن الشيخ محمود الشنقيطي انتقد على القاضي عياض -رحمه الله- تسمية كتابه بالشفا، وقال: إن الشفا ممدود، ولا يسوغ قصره إلا لضرورة الشعر، وهي مفقودة في وضع هذا الاسم، وقال ¬

_ (¬1) أحد القضاة التونسيين هاجر إلى الآستانة.

عيادة مريض

الشيخ الأستاذ: كنت أجبت عن هذا؛ بأن اسم الشفا قد وقع موقع الوقف؛ حيث أتى خاتمة فاصلة، والممدود يوقف عليه بالقصر، كما هو مقرر في علم القراءة. فذكرت في هذا المجلس: أن الإمام ابن عرفة نقل عن الشهاب القرافي اعتراضه على الإمام المازري في تسمية كتابه "المحصول"، وقال: إن المحصول اسم مفعول، وفعله قاصر، فالصواب أن يسمّى: المحصول فيه، وقال الشيخ ابن عرفة: وهذا غير لازم؛ فإنه علم، والأعلام لا تجري تحت ضابط، وقد قال تعالى: {سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 14]. ولو كانت مراعاة القاعدة لازمة هنا، لقال: المنتهى إليها. فيصح أن يقتبس من هذا التقرير جواب ثان عن التسمية بالشفا، فقال الأستاذ: وهذا أيضاً جواب يحل الاعتراض. * عيادة مريض: خرجت ليلة صحبة فضيلته لزيارة أحد الأصدقاء، والسبلُ وعرة، والمطر يرشح، فكنت أقتفي أثره وأتمهل في الانحدار، فقال لي: سر على أثري، وقد قرئ قوله تعالى: {عَلَى أَثَرِي} [طه: 84] بسكون الثاء وفتحها، فقلت: يؤخذ من الآية: أن الإنسان يخبر بما يظنه واقعاً، ولا حرج عليه أن يبرز الخبر في صورة القطع؛ فإن سيدنا موسى - عليه السلام - كان يظن أن قومه في أثره، وألقى الخبر، وذلك من غير أن يسنده إلى ظن، فقال الشيخ الأستاذ: هذا حسن، ورتب عليه قول الفقهاء: واعتمد البات على ظن قوي. زار فضيلة الأستاذ منزل الزكي السيد محمد بلكباش التونسي عائداً له، فلم يوافق حضوره في البيت، فلما حدثني الأستاذ بذلك، أنشدت البيت:

حديث المهدي

وأعجبُ شيء سمعنا به ... مريضٌ يُعاد فلا يوجدُ فقال -حفظه الله-: قد ذكرت هذا البيت، وأضفت إليه بيتاً آخر، وأنا نازل في درج السيد المعاد، وهو: ولكن يدل على برئه ... ثم كرر هذا الصدر ليتذكر العجز، فقلت: وذلك غاية ما يقصد فقال: بل قلت: فمن أجل ذا ربنا نحمد وهكذا كانت مجالسه فائضة بالفوائد والآداب. كنت ماراً رفيق ذلك الأستاذ على الجسر الذي يصل إستانبول "غلطة"، فلقينا السيد وجيه من أبناء الشيخ الجيلي - رضي الله عنه -، وأحد الكتاب بباب المشيخة، ومما ذكر الأستاذ في التعريف بشأنه: أنه ينظم الشعر باللغات العربية والتركية والفارسية. * حديث المهدي: ركبت في بعض الأيام الباخرة التي تتردد ما بين باشكطاش وإستنبول، وكان جلوسي بجنب رجل من الأهالي، فبعد أن خطب معرفتي، بسط في الثناء على فضيلة الأستاذ الشيخ سيدي إسماعيل، وحدثني بأنه كان يتضلع في دروسه في الحديث، وهذا الرجل هو السيد حسن فوزي أحد الكتاب بالباب العالي، وقد سألني في هذا المجلس عن خبر المهدي، فذكرت في جوابه خلاصة ما في رسالة السيوطي المسماة "العرف الوردي"، وما قاله ابن خلدون من الخدش في تلك الأحاديث، وذكر حديث: "لا مهدي إلا عيسى" فذكرت له ما أعهده لابن السبكي في "الطبقات"؛ فإنه قال في ترجمة يونس بن عبد الأعلى

الشيخ عبد العزيز جاويش

ابن حيان: وتكلم جماعة في هذا الحديث، والصحيح فيه: أن محمد بن خالد الجندي تفرد به، وذكر أبو عبد الله الحاكم أن الجندي رجل مجهول. * الشيخ عبد العزيز جاويش: لقيت العالم الشيخ عبد العزيز جاويش بعد إيابه من مصر، وثبوت براءته مما ألصقوه به من التهمة بحادثة الأوراق، فأنشدته عندما ظهر عليه الأسف من حال السجن على وجه التسلية وترويح الخاطر: قول ابن الجهم: قالوا: حُبست، فقلت: ليس بضائري ... حبسي وأي مهند لا يغمدُ والحبسُ ما لم تغشَهُ لدنِيَّةِ ... شنعاء نِعْمَ المنزل المتورّدُ وقد نظم له الشاعر الرصافي قصيدة في هذا الغرض يقول في طالعها: إني عهدتك لا تكون بؤوساً ... مهما لقيت مصائباً ونحوسا كم قد صدمتَ النائبات بهمة ... جعلت لها الصبر الجميل لبوسا إلى أن يقول: جارت سياستهم عليك فأغضبت ... أهل العدالة سائساً ومسوسا ولو أنّ أخلاق الرجال صحيحةٌ ... ما كان حقك عندهم مبخوسا إن يظلموك فإن حبك لم يزل ... في قلب كل موحِّد مغروسا والشمس تشهد أن فضلك مثلها ... تحيي النفوس وتقتل الحنديسا ولئن لقيت أذى فكم من مصلح ... لقي الأذاة مفجعاً متعوسا ضحكت وجوه الترهات ولم يزل ... وجه الحقيقة في الأنام عبوسا وجدته حين لقيته يفسر قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء: 16] الآية ... على معنى: جعلنا مترفيها أمراء، ففسقوا باتباع الهوى، واحتياز

فضيلة الاتحاد

المنافع لأشخاصهم، بدون احترام للحقوق، ولا مبالاة بسوء العاقبة، فقلت له: ومن وجوه تفسير الآية: أنها واردة على معنى: أمرناهم بالعدل، وما فيه تقوى، ففسقوا بالجور واتباع الشهوات، فقال: نعم، قيل هذا، ولكني أفضل الوجه الأول في التفسير، والوجه الذي ذكرناه صدر به الرازي، ونسبه إلى الأكثر. * فضيلة الاتحاد: جذبني إلى الكلام في فضيلة الاتحاد، فقلت: إن الاختلاف طبيعة بشرية لا تخلو عنه هيئة مجتمعة؛ فإن أسبابه من الأعراض اللازمة للهيئات الاجتماعية، وترجع هذه الأسباب إلى أمرين: أحدهما: تفاوت في إدراك الحقائق؛ فقد تبصر هذه الطائفة الصلاح في عمل، فتقبل عليه بسعي حثيث، ويقصر عنه نظر طائفة أخرى، فتغمض عنه أجفانها، وتأخذ بيد غيرها إلى الإدبار عنه. ثانيهما: تفريق الأهواء؛ فقد تستوي أنظار الطائفتين في العلم بالمصلحة، ولكن تبتلى إحداهما بهوى غالب، يطيش بها إلى لذة خاصة، ويقطعها عن الأخذ بالمصالح المشتركة. وإذا كانت أسباب الخلاف في الآراء والمساعي طبيعة بشرية، فالساعي إلى الاتحاد لا يقصد بدعوته أن ترضى الأمة عن كل رأي ينشر، أو تلتئم مع كل جمعية تؤلف؛ بحيث ترخي ذيل التغاضي عما يعرض في الآراء من الخطأ، أو توسع قبولها لكل ما يصدر عن الجمعيات من الأعمال، وإنما يريد فيما ينصح: أن تتحرى الأمة العمل على شاكلة الوفاق، وإذا فتّتهم طبيعة اختلاف العقول، أو تغلب الأهواء في شعبة، وقفوا عند حد لا يشرف بهم على خاتمة سيئة.

زيارة مكتبات استنبول

* زيارة مكتبات استنبول: زرت مكتبة عاشر، ومما ألفيته في كتبها النادرة: تفسير لمجد الدين صاحب "القاموس"، وطالعت منه نبذة، فإذا هو من أحسن التفاسير، ولكنه لا يكتب في كل آية. وزرت مكتبة قرب بني جامع، فألفيت بها تآليف نادرة، منها: "شرح ابن جني على ديوان الحماسة"، و"إرشاف الضرب" لأبي حيان، وشروح: ناصر الدين الترمذي، وسلطان شاه، وحسام الدين الموذني، وعماد الدين الكاشي على كتاب "المفتاح". وزرت مكتبة بايزيد، ومما طالعته في كتبها النادرة: كتاب "الصناعة" لابن جني، وكتاب "القول السديد في التقليد"، وذكر في خاتمته: أن للإمام ابن عرفة المتأخر كتاباً أسماه: "إيثار الحق عن الخلق". وهذا كتاب لا نعرفه للشيخ ابن عرفة قبل هذا. ومنها: شرح للشيخ علي قاري على كتاب "عين العلم" الذي انتخب فيه مؤلفه "الإحياء" للإمام الغزالي، وهذا المنتخب قيل: لبعض الفضلاء من الهند، على ما قاله العلامة ابن حجر في شرح مقدمته، وقيل: إنه منسوب إلى بعض العلماء ببلخ. ولقيت في هذه المكتبة الشيخ شرف الدين أحد المدرسين الأذكياء، وأول خطاب توجه به إليّ: أنه رأى في يدي بعض شروح الشفا؟! للشيخ ابن سينا، أخذته لمطالعة بعض المباحث، فقال لي: تنظر كتاب الشفا؟! هذا الكتاب وأمثاله من الفلسفة القديمة التي لا فائدة في الاشتغال بها، ومطالعة الكتب الحديثة في هذا العلم أعظم فائدة وأغنى، فقلت: نطالع التآليف الحديثة، ولا ننكث أيدينا من القديم، وهنا تمادت بنا المحادثة إلى

بين القديم والحديث

التعارف، وأخذ الموعد على اللقاء. * بين القديم والحديث: بسط هذا الشيخ في اللائمة على أصحاب الأفكار الواقفة ممن ينتسب إلى علماء الإسلام، فقلت: لا أنكر أن يكون فيمن ينتمي إلى العلم طائفة لم تسرح أنظارها في مجال متسع، فقد تكلم بعضهم بحرمة أشياء لم يرد عن الشارع في مثلها كراهية، والقواعد التي أقرها الأئمة المجتهدون تقتضي الأخذ بمصالحها، والعمل على شاكلتها، ولكني لا أتطرق فأدخل في حزبهم المعتدلين مثلما يفعل المتطرفون، وكثيراً ما تصدر المقالات المتغالية عن عدم استكشاف الفقيه لحال ما أفتى به، ومن أمثلة هذا: أني سمعت بعض العلماء الوافدين على الحاضرة يقول: المخابرة في التلغراف غير جائزة؛ ظناً منه أنه من قبيل السحر أو التكهن، حتى أخبره أحد الحاضرين: بأنه مقام على قواعد وعلم يدرس، وأن أعماله ظاهرة يباشرها كل أحد أدرك صناعته، فرجع وقال: فهو حينئذ حسن، فهذا الفقيه لم يكن واقف الفكر، ولكن فاته الاطلاع على حقيقة تلك الآلة قبل أن يتكلم في حكمها. وذكرت بهذا المقام ثلاثة أبيات للشيخ عبد الرحمن بن سلام العالم البيروتي، أنشدنيها حين زار منزلنا بدمشق، وقد ضلّ من ذاكرتي الآن بعض ألفاظها، ومعناها: أن الأفكار القابلة للتصرف والنماء إنما تقذف بنتائجها، وتلمع ببروق أفعالها، إذا نقر عليها الجامدون، وقدحوها بزناد ما يصنعون، كما أن نغمات الوتر لا تنتشر إلا إذا جسها العود الجامد بضرباته، والبيت الثالث منها: فالجمع بينهما لابد منه إذاً ... فالعود لولاه لم تطرب بصوت وتر

الشيخ إبراهيم ظافر

زرت مكتبة كوبرلي، ولم أتمكن من مطالعة شيء من كتبها؛ لما يباشر فيها من الإصلاح لذلك الحين، ويوجد في هذه المكتبة كتاب "المحلّى" لابن حزم، الذي قال في حقه عز الدين بن عبد السلام: لم يؤلف مثله في الإسلام. وزرت مكتبة آية صوفيا أياماً، ولم أوافق أوقات انفتاحها، ويوجد في هذه المكتبة تسعة أجزاء من كتاباً التمهيد" لابن عبد البر، ولم أظفر به فيما عرفت من المكاتب العامة أو الخاصة. * الشيخ إبراهيم ظافر: زرت صحبةَ خالنا الأستاذ منزلَ الفاضل الشيخ السيد إبراهيم ظافر، فتلقانا هذا الشيخ وأخوه الفاضل السيد حسن ظافر بمجاملة فطرية، وآداب مهذبة. وعند أول اجتماعنا بالسيد حسن ظافر، قال له حضرة الأستاذ (¬1) على وجه التواضع والتنازل: هذا ابن أختي، قرأ عليّ، ولكنه صار الآن أرقى رتبة، فقال له السيد حسن: نحن لا يمكننا أن نعتقد بأن يبلغ شأوك أحد، فضلاً أن يفوقك، وهذه العبارة تشعر بأن العائلة الظافرية تقدر مقام ذلك الأستاذ حق قدره. * دار الفنون ومدرسة الواعظين: زرت مدرسة الواعظين، وشهدت أحد الشيوخ يدرّس باللسان التركي، فأصغيت إليه، فإذا هو يقرر في مبحث: تكوين السحب والرعد والمطر، وإنما عرفت المبحث؛ لكثرة ما يتخلل اللغة التركية من ألفاظ العربية، حتى قدرها بعضر من تصدى لإحصائها بنسبة سبعين في المئة، أي: المئة كلمة في اللسان ¬

_ (¬1) العلامة محمد المكي بن عزوز خال الإمام.

القفاز

التركي يكون نحو السبعين منها عربياً. بعد انتهاء الدرس، نهض أحد التلامذة للسلام عليّ، وكان مرافقاً لنا من "مرسين" إلى الآستانة، وأعلمني بأن هذا المدرس هو الشيخ عبد اللطيف الخربوتي معلم علم الكلام في دار الفنون ومدرسة الواعظين، والكتاب الذي كان بصدد دراسته من مؤلفاته، ويسمى: "علم الكلام في عقائد أهل الإسلام"، اطلعت من يد هذا التلميذ على نسخة منه طبعت بالآستانة، فرأيته مؤلفاً باللسانين، أعلى الصحيفة عربي، وأسفلها تركي، بينهما خط فاصل. وكانت في يد هذا التلميذ أوراق من تأليف في الأدب للسيد معروف الرصافي، وجميعه باللسان التركي، ما عدا القصائد والأبيات، فإنها عربية، وحدثني التلميذ بأن صاحب هذا التأليف له درس في الأدب العربي بهذه المدرسة. * القفاز: زار أحد التلامذة من "بني غازي" منزل خالنا الأستاذ، فحدثني الشيخ: أن هذا التلميذ كان رافقه من بني غازي إلى الآستانة، فرأى عنده ما يلبس في اليد لوقاية البرد، قال: فسألته عن اسمه باللسان التركي، ثم عن اسمه باللسان الفرنساوي، فأجابني بهما، وسألته: عين اسمه عند العرب، فأجاب: بعدم المعرفة، فقلت له: إن جهلك باسم الشيء في لغة قومك مع علمك باسمه في لغة أخرى، مما يلصق بك نقيصة، ويجر إليك ملامة، ثم أعلمته بأن اسمه في العربية: "قُفَّاز". * عطلة يوم الثلاثاء: اتخذ أهل الآستانة يوم الثلاثاء يوم استراحة من التعليم زيادة على يوم

فاتحة الرسائل

الجمعة، ويذكرون في سبب هذا: أن الشيخ الفنري كان يترك الدراسة به؛ ليشتغل التلامذة بالنسخ، فبقيت البطالة فيه إلى اليوم عادة مستمرة. * فاتحة الرسائل: ومن عوائدهم في المراسلات، بل عادة الشرق فيما رأيت: أن يصدروها بكلمة: "الحمد لله" فقط، ومنهم من لا يكتب في طالع المكتوب شيئاً. كنت اطلعت في رحلتي إلى الجزائر سنة 1322 هـ على قصيدة تسمى: "نفيسة الجمان في فتح ثغر وهران"، وهذه القصيدة وشرحها للشيخ محمد بن أحمد بن عبد القادر أبو راس، ومما ذكر في هذا الشرح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكتب في أول الرسائل البسملة فقط، واستمر الأمر على ذلك إلى أن ولّي السفاح أول ملوك بني العباس، فزاد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستمر الأمر على هذا إلى أن بويع يوسف بن عبد المؤمن، فجعل مكان البسملة: الحمد لله، وعليه العمل اليوم. * سياسة الدول: وممن يزورنا ونزوره: الفاضل الأديب السيد أحمد باي بن الأمير فضل، وقد أهداني رسالة حافلة ألفها في فضل الاتحاد، وأطلعني على بعض منظومات له جيدة، ولهذا الذكي ولع بالبحث في الشؤون العامة، والاستطلاع على دقائق الأدب. طاف بي في المقعد الذي أعده للزائرين على معلقات يشتمل بعضها على قصائد من إنشائه، حتى انتهينا إلى معلقة فيها مثال راية سوداء، فأنشدته: أعلامه السود إعلام بسؤدده ... كأنهن بخد الملك خيلانُ جذبني إلى الكلام في حال الدول بوجه عام، فقلت: من شأن الدولة

وعكة صحية

الراسخة الدعائم: أن تكون لها أصول مقررة، وصبغة معروفة؛ بحيث يكاد الممارس لسياستها يحكم في أعمالها المستقبلة، ويتخرص للقضايا التي ستجريها في الحوادث، وإن لم يكن في أمثالها قوانين مفصلة، سواء بقي الأمر بيد هيئة واحدة، أو استحال إلى غيرها، فإن الهيئة الحاكمة في الدول القائمة، إذا تجددت، إنما تخالف ما قبلها في سن بعض القوانين، أو إدخال بعض إصلاحات تدريجية، ولا تقلب سياسة الهيئة السالفة من أسلفها إلى أعلاها، إلا إذا لم يكن للدولة في أصلها نظام كلي، وسياسة متأصلة، أو كانت أفراد تلك الهيئة الحادثة غير قائمة بتعاليم السياسة المقررة للدولة؛ بحيث تكون أساليبها مصبوبة في مداركهم؛ كالملكات تصدر عنها الأعمال المطابقة بسهولة. * وعكة صحية: دعانا الفاضلان السيد الحبيب بن الشيخ، والسيد المختار بن الشيخ التونسيان لزيارة منزلهما، وانتظم المجلس بفضيلة خالنا الأستاذ، والسيد حسن ظافر، وعندنا أخذنا نقتطف أزهار الحديث، أدركني خفقان في القلب، وضعف بالغ لا أعرفه فيما سلف، وكان الوجع يطالبني بالتأوه، فأحافظ على السكينة حتى سقطتُ على الوسادة، ومن مساعدة القدر: أن حضر الطبيب العارف السيد رجب بقصد السمر، فجس النبض، واستجلب الدواء، فاستفقت من الغاشية، ولا أنسى أني لقيت من هذه العائلة إشفاقاً خالصاً، ومبرة عاطفة حتى مطلع الشمس. * القمر ليلة أربعة عشر: جئت يوماً رفيقاً لخالنا الأستاذ إلى الباخرة التي تسير من إستانبول إلى "باشكطاش"، فالتقيت بالفاضل السيد محمد بن الشيخ يوسف الأسير، وكان

الخضر - عليه السلام -

أبوه من علماء بيروت، وهو ناظم "مجمع الأمثال" للميداني، فقرأنا من محادثته شهامة وكرم أخلاق. سأله حضرة الأستاذ عند موقف الوداع عن العدد المرسوم على باب منزله، عسى أن تدعو إليه الزيارة، فقال: عدد 14 أربعة عشر، فلاحظ له الشيخ أن هذا العدد يشير إلى كمال صاحب المنزل؛ لأنه عدد الليلة التي استوفى فيها البدر ضياعه كاملاً، وذكر له قول المفسرين في قوله تعالى: {طه} [طه: 1]: أن الطاء تسعة، والهاء خمسة، والمجموع أربعة عشر، فكان المعنى: بأن وجهه كالقمر ليلة أربعة عشر. وممن يزورنا ونزوره: الفاضلان الشريفان: الشيخ السيد إبراهيم، والشيخ السيد أبو السعود ابنا السيد أسعد المدني، فشهدنا في بساط محاضرتها أدباً عالياً، وأنساً خالصاً. وزرت صحبة فضيلة الأستاذ الشيخ سيدي إسماعيل الصفائحي منزل الفاضل الشيخ يونس، وكان هذا الشيخ قاضياً بالعسكر، فأهداني رسالة ألفها في أسرار بعض العبادات، وسماها: "درر الحكم"، وفي أثناء المجلس دخل ابنه، وهو ضابط في الجيش، وودعه قاصداً الخروج إلى موقع الحرب. التقيت في مكتبة بايزيد بالرحالة خليل الخالدي، فحدثني: أنه زار تونس سنة 1311 هـ، ودعاه أحد الطلبة إلى منزله القريب من باب سيدي عبد الله، واطلع عنده على كتاب "المدارك"، قال: وقد ذكرت اسمه في رحلتي. فذكَّرته أني ذلك التلميذ الذي كان قد دعاه، وأراه كتاب "المدارك"، فاستأنف التحية والترحاب. * الخضر - عليه السلام -: عزمت على مبارحة الآستانة إلى الحاضرة، فتوجهت لوداع الأستاذ

مغادرة الآستانة

الشيخ سيدي إسماعيل، صحبةَ خالنا الشيخ، ومما جرى في المجلس ذكر الخضر - عليه السلام -، فنقل حضرة الشيخ سيدي محمد المكي بن عزوز عن الإمام النووي: أن أكثر العلماء والمحدثين يقولون: إنه حي، فقلت: لعل مستندهم في هذا الطريق غيبي؛ لأني أعهد للحافظ السيوطي فيما نقل: أنه سئل البخاري عن الخضر: هل هو حي؟، فقال: كيف يكون ذلك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم ليلتكم هذه" إلخ الحديث، فقال: بل من طريق النقل، وروى أثراً عن سيدنا عمر بن عبد العزيز في ذلك. وجرّت المناسبة خالنا الأستاذ إلى أن قال: يعجبني من إنصاف الشيخ ابن حجر: أنه يقول في شرح كثير من الأحاديث الصريحة في الحكم بخلاف مذهبه، وهذا ومن هنا انفتحت المحاضرة في الاجتهاد والتقليد، ولفضيلة الأستاذ الشيخ سيدي محمد المكي بن عزوز تآليف في مواضيع متعددة أطلعني على بعضها، ومن أنفسها: "رسالة في العمل بالحديث"، وأنه حجة في تقرير الأحكام. * مغادرة الآستانة: بارحت الآستانة يوم السبت 6 ذي الحجة، وامتطيت باخرة فرنسوية إلى بلد "مرسيليا"، وصاحبنا في السفر الشيخ السيد عز الدين أحد علماء طرابلس، وكان قد استولى القضاء في بعض نواحيها، وله كلف بالشعر الرقيق، واقتبس في محفوظاته قسطاً وافراً منه، وأنشدني جملة من أشعار تونسية أخذها عن الشيخ محمد الحشائشي التونسي -رحمه الله-. ولما لقيت الرجل على جانب من الأدب، كنت أغتنم الفرصة لمطارحته بإنشاد الشعر أو إنشائه، وكان يحافظ على ما نطارحه، بل ويقيده في ورقة.

منار أزمير

ولما أشرفنا على بلد "أزمير" وواجهتنا بمنظرها الهلالي، أنشأت له: لأزمير شكل كالهلال مقوَّسٌ ... ولكن له في منتهى البحر ألوان وأحسبه الشكل الذي اختطف النُّهى ... لقوم فقالوا: في الكواكب سُكَّان * منار أزمير: أقامت الباخرة بأزمير ليلة وصبيحتها، وكنت برزت قريباً من العشاء على سطح الباخرة، وذلك الشيخ يؤانسني، فانكشف لنا منار على الرصيف يتضح ضياؤه مرة، ويتوارى مرة أخرى، فأنشأت: كأن مناراً يهتدى بضيائه ... ومنظره المحمّر يبدو ويختفي حَشاً تقذف الأشواق فيه بجذوةٍ ... وآونة يرجو الوصال فتنطفي قام هذا الشيخ مرة يصلي، فوقف بعض النوتية يعبث بتقليده، فأكمل صلاته بمنتهى اعتدال وطمأنينة، وبعد أن خرج من حرم العبادة، التفت إليّ وقال وهو مستريح الخاطر: لا يعبأ بهذا الصنيع، يشير إلى أنه من لعب الصبيان. إذا لم يكن مر السنين مترجماً ... على الفضل في الإنسان سميته طفلا * منار نابولي: بلغنا إلى "نابولي" مساء يوم الجمعة، وحين أرسل الليل سجافه، رأيت بها مناراً يتجلى مشرقاً في دائرة متسعة، ثم يتضاءل إلى أن يصير في صغر الكواكب، فأنشأت فيه: تخال سراجاً كالغزالة ينجلي ... ويلمع في لون السها حين يقلص أقيم مثالاً في العيان لقولهم ... على وصف إيماني يزيد وينقص

جولة في مرسيليا

* جولة في مرسيليا: أقلعت الباخرة إلى "مرسيليا"، فوصلتها صباح يوم الأحد، فتبوأنا بها منزلاً، ثم تجولنا بمناهجها الفسيحة ما بين مبانيها الشاهقة، وامتطينا عربة كهربائية سارت بنا في بعض أطراف المدينة ودواخلها مقدار ساعة، وشهدنا في هذه المدينة حركة منتشرة، وعملاً متواصلاً. * العودة إلى تونس: ركبنا الباخرة قرطاج، وعندما أتينا على سمت بلد المرسى، وانكشف من مبانيها وبساتينها ما عظم بتشوقي إلى طلعة صاحيي الشيخ سيدي محمد الطاهر بن عاشور، وتضاعف عندي تذكار عهده الوثيق، أنشأت مناجياً لفضيلته: قلبي يحييك إذ هبت سفينتنا ... تجاه مطلعك المحروس يا علمُ تحية أبرق الشوق الشديد بها ... في سلك ودّ بأقصى الروح ينتظمُ انسحبت الباخرة إلى حلق الوادي، وبعد مجاوزتها إلى الرصيف، وأخذِها في التأهب لإلقاء مراسيها، أنشأت بيتين خاتماً بهما المطاف، وهما: أرى سفري شعراً ولكن بيوته ... مفصلة في غير بحر وفي بحر ومقطع عودي من بدائعه ألا ... ترى عجزاً قد رد فيه على صدري

حديث عن رحلتي إلى دمشق

حديث عن رحلتي إلى دمشق (¬1) سافرت من القاهرة في الساعة الخامسة والنصف من مساء يوم الأحد 25 ربيع الآخر سنة 1356 هـ، الموافق 4 يوليو سنة 1937 م. ووصلت إلى حيفا في الساعة التاسعة والنصف من صباح يوم الاثنين، وامتطيت سيارة إلى دمشق، فدخلتها في أوائل الساعة الثالثة بعد الظهر، واستقبلنا شقيقنا الأستاذ السيد زين العابدين، والأستاذ الشيخ بهجة البيطار في جماعة من أهل العلم والفضل قرب الصالحية، وسرنا إلى منزل شقيقنا بحي الميدان، وما نفضنا غبار السفر، حتى أخذ أهل العلم والأدب وكرام القوم يتفضلون بالتحية والمؤانسة، وأخص بالذكر منهم: الأستاذ الشيخ محمد كامل القصاب، والأمير سعيد حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، والأساتذة الشيخ محمد العطار، والشيخ محمود ياسين، والشيخ حسن الميداني، والشيخ عبد الوهاب الطنطاوي، والشيخ عبد القادر الطنطاوي، والشيخ محمد الكافي، والشيخ محمد هاشم الخطيب، والشيخ عبد الرحمن الخطيب، والشيخ الشريف الخطيب، والشيخ جميل الشطي مفتي الحنابلة، والشيخ الحلواني شيخ القراء، والشيخ أبو الخير الميداني، والشيخ ياسين الفرا، والشيخ حسن الشطي، والشيخ محمد أحمد دهمان، والشيخ علي ظبيان، والشيخ عبد الجليل الدرة، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الخامس والسادس من المجلد العاشر.

والشيخ محمد سعيد النعساني مفتي حماة، والسيد الشريف النص، والسيد عارف الدوجي، والسيد توفيق البزرة، والسيد عبد الحكيم الطرابلسي، والسيد أحمد قشلان، والشيخ حامد التقي، والشيخ قاسم القاسمي، والشيخ صلاح الزعيم، والأساتذة: خليل مردم بك، ورشيد بك بقدونس، وعمر بك فرحات، والدكتور سعيد الأسيوطي، والدكتور عزت شموط، والأستاذ عبد القادر بن المبارك، والأستاذ عبد القادر المغربي، والأستاذ بدر الدين الصفدي، والأستاذ سليم الجندي. ومن أفاضل علماء العراق الأستاذ الشيخ طه الراوي وكيل المعارف ببغداد، والأستاذ الشيخ بهجة الأثري مفتش الأوقاف بها. وقد تلقينا إيناس هؤلاء السادة، وما تفضلوا به من الزيارات، كما تلقينا إقبالَ فضلاء حي الميدان واحتفاءهم البالغ بالشكر الصادر من صميم الفؤاد. وأقام طائفة من أهل العلم والأدب ورجال النهضة السورية مآدب وحفلات شاي لقدومنا، وحضر هذه المجامع كثير من كرام القوم وعلمائهم وأدبائهم. وأخص بالذكر من هؤلاء الذين قابلونا بهذا الاحتفاء: معالي وزير المعارف والعدلية الدكتور عبد الرحمن بك الكيالي، وسعادة الأمير سعيد حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، وحضرة المهندس الكبير الدكتور عبد الوهاب المالكي، وحضرة الأستاذ الكبير جودت الهاشمي أستاذ الرياضيات في تجهيز دمشق، وحضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة: الشيخ كامل القصاب، والشيخ محمود ياسين، والشيخ بهجت البيطار، والشيخ حسن الميداني، والأستاذ عز الدين التنوخي، وحضرة الوجيه السيد محمد بك العابد، ونجليه الأدبيين:

السيد راتب، والسيد رياض، والأستاذ السيد المكي ابن العلامة السيد محمد ابن جعفر الكتاني، وحضرات أعضاء جمعية التمدن الإسلامي، والأساتذة: جميل أفندي مراد، وعبد الحميد أفندي مراد، وعبد الحميد أفندي حبش، وصبحي أفندي البوشي، وحسن أفندي التريكي، والسيد عبد الرزاق الملقي. ودعانا إلى "الهامة" إحدى مصايف دمشق، فضيلة الأستاذ الشيخ محمود ياسين، والسيد محمد كامل القصاب، ودعانا إلى "دمر" سعادة الأمير سعيد الجزائري، ودعانا إلى منتزهاتها السيد صادق المحمودي مدير مدرسة المأمون، ودعانا إلى "المزة" السيد عدنان رابح. وممن اجتمعنا به في المأدبة التي أقامها الأستاذ القصاب حضرة مدير أوقاف دمشق أبي النصر اليافي بك. وفي المأدبة التي أقامها الأستاذ البيطار، حضر مدير الأوقاف العامة حسن بك الحكيم، وتوفيق بك حيدر. وممن اجتمعنا به في حفلة الشاي التي أقامها الدكتور المالكي: حضرة الزعيم نصوح بك البخاري، والنائب المحترم أبي الهدى بك الحسيبي، والنائب المحترم منيربك العجلاني. وممن اجتمعنا به في حفلة الشاي التي أقامها الأستاذ الهاشمي: الدكتور جميل صليبا مفتش المدارس الثانوية، والأستاذ السيد توفيق الجابري مدير التعليم الابتدائي في دمشق، والدكتور صبحي أبو غنيمة، والأستاذ السيد كامل الهبراوي مفتش المعارف. وممن اجتمعنا به في المأدبة التي أقامها الأمير سعيد بدمر: حضرة صاحب السماحة السيد محيي الدين ابن أخي المجاهد الكبير عبد القادر، وهو من سماحة الأخلاق وطيب المذاكرة بمكانة سامية.

بعض ما كتبته الصحف عن هذه المجامع

* بعض ما كتبته الصحف عن هذه المجامع: كتبت صحف دمشق عن بعض هذه المجامع، وننقل هنا ما كتبته جريدة "الإنشاء" في وصف حفلة الدكتور المالكي إذ قالت: "كانت الحفلة التي أقامها المهندس الكبير الصديق السيد عبد الوهاب المالكي على شرف العلامة الشيخ محمد الخضر التونسي حفلةً أنيقة، جمعت نخبة ممتازة من النواب، ورجال العلم والأدب، وتلاميذ الأستاذ الخضر، وقد دعي الحاضرون إلى مائدة شائقة، ثم ألقى الدكتور المالكي كلمة جميلة، سننشرها غداً، عدّد فيها مآثر الأستاذ المحتفى به، وفضله على كثير من رجالات دمشق وشبابها، فقد أمضى في دمشق أعواماً طويلة، ودرّس علوم الدين والعربية في المدرسة السلطانية، ثم سافر إلى مصر، فعرف القوم فضله، وقام بتدريس العلوم الدينية في الأزهر، وانتخب عضواً في المجمع اللغوي الملكي، ثم ألقى الأستاذ عز الدين التنوخي قصيدة نظمها الأستاذ الخضر في مدح دمشق والحنين إليها، فاستحسنت جداً، وتكلم الأستاذ بهجت البيطار عضو المجمع العلمي العربي فقال: إنه أراد أن يفاضل بين علم المحتفى به وأخلاقه، فما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ لأن علمه وخلقه كلاهما عظيم، وبدرجة واحدة. وتمنى أن تؤسس الجامعة السورية كرسياً لعلوم الدين، وتعهد به إلى الأستاذ الخضر، ثم تكلم الأستاذ سعدي ياسين، فعرض لعناية العرب قديماً بالعلم، ورفعهم أقدار العلماء، والمبالغة في تكريمهم، وكانت الكلمة الأخيرة للأستاذ الخضر، فشكر لصاحب الدعوة لطفه، ثم تكلم عن حياته التي قضى شطراً منها في تونس، وشطراً منها في دمشق، وشطراً في مصر، وها هو يعود إلى دمشق التي أحبها كثيراً؛ لأنه وجد

الكلمة التي ألقيتها في منزل الدكتور المالكي

فيها هناءة العيش، وبعد أن أمضى المحتفلون ساعة في أحاديث أدبية تاريخية جميلة، ودعوا صاحب الدعوة شاكرين له كرمه وأريحيته". * الكلمة التي ألقيتها في منزل الدكتور المالكي: سادتي الأجلاء! أشكر لحضراتكم وحضرة صاحب الدعوة الدكتور الكبير عبد الوهاب المالكي بك على هذا الاحتفاء البالغ صادراً من صميم الفوائد، وقد أثنى حضرة الدكتور وحضرات إخوانه الخطباء على ثناء لا أستحقه، وعلى أي حال كنت، لا يسعني إلا أن أقابله بشكر جزيل؛ لأنه صادر عن عاطفة أدبية نبيلة، وإذا دلّ هذا الثناء على شيء، فإنما يدل على أن المودة الخالصة تجعل السها في نظر صاحبها قمراً، بل تريه الذرة درّة، وتخيل إليه فيما لا طعم له ولا رائحة: أنه لذيذ الطعم، ذكي الرائحة، وإذا ارتحت لهذا الاحتفال، فلأنه مظهر عاطفة مودة كانت قد ربطت بيني وبين حضرة صاحب الدعوة، وبعض حضرات المحتفلين منذ عهد بعيد، وإن هذا الاحتفاء قد دلّ على تلك المودة بعبارات جديدة، لا أنها بليت فجددها؛ لأن المودة القائمة على الفضيلة لا يمسها بِلًى حتى تحتاج إلى تجديد. قلت هذا، وما زلت أذكر أيام كان الدكتور المالكي تلميذاً بالمدرسة السلطانية، وكنت أرى منه الجد في طلب العلم، والشجاعة الأدبية المكسوة بالحياء والأدب الرفيع، وكنت أشعر منه بإجلال ممزوج بصدق الود، حتى إذا مرّ على خاطري ذكريات أيام الدراسة بالمدرسة السلطانية وأنا بمصر، وجدت صورة ذلك التلميذ (عبد الوهاب المالكي) في أول ما يخطر في نفسي. سادتي! كنت نشأت نشأتي العلمية في تونس، ووجدت أمامي طائفة

غير قليلة من أهل العلم الصحيح والبصائر النيرة، وكان هناك غافلون عن بعض ما يقتضيه الحال من إصلاح، فقمت بجانب من الدعوة إلى ما أراه خيراً للأمة الإسلامية، ولا أكتمكم أني كنت أشعر بمناوأة من جانب أولئك الغافلين. وانتقلت إلى دمشق، وعهد إليّ بالتدريس في بعض مدارسها، وأقبلت على التدريس في بعض مساجدها، وكتبت مقالات كثيرة في صحفها، وأقمت على هذه السيرة نحواً من سبع سنين، وكانت الصلة بيني وبين علمائها وأدبائها وفضلائها صافية محكمة. ثم رحلت إلى القاهرة، فلقيت من كبار علمائها، وصفوة أدبائها، ورجال نهضتها، ورؤساء دولتها احتفاء وتكرمة، غير أن مدينة كمدينة القاهرة لا تخلو من نفر ينتمون إلى العلم أو الأدب لا يبالون أن يجحدوا، ويدعون إلى هذا الجحود، فكنت فيمن ينبه لهذه الحقائق، ويشير إلى أن تلك الدعوة غير رابحة، ولا أكتمكم أيضاً أني لاقيت قسطاً من مناوأة أولئك الجاحدين. هذه الأوطان الثلاثة التي قضيت بها عمراً غير قصير، وإذا كان فضل العلماء المحققين، والأدباء المستقيمين، والرؤساء الراشدين، قد غطى في تونس ومصر على ما أشرت إليه من مناوأة بعض الغافلين أو الجاحدين حتى أنسانيها، ولم تبلغ أن يكون لها في حياتي الأدبية أثر، فإن الأعوام التي قضيتها بين أهل دمشق لم أشعر فيها على ما أذكر إلا برقة العطف، وحسن اللقاء أينما كنت، فإذا حننت إلى دمشق، فإنما أحن إلى الخلق الكريم، والأدب الأخّاذ بالألباب، وقد شهد لها بهذه المزايا كثير من نزلائها العلماء والأدباء من قبلي، والسلام عليكم ورحمة الله.

المحاضرة بالمجمع

* المحاضرة بالمجمع: اقترح عليّ بعض أهل العلم من أعضاء المجمع العلمي إلقاء محاضرة في بهو المحاضرات بالمجمع، فأجبت الطلب، واخترت أن يكون موضوع المحاضرة: "أثر الرحلة في الحياة العلمية والأدبية" (¬1)، وقد نشرت في مجلة "المجمع العلمي"، ثم في الجزء الثاني من المجلد العاشر من "الهداية"، وحضرها جمع كبير من العلماء والأدباء والفضلاء، نخص بالذكر منهم: معالي وزير المعارف الدكتور عبد الرحمن بك الكيالي، وحضرة مدير العدلية العام الأستاذ النكدي بك، والأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي. * إلقاء درس بالجامع الأموي: اقترح عليّ بعض طلاب العلوم الدينية إلقاء درس بالجامع الأموي، فأجبت طلبهم، وكان موضوع الدرس: تفسير قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء: 9 - 10]. وسننشر ملخص هذا الدرس فيما بعد -إن شاء الله-. * إلقاء درس حديث بجامع باب مصلى: اقترح عليّ بعض أهل الفضل إلقاء درس وعظ للجمهور، واختاروا أن يكون في جامع باب المصلّى، فأجبت طلبهم، وكان موضوع الدرس: حديث مالك في "الموطأ": "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وكنت أرى بعض أهل العلم في المجلس يكتب ما أقوله في شرح هذا الحديث. ¬

_ (¬1) وهي المحاضرة المنشورة في مطلع هذا الكتاب.

الحالة الدينية بدمشق

بعد انتهاء الدرس، ألقى الأستاذ الشيخ بهجة البيطار خطبة، دعا فيها أهل العلم إلى الاتحاد والتعاون على نشر العلم والإرشاد. * الحالة الدينية بدمشق: في دمشق علماء أجلاء في الدين والعربية، يدرّسون في مساجد متفرقة، وفي بعض مدارس الحكومة، والمدارس الأهلية، ولو كان للحكومات السابقة عناية بالعلوم الدينية والعربية، لأنشأت في دمشق معهدًا كبيراً يشبه الأزهر، أو جامع الزيتونة، ينفع الناس، ويأتي بثمار أكثر مما يأتي به التدريس المفرق في المساجد، والجاري على غير نظام. ولو عزمت حكومة دمشق على إنشاء معهد ديني عربي كبير، لوجدت في علماء دمشق الكفاية، ووجدت في أوقافها متى نظمت القدرة على الإنفاق عليها بسخاء. وقد سرني أني وجدت من مدير الأوقاف العام حسن بك الحكيم، ومدير أوقاف دمشق أبي نصر اليافي بك، عزماً على تنظيم شؤون التعليم الديني، والنهوض إلى مكانة تليق بسمعة دمشق في القديم والحديث، وكلا المديرين فيما فهمته من محاورات دارت بيننا وبينهما في هذا الشأن، يعلما يقيناً أن الشعوب الإسلامية لا ترقى الرقي الذي تملك به حريتها وسيادتها إلا أن يكون للعلوم الإسلامية فيها المكانة الأولى. ويعزز ما ينويه مدير الأوقاف من النهوض بالعلوم الإسلامية: أن العلماء أيام كنت هناك، قد يعقدون اجتماعات للنظر في وجوه ترقية التعليم الديني، وفي تأليف جمعية تعمل لإعلاء شأن الدين، والذود عن كرامة أهل العلم. أما التعليم الديني في مدارس الحكومة، فإن الجمعيات الإسلامية مثل

الجمعيات الإسلامية في دمشق

"جمعية الهداية الإسلامية"، و"جمعية التمدن الإسلامي"، ما زالت تجاهد في هذا السبيل، والذي وقع أيام كنت هناك: أن وزير المعارف الدكتور عبد الرحمن بك الكيالي ألف لجنة من بعض مدرسي المعارف، وأعضاء الجمعيات الإسلامية، مثل: الأستاذ الشيخ محمود ياسين، والأستاذ الشيخ بهجة البيطار، والأستاذ الشيخ عبد القادر بن المبارك، لوضع منهج للتعليم الديني في مدارس الحكومة، ونرجو أن تكون اللجنة قد توفقت في وضع هذا المنهج، وأن وزارة المعارف قد تلقته بما يدل على إخلاصها في تأليف اللجنة، فتقوم على تنفيذه، وتجعل علوم الدين من العلوم التي ينبني عليها نجاح الطالب ورسوبه في الامتحان. وأذكر أن فضيلة الأستاذ الشيخ طاهر الكيالي، من أفاضل علماء حلب، وهو من أجل من لقيت في الشام استقامة على الدين، قد كتب مذكرة لمعالي وزير المعارف الذي هو من آل الكيالي، يذكّر فيها بما للدين من فضل في رقي النشء وسعادة الأمة، ويطلب منه العناية بالتعليم الديني في المدارس، وجعله علماً أساسياً في الامتحان، يرتبط به نجاح الطالب وسقوطه. * الجمعيات الإسلامية في دمشق: أنشئت منذ سنين "جمعية الهداية الإسلامية"، وحضرات قراء المجلة يعرفون كثيراً من أعمال هذه الجمعية مما ننشره لها في هذه المجلة من بيانات تذيعها إرشاداً للأمة، أو استنكاراً أو احتجاجاً على بعض ما يصدر من حكومة دمشق من تصرفات تخالف الدين، والحق أن هذه الجمعية تعدّ في مقدمة الجمعيات التي تصدع بالحق في شجاعة، ومن حضرات أعضائها: الأستاذ الشيخ محمود ياسين، والأستاذ السيد الشريف النص، والأستاذ السيد عارف الدوجي.

وأنشئت منذ سنين أيضاً "جمعية التمدن الإسلامي"، وحضرات أعضاء جمعيتنا يطلعون على مجلتها "التمدن الإسلامي"، ويقرؤون ما ينشر في هذه المجلة من المباحث الدينية والاجتماعية والتاريخية المفيدة، ومن حضرات أعضائها القائمين بشؤونها: الأستاذ حسن الشطي، والأستاذ الشيخ محمد أحمد دهمان نزيل مصر اليوم، والأستاذ الشيخ بهجة البيطار، والأستاذ الشيخ علي ظبيان، والأستاذ أحمد العظمة، ولهذه الجمعية أيضاً فضل كبير في تقويم سياسة الحكومة متى انحرفت عن سبيل الحق. وأنشئت منذ سنين "الجمعية الغراء"، وفضل هذه الجمعية في مدارس أنشأتها لتعليم الدين والعربية، وقد وقع بينها وبين إدارة الأوقاف في العهد الأخير اتفاق على منهج للتعليم، يأتي -إن شاء الله- بفوائد كبيرة، وقد رأينا من مدير الأوقاف العام حسن بك الحكيم، ومدير أوقاف دمشق أبي نصر اليافي بك عناية بإصلاح شؤون الأوقاف، وعزماً على النهوض بالتعليم الديني على وجه صحيح، فنرجو لهم من الله التوفيق. ومما أعجبت به في دمشق: جماعة من طلاب العلم يتلقون العلم عن فضيلة الأستاذ الشيخ حسن الميداني بمدرسة جامع منجك، ويهتدون بهديه، والأستاذ عالم مستنير الفكر، مستقيم على الآداب السامية، فصيح اللسان، وكثيراً ما دارت بينتا وبينه مذكرات في مسائل دينية وعربية، فنلقى منه ما ينبغي أن يتحلّى به أهل العلم من جودة النظر، وحسن الأناة، والتواضع والإنصاف. وتم تأليف "جمعية العلماء" التي تركتها عندما غادرت دمشق بصدد التأليف، ورئيس هذه الجمعية حضرة صاحب الفضيلة الزعيم المخلص الأستاذ الشيخ محمد كامل القصاب، وأخذت هذه الجمعية تعمل للغرض الذي أنشئت

من أجله، وهو الذود عن حمى الشريعة، والعمل للمحافظة على كرامة العلم، ورفعة مكانة أهله، وسننشر لها في الجزء التالي رداً على مديرية الأوقاف بدمشق. والخلاصة: أن في دمشق جمعيات إسلامية يقوم بها رجال يجمعون إلى الغيرة شجاعة أدبية، ونرجو أن تقدر حكومة دمشق قدرهم، وتفتح صدرها لما يقدمونه لها من نصائح، وتتلقى هذه النصائح بالقبول والتشجيع؛ فإن هذه الجمعيات هي التي تعبر عن آراء الأمة تعبيراً صادقاً، وإنما تنجح الحكومات وتقوم على قاعدة العدل، متى أقامت لآراء الأمة وزناً، ولم تقصر نظرها على ما تملك من قوة. وأضيف إلى هذا: أن في دمشق قاضياً عادلاً غيوراً على دينه، هو الشيخ عبد المحسن الأسطواني، ووجود مثل هذا القاضي الفاضل في مقدمة رجال الدين، مما يزيدهم قوة على تأدية الأمانة التي وضعها الله في أعناقهم؛ من حراسة الشريعة، والذبّ عن حماها بألسنة لا تعرف الملق، وقلوب لا تستهويها زهرة الحياة الدنيا. وممن لقيتهم على جانب عظيم من الاهتمام بالحالة الدينية في الشرق، وتتبع ما يظهر في مصر وغيرها من الآراء الدينية: حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ جميل الشطي مفتي الحنابلة، ولهذا المفتي الفاضل مواقف محمودة تشهد بأنه قائم على تاريخ علماء الإسلام الذين لا يرون الوظيفة إلا وسيلة لخدمة الشريعة، ولا ينبغي أن تكون كمامة على فم العالم تمنعه من أن يصدع بالحق، أو تفعل به ما تفعل أم الخبائث، فتهبط به إلى أن يقول غير الحق.

رحلتي إلى سورية ولبنان

رحلتي إلى سورية ولبنان (¬1) سافرت من القاهرة يوم السبت 11 جمادى الآخرة، ووصلت إلى دمشق في الساعة السادسة بعد ظهر يوم الأحد، وكانت إقامتي بمنزل شقيقنا السيد زين العابدين حسين، المقيم بحي الميدان، وقد عُرف أهل هذا الحي الكبير بالمحافظة على الأخلاق الإسلامية، كما عرف بالحزم والأمانة في التجارة، وهم بعد قيامهم بأهم جانب من التجارة في دمشق نجد لهم فروعاً في أكثر البلاد السورية، وفي فلسطين، وشرق الأردن، ولو وجد في كل قطر من الأقطار الإسلامية جد ونشاط في التجارة والصناعة كهذا الجد والنشاط، لما انحازت الثروة في الشرق إلى طائفة اليهود وغيرهم من الأجانب، ولكانت حال المسلمين الاقتصادية لا تقل عن حال غيرهم من الطوائف. وتقدم الحالة الاقتصادية من أهم وسائل رقي الأمة وسعادتها. أقبل من الغد فضلاء المدينة وعلماؤها وأدباؤها، يتفضلون بالزيارة والمؤانسة، وعقدت بعد هذا اجتماعات في منازل خاصة، أدعى إليها، ويشهدها كثير من كبار العلماء والفضلاء، والذين يعتنون بالبحث عن شؤون العالم الإسلامي، وطرق إصلاح حالتها الاجتماعية. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الخامس والسابع من المجلد السابع عشر الصادر في ذي القعدة سنة 1363 هـ.

وقابلت فخامة رئيس الجمهورية شكري بك القوتلي، وكانت بيني وبينه صداقة من قبل أن أستوطن مصر، ولقيت منه احتفاء دلّ على أحسن رعايته للعهد، وحمدت له ما اتجهت إليه همته من العمل لأن يكون في دمشق معهد ديني يشتمل على مراحل التعليم من الابتدائي والتجهيزي والعالي والتخصص. أوفد فخامته أحد الموظفين بالقصر لإبلاغي تحيته. وفي دمشق كلية شرعية، وقد أتم القسم التجهيزي مرحلته في هذه السنة، وعُقد لطلبته امتحان لأخذ الشهادة النهائية، وجاءتني دعوة من شيخ الكلية الأستاذ الجليل الشيخ حسن الشطي للاشتراك في امتحانهم، فحضرت يوم امتحانهم في علوم القرآن، وكان من أعضاء هذه اللجنة: الأساتذة الأجلّة: المفتي الشيخ محمد الأسطواني، والقاضي الشيخ عزيز الخاني، ونقيب الأشراف السيد سعيد حمزة، وأستاذ التفسير الشيخ بهجت البيطار، ودخل في أثناء الامتحان مدير الأوقاف العمومية جميل بك الدهان، وساطع بك الحصري المعهود إليه بالنظر في نظم التعليم بالمعارف، ومدير أوقاف العاصمة الأستاذ أحمد القاسمي، وجرى امتحان الطلاب، وكانت نتيجة الامتحان مبشّرة بنجاح التعليم في هذه الكلية، ومشجعة للذين يقدرون التعليم الديني قدره من رجال الحكومة على رعايتها، والعمل لتوسيع دائرتها. وقابلت وزير المعارف نصوح بك البخاري، فأحسن معاليه اللقاء، ودار الحديث في وظيفة العلماء من الدعوة إلى الحق بحكمة وحسن أسلوب، ودار الحديث عن حال مصر ونهضتها العلمية والأدبية، فقلت: إن في مصر خيراً كثيراً، وفيها بجانب هذا الخبر الكثير ما يجب الحذر منه؛ أعني: نزعة الإلحاد التي تظهر في مقالات أو خطب تصدر من نفر لا يقيمون للعفاف وزناً، وضاقت

عقولهم عن أن تفهم أن الإصلاح الديني أساس كل سعادة، وقلت له عندما عزمت على الانصراف: "إنما يزيد نهضة علمية مربوطة بآداب الإسلام". سافرت في 6 يوليو إلى بيروت لتمثيل مجمع فؤاد الأول في المؤتمر الطبي، وحضرت حفلة الافتتاح، ومما لاحظته في الحفلة: أن الصف الثالث من الكراسي الأمامية مكتوب على أول كرسي منه أنه معد لرجال الدين، وجلس بهذا الصف نحو ستة من رجال الدين المسيحي، ولم نر فيه أحداً من رجال الدين الإسلامي، مثل: المفتي، أو القاضي، أو رئيس محكمة الاستئناف الشرعية، ولم أحضر بقية حفلات المؤتمر لأعذار قاهرة. زرت الكلية الشرعية أو الفاروقية التي كان لحضرة صاحب الجلالة ملك مصر فاروق الأول الفضل في إسعادها والنهوض بها، ولقيت هناك المتولي إدارة شؤونها من قبل وزارة المعارف المصرية الأستاذ عبد العزيز أحمد، فأطلعنا على منهج تعليمها، ونتيجة امتحانها، واجتمعنا في دمشق وبيروت ببعض المتخرجين فيها، فوثقنا بأنها مؤسسة محمودة الأثر، ولا سيما في تلك البلاد التي هي في حاجة إلى حركة إسلامية حكمية. دخلت مسجداً لأداء صلاة الجمعة، وكان خطيبه الأستاذ البارع الشيخ سعدي ياسين، فارتجل خطبة راعى فيها ما تقتضيه الحالة الحاضرة من إرشاد، ونبه في الخطبة على حضوري بالمسجد، فأخذ الناس بعد الخطبة يتبينون بأنظارهم الشخص الذي نبه له الخطيب، وأقبل كثير منهم للتحية. وأقام هذا الأستاذ الخطيب بمنزله مأدبة شهدها بعض أهل العلم والفضل، كما أقام الأستاذ السيد صادق الجبالي مادبة شهدها طائفة من العلماء والفضلاء، مثل: الشيخ محمد الأنسي رئيس محكمة الاستئناف الشرعية.

وعزمت "جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية" هنالك على إقامة حفلة احتفاء، ووزعوا أوراق الدعوة، وكان في ضمن برنامج الحفلة: "كلمة يقولها المحتفى به"، فأجبت الدعوة، واخترت أن تكون كلمتي في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]. وأرسلوا في الموعد أحد مندوبي الجمعية، فحضرنا هنالك، ووجدنا في الانتظار فضيلة رئيس الجمعية الأستاذ الشيخ أحمد العجوز، مع طائفة كبيرة من أعضاء الجمعية وغيرهم من المدعوين، فألقى أمين سر الجمعية كلمة تعرض فيها لجانب كبير من أعمال الجمعية، وخطب الأستاذ رئيس الجمعية، وخطب الأستاذ الشيخ سعدي ياسين، ثم جلست على منبر الخطابة، وشكرت الجمعية على احتفائها، وحضرات الخطباء على حسن ظنهم الذي أراهم الذرّة مني ذُرى، ثم ألقيت الدرس منبهاً فيه على فضل الإسلام في إصلاح الشؤون الاجتماعية، ومنبهاً للشبان على شُبه يوردها ملاحدتنا بقصد التضليل؛ ليحذروها. وجلسنا بعد انتهاء الحفلة حيناً مع رئيس الجمعية، فرأيناه داعياً إلى الحق على بصيرة، وهو من المتخرجين في الأزهر الشريف. وزرنا ضريح الإمام عبد الرحمن الأوزاعي المتوفى سنة 157 هـ، وهو في بناء قائم على شاطئ البحر. ثم عدت إلى دمشق، وأقامت لنا "جمعية الشبان المسلمين" حفلة احتفاء شهدها جمع كبير من أهل العلم والفضل، ومن بينهم: سماحة الأستاذ الأكبر مفتي دمشق الشيخ محمد الأسطواني، وخطب فيها حضرات الأجلاء: رئيس الجمعية الأستاذ محمد بن المبارك، والأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا المدرس

بكلية الحقوق، والقاضي الأستاذ علي الطنطاوي، وألقيت بعد هؤلاء كلمة شكر لحضراتهم على ما غمروني به من ثناء لست أهلاً له، وأتبعت كلمة الشكر بكلمات في "الجمعيات الإصلاحية" (¬1) التي نشرت في الجزء الثالث والرابع من المجلد السابع عشر من هذه المجلة. وسرني من هذه الحفلة أنها كانت وليدة عاطفة أدبية إسلامية خالصة، وأن خطباءها كانوا من شباب الأساتذة الذين أضافوا إلى ثقافتهم العصرية ثقافة إسلامية صحيحة، وطالما سمعتهم ينقدون مؤلفات بعض المنحرفين عن السبيل في مصر وغيرها، ويذكرون ما فيها من أمراض عقلية أو خلقية، فأحمد الله على أن الصفرة من شبابنا لا ينخدعون بما في تلك المؤلفات من زخرف القول، كما انخدع بها كثير ممن يقرؤون، وقد وضعوا أفكارهم بين يدي المؤلف يقلبها كيف يشاء. وطلب مني أعضاء هذه الجمعية إلقاء محاضرة خلقية، فألقيتها بعد أسبوع، وهي المحاضرة التي نشر قسم منها في الجزء السادس من المجلد السابع عشر من هذه المجلة تحت عنوان: "السمو الخلقي في الإسلام" (¬2)، وخطب قبل إلقائها الأستاذ الفاضل خيري الجلاد، حامل شهادة كلية الشريعة، وخطب بعد إلقائها الأستاذ مصطفى السباعي المعروف في مصر بغيرته الدينية، وشجاعته الأدبية، وهو الآن يرأس في حمص جمعية تدافع عن الإسلام ونظمه الاجتماعية. ولجمعية التمدن الإسلامي نهضة حازمة، وكانت هذه الجمعية قد نظمت ¬

_ (¬1) انظر كتاب: "هدى ونور" للإمام. (¬2) انظر كتاب: "محاضرات إسلامية" للإمام.

محاضرات إسلامية تلقى بعد العصر في كل أيام رمضان بجامع علي باشا، وطلب مني زعماء هذه الجمعية إلقاء درس هنالك، فألقيت درساً في تفسير قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2] إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10 - 11]. وصليت الجمعة في جامع الدقاق بالميدان، فاقترح عليّ فضيلة الأستاذ الجليل خطيب الجامع الشيخ بهجت البيطار إلقاء درس بالجامع، وأعلن عنه عقب خطبة الجمعة، وكان موضوع الدرس: حديث مسلم: "من نفّس عن مؤمن كربة في الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" إلخ الحديث. ويعد انتهاء الدرس، وانصرافنا من المسجد، قال لي بعض الأساتذة: ألا تسمح بزيارة الأستاذ الشيخ الأشمر زعيم الحركة المقاومة لتبرج النساء وخروجهن عن فضيلة الحشمة؟ فمررنا بدار الأستاذ، وجلسنا معه نحو نصف ساعة. وحضرت بدروس الوعظ التي تلقى بالجامع الأموي في رمضان، دروس الأساتذة الأجلّة: الشيخ هاشم الخطيب، والشيخ حسن حبنكة، والشيخ محمود ياسين، والشيخ بهجت البيطار، وأعجبت بحسن إلقاء هذه الدروس، واختيار موضوعها، ونقد شؤون كان في استطاعة الحكومة إصلاحها.

مشاهد برلين

مشاهد برلين (¬1) * مقدمة: وجود الإمام محمد الخضر حسين في "برلين" مجاهداً كريماً في سبيل الله، وإعلاء كلمة الحق، مرحلة من المراحل الهامة في حياته - رضوان الله عليه -. وما أروع وأعظم مراحل حياته على اختلاف زمانها ومكانها، سواء في تونس مولده، أو في دمشق، أو في إستنبول، أو القاهرة نهاية مطافه! كلها مدن إسلامية في عالم إسلامي واحد، شاهدة ذاكرة لنشاطه الديني والسياسي، الذي طبع صفحات تاريخه بطابع الإخلاص في العمل، والصدق في النية، إلى جانب علم غزير نافع يزين جهاده، ومكارم أخلاق ترافق خطاه، وطيب ثناء يترك آثاره من خلفه في كل سبيل سلكه على مدى عمره الطويل العامر. والرجل القوي في دينه، العظيم في نفسه، تسلس أمامة شدائد الصعاب، وتلين بين يديه قساوة الأيام، ويلقي الله في صدور أعدائه الضعف والهلع، ويجد المؤمن الصادق في بذل الجهد الشاق متعة وراحة، لا يجدها المترفون ¬

_ (¬1) نشرت في رسالة مستقلة ووجدنا ضمها إلى كتاب "الرحلات" إتماماً للفائدة ووحدة الموضوع.

الكسالى في أحضان الدعة والمال والسكون، أو الرجال الذين يسيرون إلى جوانب الجدران بعيداً عن الخوض في غمار الحياة خوف التعب. يقول الإمام محمد الخضر حسين من ديوانه "خواطر الحياة": ولولا ارتياحي للنضال عن الهدى ... لفتشت عن وادٍ أعيشُ به وحدي وكثيراً ما كان يتمثل بهذا البيت - رضوان الله عليه -. والمسلم الذي يرتاح للنضال لا يخشى سهامه، ولا يبالي بما يصيبه من الأذى، ويجد في الحل والترحال من أجل الدعوة حلاوة لا يجدها إلا المسلم الصادق الذي يستعذب مرارة الصبر والجلَد للوصول إلى رضاء الله تعالى. ولست أرى في الإمام محمد الخضر حسين إلا ذاك الرجل العالم العامل، والمجاهد الصامد الصابر، صغرت الدنيا في عينيه، فمرّ بها مرور الكريم سريعاً، وكأنها في نظره غزوة من غزوات الإسلام، دخلها شاهراً في يمناه كتاب الله العظيم، وخرج منها ظافراً بسلام آمن. وهنيئاً له بالدرجة العالية الرفيعة مع الصديقين والشهداء والأبرار، وحسن أولئك رفيقاً. رحل إلى ألمانيا مرتين (¬1) للاتصال مع الأسرى من أبناء المغرب، وأقام ¬

_ (¬1) يقول الإمام في حديثه إلى صحفي ألماني زاره في مشيخة الأزهر عن رحلته إلى ألمانيا: "كانت هذه الرحلة في أيام الحرب الكبرى، وكنت مع الأسرى الأفريقيين أتردد عليهم وأعود إلى برلين، وقد زرت ألمانيا مرتين: أولاهما استغرقت تسعة أشهر، والثانية سبعة أشهر". مجلة "الأزهر" - الجزء الرابع من المجلد الخامس والعشرين، من مقال: "طغيان الاستعمار وخطر الشيوعية، ما نأخذ من نظم الغرب وما ندع"، ونشرت المقال في كتاب "أحاديث في رحاب الأزهر" للإمام.

فيها تسعة أشهر في عام 1917 م، ثم أقام فيها مدة سبعة أشهر عام 1918 م. ومن رفاقه هناك: الشيخ صالح الشريف، وإسماعيل الصفايحي، وعبد العزيز جاويش، والدكتور عبد الحميد سعيد، واللواء يوسف مصطفى، وغيرهم. كانت رحلته لأداء مهمة وطنية جليلة، فقد جندت فرنسا مئات الآلاف من المغاربة: تونسيين، وجزائريين، ومراكشيين، وألقت بهم في الخنادق الأولى من المعارك التي خاضتها ضد ألمانيا. وكان الإمام يقوم بالاتصال اليومي مع الأسرى، ويحرضهم على الثورة ضد الفرنسيين، ويدعوهم إلى الإنضمام إلى الدولة التركية التي سوف تساعدهم على تحرير بلادهم من الاستعمار. مهمة صعبة قاسية أداها الإمام في جو الحرب المرعب، تحت القذف الدائم، والدوي المتواصل لأصوات القذائف، والتنقل عبر خطوط القتال ليصل إلى أقرب نقاط التماس مع القوات الفرنسية، وتطلق محاضراته وكلماته بواسطة المدافع إلى خنادق الفرنسيين؛ ليقرأ المغاربة الدعوة إلى عدم مؤازرة مستعمر بلادهم في هذه الحرب، بل عليهم القتال في أوطانهم ضده. وأقام مع إخوانه المجاهدين في برلين (اللجنة التونسية الجزائرية) التي تهدف إلى تحرير بلاد المغرب، والدفاع عن قضاياها. وله مقالات ومحاضرات في الصحف والمنتديات، ولا سيما تلك التي تلقى يومياً على جموع الأسرى المغاربة في المعتقلات. وأصدرت سلطات الاحتلال في تونس حكماً عليه بالإعدام غيابياً؛ لتحريضه المغاربة المعبئين في الجيش الفرنسي على التمرد والعصيان، ودعوتهم إلى الثورة على فرنسا، كما أصدرت السلطات الفرنسية أمراً مؤرخاً في

من ذكرياته وأقواله في ألمانيا

15 جوان 1917 م بحجز أمواله في تونس، وبيعها (¬1). تعلم اللغة الألمانية وأجادها في مدة قصيرة، واطلع على الآداب والفنون، ودرس الحالة الاجتماعية وعادات الشعوب وتقاليدها وأخلاقها هناك، وشارك في الدراسات الإسلامية، وتباحث فيها مع علمائهم. ودرس علوم الطبيعة والكيمياء على البروفسور الألماني (هاردر) أحد العلماء الألمان المستشرقين. يقول الإمام في مشاهداته عند حديثه عن ترجمة القرآن للمستشرق الألماني (ركرت): "وقد تتبعته في كثير من السور بالمقدار الذي وقفت عليه من هذه اللغة، مع الاستعانة بالكتب اللغوية الألمانية العربية". ويقول في مشاهداته أيضاً: "أما في صناعة الخطابة، فإني كنت شهدت محاضرات وخطباً ... ". وسعى مع الدولة الألمانية لإنشاء مسجد تقام فيه فرائض الصلاة والعبادة للأسرى المسلمين، وافتتح في غرة شهر رمضان 1333 هـ، وألقى الإمام خطاباً في حفل الافتتاح نورده في نهاية هذا الكتاب. * من ذكرياته وأقواله في ألمانيا: إن مهمته الوطنية في ألمانيا لم تكن مانعة له من البحث العلمي والكتابة، ونجده ينظم الشعر البديع، ويسجل خواطره، ويدون مشاهداته. وكثيراً ما نراه يستشهد من خلال مقالاته التي سطرها فيما بعد بوقائع وأحداث له في ألمانيا. ومن المفيد أن نورد الفقرات التي تتعلق لإقامته في ألمانيا، وشعره الذي قاله ¬

_ (¬1) "الرائد التونسي" -النسخة الفرنسية- الصادر في 20/ 6/ 1917 م، والذي تضمن: "حجزت بقصد بيعها أملاك الأخضر بن الحسين المدرس السابق في الجامع الأعظم الذي ثبت عصيانه".

هناك من خلال مقالاته التي بين أيدينا، وديوانه "خواطر الحياة". يقول الإمام: - "ولما كنت بألمانيا، سمعت أناساً من أوربا وأمريكا يدَّعون أنهم يستحضرون أرواح الموتى، ويخبرونهم عن حالهم، وبعض ما يقع لهم في الحياة، فأقول: إن هذه الواقعة باطلة بنفسها" (¬1). - "واجتمعت بقسيس في بلد "لنداو" من ألمانيا، وسألته: هل حضر جلسة من جلسات هؤلاء الذين يدعون استحضار الأرواح؟ قال القسيس: هذه دعوى باطلة، والعلماء ينكرون ذلك" (1). - "وأذكر أني حين كنت في ألمانيا أيام الحرب الأولى حضرت حديثاً يدور بين مدير الاستخبارات الألمانية وسكرتيره أثناء سفرنا إلى قرية "ويزندرف"، سألني المدير في نهايته فقال: أليس كذلك يقرر ابن خلدون؟ قلت: وماذا يقرر؟ قال: إن العرب لا يصلحون لملك، ولا يحسنون حكماً للأمم. قلت: إنما خص ذلك بعهد الجاهلية، وقرر أنهم في الإسلام أحسنوا السياسة، وقاموا بأعباء الملك خير قيام ... " (¬2). - "وأذكر بهذه المناسبة: أني لقيت مستشرقاً ألمانياً أثناء مقامي في ألمانيا دخل الإسلام؛ لمعاشرته عالماً مسلماً، وصَلَه بالثقافة الإسلامية، ووقفه على شيء من أسرار كتاب الله وسنة رسوله، فانشرح صدره للإسلام ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام "- العدد التاسع من السنة الثامنة. الصادر بالقاهرة في جمادى الأولى 1374 هـ - يناير 1955 م. من مقال: "استحضار الأرواح". (¬2) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثامن من السنة التاسعة الصادر بالقاهرة في ربيع الثاني 1375 هـ - نوفمبر 1955 م من مقال: "العرب والسياسة".

لما آنس من رشده وحكمته، وقد وصف صديقه العالم فقال: ما رأيت عالماً مثله قط" (¬1). - "وتقترب الأمة من الحرية بقدر ما تقل فيها المظالم، وقد قضيت في ألمانيا سنة وأربعة أشهر لم أر أحداً يرفع صوته على آخر بالشتم، أو يرفع يده لأذيته، فأقول: هذا من خلق القرآن الكريم ... " (¬2). - "وأخبرت وأنا في ألمانيا: أن هناك جمعية خيرية ترسل في البريد إلى المحتاجين من غير أن يعلموا من أين جاءتهم. وهذا المعنى وجد في جزيرة العرب قبل ما يزيد على ألف سنة، فقد جاء في تاريخ أحد أهل الخير: أنه كان يرصد المعونة إلى المحتاجين من غير أن يعرفوه، ولما مات، وانقطعت عنهم المعونة، عرفوا أنه هو الذي كان يرسل إليهم المعونة" (¬3). - "وأذكر أني حين كنت في ألمانيا لم آكل من لحوم حيوانهم؛ لأني عرفت أنهم لا يذبحون الحيوان بالطريق الشرعي، إنما يقتلونه بالضرب على رأسه، أو بالخنق، وأخذت في ذلك بقوله تعالى عند تعداد المحرم من الحيوان: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] , وهو منطبق على ما يفعلون" (¬4). ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" -العدد الحادي عشر من السنة التاسعة- الصادر بالقاهرة في رجب 1375 هـ - فبراير 1956 م. من مقال: "ما يلاقيه العلماء من سماحة الأمراء". (¬2) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السادس من السنة العاشرة الصادر بالقاهرة في صفر 1376 هـ - سبتمبر 1956 م. من مقال: "مكافحة المظالم موجبة للسلام". (¬3) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثامن من السنة العاشرة الصادر بالقاهرة في ربيع الثاني 1376 هـ - نوفمبر 1956 م - من مقال: "الرفق بالضعفاء". (¬4) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الحادي عشر من السنة العاشرة، الصادر بالقاهرة في رجب 1376 هـ - فبراير 1957 م من مقال: "المال المباح في الإسلام".

شعره في ألمانيا

- "وكنت في برلين آخذ دروساً في الطبيعة والكيمياء عن المستشرق الدكتور (هردل)، فأخبرني الدكتور بأن أحد الألمان قرأ القرآن، وأسلم، وقال الدكتور: إن الإسلام حقيقة تكلم في التوحيد بما لم يتكلم به دين آخر" (¬1). * شعره في ألمانيا: ومن روائع شعره تحت عنوان: "العرب والسياسة": يقول الإمام محمد الخضر حسين: "كنت في قطار بضواحي برلين يرافقني مدير الأمور الشرقية بوزارة الخارجية، وكان يتحدث مع شاب ألماني باللغة الألمانية، ثم أقبل عليّ وقال لي: أليس هكذا يقول ابن خلدون: إن العرب أبعد الناس عن السياسة؟ فقلت: يريد العرب قبل دخولهم الإسلام، وبهذه المناسبة نظمت هذه الأبيات": عذيري من فتى أزرى بقومي ... وفي الأهواء ما يلد الهذاءَ (¬2) يقول: العربُ ظلوا في جفاء ... وما عرفوا السياسةَ والدهاءَ سلوا التاريخ عن حكم تملَّت ... رعاياه العدالةَ والرخاءَ (¬3) عزوفِ النفس عن ترفٍ ذكورٍ ... لعقبى من أجاد ومن أساءَ (¬4) ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السابع من السنة الحادية عشر. الصادر بالقاهرة في ربيع الأول 1377 هـ - أكتوبر 1957 م من مقال: "الدعوة القائمة على حق". (¬2) العذير: العاذل. أزرى به: وضع منه، أو قصّر به. الهذاء: القول الباطل. (¬3) تملى: استمتع، يقال: تمليت عمري؛ أي: استمتعت به. (¬4) عزوف: يقال: عزفت النفس عن الشيء: زهدت فيه، وانصرفت عنه، أو ملته، فهي عزوف عنه. العقبى: جزاء الأمر، الآخرة.

همامٍ كان سامرُه وأقصى ... بلاد في مهابته سواءَ (¬1) هو الفاروق لم يدرك مداه ... أمير هزَّ في الدنيا لواءَ (¬2) - وتحت عنوان (قوس الغمام): أيخفى ضمير المرء يوماً ولو سما ... إلى الذروة القصوى ضحى ودهاءَ إذا كتمتنا الشمس ألوانها ضحى ... يبوح بها قوس الغمام مساءَ (¬3) - ويصف (حمرة الشفق): هذا الدجى اغتال النهار ودسّه ... تحت التراب مضرجاً بدمائه (¬4) ما حمرةُ الشفق التي تبدو سوى ... لطخ من الدم طار نحو ردائه (¬5) ونجد في هذين البيتين أثر الحرب المشتعلة في نفس الإمام الشاعر. وفي قرية "لنداو"، والثلج على الأشجار، وقد طلعت عليه الشمس فأخذ يذوب، وقرية "لنداو" على بحيرة "بودن" بألمانيا: - (عبرات الأشجار): نسج الغمام لهذه الأشجار من ... غَزْلِ الثلوج براقعاً وجلاببا ¬

_ (¬1) الهمام: الملك العظيم الهمة، والسيد الشجاع، وهو من أسماء الأسد. السامر: مجلس السمار، يقال: أمسيت البارحة في سامر الحي؛ أي: في مجلس مسامرتهم. (¬2) الفاروق: أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وهو الفاروق، فرق الله به بين الحق والباطل". (¬3) قوس الغمام: وكذلك قوس السحاب، يحدث في الأفق عقب المطر، وألوانه مختلفة. (¬4) الدجى: الظلمة. (¬5) الشفق: الحمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء الآخرة، أو إلى قريب العتمة، اللطخ: اليسير القليل من كل شيء.

والشمس تبعث في الضحى بأشعة ... تسطو على تلك الثياب نواهبا فبكت لكشف حجابها أَوَ ما ترى ... عَبراتها بين الغصون سواكبا - (ريح تنسف في روضة): جاد هذا الروض غيثٌ فازدهى ... وغدا بُلبلُه يطري السحابا وتمادى مسهباً في مدحه ... فحثت في وجهه الريح ترابا - (زجاجات المصور): عذرتك إذ صورت في نفسك الهدى ... ضلالاً وصورت الضلال رشادا فإن زجاجات المصور تقلب الـ ... ـسواد بياضاً والبياض سوادا - أبيات قالها في برلين سنة 1335 هـ عقب زيارة المرحوم محمد فريد وإسماعيل لبيب: جرس يصيح كحاجب ... طلق اللسان معربدِ (¬1) حيناً ينوح كموجع ... من لطمة المتعمّد والآن رنّ كمزهرٍ ... جسته أنمل معبد (¬2) زار الصديق فهزّه ... من بعد ضغطة جلمد (¬3) والود يسكن في الحشا ... لكن يحس من اليد ¬

_ (¬1) المعربد والعربيد: مؤذي نديمه في سكره، والشرير. (¬2) أنمل: جمع أنملة، وهي رأس الأصبع. معبد: نابغة الغناء العربي في العصر الأموي، نشأ في المدينة، ورحل إلى الشام، واتصل بأمرائها (... - 126 هـ). (¬3) الجلمد: الرجل الشديد الصلب.

- (البرد في الحديقة): هزّ النسيم غصون الروض في سحر ... كما يهز بنانُ الغادة الوترا (¬1) لذّ الحفيف على سمع الغمام أما ... تراه يحثو على أدواحه دُررا (¬2) - (العيد في برلين): قيلت في برلين عندما أدركه عيد الفطر هناك: أسِوارٌ من عسجد وجُمانِ ... تقتنيه الحسان في الأقراط (¬3) أم هلال حفته في ليلة العيـ ... ـد نجوم ببهجة واغتباط هذه طلعة الهلال وما لي ... لم أجد في الفؤاد بعضَ انبساطي يوم عيد وما تفتق كِمٌّ ... عن أنيس ولو كسَمٍّ الخياط (¬4) ما تملى سمعي تهانئ صيغت ... في قلوب موصولةٍ بنياطي (¬5) أين جيراننا وأين المصلى ... وخطيبٌ يهدي لخير صراطِ (¬6) أين مني شفيقةُ القلب تُهدي ... دعواتِ مثلَ الظباء عواطي (¬7) ¬

_ (¬1) البنان: أطراف الأصابع، الواحدة: بنانة. الغادة: المرأة الناعمة اللينة الأعطاف. (¬2) الحفيف: صوت أغصان الشجر. يحثو التراب: هاله بيده. (¬3) العسجد: الذهب. الجمان: اللؤلؤ. الأقراط: جمع قرط: ما يعلق في شحمة الأذن من درة ونحوها. (¬4) الكِمُّ: الغلاف الذي ينشق عن الثمر، غطاء الزهر. سم الخياط: ثقب الإبرة، قال تعالى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. (¬5) النياط: الفؤاد. (¬6) الصراط: الطريق. (¬7) شفيقة القلب: يقصد بها والدته السيدة البارة حليمة بنت مصطفى بن عزوز =

لو تقاضيت في اغترابي أمراً ... نهضت همتي له ونشاطي لأدرت العِنان نحو دمشقٍ ... وحمدت السُّرى على الأشواط (¬1) - (ثلج في السحر): تطاول هذا الليل والجو مزبِدٌ ... تضيق بأمواج الثلوج مسالكُهْ كأني أُذيبُ الصبح بالحدق التي ... يقلبها وجدي وتلك سبائكُهْ - (الملك الطبيعي أو راعي الغنم): قيلت في قرية "ويزندورف" بضواحي برلين: تقلَّد الملكَ بين الضَّال والسَّلم ... وهبَّ يفتحُ من غَورٍ إلى عَلَم (¬2) فعرشُه ربوةٌ حاكت خميلتها ... يد الغمامة إذ جادت بمنسجم (¬3) وتاجه الشمس تبدو فوق مفرقه ... تاج مصونٌ بلا جند وسفك دم (¬4) سراجه الكوكب الدُّرِّيُّ يرسل من ... عليائه بسناً ينساب في الظُّلم والظَّبي يرقُمُ في طِرْس الفلاة خُطاً ... أحلى لناظره من جولةِ القلم (¬5) صفت مناظر غدرانٍ فكان له ... فيها مزايا جلاها صاقل النَّسَمِ ¬

_ = المتوفاة بدمشق في رمضان سنة 1335 هـ. الظباء: الواحد ظبي، وهو الغزال. (¬1) السُّرى: سير عامة الليل. الأشواط: الواحد شوط: الجري مرة إلى الغاية. (¬2) الضال والسلم: من أشجار البادية. الغور: ما انحدر من الأرض، ويقابله النجد، والقعر من كل شيء. العلم: الجبل الطويل. (¬3) الخميلة: الشجر الكثير الملتف حيث كان. (¬4) المفرق: وسط الرأس وهو الذي يفرق فيه الشعر. (¬5) الظبي: الغزال للذكر والأنثى. الطرس: الصحيفة.

وآلةُ الطَّرب الحُملان ترتع في ... خِصبِ فيسمع منها أطيب النَّغم (¬1) عَيناهُ: ذي سارَقَتْ جَفْنَ المها نظراً ... وتلك ناظرةٌ شزراً إلى الأجم (¬2) لم يتَّخذ سامراً يوحي إليه بما ... يهوى ويخضب بعض الحق بالكَتَم (¬3) وما امتطى مركباً كيلا يضايق ... في مسيره نَفَسَ العجفاء والهرم ومن تولَّى زمام الأمر في ملأٍ ... لم يغلُ إن ساسهم سعياً على قدم - (أحمد الظعن): قيلت على لسان قلم أهداه لأحد الكتاب بعد عودته من برلين سنة 1334 هـ: أطوي المراحل من "برلين" في أمل ... لم يجن زهرته كفُّ الذي قَطَنا (¬4) وأحمد الظعنَ إن الظعن أظفرني ... بأنمل تخدمُ الإسلامَ والوطنا (¬5) - ومن أجمل شعره وأبدعة قصيدته التي قالها عند رجوعه من برلين سنة 1337 هـ، وعنوانها: "من برلين إلى دمشق"، وقد ركب الباخرة من ميناء "هامبورغ" في ألمانيا، ورافقه في العودة عدد من المجاهدين، وقضى عشرين ¬

_ (¬1) الحملان: جمع الحمل: الصغير من أولاد الضأن. (¬2) المها: جمع المهاة: البقرة الوحشية. الشزر: نظر الغضبان بمؤخر العين، أو النظر عن يمين وشمال. الأجم: جمع الأجمة: الشجر الكثير الملتف، وهي مأوى الأسد. (¬3) السامر: مجلس السمار. الكتم: نبت يخلط بالحناء ويخضب به الشعر فيبقى لونه، ويريد الشاعر بذلك: ما يخفي وجه الحق. (¬4) المراحل: جمع مرحلة: المسافة التي يقطعها المسافر في اليوم. (¬5) الظعن: السير. الأنمل: جمع أنملة: رأس الأصبع.

يوماً في البحر حتى وصل إلى ميناء بيروت. يصف الإمام في هذه القصيدة الرائعة ما لاقاه من مخاطر السفر على الماء، ويتحدث عن الإنكليز، وجفاء طباعهم، ويذكر عند مروره في جبل طارق أرضَ الأندلس، ويحزن عند مروره بإستنبول وقد هوت بعد الهزيمة، ويرى في طرابلس العلم الفرنسي، (وذاك علامة الوطن المهان). يقول الإمام الشاعر في القصيدة: سئمت، وما سئمت سوى مُقامي ... بدارٍ لا يروج بها بَياني فأزمعتُ الرحيل، وفرط شوقي ... إلى بردى تحكَّمَ في عِناني بكرت إلى القطار فسار توّاً ... إلى مَرسى السَّفين كأُفعوانِ (¬1) نهضتُ إلى السَّفينة في رفاق ... سَلوتُ بأنسهم نُوَبَ الزَّمانِ وقضَّينا بها عشرين يوماً ... فلم نلج البلاد ولا المواني تقلِّبها العواصفُ كيف شاءت ... وتقذفها بأمواجٍ سمانِ ألا بُعداً لما تذكيه ريحٌ ... على الدَّأماءِ من حربٍ عَوانِ (¬2) رست بمياه لندنَ وهي قُصوى ... فلا بَشراً نُحِسُّ ولا المغاني (¬3) ووافاها العريف ومُسْعِدوه ... سراعاً في زوارقَ كالهِجانِ (¬4) وأبصرنا جفاء في وجوه ... مقطِّبة وأَحْداقٍ رواني ¬

_ (¬1) مرسى السفين: ميناء هامبورغ بألمانيا. (¬2) الدأماء: البحر. حرب عوان: هي الحرب التي قوتل فيها مرة بعد أخرى. (¬3) لندن: عاصمة إنكلترا. قصوى: بعيدة. المغاني: جمع المغنى: المنزل. (¬4) العريف: القيم بأمر القوم الذي عرف بذلك. الهجان من الإبل: البيض الكرام.

فقل للإنكليز صرعت خصماً ... وحزت السَّبق في يوم الرهانِ فخلِّ الشَّرق ينهض مستقلاً ... فما هو باليؤوس ولا الجبان أربَّان السفينة قف مليّاً ... نؤبِّن فاتحاً ثبت الجنان (¬1) كأن رياح هذا الصبح مرَّت ... بأرواح تنعَّم في الجنانِ (¬2) أرى جبلاً تسنَّمه قديماً ... دعاةُ الحقِّ والسُّنن الحسان (¬3) وساسوا أرض أندلس بعدل ... كما صنعوا بأرض القيروان وما انقلبت إلى الإسبان إلَّا ... على أيدي المزاهر والقيان عبرنا الدردنيل ضحىً وجئنا ... فَروقَ وقد تهاوت في هَوانِ (¬4) لمحتُ على الوجوه بها كسوفاً ... وكدت أرى التَّجَهُّمَ في المباني يميس بأرضها الحلفاء سكرى ... وإن لم يحتَسُوا بنتَ الدِّنانِ (¬5) ولم أعهد بها إلَّا حصوناً ... كستها روعة السيف اليماني برحت فَروقَ مأسوفاً وهذي ... ربي إزميرَ حالِكةُ الدِّجان (¬6) ¬

_ (¬1) الفاتح: طارق بن زياد. الجنان: القلب. (¬2) الجنان: جمع الجنة: الحديقة ذات الشجر. (¬3) تسَنَّم الشيء: علاه. (¬4) الدردنيل: مضيق الدردنيل يقع بين شبه جزيرتي البلقان وآسية الصغرى، ويصب بحر إيجة ببحر مرمرة. فروق: إستنبول. (¬5) بنت الدنان: الخمر. (¬6) أزمير: مرفأ في تركيا على بحر إيجة. الدِّجان: جمع الدّخن: إلباس الغيم الأرض وإقطار السماء.

يجوسُ خلالها اليونانُ مَرحى ... مِراحَ الفُرسِ يومَ المهرجانِ (¬1) فيا نكدي يسوس الخصمُ أمري ... وكنتُ أذقته حرَّ الطعانِ قصدت إلى الشَّآمِ ولست أدري ... أيقسو أم يلين بها زماني وللإفرنجِ في بيروتَ عينٌ ... يُسمَّى من يُساجِلُهم بجاني (¬2) وصلت إلى طرابلسٍ وحيداً ... أعاني بالتنكّرِ ما أعاني (¬3) يَشينُ قِبابها علمٌ غريبٌ ... وذاك علامةُ الوطن المُهانِ هلمَّ حقيبتي لأحُطَّ رحلي ... فنفخُ زهورِ جِلَّق في تداني فخض بي أيها الحادي رُباها ... وألق عصا التَّرحُّل غير واني (¬4) حللتُ بها ولم أفقد ندامى ... على أدب وعيشاً في ليان (¬5) وللأقدارِ في الدُّنيا صروفٌ ... طويتُ على الحديث بها لساني (¬6) - وإليكم هذه الصورة الشعرية، وكأنها لوحة رسام شاعر: (سرق الغمام): سرق الغمام اليوم ظلي بعد أن ... رسمته في "لنداو" شمس ضحاها (¬7) ¬

_ (¬1) المراح: التبختر والاختبال. (¬2) العين: الجاسوس. ساجل: بارى وفاخر وعارض. (¬3) طرابلس: مدينة ساحلية في لبنان. (¬4) الواني: الضعيف البدن. (¬5) ليان: رخاء العيش ونعيمه. (¬6) الصروف: جمع الصرف: حدثان الدهر ونوائبه. (¬7) لنداو: قرية ألمانية على بحيرة بودن قرب برلين.

مرافق الحياة

ويد الرحيل تخطفت في "جلق" ... جسمي وأبقت مهجتي برباها (¬1) فأنا خيال والبحيرة مقلة ... لكن تطاول بالخيال كراها هذه لمحة سريعة نقدمها من سيرة الإمام محمد الخضر حسين، نورد بعدها "مشاهد برلين" التي هي بعض ذكرياته في ألمانيا الموجزة، وقد نشرت بمجلة "المقتبس" الدمشقية في الجزأين السابع والثامن من المجلد التاسع سنة 1332 هـ - 1913 م. والحمد لله على ما هدى، والحمد لله على نعمة الإسلام. علي الرّضا الحسيني * مرافق الحياة: يتوسط الشوارع الكبيرة في "برلين" رياض تسايرها طولاً، وتفتح فيها سبلاً للراجلين خاصة، فيكون الشارع مفصلاً إلى رصيفين وجادتين، بينهما ممر يكتنفه عمارتان من نبات تطرزه الرياحين بألوان مختلفة، ولا يشاهد الإنسان في ديارها -ولو في الأرباض- بناء بالياً، أو جداراً متداعياً، والذي ساعد على تنسيق مبانيها ومتانتها: أن عناصر الطين بمقربة من تلك المدينة، وأن الحجارة والخشب يجلبان إليها على نهر "شبري" بسهولة وقيم زهيدة. وكثير من المباني قائمة من الحجارة الرملية، ويستعملون "البرفير" زينة في داخل البيوت، وهو ضرب من حجارة الكرانيت المرادف له في العربية كلمة: صوّان، وتفرش بعض المحلات؛ مثل: دهاليز المدارس ببلاط (استك)، وهو قطع دقيقة من الرخام، تخلط بعجين الكلس. ¬

_ (¬1) جلق: من أسماء دمشق.

في كل منزل حمام يتخذ من الزنك، يسخن ماؤه في قصبة تنصب بازائه مثل الأسطوانة، ويتصل بحافته مجرى للماء الحار، وآخر للماء البارد، ومن فوقه الناضحة المثقبة، ولكل واحد من المجاري الثلاثة مفتاح يتميز بكتابة على جانبه. ومن تلك الحمامات ما يتدفق إليه الماء الحار من معمل تشترك فيه منازل كثيرة، فيتيسر للإنسان أن يتطهر منها في أي دقيقة حضرت، ويقل لهذا ترددهم على الحمامات العامة، ولا يقصدونها -في الغالب- إلا لداعية زائدة على النظافة؛ إذ يوجد فيها من يقوم بعمل الدلك على قاعدة صحية. ومن المنازل ما يتوسل لدفئه أيام البرد بإيقاد الفحم في القصبات القائمة بزاوية من زوايا المنزل على الطريقة المعروفة، ومنها ما يدفأ بوسيلة ماءٍ حار يمر في بعض نواحيه على أسلوب منتظم. وملخص ترتيبه: أن ينصب في الطبقة السفلى مرجل توقد تحته النار بتناسب، ويتصل بالمرجل قصبة يصعد فيها الماء إلى إناء فتح عند سقف الطبقة العليا، ثم ينسكب نازلاً إلى مواضع التسخين في سائر الطبقات وحجراتها، حتى يعود إلى المرجل مرة أخرى، ويتركب موقع التسخين -في الغالب- من خمس عشرة إلى عشرين أسطوانة خشبية متلاصقة، وجث يجري الماء في مجال مستدير وسطح غير ضيق يحصل الدفء الكافي. وذكرت عند هذا الصنيع: أن جبرئيل بن بختيشوع المتوفى سنة 356 هـ، كان يضع من وراء الحجرة التي يجلس فيها مواقد تبعث من وهجها ما يكسر سورة البرد. دخل عليه أحد الفضلاء- على ما قصّه موفق الدين في "طبقات الأطباء"-، فأحس بدفءٍ، وقد أصبح البرد شديداً، فكشف له بختيشوع عن

جوانب المقعد، فإذا موضع له شبابيك خشب بعد شبابيك من حديد وكوانين فيها فحم الغضى، وغلمان ينفخون ذلك الفحم بالزقاق، مثلما يصنع الحدّادون. ويفتحون في النوادي الكبيرة مراوح ذات آلات، تجلب إليها الهواء النقي أو النسيم البارد بإدارة كهربائية. فمن محال القهوة ما يسع أكثر من ألف نسمة، فتجد الجالسين صفوفاً مرصوصة، ولا يحس الداخل بكدر في الهواء مع ما يقع من التدخين. وهذا أيضاً ذكّرني: أن بختيشوع الذي دبّر طريقة تسخين الحجرات إذا دبّت عقارب البرد، قد فكّر في وجه استخلاص النسيم البارد إذا رمت الظهيرة بجمراتها، فكان يعد من خلف القبة التي يتبوؤها مواضع مرصف فيها قطع من الثلج، ويأخذ الغلمان مراوح يستثيرون بها من ذلك الثلج نسيماً بارداً، فيهب إلى القبة في طريقة متجددة. وكانوا يستوقدون الشمع، ويعض أصحاب البيوت يصنعونه من شحم البقر بأيديهم إلى قريب من سنة 1840 م، فظهر بينهم زيت الغاز المعدني، اكتشفوه في أربع ولايات من ألمانيا، ولكن منابعها ليست بغزيرة، وقد تهللت اليوم بالضرورة مسارج الكهرباء والغاز البخاري في كل محلة. أما القصور القيصرية، فكانت تنار بالشمع المستخلص من عسل النحل، ثم انبجست فيها أنوار الكهرباء سنة 1888 هـ. لا تخلو أبواب البيوت ودواخل الحجرات من أجراس يستند تنظيمها بين الضغط على أزرارها، ورنةٌ مطرقتها إلى مجرى كهربائي، تستمده من معمل تشترك فيه محلات متعددة. ويصنعون في كل حجرة من الفنادق الشهيرة ثلاثة أجراس، يدعو النزيل بأحدها من تكفف بتنظيم الحجرة، وبثانيها من يعين لمناولة ما يحتاج إليه من مثل طعام أو شراب، ويثالثها من يختص بحمل الأمتعة.

ترتبط المنازل بأسلاك حاكي الصدى (التلفون) وقد ريحوا بوسيلته قسطاً عظيماً من أوقاتهم، فيكون الإنسان في غنى عن أن يبدد قطعة من الوقت، الذي هو سلك عمره في مسافة الذهاب إلى مكان، والإياب عنه بإبلاع كلمة، والإنصات إلى مثلها، وقد أصبح من المعتاد عندهم أن الإنسان لا يضرب بخطوة إلى زيارة أحد، حتى يعلم بهذه الوسيلة أنه حاضر في منزله، ويفهم من خطابه أنه لم يكن في حال يقتضي تأخير اللقاء إلى دفعة أخرى. وتسلم إدارته لكل من عقد في محله فرعاً منه مجلداً، يحتوي على أسماء المشتركين فيه مرتبة على أحرف الهجاء، مع بيان الأعداد التي جعلت علماً على فروعهم. فمن أراد ليخابر آخر، خاطب الموظف في مركز دائرته أولاً، وأعلمه بالعدد الذي جعل على الفرع الواقع في منزل صاحبه، فيهيئ طريقة المخابرة معه. واختاروا أن يكون الموظفون في هذه الدوائر نساء، وقالوا في علة ذلك: إن التجربة كشفت على أن كلام المرأة في هذه الآلة أوضح من كلام الرجل، وأمكن في السمع. ولا داعي إلى رفع الصوت عند المخابرة فيه، فإن المتكلم يلقي بكلامه في مكر تلفون: "آلة تقوية الصوت الضعيف"، بل ربما أدى الجهر بالقول فوق العادة إلى فوات بعض الأحرف، أو عدم تمكنها من سمع المخاطب. يضعون في المطابخ موازين تسمى: ميزان المطبخ، يزنون بها ما يشترون من لوازم المطبخ ونحوه؛ لكي يتيقنوا نصح البائع أو خيانته، وعِلْم الباعة بمثل هذا مما يجعلهم على استقامة وحذر من التطفيف بالوزن. ويتخذون الريش حشواً لألحفة الفراش التي تكون من كتان غالباً، فيجمعون في صنعهم هذا بين دفئها، وخفة وقعها، ويستعملون للطبخ بإرشاد

الديانة

من نظارة الصحة العمومية القيصرية قدوراً من الألمنيوم (معدن أبيض كالفضة)؛ لأن من خواص هذا المعدن: أنه لا يفسده حامض ماء البارود، ولا يتضرر من حامض الكبريت، إلا إذا مسه مراراً متعددة، ثم إن ما يجتمع من مائه لا يسري إلى جسم الإنسان بضرر ذي بال، والقدور والأواني التي تصاحب العساكر، إنما تؤخذ من هذا المعدن؛ لخفة حمله، وقلة أذيته. وفي الفنادق الشهيرة -ما عدا الساعات المنبهة المتداولة- آلة تلصق في الجدران المحاذية للسرر بحيث تنالها يد المضطجع، فيستعملها للإفاقة من النوم في وقت معين، فتصدح في الوقت نفسه بصوت رخيم يستمر أمداً طويلاً، أو لا ينقطع إلا إذا أسكتتها يد بتحويل وضعها. * الديانة: ينتحل معظم الشعوب الألمانية مذهب البرتستانت. وأول من أطلق لذلك الشعوب في العقائد، ولم يأخذ عليها في تقاليدها (فريدريك الكبير)، فخففت ولايته فتناً كانت التعصبات الاعتقادية تنفخ في جمراتها. وصرّح بعض أساتيذهم بمزية القرآن في الدعوة إلى التوحيد الخالص، وفهمت عنه أن لدلائله وأساليبها، إذ أصبحت ترجمته تسعى بين أيديهم، أثراً في تأييد الاعتقاد بوحدة الإله. ومما أخذوه في شعار الديانة: أنْ رسموا في منطقة كل عسكري جملة تعريبها: (الله معنا). ويغلب على فلاسفتهم التمسك بما يدينون، ولا يمرقون إلى الإلحاد مثل كثير من فلاسفة أوريا الغربية. فأشهر فلاسفة الألمان (كنت) المتوفى في أوائل القرن التاسع عشر، قد تعرض في تأليفه المسمى: "انتقاد العقل الخالص" للاستدلال على وجود الخالق، وهذا التأليف أعظم كتاب يعتمد عليه فلاسفتهم.

الجد والعمل

* الجد والعمل: يعمل الأمان في حياتهم على شاكلة سياسيهم الكبير (بسمارك) القائل: "إن استراح، صدئ". فإذا رأيتهم -لا سيما في غرة النهار- وهم ينتشرون في الأرض بخطاً سريعة. ونشاط، يتمثل لك الجد في أوسع مظهره، وينكشف لك الفرق ما بين العامل والقاعد في أجلى صوره. وفي بعض إحصائيات ليست ببعيدة أن (52) في المئة من السكان يرتزقون من الصنائع، وأن المعامل المنشأة في شمال المدينة وشرقها تحتوي على أكثر من ثلاث مئة ألف عامل. لا يلاقي المتجول في أنحاء المدينة -على سعة منطقتها - طائفة تتسول، أو يسمع لها نغمًا، وتخطر لي ذكرى أني لم ألق من السائلين في أشهر الإقامة هناك أكثر من عدد أنامل الكف الواحدة، وهم إما رجل قطع جناحه، أو عجوز بلغت من الكبر عتياً، ولا عجب إذ لم نشاهد كثيراً من العجزة يتكففون؛ فإن في الباب التاسع عشر من قوانينهم المدنية: أن تقوم الحكومة بعيش من قعد به العجز على الاكتساب بنفسه. * المعاهد العلمية: تأسست في برلين كلية يعمرها (250) أستاذاً، و (6000) تلميذ، ومن شعبها: مدرسة الألسن الشرقية، المنشأة في سنة نيف. 1880، ويتعلم في هذه الشعبة نحو (500) تلميذ. والمدارس من غير هذه الكية لم أجد بها حساباً، وإنما عرفت منها مدرسة للصناع بها نحو (3000) تلميذ، ومدرسة للزراعة بها (1000) تلميذ، ومدرسة لطب الحيوان بها (500) تلميذ، ومدرسة للمهندسين بها (4000) تلميذ.

وأنشؤوا منذ خمس سنوات داراً في "دالم" على جانب من برلين، وجلبوا إليها كل ما يفتقر إليه علماء الطبيعة من أدوات التجربة والوسائل المساعدة على البراعة الفائقة في هذا العلم، والمقدرة الواسعة في استنباط نتائجه، وقد أصبحت هذه المحلة دار إقامة لكثير من علماء الطبيعة. وشرع (فريدريك الأول) الذي نُصّب ملكاً على "بروسيا" في أوائل المئة الثامنة عشرة، بإنشاء دار كتب يقدر ما في خزائنها من المجلدات بمليون ونصف. ومن بينها قسم للكتب التركية، وآخر للكتب العربية. طفت بعض خزائن هذا القسم، فكنت أتناول كتاباً بعد آخر، فأجدهما مختلفين في فنيهما اختلافاً بعيداً، ثم طالعت الفهرس، فألفيته مرتباً على حروف المعجم، بحيث تسرد فيه الكتب التي تشترك بأوائل أسمائها في حروف من حروف الهجاء على نسق واحد، وإن تفرقت في موضوعات فنونها. فقرأت في حرف الهمزة مثلاً: "أحكام القرآن" لابن العربي، "إسعاف المبطي"، "الإعلام بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ"، "إنفاذ الأوامر الإلهية بنصرة العساكر العثمانية وإنقاذ الجزيرة العربية". وخصوا قسماً منها بالخرائط الجغرافية العتيقة والحديثة، وبها معرض نضدوا فيه آثار الخطوط العتيقة، وما سبق لحروفها من الأشكال الغريبة، وفتحوا في طبقتها الأولى للمطالعة محلاً سمكوا بناءه في شكل مثمن فسيح، وصففوا فيه مكاتب وكراسي في دائرة كبيرة، ومن فوق كل مكتبة مسرجة من الكهرباء، وأعدوا قبالة هذا المحل بهواً في شكل مربع مستطيل لمطالعة الجرائد والمجلات خاصة، ويماثله في طبقة عالية محل لمطالعة الكتب العربية والتركية، أو النسخ منها. ولا يمكَّن أحدٌ من كتاب إلا إذا كانت بيده ورقة الإذن في المطالعة،

نظامات علمية

فإذا أحرز ورقة الإذن ممن له النظر في إعطائها، وأراد المطالعة أو النسخ، لم يسلم إليه الحافظ الكتاب إلا بعد أن يثبت في ورقة رسمية اسم الكتاب وعدده، ويبين هل خط بالقلم أو بالمطبعة، ثم ينهيها باسمه وصناعته ومحل سكناه. يسمح قانونها بإعارة الكتب المطبوعة دون ما خط بالقلم؛ لأنها قد تصاب بضياع، فيصعب الجاد مثلها وجعله بمكانه، ولا سيما ما يكون له أثر تاريخي؛ كالكتب المخطوطة بأقلام مؤلفيها، أو غيرهم من مشاهير أهل العلم. * نظامات علمية: تنقسم المدارس إلى: ابتدائية، وإعدادية، وجامعة (كلية). فيستمر التلميذ من السنة السادسة إلى الرابعة عشرة في القسم الابتدائي، ثم يتمادى في الإعدادي ست سنين، فينفصل عنها إلى الجامعة ويبقى بها ثلاث سنين، فإن كان من طلبة علم الطيب، فسحوا له في الأمد إلى منتهى خمس سنين. والتعليم الابتدائي منتشر في جميع الطبقات على طريقة جبرية، فيتحتم على الولد الاستمرار في دورته إلى أقصى غاية. وعلى وليه أن لا يمنعه بعد هذه الدورة من الاختلاف إلى المدارس الإعدادية مقدار ثلاثة أعوام، ولم تشرع الحكومة قسماً ليلياً للتلاميذ الذين هم من نفس المدينة، واختاروا أن يبقى للتلميذ اختلاف إلى أوليائه، وأنسه بهم؛ ليراقبوا حالته، ويرشحوه بشيء من آدابهم. يتعلم البنات في مدارسهن كل فن، إلا علم الإلهيات؛ إذ لا يليق بالمرأة عندهم أن تكون واعظة. ومن أمثالهم المضروبة: "المرأة في الكنيسة تسكت". تولّى المرأة وظيفة التعليم على شرط أن تكون أيّماً، فإن أصبحت ذات زوج، انفصلت عن خطتها.

جرى القانون أولاً على منع المعلم من مجازاة التلميذ بعقوبة الضرب، ثم ألغاه ناظر المعارف، وقال: عندي ثقة بأن لمعلمي مدارسنا حناناً على التلاميذ وعواطف، تأبى لهم أن يبلغوا بالضرب إلى ما فيه إساءة. لا يسوع للتلميذ أن يتعاطى المسكرات، ولو دخل في دور التعليم بالجامعة، وقد قال لي أحد أساتذتهم، عند الحديث في هذا القانون: إن تلاميذنا مثل المسلمين. كان التلاميذ يترنمون بقصائد في اللسان اللاتيني، فأبطلها القيصر، وقال: لا فائدة لهم في ذلك، فأصبحت أناشيدهم الوطنية ألمانية محضة. يدرب التلميذ في المدارس الإعدادية على صناعة الخطابة، ويطالبونه بأن يحرر في كل شهر رسالة يبحث فيها عن بعض الموضوعات العلمية. أجر التعليم السنوي في المدارس الإعدادية (150) ماركاً، وفي الجامعة (500) مارك، ويوازن المارك من نقودنا على وجه التقريب القطعة الفضية ذات الخمسة قروش. يتعين مدير الجامعة في كل سنة بانتخاب من أساتيذها، ثم تقرر ولايته بتسمية من صاحب الدولة. ترسل الدولة في كل سنة وفداً من طلاب العلوم إلى أميركا؛ ليستطلعوا مدارسها، ويستكشفوا عما عساه أن يتجدد من أساليب العلم ونتائجه. يتلقى أبناء العائلة القيصرية تعاليمهم في مدرسة خاصة لا يغشاها إلا من نشأ في مهد الملك من أسرة راقية، ويقال: إن والد القيصر الحالي كان يود لهم أن يتعلموا بالمدارس العامة؛ حتى يلاقوا سائر الطبقات، ويكونوا على خبرة محققة من أحوالها.

مشروعات خيرية

* مشروعات خيرية: من مساعيهم النافعة: أن ألّفوا جمعية تبحث عن البائسين من طرق خفية، وتوجّه إليهم في البريد صدقات من غير أن يشعروا بمصدرها. وقصّ عليَّ بعض أساتيذهم: أن إحدى البائسات كانت ترتزق بصنعة خياطة، فوافاها ذات يوم صاحب البريد بـ (500) مارك، وناولها إياها، فدهشت فرحاً، واندفعت تسأل عن باعثها بإلحاح، فأبى أن يكشف لها عن الحقيقة. وترى هذه الجمعية أن التبرع بقسط عظيم على مستحق واحد، أنفع من توزيعه على طائفة ينال كل واحد منها حصة يسيرة. ومن الجمعيات عندهم جمعية "تخفيف المصائب"، ومن أعمالها الحسنة: أن تساعد من تنوبه مصيبة في جسده مساعدة ابتدائية، ففتحت في أقسام العاصمة محالَّ عينت لها أطباء ليسارعوا إلى علاج كل من يطرأ عليه حادث، أو يفاجئه مرض في أثناء الطريق مجاناً. * ترجمتهم للقرآن: ترجم القرآن المستشرق (ركرت) المتوفى أواسط المئة الماضية، ولكن انصرم حبل أجله من قبل أن يتم ترجمته، ثم ترجمه المستشرق (هنينك)، وهو يعيش في مدينة "فرانكفورت" ترجمة تامة، إلا أن الأول يراعي في الترجمة بلاغة اللسان الألماني، فلا يبالي بالتقديم والتأخير، والتعبير عن الحقيقة بالمجاز -مثلاً-. والثاني يحافظ على ترتيب الآية، وحقيقتها في الغالب. وقد تتبعت في كثير من السور بالمقدار الذي وقفت عليه من هذه اللغة من الاستعانة بالكتب اللغوية الألمانية العربية، فوجدته ينظر إلى المعنى الأصلي، ويتحرى في أدائه جهد استطاعته.

عنايتهم بالعربية

ووضع غير هذين الرجلين ترجمة ثالثة لم أتتبعها، ولكن قال بعض العارفين باللغتين: إنها بعيدة عن المطابقة، وليست في القرب من الصحة مثل ترجمة (هنينك). ونبأني الأستاذ (هردر): أن إحدى الجمعيات راسلته بأن تراجم القرآن التامة قد يضيق الوقت عن مطالعتها، واقترحوا عليه أن يترجم لهم آيات من سور متفرقة، فاقتبس لهم مما ترجمه المستشرق (ركرت) آيات كثيرة في التوحيد والأخلاق والأحكام، فطبعوها مجموعة، وظهرت بينهم في مثال التراجم الأخرى. * عنايتهم بالعربية: توسلوا إلى العربية بتعليم لسانها، ثم خدموا مؤلفاتها بالطبع، واقتبسوا من حكمتها بالترجمة. ألف الأستاذ (هردر) كتاباً في قواعد العربية، فكان الكتاب المتداول عندهم في التدريس، وقد توالى عليه الطلب هذه المدة بإعادة طبعه. وألف كتاباً يفسر فيه المفردات الأمانية بما يرادفها من العربية، وأنجز طبعه في مجلد ضخم، ثم وضع كتاباً آخر اقتصر فيه على الكلمات المألوفة في الاستعمال. ترجم المستشرق الأستاذ (متفوخ) كتاب "علاج العيون" لعمار الموصلي، وفصلَ: (علاج العيون) من كتاب علي بن عيسى في صناعة الطيب، وفصل: (علاج العيون) لابن سينا، وكتاب "وقائع العرب" لأبي عبيدة بن المثنى الكبير والصغير، ونقل إلى الألمانية أيضاً ترجمة حمزة الأصفهاني، وترجمة ابن سعد مؤلف كتاب "الطبقات". وترجم الشاعر (ركرت) أحد المترجمين للقرآن "ديوان الحماسة" في شعر ألماني. وترجم المستشرق (ريشر) قصائد أبي الأسود الدؤلي،

عنايتهم باللسان العثماني

و"مقامات الهمذاني"، و"أطباق الذهب" لعبد المؤمن الأصفهاني، و"مقامات الزمخشري"، و"الأدب الصغير" لابن المقفع، وكتاب "أحسن ما سمعت" للثعالبي، ونجز طبعها. ثم ترجم كتباً لم تبرز في عالم الطباعة مثل: "الأدب الكبير" لابن المقفع، ومقدار الربع من "معجم البلدان" للبلاذري. وربما طبع الكتاب والرسالة بلسانها العربي، وعلّق عليها بعض بيانات بلسانه الألماني، مثل: "شرح ابن الأنباري لمعلقة زهير"، و"شرحه لمعلقة عنترة"، ورسالة "المذكر والمؤنث" لابن جني، ورسالة "في بقايا الأشياء" لأبي هلال العسكري. وكان هذا الأديب يحاورني في كثير من معاني الأبيات، أو الحكم المنثورة، وربما تعاطى الترجمة في أثناء قيامه بالوظيفة العسكرية، وبمثل هذه التراجم القديمة والحديثة كان للسان العربي -كما قال أحد أساتيذهم- أثر في رقي آداب اللغة الألمانية. ويشهد بصحة ما قاله ذلك الأستاذ أن أشهر شعرائهم (كيتي) المتوفى سنة 1832 نظم قصيدة إبراهيم - عليه السلام - في أسلوب فلسفي، وصرح أنه اقتبسها من القرآن الكريم. والمعروف عندهم من هذا الشاعر المستشرق: أنه كان يحترم الإسلام، ويعترف بحكمته. * عنايتهم باللسان العثماني: ليست عنايتهم بالعربية لهذا العهد بأوسع من وجهتهم المصروفة في اللسان العثماني، فقد نبأني أحد المعلمين في مدرسة الألسنة الشرقية: أن المتلقين للسان العثماني هذه الآونة، يناهز عددهم (200)، بعد أن كانوا في السنين الماضية لا يتجاوزون نصف العشر من هذا المقدار، ولبعض العثمانيين دروس خاصة، يتلقاها عنهم في إدارة الأخبار الشرقية ملأ من الألمان.

أخلاق وآداب

وصرف رئيس المستشرقين الأستاذ (هرتمان) همته إلى هذه اللغة، ولفت نظره إلى تتبع آدابها بطلب حثيث من عصابة المستشرقين، فنهض يحرر المقالة تارة، ويلقي المحاضرة تارة أخرى، وانعقدت منذ أشهر لجنة توالي جلساتها في دار الكتب العامة، وتنظر في القسم المؤلف بلهجة عثمانية. * أخلاق وآداب: يُعرف الألماني بمتانة العزم، وقلة الانقياد لخواطر اليأس، وكنت طالعت مقالات لبعض أعدائهم الذين لا يثبتون لهم الذكاء الفائق، وسرعةَ الوصول إلى الدقائق، فرأيتهم يسلمون لهم طبيعة احتمال الشدائد، والثبات على الأعمال إلى أن يحرزوا فيها نتيجة، حتى جعلوا مقدرتهم العلمية، أو ما يظهر على أيديهم من المخترعات، إنما هو ناشئٌ عن التجلد والمثابرة على السعي والتجربة. ورسوخهم في خلق الصبر هو الأساس الذي قام عليه تبريزهم في القوة العسكرية. ولطالما طفت غابات وعرصات حول الثكنات، فرأيت الجندي نائمًا بملابسه الجديدة ووسامه الشرف على فراش من تراب، ولا وسادة له غير ذراعه، أو قطعة من جلمود. وما برح ملوكهم يحافظون على ما يقوي هذه الخصلة في نفوسهم، حتى بالغ (فريدريك ويلهلم) في الحط من قدر المعارف، زاعماً أنها مدعاة الفشل، وإضعاف مزية الشجاعة، وكان من أثر زعمه هذا: أنه لم يعين لتنمية دار الكتب التي أنشأها أبوه سوى ستة ماركات في السنة. ولما استقلها أهل العلم حينئذ، قال لهم: أليس في خزائنها كثير من الكتب المكررة، فيمكن أن تباع، ويستبدل بها كتب مستحدثة؟!

استحكمت بينهم روابط الوفاق والمسالمة، حتى إني أقمت ستة أشهر في برلين، وثلاثة أشهر في قرية في ضواحيها، ولم ألحظ مشاجرة، ولو بين صبيين، أو امرأتين. فعدم ملاحظة الغريب لمثل هذا في مدة واسعة، يشعر بقلة المنازعات العدوانية فيما بينهم. ومن نتائج هذه التربية التي يعاضدها اتساع طرق الاكتساب: أن الأمة أصبحت في قرار مكين من الأمن، فلا يوجس السائر في سواد الليل بضواحي المدينة خيفة سوء، فما الحال بين جدرانها؟. ولقد كنت أخرج من محل الأسرى عند منتصف الليل منفرداً، وأعود إلى القرية ماراً على غابة ليس فيها أنيس غير أشجارها المتعانقة، وظلامها المتراكم، ولا ألاقي في الطريق وحشة أو قلقاً. وأزداد إعجاباً بهذه الراحة الشاملة، إذا تذكرت صعاليك إيطاليا وأمثالهم، كيف ينتشرون داخل مدينة تونس أو الجزائر، ويقطعون السبيل على سكانها بنهب الأموال، وسفك الدماء، حتى لا يمر الرجل في الطرقات المنحرفة عن الجادة بعد العتمة إلا وهو يتوقع خطراً. يمنحون الغريب في بلادهم صدراً رحباً، فيقف الرجل إذا استوضحته أمراً، أو استخبرته عن مكان، ولا يتسلل عنك إلا أن تستوفي منه بياناً كافياً، وربما تفرس منك الحيرة في الطريق، فيفاتحك بالسؤال عن الوجهة التي تريدها، ويهديك إليها بالقول المفصل، أو بالمرافقة إذا لم تكن المسافة بعيدة. اشتبه عليَّ الطريق إلى محطة القطار في بعض الأيام، فاستكشفت عنها أحد المارين في السبيل، فأخذ يصفها بالإشارة والأمارة، ولما لم يقنع بأن عبارته وقعت مني موقع الفهم البيّن، قفل راجعاً يسايرني بمقدار عشرين دقيقة،

حتى بلغت المحطة نفسها. يلاقي التجار والعَمَلة عندهم الوارد بجباه منطلقة، وألسنة رطبة، ويعرضون عليه ما عندهم من صنوف الأشياء التي يطلبها من غير تقاعس ولا سآمة. ولهذا الأسلوب الأدبي الاقتصادي أثر عظيم في رواج البضائع، والسباق في مضمار التجارة؛ فإن من الناس من يقصر معاملته على محل، أو يبتاع منه البضاعة، ولو شطت قيمتها؛ رعاية لما يتجمل به صاحبها من سعة الصدر، ورقة الخطاب. يغلب عليهم خلق الرصانة والتؤدة، ولا سيما في المشاهد العامة والنوادي الجامعة. امتطيت ذات يوم قطار المدينة، فاتفق أن كان أمامي رجل أظهر في مغازلته لامرأة طيشاً وسفهاً، فوقع في خاطري أنه أجنبي عن هذه الحاضرة، ثم إنه جاذبني عند انصرافي محادثة عرفني بها أنه من أحد الشعوب البلقانية. ومن آثار التعليم العام: أن أصبحت الأمة بمحل الثقة في نظر الحكومة، فالقطار الكهربائي ذو درجتين متفاضلتين، وتقطع أوراق الركوب بها من طاقات في أوائل محطاتها، ولا أذكر يوماً أن مفتشاً دخل عربات الدرجة العليا ونظر في أوراقها، بل فوضوا ذلك إلى وجدان الشعب وأمانته. أما القطار البخاري الذي يسافر من العاصمة إلى قرى تبعد بمسيرة ساعتين أو أكثر، فيتردد عليه مفتش الأوراق في الشهر مرة. وعلى ذكر البحث في الأخلاق والآداب، أذكر أني كنت أتجول في بعض الغابات حول قرية عن برلين نحو ساعة في القطار تسمى: "فيزدورف"، فخطرت على قلبي الموازنة بين المعارف والأخلاق، وبدا لي وقتئذ أن كفة الأخلاق

الإنسانية نظراً إلى وزنها بترقياته العلمية لم تزل خفيفة، فقلت تحت عنوان: (أيها الإنسان): أما كفاك ظباءً أو مها بربى ... حتى تقنّصت آسادَ الشّرى بزُبى وما اقتنعت بما يطفو على لجج ... فغصت تلقط دراً تحتها رَسَبا ولم تقف عند تنسيق المقال إلى ... أن ماج حسناً وصار الثغر والشنبا وبعد إرساله دهراً أقمت له ... وزناً، أكان حصاً ثم انثنى ذهبا قلّبت وجهك بعد الأرض في فلكٍ ... فظلت ترصد منهُ السبعة الشهبا أما تفقهت عنها في حقائق ما ... وراءها فنضحت الشك والريبا سار اليراع رويداً فانتهضت لما ... يحدو الصحائف في شوط أو الكتبا صغت الحديد مطايا إذ تلبثت الـ ... ـجياد أو لقيتْ في سيرها نَصَبا ما ضاقت الأرض يوماً عن خطاك لما ... صعدت في الجو تحكي الطير والسحبا واشتقت لهجة إلف واهتديت لأن ... تمتع السمع منها حيثما ذهبا حكى الصدى صيحة رجت فجئت بما ... يحكي القصائد أنّى شئت والخطبا حبُّ الحياة استثار العزم منك إلى ... طبٍّ وحربٍ فكنت البرء والوَصَبا فما الطبيب بمستشفاه أرغب في الـ ... بقاء ممن يلاقي البِيضَ والشهبا أرسلت في كل وادٍ رائداً فدرى ... من حكمة البحث كنهَ الأمر والسببا لكنني ما دريت اليوم أنك قد ... أفرغت في نفسك الأخلاق والأدبا كنت أسيح في تلك الغابات ترويحاً للخاطر، وإيثاراً لها في بعض الأحيان على مشاهد الحضارة وزخارفها، ولا سيما في أيام رمضان، حتى قلت

خلال السياحة في سياق الإعجاب بالبداوة والارتياح إلى بساطتها أبياتاً، صوّرت فيها حالة راعي الغنم تحت عنوان: (الملك الطبيعي). وأذكر أني كنت ذات يوم في مقعد من أحد المنازه العامة، وفي يدي صحيفة أكتب بها بعض ما يسنح من الخواطر، فوقف علي أحد الأساتيذ، فسألني عما أكتب، فقرأت عليه من حديث تلك الصحيفة الجمل الآتية: - يقولون: تفرقُ الأمة يفضي إلى موتها. وأقول: التفرق أثر الموت؛ فإن الجسم يموت، فتفرق أجزاؤه. - اربط نفسك باعتقاد أنك تعمل لمن يشب، أو ينشأ بعد موتك، حتى لا يكون في صدرك حرج؛ إذ تكون بضاعتك بين أهل عصرك كاسدة. - يتلذذ المستقيم بعفته، كما يتلذذ الفاسق ببلوغ شهوته، ولكن أمام لذة الاستقامة عقبة لا يقتحهما إلا قوي الإرادة. - لا تثق في نفسك فيما تدعي من الإخلاص لأمتك، حتى يلذ لك أن تصلح الخلل في نظامهم وهم لا يشعرون. - إذا وثقت بعرى التوكل على الله، لم تحتج أن تمر إلى الحق على جسر من الباطل. - إن الرجل ليعجب مما يصنع الساحرون، أفلا يعجب من لذة تمر على قلبه من السحاب، ثم تنقلب مخازي تلبث في صحيفة حياته أحقاباً؟!. - يكفيك فيما تجتني من ثمرة العلم الصحيح أن يرفع همتك عما فُتن به الجاهلون من زهرة هذه الحياة. - إذا أغلق المحيط أعين رقبائك، وختم على أفواه عذالك، ثم راودك على أن تنزع حلية أدبك، فقل: ليس للفضيلة وطن، كيف تسترسل مع الأصحاب

إلى أن تحيد عن جانب الفضيلة، وهم لا يرقبون ذمتك، فيقفوا لك عندما تقف في دائرتها؟!. - أسير مع الرجل على قدر ما أدرك من قيمته، فإن نظرت إليه على حسب وجاهته، أو كساد سمعته عند الناس، فقد ألقيت بنفسي في حمأة من التقليد. - إذا أحببت الذي يجاملك وهو يحارب الله، لم يكن بغضك لمن حارب الله، وأمسك عن مصانعتك من قبيل الغيرة على حرم الشريعة. - لا يدرك قصير النظر من الحدائق المتناسقة غير أشجار ذات أفنان، وثمار ذات ألوان، وإنما ينقب عن منابتها وأطوار نشأتها ذو فكرة متيقظة. - لا تحمل نفسك ما لا تطيق من منّةِ وضيع، أو نخوة فخور، فإذا أحسست في صدرك بالحاجة إليه، فاصنع ماذا تصنع لو بقي في موتته الأولى، أو أدركته موتته الثانية. - لا تعجب لذوق ينكر ما ألفته، أو يألف ما أنكرته، حتى يتقلَّب في التجارب والمشاهدات التي تقلَّب فيها ذوقك أطواراً. - قد يقف لك الأجنبي على طرف المساواة، حتى إذا حلّ في وطنك غالباً، دفعك إلى درك أسفل، واتخذ من عنقك موطئاً. - في الناس من لا يلاقيك بثغر باسم إلا إذا دخلت عليه من باب الغباوة، أو خرجت له عن قصد السبيل، فاحتفظ بألمعيتك واستقامتك، فإنما يأسف على طلاقة وجهه قوم لا يفقهون. - إن من الجهال من يرمي على مقام وجيه، فعلّمه بسيرتك القيمة أن الجهالة لا ترجح على العلم وزناً، وإن وُضع بازائها السلطة الغالبة، أو الثروة الطائلة.

نقودهم

- يكفي الذي يسير في سبيل مصلحة الأمة، وهو يلاحظ من ورائها منفعة لنفسه، أن يكون في حل من وخزات أقلامها، أما أطواق الشكر الصادق، فإنما يتقلدها المخلصون. - ألا ترى الماء الذي تلقى في مجاريه الأقذار كيف يتجهم منظرُه، ويخبث طعمه؟ فاطرد عن قلبك خواطر السوء؛ فإنه المنبع الذي تصدر عنه أعمالك الظاهرة. - لا تنقل حديث الذي يفضى به إليك عن ثقة أمنك، وحسن عقيدة في أمانتك، ويمكنك متى كان يرمي إلى غاية سيئة أن تجعل مساعيك عرضة في سبيله، فتحفظ للمروءة عهدها، وتقضي للمصلحة العامة حقها. - لو فكرت في لسانك حين يعرض لإطراء نفسك، لم تميزه عن ألسنة تقع في ذمها إلا بأنه يلصق بك نقيصة لا يحتاج إثباتها إلى بينة. - إذا ركبت في السياسة مركب الشعر، فقلت ما لا تفعل، أوهِمْت في واد لا تعرج فيه على حق، فانفض ثوبك من غبارها، فإنه ليس بالغبار الذي يصيبك في سبيل الله. أصغى ذلك الأستاذ إلى هذه الخاطرات، فابتسم لها ابتسام المستحسن، ولكنه ناقشني في الخاطرة الأخيرة منها قائلاً: "إن مجال السياسة أوسع من دائرة الحقيقة"، فلم يسعني في الجواب عن هذا النقد سوى أن قلت: إن الوقائع النادرة لا تمنع من سبك المقالات الموجزة وصياغتها في أساليبها المطلقة. * نقودهم: تحتوي الليرة على (20) ماركاً، وتتركب من (900) قسم من الذهب، و (100) قسم من النحاس، ويحتوي المارك على (100) فينيش، ويتركب

كلمة في الموسيقى

كالقطعة ذات ثلاثة أو خمسة ماركات من (900) قسم من الفضة، و (100) قسم من النحاس، ويتركب الفينش من (95) قسماً من النحاس، و (4) أقسام من القصدير، وقسم من الزنك، وهناك قطع من النيكل ذات خمسة فينيشات، و (10) فينيشات، وتتركب من (25) قسماً من النيكل، و (75) قسماً من النحاس. ولا فرق في المعاملة عندهم ما بين الأوراق النقدية والمسكوكات الذهبية والفضية، وكثيراً ما تعطى ورقة ذات الخمس ليرات لمن يستحق مقدار عشر متليكات؛ كصاحب القهوة، فيمسكها من غير أن يشمئز منها قلبه، ولا يعز عليه أن يصرفها بأوراق صغيرة، وكثير من المسكوكات الفضية. * كلمة في الموسيقى: اقتبسوا أنغامهم الموسيقية وتلاحينهم من الأوضاع الإنكليزية، وقد هموا هذه الآونة أن يهجروها، ويستبدلوا غيرها بها؛ قطعاً الآثار الإنكليز من بينهم، وأكبر موسيقي ظهر لديهم الشاعر (فكنر) - المتوفى سنة 1883، وله روايات شعرية تستعمل في الملاهي التي تجري فيها الروايات مقارنة لأنغام موسيقية. وتستعمل عندهم روايات (شاكسبير) الإنكليزي من شعراء المئة السادسة عشرة، وقد أحب بعضهم طرحها، والاستغناء عنها بالروايات التي هي من أوضاعهم، ورأى آخرون إبقاءها؛ لأن (شاكسبير) لم يقل في الأمة الألمانية سوءاً. * اللغة ونبذة من آدابها: تنقسم اللغة الجرمانية إلى قسمين:

شمالية، وتندرج فيها الدنيماركية، والنرويجية، والسويدية. وجنوبية، وتدخل فيها الإنكليزية، والهولاندية، والألمانية. واندمج في اللسان الألماني مفردات كثيرة من اللسان الفرنسي والإنكليزي، وكان فيما ولد عن هذه الحرب أن أخذوا في إلغائها، والاستغناء عنها بما يقوم مقامها من الأوضاع الألمانية، ولا يعز عليهم ذلك ما دامت لهم جمعية لغوية قائمة بإصلاح اللغة، وتكميل نواقصها. بني اللسان الألماني على وضع الإعراب؛ مثل اللغة العربية، وينقسم الاسم فيه إلى: مذكر، ومؤنث، وواسطة يسمى: بالمجرد، وعلامات الإعراب في الأنواع الثلاثة مختلفة، ومن خواص هذا اللسان: أن يضع المتكلم أداة التعريف، ويذكر عقبها أوصاف المعرف مفرداً وجملاً، ثم يأتي بالاسم المعرّف من بعدها، وربما اشتملت تلك الجمل المتوسطة على أدوات تعريف ومعرفاتها، ويماثل هذا: أن لهم أفعالاً كثيرة تتركب مع كلمتين، وتدل على معنى واحد، فيأتي شطر الفعل في صدر الجملة، وتلقى القطعة الثانية في آخرها، وقد يفصل بين القطعتين بما ينوف على عشر كلمات. وهذه الوجوه هي التلى يلاحظها من يرى في تعلم هذا اللسان صعوبة تستدعي مدة أوسع من أوقات تعلم كثير من الألسنة، ولكنها من جهة الكتابة سهلة المأخذ جداً؛ لأن الأحرف المرسومة هي المنطوق بها من غير تفاوت. ويلتزمون التعبير عن المفرد المخاطب بضمير الجمع، إلا أن يكون من صغار أقاربه، أو يكون الخطاب في شعر، وإيراد ضمير الجمع للمفرد المخاطب تعظيماً له لم يكن معتاداً للعرب قبل هذه العصور، وإنما يعرف منهم هذا الأسلوب في حال المتكلم، فيستعمل المتكلم ضمير الجمع مكان ضمير المفرد؛

تعظيماً لنفسه، وورد عنهم ضمير الجمع المخاطب في الواحد بقلة، ومن شواهده قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] الآية. حيث وقع خطاب الله تعالى بواو الجماعة؛ إجلالاً وأدباً. وقفت لهم فيما يستعملون من محاسن البديع على مثل: الجناس، والتورية، وكانوا يعتبرون في طريقة شعرهم اتفاق الكلمات في أحرفها الأولى، وأصبحت اليوم مراعاتهم لهذا الشرط نادرة. أما صناعة الخطابة، فإني كنت شهدت محاضرات وخطباً كان أصحابها ينظرون عند إلقائها إلى أوراق نصب أعينهم، فوقع في خاطري أن هذه الصناعة لم تبلغ عندهم أشدها، ولكني حضرت مسامرة موضوعها: "الإسلام في عالم الحرب"، فقام بعد المسامر ثلاثة خطباء من غير أوراق، وألقوا خطباً مسهبة بترسل في القول وتؤدة، ولا يشير الخطباء بأيديهم كثيراً حال الخطبة، بل سمعت منهم من ينكر ذلك الصنيع، ولا سيما حركة لا يكون وضعها مناسباً للمعنى الذي يقترن بها، وهذا ما كان العرب ينقدونه على خطبائهم أيضاً، قال الحجاج لأعرابي: أخطيب أنا؟ قال: نعم، لولا أنك تشير باليد، وتقول: أما بعد. ويعدون (بسمارك) من أبلغ خطبائهم الذين يخطبون بلهجة شديدة، ولبلاغته في لسانهم يستشهد مؤلفو الكتب اللغوية ببعض عباراته. يوجد في أدبائهم من يقول الشعر ارتجالاً، كنت حضرت لشاعر يقف في مشهد عظيم، فيلقي عليه طوائف من الحاضرين جملاً منثورة في معان متباينة، وهو يكتبها في أوراق بيده جملة بعد أخرى، وبأثر الفراغ من الكتابة ينطق بكل جملة مثها شعراً، يؤديه في صوت جهوري، ولهجة قوية.

ضبط إداري

* ضبط إداري: يوجد مع كل شرطي سِفْر في ضمنه أسماء الشوارع والحارات والمحلات الشهيرة؛ مثل: دوائر الحكومة، والمعاهد العلمية، فيستعين به في أداء وظيفته، ويهدي به من عمي عليه السبيل من السائلين، ويحمل ميزان المائعات (أريوميتر)، فيزن ما يجده عند الباعة من حليب ونحوه، فإذا عرف فيه خلطاً، أراقه، ويراقب الشرطي الغرباء وغيرهم، ويتتبعهم بالملاحظة حيثما تقلبوا. كنت ذات يوم ماراً في جادة من العاصمة، فلقيني شرطي، وناولني مكتوباً أُرسل إلي من طرف إحدى الجمعيات، وانصرف من غير أن يسألني عن اسمي. ومن تراتيب إدارة الشرطة: أن أصحاب البيوت أو الخانات إذا نزل عندهم أحد، قدموا إليها ورقة تحتوي على اسمه وبلاده، وعمره وحرفته، ثم إن الدائرة تطلب الشخص نفسه لتنظر في حالة، وتطلع على رخصة سفره إن كان من بلاد أجنبية. ومن شواهد اعتناء إدارة السكة الحديدية بالشؤون المتعلقة بها، وأخذها فيها بطريق الحزم، أن ضاعت مني ورقة القطار الشهرية بين "برلين" وقرية "فنزدورف"، فبقيت ثلاثة أيام أسافر بورقات يومية، ولما جئت في اليوم الرابع إلى مقطع الأوراق، أقبل عليّ أحد العاملين في الإدارة، وقال لي: ضاعت منك ورقة شهرية، وقد عثرنا عليها، ثم صعد إلى محل الإدارة، وناولني إياها، وكان وجه العجب أني لم ألقِ إليهم خبرها من قبل، ولم أضع عليها اسمي؛ ذهولاً عما جرت به عادتهم. * العقوبة البدنية: لا يجيزون العقوية البدنية إلا لمن سجن في جناية تنزع شرفه، ويخاطب

مسجد الأسرى

عند ذلك بضمير المفرد المخاطب. ومن أمثلة الجنايات التي ينسلخ بها الشرف عندهم: أن يفسد الرجل عرض من لم يتجاوز عمرها الرابعة عشرة من سنها. ويجري الإعدام قصاصاً عندهم بآلة مثل السطور تضرب في عنقه من خلف، ولا يقع علناً، بل يشهده أفراد خاصة مثل الحاكم به، والمدعي العام. * مسجد الأسرى: أنشأت الدولة الألمانية للأسرى المسلمين جامعاً للصلاة، وحماماً، ومحلات للوضوء، ومنارة شامخة للأذان، وأقامت غرة رمضان سنة 1333 حفلة افتتاحية حضرها سفير دولتنا العلية (محمود مختار باشا)، وفريق من أعيان العسكرية، والنظارة الخارجية الألمانية، وجمع كبير من الشرقيين والمستشرقين، فألقى نائب النظارة الحربية خطاباً ترجمه إلى العربية بمنطق فصيح القبطان (منس). ثم ألقى سفيرنا خطاباً باللسان الألماني، ثم تلا إمام الأسارى، وهو من أعيانهم الجزائريين خطاباً شكر فيه رفق الدولة الألمانية، ومجاملتها لهم، ثم ألقى كاتب هذه المقالة خطاباً عربياً. * عنايتهم بأحوال الشرق: لم يكن للألمان على ما عهدوا به من إشباع البحث في أحوال الأمم عناية بمعرفة الشؤون الشرقية تشابه العناية التي أخذتهم لعهد هذه الحرب، فقد أصبحوا يوسعون البحث في أحوال الشرق، ويلتقطون دقائق أخباره السياسية أو العلمية أو الاجتماعية بملء آذانهم، ومجامع قلوبهم. ومن أثر هذه العناية: أن أنشؤوا منذ ابتداء الحرب دائرة ترتبط بنظارة الخارجية تسمى: (إدارة الأخبار الشرقية)، واستخدموا فيها فريقاً من العارفين

بالألسنة الشرقية، فترى بين العاملين فيها الكاتب العراقي، والمصري، والجزائري، والفارسي، والحجازي، والقفقاسي، والهندي، وتجلب إليها الجرائد والمجلات العربية والتركية والفارسية والهندية وغيرها، ويترجمون منها إلى الألمانية ما يهم الاطلاع عليه، ولا سيما المقالات والآراء التي لها مساس بحالة الإسلام أو ألمانيا. ومن أعمال هذه الإدارة: نشر الرسائل والمحاضرات التي لها علاقة بالحرب الحاضرة بألسنة مختلفة. وألقى بعض الألمانيين أيام كنت هناك محاضرات كثيرة في الكشف عن أحوال الشرق الإسلامي، منها: محاضرة تبحث عن الاقتصاد في الدولة العثمانية، وأخرى في حال الفرس، ومحاضرة موضوعها: الإسلام في عالم الحرب. ومن عاداتهم في المحاضرة: أن ينصب المحاضر عن يساره أو يمينه خريطة البلاد التي يقصد البحث في حالتها، وربما عرضها في التمثيل (السيموتغرافي)، ويشير في أثناء تقريراته بأصبعه، أو بقضيب في يده على الأماكن التي جرته المناسبة إلى الحديث عنها. ومن بين صحفهم مجلة تسمى: "العالم الإسلامي" تنشر الأنباء الواردة عن عالم الإسلام، وتبحث عما يجري فيه من شؤون اجتماعية أو علمية، وكنت أهديت إلى مدير الأخبار الشرقية نسخاً من تآليفنا: "الحرية في الإسلام"، "حياة اللغة العربية"، "الدعوة إلى الإصلاح"، "مدارك الشريعة الإسلامية"، "مناهج الشرف"، فعرضها على الأستاذ (مرتين هرتمان) مدرس اللغة العربية بمدرسة الألسنة الشرقية، وأخبرني هذا الأستاذ أنه كتب في التعريف بها كتابة يريد نشرها في عالم الصحافة.

خطاب الإمام محمد الخضر حسين في تدشين مسجد ببرلين في أثناء الحرب

* خطاب الإمام محمد الخضر حسين في تدشين مسجد ببرلين في أثناء الحرب (¬1): سادتي! لا شك أن لكل حكومة سياستها الخاصة بها، والمتسمة بسمة تتجلّى في مظاهر تلك السياسة. ولكن الحكومة التي تزدهر سياستها، والتي يبتهج الشعب بتصرفاتها، هي الحكومة التي تقيم سياستها على ثلاثة مبادئ: المبدأ الأول: استسهال الأعمال الجبارة، والإقدام عليها دون الالتفات إلى الأخطار التي قد تنجر عن ذلك. فما من شعب يستطيع أن يتطور نحو السعادة والحرية، إلا إذا كان يقوده رجال لهم من العزيمة والحمية الوطنية ما يجعل الجبل الأشم في ناظرهم مجرد ذرة من الرّمل تدوسها أقدامهم. المبدأ الثاني: جمع اللين إلى الحزم، والطيبة إلى الشدة، إذ لا تُغلب النفوس الشريرة، ولا يُقضى على الآفات التي تصيب محاسن الأمور وتفسدها إلا بالحزم والشدة، أو باللين والطيبة تكسب قلوب الرعية، وتستمال نفوس الأهالي. المبدأ الثالث: منح الناس الحرية المطلقة، حتى يتمتعوا بحقوقهم الشرعية، وحتى يسلك كل فرد الطريق الذى يدله عليه ضميره. ولا تزدهر سياسة أية حكومة إلا بقدر ما ترتكز على هذه المبادئ الثلاثة. ¬

_ (¬1) خطاب الإمام محمد الخضر حسين في حفل افتتاح مسجد برلين في غرة شهر رمضان 1333 هـ.

ونحن نرى -في الواقع-: أن الحكومة التي أحسنت معاملة رعاياها، وحرصت على رخائهم أكثرَ من غيرها، هي التي تتبوأ المكانة الأسنى، والتي تحوز قوة أعظم من قوة سواها. وإذا اعتبرنا هذه المبادئ، ونظرنا إلى حال الحكومة الألمانية، وإلى سلوكها، لاحظنا بوضوح أنها تفوقت تفوقًا كبيراً على الحكومات الأخرى، وبلغت الأوج. وهذه الحرب الراهنة تُبرهن على ما لرجال هذه الحكومة من صبر غير محدد، وصمود لا يمكن -حتى للموت- أن يَنال منه. ولو لم تجمع الحكومة الألمانية اللين إلى الحزم، والطيبة إلى الشدة، لما شاهدنا هذا التضامن القائم بينها وبين رعاياها، والذي يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بروح واحدة تفرقت في جسوم عديدة. أما عطفها على الأجناس من مختلف الأديان -لا سيما المسلمين-، وصدق طويتها نحوها، ففي الظروف الحالية برهان عليهما. لا شك أن ألمانيا لم تكتف قط بصيانة حياة المسلمين، بل بذلت كل ما في وسعها لتطوير حياتهم الروحية، ومساعدتهم على حفظ دينهم! ومن مبرّات ألمانيا: تشييد هذا المسجد. فهذا البناء، رغم أنه لا يحتل إلا قطعة ضئيلة من التراب الألماني، فإنه سيُحِلُّهُ من قلوينا حيزاً بقدر ضعف مساحته، وسينمي بذلك قوته ومشاريعه. ورغم أن الحكومة الألمانية لم تصرف وقتاً طويلاً في بناء هذ المسجد، فإن ألسنة خطبائنا وأقلام كتابنا ستلهج بشكرها، والتغني بمجدها، طالما ظلت الأرض تدور.

ومن جهة أخرى، فإذا كان إخواننا الجزائريون يذكرون أن فرنسا استولت على جامع الباي صالح بقسنطينة، وعلى الجامع الكبير في عنابّة، واتخذت منهما ثكنتين لعسكرها، فإنهم سيفهمون الفارق بين حكومة تشيد لهم، في عقرها، مسجداً جميلاً، وبين أخرى همها القضاء على الإسلام وبيوت العبادة فيه. ولا ريب أن للمسلمين شريعة دينية وسياسة، وإن هذه المبادئ السياسية التي ألْزَمَهُمْ بها الإسلام، وإن أهملها بعض الخامدين في سالف العصور، فقد أدرك اليوم كنهها رجال أحاطوا بمقاصدها الجليلة. وهؤلاء الرجال مصممون اليوم على أحد أمرين: فإما أن يعيشوا على هَدْيِ تلك السياسة الإلهية، وفي كنف الاستقلال التام، وإما أن يفوزوا بالجنّة في ظلال السيوف! لقد تحققت الحكومة الألمانية من هذه الأمور، وهي شاهدة على أن الشعب الذي يسعى إلى المحافظة على استقلاله، أو إلى ما أخذ منه ظلماً محقٌّ في ذلك. ولم تكتف ألمانيا بعدم وضع العقبات في طريق رقي المسلمين، فمدّت يداً مخلصة إلى حكومة الخليفة لإخراجها من حالة الاستبداد. ولا نملك إلا أن نشكر رجال هذه الحكومة على مشاعر التعلق بالحرية التي يكنونها، وعلى وفائهم بالالتزامات التي أخذوها على أنفسهم. ندعوا الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يمد صاحب الجلالة الامبراطور العظيم (ويلهلم الثاني) بطول العمر، وبالنّصر على أعدائه! آمين ....

23 - هدى ونور

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (23) «هُدى وَنورٌ» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة كلّما ظننت أني وصلت إلى نهاية المطاف، وأحطت بالأعمال الكاملة للإمام محمّد الخضر حسين -رحمه الله تعالى- إلا وتقع تحت يدي مقالة من هنا، وبحث من هناك، في صحف ومجلات لم تكن متوفرة عندي آنذاك. وقد تجمع لديَّ عدد من المقالات الإسلامية والأدبية تضمنها هذا الكتاب "هدى ونور"، وكنت آمُل أن أضمَّ كل مقال إلى الكتاب الخاص بالبحوث المشابهة، ولكن وجدت أن لا أبدل وأغير في الطبعات السابقة للمؤلفات التي أصدرتها إلى الآن، حتى في حالة إعادة الطبع، وأن أحافظ على استقلال كل كتاب. هذه الأبحاث وجدتها في مجلات: "البدر" التونسية، و"نور الإسلام"، و"الهداية الإسلامية"، و"لواء الإسلام"، و"الفتح" المصرية ... وقد أشرت في الحاشية إلى مصادرها. وآمل أن أكون قد أديت الأمانة خالصة لله -سبحانه وتعالى-. والحمد لله رب العالمين على الدوام. علي الرّضا الحسيني

خواطر

خواطر (¬1) - إن أكبر عقلك، فأصبح يعلّمك ما لم تعلم، واتسع خيالك، فبات يلقي عليك من الصور البديعة ما يلذه ذوقك، فأنت ما بين أستاذ يمحض نصيحته، ونديم لا تمل صحبته. - يعلمك الأستاذ كيف تغوص في عميق البحار، ويريك نموذجاً من الدرّ يتميز بينه وبين الأحجار، وهمتك تخلد بك إلى الإِملاق، أو تجعلك المجلّي في حلبة السباق. - سمَّيت الاستخفاف بالشرع حرية، فقلت: برع في فن المجاز، وتهكم بمن أصبح عبداً للهوى، وسمّيت النفاق كياسة، فقلت: خان الفضيلة في اسمها، أو خانه النظر في فهمها. - تنظر النفس في سيرة الرجل العظيم كما تنظر العين في الزجاجة النقية، فتدرك مساويها، أفلا تصنع بمآثرك الحميدة مرآة يبصر بها الناشئ بعدك صورته الروحية فيصلحها؟ - سرتَ والنور أمامك، فانطلق ظلك على أثرك، ثم وليته قَفاك، فكان ¬

_ (¬1) نشُرت الخواطر على حلقتين في مجلة "البدر" الصادرة باسم: "العرب" الجزء الرابع من المجلد الثالث في شهر ربيع الثاني 1342 هـ والجزء السابع من المجلد الثالث الصادر في شهر رجب 1343 هـ - تونس.

الظل يسعى وأنت على أثره، وهكذا العقل، يتقبل الحقيقة، فيتبعه الخيال، فإذا أدبر عنها، انقلب الخيال إلى الإمام، وقاده في شُعب الباطل بغير لجام. - تبسط لسانك بالنكير على من يقلد في الدين، ولولا أنك تتلقى قول الفيلسوف على غير هدى، لقلت: هذه باكورة الاجتهاد قد أينعت. - هذه الدنيا كالعدسة الزجاجية في الآلة المصورة، تضع الرأس بموطئ القدم، وترفع القدم إلى مكان الرأس، فزنوا الرجل بمآثره، لا بما يبدو لكم من مظاهره. - يبسط الشجر ظله للمقيل، ويقف بعد موته بقناديل الكهرباء على سواء السبيل، أفأنت تجير من البؤس، وهو أحر من الرمضاء، وتوقد سراج حكمة يهدي بعد موتك إلى المحجة البيضاء؟. - يصنع الصائغ الحلي، وتضع ما تتجمل به النفوس في محافل العلى، فإن ظلت تتهافت على صانع الخواتم والسلاسل، فاعلم أنها ما برحت لاهية عن هذه المحافل. - حسبتَ العلم ضلالاً، فناديت إلى الجهل، وآخر يزعم التقوى بلهاً، فكان داعية الفجور. ولولا ما تلقيانه في سبيلنا من هذه الأرجاس، لكنا خير أمة أخرجت للناس. - ربما كان صاح الأسنّة أرقَّ عاطفة من الطبيب، والسفيهُ أحفظَ للحكم البالغة من الأديب، ولكني أطلب نفس الرجل حثيثاً، وأناجيها، فلا تكتمني حديثاً. - كان هذا الغصن رطيباً، وعيش البلبل به خصيباً، ولكنه سحب عليه ذيل الخيلاء، فأصبح يتقلب في ذلك البلاء، ويرتجف كما ترتجف اليد الشلّاء.

- كل جوهرة من عقد حياة محمد - عليه السلام - معجزة؛ فإن أساليب دعوته، ومظاهر حكمته لا يربطها بحال الأمية إلا قدرة تتصرف في الكائنات بحكمة أبلغَ مما تستدعيه طبائعها. - العفاف نور تستمده النفس من مطلع العقل، فإن ضرب عليها الهوى بخيمته السوداء، خسفت كما يخسف القمر إذا حجزت الأرض بينه وبين الشمس. - ينزوي البحر، فتضع السفينة صدرها على التراب، وينبسط، فتمر على الماء مرَّ السحاب، والعقل يظل في موقعه من النفس طريحاً، فإن فاضت عليه الحكمة، سار في سبيل النظر عَنَقاً فَسيحاً. - إن تخبطك السَّفَه، أهانوك، وإن قعد بك البَلَه، أعانوك؛ لأنك تستطيع أن تكون تقياً، وليس في يدك أن تكون أَلمعِيّاً. - تتجلى فضيلتك، فتنسج في هذه النفس عاطفة أرقَّ من النسيم، وتوقد في أخرى حسداً أحر من الجحيم، وكذلك المزن ينسكب على أرض، فتبتسم بثغر الأُقحوان، وينزل على أخرى، فتقطب بجبهة من حَسَك السَّعدان. - جنيتُ وردة لأخلصها من الشوك الذي يساورها من كل جانب، فما لبثتْ أن طَفِئت بهجتُها، وسكنت أنفاسها، فعلمت أن النفوس الزاكية لا تتخلص من النوائب إلا يوم تموت. - الشر نار كامنة في قلوب تحملها صدور المستبدين، فإن قدحتَها بنقد سياستهم، كنتَ لها قوتاً، إلا أن تكون بإخلاصك وحكمتك البالغة ياقوتاً. - إذا قلت في السياسة ما لا تفعل، أو همت في واد لا تعرِّج فيه على

حقيقة، فانفض ثوبك من غبارها، فإنه ليس من الغبار الذي يصيبك في سبيل الله. - إنما يقطف الفيلسوف من المنافع ما تتفتق عنه أكمام الحقيقة، ولا يعرِّج السياسي بنظره على الحقائق إلا إذا أطلَّت عليه المنفعةُ من ورائها. - لا تجادل المعاند قبل أن يأخذ الاستهزاءُ به في نفسك مكان الغضب عليه، فالغضب دخان يتجهم به وجه الحجة المستنيرة، وابتسام التهكم برقُه يخطف البصر قبل أن تقع صاعقة البرهان على البصيرة. - لا يمنعك من وضع المقال على محك النظر، أن تتلقاه ممن هو أصفى منك ذهناً، أو أرجح وزناً، فإن الورق لا يقبل ما يرتسم في الزجاجة من الصور إلا بعد إصلاح خطئها، وإعادته الألوان إلى مبدئها. - أرى موقع الليل من هذه البسيطة لا يفوت مقدار نهارها، فرجوت أن لا يكون الباطل أوسع مجالاً من الحقيقة، ولكن الشمس ترمز بكسوفها، إلى أن أخطأتُ في القياس، وبنيتُ رجائي على غير أساس. - العالم بستان، تجوَّل فيه الفيلسوف فقال: كيف نشأت هذه الأزهار والثمار؟ ولماذا اختلفت في النعوت والآثار؟ وطاف فيه السياسي فقال: متى يقطف هذا الثمر؟ وتؤتي تلك الشجرة أكلها؟ - سكبت ماء حاراً في زجاجة، فتأثر أحد شطريها بالحرارة، واستمر الآخر على طبيعة البرودة، فتصدع جدارها. وكذلك النفوس الناشئة على طبائع مختلفة لا يمكن التئامها. - كان لسان الدين بن الخطيب جنة أدب تجري تحتها أنهار المعارف، فآتت أُكلها ضعفين، ولكن تنفست عليه السياسة ببخار سام، فخنقته، وشبت

نار الحسد في القلوب القاسية، فأحرقته. - تلهج بأن الشيخ لا يسوس المصلحة بحزم، فإن بلي بُرد شبابك، ولم تُلق زمامها من تلقاء نفسك، فقد فَنَّدت رأيك، أو أضمرت العبث في السياسة. - في الناس من لا يلاقيك بثغر باسم، إلا أن تدخل عليه من باب البَلَه، أو تلطخ لسانك بحمأة التملق. فاحتفظ بألمعيتك وطهارة منطقك، فإنما يأسف على طلاقة وجهه قوم لا يعقلون. - بين جناحك قوة تجذب إلى جوارك العمل، وهي الإرادة، فاستعذ بالله أن تكون كالجاذبة الأرضية تستهوي الصخرةَ الصماء إلى النفس المطمئنة فتمحقها. - شددت وصلك إلى سوق العرفان؛ ليقتني ما يلذ ذوقك من درر حسان، فإذا اغبرت لؤلؤة إيمانك بوسواس المفتون، فقد خسرت تجارتك ولو أصبحت تتهكم على آراء أفلاطون، وكشف لك من الكيمياء والزراعة عن كنوز قارون. - لا ترسل فكرك وراء البحث عن حقيقة قبل أن ينفخ فيه روح الاستقلال، فإن التقليد موت، وما كان لجثث الموتى أن تغوص في بطون الأبحر العميقة. - لا عجب أن يتفجر بين أيديهم ينبوع الآداب صافياً، وتهوى أنفسهم أن تغترف غرفة من مستنقعها الأقصى؛ فإن من الأبصار المعتلة ما لا يقع نظره إلا على شبح بعيد. - النفس راحلة تحمل أثقالك إلى بلد السعادة، فإن لم تسر بها إثر

الشريعة القيمة، أولجتْ بك في مهامهَ مغبرة، وإن بلغت في الفلسفة ما بلغ شاعرُ المعرة. - سيروا في تهذيب الفتاة على صراط الله المستقيم؛ فإن منزلتها من الفتى منزلة عجز البيت من صدره، ولا يحسن في البيت أن يكون أحد شطريه محكماً، والآخر متخاذلاً. - لا يدرك أعشى البصيرة من الحدائق المتناسقة غير أشجار ذاتِ أفنان، وثمار ذاتِ ألوان، وإنما ينقب عن منابتها وأطوار نشأتها ذو فكرة متيقظة. - لا تداهنوا المولع بقتل حريتكم، فأبخس الناس قيمة من تصرعه الخمر، كالذي يتخبطه الشيطان من المس، ثم لا يلبث أن يُلبسها من تسبيح مدحه حللاً ضافية. - إن من الجهّال من يرمي به الزمن على مقام وجيه، فعلمه بسير تلك القيمة أن الجهالة لا ترجح على العلم وزناً، وإن وضع بازائها السلطة الغالبة، أو الثروة الطائلة. - بذرت أيام الشباب آمالاً لم تقطف ثمرها إلا حين أقبل المشيب، وهل يتمنى الحاصد للثمار أن يعود إلى أيام الحراثة والزراعة والانتظار؟! - يكفي الذي يسير في سبيل مصلحة الأمة، وهو يرقب من ورائها منفعة لنفسه، أن يكون في حل من وخزات أقلامها، وإنما يُحمد الذي يجاهد لسعادتها، وهو لا يرجو نعماء ينفرد بها في هذه الحياة. - لا تنقل حديث الذي يفضي به إليك عن ثقة بأمانتك، ويمكنك -متى كان يرمي إلى غاية سيئة- أن تجعل مساعيك عرضة في سبيله، فتحفظ للمروءة عهدها، وتقضي للمصلحة العامة حقها.

- لو فكرت في لسانك حين يتعرض لإطراء نفسك، لم تميزه عن ألسنة تقع في ذمها إلا بأنه يلصق بك نقيصة، لا يحتاج في إثباتها إلى بينة. - ألا ترى الماء الذي تقع في مجاريه الأقذار، كيف يتجهم منظره، ويخبث طعمه، فاطرد عن قلبك خواطر السوء، فإنه المنبع الذي يصدر عنه عملك المشهود. - قد يقف لك الأجنبي على طرف المساواة، حتى إذا حل وطنك متغلباً، طرحك في وهدة الاستعباد، واتخذ من عنقك الحر موطئاً. - لا يحق للرجل أن يكاثر بمن يتقلد رأيه على غير بينة، إلا إذا وازنه وقارنه بالصحف المطوية على آثارهم في نسخ متعددة. - إن هذا الزجاج يصنع كأساً ... ليصير الحليم فينا سفيها ويصوغ الدواة تلقاء هذا ... ليرى خامل الشعور نبيها مثل الفيلسوف ينفث غياً ... ثم يأتي لما يروق الفقيها - جَرَسٌ يصيح كحاجب ... طلق اللسان معربدِ حيناً ينوح كموجَع ... من لطمة المتعمِّدِ والآن رنّ كمِزهر ... جسَّته أنملُ معبَد زار الصديق فهزّه ... من بعد ضغطة جلمَدِ فحدا كما يحدوا لهزا ... رُ على الغصون الُميَّدِ والودُّ يسكن في الحشا ... لكن يُحس من اليد

الحكمة العربية

الحكمة العربية (¬1) الحكمة: معرفة الحقائق على ما هي عليه، وقد يراد بها الكلام النافع الذي يمنع من الجهل والسفه، وهي بهذا المعنى فن من فنون الكلام المنظوم أو المنثور، وذلك ما نريد الحديث عنه في هذا المقال. وهذا النوع من الحكمة ثمرة التجارب والتفكير على الوجه الصحيح، فنصيب الأمة من الحكمة على قدر نصيبها من جودة التفكير، والشعور بما تشترك فيه الحوادث من الأسباب والآثار. ومن الذي ينكر ما للأمة العربية من صفاء الذهن، وتوقد الذكاء؟ فلا بد أن يكون حظها من الحكمة عظيماً. نطق العرب في جاهليتهم بحكم تدل على تجارب صادقة، وألمعية مهذبة، وأسوق لك مثلاً على هذا قول النابغة الذيباني: ولستَ بمستبقٍ أخاً لا تلُمُّه ... على شَعَث أيُّ الرجال المهذّبُ؟ فهذه الحكمة لا تصدر إلا من ألمعيّ خالط طبقات الناس زمناً طويلاً، ونقدهم طبقة بعد طبقة، فاستخلص من طول صحبتهم أنه لا يوجد من بينهم ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - العدد السادس من المجلد الرابع الصادر في جمادى الثانية سنة 1352 هـ - القاهرة.

الصاحب الذي يصفو لصاحبه في كل حال. والإِنسان محتاج إلى الإِخوان احتياجَه إلى الماء والهواء، فليس له إلا أن يتمسك بصحبة من وثق بمودتهم، ويغضي عن هفواتهم التي لم يقع فيها لفساد ضمير، أو نكث عهد مودة. كان للعرب براعة في صوغ الحكمة، حتى طلع عليهم القرآن الكريم، وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فامتلأت أسماعهم بالحكمة البالغة. أما القرآن، فقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} [فصلت: 34]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وقوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]. وأما الأحاديث النبوية، فكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اليد العليا خير من اليد السفلى"، وقوله: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"، وقوله: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". أفاض القرآن والحديث النبوي أمثال هذه الحكم الرائعة، وفتحا للحكمة طرقاً كانت مقفلة، فالإِسلام ساعد الخطباء والشعراء والوعاظ على أن يسيروا في هذا الفن من الكلام بخطا واسعة، ويقطعوا فيه أشواطاً بعيدة، فأصبح الناس يسمعون من الحكم أبلغ مما كانوا يسمعون، ويجمعون منها أكثر ما كانوا يجمعون. وإذا هممتُ أن أسوق إليك أمثلة من حكم العرب في الإسلام، تكاثرت علي تكاثُرَ الظباء على زياد، فلم أدر ما آخذ منها وما أَذَر، فانظر إلى ما شئت من الدواوين التي تحوي خطب البلغاء، ورسائل الأدباء، وقصائد الشعراء، ومحاورات العلماء، ففيها ثمرات قرائحهم الخصيبة، ونظراتهم الصادقة.

ولأبي الطيب المتنبي في هذا الميدان جولات سبق بها أقرانه من الشعراء، وللصاحب بن عباد صحائفُ جمع فيها ما يحسن التمثل به من شعر المتنبي؛ كقوله: ومن ينفقِ الساعاتِ في جمع مالِه ... مخافةَ فقر فالذي فعل الفقرُ وقدمها هدية لمخدومه فخر الدولة، الذي كان يتمثل كثيراً بأبيات من نظم هذا الشاعر الحكيم. وأورد ابن أبي حجة في "شرح بديعته" ما ملأ به صحائف كثيرة من حكم أبي الطيب المتنبي، وربما أورد بعد البيت أو قبله ما يدل على إعجابه به، كما تعرض لقصيدته التي يقول فيها: وما الخيل إلا كالصديق قليلةٌ ... وإن كثرت في عين من لا يجرِّب وقال منها وأجاد إلى الغاية: وأظلمُ أهل الظلم من بات حاسداً ... لمن بات في نعمائه يتقلب وكما أشار إلى قصيدته: "واحرّ قلباه ممن قلبه شَبِم"، وقال: ومنها، وليس لمثله مثيل: إذا ترحلتَ عن قوم وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالراحلون هُم وفي لامية الطغرائي أبيات كثيرة تشتمل على حكم غزيرة، فجرت على ألسنة الأدباء والكتاب مجرى الأمثال السائرة؛ كقوله: وعادةُ السيف أن يزهى بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل الحِكَم لذيذة، وأحسنها وقعاً ما صدر على البداهة؛ فإنه أدل على عبقرية الرجل، وكثرة انتفاعه بتجاربه.

لام عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز أباه على إرجائه تنفيذ بعض ما يراه حقاً، فقال عمر بن عبد العزيز: "أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدفعوه جملة". وامتدح شاعر الإمام محمد بن مسلم الزهري، فأعطاه جائزة، فقيل له: أتجيز كلام الشياطين؟ فقال: "من ابتغاء الخير اتقاء الشر". وأشد ما يغبط الشاعر شاعراً آخر، في البيت العامر بالحكمة. أنشد محمد بن كناسة إسحاق بن إبراهيم البيتين: فيّ انقباضٌ وحشمة فإذا ... صادفت أهل الوفاء والكرم أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم فقال إسحاق: وددت -والله- لو أن هذين البيتين لي بنصف ما أملك، فقال ابن كناسة: قد وفر الله عليك مالك، والله! ما سمعهما أحد، ولا قلتهما إلا الساعة، فقال إسحاق: فكيف لي بعلم نفسي أنهما ليسا لي؟ وإسحاق إنما غبط ابن كناسة في البيتين؛ لما اشتملا عليه من الحكمة، وهي وضع كل من الحشمة والاسترسال على السجية في مقامه اللائق به. والخلاصة: أن في آداب اللغة العربية حكماً غزيرة في ألفاظ عذبة وجيزة، فنودُّ من القائمين على تعليم النشء وتربيتهم تلقينها لهم بطريقة واسعة، حتى لا يحتاجوا إلى الاستشهاد بأقوال الغربيين، وفي كلام حكمائنا وبلغائنا ما يغني عنه.

التعاون في الإسلام

التعاون في الإسلام (¬1) الإسلام في مقدمة الشرائع المتضافرة على حفظ حقائق، هي: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والنسل، والمال. فمِنْ قَصْدِهِ إلى المحافظة على الدين: فرْضُه القيام بالدعوة إليه، والدفاع عن حوزته. ومِن قصده إلى المحافظة على النفس؛ شرْعُه القصاص، وفرضه حضانة الأطفال ورعايتهم. ومِن قصده إلى المحافظة على العرض: تقريره لعقوبة القذف بالزنا، وأمره بتأديب من يتطاول على غيره بلمز أو هجاء. ومِن قصده إلى المحافظة على العقل: شرعه لعقوبة من يتناول المسكرات، أو يسعى في إزالة عقل شخص بالضرب ونحوه. ومن قصده إلى المحافظة على النسل: حثُّه على النكاح، وسنُّه لعقوبة من يعتدي على شخص، فيبطل منه قوة التناسل. ومن قصده إلى المحافظة على المال: شرعُه لعقوبة السارق وقاطع الطريق. ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - العدد الرابع من المجلد الرابع الصادر في شهر ربيع الثاني 1352 هـ - القاهرة.

وقد يقع بعض هذه الحقائق في ضياع، أو يكون مشرفاً على الضياع، ويتعذر على الشخص الواحد العمل لسلامتها، فكان من مقتضى ثقل أعبائها أو كرة شُعَبها أن يمد إليه أشخاص آخرون أيديهم ليتعاون الجميع على حفظ دين، أو نفس، أو عرض، أو عقل، أو نسل، أو مال. ومن المعلوم الماثل أمام كل من تفقَّه في الدين: أن الإسلام قد راعى عجز الأفراد عن القيام بكثير من المصالح الخاصة أو العامة، فأمر بالتعاون على وجه عام، ثم أقام كثيراً من أحكامه وآدابه على القاعدة التي ينتظم بها العمران، وتخف بها متاعب الحياة. أما الأمر بالتعاون على وجه عام، فمن شواهده قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. يتناول التعاون على البر والتقوى: المؤازرة في كل عمل ينتج عنه الخير، سواء كان القائم به فرداً، أم جماعة، وسواء كان الخير عائداً إلى فرد، أم إلى جماعة، أم إلى أمة، ولا فرق في أصل طلب التعاون بين أن يكون الخير من مصالح الحياة الدنيا التي أذنت الشريعة بإقامتها، وأن يكون من وسائل السعادة في الأخرى. فمن التعاون على البر والتقوى: أن يقوم الرجل للصلاة، فتناوله وضوءاً، أو تهيئ له مصلَّى. ومن التعاون على البر والتقوى: أن ينهض القوم لإعلاء كلمتهم بنحو بناء المدارس، أو المستشفيات، أو الملاجع، أو إقامة مصانع تسد جانباً من حاجاتهم المدنية، فتبذل في إسعادهم ما تستطيع من قوة. ويدخل في الإِثم والعدوان: كل عمل يعطل شريعة من شرائع الدين،

أو يعود على النفس أو العرض أو العقل أو النسل أو المال بالفساد. فمن التعاون على الإِثم والعدوان: أن تقضي للخصم بقطعة من مال خصمه، وأنت تعلم أنه يدعيها زوراً وبهتاناً. ومن التعاون على الإِثم والعدوان: أن تشهد حفلات ترتكب فيها محرمات، كتعاطي المسكرات، أو رقص الفتيان مع الفتيات. ومن التعاون على الإِثم والعدوان: أن تشتري ورقة من تلك الأوراق التي يصدرها جماعات، ويسمونها: "اليانصيب"؛ فإنها من الميسر الذي وصفه الله تعالى بأنه رجس من عمل الشيطان. ومن التعاون على الإِثم والعدوان: أن تكون كاتب البطاقة التي يأمر فيها الظالم بالاعتداء على نفس أو عرض أو مال. ومما ورد في التعاون: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، فإن قصد أحد إلى مَن بينَك وبينه إخاءة ليعتدي عليه في نفسه أو ماله أو عرضه، وجب عليك الانتصار للمعتدى عليه، ودفعُ المعتدي بما يكفي للخلاص من شره، وذلك معنى الانتصار له وهو مظلوم، أما الانتصار له وهو ظالم، فقد بيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفس الحديث بمعنى: الأخذ على يده، ومنعه من الظلم، وفي كفِّه عن الظلم الذي يذيقه عذابَ الهون في الآخرة، ويُلبسه ثوب الخزي في الأولى، انتصارٌ له أيُّ انتصار. ومن الوجوه التي تدل على قصد الشريعة إلى التعاون: تحريم السؤال على مستطيع الكسب، وفي هذا التحريم باعث له على القيام بجانب من حاجات الأمة، وفي إخلاد القادر على الكسب إلى السؤال بليتان اجتماعيتان: أولاهما: فوات الانتفاع بشخص يمكنه أن يكون كقطرة صالحة في دم

حياة الأمة، فتزداد به قوة على قوتها. ثانيهما: بقاؤه في جسم الأمة كعضو يشرب من دمها، ويأكل من لحمها، بل كعضو يسري منه مرض البطالة إلى أشخاص لا تعرف نفوسهم العزَّة، فيكثر سواد هؤلاء الثقلاء في البلاد، قال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده! لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره، خيز له من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله، فيسأله أعطاه أو منعه" (¬1). فحرام على من يستطيع كسب الرزق أن ينكث يده من العمل، ويجلس متشوفاً لما سمحت أو تسمح به نفوس المحسنين لمن قعد به العجز عن طريق الاكتساب. فلو بدا لأولي الأمر أن يهيئوا للعاجزين عن الكسب ملاجئ، ويأخذوا على أيدي المتسولين؛ حتى يضطر صحيح البنية إلى مباشرة بعض الأعمال الحيوية، لوجدوا في الإِسلام ما يحثهم على أن يبنوا الملاجئ، ويمنعوا المتكففين من التجول في الطرق والأسواق. وقد بث الإسلام روح التعاون في النفوس لأول ظهوره، ترى هذا في حياة المسلمين بالمدينة عقب الهجرة، فقد ورد في الصحيح: أن المهاجرين قدموا من مكة وليس بأيديهم شيء، فعرض الأنصار على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم النخيل بينهم وبين المهاجرين، فقال: لا، فعرضوا عليه بعدُ أن يكفيهم المهاجرون مؤونة العمل، ويشركوهم في الثمرة، فأجاب لذلك، فقاسمهم الأنصار على ذلك، وكان الأنصار يؤثرون المهاجرين بما عندهم، وإن كانوا في حاجة إليه، وهو الإيثار الذي مدحهم الله تعالى به في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ ¬

_ (¬1) كتاب "الموطأ".

عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. ومِن قصد الشارع إلى التعاون على وجه عام: أنه نظر إلى الأعمال المنطوية على مصالح، فكان منها ما تحصل مصلحته لكل شخص يقوم به، وتوجد هذه المصلحة كلما قام به قائم وهو مستوفي الشروط والأسباب والأركان، فجعل الخطاب فيه موجَّهاً إلى كل من بلغ سن التكليف؛ كالصلاة والصيام والحج والزكاة، وهذا ما يسميه الفقهاء: بالواجب على الأعيان، ومنها ما تحصل مصلحته بفعل شخص أو أشخاص، ولو قام غيرهم من بعدهم ليفعله، وجد المصلحة قد تحققت، فجعل الخطاب فيه موجَّهاً إلى الأمة على أن تقوم به طائفة منها؛ كتجهيز الموتى، وإنشاء ما يكفي حاجة البلاد من المدارس، وهذا ما يسمَّى في عرف الفقهاء: بفرض الكفاية. والحقيقة: أن الطلب في فرض الكفاية يتوجه إلى من فيهم الكفاية للقيام بالعمل المطلوب، وإذا قام به بعضهم، سقط عن سائرهم، فولاية القضاء -مثلاً- يُتوجه فيها إلى من درسوا أحكام الشريعة، وكان لهم مقدرة على تطبيق الأصول على الوقائع. وإِنقاذُ الغرقى يتوجه الطلب فيها إلى من يستطيعون الإِغاثة. ونصرة المظلوم يتوجه الطلب فيها إلى من كان قادراً على أن ينصره بإنفراده، أو بالانضمام إلى غيره. وإِنما جُعل الخطاب في فرض الكفاية موجهاً إلى الأمة؛ لأنه يجب على من لم يكن فيهم أهلية للعمل المطلوب أن يهيئوا وسائله لمن فيهم أهلية، أو يجبروهم على القيام به إذا أهملوا أو تباطؤوا. فدفعُ الشُّبه وتقويم الزيغ واجب على العارفين بأصول الدين، فإذا دخلت الضلالة في قرية لا يوجد فيها من فيهم الكفاية لتقويم الزائغين، وجب على من فيهم

الكفاية ببلد آخر أن ينتقلوا لإِرشاد أولئك الضالين، وإِن احتاجوا إلى نفقة أو وسيلة غيرها، وجب على القادرين على مساعدتهم بالمال، أو بتهيئة ما احتاجوا إليه من وسائل أن يعينوهم على أداء واجب الإِرشاد، فيسقط الوجوب عن الجميع. وقيادة الجيوش تجب على من جمع إلى الشجاعة العلم بالفنون الحربية، فإذا امتنع من تحققت فيه شروط القيادة من الخروج إلى مواقع القتال، لا يتركون وشأنهم بعلَّة أن الأمر بقيادة الجيش موجه إليهم وحدهم، بل على أولي الشأن إجبارهم على تولي قيادة الجيش، فإن لم يجبروهم، كانوا في العقوبة سواء، بل لولي الأمر أن يعمد إلى من فيهم الكفاية لأمر من الأمور، ويعين من بينهم شخصاً أو أشخاصاً للقيام به، فيصير بهذا التعيين فرض عين لا يسوغ لهم التأخر عنه. ومن المطلوب على الكفاية ما هو ديني محض؛ كالصلاة على الميت، ومنه ما يرجع إلى مطالب مدنية؛ كتعاطي بعض الحرف أو الصنائع المحتاج إليها في انتظام حال الجماعة. والنوع الأول يبعث على القيام به القصد إلى امتثال أمر الله تعالى، وأما النوع الثاني، فقد يبعث عليه داعية فطرية، ذلك لأن همم الناس تختلف في توجهها إلى ما تستدعيه الحياة من الحرف والصنائع، فيوجد في أغلب البلاد الحداد والنجار والبناء والصائغ والخائط والحمال والكنَّاس، إلى غير هذا من الحرف والصنائع الضرورية، ومن المحتمل أن لا تطَّرد هذه السنَّة في بلد أو في عصر، فيزهد الناس في حرفة، أو في صناعة، فلم يدع الشارع هذه الضروريات أو الحاجيات إلى الدواعي الفطرية وحدها، بل جعل القيام بكل حرفة أو صناعة يُحتاج إليها في الحياة فرضَ كفاية، حتى يستقيم أمر الحياة، فإن لم تختلف همم الناس اختلافاً يفي بما تحتاج إليه

البلاد من الحرف والصنائع، وجب على أولي الشأن العملُ لسد حاجات الأمة، وإقامة الحرفة أو الصنعة المفقودة، ولو ببعث طائفة إلى خارج البلاد ليتعلموها، ويحسنوا القيام عليها. وقد دلنا التاريخ الصحيح لعهد النبوة: أن الناس كانوا يتعاونون على مرافق الحياة، ووسائل السعادة، فقد روى الإِمام البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه قال: "إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفْق (¬1) بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يَلْزم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون". فدل الحديث على أن طائفة من المهاجرين كانوا يشتغلون بالتجارة، وطائفة من الأنصار كانوا يشتغلون بالفلاحة والزراعة، وأن أبا هريرة كان منقطعاً لطلب العلم، وعرفنا من طريق غير هذه الرواية: أن في الأمة لذلك العهد طائفة كانت تتعاطى بعض الصنائع؛ كالتجارة، والحدادة. ولم يكن أهل الصُّفّة (¬2) إلا بمنزلة الجند المهيأ للدفاع، زيادة على ما كانوا يتلقونه من علم، فلهم من هذه الناحية قسط عظيم من التعاون المطلوب في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. يجري على شاكلة الحرف والصنائع: العلومُ والفنون، فقد قرر علماء الشريعة أن كل علم أو فن يحتاج إليه في الحياة يجب أن تقوم به طائفة الأمة، فمن التعاون على تنمية العلوم وتحقيقها: إقبالُ كل طائفة على علم يقتلونه بحثاً، ويحيطون به من كل جانب، وإنما اتسعت دوائر العلوم بمثل ¬

_ (¬1) البيع والشراء. (¬2) موضع مظلل في مسجد المدينة يأوي إليه المساكين.

هذا العمل المسمَّى بالتخصص. وقد أدرك علماء الإِسلام في القديم فائدة انفراد كل طائفة بعلم تُفْرِغ فيه جهودها، وتَصرِف فيه جانباً كبيراً من أوقاتها، فاختلفت وجهاتهم على قدر ما كان بين أيديهم من العلوم، وظهر النبوغ في هذه العلوم على اختلاف موضوعاتها، وتباعد أغراضها. وقد يكون اختلاف الناس في إِتقان هذه العلوم من دواعي الفطرة، بأن يقبل كل إِنسان على العلم الذي يجد في نفسه الميل إلى تعاطيه، فإن وجد الرئيس همم الناس منصرفة عن بعض العلوم، اتخذ وسيلة إلى حمل طائفة منهم على مزاولته. وأما أن الشمريعة بَنَت كثيراً من أحكامها وآدابها على قاعدة التعاون، فشواهده كثيرة، تجد هذه الشواهد في التعاون على حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والنسل. من شواهد التعاون على حفظ الدين: أن الشريعة نظرت إلى ما ينبني على التفقه في الدين من إنارة الجاهلين، وإنذار المسرفين، وتنظيم الحياة على وجه أدعى إلى الارتياح والاطمئنان، فلم تتركه لهمم الأفراد التي قد يطرأ عليها ضعف أو انصراف عن التعلم، بل فرضت على كل فرقة من المسلمين أن يرحل منها طائفة إلى المواضع التي يمكنهم أن يتفقهوا بها في الدين، ثم يعودوا إلى قومهم، فتبقى عقائد الدين وواجباته وآدابه محفوظة بينهم. قررت رحلة طائفة للتفقه في الدين، وفيه معنى التعاون على حفظه، وورد في الشريعة الأمر بالتعاون على حفظ الدين من وجه آخر، وهو أن رجال القبيلة أو القرية قد يغفلون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتضيع

أحكام الدين وآدابه، ففرضت على الأمة أن يقوم طائفة منها بالدعوة إلى الحق والإصلاح، والتحذير من الباطل والفساد، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. وقد تختلف وجوه التعاون على حفظ الدين اختلافَ الأحوال والأزمان. ومما حدث في هذا العصر: أن بعض المخالفين يعملون لزلزلة أركانه، وطمس معالمه بوسيلة ما يفتحونه من مدارس ومستشفيات وملاجئ، يزعمون أنهم يخدمون بها العلم والإِنسانية، فهنالك يجدون الأطفال والمستضعفين من الرجال والنساء واقعين في حبائلهم، لا شاهد عليهم ولا رقيب، فيحدثونهم عن الإِسلام بألسنة تفتري عليه الكذب، ويلقنونهم آراء تجعلهم أشد الناس عداوة لدينهم، وازدراء لآبائهم. فمن التعاون على الدين في هذا العصر: أن ينهض المسلمون نهضة صادقة، فيبسطوا أيديهم بالبذل في سبيل إنشاء مدارس ومستشفيات وملاجئ تغني عن تلك المباني المفتوحة لإِغواء الغافلين. ومن التعاون على حفظ الدين: أن ينشط العلماء للإرشاد، فيطلقوا ألسنتهم وأقلامهم في نصح من في قلوبهم بقية من خير، بأن لا يرسلوا أبناءهم إلى تلك المدارس التي لو غفل عنها الناس اليوم غفلتهم عنها بالأمس، لطوي بساط الدين طيّ السجل للكتاب. ومن شواهد التعاون على حفظ النفوس: أن الشريعة قد نظرت إلى ما يحدث بين الطوائف من التنازع فالتقاتل، فأشفقت من أن تذهب نفوس بريئة، وتراق دماء كثيرة، فأمرت الباقين من المسلمين بالسعي للصلح بين الطائفتين المتقاتلتين.

ومن هذا القبيل فرض إغاثة العطشان والجائع، حتى قال الفقهاء: من لقي عطشاناً ومعه ماء، أو لقي جائعاً ومعه طعام، فمنع العطشان الماء، أو الجائع الطعام، وهو يعلم أنه لا يجوز منعه، وأنه يموت إن لم يسعده بما عنده، حقت عليه عقوبة القصاص. دعت الشريعة إلى التعاون على حفظ النفوس، وجعلت له من الزكاة النصيب الأوفى، فكان من مصارفها الفقراء والمساكين؛ ليسدوا بها حاجاتهم، ويصونوا بها ماء وجوههم، ثم ندبت إلى وجوه أخرى من وجوه البر؛ كالصدقة، والهبة، فالقصد من الصدقة أو الهبة: مواساة من يُتصدق عليه، أو يوهب له، وإعانته على حفظ نفسه، أو نفس من يعوله -غالباً-. وفي الناس من لا تسمح نفسه برفع يده عن الشيء المنتفع به جملة، فجعل له الشارع طريقاً إلى أن يعين غيره بمنفعة الشيء مع بقاء ذاته تحت ملكه، كالعارية، والعُمْرى (¬1). ومن الوجوه الراجحة في تفسير قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]: أن المراد: ما يتعاوره الناس من متاع البيت؛ كالقدر والجفنة والسكين، وإذا طلب منك إعارة أمثال هذه الأدوات في حال ضرورة، كان منعها حراماً، فإن طلب منك إعارتها في حال لا تبلغ الضرورة، كان منعها خادشاً في المروءة، دليلاً على أنك تطوي نفسك على شيء من البخل بما آتاك الله من خير. ومن شواهد التعاون على حفظ العرض: أن الشريعة قد وضعت على القذف بالزنا عقوبة محدودة، وعلى من يتناول غيره بسباب أو هجاء التعزيرَ ¬

_ (¬1) أن تعطي شخصاً منفعة شيء مدةَ حياته أو حياتك، أو إلى أجل مسمى.

بما يكفي لردعه، وعهدت بإجراء ذلك الجزاء إلى الرئيس الأعلى، أو من يقوم مقامه، وفي إجراء ذلك الجزاء تعاون على حفظ الأعراض. والقاضي الذي لا يحقق النظر في قضايا السباب والهجاء، ولا يقرر لها جزاء وفاقاً، يعدّ فيمن لا يقدر حق صيانته الأعراض، ويلحق بمن يجهل أن العرض أعزّ على الرجل من ماله ونفسه. ومن مقتضى التعاون على حفظ الأعراض: أن لا تترك مجلسك ميداناً يتسابق فيه الطغام إلى ثلب الأعراض، فإذا حرّك أحد لسانه بالقدح في عرض بريء أو بريئة، ألجمته بالحكمة. وكذلك يفعل الصالحون والمصلحون، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يخذل امراً مسلماً في موضع ينتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته، وما من امرئ مسلم ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من ذبّ عن عرض أخيه، رد الله النار عن وجهه يوم القيامة" (¬2). ومن شواهد التعاون على حفظ العقل: أن الشريعة وضعت عقوبة على من يتناول شيئاً من المسكرات، أو يؤذي شخصاً فيزيل عقله، وعقوبةُ الأول معروفة، وعقوبةُ الثاني الديةُ كاملة، وهذه العقوبات يجريها القائمون على المصالح العامة، وإجراؤها من قبيل التعاون على حفظ العقول. ومن مقتضى التعاون: أن تحول بين الإنسان وما يذهب بقوته العاقلة، أو يضعفها ما استطعت أن تحول، فإن كان لك سلطان، منعته بيدك الغالبة، ¬

_ (¬1) أبو داود. (¬2) الترمذي.

وإن كنت مرشداً، منعته بموعظتك الحسنة. ونصحُ الطبيب في معالجة من تصاب عقولهم بشيء من الخلل داخل في قبيل هذا التعاون المطلوب. ومن شواهد التعاون على حفظ النسل: أن الشريعة رغَّبت في النكاح، وجعلت من شروط صحته الإشهاد، فمن حضر ليشهد به، فقد أخذ بأدب التعاون على حفظ النسل، ومن الآخذين بهذا الأدب المحمود: الخاطبُ، ومن يشفع لدى الزوجة أو وليها في تخفيف نفقات العرس، أو الرضا بالميسور من المهر. ومتى ظهر في الناس قلة الإِقبال على الزواج، وجب على حكماء الأمة والقائمين على مصالحها أن يتعاونوا في البحث عن علل قلة الزواج، ويتخذوا الوسائل إلى علاج هذه العلل حتى تعود الأمة إلى الفطرة السليمة، وتسير في طهر، وينمو عددها نماء يكفل حياتها، ويكسبها قوة على القيام بنفسها. ومن شواهد التعاون على حفظ المال؛ بحمايته من التلف، أو العمل على نمائه: أن الشارع قرر الإِيصاء، وهو أن يعهد الأب لمن يعرف فيه الأمانة وجودة الرأي بالنظر في شؤون ابنه من بعده، ومن مقتضيات الإِيصاء: حفظ مال الطفل، والتصرف فيه على ما تقتضيه المصلحة، فقيام الوصي على أمر الطفل بحزم ونصح معونةٌ على حفظ ماله وإصلاح حاله. ومن هذا الباب: تقرير الشارع لباب القِراض، وهو إعطاء مال لمن يَتَّجر به على أن له جزءاً من ربحه، فصاحب المال يعين العامل على كسب جزء من المال كانت يده فارغة منه، والعامل يعين صاحب المال على تنمية ماله، ولولا إعانة هذا العامل، لبقي المال عند حَدّ، وقد يُنقصه الإِنفاق حتى يذهب به جملة.

ومن هذا القبيل: فتح الشارع لباب عقد الشركات في الأموال، وهي خلط شخص ماله بمال آخر على أن يتصرف كل منهما في المالين في حضرة شريكه وغيبته، أو في حال حضرته فقط. وفي هذا النوع من التعاون فائدة عظمى لا توجد عند عمل كل واحد في ماله منفرداً، فإنّ ضَمَّ القليل إلى القليل يُصيره كثيراً، وهذه الكثرة تجعل الشركاء قادرين على جلب بضائع مرتفعة القيم، أو مختلفة الأجناس والأصناف، ولولا الشركة، لضاق باعُ كل منهم أن يصل إلى تلك البضائع ذات القيم المرتفعة، أو ذات الأجناس والأصناف المختلفة، فتقل الأرباح، ولا يجد أهل البلد على تفاوت طبقاتهم كلَّ ما يقوم بحاجاتهم، ويوافق رغباتهم، ونجاحُ الشركات قائم على تحقق الأمانة، والسير على نُظم علم الاقتصاد الصحيح، فمن الملائم لروح التعاون في الإسلام: تأليف شركات تحتفظ بعهد الأمانة، وتسير على نظم يراعى فيها قواعد الاقتصاد المعقولة، وتسعها أصول الشريعة الغراء. والتعاون بالنظر إلى ما تقع به المعونة إما أن يكون تعاوناً بالنفس؛ كأن تدفع بيدك أو سلاحك صائلاً على نفس أو مال، وإما أن يكون تعاوناً بالمال؛ كالقرض والهبة والصدقة، وضرب الدية في قتل الخطأ على العاقلة، وإما أن يكون تعاوناً بالرأي؛ كأن تشير على الرجل بما يخرجه من حيرة، أو ينقذه من عطب، وإما أن يكون تعاوناً بالجاه؛ كأن تشفع لذي حاجة عند من يملك قضاءها، قال - صلى الله عليه وسلم -: "اشفعوا تؤجَروا" (¬1)، وقال - عليه السلام -: "واللهُ ¬

_ (¬1) النسائي.

في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (¬1). وتتفاوت همم الناس في مصارف الجاه، وأصغرهم همة من يستخدمه في منافعه الخاصة، ولا يوجهه إلى قضاء المصالح العامة. وقد دلنا التاريخ على كثير من زعماء الإسلام وعلمائه يدوسون منافعهم الخاصة بأقدامهم، وإذا وجدوا موضعاً لنفوذ الكلمة، لم يذكروا إلا مصلحة عامة، أو مصالح أشخاص يبتغون من السعي لها رضا الله في الدنيا والآخرة. وخلاصة المقال: أن الإسلام أقام التعاون على أساس محكم، ومدّ له في كل ناحية من نواحي الحياة بسبب، فإذا وضع المسلمون أيديهم على هذه الأسباب الوثيقة، بلغت بهم المكانة المحفوفة بالعزة، المشار إليها بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. ¬

_ (¬1) مسلم.

الرحلة والتعارف في الإسلام

الرحلة والتعارف في الإسلام (¬1) كان لعلماء الإسلام شغَف بالاطلاع على أحوال الأمم، وحرص على معرفة ما تجدد في العالم من شؤون عمرانية وآراء علمية، ومن أثر هذه الخصلة الفائقة: شدة عنايتهم بالرحلة، ورغبتهم في لقاء أهل الدراية، فكانت الممالك الإسلامية -على سعة مجالها، وبُعْدِ ما بين أطرافها- تتقاذف برجال العلم والأدب، بالرغم عمّا كان في الأسفار من تحمل المشاق، واقتحام الأخطار. ومن هؤلاء الذين تقلّبوا في البلاد مَن حملوا إلى أوطانهم علماً جماً؛ كأبي الوليد الباجي، وأبي بكر بن العربي، ومنهم من صرفوا عنايتهم إلى وصف ما شهدوه من نظام الدول، وشؤون الأمم، وآثار الحضارة؛ كابن بطوطة، وابن جبير، وخالد البلوي، وبعضهم استقرت به الرحلة في غير وطنه؛ كأبي العلاء صاعد البغدادي، وأبي علي القالي، وَفَدا على الأندلس، وضربا أطناب الإقامة، فانتظما في سلك أدبائها، وازدادت بهما سمعة نهضتها الأدبية نغماتٍ رائقة. ومما كان يفتح للعلماء طريق الرحلة، ويجعلها أمراً ميسوراً: متانة ¬

_ (¬1) مجلة "البدر" - الجزء الثالث من المجلد الثاني الصادر في منتصف ربيع الأول 1340 هـ - تونس.

الصلة الدينية، فيغادر العالم مسقط رأسه، وهو على ثقة بأنه إنما ينزل بقوم يماثلهم في مزاجهم الروحي، ويشاركهم في إحساسهم السياسي والأدبي، فلا يلبث أن يدخل في قبيلهم، ويعدّ عضواً في مجتمعهم. أخذت السياسة التونسية تنظر إلى الفيلسوف ابن خلدون بعين جافية، فرمى بنفسه في أحضان مصر، ولقي فيها حفاوة ارتفع بها إلى مستوى العظماء من رجالها النابتين في معاهدها العلمية، وخشي أبو المكارم هبة الله بن الحسين المصري أن تمسه السلطة المصرية بأذى، فتخلص منها إلى البلاد المغربية، وكان من عاقبة أمره أن تقلد القضاء بمدينة تونس، إلى أن توفي بها سنة 586 هـ، ولم يطمئن المقام بالقاضي عبد الوهاب بن نصر في بغداد، فقدم إلى الديار المصرية، وأدرك فيها من الحظوة ما يستحقه الذي يقول فيه المعرّي: والمالكيّ ابن نصر زار في سفرٍ ... بلادنَا فحمدْنا النأيَ والسَّفَرا إذا تفقّه أحيا مالكاً جَدَلاً ... وينثر الملِكَ الضِّلِّيلَ إن شعرا ودخل أبو عبد الله المقري المغربي دمشق الشام، فأقبل عليه أهلها باحتفاء، ومنحوه رقة وأنساً، حتى أنشد مشيراً إلى انقسام فؤاده بين دمشق ووطنه: إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف يلتقيانِ؟ تشهد هذه القصص التي ملئت صحف التاريخ بأمثالها: أن العلماء ما كانوا ليستصعبوا فراق أوطانهم، حتى تقعد بهم شدة إلفها عن الرحيل إلى حيث تكون سوق المعارف قائمة، وبضاعة الأدب نافقة، أو تشد وثاقهم ليقيموا على هون وغضاضة؛ لأن هممهم إنما كانت تتجه إلى الحياة الاجتماعية

الأدبية، فيسهل على العالِم -ولاسيما أن بلاد الشام وطن واحد- أن يتحول إلى حيث يكون نظام الاجتماع راقياً، ومجال العمل فسيحاً. يرحل العلماء؛ لما أومأنا إليه من إحراز علم نافع، أو اغتنام حياة شريفة، ولم تكن رحلاتهم لتخلو بعد هذا من فائدة التعارف، وتوثيق عرا الجامعة التي لا تقوم السعادة إلا على أركانها؛ فإن الأمراء الراشدين، والعلماء المستقيمين، لا يحل بدارهم عالم نبيه، أو يؤوب إليهم من سفره، إلا التقطوا من محاورته أنباء البلاد التي نزح عنها، أو عرج بها؛ ليقتدوا بآثارها، أو يسعوا جهدهم إلى تلافي الخطر الذي نزل بساحتهم. وربما قام بعض العلماء بسفر، لا ينوي به سوى خدمة الجامعة ولمِّ شعثها، كما طاف أبو الوليد الباجي بين أمراء الأندلس، يدعوهم إلى نبذ الشقاق، والعود إلى الاتحاد والتناصر. وسافر أبو عبد الله بن الأبّار القضاعي من الأندلس إلى سلطان تونس أبي زكريا؛ ليهز عاطفته إلى نجدة الأمير زّيان بن أبي الحملات، ومعاضدته على إنقاذ "بلنسية"، وأنشد بين يديه قصيدته التي يقول في طالعها: أدركْ بخيلِك خيلَ الله أَندلُسا ... إن السبيل إلى منجاتها دُرِسا ثم خمدت داعية الشوق إلى البحث عن أحوال الشعوب، وعقد روابط التعارف بين الجماعات والأفراد، ولا أكون مغالياً إذا قلت: إن التخاذل إنما دخل على الحالة الاجتماعية من ناحية التهاون بهذه الغاية، وإقبال الطوائف على مآربهم القاصرة عليهم، وشؤونهم الخاصة بهم، ولا يسع المقال الخوض في العلل التي أماتت داعية التعارف، وأقامت التجافي مقامه، ويكفي أن أقول بإيجاز: إن بعض من ألصقوا نفوسهم بالصوفية غلوا في الإخلاد

إلى العزلة، وأطلقوا القول في التشويق إليها، وسرت هذه الدعوة على علاتها، فاستولت على النفوس الضعيفة، وحسب كثير منهم أن الاعتزال عن الناس قاطبة من شعار الصلاح ومطالب التقوى، وربَّ حالةٍ تنشأ عن رأي خاص، وتتحكم إلى أن تصير طبيعة من الطبائع الغالبة في الجمهور، ويظهر أثرها حتى على منكري ذلك الرأي ومفنديه، فمن الممكن أن ينشأ الرجل في بيئة تهافت الناس فيها على إيثار العزلة، فتعتاد نفسه الانقباض عن لقاء الناس، وإن لم يستصوب مذهبَ الداعين إلى العزلة والانفراد. حثَّ الإسلام على التعارف، وشرَّع في وسائله آداباً كثيرة؛ كحج البيت الحرام، والصلاة في الجماعة، وسنّة إلقاء السلام، وفضيلة التزاور، والحكمة في مثل هذا: طبع النفوس على خلق الميل إلى أن تتعارف، وتدخل في مسالك الحياة الاجتماعية، حتى تكون الرابطة محكمة، والمصالح قائمة. لسياحة النبهاء في بلاد الإسلام فائدة لا تقل عن فائدة السياحة في البلاد الأجنبية، فإن كانوا يرحلون اليوم إلى البلاد الغربية للاطلاع على آثار قوتها، ومظاهر مدنيتها، فالتجول في البلاد الشرقية يجعلهم على بصيرة من كنه حالتها، ويقف بهم على العلل التي أوهت رابطتها، وكادت تلقي بها في شقاء وبلاء، لا تجد عنهما مخرجاً. والحكيم الذي يدرك منشأ الضعف والوهن الساري في نظام الأمة، يهتدي إلى وسائل علاجه بسهولة، ولا يمسه الضجر والملل، ولو طال عليه أمد المعالجة، أو لقي في سبيلها نصباً.

الشعور السياسي في الإسلام

الشعور السياسي في الإسلام (¬1) بثّ الإسلام في نفوس معتنقيه ديناً قيماً، وأدباً راقياً، وسنَّ لهم قواعد؛ ليقيموا عليها أحكام مدنيتهم، ويهتدوا بها في تدبير سياستهم، وبعد أن ¬

_ (¬1) مجلة "الفجر" -المجلد الثاني من السنة الثانية الصادر في شهري صفر وربيع الأول سنة 1340 هـ - تونس. وقدمت المجلة البحث بقولها: لفضيلة الأستاذ الجليل العالم النحرير المعلم الكبير الشيخ محمد الخضر بن الحسين مكانة سامية في العلم والأدب، وله قلم سيّال وقوة شاعرية، فقد جمع -أبقاه الله- لغزارة العلم المقدرةَ على الكتابة والتحرير، وصوغ القريض، وهذا لعمر الحق! مما يندر وجوده. كل التونسيين -لاسيما أبناء الكلية الزيتونية عمّرها الله- مجمعون على الاعتراف بمزايا الأستاذ وفضائله الجمّة، وآثاره العالية، ولهم نحوه من الإجلال والتوقير ما عزَّ أن يكون لغيره. كانت حياة الأستاذ مدة إقامته بربوع الوطن المفدى كلها خير ونفع. باشر التدريس بجامع الزيتونة متطوعاً ومدرساً، وأقرأ كتباً جمة. وانتفع عليه خلق كثير لا تكاد تخلو قرية أو حي من تلاميذه ومريديه. وأصدر مجلة "السعادة العظمى" التي عاشت ما يناهز العامين، وكانت حافلة بالفوائد، ومباحث الإصلاح النافعة. وتولى قضاء مدينة "بنزرت، زمناً ما، فكان مثال العفة والعدالة الشرعية. ثم رأى أن لا قدرة له على تحمل هذا العبء الثقيل =

وقف ذوو البصائر منهم على كنه الروح الذي يتماسك به العمران، ولا ينهض شعب أو يملك حياة مستقلة إلا إذا ضرب فيه بأشعته، شعروا بحق القيام على تدبير شؤونهم بأنفسهم، وأخذوا ينشرون تلك المبادئ الشريفة والتعاليم المحكمة بين أمم كانت تعثو في الأرض فساداً، وتخوض في الباطل خوضاً، إلى أن كان ما أدهش العقول عن فتوحات نسخت ليل الجهالة، وجعلت آية العلم الصحيح مبصرة. ¬

_ = الذي كادت تخرجه القيود الإدارية عن الصبغة الشرعية، فاستعفى، وانقطع بعد ذلك إلى التدريس والتأليف. ومن أعماله الجليلة: قيامه بمسامرات مفيدة جداً، منها مسامرة "اللغة العربية" قد طبعت، ومنها مسامرة "الحرية في الإسلام" وقد طبعت أيضاً. كما طبعت له رسالة في "الدعوة إلى الإصلاح". ثم ارتحل إلى البلاد المشرقية، وزار المدينة المنورة، وأقام مدة بالديار الشامية تصدى فيها لنشر العلم، وكانت له حظوة سامية، ثم رجع إلى الوطن وفي نفسه عزيمة الهجرة، فمكث مدة ما، رجع فيها إلى التدريس بالجامع الأعظم، ونشر في "جريدة الزّهرة" الغراء رحلته، وقد راعى في كتابتها ظروف الزمان والمكان، فلم يطلق لقلمه العنان. ثم سافر الأستاذ الجليل إلى الديار الشرقية، وانقطع لبث العلم والدعوة إلى الإصلاح. ثم كانت الحرب العظمى، فأظلم الأفق بيننا وبينه. ولما انقشعت سحبها المظلمة، ضاعت لنا أفكار أستاذنا المحبوب من ناحية الكنانة، فرأينا جرائدها ومجلاتها طافحة بنفثات يراعه، وها نحن نزف اليوم لقرائنا الكرام هذا المقال الجليل الذي يدل على مقدرة الأستاذ، وتبحره في أسرار الشريعة الحنيفية السمحاء، وفي الأمل أن نمتع قراءنا في المستقبل بِنُبذ من مباحث الأستاذ النافعة -إن شاء الله-.

كان الشعور السياسي منبثاً في نفوس الأمة قاطبة، حتى إذا نهض الرئيس الأعلى لقتال يحمي ذمارهم، أو عمل يرفع شأنهم، خفُّوا إلى دعوته، فأسلموا أنفسهم وأموالهم إلى رأيه وتدبيره. ما هي العوامل التي أحيت ذلك الشعور، وجعلته يتألق بين جوانحهم تألقَ القمر في سماء صاحية، فأكبر هممهم، وشدّ عزائمهم، حتى تراءى لهم الجبل ذرة، واستهانوا بالموت الذي -كما قال بعض الحكماء- لا مرارة إلا في الخوف منه؟؟. أحيا ذلك الشعور: تلقيهم للكتاب الحكيم عن تدبر وإنعام في مراميه الاجتماعية والسياسية، ومما يبعثهم على تجريد النظر لاجتلاء حقائقه، والكشف عن مقاصده: أنه القانون الأساسي الذي لا تخضع الأمة إلا لسلطانه، فكان العلماء -وهم بمنزلة نواب الأمة- يرقبون سير الهيئة الحاكمة، وما عليهم سوى أن يزنوا أعمالها بذلك الميزان السماوي، فيصفوها للناس بأنها جادة أو هازلة. فالشعور السياسي نور يسطع في الشعوب على قدر ما ينتشر بينها من معرفة حقوقها، والطرقِ الكافلة لحفظ مصالحها، ولقد كنّا نتلقى عن تجربة أن السلطة القابضة على زمام شعب، يسوء أن يتنبه لحياته الشريفة، وينهض للمطالبة بحقوقه العالية، تصرف دهاءها إلى منابع التعليم، فتسد مسالكه، فإن لم تستطع، ضيقت مجاريه، أو خلطته بعناصر تفتك بالإحساسات السامية، وتقلب النفوس التي فطرها الله على الحرية إلى طاعة عمياء. أحيا ذلك الشعور: أن الله قيض لهم رؤساء ما كانوا ليعدُّوا أنفسهم سوى أنهم أفراد من الشعب يقومون بتدبير جانب من مصالحه، فطرحوا

التعاظم جانباً، وجلسوا لذوي الحاجات على بساط المساواة، وكذلك قلوب الرعية إنما تنجذب إلى رجال الدولة، وتلتف حولهم بعاطفة خالصة، على قدر ما يبعدون عن مظاهر الأبهة، ويخففون من شعار العظمة. أرسل سعد بن أبي وقاص المغيرة بن شعبة إلى رستم القائد الفارسي، فأقبل إليه حتى جلس معه على سريره، فوثب عليه أتباع رستم، وأنزلوه، فقال المغيرة بصوت جهير: "إنا -معشر العرب- لا يستعبد بعضنا بعضاً، فظننت أنكم تتواسون كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض. اليوم علمتُ أنكم مغلوبون، وإن مُلْكاً لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول". أراد المغيرة أن يبثّ في الجنود الفارسية النفرة من قائدها، حتى ترتخي عزائمهم عن نجدته، فما كان إلا أن أيقظهم لِما خص به ذلك القائد نفسه من الميزة والاعتلاء بغير حق، وأومأ إلى أن الإسلام قرر قاعدة المساواة على وجهها الصحيح، فلا فضل لرئيس على أدنى السوقة إلا بتقوى الله. وقد نجح دهاؤه ونفذت فيهم مقالته، حتى صاحت طائفة منهم قائلة: "صدق -والله- العربي فيما قال". ومن مثل هذه القصة، نفقه أن سقوط تلك الممالك تحت رايتهم لم يكن نتيجة البسالة والسيف وحدهما، بل كان الأثر الأعظم للدهاء في السياسة. أحيا ذلك الشعور: أن رأوا باب الحرية مفتوحاً على مصراعيه، ولم يجدوا دون مناقشة أولي الأمر حاجباً، فكان اطمئنانهم في سيرهم، ووثوقهم بسلامة مستقبلهم، مما يذكرهم بالسكينة، ويعظهم بأن يكونوا كالكنانة بين يدي أميرهم العادل، يرمي بعيدانها الصلبة في وجه من يشاء.

ومن ألقى نظرة في التاريخ الإسلامي، عرف أن الرجال الذين أسسوا ملكاً لا سلف لهم به؛ كعبد الرحمن الداخل، أو جددوا نظامه بعد أن تقطعت أوصاله، كعبد الرحمن الناصر، إنما استقام الأمر بما كانوا ينحرونه في سياستهم من العدل في القضية، وتلقي الدعوى إلى الإصلاح بأذن صاغية وصدر رحب. ماذا يخيل إليك من حال الأمة لعهد المنصور بن أبي عامر حين تقرأ في تاريخ دولته: أن أحد العامة رفع إليه الشكوى بأحد رجال حاشيته، فالتفت إليه، وكان ممن انتظم بهم عقد مجلسه، وقال له: انزل صاغراً، وساو خصمك في مقامه، حتى يرفعك الحق أو يضعك، ثم قال لصاحب شرطته الخاص به: خذ بيد هذا الظالم، وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره. وإن الذي يتحلى بمزية إنصاف الضعيف من القوي، وتتمتع رعيته بمثل هذا العدل، لجدير بأن يبلغ من العز الشامخ والتأييد الراسخ؛ حيث جذب عنان الملك من يد هشام بن الحكم، واستقل بالأمر، وغزا ستاً وخمسين غزوة، دون أن تنتكس له راية، أو يتخاذل له جيش. ذاق المسلمون طعم سياسةٍ أعدلَ من القسطاس المستقيم، وعرفوا أن الدولة التي لا تقوم على قواعد المساواة والشورى، وحرية التصريح بالرأي، ليست هي الدولة التي أذنت لهم شريعتهم بأن يُلقوا إليها أمرهم عن طاعة وإخلاص. والحركات التي قلبت الدول رأساً على عقب؛ كنهضة أبي المسلم الخراساني في الشرق، والمهدي بن تومرت في الغرب، إنما نجحت، وكان

لها ذلك الأثر الخطير؛ لأنها تقوم بجانب دولة نامت عينها عن الحقوق الموكولة إلى رعايتها، وهامت بها الأهواء في أودية السرف والتفنن في الملاذ، حتى سئم الناس تكاليفها، ومالؤوا الثائرين على إبادتها، ولكن الفتن التي ترفع رأسها في مثل إمارة عمر بن عبد العزيز. أو صلاح الدين الأيوبي، أو عبد المؤمن بن علي لا تلبث أن تتضاءل وتنطفئ كما تنطفئ الذبالة إذا نفذ الزيت من السراج، وما ذاك إلا أن العدل متماسك العرا، وجمال الشرع يلوح في محيا الدولة، فلا تجد نار الفتنة من القلوب النافرة ما يذهب بلهبها يميناً ويساراً. فالإحساس السياسي الذي يربيه الإسلام في نفوس من يتقلدونه، إنما يرمي بأشعته إلى مبادئ مقدسة، وغايات شريفة، فإذا ربطوا قلوبهم باحترام أمير أو وزير أو زعيم، وبسطوا أيديهم إلى مؤازرته، فلأنه يرعى مبادئهم، ويولي وجهه شطر غاياتهم.

العاطفة والتسامح في الإسلام

العاطفة والتسامح في الإسلام (¬1) يظهر الناس في نسق الائتلاف، وينهض بعضهم لإِسعاد بعض على حسب ما يكون بينهم من الاتحاد والتماثل في مسالكهم الحيوية، وأحوالهم النفسية من آراء وآداب، بل تنعقد الألفة بين الرجلين؛ لتشابههما في بعض أحوال عارضة؛ كغربة، وقد أشار إليها الشاعر العربي بقوله: وكلُّ غريبٍ للغريب نسَيبُ. وكون كل منهما مضطهداً لسلطة واحدة، أو غرضاً لمتحفز ينوي القبضر على ناصيته. تتقوى العاطفة بمقدار التماثل، وكثرة وجوهه، وتخف على قدر ضعفه، ¬

_ (¬1) مجلة "البدر" - الجزء الثاني من المجلد الثاني الصادر في منتصف شهر صفر سنة 1345 هـ - تونس. وقدمت المجلة هذا البحث بقولها: "الكثير من قرائنا اطلع على كتابات الأستاذ محمد الخضر بن الحسين، سواء بمجلة "السعادة العظمى"، أو بالصحف التونسية، أو بمؤلفاته النفيسة، وكثيراً ما يتشوق غواة قلمه السيال إلى الاطلاع على قطرات من ذلك اليراع. ولإطفاء غلة الصادي سعينا في مكاتبة الأستاذ ومخاطبته في شأن أن لا يحرمنا من نفثاته. وها هو قد لبى الطلب، فجازاه الله خيراً، وأرسل عدة مقالات ننشر منها في هذا العدد: هذه، وأخرى في غير هذا المكان. وإليكم هي بنصها الفائق، ومعناها الرائق.

وقلة مقوماته، فالألفة التي ينتظم به أولو العلم والأدب -مثلاً- أمتن من الألفة التي تدور بين طائفة لا جامع بينها سوى الاشتراك في نسب أو صناعة: وقرابةُ الأدباء يقصر دونها ... عند الأديب قرابةُ الأرحام وعلى هذا المبدأ تقوم الرابطة الدينية، أو القومية، أو الوطنية، فيعطف الإنسان على من يدينون بشريعته، أو ينتمون إلى قبيلته، أو يشبون في وطنه، والمثير لهذه العاطفة: شعوره بوفاقهم له في كثير من مبادئه وتقاليده وطرزِ حياته. وإذا كانت العاطفة الدينية تتولد من الاتحاد في كثير من الأحوال النفسية والتقاليد العملية، دخلت في جملة العواطف الفطرية؛ أعني: ما يقوم بالنفس من أسباب واقعية، دون أن يتوقف عن أمر الشارع، أو موعظة الخطيب. وينبئك بكونها من الطبائع التي ترتسم في النفس لمجرد التوافق في العقيدة أو المسلك: أنك لا ترى أمة تنتحل ديناً، أو مذهباً اعتقدت حكمته، إلا وقد اشتبكت بينها أوصال التراحم، ولو لم تتلقن من دينها أو مذهبها تعليم هذه العاطفة، والحث على تأكيدها، فمن تقلد ديناً، وادعى أن عواطفه على شيعة هذا الدين وغيرهم في درجات متساوية، فقد ادعى ما تأباه الفلسفة، ويرده الاختبار والتجربة. فلسلطان المغرب -الذي راسله صلاح الدين الأيوبي طالباً منه المدد بالأساطيل لحماية ثغور الشام- عاطفة دينية، ولكنها كانت من الضعف بحيث أخمدها، وأطفأ بارقتها: أن ذلك المجاهد العظيم خاطبه بأمير المسلمين بدل أمير المؤمنين الذي هو لقب الخلفاء، فرد البعثة الصلاحية إلى مرسلها خائبة، ولم يبال بالسهام التي ترشقه بها أقلام المؤرخين، والحيرة في الجواب

عندما تُنصب لأمثال الموازين. حذر الإسلام أن تتضاءل العاطفة الدينية، فيضيع كثير من حقائق الشريعة وعزة أهلها، فجاء بما يربيها ويحييها في النفوس حياة زاكية؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"، ثم كره أن تطغى كما طغت في نفوس أمم أخرى، فتحملها على التحيز إلى من يوافقها في الدين، فتؤثره بحقوق غيره، وتشد أزره وإن كان مبطلًا، فجاء بما يهذب حواشيها، ويسكبها في قالب عمراني يتمكن معه الشعب المسلم من معاشرة غير المسلمين، فيعيشون على صعيد واحد، ولواء السلام والعدالة الصادقة يخفق على رؤوسهم كما قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. وكقوله تعالى في حق الوالدين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، فقد أرشدت الآيتان وما يشاكلهما إلى صحة معاشرة غير المسلمين، وإقامة معاملتهم على قواعد البر والعدالة، ولكنها أذنت للمسلم إذا ابتغوا الخروج به عن سيرة الشرع المحكمة، وآدابه اللامعة، أن يقبض يده عن وفاقهم، ويلوي بعنقه عن طاعتهم، وإن كانوا بمنزلة والديه اللذين هما أشد الناس به صلة، وأحقهم بامتلاك زمامه. فالعاطفة الإسلامية لا تصادم غيرها من سائر العواطف الصحيحة، فيستقيم للنفس الواحدة أن تحمل عاطفة تحنو بها على من يسايرونها في طريق سعادتها الباقية، وأخرى تشفق بها على من نشؤوا معها في منبت، أو قاسموها القيام

بمرافق الحياة الدنيا. فالمسلمون أصفى البشر ضمائراً، وأفسحهم صدوراً في مرافقة من تجمعهم به رابطة الإنسانية، فقد كانوا يوم لا يرهبون سلطة أجنبية، ولا يرون في العالم دولة تسير على منهج عدل، أو تقيم سياستها على دعامة حرية ومساواة، يعترفون بمزية غير المسلم، ويشركونه في إدارة شؤونهم، ويبذلون وسعهم في الدفاع عنه، ولو أفضى إلى إراقة دمائهم، وينطقون في رثائه بأبلغ القصائد، كما فعل الشريف الرضي، وهو من آل بيت النبوة عند موت أبي إسحاق الصابي، وقال: رثيته لفضله. لئن كان في القوم الذين يقال فيهم: إنهم حماة الإنسانية، ورافعو لواء الحرية مَن يفرق في سياسته بين الشعوب التي تناضل عن حقوقها، وتشن غارة الاحتجاج على من يريد أن يستبد في أمرها، وبين الشعوب الجاهلة الصامتة، فيخفف وطأته على الأولى، ويشد خناق الاستعباد على الثانية، فقد كان المسلمون من قبل أن تبزغ شمس الصحافة في الكرة الأرضية، وحيث لا مسيطر يقوم على رؤوسهم، ولا رقيب يحصي عليهم أعمالهم، يحترمون ذمام إخوانهم في الوطن، ويبسطون إليهم بوسائل المودة؛ إجابة لداعي الإنسانية، وامتثالاً لأوامر شريعتهم السمحة. فلو قال قائل: إن الإسلام أول من أرى البشر كيف تتحد الأمم المتباينة في مللها، المختلفة في شرائعها، وتستقيم لهم الإقامة في وطن واحد، يتمتع كل منها بحقوقه المدنية، وشعائره الدينية، لوجد في التاريخ ما يناصره، ويذهب بالريبة من قلب مخالفه.

الشورى في الإسلام

الشورى في الإسلام (¬1) أتى على العالم حين من الدهر وهو يتخبط في جهل وشقاء، ويتنفس من نار البغي الطاغية على أنحائه الصعداء، حتى نهض صاحب الرسالة الأعظم - صلوات الله عليه - بعزم لا يحوم عليه كَلال، وهمة لا تقع إلا على أشرف غرض، فأخذ يضع مكان الباطل حقاً، ويبذر في منابت الآراء السخيفة حكمة بالغة، وما لبثت الأمم أن تقلدت آداباً أصفى من كواكب الجوزاء، وتمتعت بسياسة يتجلى بها العدل في أصرح مظهر، وأحسن تقويم. وضع الإسلام للسياسة نظاماً يقطع دابر الاستبداد، ولا يبقي للحيف في فصل القضايا، أو الخلل في إدارة الشؤون منفذاً، أوصى الرعاةَ بأن لا ينفردوا عن الرعية بالرأي في آية: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وآية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، ثم التفت إلى الأمة، وعهد إليها بالرقابة عليهم، ومناقشتهم الحساب فيما لا تراه مطابقاً لشرط الاستقامة، فقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. ولم يكن الأمراء الراشدون؛ احتراماً لهذا القانون الإِلهي، يكرهون ¬

_ (¬1) مجلة "البدر" - الجزء الخامس من المجلد الثاني الصادر في منتصف جمادى الأولى 1340 هـ - تونس.

من الناس، أو يحجرون عليهم البحثَ في الشؤون العامة، ومجادلتهم فيها بلهجة ناصح أمين. وهذه صحف التاريخ حافلة بقصص الذين كانوا يقفون للخليفة عمر ابن الخطاب -وهو يخطب على منبر المسجد الجامع-، فينكرون عليه عزل عامل اعتقدوا أمانته، أو يجادلونه في رأي عزم على أن يجعله قانوناً نافذاً، فلا يكون منه سوى أن يقول لمن نطق عن بينة: "أصبت"، ويرد على من أخطأ في المناقشة رداً جميلاً. وإن شئت مثلاً من سيرة الأمراء الذين تقلبوا في فنون من أبهة الملك، ولبسوا من عظمته بروداً ضافية، فقد حضر القاضي منذر بن سعيد مجلس الخليفة الناصر بمدينة الزهراء، فتلا الرئيس عثمان بن إدريس أبياتاً تمضمض فيها بشيء من إطراء الخليفة، حتى اهتز طرباً، وكان منذر بن سعيد ينكر على الناصر إفراطه في تشييد المباني وزخرفتها، فأطرق لحظة ثم قال: يا باني الزهراء مستغرقاً ... أوقاته فيها أما تمهل لله ما أحسنَها رونقاً ... لو لم تكن زهرتها تذبل فما زاد الناصر على أن قال: "إذا هبَّ عليها نسيم التذكار، وسُقيت بماء الخشوع، لا تذبل إن شاء الله"، فقال منذر: "اللهم اشهد؛ فإني قد بثثت ما عندي". في مقدرة ذلك الخليفة أن يفصل منذرَ بن سعيد عن وظائفه، أو يبعث به إلى المنفى غيرَ آسف عليه، ويجعل عذره في ذلك العقاب خُطبه التي كان يلقيها على منبر الجامع، ويتصدى فيها لنقد أعمال الدولة بلهجة قارصة، ولكنه أمير نفذت بصيرته إلى روح الشريعة الغراء، ودرس تاريخ

الخلفاء قبله عن عبرة، فعرف أن لا غنى للدولة عن رجال يجمعون إلى العلم شجاعة، وإلى الشجاعة حكمة؛ حتى يمتطوا منصسب الدعوة إلى الإصلاح بحق، ويكونوا الصلة التي يظهر بها أولو الأمر وبقية الشعب في مظهر أمة تولي وجهها شطر غاية واحدة، ثم لا يغيب عن مئل ذلك الخليفة العادل: أن الدولة لا تحرز مجداً خالداً، وسمعة فاخرة، إلا أن يعيش في ظلالها أقوام حرة، وفي مقدمتهم علماء يجدون المجال للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسيحاً. يصفون بعض الأمم بمحررة الشعوب، ويلقبون عاصمة بلادهم بمطلع الحرية، إلا أن ناشر لواء الحرية بحق، ومعلمَ البشر كيف يتمتعون بالحقوق على سواء: من وضع لطاعة الأمراء حداً فاصلاً، فقال: "إنما الطاعة في المعروف"، وجعل الناس في موقف القضاء أكفاء، فقال - صلوات الله عليه -: "أيها الناس! إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف، تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها". كم ظهر في بلاد العرب من سيد بلغ في الرئاسة أن أحرز لقب ملك؛ كآل جفنة، وغسان، وربما وجد من بينهم من لا يقل في قوته النفسية الفطرية عن الفاروق - رضي الله عنه -، فما بالهم لم يأخذوا في السياسة بنزعته، ويرموا إلى أغراضها عن قوس حكمته؟!. لا عجب أن يمتطي ابن الخطاب تلك السياسة الفائقة، ويجول بها بين الأمم جولته التي رفعت الستار عن أبصارهم، حتى شهدوا الفرق بين سيطرة الدول المستبدة، وسيرة الخليفة الذي ينام في زاوية من المسجد

متوسداً إحدى ذراعيه. إن هو إلا الإسلام أقام له أساسها، وأنار سراجها، فبنى أعماله على أساس راسخ، واستمد آراءه من سراج باهر، فكانت صحف آثاره أبدعَ -عند عشاق السياسة القيمة- من مناظر الروضة الغناء. تدرب الخلفاء العادلون على مذاهب السياسة وفنون الحرب بما كانوا يتلقونه من حضرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - من الحكم السامية؛ كحديث: "الحرب خدعة"، أو ما يشهدونه من التدابير المحكمة؛ كوسيلة التكتم في الأمر الجاريةِ عند الدول لهذا العهد، وهي أن يبعث الرئيس الأعلى إلى الرئيس الأدنى، أو يناوله رسالة مختومة، ويأمره أن لا يفك ختامها إلا في محل أو وقت يسميه له، وقد جاء في "صحيح البخاري"، وغيره: أن حضرة صاحب الرسالة - عليه الصلاة والسلام - ناول عبدَ الله بن جحش -وهو أمير نجد- كتاباً، وقال له: "لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا"، فلما بلغ عبد الله ذلك المكان، قرأ الكتاب، وأخبر الجند بما في ضمنه من الأمر. إن اختلاف الأمم في عاداتها وحاجاتها، يستدعي أن تكون سياستها ونظاماتها مختلفة، كما يقتضي أن يكون المدبرون لأحكام الأمة وتراتيبها المدنية ممن وقفوا على روحها، وأحاطوا خبرة بمزاجها؛ حتى لا يضعوا عليها من الأوامر والنواهي ما يجعل سيرها بطيئاً، أو يردها على عقبها خاسرة. وكذلك الإسلام يقيم السياسة على رعاية العادات، وشير بها على ما يطابق المصالح، ولهذا فصل بعض أحكام لا يختلف أمرها باختلاف المواطن؛ كآية: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وحديث: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه"، ووكل البقية إلى أنظار الراسخ في العلم بمقاصد

الشريعة، البصير بما يترتب على الوقائع من آثار المفاسد والمصالح. وإن تعجب، فعجب لبعض من لا يدري أن الإسلام نور إذا نفذ في قلب، لا ينطفئ منه، حتى يكون الواحد ثلاثة، والثلاثة واحداً، فكتب في إحدى المجلات مقالة عقد فيها موازنة بين الإسلام والدين الذي يعتنقه، إلى أن قال: "قد يقول البعض: إن الإِسلام تطور عما كان عليه، وقطع إلى الإمام شوطاً بعيداً؛ لأن الأتراك قد أعلنوا الدستور، ولأن الفرس أدخلوا الإصلاحات البرلمانية، ولأن معاهد العلم والجامعات منتشرة في كل نواحي العالم الإسلامي، ولكنا نحيل القارئ الكريم إلى ما جاء في تقرير المذابح الأرمنية، والفظائع الوحشية التي أتاها الأتراك أنفسهم". وليس في وسع هذا المقام ولا من غرضه التعرضُ للروايات المصنفة في حوادث الأرمن، كما أنني لن أنبش مقابر التاريخ الأندلسي، أو ألفت نظر ذلك الكاتب لفتة حقيقية إلى ما تقاسيه بعض الشعوب الإِسلامية اليوم من أهل دين يقدسه ويتقلد عقائده، ولكني أذكره بأن الطرق المنطقية لا تبيح له الاحتجاج على عدم مطابقة التعاليم الإِسلامية للإصلاحات المدنية بمذابح الأرمن، ولو انعقد الإجماع على صحة رواياتها، وإنما يرجع في الترجيح بين الأديان -إن شاء- إلى شرائعها، ونصوص الذين أوتوا العلم من أئمتها، وإن شريعة تقوم على قواعد: "الضرر يزال. المشقة تجلب التيسير. العادة محكمة"، ويقول أحد العظماء من فقهائها: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من المعاملات والسياسيات"، لا يحق لأحد أن يرميها بمجافاة الإصلاح، والبعد عما تقتضيه طبائع العمران، إلا أن يفوته العلم بحقائقها، أو يحمله التعصب الجامد على جحودها.

الدعوة الشاملة الخالدة

الدعوة الشاملة الخالدة (¬1) بينما العالم يتخبط في جهل وغواية، فإذا بنور يلوح تحت سماء مكة، وتنبعث أشعته في اليمين واليسار، حتى أخذت بلاد العرب من أطرافها، وضربت في أقاصي الشرق والغرب، فانقلب الجهل إلى علم، والغواية إلى هدى، ذلك هو نور الدعوة التي قام بها أكمل الخليقة محمد بن عبد الله - صلوات الله عليه -. ترمي هذه الدعوة الصادقة إلى أهداف سامية: إصلاح العقائد، والأخلاق، والأعمال، وتنقية النفوس من المزاعم الباطلة، وتحرير العقول من أسر التقليد، حتى تحت ضياء الحجة، وعلى ما يرسمه لها المنطق السليم. جاء الرسول الأعظم بهذه الدعوة الشاملة، فكانت مصدر خير، ومطلع حكمة، وقد أيدها الله تعالى بما يضعها في النفوس موضع القبول، ويجعلها قريبة من متناول العقول، ومن أقوى مؤيداتها: الآياتُ القائمة على أن المبلِّغ لها رسول من رب العالمين، وسيرته - عليه الصلاة والسلام - مملوءة بأرقى الفضائل، وأسنى الآداب، وأجلِّ الأعمال، حتى إن الباحث في السيرة على بصيرة ليجدُ في كل حلقة من سلسلة حياته معجزة، ولو استطعت -ولا إخالك ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السابع من السنة الأولى الصادر في أول ربيع الأول سنة 1367 هـ والموافق 12 يناير كانون الثاني 1948 م - القاهرة.

تستطيع- أن تضعها في كفة، ثم تعمد إلى سيرة أعظم رجل تحدَّث عنه التاريخ، فتضعها في الكفة الأخرى، لعرفت الفرق بين من وقف في كماله عند حد هو أقصى ما يبلغه الناس بذكائهم وحزمهم، وبين من تجاوز ذلك الحد بمواهبه الفطرية، وبما خصه الله به من معارف غيبية، وحكم قدسية. هي دعوة الحق، اتجه إليها أقوام لا يؤمنون بأنها وحي سماوي، فاطلعوا على جملة من حقائقها، ووقفوا على جانب من أسرارها، فشهدوا لها بأنها محكمة الوضع، سامية الغاية، وألمُّوا بأطراف من سيرة المبعوث بها، فاعترفوا بأنه أكبر مصلح أنقذ الإِنسانية من غمرات الاستبداد، وعلّمها بأقواله وسيرته العملية كيف تتمتع بحقوقها كاملة، وتحتفظ بحريتها وهي آمنة. دعوة تأبى الخمول والإِحجام، حيث ينبغي لها أن تظهر في شهامة وإقدام، تُوجّه نصائحها إلى الأمم على اختلاف طبقاتها، وتفاضلِ درجاتها، فتسدي النصيحة إلى الملوك فمَن دونهم من ذوي المناصب السياسية والقضائية والتنفيذية، وتأخذ بأيدي العاملين من نحو: التجار والصناع والزراع إلى أن يسيروا في الطريق الكافل للسلامة والنجاح، وأقبلت على الأسرة، فرسمت لها نظماً تيسر لها أن تعيش في ألفة وهناءة، فقررت للزوجة والقرابة من نحو الأبوة والبنوة حقوقاً عادلة، وأوجبت على من يستطيع إسعاد ذوي الحاجات بمال أو جاه أن يسعدهم ما استطاع، وأوصت مع هذا برعاية حقوق الجوار. وراعت في معاملة المخالفين ما تستدعيه من الحزم، ثم ما تستدعيه العاطفة الإِنسانية من الرفق، ففرقت بين من يدخل تحت سلطانها، وبين من يناصبها العداء، فمنحت المسالمين من الحقوق ما تطمئن به نفوسهم، وتنعم به حياتهم، وأذنت في تقويم المناوئين بالقدر الكافي للنجاة من عدوانهم.

طلعت الدعوة المحمدية على الناس فصيحةَ البيان، قوية الحجة، حكيمة الأساليب، ولم تسلم -مع هذا- من طوائف يرمون أمامها أو وراءها عن قوس إلحاد وقح، أو جهل قاتم، ولولا أن الله تعالى تكفل بحفظها، وقيض لها في كل عصر أنصاراً رسخوا في فهم مقاصدها، وتصدوا للذود عن ساحتها بيقظة وحزم، لتمكن أولئك المفسدون من إخفات صوتها، وطمس معالمها. وليست دعوة الإسلام بالدعوة التي ترشد إلى مواطن الإصلاح، ثم تترك الناس وشأنهم كما يفعل وعاظ المساجد والجمعيات، بل هي دعوة تحمل في مبادئها فرضاً على الأمة أن تقوم بتنفيذ ما تقرره من حقوق، أو تفرضه من واجبات، إذ لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.

طرق الصوفية والإصلاح

طرق الصوفية والإصلاح (¬1) انقلب كثير من الطرق المنتمية إلى الصوفية يتنفس بريح سامة، ويلتوي ¬

_ (¬1) مجلة البدر "العرب" - الجزء الرابع من المجلد الثالث الصادر في شهر ربيع الثاني سنة 1342 هـ - تونس. وقدمت المجلة هذا البحث بمقدمة جاء فيها: الطرق الصوفية والزوايا مبثوثة في جميع العالم الإسلامي عموماً، والإفريقي خصوصاً، وهي غنية بأحباسها غنًى يمكن أن يفيد الهيئة الإسلامية فوائد تذكر، لو عرفت كيف تستفيد منها، على أن الدولة التونسية والمصلحين التونسيين ما كانوا قبل الاحتلال غافلين عن ذلك، إلا أن الاحتلال قلب السير القديم رأساً على عقب؛ إذ حاول إدخال النظم الأوروبية على الحكومة والأمة إدخالاً، لا تحوير خصائص البلاد بما يوافق الزمان، والسير بها حسب النظام الطبيعي، فاندرست أكثر معالم المشاريع القديمة التي كان يمكن أن يستفاد منها فوائد جمة بأقل عناء وأخف تكاليف مما وقع. وما لم يندرس؛ لمتانة أساسه، وقوة ضلعه بقي عضواً أثرياً تهدم من جلاله أيدي الانتفاعيين، وتزيد غرابته أصابع الضالين والمخدوعين، حتى أصبح ملهى السواح، ومغمز المنتقدين. فالطرق اليوم وزواياها ليست إلا محشر الصبيان والبطالين الذين يزدادون باستثمار الشعب المسكين كسلاً، أو بؤرة يقصدها المهووسون، فتزيدهم جنوناً بما فتح باباً فسيحاً للأوروبيين؛ ليغمزوا وينتقدوا ليس التونسيين فقط، ولا الأفارقة فقط، بل الإسلام نفسه!! واستمر الحال على هذا المنوال إلى اليوم، والحكومة متشاغلة عنه، ورجالها صامتون. على أننا رأينا =

إلى حيث يستدرج طوائف من الناس، ويلقي بهم في عماية وخسران مبين. والمسألة خطرة، وتبعة السكوت عنها غير هينة، ومن مقتضى السداد في النظر أن نناقش أنفسنا الحساب في كل شيء، ولا نغادر صغيرة ولا كبيرة من أحوالنا الاجتماعية إلا وقفنا لسبر غورها، وتمييز طيبها من خبيثها وقوفَ البصير المخلص؛ لعلنا نشتفي من العلل التي قعدت بنا في مضجع الخمول، ونسلك الصراط السوي الذي رسمته الحكمة الإلهية لتسير فيه الأمم الرشيدة، فنكون من الفائزين. كان السلف من الصحابة والتابعين ومن تحرى سيرتهم، يأخذون أنفسهم ¬

_ = حضرة سمو باينا الحالي منذ ما جلس على عرش البلاد (16 ذي القعدة 1340 هـ) يظهر اعتناء وشغفاً بتلك الطرق، وهاتيك الزوايا، بما أعاد إليها بعض الحياة، ونشطها من جديد. فهل في عزم جنابه العالي إصلاحها بما يطابق الشرع، وينفي الزغل والفساد اللذين يسودانها اليوم، ويما يرفع عن شعبه والدين الإسلامي هاته المعرة التي عدتها الصحافة الأوروبية منه؟ ذلك ما كان يجيش بخاطرنا، ونتمنى لو تقدم أهل النظر لحضرة الأمير بآرائهم الصائبة في طرق إصلاح هذا العضو، حتى يصبح عاملاً في رقي الأمة وإصلاحها. وقد وصلنا من مصر المقال الآتي، فعساه يكون فاتحة تمحيص هاته المسألة؛ حتى يكون الشعب وحكومته على بينة من الأمر، فيسعون إلى رتق الصدع بالطرق الإجرائية الناجعة. ومما يزيد في قيمة هذا المقال: أنه من قلم الشيخ الخضر الكاتب التونسي والمصلح الاجتماعي، ولا غرو؛ فإن حكماً يصدره في مثل هاته المسألة الاجتماعية رجل خبر الشعوب في سفراته، ودرس الأمم في إقاماته، واعتمدته مثل الدولة التركية ليكون الصلة بين الخطوط الحربية والفكر العام المستفز أيام الحرب الأوروبية بإسنادها إياه خطة المنشئ العربي بالوزارة الحربية العثمانية، إن مقالاً يصدر من مثله لحريٌّ بأن نهتم به، وبالاستنتاجات التي يحصحصها.

بآداب الشريعة أخذَ العارف بحكمتها، المطبوعِ على النهوض بتعاليمها، ثم يقبلون على الناس يرشدونهم إلى أن يزنوا أعمالهم بميزان الشرع، ويسوسوا أنفسهم بزمام هدايته؛ حتى تستنير بصائرهم، وتكون الأخلاق العالية منه؛ مثل: الإخلاص، والغيرة على الحق، وخشية الله تعالى ملكاتٍ راسخةً في فطرهم، ومحوراً تدور عليه سائر تصرفاتهم ومعاملاتهم، ولا يعرِّجون في خلال إرشادهم إلا على آية، أو حديث، أو حكمة صريحة، أو قصة نستخلص منها عبرة. أحرز أولئك الرجال المنتصبون لهداية الناس بحق مقاماً محموداً، وحياة طيبة، وجاهاً واسعاً؛ من حيث لم يجعلوا هذه الكرامة مناط سهامهم، أو الركن الأشدَّ من مقاصدهم، وإنما هي قسط من العاقبة التي وعد الله عباده المخلصين. وما لبثوا أن غبطهم أناس يحرصون على أن تكون لهم الكلمة النافذة، والعيش الخصيب، ولو من غير طريقهما المشروع، فظهروا في مظهر أولئك الهداة، ولكن أكبر عليهم أن يعنوا بشرطه، وينهضوا بأعبائه، وهو الاستقامة على الطريقة المثلى، ففتحوا في سور الشريعة ثلمة، وابتدعوا مقالات ليختموا بها على أفواه الناس، فلا تضطرب قلوبهم بإنكار متى شاهدوهم يستخفون بواجب، أو يقتحمون حراماً؛ كقولهم: إن الولي إذا انتهى إلى منزلة عليا في رضوان الله، سقطت عنه التكاليف جملة. وتوكأ على هذه المقالة الوقحة كثير ممن يدعي الولاية، ويرتكب الفواحش على مرأى ومسمع من جماعات يلثمون أقدامه، وينشرون بين يديه أموالهم؛ ليقربهم إلى الله زلفى. وقادت الأهواء وحبُّ الرئاسة طائفة أخرى، لم ينفذوا إلى روح الشريعة، ويذوقوا طعمها، فترامى بهم الجهل الأكمه إلى أن استعاروا من اللهو وتقاليد

أهل البطالة ما حسبوه عملاً يتناوله اسم القربة، وحشروه في جملة ما استحبه الإسلام، فكان القذى في مقلته النجلاء. ومن هذا القبيل: الرقص، والتصدية، واللهو بآلات الطرب في المساجد. وبصر بما لهذا المظهر من السلطان على القلوب فريق من الملاحدة، فما لبثوا أن اتخذوه ذريعة إلى تغيير معالم الشريعة، واستدراج الناس إلى هاوية الضلالة، ومن صنيع هؤلاء نشأت مقالة الحلول والاتحاد، ودعوى أن الصوفي يتلقى أحكاماً عن مُنَزِّل الشريعة من غير واسطة، وانسلوا بهذه الدعوى عن كثير من حقائق الإسلام، وألصقوا به من صور الباطل ما لا يليق السكوت عنه، بل يجب محو أثره، وإن كانت اليد التي خطته خرجت وتدلَّت من كُمِّ ناسك متعبد؛ فإن ثوب النسك والعبادة مما يمكن استعارته والمواظبة على الاستتار به أعواماً وأحقاباً. وقف علماء الدين تجاه هذه الفرق ومن بنى على أساسهم الخرِب في طائفتين: (طائفة) ثبتت أمامهم، ووضعت أقوالهم وأعمالهم في محك النظر، ووزنتها بميزان الحكمة، ثم ضربت بهذه الضلالات والسخافات في وجه مفتريها ومبتدعيها، لا تخاف لومة لائم، ولا بطشة صائد؛ كما صنع ابن الجوزي، وأبو بكر بن العربي، وابن تيمية، وأبو إسحاق الشاطبي، وغيرهم ممن طعنوا في أصحاب هذه المقالات الزائفة، والدعاوى الباطلة. (وطائفة) أخذها الجبن عند لقائهم، واسترهبوها بمثل قولهم: "إن الإنكار على أهل الطريق يفضي إلى الموت على سوء الخاتمة"، فكانت تصغي إلى مقالاتهم بأذن هادئة، وتنظر إلى أعمالهم بعين راضية، حتى إذا عرضتَ

عليهم شيئاً من آثارهم، وأريتَها كيف يكدر مورد الشريعة أو ينقض بعض أركانها من أساسه، طفقت تخرج الأقوال عن موضعها اللغوي والعرفي، وتحملها على معان ليست من منطوقها ولا مفهومها، ولا مما تفتح له الاستعارة أو الكناية صدرها، وأخذت تحاول بما يشبه تخبط العشواء في ليل، أو اعتساف المدلج في غير سبيل، أن تدخل بعض الأعمال المنكرة في قالب قاعدة أو قياس شرعي، كما فعل النفر الذين تصدوا للاعتذار عن المقالات الصريحة في نفي حكمة الباري، أو حلوله في مخلوقاته، أو دعوى رؤيته بالعين الباصرة في حال اليقظة، أو نهي المريد عن زيارة غير أستاذه، أو ترك صلاة الجماعة والجمعات أيام الخلوة لرياضة النفس ومجاهدتها. ولا ننسى أن كثيراً من هذه المقالات المخالفة للمعروفِ من الشريعة وسيرةِ السلف الصالح، قد يعزوها إلى أولي الصلاح بعضُ أشياعهم جهالة، أو بعضُ أعدائهم؛ ليضعوا من شأنهم، ويصدوا عن سبيل هديهم، وربما صدرت عن سليم النية على وجه الخطأ في النظر. وعلى أي حال، فشأننا معها أن نأخذ منها حذرنا، ولا نلاقيها إلا بإنكار، ثم نكل أمر من اصطنعها إلى الجزاء العادل، فإلى الله إيابه، وعليه حسابه. ومما انجر في أذيال هذه الطرق من الخطر على اتحاد الأمة: أن المتشبثين بطريقة قد يتغالون في التعصب لها إلى أن يقصروا عاطفة محبتهم ومساعدتهم على من تقلدوا عهدها، ويتجافون عمن تمسك بعهد طريقة أخرى، ويقبضون أيديهم عن مرافقته، ومن العامة -كما رأيناه رأي الباصرة- من يباغض الرجل، ويسلكه في حساب أعدائه، ولا يجد لهذه العداوة من باعث سوى أنه لم يكن من شيعته في الطريق، ولا ممن يحرك لسانه بالأذكار الممتازة بها؛ كأن

رؤساءهم لا يذكرونهم بمثل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"، ومن أولئك الرؤساء من يحبذ ذلك التعصب الضال؛ إذ يرى أنه ليس له سلطان إلا على من نفضوا قلوبهم من كل احترام وتعاطف إلا عليه، أو على من انخرطوا في الطريق التي قام على رأسها. وأكبر من هذا جريمة: أن في رؤساء الطرق من يعرف الباطل باطلاً، ولا يبالي أن يطاطئ له رأسه، ويؤازره على محاربة الحق، حتى يزيده أهل الباطل بسطة في الجاه، ولا يعترضوه في سبيل يتصيد منه بعض مآرب شخصية. وأهونُ ما تشهده من خضوع هؤلاء: أن يبرز أتباعهم في الاحتفالات العامة كل بالأوضاع التي تلذها أذواقهم، ويمتازون بها عن أصحاب الطرق الأخرى، ثم لا يجرح أفئدتهم ما يسومهم به الناظرون من الازدراء والتهكم. ومن أكبر البلايا أن يسبق إلى بعض الظنون أنها أوضاع شرعية، فلا يكفي ما تجره إلى واضعيها، أو الذين أصبحوا مظهراً لها من المعائب والاحتقار، حتى تمس جانب الشريعة الغراء، وتلصق بالإسلام وصمة تجعل بينه وبين الجاهلين به حجاباً كثيفاً. ولو درينا أن تعرضهم للحط من كرامتهم كان تحت الإكراه الذي يقارنه الوعيد، ويأتي من ورائه العقاب الصارم، لقلنا لهم في وصف الدواء الناجع: اخلعوا أطواق هذه الطرق من أعناقكم، حتى لا تكون سبب إهانتكم، بدل أن تكون من وسائل سعادتكم، ولكنه الهوى، أو ضعف الجأش وارتعاده أمام كل رغبة يلوح إليها القوي الغالب، ولو بأداة عرض أو تحضيض. كان لمشايخ الطرق قبل هذا العصر فوائد لا يصح إنكارها؛ كاتخاذ

زوايا لتعليم القرآن، وتلقين جانب من مبادئ الدين والأحكام الفقهية، والإرشاد إلى بعض الأخلاق الفاضلة، والمحافظة على العبادات، وترك المنكرات، ثم قبضهم لأموال بعض الأغنياء وإنفاقها على فقرائهم. والقيام على هذه المشروعات والتعليم -ولاسيما في العصور المظلمة- مزية لا يستهان بها. وربما اكتفينا منهم بتأدية هذه الواجبات، وصرفنا عنان السؤال عن عدم غرسهم في قلوب أتباعهم خلق الإقدام على مجاهرة الرؤساء بالنصيحة، ومطالبتهم بالاستقامة على السبيل الذي يكفل لهم الأمن من كارثة الاستعباد. نكف أقلامنا عن أن تحمل طرفاً من هذه المسؤولية على كواهلهم، ونقنع منهم بذلك المقدار من الخير، حيث لم يكونوا سلاح الباطل، ولا أعواناً للسلطان الجائر، ولكنا لا نقنع من بعض رؤساء الطرق في هذا العصر بذلك المقدار من تعليم وإرشاد على فرض أن ينهضوا له كما نهض سلفهم الصالح، ما دامت قلوبهم وأقلامهم بين إصبعين من أصابع حليف الباطل، يملي عليها ما يشاء، ويقلبها كيف يريد. لا نرمي في هذا المقال إلى ما يقوله بعضهم من أن هذه الزوايا أصبحت عقبات قائمة في سبيل الإصلاح لا بد من العمل على إماطتها، فإني أعلم أن لمشايخ الطرق كلمة نافذة لدى العامة، ومكانة يمكنهم أن يتوصلوا بها إلى إصلاح عظيم، ومساعدة الأمة على اتحادها المتين، فلا نريد لهم حينئذ إلا أن ينقوا ساحتهم من مظاهر لا تنطبق على الشريعة، ثم يصرفوا سلطانهم على القلوب إلى إسعاد الوطن، والذبِّ عن حقوق الأفراد والجماعات. أما تنقية زواياهم ومظاهرهم لما هو خارج عن رسوم الشريعة، فبوقوفهم في العمل على ما ينطق به الكتاب والسنّة الصحيحة، أو ما يفهمه الراسخون

في العلم منهما، ثم لا يحيدون عن القسطاس المستقيم، وهو سيرة السلف من الصحابة والتابعين، فإذا لم ينقل عن جماعة من السلف -مثلاً- أنهم احتفلوا في المساجد بالنفخ في المزامير، أو ساروا في الشوارع يحملون الرايات لغير جهاد، أو تحدثوا عن حضرة الخالق بالعبارات الموضوعة لعشق الحسان ومعاقرة الخمور، علمنا أن هذا الصنيع من اللهو الباطل الذي يلفت وجه صاحبه عن سبل الله. وإذا لم يرد في حق أحد من الصحابة أو التابعين أنه كان يسمي نفسه أو يسميه غيره باسم يدل على تصرفه في الكون تصرفًا غيبياً، كان الأحرى بالرئيس في الطريق أن لا يصف نفسه، ولا يفسح المجال لبعض مريديه حتى يصفوه بما لم يوصف به صحابي قضى حياته في عبادة خالصة، وسياسة عادلة في سبيل الله. وأما احتفاظهم على ما رزقوا من الكلمة النافذة، وتصميمهم على أن لا يبذلوها حيث يأمرهم ذو سلطة باغية، فمهما يربطه على قلوبهم، ويجعله كالخلق الراسخ في نفوسهم أن يتفقهوا في قوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]، ثم يصرفوا قلوبهم عن المنافع التي يمكن لصاحب تلك السلطة أن يحول بينهم وبينها، ويدوسوها بتعاليمهم، ويضربوا بها وراء ظهورهم، وعلى فرض أن يتجاوز المستبد في حكومته إلى أن يسوم القابض يده عن العبث بالحق سوء العذاب، فيخلق بمن وقف موقف الزعامة والإرشاد، أن يكون مثال أكمل المزايا، وهي احتمال الأذى، وتجرع غصص البلاء المر في سبيلي العفاف والمروءة، تلك الخصلة التي يقوم عليها التصوف الحر، وبها يعلم الله الذين صدقوا، ويعلم الكاذبين.

الخلافة الإسلامية

الخلافة الإسلامية (¬1) يرمي الإِسلام في هدايته على تعليم النفوس كيف تعمل على نظام، وتسير في استقامة، وليس بالخفي أن كثيراً من الناس لا تلين قناته للموعظة، ويرخي لأهوائه الشكيمة، وهو يشعر بأنها تخوض في باطل، وتجمح به إلى عاقبة وخيمة. فكان من مقاصد الإِسلام: إقامة دولة تحمي بما لها من الشوكة وعزّة الجانب ذمارَ الذين يأوون إلى ظله، وتقيم سننه على قاعدة صحيحة. وأول لبنة وضعها صاحب الرسالة - صلوات الله عليه - في أساس هذا الغرض الأسمى: ما أخذه على الأوس والخزرج من عهد البيعة على أن يكونوا أنصاره إلى الله، ثم واصل العمل بما قام به من جهاد يدافع به مهاجماً، أو يبادر به متحفزاً لقتاله، إلى أن انتهت وظيفة الوصي، وصعدت تلك الروح الكريمة إلى مقام ربها الأعلى. صدرت عنه - صلى الله عليه وسلم - أحاديث في معنى الوصاية بنصب أمير يقوم مقامه في تدبير المصالح العامة؛ كحديث البخاري: "إن هذا الأمر في قريش ما أقاموا الدين "، وحديث مسلم: "إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما"، وكذلك عرف أصحابه أنهم لا يملكون عزتهم من بعده، ولا يتمكنون من التمادي ¬

_ (¬1) مجلة "البدر" - الجزء الرابع من المجلد الثاني الصادر في منتصف ربيع الثاني 1340 هـ - تونس.

على مناصرة الحق والدعوة إليه إلا بإزاء قوة اجتماعية يكون زمامها بيد رئيس عادل، فبادروا إلى سقيفة بني ساعدة، وائتمروا في قضية الرئاسة، فقال الأنصار للمهاجرين: منا أمير، ومنكم أمير، حتى سمعوا الحديث الذي يرشد إلى أن الإمامة في قريش، فانحلت عقدة العصيبة من قلوبهم، وعدلت بهم الحجة عن رأيهم، وما لبثوا أن مدوا أيديهم بعد يد عمر بن الخطاب إلى مبايعة الصدِّيق، فانعقدت رئاسته باتفاق أهل الحل والعقد، وسمّوه: خليفة رسول الله. ومن هنا نشأت تسمية تلك الرئاسة خلافة. فالخلافة نيابة عن صاحب الشريعة في رفع لواء الحق، والسير بالأمة على مناهج السياسة القيمة. تنعقد الخلافة بمبايعة أهل الحل والعقد؛ كخلافة الصديق، وعلي بن أبي طالب، أو بايصاء من الخليفة السالف كما انعقدت خلافة الفاروق بعهد من أبي بكر، وخلافة عمر بن عبد العزيز بعهد من سليمان بن عبد الملك. ولم يعهد بها عمر بن الخطاب إلى رجل يثق بكفايته ومقدرته كما فعل الصديق، ولا وكلها إلى آراء الأمة جملة كما فعل أكمل الخليقة - صلوات الله عليه -، بل وقع اجتهاده ذلك العين على أن يلقي أمرها إلى أولئك النفر الذين عرفوا بين الأمة بسداد الرأي والأمانة، فائتمروا فيما بينهم، ووضعوا مقاليدها يزيد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. وقد ينهض لها بعض من يعد في بادئ أمره متغلباً، ويملك من القوة ما يحمل صاحبها الشرعي على أن يتخلى عنها بنفسه؛ كما صنع الحسن بن علي إذ جنح إلى سلم معاوية بن أبي سفيان، أو تنقلب إليه بموت من تولاها بحق؛ كما صارت إلى عبد الملك بن مروان بموت عبد الله بن الزبير، وانتقلت

إلى عبد الله السفاح بهلاك مروان بن محمد، وانقراض دولة بني أمية. وردت أحاديث صرحت بأن الأئمة من قريش، فوقف كثير من العلماء الأقدمين عند ظاهرها، وأخذوا في وصف الخليفة كونه قرشياً، ولكن المحققين الذين يتفقهون في النصوص، ولا يغفلون عن النظر إلى المصالح والمفاسد التي بنيت الشريعة على رعايتهما، انتبهوا إلى أن الإِسلام أول من قرر قاعدة المساواة بين البشر على وجه ثابت، وألغى في نظره التفاضل بالأنساب، فلم يجعل له في تقرير الأحكام العامة نصيباً، فبدا لهم أن التصريح بنسب القرشية في الحديث إنما يرمي إلى ما يحقق شرط الكفاية والقدرة على القيام بأعباء الخلافة، وهو قوة الحامية. وقد اختصت قريش لذلك العهد من بين سائر القبائل بقوة العصبية وشدة المراس، فإذا تلاشت عصبيتهم، وتمزقت جامعتهم، ووقع عنان الخلافة في يد أمير قوي سلطانه، وكانت يده أبسط وأقوى على حماية الحقوق والبلاد، وجب الوثوق بطاعته، والمسارعة إلى نجدته، وإن لم يكن قرشياً. وقد بسط هذا التحقيق العلامة ابن خلدون في مقدمة "تاريخه"، وذكر أن القائلين بنفي اشتراط القرشية في الخلافة القاضي أبا بكر الباقلاني، حيث أدرك ما آلت إليه عصبية قريش من التلاشي والاضمحلال. وممن صرح بصحة الخلافة من غير القرشي القاضي محمد بن علي الشوكاني، فقال في كتاب "وبل الغمام": إن عمومات القرآن تدل على وجوب الطاعة لغير القرشي، ومن الأدلة الخاصة بذلك حديث: "أطيعوا السلطان، وإن كان عبداً حبشياً رأسه كالزبيبة"، ومن زعم أن ثم فرقاً بين الإمام والسلطان، فعليه الدليل. وبمثل هذا أفتى القاضي أبو عبد الله المقري؛ إذ قال للسلطان أبي عنان -وهو من

قبيل البربر-: أنت أهل للخلافة؛ إذ بعض الشروط قد توفرت فيك. ويعني ببعض الشروط: الركن الذي عليه مدارها، وهو جودة الرأي، وشدة البأس. ولا شبهة أن الوجه الذي تقررت به الخلافة في بني عثمان، لا تقل عن الوجه الذي ثبتت به خلافة بني العباس، إلا أن عبد الله السفاح أول العباسيين أرسل وراء آخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد جيشاً، فقتله، أما السلطان سليم، وهو أول خليفة عثماني، فإنه دخل مصر، وقد ضرب ملوكها على يد الخليفة العباسي، فسلبوه النفوذ جملة، ولم يُبقوا له من أثر الخلافة غير السكة والخطبة، فلم يلبث الخليفة محمد المتوكل أن تنازل للسلطان عن الخلافة، ثم جاء إليه ابن أبي البركات شريف مكة المكرمة، وقدم له بيده مفاتيح الحرمين الشريفين من تلقاء نفسه، وصارت الخطب تتلى باسم السلطان سليم بزيادة: خادم الحرمين الشريفين. ثم إنه أخذ في صحبته محمد المتوكل إلى الآستانة، وأطلق له بعد ذلك سبيل العود إلى مصر، وأقام بها إلى أن توفي، واستقرت الخلافة في بيت آل عثمان على وجهها المشروع. فقيام سلطان يحمل راية الخلافة حقيقةٌ شرعية، وأمر لا غنى للمسلمين عنه، ما داموا يطمحون إلى عزهم المكين، ويهمهم أن يقفوا في صفوف الأمم الأخرى موقف القرين. ويتعين عليهم أن يبذلوا في تأييد الخلافة جهد استطاعتهم؛ إذ متى تزلزل عرشها، وجمدت القلوب والأيدي عن مؤازرتها، تعدى ما يمسها من سخف وشقاء إلى سائر الشعوب، واستولى اليأس على النفوس، وحل التخاذل محل التعاطف، فيصبح العالم الإِسلامي كعقد تناثر على سطح محدب، فتفرقت جواهره بحيث لا تلتقي حبة بأخرى. كانت الشعوب الأندلسية تتماسك بعرا الاتحاد تحت راية الخلافة بقرطبة،

فعميت على عدوهم السبيل لأن يملك ولو قيد شبر من بلادهم، ولما تقطعت الدولة الأموية إربًا إربًا، واقتسم ملوك الطوائف تراثها، فاستقل كلٌّ بناحية لا يلوي على غيره بعاطفة، ولا يمد يده إلى تحالف، إذا ريح الشقاق تخفق بعروشهم، وتقذف بها في مخالب أعدائهم، سنَّة الله في الذين أضاعوا صلة التعاضد والاتحاد، ولن تجد لسنَّة الله تبديلاً.

الإسلام والفلسفة

الإسلام والفلسفة (¬1) سار الإِنسان في حياته على ما أودع الله في فطرته من القوة الناطقة، وذهب يفكر في حقائق الموجودات، ويكشف عن وجه تباينها في الطبائع، واختلافها في الآثار. ولم يزل يرفع الحجاب عن مخبآتها، ويقف على أسرارها، إلى أن أخذ يرسم لها حدوداً، ويقرر لها قوانين وسنناً، وهذا هو العهد الذي يعده المؤرخ مبدأ لنشأة الفلسفة، وأول حلقة في سلسلة أدوراها. فالفلسفة: العلم بحقائق الموجودات وأحوالها على ما هي عليها بقدر ما تسع الطاقة البشرية، ومدارها على النظر فيما وراء الطبيعة، ثم الرياضيات والطبيعيات والكيمياء، وعلم التكوين وعلم النفس، وعلم النظام والاجتماع. خفقت ريح الفلسفة في بعض البلاد الشرقية؛ كمصر، والهند، وجالت في أندية اليونان أمدًا بعيداً، وما برحت تنتثر من أفواه الأساتيذ، وتلتقط من صحائف المؤلفين، إلى أن طلع كوكب الهدي الإسلامي، وتدفقت أشعته على البصائر النقية، وما لبثت الفلسفة أن التقت بذلك التعليم السماوي، والتحقت بالعلوم الخادمة له في تأييد قواعد السياسة ونظام الاجتماع. لا يذهب إلى أن الإسلام يتجافى عن الفلسفة سوى رجل التقم ثديَ ¬

_ (¬1) مجلة "البدر"- الجزءان السادس والسابع في عدد واحد من المجلد الثاني، المصادر في منتصف رجب 1340 هـ - تونس.

الفلسفة، وشب في أطواقها، ولم ينظر في حقائق هذا الدين على بصيرة وروية، أو مسلم لم يخض في غمار المباحث الفلسفية، وحسب أن جملتها قضايا باطلة أو لاغية، ولاسيما حيث لا يترامى إليه من أبوابها سوى نبذة من الآراء المنكرة على البديهة، أو يصغي إلى استدلالات بعض المتفلسفة الذين ينزعون إلى المقدمات الوهمية، ويتشبثون بخيوط واهية من ضروب التمثيل. ومما أثار الشبهة في عدم مطابقة الدين للفلسفة: ما ألصقه بعض المبتدعة أو الزنادقة من مزاعم باطلة، وأحاديث مختلقة، وتأويلات سخيفة. وهذه السيئات، وإن كشف الراسخون في العلم ستارها، وطهَّروا أكناف الشريعة من أوضارها، لا تزال آثارها كشامات سوداء في سيرة بعض من وصفوا أنفسهم، أو تصفهم الرعاع بالزعامة في الدين، ودأب من يتحرّون في أنظارهم ومحاكماتهم القوانين النطقية، والسنن المتبعة فيما يعقد بين ذوي الإِنصاف من المناظرات، أن يرتكبوا خطيئة وزن الشرائع بحال من انتمى إليها، ويرموها بنقيصة من يدخل في حساب أهلها. في الفلسفة قضايا تثق بها العقول الراجحة، وتنهض بجانبها الأدلة القاطعة، وهذه لا تصادم نصوص الدين من كتاب أو سنَّة، والذي لا يلتقي مع هذه النصوص إنما هو بعض آراء لم تقم على مشاهدة بينة، أو نظر راسخ. وقد ضاعت في شعاب هذا النوع قلوب من استخفهم الحرص على أن يلقبوا بالفلاسفة، وتخيلوا أن هذا اللقب لا يحرزه إلا من آمن بكل ما بين دفتي فلسفة "أرسطو"، أو "ديكارت"، فتطوح بهم التقليد الجامد إلى القدح في نصوص الشريعة، أو التعسف في تأويلها، إلى أن اقتحموا لذلك وجوهاً تخرج

بها عن قانون الفصاحة وحسن البيان. خرجت الفلسفة على علماء الإسلام، وقد اعتادت أنظارهم التقلب في مسالك الاجتهاد، وتمحيص ما يقع إليها من الآراء، فبسطوا إليها أيديهم، وفتحوا لها صدورهم، ولكنهم لم يرفعوها إلى المقام الذي يمنعهم من مناقشتها، وتقويمِ المعوج من مقالاتها؛ كما صنع "الغزالي"، و"الرازي"، وكثير من علماء الكلام. ماذا يكون مبلغ أولئك الأعلام من الحكمة، لو لم يزنوا قضايا الفلسفة بميزان العقل، ويميزوا بين ما ينبني على علم أصيل، وما يأخذ زخرف الحق من الشبه الكاذبة، فتعلقوا فيمن تعلق بمذهب "دارون" في أصل الأنواع، أو "سبينوزا" في وحدة الوجود، وقدموا إلى بعض النصوص التي يرونها مخالفة لهاتين النظريتين، فتأولوها على غير ما يفهم من مساقها، حتى إذا انكشف السراب الذي خادع "دارون"، و"سبينوزا" وانقلبت دعاويهما إلى أساطير ملفقة، عادوا إلى ما أبرموه في تأويل تلك النصوص، فنقضوه بأيديهم، وكذلك يفعل من يستهويه كل ناعق في واد، ويفتنه قول يخرج في صبغة جديدة. كم يوماً قال أدعياء الفلسفة -وهم يتلقفون بعض آرائها على غير بينة-: "قد ثبت كذا فناً". حتى إذا كنت الألمعي الذي لا يضع بجانب معلوماته قضية غير مقرونة بحجة، وناقشتهم الحساب في طريق ثبوتها، لم يكن منهم سوى أن يقولوا: هذا رأي الفيلسوف فلان، وقد أصبح من النظريات المعقود عليها بالخناصر. ثم لا تلبث بعيداً حتى يحدثوك بأن فيلسوفاً آخر قد كشف الغطاء عن وجه فسادها، ورشقها بنظرة المتهكم بها، فوقعت إلى حضيض الآراء

المنادى عليها بالسفه والضلال. لست ممن يستخف بشأن الفلسفة، أو أرى التردد على أبوابها، والتوغل في مناكبها إنفاقاً للوقت في غير جدوى، ولكني أنصح للعالم المسلم أن يجعل الكتاب العزيز والسنَّة الثابتة بالمكانة العليا، ولا يعدل في تفسيرهما عما ينساق إليه الذهن ويقتضيه الظاهر من اللفظ، إلا أن يمانعه المحسوس، أو تجاذبه نظرية ثبتت بأدلة لا تخالجها ريبة. ومن العجب أن يقوم بعض الكاتبين في الفلسفة إلى الإسلام الذي ألقى تعاليمه على صعيد الحرية، وأوعز إلى العقول أن لا تقبل رأياً بغير برهان، فيصفه بمناوأة العلم، ويقذفه بأنه قتل العلوم، وقتل نفسه بقتلها. وإن وصمة كهذه لا تجد مساغاً لأن تلتصق بدين يأتي في نسق آياته: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، إلى ما يشاكل هذا من الآيات والأحاديث الطافحة بالحث على النظر، البالغةِ في التنويه بفضيلة العلم، والتشويه برذيلة الجهل، ما لا يجحده إلا من كان بينه وبين الإِنصاف مهاق مغبرة، أو أسرَّ في نفسه القضاء على الإِسلام. وإن الإِسلام دين لا ينتقص نورَه إلا النفوس المصابة بعلل لا ينجع فيها علاج. فأصول الدين قائمة على الأساس الذي بنيت عليه الفلسفة؛ أعني: الفكر والتدبر، ومن فروع الشريعة ما هو عائد على العبادات، ويعدونه فيما يتلقى من صاحبها على وجه المتابعة، ومعنى هذا: أن العقل الصحيح لو خلى ونفسه، لا يهتدي إلى حكمة تشريعه، كما أنه لا يستطيع إنكاره ورده بالمعروف،

وهذا النوع -على قلته في شريعة الإِسلام- لا يقضي بالتقاطع بينه وبين الفلسفة، وإنما يرينا أن من القضايا الدينية ما لا تستقل الفلسفة بتفصيل أحكامه، كما أن للفلسفة مجالاً لا يعرج عليه الدين، ولكنهما إذا تواردا على أمر، ونظرا إلى غاية، سارت الفلسفة في أثر الشريعة، فإن حادت عن سبيلها، عرفنا أنها فلسفة زائفة، وآراء سخيفة، ونقد الأفكار الثاقبة من ورائها محيط.

التراويح

التراويح (¬1) ندب الشارع الناس إلى التطوع بالصلاة كما استطاعوا لذلك سبيلاً، وسنّ صلواتٍ في أوقات معينة؛ كالصلوات المسنونة عقب الصلوات المفروضة، وصلاة العيد، والكسوف والخسوف والاستسقاء. ومن هذا القبيل صلاةُ التراويح، وهي صلاة التطوع في ليالي رمضان. وسميت: "التراويح"؛ لأنهم كانوا يستريحون فيها بعد كل تسليمتين، ومما يشهد بفضلها: قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدم من ذنبه". والمعروف أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أولُ من جمع لها الناس في المساجد. ورد في الصحيح عن عبد الرحمن بن عبد، قال: (خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاعٌ "متفرقون" يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل، فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد، لكان أمثلَ، ثم عزم، فجمعهم على أُبيّ بن كعب). وقد يخطر على البال: أن عمر بن الخطاب ابتدع هذه الصلاة في المساجد جماعة، إذ لم يكن الناس يصلونها كذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الأول من السنة الثانية الصادر في غرة رمضان سنة 1367 هـ الموافق 8 يوليو تموز 1948 م - القاهرة.

ولا في عهد أبي بكر، ولا في صدر من خلافة عمر نفسه. والحقيقة: أن ما فعله عمر من إقامة هذه الصلاة بالمساجد جماعة لا يدخل تحت اسم البدعة المذمومة شرعاً؛ فإن البدعة المذمومة هي العمل المخترع في الدين دون أن يشهد له أصل من الشريعة. وصلاة التراويح بالمساجد في جماعة يشهد للازن فيها السنّةُ الصحيحة، وهي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كما ورد في "الصحيحين"، وكتاب "الموطأ" -: صلى في المسجد ذات ليلة من رمضان، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى ليلة القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبح قال: "قد رأيتُ الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تُفرض عليكم"، وذلك في رمضان، وفي رواية مسلم: "خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل، فتعجزوا عنها". وفي "شرح معاني الآثار" للطحاوي: "خشيت أن يكتب عليكم قيام الليل، ولو كتب عليكم، ما قمتم به". يتضمن هذا الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة القيام في رمضان في جماعة، ثم تركها، وبين وجه تركه لها، وهو الخوف من أن تفرض عليهم، فيعجزوا عنها، وهذه العلة التي استدعت تركه لها، وهي خوفُ افتراضها، قد زالت بوفاته - عليه الصلاة والسلام -؛ إذ لا وحي بعده حتى يخشى أن تفرض على الناس إذا التزموها، وواظبوا عليها، وإذا زالت علة ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لفعل هذه النافلة في جماعة، رجعت إلى ما كانت عليه في عهد النبوة من السنية. وهذا ما فهمه عمر بن الخطاب من الحديث عندما جمع الناسَ فيها على قارئ واحد، وهذا ما فهمه الصحابة - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ كانوا معه على وفاق فيما

صنع، ولما قال عمر عندما رأى الناس في صلاة التراويح: "نعم البدعة هذه" لم يرد البدعة المقابلة للسنّة، وهي إحداث أمر في الدين ليس من الدين في شيء، وإنما سماها بدعة؛ نظراً إلى أنه استؤنف العمل بها بعد أن تركها النّبي - صلى الله عليه وسلم -، وانقطع الناس عنها مدة، فكان لها شبه بما استحدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأعمال التي لم توجد في عهد النبوة. ولم يصنع أبو بكر ما صنع عمر من إحياء هذه السنة؛ لكثرة ما كان يشغله من مهام الأمور؛ كقتال أهل الردة، مع قصر مدة خلافته، إذ كانت سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام. وتضمن الحديث: "إلا أني خشيت أن تفرض عليكم": أن علة عدم خروجه - عليه الصلاة والسلام - لصلاة التطوع في الليلة الثالثة أو الرابعة هي خوفه من أن تفرض عليهم، وإنما جاء الخوف من جهة توقعه - عليه الصلاة والسلام - أن يكون إظهارهم المقدرة على إقامة هذه الصلاة في المسجد جماعة سبباً لفرضها عليهم، ثم يجدون بعد فرضها عليهم مشقة فادحة، فيعجزون عنها، فلم يشأ أن يقع منهم ما يحتمل أن يكون سبباً لفرض صلاة أخرى عليهم في رمضان، فنبههم لترك إقامتها جماعة في المسجد؛ حذراً من أن يكون سبباً لفرضها. وشرعُ الأحكام يكون من الله ابتداء؛ حفظاً للمصالح التي تترتب على الفعل نفسه، وقد يبنى أمر التكليف على رعاية عمل يأخذ به المكلفون أنفسهم، ويظهرون أنهم قادرون على القيام به من غير تكلف، فيفرض الله عليهم ذلك العمل على وجه الابتلاء، حتى إذا عظمت عليهم مشقته، وأدركوا أن الله لم يوجبه عليهم ابتداء رحمةً بهم، خفف عنهم، وعاد بهم إلى أصل

طبيعة الدين من اليسر والسماحة، حتى يسيروا في الاقتداء به على قدر ما يأمرهم به، وينهاهم عنه. فمن الممكن أن يجيء تكليف شاق تقتضيه حكمة الابتلاء، وإنما يكون هذا حيث يكون باب الوحي مفتوحاً، وتبديله بما هو أيسر قريباً، ولا نجد فيما تقرر من أحكام الشريعة تكليفاً تشتد مشقته إلى حد أن يعجز الناس عن القيام به. واختلفت الروايات في عدد ركعات التراويح التي كانت تُصلى بالمسجد في عهد عمر، فروى مالك في "الموطأ": أن عمر أمر أُبَيَّ بن كعب، وتميماً الداريّ (¬1) أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، ويصح أن يكون هذا العدد مأخوذاً من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي حديث الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - أنها سئلت عن صلاته في رمضان، فقالت: "ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة"، وهناك رواية أخرى في "الموطأ": أن الناس كانوا يقومون في زمان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. وأمر هذا الاختلاف هين، والجمع بين الروايتين سهل: هو أن عدد الركعات كان يختلف باختلاف الأحوال، ومن المحتمل القريب أنه يرجع إلى تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث طولوا القراءة، خففوا الركعات، وحيث قللوا القراءة، أكثروا من الركعات. ¬

_ (¬1) كان أبي بن كعب يصلي للرجال، وتميم الداري يصلي للنساء.

رسائل إخوان الصفا

رسائل إخوان الصَّفا (¬1) سأل سائل فقال: لعلكم اطلعتم على رسائل إخوان الصفاء، وعرفتم وجهتها، فما رأيكم فيها؟ فأجبت: بأني اطلعت على هذه الرسائل، وقرأت شيئاً مما كتب حولها، فتجمع عندي ما يأتي: في المئة الرابعة من الهجرة ظهر كتاب يسمّى: "رسائل إخوان الصفاء"، ولم يكتب مؤلفه اسمه عليه، فاختلف الناس في مؤلفه، فالإسماعيلية من الشيعة ينسبونه إلى أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل، من عقب الإمام جعفر. وأبو حيان التوحيدي، ينسبها في كتابه "الإمتاع والمؤانسة" إلى زيد بن رفاعة وصحبه؛ حيث مسألة وزير (¬2) صمصامِ الدولة بن عضد الدولة البويهي في حدود سنة 373 هـ عن زيد بن رفاعة، فقال: قلت: إن زيداً أقام بالبصرة زمناً طويلاً، وصادف جماعة، منهم: أبو سليمان محمد بن نصر البستي، ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني، وغيرهم، فوضعوا بينهم مذهباً زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله، ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" -العدد السابع من السنة الثامنة- الصادر في شهر ربيع الأول سنة 1374 هـ الموافق شهر نوفمبر تشرين الثاني سنة 1954 م - القاهرة. (¬2) الوزير هو الحسين بن سعدان.

وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية، فقد حصل الكمال. ووضعوا اثنتين وخمسين رسالة، وسموها: "رسائل إخوان الصفاء"، وبثوها في الوراقين. ولا عجب أن يقوم جماعة في البصرة بمزج الشريعة بالفلسف؛ فقد كانت البصرة لذلك العهد مظهر الآراء البعيدة، أو الخارجة عن الشريعة؛ كالاعتزال، والباطنية، كما أنها مظهر الآراء السليمة، فكان هناك المعترك بين الحقائق والمكايد. وصف أبو حيان التوحيدي في حديثه هذا زيدَ بن رفاعة بالذكاء. والذكاء منه ما يتجه إلى الخير، فيأتي بثمر طيب، ومنه ما يتجه إلى الكيد والمكر، فيكون عدمه خيراً من الاتصاف به. وقال أبو حيان التوحيدي: "إن هؤلاء الجماعة اجتمعوا على القدس والطهارة". ولما قرأنا الرسائل، وجدناهم اجتمعوا على أن يسلكوا بالمسلمين طريقة لا يستقيمون بها، ولا يسعدون. والفلسفة مطروحة بين أيدي المسلمين قبل أن يوجد هؤلاء الجماعة، فيستحسنون ما كان منها صواباً؛ كالهندسة، والحساب، والمنطق، والطب، وأحكام النجوم المعروفة بالتجارب، ويرفضون ما كان خطأً، كبعض النظريات الإِلهية، والاجتماعية، وفيما وراء الطبيعة. وحكى أبو حيان في حديثه: أن مؤلفي "رسائل إخوان الصفاء" قالوا: "إن الشريعة قد في نست بالجهالة، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة". والواقع أن الشريعة كما أنزلت، ليلها كنهارها، وإذا اختلف الأئمة المجتهدون في بعض الأحكام، فلأدلة من الكتاب، أو السنّة، أو الأصول

المستمدة منهما، فما يكون أرجح من جهة الدليل، فذلك حكم الشارع. وإذا أراد: الأقوال التي تصدر من غير المجتهد، فتلك الأقوال لا تعد في الشريعة، حتى يقال: دنست بالجهالة، واختلطت بالضلالات. ولو كانت الأقوال الخارجة عن الشريعة إذا ذكرت في كتبها تعد جهالة مدنسة للشريعة، وضلالات مختلطة بها، لوجب علينا أن نطهر جانب الشريعة من كتاب "إخوان الصفاء"؛ لأنه جهالة وضلالات، من حيث يريد مزجها بالفلسفة وإخراجهما مذهباً واحداً. وينسب آخرون هذه الرسائل إلى مسلمة بن أحمد بن قاسم المجريطي. قال صاحب "تاج العروس شرح القاموس" في مادة مرجطة: والصواب المشهور عنها: "مجريطة" -بتقديم الجيم على الراء وكسر الميم-، ومن هذا البلد الفيلسوف الماهر المجريطي مؤلف "إخوان الصفاء" وغيرها، واسمه أبو القاسم مسلمة بن أحمد بن القاسم بن عبد الله، وتوفي سنة 335 هـ. وفي "كشف الظنون": "رسائل إخوان الصفاء أملاها أبو سليمان محمد ابن نصر البستي المعروف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد الشهرجوري، والعوفي، وزيد بن رفاعة، كلهم حكماء، اجتمعوا وصنفوا إحدى وخمسين رسالة ... ثم قال: رسائل الصفاء للحكيم المجريطي القرطبي المتوفى سنة 395 هـ، وهذه نسخة مغايرة على نمط رسائل إخوان الصفاء". ومن لا يريد تخطئة صاحب "كشف الظنون" يقول: الحكيم المجريطي لما بلغته "رسائل إخوان الصفاء"، ومؤرخو الأندلس عرّفوا بمسلمة المجريطي، ولم يذكروا أن من مؤلفاته ما يسمى: "رسائل إخوان الصفاء"، وما ذكروا

أنه رحل إلى المشرق، ورحلة العالم إلى المشرق لا تخفى على المؤرخين. وعرف القفطي من تاريخ الحكماء بأبي الحكم عمر الكرماني من أهل قرطبة، وقال: إنه رحل إلى المشرق، وهو أول من جلب "رسائل إخوان الصفاء" إلى الأندلس، ولم يعلم أن أحداً أدخل الرسائل قبله. وعمر الكرماني توفي سنة 458 هـ. وقال مؤلفون: اثنتين وخمسين رسالة. ويعد أن عدوها، وذكروا موضوع كل رسالة، قالوا: "والرسالة الجامعة لما في هذه الرسائل المتقدمة كلها، المشتملة على حقائقها ... "، وطبعت هذه الرسائل، ولم تطبع الرسالة الجامعة معها. والدليل على أن مؤلفها هو من ألف هذه الرسائل: قولهم عندما تكلموا على إدريس - عليه السلام -: "وقد ذكرناه في رسالتنا الجامعة، وأشرنا إليه في رسائلنا". وطبعت الرسالة الجامعة في المجمع العلمي العربي بدمشق منسوبة إلى الحكيم المجريطي. ولم تثبت نسبتها إلى المجريطي تاريخيًا، وإنما كتب على بعض النسخ المخطوطة اسم الحكيم المجريطي. ثم إن الرسالة الجامعة مؤلفة على نمط "رسائل إخوان الصفاء"، ومكتوبة بلسانهم، فأسلوبها يدل على أن من ألف رسائل إخوان الصفاء هو نفسُه الذي ألف الرسالة الجامعة. ولا يهمنا كثيراً في هذا المقال تحقيق نسبة هذه الرسائل إلى مؤلفيها، وإنما يهمنا الغرض الذي صنعت من أجله، وما اشتملت عليه، أحق هو أم باطل؟. قال أبو سليمان المنطقي -فيما حكاه أبو حيان التوحيدي في حديثه مع الوزير ابن سعدان- عن رسائل الصفاء: " قد تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أجدوا،

وحاموا وما وردوا، وغَنَّوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا ... وظنوا أنه يمكنهم أن يدسوا الفلسفة في الشريعة، وقد تورك على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحدَّ أنيابًا، وأحضر أسباباً، وأعلى أقدارًا، وأرفع أخطاراً، وأوسع قوى، وأوثق عرا، فلم يتم لهم ما أرادوا، ولا بلغوا منه ما أملوا، وحصلوا على لوثات قبيحة، ولطخات واضحة موحشة، وعواقب مخزية". وقال أبو حيان التوحيدي في وصف هذه الرسائل: "وهي مبثوثة من كل فن بلا إشباع ولا كفاية، وفيها خرافات وكنايات، وتلفيقات وتلزيقات". وقال الإِمام الغزالي في كتاب "المنقذ من الضلال": "ولو تطرقنا إلى أن نهجر كل حق سبقنا له خاطر مبطل، للزمنا أن نهجر كثيراً من الحق، ولزمنا أن نهجر آيات من آيات القرآن، وحكايات السلف، وكلام الحكماء الصوفية، لأن صاحب كتاب "إخوان الصفا" يوردها في كتابه، ويستشهد بها، ويستدرج بها قلوب الحمقى إلى باطله". وقال: "من نظر في كتبهم -يعني: أهل الباطل-؛ كإخوان الصفاء وغيرهم، فرأى ما مزجوه في كلامهم من الحكم النبوية، والكلمات الصوفية، ربما استحسنها، وقبلها، وحسن اعتقاده فيها، فسارع إلى قبول باطلها؛ لحسن ظن حصل فيما رآه واستحسنه، وذلك نوع استدراج". ومما يدل على أن هذه الرسائل كانت معروفة لذلك العهد بإفساد العقيدة: ما حكاه ابن تيمية في "شرح العقيدة الأصفهانية" من أن الإمام المازري أنكر على الإِمام الغزالي لما بلغه أنه عاكف على قراءة "رسائل إخوان الصفاء". وتبين أن الإِمام الغزالي كان عاكفاً على قراءة الرسائل؛ ليعلم ما فيها

من باطل؛ حتى يحذر المسلمين من الانخداع بها. وعدّهم الشيخ ابن تيمية من الفرق الضالة، فقال في "العقيدة الأصفهانية": ولهؤلاء القرامطة صنعت "رسائل إخوان الصفاء"، وهم الذي يقال لهم: الإِسماعيلية. وقال في "بغية المرتاد": وكذلك سلك الإِسماعيلية الباطنية في رسائلهم الملقبة برسائل إخوان الصفاء. ويدلك على أن مؤلفيها من الشيعة الباطنية: كثرة تملقهم لقارئ رسائلهم بمدحه، والدعاء له، وتظاهرهم بشدة الخضوع لله، والتقوى، ويدمجون في أثناء ذلك الاستشهاد بالآيات على ما يشاؤون، ويحرفونها تارة عن مواضعها؛ كتأويلهم في الجزء الأول من "الرسالة الجامعة" لقوله تعالى: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]، يعني: عذاب الشك في الدين. فأظهروا بهذا التأويل أنهم على اعتقاد في الدين متين، ولم ينظروا إلى ما يقتضيه لفظ القرآن من أن المراد من عذاب النار: عذاب الحريق. ولهذه التأويلات لهم لم تَرُج بضاعتهم عند من يؤمن بأن القرآن من عند الله العزيز الحكيم.

الجمعيات الإصلاحية

الجمعيات الإصلاحية (¬1) لم يكن المسلمون فيما سلف يشعرون بالحاجة إلى تأليف جمعيات إصلاحية؛ إذ لم تكن طرق الفساد والغواية مفتحة على الوجه الذي نشاهده في هذا العصر، ولم يكن الناس يتركون الخير جماعات بزعم أنه ليس بخير، وإنما هي الشهوات الغالبة، أو الجهالات القائمة تأخذ بنفوس أفراد، حتى إذا قام دل إلى الإِصلاح، ولو لم يكن له أعوان، أمكنه أن يكبح جماحها، ويدفع شرورها. أما اليوم، فقد انفجرت ينابيع الفتن بحال لم يكن له نظير في العهود الخالية، فإذا تقدمت العلوم مراحل بعيدة المدى، فإن الفضيلة والهداية لقيتا فيه كساداً، بل نكراً وعداء. تلك طائفة تدعو في بلاد الإِسلام إلى دين أو أديان غير الإِسلام، دون أن تجد قوة تصرفها، أو تقف بها عند حد، وإذا لم تنجح دعاية هؤلاء في تحويل أبنائنا إلى دينهم، فقد استحوذوا على عقول كثير منهم، وانحدروا بهم في ريب، بل ألقوهم في حفرة من الإلحاد، حتى أصبحت هذه الشرذمة تحارب هدى الله بمثل السلاح الذي يحاريه به أولئك المخالفون. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الثالث والرابع من المجلد السابع عشر الصادران في عدد واحد عن شهري رمضان وشوال 1363 هـ - القاهرة.

قامت طائفة الملاحدة بجانب أولئك الذين يسمونهم: المبشِّرين، وانقسمت هذه الطائفة إلى فرقتين: فرقة كشفت اللثام، وأخذت تحارب الإِصلاح الإِسلامي علانية، وفرقة اختارت أن تحاربه تحت اسم الإِسلام، وقد بلغت هذه الفرقة المتوارية من إفساد قلوب شبابنا الغافلين ما لم تبلغه الفرقة المرتدة عن الدين جهرة. وقد أدرك هذا بعضُ من كان يعلن إلحاده، فرجع إلى ستره بكلمات يقولها بفمه، أو يكتبها بقلمه؛ ليصيد ضعفاء الإِيمان، ومن يستهويهم زخرفُ القول غروراً. وهؤلاء هم الذين اخترعوا لمخادعة أبناء المسلمين الكلمة المشؤومة، وهي: أن العلوم نتلقاها بعقولنا، وأمور الدين نتلقاها بقلوبنا ووجداناتنا، وزعموا: أن مناقضة العقل للدين لا تضر بالعقيدة، وقالوا وهم يزعمون أنهم مسلمون: إن القرآن قد يجيء بما يخالف العلم اليقين، ولكنهم لم يستطيعوا أن يقيموا شاهداً على ما زعموا، وجرت في مع بعض هؤلاء محاورات في هذا الزعم يضيق المقام عن حكايتها بتفصيل. وهؤلاء هم الذين دعوا المرأة إلى خلع لباس الحشمة، ونزعِ ما كانت تتحلى به من حياء وصيانة، وحثوا الفتيات على الاختلاط بالفتيان، ولو في حال خلوة، وزعموا أن الدين لا يمنع من هذا الاختلاط، وكيف لا يمنعه الشارع الحكيم وقد دلت المشاهدات والتجارب على أنه لا يأتي إلا بأشنع المنكرات، وأسوأ العواقب؟! وهؤلاء هم الذين اخترعوا للدين أسماء منفرة، فسموا الدعوة إليه: "رجعية"، والغيرة على حقائقه وآدابه والدفاع عنه: "تعصباً".

وهؤلاء هم الذين اخترعوا ضلالة فصل الدين عن السياسة، وحاولوا أن يوهموا ببعض مؤلفاتهم ومقالاتهم: أن دين الإسلام عقائد وعبادات، ولا صلة له بأحكام المعاملات والسياسات والقضاء، وقد قهرتهم الحجة، وسقطوا من أعين الذين يزنون أقوال الرجال بقسطاس المنطق السليم. وهؤلاء هم الذين يعادون اللغة العربية الفصحى، ويسعون لقلب أوضاعها، وإحلال اللغة العامية في التعليم والكتابة والخطابة محلها، ولا ذنب لها -فيما يضمرون- إلا أنها لسان هدى الله، تعرض حكمته، وتقرر حجته، وبوسائل لست أدرى بها منكم، فإن هؤلاء المبطلون بمظاهر مكنتهم من ترويج دعايتهم، والوصول إلى بعض مآربهم، حتى وقع كثير من صغار العقول في حبائل تضليلهم. وكان من أثر هذه المظاهر: إحجام كثير من الناس عن دعوة الحق، يخشون سطوتهم، أو فوات بعض المنافع التي شأنها أن تجيء على أيديهم، وكان من أثر انتشار دعوتهم: يأس الناس من أن توجد قوة تكسر قناتهم، وتنصر الحقائق على أباطيلهم، ونعوذ بالله من الجبن. وكنت أوشكت أن أقف على شفا حفرة من اليأس، وخيل إلي أن الروح الإِسلامية النقية السامية ستذهب حيث يذهب الجيل الذي نشأ قبل أن يكون للإلحاد دولة، ولمعتنقيه صولة، وسرعان ما أرانا الله تعالى شباباً في مصر وغير مصر تقلبوا في بيئات تلك الدعايات الغاوية، وترددوا على مجالس زعمائها، ولكنهم يحملون في صدورهم إيماناً راسياً، ويعتزون بآدابهم الإِسلامية أينما كانوا، ويفقهون أن سبيل العزة والحياة الطيبة، هي السبيل التي هدى إليها الدين الحنيف.

بلقاء أمثال هؤلاء الشبان الموفقين أخذ الأمل في إصلاح شؤوننا الاجتماعية ينمو في القلوب، ويبعث على العمل للنهوض، وأذكر شاهداً على هذا: أني كنت لقيت أحد المتصلين بجمعية الشبان المسيحية في القاهرة، ففاجأني بنبأ هو: أن بعض الشبان المسلمين دخلوا في جمعية الشبان المسيحية، وصاروا من أعضائها، فأخذني أسف يقطع الأكباد، وقلت في نفسي: هل من الميسور تأليف جمعية للشبان المسلمين تصرفهم عن غشيان جمعية بطانتها الدعوة إلى المسيحية؟ وذهبت تواً إلى المطبعة السلفية، فلقيت طالباً من طلاب دار العلوم، فعرضت عليه هذه الأمنية، وقلت له: اذكر هذا بين الطلاب، وانظر ماذا ترى منهم، وأيدني في هذا الاقتراح الأخ الأستاذ محب الدين الخطيب، فجاء الطالب من الغد، وقال: وجدت من بعضهم إقبالاً، وحضر بالمطبعة السلفية بعض طلاب الجامعة المصرية، وخاطبناهم على أن يقوموا بالدعاية للجمعية في الجامعة، ففعلوا، وكان هذا بداية تأسيس جمعية الشبان المسلمين في القاهرة، وعرفنا من ذلك النجاح أن الشاب المسلم إنما تأخذه الشبهة، ويحيد عن سبيل الرشد، حيث لا ترعاه قيادة رشيدة، أو يطرق سمعه دعوة حكيمة. وإني لأرتاح -أيها السادة- لكل مقالة أو محاضرة تقرر فيها حقيقة، أو تدفع فيها شبهة، ويبلغ ارتياحي أشده عندما تكون المقالة أو المحاضرة صادرة من شباب استضاء بنور الإيمان الصادق، وعزّزه بثقافة عصرية راقية. ولقد حمدت الله تعالى من صميم فؤادي إذ عرفت في سورية شباباً لم يكتفوا أن يكونوا في أنفسهم على بصيرة من هدى الله، بل ترقَّى بهم نبلهم أن أصبحوا يبحثون عن نواحي الإِصلاح، ويدعون إليه بأساليبهم البارعة،

مثل الأساتذة: مصطفى الزرقا، ومحمد المبارك، وعلي الطنطاوي، وأحمد مظهر العظمة، ومحمد بن كمال الخطيب. وما دامت أصوات هؤلاء الشبان المجاهدين تعلو مع أصوات شيوخ سورية الموقرين نكون على ثقة من أن مستقبل الإِسلام في هذه البلاد ضياء وسناء. والواقع أيها السادة: أن الأمة لا تظفر بحريتها، أو تستعيد مجدها إلا بشباب يقفون بجانب الحكماء من شيوخها، فإن للشيوخ تجارب تساعد على أن يكون تدبير الأمور محكمًا، وفي الشباب إقداماً وقوة على النهوض بجلائل الأعمال، قال الشاعر في القديم: إن الأمورَ إذا الشبّانُ دبرها ... دونَ الشيوخ يُرى في بعضها خَلَلُ ويصح أن يقال: إن الأمور إذا الأشياخُ باشرها ... دون الشباب يُرى في بعضها خَلَلُ وأعود فأقول: إن تأليف الجمعيات الثقافية الإِسلامية من مقتضيات هذا العصر، وليس على هذه الجمعيات إلا أن تقوم على نشر حقائق الإِسلام وآدابه بالحجة، وتتحامى في سيرتها ما لم يأذن به الدين الحق، حتى تفوز برضا الله - صلى الله عليه وسلم - وإقبال الأمة. وأختم كلمتي بعرض خاطر تبادر إلى بعض أذهان في مصر، وسعوا له، ولم يأت سعيهم بثمرة، وهو: توحيد الجمعيات الإِسلامية بجعلها جمعية واحدة، وفي رأي هؤلاء أن صوتها يكون حينئذ أقوى من صوتها وهي متفرقة. ولا نرى بأساً في تعدد الجمعيات؛ فإن القائمين بها قد تختلف أنظارهم

في الوسائل التي توصل إلى الغرض الذي هو الإصلاح، ثم إن تعاونها -عندما تعرض أمور مهمة تحتاج إلى تآزر- يغني عن توحيدها الذي هو متعسر أو متعذر، وربما أفضى إلى أن تحرم الجمعية مجهودات رجال يريدون أن يتخيروا العمل في الجمعية التي تلائم عواطفهم، وترتاح إليها ضمائرهم.

العرب والسياسة

العرب والسياسة (¬1) كثر القول بين المستشرقين، ومن نقل عنهم: بأن ابن خلدون يذم العرب، ويتنقصهم، وينفي عنهم القدرة على سياسة الملك، والنهوض بأمر الرعية، وأطلقوا هذا القول إطلاقاً لم يفرقوا فيه بين حياتهم الجاهلية، وحياتهم الإِسلامية. وأذكر أني حين كنت في ألمانيا، أيام الحرب الأولى، حضرت حديثاً يدور بين مدير الاستخبارات الألمانية وسكرتيره أثناء سفرنا إلى قرية ويزندرف، سألني المدير في نهايته فقال: أليس كذلك يقرر ابن خلدون؟ قلت: وماذا يقرر؟ قال: "إن العرب لا يصلحون لملك، ولا يحسنون حكماً للأمم"، قلت: إنما خص ذلك بعهد الجاهلية، وقرر أنهم في الإِسلام أحسنوا السياسة، وقاموا بأعباء الملك خير قيام، وقد بين ذلك غاية البيان في فصل عقده في "مقدمته" ذكر فيه أن العرب أبعدُ الأمم عن سياسة الملك، فقال: "بعدت طباع العرب لذلك (¬2) كله عن سياسة الملك، وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم، وتبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم، وتجعل ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام "- العدد الثامن من السنة التاسعة الصادر في شهر ربيع الثاني 1357 هـ الموافق شهر نوفمبر تشرين الثاني 1955 م - القاهرة. (¬2) يشير بذلك إلى ما قدمه من بداوتهم وخشونة حياتهم، وامتناع طباعهم على الخضوع لحاكم.

الوازع لهم من أنفسهم، وتحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض، واعتبر ذلك بدولتهم في الملة، لمّا شيّد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهراً، وباطناً، وتتابع فيها الخلفاء، عظم حينئذ ملكهم، وقوي سلطانهم". فابن خلدون حكم على العرب بالبعد عن سياسة الملك عندما كانت طباعهم الجاهلية لا تلائم الملك، ولكن لما بدل الإِسلام طباعهم الخشنة بطبائع لينة، مارسوا الملك بسياسة رشيدة، ونهجوا في الحكم أقومَ نهج، وسلكوا أعدلَ سبيل، فعظم ملكهم، وقوي سلطانهم. ويحسن أن نشير هنا إلى أن سياسة الملك هي: التصرف في الوقائع العامة على حسب مقتضى أحوال العصر الذي يعيش الناس فيه، والبراعةُ في السياسة، وملاءمتُها لهذه المقتضيات تتوقف على ذكاء وافر، وحلم واسع منضبط، وعزم صارم في إنفاذ العقوبة فيمن يستحقها. أما الذكاء، فقد كان موفوراً لهم، ومن دلائله: لغتهم التي نزل بها القرآن على ما يستعملونه من حقيقة ومجاز، واستعارة وكناية وتعريض. وأما الحلم والعزم، فقد لازمهم النقص فيهما زمن الجاهلية، فكانوا يقتلون القوي بالضعيف، والجماعة بالواحد، والحر بالعبد، والذكر بالأنثى، ويعتدي أحدهم أشدَّ مما اعتُدي عليه، حتى قال بعضهم: ألا لا يجهلَنْ أحدٌ علينا ... فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا وكان رئيسهم يشعر بالحاجة إلى العصبية لكل من يقول بنصرته ظالماً أو مظلوماً، فيكفّ يده عن معاقبة المعتدين إذا كان من قبيلته خشية أن يخذله هو وأقاربه، وشأن العرب، بل الناس ألا يحكموا على أبيهم وأقاربهم بالاعتداء

على الحقوق، وشأنهم أن ينسبوا إلى عدوهم الاعتداء. فلما جاء الإِسلام، سلك سبيلَ الرشد في ذلك كله، فنهى الله -سبحانه وتعالى- من اعتُدي عليه عن أن يعتدي بأكثر مما اعتُدي به عليه، فقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وأذن للمعتدَى عليه بأن ينتقم ممن اعتدى بمثل اعتدائه، قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وحث على العدل دائماً، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]. وندب الإِسلام إلى الحكم ممن صدر منه الزلل مراعاة لمكارم الأخلاق، فمن أغضى عن زلل معتد، فقد قضى حق مكارم الأخلاق، ومن اعتدى بمثل ما اعتدي به عليه، فقد قضى حق نفسه، وقد قال الخليفة المأمون: لو علم الناس ما أجده من لذة العفو , لتقربوا إلينا بفعل الجنايات. لكن إذا علم الإِنسان أن قصد من اعتدى عليه إذلاله ومهانته، فذلك موضع العمل بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39]. ومعرفة موضع الانتقام من موضع الحلم يرجع إلى الذكاء المهذب، كما قال الشاعر: يقولون رفقاً قلت للحلم موضعٌ ... وحلمُ الفتى في غير موضعه جهلُ ومن صفات من يتولى سياسة الناس أن يكون شجاعاً؛ حتى يكون قادراً على إنفاذ العقوبة فيمن وجبت عقوبته، فقد يكون مرتكب الكبيرة شديداً بنفسه أو بأنصاره، فلا ينفذ فيه العقوبة إلا شجاع قوي، وكانت الشجاعة من أظهر صفات العرب في الجاهلية والإِسلام، ومن الدلائل على ذلك:

الحروبُ المتواصلة بين القبائل، وعجزُ الدول الكبيرة عن الاستيلاء على بلادهم، إلا أطرافًا اقتطعت أيام المناذرة في العراق، وأيام الغساسنة في الشام. ومن اجتمعت فيه صفات السياسي البارع؛ من ذكاء، وحلم، وشجاعة، وعزم على إنفاذ العقوبة في الجناة، لزمه أن يتخذ رجالاً أقوياء، كما قال الشاعر في معز بن باديس: وإنَّ ابنَ باديسٍ لأكبرُ حازمٍ ... ولكن لعمري ما لديه رجالُ فلم يُخذل ابن باديس إلا من جهة أنه ليس له رجال يقومون بمساعدته، ومدّ يد المعونة له، وشدّ أزره. واستطرد ابن خلدون في تحليل أخلاق الساسة، فذكر: أنه قلما تكون مَلَكة الرفق فيمن يكون يقظاً شديد الذكاء، وكثيراً ما يوجد الرفق في الغفل والمتغفل، وأكثر ما يكون في اليقظ أن يكلف الرعية فوق طاقتهم؛ لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم، واطلاعه على عواقب الأمور في مبادئها بألمعيته، فيهلكوا، ولذا اشترط الشارع في الحاكم قلة الإِفراط في الذكاء. وفي قصة زياد بن أبيه دليل على هذا، وهي: أنه لما عزله عمر عن العراق، قال: لم عزلتني يا أمير المؤمنين؟ ألعجز أم خيانة؟ فقال عمر: لم أعزلك لواحدة منهما، ولكن كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس. فيؤخذ من هذا: أن الحاكم لا يكون مفرط الذكاء والكيس؛ كزياد، وعمرو. وفات ابنَ خلدون أن التاريخ الصحيح ذكر أن عمرو بن العاص فتح مصر، وبقي والياً عليها حتى توفي - رضي الله عنه -، فعلمنا -مما سبق-: أن الشريعة

إنما كرهت ولاية المفرط في الذكاء؛ لأنه يحمل الناس على ما يدرى في العواقب من الحقائق، فيعنف بهم، على حين أن الحال توجب حملهم على ما يقتضيه عصرهم الحاضر؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها -: "لولا أن قومك حديث عهد بكفر، لبنيتُ الكعبة على قواعد إبراهيم". فالإِسلام أخرج العرب من بداوتهم، وأنشأ منهم أمة صالحة السياسة، مصلحة الحكم، عادلة السيرة، عرف منهم التاريخ مُثلاً عالية في الحكمة والرفق بالرعية، والعدل في الحكومة، وهم الخلفاء الراشدون، كما عرفت السياسة من المسلمين دهاة اشتهروا بأصالة الرأي، وجودة التدبير؛ كمعاوية ابن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وزياد بن أبييه، والمغيرة بن شعبة، فذلك أثر الإِسلام في العرب، وفضل الله بالنبوة عليهم، وكان فضل الله عظيماً.

لهجة بلاد الجزائر

لهجة بلاد الجزائر (¬1) الجزائر: اسم مدينة على شاطئ البحر الأبيض، كانت تسمى: جزائر بني مزغنان. ويطلق اسم الجزائر على المملكة نفسها، ويحدّ هذه المملكةَ من الشمال: البحر الأبيض، ومن الجنوب: الصحراء الكبرى، ومن الشرق: تونس، ومن الغرب: المغرب الأقصى. وسكان هذه البلاد في الأصل من قبائل البربر، وهي القبائل التي كانت مواطنها بلاد المغرب، من بُرقة إلى البحر الأطلنتي "المحيط الأخضر"، ثم استوطنها بعد الفتح الإِسلامي جماعات كبيرة من العرب، منهم الفاتحون، وبعضهم مهاجرون، وجموع من بني هلال بن عامر وسليم بن منصور، الذين هبطوا مصر، ثم نزحوا إلى بلاد المغرب سنة 444 هـ بإغراء من الخليفة الفاطمي المستنصر؛ لينتقم بهم من أمراء صنهاجة الذين كانوا متعلقين بخلافة بني العباس، ثم نزل بلاد الجزائر كثير من مسلمي الأندلس عندما استولى الإسبان على بلادهم سنة 897 هـ، وفي سنة 1509 م هجم عليها الإسبان، واحتلوا بعض البلاد الساحلية حتى جاء الأتراك فأجلَوهم عنها، وأصبحت الجزائر تابعة للدولة العثمانية في حدود سنة 945 هـ - 1516 م. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الرابع من المجلد التاسع الصادر في شهر شوال 1355 هـ - القاهرة.

وفي سنة 1246 هـ - 1830 م احتلتها فرنسا، واستوطنها من الفرنسيين وغيرهم من الأوربيين أمة كبيرة، ويبلغ عدد الأوربيين من الفرنسيين وغيرهم نحو ثمان مئة ألف نسمة، ويبلغ عدد الوطنيين نحو خمسة ملايين، وست مئة ألف. ومن بين الوطنيين طائفة اليهود الذي وردوا من فلسطين، أو من إسبانيا، أو كانوا من قبائل البربر، ودخلوا في الديانة الموسوية على أيدي أولئك الواردين. * لغة الجزائر عربية معرفة: كان سكان الجزائر يتكلمون باللغة البربرية، ثم دخلتهم اللغة العربية مع الفتح الإِسلامي، ولأن العربية لسان الفاتحين، ولسانُ الدين الذي أقبل عليه أهل البلاد، ودخلوا فيه برغبة واغتباط، أخذت تطارد اللغة البربرية، وتنتشر في المدن والقرى حتى أصبحت الجزائر معدودة في الأقطار التي تتكلم باللغة العربية؛ كمصر، والشام، والعراق. والذين يتكلمون بالعربية في ذلك القطر "وهم عرب أو مستعربون " يقدّرون بنحو أربعة أخماس الأمة، أما الخمس الباقي، فمن قبائل البربر، وهؤلاء يتكلمون باللغة البربرية، ومعظمهم يجيدون العربية زيادة على لغتهم الأصلية. فلغة الجزائر عربية، ولكنها عربية معرفة، ومن غرضنا: البحث عن أسباب تحريفها، ووجوهه، ثم النظر في طرق ردها إلى العربية الفصحى. * أسباب تحريفها: حدثناك -فيما سلف-: أن أصل لغة الجزائر البربرية، وأن اللغة العربية طارئة عليها، والشأن أن يكون للغة الأصلية أثر ظاهر في اللغة الطارئة، وعرفت أن أمماً غير عربية استولوا على البلاد من بعد، وهم الإِسبان، والأتراك،

والفرنسيون، ولا بد أن يكون لهذه الأمم أثر تزداد به خروقُ التحريف سعةً على سعتها. وإذا وجدنا في لهجة الجزائر العربية ألفاظاً من غير لغات الأمم السالفة الذكر، فلا ننسى أن من الواردين على الجزائر طوائف من الأندلس، فمن القريب أن يكونوا قد حملوا إليها ألفاظاً مما دخل في لهجتهم الخاصة. ثم إن البربرية نفسها قد دخل فيها ألفاظ كثيرة من لغات الأمم، التي كانت مجاورة لبلاد البربر؛ كالمصريين الذين كانوا مجاورين لسكان لوبيا الجنوبية، واليونان الذين استولوا على جانب من لوبيا الشمالية، والكنعانيين الذين نزلوا بتونس، وأنشؤوا بها مدينة قرطاجنة. ويضم إلى هذا: أن تعليم العربية لم يجر في الجزائر على وجه يقاوم هذه الأسباب، ويقف أثرها عند حد، وإذا وجد في العصور الماضية دراسة للغة العربية، ففي مواطن خاصة؛ مثل: الجزائر، أو قسنطينة، أو تلمسان، أو بجاية، أو بسكرة، ثم إن هذه الدراسة خاصة بأفراد لا يبلغ عددهم من الكثرة أن يحدثوا في اللغة الدارجة إصلاحاً، وربما كان من أولئك المجيدين للعربية من يجاري العامة في لهجتهم، وهو يشعر بوجوه تحريفها، ويدري كيف يعيدها إلى أصولها الصحيحة. وإذا حدثناك عن التحريف الذي يوجد في لهجة الجزائر اليوم، فإنما نحدثك عما يجري في حديث الجمهور، أو الطبقات التي تلقي الكلام على فطرتها، ولا ننكر أن لهجة الطبقة المتعلمة في الجزائر أخذت ترتفع عن اللهجة العامية، وأن عدد هذه الطبقة آخذ في النمو. والسبب في هذا: أن النهضة الاجتماعية العلمية التي ظهرت في الشرق، وكان من أغراضها إصلاح

اللغة، قد امتدت أشعتها إلى بلاد الجزائر، فقام هنالك نشئ يعنون بقراءة الصحف العربية، ويلقون المحاضرات، ويحررون المقالات على الطريقة الملائمة لروح العصر. وقد عُني أهل الجزائر في العهد الأخير بالرحلة في طلب العلم، فكثر عدد الطلاب الذين يلتحقون بالمعاهد الدينية والمدارس العلمية في تونس، ومصر، وغيرها من البلاد، فيحرزون الشهادات العالية، ثم يعودون إلى أوطانهم، والمؤمل أن تجد اللغة العربية من هؤلاء النابهين أيدياً عاملة لبسط سلطانها، وإعلاء شأنها. وفي الجزائر طائفة من العامة يتصلون بالفرنسيين كثيراً؛ كبعض العَمَلَة، ومن يقضون في الجندية مدة طويلة، فلهؤلاء لهجة تحتوي من الألفاظ الفرنسية أكثر مما تحتويه لهجة الجمهور، حتى بعدت عن العربية إلى حد بعيد، وهؤلاء هم الذين يعسر على الشرقي فهم كلامهم، ومن لم يعرف أن هذه لهجة خاصة بتلك الطائفة، حسبَها لهجةَ الجزائريين عامة، واعتقد أن لسان سكان الجزائر خرج، أو كاد يخرج عن لهجات العربية الدارجة (¬1). ¬

_ (¬1) ذكر في نهاية البحث كلمة: (يتبع)، ولم نجد تتمة للبحث في أعداد مجلة "الهداية الإسلامية" التالية.

إلى كل مسلم يحب العمل في سبيل الله

إلى كل مسلم يحب العمل في سبيل الله (¬1) لقد انكشف الغطاء عما كان مستوراً من خفايا المدارس التي تديرها جمعيات التبشير، وما لهذه الجمعيات من ملاجئ ومستشفيات، وثبت للجمهور أن ما ارتكبه هؤلاء المضللون في بناتنا وأبنائنا مخالف للقوانين والمروعات وأصول الديانات، فضلاً عن إهانتهم الأمة؛ بتحاملهم على دينها، واستخفافهم بقرارات الحكومة، ومحاولتهم مخالفة النظام. وقد رأى المسلمون بعيونهم، ولمسوا بأيديهم الخطرَ المحقق؛ من إدخال أبناء المسلمين وبناتهم مدارس هؤلاء المعتدين على الإسلام، ومن تردد الرجال والنساء على مستشفياتهم وملاجئهم. إن المبشرين لم يأخذوا أبناء المسلمين وبناتهم بالقوة من بيوت آبائهم، وإنما الذي قذف بهؤلاء البنات والأبناء إلى هذه المدارس هم آباؤهم، وولاة أمورهم، فجنَوا بذلك على الوطن، وعلى الدين، وعلى رجال المستقبل، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد الخامس الصادر في شهر ربيع الثاني 1352 هـ - القاهرة. ونشر في مجلة "الفتح" العدد 351 من السنة الثامنة الصادر في 6 ربيع الأول 1352 هـ بالقاهرة تحت عنوان: "نداء من جمعية الهداية الإسلامية إلى المسلمين لإخراج أولادهم من مدارس المضللين".

وأمهات المستقبل أعظمَ جناية. إن "جمعية الهداية الإسلامية" توجه هذا النداء إلى كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، بأن يعمل ما استطاع لإنقاذ هذه الضحايا من هذه الأماكن الخطرة، فمن وصل إليه هذا النداء من المسلمين والمسلمات، وله ابن أو بنت، أو قريب أو قريبة، في أية مدرسة غير إسلامية، يجب عليه أن يبادر في الحال إلى إنقاذه منها، لاسيما والسنة الدراسية انتهت، فيجب أن لا يتجدد دخول تلميذ مسلم أو تلميذة مسلمة مدرسة غير إسلامية بعد الآن، مهما كانت الحال. وكل من يصل إليه هذا النداء من المسلمين والمسلمات، وهو يعلم أن لصديقه أو جاره، أو زميله أو مواطنه ولداً أو بنتاً في مدرسة غير إسلامية، عليه أن يبذل ما استطاع من قوة لحمل هؤلاء على إخراج أولادهم وبناتهم من ذلك الوسط الذي رأى الناس جميعاً شدة ضرره وخطره. لا ريب أن المسلمين في ألم عظيم من الإهانات الواقعة على الإسلام في جهات كثيرة، وكل مسلم يسأل عن العمل الذي يستطيع أن يقوم به، فجمعية الهداية الإسلامية توجه نظر كل من يقع نظره على هذا النداء من المسلمين إلى هذا النوع من أنواع الجهاد، وتؤكد لهم أن العمل فيه له عند الله ثواب العبادة. أيها المسلمون! يجب أن لا تبدأ السنة الدراسية الجديدة وفي مدارس المبشرين مسلم أو مسلمة، وإذا مضى سنتان أو ثلاث على مدارسهم، وليس فيها مسلم، فإنها ستقفل من نفسها، وتستريح الأمة منها. هذا ميدان من ميادين العمل، والله يحب العاملين.

تعقيب على حديث

تعقيب على حديث (¬1) نشر في الجزء الثامن من هذه المجلة مقال بقلم حضرة صاحب السعادة الأستاذ علي زكي العرابي باشا موضوعه: "الشريعة الإسلامية والقانون المصري " أثنى فيه سعادته على فقهاء الإسلام، وقال: "إنهم سبقوا الأوروبيين في الإحاطة بجميع المسائل الفقهية أصولاً وفروعاً بما لا نجد زيادة عليه اليوم من الفقه الأوروبي"، ووصف شروحهم بالدقة في الفكر، والسعة في البحث. وهذه شهادة من سعادته بأن في الفقه الإسلامي ثروة طائلة من القوانين تفي بمقتضيات الحياة الاجتماعية، وتنتظم بها شؤون المدنية على أقوم سبيل. وتعرض سعادته في عبارة مجملة للمقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون المصري، وقال: "فإذا نظرنا إلى القسم المدني، وقارناه بالمعاملات في الشريعة الإسلامية، واستثنينا من القانون المدني مادة واحدة، هي الخاصة بالربا، خرجنا من هذه المقارنة بأن كلا القسمين يطابق الآخر مطابقة تكاد تكون تامة". كيفما يكون حال الفرق بين الشريعة والقانون المصري من القلة أو الكثرة، فإنه لا يمس الشريعة بشيء، ما دامت الشريعة هي السابقة على القانون ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد التاسع من السنة الأولى الصادر في الأول من جمادى الأولى سنة 1367 هـ والموافق 12 مارس آذار 1948 م.

الفرنسي المأخوذ منه القانون المصري، وقد نبه سعادته لهذا، فقال: "إن فقهاء المسلمين قد سبقوا الباحثين في القوانين الأوروبية إلى بحث المسائل القانونية، وأدلوا برأيهم فيها". وتعرض سعادته للحدود والتعازير، وقال: "إن القرآن الكريم قد نص على جرائم خاصة، ووضع لها حدوداً توقع على مرتكبيها، وترك ما عدا ذلك من الجرائم للحاكم يقرر عقوبتها حسبما يشاء، مع مراعاة الزمان والمكان والبيئة، وهذا هو الذي يسمى: التعزير". ثم قال: "ومن أجل ذلك نستطيع القول بأن قانون العقوبات الحالي هو كله من قبيل التعزير المباح شرعاً". حقٌّ أن الشريعة الإسلامية وكلت أمر التعازير إلى اجتهاد الحاكم. ونزيد على هذا: أن التعزير على الجرائم لا يعد تنفيذًا لحكم شرعي إلا أن يتولاه الحاكم على اعتبار أن الشارع أذن فيه، وأنه ينفذه احتفاظاً بالمصلحة التي راعاها الشارع في تشريعه، أما إذا تولاه بصفته منفذاً لقانون وضعي، فقد انقطعت الصلة بينه وبين الشريعة، وفاته ما يترتب على تنفيذ أحكامها من تلقي أوامر الخالق تعالى بحسن الطاعة، ثم إن الأمة لا تطمئن إلى أن تساس بالقوانين الوضعية، وإن قيل لها: إن هذه القوانين تطابق الشريعة مطابقة تامة. وكأن سعادته على ذكر من هذا المعنى الذي هو روح التشريع الإسلامي، فأشار في آخر مقاله على المتخصصين في الشريعة الإسلامية أن يجروا في مؤلفاتهم على الأساليب التي يأخذ بها العلماء المؤلفون اليوم في علم الحقوق من الأوروبيين، ورأى أن أجدر الناس بالقيام بهذه المهمة العظيمة "الذين درسوا القوانين الأوروبية، وكانوا مع ذلك متعمقين في دراسة الشريعة الإسلامية".

ربما كان الجمع بين دراسة القوانين الأوروبية والتعمق في الشريعة الإسلامية نادراً لا يكاد يتحقق في أفراد يصح أن تناط بهم هذه المهمة، وأيسر من هذا أن يجتمع أساتذة ممن رسخوا في فهم الشريعة الإسلامية، وأساتذة درسوا القوانين الأوروبية دراسة وافية، ويجلسون وهم مؤمنون بمصدر الشريعة، وموقنون بحكمتها، فليس من شك في أنهم سيؤدون كما قال الباشا في آخر مقاله: "للشريعة السمحة، وللملايين الذين يعملون بأحكامها أجلَّ خدمة تبقى على تعاقب الأجيال". وذكر سعادته: "أن الجرائم ذات الحدود في القرآن الكريم لم يتركها القانون المصري، بل لا يزال يعتبر كثرها جرائم، ووضع لها عقوبات جديدة رادعة". أشار سعادته إلى أن القانون المصري لم يعتبر بعض الجرائم ذات الحدود في القرآن الكريم جرائم، فقد قال: "لا يزال يعتبر أكثرها جرائم". وهذا فرق بين الشريعة والقانون المصري لا يُستهان به. ثم إن ما يعتبره القانون المصري جرائم قد وضع له عقوبات غير ما نص عليه القرآن، وأمر بتنفيذه في غير هوادة. وإذا اختلف القرآن والقانون المصري في بعض ما يرتكب من الأفعال: القرآنُ يعده جريمة، والقانونُ يعده شيئاً لا حرج فيه، واختلفا في عقوبات ما يتفقان على أنه جريمة، فالأمة المسلمة معذورة كلَّ العذر إذا طالبت بأن تكون سياستها القضائية والتنفيذية والاجتماعية قائمة على أساس التشريع الإسلامي دون ما سواه.

مناظرة البطريرك الماروني

مناظرة البطريرك الماروني (¬1) أرى أن المناظرة الشفوية لا تجدي نفعاً، ولسنا في حاجة ملحة إليها، ولدينا غير ذلك وسائل كثيرة؛ لأنها -غالباً- لا يتوفر فيها الجو الصالح، ويغلب عليها التحيز، وعدم التمييز الصحيح، وكثيراً ما يندس فيها من لا يفقهون قيمة هذه المناظرات، وتكون أشبه بحلبة رياضية، لكل فريق من يؤيده، ويحاول بشتى الطرق المشروعة كسبَ النصر لشيعته، وإظهارَ أمرها، سواء كانت على الحق، أم على الباطل. ولم يعهد في المناظرات العادية ذات المواضيع البسيطة أن تنتهي على وجه قاطع، أو صورة نهائية، فما بالك بمناظرة تقوم على أساس البحث حول: أيّ الأديان أحق؟! لذلك فإني أرى أن المناظرة على طريقة الكتابة أفيد؛ إذ يمكن بها تسجيل الآراء، ولا يخشى معها حدوث ما لا تحمد عاقبته، أو تخشى مَغَبته، ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن السابع والثامن من المجلد التاسع عشر، الصادران في عدد واحد عن شهري محرم وصفر سنة 1366 هـ - القاهرة. وكان مندوب إحدى المجلات في القاهرة قد استطلع رأي الإمام فيما دعا إليه البطريرك الماروني في لبنان من المناظرة في: أي الأديان حق؟ وقد أجاب الإمام بهذه الكلمة.

ولا سيما مناظرة يؤخذ فيها بالأناة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ويكون هدفها الوصول إلى الحقائق، والسعي إليها، خصوصاً وأن المناظرة بالكتابة تكون أكثر ذيوعاً وانتشاراً، فتطَّلع عليها كبرُ مجموعة من الناس، إذا كان المقصود من المناظرة الشفوية شهود جماعة من الناس لها، وتتاح حيمئذ فرصة كبيرة لكي يدرس الناس الإجابات المختلفة، ويتمكنوا من إصدار حكم صحيح عليها. فإن كان البطريرك الماروني مخلصاً في دعوته، ورضي بأن تكون المناظرة على طريقة الكتابة، فليفتتح البحث في الموازنة بين الأديان، ونحن مستعدون لأن نأخذ معه بأطراف المناظرة في هذا الموضوع، حتى يتبين الحق من الباطل.

طريق الشباب

طريق الشباب (¬1) العصور في أنفسها متماثلة، وتفاضلُها على قدر ما تُنبت من الرجال المصلحين: وما فاقت الأيام أخرى بنفسها ... ولكنَّ أيامَ المِلاحِ مِلاحُ وإذا كان افتخار العصور وضياؤها على مقدار ما تخرجه من عظماء الرجال، فسيكون لعصر هؤلاء الشبان فخر يناطح الثريا، وضياء يرمي بشعاعه أينما التفتوا؛ فإني ألمح بين تلك الجوانح يقظة، وشجاعة أدبية، واليقِظُ يسير في سبيل الحكمة، والشجاع يخوض المصاعب في طمأنينة وتؤدة. لا يختص اسم العبقري بالعالم المبدع، والخطيب المصقع، والشاعر المفلق، والفاتح الظافر، والسياسي الماهر، بل العبقريُّ كلُّ من يبلغ في خَصلة من خصال الكمال الذروة العليا، فيحق في أن أصف بالعبقرية ذلك الفتى الذي تتبرَّج له الغواية في مظاهر خلابة، فيقف دونها مطمئناً راشداً. ومن الذي لا يعلم أن حول شبابنا فتناً شأنُها أن تصرف قلوبهم عن ¬

_ (¬1) مجلة "الفتح" - العدد 75 من السنة الثانية الصادر في 21 جمادى الثانية سنة 1346 هـ والموافق 15 ديسمبر كانون الأول سنة 1927 م - القاهرة. وهي كلمهَ ألقاها الإمام يوم انتخاب مجلس إدارة "جمعية الشبان المسلمين" بالقاهرة.

الهدى، وشأنها أن تجعل بينهم وبين السعادة حجاباً غليظاً؟ ولكن نهوضهم بهذه الجمعية، وإقبالهم عليها بمجامع أفئدتهم، يخبرنا اليقين بأن تلك الفتن لم تستطع أن تتجاوز أسماعهم أو أبصارهم إلى أن تصمن قلوبهم، ذلك طيب المنبت، وصفاء الألمعية، ولا ترون ممن زكا منبته، وصفت ألمعيته إلا رشداً فيما يعمل، وسدادًا فيما يقول، وناهيكم بفتيان وجدوا الشرق على شفا موتة خاسرة، فأجمعوا سعيهم على أن ينفخوا فيه حياة ناعمة، ويُلبسوه مدنية طاهرة زاهرة. فكرة إنشاء هذه الجمعية -أيها السادة- منبعثة عن شعور تحمله قلوب الأمة على اختلاف مشاربها، وتباين مذاهبها، وما هو إلا الشعور بالحاجة إلى أن يكون أبناؤها على علم من مجد أسلافهم الأثيل، وأن يجمعوا إلى الثقافة العصرية هداية إسلامية، وقد صيغ قانون الجمعية على قياس هذا الشعور، فالجمعية لا تتدخل في أي ناحية من نواحي السياسة، ولا تحمل لرفقائنا من ذوي الملل الأخرى إلا مجاملة وسلاماً. فجمعية الشباب المسلمين جمعية الأمة قاطبة، وإن جمعية محفوفة برعاية شعوب عافت الخمول، وانطلقت في طرق الإصلاح بتلهف، لا تسكن ريحها، ولا تذبل -إن شاء الله- زهرتها. فامضوا -أيها الشبان النبغاء- في نهضتكم الغراء، ولتكن جمعيتكم مثالَ الإرادة القوية، والحرية المهذبة، والنظام الذي لا يدري التخاذل أين مكانه "وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا".

الحكمة وأثرها في النفوس

الحكمة وأثرها في النفوس (¬1) أريد بالحكمة: الكلام الذي يمنع من الجهل والسفه؛ كالمواعظ، والأمثال النافعة، وهي وليدة الذكاء والتجارب، فإِذا أقبل الذكي على ناحية من نواحي الحياة المدنية؛ كالاقتصاد، وغيره من شؤون الاجتماع، أو الخلقية؛ كالكرم، والشجاعة، ودرسها بذهن حاضر، كانت أقواله فيها أقرب إلى الصواب، وآراؤه فيها أرسخ في الحكمة، ولاسيما ذكياً يقرن النظر بالتجارب العملية، فقلما يقول الجبان كلمة تحمل على الإِقدام في مواقع الخطوب، وقلما يقول البخيل كلمة تحث على الإِنفاق في وجوه الخير. ولا غرابة في أن تصدر الحكمة ممن لقيَ العلماء، وضربَ في العلوم بسهم، وموضعُ الغرابة أن تخرج الحكمة من أفواه أناس لم ينشؤوا في علم، ولم يُعرفوا بجودة رأي، والحكمة في نفسها فضيلة، والتمسك بها غنيمة، وصدورها من غير ذي علم أو رأي لا يبخس قيمتها، ولا ينقص شيئاً من فضلها، فلا ينبغي للرجل يسمع الكلمة من رجل غير معروف بعلم، أو سداد رأي، فيستخف بها، ويزهد في اقتنائها، قال - صلى الله عليه وسلم -: "الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها، فهو أحقُّ بها"، فالحديث الشريف ينبه على أن الحكمة قد ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - العدد الثامن من المجلد الرابع - الصادر في شهر شعبان 1352 هـ.

توجد في غير مظانها، وتستفاد من غير أهلها؛ كما يقولون: "رمية من غير رام". قال ابن الأثير في كتاب "المثل السائر": "ومذ سمعت هذا الخبر النبوي، جعلت كَدِّي في تتبع أقوال الناس في مفاوضاتهم ومحاوراتهم؛ فإنه قد تصدر الأقوال البليغة، والحكم والأمثال ممن لا يعلم مقدار ما يقوله"، وأوردَ من كلام بعض العامة شواهدَ على أن الحكمة قد تستفاد من غير أهلها، ثم قال: "يجب على المتصدي للشعر والخطابة أن يتتبع أقوال الناس في محاوراتهم؛ فإنه لا يعدم مما سمعه منهم حِكَمًا كثيرة، ولو أراد استخراج ذلك بفكره، لأعجزه، ويحكى عن أبي تمام أنه لما نظم قصيدته البائية التي يقول فيها: عل مثلِها من أربُعٍ وملاعبِ انتهى منها إلى قوله: يرى أقبح الأشياء أوبة آملٍ ... كسته يد المأمول حلة خائب ثم قال: وأحسنُ من نوَرٍ يفتحه الصَّبا ..... ووقف عند صدر هذا البيت يردده، وإذا سائل يسأل عن الباب، وهو يقول: "من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا" فقال أبو تمام: بياضُ العطايا في سوادِ المطالب فأتم صدر البيت الذي كان يردده من كلام السائل. قد يقصد الرجل لإلقاء الحكمة في لفظ يستقل بها، وقد تجيء تبعاً

للحديث عن أشخاص، أو أشياء معينة؛ كما فعل ذلك الشاعر الذي قصد في نظمه الاعتذارَ عن قوم التزموا اللثامَ في سائر أحوالهم، حتى قال: لماحووا إحرازَ كل فضيلة ... غلبَ الحياءُ عليهمُ فتلثَّموا والحكمة التي انساقت تبعاً لهذا الاعتذار، هي: أن كثرة الفضائل تستدعي غلبة الحياء. ومن الشعراء من يقصد للهزل، ويرمي إلى غرض المزح، فتجود قريحته في أثناء ذلك بالحكمة، نظم علي بن عبد الواحد الملقب (صريع الدلاء) مقصورة في الهزل يعارض بها مقصورة ابن دريد، وما زال يخوض بها في هزل إلى أن جاء فيها بيت يقال: إنه قد حُسد عليه، وهو: من فاته العلمُ وأخطأَه الغِنى ... فذاك والكلب على حد سَوا وقد يتوهم متوهم أن الشعر يغلب فيه التخييل، فلا يكون موطناً للحكمة، فأزاح - عليه الصلاة والسلام - مثل هذا الوهم بقوله: "إن من الشعر حكمة". يختلف الناس في النطق بالحكمة اختلاَفهم في ألوان نشأتهم، وأساليب تربيتهم، ويختلفون في الإِصغاء إلى الحكمة، أو الإِعجاب بها اختلافهَم في الارتياح للغرض المسوقة إليه، فالكريم -مثلاً- يطرب لسماع الحكم الواردة في الكرم أكثرَ مما يطرب له البخيل، والشجاع يرتاح لسماع الحكم الواردة في الشجاعة أكثرَ مما يرتاح له الجبان. اتلُ في حضرة جواد وبخيل قول الشاعر: ولو لم يكن في كفه غير نفسِه ... لجاد بها فليتق اللهَ سائلُه لا شك أنك ترى أثرَ الطرب في وجه الجواد أكثرَ مما تراه في وجه البخيل.

واتلُ على مسامع شجاع وجبان قولَ الشاعر: أقول لها وقد طارت شَعاعاً ... من الأبطال: ويحك لن تُراعي فإنك لو سألتِ بقاء يوم ... على الأجل الذي لكِ لن تُطاعي ثم انظر كيف وقع البيتان من أنفسهما، فإنك ترى وجه الشجاع في ابتهاج، ولا تكاد ترى في وجه الجبان طلاقة، إلا أن يتكلفها تكلفاً. وانظر في كتب التراجم، تجدِ المؤلفين ينبهونك في كثير من الأحيان للحكمة التي أخذت من نفس صاحب الترجمة مأخذَ القبول والإِعجاب، ينبهونك لهذا حين يقولون لك: "وكان كثيراً مما ينشد كذا"؛ كما قالوا في سيرة الإمام مالك بن أنس - رضي الله تعالى عنه-؛ إنه كان كثيراً ما ينشد: وخيرُ أمور الدين ما كان سُنَّةً ... وشرُّ الأمور المحدَثاتُ البدائعُ وقالوا: كان عضد الدولة كثيراً ما ينشد قول أبي تمام: من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا وقالوا: كان الحسن بن علي الملقب: "فخر الكتاب" كثيراً ما ينشد: يندم المرء على ما فاته ... من لُباناتٍ إذا لم يقضِها وتراه فرحاً مستبشراً ... بالتي أمضى كأن لم يُمضها إنها عندي وأحلام الكرى ... لقريبٌ بعضُها من بعضها وقالوا: كان الخليل بن أحمد كثيراً ما ينشد قولَ الشاعر: وإذا افتقرتَ إلى الذخائر لم تجدْ ... ذخراً يكون كصالح الأعمال ولا أريد من هذا أن الحكمة لا تلقى إلا لمن شأنه الارتياح لسماعها،

بل عليك أن تقرع بها أسماع المنحرفين عن الحق أو الفضيلة أو العمل الصالح؛ لعلهم يألفونها، ويعود انقباضهم منها ارتياحاً. وكثيراً ما ينهض الرجل للعمل الصالح يكون في غفلة عنه، وما ينبهه له إلا بيت يحتوي حكمة. قال عبد الملك بن جريج: كنت مع معن بن زائدة باليمن، فحضر وقتُ الحج، ولم تحضرني نية، فخطر ببالي قولُ عمر بن أبي ربيعة: بالله قولي له في غير معتبة ... ماذا أردت بطول المكث في اليَمَنِ إن كنت حاولت دُنيا أونعمت بها ... فما أخذت بترك الحج من ثمنِ قال: فدخلت على معن، فأخبرته أني قد عزمت على الحج، فجهزني، وانصرفت.

العمل للكمال

العمل للكمال (¬1) ما أشبهَ اليومَ بالأمس! وإنما تتفاضل الأيام بقدر ما يظهر فيها من الخير، أو بقدر ما يزل فيها من الشر. وما فاقت الأيامُ أخرى بنفسها ... ولكنَّ أيام الملاح ملاحُ ولشهر رمضان مزايا أحرزَ بها فضلاً، واكتسى بها ملاحة، فهو الشهر الذي نزل فيه الكتاب المشهود له بالأثر البالغ في تهذيب النفوس، وإصلاح الاجتماع، وهو الشهر الذي وقعت فيه واقعة بدر التي هي فاتحة ظهور التوحيد على الشرك، وهو الشهر الذي فتحت فيه مكة، وانكسرت بهذا الفتح شوكة عبّاد الأوثان؛ حتى تسنّى لدعوة الحق أن تأخذ جزيرة العرب من أطرافها في وقت قريب، وهو الشهر الذي قدم فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفدُ ثقيف طائعين بالإِسلام، وانهالت عقبهم وفودُ العرب يَرِدون من كل وجه، ويدخلون في دين الإِسلام أفواجاً، وهو الشهر الذي استحب الشارع للناس أن يحسنوا فيه إلى البائسين فوقَ ما كانوا يحسنون، وثبت في الصحيح: أنه - عليه الصلاة والسلام - كان أجودَ الناس بالخير، وكان أجودَ ما يكون في رمضان. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الحادي عشر والثاني عشر -جمادى الأول والثاني 1365 هـ - القاهرة.

وهو الشهر الذي جعل مظهراً لأحد أركان الإسلام الخمسة -أعني: الصيام -، وللصيام آثار مشهودة في ارتياض النفوس الجامحة، وتمرينها على الخلق العظيم؛ كالصبر، والعفاف، والسخاء، على ما هو مبسوط في الكتب التي عُنيت بالبحث عن أسرار التشريع. وهو الشهر الذي تزداد فيه الأرصل صفاء من كثرة الإِقبال على الطاعات، وكذلك كان يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون الصادقون. وهذه المعاني السامية -التي حاز بها رمضان فضلاً وملاحةً- جديرة بأن يكون لنا فيها مأخذ عبرة، وموضع قدوة، فنتجه بعزيمة نافذة إلى الدعوة إلى الخير، والذود عن الحق، ومكافحة الباطل والبغي، والطموح إلى العزة، والرسوخ في الأخلاق السنية، والأخذ بوسائل المنعة، والعيش في حرية وطمأنينة، والتنافس في حسن الطاعة للخالق -جلّ شأنه-. وغفل بعض الناس عن هذه المعاني المنبئة أن رمضان شهر العمل لكمال الإنسانية، وحسبوه شهر عبادة لا تتجاوز الإِمساك عن الأكل والشرب بياضَ النهار، فلم يبالوا بعدَ هذا الإِمساك أن يشغلوا أوقاتهم النفيسة بما لا يقربهم من الفلاح شبراً، ولا يرفع لأمتهم ذكراً: شهرُ صومٍ وجهادٍ والفتى ... إن رمى عن قوس رشد لا يُبارى أنِّب النفسَ إذا هَمَّتْ بأن ... تقضيَ اليوم كما يقضي السُّكارى إنما الحازمُ من صام ولو ... لمح العزةَ في النجم لطارا هممٌ يختطّها الفكر دُجىً ... ويدُ الإصلاحِ تَبنيها نهارا (¬1) ¬

_ (¬1) هذه الأبيات للإمام - ديوانه "خواطر الحياة".

أسباب سقوط الأندلس

أسباب سقوط الأندلس (¬1) الأندلس قطعة من غربي أوربا، فتحها طارق بن زياد، وموسى بن نصير. واشتهرت فيها مدن؛ كقرطبة، وإشبيلية، وطليطلة، وغرناطة. وآلَ أمرُها إلى ولاة يتبعون العباسيين، إلى أن أتى عبد الرحمن الأموي، الذي عرف بعبد الرحمن الداخل، وسمّاه أبو جعفر المنصور: (صقر قريش). وأولى ما سقط في أيدي الإِسبان من بلاد الأندلس طليطلة، وهي وسط الأندلس كما قال بعض أدبائها: الثوبُ ينسل من أطرافه وأرى ... ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط وهي السبب في استدعاء ملوك الطوائف ليوسفَ بن تاشفين سلطانِ مراكش، فكانت واقعة الزلاقة، التي انتصر فيها المسلمون على أعدائهم، وما زالت الحرب قائمة بين الفريقين، وبلادُ الأندلس تسقط واحدة إثر أخرى، إلى أن استولى الإِسبان على غرناطة، وملحقاتها، وصارت ولاية إسبانية. وهي آخر الأندلس خضوعاً للعدو. ومن أسباب سقوط الأندلس: تفرق أمرائها، وعدمُ اتحادهم، فتسمَّى ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد التاسع من السنة الحادية عشرة الصادر في شهر جمادى الأولى سنة 1377 هـ الموافق شهر ديسمبر كانون الأول 1957 م - القاهرة.

كل من ملك شيئاً ملكاً كما قال ابن رشيق: مِمَّا يزهِّدُني في أرض أندلس ... ألقابُ معتضدٍ فيها ومعتمدِ ألقابُ سلطنةٍ في غير موضعها ... كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولة الأسدِ وجاء أبو الوليد الباجي من الشرق، فوجدهم متفرقين، وهو يعلم عاقبة التفرق، فأخذ يطوف عليهم، ويدعوهم إلى الوفاق والاتحاد، وهم يجملونه في الظاهر، ويستبردونه ويستثقلون نزعته. ومن أسباب سقوطها أيضاً: جبنُ كثير منهم بعد أن كان جيشها يستخف بالموت في سبيل الدعوة إلى الله، ورفعِ راية الإِسلام. قال الحافظ أبو بكر بن العربي في "الأحكام" عند قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]، وكان قد خرج في جيش واجه العدو حين هجم على بعض المدن، وانتصر العدو: "ولقد نزل العدو سنة سبع وعشرين وخمس مئة، فجاس ديارنا، وأسر جيرتنا، وتوسط بلادنا، فقلت للوالي والمولّى عليه: هذا عدو الله قد دخل في الشَّرَك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتكن منكم في نصرة الدين المتعينةِ عليكم حركة، وليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار، فيحاط به، فإنه هالك لا محالة، فغلبت الذنوب، ورجفت بالمعاصي القلوب، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وِجاره، وإن رأى المكيدة بجاره، فإنا لله، وإنا إليه راجعون". ومن أسباب سقوط الأندلس: أن العدو أغرى أهلها بالمال، فساعدوه على الاستيلاء عليها. وأذكر بهذه المناسبة: أن من الأمثال التي عرّبها العرب من لسان الفرس: أن الأشجار رأت فأساً ملقاة في أرضها، ففزعت منها، فقالت لهن شجرة:

لا تجزعوا منهاة فإنها لا تستطيع أن تكسرنا إلا إذا دخل فيها عود منا. وكذلك المستعمر لا يغلب المؤمنين إلا إذا عاونه طائفة من المسلمين. ومن نظر في تاريخ الأندلس، وجد كثيراً منهم ينفقون الأموال الطائلة في البناء الضخم وزخرفته، وقد أدرك هذا منذر بن سعيد البلوطي، فكان يعظ عبدَ الرحمن الناصر بخطبه وقصائده حين اعتنى بزخرفة البناء، فدخل عليه منذر وقد بنى مدينة الزهراء، فقال له: يا بانيَ الزهراء مستغرِقاً ... أوقاتَه فيها أما تمهلُ؟! للهِ ما أحسنَها منظراً ... لو لم تكن زهرتُها تذبُل! فقال له الناصر: إن سُقيت بماء الدموع، وهبَّ عليهما نسيم الخشوع، لا تذبل إن شاء الله. فقال المنذر: اللهم اشهد، فقد بلغت. وروي في تاريخها: أن المأمون بنَ ذي النون، صاحبَ طليطلة بنى قصراً، وأنفق أموالاً طائلة، فسمع منشداً يقول: أتبني بناء الخالدين وإنما ... بقاؤك فيها قد علمت قليل؟! ومن نظر في تاربخ الأندلس، وجد كثيرا منهم يتغالون في شرب الخمور، ومجالس اللهو، ويدل على أن كثيراً منهم وقعوا في المدنية الزائفة: أن أهل بلنسية حين هاجمهم العدو، خرجوا إليه في حلل من الحرير والزينة، فقال شاعرهم: لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستُمُ ... حللَ الحرير عليكمُ ألوانا ما كان أقبحَهم وأحسنَكم بها ... لو لم يكن في بترنة ما كانا يشير الشاعر إلى واقعة "بترنة" التي انهزم فيها أهل بلنسية.

ولما استولى العدو على غرناطة، خيّر المسلمين بالأندلس بين الدخول في النصرانية، أو الخروج من أرض الأندلس، أو القتل، فمنهم من غلب عليه حب ممتلكاته من المزارع والمباني، فاختار الإقامة، ومنهم من عز عليه دينهُ، فهاجر إلى إفريقية؛ كفاس، وتلمسان، وتونس. وقد أخرجت الأندلس علماء أجلّة في الشريعة؛ كابن عبد البر، وأبي الوليد الباجي، ومنذر بن سعيد، وأبي بكر بن العربي، والفقيه ابن رشد، وحفيده القاضي الفيلسوف صاحب "بداية المجتهد"، وكأبي محمد بن حزم، وأبي إسحق الشاطبي، ونحاة متضلعين؛ كابن عصفور، والشلوبين، وابن خروف، وابن مالك، وأبي حيَّان، ولغويين مبرزين؛ كابن سيده، صاحب "المحكم"، و"المخصص"، وأدباء بارعين؛ كابن هانئ، وابن خفاجة. وقد ألف ابن حزم رسالة عما ألفه علماء الأندلس من الكتب، وما تمتاز به من إحاطة وتحقيق، وذيل ابن سعيد رسالةَ ابن حزم برسالة أورد فيها ما فاته، أو أُلِّف بعده. وهذا المصير المحزن الذي صارت إليه الأندلس، قد حذرنا منه الكتاب الكريم في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، والرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم -، ففي الصحيح: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنهلك وفينا صالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث". وبيان ذلك: أن الصالحين في الأمة إذا سكتوا على المعاصي، ولم يأمروا بالمعروف، ولا نهوا عن المنكر، كانوا هم أنفسهم ظالمين، فاستحقوا أن تصيبهم الفتنة عقوبةً لهم، وإن امتثلوا ما أمر الله به، فأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، تصبهم الفتنة عقويةً لهم على بقائهم مع الظالمين، وقعودِهم

عن الهجرة وهم قادرون عليها، وهو مصداق قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]. وعلماء الأندلس قاموا بواجبهم، فأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وحذّروا الناس عاقبة إنفاق الأموال في تنميق البناء وزخرفته، وما يفضي إليه التفرقُ من الضعف، واستيلاء العدو على الممالك، واستنجدوا الممالك الخارجة إلى مساعدتها، فلم يجدوا من الوجهاء ومحبي متاع الدنيا قبولاً، وإشفاقاً مجدياً؛ كقول شاعرهم يخاطب ملك تونس: أدرِكْ بخيلِك خيلَ الله أندلسا ... إن الطريق إلى منجاتها درسا

الجزائر واستبداد فرنسا

الجزائر واستبداد فرنسا (¬1) الجزائر مملكة في أفريقيا الشمالية، وموضعها بين تونس والغرب الأقصى (مراكش)، تارة تكون تابعة للمغرب الأقصى، ومرة تستقل بنفسها، وهي ثلاث ولايات: ولاية العاصمة، وولاية وهران، وولاية قسنطينة، وأرضها واسعة المناكب، ويعد سكانها الآن بتسعة ملايين. وفيها ضريح الفاتح الأعظم عقبةَ بن نافع؛ فإنه دفن في الموضع الذي اغتاله فيه البربر عند رجوعه من المغرب الأقصى بعد فتحه كله، وفيها من الحفّاظ: علي بن جبارة أبو القاسم الهذلي، ومن كبار العلماء: أبناء الإمام، وهم: أبو زيد، وأبو موسى التلمساني، وابن مرزوق، والشيخ عبد الرحمن الثعالبي، والشيخ المقري جه، صاحب "نفح الطيب"، وغيرهم من علماء دولة بني حماد، وعلماء دولة بني زياد، ومن أدبائها الكبار: محمد بن خميس التلمساني، الذي بهر الشيخ ابن دقيق العيد بإحدى قصائده، وصار يقرؤها مرة بعد أخرى، وله ديوان ألّفه القاضي أبو عبد الله الحفدني، وسماه: "الدر النفيس في شعر ابن خميس". ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السادس من السنة الحادية عشرة الصادر في شهر صفر 1377 هـ الموافق شهر أغسطس آب 1957 م - القاهرة.

وأرسلت فرنسا أسطولاً إلى عاصمة الجزائر، واستولت عليها سنة 1246 هـ، وآل حسين باشا حاكمها إلى الإسكندرية، وتوفي هناك. وقد أعد سلطان المغرب الأقصى مولاي عبد الرحمن بن هشام جيشاً لجهاد فرنسا، والدفاع عن الجزائر، ولكن الجيوش التي أرسلها لم تستقم على أمره كما قال صاحب "تاريخ الاستقصاء"، فاضطر السلطان إلى مهادنة فرنسا. وأقام الوطنيون بالجزائر في وجه فرنسا عدة محاربات، وأشهرها محاربة الأمير عبد القادر بن محيي الدين الحسني، فقد استمر على محاربتها نحو خمس عشرة سنة، وانتصر في مواقع كثيرة، ولكن فرنسا تغلبت بجندها وسلاحها على هذه المحاربات، واستولت على ولايات الجزائر الثلاث: العاصمة، ووهران، وقسنطينة. واختار الأمير عبد القادر -حسب المعاهدة التي وقعت بينه وبين فرنسا- السكن بدمشق، واستقر بها إلى أن توفي، ودفن في ضريح الشيخ محصي الدين ابن عربي. وأخبرني من أثق بروايته: أن قنصل فرنسا طلب من ملك تونسى أن يكتب إلى سلطان المغرب كتاباً يحذره فيه من الانضمام إلى الأمير عبد القادر، ولا أدري هل كتب ملك تونس بذلك إلى سلطان مراكش، أم لا؟ وإذا كتب ملك تونس إلى مولاي عبد الرحمن بن هشام، فإن السلطان عبد الرحمن ابن هشام لا يترك محاربة فرنسا إلا لضرر يحصل بالمغرب الأقصى؛ كما قال صاحب "الاستقصاء". وسبب حرب الزعاطشة التي رأينا أثره: أن الحاكم الفرنساوي أهان

رئيس القبيلة بعبارات سيئة أدت إلى أن هاجت الحرب مدة بين فرنسا وقبيلة الزعاطشة، ولما تغلبت فرنسا، دخل الحاكم الفرنسي إلى غرفة الشيخ، وضربه بسلاح على عنقه، فقتله. وقد دخلتُ بلدة الزعاطشة، ووجدت ديارهم خاوية على عروشها، ومنعت فرنسا من بنائها. ولم تسمح للجزائر بحكومة وطنية، والحاكم العام في الجزائر هو الوالي العام الفرنساوي، ويقيم بالعاصمة، وكان الفرنسي يعتبر في الجزائر كملك، والوطني في منزلة دونها بمراحل. وقلبت بعض المساجد كنائسَ وثكناتٍ لعساكرها، ورأيت بعيني مسجد أحمد باي في قسنطينة جعل كنيسة، ورأيت بعيني أيضاً مسجداً بعنابة جعل ثكنة لعسكرها، وألحقت الأوقافَ كلَّها بأموال الدولة. وقررت فرنسا سنة 1848 م أن الجزائر أرض فرنسية. وقال بعض الفرنسيين: كما صارت أرض الجزائر قطعة من أرض فرنسا يصير الجزائريون فرنسيين، فقال بعض من فيه شيء من الإِنصاف من الفرنسيين: احرصوا أنتم على ألا تكونوا كمسلمي الجزائر، وأما أن يكون الجزائريون كالفرنسيين ديانة، فمستحيل أن يكون. وألزمت فرنسا مسلمي الجزائر بالخدمة العسكرية، كما ألزمتهم أن يعترفوا بأنهم يقومون بالخدمة العسكرية تطوعاً، وهذا من أسباب مهاجرة عائلات كثيرة من الجزائر إلى الشرق الشامي وغيره. وكانت الزوايا -أي: الطرق الصوفية- تنشر التعليم الديني؛ من تفسير، وحديث، وفقه، وتوحيد، والعلوم العربية، وقد رأت فرنسا أنها لا تؤلف الجزائريين إلا إذا فتحت لهم محاكم شرعية، فأنشأت المدرسة الثعالبية

بقصد تعليم القضاء في الأحوال الشخصية، ولكن استئناف الحكم يكون لمحكمة فرنسية. ولما أخذت فرنسا الجزائر من يد الأتراك، ألزمت بعض الأشخاص بكتابة خطابات يمدحون فيها سياسة فرنسا، ويذمون سياسة الأتراك، وطبعته فرنسا، وسمته: "شواهد الإِخلاص". واطلعتُ في بعض رحلاتي إلى الجزائر على خطاب نسبته فرنسا إلى الأمير عبد القادر يأمر فيه بمسالمة فرنسا، ويمدح سياستها، ولعل هذا الكتاب مزوّر على الأمير. ويسيء فرنسا جداً أن يتصل الجزائريون بالتونسيين، ولما جئت من الشرق سنة 1330 هـ، وجدت كتاباً أرسلته الحكومة الفرنسية إلى العمال في تونس تقول فيه: إن جماعة يسعون لاتصال الجزائريين بالتونسيين، فأخبرونا بأسمائهم. وأهل الجزائر بقُوا محافظين على عقيدتهم السليمة، وأخلاقهم الرضية، كنت زرت العاصمة في رمضان سنة 1318 هـ، فوجدتهم يقرؤون في المساجد كتب التوحيد عقب صلاة التراويح، وقد حضرت بعض هذه الدروس؛ كدرس الشيخ سعيد الزواوي مفتي العاصمة، ودرس الشيخ عبد الحليم بن سماية، ودرس الشيخ عبد القادر المغربي الذي تخرج من درسه بقسنطينة كثير من القضاة الشرعيين. وفي الجزائر نهضة جديدة، فقد عرفوا أن شيخ الطريقة الصوفية إنما يكون مستقيماً إذا اقتدى بسيرة السلف الصالح، فإذا خرج عنها، فقد خرج عن الطريقة التي هدى إليها الإسلام، ووجد في الجزائر مدارس أنشئت لتحفيظ

القرآن الكريم، وما يتبعه من آداب ورياضيات. ووجد فيها معهدان على نسق جامع الزيتونة في تونس: أحدهما معهد أنشأه أبناء سيدي الحسين في قسنطينة، والفضل فيهما لمن أسسهما، لا إلى الحكومة. ومن نهضة الجزائر الجديدة مطالبتها لفرنسا بحقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى حد المحاربة على ذلك. والجزائريون لهم مجد قديم شامخ، فقد عرفت أنه تخرج فيها كبار العلماء والمؤلفين والأدباء والملوك، وكل ما تفتخر به الأمم، فلا يرضون أن يتصرف أجنبي كفرنسا في شأنهم، وقد عرفوا أن غيرهم من الأمم وصلوا إلى حقوقهم، واستقلوا بشأنهم، والحروب هي التي يتبين بها رفيع الهمة من سافلها، وناهض العزيمة من خاملها.

مكانة الأزهر وأثره في حفظ الدين ورقي الشرق

مكانة الأزهر وأثره في حفظ الدين ورقي الشرق (¬1) ليس من غرض هذا المقال أن نحدثك عن حال الأزهر من حيث هو حجر وطين، وأرض فوقها سماء، وإنما نقصد إلى أن نضع نصبَ عينك صورة موجزة من حياته العلمية، ومكانته الدينية؛ لنريك أنه الحصن الذي لا يتصاع، ومطلع النور الذي لا يتقلص، ومبعث القوة التي لا تغلب، حتى تكون على ثقة من أنه الكفيل بإعلاء كلمة الإِسلام، ورفع لواء المدنية النقية من كل قذى. في يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة 359 هـ شرع القائد الفاطمي أبو الحسن جوهر بن عبد الله "الصقلي" في بناء مسجد بالمدينة التي أنشأها، حيث ضرب خيام جيشه، وسماها: "المنصورة"، ثم سماها المعزّ بعدُ: "القاهرة المعزية"، وتم بناء هذا المسجد في نحو ثلاثين شهراً، ذلك المسجد هو الأزهر الشريف. وفي صفر عام 365 هـ جلس قاضي مصر أبو الحسن علي بن النعمان بن محمد بن حيون بهذا الجامع، وأملى مختصر أبيه المؤلف في الفقه على مذهب الشيعة. وفي سنة 378 هـ تولى الوزارة يعقوب بن كاس للخليفة نزار بن المعز، ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - العدد العاشر من المجلد الأول في شهر شوال سنة 1349 هـ - القاهرة.

وكان هذا الوزير من رجال العلم، فانتخبت الدولة خمسة وثلاثين عالماً، وعينتهم للتدريس بهذا الجامع، وأنشأت لهم منازل حول الأزهر، وكانوا يحضرون يوم الجمعة، ويدرسون بعد الصلاة: الفقه، والعقائد، وفنون الأدب. ولما قضى صلاح الدين الأيوبي على الدولة الفاطمية، وكان قاضي القضاة بدولته صدر الدين عبد الملك بن درباس شافعيَّ المذهب، أمر بأن لا تقام الجمعة في مساجد متعددة، وقصر الخطبة على جامع الحاكم؛ إذ كان أوسع جامع بالقاهرة، وبقي الأزهر عاطلاً من صلاة الجمعة إلى أن جاءت دولة الملك الظاهر بيبرس، فعُني أحد أمرائها هو عز الدين أيدمر الحلي بعمارة الأزهر، فأصلح ما اختل من مبانيه، وأعاد إليه صلاة الجمعة في 18 ربيع الأول سنة 665 هـ، وأقام لذلك حفلة حضرها رجال الدولة، وأعيان الأمة. وما زال الأمراء والسلاطين، والكرام من ذوي اليسار يبسطون أيديهم بالإنفاق على الأزهر، ويقفون عليه الأوقاف بسخاء، وكثير منهم يعملون لترقية شأنه من حيث هو جامعة دينية علمية، حتى أصبح منذ عهد بعيد معهداً عامراً بدراسة العلوم الشرعية والعربية، ومجالس الوعظ. وما فتئ هذا الجامع المورد الذي يؤمه طلاب العلم من كل ناحية، حتى أنشئت له شعب في القطر المصري هي: معهد الإسكندرية، ومعهد طنطا، ومعهد أسيوط، ومعهد الزقازيق، ومعهد دمياط، ومعهد دسوق. وكان في إنشاء هذه المعاهد تيسير على طلاب العلم من سكان هذه البلادة حتى لا يحتملوا كلفة المقام في القاهرة إلا حيث يتأهلون لدراسة الكتب العالية في نفس الأزهر الشريف، وفي هذه المعاهد مظاهر تجعل الشعور الديني

ساريا في الأمة، والأممُ صور قائمة، وأرواحهُا الشعور بأن لها ديناً حقاً، وشريعة عادلة. * أقسام التعليم: في الأزهر قسم ابتدائي، ومدته أربع سنوات، وثانوي، ومدته خمس سنوات، ومواد هذين القسمين تدرس في أماكن خاصة بها خارج الجامع الأزهر، وبعد هذين القسمين قسم عال، ومدته أربع سنوات، ودروسه الآن تلقى في نفس الجامع الأزهر، وبعد القسم العالي قسم التخصص، ومدته ثلاث سنوات. أنشئ هذا القسم في 13 محرم سنة 1342 هـ - 26 أغسطس سنة 923 م؛ ليخرج رجالاً لهم مزيد اختصاص في بعض العلوم الدينية، أو العربية، وما يتصل بها، وهو ضرب من ضروب الإِصلاح التي يعمل لها الرؤساء الناصحون، وفي هذا القسم نحو خمسين مدرساً، وبه نحو 200 طالب علم ما عدا المتطوعين، وترجع العلوم التي يقصد الطلاب إلى التخصص بها إلى تسع مجموعات: 1 - التفسير والحديث. 2 - الكلام والمنطق. 3 - الأصول والفقه الحنفي. 4 - الأصول والفقه المالكي. 5 - الأصول والفقه الشافعي. 6 - النحو والصرف. 7 - البلاغة. 8 - الوعظ والإرشاد. 9 - التاريخ والأخلاق. وإذا كان الأزهر قد أخرج قبل إنشاء هذا القسم رجالاً لهم رسوخ في بعض العلوم أكثر من رسوخهم في غيرها، فسيكون الرسوخ بعد هذا على طريق منظم؛ بحيث لا تبقى ناحية من نواحي العلوم التي تدرس في هذه الجامعة إلا وقد قام عليها طائفة خاضوا عبابها، وتوغلوا في أحشائها، وأصبحت

كلمتهم القول الفصل في تقرير مسائلها، وليس ببعيد على الأذكياء المجدين من طلاب هذا القسم أن تكبر هممهم، ويخلص في سبيل العلم قصدهم، حتى نرى فيهم رجالاً يبهرون النفوس علماً، ولا تشهد منهم العيون إلا استقامة ورشداً. * العلوم التي تدرس بالأزهر: يدرس في الأزهر: التفسير، والقراءات، والحديث، والسيرة النبوية، وعلم الكلام، والفقه وأصوله، والنحو، والصرف، والبلاغة، والإِنشاء، وآداب اللغة، والعروض، والقوافي، والوضع، والمنطق، وعلم النفس، والتا ريخ، والأخلاق، والفلسفة، والحساب، والهندسة، والطبيعة، والكيمياء، والجغرافيا. وربما أشار بعض الكاتبين في إصلاح الأزهر بقصر التعليم فيه على العلوم الدينية والعربية، وهو رأي لا يستقيم مع ما يقتضيه حال العصر من أن يكون العالم الديني على جانب من العلوم الكونية والاجتماعية، وبهذا يكون الأزهر كفيلاً بإخراج نشء يمثلون القاضي العادل، والمدرس النحرير، والمصلح الخطير، والمرشد الحكيم، والكاتب البارع، والمدير لبعض الشؤون العامة في حزم ونظام. * الأروقة: بالأزهر أروقة معدة لسكن طلاب العلم، والرواق يحتوي على غرف ومرافق، ومن هذه الأروقة ما هو خاص بالقطر المصري؛ كرواق الصعايدة، ورواق البحاروة، ورواق الشراقوة، ورواق الحنفية، ورواق الطيبرسية، ورواق السنارية، ومنها ما هو خاص ببعض الأقطار الإِسلامية من غير مصر؛ كرواق

الحرمين، ورواق الشوام، ورواق المغاربة، ورواق الهنود، ورواق الأتراك، ورواق الأفغان، ورواق اليمن، ورواق الأكراد، ورواق جاوة، ورواق الدكارنة البرناوية. وفي هذه الأروقة، وما وقف عليها من كتب وجرايات معونة للمنتسبين إليها على طلب العلم، وإذا وجد في نبهاء الطلاب بها حرص على الخير، أمكنهم أن يعقدوا فيما بينهم صلة التعارف والتعاطف التي أرشد إليها الدين بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فيعمل فوق ما يستفيدونه من علم وأدب عمل صالح هو تأكيد الرابطة بين الشعوب الإِسلامية المتفرقة. وبهذه الأروقة صار الأزهر ملتقى أمم إسلامية متباعدة الأقطار. ومتى اشتدت عناية أولي الشأن بأمورهم، فنظروا إليهم بعطف ورعاية، وراقبوا سيرهم في التعليم، وأخذوهم بالنظم الحازمة، وجدت فيهم أوطانهم -إذا انقلبوا إليها- القدوة الصالحة، وكانوا ألسنة تلهج بفضل الأزهر، وتمجيدُ الأزهر يرجع فخره إلى سكان وادي النيل قاطبة. فتوجيه طلاب العلم بهذه الأروقة -ولاسيما النبهاء منهم-, وحملهم في التعليم على النظم الصالحة، حق من حقوق العالم الإسلامي على الأزهر الشريف، ومفخرة يزداد بها ذكر الأزهر رفعة، وبمثله تبقى القاهرة عاصمة الشرق الأدبية، ومبعث الهداية الإسلامية. * مشيخة الأزهر: ما زال الأمراء ينظرون في شؤون الأزهر بأنفسهم حتى اتسعت دائرته، واقتضى حاله أن يسند النظر إلى أحد الكبار من شيوخه، وأول من عرف بولايته شيخاً للأزهر: الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي المالكي المتوفى

سنة 1101 هـ، وتولاها بعده الشيخ إبراهيم بن محمد البرماوي (¬1) الشافعي المتوفي سنة 1106 هـ، وتولاها بعده الشيخ محمد النشرتي (¬2) المالكي المتوفى سنة 1120 هـ، وتولاها بعده الشيخ عبد الباقي القليني (¬3) المالكي، وتولاها بعده الشيخ محمد شنن الجداوي المالكي المتوفى سنة 1133 هـ، وتولاها بعده الشيخ إبراهيم بن موسى الفيومي المالكي المتوفى سنة 1137 هـ، وتولاها بعده الشيخ عبد الله بن محمد عامر الشبراوي الشافعي المتوفى سنة 1171 هـ، وتولاها بعده الشيخ محمد بن سالم الحفني (¬4) الشافعي المتوفى سنة 1181 هـ , وتولاها بعده الشيخ عبد الرؤوف السجيني (¬5) المتوفى سنة 1182 هـ، وتولاها بعده الشيخ أحمد بن عبد المنعم الدمنهوري (¬6) المتوفى سنة 1192 هـ، وتولاها بعده الشيخ أحمد العروسي (¬7) الشافعي المتوفى سنة 1218 هـ، وتولاها بعده الشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشرقاوي الشافعي المتوفى سنة 1227 هـ، وتولاها بعده الشيخ محمد الشنواني (¬8) الشافعي المتوفى سنة 1233 هـ، وتولاها ¬

_ (¬1) نسبة إلى بلدة (برمة) بلد بمديرية الغربية بمصر. (¬2) نسبة إلى (نشرت) بلد بمديرية الغربية بمصر. (¬3) نسبة إلى (قلين) بلد بمديرية الغربية، ولم نقف على تاريخ وفاته. (¬4) نسبة إلى (حفنا) بلدة بالشرقية، وهو صاحب "حاشية الجامع الصغير". (¬5) نسبة إلى (سجين) قرية بمديرية الغربية. (¬6) تفقه مذهب الإمام الشافعي، ثم درس بقية المذاهب، وكان يكتب في توقيعه: الشافعي الحنفي المالكي الحنبلي. ومن مؤلفاته: "شرح الجوهر المكنون". (¬7) نسبة إلى (منية عروس) بلدة بإقليم المنوفية تابع مركز أشمون. (¬8) نسبة إلى (شنوان) بلدة بإقليم المنوفية .. وهو مؤلف "حاشية مختصر ابن أبي جمرة".

الشيخ محمد بن أحمد العروسي الشافعي المتوفى سنة 1245 هـ وتولاها بعده الشيخ أحمد بن علي بن عبد الله الدمهوجي (¬1) الشافعي المتوفى سنة 1246 هـ , وتولاها بعده الشيخ حسن بن محمد العطار (¬2) الشافعي المتوفى سنة 1255 هـ , وتولاها بعده الشيخ حسن القوششي (¬3) الشافعي المتوفى سنة 1254 هـ , وتولاها بعده الشيخ أحمد بن عبد الجواد الشهير بالصائم السفطي (¬4) الشافعي المتوفى سنة 1263 هـ، وتولاها بعده الشيخ إبراهيم البيجوري (¬5) الشافعي المتوفى سنة 1277 هـ، وتولاها بعده الشيخ مصطفى بن أحمد العروسي الشافعي، وعزل عنها سنة 1287 هـ، وتقلدها الشيخ محمد المهدي العباسي الحنفي، وعزل عنها في المحرم سنة 1299 هـ , وخلفه فيها الشيخ محمد بن محمد بن حسن الأنبابي (¬6) الشافعي إلى شهر ذي الحجة من تلك السنة، ثم أعيد إليها الشيخ المهدي حتى استقال سنة 1304 هـ , وأعيد إليها الشيخ الأنبابي إلى أن استقال سنة 1312 هـ , وتقلدها بعده الشيخ حسونة (¬7) بن عبد الله النواوي الحنفي ¬

_ (¬1) نسبة إلى (دمهوج) قرية بالقرب من بنها العسل. (¬2) هو صاحب "حواشي شرح الخبيصي على التهذيب"، و"حواشي شرح الجلال المحلي لجمع الجوامع". (¬3) نسبة إلى (قوسنا)، وله شرح على السلم. (¬4) نسبة إلى (سفط الوفاء) قرية بمدينة المنيا. (¬5) نسبة إلى (البيجور) قرية بمديرية المنوفية. (¬6) نسبة إلى (أمبابة) قرية بضواحي القاهرة. (¬7) مما يحفظ التاريخ لهذا الأستاذ: أن بطرس باشا غالي حين كان وزيراً للحقانية، أراد أن يدخل إلى المحكمة الشرعية عضوين من المستشارين بمحكمة الاسشاف. فغضب القاضي التركي أمام هذه الإرادة. أما الشيخ حسونة، فقد وقف في وجهها =

حتى استقال سنة 1317 هـ , وتولاها بعده حضرة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي الحنفي، وتوفي بعد ولايتها بشهر فجأة، وخلفه فيها الشيخ سليم البشري المالكي حتى استقال سنة 1320 هـ، وتولاها بعده السيد علي ابن محمد الببلاوي المالكي، واستقال سنة 1323 هـ وتقلدها بعده الشيخ عبد الرحمن الشربيني الشافعي، واستقال سنة 1327 هـ، فأعيد إليها الشيخ سليم البشري إلى أن توفي سنة 1335 هـ , وتولاها بعده الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي الوراقي (¬1) المتوفي في 15 محرم سنة 1346 هـ، وتولاها بعده حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي في 2 ذي الحجة من تلك السنة، واستقال في 5 جمادى الأولى سنة 1348 هـ , وتولاها بعده حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر محمد الأحمدي الظواهري، وهو شيخ الجامع الأزهر لهذا العهد. * واجبات شيخ الجامع الأزهر: ينظر شيخ الجامع الأزهر في شؤون المدرسين، وطلاب العلم، ونظم التعليم، وبما أن الجامع الأزهر أكبر معهد ديني في العالم الإسلامي، كان لرئيسه حق النظر في حالة الأمة من حيث موافقتها لروح الدين، أو بعدُها عنه، وعليه أن يوجه نصيحته إلى أي قطر إسلامي متى انحرف جماعة من المسلمين عن السبيل، أو فتنهم ذو يد طائشة عن دينهم الحنيف، وإذا كانت أحوال ¬

_ = موقف من يرى مقامه العلمي فوق كل منصب، حتى قال لبطرس باشا عندما أخذ يدافع عن رأيه في شيء من الشدة: "اسكت يا بطرس، لكم دينكم ولي دين"، فدفع عن المحاكم الشرعية أمراً ربما انقلبت بعده إلى صبغة غير صبغتها. (¬1) نسبة إلى (وراق الخضر) بلدة بالجيزة.

الشعوب الإِسلامية قبل هذا غير معروفة لشيوخ الأزهر بتفصيل، أو كانت كلمة الأزهر لا تصل إلى من في أقصى الشرق والغرب إلا بعد أمد طويل، فإن وسائل الاطلاع على أحوال الجماعات الإِسلامية في هذا العصر متيسرة، والطرق التي تصل منها نصيحة رئاسة الأزهر إلى جماعات المسلمين على بعد أوطانهم غير متعسرة، وقد أصبحت الرسائل بتمهيد وسائل المواصلات ترد هذه الرئاسة من البلاد القاصية في أيام معدودة، ولا شك في أن انتظام المواصلات يجعل ارتباط الأزهر بالأقطار الإِسلامية في هذا العصر أشد من ارتباطه بها في العصور السالفة. وأذكر -على وجه المثل-: أن مسلمي الصين -وهم عشرات من الملايين- لا تعرف لهم صلة بالأزهر، وقد بلغهم صوته في هذا العهد، فقاموا يسعون إلى تأكيد الرابطة بينهم ويينه؛ لينالوا ما نالته الشعوب الأخرى من علم وهداية. وجاء في رسالة لهم إلى رئاسة الأزهر: أنهم عقدوا العزم على إرسال طائفة منهم إلى الأزهر؛ ليتفقهوا في الدين، ويقوموا بالدعوة والإِرشاد في بلادهم إذا رجعوا إليها، وتلقت الرئاسة هذه الرسالة بارتياح. * المدرسون: في سنة 1293 هـ كان عدد المدرسين 361، وفي هذا العهد سنة 1349 هـ يبلغون زهاء 713 مدرساً: مدرسو العلوم الدينية والعربية 505، ومدرسو العلوم الحديثة والخط والإملاء 208، وكثير من مدرسي العلوم الحديثة أزهريون تخرجوا من الأزهر بعد أن صارت تدرس فيه هذه العلوم. والمدرسون في الأزهر أحرار في نقدهم وآرائهم، فللمدرس أن ينقد آراء أهل العلم من قبله ما شاء، فإن وجده أهلُ العلم على حجة، تقبلوا رأيه

بقبول حسن، وإن وجدوه في خطأ، نبهوا على وجه خطئه بالتي هي أصوب، وإذا أبدى بعض المدرسين أو الكاتبين رأياً حاول به هدم أساس من أسس الشريعة، أو نقضَ أصل من أصول الدين، فلقي بعد تفنيد رأيه بالحجة شيئاً من الإِنكار، فذلك لأنه نادى على نفسه بقلة العلم، أو مرض القلب، وليس من مصلحة طلاب العلم أن يجلسوا إلى من يبادرهم بآراء في أصول الدين يخرج بها عما أجمع عليه أئمة الإِسلام جيلاً بعد جيل، فلا يرمي التدريسَ في الأزهر بعدم الحرية في النقد إلا من فاته أن يعرف حال المحققين من علمائه، أو من أراد من كلمة الحرية معنى غيرَ المعنى الذي يعقله العالمون. * طلاب العلم به: يقص علينا التاريخ أن طلاب العلم بالأزهر كانوا في سنة 818 هـ سبع مئة وخمسين شخصاً، وكانوا في سنة 1293 هـ عشرة آلاف، وسبع مئة وثمانين طالبأ، أما عددهم اليوم، فيقدر بنحو 9461: في الأقسام الابتدائية 5106، وفي الثانوية 2182، وفي القسم العالي 1033، وفي القسم الموقت 490، هذا عددُ الطلاب المصريين، ويضاف إليهم نحو 650 من المنتسبين إلى أقطار إسلامية مختلفة. وبهذا العدد الكبير من الطلاب المصريين الذين يردون الأزهر في أول السنة، ويعودون إلى بلادهم في آخرها، بقي احترام الدين وطاعة أوامره في نفوس الأمة المصرية راسخاً، ولولا هذه الروح التي يبعثها الأزهر في كل ناحية، لوجدت دعاية الفسوق عن الدين الحنيف المجال واسعاً. ولا أحرص من طلاب العلم بالأزهر على فهم مقاصد المؤلفين، فلا تجدهم يقنعون بفهم مسائل العلم في نفسها حتى ينقدوا عبارة الكاتب,

ويعرضوها على قواعد الوضع والنحو؛ ليعرفوا وجه دلالتها، ويميزوا حقيقتها عن مجازها، ويتبينوا ما فيها من حذف أو تقديم أو تأخير، والنجباء منهم لا يقفون عند هذا الحد، بل يتجاوزونه إلى المناقشة فيما يدخل في موضوع العلم، ومن أجل هذه الطريقة ترى النابغة المكب على العلم في الأزهريين أقدرَ على حل المشكلات، وأسرعَ إلى تطبيق كلام المؤلف على ما يراد منه. يكتب بعض من يتلقى عادات الغربيين بتقليد، ويزين فيما يكتب قبول الفتيات للتعلم بالأزهر الشريف، يكتبون ولا يخجلون أن يقولوا في الاستدلال على هذا الرأي: "إن إيجاد البنت مع الولد في التعليم يساعده على تلمس الكمال والأدب، ويثير فيه حب النجاح والتفوق". والحقيقة أن في خصال الشرف ما يسمى: صيانة وعفافاً، واختلاط الفتيان بالفتيات مما لا يبقي للصيانة والعفاف عيناً ولا أثراً، ومن نازع في هذه الحقيقة، فإنما ينكر الشمس وهي طالعة في سماء صاحية، وخير لمن يرائي في الناس، فيزعم أن اختلاط الفتيان بالفتيات لا يأتي بشر، أن يرفع صوته بطرح العفاف من حساب الشرف والفضيلة، حتى إذا أقنع الناس بأن العفاف شيء لا يقيم له علم الأخلاق وزناً، بلغ مأربه، ولم تجد دعوته إلى الجمع بين الفتيان والفتيات في معاهد التعليم عقبة. * الأزهر أساس النهضة الشرقية: إذا كان الأزهر قد تجرد للبحث العلمي حيناً من الدهر، وغفل عن الأمراض التي تصيب المسلمين في دينهم ومدنيتهم، فقد تنبه اليوم من غفلته، وادكر ماضيه، وأحسن رفعة مكانته، ووثق بأن في مستطاعه مداواة هذه الأمراض، والنهوض بالشرق إلى ذروة السعادة، فهو سائر في سبيله واضعاً

يده في يد كل مجاهد أمين. في الأزهر علم وأدب، وفيه الإرشاد إلى أصول العزة والمنعة؛ كتأكيد رابطة الإِخاء، وتربية الغيرة على الحقوق والمصالح؛ لأنه يدرس فيه القرآن، ولم يغادر القرآن كبيرة ولا صغيرة من نواحي السعادة والعظمة إلا دل عليها بأبلغ بيان. كيف يكون حال من يتفقه فى مثل قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8]، أفلا يشب على التخوف من أن يستولي على قومه من يجحد دينهم، ولا يحترمون شريعتهم؟ ومن مقتضى هذا التخوف البحث عن طريق النجاة من أولئك الذين شأنهم اضطهاد الأمم المستضعفة، والبحث عن طرق النجاة يذهب بالفكر مذاهبَ بعيدة المدى، والفكر الذي يسوقه الإِخلاص، وترافقه الحكمة، يبلغ بتأييد الله غايته، وإن بعد ما بينه وبينها، ووقفت العقبات دونها. وكيف يكون حال من يتفقه في قوله تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]، أفلا يزدري كل عزة ينالها من أشياع الباطل، واثقاً بأن عزة الله فوق كل عزة؟ ومقتضى هذا أن لا يبيعهم عيناً يبصرون بها، أو أذناً يسمعون بها، أو يداً يبطشون بها، بل يأبى له أدبه المتين أن يلقي إليهم السلم، وهو يستطيع أن يكف بأسهم، أو يخفف في الأقل من طغيانهم. وكيف يكون حال من يتفقه في قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104]، أفلا يشب على خصلة الإِقدام والتفاني في مواقف الدفاع عن الحق، حتى إذا لقي نصباً، أو مسه أذى، تذكر أن خصمه يلاقي مثل ما يلاقيه هو من العناء والألم،

واستمر في جهاده عالماً أن أولى الفريقين بالصبر والثبات مَن حَسُن في الله ظنه، ورجح بالتوكل عليه وزنُه؟. وكيف يكون حال من يتفقه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، أفلا يصب نظراته الصائبة في أحوال أمته باحثاً عن علل وهنها وخمولها؛ ليعمل على تغيير ما بها من الأحوال التي أخلدت بها إلى الاستكانة، وقعدت بها عن مغالبة خصومها راضية بحياة لا أمن فيها ولا كرامة؟. والكتاب الكريم والحديث النبوي عامران بأمثال هذه الحكم التي لم تخالط نفوساً زاكية إلا فزعت لأن ترسمها في حياة الأفراد والجماعات خططاً، فحق على أولي الشأن أن ينظروا إلى النشء الأزهريين نظرهم إلى رجال خُلقوا لأن يجاهدوا في سبيل الإِصلاح بما استطاعوا من حكمة وقوة، فالأزهر جاهد، وسيجاهد في ظهور الحق على الباطل، وإعلاء الفضيلة على الرذيلة، وإنما ينهض نهضته الطاهرة المطمئنة إذا سار تحت إشراف الهداية الدينية، وكان ولاة أموره ممن يرجون لله وقاراً.

من لم ير مصر، لم ير عز الإسلام

من لم ير مصر، لم ير عزّ الإسلام (¬1) أيها السادة! قرأت في بعض كتب التاريخ: أن أحد أهل العلم بالمغرب رحل إلى بلاد الشرق، وبعد أن عاد من رحلته، سئل عن مصر، فقال: "من لم ير مصر، لم ير عزّ الإسلام". وإنما كانت مصر مظهراً لعزّ الإسلام بهذا المعهد الذي أنشأه القائد جوهر، فأصبح مطلع علم وهداية. ولنطو الحديث عن الغفوة التي أخذت هذا المعهد ليالي وأياماً، ولنطو الحديث عن أسباب هذه الغفوة، فلعلكم أدرى بها، وأملكُ للسان الذي لا يردّه شيء عن بيانها، وشأني في هذأ المقام أن أقول: إن في مصر اليوم نهضة علمية اجتماعية، ولا أحد يتردد في أن الثقافة الأزهرية كانت أول عامل في أساس هذه النهضة الناجحة. وأذكر بهذا أن أول نداء أيقظ الأمة التونسية من سباتها، إنما صدر من ناحية الجامعة الزيتونية، وأن الدعوة إلى الإصلاح من ¬

_ (¬1) مجلة "الفتح" - العدد 81 من السنة الثانية الصادر في الثالث من شعبان سنة 1346 هـ، الموافق 26 يناير كانون الثاني 1928 م. وهي كلمة الإمام في الحفل الذي دعا إليه فريق من نبهاء كلية الأزهر إلى تأسيس جمعية تعمل لتأييد الهداية الإسلامية.

طبيعة القائمين على العلوم الإسلامية متى غاصوا على أسرارها، وأحسنوا النظر في تطبيقاتها. وإذا كنا نخشى على شعب أن يتهافت في غير هدى، فلا بد أن يكون ذلك الشعب غير الشعب المصري؛ فإن لهذه المعاهد والمدارس العلمية الدينية نوراً يفرق بين الجد واللهو، ويقطع دابر كل باطل يصاغ في زخرف القول غروراً. إن في مصر حياة علمية راقية، وروحاً إسلامية بالغة، هما اللتان يبعثان النبهاء من شبابنا إلى السعي في إنشاء جمعيات إصلاحية، تعمل لغاية واحدة، هي الأخذ بأيدي الأمة إلى حيث تعيد مجدها، وتملك عزتها، وما هذه الجمعيات إلا جند يجاهد في سبيل العلم والأدب صفاً، وما اختلاف أسمائها إلا كاختلاف أسماء فرق الجند: هذه الميمنة، وتلكم القلب، وأخرى الميسرة، فحقيق علينا أن نؤازر هؤلاء الفتيان من طلاب العلم على ما تطمح إليه هممهم من وسائل السيادة، وشعوري بهذا الحق هو الذي هداني لأن أجيب دعوى حضراتكم إلى هذه الحفلة الكريمة، فسيروا أيها السادة في مشروعكم هذا على الصراط السوي، واعملوا للأمة صالحاً، ويكفيكم من وسائل العمل الصالح بصائركم الثاقبة، وأقلامكم الحرة البليغة: ولي قلمٌ في أنملي إن هززتُه ... فما ضرّني أن لا أهزَّ المهنَّدا

تكريم جمعية الهداية الإسلامية لرجل من عظماء الإسلام

تكريم جمعية الهداية الإسلامية لرجل من عظماء الإسلام (¬1) أقامت الجمعية مساء يوم الثلاثاء 11 جمادى الأولى 1353 هـ 21 أغسطس 1934 م حفلة تكريم لحضرة الهمام المفضال الأستاذ حافظ عامر قنصل مصر في الحجاز سابقاً، والقائم بأعمال المفوضية المصرية في العراق الآن، فأجاب حضرته الدعوة، واستقبله حضرات أعضاء الجمعية بترحيب وحفاوة، وكان الحديث في أثناء جلوسهم إلى مائدة الشاي وبعده يدور على شؤون العالم الإسلامي الحاضرة، وفيما ينبغي أن يكون عليه المسلمون من التمسك بأصول الدين وآدابه، وألقى بعض حضرات الأعضاء عبارات الثناء على حضرة الأستاذ المحتفل به، والشكر له على المساعي الجليلة التي كان يبذلها في الحجاز لمساعدة المسلمين، ولاسيما أهل العلم والفضل، على اختلاف شعوبهم. وبهذه المناسبة أذكر أني عندما نزلت جدة سنة 1351 هـ قاصداً أداء فريضة الحج، قال لي بعض رفقائي: تعال بنا نزور قنصل الحكومة المصرية، فقلت: نزوره بعد العودة من مكة -إن شاء الله-, قلت ذلك، وفي ظني أن هذا القنصل ككثير من الولاة الذين يلاقون زائريهم بشيء من التعاظم وقلة الاحتفاء، ورحلت إلى مكة المكرمة، ويعد أن أقمت بها يومين، قال لي أحد الأصدقاء: ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد السادس الصادر في شهر جمادى الثانية سنة 1353 هـ - القاهرة.

إن قنصل مصر نازل بالتكية المصرية، وهو يسأل عنكم، وراغب في لقائكم، فقلت له: سأزور التكية بعد قضاء المناسك، فقال: إنه يسأل عن محل إقامتكم، ويريد زيارتكم، وها هي هذه التكية على مقربة من أحد أبواب الحرم الشريف، فوافقته على أن نذهب إلى التكية بعد صلاة العشاء، وذهبنا حسب الوعد، فوجدت طائفة من فضلاء المصريين، من بينهم حضرة القنصل الأستاذ حافظ عامر، فجلس إلى جانبي، وأخذ يجاذبني أطراف الحديث في استنارة فكر، وصفاء سريرة، ورقة اشاس، حتى خيل إليّ أني أتحدث مع صديق حميم قضيت في صداقته سنين، وأبدى رغبته في أن نكون رفقة في أيام عرفة والمزدلفة ومنى حتى العودة إلى جدة، وكذلك قضينا تلك الأيام الزاهرة في قضاء المناسك، يتخللها مذكرات لذيذة، ولندع بقية الحديث عن تلك الأيام إلى ما سنكتبه -إن شاء الله تعالى- في مشاهد تلك الرحلة المباركة. وملخص القول: أن الأستاذ حافظ عامر مثلٌ كامل لرجل دولة إسلامية يحق لها أن تكون زعيمة للعالم الإسلامي، فإنا في حاجة إلى أن يكون لنا رجال دولة يجمعون إلى بعد النظر في السياسة سماحة الأخلاق، واحتراماً للدين، واعتزازاً به أشدَّ من اعتزازهم بالإمارة والوزارة وغيرها من المناصب السامية. وذلك ما كان يتمثل لنا في روح الأستاذ المحتفل بتكريمه، جزاه الله عن الإسلام خيراً، وأكثر من أمثاله.

تأسيس جمعية الشبان المسلمين

تأسيس جمعية الشبان المسلمين (¬1) سادتي الكرام! أحييكم، فأحيي أصالة الرأي، وأشكركم، فأشكر حرية الضمير، وإن اجتماعكم هذا لفاتحة حيياة نبيلة، وعنوان مستقبل مجيد. فتية من أبناء وادي النيل عزَّ عليهم أن يكون الشرق متقطع الأوصال، بطيء السير إلى الأمام، وهو حريّ بأن يكون صبيح المنظر، سليم العاقبة، فقاموا يبسطون أيديهم لإحكام صلة التعارف والتآزر، ويسابقون إلى تأليف جمعية تنحو نحو الإنسانية الصادقة، وتسير على ما يرضي الضمائر العامرة بالإخلاص. وإن أمة يكون نشؤها على بصيرة من حاضرها، واحتراس مما يدنّس مستقبلها، لأمة خليقة بأن تبلغ السماء، وخليقة بأن تبغي فوق السماء مظهراً. أما وجه الحاجة إلى تأليف هذه الجمعية، فأعظمُ من أن أصفه في هذا المقام بتفصيل. ¬

_ (¬1) مجلة "الفتح" - العدد 73 من السنة الثانية الصادر في السابع من جمادى الثانية سنة 1346 هـ الموافق الأول من ديسمبر كانون الأول 1927 م - القاهرة. وهي الكلمة التي ألقاها الإمام في حفلة تأسيس جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة.

ولعل شبابنا النجباء يشعرون بأن انتظامهم في جمعية يديرونها بأيديهم، ويسلكون بها محجةً ليلُها كنهارها، أطهرُ لقلوبهم، وأرفع لذكرهم، وأسرع بهم إلى امتطاء العزة القعساء. إن موقع مصر الجغرافي، وتبريزها العلمي يجعلانها أهلاً لأن تكون عاصمة الشرق الأدبية، وهذا ما يستدعي أن تقوم بها جمعية تنتظم الشبان على اختلاف أوطانهم؛ حتى تسري روح الأدب الخالص في سائر الشعوب يميناً ويساراً، وإن هذا العمل لمما يزيد الأمة المصرية فخراً على فخرها، ويضيف إليها عظمة على عظمتها. حدث تباعد بين طائفتين: طائفة تنفر من الجديد، وأخرى لا تحترم القديم، وقد بصر بهذا التباعد بعض من يضعون أقلامهم في غير نصيحة، فانهالوا يوسعونه طولاً وعرضاً. وشأن هذه الجمعية أن تعمل لحثّ البطيء تارة، ولرد الجامح عن السبيل تارة أخرى، وبهذا يتيسر لها أن تضع مكان التباعد ائتلافاً، ومتى فتحت نادياً يؤمه الناشئون على اختلاف طرز تعليمهم، خلصت أفكارهم، وتقاربت آراؤهم، وتقاربُ الأفكار والآراء وسيلة ائتلاف القلوب، واتحاد العواطف، والأمة التي تأتلف قلوبها، وتتحد عواطفها، لا يبقى بينها وبين الحياة الآمنة المطمئنة إلا قاب قوسين أو أدنى. كانت النهضة الاجتماعية في مصر بريئة من أن تحمل في أي ناحية من نواحيها لوناً جافياً، فأقبلت الشعوب الشرقية تحفها بالإجلال، وتلقي إليها بمقاليد الزعامة من صميم أفئدتها، ولا أكتمكم حديثاً هو: أننا أصبحنا نسمع في حسيس هذه النهضة المباركة نغمة غير طيبة، ولا أرى شبابنا المخلصين

إلا أن يعيدوا على النهضة المصرية أدبها الجميل؛ فإن مصر قلب الشرق، وإذا صلح القلب، صلح الجسد كله. في الناس من لم يقدر للغة العربية بيانها الراع، وأساليبها البديعة، وفي الناس من لا يعنيه أن تكون هذه اللغة رابطة شعوب هم في أشد الحاجة إلى أن يتعارفوا، وقد قام هذا وذاك يناديان الأدباء إلى أن يزيغوا عن اللغة الفصحى، ويلوثون ألسنتهم وأقلامهم باللغة العامية المرذولة. ومن اللائق بجمعية الشبان المسلمين أن تحتفظ بهذه اللغة المهذبة، وتقيم لآدابها سوقاً نافقة. تلذ طائفة منا تقليد الأمم الغالبة من غير قيد ولا شرط، والحكمة تنادينا إلى أن نسايرها في العلوم والفنون جنباً لجنب، ونذهب معهم في إعداد وسائل القوة والغلبة أينما ذهبوا، أما ما سوى ذلك، فينبغي أن تكون لنا أذواق تميز الرديء من الجيد، وعقول لا يلتبس عليها النافع مما لا خير فيه. ولعل هذه الجمعية تنظر في هذا الشأن برويّة، فتقتبس من تلك الأمم ما زكا، وتحمي أوطاننا مما فيه بأس، ولاسيما تقاليد أصبح عقلاء تلك الأمم أنفسهم يمقتونها. سيضرب ذكر هذه الجمعية في نواحي الشرق والغرب، وستلاقيها نوادي العلم والأدب بابتهاج واحتفاء. فكونوا عند أمل هذه النوادي، وأروها على ضفاف وادي النيل فتياناً تتلألأ قلوبهم هداية، ولا يرضون من العلم إلا باللباب. وستجد هذه الجمعية من حولها ألسنة لامزة، وكذلك المشروعات الإصلاحية لا تمر إلا على جسر من اللمز، فاصرفوا عن اللمز أسماعكم، وقولوا كما قال أكرم الخليقة - صلوات الله عليه -: "اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون". قد يقول من لا يحسن أن يقول: إن في اسم هذه الجمعية رائحة الرابطة

الدينية، ونحن نريد رابطة شرقية، أو قومية، أو وطنية، فخذوا بيده إلى جمعيات غير إسلامية قد فُصّلت على مقدار الصلة الدينية، وعلّموه أن ليس على تلك الروابط من بأس؛ فإن في الإسلام تسامحاً وحرية يسعان كل اتحاد يستدعيه التعاون على المصالح المشتركة بين أولي ملل مختلفة. ولعلكم تنظرون إلى جمعيات أخرى في أُبّهة وفخامة، فيعز عليكم أن تخرج جمعيتكم هذه في مظهر غير عظيم، فاضربوا بهذا الخاطر ثبجَ البحر، فإن المشروع الذي ينشأ صغيراً، ثم ينمو من حين إلى آخر، يكون أثبتَ أساساً، وأحكم بناءً، وأبلغ شاهداً على حزم الناهضين بأعبائه. ولا تنسوا بعد هذا أن من ورائكم أمة رشيدة ستشتري راحة ضمائرها وسعادة مستقبل أبنائها بما تبذله في مؤازرة مشروعكم الجليل. والله المستعان على أن تكون هذه الجمعية فسيحة المدى، سامية المظاهر، خالدة الأثر، وما ذلك النجاح ممن يدّرعون الحزم والحكمة ببعيد.

الشعر - حقيقته - وسائل البراعة فيه الارتياح له - تحلي العلماء به - التجديد فيه

الشعر - حقيقته - وسائل البراعة فيه الارتياح له - تحلي العلماء به - التجديد فيه (¬1) الكلام إما نثر، وهو ما يلقى من غير قصد إلى تقييده بوزن، ولا يلزم بناؤه على حرف معين تنتهي به جمله، وأما منظوم، وهو الكلام الذي يصاغ في أوزان خاصة، وتُبنى قطعه على حرف خاص يختاره الناظم، ويلتزمه في آخر كل قطعة منه، وهذا هو فن الشعر. ورأى بعض الأدباء: أن من المنظوم ما لا يختلف عن الكلام العادي إلا بهيئة الوزن، والتزام القافية، فلا يحسن أن تجعل ميزة الشعر شيئاً يعود إلى مقدار الحروف وأشكالها، والتزام حرف منها في آخر كل قطعة منه، دون أن تكون له خاصة تميزه عن غيره من جهة المعنى، فزادوا في بيانه قولهم: من شأنه أن يحبّب إلى النفوس ما قصد تحبيبه إليها، ويكرّه إليها ما قصد تكريهه إليها، وتحبيبه الأشياء أو تكريهها بوسيلة ما يشتمل عليه من حسن التخييل. فالكلام الموزون المقفى الذي يحبّب إلى النفوس شيئاً، أو يكرهه إليها، بوسيلة الحجة التي يصوغها العقل، وتجري عليها قوانين المنطق، لا يسمى شعراً على وجه الحقيقة؛ لأنه خال من روح الشعر الذي هو حسن التخييل. ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام" - العدد التاسع من المجلد الثالث الصادر في شهر رمضان 1351 هـ - القاهرة.

والحق أن الشعر: ما يقصد به حمل النفوس على فعل الشيء أو اعتقاده، أو صرفها عن فعله أو عن اعتقاده، من جهة ما يشتمل عليه من حسن التخييل، أو براعة البيان، ومن هنا دخل في الفنون الجميلة، ولا جمال في المنظوم إلا أن يكون في معناه غرابة، أو في تركيب ألفاظه براعة. فالكلام الموزون المقفى إنما يكون حفياً باسم الشعر متى بدأ فيه وجه من حسن الصنعة؛ بحيث يكون هذا الحسن زائداً على أصل المعنى الذي يقصد بالإِفادة أولاً، ولا فرق بين أن يكون أثر البراعة في التخييل، أو أثر البراعة في ترتيب المعاني، وإيرادها في ألفاظ مؤتلفة سنيّة. ولا ننسى أن للنفس عند سماع الكلام الموزون حالاً من الارتياح غير حالها عند سماعه منثوراً، يدل لهذا الجملُ البليغة المرسلة إذا تُصرف فيها بنحو التقديم والتأخير حتى وافقت وزناً من الأوزان المألوفة، فإن ارتياح النفس لها بعد هذا التصرف يكون أوفر. ومن أمثله ما جرى فيه التخييل البارع: قول أبي زيد عبد الرحمن الفنداقي الأندلسي من قصيدة ألقاها بين يدي إدريس بن يحيى أحدِ أمراء الأندلس: ومصابيحُ الدجى قد طفئت ... في بقايا من سواد الليل جونْ وكأن الظلَّ مسك في الثرى ... وكأن الطل درٌّ في الغصونْ والندى يقطر من نرجسه ... كدموع أسكبتهنَّ الجفونْ والثريا قد هوت من أفقِها ... كقضيبٍ زاهرٍ من ياسَمينْ وانبرى جنحُ الدجى عن صبحه ... كغراب طار عن بيضٍ كَنينْ

فلو تحدث الشاعر عن انجلاء الليل، وطلوع الصبح، وانبساط الظل، ونزول الطل، وتساقط الندى، وهويِّ الثريا من أفقها بالعبارات المجردة عن مثل هذا التخييل، لما اهتزت النفوس لها هذا الاهتزاز البالغ. ومن أمثله الشعر الذي جاءه الجمال من حسن ترتيب معانيه، وبراعة نسجه: قول أبي العلاء المعري: كم بودرت غادةٌ كَعوبُ ... وعُمّرت أُمُّها العجوزُ أحرزها الولدان خوفاً ... والقبر حرز لها حريزُ يجوز أن تبطئ المنايا ... والخلدُ في الدهر لا يجوزُ فمعاني هذه الأبيات يستوي في معرفتها القرويّ والبدوي، ومن الذي لا يدري أن داعي الموت كثيراً ما يبادر الفتاة، ويدع أمها وهي عجوز؟ وأن المنايا قد تبطئ عن بعض الأشخاص، فتطول أعمارهم؟ وأن الخلود في الدنيا غير مطموع فيه؟ ولكن الشاعر صاغ هذه المعاني في سلك التناسب، وأبرزها في ثوب قشيب من الألفاظ العذبة، والنسج الحكيم، فكان لها وهي في ائتلافها، وزخرف أثوابها وقعُ ما تبتهج له النفوس ابتهاجَها لمعان جديدة لم تخطر لها من قبلُ على بال. ومن الشعر ما هو باطل، وهو الذي وصف الله تعالى أصحابه بقوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء: 224 - 227} الآية. ومنه ما هو حق، وهو المشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من الشعر حكمة"، وسنخص البحث عن تأثير الشعر في الأخلاق والاجتماع بإحدى محاضراتنا

الآتية -إن شاء الله تعالى-، وكل آت قريب. * وسائل البراعة فيه: لا يطوع الشعر البارع، إلا لمن يردد نظره على كثير من الأشعار البليغة، ويملأ منها حافظته، ثم يأخذ قريحته بالتمرين على النظم الفينة بعد الفينةَ، فهذان ركنان لتربية ملَكة الشعر وترقيتها، فإذا أتيح للشاعر -مع هذا- جودةُ هواء المنازل التي يتقلب فيها، وحسن مناظرها، ووثق بأن في قومه من يُقبل على الشعر، ويقدر مراتب الشعراء، لم يلبث أن يأتي بما يسترقُّ الأسماع، ويسحر الألباب. وشأن من يزاول العلوم ذاتَ المباحث العميقة، والقوانين الكثيرة، أن لا يبلغ الذروة في صناعة القريض، ذلك أن الناشئ الذي يقبل على طلب العلوم إقبال من يروم الرسوخ في فهمها، والغوص على أسرارها، لا يجد من الوقت ما يصرفه في حفظ المقدار الكافي من أشعار البلغاء، وفي تمرين قريحته على النظم تمريناً يصعد بها إلى الذروة، وإذا صرف من وقته في الحفظ والتمرين ما فيه الكفاية، وجد من قريحته المعنية بالبحث عن الحقائق العلمية ما يبطئ به عن اختراع معان خيالية بديعة. ونظر ابن خلدون في وجه قصور العلماء عن التناهي في صناعة الشعر، وأبدى أن السبب: ما يسبق إليهم من حفظ المتون العلمية، فإن عبارات هذه المتون -وإن كانت على وفق العربية- لا يراعى فيها قانون البلاغة، وامتلاء الذهن من الكلام النازل عن البلاغة، لا يخلو من أن يكون له أثر في النظم، فيقصر به عن المرتبة العالية من الفصاحة، فلو انبعثت قريحته في فضاء واسع من الخيال، واستطاعت اختراع صور غريبة، لخدشت تلك المحفوظات ملكة

فصاحته، فيخرج الشعر وفي ألفاظه، أو في نسج جمله ما يتجافى عنه الذوق، فلا تتلقى تلك الصور بالارتياح، وان كانت في نفسها غريبة. فالتوغل في العلوم يضايق ملَكة الشعر، وأشدُّ ما يضايقها العلومُ النظرية؛ كالمنطق، والكلام، والفلسفة، والفقه، ولاسيما ما يُعنى صاحبه بالبحث في طرق الاستنباط، ويتعلم كيف يطبق الأصول على الوقائع الخارجية. وعلوم النحو والصرف والبيان معدودة في وسائل إحكام صنعة الشعر، ومتى درست على طريقة التوسع في مسائل الخلاف، ومناقشة الآراء والأدلة والعبارات، أصبحت في خدش ملكة الشعر كالمباحث الفلسفية أو الفقهية. وقد يكون في الرجل قوة الشاعرية، فيهجرها، فتضعف حتى لا تواتيه عندما يهم باستدرارها. قال أبو القاسم الأندلسي: جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي الفارسي وأنا حاضر، فقال: إني أغبطكم على قول الشعرة فإن خاطري لا يوافقني على قوله، على تحقيقي في العلوم التي هي موادّه، فقال له رجل: فما قلتَ قطُّ شيئاً منه؟ قال: ما أعلم أن لي شعراً إلا ثلاثة أبيات في الشيب، وهي قولي: خضبت الشيبَ لما كان عيباً ... وخضبُ الشيب أولى أن يُعابا ولم أخضِب مخافةَ هجرِ خلٍّ ... ولا عيباً خشيتُ ولا عتابا ولكن المشيبَ بدا ذميماً ... فصيرت الخضابَ له عِقابا فهذه الأبيات تدل على أن في أبي علي الفارسي مبدأ نظم الشعر، وعدمُ مواتاة الشعر له عندما يهم بنظمه ناشئ من عدم إقباله على هذه القوة بالتربية والتهذيب.

* الارتياح للشعر: ترتاح النفس لصور من المعاني يصنعها الخيال، أو تخرج في ثوب قشيب من حسن البيان، ذلك الارتياح لذة الشعر الذي هو صنع الألمعية المتلألئة، والتخيل الواسع، والذوق الصحيح. ولا أظن أن في الناس من لا يلذ الشعر البديع متى أحسّ معانيه، ووقعت في ذهنه باديةَ الوجوه كما كانت في ذهن مصوّرها، وإنما المشاهد أن الناس يتفاوتون في الارتياح للشعر على قدر تفاوتهم في صفاء الذوق، وتقدير ما في معانيه من غرابة وحسن التئام، أو تقدير ما في ألفاظه من حسن السبك وجودة التركيب. فإذا رأيت الرجل يسمع الشعر البارع، ولا تلوح عليه أَمارة الارتياح لسماعه، فلأنه لم يحس ما فيه من إبداع، وجودةِ صنعة، وكثيراً ما يعيب الناقد صورة معنى خيالي حيث لا يحس الناحية التي فعل فيها الخيال البارع فعلته. أورد بعض الكاتبين في الأدب قول الشاعر: كالطيف يأبى دخول الجفن منفتحاً ... وليس يدخله إلا إذا انطبقا وعابه بقوله: إن الطيف لا يدخل الجفن، وإنما يتخيل إلى النفس. ولو اعتاد هذا الكاتب النظر إلى الصور الخيالية من مسالكها اللطيفة، لما أتعب فكره في البحث عن الباب الذي يدخل منه الطيف المتخيل للنفس في صورة المرئي رأي العين. يصفو الذوق، فيحس براعة الشعر، ولطفَ مسلكه، فتأخذ النفس من شدة الإِعجاب به حالة ربما عبروا عنها بالإِغماء. أنشد عمرو بن سالم المالقي في مجلس أبي محمد عبد الوهاب أبياتاً لبعض الأندلسيين، منها:

ورأوا حصى الياقوت دون نحورهم ... فتقلدوا شهب النجوم عُقودا فأخذ أبا محمد حالٌ من الإِعجاب بهذه الأبيات حتى تصبّب عرقاً، وقال: إني مما يقهرني، ولا أملك نفسي عنده: الشعرُ المطبوع. وروى حماد بن إسحاق: أن أباه قال له: كان العباس بن الأحنف، إذا سمع شيئاً استحسنه، أطرفني به، وأفعل معه مثل ذلك، فجاءني يوماً ووقف بين البابين، وأنشد لابن الدمينة: ألا يا صَبا نجد متى هجت من نجدِ ... لقد زادني مسراك وجداً على وجد إلخ الأبيات، ثم ترنحّ ساعة، وقال: أنطح العمودَ برأسي من حسن هذا؟ فقلت: لا، ارفق بنفسك. وكان سعيد بن المسيب ماراً ببعض أزقة البصرة، فسمع منشداً ينشد قصيدة لمحمد بن عبد الله النميري يقول فيها: تضوعّ مسكاً بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوةٍ خفراتِ يخبئن أطراف البنَان من التقى ... ويخرجن جنحَ الليل مُعتجرات فضرب سعيد برجله الأرض، وقال: هذا -والله- يلذ سماعه. وصام أبو السائب المخزومي يوماً، فلما صلى المغرب، وقدمت له المائدة، خطر بقلبه بيتا جرير: إن الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلاً بعينك لايزال مَعينا غيّضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا فاشتد ارتياحه لهما، حتى حلف أن لا يفطر في تلك الليلة إلا على هذين البيتين.

وكثيراً ما يكون ارتياح الأمير لبيت واحد سبباً في إغناء الشاعر، ودفع مظلمته. نقرأ في أخبار ابن شرف: أن أحد عمال المعتصم ناقشه في قرية له، فورد ابن شرف على المعتصم شاكياً هذا العامل، وأنشد بين يديه قصيدة في الغرض، ولما بلغ قوله: لم يبق للجور في أيامهم أثر ... إلا الذي في عيون الغيد من حَوَرِ قال له المعتصم: كم في القرية التي تحرث فيها من بيت؟ قال: فيها خمسون بيتاً، فقال له: أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد، ثم وقّع له بها، وعزل عنها كل وال. وكيف ترى ابتهاج أبي عمرو بن العلاء، حين سمع قول بشار: لم يطل ليلي ولكن لم أنمْ ... ونفى عني الكرى طيفٌ أَلَمْ روّحي عني قليلاً واعلمي ... أنني يا عبدَ من لحمٍ ودمْ إن في بُردَيَّ جسماً ناحلاً ... لو توكأتِ عليه لانهدمْ لا شك أن ابتهاجه لسماعه كان بالغاً ما يمكنه أن يبلغ، ينبئك بهذا أنه سئل عن أبرع الناس بيتاً، فقال: الذي يقول: "لم يطل ليلي"، وأنشد الأبيات الثلاثة. * العلماء والشعراء: في العلماء من يلذ استطلاع الحقائق إلى حد أن يستغرق أوقاته في البحث العلمي، ويرغب عن أن يصرف في صناعة الشعر أو تذوّق بلاغته ولو ساعة من شهر.

حكى المقري: أنه أنشد بحضرة العلامة محمد بن إبراهيم الأبلي، قولَ ابن الرومي: أَفنى وأعمى ذا الطبيبُ بطبه ... وبكحلهِ الأحياءَ والبُصَراءَ فإذا مررتَ رأيتَ من عميانِه ... جمعاً على أمواته قُرّاءَ قال: فاستعادني الأبيات، حتى عجبتُ منه، مع ما أعرف من عدم ميله إلى الشعر، ثم قال: أظننتَ أنني استحسنتُ الشعر؟ إنما تعرفت منه أن العميان كانوا في ذلك الزمان يقرؤون على المقابر، فإني كنت أرى ذلك حديث العهد، فاستفدت التاريخ. وفي العلماء من يأخذ الشعرُ البارع بمجامع قلبه، ويجد في نفسه قوة على نظمه، فيضرب مع الشعراء بسهم؛ ليزين علمه بهذا الفن الجميل، وسبْقُ الشعراء المتجردين للشعر وحده في هذه الحلبة لا يثني العلماء عن تعاطيه؛ نظرا إلى أنه فن من فنون الأدب الجميلة، وقد ويتخذ وسيلة إلى جلب خير، أو دفع أذى. والتاريخ يحدثنا أن في أعلام العربية من كانوا يجيدون صناعة القريض؛ كابن دريد، الذي كانوا يصفونه بأنه أعلم الشعراء، وأشعر العلماء، ومن مختارات شعره الأبيات العينية التي يقول فيها: ومن لم يَزَعْه لبّه وحياؤه ... فليس له من شيب فَودَيه وازعُ ومثل الإمام النحوي أبي الحسين علي بن أحمد بن حمدون، ومن جيد شعره: تناءت ديار قد ألفتُ وجيرةٌ ... فهل لي إلى عهد الوصال إيابُ

وفارقت أوطاني ولم أبلغ المنى ... ودون مرادي أبحرٌ وهضابُ مضى زمني والشيبُ حل بمفرقي ... وأبعدُ شيء أن يُردَّ شبابُ ويحدثنا أن في رجال الفقه من يجيد التخيل، ويحسن صياغة الكلام المنظوم؛ كالقاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي، الذي قال فيه أبو العلاء المعري: والمالكي ابن نصر زار في سفر ... بلادنا فحمدنا النأي والسفرا إذا تفقه أحيا مالكاً جدلاً ... وينشر الملكَ الضِّلِّيل إن شعرا ومن نظم هذا القاضي: متى تصل العِطاشُ إلى ارتواء ... إذا استقت البحار من الرَّكايا ومن يثني الأصاغرَ عن مراد ... وقد جلس الأكابرُ في الزوايا وإنَّ ترفُّعَ الوُضَعاء يوماً ... على الرفعاء من إحدى البلايا إذا استوت الأصاغر والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا ويحدثنا بأن في علماء الحديث من يجيد صنع الشعرة مثل: الحافظ سليمان بن موسى الكلاعي؛ فإن له من الشعر ما يشبه أن يكون عربياً مطبوعاً، ومما قال: أحنُّ إلى نجد ومن حلّ في نجدِ ... وماذا الذي يغني حنيني أو يُجدي؟ وقد أوطنوها وادعين وخلَّفوا ... محبهم رهنَ الصبابة والوجدِ وضاقت عليّ الأرض حتى كأنّها ... وشاح بخصر أو سِوارٌ على زَنْدِ ونجد للقاضي عياض -وهو من علماء الحديث والفقه- شعراً ذاهباً

في التخيل إلى حد بعيد، ومما قال: انظر إلى الزرع وخاماتُه ... تحكي وقد ماست أمام الرياحْ كتيبةً خضراءَ مهزومةً ... شقائقُ النعمان فيها جراحْ ويحدثنا أن في علماء المنطق والرياضيات من يصنع صوراً خيالية، ويبرزها في ألفاظ عذبة رقيقة؛ مثل: أبي بكر بن الصاغ الأندلسي، ومن نظمه البديع قوله: ضربوا الخيام على أقاحي ... روضةٍ خطر النسيم بها ففاح عبيرا وتركت قلبي سار بين حمولهم ... دامي الكلوم يسوق تلك العيرا لا والذي جعل الغصون معاطفاً ... لهمُ وصاغ من الأقاح ثغورا ما مر بي ريح الصَّبا من بعدهم ... إلا شهقت له فعاد سعيرا يبرع بعض العلماء في الشعر، ولكن فحول الشعراء من غير العلماء يكون جيدُ أشعارهم أكثر، ونفَسهم في الشعر أطول، وقرائحهم إلى المعاني الغريبة أسرع. * التجديد في الشعر: يجري على ألسنة المحاضرين، وأقلام الكتاب حديثُ التجديد في الشعر، ولسنا ممن يتجافى عن رأي التجديدة إذ التجديد سنة من سنن الشعراء النابغين، ولاسيما شعراء ينشؤون أو ينزلون في بلاد عامرة بمظاهر المدنية، وإنما نريد بحث ما يُعنى بكلمة التجديد، حتى نصل إلى ما فيه إصلاح الشعر، ونتحامى هدم ناحية من نواحي اللغة الفصحى. للشعر مقاييسُ، وقوافٍ، ومعانٍ، وألفاظٌ، وأساليب، وفنون.

أما المقاييس، فقد نظم العرب في ستة عشر مقياساً، وهي المدونة في كتب العروض، ومازال الشعراء يصوغون أشعارهم على هذه المقاييس إلى عهد الدولة العباسية، وفي ذلك العهد حدثت موازينُ خارجة عن الموازين السالفة، ووجدت؛ كما تجد الأزجال في هذا العهد، من يعجب بها، ويلذ سماعها. ومن الموشحات الأندلسية ما يختلف فيه أشطار القصيدة بالطول والقصر اختلافاً بيّناً؛ كقول أبي الحسن بن سهل: كحل الدجى يجري ... من مقلة الفجر ... على الصباح ومعصم النهر ... في حلل خضر ... من البطاح ومن هذا القبيل موشحة ابن الوكيل، التي دخل بها على أعجاز قصيدة ابن زيدون: أضحى التنائي بديلاً من تدانينا ... وناب عن طيب لقيانا تجافينا ومما يقول في الموشحة: يا جيرة بانت ... عن مغرم صَبِّ لعهده خانت ... من غير ما ذنبِ ما هكذا كانت ... عوائدُ العربِ لا تحسبوا البُعدا ... يغير العهدا ... إذ طالما غيّر النأي المحبينا وإذا كان الأدباء في العصور الماضية لم يقصروا شعرهم على المقاييس المعروفة، فأحدثوا مقاييس جديدة، فلا نكره لأديب أن يصوغ الشعر في مقياس محدَث متى وثق من موافقته لأذواق الناس، وارتياحهم لحركاته وسكناته.

وأما القافية، فقد التزمها العرب على النحو المعروف في أشعارهم، حتى اخترع الأدباء الموشحات، فأخذت القافية هيئة غير هيئتها الأولى، كما رأيتها في المثُل التي أوردناها آنفاً. وفي التزام القافية على الوجه الذي اختاره العرب سابقاً، أو على نحو ما أحدثه الأدباء من بعد، دلالةٌ على البراعة، ومحافظة على وجه من الوجوه التي يمتاز بها المنظوم على المنثور. وأما المعاني، فللشاعر أن يذهب فيها كل مذهب، وله أن يأخذ في التشبيه والاستعارات كل ما أخذ، فيرسل خياله فيما احتوته الحافظة من المعاني القديمة والحديثة، والطبيعية والصناعية، ويؤلف منها ما شاء من الصور الخيالية، مراعياً أذواق الطوائف التي يريد إثارةَ عواطفها نحو الشيء، أو صرفَها عنه. وما زال فحول الشعراء في كل عصر يبتكرون المعاني، وينتزعون من مظاهر المدنية المتجددة صوراً يبرعون في صنعها، فلشعراء العصر العباسي بالشرق، أو شعراء الأندلس بالغرب، معانٍ وتخيلات لم يطرقها الشعراء في الجاهلية، أو في صدر الإِسلام، أو عهد الدولة الأموية. وقع هذا التجديد من فحول شعرائنا، وكانوا على شعور من الحاجة إليه، ونبه أدباؤنا على هذا الشعور فيما كتبوا قديماً. قال ابن سعيد يفاخر أهل القيروان بشعراء الأندلس: "وهل منكم شاعر رأى الناسَ قد ضجُّوا من سماع تشبيه الزهر بالنجوم، وتشبيه الخدود بالشقائق، فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خلقه في الأسماع جديداً، وكَليلُه في الأفكار حديداً، فأغرب أحسنَ إغراب، وأعرب عن فهمه بحسن تخيله أنبلَ إعراب؟ ".

وإذا لم تَجُد قرائحُ شعراء عصر أو بلد بمعان جديدة، ورأيناهم لا يزيدون عن أن يرددوا معاني أسلافهم، فلضعف ملكاتهم الشعرية، وقصورها عن أن تُخرج للناس ثمراً جديداً. وأما الألفاظ، فحقها أن يراعى فيها ما ثبت عن العرب، وما تقتضيه قوانين الصرف، وما تضعه المجامع العلمية على حسب ما تدعو إليه حاجة التعبير عن المعاني المحدثة. والألفاظ الجديرة بأن يصاغ منها الشعر هي الألفاظ التي لا يخفى المراد منها على أكثر من يقصد استمالة عواطفهم إلى الشيء، أو صرفها عنه، ولا يكفي لجواز استعمال اللفظ في القصيدة خلوُّه من تنافر الحروف، وموافقته للوضع العربي، ووجوده في كتب اللغة القريبة التناول؛ إذ ليس كل لفظ يتحقق فيه شرط الفصاحة يصلح للشعر، بل وراء الفصاحة شيء آخر هو: مراعاة حال قراء الشعر، فيصاغ لهم في ألفاظ تطرق أسماعهم، فتحضر معانيها في أذهانهم، فلو هُجرت ألفاظ في عصر من العصور، أو قل استعمالها؛ بحيث لا يصل السامع إلى معانيها إلا بعد الرجوع إلى كتاب من كتب اللغة، وشاعت ألفاظ ترادفها؛ بحيث تكون أسرعَ بالمعنى إلى ذهن المخاطب، كان من حق الشاعر اختيار الألفاظ التي يكون بها المعنى أقربَ إلى الذهن، ولاسيما ألفاظ تساوي الألفاظ المهجورة، أو النادرة الاستعمال؛ في خفة النطق، وحسن تأليف حروفها. فطبيعة الشعر تستدعي التجديد في الألفاظ على النحو الذي وصفنا، فالشاعر المجيد لا يجمد على الألفاظ التي استعملها الشعراء في عصور ماضية، ثم قل دورانها في كلام البلغاء من بعد. وإذا لم يكتف الشاعر في خدمة اللغو بحفظ مذاهب بلاغتها، وفنون

بيانها، وأراد أن يكون له نصيب في إحياء ما هجرته الألسنة من كلماتها العذبة السائغة، ففي استطاعته أن يأتي إلى الكلمة التي تخفى معانيها على أكثر القراء، ويوردها حيث لا يفوتهم فهم المراد من البيت، والارتياح لما فيه من حسن التخييل. فلو أصبحت كلمة "امتشق" -مثلاً- غيرَ جارية في استعمال الشعراء في عصر، لما كان على شاعر أراد إِحياءها من حرج في استعمالها حيث ينبه مساقُ الكلام على المراد منها، كما استعملها العزازي، في قوله: والبدر نحو الغروب أسرع ... كهارب ناله فرَقْ والبرق بين السحاب يلمع ... كصارم حين يُمتشقْ ومن ذا يسمع هذا البيت، ولا يفهم أن القصد: تشبيه حال البرق عند لمعانه بحال السيف عند تجريده من قرابه؟ وأما الأساليب، فيراعى فيها قوانين النحو والبيان المسلَّمة، فلا نقبل من الشاعر أن يقدم خبر "إن" مثلاً عليها، فيقول: "كاتب إن زيداً" بدعوى التجديد في الأسلوب، ولا يحسن منه أن يتكئ على علة التجديد، ويسقط حرف العطف في نحو "لا ورحمك الله"، أو يدع الكلمات والجمل التي توضع في أثناء الكلام، فتكسو البيت لطفاً، وتدفع عنه أوهاماً يفقد بها المعنى قوته، أو ينقلب بها إلى غير مراد، إلى ما يشاكل هذه التصرفات التي تخرج بالشعر العربي عن حدود البلاغة وحسن البيان. وللشاعر أن يتخذ من الأساليب بعد رعاية قوانين النحو والبيان ما يشاء، وقد اختلفت أساليب الشعراء في دائرة قانون اللغة الصحيح اختلافاً واضحاً، حتى إن الألمعيّ الدارس لأشعار الفحول من الشعراء في عصور متعددة، يكاد

يعرف من أسلوب القصيدة الشاعر الذي قالها، أو العصر الذي قيلت فيه. وأما فنون الشعر -أعني: الأغراض العامة التي يتوجه إليها الشاعر بالنظم؛ نحو: تهذيب النفوس، وإصلاح الاجتماع، والحماسة، والفخر، والمديح، والهجاء، والوصف، والنسيب، والاستعطاف، والاعتذار-، فقد نظم فيها العرب كثيراً، وسلكوا فيها طرقاً بديعة. ومن الشعراء من يبرع في فن أو فنون، كما يبرع عمر بن أبي ربيعة في فن الغزل، والمتنبي في إرسال الحكمة. ومن العصور ما يشيع فيه بعض فنون الشعر أكثر مما سواه؛ كالعصر الذي يحمى فيه وطيس الحروب؛ فإنه يغلب فيه الحماسة والفخر، والعصر الذي يشيع فيه الفسوق يغلب فيه النسيب ووصف الخمور. وإذا غلب فن من الفنون، وجد رواجاً حتى عند من لا ناقة له في ذلك الفن ولا جمل، فتسمع الحماسة -مثلاً- في شعر الجبان الذي "إذا رأى غيرَ شيء ظنه رجلاً"، وتسمع الغزل ممن لم يحمل قلبه صبابة، ووصفَ الخمر ممن لا يعرف للخمر رائحة. أما عصرنا هذا، ففيه إباحية وإلحاد، فلا عجب أن نرى من الشعر الرفيع ما تنبذه مجالس أهل الفضل، ولا عجب أن نرى من الشعر المارقِ من الدين ما يلقي بالمستضعفين في تهلكة، وإننا اليوم في حركة علمية اجتماعية، تنادي كل طائفة منا لأن تسعفها بما لديها من قوة، ولكثير من شعرائنا في تقوية هذه الحركة مواقف محمودة، وأملنا أن يكون الفن الذي يُعرف به الشعر في هذا العصر فنَّ استنهاض الهمم، والصعود به إلى ذروة العزة والمجد، فن تقويم الأخلاق، وإصلاح الحياتين: العلمية والمدنية.

قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية

قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية (¬1) في النفس قوة تحفظ الأشياء بعد غيبتها، وتجدد إحساس الإِنسان للصور المودَعة في هذه القوة، تسمى: تصوراً، أو تخيلاً. ولتجددِ إحساس الصور المسمّى: تخيلاً، أو تصوراً أسباب، وأكثر هذه الأسباب عملاً في النفوس: المماثلة، ويليه: التضاد، ثم: الوحدة المكانية، ثم: الوحدة الزمانية. والتماثل: أن يكون بين الشيئين تشابه في بعض الوجوه المحسوسة أو المعقولة، فمن رأى الماء الصافي، تذكر المرآة الصقيلة، ومن رأى القمر، تذكر طلق المحيا، ومن رأى النرجس، تذكر العيون، ومن جلس إلى كاذب، تذكر مسيلمة الكذاب، ومن سمع أن معتوهاً ادعى أنه نبي، أو أن باطنياً حرَّف آيات الذكر الحكيم عن مواضعها، تذكر زعيم طائفة القاديانية، أو زعيم طائفة البهائية. وانظر إلى أبي الإِصبع، كيف يخطر في باله ريقَ المرأة وثغرَها، فيذكر ما بين العذيب وبارق، ويخطر في باله قدها، ومدامعها تجري لفراقها، فيذكر مجر الرماح، ومجرى الخيل، أخبر بذلك في قوله: ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - العدد السادس من المجلد الثامن الصادر في شهر المحرم سنة 1355 هـ القاهرة.

إذا الوهمُ أبدى لي لماها وثغرها ... تذكرت ما بين العذيب وبارق ويذكرني من قدّها ومدامعي ... مجرّ عوالينا ومجرى السوابق والتضاد: أن يتنافى الشيئان بحيث لا يجتمعان في محل؛ كالسرور والحزن، والضحك والبكاء، والشجاعة والجبن، والإِخلاص والرياء. فإذا خطر في البال أمر، تبعه ضده، فمن حضر في ذهنه الشتاء، تذكر الصيف، ومن وقع في خاطره التقوى، انتقل إلى معنى الفسوق، ومن هذا الباب ترى شخصاً، فتذكر خصمه المبين، وترى آخر في بلاء، فتذكر العافية، ولهذا عدّ علماء البلاغة التضاد من علاقات المجاز. والوحدة المكانيه: أن تحس الشيئين في مكان، وإن اختلف زمن الإحساس؛ كأن ترى شخصاً في مكان صباحاً، وترى شخصاً آخر في المكان نفسه مساء، فمن كثرت مشاهدته لشخصين في مكان، ثم رأى أحدهما، حضرت في ذهنه صورة الآخر. ويتصل بهذا أن يجري ذى الواقعة، فينتقل ذهنك إلى مكانها، أو تشاهد المكان، فيحضر في ذهنك صورة الواقعة. ومما يجري على هذا قول ابن الرومي: وحبّب أوطانَ الرجال إليهم ... مآربُ قضَّاها الشباب هنالك إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصِّبا فيها فحنوا لذلكا والوحدة الزمانية: أن تحس الشيئين في زمن واحدة، فإذا وقع بصر الإِنسان على شيئين في وقت واحد، ثم رأى أحدهما بعدُ، تذكر الآخر، بل إذا حدّث عن شخصين في وقت واحد حتى ارتسم لكل منهما صورة في قوته

الحافظة، ثم رأى أحدهما، أو جرى ذكره في المجلس، حضر في ذهنه صورة الشخص الآخر. ويدخل في هذا الباب تذكرُ الأسباب عند ذكر مسبباتها، أو تذكر المسببات عند ذكر أسبابها؛ كتذكر النار عند ذكر الحرارة أو الدخان، وتذكر الأجنحة عند ذكر الطيران، وتذكر الأمة وسعادتها عندما يطرق سمعك كلمة الاستقلال، ولهذا عدّ علماء البلاغة من علاقات المجاز: السببية، والمسببية. ومما ينبهك على أن اقتران الشيئين في الزمان يجعل حضور أحدهما داعياً إلى حضور صورة الآخر: قول الخنساء: يذكرني طلوعُ الشمس صخراً ... وأذكره بكل مغيب شمس فإنها تذكره عند طلوع الشمس؛ لأنها كانت تراه وقت الطلوع في مظهر الشجاعة والتهيؤ للغزو، وتذكره عند مغيب الشمس؛ لأن وقت المغيب وقت توارد الضيوف عليه، وإطعامِه الطعام في الغالب. وتسلسل الأفكار يتكون من هذه الروابط، ذلك أنك تنتقل من صورة أمر إلى صورة آخر، ومن هذه الصورة إلى غيرها، وهكذا يذهب بك التخيل من الأمر إلى ما يناسبه، حتى تضع سلسلة حلقاتها تلك الصور المتماثلة أو المتضادة أو المحسوسة في زمان أو مكان واحد. فإذا شاهدت مصادفة ثلجاً على شجر حوله رمل، وفي منتهى الرمل بحر، فقد يخطر ببالك الثلج في وقت آخر، فتنتقل منه إلى الشجر، ومن الشجر إلى الرمل، ومن الرمل إلى البحر. ولو كنت شاهدت في البحر سفينة، لكنت تنتقل من الرمل إلى البحر، ومن البحر إلى السفينة. ولو شاهدت الثلج مركوماً في الشارع، والشارع محاط بمبانٍ ذات

نوافذ مفتحة، لكان لك عندما يذكر الثلج سلسلة أفكار، حلقاتها: الثلج، والشارع، والجدران، والنوافذ المفتحة. ولو اتفق لك أن كنت شاهدت في زمن آخر نوافذ يشرف منها وجوه بيض، لانتقلت من النوافذ إلى الوجوه البيض، ومن الوجوه البيض إلى الوجوه السود بوسيلة التضاد، ثم إلى البلاد التي تكثر فيها الوجوه السود، فتصل هذه السلسلة في التخيل بالسلسلة الأولى. فالفكر يتسلسل بحسب المناسبة بين الصورة، وما يقع الانتقال منها إليه، وقد يتحد الشخصان في بعض حلقات التفكير؛ لتوافقهما في أسباب ارتباط هذه الحلقات، ثم يفترقان في غيرها من الحلقات، فتضع مخيلة كل منهما سلسلة غير السلسلة التي تضعها مخيلة الآخر. ومثال هذا: أن يجري في حضرة المولع بالخمر، والقائمِ على أدوات الطعام، ذكرُ الكأس، فينتقل المولع بالخمر من الكأس إلى الخمر، ويذهب منتقلاً فيما يتبع الخمرَ من لهو وفسوق، أما القائم على أدوات الطعام، فإنه ينتقل من الكأس إلى الملعقة، إلى الشوكة، إلى الطبق، إلى المنديل، حتى يصنع سلسلة من هذه الأدوات وما يتصل بها غيرَ السلسلة التي صنعتها مخيلة المولع بشرب الخمر. وتسلسل الأفكار يكون على قدر ما تحتويه الحافظة من صور الأشياء، فأفكار البدو لا يطول تسلسلها؛ لعدم كثرة ما تحتويه حافظته من الصور؛ بخلاف الناشئ أو المتردد على مدينة امتلأت بمظاهر العمران والزينة؛ فإنه يطول تسلسل أفكاره، وتجد مخيلته مسارح بعيدة المدى. فالناس يتفاضلون في التخيل على قدر تفاوتهم فيما وقع إلى قواهم الحافظة من الصور، ويتفاضلون في التخيل أيضاً من جهة قوة الانتباه لما بين

الأشياء من المناسبات. فالناشئ في مدينة كبيرة يفوق في التخيل الناشئ في بداوة، أو ما يشبه البداوة، وما ذاك إلا لكثرة ما يجده في حافظته من الصور المساعدة له على تأليف المعاني الجيدة. وإذا وجدت رجلين يعيشان في بيئة واحدة منذ النشأة، ورأيت في أحدهما براعة في نحو الشعر والصناعة قد فاق بها صاحبه، فإن وجه فضله عليه من جهة قوة الانتباه لما بين صور الأشياء من المناسبات. وقد يكون بين الشيئين ما يقتضي اقترانهما في الذهن، ولكن النفس قد تحس أحدهما، ويشغلها عن الانتقال إلى الأمر الآخر ما في ذلك الأمر الذي أحسته من معنى يجلب اهتماماً شديداً من حزن أو سرور. وانظر إلى الشاعر حين أراد التنبيه على أن ذكر حبيبه لا يفارقه قط، كيف أخبر أنه يذكره في أشد حال من شأن الإِنسان أن يذهل فيه عن كل غائب، فقال: ولقد ذكرتُك والرماح نواهِلٌ ... مني وسيف الهند يقطر من دمي ثم إن المخيلة قد تنتقل من صورة إلى أخرى من غير قصد إلى غرض، ومن غير أن تكون تحت رعاية العقل، فتسمى: مخيلة آلية، وقد يكون انتقالها صادراً عن إرادة، ومحاطاً بانتباه، وهذا قد يكون الغرض منه الوصول إلى إدراك حقيقة، فتسمى: مخيلة علمية، وقد يكون الغرض منه الوصول إلى تأليف صور من المعاني جديدة، فتسمى: مخيلة إبداعية. فالمخيلة الآلية: هي التي تسير دون قصد إلى جهة خاصة أو غرض معين؛ كأن يحصل للانسان استغراق في التخيل، ويذهب متنقلاً من معنى

إلى آخر، ويجول في جملة من صور الأشياء التي عرفها في الماضي من غير انتظام، ولا قصد إلى استنتاج. ومن المرائي المنامية ما يرجع إلى عمل هذه المخيلة؛ حيث يزول الانتباه، ولا يبقى للاررادة سلطان، فتجري المخيلة طلقة من غير عنان، فتعرض على النفس صوراً غريبة، أو لذيذة، أو مؤلمة. ومن المرائي ما هو إلهام إلهي؛ كما ثبت في نصوص الشريعة القاطعة، ودلت عليه التجارب الصحيحة. والمخيلة العلمية: هي التي تتوجه بإرادة صاحبها، وتعمل تحت مراقبة قوته العاقلة، فتنتقل من صورة إلى أخرى تناسبها، حتى تجتمع في الذهن صور يحصل من ترتيبها على قانون المنطق إدراك حقيقة كانت خافية. ويقول المتحدثون عن العالم "نيوتن": إن مخيلته العلمية قد انتقلت به من مشاهدة تفاحة سقطت على الأرض، وانساقت به إلى النظر في قانون الجاذبية. والمخيلة الإبداعية: يتمكن بها الشخص من إحداث صور غريبة، إما محسوسة كما يفعل الصانع الماهر، أو معنوية كما يفعل الشاعر المجيد، فالصانع يفسح المجال لمخيلته، فتنطلق في صور ما شاهده من الأشياء، ويساعده ذوقه على أن ينتفي من تلك الصور ما يركب منه صورة جديدة. وكذلك الشاعر يبعث مخيلته فيما عنده من صور الأشياء، ومازال على صورة بعد أخرى حتى يجتمع عنده ما يمكنه أن يركب منه صورة معنى لا عهد للأذهان به من قبل. أما أثر التخيل في التربية، فإنك إذا لقنت الناشئ الأخلاق الحميدة،

والأعمال الصالحة، وذكرت له ما يترتب عليها من خير وسعادة، وجدته لا يذكر تلك الأخلاق والأعمال إلا وقد حضر في ذهنه ما يقع عقبها من الخير والسعادة، فينهض لها بقوة، وهذا شأنه حين تذكر له السيرة القبيحة، وتبين له ما يتصل بها من عواقب تعود عليه بالضرر والتهلكة، فإنه لا يخطر بباله شيء من الخلق الرذيل أو العمل القبيح إلا وقد حضر في ذهنه ما يعقبه من ضرر، فيدعوه ذلك إلى الكف عنه. ولا ريب أن من لم يلقن فوائد الآداب الفاضلة والأعمال الصالحة، ويكون خالي الذهن مما يترتب على الأعمال المكروهة من فساد، تجده يذكر الفعلة القبيحة، فلا ينتقل ذهنه إلى شيء يردعه عنها، فيأتيها إجابة لداعي الشهوة. ومتى كان تعليم الأخلاق وتقويم السيرة من جهة الدين، رأيت الناشئ يذكر جلال الله في كل وقت يهم فيه بامر نهى عنه ذو الجلال، وفي ذلك عصمة أي عصمة.

البراعة في الشعر مظاهرها - مهيئاتها - آثارها

البراعة في الشعر مظاهرها - مهيئاتها - آثارها (¬1) الشعر كلام يصاغ في أوزان مألوفة، على أن يستقل البيت أو الأبيات منه بإفادة المعنى الذي أراد المتكلم التعبير عنه. فإن ورد كلام في أسلوب النثر، ووُجدت قطع منه موافقة لوزن من الأوزان التي يتوخاها الشعراء في نظمهم، وهي لا تستقل بأداء المراد، وإنما تتم دلالتها عليه بأن تضم إليها شيئاً من النثر قبلها أو بعدها، فليست تلك القطع بشعر. وبملاحظة هذا القيد في تعريف الشعر، تحقق أن ليس في القرآن شعر، فإن ما يوجد من الآيات التي اتفق أن كانت موافقة لوزن من الأوزان المعروفة عند العرب، لا يخلو من أن يتوقف في إفادة المعنى على كلام ورد قبله، أو كلام يرد بعده. فالقطعة الموزونة إذا كانت متصلة بكلام غير موزون تقدمها، أو تأخر عنها اتصالَ التراكيب التي تصور كلاماً واحداً، لا تسمى شعراً. كتب كاتب لأحد الأمراء ينذر عاملاً ويهدده بأوجز عبارة، فقال: "أما بعد: فإن لأمير المؤمنين أناة، فإن لم تغن، عقب بعدها وعيداً، فإن لم يغن، أغنت عزائمه، والسلام"، وفي هذا الخطاب كلمات إذا نطقت بها مقطوعة عما قبلها وما بعدها، وجدتها موزونة، وهي قوله: ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الحادي عشر من السنة الأولى الصادر أول رجب 1367 هـ الموافق 10 مايو مايس 1348 م - القاهرة.

أناة فإن لم تغن عقب بعدها ... وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمُهْ ومثل هذا لا يسمى شعراً، ولا يسمى كاتبه شاعراً؛ لأنه مرتبط بقول قبله ليس بشعر، فإن الضمائر في قوله: "عقب"، وقوله: "عزائمه" إنما تعود على أمير المؤمنين الواقع في نثر قبله. ثم إن كلمة "أناة" مرتبطة بذلك النثر من جهة الإِعراب، إذ هي منصوبة على أنها اسم لحرف التوكيد في قوله: "فإن لأمير المؤمنين". والشعر كسائر الكلام من مرسل وسجع، تتفاوت درجاته في فنون البيان، ويرتقي في سماء البراعة إلى أن يأخذ بالألباب، ويوجهها إلى أهداف كانت غافلة، أو صارفةَ النظر عنها. وإنما تظهر براعة الشعر في ناحيتين: ناحية نظم الألفاظ، وناحية تصوير المعاني. ومن الشعر ما تكون براعته في نظم ألفاظه دون تصوير معانيه. ومن هنا ترى نقاد الشعر قد يقولون لك: جودة هذا الشعر في فصاحة ألفاظه دون ما يُصوره من المعاني، كما قال ابن الأثير في "المثل السائر" بعد أن ساق أبياتاً وصف فيها أبو نواس الخمر: "وجودة هذا الشعر في فصاحة ألفاظه، وأما معناه، فليس فيه كبير فائدة". ويدخل في هذا القبيل أشعار محكمة النظم، ولكن صُور معانيها مشوهة؛ لاختلال في التخيل، أو سخافة في الرأي، أو خطأ في علم، أو استخفاف بدين حق، أو خرق لسياج أدب كريم. ومن الشعر ما تكون براعته في تصوير المعاني دون صياغة الألفاظ؛ كالأبيات التي يقصد قائلها إلى معان جيدة، ويرد بعض ألفاظها في نظم غير محكم، أو على وجه لا تسيغه قوانين العربية الفصحى.

والشعر الحائز لمزيتي الإبداع في الناحيتين: اللفظية، والمعنوية، هو الذي يستحق أن يوصف بالبراعة على الإِطلاق، وهذا هو الذي يتنافس الناس في روايته، ويكثرون من ترديده على ألسنتهم، وهو الذي يتجه الأدباء إلى اختياره من أشعار الشعراء؛ كما فعل أبو العباس المبرّد، في كتاب اسمه: "الروضة"، بدأ فيه بأبي نواس، وأورد فيه طائفة لشعراء عصره، وكما صنع كل من أبي محمد عبد الله بن الفياض، وأبي الحسن علي بن محمد السماطي؛ حيث اختار كل منهما من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت، وكما اختار ابن سعيد الأندلسي من ديوان كل شاعر بيتاً جعله ملك شعره، وجمع من ذلك كتاباً سماه: "ملوك الشعر". والشعر الحائز للمزيتين هو الذي يقولون في مثله: كان الأمير أو العالم الفلاني كثيراً ما ينشد قول الشاعر كذا؛ كما قالوا: كان سيف الدولة يكثر من إنشاد قول أبي تمام: من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا وكان الناصر كثيراً ما ينشد قول الشهاب التلعفري: وتفردت بالجمال الذي خلا ... ك مستوحشاً بغير رفيق وكان أبو منصور قايماز كثيراً ما ينشد قول أسامة بن منقذ: إذا أدمتْ قوارضُكم فؤادي ... صبرت على أذاكم وانطويتُ وجئت إليكمُ طلقَ المحيا ... كأني ما سمعتُ وما رأيتُ والشعر الممتاز بالإِبداع في تأليف لفظه وتصوير معناه: هو الذي يرتاح له صاحب الذوق اللطيف في أدب اللغة، ويبدو أثر هذا الارتياح في حال، أو قول يدل على شدة إعجابه به.

أنشد أبو الحسن الأبياري بين يدي الصاحب بن عباد قصيدته التي رثى بها الوزير ابن بقية: علوٌّ في الحياة وفي الممات. ولما أنشد قوله منها: ولم أر قبلَ جذعِك قطُّ جذعاً ... تمكن من عناق المكرمات قام إليه الصاحب، وعانقه، وقبَّل فاه. ولما اطلع العلامة ابن الدقيق على قصيدة ابن خميس التي يقول في طالعها: عجباً لها أيذوق طعم وصالها ... من ليس يأمل أن يمر ببالها استوى قائماً من فرط إعجابه بها. وسمع ابن جني قول المتنبي: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم فقال: لو لم يقل المتنبي غير هذا البيت، لتقدم به أكثر المحَدثين. ودخل الشاعر المدعو ابن جاخ على المعتضد بن عباد، وأنشد بين يديه قصيدته التي يقول في طالعها: قطّعتَ يا يوم النوى أكبادي ... ونفيت عن عيني لذيذ رقادي فلما انتهى من إنشادها، قال له المعتضد: اجلس، فقد وليتك رئاسة الشعر، ولم يأذن في الكلام لأحد من بعده. والشعر البارع بصياغة الألفاظ وتصوير المعاني: هو الذي يقصد كبار الشعراء إلى موازنته؛ كقصيدة أبي الحسن علي الحصري: يا ليلُ الصبُّ متى غدُه ... أقيام الساعة موعده

فقد وازنها من المتقدمين: نجم الدين أبو موسى المعروف بالقمراوي، ومن المتأخرين: أمير الشعراء شوقي بك. ومثل قصيدة الشاعر صرّدر، التي يقول في طالعها: أكذا يجازى ود كل قرين ... أم هذه شيم الظباء العين فقد وازنها ابن التعاويذي بقصيدة نظمها في وزنها وعلى قافيتها، وكذلك فعل ابن المعلم. والشعر الحائز للمزيتين: هو الذي يرتفع به قدر الشاعر، ويأخذ به في قلوب الأدباء مهابة، ويحميه من أن يتعرض الشعراء لهجائه. هجا الأحوص رجلاً، فجاء الرجل إلى الفرزدق يطلب إجازته بهجاء الأحوص، فقال له: أليس الأحوص هو الذي يقول: ألا قف برسم الدار فاستنطق الرسما ... فقد هاج أحزاني وذكرني نُعما قال: بلى، قال: والله! لا أهجو رجلاً هذا شعره! وأكثر ما يختلف الرواة في نسبته من الشعر: هو الشعر البارع في نظمه ومعناه، مثل الأبيات المصدرة بقول قائلها: وقانا لفحةَ الرمضاء وادٍ ... سقاه مضاعَف الغيث العميمِ فقد نسبها بعضهم إلى المنازي من أدباء الشرق، ونسبه الآخرون إلى حميدة الأندلسية. ومثل قول القائل: رعى الله ليلات تقضت بقربكم ... قصاراً وحياها الحيا فسقاها فما قلت إيه بعدكم لمسامرٍ ... من الناس إلا قال قلبي آها

فقد نسبت لأبي البركات المعروف بالمستوفي، ونسبت لحسام الدين الحاجري؛ حيث توجد في أثناء قصيدة من ديوانه. وقد يتنازع الشعراء أنفسهم في الشعر البالغ في الجودة درجة قصوى، فيدّعي كلٌّ أن الشعر وليد قريحته، كما تنازع أبو طالب المعروف بابن الخيمي، وابن إسرائيل في القصيدة التي جاء فيها البيت المشهور: يا بارقاً بأعالي الرقمتين بدا ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب وحكّما ابن الفارض في ذلك، فحكم بها لابن الخيمي، بعد أن نظر في شعريهما، ووجد القصيدة إلى شعر ابن الخيمي أقرب، وأسلوبها بأسلوبه أشبه (¬1). ¬

_ (¬1) ذكر في نهاية البحث كلمة (يتبع)، ولم تنشر التتمة في الأعداد التالية من المجلة. كما لم أعثر على بقية البحث في المجلات الأخرى.

كتاب الأدب التونسي في القرن الرابع عشر

كتّاب الأدب التونسي في القرن الرابع عشر (¬1) عهدتُ الأدب في تونس بطيءَ السير، قصير الخطا. وما بطء سيره وقصر خطاه لبخل في قريحة الفتى التونسي، أو لضيق في متقلب خياله، أو لإِملاقه من مباني اللغة وفنون بيانها، فإن في ذلك الفتى ألمعية، وفي ذلك الوطن حضارة، وفي الجامعة الزيتونية والمدارس التي تستمد منها لغة فصحى وبلاغة، وإنما هي وسائل النشاط على الإنشاء والنظم لم يحظ منها الأديب التونسي بمثل ما حظي به الأديب الناشئ على وادي النيل، ولهدوء السياسة وطغيانها أثر في نهضة الأدب شديد، فشأن السياسة القاسية أن تقلب النباهة إلى خمول، وتعيد الفصاحة إلى ما يشبه الفهاهة، وإذا نبت في بيئتها أديب فائق، فإنما هي عبقريته الفذة تسمو به حتى يخرج عن طبائع هذه البيئة ما استطاع. ما برحت النفس مشوقة إلى أن تعلم المدى الذي بلغته نهضة الأدب في وطن ابن رشيق، وابن خلدون، حتى طلع علي كتاب "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر" صنع الكاتب البليغ السيد زين العابدين السنوسي. أسمتُ النظر في هذا الكتاب، وما انثنيت عن مطالعته، حتى ملكني ابتهاجٌ بطريقة بحثه، وإعجاب بما تجود به قريحة ابن الخضراء، أو القيروان، ¬

_ (¬1) مجلة "الفتح" - العدد 89 من السنة الثانية الصادر يوم الخميس 30 رمضان 1346 هـ - القاهرة.

أو الساحل، أو بلاد الجريد. أبتهج لأن أرى في تونس أقلاماً يدق مسلكها، وتنحو فيما تكتب نحو الصراحة، وكذلك صنع مؤلف كتاب "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر"؛ فقد أخذ في الوصف والنقد مأخذاً طريفاً، ونحا فيهما نحو من لا يضرب قلمه على مداجاة، وإنك لتقرأ ما يحدّث به عن نزعة الشاعر الأدبية، فلا تحس منه إلا أنه يقصد إلى تصوير ما يراه واقعاً، وانما يترقى فن الوصف والنقد بمثل هذه الأقلام. أُعجبت بما اتسق في الكتاب من أدب موزون؛ إذ آنست فيه معاني وسيمة، وتخييلاً بديعاً، وغيرة على حقوق البلاد، ولا أُحجم أن أقول في كثير منه: إنه وليد عبقرية نادرة. يخبرنا هذا الكتاب بأن نهضة الأدب في تونس أخذت -بفضل نبغائها- تقاوم طبائع العسف والسيطرة الجافية، وإذا كان في يد المسيطر أن يحول بين الجماعة والتطور الذي يجرها إليها الجهل أو الأهواء، فإن التطور الذي تنساق إليه بباعث من الحق لا تقف دونه سيطرة. فخير لمن يضرب على نهضة الأدب حصاراً، أو يشد عليها وثاقاً، أن يدرأ عنها العذاب، ويدعها تمشي في مناكب الأرض، أو تصعد إلى عَنان السماء. يخبرنا هذا الكتاب بأن الزمن ابتدأ يعيد لذلك القطر عهدَ الحصري، وابن رشيق، وما شهدنا فيه من فلسفة وخيال يرمز إلى أن تونس ستفوز باستقلالها الأدبي، ولا ترضى أن يكون لشاعر شرقي أو غربي على أبنائها من إمارة. أما في الموازنة بين من تلا علينا هذا الكتاب شذوراً من أشعارهم، فإن يوم الموازنة بين الشعراء يوم عسير، وهذا ما يتلبث بي أن أورد من مجموعة

هذه الأشعار طائفة تمثل صفاء الذوق، وسعة الخيال، وجودة التنسيق، وحسبي في هذه الصحيفة أن أقول: إن من يلقي نظرة على كتاب "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر" نظرة مجردة من كل شيء ما عدا الإِنصاف، لا يسعه إلا أن يذكر تونس في نسق البلاد التي نبت فيها الأدب نباتاً حسناً، وكيف يأبى أن يذكرها في هذا الصدد، وهو لا يستطيع أن ينشدنا لابن عشرين من نابتة الأقطار الأخرى شعراً أرقى من شعر هؤلاء الذين عرض علينا هذا الكتاب مختارات من بنات قرائحهم، وما بلغوا أو برحوا سن العشرين. ولعل السيد زين العابدين السنوسي يكون مرتاح الضمير إذا شاركته فيما دار بينه وبين الأستاذ صالح النيفر من محاورة، ولا خير في تقريظ لا يمثل الصراحة، وإنما الخير في تمحيص بحياة الجماعة وطرق سعادتها من آراء. يقول السيد زين العابدين السنوسي في الحديث عن الأستاذ صالح النيفر: "ولا يتصور صاحبنا إصلاحاً اجتماعياً، ولا حركة سياسية، ولا نهضة ولا حرية، ولا علماً إلا على طريق الدين والزعامة الدينية"، ثم قال: "وقد راجعناه في الأمر، فلم نر له من تقهقر ولا رجوع، فإذا قلت له كلمة في الفروق بين التيارات التاريخية، وإذا ألفته لحوادث العصر في طول البلاد، ومن خط الاستواء إلى القطبين، وإذا عددت له زعماء العالم اليوم، وليس فيهم من يمت إلى التعاليم الدينية بسبب، سد أذنيه عنه، وأعلمك أن الوسط التونسي وسط مسلم، لا يحيا بدون دين، ولا يقاد إلا بزعامته!. أنا لا أذهب في فهم رأي الأستاذ صالح النيفر إلى أنه ينفي عن أمة لا تدين بالإِسلام أن تكون ذات مدنية وقوة وسلطان، أو أنه ينفي عن رجل

لا يدين بالإِسلام أن يقود أمة غير مسلمة، ويتقدم بها في هذه الحياة إلى غاية، أو يصل بها إلى أن تكون مستقلة، أو مستعمرة، وإنما يريد -فيما يُفهم- أن الإِسلام رسم للاجتماع والسياسة خططاً، ومن يؤمن بحكمة هذه الخطط يرى أن ما لا يجري عليها من الأعمال لا يستحق أن يسمى إصلاحاً، أو سياسة رشيدة، ومقتضى هذا: أن الزعيم الذي يتبع غير سبيل المؤمنين ليس بالزعيم الذي تمنحه الأمة المسلمة ثقتها، وتضع في يده زمام نهضتها، إلا أن تكون قد نسيت حكمة الله البالغة. والتاريخ القديم والحديث يصدق أن ليس من أحد ينال الزعامة على شعب يبتغي الإِسلام ديناً إلا أن يعتقدوا به الإِخلاص للإسلام، وقد شهدنا رجالاً وقفوا موقف الزعامة بين أمم إسلامية، وكانوا يحملون في صدورهم جهالة على الإِسلام، فلم ينشبوا أن بدت هذه الجهالة على أفواههم، وظهر لها لون في سيرتهم، فما كان من المسلمين بحق إلا أن ضربوا بزعامتهم إلى وراء. ونحن لا نتحدث عن زعامة يتمتع الرجل بها أياماً، أو زعامة يلقب بها الرجل على ألسنة طائفة من الناس، وإنما نريد زعامة يرضى عنها أولو الأحلام من الأمة، ويسير بها صاحبها في حزم وأمانة وثبات، وهذه الزعامة لا تستقيم إلا على رعاية ما ينصح به الإِسلام. فمن يتحدث عن حال أمة إسلامية، وقال: لا يصلح اجتماعها، أو لا تنتظم سياستها، أو لا تنجح زعامة عليها إلا أن تكون من ناحية الدين، إنما يريد هذا المعنى الذي اهتدى له طائفة عظيمة من طلاب العلم بالمدارس العالية، فأنشؤوا (لمجمعية الشبان المسلمين) واطمأنت له قلوب طائفة عظيمة

من طلاب العلم بالمعاهد الدينية، فأنشؤوا "جمعية الهداية الإِسلامية". وبصر به قبل هؤلاء قوم آخرون، فأنشؤوا "جمعية مكارم الأخلاق الإِسلامية". والذي يقول: لا تقوم زعامة في شعب إسلامي إلا على الدين، إنما يقصد إلى أن يأخذ في شرط الزعيم احترام مبادئ الشرع الحنيف، وسواء بعد هذا أكانت نشأته في نحو الأزهر وجامع الزيتونة، أم كانت في إحدى جامعات لندن وباريس. فالمذهب الذي يجعل لإِصلاح الاجتماع والسياسة والزعامة صلة بالدين، هو مذهب كل من وقف على روح الإِسلام، ودرس أحوال الشعوب، ونظر إلى هؤلاء الزعماء كيف يحيون، وكيف يموتون وهذا المذهب -وإن ذهل عنه بعض شبابنا اليوم- فسيدرون أنه أقوم الطرق لإِحراز قوة تبلغ بها الأمة حيث تشاء، وبالأحرى حين يدخل أولو العلم في ملاحم الحياة الاجتماعية والسياسية أفواجاً، ويعبرون عن مقاصد الإِسلام بلسان الناصح الحكيم. والأمل لا يزال راسياً على أن السيد زين العابدين السنوسي سيحقق النظر في صلة الإِسلام بالاجتماع والسياسة والزعامة، حتى تجد منه أمته المسلمة مصلحاً حازماً، كما وجد منه الأدب كاتباً ناقداً مجيداً. والذي يعنينا بعد هذا أن يقدر الشعب التونسي صناعة الأدب، ويدرك فضل الشاعر والناقد، ولا يستهين بمثل هذا التأليف الذي صاغته براعة الماجد السيد زين العابدين السنوسي، فإنه عمل قيم نبيل، وأكبر عامل لإِعلاء شأن الأدب أن يقدر الشعب شعراءه وكتّابه، وأن يكون بالمبدعين من هؤلاء وهؤلاء حَفِيّاً.

رثاء عمر بن الشيخ

رثاء عمر بن الشيخ (¬1) داعي المنية من بعد الهجوع سرى ... ليلاً وحلّ نظام المجد فانتثرا يمد باعاً إلى نهب النفوس وإن ... كانت ينابيع خير في الورى انتشرا لو كان يرهب نفساً في العلى بلغت ... أعلى الذرى ما انتقى ابن الشيخ واهتصرا ذاك الهمام الذي كنّا نشدّ به ... مآذر الفهم أو نستمطر الدُّررا كان المدير لأقداح العلوم إلى ... أن أوردته المنايا وِرْدها الصّبرا وهو الأمين إذا يروي المقول وإن ... أورى قوادح فكر حقق النظرا من ذا يرجّى لكشف المعضلات ومن ... نأوى إليه إذا ما حادث عسرا ضاهى أبا حفص الفاروق في لقب ... ونصرِ شرعةِ حقّ حيثما ظهرا نضى لدى مجلس الأحكام سيف هدى ... يذود عن حوضها الأقذاء والكدرا ¬

_ (¬1) أبيات نظمها الإمام محمّد الخضر حسين في رثاء شيخه المرحوم العلامة عمر بن الشيخ، ولم تطبع في ديوان الإمام "خواطر الحياة". عثرت عليها في كتاب مخطوط في تونس "تراجم المفتين" للشيخ محمد البشير النيفر -رحمه الله-, وجاء في المخطوط: هذه مرثية للعالم الشاعر محمد الخضر بن الحسين يرثي فيها الشيخ عمر بن الشيخ المدرس بجامع الزيتونة يومئذ.

وسار في خطة الفتوى على رشد ... عشرين حولاً فكان القوس والوترا له من الله غفران ومكرمة ... جزاء سعي وإخلاص به اشتهرا ورزؤه قد شبا بين الضلوع لظى ... وفجَّر الدمع من أجفاننا نهرا فقال باكيه مأسوفاً يؤرخه ... بدر العلى كاسف من فقده عُمَرا

24 - السعادة العظمى

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (24) «السَّعَادَةُ العُظمَى» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة لعل من أندر التراث الفكري الإسلامي للإمام الأكبر المرحوم محمد الخضر حسين، هو ما فاض به بحره في أول ميدان صال فيه وجال، ونعني به المجلة الإسلامية الكبرى "السعادة العظمى" التي كان لها شأن، وأي شأن في صدق الدعوة وإخلاصها لله سبحانه وتعالى. وقد عثرت في صيف عام 1972 م عندما زرت تونس، ومن خلال بقايا مكتبة العم اللغوي المرحوم محمد المكي بن الحسين على مجموعة فريدة من كامل الأعداد التي صدرت من المجلة، وكان قد أعياني البحث عنها في مختلف المكتبات العربية -العامة منها والخاصة- سواء في دمشق أو بيروت أو القاهرة، ولكن دون جدوى حتى وقعت على هذه المجموعة النادرة، وإنها مشيئة الله أن يبقى هذا الأثر في حفظ حتى ينشر بين الناس، وأن لا يضيع هذا الجهد الإسلامي العظيم مع الأيام. وثمة مجموعة من مجلة "السعادة العظمى" طالعتها في دار الكتب الوطنية بتونس، غير أن أعدادها ناقصة. وإني أرى من الواجب أن أشير إلى مجلة "السعادة العظمى" إشارات خاطفة؛ وفاء للشيخ أولاً، وللتاريخ من بعد، وإن هي إلا كلمة موجزة: صدر العدد الأول من مجلة "السعادة العظمى" في 16 محرم من عام

1322 هجري بِقطْع من الورق الجيد، مقياس 17 - 24 سم، وبعدد من الصفحات لا تتعدى 16 صفحة، وقد جاء تحت عنوان المجلة ما يلي: "مجلة علمية، أدبية، إسلامية تصدر في غرة كل شهر عربي، وفي سادس عشره". ما إن صدرت المجلة حتى استقبلها أهل العلم والأدب بحفاوة تتناسب والمكانة العلمية المرموقة التي يتمتع بها صاحبها لدى كافة الأوساط الفكرية، سواء في العالم الإسلامي، أو في مكان صدورها تونس، وخاصة في جامع الزيتونة أكبر معهد إسلامي في المغرب العربي، وكيف لا يحتفل بها الزيتونيون؟ وصاحب المجلة طود من أطواد تلك القلعة الإسلامية الخالدة التي تخرَّج منها الثائرون على الاستعمار الفرنسي، والذين قادوا الحركات الاستقلالية في تونس والجزائر والمغرب. ولا أدل على صدق الصورة التي خرجت فيها المجلة إلى النور من التقاريض التي يطالعها القارئ في مقدمة هذا الكتاب، والتي أثبتناها بنصوصها الكاملة؛ حفاظاً على قيمتها الأدبية، ومن أهم التقاريض التي وردت إلى المجلة، ما بعث به العلامة القدوة الشيخ سيدي محمد المكي بن عزّوز -وهو خال الإمام- ومما جاء في التقريض قوله: "وبالجملة فتلك مفخرة للخضراء (¬1) بين الممالك، ويفهم من آثار أهلها اعترافهم بذلك، وأبلغكم -لتحمدوا الله- أن كل من رآها هنا في الآستانة العلية أُعجب بها، وتحقق بمجموع ما احتوت عليه نموَّ العلم في تونس ونشاط طالبيه، وأن سوق التفنن بجامع الزيتونة معمور، وهذا مما يعم به ¬

_ (¬1) تونس، ويقال تونس الخضراء.

في العالم الإسلامي السرور، والمظنون أن سيكون لها شأن يعتبره المشرقان والمغربان ... ". ولا أطيل الحديث عن التقريض، فهذا مما يطالعه القارئ في هذا الكتاب، كما لا أطيل الكلام على نهج المجلة وأبوابها، فإن مقدمة الإمام في هذا الأثر هي مقدمة مجلة "السعادة العظمى" بالنص الكامل، وإن دراسة المقدمة توضِّح سياسة المجلة في شتى العلوم والفنون، وأنها وزعت على أبواب، باب يشمل الافتتاح بمقالة تتخذ مظهراً تقتضيها المحافظة على حياة مجدنا القديم، وباب تعده معرضاً لعيون مباحث علمية، وباب للآداب، وباب رابع للأخلاق، وباب آخر للأسئلة والاقتراحات، ثم خاتمة في مسائل شتى. ولئن قوبلت المجلة بالترحاب، وملأت فراغاً كبيراً في ميدان الثقافة الإسلامية في تونس، فإنها كانت وخزاً للمستعمر الفرنسي الذي دأب منذ صدورها على محاربتها، وملاحقة صاحبها، ومضايقته بشتى الطرق، حتى تم له إغلاقها ولم يمض عام على صدورها، وكان عددها الأخير يحمل عدد 21 غرة ذي القعدة 1322 هـ. وقد حدثني سيدي الوالد الشيخ زين العابدين -رحمه الله-: أن العم الإمام كان يصدر المجلة من داره في العاصمة تونس "نهج رحبة الغنم"، وكانت داره منتدى إسلامياً كبيراً يؤمه رجال العلم والأدب من تونسيين وعرب، وهذا هو السبب الذي دفع الاستعمار الفرنسي للتضييق على الشيخ مما أدى به الأمر إلى مغادرة البلاد تحت وطأة الاضطهاد، يتابعه حكم بالإعدام يحول بينه وبين العودة إلى الوطن.

وقد عمدت عند تحقيق هذه المجلة، وإعداد مباحثها التي كتبها الإمام الأكبر فقط للطبع، إلى جعل مقدمة المجلة مقدمة لهذا الكتاب الذي له نفس اسم المجلة "السعادة العظمى"، ومن ثم أوردت التقاريض حسب تسلسل نشرها في مختلف الأعداد، ومن بعد يطالع القارئ آثار الإمام التي نشرها في المجلة، وقد رتبتها بثلاثة فصول: يضم الفصل الأول المباحث العلمية، والفصل الثاني المباحث الأدبية، وأخيراً الأسئلة والأجوبة (¬1). والله سبحانه وتعالى نسأل السداد والتوفيق. علي الرّضا حسين ¬

_ (¬1) ملاحظة: حذفنا من الكتاب المقالين: "النهضة للرحلة" و"الرحلة الجزائرية" لسبق نشرهما في كتاب "الرحلات" للإمام.

مقدمة الإمام محمد الخضر حسين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الإمام محمّد الخضر حسين (¬1) نتحرى باسمك اللهم أسلوباً حكيماً، ونضع لعارضة اليراع قسطاطاً مستقيماً، ونستفتح خزائن النعم، ونستمنح لطائف الحكم، بحمد تنفث فيه الأفئدة روح الاخلاص، وتسلك بصيغته الألسنة مسلك الاختصاص، ونصلِّي على مبدأ عقد الرسل ومنتهاه، وواسطته الذي لم يتمخض الكون بمثل محيَّاه، وعلى آله وأصحابه، القابضين على سننه وآدابه، وننشر بيد الاستعطاف ألوية الرضا، على من له في فهم مقاصد الشريعة اليد البيضا، أما من انفرد بمضيق في بنيّات الطريق، فزاع بالكلم عن مدلولها، وانتزع الفروع من غير أصولها، فإليك إيابه، وعليك حسابه. أمّا بعد: فإن العلم أساس ترفع عليه قواعد السعادة، ولا تنفتح كنوزه إلا بتدقيق النظر ممن تصدى للإفادة أو الاستفادة، وهاته مقدمة لا يؤود اللسان حفظها، ولا يكبر على صدف المسامع لفظها. أما العقل الذي يقدر الأشياء حق قدرها، ويسير بمعيار التدبر والانصاف ¬

_ (¬1) المقدمة التي افتتح بها الإمام مجلة "السعادة العظمى"، وقد استوفت جميع صفحات العددين الأول والثاني الصادرين بتاريخ 16 محرم 1322 هـ.

بعد غورها، فلا ينسج إلا على منوالها، ولا يرسم حركاته إلا على أشكالها، وباستفراغ الوسع بالسعي وراء نتائجها العظام، دبَّر أبناء نشأتنا الأولى شؤون العالم بأبدع نظام، انفلق أمامهم صبح المعارف والهداية، فاستنقذوا من عماية الجهالة وظلمات الغواية، ونبذت مداركهم الوقوف مع الظواهر ظهرياً، ونشبت بلبابها فاقتطفته من أفنانه غضاً طرياً، ولم تستفزهم نزعات الكسل إلى البطالة والخمول، أو تجمد بهم عن التصرف فيما أضافه الشارع إلى المعقول، ولم تطرقهم -وهم الأشداء- نكبات الضعف، ولم يساموا وهم الأعزة بسوء الهوان والخسف، واستنكفوا من أن تكون ألسنتهم مركزاً للهذيان، واشمأزوا من أن تصبحَ سرائرهم مغمزاً لأصابع الشيطان، وما برحوا يعملون على هاته الشاكلة، متعاضدين على تأييدها بالاتحاد والمشاكلة، إلى أن استحوذ الفشل على بعض النفوس المستضعفة، وانخدعت بدسائس ما زيَّنه من الأباطيل وزَخرفه، ومدَّ يده "رماها الله بالشلل"؛ لنقض شيء من عرى ذلك الاستحكام وقد فعل. ومن ثم أزمع أبناء النشأة الآخرة، علاج تلك العلة الفاقرة، ومما تنافسوا في اتخاذه ذريعة لنجاح الأمنية، وتسابقوا إلى انتضاء غاربه فكان أسرع مطية، تدوين المجلات والجرائد، وترصيع عقودها بنفائس الفرائد. وكثيراً ما ترصدنا فترة من العوائق لمسايرتهم بتحرير مجلة علمية أدبية، توفية ببعض حقوق دينية، ولم تهب رياح القدر مسعفة بفصالها إلا في هذا الإبان، فخطرت بأمر مليكنا الأسمى، ومطلع السعادة العظمى، من أحيا بشباب ملكه مجد الأمة، ورفع سمك ترقيها بأكمل تبصر وأفخم همة، وانشرح به صدر الإسلام، وابتهجت بطالعه الأسعد ثغور الأيام، حضرة مولانا وسيدنا

"محمد الهادي باشا باي" أطال الله أمد حياته كما أطال له برود الإسعاد، وفاضت على يد تدبيره ينابيع الصلاح والسداد، ولا برحت حدائق آماله مثمرة، ورياض أنسه بأنجاله الأكرمين مزهرة. ولنتجاوز إثر هذا إلى صوغ سبيكة، تتجلى في مرآتها الأغراض التي تناط بها إرادة هاته المجلة فنقول: تفاتح مطالعيها بمقالة تتخذ مظهراً لبعض مطالب تقتضيها المحافظة على حياة مجدنا القديم، ويتلوها باب نعده معرضاً لعيون مباحث علمية، ولا نريد إلا انتظامها في أسلاك ما هو التحقيق بما يتخللها من الأفكار السامية، ويقفوهما باب ثالث تُنشر فيه من الآداب ما يكون مرقاة للتقدم في صناعتي الشعر والكتابة لا ليتمتع بها عند المسامرة، ثم ترفض كأضغاث أحلام، ونقصُّ في هذا الباب من التاريخ أحسن القصص، وإن في ذلك لعبرة لأولي الألباب، ويتصل بذلك باب رابع يبحث فيه عن الأخلاق كيف ينحرف مزاجها، وبماذا يستقيم اعوجاجها، ويندرج تحت عنوانه الاستشراف إلى العوائد من خلال الشريعة، ويليها باب آخر للأسئلة والاقتراحات، ثم خاتمة عنوانها مسائل شتى. ولنعطف عنان القلم قبل نشويه بأطراف المقاصد إلى الإفصاح عن ثلاث تلويحات، يزداد بها المنهج الذي نصرف إليه الوجهة اكتشافاً: التلويح الأول: لا ينازع في شرف العلم إلا جاهل لم يضرب له مع أهله بسهم، ولكن ذلك الشرف لا يثبت له بشهادة الشارع إلا من جهة أنه يفيد عملاً مكلفاً به، وهذا منتزع من عدة مواضع من الشريعة، كالإعراض عن إجابة المسائل التي لا يتعلق بها تكليف، والنهي عن كثرة السؤال؛ لأنه

مظنة السؤال عما لا يفيد، وبهذا تقيد النصوص المطلقة الواردة في فضله، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له طريقاً إلى الجنة". وصرَّح بعض الكاتبين بأنه شريف لذاته، واستند في ذلك إلى أنه لذيذ في نفسه، إذ هو نوع من الاستيلاء على المعلوم، ومحبة الاستيلاء قد جُبلت عليها النفوس فيطلب لذاته، وهاته شبهة، والذي ينفض قتامها أن مجرد الاشتمال على اللذة لا يقتضي شرفاً من قبل أن تقام عليه شهادة من الشارع، وكأين من لذة تقع من الإنسان موقع الطيبات، والأحكام الشرعية تريه أنها من أفرد الخبائث، كالزنا وشرب الخمر وسائر وجوه الفسوق والمعاصي، ولا ينتقض ما عقدناه بأنَّا نجد من العلوم ما هو فضيلة مثاب عليها، كالعلم ببعض الأحكام التي لم يحدث في الخارج ما تنطبق عليه، لأنه مظنة الانتفاع عندما يوجد محله. ويتفرع من هذا الأصل أن الخوض في المسائل التي لا يستنتج منها فائدة أو يستعان بها على ذلك الاستنتاج، ضرب من اللاغية وتعطيل للوقت النفيس من حلية الأعمال النافعة، ويلتحق بها في السقوط عن درجة الاعتبار الخلافات التي لا تنشق عن ثمرة، كاختلاف الأصوليين في مسألة هل كان عليه الصلاة والسلام قبل النبوءة متعبداً بشرع أم لا؟ ومسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا؟ ومسألة أمر المعدوم، وكاختلاف أهل العربية في مسألة اللهم، ومسألة أشياء، ومسألة اشتقاق الفعل من المصدر وغير ذلك. ويجتنى من هذا الفرع أن هاته المجلة لا تنثر من كنانتها إلا ما يشمله نظر الشارع بعنايته.

ومن ههنا نتخلص بطريق وجيز إلى خلاصة العلوم التي تنطق هاته الصحائف ببدائها، وهو التلويح الثاني: تتنوع هاته العلوم إلى نوعين: الأول: ما دونه أهل الإسلام، وهو إما لبيان ألفاظ القرآن فعلم التفسير، أو ألفاظ السنّة فعلم الحديث، أو لإثبات ما يستفاد منها وهو: إما عن الأحكام الأصلية الاعتقادية فعلم الكلام، أو عن أحوال النفس فعلم الأخلاق، أو عن الأحكام الفرعية فعلم الفقه. ثم لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني يفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط وهو أصول الفقه، أو ما دوّن لمدخليته في استخراج تلك المعاني من الكتاب والسنّة وهو علم الأدب، وينقسم على ما صرح به الأئمة إلى اثنى عشر علماً، منها أصول ومنها فروع، أما الأصول فالبحث فيها إما عن المفردات من حيث جواهرها وموادها وهو علم متن اللغة، أو من حيث صور هيئاتها وهو الصرف، أو من حيث انتساب بعضها إلى بعض بالأصالة والفرعية وهو علم الاشتقاق، وإما عن المركبات على الإطلاق فإما باعتبار هيئاتها التركيبية وتأديتها لمعانيها الأصلية وهو النحو، أو باعتبار إفادتها معاني متغايرة الأصل وهو علم المعاني، أو باعتبار كيفية تلك الإفادة في مراتب الوضوح فعلم البيان، وإما عن المركبات الموزونة، فإما من حيث وزنها فعلم العروض، أو من حيث أواخر بقيتها فعلم القوافي، وأما الفروع فالبحث فيها إما أن يتعلق بنقوش الكتابة وهو علم الخط، أو يختض بالمنظوم وهو العلم المسمى بقرض الشعر، أو بالمنثور هو علم الإنشاء النثري من الرسائل والخطب، أو لا يختص بشيء منها وهو علم التاريخ والمحاضرات، وأما البديع فقد

جعلوه ذيلاً لعلم البلاغة. النوع الثاني: ما دوّنه الفلاسفة كعلم المنطق والهندسة والعدد والطبيعة والطب والهيئة. ولنلمع بعد أن انضبطت هاته العلوم بوجه إجمالي إلى استطلاعات يتطرق بها إلى أبوابها، وهي التلويح الثالث: - الاستطلاع الأول: لما استيقن الصحابة أن فهم القرآن مرتقى صعب لا يتسنمه كل نظر، انتهضوا يفتتحون باب تفسيره وتأويله، والعلماء بعدهم على آثارهم مقتدون؛ رعاية لجانب من لا يهتدي إلى ذلك سبيلا، أما من تبحر في أصول الشريعة وفروعها، وبرع في الصناعة العربية بأنواعها، وتوفر له بذلك وجدان يدرك به كنه الإعجاز، فما كان ينبغي له الإقامة تحت قيد الحجر عالة على غيره، وروي عن ابن عباس أنه قال: "إن في القرآن علماً لا يسع أحداً جهله، علماً تعرفه العرب، وعلماً تعرفه العلماء، وعلماً لا يعرفه إلا الله". وهذا تقسيم للقرآن بحسب انقسام الناس فيه، فمنهم المقصر الذي لا يعلم إلا البيِّن، ومنهم الفصيح الذي لا يخفى عليه قصد المتكلم من تفسير الألفاظ ومقاطع الكلام، فيختص بمعاني خفية دون الأول: ولكنْ تأخذ الأفهامُ منه ... على حسب القرائح والفهومِ وحديث "من تكلم في القرآن بغير علم فقد أخطأ وإن أصاب"، معناه صحيح، وإن لم يصح سنده، وذلك بتخريجه على من تكلم في المشكل وهو لا يجد إليه سبيلاً مما يرجع إليه في تفسير ألفاظه.

ويشترط لفهمه أن يكون مطابقاً لما تقتضيه قوانين اللغة العربية انطباقاً مَحكماً لورود القرآن على أساليبها، بحيث لا يقتبس من مشكاة أنواره إلا ما يفهمه بلغاء العرب الذين نزل في عصرهم، ولا يكن في صدرك حرج من أن الصحابة كانوا على علو كعبهم في الفصاحة، وذلك كثيراً ما يرجعون إليه عليه الصلاة والسلام بالسؤال عن أشياء لم تصل إليها أفهامهم، بل ربما التبس عليهم الحال ففهموا غير المراد، كما وقع لبعضهم في الخيط الأبيض والأسود، لأن عدم توصلهم لفهم تلك الآيات، لم يكن ناشئاً عن استعمالها في غير المعاني المعهودة عندهم، أو على غير النمط المتداول بينهم، وإنما منشؤه الإبهام أو العموم أو الإطلاق، وهاته الطرق يرتكبها فصحاء العرب، فتحتاج إلى بيان أو تخصيص أو تقييد، وأما الاشتباه الذي وقع لعدي بن حاتم فلعدم اهتدائه لقرينة ذلك المجاز، يشهد لذلك ما أجابه به عليه الصلاة والسلام. وقد انجر الغلو ببعضهم في تفهم قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38} {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فأضافوا إليه كل علم للمتقدمين أو المتأخرين، حتى أهل المعمى والألغاز لم يتركوا حظهم، فقالوا في قوله تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] ما يمجه السمع ويتبرأ منه العقل، سبحانك هذا بهتان عظيم. والمراد بالشيء في الآيتين على ما قاله المحققون، ما يتعلق بحال التكليف، وحمل الكتاب في الآية الأولى على اللوح المحفوظ وما هو من سياق الآية ببعيد. وإذا تحقق هذا الأصل الأصيل، فإنا نجعله مركزاً لدائرة هذا الفن،

فلا نتقدم للخوض في عبابه إلا بعد الاعتصام به. - الاستطلاع الثاني: كان للسابقين الأولين توفر رغبة في رواية حديثه عليه الصلاة والسلام، حتى كان أحدهم لشدة اعتنائه بذلك يقطع المراحل الشاسعة، ويجوز المفاوز المتسعة، غير مكترث مما يتجشمه من العناء في طلب حديث واحد يسمعه من روايه: وكنتُ إذا ما جئتُ سعدى أزورها ... أرى الأرض تُطوى لي ويدنو بعيدها ولما قلَّ الضبط والتحري من الرواة "وما آفة الأخبار إلا رواتها" اشتدت الحاجة إلى تدوينه محافظة على ما فيه منافع للناس، من أهمها تبيينه لهم ما أنزل إليهم، واختلف أول ما صنف في الإسلام، قيل: "كتاب ابن جريج"، وقيل: "موطأ مالك بن أنس"، وقيل: إن أول من صنف وبوَّب، الربيع بن صبيح بالبصرة. ومن أهل هذا الشأن من قصر همته على تدوين الحديث مطلقاً؛ ليحفظ لفظه، ويفهم معناه، كما فعل "عبد الله بن موسى الضبي" وغيره، ومنهم من أثبت الأحاديث من مسانيد رواتها، فيذكر مسند أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ويثبت فيه كل ما رووه عنه، ثم يذكر الصحابة واحداً بعد واحد على هذا النسق، وهاته طريق "أحمد بن حنبل" وجماعة اقتفوا أثره في ذلك، ومنهم من يثبت الأحاديث في الأماكن التي هي دليل عليها، فيضعون لكل حديث باباً يختص به، فإن كان في معنى الصلاة ذكروه في باب الصلاة، وإن كان في معنى الزكاة ذكروه فيها، كما فعل "مالك بن أنس" في "الموطأ" ثم اقتدى من بعده.

- الاستطلاع الثالث: كانت العقائد في صدر الإسلام متمكنة تمكناً لا تزلزله الشبهات، كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، إلى أن خرجت طائفة من المبتدعة الضالين يبتغون الفتنة باتباع المتشابهات، وقام في وجوههم العلماء الراسخون يعلمونهم تأويلها، وكلما أوقدوا ناراً للفتنة أطفؤوها بأفواه الحجج القاطعة، ولما لم ينقطع ما في قلوبهم من الزيغ الذي هو مثار تلك الفتن، دوَّن أولئك العلماء علماً يُقتدر به على إثبات العقائد، وهاته العقائد يجب أن تؤخذ من الشرع ليُعتد بها. ومما يوجد في طوالع الكتب المؤلفة في هذا الفن، أنَّ أرفع العلوم الدينية ورئيسها علم الكلام، ووجهه أن المفسّر إنما يبحث عن معنى كلام الله تعالى، وذلك فرع على وجود الصانع المختار المتكلم، وأما المحدِّث فإنما يبحث عن كلام رسول الله وذلك فرع التوحيد والنبوة، إلا أنه مرؤوس لعلم التفسير من جهة أخرى، وهو ما أشرنا إليه من أن تلك العقائد لا يُعتد بها إلا إذا أخذت من الشرع الذي أصله الكتاب، وعلى هذا صنيع القاضي البيضاوي حيث قال: "علم التفسير رئيس العلوم الدينية ورأسها". - الاستطلاع الرابع: كانت العرب على جانب من التعلق بمكارم الأخلاق، ولعقلائهم عناية كبرى بالشجاعة والوفاء بالعهد والكرم، ومن طالع أشعارهم الحماسية، وتردد في بيوتها ينخل من معظمها إلى هاته الأوصاف الثلاثة، إلا أنهم أُشربوا في قلوبهم غِلظة وفي ألسنتهم فظاظة، وكلٌ يسعى وراء داعية هواه، ولذلك كانت الحروب بينهم ناشبة أظفارها، حاملة على الدوام والاستمرار أوزارها، ولما

تنفس صبح الشريعة المحمدية، أخذت تنزع من نفوسهم ما استغلظ فيها من الرذائل، وتطبع فيها ما تتحلى به من الفضائل، وذلك أول ما خوطبوا به، وأكثر ما تجده في السور المكية، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النحل: 90] الآية. وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151]. وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} {الأعراف: 33] إلى غير ذلك من الآيات، وابتدئت المخاطبة في هذا النوع بما كان مألوفاً عندهم قريباً لعقولهم، حتى تمكنوا منه ورسخوا فيه، ثم خاطبهم بما كانوا يظنونه صلاحاً ولا يُعقل معناه من أول وهلة، كتحريم الخمر والميسر والربا وهو من آخر ما حُرِّم، والحكمة الغرّاء في ابتداهم بهذا النوع، إيناسهم بما يعهدونه في الجملة ويتمدحون به وهو من بديع السياسة، ولأن الأعمال الصالحة لا تقام إلا على تزكية النفس وطهارتها، يحقق لنا هذا قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} [الأعراف: 58]، كما أن أضدادها لا تصدر إلا عن خبث ضربت عليه السريرة {وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} [الأعراف: 58]. وإذا كان في الأنابيب حيف ... وقع الطيش في صدور الصعاد وإذا نظر الإنسان نظرة أخرى، يجد ملاك الفضائل كلها إنما هو إشراق العقل، ويقع التفاوت فيها بحسب ذلك قوة وضعفاً، والذي يستوقده التعليم ينبئنا على هذا تقديمه على التزكية في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129]، ومن أعار هذا الموضوع نظرة ثالثة استقبل منه

ما استدبر على غيره، وهو أن الأخلاق ليست كلها طبيعية، ولو كانت كذلك لرُفضت السياسات، وتُرك الناس همجاً، ولتُرك الأحداث والصبيان إلى ما تُلقيهم إليه قذفات الصدفة، ولعلنا نزيد هذا المبحث بسطة فيما يستقبل، والنظر إلى هذا المطلب من خلال الشريعة أقرب للإصابة لأنها مما أتقنت صنعه، وأحكمت بيانه. - الاستطلاع الخامس: القصد من التشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية على وجه يستقيم به نظامها، وهذا يستدعي إرشاد المكلفين إلى حكم كل ما عسى أن يُعرض لهم من الوقائع، ومن ثم أخذت الشريعة بالاحتياط الكافي لتعميم الأحكام، فنصت على بعض الجزئيات؛ ليقاس عليها ما يشاركها في علل أحكامها، وأفصحت عن كليات يدخل تحت ظلها سائر ما لم يُفصَّل حكمه تفصيلاً، ولوَّحت بذلك إلى أنظار المجتهدين، فبذلوا أقصى ما عندهم من الاستطاعة في استخراج الفروع من أدلتها، وأفردوها بالتدوين، وعلقوا عليها اسم الفقه؛ ليسهل تناولها على من لم يصل إلى درجة الاجتهاد، أما من استكمل شروطه المقررة في الأصول، فلا يسوغ له المقام في حوزة التقليد، ودعوى أن باب الاجتهاد مغلق لا تُسمع إلا بدليل ينسخ الأدلة التي انفتح بها أولاً. - الاستطلاع السادس: بعد أن قضى العلماء حق الاستدلال عن الأحكام الفرعية بأدلتها، الكتاب، والسنّة، والإجماع، والقياس، استأنفوا الالتفات إلى كيفية ذلك الاستدلال، فانكشفت قضايا كلية تتعلق بكيفية الاستدلال، فدوّنوها وأضافوا إليه من اللواحق وسمّوا العلم المتعلق بها أصول الفقه، وأول من

صنف فيه الإمام الشافعي. - الاستطلاع السابع: من العلل التي طرأت على الألفاظ العربية استعمالها في غير ما وضعت، وهو من أتعس الذرائع للجهل بالقرآن والحديث، ولما انتبه لذلك عظماء الإسلام صرفوا هممهم في استيعاب الموضوعات اللغوية، وواصلوا فيها الدواوين، وهي موضوعة على أسلوبين، لأن من الناس من يذهب من جانب اللفظ إلى المعنى بأن يسمع لفظاً ويطلب معناه، ومنهم من يذهب من جانب المعنى إلى اللفظ، ولكل من الطريقين وضعوا كتباً ليصل كل إلى مبتغاه، فمن وضع بالاعتبار الأول فطريقه ترتيب حروف التهجي، إما باعتبار أواخرها أبواباً وأوائلها فصولاً، كما اختاره "الجوهري في الصحاح"، و"مجد الدين في القاموس"، وإما بالعكس، كما اختاره "ابن فارس في المجمل"، ومن وضع بالاعتبار الثاني فطريقه أن يجمع الأجناس بحسب المعاني، ويجعل لكل جنس باباً، كما اختاره "الزمخشري في قسم الأسماء من مقدمة الأدب". وقد اطلع أرباب هاته الصناعة على مأخذ عزيز، وهو أنهم وجدوا بعض الألفاظ عامة باعتبار وضعها خاصة بحسب استعمالها، ومعرفة الوضع في هذا النوع غير كافية، بل لا بدَّ من العلم بموارد الاستعمال، فتتبعوا ما كان من الألفاظ بهاته المثابة وأفردوها بالتدوين، وهو المسمّى "بفقه اللغة"، وهو من أكد ما يحيط به الكاتب والشاعر خبراً كي لا يُحرِّف الكلم عن مواضع استعماله. - الاستطلاع الثامن: كانت اللغة العربية في صدر الإسلام آخذة من الاعتدال والاستقامة

هيئتها الأولى، وفي آخر عهد الصحابة ألمَّ بمزاجها بعض انحراف نشأ من دورانها على ألسنة لم تتعودها منذ النشأة، فأوجسوا خيفة من سريان تلك العلة إلى جميع الألسنة، فتجتث اللغة من أصولها، وتنغلق عند ذلك أبواب فهم الكتاب والسنّة، فدونوا علم النحو، ولهذا السبب نفسه دونوا علم الصرف أيضاً، وما روي من قول سيدنا عثمان أن في القرآن لحناً وستقيِّمه العرب بألسنتها فغير ثابت نقلاً، ومستحيل عقلاً وشرعاً، والدليل على ما نقوله أن الاشتمال على اللحن إن ادعي أنه ثابت للقرآن حال نزوله، طعن في نحر هذه الدعوى قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وإن ادعي أن بعض القارئين لم يتله حق تلاوته، رد بأن الصحابة لا يقع منهم اللحن في الكلام فضلاً عن القرآن، وعلى فرض وقوعه فكيف يُظن بعثمان عدم تغييره؟ وكيف يتركه لتقيِّمه العرب؟ وأصل الرواية لمَّا فرغ من المصحف أتى به عثمان فنظر فيه فقال: "أحسنتم وأجملتم، أرى شيئاً سنقيِّمه بألسنتنا"، وهذا لا إشكال فيه لأنه عُرض عليه عقب الفراغ من كتابته فرأى في رسمه ما لا ينطبق على التلفظ به. - الاستطلاع التاسع: لما تحصحص بالبرهان الفصل أن القرآن معجز، أخذ العلماء يتفحصون الجهة التي وقع بها الاعجاز، والذي تخلص للجمهور أن عجز العرب عن معارضته لبلوغه الغاية القصوى في البلاغة، وحيث كان الكشف عن ماهيتها وتلخيص فروعها من أصولها لا يهتدي إليه كل عارف بأوضاع اللغة، أنشأت طائفة من ذوي الفِطَر السليمة تدقق النظر في كل كلام توسمت فيه أمارات البلاغة، حتى استئارت بذلك دقائق عجيبة ولطائف بديعة، انتظمت منها

أصول يُدرك العارف بها أن الكتاب العزيز له السابقية في هاته الحلبة، وصارت بهاته الجهة من العلوم الدينية، واشتغل بها طائفة من أهل هذا الشأن، وأولهم: "الشيخ عبد القاهر"، وبحسب اختلاف جهات البحث رتبوها على ثلاثة فنون: فن يبحث عن المركَّبات من حيث تختلف صورها لاختلاف الأغراض منها، وسمّوه فن المعاني، وفن يبحث عن الألفاظ من حيث كونها مستعملة في معانيها التي وضعت لها، أو فيما يناسبها اعتماداً على المناسبات، وسموه فن البيان، وفن يبحث عن أحوال تُعرض للكلام فتكسبه حسناً، وسموه البديع، ولغموض مسائل العلمين الأولين، عظمت العناية بهما عندنا بالحاضرة دون الفن الثالث؛ لسهولة مأخذه، عكس ما كان عليه أهل المغرب لعهد "ابن خلدون". - الاستطلاع العاشر: ينقسم الكلام العربي إلى نوعين: الأول النثر: وهو ضربان: سجع وهو الذي يؤتى به قطعاً، ويلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة، ولا يستحسن إيراده في مثل المخاطبات الإدارية والتحريرات العلمية إلا إذا أرسلته المَلَكة إرسالاً من غير تعسف، ومُرسَل وهو ما يطلق فيه الكلام إطلاقاً من غير تقييد بقافية. والعلم بصياغة هذين الضربين يسمّى بفن الكتابة وصناعة الإنشاء، ومما ينبهنا على شرفها، ما ناله أهلها من الرفعة ونباهة الذكر، "كالربيع والفضل ابنه"، و"بني برمك يحيى وابناه الفضل وجعفر"، و"بني الفرات" وغيرهم في الدولة العباسية، والأستاذ "ابن العميد"، و"الصاحب بن عباد"، وغيرهما في سلطنة بني بويه،

و"عبد الرحيم المشهور بالقاضي الفاضل"، و"العماد الأصبهاني" في سلطنة بني أيوب، و"ابن زيدون ولسان الدين بالمغرب"، و"عبد الحميد بن يحيى" كاتب مروان آخر ملوك دولة بني أمية، إلا أنه أطال النفس في الكلام، وزاد في المقاصد زيادة يخرج الكلام عن حد الإفادة، بحيث إذا ورد الكتاب على مأمور ينفذه، قال لكاتبه: "خذ هذا الكتاب واقرأه، وتأمل ما فيه، واستخرج لي غرضه"، فيتعب الكاتب في ذلك حتى يلخص عبارة وجيزة تتضمن المقصود، وتكون هي روح الكتاب، ويكون الباقي بمنزلة اللغو، وينقل عن "جعفر بن يحيى" أنه كان يقول لكتّابه: "إن استطعتم أن تجعلوا كتبكم كلها توقيعات فافعلوا"، والتوقيع هو ما يكتبه الكاتب عن السلطان فمن دونه من أولي الأمر في أواخر الكتاب مما يريد المكتوب عنه إجراءه، ويكون ذلك بعبارات مختصرة، وافية بالغرض، متمكنة في باب البلاغة، وكان الناس يطلبون توقيعات "جعفر بن يحيى"، حتى قيل: "إن الورقة من كتبه ربما اشتريت بدينار". - الاستطلاع الحادي عشر: النوع الثاني الشعر، وهو كلام مفصل قِطَعاً متساوية في الوزن، متحدة في الحرف الأخير، وله مباحث شتى، وليس من الغرض الآن الانطلاق إليها، فإن ظلها لغرة هذه المجلة غير ظليل، وخلاصة ما نقوله الآن: إن دراسة شعر العرب يُتَذرع بها إلى فهم نظم القرآن وأقوال النبي عليه الصلاة والسلام، فعدُّها من الدين ضربة لازب، وأما إنشاؤه فمع إحكام وضعه وانتفاء مواده التي يجب تحته منها فحلية للعلماء وزينة للأدباء، ومن تعاطاه لفضيلته لم يوحشه كساده.

- الاستطلاع الثاني عشر: لما انتهت الخلافة إلى بني العباس، كان أول من عُني منهم بالعلوم "الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور"، فبعث إلى ملك الروم أن يبعث إليه بكتب التعليم مترجمة، فبعث إليه بكتاب إقليدس وبعض كتب الطبيعيات، ولما أفضت الخلافة إلى السابع "عبد الله المامون"، تمم ما بدأ به جدُّه، فداخل ملوك الروم وسألهم وصله ما لديهم من كتب الفلاسفة، فأرسلوا إليه ما حضرهم من كتب "أفلاطون" و"أرسطو" و"بقراط" و"جليانوس" و"إقليدس" و"بطليموس" وغيرهم، وأحضر مهرة المترجمين فترجموا له على غاية ما أمكن، ثم كلف الناس قراءتها ابتغاء الانتفاع بها من حيث العلم والعمل. ومن فروعها علم الطبيعة والمنطق والهيئة والطب والهندسة والعدد، ولقد بالغ بعض المفسرين في نسبته الجهل للعرب بهذا العلم الأخير، حتى ذكره نكتة للتصريح بالعشرة في قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، وسنأتي على ما يخص هاته العلوم الفلسفية في فصل يستقل بها، نتصدى فيه لييان فوائدها مع تحرير المقدار الذي يجب الانتهاء إليه. هذا ونقدم لحضرة كل عالم نحرير، أو ألمعي مهذب، أو أديب بارع، ممن كتب على نفسه مراقبة أحوال جنسه العمومية، أن هاته المجلة مستعدة لقبول كل ما يرد عليها من الرسائل المنقحة، التي تنطبق على المنهج الذي كنا بصدد تسويته، ولا أخاله إلا صراطاً سوياً، ونؤمِّل من عواطف هؤلاء الفضلاء، أن ينظروا إلى ما تنطوي عليه صحائف هاته المجلة كيفما صدرت نظر بحث وانتقاد، وإن عثروا على نوع ما من الخلل جاهرونا به، ولا نتلقاه إلا بفساحة الصدر وغاية الارتياح،

بل ربما استدللنا بذلك على نجاح المسعى، ومن انسدت أمامه طرق الاذعان إلى الحق عميت عليه أنباء التحقيق. * استدراك: من مقاصد هاته المجلة التعرض لما تتداوله الألسنة وتتناقله الأقلام من الأحاديث الموضوعة، قال أبو بكر بن العربي: "إن ناقلها عن غير ثقة من غير أن يبين وضعها، يشمله وعيد قوله عليه الصلاة والسلام: "من كذَّب عليَّ ... " الحديث. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. محمّد الخضر حسين 16 محرم 1322 هـ

التقاريض

التّقاريض العلامة الشيخ محمد النخلي - العالم الشيخ عبد العزيز المسعودي - العلامة المحقق الشيخ محمد الطاهر بن عاشور - العلامة الشيخ محمد الصادق المحرزي - العالم محمد الحشايشي الشريف - الأديب السيد محمد الكامل ابن عزّوز - العالم الشيخ إدريس بن محفوظ الشريف - الأديب صالح سويسي - الشيخ محمد شاكر - العالم الشيخ محمد العروسي السهيلي الشريف - العلامة الشيخ محمد بن سالم الأكودي - العالم الشيخ علي بن رمضان - العالم الشيخ علي السنوسي - السيد محسن زكرياء - السيد محمد العزيز الشيخ - الشيخ الأمين بوعلاّق - الأديب السيد محمد المذكور بن الصادق - الأديب الشيخ العربي الكبَّادي - العالم الشيخ محمد بن مصطفى زروق - السيد محمد الطاهر بودربالة - العلامة القدوة الشيخ محمد المكي بن عزّوز - الشيخ عبد الحفيظ القاري - الشيخ صالح صفر - السيد أحمد بن سليمان. - منها ما صاغه العلامة، الفهامة، الماجد، الشيخ السيد محمد النخلي، أحد أعيان المدرسين بالجامع الأعظم، ونصه (¬1): أيها الفاضل البارع، النازع بهمته السامية إلى أرقى المنازع، بعد تحية ¬

_ (¬1) العدد الثالث - الصادر في غرة صفر 1322.

يعبق من نشرها الورد، بما انطوى في ردنها من الود، فقد جاءتني ونعم المجيء، جاءت سعادتكم العظمى، التي هي سعادتنا العظمى، وما شاء الله فقد رميت وأبعدت المرمى، سبحان الله ما أسبك ذلك التحرير، وما أبرع ذلك التقرير، فقد وجب أن يكتب بالنضير، على ورق الحرير، وقصارى ما أقول، كثَّر الله من أمثال حضرتك، وأبدر هلال مجلتك: مجلتكم جلَّت وأسعدها السعدُ ... وحازتْ فخار العلم والشاهد النقد ومنيتنا القصوى ابتدار هلالها ... إلى قنة الإبدار كي يكمل القصد إذا شرَّف الموضوع مقصد عاقل ... فذي بعلوم الدين تشريفها يبدو وخاتمة الدعوى نجاح مقاصد ... لفاتحة الأعمال يا أيها الود - ومنها ما جادت به قريحة العالم الأبرع، الماجد الشيخ السيد عبد العزيز المسعودي، أحد الكتبة بالوزارة الكبرى، ونصه (¬1): الصديق الأعز منشئ "السعادة العظمى" الشيخ السيد محمد الخضر ابن الحسين. سنا بارق الإقبال في أفق القطر ... يعنون عن معنى كمال ذوي العصرِ ولستَ ترى غير الصحائف آية ... تُقام على صدق المقال لذي فكر ولا سيما إن شخصت في مسارح ... من القول تحقيقاً يبين لمن يدري تشير لأسباب التقدم في الورى ... وتبعث روح الفخر في الرجل الحرِّ وتضرب في الإبداع ما إن تنوعت ... وفي كل ما تبديه مُستجلِب الشكر ¬

_ (¬1) العدد الثالث - الصادر في غرة صفر 1322.

فإنْ رفع الأستارفيها ممثِلٌ ... لشيء من الأخبار كنتَ على خبر وإن ذُكرت فيها التراجم ربما ... رأيتَ وجوه القوم تبدو من السطر وخُيِّلتَ أن اللفظ ينطق بعد ما ... فنى موجد الإفصاح وهو من النشر وإن جاب ميدان الفنون مديرها ... وقام بذكر العلم حدِّث عن البحر وأنت أيا منشي السعادة بيننا ... ويا رائد الإسعاد والنجح والظفر دريتَ دواء الجهل غبَّ تبصر ... فجئتَ به للقوم في مظهر الذكر وخبرتَ ماهم والنصيحة إن جرت ... وحالهم في العلم والذوق والفكر فأبرزتَ مرآة الصحيفة هادياً ... ليرقى مريدُ الخير في مرتقى الفخر فلله أنتَ من عليم سَمَيْدَعٍ ... ولله أنتَ من أديب ومن حرِّ ولا فُضَّ فو تلك المجلة بعد ما ... تبسم عن مثل العقود من الدر ولا زال منشيها العزيز مؤيداً ... يقابَل بالإقبال مع سعة العمر - ومنها ما حرره العلامة المحقق، صفوة الخير، الشيخ السيد محمد الطاهر ابن عاشور، أحد أعيان المدرسين بالجامع الأعظم (¬1): إلى العلامة النحرير، صديقي السيد منشيء مجلة "السعادة العظمى" أيده الله تعالى، سلام وتحية وإجلال، كما يليق بذي قلم سعى بصريره في تقويم الأمة، وتأييد شرعة الحق، وأطلع لأهل لغتنا العربية شمساً طالما حجبها دونهم سحاب مركوم، وأعقب نهارها ليل عطَّل سماءه أفول البدر وإدبار النجوم. ¬

_ (¬1) العدد الثالث - الصادر في غرة صفر 1322.

أما بعد: ما سكنت هواجسي، ولا اختلف إدراكي، بأن كنه حياة الأمم ونفثة روح استفاقتها من سنة الجهالة وفساد الأخلاق، ليس غير بث الفضيلة وإيقاظ العيون إلى الواجبات والحاجات الأولية بعد حيرتها في ظلمات الشبهات التي غشيت أبصارها، وخيلت لها جميع ما يحيط بمركزها مهاوي تتوقع السقوط إلى قعرها، فلا ريبة أنها إن أشرقت عليها أنوار التيقظ أضاءت لها الأرجاء، فتقدمت نحو غايتها بخطى واسعة فما وصولها إليها بعد بعزيز. أما إن ذهبتُ أفكر كيف يكون إيصال هذا المعنى إلى أمة كاملة، وأي لسان يُسمعها إن ناداها، وهي تملأ من الكون فضاء رحباً، وتختلف في الشرب الخلاف الذى صيَّر جميعها صعباً، فإني لا أجيد خليقاً بذلك غير لسانين: لسان التعليم (وإنه للسان حكيم)، لكنه يشتمل على عقدة ربما لا تجعله نافعاً في ذكرى الذاهلين وعظة المسرفين، ولسان النشرات العلمية التهذيبية تموج صدى صوته تجاويف حروف الطبع، فيخترق آذاناً طالما تصاممت عن عظة الواعظين، ويبلغ إلى قلوب غرق بها منام الحالمين، فلا تسل بعد عنها، وقد أشرقت عليها أنوار المعارف، كيف تنهض إلى سماء حقائق الأشياء فتصافح أفلاكها، فإن عجزت عن إدارتها لا تعدم نقد حركاتها. ثم ما زلت راجياً أن أرى منّا ناهضاً يحمى لهاته الأمة فخاراً، ويقول لأهلها: {امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [القصص: 29]، فهذا رجائي قد أسفر عن مجلتكم العظمى، وعسى أن يقارنها من تعضيد المؤازرين ما تحقق به الآمال،

وسيكون إن شاء الله من اسمها للأمة أصدق فال. لكنك ستجد في صنيعك هذا ألسناً شاجرة، وصدوراً ثائرة، وعيوناً متغامزة، كما وجد الناهضون من قبلك، فإن استطعت أن لا تزيدك أراجيفهم إلا معرفة بكر نفسك، وتصميماً على غاية فكرك، ولهواً عن قولهم، فإنهم حاسدون، ويأساً من نصرتهم فأولئك هم الخاذلون، ولتكن استعانتك وتوكلك على من كفل الهداية إلى الصراط المستقيم، فسيكفيهم الله وهو السميع العليم، وإليك تحية صديق مخلص، ونصير مؤازر. - ومنها ما أنشأه العلامة الدرّاكة، الماجد، الشيخ السيد محمد الصادق المحرزي، أحد أعيان المدرسين بالجامع الأعظم، ونصه (¬1): يا صاحب القلم الذي ... فَصْلُ الخطاب غدا مداده وافتني منك مجلة ... جاءت على وفق الإرادة علمية أدبية ... تختال في حلل الإفادة فعسى توشحها بما ... في نشره نيل السعادة فيحق قول مؤرخ ... هي السعادة في السعادة - ومنها ما سبك نظامه الفاضل، العالم، الماجد، الشيخ السيد محمد الحشايشي الشريف، متفقد خزائن الكتب بالجامع الأعظم، ونصه (1): تشرفتُ باستطلاع فكركم الأسمى ... وما ذاك إلا الدر ترسمه رسما تطوقت الأعناق من سمط نظمه ... فأكرِمْ به ذخراً، وأعظم به علما ¬

_ (¬1) العدد الثالث - الصادر في غرة صفر 1322.

وقد شنّف الأَسماع منا وقد غدا ... يزيل عن الألباب من نوره الرسما إليك (أبا عبد الاله) (¬1) محمداً ... شهادة عبد قاصر صاغها نظما مجلتكم روض من العلم يانع ... سترقى بفضل الله أغصانه النجما وماذا أقول في مجلة فاضل ... حوت من صنوف العلم ما نوَّر الفهما وقد خلصت من كل بدعة زائغ ... فحقاً بأن تُدعى سعادتنا العظمى ومن لم يشارك في السعادة قاصر ... على نيلها فاسعد ودم جهبذاً قرما - ومنها ما أنشأه الأديب، البارع، الماجد، السيد محمد الكامل بن عزّوز، ونصه (¬2): بدت تختال في بُرْد السعادة ... وزفت والقبول لها قلادة مجلة بارع فهدى سناها ... يضيء الفكر إذ يوري زناده رَقَتْ في دوحة العليا فأضحت ... يُقِرُّ بفضلها أهل المجادة فيابن الأكرمين أصبت مرمى ... وحزت السبق في تلك الإرادة كمال جنابك السامي حريٌ ... بأن يجري بحلبتها جياده وخضتَ بها علوماً لا تُجارى ... فكان بها عظيم الاستفادة وإنك قد زرعت خصال خير ... لما ستنال في الأخرى حصاده خدمتَ بها بني الوطن المعلَّا ... ليجني من تفننها إفادة وأقرب ما يكون النجح يوماً ... إذا ما العلم أصبح في زيادة ¬

_ (¬1) أبو عبد الله: لقب الإمام محمد الخضر حسين. (¬2) العدد الثالث - الصادر في غرة صفر 1322.

ولما أشرقت في الكون أرِّخ ... بدا في تونس نهج السعادة - ومنها ما جادت به همة الهمام الأمجد، الأبرع، الأعز، السيد محمد بوسن، رئيس مجلس عدلية الكاف، ونصه (¬1): أتشرف بأن أنهي لمجادتكم أيها الجهبذ المفضال كامل التهاني الودية، الصادرة عن إحساسات خالصة قلبية، ببزوغ شمس مجلتكم "السعادة العظمى" الفيحاء البهية، في أفق سماء حاضرتنا المحمية، والشمس عن مدح المادح غنية، ولعمر الحق إنها مجلة جلَّت عن النظير، وتجلت بوجه مشرق نضير، فقوبلت من الخاص والعام، بما يليق بحسنها وبهائها من جزيل التبجيل والإكرام، مرموقة من جميعهم بأعين الإجلال والإعظام، والمسؤول من فيض نوال الملك العلَّام، أن ينيل من فوائدها ومباحثها المهمة المسلمين والإسلام، بحق نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام. - ومنها ما تفضل به العالم الدرّاكة، الماجد، الشيخ السيد إدريس بن محفوظ الشريف، أحد أعيان المتطوعين بالجامع الأعظم (1). زهر المعارف بالرياض المزهر ... قد لاح يخطو في الجمال الأفخرِ يُجلى بدست مجلة قد أسفرت ... تفترُّ عن ثغر عقيق جوهر تزري بكل مليحة في حسنها ... سحرت عقولاً بالبديع المبهر برزتْ مجلات بنعت فائق ... عظمى سعادتها لنيل المفخر جمعت فوائدَ من فنونِ عوارفٍ ... قد رامها مَنْ خاض كل الأبحر ¬

_ (¬1) العدد الرابع - الصادر في 16 صفر 1322.

وحوتْ من الدُّر النفيس لطائفاً ... ومن المعاني رائق المستندر خفقتْ لها رايات فضلٍ نفعها ... يعلو على رغم الحسود المنكر يا فوز من أضحى سمير حديثها ... يشفى بلطف في مذاق السكر من ذا الذي يحكي نسيج برودها ... فاقت طراز السندسي العبقري لله ما أسنى مقاصدها التي ... جرّت ذيول محاسن المتبختر كلّا فما تلك المقاصد رامها ... غير العليم الأوحد المتبصر ذاك الجليل "محمد الخضر" الذي ... من أشرف البيت الكريم المعشر نجل الحسين العارف الأسمى ومن ... هو منهل أحيا طريق الأزهر شهم ترقى في معارج مجده ... كل الفضائل نالها بالأوفر أما شمائله ونفحة علمه ... بين الحديقة والغمام الممطر أكرِمْ به حَسَباً زكا وبأصله ... نسباً شريفاً مثل صبح مقمر من بضعة المختار أكرم مرسَل ... فبكل مكرمة فذاك هو الحري صلى عليه الله ما دام الحجا ... متأنقاً في روض وشي الأسطر والآل والأصحاب ما هبَّ الصبا ... وترنم القُمري بغصن مثمر - ومنها ما صاغته قريحة الفاضل، البارع، المهذب، السيد صالح سويسي، أحد الأدباء بالقيروان، ونصها (¬1): نور "السعادة" لاح في الآفاق ... وسناء فجر الرشد في إشراق وكؤوس راح العلم دارت بينتا ... من غير مهل، فاسقني يا ساقي ¬

_ (¬1) العدد الرابع - الصادر في 16 صفر 1322.

قم عاطني لا خير فيمن قد صحا ... عن خمرة العرفان والأذواق من لم يذق من دنِّها باع العلا ... وغدا بنار الجهل في إحراق فمن المؤكد صاح أن تسعى لها ... أهل النُّهى سعياً على الأحداق بادر بنا فالوقت راق لذي الحجا ... وفيالق الإنكاد في إخفاق أو ما ترى نادي "السعادة" قد زها ... والقلب طار له من الأشواق كل السعادة في "السعادة" أُدرجت ... فانهض إلى باكورة الإطراق لله حسن مجلة أبدت لنا ... ما فيه تبصرة لفكر راقي ومديرها ذاك الغيور من اكتسى ... حلل المحامد والثناء الباقي قد قام يوقظ قومه بمواعظ ... من نومة التأخير والإغراق دفعته للإرشاد غيرة حازم ... قد حركته عوامل الإشفاق يا أهل تونس عاضدوا مشروعه ... فلكم جميل مكارم الأخلاق وتجملوا بمحامد من نصحه ... فالنصح للإسلام نعم الواقي فالعبد يرجو من صميم فؤاده ... حسن النجاح له من الخلّاق - ومنها ما صاغه الفاضل، الدرّاكة، الأبرع، الشيخ السيد محمد شاكر، أحد أعيان العلماء بصفاقس، ونصه (¬1): هناءً لهذا القطر بالمأمل الأسمى ... وبشراه إذ لاحت سعادته العظمى مجلة علم طالما استشرفت لها ... نفوس ذوى الآداب ممن حوى العلما تجلتْ ونور الرشد من أفقها أضا ... وعرف الفلاح الصرف من روضها شما ¬

_ (¬1) العدد الخامس - الصادر في غرة ربيع الأنور 1322.

ستثمر إن شاء الكريم تقدماً ... تُباهي به الخضرا موالية بسما وتخفق للإسلام رايات مجده ... ويعلو بها العلم المفيد ذرى شما وتنفث في روع المطالع رشده ... وتؤتيه من آياتها العلم والحكما ولا غرو إذ كان المرصع درها ... فتى مثله في العصر ما خلته ثما فتى جامع بين المعارف والتقى ... وفي كرم الأخلاق حاز المدى الأسمى هو الخضر الحبر الأريب محمد ... سليل ولي الله مَنْ سِرُّه عمّا دعا ذلك النحرير أمته إلى ... سعادتها العظمى فأعظم بها غنْما فهل يرتضي شهم فوات اقتنائها ... فرائد في سلك الهدى نظِّمت نظما لعمرك إن كانت لأنفس قنية ... ينافس فيها كل من لبس الحزما فمدوا أولي الألباب أيدي جدكم ... عسى أن نرى الإسعاد للقوم قد تما - ومنها ما كتبه الفاضل، العالم، الثقة، الشيخ، السيد محمد العروسي السهيلي الشريف، أحد أعيان المتطوعين بالجامع الأعظم (¬1): نحمدك يا من منحت كل مخلوق ما تيسر له، وهديت للخير من أسعدته فقام به وأحسن عمله، ونصلي ونسلم على من أرسلته بالحكم النافعة، وأيدته بالبراهين الساطعة، وخصصته بالكلم الجامعة، وعلى آله الطيبين وأصحابه الهداة الأقطاب، ما توشحت الصحف بثمار المعارف والآداب. أما بعد: فإن العلم أبهى مطلب، وأسنى مأرب، وأنفع غنيمة، وأرفع من كل ¬

_ (¬1) العدد الخامس - الصادر في غرة ربيع الأنور 1322.

شيء قيمة، وفق الله رجالاً هجروا في تحصيله المنام، وقاموا ببثه نصيحة للأنام، فألَّفوا التآليف المفيدة، وحلوا مشكلات المسائل بما امتازوا به من الآراء السديدة، ومن أجلِّ محبراتها مجلة "السعادة العظمى" التي ظهرت في عالم الطباعة، تجر ذيل تيه البلاغة والبراعة، ولقد أسعدنا الحظ بمطالعتها، فنزهنا الفكر في رياض آدابها، وكرعنا من عذب عبابها، فألفيناها وأيمن الحق حديقة آداب، وروضة فخر مفتحة الأبواب، طافحة بالمسائل العلمية، مطرزة بالفوائد الأدبية، والنصائح الدينية، فقراتها بحور زاخرة، وبدور سافرة، ودراري زاهرة، على غاية ما يمكن من الوشي والتحبير، ونهاية رقة السبك والتحرير، كيف لا وهي تنضيد من استمدت من نوره السعادة، ونسيج من أضحى في جبين الدهر غرة الإفادة، لا زال ناشراً لواء العلم، لابساً حلل الكرم والحلم، فقد جاد فيها بما دلَّ على تضلُّعه في المعارف والآداب، وفتح بها للصواب أقرب باب، فجاءت رقيقة المعاني، متينة المباني، نسأل الله لها الدوام في عالم الإقبال والتبجيل، ولصاحبها النجاح والجزاء الجميل، على هذا الأثر الجليل. - ومنها ما حرره العلامة الهمام، الماجد، الشيخ، السيد محمد بن سالم الأكودي، القاضي ببنزرت، ونصه (¬1): راية السعادة التي افتخرت بها يمين المعارف، وآياتها الباهرة وظل عزها الوارف، العلامة الصهميم (¬2) والخل الحميم، منشئ مجلة "السعادة العظمى" أدامه الله ولواء سعادته خافق منشور، وحديث فضله على ¬

_ (¬1) العدد الخامس - الصادر في غرة ربيع الأنور 1322. (¬2) الصهميم: السيد الشريف.

صفحات الأيام مسطور. بعد تحتية يعبق شذاها، ويشرف بكم محياها، فقد وصلتني مجلة "السعادة العظمى" التي يسطع نورها، وينصع نَوْرها، وتجر ذيول الفخر على سحبان وائل، وتصدع بكم ترك للأواخر الأوائل، فما شئت من معان حرة، وبلاغة مدت أطنابها على المجرة، تخرق بأشعتها حجب الألفاظ، وتسفر عن فتكات مراض اللحاظ، وألفاظ تميس في حلل إبداعها، ويشدو طير البيان على أفنان يراعها، ونثر تحسبه على الورق، حصباء در على أرض من الوَرْق، ونظم لا للجواهر، بل للنجوم الزواهر، وتلك الفضائل لا تلمع بروقها إلا من السحب التي لم تزل يتفيأ ظلها، وأنتم أحق بها وأهلها، فجازاكم الله عنا أحسن الجزاء، وجعل أطناب سعادتكم منوطة بمناكب الجوزاء، فلا يرتاب أن صنيعك هذا تهز به أعطاف الفخر، وتدخر فيه عند الله أعظم ذخر، فالله عزَّ اسمه يُكثِّر من أمثالك، ويهدي القلوب بأقوالك وأعمالك. - ومنها ما كتبه العالم، البارع، الشيخ، السيد علي بن رمضان، أحد أعيان المتطوعين بالجامع الأعظم، ونصه (¬1): إن أفصح كلام سمع وأعجزه، وأوضح نظام جمع وأوجزه، حمد الله الذي أحاط بكل شيء علماً، وخصص من شاء بما شاء رحمة منه وفضلاً وحلماً، والصلاة والسلام على نبينا سيدنا محمد صاحب السعادة العظمى، وعلى آله وصحبه وكل من كان لحزبهم منضماً. ¬

_ (¬1) العدد الخامس - الصادر في غرة ربيع الأنور 1322.

أما بعد: فقد اطلعت -أعزك الله- على فاتحة سعادتكم العظمى، وذخركم الأسمى، فوجدتها روضة حكم قطوفها بالفضائل دانية، ودرة طلاب بجواهر المحاسن سامية، تحلت بها لشقيقتها الأخرى نحور، وتجلت لها منها حور، كأنهن الياقوت والمرجان، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، فأزرَتْ محاسنها بالبدر اللياح، وسرت فضائلها سرى الرياح، وتشوقت لعلاها الأقطار؛ ووكفت تحكي نداها الأمطار، ونالت بها الأمة الأرب، وأتنها تنسل من كل حدب: عروس جلاها مطلع الفكر فانثنت ... إليها النجوم الزاهرات تطلع زففتُ بها بكراً تَضوَّع طيبها ... وما طيبها إلا الثناء المضّوع لها من طراز الحسن وشي مهلل ... ومن صنعة الإحسان تاج مرصع فلله من سعادة امتزجت بعقولنا أنوار محاسنها امتزاج الماء بالراح، وتعلقت بها تعلق الأرواح بالأشباح، حتى أهدت معانيه لمعانيها زهو الشقيق على الأقداح، وسمت مبانيها على يد بانيها سمو الصبا في الصباح، ولعمري ما هو في الفضل بدخيل، ولا يعزى إليه المجد بقيل، فلو تسابق مع فرسان البلاغة لقال: جاء الكل بعدي، أو سُئل عن الفصل لقال: الماء ماء أبي وجدي، وبالجملة فليس القول في كمالات مشروعكم ذا حصر، إذ لو مددتُ باع مدحي له لوجدته ذا قصر، ولو تكلفتُ أن أصف جميله لخرجت عن الطاقة، واعترفت بأني ذو فاقة، وكيف أعدّ من المحاسن ما لا يُعدُّ؟ أو كيف أحصر من الفضائل ما لا يقف عند حد؟ وها أنا قد عجزت فأوجزت، وقصَّرت فاقتصرت.

- ومنها ما كتبه العالم، البارع، الماجد، الشيخ، السيد علي السنوسي، أحد أعيان المتطوعين بالجامع الأعظم، ونصه (¬1): أيها العالم النحرير، الموشي حلة الفصاحة بتحبير التحرير، مدير "السعادة العظمى"، والبالغ من قنن الآداب المرتبة القصوى، أتم الله سراج عملك، وقرن بالسعادة خلاصة أملك، وحرس دينك ودنياك، وأدام تمكينك وعلياك، وبعد سلام تستنير في سماء الود أنواره، وتزهو في حدائق الصداقة أنواره، فقد تشرفت بمزيد السرور، ووقفت موقف الحامد الشكور، بالثمرة الشهية، والدرة النقية، التي بزغ في أفق السعادة هلالها وبدا جمالها، ومن أجله أفل القمر وبدا نقصه بعد أن ظهر كماله، فياحبذا طالع الجمال، الذي كان في غرتها كبراعة الاستهلال، قارنه العمر المزيد، للأمد البعيد، حتى يصان من الأفول هلالها، ويصير بدراً نيراً لنرى كمالها. ولما أرسلت رائد الفكر في حياضها، وسرحت بريد النظر في رياضها، وجدتها جنة العلوم، مزهرة بأنواع من منثور ومنظوم، نشرت النسائم زواهر أغصانها؛ وباحت حمائمها بترديد سجعاتها وترنمت بأعذب الأساليب فنون ألحانها، بالدر طرزت ألفاظها، وبالفرات فاضت حياضها، ففاقت بحسن نظامها على عقود اللآل، ولم يتقدم لنا نظيرها في العصر الخوال، جامعة لعوارف المعارف، وطريف اللطائف، من كل الأرجاء، وكل الصيد في جوف الفراء، فهي آية للألباء وذكرى، وإن من البيان لسحرا، فحق للقطر أن يفتخر بمجلة حافلة بالمزايا، كافلة باستخراج الفرائد من خبايا الزوايا، فمطالعها تتسع دائرة إطلاعه، ويمتد إلى المعالي طويل باعه، ويجتني ¬

_ (¬1) العدد الخامس - الصادر في غرة ربيع الأنور 1322.

الآداب، من حدائقها الرحاب، فإنها جهينة الأفكار، وخزينة الآثار، والأصل في الصلاح، والمرشد إلى سبيل النجاح، أنبتها الله نباتاً حسناً، ومنحها سناء وسنى. - منها ما صاغه الماجد، الأبرع، الأعز، السيد محسن زكرياء، ونصه (¬1): إلى صفوة الأخيار العلّامة صاحب "السعادة العظمى". حمداً لمن بسط علينا جناح العلم، لإزاحة ظلمات الجهل والوهم، وأحيانا بعد الممات، للنهضة وإدارك ما فات، ونصلي ونسلم على من زرع فينا روح السعادة العظمى، وعلى آله نور الهداية، من بسيوف علمهم قطعوا كل ضلالة وغواية، ومهَّدوا بأعظم عناية، طرق الرواية والدراية. أما بعد: تقديم تحيتي المعطرة بالهناء والوداد، لحضرتكم أيها العالم الخبير، والدراكة النحرير، أشكركم حيث أدخلتموني في زمرتكم أهل العلم والأدب، بدليل إرسال مجلتكم العلمية بديعة الطرز، لأشارككم في الإفادة والاستفادة، فبعد فك ختامها، سرَّحت نظري في ساحة رياضها، واستنشقت نسيم أزهارها وذقت سلسلبيل حياضها، وجدتها غادة فريدة أم لؤلؤ منثور، أم عقد درّ في نحور الحور، أم عروس الأزهار تجلى بين غروس الأشجار؟ ترنمت بمعرب ألحانها، وطربت بذلاقة لسان أغصانها، فناهيك بها من خريدة فازت في حلية الكتابة والتأليف، وحازت قصب السبق باشتمالها على حسن الترصيع والترصيف، مشحونة بفوائد لطيفة، واستطلاعات ظريفة، ألفاظها رائقة ¬

_ (¬1) العدد السادس - الصادر في 16 ربيع الأنور 1322.

فسيحة، وأبحاثها من مثل وتاريخ صحيحة، يعترف المنصف لها بالصواب، ويذعن الحسود لفضلها فلا ينبسر للرد عليها ولو بجواب، لله مجلة سمت في الحاضرة، لما حوت من علوم وآداب يانعة ناضرة، يمتد لها أعناق ذوي الهمم من كل جانب، ويشخص أبصار ذوي الفضائل من المشارق والمغارب، سترد الأمة بصيرة، لما تقدم لها به من إرشاد ونصيحة، فما أعظمه حظاً قمتم به في مجتمع الإنسان الضروري ليجتني مصالحه المتوقفة على التعاون، الذي لا يحصل إلا إذا كانت الأمة قلباً واحداً. ولما وجدت حزمتها منحلة، أردت جمع ما تشتت منها وربطها بكلمة الدين، أعانك الله على ذلك الجمع تحت الكتاب والسنّة، وعلى محو البدع والضلالات المشينة للدين اللاتي دسهن أناس أرادوا بنا هبوطاً إلى ما نحن عليه من الإنصرام، صرّم الله حبال جمعهم، وفرّق شملهم وكلمتهم، فبهمتكم من حثكم على الاعتصام بحبل الله وعدم التفرقال في هو أمر أولي هيولي، لا بد منه لأن كل ما سواه ثانوي، ولأن الوقت يوجب على كل من فيه أدنى شعور، الالتحام مع أخوته، ثم على العلم والعمل، وأن يعمل الإنسان للدنيا كما يعمل للآخرة، كما جاء به صريح نص السنّة، تستيقظ الأمة من سنتها. فلا شك أن هذا غاية تأسيسكم لهاته الوسيلة السامية في برد العلم والفضل، وهي أقرب وأسهل طرق الإفادة، وتنبيه أمة استهواها شيطان الغفلة والكسل وتسيطرت عليها الشهوة، وإن كان الله تعالى نَوّرها بالبصيرة التي من شأنها تقودها إلى الخير وتصدها عن الشر، إلا أن تلك الشهوة والأغراض النفسانية التي تهبط بالأمم إلى الذل والخسران "أعاذنا الله وإياكم" تخالف تلك البصيرة عما تراه، فتريد سلوكه من حميد الخصال، والإقبال على صالح

الأعمال، فبخالص نصحكم تعمل لما فيه خيرها، والله يوفر أجركم على سلوككم هذا المسلك الحسن والسلام. - منها ما نظمه الفاضل، البارع، المجيد، السيد محمد العزيز الشيخ، ونصه (¬1): بدت كما شاء أهل العلم والبصر ... تزري بدائعها بالأنجم الزهر وافت وفي طيها نشر العلوم وتحـ ... ـقيق الفهوم بما تحويه من غرر مجلة نظمتْ شمل المحاسن إذ ... جاءت بأنفس في الأسماط من درر زُفّت إلينا، وعين الحظ تلحظها ... واللطف يبرزها في المنظر النضر تختال في حلل التحرير قائلة: ... بي أيها العصر، فاسحب ذيل مفتخر فهي السعادة في نيل السعادة قد ... أضحت بطلعتها الخضراء في وطر عن نفسها كتبتْ أن لا يفوز بها ... إلا الذي صدره خال من الوجر دلتْ على فضل منشئها وغيرته ... كالسيف دلَّ على التأثير والأثر لو لم تكن خدمة الإسلام نيتها ... لما بها حف إقبال من البشر وهي الغريبة في الإبداع قد تركت ... من راح ألفاظها الأرواح في سكر وكيف لا وهي من إنشاء نادرة الـ ... ـعصر الكريم "أبا محمد الخضر" أستاذنا الأبرع النحرير من كُتبتْ ... حقاً مناقبه في صفحة القمر في كل فن له الباع الطويل يرى ... وزند فكرته في المشكلات وري لله درك من حبر نهضت لإر ... شاد العباد نهوض الحازم الخبر فأطربت من له فهم مقاصدكم ... ففاض يثني عليكم بالثنا العطر ¬

_ (¬1) العدد السابع - الصادر في غرة ربيع الثاني 1322.

تالله يا صاحب المجد الأثيل لقد ... نظرت فيما صنعت موقع النظر فدم عزيزاً قرير العين مرتقياً ... أسنى المراتب محفوظاً من الغير - ومنها ما كتبه الفاضل، الأمجد، الأبرع، الشيخ، السيد الأمين بوعلاق، أحد علماء توزر (¬1): أخاطب سعادة عزيزي الحسيب، الفذ الأريب، والجنان يهاب محيط علومه، ويحبر مناخ معلومه، كيف لا ويراعه يشن الإغارات المتوالية على ثغور المعاني، ويتولى من منثورها على القاصي والداني، معززاً بجنود البيان، لدى فرسخ التبيان، فأعجز ببراعته ذوي البلاغة والعرفان، وبسبقه لم يفته فارس رهان، ولم يجاره فخر همذان، أعني الندس الأبرع، العلامة الأورع، الشيخ "سيدي محمد الخضر بن الحسين الشريف"، لا زال كل فضل لديه منيف. أما بعد: إهداء تحتية زكية، يتضوع أينما حللت رياها، ويعطرك أين توجهت شذاها، فقد تشرفت بنميقتكم العلمية المعنونة "بالسعادة العظمى" رافلة في مطارف الجمال، تعلن بأنها روضة حدائقها الكمال، فقبلتها وقبَّلتها، وعظَّمتها وجلَّلتها، بيد أنها وحياتكم ذكَّرني لطفها عهد تلك الدروس بالجريد، زبرجد الصحراء الفريد، المقول فيه: قطر كبغداد غدا في خطه ... تصفو به الأفهام والأفكار والعلم يشحث فيه طبعاً مثل ما ... يهمى من السيف الصقيل غزار ¬

_ (¬1) العدد العاشر - الصادر في 16 جمادى الأولى 1322.

وعلم الله أنه لآثر بأن يقرَّ بكم عيناً، وينافس بكم ديناً ودنيا، هذا وإني أرفع لسعادة أبناء وطني خالص التهاني، بما أدرتموه في كؤوس الألفاظ الجزلة من لطائف المعاني: عرِّج فديتك واقصدَنَّ بلادي ... وأقرأ سلامي عن ربوع ودادي وأنخ رحالك في حدائقها وعج ... إن كنت طمآناً بذاك الوادي وانظر بديع رسومه يغنيك عن ... غرناطة، وعلى قصور زياد واغنم رواحاً بين ظل نخيله ... واطرب لرنات الهزار الشادي وأسأل على نزل الحسين وأهله ... إن تبغ علماً، أو طريق رشاد وإذا سُئلت عن الذين تولهوا ... بالفضل، أو مَنْ بالفلاح ينادي فأنبئهم أن الهمام محمد ... نشر السعادة في زمان الهادي بمجلة علمية، أدبية ... تحيي النفوس، فيالها من زاد سطعت تنير بهمة، ودراية ... طرق الهداية من صميم فؤاد تدعو الأنام إلى المكارم، والنهى ... وتزيد في وسع الحجا بسداد حرس الإله كمالها، وجمالها ... من أعين الأضداد، والحساد وانهلَّ وِدقُ العلم في أرجائنا ... ما جاد غطريف بحسن مراد - ومنها ما نظمه البارع، الأديب، المهذب، السيد محمد المذكور بن الصادق، ونصه (¬1): وكاساً دهاقاً قد شربنا على الظما ... بكف فتاة زانها اللعس واللما ¬

_ (¬1) العدد الحادي عشر - الصادر في غرة جمادى الثانية 1322.

لعوب كأن الوتق في ضرباتها ... يحاكي ثنايا ثغرها إذ تبسما غزت قلبي المتبول باللحظ عنوة ... بروحي غزاة ما أتين محرَّما جنى جنة العشاق في وجناتها ... على أن فاها بالعقيق تختما تآلف جيش من شمائل حسنها ... ائتلاف بني اليابان في الحرب عندما تسائلني: ماذا لقيت من الهوى؟ ... وقد علمت ما قد لقيت وإنما فيا خالها رفقاً ويا جيدها ارحمنْ ... ويا خصرها مهلاً على الصبّ ريثما ثنت عطف مختال وتاهت كأنها ... سعادتنا العظمى التي نفعها نما سعادتنا العظمى مجلتنا التي ... تراءت إلى نيل السعادة سلّما روت مُلَحَ الآداب في كل محفل ... عرائس أفكار لأشرف منتمى هو الخضر الشهم الغيور محمد ... هو السند الفرد الحيي تكرما حسيب، نسيب، أريحي، مهذب ... سني، سريٌ حين تلقاه ضيغما لأن شغلت هند ودعد وزينب ... أناساً فحاشا أن يرى ذاك مغنما يَرى كل حظ ما سوى العلم ناقصاً ... وحظ الفتى من دهره ما تعلما فعلت وما كل امرء قال فاعل ... وقلت وما كل امرء قال أحكما ولا زلتَ في أوج السعادة نيِّراً ... تباهي بكَ الخضراء شوطاً تقدما وخذها مهاة، ناهداً، بدوية ... فلا الطقس أضناها، ولا الضغط أسأما وما مهرها إلا القبول فجد به ... عليها فدتك النفس يا حامي الحمى - ومنها ما كتبه البارع، الأديب، الماجد، الشيخ، السيد العربي الكبّادي، أحد أعيان المتطوعين بالجامع الأعظم، ونصه بعد الديباجة (¬1): ¬

_ (¬1) العدد الحادي عشر - الصادر في غرة جمادى الثانية 1322.

وما كان فضلك ليمنعني أن أشكره، ولا لينسيني الشيطان أن أذكره، لذلك تحركت مني للأدب صبوة نسجت عليها العناكب، وهبت عليها الصبا والجنائب فقلت: سعادتكم فينا لقد طلعت شمسا ... فكلٌ لها أضحى مشوقاً كما أمسى ولله ما خطْت يراعتك التي ... برقة ما تبديه تستملك النفسا مجلة علم لم تجل في ضلالة ... ولكن جراحات الضلال بها تؤسى تقول لقاريها مقالة مرشد ... سنقرئك الحق المبين فلا تنسى فدمتم ودامت للأنام سعادة ... وأيدي العدا لا تستطيع لها مسّا - ومنها ما صاغه الماجد، العالم، الأكتب، الشيخ، السيد محمد بن مصطفى زرّوق، أحد أعيان الكتبة بالوزارة السامية، ونصه (¬1): حمداً لمن أشرق شمس السعادة، وجعلها منبعاً للاستفادة والإفادة، وصلاة وسلاماً على نور الهدى، ونبراس الحق والاهتداء، إمام البررة العلماء، وخاتم المرسلين والأنبياء، وعلى آله الفائزين وصحابته المقربين. هذا ويا أيها الفاضل النحرير، والعالم المحقق الشهير، رب الفصاحة والبراعة، والبلاغة واليراعة، لما أمعنا النظر في مجلتكم الغراء، التي هي كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء: وإذا السعادة راقبتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان وجدناها درراً فاخرة، ومحاسن للعيان باهرة، زيادة على ما بها من ¬

_ (¬1) العدد الثاني عشر - الصادر في 16 جمادى الثانية 1322.

التحقيق والتدقيق، للمسائل العلمية بأبدع أسلوب رشيق، خصوصاً في إشهارها للحق، بلين القول وجميل الرفق، فهي إن شاء الله ستكون خادمة للوطن والدين، حتى يكون صاحبها حاملاً لراية العلم باليمين، ولاقتنائها فليتنافس المتنافسون، وللسير على إرشادها، فليعمل العاملون، والله سبحانه يبلغكم من كل ما تأملونه النجاح، ما حيعل المحيعل بحي على الفلاح. - ومنها ما نظمه الأنجب، الأريب، المهذب، السيد محمد الطاهر بودربالة، أحد أعيان الأدباء بالجامع الأعظم (¬1): ذا زهر روض عاطر الأردان ... أعقود دُرٍّ في نحور غوان أسلاف بكر عُتِّقت فاستحكمت ... وجرت كمجرى الروح في الإنسان أبروق وصل سعادَ لاحت بعد ما ... ذاب الفؤَاد بلوعة الهجران أَم ذيِ السعادة للهدى قد أقبلت ... حيَّت فأحيت مجمع العرفان عربية شهدت لها أترابها ... وغدت تحلِّيها بحسن بيان قد صاغها علم العلوم "محمد" ... من دوحة الفضلاء والأعيان العالم الكشّاف كلَّ عويصة ... بفصاحة تربو على سَحبان فلتفتخر بك خطة الإنشاء، يا ... نجل "الحسين" العارف الرباني أهنيك يا قمر الدجى بسعادة ... سحر ومعناها سلافة حان تسبي العقول فصاحة ولطافة ... وظرافة تسمو على الأقران لا زلت ترفل في السعادة سابقاً ... في حلبة التحقيق والتبيان ¬

_ (¬1) العدد الثاني عشر - الصادر في 16 جمادى الثانية 1322.

- ومن أعزها ما تشرفتُ به من قلم أستاذي الذي شبّت في طوق تعليمه فكرتي، وتغذيت بلبان معارفه من أول نشأتي، العلامة الهمام، القدوة، خالنا الشيخ سيدي محمد المكي بن عزّوز أبقاه الله، ونصه (¬1): حفظ الله مقام الابن العزيز العالم النحرير، والبارع الخطير، الشيخ "سيدي محمد الخضر الشريف الحسني" دام للحق ناصراً، وللعلم والكمالات ناشراً، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإنَّا بمجلتكم الرائقة مبتهجون، ولتحريراتها السديدة شاكرون، وأنبئكم أنه لما أشرقت غرَّتها، وانبلجت ديباجتها، تصفحت درر عقودها، وتعمدت سبر عودها، لنعلم كيف نتيجة تربيتنا، وإلى أَي طور بلغ فرع دوحتنا، وبأي ثمرة تفتر أكمامه، وعلى الوطن بأي صفة تهب أنسامه، فألفيتها شريفة المقاصد، بصيرة المراصد، مشرئبة إلى المباحث العالية، ساعية إلى حصحصة الحق في المسائل القريبة والقاصية، واسعة العارضة، أفهمت أنها بكل عبء من المشكلات ناهضة، فحمدنا الله حيث أظهر ما كنا تفرسناه، وبالتأسيس تحريناه، غير أني نقمت منها علو تعبيرها، وإن كانت جليلة في بلاغتها وتحبيرها، فحالها إذ ذاك يقول: لا يستطيبني إلا عالم، أو أديب خبير بالمعالم، فتربصت ليتضح مسلكها، ويخلص مسبكها، ففي العدد الثالث وما بعده وجدتها تنازلت في تعبيراتها، واشترك أواسط الطلبة مع الأساتذة في اجتناء ثمراتها، واستمرت على تلك الخطة الحميدة، وصدق عنوانها بأن السيرة المستضيئة بها سعيدة، وما أظن ذا ذوق وإنصاف يغض منها، أو يحيد عنها، كيف وقد أبرزت لميدان المذاكرة مباحث مهمة، وحررت جانباً وافراً من ¬

_ (¬1) العدد الثالث عشر - الصادر في غرة رجب الأصب 1322.

المسائل الملمة، وذبَّت عن الإسلام دواهي مدلهمة، تتبادل بها الأفكار، وتتمخض بها زبد الأنظار، أفادت العلماء تذكرة، والمستفيدين تبصرة، مراميها سامية، وقطوفها دانية، حتى ورقاتها من حسن الفال كأبواب الجنة ثمانية، وعلاوة على ذلك أعربت على كل من كتب فيها سطراً مبلغه من العلم والعقل ومقدار همته، ولامتياز الأخلاق منها نصيب وافر، فهي كالمرآة الصقيلة، وبملاحظة هذا المعنى تسابق قراؤها ومكاتبوها إلى اكتساب المعالي، وابتناء المجد العالي: السباق السباق قولاً وفعلاً ... حذر النفس حسرة المسبوق وبالجملة فتلك مفخرة للخضراء بين الممالك، ويفهم من آثار أهلها اعترافهم بذلك، وأبلغكم لتحمدوا الله أن كل من رآها هنا في الآستانة العلية أعجب بها، وتحقق بمجموع ما احتوت عليه نمو العلم في تونس ونشاط طالبيه، وأن سوق التفنن بجامع الزيتونة معمور، وهذا مما يعم به في العالم الإسلامي السرور، والمظنون أن سيكون لها شأن يعتبره المشرقان والمغربان، فحافظوا على خطة الاعتدال، غير غافلين عن مقتضيات الأحوال، ودوموا على اعتناق السنَّة والكتاب، مستحضرين أنكم مسؤولون غداً، والله عنده حسن المآب، أدامكم الله لنفع الدين والوطن، ورزقكم العافية والتوفيق في السر والعلن. - ومنها أنفسها ما تفضل به الهمام النحرير، الماجد، الأعز، الشيخ، السيد عبد الحفيظ القاري، أحد أعيان العلماء بمكة والطائف حرس الله كماله، ونصه (¬1): ¬

_ (¬1) العدد الرابع عشر - الصادر في 16 رجب الأصب 1322.

حضرة مقام صاحب الفضيلة، والمآثر الجلية، مولانا السيد "محمد الخضر العلوي". إن أشرق ما يجتنى به وداد الأفاضل، وأسنى ما يكتسب به توجه كل كريم كامل فاضل، مخاطبة العلماء بلسان اليراع، حيث لم يتيسر لهم الاجتماع، ويحصل للقلب سرور الوصل بالسماع، أخص أشرف من سما بهمته في هذا العصر، وقام بعزمٍ بعجز عن مثله الدهر، حيث وقف فقاوم الزمن وردَّ معاندة أهله، وساعدته سعادة الله العظمى حتى أظهرها بسعيه وفضله، منبع العلم ومنهل العرفان، نور حديقة الفضل بل نور حديقة الإنسان، ذو العلم الشامخ، والفضل الجليل الباذخ، الشيخ المصقع الحلاحل، محط رحال العلم وحلّ المسائل، بهجة العلم والعلماء في المحافل، السيد الذي ذبَّ عن شريعة جَدِّه، بمقوله ومنقوله وجهده وجِدِّه، فرفع أعلام الدين بجيوش "السعادة العظمى"، وطارت بأجنحة الصدق فبلغت المقام الأسمى، فنرجو لصاحبها السلامة والابتهاج، وللسعادة الدوام والرواج: آمين آمين لا أرضى بواحدةٍ ... حتى أضيف إليها ألف آمينا وبعد إبلاغي جزيل التحية وأوفر الإكرام، أنهي إلى فضيلتكم أني بينما كنت أضرب أخماس الأسف، بأسداس الفكر، على ما دهى الإسلام من دجاجلة الزمان وبدر، إذا شمس أنوار السعادة بازغة، ولسراب الأهواء الزائغة دامغة، وبرزت على الأفكار الجديدة حجة الله البالغة، فشكر الله سعي منشئها وأدامه، وثبَّت على نصر الدين أقدامه. - ومن ذلك ما صاغه الأمجد البارع، الأعز، الشيخ، السيد صالح صفر،

أحد أعيان المتطوعين بالجامع الأعظم، ونصه (¬1): نحمدك يا من أسست صنع العالم على أكمل قواعد الإبداع والإتقان، وأدمت بسعة فضلك استهلال غيوث الإنعام والإحسان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي تخلصت ببعثته البرية من المهالك، وشربت من حياض كرامه كأساً ختامه مسك وفي ذلك، وعلى آله وأصحابه المحرزين قصبات السبق في مضمار البلاغة، أكمل صلاة وأشرف تسليم. أيها الفاضل الجليل، والبارع الذي عزَّ أن يكون في هذا العصر له مثيل، حميد الأخلاق الحدبه المذاق، ومظهر أسنى المثاقب والكون في الانغلاق، مصدر حميد المآثر المنفرد بجمعه بين حسن البراعة والسكينة، والمشير بحسن براعته من خمائل الترسيل كمينه وثمينه، العالم المحقق الثبت ذو اللسانين، "الشيخ محمد الخضر بن الحسين"، زان الله تعالى دوائر المعارف بأمثال كماله، وكمال أمثاله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فإن الله جلَّت قدرته قد اقتضت حكمته الصمدانية، أن ألبس هذا القطر المحروس ثوب الفخار، وأطلع في سمائه سعادتكم شمساً في رابعة النهار، ولقد أسعدنا الحظ برؤيتها، والكرع من عذب موردها، فألفيناها كما قيل وفوق ما قيل: بدائع أبدتها محاسنك التي ... يكلُّ لساني أن يحيط بها وصفا ثم لو حاول المحاول تمجيدها بصفة الإطناب أو الأخرى كفاه ثم ¬

_ (¬1) العدد الخامس عشر - الصادر في غرة شعبان الأكرم 1322.

كفاه أن من البيان سحرا. - ومن ذلك ما كتبه الثقة الزكي، البارع، السيد أحمد بن سليمان، أحد العدول ببلد الصمعة، ونصه (¬1): الحمد لله الصمد العزيز الواحد، المثيب في مواقف القيامة على إخلاص النيات وحسن المقاصد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي هدى الله الأنام بآياته، السيد الذي نالت أمته به السعد وبلغت من الفخر نهاياته، وعلى آله وأصحابه أولي الهمم العظيمة، والعقول الفياضة والأذواق السليمة. أما بعد: فيا بدر سماء المعارف، وشمس الفضائل والعوارف، ويا معدن السر المصون، ومن بلغ رتبة لا تنبغي لأحد من أهل عصرك أن تكون: إمام له قَدْرٌ منيفٌ ورفعةٌ ... وأغربُ مِنْ ذا ليس يوجد مثله من غدا في بحر المجادة يسبح بالباعين، أخونا الشيخ "سيدي محمد الخضر بن الحسين"، كيف لا وأنت المقتفي سبيل أسلافك العلماء الأعلام، وخلاصة أهل المجد الجهابذة الفخام، لا زالت معاليك الجامعة وأعلامك الخافقة عالية المرصاد، بين كل رائح وغاد من العباد. آمين آمين وأمناً للأمين، فقد أسعدنا الحظ برؤية ما شرفتم به ابننا من سعادتك العظمى، وكرعنا من عذب موردها الأحمى: الله أكبر إنها عربية ... ختْمت كما بدئت بإسماعيلِ فألفيناها كما قيل وأعلى ما قيل، فقد أتيتَ فيها بمعاني فصل الخطاب، ¬

_ (¬1) العدد السادس عشر - الصادر في شعبان الأكرم 1322.

واستعرت لها قلائد الإعجاز من كرائم أم الكتاب، استدرت بها أخلاف العلوم، وحررت فيها رقائق المنطوق ودقائق الفهوم، ينزه ناظرها طرفه في روض من الفضل ظليل، ويرشف من عيون معانيها كوثراً ومن رحيق ألفاظها سلسبيل، درَّ سحاب تحقيقاتك فنقط الروض بالدرر، وابيضت شيات جياد مروياتك فكانت في جباه البلاغة غرر. فحق أن تقتدي بك الأعلام ولا فخر، ويتصدع من مهابة صدعك بالحق الصخر، تبتهج بك القلوب والصدور مسرّة وانشراحاً، وتعلل بسلافك على مر الدهور اغتباقاً واصطباحا: سلالةُ سادة سعدوا وجادوا ... ولم يلدوا امرءاً إلا نجيبا وما ريح الرياض لها ولكن ... حباها منهمُ في الأرض طيبا أبقاك الله مشرقاً للفضائل، سابقاً إلى تناولها من حاول نيلها من الأواخر والأوائل، وبارك فيك للعلوم والمعارف، وجعلك قرّة عين لكل عارف.

المباحث العلمية

المباحِث العلميّة - الاعتصام بالشريعة. - الأخذ بالقول الراجح. - براءة القرآن من الشعر. - العمل والبطالة. - حياة الأمة. - التربية. - التقدم بالكتابة. - مدنية الإسلام والعلوم العصرية. - مدنية الإسلام والخطابة. - كبر الهمة. - التعاون والتعاضد. - الديانة والحرية المطلقة. - البدعة. - الزمان والتربية. - الصيام. - الأحاديث الموضوعة.

الاعتصام بالشريعة

الاعتصامُ بالشّريعة (¬1) مما تكلفت المشاهدة ببيانه، أن الاسترسال مع الأهواء كلما دعت، ومحاذاة الأغراض أينما توجهت، يفضي إلى فوات المصالح الأُخروية والدنيوية، ويقضي بالتخبط في مضاجع الفساد، وأشدها وطأة قطع رابطة الأخوة بعد توكيدها. ولذلك انعقد الإجماع بين جميع الشرائع على ذم كل من اتخذ إلهه هواه، بل تجد الأمة التي لا شريعة لها، ولكنها عنيت بإصلاح شؤونها الدنيوية، لا تألو جهداً في كبحها لجماح كل من تَعبَّدَه الهوى في نظر عقولهم، ويسمونه السياسة المدنية. كما أن إيداع الأنفس في أسر الضغط وحرمانها من سائر حظوظها، يثبطها عن النهوض بأعباء ما يضرب عليها من التكاليف، فمن الحكمة أن يُتوخى بها طريق معتدل يكون بين ذلك قواماً. ولما كان العقل وحده غير كاف لتحري ذلك الطريق، فأحياناً يهمل النظر، وآونة يهوي به الخطأ في مكان سحيق، جاءت الشريعة المحمدية في الاحتياط لدرء كل مفسدة، وجلب كل مصلحة بالحكمة البالغة، وما يعقلها ¬

_ (¬1) العدد الثالث - الصادر في غرة صفر 1322.

إلا العالمون. افتكت إرادة الأنفس من داعية الشهوات، ولم تحل بينها وبين التمتع بحظوظها جملة بشهادة كثير من الآيات البينات. فمما يؤيد المعنى الأول قوله تعالى {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، ومما يعضد المعنى الثاني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]، وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. ومن استقرأ أحكامها، وكشف القناع عن أسرارها، أبصر معنى انطباقها على السياسة العادلة التي تتحاشى من الإفراط وتتبرأ من التفريط، وبذلك ألفتها العقول، فأنست بها أنس الطفل بثدي أمه، واستقرت تحت سلطتها قرار ذات الصدع، تحت ذات الرجع. فالمضطلع بأصولها، المستشعر أنها تنزيل من حكيم حميد، نزل بها الروح الأمين على قلب أكمل الخليقة لنجعلها نوراً نمشي به في الناس، يتجنب مصارع الضلال، ولا يلم بشيء من التصورات الباطلة، إلا نسف غبارها نسفاً، فيستبين سبيل الحق الذي لا غبار عليه، ولمثل ذلك فليعمل العاملون. ولا أقسم بالذي جعلها شريعة الحق الذي لا يعارض، والعدل الذي لا ينكسر قانونه، أنه لجدير بالمسلمين أن يتمسكوا بعهدها الوثيق، ويزكوا أنفسهم من الدسائس المثقفة لهم عن التقدم إلى حياة طيبة، فيجددوا إلى الأمة سالف مجدها، ولهم من الله فضل جزيل، ومن التاريخ ثناء جميل.

الأخذ بالقول الراجح

الأخذ بالقول الرّاجح (¬1) (¬2) يعتمد كل من انبسطت خطاه في سنن التحقيق، على أنه لا يسوغ لأحد ¬

_ (¬1) العدد الثالث - الصادر في غرة صفر 1322. (¬2) جاء في العدد الخامس من مجلة "السعادة العظمى" التعليق التالي للإمام: يقول بعض من يتخافت بالانتقاد: أن صاحب هذه المجلة أخطأ في قوله لا يسوغ لأحوإن يعمل بمقتضى القول الضعيف في خاصية نفسه، أو يفتي به صديقه، بل العمل في مذهب مالك جرى على خلاف ذلك وهو الجواز، وما قاله هذا المنتقد ورام به الدخول في زمرة المتفقهين، يبطله ما حققه أئمة المذهب في الكتب العالية. قال موضح أسرار الدين "أبو إسحاق الشاطبي" في "موافقاته": "كما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معاً، ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح كذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معاً، ولا اتباع أحدهما من غير ترجيح، وقول من قال: إذا تعارضا عليه تخير غير صحيح، لما تقدم من الأصل الشرعي وهو أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل وهو غير جائز، فإن الشريعة قد ثبت أنها تشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة، وعلى مصلحة كلية في الجملة، أما الجزئية فما يعرب عنها دليل كل حكم وحكمته، وأما الكلية فهي أن يكون المكلف داخلاً تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته اعتقاداً، وقولاً، وعملاً، فلا يكون متبعاً لهواه كالبهيمة المسيبة حتى يرتاض بلجام الشرع". إلى أن قال: "ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف، كما إذا اختلف المجتهدون على قولين، فوردت كذلك =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = على المقلد فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيراً فيهما، كما يخير في خصال الكفارة، فيتبع هواه وما يوافق غرضه دون ما يخالفه، وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين، وقواه بما روي من قوله - عليه السلام - "أصحابي كالنجوم" وقد مر الجواب عنه، وأن صح فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد فاستفتى صحابياً أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه، وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين فالحق أن يقال: ليس بداخل تحت ظاهر الحديث، لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه، فهما صاحبا دليلين متضادين، فاتباع أحدهما اتباع للهوى، فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها، وأيضا فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد، ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا، لجاز للحاكم وهو باطل بالإجماع، وأيضا فكان ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل، وأيضا فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل حالة مختلف فيها، لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء، وهو عين إسقاط التكليف، بخلاف ما إذا تقيد للترجيح، فإنه متبع للدليل، فلا يكون متبعاً للهوى ولا مسقطاً للتكليف" اهـ. وقال القرافي: "إذا كان في المسألة قولان، أحدهما فيه تشديد، والآخر فيه تسهيل، فلا يفتى العامة بالتشديد، والخواص وولاة الامور بالتسهيل، وذلك قريب من الفسوق والخيانة، ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى". تأييد ما قاله هذان المحققان، أن الشريعة عامة بحسب المكلفين، لا يختص بأحكامها الطلبية بعض دون آخر، وهذا الأصل جار مجرى البديهيات، وهو يقتضي أن لا يعمل الإنسان إلا بالقول الراجح، كما أنه لا يفتي غيره إلا به، لأن ذلك هو حكم الشارع، ففإذا تجاوزه إلى العمل بغيره، فقد انسلخ عما كلف به ودخل تحت العمل على مقتضى شهوة النفس، ومن ثم صرح الفقهاء بأن فائدة ذكر =

أن يعمل بمقتضى القول الضعيف في خاصية نفسه، أو يفتي به قريبه أو صديقه فضلاً عن التجاهر به للجمهور، طبقاً لما قرره المحققون من الأصوليين والفقهاء. وسرُّ هذا الأصل، أن الأقوال الشاذة إما أن تكون مائلة إلى الشدة أو الانحلال، وكلاهما على خلاف مقصد الشارع حسبما مهدناه في المقالة الافتتاحيةِ. ومنهم من أغفل هذا الأصل، فتجده يورد الخلافات في صورة الاستدلال على الإباحة، حتى إذا سأل سائل عن حكم نازلة متطلباً لما هو الأصلح له في نظر الشرع الحكيم، رده على عقبه إلى ما كان عليه من التخيير المطلق، فقال له: في مسألتك قولان، ويعني بذلك إفتاعه بالجواز من غير دليل يدل عليه سوى ما جرى في المسألة من الخلاف، وما علم أن للشارع حكماً مسمطاً ينزع بالمكلف من الانخفاض لسلطان الشهوة التي هي عين ذلك التخيير. ¬

_ = الأقوال الضعيفة أمران: اتساع النظر ومعرفة مدارك الأقوال، وليعمل المكلف بالضعيف في خاصيهّ نفسه إذا تحقق الضرورة، ولا يجوز للمفتي أن يفتي بغير الراجح خوف أن لا تكون الضرورة محققة. ولعل هذا هو الذي اشتبه على المنتقد، ومن زاد النظر بسطة لم يجد العمل بالقول الضعيف عند تحقق الضرورة خروجاً عن القول الراجح، لأن القول الراجح إذا اقتضى المنع مثلاً كان المنع مقيداً بانتفاء الضرروة قطعاً، فكأن صاحبه يقول: يُمنع فعل كذا ما لم تدع إليه ضرورة فيفعل، وعليه فلا يكون في الفعل عند تحقق الضروة عدول عن القول الراجح أصلاً، ولا توفيق إلا بالله.

وبالجملة فإن مَنْ عدل عن الأقوال الراجحة لغير ضرورة شرعية فقد ضل ضلالاً بعيداً. "قال أبو بكر بن العربي" عند قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] "إن المفتي إذا خالف نص الرواية في نص النازلة، وعدل عن قول من يقلده فإنه مذموم داخل في الآية، ومن قال من المقلدين هذه تخرج من قول مالك في موضع كذا فهو داخل في الآية"، فإن قيل: أنت تقول هذا وكثير من أهل المذهب يقولون هكذا: قلنا، نحن نقول هذا في ترجيح أحد القولين، لا على أنها فتوى نازلة يعمل عليها السائل، فاذا جاء السائل عُرضت على الدليل الأصلي لا على التخريج، فيقال: له الجواب كذا فاعمل عليه.

براءة القرآن من الشعر

براءة القرآن مِنَ الشِّعِر (¬1) (¬2) كان النبى - صلى الله عليه وسلم - أفصح ولد آدم، ولكنه حجب عنه الشعر لما ادخره الله له في ضمير الغيب من جعل فصاحة القرآن معجزة له ودلالة على صدقه، بشهادة قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة: 41] الآية. وقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]. وقد اعترض جماعة من فصحاء الملحدة في نظم القرآن بآيات يريدون بها التلبيس على الضعفة، منها قوله تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ ¬

_ (¬1) العدد الثالث - الصادر في صفر 1322. (¬2) أورد الإمام في العدد الثالث من مجلة "السعادة العظمى" التعليق التالي: ورد على ما حررناه في العدد الثاني من المجلة تحت عنوان: " براءة القرآن من الشعر"، أن قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49] وكلام تام، وعليه فلا محيص من الرجوع إلى الجواب العام الذي هو مراعاة القصد الأولي، وجوابه أن الآية لا تكون على وزن شيء من الشعر إلا بإشباع الميم من قوله: {الرَّحِيمُ]، وإذا أشبعت لم يكن قرآناً، هذا وقد أورد "الفخر الرازي" في تفسيره قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا} [آل عمران: 92] الآية، ولم يذكر إلا ذلك الجواب العام مع أنه لا يوافق وزن مجزوء الرمل الذي ادعوه إلا بحذف النون من قوله: {تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] أما قوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ: 14] الآية، فجوابه أنه غير تام لتوقفه على ما قبله من جهة عطفه عليه.

عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] قالوا: "إن هذا من بحر المتقارب"، قلنا: "إنما يقول هذا من لا خلاق له في هاته الصناعة، لأن الذي ينطبق على وزن هذا البحر من الآية قوله: {فَلَمَّا} إلى قوله {كُلِّ]، وإذا وقفنا عليه لم يستقم الكلام، وإذا أتممناه بقوله: {كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} خروج عن وزن الشعر". ومنها قوله تعالى: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] ادعوا أنه من بحر الوافر، قلنا: "هذه الدعوى على جانب عظيم من الفساد، لأنها إنما تكون على وزن هذا البحر، إذا زيدت فيها ألف بإشباع حركة النون، وأشبعت حركة الميم في قوله {وَيُخْزِهِمْ} وإذا غُيِّر لم يكن قرآناً، وإذا قرأ على الأصل لم يكن شعراً". ومنها قوله: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] زعموا أنه من جزوء الرمل، وهذا باطل أيضاً، لأنه إنما يكون من هذا الوزن إذا زيدت فيه ياء بعد الباء في قوله {كَالْجَوَابِ]، وإذا حذفت فليس بكلام تام على وزن شيء. ومنها قوله {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ: 30] قالوا: "هذه آية تامة على وزن بيت من الرمل"، وهذا غلط فاحش، لأنها إنما تكون من وزنه إذا حذف من قوله: {لَا تَسْتَأْخِرُونَ} لا النافية والياء والسين، وتوصل يوم بقولك تأخرون، وتقف على النون من قولك تأخرون، فتقول: تأخرونا بالألف، وإذا قرأناه كذلك لم نتبع قرآنه، ومتى قرآناه على أصله فما هو بقول شاعر. ومنها قوله: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14] ادعوا

أنه من بحر الرجز، وهذه الدعوى من الطراز الأول، لأنه إن قرئ بإسكان الميم يكن على وزن فعول، وليس في بحر الرجز فعول، وإن أشبعت حركة الميم لم يكن من هذا البحر إلا باسقاط الواو من {وَدَانِيَةً]، وإذا حذفت الواو بطل الكلام. ومنها قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 1 - 2] زعموا أنه من الخفيف، قلنا: "زعمتم ولكنكم أخطأتم، لأنه لا يكون من هذا الوزن إلا بحذف اللام من قوله: {فَذَلِكَ]، وبإشباع الميم من قوله: {الْيَتِيمَ]، فيكون اليتيما، والقراءة سنة متبعة لا مبتدعة". ومنها قوله: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] قالوا: "هذا من بحر الرجز"، وقلنا: "افتريتم على الله كذباً، لأن الذي يوافق هذا الوزن من الآية قوله، {إِنِّي وَجَدْتُ} إلى قوله: {عَرْشٌ]، والكلام غير التام لا يكون شعراً"، فإن قالوا: "يقع قوله: {عَرْشٌ عَظِيمٌ} بعد ذلك إتماماً للكلام على معنى التضمين"، قلنا: "التضمين إنما يكون في بيت على تأسيس بيت قبله، وأما أن يكون التأسيس بيتاً والتضمين أقل من بيت فذلك ليس بشعر عنه أحد من العرب". وخلاصة هذا المطلب، أنك لا تجد آية تامة أو كلاماً تاماً من القرآن على وزن بيت تام من الشعر. وغالبهم يقتصر على جواب عام، وهو أخذ القصد الأولي قيداً في حقيقة الشعر.

العمل والبطالة

العمل والبطالة (¬1) لا يزال الذين ينظرون إلى ما أنزل الله بعيون حشوها التبصر، وقلوب ملؤها الاعتبار، يؤمنون بأنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من الإرشاد والتهذيب إلا حثَّ عليها، ولا رذيلة أو مفسدة إلا صدَّ عن سبيلها، وبذلك كان المعظِّمون لشأنه، المقيمون لشعائره في أعلى طبقة من أدب النفس وتربيتها على محاسن الشيم وتمرينها على الأعمال النافعة، وهذا مما يعرفه الذين آمنوا، كما يعرفون أبناءهم، ولكن للهمم خمود وللعزائم فترة لا يتقيظ من موتتها إلا من استفزته صروف الحوادث، وأرته كيف ترقى أمة إلى مكانة العز، وتنحط أخرى إلى وهدة السقوط، ولا تفعل ذلك إلا بمن أدركت منه رمق حياة لم يزل نبضها خافقاً. أما من سكنت إحساساته حتى التحق عند أولي البصائر ببهيمة الأنعام فلا يحس لها وجبة ولا يسمع لها ركزاً. وإن تعجب فعجب ما يتخيله بعض من رُبِّي في مهد الجمود، من أن هذا الدين القيم لم يرشد إخوانه إلا إلى العبادات المحضة، وإنه حجاب مسدول بينهم وبين المدنية، وروَّج هذا التخيل الزائف على البسطاء وقوفهم عند ظواهر آيات وأحاديث واردة في ذم متاع الحياة الدنيا، ولو اتسعت ¬

_ (¬1) العدد الخامس - الصادر في غرة ربيع الأنور 1322.

خطواتهم في التدبر لأبصروا ما هو التحقيق، وإيضاحه أن الشارع يفعل بالمكلف فعل الطبيب الرفيق إذا أصابت المريض علة بانحراف بعض الأخلاط، قابله في معالجتها على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر ليرجع إلى الاعتدال. لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة في الدنيا رغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها، قال عليه الصلاة والسلام: "إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا"، ولما لم يظهر ذلك منهم ولا مظنته، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]، ولما ذمَّ الدنيا ومتاعها، همَّ جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا وينقطعوا إلى العبادة، فرد عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها، ولم يزهدهم ولا أمرهم بتركها إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه، وقد كان المتعبدون من قبل يترهبون بالتخلي عن أشغال الدنيا وترك ملاذها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها، فنفاها النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهى المسلمين عنها فقال: "لا رهبانية في الإسلام"، ومن الآيات الشاهدة لهذا الغرض قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، لما وقع الأمر بصرف المال إلى الآخرة في قوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص: 77] بيَّن الواعظ بعد بقوله: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أنه لا بأس بالتمتع بالوجوه المباحة ما لم يكن صاحبها عن الواجبات في شغل شاغل، قال مادح عمر بن عبد العزيز:

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله وعلى نحو هذا جرى ذكر التجارة في معرض الحط من شأنها، حيث شغلت عن طاعة، في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} [الجمعة: 11] الآية، ولما فقد ذلك المعنى العارض ذكرت، ولم يهضم من جانبها شيء، كما في قوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]. فقد أثبت لهؤلاء الكمل أنهم تجار وباعة، ولكنها لم تشغلهم ضروب منافع التجارة عن فرائض الله، وهذا قول المحققين في الآية. أما ما يقوله بعضهم من أنه نفى كونهم تجار أو باعة أصلاً، فخلاف ظاهر الآية، والسر في اختصاص الرجال بالذكر، أن النساء لسن من أهل التجارات والجماعات وما ينبغي لهن ذلك، كما أن تخصيص التجارة من بين سائر أسباب الملك، لكونها أغلب وقوعاً، وأوفق لذوي المروءات، ومما يزداد به هذا المقصد بياناً قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، فقد بين بهاته الآية أن الزينة من علائق العبادة، وأنها غير منافية، وأن العبادة تستدعي الإعراض عن اللذات الحسية المعتدلة، وبالجملة فإن الآيات التي تحث على العمل والكسب كثيرة قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]. {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية: 12]. {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]. فالحكيم الخبير من يقدِّر الوقت حق قدره، ولا يتخذه وعاء لأبخس الأشياء وأسخف الكلام، ويعلم أنه أجلُّ شيء يصان عن الإهمال والإضاعة،

ويقصره على المساعي الحميدة التي ترضي الله وتنفع الناس، وبذلك ينتشر العمران في أطراف البلاد، وتتوفر مواد الصلاح وتنقطع أسباب الفساد، وذلك هو معنى المدنية. أما من كتب على نفسه البطالة، فقد رضي لها بأسوأ الحرف وأخسها، إذ لا صنع لهذا المحترف غالباً إلا التمضمض بكلمات التشنيع والتسخط على ما يفعله غيره، وإن غزرت فائدته، ولا تراه إلا متردداً على المجالس التي تساق إليها بضائع اللغو؛ ليكون أحد الحاملين لأسفارها، ومما يعجب منه أنك تجد الرجل يحسن القراءة، وحواليه كتب مفيدة يمكنه أن يقتبس منها فوائد يستضيء بها صدره من ظلمات الجهالة ولا يفعل، وتجد آخر يتقن صناعة، أو له استعداد لإتقانها، وليس له حركة إلا الانتشار في الطرق، كأنما أوجر على قيسها، ولا توفيق إلا بالله.

حياة الأمة

حياة الأمّة (¬1) لتجدن أشد الناس فتوراً وأضعفهم عقدة في رابطة بني جنسه، من يرى أمة متمسكة بأذيال المدنية ساعية وراءها بحركات تبهر العيون وتدهش الألباب، ترفل في ملابس الرفاهية تحت ظلال عز مكين، ويشاهد أمة أخرى في أسوأ منظر من خشونة الحال وشظف العيش وجهومة المسكنة، ثم لا يسأل الناس إلحافاً عن الأسباب التي ترتفع بها قواعد العمران، والعلل التي تخرُّ بها على عروشها. من الناس من لا يعرف للحياة معنى سوى ما يشاركه فيها أخس الحيوانات، حتى إذا نال طيباً في مطعمه، وليناً في مضجعه، قال: "على الدنيا العفاء"، كان لم يكن آمناً في سربه. فلا وربك إن للأمم حياة وراء الصفة التي تقتضي الحس والحركة، وبها تقف في مصاف المستظلين بسُرادق السعادة. حياة الأمة بتعاضد أفرادها على صيانة سياجها المدني من الاضمحلال، وتدعيم أصوله بيد الإتقان والاختراع. حياة الأمة بنهوض أبنائها إلى قرع أبواب التقدم جهد أنفسهم، رغماً عن أنوف الذين يئسوا منه، ورضوا بأن ¬

_ (¬1) العدد السادس - الصادر في 16 ربيع الأنور 1322.

يكونوا مع الخوالف، وطفقوا يدسون في كل مهجة سم الذل والخور، بعد استفراغها من نخوة العز والشهامة. حياة الأمة بانصراف وجهائها إلى توفية المصالح العامة حقها وإيثارها على مصالحهم الخاصة، وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله. حياة الأمة بتحمل كل طائفة منها حظاً عظيماً من وسائل لوازمها البدنية والعقلية، وسدِّ كل ثلمة من الحاجات ما تزايدت، ولنضرب لذلك مثلاً: الفلاحة التي هي أقدم الصنائع وأجداها نفعاً، عبارة عن عمارة الأرض، باستصلاحها واستثمار نباتها، فإذا أمعنا في الأعمال التي تتألف منها هذه الصناعة، وهي إثارة الأرض، وازدراعها وعلاج النبات، وتعهده بالسقي والتنمية، إلى بلوغ غايته، ثم حصاده واستخراج حبه من غلافه، رأينا في مباشرتها ضروباً من المعاناة لا يهون على العملة اقتحام أخطارها إلا رجاؤهم لاستدرار خيراتها من بعد، فإذا استحدثت آلات جديدة، وابتكرت طرق تخفف وطأة تلك المصاعب، وتعظم بها نتائج الاستغلال، أفلا يجدر بنا أن نضرب فيها بالسهم الوافر طبقاً لما أمرنا به من الاقتصاد في الأموال، وتربية فوائدها، والتباعد عن الحرج والمشقة ما استطعنا لليسر سبيلا؟. ومن له ذوق في الشريعة، واطلاع على كمالاتها، يعلم أن الأعمال الاعتيادية مدار أحكامها على رعاية المصالح وجوداً وعدماً، فلو لم تقم نخبة من أهل النهضة، يغتنمون استجلاء تلك الطرق وتعليمها لأبناء الوطن، مجاراة لمن اتخذها وسيلة لاستعمار الأرض فكملت بها قوته، وازداد بها ملكه وثروته بسطة، لبقيت خدشة في وجه الجامعة الإسلامية، وهكذا سائر الصنائع التي تمس الحاجة إليها، ينبغي الأخذ فيها بالطرق التي هي أيسر كلفة وأربى

فائدة، وقد حكم العيان بأن الآلات الجديدة خففت كثيراً من الأعمال التي لا تبلغ غايتها إلا بشق الأنفس. الحاجات التي تعتري هذه الجامعة، يقوم بسدادها كل فرد مما عدا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وينقسم القائمون بذلك السداد إلى أربع طبقات: الطبقة الأولى: طائفة تدبر أمور الرعية بحفظ حقوقها عن الضياع، ويبلغ ذلك الحفظ أشده بالفحص عن المفاسد لتقتلع جراثيمها، والبحث عن المصالح لتقام أركانها على أسس ثابتة. الطبقة الثانية: طائفة تتميز بنشر المعارف بعد أن يشدّوا عراها بمثقف الفكر، ويطووا عليها كشح التحقيق، ويسيروا بالتعليم في طريق معتدل؛ لكيما تصل حركاته السريعة بالمتعلمين في وقت وجيز إلى الرتبة الكافية لمن اقتصر عليها، سواء في ذلك علم الحلال والحرام، وما يستعان به عليه كعلوم العربية والحساب والهندسة، أو العلوم التي تعود على الوطن بعوائد الثروة وتحسين الحال كالصنائع، فإن تعلمها فرض كفاية أيضاً. مع تجمل المعلم بالتؤدة والأناة التي هي سمات النبوءة والتلبس بمكارم الأخلاق تلبساً علمياً فإن ذلك نوع من التعليمات التشخيصية التي هي أقوى تأثيراً في النفوس المستعدة لانطباع الكمالات، وأفٍ ثم أفٍ من التصنع في الهيئات الذي ينحرف بصاحبه عن خطة أهل المروءات والآداب. الطبقة الثالثة: طائفة من أرباب اليسار، تدير دولاب التجارة بترويج المصنوعات وتصريف المحصولات. الطبقة الرابعة: طائفة عظيمة تتصدى للاشتغال بالصنائع وتجويد

صنعتها، وبمقداره يرتفع شأنها ويزخر نفاقها، ولا يتسنى إحكامها بأخذها عن أربابها الماهرين، وينبغي أن يكون غالب أهل البلد هم أهل هاته الطبقة، لأن الصنائع هي العنصر الذي تقام عليه سوق التجارات ومعظم أسباب العمران. إن قلت: مَنْ المستضعف من الرجال الذي لا ينتظم في سلك هذه الطبقات؟ قلنا: رجل يجب على من جرت في عروقهم دماء الغيرة على حياة جامعتهم أن ينكثوا منه الأيدي، وهو كل من ضربت على نفسه ذلة وصغار، حتى تخدرت مشاعره، وأصبح كالعضو الأشل متعلقاً ببني جلدته، الذين هم كالجسد الواحد في التآزر على إحياء مجد آبائهم السابقين الأولين دون مبالاة بطعن طاعن، أو انتقاد منتقد، فتهرع الألسن لنشر مفاخرهم، وتستبق أقلام الكرام الكاتبين لنشر مآثرهم جزاء بما كانوا يعملون.

التربية

التّربية (¬1) ألم يأن للذين آمنوا أن تكون لهم آذان صاغية وقلوب واعية، فيستجيبوا لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم! يحييهم كتاب الله إذا تشبعت عقولهم بأنوار مواعظه الحسنة، وإرشاداته الصحيحة، وارتبطوا بالعمل به ارتباطاً يهن كيد المردة عن نقض عراه، حتى إذا رسخ في أذواقهم طعم شجرته المباركة، استقذروا ما ترميه أفواه الذين اتبعوا أهل المدنية الحديثة المصفدين بأغلال التقليد لهم في كل مثال جديد. ذلك التقليد الأعمى، علته سوء التربية الأولى، وعدم ارتواء النفس من أول النشأة بمحاسن الشريعة الغراء، ومن ثم كان الغالب على من شبّوا في كفالة المقدِّرين لها حق قدرها علماً وعملاً، شرف الوجدان وسلامة القصد، والاستماتة في مدافعة الشُّبه التي تحركها استحسانات النفوس الكدرة، ولعلك تتلو قوله تعالى: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] فتجد المنكرين عليها فيما اتهموها به، أرادوا بنفي البغي والسوء عن أبويها المبالغة في توبيخها عما يراها الله منه تنبيهاً على أن من كان أبواه صالحين ليس من شأنه التجرد عن طورهما والتردي بغير ردائهما، وما كان ينبغي له إلا أن يسلك سنن أعمالهما الصالحة شبراً بشبرٍ وذراعاً ¬

_ (¬1) العدد السابع - غرة ربيع الثاني 1322.

بذراع، كما أنك تجد أكثر الناشئين في جحور السفلة، أو من أطلقت حبالهم على غواربهم زمن الحداثة في أفظع حال من فساد الأذواق، وعدم الخضوع لسلطة الأحكام الدينية، والانخداع بالظواهر المزخرفة عن الغوص على الحقائق التي لا يُلقَّاها إلا ذو حظ عظيم من الحكمة. تَعجَبُ العامة لرجل يبرع في فنون كثيرة، ويبدع في التصرف في مباحثها المشكلة، فيفرغها في قالب التحقيق، حتى إذا فاوضته في أي علم منها، خيل لك أنه الواضع لأصوله، ولا تلبث زمناً يسيراً تجس نبض أخلاقه إلا وجدت فيها عوجاً وأمتاً، أما الفيلسوف النقّاد فلا يرى ذلك شيئاً عجاباً للنكتة التي لوَّحنا إليها، وهي سوء التربية الأولى، والدليل على ما نقوله أن الصبي يولد على الفطرة الخالصة والطبع البسيط، فإذا قوبلت نفسه الساذجة بخلق من الأخلاق، انتقشت صورته في لوحها، ثم لم تزل تلك الصورة تمتد شيئاً فشيئاً إلى أن تأخذ بجميع أطراف النفس، وتصير كيفية راسخة فيها، حائلة لها عن الانفعال بضدها، يؤيد هذا أنَّا إذا رأينا من الغرباء من هو لطيف الخطاب، جميل اللقاء، مهذب الألمعية، لا نرتاب في دعوى أنه ممن أنبته الله في البيوت الفاضلة نباتاً حسناً. ومن الناس من يدرك أن التقام الأطفال لثدي التربية، مما يؤثر في نفوسهم إصلاحاً عظيماً، ولكن فرط الرأفة الذي ينشأ من التغالي في حبهم، يكسر من صلابة الآباء شيئاً كثيراً، فيدفعهم عن مكافحة طباع أبنائهم الرديئة ومقاومتها بالتأديب، وينفض بهم ذلك الإهمال إلى التنقل في مراتع الشهوات الزائغة. كلّا هذه رأفة غير ممزوجة بحكمة. التنقل في مراتع الشهوات، تتولد عنه نتائج وخيمة، تثير بين الآباء والأبناء من النفرة والتباعد بمقدار ما كان

بينهما من الحنان والمقاربة، وتصير بهم إلى أن تضرسهم أنياب الاضطهاد، وتدوسهم أقدام الامتهان. لا نريد بكراهة هذه الرأفة المفرطة أن يفتك من الصبي سائر إرادته، ويسلب منه جميع عزائمه، كما يفعله الجاهلون بأساليب الإصلاح والتهذيب. إن ذلك مما يحول بينه وبين عزة النفس وما يتبعها من قوة الجأش، وأصالة الرأي، والإقدام على إرسال كلمة الحق عندما يقتضيها المقام، فيكون ألعوبة بيد معاشريه، كالكرة المطروحة بينهم يتلقفونه رِجْلاً رِجْلاً، أو آلة يستعملونها فيما يشتهون. التربية النافعة ما كانت أثراً لمحبة يطفئ البأس شيئاً من حرارتها، وصرامة تلطف الشفقة نبذة من شدتها، وهي التي يستوجب بها الوالدان دعاء الولد بقوله: "رب ارحمهما كما ربّياني صغيراً"، ولما كان الابن مثالاً لمن جعله الله عليه كفيلاً ومظهراً لآثار تعود على وليه بكِفْل من جزائها، فما بالنا لا نرسم في طباع أبنائنا أشكالاً محمودة، تمثل لمن بعدنا هيئة ما كان عليه سلفهم الصالح، عوض أن ننقشها لهم في عمد ممددة أو خُشُب مسندة؟! وخاتمة المقال، إن تعميم التربية بين طبقات الأمة شيء واجب، لا ينتظم لها العيش الناعم بدونه، ولا تشرق صحائف تاريخها بسواه.

التقدم بالكتابة

التّقدم بالكتابة (¬1) الأمة عبارة عن نظام يتألف من أفراد شتى، تجمعها جهة واحدة كالجامعة الدينية أو الوطنية، ولا يلزم في استمرار حياتها واستقامة بنيتها أن تتناسب أفرادها كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها، بل تتفاوت رتبهم رفعة وحطة، وتختلف إرادتهم في التفنن على جلائل الأعمال وصغائرها. سنّة الله في الذين خلوا من قبل، ولا يؤدي ذلك التفاوت والاختلاف إلى انتهاك قواها وانشقاق عصاها، ما دام أولو القوة منها، وهم علماؤها ذوو الأفكار الرشيدة، باذلين جلَّ عنايتهم وأقصى مجهودهم في تقويم المعوج من أخلاقها، وتعديل الزائغ من عقائدها، والنهي عن البدع المذمومة بألسنة من يُعتدُّ بهم في الدين، والتنفير عن العوائد التي ترتعد من هجنتها فرائص أهل البصائر، غير مشتبه عليهم ما يُهيِّج الفتن ويُحرِّك سواكن المزعجات فيتجنبونه، وما يتأيد به حق أو يدمغ به باطل فينتهزون فرصته، مع الاستطلاع على غايات ما ينشر من المصنوعات المبتدعة والفنون المخترعة، ليرتبوا أحكامها على قواعد راسخة، فما اشتمل على مصلحة شيَّدوا له ذكراً، ورفعوا له شأناً، حتى تتناوله جمهور الأمة بصدور سليمة من عقدات التحرج، وما شابه أن يكون مفسدة أو لا نتيجة له إلا الاستغراق في فضول الحضارة، ¬

_ (¬1) العدد الثامن - الصادر في 16 ربيع الثاني 1322.

أسرعوا إلى إطفاء نيرانه قبل تسعُّرها صيانة لوجه المدنية الكبرى من أن تغشاه غبرة أو ترهقه قترة، وقياماً بحق الوراثة المنوطة بعهدتهم من قبل صاحب الشريعة، وهم على خبرة أيَّدهم الله، إن هذه المقاصد التي صعَّدنا إليها النظر، لا تنفك عنهم تبعتها إلا بإفراغ الجهد في التجاهر بما لها أو عليها، ولا أرفع صدى وأبعد مدى من لهجات أقلامهم المرتاضة، ونفثاتها الفعالة في النفوس الآخذة بمجامع القلوب. وبذلك يتجلى في عالم الشهادة ما لساداتنا العلماء من الشرف الرفيع والمقام المحمود، ويعلم المستخفون الآن بحرمتهم، أن خطتهم أفسح مجالاً من أن تقتصر على حكاية ما بين دفتي كذا، مع التماوت في ثوب الخمول والإعراض عن النظر في كل ما يُعدُّ ظاهراً من الحياة الدنيا، وعدم الاعتبار بما تضعه بطون الليالي من الحوادث الجليلة، وفي عناية الذين أوتوا العلم بشأن الكتابة مآرب آخرى. منها المحافظة على ما للإنشاء العربي من الأساليب المؤثرة على الأذهان، وإحياء ما اندرس من آيات سحر بيانها، وفي ذلك أخذٌ بيد الخلف إلى حيث يقفون تجاه قوم سروا في مضمار هذه الصناعة شوطاً بعيداً، ولقد نعلم أنهم لم يقيموا جدار هذا الارتقاء باستعداد زائد في فطرتهم، أو لقوة فائقة في إنسانيتهم، أو لسر خصَّه الله بأقلامهم، وإنما سلكوا مسلك الحزم والنشاط، فمسحوا عن أعينهم نوماً كان شره مستطيراً. هم رجال ونحن رجال، أقلامهم من القصب الذي ننحت منه أقلامنا، ولا يحملونها إلا بمثل أناملنا قوة وشكلاً. أما مدادهم فمن نوع ما نكتب به الحروف الهجائية لصبيان المكاتب، وأما محابرهم فليست غير تلك الظروف التي نبتاعها من الزجّاجين، ولنا أن نتخذها

زجاجات كأنها قوارير من فضة، وأما ورقهم الذي ينشرون فيه ذلك الطراز البديع فها هو ذا بين أيدينا لم ندرك فرقاً بينه وبين ما يضع فيه الباعة سقط متاعهم، ويكأنهم تقدموا وتقاعدنا، وافتكّوا عزائمهم من سلاسل التكاسل وأغلال التواني، واستماتت هممنا تحت إصرها الثقيل، ونحن بما عندنا راضون، ويقول بعض الملأ الذين استكبروا لمثل ذلك السكون فليعمل العاملون. وههنا نكتة أخرى نستأذن حضرات القرّاء في إرسالها، وهي أن بعض الشعب يريد كل أمرئ منهم أن لا يصدع بكلمة حتى يتسلمها جميع من في العالم بيد القبول والاحترام، وإلا فلا يكلم بها إنسياً خشية أن يسترق الشياطين سمعها، علة ذلك أن قلوبهم مستضعفة لا تتجلد بالمصابرة على سهام الانتقادات الراشقة، يود الكاتب أن يخر من السماء فتخطفه الطير، أو تهوي به الريح في مكان سحيق، ولا يبدي رأياً ترده النقاد على عقبه، لما يُقدِّره من أن دحض رأيه ولو مرة تسقط به جلالته من أعين الذين يتهيبونه، مع أنه كثيراً ما يحكم على بعض الجهابذة بعدم الإصابة في عدة مسائل، ولا يهضم ذلك من جانب عظمتهم شيئاً. ولا يختلج في ضمائرنا أن تلك الأمة التي تقدمت في طريق الأدب شعراً وكتابة، بمجرد ما تنبهوا بعد ذلك السبات المديد، انتصبوا قائمين على هذه الصورة التي نشخِّصهم بها اليوم، حتى نستصعب أن نكون غداً أو بعد غد واقفين حيالهم، ويقودنا هذا الاستصعاب إلى التمسك بحبال اليأس والقنوط والزهد في رقيهم الأسمى، بل نستيقن أنهم لم يصلوا إلى هذه الدرجة القصوى إلا بالتنقل في طريقها رويداً رويداً، ومجاهدة مصاعبها

شيئاً فشيئاً، في أزمنة متسعة. ونحن نُؤمِّل من أبناء وطننا العزيز، أن ينزفوا غلالة جهدهم في تحرير الموضوعات المفيدة كتابة، كما صرفوا إليها وجهتم تدريساً، ويعدّوا لنبال الطعن والانتقاد ما استطاعوا من ثبات وقوة الجأش، وُيرضخوا شوكتها بالإغضاء وعدم الاكتراث برماتها "وأنا الكفيل بأن تعود حياتهم". ولقد امتلأت صدورنا جذلاً حين استهلت في وجوهنا تباشير رسائلهم العلمية والأدبية، ويوشك أن يعقبها صباح يزيد شعور إخواننا تنبهاً وعواطفهم رقة، فيكتال لهم التاريخ من جميل الذكر ما يكتاله للأمم المترقية، ويوفيهم الله أجرهم بغير حساب.

مدنية الإسلام والعلوم العصرية

مدنيّة الإسْلام والعلوم العصريّة (¬1) خذ أيها الباحث الحكيم بمجامع نظرك السديد، وجل به جولة بديعة الإحاطة في قوانين الشريعة المقدسة، التي نعت بها الكتاب العزيز. وأرشدت إليها السنة الثابتة، ثم ارجع البصر كرتين إلى الأسباب، أسباب ارتقاء الأمم الحية وبسطها أجنحة الاستعمار في الأرض، ولتكن هكذا كل ذرة من ذرات جسمك عيناً تبصر وأذناً تصغي وفؤاداً يذكر، إلى أن تتأصل في صدرك شجرة الحكمة البارعة، وتتفرع أغصانها تحت طي لسانك، وهلم إلينا من بعدُّ نتجاذب أطراف الأحاديث بيننا بقسطاس صحيح، ولهجة صادقة لا تدخل على الأَحكام إلا من باب الإنصاف، لكيما نعلم عين اليقين أن لا سبيل إلى استيفاء لوازم الحياة الاجتماعية إلا بإقامة قواعد الدين على الوجه الذي اهتدى إليه الخلفاء الراشدون ومن كان على شاكلتهم من السلف الصالح، وهو المثال الذي لا بد لنا من محاذاته ولو بعد حين من الدهر، لأنهم أبناء العصر الذي نزل فيه القرآن، وأُخوان اللغة التي ورد على أساليبها، فهم أعرف بمساقاته وأعرق في فهم مغازيه ممن سواه. ما تسنى لهم انتهاج تلك الطريقة الواضحة إلا لخلو جامعتهم على ¬

_ (¬1) العدد الثاني عشر - الصادر في 16 جمادى الثانية 1322.

سعة دائرتها من طائفة تجهل ماهية الحياة الصالحة، وقفت عرضة في وجوه الخلف تسد عليهم طرق العلم بأسباب الانتظام في شؤونهم السياسية والمعاشية، حتى توهم ذو بصيرة عشواء أن الإسلام والنظام لا يجتمعان، ولربما رجفت هذه الراجفة في صدور ضعفاء الأحلام من الناشئة الحديثة. ما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً!! أي مدنية قويمة لم يكشف الإسلام غشاوتها أو حضارة نافعة لم ينشر بين إخوانه لواءها؟ تسابقت الدول في طباق العمران، بمعرفة العلوم الرياضية التي من فروعها الحساب، والمساحة، وعلم التكسير، وعلم رفع الأثقال، وعلم الحيل المائية والهوائية، والمناظر، والحرب، والهيئة، والميقات، والفنون الطبيعية التي من فروعها علم الفلاحة، وعلم المعادن، وعلم الطب وفروعه، ومن كان على بيِّنة من الشريعة القيِّمة عارفاً بغايات هذه الفنون لاسيما في مثل هذا العصر الذي كشف عنَّا الغطاء وأرانا من نتائجها ما أرى، لا يسعه إلا استلحاقها بالعلوم الإسلامية، لتستخدم في بعض الشعائر المفروضة، ويتطرق بها إلى اغتنام السعادة في الدنيا التي هي الكافل للسعادة الأبدية. ولقد فعل ذلك ذوو الفطر السليمة من علمائنا الذين لم ينكثوا أيديهم من التأسي بذلك السلف في التمتع بلذة النظر، وأخذ الأشياء النافعة من أي وجهة صدرت، فمحصوها بتطبيق أصول الديانة عليها وغرسوها في معادن معارفهم العالية، فربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ولقد أعجب من سوانا نباتها، فاستمالوا إليهم غصونها، فاستحكمت جذورها عندهم، واجتنوا منها ثمراً لذيذاً. شهد الله أن ليس الغرض من ترديد صدى هذه الجملة الأخيرة على الآذان نشر فضيلة كانت مطوية، أو الإعلان بمنة قوبلت بالكفران، كلا

ثم كلا، إن ذلك لا يجدي نفعاً ولا يطفئ لوعة، بل المراد إيقاد نار الغيرة على استرجاع ما أورَثَنَاه آباؤنا الأولون. وليست العلة في تجافينا عن هذه الفنون وعدم تعهدها بالتنمية إلى أن أصبحت بضاعتها لدينا مزجاة، إلا ما خيل إلى بعض الجاهلين بحقائقها من أنها حية تسعى، تساور الأفكار فتلسع عقائدها الصحيحة: واذ امرؤ لسعته أفعى مرة ... تركته حين يُجَرُّ حبلٌ يفرق ثم سرت عدوى ذلك الوهم إلى إحساسات كثير ممن يظن بهم القيام بأحمالها الخفيفة، ولربما تحاشى عن تعاليمها بعض العالمين بما فيها من المنافع، رهبة من إساءة الظن به واتهامه بالإلحاد الذي تزعم العامة أنه منقوش على كل سطر من صحائفها. هذا مع إخلادنا إلى الخمول إخلاد مهيض الجناح إلى الأرض، فلا تتطاول أعناقنا أو تشخص أبصارنا إلى الاستطلاع عن الوسائل التي تأخذ بساعد الأمة إلى التدرج في طبقات السؤدد والاستعلاء، فنسعى لها سعيها. ومن الناس من أُشربوا في قلوبهم اليأس والقنوط، فلا يرجون للإسلام تقدماً، فيميتون في أنفسهم كل قوة واستعداد، ويثبطونها عن المجاراة في مثل هذه الفنون، مما يُستجلب به مصلحة أو يدرأ به مفسدة، فإذا سمعوا منادياً ينادي لمراجعة التفاتنا واستدراك ما فاتنا، نغضوا إليه رؤوسهم سخرية، كأنما تطلَّبّ نشر الأموات أو كلَّفهم البلوغ إلى أسباب السماوات. سبحانك هذا ضلال مبين ننفذ له ماء الشؤون ونأسف له أسفاً أليماً. كما أن بعض المتدربين في هذه الفنون، قد يأخذهم التعاظم شأن المقلد الأعمى إلى أن يلقوا على أفواههم كلمات يهتضمون بها جانب العلوم الدينية

ومستتبعاتها، يرددونها بكل مكان، ويلوكونها لوك الخيل للشكائم صباحاً ومساء، غدواً ورواحاً، ويريدون أن تردى الناس جميعاً في أسواء الجهالة بها. أبمثل هاته الإرادة ينفخون في عروق الأمة حياة جديدة؟ أو لم يشعر هؤلاء بأن علوم الديانة هي عنصر المدنية الكبرى؟ ولماذا لا يقتدون بأهل النجارة والحياكة والفلاحة وسائر الصنائع؟ فإنهم على علم "أعانهم الله " أن الهيئة الاجتماعية لا يستقيم أودها إلا بحركاتهم اليومية، ولا يحومون حول هذه الآراء العقيمة التي لا تصدر إلا ممن حرم نظره من التعلق بما وراء هذه الدينا. اللهم ألهمنا طريقة عادلة يستوي على ظهرها القيِّم السائرون في مضيق الإفراط والخابطون في مهامه التفريط.

مدنية الإسلام والخطابة

مدنيّة الإسلام والخطابة (¬1) أتى على هذا العالم حين من الدهر، ومعظمه تحت قبضة دولتي الفارسيين والرومانيين، لا يخشون فيه منازعاً ولا يهابون معارضاً، وذلك قبل بعثته عليه الصلاة والسلام بنحو ثلاثة قرون، وانتشبت خلال هذه الأزمنة المستطيلة والآماد البعيدة بين هاتين الدولتين حروب دموية كان شررها مستطيراً، ولم تأخذهم بأبناء جنسهم المُكرَّم رأفة تغل أيديهم عما أرهقوهم به من الخسف والعدوان، وساموهم به من سوء العذاب الذي كانوا يصبُّون صواعقه على رؤوسهم صبّاً متوالياً. انقسمت دولة الرومان سنة 395 مسيحية إلى قسمين: قسم في الشرق، وعاصمته القسطنطينية، وقسم في الغرب وعاصمته روما، وبعد هذا التقسيم بنحو ثمانين سنة، منيت الدولة الرومانية الغربية بغارة شعواء شنتها عليهم البرابرة، اندفعوا عليهم من آسيا اندفاع السيل من عل، فأيقظوا في قارة أوروبا فتنة رمت بشواظها ذات اليمين وذات الشمال، وعاثوا فيها بأضرُب الفساد وأنول البغي، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعل المتوحشون. كل ذلك يُفصِّله لك التاريخ بتبيان لا يشوبه غموض، ويذكرك بأيامه ¬

_ (¬1) العدد الثالث عشر - الصادر في غرة رجب الأصب 1322.

الخالية تذكرة نافعة. ولم تزل تلك الفتن قائمة على سوقها، والجهالة المظلمة ضاربة أطنابها بمشارق الأرض ومغاربها، إلى أن انفتحت في الحجب المحدقة بأنوار الحضرة المحمدية كوة نفذت منها بوارق لمعت في جزيرة العرب أولاً، ثم انبعثت منها أشعة إلى سائر أطراف المعمورة، فقشعت ببهرتها سحائب الهجمية الغالبة، وأخمدت نيران الضلالة المرهقة، وإن المنصفين من مؤرخي الإفرنج على ذلك لمن الشاهدين. قال أحد فلاسفتهم وكتّابهم "شارل ميسمر" في كتابه "تذكار العالم الإسلامي": "الإسلام أفاد العالم، فيلزم أوروبا أن تحافظ على حياة أهله". وقال المسيو "دروي" أحد وزراء معارف فرنسا السابقين في كلامه على الأمة العربية -نقلته إحدى المجلات المصرية-: "وبعد ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي جمع قبائل العرب أمة واحدة تقصد مقصداً واحداً، ظهرت للعيان أمة كبيرة، مدت جناحها من نهر تاج في إسبانيا إلى نهر الغانج في الهند، ورفعت على الإشادة أعلام التمدن في أقطار الأرض أيام كانت أوربا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة"، ثم قال: "إنهم كانوا في القرون المتوسطة مختصين بالعلوم من بين سائر الأمم، وانقشعت بسببهم سحائب البربرة التي امتدت على أوروبا حين اختل نظامها بفتوحات المتوحشين، ورجعوا إلى الفحص عن ينابيع العلوم القديمة، ولم يكفهم الاحتفاظ على كنوزها التي عثروا عليها، بل اجتهدوا في توسيع دائرتها، وفتحوا طرقاً جديدة لتأمل العقول في عجائبها". ولعلك بعد أن تصغي إلى هذه الشهادة التي لا تختلج بريبة، تنفث في

روعك، ما لنا نرى إخوان الإسلام بمعزل عن سعادة الحياة وراحة العيش، يوم أصبح غيرهم يتقلب في سعة الملك وبسطة من الرفاهية، فنجيب: "تأمَّلْ جيداً بصَّرك الله أن الوادي الذي يهيم فيه المسلمون لهذا العهد غير الطريقة التي سنّها كتاب الله وشرحت وجهتها السنَّة الصحيحة. ما عليه غالب المسلمين الآن إنما هو مثال ينطبق عليه ما توسوس به الكتب المحشوة بالترهات الباطلة والخرافات التي تؤثر في العقائد والأخلاق خمَّة وفساداً، ككتاب "ألف ليلة"، وقصة "عنترة"، وقصة "فتوح اليمن"، وكتاب "أعلام الناس"، وكتاب "قصص الأنبياء"، المنسوب لأبي منصور الثعالبي وكتاب "مجاني الأدب"، وبعض كتب المواعظ والتفاسير المملوءة بالأحاديث الموضوعة وقصص الاسرائيليين. هذه الكتب وأشكالها هي الآن أكثر انتشاراً بين عامة المسلمين من الكتب المعتمدة، ويحسبون أن ما فيها هو من التعاليم الدينية، ولا يدرون بأنها فتحت علينا باباً من الغواية وآخر من المعرَّة لا يسدهما إلا البراءة منها وحرقها أينما وجدت، ولو طهرنا أفكارنا مما اشتملت عليه هذه الأسفار من القاذورات، وأفرغنا فيها من التعاليم الثابتة والآداب الحقة وابلاً غزيراً، لأثمرت في جوارحنا أعمالاً صالحة نستوفي أجورها مرتين. من المسؤول أولاً عن هذا الانقلاب العظيم الذي أودى بالمسلمين قاطبة إلى مرارة العيش وكدر الأنفس وهم لا يشعرون؟ هم ساداتنا العلماء، فإنهم تنازلوا عن شيء كثير من خطتهم، وضيَّقوا في نطاقها إلى حد لا يسع إرشاد الأمة وإصلاحها، ولا ينكر ما حدث منذ أزمنة غير قريبة، وامتدت سلسلة تعسة وشقاية لهذا العصر من اتخاذ بعض المتردين برداء العلم اسم الدين شراكاً يقتنصون به مآربهم الشخصية، ومنهم

من تختم المطامع والجشع على أفواههم فيكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمناً قليلاً، والذي يتولى أكبر هذه المسؤولية خطباء المنابر، فإن كثيراً منهم غيّروا الخطب تغييراً فاحشاً كاد يخرج بها عن دائرة حكمتها التي شرعت لها. شرعت الخطب للإرشاد إلى ما غايته راحة في الدارين وسعادة في الحياتين، وما مثل الخطيب في قومه إلا كمثل الطبيب الحكيم يسلم إليه شخص ليتكفل بالمحافظة على صحته، فلا يمكنه توفية هذه المحافظة حقها إلا بتفقد بدن ذلك الإنسان وتعهده في جميع الأزمنة، فإن طرأ على بنيته اعتلال أو مزاجه انحراف بادر إلى معالجته بدوائه المناسب له، وإلا فشأنه التحذير مما تتولد منه العلل وتتعفن به الأخلاط. وكما أن الطبيب لا يخص مراقبته بالأعضاء الرئيسية الدماغ والقلب مثلاً، ويترك ما عداه غير مأسوف عليه، كذلك الخطيب لا يقف بتذكرته النافعة عند حد العبادات المحضة، فإن التمكن من القيام بقواعدها له شروط ووسائل لا يتم إلا بها، فلا بد من استلفات الأنظار إلى استجماعها والتنشيط إلى الاستعداد فيها، ومن هنا وجب أن يكون الخطيب بحاثاً عن أحوال الأمة، متفطناً لمصالحهم الدينية والدنيوية. إنْ أدركَ الناسَ فتورٌ عن إقامة شعائر الدين استمالهم إليها ببواعث الترغيب تارة، وقرعهم بسيوف الترهيب تارة أخرى، وإن تخبطتهم شياطين التدابر والتخاذل، عوذهم من شر عاقبتها الوخيمة برقية الآيات والأحاديث التي تحيى في نفوسهم عواطف المحبة والائتلاف، وإن آنس من أخلاقهم عوجاً وحيفاً كعدم الصدق في المعاملات والتظاهر بالمداهنة والنفاق بشبهة

أنها دهاء وسياسة، عالج استقامتها بمواعظه الحسنة وفي المواعظ شفاء الصدور، وإن خامر عزائمهم داء الفشل والتلذذ بالراحة الوقتية فقيَّدا سواعدهم عن أعمالهم الصناعية التي بلغت بها الأمم التي يضرب بها المثل في القوة والسيادة مبلغاً عظيماً، استنهضهم بلسان الشريعة السامية للمسابقة في ميدانها والمزاحمة على إحراز غاياتها، وأنذرهم سوء المنقلب الذي ينقلب فيه البطالون.

كبر الهمة

كبر الهِمَّة (¬1) جرت سُنَّة الله في خلقه، أن لا ينهض بأصر المقاصد الجليلة، ويرمي إلى الغايات البعيدة، التي يشد بها نطاق السيادة الكبرى، غير النفوس التي عظم حجمها، وكبرت هممها، فلم تعلق إرادتها بسفاسف الآمال. ولذلك لما بُعث عليه الصلاة والسلام لإسعاف الأمة بجميع وسائل الحياة الأدبية، أنشأ يؤسس مبادئ العزة والكرامة، ويعبر عن مكانتها الرفيعة باليمين والشمال، فاجتث من الأنفس شجرة الذلة من جذورها، وأعتق رقابها من الاستكانة مخافة أن تهوي بها إلى أدنى درجات الضعة والدناءة، ولم يأل جهداً في إجراء دم الشهامة وكبر الهمة في عروقها الميتة، حتى أخرجها في قالب الكمال، لا تتردد إلا على أبواب الفضائل، ولا تبسط ساعديها إلا لمبهمات الأمور. أليس من الإيماء إلى هذا الخالق العظيم النهي عن السؤال لمن وجد طريقأ عملياً للاكتساب؟ في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده، لياخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله، فيسأله، أعطاه أو منعه". ¬

_ (¬1) العدد الرابع عشر - الصادر في 16 رجب الأصب 1322.

ومن أحكام الشريعة إباحة التيمم للمكلف وعدم إلزامه بقبول هبة ثمن الماء للوضوء، لما في ذلك من المنة التي تنقص حظاً وافراً من أطراف الهمة الشامخة، ومنها عدم إلزامه باستهابة ثوب يستر به عورته في الصلاة، وأبيح له أن يصلي عارياً صيانة لضياء وجهه من الانكساف بسواد المطالب، وليحذر الذين يحاولون الوصول إلى هذا الخلق الأسمى، أن يهرعوا إليه من طريق يدع التواضع دبر آذانهم فيعودون كما بدؤوا. ليس من كبر الهمة الترفع عن الرجل يبسط لك وجهاً رحباً ويمنحك لساناً رطباً، وتشهد لك ألمعيتك الوقادة بمطابقة ظاهره لما يكنّه ضميره، بل ذلك نفور من النفس وجموح إلى جهة العلو بغير انتظام وهو ما نسميه كبراً. ماذا يردع النفوس عن أن تُرى حيثما نهى الله، ويغلق في وجوهها أبواب الفسق والملاهي؟ كبر الهمة. ماذا يقبض من الأيدي ويسد اللهى عن ابتلاع ما يدلي به الظالمون ليأكلون فريقاً من أموال الناس؟ كبر الهمة. ماذا يوحي إلى الرجل أن يقيم لسائر تقلباته وزناً بالقسط، حتى إذا جستها يد الناقد الحكيم لم تجد في حركاتها طيشاً عن الأغراض التي ترمي إليها ذوو العقول النيرة؟ كبر الهمة. كبر الهمة يعقد الألسنة عن الانطلاق في مجاري التملق والمداهنة، ويصفد الأقدام عن غشيان المنازل التي لا تطأ فيها على بساط الاحترام والحفاوة، كبر الهمة يصيِّر العالِم الأمين عوداً مراً ومكسراً صلباً يقف للمبتدعين المرجفين موقف الشجى بين الحلق والوريد، ويصارعهم بقول

الحق الذي تشتد عراه على أكنتهم إبراماً، كبر الهمة يستفز الموسر الكريم إلى أن يقول بمال الله الذي أتاه هكذا وهكذا، متحرياً به مصارف المبرات التي تقربه إلى الله زلفى. يقف أحد أمام بعض الكبراء، فيسترسل في مخاطبته بثبات جأش وسكون في الأعضاء ومهل في القولِ، ويعقبه آخر ليقوم مقامه فيرجف فؤاده وترتعد فرائصه ويتعثر لسانه في أذيال الفهاهة، فهل يختلج في ضمير ذي عقل رشيد، أن الأَول اتسم بالقحة المذمومة، والآخر طبع على الحياء المحمود؟ معاذ الله، إنما هو كبر الهمة وضعفها، كبر الهمة وضعفها يمثلان لك الإنسانية بالسلك الذي ينظم خرزاً كثيراً تباينت معادنها شرفاً وحطة، واختلفت مناظرها سماجة وجمالا، فمن الناس من تسمو بهم نفوسهم إلى الوقوف على أسرار الهداية، فيتقلبون في أبوابها، ويتمسكون بأسبابها إلى أن تعرج بهم إلى الأفق الأعلى، فيحلون من العلم بطرقها محل القطب من الرحى، وهذا الفريق هو الذي تستضيء الأمة بانوار عقولهم، وتتوكأ على كواهلهم القوية، ولا ينوء بهم عبؤها الرزين، فيخطون بها سراعاً إلى مجادة شامخة الذرا، ويوقدون في كل شعبة منها سراجاً منيراً، ومنهم من تتضاءل هممهم حتى يتمكن الذبول والخمول من نواصيهم، فيزلقان بهم إلى الحضيض الأسفل من الحطة والرذالة، وتمحى من إحساساتهم آيات الشعور ورسوم العواطف التي يكون بها الإنسان رجلاً حقيقياً، فينشرون الخبائث نشر الفريق الأول للأفعال المحمودة، وتقهقر الأمة وشقاؤها بمقدار ما يتناسل فيها من مثل هؤلاء الأرذلين. تجد الذين تربوا على مبدأ الإذلال والإهانة، يحبون أن تشيع فاحشة الذلة في إخوانهم الذين آمنوا، فيتغالون في إطراء كل من تزمل بثياب الهوان

وخفض لهم جناح المسكنة، وإنها لإحدى العلل التي نُخرت منها عظامنا من قبل أن يدركنا الموت الذي يجعلنا من أصحاب القبور. أما الحر الذي ربي في مهاد العز، وفطر على كرامة النفس، فإنه لا يرفع إلا من شأن شريف الهمة، الناسج على مثال العزة التي هي من شعائر الإيمان. وإذا استبنا أن كبر الهمة سجية من سجايا الدين، تصدر عنها الأعمال العظيمة، وتضم تحت جناحيها فضائل شتى، فلم لا نعقل عليها نفوس أبنائنا ونرشحهم بلبانها في أدوار تربيتهم الأولى؟ ليستشعروا بالآداب المضيئة، ويتجلبوا بالقوانين العادلة، ولنا حياة طيبة في العاجل، وعطاء غير مجذوذ في الآجل.

التعاون والتعاضد

التّعاون والتّعاضد (¬1) هل يستوى رجل لا يفتأ ينظر بعين التفكر والاعتبار في نظام هذه الموجودات، ويجيل أقداح البحث عن دقائق الحكم السارية فيها سريان الماء في الغصن الرطيب، وآخر نسجت على بصيرته عناكب الذهول والبلاهة، فلا ينظر إلى الإبل كيف خلقت، ولا إلى السماء كيف رفعت، ولا إلى الجبال كيف نصبت، ولا إلى الأرض كيف سطحت؟ حاشا لله. ما بين الذين يعلمون كيف وضع هذا العالم، ويدرون معنى حياة جنسهم الذي استعمره الله فيه، والذين لا يعلمون إلا ظاهراً من صوره المحسوسة، ولا يفقهون إلا اختلافها في الألوان وتفاوتها في الأشكال والمقادير، مثل ما بين الحضيض الأسفل والسموات العلى. إن من تدرجوا في استقراء أحوال الكون شيئاً فشيئاً إلى أن وقفوا وراء غاية المرتبة الحيوانية، لأوسع براعة في التدبير المتقن لتسوية الطرق التي تتقوَّم بها ماهية الحياة الصالحة، وأطول يداً في تأسيس الدعائم التي يشيِّدون عليها صروح العزة والأبهة. إرسال نظراتك الصادقة في طبقة الحيوان على أكمل وجه وإحاطتك بأطرافها خبراً، يقيم لك على معنى قولهم "الإنسان ¬

_ (¬1) العدد الخامس عشر - الصادر في غرة شعبان الأكرم 1322.

مدني بالطبع" برهاناً جلياً، ويشرحه لك شرحاً جيداً. نجد كل واحد، ما عدا الإنسان، من الحيوان مكتفياً بنفسه غير مفتقر في حياته إلى معونة غيره، خلقه الله مكتسياً بما يوافقه من صوف أو شعر أو وبر أو ريش أو ما أشبه ذلك، وأعطاه سلاحاً يدافع به عن نفسه، كالقرون للبقر والغنم، والحافر للفرس والحمار، والمخالب للسباع، والشوك للقنفذ، وبعض جعل له آلة العدو كالأرانب والظبي، وأودع فيه إلهاماً يتناول به ما يلائم طبيعته من الأغذية، ويهتدي به لاتخاذ كنٍّ يسكن إليه. أما البشر فإنه خُلق على خلاف خلقة الحيوان عارياً أعزل من السلاح الذي يكون مظهراً لإباء الضيم وشدة البأس، غير مهتد لشيء من مصالحه إلا بالتربية والتعليم، فاحتاج في بقائه إلى لباس يتقي به سورة الحر والبرد، ومسكن يأوي إليه ويأنس به، وآلات يذود بها عن حرمه ويحمي بها حماه، وغذاء يدفع به ألم المخمصة، وتعلمُّ ما ينفعه ليسارع إليه ومعرفة ما يضره لينصرف عنه. وأنت خبير بأن هذه الضرورات والحاجات، ولا سيما إذا انضم إليها ما هو من محسناتها، لا يستطيع الشخص الواحد تحصيلها بنفسه، وإن تعاظم قدره وقوي ساعده، بل لا يحمل أثقالها إلا إذا أعانه عليها قوم آخرون، فمن التمسك بقوانين العدل والإنصاف، أن تمدَّ يد المعونة لأبناء جنسك كما تطلبها منهم، وإلا نفّضوا أيديهم من مؤازرتك عند الحاجة إليهم، ويلوح إلى هذا النكتة، صيغة المفاعلة في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] , ولا يخفى على من له أدنى شعور أن المصالح العامة وسائر الأمور العظام،

لا يخفف وطأتها ويزيح من مشاقها إلا المعونات الكثيرة، ومما يومئ إلى أن للاجتماع مزية وقوة هي مفقودة في حال العزلة والانفراد قوله تعالى: {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف: 14] وقوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35]، وقوله: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 14] إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. التعاون شرعاً يتمخض القصد منه في استجلاب المنفعة وإزالة الضرر اللاحق، ولو لفرد واحد من أفراد الجامعة، رعاية للأخوة الدينية، واحتراماً للعهد الذي أخذه عنه الشارع {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] وكثير من الناس وما هم من الناس، لا تدور مقاصدهم إلا وراء منفعتهم الخاصة، فلا يتحركون إلا لمعاضدة تجر لهم نفعاً عاجلاً، فإذا استُنجدوا لقضية لا يضربون فيها بسهم ولا يستثمرون منها فائدة تخصهم، قالوا: في آذاننا وقر، بل ختم الله على قلوبهم بغشاوة الطمع ودناءة القصد وهم يعلمون، ويلتحق بهذا القبيل بعض من ضربت في نفسه الدنايا، فيقنع بمنزل يؤوي جثته، وإن أُعدِّ له في بحبوحة الخزي والهوان، وميسور من العيش يسد رمقه، وإن كان ذراع خنزير ميت تدفعه إليه يد مجذوم، وجنة تستر عورته وإن كانت أكثر دنساً من عرض لئيم فاجر، حتى إذا ظفر بما يبتغيه من هذه الشهوات الحيوانية، هاجت في صدوره الطمأنينة والسراء، وبات ريان الجفون من الكرى، ولا يعطف عنقه إحساس ديني إلى النظر، ولو بمؤخر عينه، فيما يعوز الأمة التي هو منها بمنزلة الأنملة من الراحة. إنما رجل الدنيا وواحدها من يكون خضوعه لسيطرة الدين سجية، وعنايته بما يرفع من راية قومه جبلَّة، فلا يرى محزاً في مفاصلهم إلا واصله،

ولا يستصرخون به في مهمة إلا أجاب دعوتهم بجميع ما يملكه من الاستطاعة، يتلمح مثل هذا الرجل العظيم مبدأً من أصول الإصلاحات الكلية، فتلتهب في جأشه الغيرة، وتهب على عواطفه أرواح الفتوة، فلا يتمالك أن يستثير بأقواله السديدة همم أولي العزم من الرجال إلى وضع قاعدته على أساس متين، كراهة أن ينقصهم شيء من المواد الحيوية، فيبلغ صدى استغاثته غالباً إلى ثلاث طوائف: أحدها: فتية شبوا في أحضان التربية والتعليم، وأخذوا من النبهاهة ورقة الوجدان بنصيب، فيستقبلون كل ما يلقى على كواهلهم من إرشادات الناصح الأمين بمهج ثابتة وعزم صادق لا وَنْيَة فيه، وهؤلاء هم أعضاء الأمة الذين يتركب منهم جسمها الصحيح، وهم الوقاية الضافية التي يستعاذ بها من شر الحوادث الخطيرة. ثانيها: طائفة ضربت بها الغباوة في غمرات الجمود، فكانت دائرة نظراتها أضيق عليها من سَمِّ الخياط، فإذا عرض عليها ما تفترعه الأذهان المتسعة من الأفكار الجليلة، لم يجد للجولان فيها مساغاً، فتضرب عنه دفعة وتلفظه جملة، ويُقبل عليها الباطل في ثياب الحق، فتُفرِغ له زاوية من القبول، ولا مصدر لما يسميه أهل الدين بدعة إلا هؤلاء الساقطون. ثالثها: ناشئة لها قابلية للدخول في مضمار السعادة، ولكنهم لم يلقوا أعنة نفوسهم بأيدي عقولهم، بل أرسلوها على غواربها، فهامت بهم في أودية شاسعة لا يسمعون فيها تذكرة الواعظين، ولو سمعوا ما استجابوا لهم. وكل من الفئة الثانية والثالثة عقبة يعسر على مدارك الحكماء تقويم

حدبتها وإماطة أذاها عن الطريق، ولا يعلق بهما رجاء في سد منافذ البلاء عن الأمة، أو رفع شيء من سقوطها، وعلى كل حال فلا يترك تقريعهم بزواجر الموعظة واستدراجهم إلى الوحدة والمعاضدة {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].

الديانة والحرية المطلقة

الدّيانة والحريّة المطلقة (¬1) لو سُئل الذين أوتوا الحكمة وفصل الخطاب، أن يشرِّعوا للناس طرائق تكون لهم أجمل مكان يستشرفون منه على حقيقة العدالة والأخلاق الكاملة، وحدوداً تلم لهم بحفظ الحقوق الإنسانية، تتناولهم إصلاحاتها ما تداولت الأيام، وتضم عليهم أزرارها أينما سكنوا، لضلت عليهم أنباؤها، وعثرت عقولهم في ذيل الحصر، وإن اجتمعوا على صعيد واحد وكان بعضهم لبعض ظهيراً. إن البشر مهما اتسعت مداركهم، وسمت أفكارهم، لا يمكنهم الإحاطة بمطالب الحياة الاجتماعية والتوصل إلى كل ما يحتاجه الإنسان في وجوده المدني، لأن العقل الذي امتازوا به عن سائر الحيوان، وصاروا به معدن العلم ومركز الحكمة، غايته معرفة كليات الأشياء دون الاطلاع على جميع جزئياتها، فلا يكاد يدرك كل مصلحة مصلحة، ويتصور كل مفسدة مفسدة، نحو أن يعلم حسن اعتقاد الحق وحسن استعمال العدالة وملازمة العفة، لكنه قد يخفى عليه أن اعتقاد كذا حق، وفعل كذا من العدالة، وترك كذا من العفة، كمثل الفقيه، يعلم أحكام الحوادث الكونية، وليس له قوة فائقة في إعطاء الوقائع حكمها الواجب لها، أو مثل الطبيب يعلم الأدوية وخواصها، ¬

_ (¬1) العدد السابع عشر - الصادر في غرة رمضان المعظم 1322.

وليست له مهارة في علاج كل مرض بما يلائمه، وهو المسمى بالتطبيق، ومن أجل ذلك لم يكتف به الإله جلّ وعز في إقامة الحجة على الناس، بل عذر أهل الفترات في عدم اهتدائهم، فقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [لإسراء: 15]. فلا جرم أن السياسة العادلة لا تأخذ منتهى غايتها إلا باستناد أحكامها إلى من أحاط بكل شيء علماً، ولو اطلعت على التواريخ العتيقة والحديثة، ودرستها درساً مدققاً، لملئت يقيناً وازدت إيماناً مع إيمانك بذلك الحق الذي هو أوضح من محيَّا النهار، ولا يرتاب فيه إلا ذو بصيرة غشيها غبار الغباوة، فلم تنعكس أشعة الحقائق في مرآتها. فكَّر "داسولون" متشرع أثينا ليسنَّ في قومه قانوناً يقشع عنهم ظلمات ما هم فيه من البغي، ويحول بينهم وبين كل جناية، فخطر على باله أن يقرع أسماعهم بروعة القانون، فشدد عليهم إصر العقوبة بتقريره القتل جزاء لكل جريمة صغيرة كانت أو كبيرة. خفي على هذا الفيلسوف، أنَّ جعل القتل عقوبة ولو على الكذبة الواحدة، فضلاً عما فيه من الإفراط في الحكومة والنقص من الأنفس، هو من الانحرافات المفضية إلى قتل الهمم وغمس القلوب في صبغة الجبن والخوف، ولن تفلح أمة كُسيت بكسوة الفزع والذلة أبداً. وأخذت "أفلاطون" وريث "سقراط" الرأفة بقومه من أن تتسرب إليهم

العدوى بالأخلاق الفاسدة من الأجانب، فقرر أن تغلق أبواب بلاده أمامهم، ولم يُحسن السياسة في ذلك لجملة أسباب، منها أن الأمة إنما تحفظ استقلالها الذاتي بالتيقظ لنوايا الأمم الأخرى، والتخرص على حركاتها الخفية، ومثل ذلك لا يحصل إلا بمداخلتهم وتبادل المعلومات معهم. ومن جملة غلطات هذا الفيلسوف، أنه عمد إلى القطب الذي تدور عليه ترقيات الشعب وهي "التجارة" فرمقها بعين الاحتقار، لما دار في حسبانه أنها من المهن الخسيسة، فقرر في قانونه أن يعاقب كل يوناني تطمح نفسه إلى استدارة دولابها. وظنَّ "أرسطو" أبو الفلسفة أن جميع الحرف والصنائع من الدنايا السافلة، فقرر في شريعته أن يعامل كل من يتعاطاها بحرمانه من الحقوق الوطنية، فمثل هاته القوانين لو تمسكت بها أمة ولو بضعة أيام لسقطت في دركات الشقاوة السفلى. ذلك التشريع الذي يحمل على المناهج السوية، ويتكفل بتحديد الحقوق الإفرادية والاجتماعية، لا يتوغل في مناحيه العميقة، ويوضح ما دق من مشاكله الغامضة، إلا الدين الذي هو وضع إلهي يسوق الناس باختيارهم إلى الانتظام في أعمالهم الدنيوية والتأهل للزلفى من الله في الحياة الأبدية، وإن له عند الرجل العظيم لصولة موهوبة وسلطنة مقدسة، يخر لها صعقاً، ولا تبغي نفسه الكريمة عن السكون تحتها حولاً، لكنه عند هزيل العقل عريض الوسادة عسير الاتباع. نريد للرجل العظيم من كمل اطلاعه على أحكامه الفرعية، وأبعد فيها نظره إلى أن رآها كيف انتزعت من مداركها الأصولية، فتوفرت في نفسه الثقة

بأن الدين حكم عدل، لا يحسن في الخليقة غير آثار تدبيره. وما هو عريض الوسادة؟ عريض الوسادة كل من يتميز إلى الفئة التي انتقضت في مستنقع الجهالة أمداً مديداً، ثم قاموا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ليتجردوا من أثواب الديانة المحكمة، ويستعوضوه بلباس الحرية المطلقة {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]. إن إطلاق التصرف للإنسان يعمل ما شاء، وتخلية سبيله يعتقد ما سنح له، وعدم ارتباطه في ذلك بالأوضاع الدينية، لمفسدة كبرى تعم الأفراد في أشخاصها والأمم في اجتماعها. واعتبر في ذلك بحال العرب في الجاهلية، حين كانوا أوزاعاً في مذاهبهم وأخيافاً في وجهاتهم، كل يعمل على نفاذ داعيته، لا رادع من الدين يرد شكيمتهم، ولا سبيل لسلطة غالبة على كبح جماحهم، يتبين لك أن الحرية المطلقة والهمجية المقلقة أخوان لا ينفك أحدهما عن الآخر، ثم حوَّل نظرك إلى زمن الرسالة، وعصر الخلفاء الراشدين، فلا تجد سبباً امتد بالإِسلام في أَطراف الأرض، فاستوثق لهم ملك متماسك العرى غير إجرائهم لتلك المبادئ التي أركزها الوحي في عقولهم. قال قائل من الذين يريدون أن ينفذوا من أقطار الشريعة المباركة: "ما لبعض شعائرها لا يعقل له معنى". قلنا "عَدْس" (¬1) لم يجعل الله لأحداث السفاهة على ذوق أسرار شريعته ¬

_ (¬1) العدْس: الحدس - القاموس.

سبيلاً، إن تكاليف الشرع على نوعين: عبادات وعادات، أما قسم العادات: وهو ما تقوم به قوانين العمران في هذه الحياة الدنيا، فقد توسع الشارع في بيان علله وحكمه الخاصة صراحة أو رمزاً كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] , وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91] الآية. وفي الحديث: "لا يقضي القاضي وهو غضبان". وقال: "القائل لا يرث" إلى غير ذلك. وأما ما كان من قبيل العبادات، كالصلاة والصوم والحج، فالأصل فيه بالنسبة إلى المكلف التعبد، وحكمته العامة الانقياد لأوامر الله تعالى، وإفراده بالخضوع والتعظيم، وقد يبين له الشارع علة خاصة، لكن التقرب إلى الله تعالى بما لم يطلعنا على حكمته، أدل على كمال العبودية له والإخلاص في التوجه إليه؛ لأن الإتيان بالقربات التي أدركنا حكمتها المناسبة، لا يخلو عن شائبة القصد إلى المصالح المترتبة عليها، وهو وإن لم يكن محبطاً بعملها يهضم شيئاً قليلاً من خلوصها؛ فإن قال غير متشرع: لماذا كانت صلاة الظهر أربع ركعات وصلاة المغرب ثلاثاً؟ فألقم فاه بحجر هذه النكتة الحكمية، وإن قاله متشرع، قلنا له: الله ورسوله أعلم.

البدعة

البدْعة (¬1) هذه الضلالة لعبت بعقول طائفة لم يتبحروا في قواعد الدين، فآلت بهم إلى التوسع في دائرته باختراع أحكام على قالب أغراضهم، يهدجون بها حول أقوام يستمعون القول ولا يتبعون أحسنه، كما أن حقيقتها تشابهت على بعض المتعرضين لضبطها، وإنا إن شاء الله لمهتدون. البدعة شرعاً: إحداث أمر في الدين يشبه أن يكون منه وليس منه، وإن شئت فقل: هي إحداث أمر على أنه قربة وليس بقربة لا مطلق الإحداث، إذ قد تتناوله الشريعة بأصولها فيكون راجعاً إليها، أو بفروعها فيكون مقيساً عليها، وعلى هذا فلا تشمل البدعة إلا ما كان محرما أو مكروهاً بحسب قوة الشبهة وضعفها، فإن قويت لم يبلغ بها التحريم، وإن ضعفت جداً كانت محرمة، وإنما قسَّمها بعضهم إلى أقسام الشريعة الخمسة نظراً لمعناها من حيث اللغة، ومنه قول عمر - رضي الله عنه - في شأن التراويح "نعمة البدعة هذه". وأصح ضابط نعتمده في هذا الباب، ونجعله عروضاً للمحدثات المذمومة بألسنة من يُعتد بهم في الدين، هو أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين، أحدهما: أن يسكت عنه لعدم الحاجة الداعية لبيانه، كالوقائع ¬

_ (¬1) العدد الرابع - المصادر في 16 صفر 1322.

التي حدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمد المجتهدون إلى استنباط أحكامها من كليات الشريعة، وما أحدثه السلف الصالح كجمع المصحف وتدوين العلوم راجع إلى هذا القسم، ومن جزئياته تضمين الصناع وسائر الفروع المبنية على رعاية المصالح المرسلة، والثاني: أن يسكت عنه وموجبه المقتضي له قائم، بحيث لم يقرر فيه حكم عند نزوله زيادة على ما كان في ذلك الزمان، فهذا الضرب السكوت فيه كالنص، على أن قَصْدَ الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص، فتكون الزيادة فيه والنقص بدعة مخالفة لما قصده الشارع، وهي المشار إليها بقوله عليه الصلاة والسلام: "إياكم ومحدثات الأمور"، وقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وسنأتي على بعض أمثلته في المستقبل.

الزمان والتربية

الزّمان والتّربية (¬1) طالعوا أيها القراء من نجوم الشريعة ضياء، ثم استبقوا إلى غاية ترفع لقوانين التربية لواء، وناقشوا القوم الحساب، وتنفسوا في تصاريف الخطاب، فليس على الكتَّاب حرج فيما يسبكونه من الفواصل، ولا على الشعراء جناح فيما ينحتونه من البيوت، إذا ما سارت أقلامهم التي ينعتونها بدعاة الإصلاح تحت مراقبة عقولهم، ولم تجر على شاكلة أغراضهم. واعلموا أنكم لا تجدون في أعطافنا ارتياحاً وهزة لمقال تدفقت على جوانبه الفصاحة، إلا إذا وقع موقع الحكمة، وخرج بنا عن سبيل الذين لا يعلمونه، ولا ينطلي على فطنتكم المتيقظة زخرف تلك القضية "فسد الزمان ولا دواء له"، فتلصق بألسنتكم لكنة، وتطفئ من عزائمكم توقداً، فتفقدون منها حدة ونشاطاً. تصور تلك القضية في نفوس الضعفاء من الناس، أن الأزمنة مختلفة بالحقائق اختلاف الجبن والشجاعة، ولؤم النفس وكرمها، حتى يتخيل بعضهم أنك لو حللت له قطعة من الأزمنة المرقومة بالسعادة وأذقته إياها, لوجد في مذاقها طعماً لذيذاً، ولو فعلت له مثل ذلك من هذا الزمان، لكنت جرعته ¬

_ (¬1) العدد الحادي والعشرون - المصادر في غرة ذي القعدة 1322.

من طعام الأثيم ما لا يكاد يسيغه، من أجل هذه الوساوس الباطلة والأوهام العاطلة، يتخذه بعض البسطاء معذرة يلقيها إليك إذا ما قذفت ابنه أو أخاه بسوء التربية وسماحة الطبيعة. إنما الليالي حلقات تماسكت فتكوَّنت منها سلسلة نسميها بالزمان، وإنها لأشبه ببعضها من الماء بالماء والهواء بالهواء، فما أشبه الليلة بالبارحة، وما مثل الأيام إلا كمثل أكواب من قوارير تتلون بلون ما تشغل به، فإن ضمنت سُمَّاً زعافاً لاحت فيها مخائل الاستيحاش، وإن حفظت شراباً طهوراً انطبعت فيها شمائل الإيناس. ينظر إخوان الأنعام إلى ما بين أيديهم من الزمان بعيون حشوها الغفلة وأفئدة منزوعة من التدبر، حتى إذا مرَّ مر السحاب، وآيسوا من عوده أياس الشيخ من الشباب، سقط في أيديهم على ما فرطوا في جنب الله، وعضوا الأنامل من الندم على ما خسروه من المشروعات النافعة. "الزمان" لا يقدِّر قيمته الثمينة حق قدرها غير رجل تلقته الحكمة من كل جهة، تمكن من جانب التبصر في حقائق الأشياء، فينظره بعين المشوق المستهام، ويستفرغ في نقده كل ما لديه من الاستطاعة، ولا يعز عليه أن يبقى نتاج ما يدفنه في بطونه من المساعي الخيرية منسية، يستأثر بباكورته اللذيذة من يولد من بعده. إن فرغ الفؤاد من عواطف الإنسانية، لا ينسج بمساعيه إلا على المقدار الذي يعلق عليه أمل حياته، حتى إذا مكنته الفرصة من بذر ما يستأخر حصاده لعشيرته التي تجمعهم به صلة القربى، صاعر خدّه إباية ونام على صماخ أذنيه سباتاً عميقاً. بهاته الهمة نفسها حشي دماغ رجل آخر يذوق حلاوة التعليم،

ويستمرئ لذة التهذيب، ويترك ابنه ساذجاً الحد الذي يبغضه الله ويمقته الناس. أي شهادة على سخافة مدرك الرجل وفقد شعوره، أعظم من أن يمثل أمام عينه الزمن الذي يبلغ فيه الطفل أشده، ويرسم في مخيلته كيف ينتظم في دائرة رجاله، ولا يؤهله بالتربية الحسنى لأن يكون سيداً نبيلاً. لا يدري كثير من الناس أن الطفل واحد من رجال الأمة إلا أنه مستتر بثياب الصبا، فلو كشف لنا عنه وهو كامن تحتها لرأيناه واقفاً في مصاف الرجال القوَّامين، لكن جرت سنَّة الله أن لا تتفتق أزوار تلك الأستار إلا بالتربية شيئاً فشيئاً، ولا تؤخذ إلا بالسياسات الجيدة على وجه من التدريج، قد يعرض للصبي أن يظهر في مظاهر تخالف قاعدة الحكمة قولاً أو فعلاً، فتدخل على كافله شبهة أن تكون تلك الأحوال ناشئة عن غرائز لا تقوى يد التربية على نسخها من صحيفة النفس، فيعدل عن تقويم التوائه جانبا ويخلِّي بينه وبين تلك الأعراض السيئة مغضوبا عليه، لا ينبغي أن تعتبر الحركات التي تظهر على جوارح الأطفال علامات يهتدى بها على شعائرهم الغريزية، فكم من غلام تتوسم في طبعه ليناً وسهولة وإذا ضربته على قانون التربية وجدته يبساً صلداً، وتتفرس في طبع آخر فظاظة وأمتاً، فإذا مسكت بعنانه وهويت به على مضمار التعليم كان أسرع لتلبيتك من الصدى، وألين ديباجة تنقش عليها آيات الفضائل. لم يفقه بعض أرباب البيوت ومن يحاول اللحاق بهم أهمية التربية حتى الآن، فيفرطون في مجاراة الولد على جميع أهوائه، ويفوضون له أن يقضي ما هو قاض، وربما تغنوا بمديحه في المجامع الحاشدة، وأطروه بما لا تنطبق

شهادة ثماره عليه، ولبئس ما كادوه به لو كانوا يعلمون، إنما نصبوا لهذا المسكين مكيدة تسد في وجهه أبواب الآداب الجميلة، وتجعل بينه وبين السعادة حجاباً مستورًا، ليت شعري بماذا تجادل عن نفسك أيها الكفيل، إذا ألقيت على عواهنك مسؤولية إغفال الطفل في مراتع وخيمة، وأنت تعلم علماً كاشفاً أَن لا محيص عنه في عرضه على بعض مطالب الاجتماع، ولم يكن بد من قيامه مقاماً يكون عدم تأهله له جناية على الهيئة بتمامها؟! أخشى أن يضاعف لك العذاب ضعفين، تعذب على تشويه تلك الجوهرة المكرمة عذاباً نكراً، وتحوز من عقوبة تلك الجناية العامة نصيباً مفروضاً. إن الأرواح لتنمو بالتربية اللطيفة كما تنمو الأجسام بالغذاء الصحيح، ولنماء الجسم حد معلوم وغاية لا تتجاوز، إذا أُدرك شأوها أخذ في التقهقر إلى وراء، أما نماء الروح فموصول بحياة الإنسان، لا يقف إلا إذا خمدت أنفاسه وبارح مدرسة هذا العالم الكبرى. نؤسس على هذا أن المعلم لا يمكنه الإحاطة للولد بصغائر التربية وجزئياتها من جميع أطرافها ضرورة، إن من أصولها ملاحظة العوائد ما يعم الجمهور منها وما يخص الأفراد، وجزئيات هذا الأصل مما تفوق حد الوصف، ويكلُّ لسان الإحصاء دون نهايتها، فليس في مقدرته إلا تلقيح ذهن الطفل بقواعد كلية لا يهجم منها على البعيد الشارد قبيل أن يذلل مراسه بالقريب الذي يؤخذ بالأيدي مع النظر في مظاهر أمياله نظر المنجم في الميقات، حتى إذا أبصر فيها إحديداباً قوّمه بالتي هي أحسن والسلام.

الصيام

الصّيام (¬1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. هذه الآية مدنية، وهكذا الشأن في كل آية استفتحت بهذا العنوان، بخلاف ما افتتح بيا أيها الناس، فقد وقع في الآيات المكية والمدنية، وإنما ابتدأت بهذا المطلع الذي يخص المؤمنين لأنها سيقت للتكليف بأمر فرعي وهو الصوم، وكذلك جرت سنّة كتاب الله أن يفتتح الأوامر الفرعية بيا أيها الذين آمنوا، نحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] الآية، ونحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254] , وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية إلى غير ذلك. ويصدر الأوامر الاعتقادية بيا أيها الناس، والسر في ذلك أن الفروع لا تصح إلا مع وجود شرطها وهو الإيمان, فناسب توجيه الخطاب إلى من حصلوا على شرط صحتها وهم الذين آمنوا، مع ما في ذلك من تقوية الداعية لهم والمبالغة في التهييج إلى العمل، فكأنه يقول لهم أيها المؤمنون شأن المؤمن بالله أن يتلقى أوامره بغاية القبول وسرعة الامتثال، ومن يرى من الأصوليين عدم تكليف غير المؤمنين بفروع الشريعة لا يحتاج إلى بيان وجه ¬

_ (¬1) العدد السابع عشر - المصادر في غرة رمضان المعظم 1322.

العدول عن يا أيها الناس في الأوامر الفرعية. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] الصيام في اللغة: الإمساك عما تنازع إليه النفس، كالكلام والطعام والشراب والنكاح، وفي الشريعة: الإمساك عن المفطرات بياض النهار. وشرِّع الصيام لتصفية مرآة العقل، ورياضة النفس بحبسها عن شهواتها، وإمساكها عن خسيس عاداتها, وليذوق الموسرون لباس الجوع فيعرفون قدر نعمة الله عليهم، وتهيج عواطفهم إلى مواساة الفقراء. وللصوم عند من تنبهوا لأسرار العبادات ثلاث درجات: صوم العامة: وهو كف البطن والفرج عن شهوتيهما، وصوم الخاصة: وهو ما تقدم مع قصر الجوارح عن أفعال المخالفات، وصوم خاصة الخاصة: وهو صوم القلب وترفعه عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية التي لا تراد للدين، وإلا فهي من زاد الآخرة ومطاياها، وهذه هي الدرجة الكاملة التي جمعت بين عمل الظاهر والباطن، وينبئك على حطة الدرجة الأولى، وقصور صاحبها عن الانخراط في زمرة الصائمين حقيقة، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، وقال أبو بكر بن العربي: "كان من قبلنا من الأمم صومهم الإمساك عن الكلام مع الطعام والشراب، فكانوا في حرج، ثم أرخص الله لهذه الأمة في الإمساك عن الكلام ليرفعها بالكرامة في أعلى الدرج، فوقعت في ارتكاب الزور واقتراب المحظور في حرج، فأنبأنا الله سبحانه على لسان رسوله أن من اقترب زوراً أو أتى من القول منكوراً، أن الله سبحانه في غنى عن الإمساك عن طعامه وشرابه". يسمع الناس بحديث "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح

المسك"، وحديث "كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به"، وحديث "الصيام جُنة"، فيضعونها في غير مواضعها، ويحملونها على غير محاملها، باعتقاد أنها صادقة على أهل الدرجة الأولى وهو خطأ صراح. كيف تكون رائحة فم تقذر بتناول الأعراض، والتمضمض بنحو الكذب والهذيان والمراء أطيب عند الله من ريح المسك؟ وكيف يستاهل صيام تجهم وجهه بسماجة المعاصي أن يضاف إلى ملك الملوك جلّ جلاله ويتولى جزاءه بنفسه؟ وكيف يكون الصيام جُنّة ووقاية من عذاب الله، وقد انخرق سياجه وتدنّسَ ذيله بقول الزور، والتلبس بالآثام التي تهيء له في نار جهنم وطاء وغطاء؟ نعم لأهل تلك الدرجة ثواب عن صيامهم، ولكنه لا يبلغ في الموازنة مبلغ ثقل أوزارهم فيستحقون هذه الكرامات. ومما يعاكس حكمة الصيام، ويهدم أصل مشروعيته، الإسراف في الأكل سواد الليل، والتفنن في الأطعمة تفنن ذوي الأرواح القدسية على الأذواق العجيبة وأسرار الملكوت، ومنهم من لا يقنعهم التمتع بها في بيوتهم حتى ينقلون أحاديثها اللذيذة عندهم إلى المنتديات العامة والمجتمعات التي تضم أشتاتاً من الناس، ويتواجدون لسماعها ولا تواجد الأم بنغامات صبيِّها عندما يكاد يبين لها عن مآربه الخفية؛ وإنه ليعظم في عينك الرجل بادي الرأي حتى تحسبه من رجال الأمة، فما يروعك إلا وقد أخذ يسوق إليك حديث الأطعمة، ويشخص لك هيئاتها يحللها لك تحليلاً كيماوياً، ثم يطبخها بلسانه مرة أخرى، وإن لفقه النفس أثراً عظيماً في تعديل المخاطبات وتحسين العادات.

{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] هذا التشبيه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، والمعنى أن الصوم لم يفرض عليكم وحدكم حتى يعظم وقعه في نفوسكم، بل كان مكتوباً على الأمم الماضية من لدن آدم إلى عهدكم، وما يقوله بعض المفسرين من أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وقدره أيضاً لا يُلتفت إليه بدون أثر صحيح يثبته، وكل ما جاء في القرآن مطلقاً أو مبهماً لا ينبغي تقييده أو حمله على معنى معين إلا بحديث ثابت، وفائدة هذا التشبيه تهوين هذه العبادة الشاقة، وتخفيف وطأتها على الأنفس ببيان عدم اختصاصهم بإيجابها؛ لأن الأمور الشاقة إذا عمَّت سهل تحملها، ولم تشفق الأعناق من التطوق بعهدتها. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] تصيرون أتقياء، فإن الصوم يقهر النفس ويخطمها عن مألوفاتها، وذلك مما يورث التقوى، وقد فسرت "الجُنَّة" في حديث "الصيام جُنَّة" بالوقاية والسترة من المعاصي رعاية لهذا المعنى، وهو ثاني فهمين في الحديث. أولهما ما أشرنا إليه فيما سبق، وقد كنّى عليه الصلاة والسلام عن طهارة نفوس الصائمين من رجس المعاصي، وتخلصها من البواعث على الفواحش بغلق أبواب النار وتصفيد الشياطين، كما كنّى عن تنزيل الرحمة وحسن القبول للأعمال بفتح أبواب الجنة في قوله: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة -وللبخاري أبواب السماء- وغُلِّقت أبواب النار، وصفدت الشياطين"، وحمل هذا الحديث على الكناية أعظم للمنة، وأتم للنعمة، وأفيد للصائمين من حمله على ظاهره، ولا مانع من حمله على الحقيقة أيضاً.

الأحاديث الموضوعة

الأحاديث الموضوعة (¬1) (¬2) يتجاسر كثير ممن لم يتفقهوا في الدين على سرد الأحاديث الموضوعة، ¬

_ (¬1) العدد الحادي عشر - المصادر في غرة جمادى الثانية 1322. (¬2) كتب الإِمام في العدد اللاحق لبحث الأحاديث الموضوعة التعليق التالي: رأى بعض البسطاء أن تنبيهنا على الأحاديث التي وضعت في فضل الصيام في رجب والقيام في لياليه، مما يثني عزائم الناس عن الإكثار من العبادة في هذا الشهر، فالأجدر بنا عدم التعرض لذلك، وهذا رأي عجيب لم يسبقهم به الأئمة الذين يكبر عليهم مخالفة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فبينوا وضعها وشنَّعوا على من افتراها كذباً. وقد كان بعض الزهاد بخراسان يضع الأحاديث في فضائل القرآن وسوره، حتى أخرج لكل سورة حديثاً، فكُلِّم في ذلك، فقال: "رأيت الناس قد زهدوا في القرآن فأردت أن أرغِّبهم"، فقيل له: "فأين الوعيد في الكذب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "، فقال: "أنا لم أكذب عليه إنما كذبت له". قال أبو بكر بن العربي في "العارضة": "ولم يعلم البائس أن من كذب له بما لم يخبر به أنه كذب عليه، أو علم، ولكنه استخف بكبر ذلك"، وقد قال العلماء: "لا يحدِّث أحد إلا عن ثقة، فإن حدَّث عن غير ثقة فقد حدَّث بحديث يرى أنه كذب". ولقد بلغ الاستخفاف بشأن رواية الأحاديث أن تسمع العامي يقول: "قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا" يملأ به فاه ويميل به شدقيه وهو يجهل رتبة ذلك الحديث، ونحن لا نرى إلا ما رأته أئمة الدين، وهو أنه لا يستباح لأحد أن يروي حديثاً إلا =

ويحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم، منها الأحاديث التي يضعونها في فضائل الأيام والشهور التي يتسلمها خطباء المنابر من كتب لا تتحرى في رواية كلام رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما كان ينبغي لهم أن يسندوا حديثاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد البحث عن رتبته في الكتب التي تكفَّلت بذلك، ولقد أكمل الله الدين من قبل أن يتجشأ أولئك الدجالون بما افتروه على رسول الله كذباً، ومن ذلك الأحاديث الموضوعة في فضل رجب وصيامه، ونذكر الآن بعضها: منها حديث: "في رجب يوم وليلة، من صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة، كان له من الأجر كمن صام مائة سنة وقام مائة سنة، وهي لثلاث ليال بقين من رجب، في ذلك اليوم بعث الله محمداً نبياً" قال "الحافظ السيوطي" في "الذيل": في إسناده هياج، وهو متروك الحديث. ومنها الحديث الطويل، وهو أن رجلاً سأل أبا الدرداء عن صيام رجب، فقال: سألت عن شهر كانت الجاهلية تعظمه في جاهليتها، وما زاده الإِسلام إلا فضلاً وتعظيماً، فمن صام منه يوماً إلخ. قال "السيوطي في الذيل": إسناده ظلمات بعضها فوق بعض وفيه داود وهو كذَّاب وضَّاع. ومنها حديث "رجب من أشهر الحرم، وأيامه مكتوبة على أبواب السماء السادسة، فإذا صام الرجل منه يوماً" إلخ الحديث. قال "السيوطي في الذيل" أيضاً: "في إسناده إسماعيل بن يحيى التميمي متهم بالكذب". ¬

_ = بعد تحققه عدم وضعه، ولا يكفي في ذلك سماعه من عالم أو خطيب أو رؤيته في كتاب، إلا إذا أسند إلى من يوثق بروايته.

ومنها حديث "من صام يوماً من رجب وقام ليلة من لياليه، بعثه الله تعالى آمناً يوم القيامة، ومرَّ على الصراط وهو يهلل أو يكبر" موضوع, لأن في إسناده إسماعيل بن يحيى، وهو كذاب، قاله "السيوطي في الذيل". ومنها حديث "من أحيا ليلة من رجب، وصام يوماً منه، أطعمه الله من ثمار الجنة، وكساه من حلل الجنة، وسقاه من الرحيق المختوم" في إسناده حصين بن مخارق، قال "السيوطي في الذيل": "وهو ممن يضع الأحاديث". ومنها حديث أن "شهر رجب شهر عظيم، من صام منه يوماً كتب الله له صوم ألف سنة، ومن صام يومين كتب الله له صيام ألفين سنة، ومن صام منه ثلاثة أيام كتب له صوم ثلاثة آلاف سنة إلخ" قال: "الحافظ ابن حجر" هو موضوع بلا شك. ومنها حديث "رجب شهر الله، ورمضان شهر أمتي، فمن صام" إلخ الحديث الطويل، ذكره صاحب "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة"، وقال: "ابن الجوزي": "في إسناده الكسائي وهو لا يُعرف"، وكذلك قال "الحافظ ابن حجر": "الكسائي هذا لا يعرف، وليس هو علي بن حمزة المقري لأنه أقدم طبقة من هذا بكثير، وفيه علّة أخرى فإنه من رواية علقمة عن أبي سعيد الخدري، ولا يعرف لعلقمة سماع من أبي سعيد" ثم قال: "وللحديث طرق أخرى واهية وفي روايتها مجاهيل، رويناه في أمالي أبي القاسم بن عساكر من طريق عصام بن طليق عن أبي هرون العبدي عن أبي سعيد فذكره بطوله، وفيه زيادة ونقص وتقديم وتأخير، وعصام بن طليق ليس بشيء وأبو هرون العبدي متروك". ومنها حديث "أكثروا من الاستغفار في شهر رجب، فإن لله في كل ساعة

منه عتقاء من النار، وإن لله مدائن لا يدخلها إلا من صام رجب". في إسناده الأصبع ليس بشيء كما في "الذيل"، وفي "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" أن صوم أول خميس من رجب مما أحدثه العوام من البدع. الغرض من بيان وضع هذه الأحاديث إنما هو تمييز الخبيث من الطيب، وإلا فالصوم، والاستغفار، والصلاة هي من العبادات التي يستحب فعلها ممن استطاعها في كل وقت غير منهي عنه. مما شاع على الألسنة حديث "يدعى الناس يوم القيامة بأمهاتهم" وهو موضوع، كما نبّه عليه صاحب "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الموضوعة"، وقد اغترّ بعض المفسِّرين، فحمل قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] على معنى ذلك الحديث. قال في "الكشاف": "إن من بدع التفاسير أن الإِمام جمع أم، كخف وخفاف، وأن النَّاس يدعونَ يوم القيامة بأمهاتهم، وإنَّ الحكمة في الدُّعاء بهنَّ دون الآباء رعاية حق عيسى عليه السلام، وشرف الحسن والحسين، وأن لا يفضح أولاد الزِّنى، وليت شعري أيُّهما أبدع أصحة تفسيره أم بهاء حكمته؟! ". وقد ثبت ما يخالفه، ففي "سنن أبي داوود" بسند جيِّد، كما قاله النووي من حديث أبي الدَّرداء مرفوعاً "أنَّكم تدعونَ يومَ القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فحسِّنوا أسماءكم". وفي الصحيح من حديث ابن عمر مرفوعاً "إذا جمع الله الأوليِّن والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، هذه غدرة فلان بن فلان".

المباحث الأدبية

المباحث الأدبيّة - تقسيم الكلام بحسب أغراضه. - الإبداع في فنون الكلام. - الفصيح من الكلام. - طرق الترقي في الكتابة. - الشعر العصري. - الكلام الجامع. - الأخلاق. - الحياء. - أبو بكر بن العربي. - ترجمة القاضي أبي الوليد الباجي الأندلسي. - منذر بن سعيد. - تحقيق مسألة تاريخية.

تقسيم الكلام بحسب أغراضه

تقسيم الكلام بحسب أغراضه (¬1) من المطالب التي ينبغي تقديمها في هذا الباب، تقسيم الكلام إلى الأغراض الباعثة على تأليف المعاني بعضها إلى بعض، وإبرازها في قوالب أوضاعه- الثلاثة: المرسل، والسجع، والشعر. وأحسن التقسيمات إحاطة وجمعاً ما بيانه أن القصد من جودة التصرف في تلك الأوضاع الثلاثة استجلاب المنافع، أو استدفاع المضار ببسط النفوس، أو قبضها لما يخيل لها من خير أو شر، وما يرى أنه خيرات أو شرور منها ما حصل ومنها ما لم يحصل، وحصول ما من شأنه أن يرتاح له يسمى ظفراً، وفواته في مظنة الحصول يسمى إخفافاً، وحصول ما من شأنه أن يُنفر منه يسمى رزءاً، وكفايته في مظنة الحصول يسمى نجاة، فالقول في الظفر والنجاة يسمى تهنئة، ويسمى القول في الإخفاق إن قصد تسلية النفس عنه تأسياً، وإن قصد تحسرها تأسفًا، ويسمى القول في الرزء إن قصد استدعاء الجَلَدِ على ذلك تعزية، وإن قصد استدعاء الجزع من ذلك سمي تفجيعاً، فإن كان المظفور به على يد المقاصد للنفع جوزي على ذلك بالذكر الجميل وسمي ذلك مديحاً، وإن كان ما ينفِّر منه على يد قاصد للمضرة فأدى إلى ذكر قبيح سمي ذلك هجاء، وإن كان الرزء بفقد شيء فندب ذلك الشيء يسمى رثاء. ¬

_ (¬1) العدد الثالث - المصادر في غرة صفر 1322.

ولما كانت المنافع كلها تنقسم إلى ما يكون بالملائمة، مثل ما يوجد من مناسبة بعض الصور لبعض النفوس، فيحصل لها بمشاهدة تلك الصور المناسبة لها ابتهاج وذلك الابتهاج نوع من المنافع لتلك النفس، وإلى ما يكون بالفعل، مثل ما يفعله الإنسان من إسعاف آخر بطلبته فيكون إسعافه بها منفعة له، وإلى ما يكون منفعة بالقوة والمآل أو بتشفي النفس فقط، مثل ما تحل مضرة بعدو إنسان فينتفع ذلك الإنسان بأن تضعفه له وتقويه على مقاومته والانتصاف منه. وكانت المضار تنقسم إلى أضداد ما ذكرته، اقتضى ذلك انقسام الذكر الجميل إلى ما يتعلق من المنافع بالأشياء المناسبة لهوى النفس، ويسمى ذلك نسيباً، وإلى ما يتعلق بالأشياء المستدعية رضاء النفس، ويسمى ذلك مديحاً، وكان ما يتعلق من الذكر القبيح بالأشياء المنافرة لهوى النفس، والأشياء المتباعدة عن رضاها كلاهما داخل تحت قسمة واحدة وهي الهجاء، ولما كان ما يُنفِّر منه قد يقع ممن يُحتمل منه ذلك ولو أدنى احتمال، فلا يؤاخذ به جملة أو لا يؤاخذ به كبير مؤاخذة، ومنه من يؤخذ به أشد المؤاخذة سمي ما يتعلق من القول بذلك بحسب طبقات من يقع ذلك منهم، ونسبتهم إلى القائل معاتبة وتوبيخاً وتقريعاً، ولا يخلو الشيء الحاصل مما شأنه أن يطلب أو يهرب عنه، من أن يكون ذو العناية به واحداً كان القائل أو غيره ويكون هو حاكياً ذلك عنه، أو يكون قد عني به متنازعان في استجلابه أو مدافعته كان القائل أحد المتنازعين أو لم يكن. غير أنه يحكي حالهما أو يكون حاكماً بينهما، فيكون الكلام على هذا اقتصاصاً أو مشاجرة وإما فصلاً في مشاجرة، وقد تكون المشاجرة والفصل فيهما متعلقين بما يُستقبل، فأما الأمور التي لم تحصل مما شأنه أن يطلب

أو يهرب عنه، فلا يخلو الحال من أن يكون المتكلم هو الطالب لها، أو الهارب منها من تلقاء السامع، أو يكون السامع هو الطالب لها، أو الهارب عنها من تلقاء المتكلم، فما كان من المتكلم إلى السامع مما شأنه أن يُطلبْ يُسمى إذا لم يُعلم رأيه فيه غرضاً، وما كان من تلقاء السامع إلى المتكلم وكان طلباً جزماً يسمى اقتضاء، فإن كان بتلطف يسمى استعطافاً، وإن كان يُرى أنه قد جاوز الوقت الذي كان يجب فيه سُمي استبطاء، فإن كان مما شأنه أن يُهرب منه وانتدب المتكلم من تلقاء نفسه، أو من غيره سُمي ذلك إيعاداً أو تهديداً أو إنذاراً أو تخويفاً، فإن خافه من تلقاء السامع، واستدفعه إياه سُمي ذلك استعفاء أو استقالة أو ترضيَّاً، وقد يكون الشيء المطلوب أو المهروب منه أحد شيئين، فيُشكِل على القائل أو السامع أيهما يجب أن يُطلب أو أيهما يجب أن يُهرب منه، أو يُشكِل الطريق الهادي إلى ذلك، فيشير القائل على غيره، فيكون الكلام على هذا إشارة أو استشارة.

الإبداع في فنون الكلام

الإبداع في فنون الكلام (¬1) الإبداع في فنون الكلام له أغراض وقد استهل بها وجه السعادة الثانية (¬2)، ومهيئات وهي ما تناجيك به هذه الصحيفة، يقول الباحثون عن دقائق هذه الصناعة، المهيئات طيب البقعة وفصاحة الأمة وكرم الدولة، فقلَّما برع في المعاني من لم تنشئه بقعة فاضلة، ولا في الألفاظ من لم ينشأ بين أمة فصيحة، ولا في جودة النظم من لم يحمله على مصابرة المخاطر في أعمال الروحة الثقة بما يرجوه من كرم الدولة. يعنون بطيب البقعة نزاهتها عما يوحش بتدفق ماء الحسن على مناظرها، يؤكد قولهم هذا أن غالب المتصرفين في صياغة الألفاظ، الغواصين على المعاني المبتدعة هم أهل الحواضر (¬3)، وما ذلك إلا لتوفر أسباب الانبساط بها، واشتمالها على معان شتى، ينتزع الذهن منها هيئات غريبة لا طريق لتصورها إلا المشاهدة، وأما فصاحة الأمة فلأن اللغة ملَكَة تحصل للسامع على نحو ما يلقيه إليه السمع، فتكون عبارة المتكلم بالضرورة متابعة في جودتها ورداءتها لما عليه لغة قومه التي رُبِّي بها وليداً، ولبث فيها من عمره سنين، ¬

_ (¬1) العدد الرابع - المصادر في 16 صفر 1322. (¬2) إشارة إلى المقال السابق "تقسيم الكلام بحسب أغراضه". (¬3) نعني بأهل الحواضر من لهم خبرة بشؤونها سواء نشؤوا فيها أو وردوا عليها.

ولتوغل "قريش" في البلاد العربية وبعدهم عن أهل اللغات الأجنبية، كانت لغتهم أفصح لغات العرب، ثم من اكتنفهم من "ثقيف، وهذيل، وخزامة، وبني كنانة، وغطفان، وبني أسد، وبني تميم"، وأما من بعد عنهم "كربيعة، ولخم، وجذام، وغسان، وإياد، وقضاعة، وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة"، فلم تكن لغتهم تامة الملكة، وعلى نسبة بعدهم من قريش وقع الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية. ويعنون بكرم الدولة إقبال عظمائها على من آنسوا منه رشداً وبراعة في فن من الفنون لترقيته لما هو به جدير، وبذلك ينشط غيره من عقال التماوت، ويثب على بضاعة تجارتها نافقة، والسعي وراء أعمال نتيجتها محققة، ويدلنا لهذا ما يحكيه المؤرخون عن الملك المعظَّم المتوفى سنة 624 هـ من أنه شرط لكل من حفظ "مفصَّل الزمخشري" مائة دينار وخلعة، فحفظه خلق كثير لهذا السبب، ومن لطائف هذا الملك أن "شرف الدين بن عنين" حصل له توعك، وكان بينهما مؤانسة، فكتب إليه: انظر إليَّ بعين مولى لم يزل ... يولي الندا وتلاف قبل تلافِ أنا كالذي أحتاج ما يحتاجه ... فاغنم دعائي والثناء الوافي فجاء إليه بنفسه يعوده ومعه جائزة، وقال له: "هذه الصلة وأنا العائد"، قال القاضي "ابن خلكان": "وهذه لو وقعت لأكابر النحاة ومن هو في ممارسة النحو طول عمره لاستعظمت منه". ومن تتبع تواريخ الفحول الذين اشتهروا في هذه الصناعة الأدبية أو غيرها من الفنون، وجد الغالب منهم مرموقاً من قبل الدولة بعناية تقوي العزائم، وتبعث في الهمم العالية روح النشاط.

الفصيح من الكلام

الفصيح من الكلام (¬1) ترى كثيراً منهم يسارعون إلى التصنع في التركيب والتوغل في الغرابة ما استطاعوا، ظنا منهم أن التصنع فيها مما يرتفع به شأن الكلام في الحسن والقبول، كلا، لا يكسبه ذلك إلا هِجنة وانحطاطاً إلى الدرك الأسفل في هذه الصناعة، وإنما الممدوح عندهم ما كانت معانيه واضحة وعبارته مستعذبة، بعيداً عن تكلُّف الاصطناع، ولذلك إذا اشتغل الشاعر العربي بالتنقيح اختلف أهل العربية في الأخذ عنه، فقد كان "الأصمعي" يعيب "الحطيئة"، واعتذر عن ذلك بأن قال: "وجدت شعره كله جيداً فدلني على أنه كان يصنعه، وليس هكذا الشاعر المطبوع، إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه جيده على رديئة". ومما يوجب التعقد في الكلام وصعوبة الفهم، القصد إلى المعاني التي يتوقف فهمها على مقدمة من معرفة صناعة، أو حفظ قصة، فالواجب ألا يستعمل من الأخبار والأقاصيص إلا ما اشتهر بين غالب الأدباء، أما الذي لا يعهده إلا الخاصّة منهم فالإشارة إليه إحالة على مجهول، وينبغي التحاشي عن استعمال شيء من معاني العلوم والصنائع أو شيء من عباراتهم، إذا كان ¬

_ (¬1) العدد الخامس - الصادر في غرة ربيع الأنور 1322.

الغرض مبنياً على ما هو خارج عن تلك العلوم والصنائع، فإذا كان الغرض مبنياً على وصف أشياء علمية أو صناعية، فإيراد تلك المعاني والعبارات غير معيب في ذلك الغرض، ومما عيب على "أبي تمام" قوله: مودة ذهبٌ أثمارها شبه ... وهمةٌ جوهر معروفها عرضُ لأن الجوهر والعرض من ألفاظ المتكلمين الخاصة بهم، وكقول "أبي العلاء المعري": تلاق تفري عن فراق تذمه ... مآق وتكسير الصحائح في الجمع وحكي أن "عزّ الدولة" قال لندمائه: "لينشدني كل واحد منكم أغزل ما يعرفه من الشعر"، فأنشد كل منهم ما حضره، فلما انتهى القول إلى "أبي الخطاب بن ثابت الصابي" وكان أبوه طبيباً أنشد: قال لي أحمدٌ ولم يدر ما بي ... أتحبُّ الغداةَ عتبةَ حقا فتنفست، ثم قلت: نعم حـ ... ـباً جرى في العروق عرقاً فعرقا فقال له بعضهم: "لا تخرج بنا يا أبا الخطاب عن صناعة الطب التي لم ترثها عن كلالة". وكان بعض الأدباء إذا سمع قول "المهلبي": "يا من له رتب ممكنة القواعد" قال: "هذا يصلح أن يكون شعر بناء"، وعندي أن المراسلات الخصوصية يحسن فيها ملاحظة القصص المستظرفة، وإن لم تكن مشتهرة، كما يحسن فيها إيراد المعاني العلمية، وعدَّ أهل البديع للتلميح لها من الحسنات رعاية لهذا المقام، ومما يُعاب به الشاعر إيراد المعاني الكثيرة في

البيت الواحد لما فيه من التعقيد على الفهم، قال "ابن خلدون": "كان شيوخنا يعيبون شعر أبي بكر بن خفاجة شاعر شرق الأندلس، لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد، كما كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية". ولما أكثر "مسلم بن الوليد" و"أبو تمام" من استعمال المحسنات، بَعُدَ شعرهما عن الانسجام وسهولة المأخذ، وأخذ الشعر من ذلك العهد هيئة غير هيئته العربية، حتى إنَّ فحول الشعراء إذ ذاك كانوا يقولون: "قد أفسد هؤلاء الشعر بذلك الشيء الذي يسمونه البديع". وكما يجب تجنب المعقد والحوشي من الألفاظ، ينبغي التحفظ من السوقي المبتذل، فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة أيضاً، ويخدش وجه مَلَكة الفصاحة ويفسدها على صاحبها، وما على الفصيح إلا أن يقصد من التراكيب ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم بالنسبة للأواسط الذين لهم إلمام باللغة العربية، ولا تستنزله عن هذه الرتبة لومة لائم ليس له من اللغة إلا القدر الذي تتلقفه ألسنة العامة، فمن أسباب تلاشي اللغة واندراس أطلالها، تنازل فصائحها إلى استعمال الألفاظ العامية الساقطة. وحقيق على علماء التدريس أن يكونوا على نسق واحد في التزامهم عند إلقاء دروسهم محاذاة الأساليب العربية، فإنه ضرب من التطبيق للقواعد التي يلقنها التلميذ، وبذلك تتقوى عارضته، ويتسع مجاله في التعبير عما في ضميره بألفاظ متمكنة في البيان؛ لأن السمع أبو الملكات اللسانية.

طرق الترقي في الكتابة

طرُق التّرقي في الكتابة (¬1) ليست هذه الصناعة كغيرها من الفنون لها قواعد مضبوطة، ومسائل مدوّنة يتدارسها الكتَّاب، فتنتهي بهم إلى معرفة إيراد الكلام في معاريض الفصاحة وحسن الإطراد في أنحائها، وإنما هي عبارة عن تنبيهات ترشد إلى الجهات التي تنمو بها قوى التفنن في تصاريف الألفاظ والتأنق في تحسين هيئاتها التأليفية. ولا نستفيق جهداً إن شاء الله في البحث عن تلك التنبيهات واستقصائها، والإيماء إلى الكيفيات التي ينبغي أن توضع التراكيب في قوالبها، عسى أن تبعث تذكرتها في أفئدة نصراء اللغة العربية من أبناء هذا العصر نشاطاً جديداً، فيجهدوا أنفسهم عصبة واحدة، ليلجُّوا بنا في حدائق ناضرة ومروج خضرة مما تستبدعه الأنفس وتلذه الأسماع. الإجادة في وضع الأقاويل أحكم وضع، لا يأخذ بناصيتها إلا من كانت له قوة حافظة، وقوة مايزة، وقوة صانعة، فالقوة الحافظة: يستوعب بها الكاتب من مواد اللغة ما يسعه لكل غرض يأخذ في تفصيله وتفهيمه، حتى يكون آمناً مطمئناً من أن يكبو لسانه عيَّاً وفهاهة، عندما يدفع لوصف خيل أو نظام جيش أو حالة حصن أو سلاح أو معمل أو صورة حرب مثلاً. ¬

_ (¬1) العدد العاشر - المصادر في 16 جمادى الأولى 1322.

والقوة المايزة: يمتاز بها ما يحسن من الكلام بالنظر إلى ترصيف كلمه وتآلف حروفه، وبالنسبة إلى المقامات التي يوجه إليها بسياقاته، فقد يتفق مقولان لشخص واحد، ويكون أحدهما أحسن في نفسه والآخر أحسن بالنسبة إلى موقعه. والقوة الصانعة: هي التي تتولى العمل في ترتيب الألفاظ والمعاني، والتدرج من بعضها إلى بعض، فتصدرها ملتئمة النسج غير متخاذلة النظم، بريئة من التمايز الذي يجعل كل جملة كأنها منحازة بنفسها. لا تكمل القوة المايزة إلا بالانصباب على مطالعة المنشآت البعيدة الغور في بيانها، المنتمية إلى الطرف الأعلى في عذوبة ألفاظها ورشاقة معانيها، وبتوسم ما أرسل في طيها من الاعتبارات المناسبة بذوق جيد ومهل في النظر، فمعرفة الفنون البلاغية وحدها غير كافية لاستواء هذه القوة واستحكامها، فقد نجد في المتضلِّعين من قوانينها الخبيرين بلحمتها وسداها من لا يُفرِّق بين الأقاويل المتفاوتة في بلاغتها وصفاء ديباجتها، وإن ارتفع بعضها فوق بعض درجات. ولا تبلغ القوة الصانعة مبلغ التمكن وسرعة الترسل، إلا بعد ارتياضها بالتمرين والاستخدام في كل غرض تخفق عليه إرادتها، في أزمنة متوالية، ومما يربط بالأسف والتحسر على قلب كل مسلم أينع في صدره غصن المغيرة على اللغة الفصحى، أنك ترى في الذين أوسعوا العلوم الأدبية خبرة، وساروا في التطلع على الإنشاءات الرفيعة عنقاً فسيحاً، حتى أدركوا مغامزها وأشرفوا على ما وراء أكماتها، يعجز عن التصرف في صوغ فقرات تُلمُّ شقاقاً أو تؤكد إخاءَ مثلاً، ذلك لفقده القوة الصانعة، التي لا يقيم صلبها إلا الإدمان على

العمل، وهو القاعدة التي يجري عليه كل تقدم وارتقاء. ومن الطرق التي تنهض بالكاتب في زمن يسير، وتساعد قوته الصانعة على الإجابة في طرفة عين، وتطبع في صحيفتها ملكة الهجوم على المعاني وبثّها في ألفاظ رصينة غير متوعرة، انحيازه إلى دري بشعاب هذه الصناعة، يقف به على المنافذ التي يسري منها الخلل إلى التأليف، ويبصره بالمذاهب التي ارتقت من نحوها التحارير الفائقة، ولقد قال أئمة الصناعة الشعرية: "لا تجد شاعراً إلا وقد لزم شاعراً آخر المدة الطويلة، وتعلَّم منه قوانين النظم، واستفاد منه الدِربة في أنحاء التصاريف البلاغية". فقد كان "كُثيِّر" أخذ علم الشعر عن "جميل"، وأخذه جميل عن "هدبة بن خشرم"، وأخذه هدبة عن "بشر بن أبي حازم"، وكان "الحطيئة" قد أخذ علم الشعر عن "زهير"، وأخذه زهير عن "أوس بن حجر"، وكذلك جميع شعراء العرب المجيدين، والشعر والكتابة أخوان.

الشعر العصرى

الشّعر العصْرىّ (¬1) أيعاتبُ الزَّمنُ الذي لا يُسعدُ ... وبنوهُ في مَهدِ البطالةِ هجّدُ مَهلاً فما هوَ بالملومِ ومن رمى ... سهمَ الملامةِ نَحوه فمفنَّدُ لو أفرغوا في وسعه ما جل من ... عملٍ لأغدقَ فيهِ عَيشٌ أرغد أَرأَيْتَ كيْفَ شدت بلابلُ سعده ... وزهت ببهجته غصونٌ مِيَّدُ إذ أَنفقَ الأسلاف في سُبلِ الهدى ... جُهْدَ استطاعتهم، ونِعْمَ المقصد حتى استدار بهيئةٍ منضودةٍ ... وطِلاعُه أَفعالُ برٍّ تُحمدُ كنَّا بني الإِسلامِ أصدقَ لهجةٍ ... وأَصحَّ عهْداً بالوفاء يُؤكَّدُ عقدَ التآخي في الديانة بيننا ... نسباً قرابتُه أَشَدُّ وأَفيَدُ ما سام ذو رأي سديدٍ مطلباً ... إلّا غدا بيد المعونةِ يُعضدُ ولنا نفوسٌ لم تنط آمالها ... إلّا بما هو في المعاني أمجدُ نُنْضي عزائمَ كالسيوفِ صرامةً ... لكنْ لِوَفْرِ طِعانها لا تُغمدُ كنَّا بدورَ هدايةٍ ما من سنا ... إلّا ومن أَنوارها يُستوقدُ وإذا تكامل واستوى بدرٌ بدا ... في أُفق طلعته السنيّةِ فَرقدُ ¬

_ (¬1) العدد الحادي عشر - المصادر في غرة جمادى الثانية 1322، ونشرت في ديوان "خواطر الحياة" للإمام.

كنَّا بحورَ معارفٍ ما من حُلىً ... إلّا ومن أغوارِها يتصيَّدُ ما صَرْصرتْ أقلامُنا في مَهْرقٍ ... إلّا رأيتَ الدُّرَّ فيه يُنضَّدُ من كلِّ معنى يبهرُ الألبابَ أو ... نسجٍ يقومُ له البليغُ ويقعدُ ويقومُ فينا للخطابةِ مِصقع ... فترى بناتِ الفكر كيف نولِّدُ كنَّا جلاءً للصدورِ من القذى ... ولواؤنا بيدِ السعادةِ يُعقَدُ ما صافحتْ راحاتنا دوحاً ذوى ... إلّا وأينعَ منه غصنٌ أغيدُ ومن احتمى بطِرَافِنا السامي الذُّرى ... آوى إلى الحرمِ الذي لا يُضهدُ لا يمتري أهل التَّمدُّن أنَّهم ... لو لم يسيروا إثرنا لم يَصعدوا فسلوا متى شئتم سُراتهم فما ... من أمةٍ إلّا لنا فيها يَدٌ لا فخرَ في الدنيا بغير مجادةٍ ... تعنو لها الأممُ العظامُ وتسجدُ لكنَّنا لم نرعَ فيه حرمةً ... بذمامِها منَّا الرقابُ تُقلَّدُ أخذت مطيَّاتُ الهوى تحدو بنا ... في كلِّ لاغيةٍ كساعةِ نُولدُ حتَّى انزوى من ظِلها الممدودِ ما ... فيه مقامٌ يُستطابُ ومَقعدُ أبناءَ هذا العصر هل من نهضةٍ ... تُشفي غليلاً حَرُّه يَتصعدُ هذي الصنائعُ ذَلَّلت أدواتها ... وسبيلها للعالمين مُمهّدُ وكذاك بذر العلم أخرج شطأه ... ودنا جناه فما لنا لا نَحصدُ بهما جرى القومُ الذين استُضعفوا ... من قبلُ شوطاً في المتقدم يُبعَدُ أفلا نسير مسير ذي رُشدٍ إلى ... آثار ما قد أسَّسوه وشيَّدوا فلطالما حوت الغنائمُ جولةً ... من رائدِ النظرِ الذي لا يُخمدُ إنَّ المعارفَ والصنائعَ عُدَّةٌ ... بابُ الترقي من سِواها مُوصدٌ

الكلام الجامع

الكلامُ الجامع (¬1) مما يُفضَّل به إنشاء الكلام، فيقع من النفوس أحسن موقع، ويؤثر فيها تأثيراً بليغاً، تذييله بفقرة أو بيت أو شطر على جهة الاستدلال على ما قبله أو على جهة التمثيل، تقريراً للمعنى الأول وتأكيداً لمفهومه، ويسمَّى الكلام الجامع أو إرسال المثال. وممن سبق إلى هذا النوع الأغر، وحجَّل به مقاطع قصائده ونهاية فصولها زهير، ومن ذلك ما تمثل به في آخر معلقَّته: "أمن أمّ أوفي دمنةً لم تكلَّمِ" ثمَّ عُني به من المولدين "أبو الطيِّب المتنبي"، فولع به وأخذ به قريحته حتى أحرز قصبات السبق دون أقرانه. قال "أبو منصور الثعالبي" في كتابه "يتيمة الدَّهر" عند ترجمة المتنبي: "ليس اليوم مجالس الدَّرس أعمر بشعر أبي الطيّب من مجالس الإنس، ولا أقلام كتاب الرسائل أجرى به من ألسن الخطباء في المحافل، ولا لحون القوّالين والمغنيّين أشغل به من كتب المؤلفين والمصنّفين". ولا ينبغي الإسراف منه والاستكثار من إيراده عقب كل فصل، ولكن ¬

_ (¬1) العدد الثاني عشر - المصادر في 16 جمادى الثانية 1322.

يلمع به في بعض الفواصل دون بعض خوف السآمة والملل، فإن النفوس لا ترتاح لما يرد عليها من أفانين الكلام، إلا إذا غشيها على فترة وكانت زيارته غباً. وفي كتاب الله من هذا المهيع البديع والنموذج الذي تُنسج عليه الحكم ما تندهش له العقول الراسية، وقد عقد له "جعفر بن شمس الخلافة" في كتاب "الآداب" باباً يخصه. وروي أن بعضهم كان يستخرج أمثال العرب والعجم من القرآن، فقيل له: "أين تجد في كتاب الله من جهل شيئاً عاداه؟ " قال: "نعم في موضعين، قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] وقوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11] "، وقيل له: "هل تجد ليس الخبر كالعيان؟ " قال: "في قوله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] "، وقيل له: "هل تجد فيه لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين؟ " قال: "في قوله: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 64} "، وقيل له: "هل تجد فيه للحيطان اَذان؟ " فقال: "في قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] "، وقيل له: "هل تجد فيه من أعان ظالماً سُلِّط عليه؟ " قال: "في قوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4] "، وقيل له: "هل تجد فيه لا تلد الحية إلا حية؟ " فقال: " {وَلَا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27] "، وقيل له: "فهل تجد فيه كما تدين تدان؟ " قال: "في قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] " وقيل لآخر: "أين تجد في القرآن أن المحب لا يعذب حبيبه؟ " قال: "في قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] الآية".

ولأبي الطيب وغيره من فرائد هذا النوع ما تحُلَّى به الرسائل، وتُرصَّع به أحاديث المحاضرات على اختلاف أغراضها وتنوع مشاربها، نحو: إذا لم تكن نفسُ النسيبِ كأصلهِ ... فماذا الذي تُغني كرامُ المناصبِ والغِنى في يدِ اللئيمِ قبيحٌ ... قَدْر قُبحِ الكريمِ في الإِملاقِ وما منزلُ اللّذاتِ عندي بمنزلٍ ... إذا لم أُبجَّل عندَه وأُكرَّمِ وما كلُّ هاوٍ للجميلِ بفاعلٍ ... ولا كلُّ فعالٍ له بمتمِّمِ وإنَّ ابن أختِ القومِ مُصفىً إناؤه ... إذا لم يُزاحِم خالَه باب جِلد فتىً إن يرضَ لم ينفعكَ شيئاً ... فإنْ يغضبْ عليك فلا تبالِ وإذا لم يكنْ من الموتِ بدٌ ... فمن العجزِ أن تكونَ جبانا وأشرفُهم من كان أشرفَ هِمةً ... وأكثرَ إقداماً على كلِّ مُعظَم إنما تنجحُ المقالةُ في المرءِ ... إذا وافقتْ هوىً في الفؤادِ وإذا الخنا حلَّ الحيا من معشرٍ ... ورأَيتَ أهلَ الطيشِ قاموا فاقعدِ وللسرِّ مني موضعٌ لا يَنالُه ... نديمٌ ولايُفضي إليه شَرابُ يَرى الجبناءُ أن العجزَ عقلٌ ... وتلك خديعةُ الطبعِ اللئيمِ وكلُّ شجاعةٍ في المرء تفنى ... ولا مثلُ الشجاعة في حكيمِ

الأخلاق

الأخلاق (¬1) متى انعطف النّاقد البصير يبحث عن الوسائل التي تترقى بها الأمة إلى سنام السعادة القصوى، لا تطمئن نظراته السَّامية إلا على أخلاقها، فبمقدار ما لها من المحافظة على محاسنها، يملأ منظرها أعين الملأ الذي لا يعبأ إلا بجلائل الأمور. والدليل على ما نقوله، أنَّ الامتزاج بمكارم الخلاق يجبي إلى صاحبه عرفان ما له من الحقوق وما عليه من الواجبات، فلا يُخِلُّ حينئذ بواجب ولا يُدعى إلا بحق، وذلك يدعو بالضرورة إلى شِمَّة الارتباط وكمال الالتئام الذي يجعل أفراد الأمة عضواً واحدً للتعاون على البرِّ والتَّقوى، والتعاضد على الأعمال التي تُنتج لهم التقلب في عيشة راضية، وتحفظ لأعقابهم مستقبلاً حسناً. وذلك السبب الذي اندفع بنا إلى جعلها -أي الأخلاق- شعبة من شعب ما تصدع به هاته الصحائف وهذا أوانها. الخلق: حال للنفس تصدر عنها الأفعال بسهولة، وإن شئت فقل: "هي حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية". وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون في أصل المزاج كالإنسان ¬

_ (¬1) العدد الثالث - المصادر في غرة صفر 1322.

الذي يستفزه أدنى غضب يعرض له، أو يفرْق من أدنى صوت يقرع سمعه، أويفرط في الضحك من أقل شيء يعجبه، أو يغتم من أيسر شيء يلم به. ومنها ما يكون مستفاداً بالتربية والتدرب وربما كان مبدؤه بالروية، ثم يتدرَّج شيئاً فشيئاً حتى يصير مَلَكةً وخلقاً. وللأخلاق ثلاث قوىً متباينة: أحدها القوّة الناطقة: وتسمّى بالملكية، ثانيها القوّة الشهوية: وتسمّى بالبهيمية، ثالثها القوّة الغضبية: وتسمى بالسبعية؛ فمتى كانت حركة النفس الناطقة معتدلة، وكان التفاتها دائماً إلى المعلومات "الصحيحة" نشأت عنها فضيلة العلم وتتبعها الحكمة، ومتى كانت حركة النفس البهيمية معتدلة بدخولها تحت سلطة القوّة العاقلة، حدثت عنها فضيلة العفّة وتتبعها فضيلة السَّخاء. ومتى كانت حركة النَّفس الغضبية معتدلة منقادة إلى النفس العاقلة، بحيث لا تهيج في غير حينها ولا تحمى أكثر مما ينبغي لها، حدثت منها فضيلة الحِلم وتتبعها الشجاعة. ثم يحدث باجتماع هاته الفضائل الثلاث فضيلة رابعة هي كمالها وتمامها وهي العدالة، وهذه الأربع أصول وما عداها متفرع عنها، ثم إن تلك الفضائل لا يمدح عليها صاحبها ويتسمّى بها إلا إذا تعدت إلى غيره، وانتشرت آثارها عند بني جنسه، وأما إذا اقتصر بها على نفسه فإنه تصرف عنه أسماءها ولا يذكر بمسمياتها، فإذا لم يبسط الإنسان يده ببذل مال الله الذي أتاه في وجوه المصالح العامة، وخصص صرفه بمآربه الشخصية، سُمّي منفاقاً، وإذا اقتصر بشجاعته على الذَبِّ عن حوزته دون أن يحمي ذمار المستجيرين أو يناضل على حقوق المستضعفين، سُمّي أنفاً، وإذا لم يتجاوز إلى غيره سُمي متبصراً.

الحياء

الحياء (¬1) هذا الخلق إذا غُرز في النَّفس ونمت عروقه فيها ازداد رونقها صفاء، ونفض على ظاهر صاحبها مآثر خيرات حسان، يعبِّر عنها عشَّاق الفضائل بصبغة الإنسانية، وإذا انتزع من شخص فقد المروءة، وثَكِل الدَّيانة التي هي الجناح المبلِّغ لكل كمال، والدليل على ما نقوله، أن الحياء عبارة عن انقباض النَّفس عما تذم عليه، وثمرته ارتداعها عمّا تنزع إليه الشهوة من القبائح، فإذا تمزق ستر هذه الفضيلة بغلبة الشهوة على النَّفس، اختلت هيئة الإنسانية بالضرورة، وبقي صاحبها سائماً في مراتع البغي والفسوق؛ وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان. ويرشدنا إلى هذا قوله عليه الصلاة والسلام "لكل دين خلق، وخلق الإِسلام الحياء" رواه "مالك في الموطَّأ"، وفي الصحيح أيضاً أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على رجل وهو يعض أخاه في الحياء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعه فإنَّ الحياء من الإيمان". قال العلماء: "وإنَّما صار الحياء من الإيمان المكتسب وهو جِبلَّة لما يفيد من الكف عما لا يحسن فعبَّر عنه بفائدته". وأعجب ما عثرنا عليه في كتب الأخلاق، أنَّ الحياء مركَّب من جبن ¬

_ (¬1) العدد الرابع - المصادر في 16 صفر 1322.

وعفّة، ولذلك لا يكون المستحيي فاسقاً، ولا الفاسق مستحيياً، وقلَّما يكون الشُّجاع مستحيياً والمستحي شجاعاً لتنافي اجتماع الجبن والشَّجاعة. أمَّا قوله لا يكون المستحي فاسقاً ولا الفاسق مستحيياً فمسلَّم؛ لأنَّ الحياء متفرع عن العفَّة، وأمَّا قوله وقلَّما يكون الشُّجاع مستحيياً إلخ. فباطل لأنه يؤدي إلى تنافي الكمالات، وما سمعنا بهذا من قبل ولا نسمعه من بعد، ويدعو إلى إماطة برقع الحياء حيث كان فيه نوع مباينة للشجاعة التي هي أعز ما يتعاظم بها الرجال، وكلمة الحق التي نقولها أن الحياء من متممات الشجاعة ولا تستقيم بدونه، ثم إن الحياء وسط بين رذيلتين إحداهما الوقاحة والأخرى الخجل. ويقال لها: الخَرَقُ، أما الوقاحة فمذمومة بكل لسان بالنسبة لكل إنسان، وحقيقتها لجاج النَّفس في تعاطي القبيح: صلابة الوجه لم تغلب على أحدِ ... إلّا تكامَل فيه الشرُّ واجتمعا وأما الخَرَقُ: وهو الدهشة من شدة الحياء، فيذم به الرجل اتفاقاً لا سيما في المواطن التي تقتضي حدة وإقداماً، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحكم بالحقِّ والقيام به وأداء الشهادات على وجهها، ثم إن الحياء ولو كان جليَّاً، قد يزيد بالكسب بواسطة مطالعة أخلاق الكُمَّل وهي إحدى فوائد علم التاريخ" أو كثرة الحضور بمجالستهم، وقد يتولد الحياء من الله تعالى من التقلب في نعمه، فإذا شعر العاقل بذلك استحيا أن يستعين بها على معصيته، ولا ينشأ ذلك الشعور إلا عن عظمٍ في النَّفس وسِعةٍ في العقل.

أبو بكر بن العربي

أبو بكر بن العرَبيّ (¬1) (¬2) هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن العربي المعافري ¬

_ (¬1) العدد السادس عشر - المصادر في 16 شعبان الأكرم 1322. (¬2) للإمام بحث آخر عن أبي بكر بن العربي في كتابه "تراجم الرجال". كتب الإِمام مقدمة للتراجم التي عزمت المجلة على إنجازها قال فيها: "من الفنون التي أخذت العرب من العناية منها قسطاً وافراً علم التاريخ" وهو معرفة أحوال الأمم الماضية من أخلاقهم وعاداتهم وصنائعهم وأنسابهم ووفياتهم إلى غير ذلك، وفائدته العبرة بتلك الأحوال والتنصح بها، وحصول ملكة التجارب بالوقوف على طبائع الكائنات وتقلبات الزمن وأطواره، ليتحرز عن أشباه ما أملاه عليه من الخطوب التي نزلت بالأفراد والأمم عن عروش الفخامة والجلال، ويعلم كيف التخلص منها بعد السقوط في مهواتها، ويعمد إلى التأسي بهم في الأشياء التي كانت أساس ارتقائهم، واستوجبوا بها حسن الذكرى وجميل الأحدوثة، ولذلك جعلته الشريعة الغرّاء ذريعة إلى الاعتبار والتهذيب، وعلَّمت الناس كيف ينتفع به في الاجتماع البشري. وقد احتفل القرآن في ذلك، فأفاض على عقول أهله أشعة من مواعظه الحسنة، وألقي إليهم بشذر من أسراره، ليتفقهوا بها في دينهم ودنياهم، وأكثر قصصه وأخباره من الغيوب التي لا يعلمها العرب، قال تعال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49] لكنها من جنس ما كانوا ينتحلونه وينظمونه في سلك مذاكراتهم". هذا وقد عزمنا على إنجاز ما وعدنا به طالع هذه المجلة من فتح باب لهذا الفن، =

الأندلسي الإشبيلي، ولد ليلة يوم الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة، وحفظ القرآن وهو ابن تسع سنين، وما بلغ ست عشرة إلا وقد قرأ من الأحرف نحواً من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه، وتمرَّن في الغريب والشعر واللغة، ثم رحل إلى المشرق مع أبيه يوم الأحد مستهل شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة، فدخل الشام والعراق وبغداد وسمع بها من كبار العلماء، "كأبي بكر بن الوليد الطرطوشي"، و"أبي بكر الشاشي"، ثم حجَّ في سنة تسع وثمانين، وعاد إلى بغداد ولقي "أبا حامد الطوسي الغزالي". قال في "قانون التأويل": "ورد علينا ذا نشمند "يعني الغزالي" فنزل برباط أبي سعد لإزاء المدرسة النظامية معرضاً عن الدنيا مقبلاً على الله تعالى، فمشينا إليه وعرضنا أمنيتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي كنّا ننشد وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم، ولو رآه "علي بن العباس" لما قال: إذا ما مدحت امرءاً غائباً ... فلا تغلُ في مدحه واقصدِ فإنَّك إن تغلُ تغل الظّنو ... نُ فيه إلى الأمدِ الأبعد فيصغر من حيث عظَّمته ... لفضلِ المغيبِ على المشهد ¬

_ = الذي ندب إليه الشارع بقوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5] وسبق إلى استحساننا التصدي للتعريف ببعض العلماء الأعلام، الذين اعتنت الجهابذة بنقل أنبائهم العظيمة وتخليد آثارهم الفخيمة، ونذكرها بعون الله على حسب ما تسمح به الفرص، من غير نظر إلى ترتيبهم في الزمان ورفعة المكان.

وذكر في العواصم أنه لقيه بمدينة "السلام" سنة تسعين وأربعمائة، ثم صدر القاضي أبو بكر عن بغداد، ولقي بمصر والإسكندرية جماعة من المحدّثين، فكتب عنهم واستفاد منهم وأفادهم، ومات أبوه -رحمه الله- "بالإسكندرية" أوّل سنة ثلاث وتسعين، فانصرف حينئذ إلى "إشبيلية" بعلم كثير لم يدخل أحد قبله بمثله ممّن كانت له رحلة إلى المشرق، ولذا نقل عنه أنه قال: "كل من رحل لم يأت بمثل ما أتيت به أنا و"القاضي أبو الوليد الباجي"، أو ما هذا معناه، واستقضي بها فنفع الله تعالى به أهلها لصرامته وشدَّته على الظالمين والرفق والرأفة بالمعتدلين، شأن العالم الذي لا تدور أعماله إلا على محور الشريعة، والتزم هذا القاضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى أوذي في ذلك بذهاب كتبه وماله، فقابل ذلك كله بالصبر الجميل، وكان كثير التحمل ثابت الفؤاد. قال في "العواصم": "ولقد حكمت بين الناس فألزمتهم الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لم يكن في الأرض منكر، واشتدَّ الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب، فتألبوا وألبَّوا وثاروا إلى فاستسلمت لأمر الله، وأمرت كل من حولي أن لا يدفعوا عن دْاري، وخرجت على السطوح بنفسي، فعاثوا علي وأمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن المقدار لكنت قتيل الدار". ومما وقع في زمن ولايته أن احتاج سور "إشبيلية" إلى بنيان جهة منه، ولم يكن بها مال متوفر، ففرض على الناس جلود ضحاياهم، وكان ذلك في عيد أضحى فأحضروها وهم كرهون، ثم صُرِف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثِّه.

وذكره "ابن الزبير في صلته"، وقال في حقه: "كان فصيحاً، حافظاً، أديباً، شاعراً، كثير الملح، مليح المجلس"، ثم قال: "قال القاضي عياض بعد أن وصفه بما ذكرته: لكثرة حديثه وأخباره وغريب حكاياته ورواياته؛ أكثر الناس الكلام وطعنوا في حديثه". ويؤيد لك ما نقله ابن الزبير عن عياض، ما روى "ابن مسدي" في "معجم شيوخه" أن أبا بكر بن العربي قال "لأبي جعفر المرخي" حين ذكر أنه لا يعرف حديث "ابن خطل" والأمر بقتله إلا من حديث "مالك عن الزهريّ": قد رويته من ثلاثة عشر طريقاً غير طريق مالك، فقالوا له: "أفدنا هذه الفوائد"، فوعدهم ولم يخرج لهم شيئاً، قال "الحافظ في نكته": "قد استبعد أهل إشبيلية قول ابن العربي حتى قال قائلهم: يا أهلَ حمصَ ومن بها أوصيكم ... بالبرِّ والتَقوى وصيةَ مشفقِ فخذوا عن العربي أسمارَ الدُّجى ... وخذوا الروايةَ عن إمامٍ متَّقِ إن الفتى ذربُ اللِّسانِ مهذبٌ ... إن لم يجد خبراً صحيحاً يَخْلُقِ وعنى بأهل حمص أهل اشبيلية، قال: "وقد تتبعت طرقه فوجدته كما قال ابن العربي بل أزيد". وقال المحدِّث "أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال" في حقه: "هو الحافظ المتبحر ختام علماء الأندلس وآخر أئمتها وحفّاظها". ومما قاله في ترجمته "الفتح بن خاقان" في "مطمح الأنس" ما نصه: "علم الأعلام، الطاهر الأثواب، الباهر الألباب، الذي أنسى ذكاء أياس، وترك التقليد للقياس، وأنتج الفرع من غير أصل، وغدا في الإِسلام أمضى من النصل، سقى الله به

الأندلس بعد ما أجدبت من المعارف، ومدَّ عليها منه ظله الوارف، وكساها رونق نبله، وسقاها ريق وبله"، إلى أن قال: "حتى أصبح في العلم وحيداً، ولم تجد عنه رئاسته محيداً، فكرَّ إلى الأندلس فحلَّها والنفوس إليه متطلعة، ولأنبائه متسمعة، فناهيك من حظوة لقى، ومن عزة سقى، ومن رفعة سما إليها ورقى، وحسبك من مفاخر قلَّدها، ومحاسن أنس أثبتها فيها وخلّدها" اهـ. ومن اطلع على ما انطوت عليه تآليفه من التحقيقات البديعة والفوائد النفيسة، عظمت في عينه مكانة هذا الرجل، وعلم أن مقامه الأسمى فوق ما وصفه به هؤلاء الواصفون. * تآليفه: منها كتاب "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس"، وكتاب "ترتيب المسالك في شرح موطأ مالك"، وكتاب "عارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي"، وكتاب "الخلافيات"، وكتاب "أحكام القرآن"، وكتاب "مراقي الزلف"، وكتاب "نوا هي الدواهي"، وكتاب "العواصم والقواصم"، وكتاب "سراج المريدين"، وكتاب "المشكلين مشكل الكتاب والسنة"، وكتاب "الناسخ والمنسوخ في القرآن"، وكتاب "النيرين في الصحيحين"، وكتاب "سراج المهتدين"، وكتاب "الأمد الأقصى بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى"، "وتبيين الصحيح في تعيين الذبيح"، و"تفصيل التفضيل بين التحميد والتهليل"، ورسالة "الكافي في أن لا دليل على النافي"، وكتاب "التوسط في معرفة صحة الاعتقاد والرد على من خالف السنة من ذوي البدع والإلحاد"، وكتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف" عشرون مجلداً، وكتاب "المحصول في علم الأصول"، وكتاب "أعيان الأعيان"، وكتاب "ملجأة المتفقهين في معرفة

غوامض النحويين"، وكتاب "ترتيب الرحلة"، وكتاب "حديث الإفك"، وكتاب "حديث جابر في الشفاعة"، وكتاب "شرح حديث أم زرع"، وكتاب "أنوار الفجر"، وكتاب "قانون التأويل"، قال "ابن جزّي" في تفسيره: "أما ابن العربي فصنَّف كتاب "أنوار الفجر" في غاية الاحتفال والجمع لعلوم القرآن، فلما تلف تلافاه بكتاب "قانون التأويل"، إلا أنه اخترمته المنية قبل تخليصه وتلخيصه، وألَّف في سائر علوم القرآن تآليف مفيدة". وقد يسَّر الله لصاحب هاته الجملة مطالعة جانب منها، ككتاب "العارضة" في مجلدين وجزأين من الأحكام، يبتدآن من المائدة إلى سورة الناس، وثلاثة أجزاء من "ترتيب المسالك"، وكتاب "العواصم والقواصم" وانتفعنا بها نفعاً عظيماً. * وفاته: قال ابن الزبير توفي، أي ابن العربي، من منصرفه من "مراكش" من الوجهة التي توجه فيها مع أهل بلده إلى الحضرة بعد دخول مدينة إشبيلية، فحبسوا بمراكش نحو عام ثم سُرحوا، فأدركته منيته بطريقه على مقربة من مدينة "فاس" بمرحلة، وحمل ميتاً إلى مدينة فاس، فدفن بها "بباب الجيسة". وقال القاضي "أبو الحسن النباهي" في كتاب "المرقبة العليا في القضاء والفتيا": "الصحيح في القاضي أبي بكر أنه دفن خارج باب المحروق من فاس، وما وقع من دفنه بباب الجيسة وهْمٌ من ابن الزبير وغلط، وقد زرناه وشاهدنا قبره حيث ذكرناه، وكانت وفاته رحمه الله سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة".

* فوائده: منها قوله رحمه الله تعالى: "تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا "أبي بكر الفهري الطرطوشي" حديث أبي ثعلبة المرفوع "أن من ورائكم أيّاماً للعامل فيها أجر خمسين منكم" فقالوا: بل منهم، فقال: بل منكم؛ لأنكم تجدون على الخير أعواناً وهم لا يجدون عليه أعواناً، وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم قد أسسوا الإِسلام وعضدوا الدين، وأقاموا المنار، وافتتحوا الأمصار، وحموا البيضاء، ومهدوا الملة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "لو أنفق أحدكم كلَّ يوم مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أَحدِهم ولا نصيفه" فتراجعنا القول وتَحصَّل ما أوضحناه في شرح الصحيح. وخلاصته أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد ولا يدانيهم فيها بشر، وأعمال سواها من مرفوع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلَّصها من شوائب البدع والرياء بعدهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإِسلام، وهو أيضاً انتهاؤه، وقد كان قليلاً في ابتداء الإِسلام صعب المرام وفي آخر الزمان أيضاً يعود كذلك، لوعد الصادق - صلى الله عليه وسلم - بفساد الزمان، وظهور الفتن، وغلبة الباطل، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق، وركوب من يأتي سنن من مضى من أهل الكتاب، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لتركبنَّ سنن من قبلكم شبراً بشير وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جُحرَ ضبٍّ لدخلتموه" وقال - صلى الله عليه وسلم -: "بدأ الإِسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ"، فلابد والله تعالى أعلم بحكم هذا الوعد الصادق أن يرجع الإِسلام إلى واحد كما بدأ من واحد، ويصعب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إذا قام به قائم مع احتواشه بالمخاوف

وباع نفسه من الله تعالى في الدُّعاء إليه كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكناً منه معانا عليه بكثرة الدعاء إلى الله تعالى، وذلك قوله: "لأنكم تجدون على الخير أعواناً وهم لا يجدون عليه أعواناً" حتى ينقطع ذلك انقطاعاً باتاً لضعف اليقين وقلة الدين كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوم السَّاعة حتى لا يقالُ في الأرضِ الله الله"، فروي برفع الهاء ونصبها، فالرفع على معنى لا يبقى موحد يذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، والنصب على معنى لا يبقى آمر بمعروف ولا ناه عن منكر يقول: أخاف الله، وحينئذ يتمنى العاقل الموت، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني كنت مكانه". "السعادة" يبتغي بعض المنتسبين إلى العلم أن تكون لهم اليد المطلقة في النهي عن كل منكر يشاهدونه، حتى إذا لم يتمكنوا من النهي عن بعض المنكرات أعرضوا ونأوا بجانبهم عن القيام بحقوق هذا الواجب رأساً، وخلعوا عهدته من رقابهم ولو فيما تنفذ فيه كلمتهم، ومنهم من يهملها استناداً لقضية اختلقتها ألسنة الذين يؤثرون الحياة الدنيا عن الآخرة، ليتخذوها وليجة لإرضاء من لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ألا وهي دعوى فساد الزمان وعدم إفادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند غلبية الفساد، والله يشهد أنهم لمخطئون، لا تكون الحيلولة بينهم وبين النهي عن بعض المنكرات حجة يستبيحون بها التخلف والتنازل عن هذا المنصب مطلقاً، ولا يكون ظنهم عدم إفادة أمرهم ونهيهم عذراً صحيحاً يقدمونه عندما يُسألون. ومنها قوله في "الأحكام" عند قوله تعالى: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] قيل: إنها كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء، والناس يكرهون السفر يوم الأربعاء لأجل هذه الرواية, حتى أن لقيت يوماً مع "خالي الحسن بن

أبي حفص" رجلاً من الكتاب، فودعنا بنية السفر، فلما فارقنا قال لي خالي: إنك لا تراه أبداً لأنه سافر في يوم أربعاء لا يتكرر وكذا كان، مات في سفره، وهذا ما لا أراه لأن يوم الأربعاء يوم عجيب، بما جاء في الحديث من الخلق فيه والترتيب، فإن الحديث ثابت بأن الله تعالى خلق يوم السبت التربة، ويوم الأحد الجبال، ويوم الاثنين الشجر، ويوم الثلاثاء المكروه، ويوم الأربعاء النور، وروي النون، وفي غريب الحديث أنه خلق يوم الأربعاء التقن، وهو كل شيء تتقن به الأشياء، يعني المعادن من الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص، فاليوم الذي خلق فيه المكروه لا تعافه النفس، واليوم الذي خلق فيه النور أو التقن يعافونه، إن هذا لهو الجهل المبين. وفي "المغازي" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا على الأحزاب من يوم الاثنين إلى يوم الأربعاء بين الظهر والعصر فأستجيب له وهي ساعة فاضلة، فالآثار الصحاح تدل على فضل هذا اليوم، فكيف يُدعى فيه التحذير والنحس بأحاديث لا أصل لها، وقد صوَّر قوم أياماً من الأشهر الشمسية ادعوا فيها الكراهة، لا يحل لمسلم أن ينظر إليها ولا يشغل بها بالاً، قبَّحهم الله. "السعادة" بهذا يعلم أن ما جرت به العادة من عدم عيادة المريض في هذا اليوم وتطيره بذلك، وهو وسوسة وهوس لا تشتغل به إلا الخواطر المبرسمة التي تبني معتقداتها على شفا جرف الأوهام الباطلة.

ترجمة القاضي أبا الوليد الباجي الأندلسي

ترجمة القاضي أبا الوليد الباجيّ الأندلسيّ (¬1) سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي، أصله من "بطليوس"، ثم انتقل جدّه إلى "باجة" (¬2) وإليها نسب أبو الوليد، ثم سكنوا بعد "قرطبة"، ولد في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة، وكان على عهد دولة "المعتضد عبّاد" ملك "إشبيلية" ووالد "المعتمد بن عباد"، وله فيه من شعره قوله: عبّاد استعبد البرايا ... بأنعُمٍ تبلغ النعائم مديحه ضمن كل قلبٍ ... حتى تغنت به الحمائم ¬

_ (¬1) العدد الثامن عشر - الصادر في 16 رمضان المعظم 1322. (¬2) باجة هذه إحدى كور الأندلس العربية، كانت في التقسيم القديم متابعة لمملكة إشبيلية زمان تشعب الطوائف أيام دولة بني عبَّاد ملوك إشبيلية "وتسمى حمصاً لنزول جيش حمص ولوائِهم بها عند وفود الأموية" وبباجة كان مولد المعتمد بن عباد أحد ملوك إشبيلية الشهير في التاريخ وكتب الأدب الأندلسي. أما اليوم فقد انفصلت عن إشبيلية، وأصبحت في نصيب مملكة البرتغال من تركة العرب، وهي إحدى المدن الكبرى من ولاية "النتيجو -أو- اليمتيجو" البرتغالية. وربما وقعت تسميتها في بعض الخرائِط العربية الجديدة "بيجا" وهو خطأ منشؤه نقلها عن بعض الخرائط الفرنسية وما كلها سمَّتها كذلك.

وتوفي "بالمرية" سنة أربع وسبعين وأربعمائة لسبع عشرة خلت من رجب. * نشأته العلمية: أخذ العلم بالأندلس عن "ابن الرحوي"، و"أبي محمد مكي"، والقاضي "يونس بن مغيث" الموثِّق الشهير، ثم بدا له أن يرحل إلى طلب العلم ليجمع بين الطريقة المشرقية فيمزجها بالطريقة الأندلسية، فرحل إلى المشرق سنة ست وعشرين وأربعمائة، فحجَّ وأخذ بالحجاز عن الحافظ "الإِمام أبي ذر الهروي" الذي ترجع إلى روايته أكثر نسخ "صحيح البخاري" بالمغرب بواسطة "أبي الوليد الباجي"، لازمه ثلاث سنين، ثم وفد على "بغداد" فدرس بها الفقه والحديث عن جلَّة من العلماء، منهم "أبو إسحاق الشيرازي"، والقاضي "أبو الطيب الطبري"، و"الصيرفي"، و"ابن عمورس"، ومكث بها ثلاث سنين، ثم وقد على "الموصل" فأقام بها سنة في صحبة "أبي جعفر السمناني" يأخذ عنه علم الكلام، ولقي الحافظ "أبا بكر الخطيب البغدادي" فروى كل واحد منهما عن الآخر، فمكث في رحلته كلها نحواً من ثلاثة عشر عاماً. وكان في سني رحلته ضيق الحال، حتى كان قد قصد بشعره، وحتى استأجر نفسه في بغداد لحراسة درب، فكان يستعين بمقدار أجرته على نفقته ومطالعته، ثم قفل راجعاً إلى الأندلس سنة 439 هـ، فدخلها على ضنك حاله، فكان يخلط أوقات تدريسه ومطالعته بضرب ورق الذهب، حتى اشتهر من خبره أنه كان يخرج إلى درسه إذا جاء التلامذة للقراءة وفي يديه أثر المطرقة وصدأ العمل. دام على ذلك إلى أن اشتهرت تآليفه وفشا علمه، فعُرف حقه وعَظُم

جاهه، وقرَّبه الملوك حتى مات عن مال كثير. أخذ عنه الإِمام "أبو بكر الطرطوشي"، والقاضي "ابن شيرين"، و"أبو الصدفي الحافظ"، والقاضي "أبو القاسم المعافري"، وروى عنه حافظاً المغرب والمشرق "أبو عمر ابن عبد البر"، و"الخطيب أبو بكر ابن ثابت البغدادي". كان أبو الوليد رحمه الله فقيهاً، نظاراً، محققاً راوية محدِّثاً، يفهم صفة الحديث ورجاله، متكلماً أصولياً، فصيحاً، حسن التأليف، ألَّف كتباً مهمة أكبرها في الفقه ومعاني الحديث كتاب "المنتقى شرح الموطأ"، وهو موجود غالبه، طالعنا منه جزأين ضخمين يقربان من نصفه أو أكثر، قيل كان ابتداء تأليفه كتاب سمّاه "الاستيفاء على الموطأ" بلغ فيه الغاية من التطويل، لكنه لم يأت فيه بغير شرح الطهارة في مجلدات، واختصر من المنتقى كتاباً سمّاه "الإيماء"، وكتاب "السراج في مسائل الخلاف" لم يتم، وكتاب "المقتبس في علم مالك بن أنس" لم يتم، وكتاب "المهذب" اختصار المدونة، "وشرح المدونة" لم يتم، وكتاب "اختلافات الموطأ"، وكتاب "التعديل والتجريح لمن خرَّج عنه البخاري في الصحيح"، وله في الكلام كتاب "التسديد لمعرفة طريق التوحيد"، وفي الأصول كتاب "أحكام الأصول"، وكتاب "الإشارة في الأصول" موجود وهو مؤلف في جزء صغير يشتمل على علم كثير، و"تفسير القرآن" لم يتم، وكتاب "الانتصار لأعراض الأئمة الأخيار"، ورسائل، ورسالة في الجدل توجد ببعض مجاميع خزائن الجامع الأعظم. كان له مع ذلك شعر مطبوع حسن، لكنه لم يبلغ به صناعة الشعر، وهاك نموذجاً منه في مقام تنقدح فيه القرائح الشعرية، وتبرز المكنونات النفسية،

قوله في رثاء ابنه وأخيه وماتا مغتربين عنه (¬1): رعى اللهُ قبرين استكانا ببلدةٍ ... هما أسكناها في السوادِ من القلب لئن غُيّبا عن ناظري وتبوّءا ... فؤادي لقد زاد التباعدُ في القرب يقرُّ بعيني أن أزورَ ثراهما ... وألزق مكنون الترائبِ بالتُّرب وأبكي وأبكي ساكِنَيها لعلَّني ... سأنجدُ من صحبٍ وأسعدُ من سُحب فما ساعدت ورقُ الحمام أخا أساً ... ولا روَّجت ريحُ الصبا عن أخي كرب ولا استعذبت عيناي بعدَهما كرى ... ولا ظمأت نفسي إلى البارد العذبِ أحنُّ ويثني اليأسُ نفسي عن الأسى ... كما اضطر محمولٌ على المركب الصعب فما زاد رحمه الله في شعره على الطبع اللفظي والمحسنات، وما أودع فيه من معنى الخطب إلا معاني مطروقة معلومة لا تستحق أن توصف بوصف الشعر، وكذلك رثى ابنه في قصيدة أخرى بمعان وإن كانت أقل شهرة من هذا إلا أنها سبق بها جمع كثير من الشعراء، وهي بعد على طرف الثمام، فلا يفيدنا سردها حكماً جديداً على شعر أبي الوليد. * نهضته بالنظر في فقهاء الأندلس: قلنا: إن أبا الوليد الباجي قد بعثته نفسه على الرحلة للمشرق في طلب العلم، وتلك علامة على كبر نفسه وطلبها للمعالي، فاستفاد من الثلاثة عشر عاماً التي قضاها علماً زاخراً من أئمة العصر يومئذ، وجمع بين ¬

_ (¬1) وَهمَ من ظن أن القصيدة في رثاء ابنيه, لأنه إنما فقد أحد ابنيه في حياته وهو أبو الحسن محمد وكان ذكياً نبيلاً مرجواً لمرتبة علمية، أما ثاني ابنيه فهو أبو القاسم بلغ من العلم مبلغ خلف أبيه في مجلسه ودرسه.

الطريقتين، ورجع مزجاً من إقليمين. وقد كان فقهاء الأندلس يومئذ يقتصرون من الفقه على تخريج مسائل المدونة شرحاً واستنباطاً، ويضمون إلى ذلك ما ينزل بهم من الأقضية المحدثة تحت اسم "العمل"، فجاءت عدة أعمال، "عمل قرطبة" "عمل طيطلة" ... إلخ، إلا أن ذلك كله كان في فصاحة عبارة وحسن تبويب كما تشهد بذلك كتبهم التي ترى لنا اليوم، ولم يكن فيها من النظارين يومئذ إلا "أبا محمد ابن حزم" الإِمام الشهير، لكنه كان منبوذاً بينهم بمتابعته مذهب "داوود الظاهري"، على أنه كان ينال من الفقهاء وطريقتهم بالشتم والتحقير ما أضاق نفوسهم منه، ولم يجدوا من سعة العلم والعرفان بالسنّة والعلوم الكلامية من يقدر على مناظرته أو إقناعه في الأقل، فكانوا متشوقين لمن يقوم بذلك، فلما قدم أبو الوليد، قام بمناظرة ابن حزم وبيَّن له مسائل كان يخلط فيها، حتى اضطره إلى مفارقة البلد الذي هو فيه، ولكنه مع ذلك لم يكن يجري بينهما شيء زائد على المناظرة من نحو سباب الجهال وتنابز الطغام، حتى لقد كان كل منهما يعترف لصاحبه بقوة العلم والنظر، قال عياض: "بلغني أن أبا محمد ابن حزم على بعد ما بينهما كان يقول: لم يكن للمالكية بعد عبد الوهاب مثل أبي الوليد". قال الباجي يوماً مفاخراً لابن حزم: "أنا أعظم منك همة في طلب العلم، لأنك طلبتَه وأنت تعان عليه، تسهر بمشكاة الذهب "يشير إلى سعة ثروة ابن حزم وآبائه"، وطلبتُه وأنا أسهر بقنديل بائن السوق "جمع ساق"، فقال له ابن حزم: "هذا الكلام عليك لا لك, لأنك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته،

فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة"، فأفحمه. وأدخل للأندلس طريقة النظر في الفقه، فكان ينزع منازع الاجتهاد على طريق النظّار من البغداديين وحذّاق أئمة القرويين والقيام بالمعنى والتأويل، قال عياض: "وكانت كتبه مشهورة جليلة، ولكن أبلغ ما كان فيها في الفقه وإتقانه". قال القاضي أبو بكر بن العربي: "ولولا أن طائفة نفرت إلى ديار العلم، وجاءت منه بلباب كالباجي والأصيلي فرشت على هذه القلوب الميتة، وعطرت أنفاس الأمة الزفرة، لكان الدين قد ذهب". كانت الفلسفة اليونانية يومئذ قد مدَّت أطنابها على الأندلس، وروَّجت كثيراً من العقائد المقارنة لها في كتب أصحابها، في قلوب كثير من ضعفاء الذين مازجوها حتى أفضت ببعضهم إلى الإلحاد في الدين، ولم يجدوا مع ذلك كله من يقوم بتبيان الحق ويفسِّر حقائق الإِسلام وآدابه للذين استهوتهم فلسفة الأخلاق اليونانية والفارسية على ما فيهما من تبديل وقِدَمٍ، ومن خلط العقائد بالفلسفة، فلما جاء أبو الوليد ابتدأ يبين لخاصة المتفلسفين أن الفلسفة شيء والعقيدة شيء، وأن لهم في كتابهم من فضائل الأخلاق ما لو شرحوه ودوَّنوه لفاق غيره، ومن حديثه في ذلك أنه كان يوماً في مُناخ "أحمد بن هود" الملقب "بالمقتدر ملك سرقسطة" ينتظر إذنه، فجالسه ابنه "يوسف" الملقب "بالمؤتمن" الذي ورث بعده ملك سرقسطة سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وكان قائماً على الفلسفة والعلوم الرياضية وله فيها تآليف مثل "الاستهلال والمناظر"، وجاذبه ذيل الحديث، فقال أبو الوليد للمؤتمن: "هل قرأت زجر النَّفس لمحمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -؟ "، يُعرِّض له "بكتاب أفلاطون" في الأخلاق الذي يُسمّى "زجر النَّفس"، وعنى ما تضمنت الشريعة في هداية النُّفوس.

بهاته النهضة وما تبعتها، ممن خطَّ على تسطير أبي الوليد الباجي مثل "ابن العربي"، و"ابن رشد الحفيد"، و"ابن السيد"، كملت النهضة العلمية بالأندلس وجمعت طرق العلم والتعليم، ونخلت العلوم المختلطة، دام ذلك الأمر إلى أن خبت نارها بِبرْكة التفرق والتنازع. نال أبو الوليد وجاهة عند الملوك والرؤساء ما بين "سرقسطة وبلنسية ومرسية ودانية"، فاغتنم وجاهته هذه فرصة، فسعى بين ملوك الطوائف يؤلفهم على وحدة الإِسلام، ويروم جمع كلمتهم مع جنود المغرب المرابطين، ليحفظوا الأندلس من السقوط المتوقع، وهم يجلّونه في الظاهر ويستثقلون نزعته في الباطن، ولذلك لم يفلح له سهم فيما أراد حتى مات "بالمرية" في هذا الغرض. * ماذا لقي أبو الوليد من جزاء على حسن صنيعه؟ كان أن لم تتخلف سنَّة الزمان عن اطرادها، حتى لحقت الباجي على سعة علمه وشهادة الأمة له ونصحه لها وإيقاده بصائرها ومكانه من الوقار، فإنه ما لبث شجى في حلوق حاسديه لم يجدوا فيه مغمزاً أوهنة ينسبونها إليه، ليسقطوا من جنبه في نظر الأمة، ويمحوا من اسمه ما اشتهر، ولم يرقبوا فيه حقاً، فتربصوا به الملجأ الأخير مخالفة المعتاد والإتيان بشيء جديد، ذلك الأمر الذي يسخط صغار العقول من العلماء، فيسعون به لدى العامة يستعينون بغضبها الأعمى على اضطهاد الرجال الكبار، فإن أبا الوليد لما كان بالمنزلة التي عرفتم، وكان علم الحديث كدأبه يتضاءل في الأمة بعد القرون الأولى، لا يجد حاملاً لا ينوء به حمله، فكان درس "حديث صلح الحديبية" من "صحيح البخاري" حين أبي المشركون أن يكتب كاتب رسم الصلح كلمة

رسول الله، وألحوا في استبدالها بابن عبد الله، فحين أبي أن يمحوا هذا الوصف محاه رسول الله وكتب ما طلبوا. فأنكره عليه "ابن الصايغ" وكفَّره بإجازته الكتابة على رسول الله، وهي تكذِّب الأمية الموصوف بها في القرآن، وأكبرها الناس إذ لم يسمعوها من قبل، وكان من حقهم لو كانوا يعلمون، أن يكبروا الحديث لا مقال أبي الوليد، وقبحوا عند العامة ما أتى به، وأكثر المقالة فيه من لم يفهم غرضه حتى أطلق عليه اللعنة علماؤهم، وضمنوا البراءة منه في أشعارهم، وحتى قام بذلك بعض خطبائهم في الجمع، وحتى قال "عبد الله بن هند" فيه قصيدة استهلها بقوله: برئتُ ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال إنَّ رسول الله قد كتبا قال عياض: "ولم ينكر عليه أولو التحقيق في العلم، وكتب بالمسألة إلى شيوخ صقلية فأثنوا عليه وسوغوا تأويله، وأنكروا على من أنكر عليه، وألَّف في ذلك رسالة بيّن فيها وجوه المسألة، وأنها لا تقدح في المعجزة كما لم تقدح القراءة في ذلك بعد إن لم يكن قارئاً من قبل، بل في هذا معجزة أخرى"، ولولا تعلقه بجانب من الدولة لخشي من هاته العصبية الضالة على حياته، رُوي عنه أنه كان يقول -وقد ذكرت له صحبة السلطان-: "لولا السلطان لنقلني الذر من الظل إلى الشمس". من أجل هذا لم يُولَّ إلا قضاء مواضع من الأندلس تقصر عن قدره، فكان يبعث لذلك خلفاءه. * ثناء الأفاضل عليه: مثل أبي الوليد لا تذعن له النفوس حتى يموت، فشهد له "ابن العربي"، و"عياض"، و"ابن بسام"، و"ابن خلكان"، و"ابن بشكوال"، وسُئل عنه "الصدفي الحافظ" فقال: "هو أحد أئمة المسلمين لا يُسأل عن مثله وما رأيت

مثله"، وذكره تلامذته كلهم بأحسن ما يذكر به تلامذة نجباء بارّون شيخاً نوَّر عقولهم في الظلمات مثله، وأبى الله إلا أن يتم نوره ويخلِّد اسمه ولو كره الضالون.

منذر بن سعيد

منذر بن سعيد (¬1) القاضي أبو الحسن منذر بن سعيد البلوطي"، كان واسع العلم، غزير الفضل، قوي الجأش، لا تأخذه في نصرة الحق لومة لائم، ولد سنة خمس وستين ومائتين، وسمع من "عبيد الله بن يحيى" ونظرائه، ثم رحل حاجاً سنة ثمان وثلاثمائة، فالتقى بعدة أعلام من فحول العلماء، واشتهر فضله بالمشرق، وممن سمع عليه منذر بالمشرق ثم "بمكة محمد بن المنذر النيسابوري" أخذ عنه كتابه المؤلف في اختلاف العلماء المسمَّى "الإشراف"، وروى بمصر كتاب "العين" "للخليل" عن "أبي العباس بن ولاد"، وروى عن "أبي جعفر ابن النحاس"، قال القاضي منذر: أتيت وأبو جعفر ابن النحاس في مجلسه بمصر يملي في أخبار الشعراء شعر "قيس المجنون" حيث يقول: خليليَّ هل بالشام عينٌ حزينةٌ ... تبكي على نجدٍ لعلّي أعينُها قد أسلمها الباكون إلا حمامةً ... مطوقة باتت وباتَ قرينُها تجاوبها أخرى على خيزرانةٍ ... يكاد يدنيها من الأرض لينها فقلت له: "يا جعفر ماذا أعزك الله تعالى باتا يصنعان؟ " فقال لي: "وكيف تقول أنت يا أندلسي؟ "، فقلت له: "بانت وبان قرينها"، فسكت وما زال ¬

_ (¬1) العدد السابع عشر - المصادر في غرة رمضان المعظم 1322.

يستثقلني بعد ذلك حتى منعني كتاب "العين" وكنت ذهبت إلى الانتساخ من نسخته، فلما قطع بي قيل لي: "أين أنت من أبي العباس بن ولاد"، فقصدته، فلقيت رجلاً كامل العلم حسن المروءة، فسألته الكتاب فأخرجه إليّ، ثم ندم أبو جعفر لما بلغه إباحة أَبي العباس الكتاب إلي، وعاد إلى ما كنت أعرفه منه. ثم عاد منذر وولي قضاء الجماعة "بقرطبة" زمن ولاية "عبد الرحمن الناصر لدين الله". قال "الفتح بن خاقان" في "مطمح الأنفس": "وناهيك من عدل أظهر، ومن فضل اشتهر، ومن جور قبض، ومن حق رفع ومن باطل خفض، وكان مهيباً طيباً صارماً، غير جبان ولا عاجز ولا مراقب لأحد من خلق الله في استخراج حق ورفع ظلم". واستمر في القضاء إلى أن مات "الناصر لدين الله"، ثم ولي ابنه "الحكم" فاقره وفي خلافته توفي بعد أن استعفى مراراً فما أعفي، فلم يحفظ عليه مدة ولايته قضية جور، ولا عدّت عليه في حكومته زلة، وكان غزير العلم، كثير الأدب، متكلماً بالحق، متبيناً بالصدق له، وقال: "وكان القاضي "منذر ابن سعيد" شديد الصلابة في أحكامه والمهابة في أقضيته، وقوة القلب في القيام بالحق في جميع ما يجري على يديه، لا يهاب في ذلك الأمير الأعظم فمن دونه". وأول سببه في التعلق في "الناصر لدين الله"، ما حكى "المقري" قال: "لما احتفل الناصر لدين الله لدخول رسول ملك الروم بقصر قرطبة الاحتفال الذي اشتهر ذكره، أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه لذكر جلالة مقعده، ووصف ما تهيأ له من توطيد الخلافة في دولته، وتقدم إلى الأمير

الحكم ابنه ولي عهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء، ويقدمه أمام نشيد الشعراء، فأمر الحكم صنيعه الفقيه "محمد بن عبد البر الكسيباني" بالتأهب لذلك، واعداد خطبة بليغة يقدم بها بين يدي الخليفة، وكان يدّعي من القدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره، وحضر المجلس السلطاني فلما قام يحاول التكلم بما رأى، هاله وبهره هول المقام وأُبهة الخلافة، فلم يهتد إلى لفظه، بل غشي عليه وسقط إلى الأرض، فقيل "لأبي علي البغدادي إسماعيل بن القاسم القالي" صاحب "الأمالي والنوادر"، وهو حينئذ ضيف الخليفة الوافد عليه من العراق وأمير الكلام وبحر اللغة، قم فارقع هذا الوهي، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - "، هكذا ذكر "ابن حبّان" وغيره، وكلام "ابن خلدون" يقتضي أن القالي هو المأمور بالكلام أولاً والخطب سهل، ثم انقطع القول بالقالي، قال في "المطمح": "إن" أبا علي القالي انقطع، وبهت وما وصل إلا قطع، ووقف ساكتاً متفكراً لا ناسياً ولا متذكراً، فلما رأى ذلك منذر بن سعيد وكان ممن حضر في زمرة الفقهاء، قام بذاته بدرجة من مرقاته، فوصل افتتاح أبي علي لأول خطبته بكلام عجيب، ونادى في ذلك المقام كل مجيب، وقال: "أما بعد، فإن لكل حادثة مقاماً ولكل مقام مقال، وليس بعد الحق إلا الضلال، وإني قد قمت في مقام كريم بين يدي ملك عظيم، فأصغوا إليّ بأسماعكم، وأمنوا عليَّ بأفئدتكم، معاشر الملأ إن من الحق أن يقال للمحق صدقت وللمبطل كذبت"، ثم استرسل في خطبته، وقد ذكرها الفتح بتمامها، وختمها بإنشاد أبيات يقول في طالعها: مقالٌ كحد السيف وسْطَ المحافلِ ... فَرَقْتَ به ما بين حقٍ وباطلِ بقلب ذكي ترتمي جنباته ... كبارق رعدٍ عند رقشِ الأناصلِ

فما دحضتْ رجلي ولا زلَّ مقولي ... ولا طار عقلي يوم تلك البلابل إلخ". ثم قال: "فخرج الناس يتحدثون عن حسن مقامه وثبات جنانه وبلاغة لسانه، وكان الناصر لدين الله أشدَّ تعجباً منه، وأقبل على ابنه الحكم ولم يكن يثبت معرفة عينه وقد سمع باسمه، فقال الحكم: هذا منذر بن سعيد البلوطي، فقال: والله لقد أحسن ما شاء، ولئن أبقاني الله تعالى لأرفعن من ذكره، فضعْ يدل يا حكم عليه واستخلصه وذكّرني بشأنه، فما للصنيعة مذهب عنه". وذكر "ابن سعيد" في "المغرِب" أن الناصر قال لابنه الحكم بعد أن سأله عنه: "لقد أحسن ما شاء، فلئن كان حَبَّر خطبته هذه وأعدها مخافة أن يدور ما دار فتيلاً في الوهي فإنه لبديع من قدرته واحتياطه، ولئن كان أتى بها على البديهة لوقته فإنه لأعجب وأغرب". ثم قال: "وكان الخليفة الناصر كلفاً بعمارة الأرض، وإقامة معالمها، وتكثير مياهها، واستجلابها من أبعد بقاعها، وتخليد الآثار الدالة على قوة ملكه وعزّة سلطانه وعلو همته، فأمضى به الإغراق في ذلك إلى ابتناء مدينة "الزهراء" الشائع ذكره الذائع خُبره المنتشر في الأرض خبره، واستفرغ وسعه في تنجيدها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها، فانهمك في ذلك حتى عطَّل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه، فأراد القاضي منذر بن سعيد -رحمه الله- في أن يعظه ويُقرِّعه في التأنيب، ويقص منه بما يتناوله من الموعظة بفصل الخطابة والتذكير بالإنابة، فابتدأ أول خطبته بقوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 128 - 129] إلخ الآية. ووصل ذلك بكلام جزل وقول فصل، جاش به صدره وقذف به على

لسانه بحره، وأفضى في ذلك إلى ذم المشيد والاستغراق في زخرفته والسرف في الإنفاق عليه، فجرى في ذلك طلقًا وتلا فيه قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 109 - 110]. وأتى بما شاكل المعنى من التخويف للموت والتحذير منه، حتى بكى الناس وخشعوا وضجّوا وتضرعوا، وأعلنوا الدعاء إلى الله تعالى، فعلم الخليفة أنه هو المقصود به والمعتمد بسببه، فاستجدى وبكى وندم على ما سلف من فرطه، واستعاذ بالله من سخطه، واستعصمه برحمته، إلا أنه وجد على منذر بن سعيد للفظه الذي قرعه الذي به، فشكا ذلك إلى ولده الحكم بعد انصرافه، وقال: "والله لقد تعمدني منذر بخطبته وأسرف في ترويعي، وأفرط في تقريعي، ولم يحسن السياسة في وعظي وصيانتي عن توبيخي"، ثم استشاط وأقسم أن لا يصلي خلفه الجمعة أبداً، فقال له الحكم: "وما الذي يمنعك عن عزل منذر بن سعيد والاستبدال به؟ "، فزجره وانتهره، وقال: "أمثل منذر بن سعيد في فضله وورعه وعمله وحلمه لا أمّ لك، يعزل في إرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد، هذا ما لا يكون وإني لأستحي من الله تعالى ألا أجعل بيني وبينه شفيعاً في صلاة الجمعة مثل منذر بن سعيد، ولكنه وقذ نفسي وكاد يذهبها، والله لوددت أن أجد سبيلاً إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلي بالناس حياته وحياتنا فما أظننا نعتاض منه أبداً". "السعادة" هكذا ينبغي أن تكون حَمَلة الشريعة في الترفع عن المحاباة في الحق والتحاشي عن مجاراة الوجهاء والأعيان ابتغاء مرضاتهم، وهكذا

ينبغي أن يكون أولو الأمر في إطراح الأغراض وعدم الانتصار لها متى خاطبهم العلماء بألسنة تطهرت من المداهنة، وساقوا إليهم النصائح البليغة من سرائر لا تضمر إلا خيراً، أما تزلف العالم فمما يخلد له في وجه خطته وصمة لا ترتفع لها الأنظار إلا بسوء، ومثله تعاصي أولي الأمر عن الرجوع إلى النصائح الشرعية. ومن أخبار منذر المحفوظة له مع الخليفة الناصر، ما روى "الحجاري" في "المسهب" قال: "إنه دخل عليه مرة وهو في قبة، قد جعل قرمدها من ذهب وفضة، واحتفل فيها احتفالاً ظنَّ أن أحداً من الملوك لم يصل إليه فقام منذر خطيباً، والمجلس قد غصّ بأرباب الدولة، فتلا قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] الآية، وأتبعها بما يليق بذلك، فوجم الملك وأظهر الكآبة، ولم يسعه إلا الاحتمال لعظم قدر منذر في علمه ودينه"، وحضر معه يوماً في "الزهراء" فقام الرئيس "أبو عثمان بن إدريس" فأنشد للناصر قصيدة منها: سيشهدُ ما أَبقيتَ أنك لم تكن ... مضيتَ وقد مكنتَ للدين والدنيا فبالجامع المعمور للعلم والتقى ... وبالزهرةِ الزهراء للملك والعليا فاهتز الناصر وابتهج، وأطرق منذر بن سعيد ساعة، ثم قام منشداً: يا بانيَ الزهراء مستغرقاً ... أوقاته فيها أما تمهلُ لله ما أحسنها رونقاً ... لو لم تكن زهرتها تذبلُ فقال الناصر: "إذا هب عليها نسيم التذكار والحنين، وسقتها مدامع

الخشوع يا أبا الحكم فلا تذبل إن شاء الله تعالى"، فقال منذر: "اللهم اشهد أني قد بثثت ما عندي ولم آل نصحاً". وقال "المقري": "كان منذر خطيباً، بليغاً، عالماً، بالجدل، حاذقاً فيه، شديد العارضة، حاضر الجواب، عتيده، ثابت الحجة، ذا إشارة عجيبة، ومنظر جميل، وخلق حميد، وتواضع لأهل الطلب وانحطاط إليهم، وإقبال عليهم، وكان مع وقاره التام فيه دعابة مستملحة (من الناس من يتخذ الدعابة وسيلة لإذاية مجالسيه، فلا تكون مستملحة وخصوصاً عند ذوي النفوس الأبية والنباهة التي لا تنخدع بالظواهر) "، ثم قال: "وله نوادر مستحسنة، وكانت ولايته القضاء بقرطبة للناصر في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، ولبث قاضياً من ذلك التاريخ للخليفة الناصر إلى وفاته، ثم للخليفة الحكم المستنصر إلى أن توفي -رحمه الله تعالى- عقب ذي القعدة من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، فكانت ولايته لقضاء الجماعة المعبر عنه في المشرق بقضاء القضاة ستة عشر عاماً كاملة، لم يحفظ عليه فيها جور في قضية، ولا قسم لغير سوية، ولا ميل إلى هوى ولا إصغاء إلى غاية". ودفن بمقبرة قريش بالربض الغربي من قرطبة -أعادها الله تعالى-، وفي مسجد "السدة الكبرى" بقرب داره، وله رحمه الله تعالى تآليف مفيدة منها كتاب "أحكام القرآن"، و"الناسخ والمنسوخ"، وغير ذلك.

تحقيق مسألة تاريخية

تحقيق مسْألة تاريخيّةٍ (¬1) ابتُليت بطون بعض التواريخ بأمراض من الأراجيف، وإنها لبلية كبرى على من لم يكن له باع مديد في تمييز الخبيث من الطيِّب، فحذار أيها السائر تحت لواء الحق، إذا أغطشت ليلها أمامك أن تفتتن بها فتوناً، لا سيما ما يعزونه إلى "الخليفة الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - " (¬2) استناداً إلى روايات تتصل بأقوام يلمزونه بها لحاجة في أنفسهم قضوها: منها قولهم: أزعج "أبا ذر" من "الشام" حين غيّر على "معاوية" المنكر، وأجلاه إلى "الربذة". قلنا: "ما أتى معاوية منكراً يغير عليه، وإنما كان أبو ذر على طريقة من الزهد لا تمكن لجميع الخلق، وكان يقرع عمال عثمان ويتلو عليهم {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] الآية, ويراهم يتسعون في المراكب والملابس فينكر ذلك عليهم، ويدعوهم إلى تفريقه في وجوه البر وهو غير لازم لهم؛ لأن ما أُديت زكاته ليس بكنز، فخشي معاوية من أن تثور من العامة فتنة، إذ كان أبو ذر يأمرهم من الزهد بما لا يحتمله الناس كلهم، وإنما يقوى عليه بعضهم، ورفع الأمر إلى عثمان فاسترده إلى ¬

_ (¬1) العدد الرابع - المصادر في 16 صفر 1322. (¬2) للإمام بحث تحت عنوان "نظرة في ناحية من خلافة عثمان - رضي الله عنه - " في كتابه "تراجم الرجال".

مجاورته بالمدينة، فاجتمع إليه الناس، وجعل يسلك بهم ذلك الطريق، فقال له عثمان: "لو اعتزلت". معناه أن من كان على هذا المذهب فحاله ينبغي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويُسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام من الشريعة، فخرج إلى "الربذة" زاهداً فاضلاً وترك أجلَّة فضلاء"، وكلٌّ أوتي حكماً وعلماً، وهذه كلها مصالح لا تقدح في الدين. ومنها قولهم: "ضرب "عماراً" و"ابن مسعود" ومنعه عطاءه، قلنا: "هذا باطل سنداً ومتناً، ولا يلتجأ إلى الاعتذار عنه وان تشاغل به بعضهم، لأن الروايات المختلقة ليس لها حد تنتهي إليه، فالاشتغال بتأويلاتها لا يسعه العمر الذي له أجل مسمى". ومنها قولهم: ردَّ "الحكم" بعد أن نفاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلنا: "كان قال: "لأبي بكر" و"عمر" إني سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رده فسمح به ثم مات، فطلبا منه الشهادة معه فلم يجدها، فلما ولي قضى بعلمه، وقضاء الحاكم بعلمه له أصل في الشريعة، وإنما تردد فيه الناس من بعد لما حدث من التهمة، قالوا: وصله بمال الله، قلنا: وصله بماله، وكان من أغنياء الصحابة وذلك مستحب". ومنها قولهم: عزل "عمرو بن العاص" وولى "عبد الله بن أبي سرح"، قلنا: "الولاية موكول أمرها إلى الاجتهاد، وقد عزل "عمر بن الخطاب" "سعد ابن أبي وقاص" وقدَّم أقل منه درجة، وكان "عبد الله بن أبي سرح" ممن يناط بعهدته مقاليد الأمور، ولهذا فتح الفتوح في بحر المغرب وبرِّه، ورضي عنه من معه من أبناء الصحابة وأطاعوه". ومنها قولهم: ابتدع في جمع القرآن فأحرق المصاحف، قلنا: "هذه

من الأيادي التي أثقل به كواهل المسلمين، اختلف الناس في القراءة، فأدركهم بالرد إلى مصحف جمعه "أبو بكر الصديق" - رضي الله عنه -، وأحرق غيره من المصاحف حسماً لمنشأ الاختلاف في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفها. ومنها قولهم: زاد في الحمى، قلنا: "شرع الحمى للحاجة الداعية إليه، فزاد فيه لزيادتها"، ومنها قولهم: كتب مع غلامه إلى "عبد الله بن أبي سرح" يأمره بقتل من ذكر في الكتاب، قلنا: "قد يكتب على لسان الرجل، وينقش على خاتمه، ويرسم على خطه"، ولقد قال لهم عثمان: "إما أن تقيموا شاهدين على ذلك وإلا فيميني أني ما كتبت ولا أمرت". قالوا لم يسلِّم إليهم "مروان" حين طلبوا ذلك منه، قلنا: "لو سلَّمه لكان ظالماً، وإنما عليهم أن يطلبوا حقهم عنده على مروان". ومنها قولهم: ولّى مروان، ولم يكن من أهل الولاية، قلنا: "مروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة والتابعين وغيرهم، أما الصحابة فإن "سهل بن سعد الساعدي" روى عنه، وأما التابعون فروى عنه "عروة بن الزبير" و"علي بن الحسن"، أثبت ذلك "ابن عبد البر" في "الاستيعاب"، وأما فقهاء الأمصار فإنهم يعظمونه ويعتبرون إمارته وينقادون إلى روايته، قال "أبو بكر ابن العربي" في "العواصم": "وأما السفهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون على أقدارهم". ومنها قولهم: عزل "أبا موسى" عن "البصرة" وولي "عبد الله بن عامر"، ابن خالة عثمان، قلنا: "إنَّ عزله لأبي موسى لاختلاف الجند عليه جند البصرة

والكوفة، وولى عبد الله لأنه ابن عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واسمها "أم حكيم"، وأي حرج على الحاكم أن يولي أخاه أو قريبه ولاية هو لها أهل، وإنما ينكر من ذلك ما كان عن غير أهلية"، قال "ابن عبد البر": "لم يختلفوا أن "عبد الله بن عامر" افتتح أطراف "فارس" كلها و"عامة خراسان" و"أصبهان" و"حلوان" و"كرمان"، وهو الذي شق نهر البصرة". ومنها قولهم: كان عمر يضرب بالدرة وضرب هو بالعصا، وأعطى لمروان خمس "أفريقية"، قلنا: "هذه دعاوي باطلة ينسجها الَحسَدَةُ على منوال أغراضهم، فاضرب أيها المستبرئ لدينه عن سماعها صفحاً"، وأما ما يضعونه في قصة قتله من تلويث جانب الصحابة بدمه، فقد قال فيه "صاحب العواصم": "قد انتدب المردة الجهلة إلى أن يقولوا: "أن كل فاضل من الصحابة كان عليه شاغباً، وبما جرى عليه راضياً، واخترعوا كتاباً فيه فصاحة وأمثال كتب "عثمان " بها إلى "علي" مستصرخاً، وذلك كله مصنوع ليوغروا قلوب المسلمين على السلف الماضين والخلفاء الراشدين، وإن الصحابة براء من دمه بأجمعهم"، وقال في "العارضة": "ولقد قُتل عثمان، وطالبوه أربعة آلاف، وفي المدينة أربعون ألفاً كلهم لا يريد قتله ويريد نصره، لكنه استسلم للأمر ولم يرض أن يراق بسببه دم، ورضي أن يكون عند الله المظلوم ولا يكون عند الله الظالم" اهـ. وجاء "زيد بن ثابت" فقال له: "إن هؤلاء الأنصار بالباب، يقولون: إن شئت كنَّا أنصار الله مرتين"، قال: "لا حاجة لي في ذلك"، فسلموا له رأيه في إسلام نفسه. فاربأ أيها العاقل بنفسك الزكية من أن يعلق بها ما يلصقه المؤرخون بالصحابة، مما يثلم شيئاً من عدالتهم، وجنِّبْ اعتقاداتك الصحيحة

من أن تختلط بغثَّه، فإنَّا لم نجد من ذلك النوع ما رواه عدل ضابط عن مثله، ولولا خشية الاغترار بما سُودت به الصحائف التي لا تمحص الصحيح من المريض، لما عرَّجنا على الخوض في مثل هذا، وما توفيقي إلا بالله.

الأسئلة والأجوبة

الأسئلة والأجوبة - عقدة نكاح بين ذمييِّن بشهادة مسلمين. - كتابة القرآن بلفظه العربي بالأحرف الفرنسية. - أحاديث فضل ليلة النصف من شعبان. - هل صوت المرأة عورة؟ - جواز الاقتباس من القرآن في المقالات. - قصة رتن الهندي. - تقديم الإنسان اسمه على اسم المكتوب إليه. - الطب النبوي. - تلقين الميت لا إله إلا الله. - الاستخارة بالقرآن. - فتوى ابن العربي. - وصول ثواب الذِّكر للميت. - الخطبة الثانية في الجمعة. - دخول ولد الزِّنى للجنَّة. - كيف التخلص من البدع؟ - الرؤيا والحكم الشرعي. - جوائز التفوق في المسائل العلمية. - إجزاء إخراج القيمة من الزكاة. - حكم الرجل يقول لزوجته أنت طالق ليلة القدر. - الصوم بخبر السلك البرقي.

عقد نكاح بين ذميين بشهادة مسلمين

عقد نكاح بين ذميين بشهادة مسلمين (¬1) سؤال: ورد إلينا سؤال من بعض الفضلاء وهو: اطلعت في "تاريخ الدولتين" "للزركشي" على ما نصه: شوور "القاضي أبو علي" في عقدة نكاح بين ذمييِّن بشهادة المسلمين فأباحه، فسمع قاضي الجماعة فأنكره، فوجه قاضي الأنكحة هذا لعدول "تونس"، وأمرهم بالشهادة فيه، وأَلَّف كتاباً في إباحة الحكم بينهم والشهادة عليهم وفي أنكحتهم، وسمّاه "إدراك الصواب في أنكحة أهل الكتاب" وألَّف قاضي الجماعة كتاباً على صحة قوله، ذكر ذلك "ابن عبد السلام" عنهما، قال "ابن عرفة": "قلت لابن عبد السلام ما الصواب عندك؟ " قال: "المنع، لأنهم لا يتحفظون في أنكحتهم". قال ابن عرفة: "والصواب عندي الجواز، لأنا لا نطالبهم بما يجوز عندنا شرعاً ولا تضرنا مخالفتهم في ذلك، نقله السلاوي" اهـ. المطلوب بيان ما يتحرر لديكم في المسألة من كتب أهل المذهب. جواب: أنكحة أهل الذِّمة إذا استوفت شروط النكاح المقررة في شريعتنا، كانت ¬

_ (¬1) العدد السابع - المصادر في غرة ربيع الثاني 1322

صحيحة على ما ذهب إليه القرافي، واعتمده المحققون من أهل المذهب، وعليه فإذا تحقق المسلم استكمالها لشروطها الشرعية جازت شهادته عليها، ومدرك الجواز هو أن هذه الشهادة تدفع عنهم ضرراً وتحفظ لهم حقاً من حقوقهم، ومثل ذلك مما يزيدهم شعوراً بكمال الدين، ويغرس في صدرهم حرمته ومودته، وعسى أن يثمر ذلك استمالتهم إلى جميع أحكامه العالية، ويمنع الذهاب معهم إلى ديارهم وفاقاً لما قاله "البرزلي" احتياطاً للعزّة وسد لذرائع الإهانة إذ في التردد على الديار خفض لشيء من جناح الذل. وأما إذا صدرت أنكحتهم عن غير الأوضاع الشرعية، كانت غير صحيحة عندنا، فيتعين وقتئذ المنع من الشهادة عليها للقاعدة المقررة، وهو أنه لا يسوغ لأحد أن يشهد إلا بما يجوز في مذهبه، ولذلك يعاقب شاهدي نكاح السر. وسرُّ هذا الأصل أن الشهادة على العقدة إعانة على إيجاد آثارها المترتبة عليها، وفساد العقدة يستلزم بطلان آثارها, ولا يستباح للإنسان أن يعين على شيء يعتقد أنه باطل، لقاعدة أن "إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبِّب".

كتابة القرآن بلفظه العربي بالأحرف الفرنسية

كتابة القرآن بلفظه العربي بالأحرف الفرنسية (¬1) سؤال: طلب مني بعض الأوروباويين ممن لا يحسنون القراءة والنطق باللغة العربية، ودخل في الديانة السمحاء، أن أكتب له بعض سور من كلام الله تعالى بلفظها العربي والأحرف الفرنساوية "لاتينية"، ليمكن له حفظها وقراءتها وقت أدائه فريضة الصلاة، حيث يعسر عليه الاجتماع بمن يلقنه ذلك مشافهة، وبما كنّا نجهل الحكم في ذلك، نرجو من كمالكم إرشادنا لما تقتضيه أحكام الشريعة الإِسلامية من الجواز والمنع، والله يحرسكم ويُكثِر من أمثالكم. جواب: إن القرآن يشتمل على أحرف لا يوجد في القلم الفرنسوي أشكال تدل عليها، مثل "ح خ ذ ث ط ض ص ع غ ق"، فالآيات التي تضمنت بعض هذه الأحرف تمتنع كتابتها بالقلم الفرنسوي قطعاً؛ لأن الكاتب إما أن يترك تلك الأحرف أصلاً، أو يرسمها بأشكال أحرف أخرى، كوضع الهاء موضع الحاء، أو السين موضع الصاد، والأول نقص والثاني تبديل، وما كان لنا أن نحذف منه ولا أن نبدّله من تلقاء أنفسنا. ¬

_ (¬1) العدد الثامن - الصادر في 16 ربيع الثاني 1322

نعم. لو أمكن وضع أشكال باصطلاح جديد، تدل على معاني الأحرف التي سردناها، بحيث يتوصل من كتبت له إلى معرفتها وكيفية النطق بها على أصلها, لم يمتنع مراعاة للضرورة التي تضمنها السؤال، كما أنه لو فرض وجود آية وجميع أحرفها له أشكال فرنسوية بأن تكون خالية من الأحرف المسرودة أولاً، لجازت كتابتها بها، وتكون تلك الأشكال المصطلح عليها وأشكال الأحرف الفرنسوية تفسيراً، أي علامات على ما هو القرآن، وُيلوِّح إلى ذلك قول القرافي: "فلو كتب بالعجمي جاز مسّه للمحدث لأنه تفسير للقرآن لا قرآن".

أحاديث فضل ليلة النصف من شعبان

أحاديث فضل ليلة النصف من شعبان (¬1) سؤال: أورد بعض الفقهاء أحاديث في صلاة ليلة النصف من شعبان وفضلها، ونسبها بعضهم إلى الضعف، فنطلب الجواب بما يصح عندكم في ذلك. جواب: أحاديث فضل ليلة النصف من شعبان منها ما أخرجه "البيهقي" في "شعب الإيمان"، ومنها ما أخرجه "أحمد" في "مسنده"، قال الحفّاظ: "وأمثل ما ورد فيها الحديث الذي يتضمن أن الله يغفر فيها لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب"، فقد أخرجه "ابن ماجه" في "سننه"، و"ابن حبان" في "صحيحه"، ولكن ضعفه "الإِمام البخاري"، قال "ابن العربي" في "العارضة": "وطعن فيه البخاري من وجهين، أحدهما أنه مقطوع في موضعين من سنده، والثاني أن "الحجاج" الذي هو أحد رواته ليس بحجة، وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يساوي سماع هذا الحديث" اهـ. وقال في "الأحكام" عند قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3}: ومنهم من قال: إنها ليلة النصف من شعبان وهو ¬

_ (¬1) العدد العاشر - الصادر في 16 جمادى الأولى 1322.

باطل، إن الله قال في كتابه الصادق القاطع {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] فنص على أن ميقات نزوله رمضان، ثم عيَّن من زمانه الليل ها هنا بقوله: {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} فمن زعم أنه في غيره فقد أعظم الفرية على الله، وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يُعوَّل عليه لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها فلا تتعدى إليها" اهـ. وأما أحاديث فضل الصلاة فيها، فمنها الحديث الوارد في فضل صلاة مائة ركعة، وقال في حقه "ابن الجوزي": "جمهور رواته مجاهيل وفيهم ضعفاء"، ومنها الحديث الوارد في فضل أربعة عشر ركعة وفيه قال "السيوطي": "أخرجه البيهقي في الشعب، ويشبه أن يكون موضوعاً"، ومنها الحديث الوارد في فضل اثنتي عشرة ركعة وقال "ابن الجوزي": "في رواته مجاهيل أيضاً"، وقال "الحافظ ابن الجزري": "وأما صلاة الرغائب أول خميس من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان، وصلاة ليلة القدر من رمضان، فلا تصح وسندها موضوع" اهـ. هذا وممن بالغ في إنكار هذه الصلوات "أبو بكر الطرطوشي" و"أبو بكر بن العربي" من المالكية، و"النووي" و"ابن عبد السلام" من الشافعية، وقال النووي: "لا يغتر بذكرها في الأحياء والقوت فالعلم حجّة".

هل صوت المرأة عورة؟

هل صوت المرأة عورة؟ (¬1) سؤال: حضرة الأستاذ النحرير دام كماله، بعد أداء التحية اللائقة بجنابكم، فإني أسترشد حضرتكم فيما يختلج في ضميري من المسائل التي فيها شيء من الالتباس معتمداً على مكارم أخلاقكم واتساع دائرة نطاقكم، فأقول: "قد تقرر في كتب الفقه، أن صوت المرأة عورة، وعليه فلا يمكن لها أن تسمعه لغير المحرم لها، وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خُذوا نِصف دِينَكم عَن هاتِهِ الحُميراء" وعنى بذلك "السيدة عائشة رضي الله عنها"، كما ورد أيضاً من أنه عليه الصلاة والسلام، لما قَدِمَ "ليثرب" ومرَّ علي بنات النجار حيينه بألحان وأناشيد منها قولهنَّ "أقبل البدرُ علينا" إلخ. ولم ينكر عليهن ذلك، وأقرهنَّ عليه مع أن الأناشيد لا تكون إلا بصوت عال، وأيضاً فكيف للنسوة إسماع العدول فيما تدعُ إليه الحاجة من المعاملات؟ " نرجو الجواب أدام الله مقامكم العلمي محفوفاً بالإجلال، وأيد سعادتكم مقرونة بكل كمال. جواب: إسماع المرأة صوتها للأجنبي وسماعه منها إن ترتبت عنه مصلحة، ¬

_ (¬1) العدد الحادي عشر - الصادر في غرة جمادى الثانية 1322.

كالتعليم والشهادة والإشهاد والبيع والشراء وسائر المعاملات الشرعية، جاز بلا خلاف، ومن أدلته خطاب النساء الأجنبيات واسترشادهن للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمحضر الصحابة، ورواية الصحابة عن أمهات المؤمنين وغيرهن، وإن كان مما ينشأ عنه مفسدة في الأغلب، كالغناء والتكلم بما فيه تعريض بالفواحش أو تمطيط وتكسير وتشويق، حُرم قطعاً إذ لا مرية أنه مما يُهيِّج النفوس، ويثير هواها ويحرك الساكن من شهواتها الزائغة، ومن القواعد التي بنيت عليها أحكام الشريعة المطهرة، قطع الوسائل التي تجر إلى المفاسد في الغالب بمنع سائر المكلفين من التلبس بها، وقال تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب: 32] أي ليكن قولكنَّ جزلاً وكلامكنَّ فصلاً ولا يكن على وجه يحدث في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين المطمع للسامع. ولا يرد على هذا حديث الجاريتين المغنيتين في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقرهما على ذلك؛ لأن غناءهما ليس من النوع الذي أشرنا إليه، المقول فيه الغناء رقية الزنى، ألا يرى إلى قول "عائشة - رضي الله عنها -" وليستا بمغنيتين، أي ليستا ممن يحسن الغناء الذي فيه التمطيط والتكسير، وإنما سمَّت ما صدر منهما غناء على عادة العرب في تسميتها لرفع الصوت غناء، ولو لم يكن بترنم، كما أنه لم يكن في التشبيب بأهل الجمال، وإنما كان في الحرب والشجاعة والتفاخر بالظهور الذي يبث في جأش سامعه قوة وإقداماً مع أمن الافتتان بهما وقتئذ، ومثله حديث بنات النجار الذي تضمنه السؤال، على أن الوارد فيه عن "عائشة - رضي الله عنها -"، لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن: "طلع البدر علينا" ... إلخ. نعم يكره للمرأة رفع صوتها في المواطن التي يستغنى فيها عن ذلك،

ولا تدعوها إليه حاجة خشية الفتنة، ولندورها هنا وضعفها عما يهيجه الغناء المحرم والكلام المرخم المتكسر فيه لم يبلغ به إلى التحريم على ما اعتمده في الشامل، ورفع المرأة صوتها لا سيما مع تكرره مما ينخرق به حجاب الحياء الذي هو شعار الصيانة ودثارها، وقد فُسِّر القول المعروف في قوله تعالى: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32] بالكَلامِ المُنْخَفِض، قال "ابن العربي" في "الأحكام": "قيل القول المعروف هو المفسِّر بأن المرأة مأمورة بحفظ الكلام"، فتلخص: أن معنى قول الفقهاء صوت المرأة عورة، أنها مطالبة بستره إلا لحاجة تدعو إليه خشية الافتتان.

جواز الاقتباس من القرآن في المقالات

جواز الاقتباس من القرآن في المقالات (¬1) سؤال: رأيناكم كثيراً ما تقتبسون من القرآن في مقالاتكم فهل يجوز ذلك؟ جواب: نعم، ودليله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" وقد ألَّف في جوازه قديماً "أبو عبيد القاسم ابن سلام" كتاباً، جمع فيه للصحابة والتابعين من ذلك بالأسانيد المتصلة إليهم، وألَّف فيه من المتأخرين "الشيخ داود الشاذلي" كراسة قال فيها: "لا خلاف بين الشافعية والمالكية في جوازه"، ونقله عن "عياض" و"الباقلاني"، وقال: "كفى بهما حجة"، غير أنهم كرهوه في الشعر خاصة، وروى "الخطيب البغدادي" وغيره بالإسناد عن "مالك" أنه كان يستعمله فما ينقله بعضهم من أن مذهب مالك تحريمه غير صحيح، نعم هو محرَّم في المجون والخلاعة وهزل الفساق وشَرَبة الخمر ولا ينبغي أن يختلف في ذلك. * * * ¬

_ (¬1) العدد الحادي عشر - الصادر في غرة جمادى الثانية 1322.

قصة رتن الهندي

قصة رتن الهندي (¬1) سؤال: ذكر بعضهم قصة "رتن الهندي" التي تتضمن صحبته وطول عمره، فهل ما ذكره هذا البعض صحيح أم لا؟ جواب: المحققون على أنها باطلة غير صحيحة، قال "الذهبي" في "الميزان": "رتن الهندي وما أدراك مارتَّن؟ شيخ دجال بلا ريب، ظهر بعد الستمائة فادعى الصحبة، والصحابة لا يكذبون، وقد ألفت في أمره جزءاً، وقد قيل: إنه مات سنة اثنين وثلاثين وستمائة، ومع كونه كذاباً فقد كذبوا عليه جملة كثيرة من أسمج الكذب والمحال". قال "ابن حجر" في "اللسان": "قد وقفت على الجزء الذي ألَّفه الذهبي، ومما نقله منه قوله: أن هم الناس ودواعيهم متوفرة على نوادر الأخبار، فأين كان الهندي في هذه الستمائة سنة، أما كان من قرب بلدة، إنه يتسامع به ويرحل إليه، أين كان لما فتح "محمود بن سبكتكين" "الهند" في المائة الرابعة" وقد صنفوا سيرته وفتوحه، ولم يتعرض أحد من أهل ذلك العصر لذكر ¬

_ (¬1) العدد الثاني عشر - الصادر في 16 جمادى الثانية 1322.

هذا الهندي، ثم اتسعت الفتوح والهندي ولم يسمع له بذكر في الرابعة ولا فيما بعدها، بل تطاولت الأعمار إلى عام ستمائة، ولم تنطبق بذكره رسالة ولا عرَّج على أحواله تاريخ، ولا نقل وجوده جوّال ولا رحّال ولا تاجر سفّار، ولعمري ما يصدق بصحبة رتن إلا من يؤمن برجعة عليّ أو بوجود "محمد بن الحسن" في "السودان"، وهؤلاء لا يؤثر فيهم علاج، وقد اتفق أهل الحديث على أن آخر من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّة "أبو الطفل عامر بن واثلة"، وثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قبل موته بشهر أو نحوه "أَرأَيتُكمْ لَيْلتكم هذهِ فإن على رأْس مائة سنَة مِنْها لا يَبْقى على وجهِ الأَرض ممَّنْ هوَ اليَوم علَيْها أَحدٌ"، فانقطع المقال، وماذا بعد الحق إلا الضلال. وممَّن ذكر قصته "الصلاح الصفدي" في "تذكرته"، ثم قواها وأنكر على من ينكرها، وعوَّل في ذلك على الإمكان العقلي، وردَّ عليه "القاضي برهان الدِّين ابن جماعة"، بأن المعول في ذلك إنما هو النقل، وليس كل ما يجوِّزه العقل يستلزم الوقوع، ثم قال "ابن حجر": "والذي يظهر أنه كان طال عمره فادعى ما ادعى، وتمادى على ذلك حتى اشتهر، ولو كان صادقاً لاشتهر في المائة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة، ولكنه لم ينقل عنه شيء إلا في أواخر المائة السادسة ثم في أوائل المائة السابعة قبيل وفاته".

تقديم الإنسان اسمه على اسم المكتوب إليه

تقديم الإنسان اسمه على اسم المكتوب إليه (¬1) سؤال: هل ورد شيء في تقديم الإنسان اسمه على اسم المكتوب إليه؟ جواب: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقدم على اسم المكتوب إليه، فمن فعل ذلك بقصد الاقتداء فنعما هو، وكنت اطلعت على كلام "لابن رشد" في "جامع البيان والتحصيل" ينطبق على ما هو الجاري الآن في المكاتبات، وهو: قال "القاضي أبو الوليد": "أنكر مالك الحديث الذي ذُكر له أنه جاء في أن يبدأ الرجل إذا كتب إلى أخيه باسمه قبل اسم أخيه، ورأى أن التزام ذلك على كل حال كان أخوه أصغر منه أو أكبر ليس على ما ينبغي، والاختيار عنده إذا كاتب إلى أخيه وهو أصغر منه أن يبدأ في الكتاب فيقول في الكتاب إليه، من فلان بن فلان، فإذا قدمه على نفسه لكونه أهلاً لذلك لدينه أو لفضله لا لغرض من أغراض الدنيا فلا بأس بذلك". وفيه وإن كتب الرجل إلى من هو دونه في السن والفضل، فبدأه على نفسه تواضعاً لله ومخافة أن يكون عند الله أفضل منه فقد أحسن، وفي موضع ¬

_ (¬1) العدد الحادي عشر - الصادر في غرة جمادى الثانية 1322.

آخر قال: "حدَّثني مالك أن رجلاً أتى عائشة - رضي الله عنها -، فسألها الكتاب إلى زياد، فكتبت إليه وبدأت باسمها، فسألها الرجل أن تبتدئ باسم زياد فإنه أقضى للحاجة، ففعلت وبدأت باسمه".

الطب النبوي

الطب النبوي (¬1) سؤال: جوابكم الشافي في مسألة الطب أهي من المشروعيات أم من العاديات؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يُبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات على ما قاله بعض العلماء، ودليلهم قوله - صلى الله عليه وسلم - في واقعة تلقيح النخيل: "أَنْتمْ أَعلَمُ بأُمور دُنْياكمْ" وهذا يدلُّ صراحة على أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أُرسل ليعلم الناس الشرائع كما تقدم. وقد وردت أحاديث صحيحة تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر عدَّة أنفار من الصحابة - رضي الله عنهم - بالتَّداوي بأدوية مخصوصة، كأمره المبطون أكل العسل وغير ذلك، وهاته الأدوية ليست مركبة على قواعد طبيعية على ما قاله الأطباء. جواب: كان للعرب معرفة بشيء من علم الطب غير مبنية على علوم الطبيعة التي يقررها حكماء الفلاسفة، بل مأخوذة من تجاريب الأُميِّين، والأحاديث التي جاءت في التعريف ببعض الأدوية واردة على هذا المساق، وهي صادقة مطابقة لقواعد حفظ الصحة عند من يحقق النظر في فهمها بتقييدها وتخصيصها، وفي ¬

_ (¬1) العدد الثاني عشر - الصادر في 16 جمادى الثانية 1322.

تطبيقها على الأمراض بحسب الاختلاف في السنن والزمان والعادة والهوى، فإن الأطباء مجمعون على أن العلة المعينة يختلف علاجها بحسب الاختلاف في ذلك، ويكفي في صدقها تحقق الشفاء بها في الجملة، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - بُعث لتعليم الشرائع، ولكنه إن صدر منه في غيرها قول كأحاديث الطب، كان بمنزلة الشرعيات عندنا لا نرتاب في صحته وإن ارتاب المبطلون. أما واقعة تلقيح النخل، فقد بيَّن - عليه الصلاة والسلام - من أول الأمر أن قوله: "لو لمْ تَفعلُوا لصلحَ" إنما هو بمقتضى الظن بقوله: "ما أظن ذلك يغني شيئاً"، فهو بمثابة قوله "أظن أنكم لو لم تفعلوا لصلح"؛ لأن اعتقاد سببية أمر لحصول آخر يكون لإعلام من الشارع ولم يقع هنا أو بالتجربة، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يمارس الفلاحة لاستغراقه فيما هو أشرف مكانة وأعم فائدة للأمة، فرجع إلى ما هو الأصل، وهو أن لا تأثير إلا لله، وعندما تبين له بالتجربة أن التلقيح سبب في صلاح الثمر، قال لهم: "أَنْتم أَعلمُ بأمرِ دنياكم" فالأمر في هذه الجملة يصرف إلى الأمور التي لم يتكلم فيها بصورة جزم كواقعة التلقيح، فتخرج أحاديث الطب فإنها أوامر وأخبار لم تعلق بظن، فلا يسعنا إلا التصديق بصحتها تصديقاً لا ينقض ميثاقه تشكيكات المتطببين، فإنهم يختلفون اختلافاً كثيراً.

تلقين الميت لا إله إلا الله

تلقين الميت لا إله إلا الله (¬1) سؤال: اطلعت في الجزء الثالث من "نفح الطيب" على ما نصه: "شهدت مجلساً آخر عند هذا السلطان "ابن تاشفين عبد الرحمن بن أبي حم" قُرئ فيه على "أبي زيد الإِمام" حديث "لَقِنوا مَوْتاكم لا إله إلا الله" في صحيح مسلم"، فقال له الأستاذ "أبو إسحاق ابن حكم السلاي": "هذا الملقن محتضر حقيقة ميت مجازاً، فما وجه ترك محتضريكم إلى موتاكم والأصل الحقيقة؟! " فأجابه "أبو زيد" بجواب لم يقنعه"، وكنت قرأت على الأستاذ بعض التنقيح: فقلت: "زعم القرافي أن المشتق إنما يكون حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال مختلفاً فيه في الماضي إذا كان محكوماً به، أما إذا كان متعلق الحكم فهو حقيقة مطلقاً إجماعاً، وعلى هذا التقرير لا مجاز فلا سؤال"، فالمراد منكم بيان أن هذا الجواب صحيح أم لا؟ جواب: كلام "القرافي" لا يصح تطبيقه على الحديث الشريف، وإيضاح ذلك أن قول القرافي "أما إذا كان متعلق الحكم فهو حقيقةٌ مطلقاً" معناه أنه لا يشترط ¬

_ (¬1) العدد الثاني عشر - الصادر في 16 جمادى الثانية 1322.

في إطلاق اللفظ المشتق على الذات حصول معناه فيها عند النطق وهو زمن الحكم، ولكن لا بد من شرطية حصول معنى المشتق عند تعلق الحكم به، فنحو أكرمْ العالم، يصدق على من سيكون عالماً في المستقبل حقيقة، ولكن لا بد من حصول العلم فيه عند تعلق الحكم به وهو الإكرام، ولو أبقينا كلامه على إطلاقه للزم عليه أن قول القائل: أكرمْ القائم مثلاً يقتضي إكرام المجالس الذي سيقوم لأنه يقال فيه قائم حقيقة وهو باطل بالضرورة، وإذا أجرينا الحديث على هذا التحقيق، يتضح لنا أن التلقين الذي هو الحكم لا يقع إلا إذا حصل المعنى الذي يقوم بمتعلقه وهو الموت، ومن ثم جاء الإشكال فيتعين العمل على المجاز، وله نكتتان: إحداهما ما قررها المقري بعد، وهي الإشارة إلى أن التلقين يكون عند ظهور العلامات التي يعقبها الموت, لأن التلقين قبل ذلك يُدهش ويُوحش. ثانيها أن ذلك من الإيماء إلى علة الحكم، والإشارة إلى وقت نفع تلك الكلمة النفع التام وهو الموت عليها، أي لقنوهم إياها ليموتوا عليها.

الاستخارة بالقرآن

الاستخارة بالقرآن (¬1) سؤال: هل تجوز الاستخارة بالقرآن أو لا؟ جواب: الاستخارة من القرآن والاستفتاح به بدعة لم ينقل فعلها عن السلف، والأثر الذي ينسبونه إلى "سيدنا علي بن أبي طالب" غير صحيح، وقد صرح "أبو بكر الطرطوشي" بالمنع، ورأى أنه من الأزلام، وجزم بذلك المنع تلميذه "أبو بكر بن العربي" وأشار إلى وجه المنع في الأحكام بقوله: "إنّ المصحف لم يُبيَّن ليعلم به الغيب إنما بُيِّنت آياته ورُسمت كلماته ليُمنَع عن الغيب، فلا تشتغلوا به ولا يتعرض أحدكم له"، ولقد أغنانا الله تعالى بالاستخارة النبوية عن سائر الاستخارات التي لم يثبت فعلها عن الصدر الأول. * * * ¬

_ (¬1) العدد الثاني عشر - الصادر في 16 جمادى الثانية 1322.

فتوى ابن العربي

فتوى ابن العربي (¬1) سؤال: المرجو من أستاذنا الشيخ صاحب السعادة، أن يفصح لنا عن رأيه في فتوى الإِمام "أبي بكر بن العربي" بجواز أكل ما يخنقه الكتابي أو يحطم رأسه من الحيوان بنية الذكاة، ورجاؤنا أن يكون جوابكم مقصوراً على البحث في المسألة من جهة أدلتها الأصولية رداً أو تأييداً. جواب: ما يذكيه الكتابي بالخنق وحطم الرأس، أفتى "ابن العربي" بإباحة أكله، ونص هاته الفتوى من "الأحكام": "ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها، هل تؤكل معه أو تؤخذ منه طعاماً؟ فقلت تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا, ولكن الله أباح طعامهم مطلقاً، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال إلا ما كذبهم الله فيه، ولقد قال علماؤنا: إنهم يعطوننا أولادهم ونساءهم ملكاً في الصلح فيحل لنا وطؤهم، فكيف لا نأكل ذبائحهم والأكل دون الوطئ في الحل والحرمة؟ " اهـ. وقال قبل هذا ما نصه: "فإن قيل: فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق ¬

_ (¬1) العدد الثالث عشر - الصادر في غرة رجب الأصب 1322

وحطم الرأس، فالجواب إن هذه ميتة وهي حرام بالنص، فإن أكلوها لا نأكلها نحن، كالخنزير والميتة فإنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا فهذا مثله" اهـ. فانعقد بين كلاميه تعارض بحسب الظاهر، وجمع بينهما "ابن عرفة" بأن الأول فيما إذا نوى بذلك الذكاة، والثاني فيما إذا لم ينو ذلك، وأيَّد هذه الفتوى "أبو عبد الله الحفار" بما خلاصته: "ولا يشترط أن تكون ذكاتهم كذكاتنا في ذلك الحيوان المذكى وذلك رخصة من الله، وإذا كانت الذكاة تختلف في شريعتنا فتكون ذبحاً في بعض الحيوانات ونحراً في بعض وقطع رأس وشبهه كما هي ذكاة الجراد أو وضع في ماء حار، فكذلك قد يكون شرع في غير ملتنا سلّ عنق الحيوان على وجه الذكاة، ولا يلزمنا أن نبحث عن شريعتهم في ذلك بل إذا رأينا ذوي دينهم يستحلون ذلك أكلنا" اهـ. ونقلها جماعة من فقهائنا, ولم يتصرفوا فيها بشيء، وقامت في وجهها طائفة بالإنكار وإن لم يطعنوا في نحرها بما يزحزحها عن موقف التمكن بحسب الدليل سوى "الشيخ ابن عرفة"، ونص ما في التفسير المنسوب إليه عند الآية المصدر بها، "أخذ من هذا "ابن العربي" جواز أكل المسلم من الدجاجة التي فكَّ النصراني عنقها إذا طبخها لنفسه وأطعمه معه لأنها من طعامه، وردّه "ابن عرفة" بأنه ليس من طعامكم الفعلي الوجودي، بل طعامهم الذي أباحه شرعهم لهم، وهو إذاً في شرعهم محرم عليهم" اهـ. وقريب منه كلام "ابن عبد السلام "، ورد "ابن ناجي" كلام الشيخين "بأنه مبني على أنه وقع التبديل في شرعهم وليس كذلك" اهـ. وكأني بك لأن كنت لا ترضى إلا بالنفوذ في أعماق الاستدلالات، تورد

على قول الإِمام، وهو إذاً في شرعهم محرم عليهم إن هذا عبارة أو في مما بنيت عليه؛ لأن قصارى ما يقتضيه التبديل التوقف في أفعالهم لا الحكم عليها بأنها محرمة، وسيأتيك أن اقتضاء التبديل للتوقف غير كاف في الرد، ثم نلتفت إلى قول "ابن ناجي" "وليس كذلك" فنقول له: "كلا بل إن ذلك كان كذلك"، وقد كشف الغشاوة عن ذلك الوقوع صاحب "إظهار الحق" و"الشيخ الألوسي" في "تفسيره". هذا وممن رام إماطة مدرك هاته الفتوى عن طريق الاعتماد "أبو عبد الله الرهوني"، ففوَّق لها من كنانته سهمين، ولكنهما لم ينبعثا لها على خط مستقيم، ويكاد أولهما يتحد بما رماها به الشيخان، ونصه بعد نقل الفتوى وتأييدها قوله: "إنه يقبل قول أحبارهم ورهبانهم أنَّ ذلك حلال عندهم ويصدقون فيه"، إذ كيف يقبل قولهم بعد إخبار الله تعالى عنهم بأنهم حرّفوا وبدلوا حسبما أفصحت بذلك الآيات القرآنية والأحاديث المتواترة النبوية، وقد ثبت في أصح الصحيح كذبهم بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - غير ما مرة، وتوقعهم تكذيب الله إياهم بإعلامه نبيه بذلك، فلم يخشوا الفضيحة مع وقوع تكذيبهم ثم يعترفون، فكيف بغير النبي - صلى الله عليه وسلم -, وفي أصح الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُصَدِقوا أَهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِبوهمْ" الحديث، فتصديقهم فيما ذكر مخالف للأدلة والقواعد، الثاني على تسليم تصديقهم تسليماً جدلياً فلا وجه لتصديقهم في أن المنخنقة والمسلولة العنق حلال عندهم، وعدم تصديقهم في أن الميتة والخنزير حلال عندهم، وما فُرق به من أن الله كذبهم في حليتها فليس في الآيات ولا في الأحاديث شيء من ذلك، وإن عني أن الله كذَّبهم بقوله: {حُرِّمَتْ} [المائدة: 3] الآية، فهذه مصادرة لأن الله كذَّبهم فيما زعم أنهم

مصدقون فيه لأنها منخنقة أو موقودة، وقد ذكر الله حرمة كل منهما في الآية نفسها، وقد قال "ابن العربي، نفسه في "الأحكام": "والمنخنقة هي التي تخنق بحبل قصداً أو بغير قصد أو بغير حبل". فأما أن يحمل "ابن العربي" قوله تعال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] على ظاهره فيدخل فيه الميتة والخنزير وما ذكر معهما، وإما أن يقصر على غير ذلك كله، وقصره على بعض دون بعض عمل باليد ودعوى لا دليل عليها، ولعلك لم تزل متذكراً ما فاتحك به الاستدراك في قولنا: "ولكنهما لم ينبعث إلخ"، فنقول: "يمكن رد الوجه الأول بأن وقوع التبديل والتحريف لا يقضي بتكذيبهم في غير ما لم يكذبهم فيه الوحي، كما هو صريح قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُصَدِقوا أَهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِبُوهمْ" وعليه فنتوقف في تناول ما ذكي بغير ذكاتنا، إلا أن الشارع لما أباح طعامهم مطلقاً بشبهة ما معهم من الكتاب وهو أعلم بما يفعلون، اندرج فيه ذلك فيكون هذا العموم متضمناً لتصديقهم في حلية ما يأكلونه فيباح لنا، إلا ما نص على تحريمه علينا بالخصوص كالخنزير والميتة". ويرد قوله في الوجه الثاني "ولا وجه لتصديقهم في أن المنخنقة والموقوذة حلال عندهم وعدم تصديقهم في أن الميتة والخنزير حلال عندهم" بأن "ابن العربي" صرَّح بأنهم مصدّقون بأن الميتة والخنزير حلال عندهم أيضاً، حيث قال: "كالخنزير والميتة فإنه حلال لهم ومن طعامهم"، وقوله: "وما فُرِّق به من أن الله كذَّبهم في حليتها فليس في الأحاديث ولا في الآيات شيء من ذلك" مردود بأنه لم يعن بما كذَّبهم الله فيه الميتة والخنزير، إذ هو خلاف قوله: "كالميتة والخنزير فإنه حلال لهم"، بل أراد بذلك الربا ونحوه، كاليهودي

يستحل الربا قال تعالى: نساء: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161]. وقوله: "وقد قال ابن العربي نفسه في الأحكام، والمنخنقة هي التي تخنق بحبل قصدًا" إلخ. يجاب عنه بأن يحمل ذلك على ما خنقت بقصد إزهاق روحها، فلا يشمل تعريفه ما خنقت على وجه الذكاة، وقوله: "فأما أن يحمل ابن العربي وطعام الذين أوتوا الكتاب على ظاهره فيدخل فيه الميتة" إلخ. يدفع بأن الميتة والخنزير قد حرمهما الله بالخصوص، فلا ترتفع الحرمة عنها إلّا بنص خاص. وأما ما خنق أو حطم رأسه بنية الذكاة فليس بمحرَّم، إذ ليس هو من مشمولات آية والمنخنقة والموقوذة عند ابن العربي، ولكن يقال له: بأي دليل لم تره داخلاً في قوله والمنخنقة والموقوذة وأدرجته تحت عموم وطعام الذين ... الآية، ومن هنا نتخلص إلى منزع أصولي: وهو أن ما ذكاه أهل الكتاب بالخنق وحطم الرأس أحلَّه قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] وحرمه قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] لما بين الآيتين من العموم والخصوص الوجهي، فذلك المذكى هو محل الاجتماع، وتنفرد الأولى بالذبائح والثانية بما لم تقصد ذكاته، والمرجع عند تعارض مثل هذين الأصلين إلى ما يرجح أحدهما عن الآخر بالنسبة لما وقع فيه التعارض، ولنا في ذلك لفتتان، أولاهما إلى طريق العموم من حيث الدلالة، فيترجح مذهب "ابن العربي" بناء على ما للإمام في المحصول من أن الإضافة أدل على العموم من اللام، وإما على ما نص عليه جماعة من التسوية بينهما فلا ترجيح. وأما الترجيح بدليل آخر وهو اللفتة الثانية فللنظر فيه شعب، منهما أن

العموم في آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ} [المائدة: 5] مخصوص بالميتة والدم ولحم الخنزير قطعاً، بخلاف عموم آية {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] فإنا لا نعلم له مخصصاً، والعام الذي لم يدخله تخصيص أقوى في الدلالة مما دخله التخصيص، وعليه فيترجح القول بالتحريم هذا على ما لجمهور الأصوليين، وأما على رأي "ابن السبكي" من أن المخصوص أقوى فيترجح مذهب "ابن العربي"، ثانيها أن الآية الأولى للإباحة والثانية للحظر ودليل الحظر مقدم على دليل الإباحة، وهو مذهب "الأبهري" من أصحابنا، وعزاه "التفتزاني" في "حواشيه على ابن الحاجب" إلى الجمهور، ووجهه بأن مخالفة المحظور توجب الإثم بخلاف المباح فكان أولى للاحتياط، وأيد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "دع مَا يُريبُكَ إلى مَا لا يُريبُكَ". ووجَّهه غيره بأن النهي يعتمد درء المفسدة، وقد قُدِّم على الأمر المتضمن لجلب المصلحة، فلأن يقدم على ما عرى عن ذلك أولى. نعم يترجح مذهب "ابن العربي" بناء على ما ذهب إليه "أبو الفرج" وغيره من تقديم دليل الإباحة، وأما على ما رجّحه في "المستصفى" وصحّحه "الباجي" في "المنهاج" من التسوية بينهما فلا ترجيح، ولكن مذهب "الأبهري" أقوى مدركاً وأعلى نظراً، ومما يدعم أصل الحرمة دليل الخطاب في قوله تعالى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] على أن الاستثناء منقطع، فإن مفهومه أن ما ذكّاه غيرنا كالكتابي لا يباح، لكن ما كانت ذكاته موافقة لذكاتنا قد قام الدليل على إباحته، فيبقى ما عداه ممنوعاً بدلالة هذا المفهوم، ويعضده أيضاً قوله تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] على أن الآية بيان لنا لا لهم

على رأي "السدي" وغيره، والمعنى كما قال "الآلوسي" "طعامهم حلٌّ لكم" إذا كان هو الطعام الذي أحللته لكم، ولذلك لو أطعمونا خنزيراً أو نحوه وقالوا هو حل الذي شريعتنا وقد أباح الله تعالى لكم طعامنا كذَّبناهم، وقلنا: "إن الطعام الذي يحل لكم هو الذي يحلُّ لنا لا غيره". ولقائل أن يقول: "إن هذا المعنى إنما تفيده الآية لو اشتملت على طريق من طرق القصر"، فإن قيل: يؤيد أصل الحرمة أيضاً، أن الذكاة شُرعت لإخراج الفضلات، وبالخنق وحطم الرأس لا يتحقق ما شرعت لأجله، قلت: صحيح ذلك على القول به، إلا أن الراجح في المذهب أنها شرعت لإزهاق الروح بسرعة، وأما قياس "ابن العربي" أكل ذبائحهم على وطئ نسائهم، فلا يُعدُّ من فرائد بدائعه، وقد كفانا المحقق "الرهوني" مؤونته الخفيفة، فقد اتضح لك أيها الناقد البصير أن القول بالحرمة أقرب إلى الصواب وأرجح من جهة النظر.

وصول ثواب الذكر للميت

وصول ثواب الذكر للميت (¬1) سؤال: سيدي الفاضل صاحب السعادة. هل ينتفع الميت بثواب الذكر والتسبيح والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أهدي ثواب ذلك إليه؟ أو هو حبس على صاحبه لا يصل للميت منه شيء، كما يشهد لذلك قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] الآية؟. جواب: انتفاع الميت بما ذكر في السؤال يجري فيه اختلاف الأئمة في وصول ثواب قراءة القرآن، وقد ذهبوا في ذلك مذاهب شتى وإليك خلاصتها: فذهب "مالك" و"الشافعي" إلى أنه لا يحصل شيء من ذلك للميت، وقال "أبو حنيفة" و"أحمد بن حنبل" يصل ثواب القراءة للميت. قال "القرافي" في "فروقه": "فمالك والشافعي - رضي الله عنهما - يحتجان بالقياس على الصلاة ونحوها مما هو فعل بدني، والأصل في الأفعال البدنية أن لا ينوب فيها أحد عن الآخر ولظاهر قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] ولقوله عليه السلام: "إذا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَمَلهُ إلَّا ¬

_ (¬1) العدد الخامس عشر - الصادر في غرة شعبان الأكرم 1322.

مِنْ ثَلاثْ: عِلْمٌ يُنتفعُ بِهِ وَصَدقَةٌ جَارَيةٍ وَوَلَدٌ صالح يَدْعو لَه"، ثم قال: "وهذه المسألة وإن كان مختلفاً فيها فينبغي للإنسان أن لا يهملها، فلعل الحق هو الوصول إلى الموتى، فإن هذه أمور مغيبة عنَّا, وليس الخلاف في حكم شرعي إنما هو في واقع هل هو كذلك أم لا؟ وكذلك التهليل الذي عادة الناس يعملونه اليوم، ينبغي أن يعمل ويعتمد في ذلك على فضل الله ويُلتمس فضل الله بكل سبب ممكن". ونصَّ "ابن رشد" في "الأجوبة"، و"ابن العربي" في "الأحكام"، على أن الميت ينتفع بالقراءة التي يُوهب له ثوابها قرئت على القبر، أو في البيت، أو في بلاد إلى بلاد، وقال "ابن الحاج" في "المدخل": "من أراد وصول قراءته بلا خلاف، فليجعل ذلك دعاء بأن يقول: (اللهم أوصل ثواب ما أقرأ إلى فلان)، فإن الدعاء متَّفق عليه". وقال "الأبيّ": "رأيت لبعضهم أن القارئ للغير، إن صرَّح أو نوى قبل قراءته للغير كان ثوابها للغير، وإن كان إنما نوى الثواب بعد القراءة فإنه لا ينتقل, لأن الثواب حصل للقارئ والثواب إذا حصل لا ينتقل"، وهذا المذهب الذي كان يختار الشيخ "أبيُّ ابن عرفة". أما آية {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] فأجيب عنها، بأن الغير لمّا نوى ذلك الفعل له صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه، فكأنه بسعيه، وأجيبُ أيضاً بأن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه من الإيمان فكأنه سعيه. وقول الأبيُّ إن الثواب إذا حصل لا ينتقل غير ظاهر، والظاهر الذي نعتمده ونعول عليه هو الوصول والانتفاع مطلقاً، كما هو مذهب جماعة من المحققِّين.

الخطبة الثانية في الجمعة

الخطبة الثانية في الجمعة (¬1) سؤال: هل التزام الخطبة الثانية بعينها في كل جمعة له وجه أم لا؟ جواب: إجراؤها مجرى الخطبة الأولى في إيرادها على حسب ما يقتضيه الحال، ويحتاج إليه في ذلك الوقت هو الأفيد للأمة والأقرب من السنة، قال الشيخ "كنون" في "حواشي المختصر" قال "ابن عاشر": "انظر من أين أخذ خطباء فاس التفريق بين الخطبة الأولى والثانية في كيفية الجهر بهما، حتى إنَّ بعضهم ربما أسرَّ في الثانية. وقال بعضهم باسرار الخطباء بأول الخطبة الثانية حتى لا يكاد الخطيب يسمع لا أصل له فهو بدعة، وكذا التزامهم للثانية لفظاً واحداً دائماً، وكذا إخلاؤها من الموعظة، فإن الجميع خارج عن عمل الماضين من السلف الصالح". * * * ¬

_ (¬1) العدد الخامس عشر - الصادر في غرة شعبان الأكرم 1322.

دخول ولد الزنى للجنة

دخول ولد الزنى للجنة (¬1) سؤال: هل يدخل الجنة ولد الزنى أو كيف الحال؟ جواب: ولد الزنى كغيره، إن أحسن جُوزي، وإن أساء عُوقب كما "قال ابن عباس"، وحديث "لا يدخل الجنة ولد زانية" رواه "النسائي" و"ابن حبّان" و"أبو نعيم" في "الحلية"، وأعلَّه "الدارقطني" بأنه ورد من رواية "مجاهد" عن "أبي هريرة" ولم يسمع "مجاهد" منه، وأيضاً يعارضه ما رواه "الحاكم" وصححه مرفوعاً "ولدُ الزِّنى ليسَ عليه من وزر أبويه شيء"، وقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ} [الأنعام: 164] الآية. وقال "ابن حجر": "واتفق العلماء على أن حديث "لا يدخلُ الجنَّة" إلخ أنه لا يُحمل على ظاهره، وفسَّروه على تقدير صحته بأن معناه إذا عَمِل بعمل والديه، أو المراد من يواظب عليه، كما يقال للشهود بنو الصحف، وللشجعان بنو الحرب". نعم، أخرج "الإِمام أحمد" و "أبو داود" و"البيهقي" و"الحاكم" بإسناد حسن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ولدُ الزّنى شرُّ الثلاثة" أي ¬

_ (¬1) العدد الخامس عشر - الصادر في غرة شعبان الأكرم 1322

هو وأبواه، وهذا إنما قاله - عليه الصلاة والسلام - في رجل بعينه كان يؤذيه، وبذلك فسَّرته عائشة - رضي الله عنها - لما بلغها ما حدَّث به أبو هريرة. روى "الحاكم" في "المستدرك" من طريق عروة أن عائشة بلغها حديث أبي هريرة فقالت: رحم الله أبا هريرة، أساء سمعاً فأساء إجابة، لم يكن الحديث هكذا، إنما كان رجل من المنافقين يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: من يعذرني من فلان، فقيل: يا رسول الله إنه مع ما به ولد زنى، فقال "هو شرُّ الثلاثة" والله تعالى يقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ". وروى "ابن ماجه" في كتاب "العتق من سننه" بلفظ: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ولد الزنى فقال: "نعلان أُجاهدُ بهما خير من أن أعتق ولد الزنى"، وهو مؤول أيضاً بالحمل على من كثر منه الزنى حتى نسب إليه، كقولهم لمن كثر منه السفر ابن السبيل، حتى لا يصادم آية {وَلَا تَزِرُ} فتبقى مطردة في سبيل عمومها.

كيف التخلص من البدع؟

كيف التخلص من البدع؟ (¬1) أسئلة متعددة: هل يخلص العبد في توحيده ومتابعته للحق وهو جاهل؟ وهل يخلص ظنّه بالله ويحسن، وهو مخلط مسيء ومتمن مغرور؟ وهل يمنح الفضل والهداية واليقين والتوفيق، وهو متلبس بالبدع المضلة؟ وهل يكون ميسر العمل البر، مشروح الصدر، كريم النفس، مع الكبر والحسد؟ وهل يحب الحق ويكره الباطل ويواسي في الله ويعادي فيه، وهو مخالط لأهل المنكر والضلال؟ وهل يصدّق ويصدْق في الحق ويعطي فرقاناً، وهو آكل حراماً أو ما فيه شبهة؟ وهل يعتقد الحق ويعمل به، وهو مع المؤولين المتعصبين المدعين الدجالين؟ وهل تيسر له التوبة النصوح، مع الإصرار والتمرد والنفاق والمداهنة؟ وهل يكون من أهل الصراط المستقيم المخبتين الخائفين الراجين المحبين أهل السبق والبشارة، وهو راكس في هواه وعوائده الطبيعية والبلدية والمذهبية والعشيرية؟ وهل يكون مختاراً مجتبى تنفعه الذكرى، ويخشى الله ويتقيه، ومتوكلاً عليه منور القلب فيُيسر للخير ويُرحم وينصح ويأمر وينهي، وُيعطي ويمنع وهو متلبس بأنواع من الفساد الظاهر والباطن، وتضييع أكثر الواجب، وارتكاب كل ما يقدر من المخالفات من كل ¬

_ (¬1) العدد الخامس عشر - الصادر في غرة شعبان الأكرم 1322

ما يغضب الله ويسخطه ويكرهه؟ وهل يتصور إسلام، مع نبذ الشرع والعهود والاعتداء على حدود الله، وما لا يعد ولا يحصى من التكلم بالباطل، وبكلام المردة الذي ينقض عرى الإِسلام عروة عروة من حيث لا يدري، وذكر أهل المخالفة للشرع والميل إليهم، واستحسان ما هم عليه والدعوة إليه؟ وهل من سبيل إلى النجاة من هذه الأحوال؟ جواب: سبيل النجاة من تلك الأحوال بالنسبة للملتبس بها، هو الرجوع إلى التمسك بالكتاب والسّنة، والاقتداء بسيرة السلف الصالح، وكل ذلك لم يزل محفوظاً مذكوراً. أما المشاهد لها، فلا يضره من ضلَّ، إذا اهتدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما وجد لذلك سبيلاً، وإن البدع وإن انتشرت بيننا انتشار السنن في الصدر الأول، فباضت وفرَّخت في كل ناد، وهبّت عواصفها في كل واد، لا يعسر اقتلاعها من حيث نبتت، وطيها من حيث نشرت، لو يقوم السادة العلماء يداً واحدة يستقصون آثارها، ويقرطسون فيها سهام الرد والإنكار بألسنتهم وأقلامهم الشديدة العارضة، من غير التفات إلى تفنيد وتثريب {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] , وقد جمعنا في الأسبوع الفارط محفل مبارك مع بعض المدرسين المحققين، فوقعت عينه على بعض محدثات مكروهة شرعاً، فأمر بإزالتها في الحال، فبادر أهل ذلك "المجمع إلى امتثال ما أمر به الأستاذ مع هيبة واحترام، ومثل هذا مما ينبئك على ما قذفه الله في القلوب من الانقياد والتعظيم للعلماء العاملين، وأنهم القدوة والمثال الذي ولع الناس بتقليده.

الرؤيا والحكم الشرعي

الرؤيا والحكم الشرعي (¬1) سؤال: من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، وأمره بفعل شيء، هل يلزمه فعل ذلك الشيء، لقوله: "من رآني فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي"، أم لا؟ جواب: الحكمة البالغة تقتضي أن تكون طرق معرفة الأحكام مضبوطة جلية، تسع مداركها كل من يحاول الوصول إليها من المكلفين لا يختص بها واحد دون آخر، ولهذا لم يعدّ الأصوليون من دلائل الفقه الإلهام ولا المرائي المنامية، وأما ما يذكره بعض العلماء من الاستدلال بالمرائي فإنما هو من باب الاستئناس والتأييد للأدلة الظاهرة. فرؤيته - عليه الصلاة والسلام - مناماً، وإن كانت حقاً لا يقرّر بها حكم شرعي على جهة الاستقلال, لأننا نخشى أن نرى رجلاً يعمل عملاً على خلاف مما يقتضيه ظاهر الشريعة، فإذا كُلِّم في ذلك قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرني بذلك مناماً". هذا مع عدم تحقق ضبطه للرؤيا واحتمال تأويلها على خلاف ما فهمه منها, ولذلك قال "القرافي": "لو قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرائيه في المنام امرأتك ¬

_ (¬1) العدد السادس عشر - الصادر في 16 شعبان الأكرم 1322.

طالق ثلاثاً هل يلزمه الطلاق ثلاثاً لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حقاً أو لا يلزمه شيء، هو الأظهر, لأن إخباره - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة مقدم على إخباره في النوم، ولأن احتمال الغلط في ضبط المثال في النوم أرجح من الغلط في ضبط عدم الطلاق لأن هذا لا يختل إلا على النادر من الناس، وأما لمثال في النوم فلا يضبطه إلا الأفراد من الحفاظ لصفته - صلى الله عليه وسلم -، والعمل بالراجح واجب".

جوائز التفوق في المسائل العلمية

جوائز التفوق في المسائل العلمية (¬1) سؤال: هل يجوز للرجل أن يُعيِّن جانباً من المال ليأخذه من فاق غيره في تحقيق مسألة علمية؟ جواب: ورد في الشريعة جواز المسابقة على الخيل بعوض من غير المتسابقين تدريباً على الحروب وترغيباً في الأخذ بالاستعداد لها عند الحاجة، وهذه العلة يصح إجراؤها في مسألتنا، بل الترغيب في العلم والتنافس فيه أكيد، ولا سيما عند ضعف الهمم في طلبه وقلة الاعتناء به من حيث أنه فضيلة، وعليه فما يقع الآن من المناظرات لإحراز مرتب التدريس والامتحانات للفوز بجوائزها سائغة لا بأس بها. * * * ¬

_ (¬1) العدد السادس عشر - الصادر في 16 شعبان الأكرم 1322.

إجزاء إخراج القيمة من الزكاة

إجزاء إخراج القيمة من الزكاة (¬1) سؤال: نطلب منكم أن تبينوا لنا ما هو المعتمد عليه في المذهب من إجزاء إخراج القيمة في الزكاة وعدمه. جواب: مشهور المذهب كما نص عليه "القاضي عبد الوهاب" في "التلقين" و"أبو الوليد" في "المنتقى" وغيرهما، وبه قال الشافعية، إنه لا يجزئ إخراج القيم بدلاً عن الأعيان المنصوص عليها في الزكاة؛ لأن الزكاة عبادة وإذا أتي بالعبادة على غير الجهة المأمور بها فهي فاسدة، وقال بعض فقهائنا بالإجزاء، وبه قال الحنفية بناء على أن الزكاة حق للمساكين، فلا فرق بين العين والقيمة، وقال أصحاب القول الأول: "لنا أن نقول، وإن سلَّمنا أنه حق للمساكين، أن الشارع إنما علق الحق بالعين قصدًا منه لتشريك الفقراء مع الأغنياء في أعيان الأموال"، وقال القائلون بالإجزاء: "إنما خصت بالذكر أعيان الأموال تسهيلاً على أربابها, لأن كل ذي مال إنما يسهل عليه الإخراج من نوع المال الذي بين يديه". ¬

_ (¬1) العدد السادس عشر - الصادر في 16 شعبان الأكرم 1322.

ومشهور المذهب مقيد بما إذا لم يجبره المصدق على دفع القيمة وإلا أجزاه لأنه حاكم، وحكم الحاكم يرفع الخلاف، ونص المدونة ومن أجبره المصدق على أن أدى في صدقته ثمناً رجوت أن يجزئه إن كانت للحول وكانت وفاء لقيمة ما وجب عليه.

حكم الرجل يقول لزوجته أنت طالق ليلة القدر

حكم الرجل يقول لزوجته أنت طالق ليلة القدر (¬1) سؤال: ما حكم الرجل يقول لزوجته أنت طالق ليلة القدر؟ جواب: رأي بعض الأئمة أنها لا تطلق حتى تتم عاماً من يوم يمينه؛ لأنها تكون ليلة في العام ويحتمل أن تكون آخر ليلة من تلك السنة، ولا تطلق عليه لاحتمال أن تكون الليلة القابلة إذ لا يبطل يقين النكاح بشك الطلاق. وقال بعضهم "إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان طلقت"، لما ثبت من الآثار أنها في رمضان وبانقضاء ليلة تسع وعشرين تعين حصولها. ومذهب "مالك" أنها تطلق في الحال، وهكذا الحكم في كل طلاق عُلِّق على أجل آت لا محالة، وكان مما يبلغه عمر الزوجين عادة لأن الفرج لا يقبل تأقيت الوطء، ولذلك أبطل العلماء نكاح المتعة، وليس مبنياً على الطلاق بالشك كما توهمه بعض الفقهاء، فإن مالكاً لم يُطلِّق بشك قط، ولا يُرفع اليقين عنده بالشك أصلاً. * * * ¬

_ (¬1) العدد السادس عشر - الصادر في 16 شعبان الأكرم 1322.

الصوم بخبر السلك البرقي

الصوم بخبر السلك البرقي (¬1) سؤال: هل يجوز الصوم بخبر "التلغراف" أو "التلفون" إذا لم يكن لأهل بلد رؤية الهلال، وثبت في بلد آخر واستفدنا منهم ذلك على طريق "التلغراف" أو "التلفون"، أو كيف الحال نرجوا منكم الجواب أثابكم الله؟ جواب: سمعت أهل العلم يقرر وجوب العمل بأخبار "السلك البرقي" رعاية لعدم إخبار المستخدمين فيه بخلاف الواقع منذ حدث، وخالفه بعضهم مستنداً لفقد شروط عدل الشهادة شرعاً، ولا تثبت الأحكام إلا عند توفرها، فلو فرض أنك عاشرت إنساناً السنين المتطاولة، ولم تعثر له على كذب قط، لا يجوز لك العمل على مقتضى روايته، إذا لم تتوفر فيه شروط العدالة. ثم إن المباشر لاستخدام "السلك البرقي"، وإن كان هو في نفسه متحرياً للصدق ليس من شأنه البحث عن الذي أتاه بالخبر، هل هو الممضي باسمه ذلك الخبر أو غيره؟ فمن المحتمل أن يأتيه إنسان غير صادق بخبر ثبوت الشهر بعد أن يمضيه باسم غيره من الثقات، فإن السفهاء الذين يتجرؤون بالعبث ¬

_ (¬1) العدد السابع عشر - الصادر في غرة رمضان المعظم 1322.

في أمور الدين كثيرون، وعدم وقوع مثل هذا في الماضي لا يقتضي عدم وقوعه في المستقبل. وبالجملة فإنَّا لا نرى العمل بأخبار هذا "السلك البرقي"، إلا في صورة وهي أن تتفق مع رجل عَدْلٍ على أن يخبرك بثبوت الشهر عندهم، ويقع التوافق بينكما على وضع أمارة خفية يتضمنها ذلك الخبر، كأن تقول له: "إن ثبت عندكم الشهر فاكتب لي مع ذلك الخبر لفظة كذا"، أعني كلمة تعنيها له، فمثل هذا مما يفيد ظناً قوياً يجب العمل بمقتضاه، وأما "التلفون"، فإنه يدرك في صوت المخابر فيه نوع تغير يوجب ريبة في الخبر، فلو كان ذلك الخبر مصحوباً بكلام خاص بينك وبين مخاطبك العدل مثلما اشترطناه للعمل بالتلغراف، لزالت تلك الريبة ووجب العمل بمقتضى المخابرة فيه.

المستدرك من "السعادة العظمى"

المستدرك من "السعادة العظمى" (¬1) * استدراك (¬2): من مقاصد هاته المجلة -"السعادة العظمى"-: التعرُّضُ لما تتداوله الألسنة، وتتناقله الأقلام من الأحاديث الموضوعة. قال أبو بكر بنُ العربي: إن ناقلها عن غير ثقة من غير أن يبين وضعها، يشمله وعيدُ قوله - عليه الصلاة والسلام -: "من كذب عليَّ ... " الحديث، وما توفيقي إلا بالله. * التمدن (¬3): هذه اللفظة مأخوذة من "المدينة"، و"المدينة" اضطرب فيها صاحب "القاموس"؛ فجعلها مرة مِنْ "دان"، وعليه فتكون ميمُها زائدةً، ومرَّةً من ¬

_ (¬1) رجعنا إلى أعداد مجلة "السعادة العظمى" للإمام محمد الخضر حسين، فوجدنا بعض البحوث والتعاليق للإمام لم تَرِد في الكتاب الذي طبعناه بتاريخ سنة (1392 هـ - 1973 م)؛ لذا استدركنا ذلك في هذه "الموسوعة الكاملة" لأعمال الإِمام - رضوان الله عليه -. (¬2) العدد الأول - الصادر في 16 محرم 1322 هـ. (¬3) العدد الرابع - الصادر في 16 صفر 1322 هـ.

وفاء ذمة

"مَدَن" بمعنى: أقام، فتكون ميمُها أصليةً، وهو الصحيح؛ إذ لو كانت الميم زائدة، لم يجز جمعُها على "مُدُن". وأما معناها، فقد شاع استعمالها في استجماع كلِّ ما يلزمُ لأهل المدينة من اللوازم البدنية؛ من الملابس والمراكب والمآكل، والعقلية، وهي المعارف، وقد يخطئ بعض المنتمين إلى هذا القبيل، فيخرجون بتلك اللوازم عن حدِّ الاعتدال، بل ربما فهموا من هذه اللفظة غير المراد منها، وحاولوا التلبس بشعارها، فيفضي بهم سوء الفهم إلى المتقدم، ولكن في الهمجية لا المدنية، وسنزيد هذا المطلب بسطة في بعض المقالات الافتتاحية. * وفاء ذمة (¬1): قد كُنَّا عزمنا أنْ نصدِرَ هاته المجلةَ في غُرَّة محرم، حتى لا تكون سَنتُها بتراءَ، ولكنَّ بُطْءَ المقدمات الأولية لإصدارها، قضى علينا أن لا نصدر العدد الأول إلا في نصف محرم، مع بذل كل حَزْم؛ فأصدرنا ذلك العدد، واعتبرناه عددين، ونحن ننوي قضاء ذلك العدد المعتبر، وكنا نرصُد الفُرصَةَ لذلك، حتى تكرَّرَ علينا من بعض المشتركين الكرام، الاشتراطُ بأنهم لا يعتبرون السَّنة إلا من نصف محرم إلى نصف محرم 1323 هـ؛ اعتبار لوقت صدور المجلة، وهو الحق؛ إلا أن هذا يشوِّشُ نظامَنا، ويجعلُ سَنةَ مجلتنا كالسَّنة المنسأة؛ ولذلك بادرْنا إلى قضاء ما في ذمتنا من صحائفِ العدد الأول، بإصدار أربعِ ورقاتٍ منها في العدد الرابع، وأخرى في الذي يليه، وبهذا تكون السنة منتهية إلى حيث أنهاها الله. ¬

_ (¬1) العدد الرابع - الصادر في 16 صفر 1322 هـ.

تعليق

* تعليق (¬1): أيها الصديق الأعز! إن الشعر هو الكلام الموزون بحسب الحالة التي يورده المتكلم عليها، وجنابُكم خبيرٌ بأنَ النونَ في الآية مفتوحةٌ، وهكذا نقرؤها، شأن كلِّ نونٍ وقعت إثْرَ واو الجمع، وتغييره بالسكون إنما هو أمرٌ عارِضٌ من أجلِ الوقف. والأحوالُ العارضة في بعض الأحيان لا ينبني عليها حكمٌ مستمر؛ كالوصف بالشعرية. وهذا بخلاف البيت المستشهَد به، فإنه موزون بحسب الحال التي ورد عليها أولاً؛ لأن الشاعر نفسَه سكّن نونه لإقامة الوزن، ولو تلفظ بها محركة، لم يكن من الشعر في شيء، وإنْ سَكَّناها نحن في حال الوقف. وتحرير مقصدنا: أن المعتبر في الحكم على التركيب بأنه شعر، إنما هو الحالة الأصلية، وهي ما ينسج عليه المتكلم هيئة كلامه. ¬

_ (¬1) العدد الخامس - الصادر في غرة ربيع الأنور 1322 هـ. * تعليق الإِمام محمد الخضر حسين على مقال العلامة المحقق الشيخ محمد النخلي أحد أعيان المدرسين بالجامع الأعظم الذي قال فيه: "أما ما ورد من الآي الكريم مما جاء على الأوزان الشعرية، فقد قام بتحرير جوابها صاحب هاته المجلة الغراء مستوفي البيان. ولكن الجواب بالقصد الأول لا محيص عنه في بعض الآيات؛ كقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]؛ فإنه موزون، ولو بزيادة النون؛ إذ هو من مجزوء الرمَل المسبغ الضرب، وبيته: يا (خَليليَّ اربَعَا واستَخْبِرا رَبْعاً بعُسْفانْ) وهذا الموضوع الذي وفقنا الله لخوض عُبابه يتشعب إلى أغراض كثيرة لا نضيع البحث عنها كما سنحت فرصة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".

وفاة عالم جليل

* وفاة عالم جليل (¬1): ليلة التاسع والعشرين من ربيع الثاني، استلمت يدُ المنية روحَ العلامة المحقق الأستاذ الشيخ سيدي مصطفى رضوان (¬2)، فتفَطَّرت لوفاته الأكباد تأسُّفاً، وتصدَّعت لها الأحشاء حسرة وانفعالاً. والفقيد -تغمده الله برضاه- تضلع من العلوم الدينية، وبراءة فائقة في الفنون الأدبية، وخبرة تامة بالعلوم الرياضية. وله نثرٌ فصيح، ونظمٌ بليغ، وخطٌّ جيد. وكان -رحمه الله- متجملاً بالسكينة الممزوجة بالتواضع وعلوِّ النفْس، لا تمنعه رفعةُ مكانته في العلم من الانبساط لمحاورة جلسائه، ولا يصدُّه قربُ الصلة عن الوقوف مع الحقوق التي تُناط بعُهدته. أما دروسُه، فكانت مفيدة جداً، يقررها بعبارات عربية حسنة السبك، في صوت لا يَجهر به ولا يُخافت، واسترسالٍ لا تتخلله فتراتٌ إلا وقت المباحثة، وعليها من التوادّة طلاوةٌ تعين الفهم على الثبات والرسوخ، ولا يُعَرِّج فيها على المناقشات اللفظية، أو ينتقل من موضوع إلى آخر بدعوى المناسبة، وإن فعله بعض الكاتبين. لازمتُ الحضورَ بدرسه "جمع الجوامع" بشرح الجلال المحلي من بدايته إلى نهايته في مدة تناهز ثلاثين شهراً، وما رأيته يفيض الكلام إلا في المباحث المهمة. خلّف نجلين فاضلين: أحدهما: من نخبة المدرسيّن بالجامع الأعظم، والثاني: من أعيان المتطوعين به. ¬

_ (¬1) العدد العاشر - الصادر في 16 جمادى الأولى 1322 هـ. (¬2) من كبار شيوخ الإِمام محمد الخضر حسين في جامع الزيتونة.

إحياء سنة

أما آثاره الفكرية، فإنما هو عِلْمٌ بثّه في صدور الرجال. واجهه الله بالرضوان، وعوّض المسلمين منه خيراً. * إحياء سنّة (¬1): كنا كتبنا جملاً في شأن الخطبة الثانية من يوم الجمعة، وبينّا صراحة أن الأفيد للأمة، والأقربَ من السنّة، عدمُ التزام الخطيب خطبة واحدة يعيدها في كل جمعة؛ فإن الخطب لم تشرع للتعبد المحض. وقد لمعت بوارق هذه السنّة المحمدية، وعسى أن يتنفس صُبْحُها على جميع المنابر. شهدنا صلاة الجمعة الماضية في بعض الجوامع، فأسمعنا خطيبه من الخطبة الثانية مواعظ بالغة، زيادة عَمَّا تعودنا سماعَه في كل جمعة، فنشكر لهذا الخطيب صنعه، ونحمد الله على إحياء هذه السنّة. ¬

_ (¬1) العدد الحادي والعشرون - الصادر في غزة ذي القعدة 1322 هـ.

25 - المغني عن الحفظ والكتاب

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (25) «المُغْنِي عَنِ الحِفْظِ وَالكِتَابِ» للْإِمَام الْحَافِظ ضِيَاء الدّين أبي حَفْص عمر بن بدر بن سعيد الْمُصَلِّي الْحَنَفِيّ الْمَوْلُود بالموصل سنة 557 هـ والمتوفى بِدِمَشْق سنة 622 هـ رَحمَه الله تَعَالَى للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

مقدمة الكتاب

مقدمة الكتاب بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طبع الكتاب "المغني عن الحفظ والكتاب" عام 1342 هـ في القاهرة، وكتب الإِمام محمد الخضر حسين - رضوان الله عليه - مقدمة له مع تعليقات هامة، نقلاً عن النسخة المخطوطة في "الخزانة التيمورية" رقم 286 حديث، مع المعارضة بنسخة "دار الكتب المصرية". وجاء في مقدمة الطبعة الأولى ما نصه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وبعد: فإن مجلس إدارة جمعية (نشر الكتب العربية) بالقاهرة قررت في جلستها المنعقدة مساء الاثنين 29 جمادى الثانية عام 1342 هـ نشر هذه الرسالة، وناط بأحد أعضائه حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد الخضر التونسي التعليق عليها، وكتابة مقدمة لها، فقام بذلك على الوجه الذي يراه القاري في هذا الكتاب، والله يتولى النفع به، وهو الموفق لما فيه الخير والصلاح - القاهرة 15 ذي القعدة 1342". ولما كانت العزيمة قد انصرفت -بعون الله تعالى- إلى إعادة طبع كافة آثار الإِمام من مؤلفات خاصة به، أو شروحات، أو تعليقات له على بعض المصنفات، لذا أعددت وضبطت هذه الرسالة، واستخرجت أسماء السور القرآنية الكريمة، وأرقام الآيات، وأضفتها في الحواشي.

* ترجمة المصنف: قال الإِمام المحدث أبو محمد عبد القادر القرشي في "الجواهر المضية في طبقات الحنفية": عمر بن بدر بن سعيد بن محمد بن تنكير الموصلي ضياء الدين أبو حفص. قال الحافظ جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن أحمد بن أحمد ابن محمد بن أحمد الدمشقي: ولد شيخنا الإِمام العالم الفقيه الحافظ ضياء الدين أبو حفص عمر بن بدر في جمادى الآخرة من سنة سبع وخمسين وخمس مئة، وتوفي ليلة الجمعة الثامن والعشرين من رمضان سنة اثنتين وعشرين وست مئة بدمشق بالبيمارستان النوري. وله عدة مصنفات في علوم الحديث وغيره. وسمعت عليه "جزء" الحسن بن عرفة، واجتمعت معه بالموصل، وفي دمشق. وكان حسن السمت، طيب المحاضرة، مشتغلاً بما هو تصنيف أو تأليف أو عبادة حتى مضى لسبيله. كذا وجدته بخط الإِمام أمين الدين أبي محمد عبد القادر بن محمد بن أبي الحسن الصبغي. سمع منه الحافظ رشيد الدين بن العطار، قال: لقيته بالبيت المقدس، وكان يتولى التدريس في مدرسة هناك للحنفية. وذكر لي أنه صنف في علم الحديث كتباً منها: "العقيدة الصحيحة في الموضوعات الصريحة"، و"استنباط المعين من العلل والتاريخ لابن معين"، وغير ذلك. أخبرني شيخنا أبو إسحاق إبراهيم بن الظاهري وغيره عن الحافظ رشيد الدين، عنه. * وقال صاحب "كشف الظنون": إن مصنف هذا الكتاب هو ضياء الدين عمر بن بدر أبي بكر الموصلي المتوفى سنة ثلاث وعشرين وست مئة.

* وقال صاحب "شذرات الذهب في أخبار من ذهب": وفي سنة 623 توفي عمر بن بدر الموصلي الحنفي ضياء الدين. حدث عن ابن كليب وجماعة. وتوفي في دمشق في شوالها عن بضع وستين سنة. * وقال الزركلي في "الأعلام": (577 - 622 هـ = 1162 - 1225 م) عمر بن بدر بن سعيد الوراني الموصلي الحنفي، ضياء الدين، أبو حفص: عالم بالحديث، مولده بالموصل، ووفاته بدمشق، له كتب منها: "المغني عن الحفظ والكتاب بقولهم: لم يصح شيء في هذا الباب"، و"العقيدة الصحيحة في الموضوعات الصريحة"، و"معرفة الموقوف على الموقوف" في الحديث، و"استنباط المعين في العلل والتاريخ لابن معين"، و"الجمع بين الصحيحين". والله أدعو أن يتقبل أعمالنا خالصة في خدمة الإِسلام علي الرّضا الحسيني

مقدمة الإمام محمد الخضر حسين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين إن في القرآن لآية كبرى، ومعجزة خالدة. وهو المَطْلَعُ الذي تتجلّى فيه روح الشريعة بأكمل معنى، وتستقر فيه حقائقها بأبدع نظام. وهذه المزايا السامية تقتضي من حكمة الذي أوحى به أن حفّه بعنايته، وضرب عليه بسور من حفظه، حتى لا يجد الزنادقة وأصحاب الأهواء والمتخبطون في ليل الجهالة منفذاً لأن يسوموا أصول الشريعة بتحريف، أو يمسوها بما يثير شبهة، أو يجر إلى ريبة، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. ولم يجد السفهاء من الناس طريقاً يمكنهم من طعن الإسلام في لبه، فمدوا أيديهم إلى الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يختلقون مزاعم سخيفة، ويلفقون صوراً من الباطل، ووضعوها بجانب حقائق الدين؛ فكانت هذه الأحاديث الموضوعة كالأقذاء، تتهافت حول الزجاجة الغراء. تسرب الوضع في الأحاديث النبوية من وجوه شتى، وصدر عن أغراض مختلفة. ومن هذه الوجوه: أن في أعداء الإسلام من أدركوا أنه شريعة محكمة، ودين قيم، ولم يجدوا في مبادئه وتعاليمه ما تتجافى عنه الفطرة السليمة، أو ينبو عنه النظر الصحيح. وكانوا قد خرجوا في زي المسلمين، واندمجوا في جماعتهم، فصنعوا أحاديث يناقضها المحسوس، أو يصادمها المعقول، أو تشهد أذواق الحكماء بسخافتها، وإنما ينصبون بذلك المكيدة لضعفاء الأحلام

حتى يقعوا في ريبة، وتتزلزل من نفوسهم عقيدة أن الإسلام تنزيل من حكيم حميد. ومن هؤلاء الزنادقة: المغيرة بن سعيد الكوفي، ومحمد بن سعيد الشامي، ومن موضوعاته حديث: "أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا إن يشاء الله". وقد يضع بعض الزنادقة أحاديث؛ ليأخذوا بها الناس إلى العمل على شاكلتهم؛ كحديث: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر، لنفعه". فقد قال ابن القيّم: هو من كلام عبّاد الأصنام الذين يحسنون ظنهم بالأحجار. وقال ملّا علي قاري في آخر "الموضوعات": إنه من وضع المشركين عبّاد الأوثان. وفي المسلمين من خفَّ وزنهم، وكانوا قد اتخذوا رأياً في العقائد، أو قرروا مذهباً في الأحكام، فطاشت بهم الأهواء، وفرطُ التعصب إلى أن يشدوا أزر دعاويهم بأحاديث يسندونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليدمغوا حجج خصومهم، ويكثروا سواد أشياعهم. ومن هؤلاء من شرح الله صدره للتوبة، وأقر على نفسه بارتكاب جريمة الوضع، كما قال أحد شيوخ الخوارج إذ أخذه الندم على ما فرط في جانب الأمانة في العلم: "إن هذه الأحاديث دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم؛ فإنَّا كنا إذا هَوِينا أمراً، صيرناه حديثاً". ومن أسباب وضع الحديث: الحرص على التقرب من ذوي الرياسة؛ مثلما صنع غياث بن إبراهيم حين رأى المهدي معجباً بالحَمام، فروى له حديث: "لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل"، وزاد فيه: "أو جناح"، فأدرك المهدي كذبه، وسقطت منزلته من عينه، وأمر بذبح الحَمام. ومنها: الغلو في حب؛ كالأحاديث الموضوعة في فضل الإمام علي، أو معاوية، أو أبي حنيفة، أو الشافعي. ومن هذا القبيل: الأحاديث الموضوعة

في فضل بعض البلاد؛ كالأحاديث الموضوعة في فضل مصر، أو فاس، أو عسقلان. وربما كان الباعث عليها: ثائرة حسد أو بغض؛ كالأحاديث المصطنعة في ذم الترك والحبشة، والإمامين أبي حنيفة والشافعي، ومن هذا: الحديث الذي رواه مأمون بن أحمد المروزي في ذم الإمام الشافعي حين قيل له: ألا ترى إلى الشافعي وإلى من تبعه بخراسان؟!. ووضع سعد بن طريف حديث: "معلمو صبيانكم شراركم" حين رأى ابنه يبكي، وقال له: ضربني المعلم. وقد تجرأ على وضع الأحاديث أناس يبتغون شهرة، أو يلتمسون دنيا، فيتبوؤون في المساجد أو الأسواق مقاعد الوعاظ، ويملؤون آذان العامة بأحاديث يفترونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كانت أدمغتهم من الأحاديث الثابتة فارغة. ومن أسخف الدواعي إلى الوضع: أن يقصد الواضع للحديث ترويج ما يتعاطاه من بعض المصنوعات؛ كحديث: "أتيت بهريسة فأكلتها، فزادت في قوتي أربعين ... إلخ "؛ فقد وضعه محمد بن الحجام اللخمي، وكان صاحب هريسة، وغالب طرق الحديث يدور عليه، ثم سرقه منه كذابون آخرون. وقد يضع الحديث بعض الأغبياء؛ للحث على خير، أو الردع عن شر، بزعم أن هذا النوع من الوضع لا يدخل في الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو كذب له، لا عليه؛ كما وضع أبو عصمة المروزي أحاديث في فضائل السُّورَ، وقال: إني رأيت الناس أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق عن القرآن، فوضعت هذه الأحاديث حسبة. وقال عبد الله النهاوندي:

قلت لغلام خليل: "هذه الأحاديث التي تحدث بها من الرقائق"، فقال: "وضعناها لنرقق بها قلوب العامة". قال ابن الجوزي: غلام خليل كان يتزهد، ويهجر شهوات الدنيا، ويتقوت الباقلاء صرفاً، وغلقت أسواق بغداد يوم موته. وقد حسَّنَ له الشيطان هذا الفعل القبيح. وليس قصد هؤلاء لحمل الناس على عمل الخير بعذر يزحزحهم عن وعيد الكذب على صاحب الشريعة؛ فإن معنى "من كذب عليَّ متعمداً ... إلخ ": من نسب إليّ ما لم أقله، كان منزله يوم القيامة في النار. وقد استجاز قوم وضع الأسانيد لكل كلام حسن، ورفعه إلى النبي - عليه الصلاة والسلام -. وكان محمد بن سعيد يقول: لا بأس إذا كان كلام حسن أن تضع له إسناداً. وفي الكتاب العزيز والسنة الصحيحة ما يكفي لتذكير الغافلين، وإرشاد الضالين، ولاسيما إذا تولى بيانه ذو فهم منتج، وأسلوب حكيم. وقد يجيء وضع الحديث من قلة تَثَبُّتِ الراوي؛ كما وقع لثابت ابن موسى الزاهد، إذ دخل على شريك بن عبد الله القاضي، والمستملي بين يديه، وشريك يقول: حدثنا الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر متن الحديث -، فلما نظر إلى ثابت، قال: من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار، وإنما أراد بذلك ثابت بن موسى؛ لزهده وورعه، فظن ثابت بن موسى أنه روى الحديث مرفوعاً بهذا الإسناد، فكان ثابت يحدِّث به عن شريك عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر. قال صاحب "جامع الأصول" وليس لهذا الحديث أصل إلا من هذا الوجه. وقد يقع في وضع الحديث من لا يقصد إلى الكذب، وإنما تضيع كتبه،

أو تحترق، فيرجع إلى حفظه، فيخونه، ويحدّث عن غلط في الرواية. ومن هؤلاء: عبد الله بن لهيعة الحضرمي؛ فقد تلفت كتبه بمصر، ورجع إلى حفظه، فتخبط في خلط، وحدّث بالمناكير. رأى - عليه الصلاة والسلام - ما في جناية الكذب عليه من سوء الأثر، وعظم الخطر، فقال: "من كذب عليَّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار". وقد بلغ هذا الحديث من حيث المعنى مبلغ التواتر، وكادت استفاضته على ألسنة الموثوق بروايتهم تنتهي به إلى درجة المتواتر بلفظه. أخرجه الشيخان، والترمذي، والنسائي، والحاكم، وغيرهم. وقال السيوطي: روى هذا الحديث أكثر من مئة من الصحابة. ونقل ابن الجوزي عن أبي بكر محمد بن عبد الوهاب الإسفرائيني: أنه ليس في الدنيا حديث اجتمع عليه العشرة المشهود لهم بالجنة غير حديث: "من كذب عليَّ ... إلخ". ولهذا الحديث، وما فيه من الوعيد البالغ والإنذار الرائع، كان بعض الصحابة - رضي الله عنه - يقلل من رواية الحديث عن النبي - عليه الصلاة السلام -؛ ففي الصحيح عن أنس: أنه قال: ليمنعني أن أحدثكم حديثاً كثيراً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تعمد عليَّ كذباً، فليتبوأ مقعده من النار". وفي "البخاري"، وغيره عن عبد الله بن الزبير، قال: قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدِّث عن رسول الله كما يحدِّث فلان وفلان. قال: أما إني لم أفارقه منذ أسلمت، ولكني سمعته يقول: "من كذب عليّ، فليتبوأ مقعده من النار"، زاد الدارقطني: والله! ما قال: "متعمداً"، وإنكم تقولون: متعمداً. ولخطر الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وضرره الذي يمس حكمة الدين، أو يقلب بعض حقائقه، كان بعض الخلفاء الراشدين يتحرزون في الأخذ بالحديث،

فلا يقبلون رواية الواحد، ويطالبون من يروي لهم حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإقامة بينة. فقد جاء في "الصحيحين ": أن عمر بن الخطاب قال لأبي موسى الأشعري حين روى له حديث الاستئذان: لتأتيني على هذا بالبينة، فقام أبو سعيد الخدري، فشهد معه، فقال عمر لأبي موسى: إني لم أتهمك، ولكن الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى الحاكم: أن أبا بكر الصديق زكاته قال للمغيرة حين روى حديث إعطاء الجدة السدس: ومن سمع ذلك معك؟ فشهد محمد بن سلمة. والعبرة في هاتين القصتين: أن أبا بكر، وعمر طلبا البينة من رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرفاهما بكمال التقوى والأمانة، حتى إذا عرف الناس أن خبر الواحد لا يقبل بغير بينة، لم يتجاسر المنافقون وأصحاب الأهواء الذين يستعيرون سمات المتقين على أن يحدّثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يقيموا على ذلك بينة عادلة. اختلف أهل العلم في حكم الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذهب الجمهور إلى أنه معصية كبرى. وقال أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين: إن من تعمد الكذب على رسول الله يكفر كفراً يخرجه عن الملة. وتبعه في هذه الفتوى طائفة، منهم: ناصر الدين بن المنير من أئمة المالكية. ومن أدلة هؤلاء: أن الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذب على الله؛ فإنه ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 144]، وقال: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] والمراد: افتراء الكذب على الله ورسوله، لا مطلق الكذب؛ فإن الكذب؛ على غيرهما لا يبلغ أن يخرج بصاحبه من دائرة الإيمان،

ولا يصح قصره على الذين لا يؤمنون بآيات الله. وممن نص على الخلاف في تكفير من كذب على الله: الإمام ابن عرفة في "تفسيره"؛ إذ قال عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103]: إن من كذب على الله مستحلاً، فهو كافر بإجماع، وكذلك من كذب فيما هو معلوم من الدين ضرورة. وإن كان غير مستحل، فهو محل الخلاف. وقد صدرت من علماء الشريعة مقالات في تشديد العقوبة على من يختلق الأحاديث، فقال ابن عيينة في معلى بن هلال لما روي له عنه حديث موضوع: إن كان معلى يحدث بهذا الحديث عن أبي نجيح، فما أحوجه أن يضرب عليه. وسئل الإمام البخاري عن حديث موضوع، فكتب على ظهر كتاب السائل: من حدّث بهذا، استوجب له الضرب الشديد، والحبس الطويل. وقال يحيى بن معين في سويد الأنباري الواضع لحديث: "من عشق وعف وكتم": هو حلال الدم. وقال: لو كان لي فرس ورمح، غزوت سويداً. وقد بذل علماء الحديث مجهودهم في نقد الأحاديث، وتمييز طيبها من خبيثها، ففتحوا باب الجرح في الرواة على مصراعيه، ولم يخشوا أن يكون ذلك من باب الغيبة والطعن في الأعراض. قيل ليحيى بن سعيد القطان: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماء لك عند الله تعالى؟ فقال: لأن يكون هؤلاء خصمائي أحبُّ إليَّ من أن يكون النبي - عليه السلام - خصمي، يقول: لِمَ لم تذبَّ الكذب عن حديثي. وكان سفيان الثوري يقول: فلان ضعيف، وفلان لا تأخذوا عنه، وكان لا يرى ذلك غيبة. وسئل مالك، وسعد، وابن عيينة عن الرجل لا يكون بذاك

في الحديث، فقالوا جميعاً: بيّن أمره. وقيل لشعبة: هذا الذي تكلم في الناس، أليس هو غيبة؟ فقال: يا أحمق! هذا دين، وتركه محاباة. وقال محمد بن بندار الجرجاني لأحمد بن حنبل: إنه ليشتد عليَّ أن أقول: فلان ضعيف، وفلان كذَّاب، فقال أحمد: إذا سَكتَّ أنت، فمتى يعرف الجاهلُ الصحيحَ من السقيم؟!. قال ابن الجوزي: والوضّاعون كثيرون، ومن كبارهم: وهب بن وهب القاضي، ومحمد بن السائب الكلبي، ومحمد بن سعيد الشامي المصلوب، وأبو داود النخعي، وإسحاق بن نجيح الملطي، وعباس بن إبراهيم النخعي، والمغيرة بن شعبة الكوفي، وأحمد بن عبد الله الجويباري، ومأمون بن أبي أحمد الهروي، ومحمد بن عكاشة الكرماني، ومحمد بن القاسم الطايكاني، ومحمد بن زياد اليشكري. وقال النسائي: الوضّاعون المعروفون بوضع الحديث أربعة: ابن يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بخراسان، ومحمد بن سعيد المصلوب بالشام. لم يقف العلماء عند نقد الحديث من حيث سنده، بل تعدوا إلى النظر في متنه، فقضوا على كثير من الأحاديث بالوضع، وإن كان سندها سالماً؛ إذ وجدوا في متونها عللاً تقضي بعدم قبولها. ومن هذه العلل: مخالفة الحديث لصريح القرآن؛ كحديث مقدار الدنيا، وأنها سبعة آلاف سنة؛ فإنه لا يثبت أمام قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ} [الأعراف: 187]. وحديث: ولد الزنا لا يدخل الجنة؛ فإنه باطل، ومن وجوه الحكم عليه بالبطلان:

معارضته بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 164]، ويدخل في هذا السبيل حديث: "لم يبعث الله نبيّاً إلا وهو غريب في قومه"؛ فإنه مخالف لقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح: 1]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65]، وقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73]. ومن الوجوه القاضية بوضع الحديث: مناقضته للسنّة الصريحة المسلَّمة؛ كالأحاديث التي تروى في فضل من اسمه أحمد، أو محمد، أو كل من يسمى بأحد هذين الاسمين لا يدخل النار. فوجه القضاء عليها بالوضع: أنها جاءت على خلاف ما هو معروف في الدين من أن النار إنما يجار منها بالأعمال الصالحة، لا بالأسماء والألقاب. ومنها: مخالفة للمحسوس؛ كحديث: "الباذنجان شفاء من كل داء"، فهو باطل بحجة أن المشاهدة تقضي بأن كثيراً من الأمراض يزيدها الباذنجان شدة. ومنها: اشتماله على بعض المجازفات التي يرتفع عنها كلام النبوة؛ كحديث: "من قال: لا إله إلا الله، خلق الله من تلك الكلمة طائراً له سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة يستغفرون الله له". ومنها: سماجة الحديث، وكونه مما يسخر منه؛ كحديث: "لا تسبوا الديك؛ فإنه صديقي "، وحديث: "الديك الأبيض الأفرق حبيبي، وحبيب حبيبي جبريل،، وحديث: "لو كان الأرز رجلاً، لكان حليماً". ومنها: تضمنه خبراً يشهد التاريخ الصحيح ببطلانه؛ كحديث وضع الجزية عن أهل خيبر الذي قرنه واضعه بشهادة سعد بن معاذ. فمن وجوه تفنيد هذا الحديث: أن سعداً توفي في غزوة الخندق، وكانت قبل فتح خيبر،

ثم إن الجزية لم تشرع لعهد خيبر، ولم تكن معروفة للصحابة، ولا للعرب، وإنما نزلت بعد عام تبوك. ومن أمثلة هذا: حديث: "اتقوا البردة فإنه قتل أخاكم أبا الدرداء"، فهذا حديث لا أصل له. ومن أدلة وضعه: أن أبا الدرداء عاش بعد النبي - عليه الصلاة والسلام - زمناً غير قريب. ومنها: تضمنه أمراً شأنه أن تتوفر الدواعي إلى نقله، ويصرح الحديث نفسه بأنها وقعت في مشهد عظيم من الصحابة، ثم لا يشتهر، ولا يرويه إلا واحد. وقد ضرب المحدثون من أمثلة هذا النوع رواية بعض الطوائف: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى الخلافة علياً - رضي الله عنه - في غدير خم حين رجوعه من حجة الوداع بحضرة جم غفير أزيد من مئة ألف. وساق بعض المحدثين من أمثلة هذا أيضاً: حديث رد الشمس لعلي - عليه السلام -؛ فقد ذكر في روايته أن الواقعة كانت مشهودة للناس، مع أنه لم يشتهر حديثها، ولم تعز روايته إلا لأم سلمة. ومنها: مجيئه على خلاف مقتضى الحكمة المتفق عليها بين ذوي العقول السليمة؛ كحديث: "جور الترك ولا عدل العرب"؛ فإن الجور مذموم على الإطلاق، كما أن العدل محمود في كل حال. ومنها: ادعاء أحد رواته أنه أدرك من العمر فوق ما جرت به سنّة الله في الخليقة حتى لقي من تقدمه بزمن بعيد، وتلقى عنه؛ كالأحاديث التي رواها الرتن الهندي مدعياًا لصحبة، ولقاء النبي - عليه الصلاة والسلام -، وهو لم يظهر إلا بعد ست مئة سنة من الهجرة. ومن هذه الشاكلة ما يزعمه المتصوفة الملقبون بالقلندرية من صحبة عبد الله الملقب بعلم بردار، ويدعون

بقاءه إلى قريب من المئة السادسة بعد الهجرة، وإليه ينسبون خرقتهم، وصنعوا في ذلك إسناداً متصلاً. ولا ينبغي الاستناد في العمل بالحديث -الذي لم يثبت علماً ورواية- إلى الرؤيا التي يفهم منها جواز العمل به؛ كما حكي عن نور الدين الخراساني: أنه كان عندما يسمع الأذان يقبَّل إبهامي يديه، ويمسح بظفريه أجفان عينيه عند كل تشهد، ولما سئل عن ذلك، قال: كنت أفعله من غير رواية حديث، ثم تركته، فرأيته - صلى الله عليه وسلم - مناماً، وأمرني بالعودِ إلى المسحِ. ويلحق بهذا القبيل: الأحاديث التي يقضي عليها الحفاظ بالوضع، ويقول بعض المتصوفة: إنها ثبتت من طريق الكشف؛ إذ من المتفق عليه بين الراسخين في علم الشريعة: أن الرؤيا والكشف لا تتقرر بهما حقيقة شرعية، وإضافة شيء إلى الدين بالاستناد إلى واحد منهما، دون أن يقوم له شاهد من الكتاب أو السنّة الثابتة بالطرق العلمية المعروفة، لا يخرج عن أن يكون ابتداعاً في الدين، وفتحاً لباب من أبواب المزاعم الباطلة، والمظاهر المنكرة. نشأ عن وضع الأحاديث آثار سيئة بين العامة، ومن هذه الآثار: دخول فساد في العقيدة، وقد وقع هذا الفساد على نوعين: أحدهما: أحاديث جمد عليها بعض الأغبياء، فبعدت بهم عن التوحيد الخالص؛ كحديث: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر، لنفعه"؛ فإنه مما استدرج كثيراً من العامة إلى أن نفضوا قلوبهم من الثقة بالله وحده، وصرفوا وجوههم يرجون النفع أو دفع الضرر بطريق المدد الخفي من بعض المخلوقات، حتى علقوا رجاءهم ببعض الأشجار أو الأحجار أو الفجّار. ثانيهما: الأحاديث المصنوعة في قالب السخافة، أو النافرة عن وجه

الحكمة، فقد حسبها بعض الجاهلين بالشريعة أنها من جملة أقوالها المأخوذة عنها، فتزلزلت عقائدهم، وضلوا عن سبيل هدايتهم، وكثيراً ما نسمع من بعض المبتلين بسوء العقيدة أحاديث موضوعة يتجشؤون بها في المجلس باعتقاد أنها من أقوال صاحب الشريعة، ويقصدون من ذلك التوسل إلى الطعن في الدين، أو إقامة العذر في انصرافهم عنه. ومن تلك الآثار: تكثير سواد البدع والمحدثات؛ كحديث لبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية. وفي بعض الروايات الباطلة: أن أبا محذورة أنشد بين يدي النبي - عليه السلام - بيتين، فتواجد حتى وقعت البردة الشريفة عن كتفيه، فتقاسمها أصحاب الصفة، وجعلوها رقعاً في ثيابهم. وهذا كله كذب، لا خلاف فيه بين أهل العلم بالحديث. ومما مهد به العاملون على إلصاق البدع بالدين، واتخذوه في وسائل إقبال الناس عليها: أن وضعوا حديث: "كل بدعة ضلالة، إلا بدعة في عبادة". ومن تلك الآثار: التهاون بالأعمال الصالحة، وقلة المبالاة بارتكاب المآثم؛ كحديث: "سفهاء مكة حشو الجنة"، وحديث: "الكريم حبيب الله، وإن كان فاسقاً"؛ فإن أمثال هذين الحديثين مما يغتر به بعض العامة، ويجعلهم لا يبالون أن يرتكبوا الفواحش، أو يستخفوا بالفرائض متى كانوا من سكان البلد الحرام، أو كانت أيديهم تجود بشيء من مال الله الذي آتاهم. ومن مفاسد الكذب على الرسول - عليه الصلاة والسلام -: تعطيل الناس عن العمل النافع؛ كحديث: "من أحب حبيبتيه أو كريمتيه، فلا يكتبن بعد العصر". وليس لهذا الحديث أصل في المرفوع، وإنما هو من كلام بعض من يدّعي الطب؛ كما نبه عليه ملّا علي قاري في "موضوعاته". ومن هذا

القبيل حديث: "من قضى صلاة من الفرائض في آخر جمعة من شهر رمضان، كان ذلك جابراً لكل صلاة فاتته في عمره إلى سبعين سنة". فأمثال هذا الحديث الباطل مما يجعل العامة تستخف بحق الصلوات المفروضة سائر أيام السنة باعتقاد أن صلاة واحدة في آخر جمعة من رمضان تغني غناءها، وتسقط العقوبة عن تاركها. وقد كان وضع حديث: "إن من قطع صلاة الضحى بتركها أحياناً يعمى" سبباً لترك كثير من الناس لصلاة الضحى، وبدا لهم أن يتركوها جملة؛ مخافة أن يتهانوا بها بعض الأوقات، فتعمى أبصارهم. قال ملّا علي قاري: ومن هنا ترك النساء صلاة الضحى ونحوها؛ لعلمهن بأنهن سيقطعنها بحدوث الحيض فيهن. محمّد الخضر حسين

تنبيه على اصطلاح للمصنف

تنبيه على اصطلاح للمصنف من الأحاديث الموضوعة ما يقطع بوضعه؛ كالأحاديث المعارضة للكتاب، أو السّنة الصريحة، أو التي يشهد العقل أو الحس بكذبها، أو يعترف راويه نفسه بأنه افتراه على الله كذباً. ومنها: ما لم يقطع بوضعه؛ كالحديث الذي يوجد في سنده من عرف بالكذب، ولم يوجد في متنه علة تقضي عليه بالوضع. ومن أهل الحديث من يطلق الموضوع على القسم الأول، ويعبر في جانب القسم الثاني بنحو: "لم يصح"، أو: لم يثبت. قال الزركشي: بين قولنا: "لم يصح"، وقولنا: "موضوع" بون بيِّن؛ فإن الوضع إثبات الكذب، وقولنا: لم يصح إنما هو إخبار عن عدم الثبوت، ولا يلزم منه إثبات العدم. والظاهر من صنيع المصنف: أنه في هذا الكتاب يريد من قوله: "لا يصح"، أو "لا يثبت": معنى الموضوع الذي يقابل الصحيح والحسن والضعيف؛ بدليل عدّه هذا الكتاب من قبيل ما صنفه في الموضوعات، كما صرح بذلك في خطبته. وأكثر الأبواب يعبر فيها بنفي الصحة أو الثبوت. ولكنه ذهب في بعض الأحاديث إلى عدم الصحة أو الثبوت، وقد تكون بحسب علم دراية الحديث من نوع الحسن أو الضعيف. وسننبه على هذا في التعليق. والله الهادي إلى أقوم طريق.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي لا أمَدَ لِمَداه، ولا غاية لمنتهاه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا إله سواه. وأن محمداً عبده ورسوله أرسله إلى الكافة، فكفهم عن الكفر وأكُفَّهم كفاه. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن وافقه على مقصده ومغزاه، صلاة دائمة إلى يوم يلقاه. وسلمَ تسليماً كثيراً. وبعد: فإني صنفت في الموضوعات مصنفاتٍ لم أُسبق إليها، ولا دللت عليها. ومن أبدعها هذا الكتاب، المغني عن الحفظ والكِتاب؛ إذ لا متنَ فيه ولا إسناد، ولا تُكرَّر فيه الأحاديث ولا تعاد. وإنما جعلتُ ترجمة الأبواب، تدلكَ على الخطأ من الصواب. وإنما فعلت ذلك لوجوه: أحدها: مبالغة في إيصال العلم إلى المتعلمين. الثاني: أن في الناس من لا يتفرَّغ للعلم ودراسته؛ كالأمراء والوزراء والقضاة وأرباب الحرف. الثالث: أن الإنسان إذا وجد حلاوة القليل، دعاه ذلك إلى الكثير. وعلى الله أعتمد فيما أقصِد وأتوكل، وبرسوله وآله أتوسّل؛ لبلوغ الآمال، وتقويم ما منّي مال. إنه قريب مجيب.

باب في زيادة الإيمان ونقصانه، وأنه قول وعمل

* باب في زيادة الإيمان ونقصانه، وأنه قول وعمل (¬1): قال المصنف -رحمه الله-: لا يصح في هذا الباب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء. * باب في المرجئة (¬2) والجهمية (¬3) والقَدَرية (¬4) والأشعرية: قال المصنف: لا يصح في هذا الباب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء. * باب في أن كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- قديم غير مخلوق (¬5): قال ابن الجوزي -رحمه الله-: قد ورد في هذا الباب أحاديث ليس ¬

_ (¬1) حديث: "الإيمان عقد بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان" رواه ابن ماجه، وحكم عليه ابن الجوزي بالوضع. وقال الفيروزبادي في كتابه "الصراط المستقيم". الحديث المشهور أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، والإيمان لا يزيد ولا ينقص، كله غير صحيح. وذكر الزركشي في أول كتابه عن البخاري: أنه سئل عن حديث: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فكتب: من حدّث بهذا، استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل. (¬2) فرقة من الفرق الإسلامية، ولقبوا بالمرجئة؛ لأنهم يرجئون العمل؛ أي: يؤخرونه عن النية والاعتقاد في الرتبة، أو لأنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وفي هذه المقالة فتح باب الرجاء في وجوه المكلفين. قال السيد في "شرح المواقف": وعلى هذا الوجه ينبغي أن لا يهمز لفظ المرجية. (¬3) هم أصحاب جهم بن صفوان، وهو من القائلين بالجبر، وله آراء سخيفة. ظهر في "ترمذ"، وقتله سالم بن أحوز المارني بمرو في آخر دولة بني أمية. (¬4) نسبة إلى القدر، وهو اسم للفرقة التي تنكر القدر في أفعال العباد، وتقول: إنها مسندة إلى قدرتهم. (¬5) قال الذهبي في "الميزان": قال جعفر بن الحجاج الموصلي: قدم علينا محمد بن عبد الله السمرقندي بموصل، =

باب في خلق الملائكة

فيها شيء ثبت عنه. * باب في خلق الملائكة: عن أبي هُريرةكأنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤمر جبريل كلَّ غداة، فيدخل بحر النور، فينغمس فيه انغماسة، ثم يخرج، فينتفض انتفاضة سبعين ألفَ قطرة يخلُق الله تعالى من كل قطرة مَلَكاً" الحديث. قال عبد الغني ابن سعيد الحافظ -رحمه الله-: له طرق، ولا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها شيء، ولا من غيرها. * باب في التسمية بمحمد أو أحمد (¬1): قال أبو حاتم الرازي: قد ورد في هذا الباب أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس فيها ما يصح. * باب في العقل (¬2): قال أبو جعفر العقيلي: لا يثبت في هذا المتن شيء. وقال أبو حاتم ¬

_ = وحدَّث بأحاديث مناكير، فاجتمع جماعة من الشيوخ، وصرنا إليه لننكر عليه، فإذا هو في حلق من العامة. فلما بصر بنا من بعيد، علم أنا جئنا لننكر عليه، فقال: حدّثنا قتيبة عن ابن لهيعة، عن ابن الزبير، عن جابر: أنه - عليه السلام - قال: القرآن كلام الله غير مخلوق"، فلم نجسر أن نقدم عليه خوفاً من العامة، ورجعنا. وقال السخاوي: وهذا الحديث -يعني: حديث القرآن كلام الله غير مخلوق- من جميع طرقه باطل. (¬1) مما أيد به المحدثون بطلان أحاديث هذا الباب: أنها تناقض ما هو معلوم من الدين من أن النار لا يجار منها بالأسماء والألقاب، إنما النجاة منها بالإيمان والأعمال الصالحة. (¬2) قال الدارقطني: لعبد العزيز بن رجاء تصنيف في العقل موضوع كله. وقال ابن =

باب في تعمير الخضر وإلياس

حاتم البستي: ليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر صحيح في العقل. * باب في تعمير الخَضِر وإلياس: سأل إبراهيمُ الحربي أحمدَ بن حنبل عن تعمير الخَضِر وإلياس، وأنهما باقيان يُرَيانِ، ويروى عنهما، فقال: من أحال على غائب، لم ينتصف منه، وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطانُ. وسئل البخاري -رحمه الله- عن الخَضِر وإلياس: هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون هذا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا يبقى على رأس مئةِ سنةٍ ممن هو على ظهر الأرض اليومَ أحدٌ". وقال ابن الجوزي: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34]. * باب طلبُ العلم فريضة: قال أحمد بن حنبل: لا يثبت عندنا في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * باب من سُئل عن علم فكَتَم: قال أحمد بن حنبل: لا يصح في هذا الباب شيء (¬2). ¬

_ = عدي: سليمان بن عيسى بن نجيح يضع الحديث، له كتاب "تفضيل العقل" في جزأين. والمعروف في هذا الباب حديث: "إن الله لما خلق العقل، قال له: أقبل، فأقبل ... إلخ"، قال ابن تيمية: هو حديث باطل موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. (¬1) حكاه عنه ابن الجوزي في "العلل المتناهية"، وقد مثل بحديث: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" ابن الصلاح للمشهور الذي ليس بصحيح. ولكن قال العراقي: قد صحح بعض الأئمة بعض طرقه كما بينته في "تخريج [أحاديث] الإحياء". وقال المزي: إن طرقه تبلغ به رتبة الحسن. قال السخاوي في "المقاصد الحسنة": قد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث: "ومسلمة"، وليس لها ذكر في شيء من طرقه، وإن كان معناها صحيحاً. (¬2) أصل الحديث: "من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار" رواه أحمد، =

باب ذكر فضائل القرآن

* باب ذكر فضائل القرآن: قد ورد: "من قرأ سورة كذا، فله [أجر كذا] " من أول القرآن إلى آخره. قال ابن المبارك: أظن الزنادقة وضعتها (¬1). قال المصنف: فلم يصح في هذا الباب شيء غيرُ قوله في فاتحة الكتاب لأُبَيّ: "ألا أعلِّمُكَ سورة هي أعظم سورةٍ في القرآن: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ". وقوله - عليه السلام -: "البقرة وآل عمران غمامتان". وفي آية الكرسي لأبيّ بن كعب: "أتدري أيُّ آية من كتاب الله معكَ أعظمُ (¬2)؟ "، قال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. وقوله: "يؤتى يومَ القيمة بالقرآن وأهلِهِ الذين كانوا يعملون به في الدنيا تَقدَّمُهم سورةُ البقرة"، و"إن الشيطان يفرّ من ¬

_ = وأبو داود، وابن ماجه، وأبو يعلى، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه كما في "المقاصد الحسنة" للسخاوي. وقال ابن تيمية في "الفتاوى": ما يروونه عنه - عليه الصلاة والسلام -: "من علم علماً نافعاً، وأخفاه عن المسلمين، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" هذا معناه معروف في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار". (¬1) قال أبو عمار المروزي: قيل لأبي عصمة بن أبي مريم المروزي: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورةً سورةً، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ قال: إني رأيت الناس أعرضوا غن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة. قال علي قاري: ومن الموضوعات: ذكر فضائل السور، وثواب من قرأ سورة كذا فله أجر كذا من أول القرآن إلى آخره، كما يذكر ذلك الثعلبي والواحدي في أول كل سورة، والزمخشري في آخرها، وكذا تابعه البيضاوي، وأبو السعود المفتي. قال عبد الله بن المبارك: أظن الزنادقة وضعتها. وقد اعترف بوضعها واضعها، وقال: قصدت أن أشغل الناس بالقرآن عن غيره. (¬2) كذا في الأصل، وفي صحيح مسلم: قلت.

باب في فضائل أبي بكر الصديق

البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة"، وقوله: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة، كفتاه". وقول الشيطان لأبي هريرة زكانه: إذا آويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربُك شيطان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صدق، وهو كذوب (¬1) "، وفي الكهف: "من قرأ منها عشر آيات، أمِنَ من فِتنة الدجال ". و"قل هو الله أحد تعدِل ثلث القرآن"، وفي المعوِّذتين "أنزلَ على آيات لم يُرَ مثلُهُن قط: المعوذتين". * باب في فضائل أبي بكر الصديق: منها: "أنه تعالى يتجلى للناس عامة، ولأبي بكر الصديق خاصة". و"ما صَبَّ الله في صدري شيئاً إلا صببتُه في صدر أبي بكر". و"كان إذا اشتاق إلى الجنة قبَّل شَيْبة أبي بكر". و"أنا وأبو بكر كفَرسَيْ رِهان". و"إن الله تعالى لما اختار رُوح أبي بكر" إلى غير ذلك مما يعرف وضعه ببديهة العقول (¬2). قال ابن الجوزي -رحمه الله-: لم أر لهذه الأحاديث أثراً في الصحيح، ولا في الموضوع، وإنما تسمع من العوام. * باب فضل علي بن أبي طالب (¬3): قد ورد أنه سئل: من يحمل رايتك يوم القيمة؟ فقال: الذي كان يحملها ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والذي في البخاري: "صدقك وهو كذوب". (¬2) ورد في الصحيح أحاديث كثيرة في فضل أبي بكر الصديق كأنه، وإنما يريد المصنف بقوله: إلى غير ذلك: أمثال حديث: "لو حدثتكم بفضائل عمر عمر نوح في قومه، ما فنيت، وإن عمر حسنة من حسنات أبي بكر". (¬3) قال الحافظ أبو يعلى: قال الخليلي في كتاب "الإرشاد": وضعت الرافضة في فضل علي وأهل البيت نحو ثلاث مئة ألف حديث. ولا يستبعد هذا؛ فإنك لو تتبعت =

باب فضل قبائل العرب

في الدنيا: عليُّ بن أي طالب. قال ابن مَردوَيه: ليس فيها ما يصح. * باب فضل قبائل العرب: سئل عن بني عامر، فقال: جمل أزهر. وعن بني تميم، فقال: هضبة حمراء. الحديث بطوله. قال العقيلي: الرواية في هذا الباب ليس فيها شيء يصح. * باب فضائل بيت المقدس والصخرة (¬1) وعسقلان وقزوين (¬2): قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير ثلاثة أحاديث في بيت المقدس: أحدها: "لا تُشَدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثة مساجد (¬3) ". والآخر: أنه سئل عن أول بيت وضع في الأرض، فقال: المسجد الحرام. ثم قيل: ماذا؟ قال: ثم المسجد الأقصى. قيل: كم كان بينهما؟ ¬

_ = ما عندهم من ذلك، وجدت الأمر كما قال. وقال ملّا علي قاري ناقلاً عن بعض المحققين: إن وصايا علي المصدرة بياء النداء كلها موضوعة، غير قوله - عليه الصلاة والسلام -: "يا علي! أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي ". (¬1) كل حديث في الصخرة فهو كذب مفترى. والقدم الذي فيها كذب موضوع، مما عملته أيدي المزوّرين. اهـ. علي قاري في "الموضوعات". (¬2) قال أبو زرعة الرازي: كان ميسرة بن عبد ربه يضع الحديث، وقد وضع قي فضائل قزوين نحواً من أربعين حديثاً. كان يقول: إني أحتسب في ذلك. قال في "اللآلئ المصنوعة": ويلحق بهذا كله حديث في بغداد وذمّها والبصرة والكوفة ومرو والإسكندرية ونصيبين وأنطاكية. (¬3) تمام الحديث: "المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا"، وهو في "الصحيحين".

باب فضل معاوية بن أبي سفيان

قال: أربعون عاماً. والآخر: "إن الصلاة فيه تعدل سبع مئة صلاة". * باب فضل معاوية بن أبي سفيان (¬1): قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضائل معاوية بن أبي سفيان شيء. * باب ما ورد في مدح أبي حنيفة والشافعي وذمهما (¬2): قال المصنف: لا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء على الخصوص. * باب إذا بلغ الماءُ قُلَّتين لم يحمِل خبثاً (¬3): قال المصنف: لم يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي ¬

_ (¬1) للأحنف بن أبي عاصم جزء في "مناقب معاوية "، وكذلك أبو عمرو غلام ثعلب، وأبو بكر النقاش. وأورد ابن الجوزي في "الموضوعات" بعض الأحاديث التي ذكروها. ثم ذكر عن إسحاق بن راهويه: أنه قال: لم يصح في فضل معاوية شيء. وأخرج ابن الجوزي أيضاً من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت أبي: ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال: أعلم أن علياً كان كثير الأعداء، ففتش أعداؤه له عيباً فلم يجدوا، فعمدوا إلى رجل قد حاربه، فأطروه كياداً منهم بعلي. فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له. وقد ورد في فضل معاوية أحاديث كثيرة، لكن ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد. وبذلك جزم إسحاق بن راهويه، والنسائي، وغيرهما. اهـ "فتح الباري ". (¬2) ويلحق بهذا الأحاديث المصنوعة في ذم عمرو بن العاص، وذم بني أمية، ومدح المنصور والسفاح، وكذا ذم يزيد والوليد ومروان بن الحكم اهـ من "موضوعات" الملّا علي القاري. (¬3) قال ابن عبد البر في "التمهيد": ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين مذهب =

باب في الماء المشمس

"الصحيحين" ضد ذلك. * باب في الماء المشمَّس: قال العقيلي: لا يصح في الماء المشمس حديث مسند، إنما يروى فيه شيء عن عمر بن الخطاب. * باب في التسمية على الوضوء: قال أحمد: ليس فيه شيء يثبت. * باب كراهية الإسراف في الوضوء: قد ورد: "إن للوضوء شيطاناً يقال له: الوَلهان، فاتقوا وَسواس الماء". قال الترمذي: لا يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * باب في التنشيف من الوضوء (¬1): قال الترمذي: لا يصح في هذا الباب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء. ¬

_ = ضعيف من جهة النظر، غير ثابت من جهة الأثر؛ لأنه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم. وقال في "الاستذكار": قد رده إسماعيل القاضي، وتكلم فيه. وقال ابن تيمية: أما حديث القلتين، فأكثر أهل العلم على أنه حديث حسن يحتج به، وقد أجابوا عن كلام من طعن فيه. وصنف أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي جزءاً رد فيه ما ذكره ابن عبد البر وغيره. وقال في هذا حديث الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقد احتجا بجميع رواته. وقال ابن منده: إسناد حديث القلتين على شرط مسلم. (¬1) جاء في حديث ميمونة الوارد في الصحيح: "فناولته ثوباً، فلم يأخذه". قال الحافظ ابن حجر: قد استدل به بعضهم على كراهة التنشيف بعد الغسل، ولا حجة =

* باب تخليل اللحية ومسح الأذنين والرقبة

* باب تخليل اللحية (¬1) ومسح الأذنين والرقبة (¬2): قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * باب في الوضوء بنبيذ التمر (¬3): قد ورد من طرق. قال أبو زرعة: هذا الحديث ليس بصحيح. * باب إن لمس النساء لا ينقض الوضوء: قال البخاري: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء. ¬

_ = فيه؛ لأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر يتعلق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلاً، أو غير ذلك. وقال التيمي: في هذا الحديث دليل على أنه كان يتنشف، ولولا ذلك، لم تأته بالمنديل. (¬1) روي فيه حديثان: أحدهما رواه ابن ماجه، والترمذي وصححه. وفي سنده عامر ابن شقيق. قال البخاري: حديثه حسن. وضعفه يحيى بن معين. ثانيهما رواه أبو داود. وفي سنده الوليد بن زوران، وهو مجهول الحال. قال الحافظ ابن حجر: وله طرق أخرى ضعيفة. (¬2) سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: هل صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على عنقه في الوضوء، أو أحد من أصحابه؟ فأجاب بأنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على عنقه في الوضوء، ولا روي عنه ذلك في حديث صحيح. ولهذا لم يستحب ذلك جمهور العلماء؛ كمالك، والشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبهم. ومن استحبه، اعتمد على أثر يروى عن أبي هريرة، أو حديث يضعف نقله: أنه مسح رأسه حتى بلغ القذال. ومثل ذلك لا يصلح عمدة، ولا يعارض ما دلت عليه الأحاديث. (¬3) الوارد في هذا: حديث ابن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ما في إداوتك؟ "، قال: "ثمرة طيبة وماء طهور" رواه أبو داود، والترمذي، وزاد: فتوضأ به. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه.

باب الأمر بالغسل لمن غسل ميتا

* باب الأمر بالغسل لمن غسل ميتاً: قال أحمد: لا يثبت في هذا حديث صحيح. * باب النهي عن دخول الحمّام: قال المصنف: لم يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * باب أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية من كل سورة: قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * باب في الجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1): قال الدارَقطني: كل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فليس بصحيح. * باب الإمام ضامنٌ والمؤذن مؤتَمَن: قد ورد من طرق. قال ابن المديني: لا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح إلا حديث رواه الحسن مرسلاً. * باب لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد (¬2): قال المصنف: لا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء. وكذلك ¬

_ (¬1) رويت أحاديث صريحة في الجهر بقراءة البسملة في الصلاة، ساقها الشوكاني في "نيل الأوطار"، وأضاف إليها أحاديث تتضمن قراءة البسملة في الصلاة دون الجهر بها، وأخرى تتضمن الجهر بها دون تقييدها بحال الصلاة. وبعد أن نقدها من جهة سندها، قال: ولا ينتهض للاحتجاج من هذه الأحاديث إلا ما ذكر فيه أنها آية من الفاتحة، أو ما كان مقيداً بالجهر بها بدون ذكر الصلاة. (¬2) قال ابن حجر في "تلخيص تخريج الرافعي": ليس لهذا الحديث إسناد ثابت. وقال ابن حزم: هذا الحديث ضعيف، وقد صح من قول علي - كرَّم الله وجهه -.

باب الصلاة خلف كل بر وفاجر

الحديث في الجمعة: "من تركها وله إمام عادل أو جائر، ألا لا صلاة له، ألا لا حج له" إلى غير ذلك. * باب الصلاة خلف كل بَرٍّ وفاجر: قد ورد من طرق. قال العقيلي والدارقطني: ليس في هذا ما يثبت. وسئل أحمد عنه، فقال: ما سمعنا بهذا (¬1). * باب لا صلاة لمن عليه صلاة: سأل إبراهيمُ الحربي أحمدَ بن حنبل: ما معنى هذا الحديث؟ فقال: لا أعرف هذا البتة. قال إبراهيم: ولا سمعت أنا بهذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قط. * باب إثم إتمام الصلاة في السفر: قد ورد فيه أحاديث. قال العقيلي: إنما روي: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" مع ضعف في الرواية. وليس في هذا المتن شيء يثبت. * باب القنوت في الفجر إلى أن فارق الدنيا: قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي "الصحيحين" من حديث أنس - رضي الله عنه -، قال: "قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب، ثم تركه (¬2) ". ¬

_ (¬1) قال الحافظ: وللبيهقي في هذا الباب أحاديث كلها ضعيفة غاية الضعف، وقد انعقد إجماع أهل العصر الأول من بقية الصحابة والتابعين إجماعاً فعلياً على الصلاة خلف الأمراء الجائرين. أخرج البخاري عن ابن عمر: أنه كان يصلي خلف الحجاج ابن يوسف. وأخرج مسلم وأهل السنن: أن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان صلاة العيد في واقعة تقديمه الخطبة على الصلاة. (¬2) رواه البيهقي والحاكم بزيادة: "فأما الصبح، فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا". =

باب النهي عن الصلاة على الجنازة في المسجد

* باب النهي عن الصلاة على الجنازة في المسجد (¬1): قال المصنف: لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء في هذا الباب. * باب رفع اليدين في تكبيرات الجنازة: قال المصنف: ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أنه لم يَرْفع. * باب أن الصلاة لا يقطعها شيء: قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * باب صلاة الرغائب، والمعراج، والنصف من شعبان (¬2)، وصلاة الإيمان والأسبوع كل يوم وليلة، وبر الوالدين، ويوم عاشوراء، وغير ذلك: قال المصنف لا يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحيح ¬

_ = قال الشوكاني: وهذه الزيادة -لو صحت- لكانت قاطعة للنزاع، ولكنها جاءت من طريق أبي جعفر الرازي، وقد حكم عليه جماعة من الأئمة بالخطأ والغلط؛ كابن معين، والدوري، وأبي زرعة، ويعارضه ما رواه ابن خزيمة في "صحيحه" عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لم يقنت إلا إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم". (¬1) روى أبو داود وابن ماجه في النهي عن الصلاة على الميت في المسجد حديثاً تفرد به صالح بن التوءمة، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. وروى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت: لما توفي سعد بن أبي وقاص: ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه. فأنكروا ذلك عليها، فقالت: لقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء في المسجد: سهيل، وأخيه. (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "فتاويه": أما إنشاء صلاة بعدد مقدر، وقراءة مقدرة، في وقت معين تصلى جماعة راتبة؛ كهذه الصلوات المسؤول عنها؛ كصلاة الرغائب في أول جمعة من رجب، والألفية في أول رجب ونصف شعبان وليلة سبع وعشرين من رجب، وأمثال ذلك، فهذا غير مشروع باتفاق أئمة الإسلام. وفتح =

باب صلاة التسابيح

من النوافل: السننُ الرواتب، والتراويحُ، والضحى، وصلاة الليل، وتحية المسجد، وشكر الوضوء، وصلاة الاستخارة، والعيدين -على قول من لا يراهما واجبين-، وصلاة الكسوف، والاستسقاء. * باب صلاة التسابيح (¬1): قال العقيلي: ليس في صلاة التسابيح حديث صحيح. * باب عدد التكبير في صلاة العيدين (¬2): قال أحمد: ليس يروى في التكبير في العيدين حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = مثل هذا الباب يوجب تغيير شرائع الإسلام، وأخذ نصيب من حال الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله. وقد ألف عز الدين بن عبد السلام رسالة في مخالفة صلاة الرغائب للشرع، ذكرها ابن السبكي في ترجمته من الطبقات. قال علي قاري: وهذه الصلاة -أي: صلاة ليلة النصف من شعبان- وضعت في الإسلام بعد الأربع مئة، ونشأت من بيت المقدس، فوضع لها عدة أحاديث. (¬1) أورد ابن الجوزي أحاديثها في "الموضوعات". ورد عليه بعض الحفاظ ذكرها في الموضوعات، ولكنهم لم يستطيعوا أن يرفعوها إلى درجة الصحة. وقد ضعفها المزي، وابن تيمية، كما حكاه عنهما ابن عبد الهادي في "أحكامه". وقال الجلال السيوطي بعد أن بحث في أسانيد حديثها: والحق أن طرقه كلها ضعيفة، وأن حديث ابن عباس فيها يقرب من شرط الحسن، إلا أنه شاذ؛ لشدة الفردية فيه، وعدم المتابع والشاهد من وجه معتبر، ومخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلوات. (¬2) ورد في هذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبّر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة: سبعاً في الأولى، وخمساً في الثانية" رواه أحمد، وابن ماجه. قال في "منتقى الأخبار": وقال أحمد: أنا أذهب إلى هذا. قال العراقي: وإسناد هذا الحديث صالح. ونقل الترمذي في "العلل المفردة" عن البخاري: أنه قال: إنه حديث صحيح.

باب زكاة الحلي

* باب زكاة الحليّ (¬1): قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * باب زكاة العسل: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كبير شيء. * باب لولا كَذِبُ السائلِ ما أفلحَ من رَدَّه: قال العقيلي: لا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء. * باب زكاة الخُضراوات: عن معاذ قال: كتبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخضراوات، فكتب: "ليس فيها شيء". قال الترمذي: الحديث ليس بصحيح. قال المصنف: لا يصح في هذا الباب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء. وفي "الصحيحين": "في ما سَقت السماءُ والعيونُ، أو كان عَثَرِيّاً: العُشر، وما سُقي بالنضح: نصف العشر". * باب الطلب من الرُّحماء والحسان الوجوه: قال العقيلي: ليس في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء يثبت. * باب في التحذير من التبرُّم بحوائج الناس: قال العقيلي: قد روي في هذا الباب أحاديث ليس فيها شيء يثبت. ¬

_ (¬1) المشهور في هذا حديث: "زكاة الحلي عاريته". قال السخاوي: روي عن ابن عمر من قوله. قال البيهقي: وأما ما يروى عنه مرفوعا: "ليس في الحلي زكاة"، فباطل لا أصل له. وقال الشوكاني في "السيل الجرار": لم يرد في زكاة الحلي حديث صحيح؛ أي: يصح أن يعتمد عليه. ثم قال: وقد كان للصحابة وأهاليهم من الحلية ما هو معروف، ولم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالزكاة في ذلك، بل كان يعظ النساء، ويرشدهن إلى الصدقة.

باب فعل المعروف محل الضيعة

* باب فعل المعروف محل الضيعة: قال العقيلي: لا يصح في هذا الباب شيء. * باب إن السخيَّ قريبٌ من الله، والبخيل بعيد من الله: قال الدارقطني: لا يثبت منها شيء بوجه. * باب في فضل عاشوراء: قد صنف ابن شاهين جزءاً كبيراً، وفيه من الصلوات والإنفاق والخضاب والادِّهان والاكتحال والحبوب وغير ذلك. قال المصنف: لم يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير أنه صامه، وأمر بصيامه، وصومُه يكفِّر سنة. * باب الاكتحال فيه: قال الحاكم: لم يرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه أثر، وهي بدعة ابتدعها قتلة الحسين. * باب لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل: قال المصنف: لا يصح فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي "الصحيحين" ضد ذلك: أنه كان ينوي النفل من النهار. * باب صيام رجب وفضله: قال عبد الله الأنصاري: ما صح في فضل رجب وفي صيامه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء. * باب أن الحجامة تفطر الصائم - وأفطر الحاجم والمحجوم (¬1): قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) هذا الحديث أورده البخاري تعليقاً، فقال: ويروى عن الحسن عن غير واحد =

باب حجوا قبل أن لا تحجوا، ومن أمكنه الحج، ولم يحج، فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا، إلى غير ذلك

* باب حجوا قبل أن لا تحجوا، ومن أمكنه الحج، ولم يحج، فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً، إلى غير ذلك: قال العقيلي: لا يصح في هذا الباب شيء. وقال الدارقطني: لا يصح منها شيء. * باب: قال أحمد: أربعة أحاديث تروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأسواق ليس لها أصل: " من بشرني بخروج نيسان، ضمنت له على الله الجنة"، و: "من آذى ذِمِّيّاً، فكأنما آذاني (¬1) "، و: "يومُ صومكم يوم نحركم"، و: "للسائل حقٌّ كان جاء على فرَس (¬2) ". ¬

_ = مرفوعاً: "أفطر الحاجم والمحجوم". قال الحافظ ابن حجر: وصححه ابن خزيمة، وابن حبان. وقال ابن حزم: صح حديث: "أفطر الحاجم والمحتجم". بلا ريب. لكن وجدنا من حديث أبي سعيد: "أرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة للصائم"، وإسناده صحيح، فوجب الأخذ به؛ لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة، سواء كان حاجماً أو محجوماً. (¬1) روى أبو داود حديث صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن آبائهم دنية؟ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا من ظلم معاهداً، أو تنقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة". قال السخاوي: وسنده لا بأس به، ولا تضره جهالة من لم يسم من أبناء الصحابة، فإنهم عدد تنجبر به جهالتهم. ولذا سكت عليه أبو داود. ورواه البيهقي من هذا الوجه، وقال: عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن آبائهم دنية؟. (¬2) رواه أحمد، وأبو داود. وقال ابن عبد البر: إنه ليس بالقوى. قال ابن الديبع: وقد قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "حديثان يدوران في الأسواق، =

باب كل قرض جر منفعة فهو ربا

* باب كل قرض جرَّ منفعة فهو رِبا (¬1): قال المصنف: لم يصح فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي الصحيح: أنه اقترض صاعاً، وردَّ صاعين. * باب بيع الكالئ بالكالئ: قال أحمد: ليس في هذا الباب ما يصح. * باب لا نكاح إلا بولي (¬2) وشاهدَي عدل: قال المصنف: لا يصح في النكاح بغير وليّ وأنه باطل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح. وكذلك في الشهود في النكاح. قال أحمد بن حنبل: لم يثبت في الشهادة في النكاح شيء. وقال ابن المنذر: الأحاديث في الشهادة في النكاح لا تصح. * باب اتخذوا السراري؛ فإنهن مباركات الأرحام: قال: لا يصح في ذكر السراري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء. ¬

_ = ولا أصل لهما ولا اعتبار: قولهم: للسائل حق كان جاء على فرس. والثاني: يوم صومكم يوم نحركم". وقال السيوطي: قال العراقي في حديث "للسائل حق ... إلخ ": لا يصح هذا الكلام عن أحمد؛ فإنه أخرجه في "مسنده" بسند جيد رجاله ثقات. (¬1) رواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده". وقال الإمام ابن الديبع: إسناده ساقط. (¬2) رواه أحمد، وابن ماجه، والطبراني، وصححه الحاكم، وابن حبان، والترمذي. وقال ابن حجر العسقلاني في "تلخيص الحبير": وفي سنده الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، ومداره عليه. وقد أورده البخاري ترجمة -حيث لم يكن على شرطه-، فقال: باب: من قال: لا نكاح إلا بولي.

باب إياكم وأبناء الملوك؛ فإن لهم شهوة كشهوة العذارى

* باب إياكم وأبناء الملوك؛ فإن لهم شهوةً كشهوة العذارى: قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * باب مدح العزبة نحو: "عُزَّابها نُجّابها"، وأشباه ذلك: قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء. وفي الصحيح: "لكن أصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني". * باب النهي عن قطع السِّدر: قال العقيلي: لا يصح في قطع السدر شيء. وقال أحمد: ليس فيه حديث صحيح. * باب في إيثاره اللبن، ومدحه العسل والباقلَّاء، والجبن داء والجوز دواء، والباذنجان لما أكل له، وماء زمزم لما شرب له (¬1)، والرمان والزبيب: قال المصنف: لا يصح في هذا الباب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء، وإنما الزنادقة وضعوا مثل هذه الأحاديث، وقصدوا بها شَين الإسلام، وإنه ما كان يعرف الحكمة وتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم -. * باب أفضل طعام الدنيا والآخرة اللحم: قال العقيلي: لا يصح في هذا المتن [شيء] عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * باب النهي عن قطع اللحم بالسكين، وأنه من صنع الأعاجم: قال أحمد: ليس بصحيح. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحتزُّ من لحم الشاة ويأكل. ¬

_ (¬1) اختلف المحدثون في تصحيحه وتضعيفه، قال السخاوي في "المقاصد الحسنة": وقد رواه الحاكم، وقال: إنه صحيح الإسناد. وصححه من المتقدمين ابن عيينة، ومن المتأخرين الدمياطي في "جزء" جمعه فيه، والمنذري، وضعفه النووي.

باب في الهريسة

* باب في الهريسة: قد صنف في ذلك جزء. قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * باب النهي عن أكل الطين: قال أحمد: ما أعلم في كله شيئاً يصح. وقال مرة: ليس فيه شيء يثبت، إلا أنه يضر بالبدن. * باب الأكل في السوق: قال العقيلي: لا يصح في هذا الباب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء. * باب في البطيخ وفضائله: قال أحمد: لا يصح في فضائل البطيخ شيء، إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأكله. * باب في النرجس والورد والزرنجوش والبنفسج والبان: قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * باب الديك الأبيض صديقي ... الحديث: قال الخطيب: لا يصح متن هذا الحديث، ولا إسناده. * باب فضائل الحناء، [وأنه] قد ورد: أنه من الجنة (¬1). وأنه يجعل في الأكفان، وغير ذلك. وأنه يجوز للرجال: قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) قال علي قاري: من الموضوع أحاديث الحناء وفضله، والثناء عليه، وفيه "جزء" لا يصح منه شيء. وأعيد الضمير على الحناء مذكراً؛ لأن همزته أصلية، ووزنه =

باب النهي عن نتف الشيب

* باب النهي عن نتف الشيب (¬1): قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * باب النهي عن تغيير الشيب: أما بالحناء والكَتَم، فقد صبغ بهما أبو بكر وعمر بحتاً. أخرجاه. وفي أفراد البخاري من حديث أم سلمة: كان إذا أصاب صبياً عين، أخرجت لهم أم سلمة شعراً من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما بالسواد، فقد صبغ به الحسن والحسين، وسعد بن أبي وقاص، ومن التابعين خلق كثير. وفي "صحيح البخاري": أن رأس الحسين لما جيء به، كان مخضوباً بالوشمة. وقد ورد: "يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد لا يريحون رائحة الجنة". قال المصنف: ولا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير قوله في حق أبي قحافة: "وجنبوه السواد". والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن أحاديث مسلم لا تقاوم أحاديث البخاري، والثاني: أن الحسن والحسين، وسعد بن أبي وقاص قد صبغوا بالسواد، فلو كان حراماً، لما فعلوه، وكذلك كانوا في زمان الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين -, فلو ¬

_ = فِعَّال، وهو مفرد؛ خلافاً لابن دريد وابن ولاد في قولهما: إنه جمع لحناءة -بالهاء-؛ كما نبه على ذلك صاحب "تاج العروس". (¬1) حديث: "لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نور المسلم" رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال: حسن، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه". وأخرج مسلم في " الصحيح" من حديث قتادة عن أنس بن مالك، قال: كنا نكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته. قال ابن الديبع في "تمييز الطيب من الخبيث": وقول القاضي مجد الدين في "سفر السعادة": لم يثبت فيه (نتف الشيب) شيء؛ أي: في الوعيد عليه.

باب التختم بالعقيق

كان حراماً، لأنكروا عليهم. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم" أخرجاه. وفي "الصحيحين": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتغيير الشيب مطلقاً. * باب التختم بالعقيق: قال العقيلي: لا يثبت في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء. * باب التختم في اليمين: قال المصنف: لم يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الدارقطني -رحمه الله-: اختلفت الروايات فيه عن أنس، والمحفوظ أنه كان يتختم في يساره. * باب النهي عن أن نقص الرؤيا على النساء: قد ورد ذلك من طرق. قال العقيلي: لا يحفظ من وجه يثبت. * باب كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - الفارسية: قد ورد: العنب دودو، درد، اشكنب، إلى غير ذلك. قال المصنف: لم يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير ثلاثة أحاديث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قوموا؛ فقد صنع لكم جابر سوراً" (¬1) أخرجاه. وقوله عليه السلام للحسن: "كخ، كخ" أخرجه مسلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام -: "لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر، وأدس في فرعون؛ مخافة أن تدركه الرحمة". * باب كراهية الكلام بالفارسية، وأنها لغة أهل النار: قال المصنف: لم يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكرنا ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير في "النهاية": "سوراً"؛ أي: طعاماً يدعو إليه الناس. واللفظة فارسية.

باب إن ولد الزنا لا يدخل الجنة

آنفاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - تكلم ثلاث كلمات بالفارسية. * باب إن ولد الزنا لا يدخل الجنة: قال ابن الجوزي: قد ورد في ذلك أحاديث ليس فيها شيء يصح، وهي معارضة لقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. * باب ليس لفاسق غيبة (¬1): فقد ورد من طرق، وهو باطل. قال الدارقطني، والخطيب. * باب النهي عن سَبِّ البراغيث: قال العقيلي: لا يصح في سب البراغيث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء. * باب ذم السماع: قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * باب تحريم اللعب بالشطرنج: قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * باب لا تقتل المرأة إذا ارتدت: قال الدارقطني: لا يصح هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي "الصحيحين" "من بَدَّلَ دِينَه، فاقتُلوه". ¬

_ (¬1) قال الحاكم: إنه غير صحيح، ولا معتمد. وقال ابن حجر بعد إيراد أحاديث في معناه: وبالجملة: فقد قال العقيلي: إنه ليس لهذا الحديث أصل. وقال القلانسي: إنه منكر. وقال المنوفي: وحسنه الهروي، وليس كذلك؛ فقد صرح جمع من محققي الحفاظ بأنه منكر موضوع لا أصل له. وذهب علي قاري إلى أنه غير موضوع، وأنه ضعيف لذاته، أو حسن لغيره.

باب إذا وجد القتيل بين قريتين، ضمن أقربهما

* باب إذا وُجد القتيل بين قريتين، ضَمِن أقربُهما: قال العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل. * باب فيمن أهديت إليه هدية وعنده جماعة، فهم شركاؤه (¬1): قال العقيلي: لا يصح في هذا الباب شيء. * باب ذم الكسب وفتنة المال: قد ورد في ذلك أحاديث: أن عبد الرحمن بن عَوْف - رضي الله عنه - يدخل الجنة حَبواً، إلى غير ذلك. قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أعني: ذم الكسب. * باب ترك الأكل والشرب من المباحات: قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * باب في الحجامة: قال العقيلي: ليس يثبت في الحجامة شيء، ولا في اختيارها والكراهة شيء ثبت. وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها شيء، إلا أنه أمر بها. * باب الاحتكار: قال المصنف: قد ورد في ذلك أحاديث مغلظة، وليس فيها ما يصح غير قوله - عليه السلام -: "من احتكَر، فهو خاطئ" انفرد به مسلم. والجواب عنه من وجوه: أحدها: أن راوي الحديث سعيد بن المسيّب عن مَعْمَر بن ¬

_ (¬1) أورده ابن الجوزي في "الموضوعات". وقال البخاري في "صحيحه": ويذكر عن ابن عباس: أن جلساءه شركاؤه، ولم يصح.

باب مسح الوجه باليدين بعد الدعاء

أبي معمر، وكان سعيد بن المسيب يحتكر، فقيل له في ذلك، فقال: إن معمرًا الذي كان يحدّث بهذا كان يحتكر، والراوي إذا خالف الحديث، دلَّ على نسخه، أو ضعفه (¬1). والثاني: أن للناس في انفراد مسلم بهذا كلاماً. والثالث: أنه يحمل على ما إذا كان يضرُّ بأهل البلد. * باب مسح الوجه باليدين بعد الدعاء: قال أحمد: لا يعرف هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يروى عن الحسن البصري. * باب موت الفجأة: قال الأزْدِيّ: ليس فيها صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * باب المَلاحِم والفِتَن: قد روي: أن عليّاً - رضي الله عنه - خلا بالزبَير يوم الجَمَل، فقال: أنشدك الله! هل سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت لاوي يديك، وأنت في سقيفة بني فلان: "لتقاتلنه وأنت ظالم له" الحديث. قال العقيلي: لا يروى في هذا المتن حديث من وجه يثبت. ¬

_ (¬1) الحديث الذي يعمل راويه بخلافه يسقط الاحتجاج به عند أصحاب أبي حنيفة؛ أخذاً بظاهر أن راويه إنما خالفه لدليل يقضي بتعطيله. وقال أصحاب مالك والشافعي: يبقى محل الثقة والاعتماد؛ لاحتمال أن راويه إنما خالفه عن اجتهاد منه. فإذا علم الوجه الذي عول عليه الراوي في مخالفة ما روى، وظهر أنه إنما خالف عن اجتهاد، ساغ للمجتهد أن يتمسك بالرواية، ولا يبالي مخالفة الراوي بإجماع، وهذا كرواية أبي حنيفة ومالك لحديث: "المتبايعان بالخيار"، مع قولهما بنفي خيار المجلس، فأبو حنيفة لم يعمل به لما علم في أصوله من تقديم القاعدة على خبر الآحاد. ومالك لم يأخذ به لهذا الوجه بنفسه على ما رجحه أبو بكر بن العربي، أو لأن عمل أهل المدينة جرى على خلافه على ما يذكره غيره.

باب في ظهور الآيات في الشهور

* باب في ظهور الآيات في الشهور: قد ورد: "تكون في رمضان هدّة، وفي شوال هَمْهَمَة"، إلى غير ذلك. قال العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل عن ثقة، ولا من وجه يثبت. * باب ذم المولودين بعد المائة: قد ورد فيه أحاديث. قال أحمد بن حنبل: ليس بصحيح، كيف وقد من الأئمة والساعات وُلدوا بعد المئة (¬1)؟!. * باب وصف ما يكون بعد الثلاثين ومئة، والستين ومئة: قد ورد: "الغُرباء ثلاثة: قرآنٌ في جَوْف ظالم، ومصحفٌ في بيتٍ لا يقرأ فيه، ورجلٌ صالح بين قوم سوء"، زاد: "في سنة ستين ومئة مسجد لا يصلى فيه". قال المصنف: لا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * باب ظهور الآيات بعد المئتين: قال الدارقطني: ليس في الروايات فيه شيء صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * باب لأنْ يُرَبِّيَ أحدكم جَرْواً خيرٌ له مِن أن يربي وَلداً. وفي حديث آخر: يكون المطرُ قَيْظاً، والولدُ غيظاً: قال المصنف: لا يصح في هذا الباب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء. * باب تحريم قراءة القرآن بالألحان: قال المصنف: لا يصح في هذا الباب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي "الصحيحين": "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مكَّةَ يومَ الفَتْح وهو يقرَأ سُورة الفَتْح ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، وفي "اللآلي المصنوعة": وكيف يكون صحيحاً، وكثير من الأئمة السادة ... إلخ.

باب تحليل النبيذ

يُرَجِّعُ بها". قال الراوي: والترجيع: آء آء آء. والبخاري أخرجه عن معاوية، ومسلم أخرجه عن عبد الله بن مغفَّل. * باب تحليل النبيذ: قد روي: أن أعرابياً شرب من إداوة عمر، فسكر، فأمر بجلده، فقال: أنا شربت من إداوتك. فقال عمر: إنما نجلدك على السُّكر. قال أحمد: ما أعلم في تحليل النبيذ حديثاً صحيحاً، فاتهموا الشيوخ. قال المصنف: المراد منه: التشديد. أكمل "كتاب المغني"، والحمد لله وحدَه، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله - صلى الله عليه وسلم -، وسلمَ تسليماً كثيراً، والحمد لله على كل حال ونعمة آمين

26 - الإرث الفكري للإمام محمد الخضر حسين

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (26) «الإرثُ الفِكريُّ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة الإمام محمد الخضر حسين (بحر لا ساحل له) (¬1)، وآثاره العلمية ما زالت تتراءى لي من خلال البحث والتنقيب في المصادر والمراجع والمؤلفات من الكتب الإسلامية والأدبية، وتراجم الأعلام، والدوريات من الصحف والمجلات في مختلف المكتبات الإسلامية، وفي الأقطار التي أقام بها الإمام. وكم من مِرار وقع في ظنّي أني وصلت إلى نهاية المطاف الذي أسعى فيه، وأني أحطت بإنتاجه الفكري من المظانّ التي نشدتها في طلبتي من الكد الحثيث والعمل الدؤوب طيلة سنوات طوال، إلا وطالعتني مقالات وبحوث فيّاضة للإمام يعزُّ عليَّ أن أدعها مطوية هنا، ومبعثرة هناك، فأسارع إلى جمعها وإعدادها في كتاب أبعثه إلى النور في أول فرصة مواتية، وأضعه ¬

_ (¬1) نال الإمام محمد الخضر حسين شهادة العالمية من الجامع الأزهر الشريف، وكان العالم الفاضل الشيخ عبد المجيد اللبّان رئيساً للجنة مع نخبة من زملائه المختارين، فأبدى الشيخ من الرسوخ والتمكن ما أدهش، حتى إن الشيخ اللبّان صاح -إعجاباً- قائلاً: "هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حجاج!؟ ". ونصَّ في القرار على أن اللجنة "امتحنت محمد الخضر، فوجدته بحراً لا ساحل له ... ". انظر كتابي: "أحاديث في رحاب الأزهر" (ص 169)، ومجلة "آخر ساعة" العدد 936 الصادر في المحرم 1372 هـ - 1 أكتوبر 1952 م.

بين يدي الناس خدمة للعلم والباحثين والدارسين، وخدمة للإمام العالِم المتفضّل المتعدّد المواهب. وخلال زيارة لي إلى القاهرة بين 14 - 21 من شهر ذي الحجة لعام 1424 هـ - الموافق 5 - 12 من شهر شباط فبراير لعام 2004 م، اطّلعت على الملفّات الخاصة بالإمام محمد الخضر حسين، والمحفوظة في دار الوثائق القومية بالقاهرة (¬1) - وهي جديدة عليَّ لم أنظرها من قبل - ووجدت كنزاً دفينا وقعت عليه لا يقدر بثمن، ويحتاج إلى من ينفض عن لآلئه ومكنوناته الغبار، وإني ألفت نظر المهتمين بتراث الإمام إلى تلك الملفات التي تتضمن: - مئات الأوراق من قصائد الشعر التي نظمها الإمام في شتى المواضيع، ولم تطبع في ديوانه "خواطر الحياة"، وتشكل وحدها ديواناً رائعاً ثرياً. - صفحات مضيئة من مذكراته وخواطره طيلة حياته الشريفة، والتي أعدَّها كمذكرات له في مجلدات أسماها: "مراحل الحياة"، ولكنه صرف النظر عن نشرها، وقال: إنها حديث عن النفس (¬2)، ولا يريد أن يخوض هذا ¬

_ (¬1) كتب الإمام محمد الخضر حسين في إحدى الوريقات بخط يده عبارة تشير إلى رغبته في إيدل هذه الأوراق لدى دار الكتب المصرية بالقاهرة. (¬2) يقول الدكتور زكريا البري في احتفال جرى بالقاهرة في ذكرى الإمام: "ذلك أن هذا الرجل، وقد ارتبطت به في حياتي طالباً درست عليه، ثم بعد ذلك عاملاً بجواره في مشيخة الأزهر، ثم بعد ذلك رغب إلي رغبة خاصة في أن أعاونه في كتابة مذكراته وذكرياته ... ترددت عليه في منزله العامر في شارع "صفية زغلول"، وبدأ يمليني مذكراته وأنا أكتبها، وأحيانا كان يخط بيده مسودات والمذكرات، ثم أتناول تبييضها في منزلي ... واستمر هذا طويلاً أثناء المشيخة ... ثم ذهبت إليه في يوم معين، وقلت له: إذن سنواصل ... ابتسم؛ لأن سمته سمت هدوء، =

المخاض. وسأذيعها -إن شاء الله تعالى- بعد أن انتقل الإمام إلى الرفيق الأعلى، وفيها الكثير من الذكريات النافعة، والحقائق التاريخية الهامة. - مقالات في مختلف العلوم والفنون، ما زالت مخطوطة لم تطبع بعد. إضافة إلى مراسلات مع علماء وشيوخ ورجال سياسة وأدباء. - الأوراق والوثائق المتعلقة بـ "جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية" التي أسسها في القاهرة، وعمل من خلالها في الدفاع عن بلدان المغرب العربي، وخاصة الوطن الأول تونس الخضراء. تمكنت من استنساخ البعض منها لأقدمه في هذا السفر، وأَملي وطيد أن أستخرجها كلها -إن شاء الله تعالى- فيما كُتِب لي من الحياة. أقول: إن تعدد الميادين التي نشط فيها الإمام -ولاسيما تونس ودمشق وإستنبول وبرلين والقاهرة- كانت سبباً في تفرّق إنتاجه العلمي، وآثاره وأخباره، وفي تلك البلدان عشرات الصحف والمجلات التي كتب فيها. ومهما زعمت أني جمعت منها تراثه العظيم، فما فتئت تطل عليَّ صفحات ورسائل سطّرها بقلمه البليغ الصادق. وأرى من الواجب عليَّ أن أتتبع في المدن المذكورة ما أبدعه الإمام .. ومحاضرإته في كليات الجامع الأزهر خاصة (كلية أصول الدين، وكلية الشريعة، وقسم التخصص العالي في الكليات) لم أصل إليها، ومثالاً على ذلك كتابه أو رسالته "الملل والنحل" (¬1) طبعة خاصة بكلية أصول ¬

_ = وقال: لقد مزقت هذه المذكرات .. قلت: وفيما كان ذلك؟ قال: ... واستخرت الله، ووجدت أن نشرها يعتبر حديثاً عن النفس، وفيه تزكية لنفسي، وأنا لا أريد أن أزكي نفسي. انظر كتاب: "أحاديث في رحاب الأزهر" للإمام (ص 203). (¬1) ذكر العلامة الفاضل الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة في كتابه القيم "السيرة =

الدين. وهذا يتطلب مني الإصرار على المتابعة، والإحاطة بها بحول الله تعالى. وإني أقدم ما توفر من مادة علمية في حوزتي في هذا السفر: "الإرث الفكري للإمام محمد الخضر حسين" آملاً أن أقدم لاحقاً المزيد من الإرث الفكري للإمام بإذن الله تعالى وعونه. ويتألف كل سفر من قسمين: - القسم الأول: يضم مقالاته وبحوثه وشعره ورسائله. - القسم الثاني: أجعل فيه تراجمه، وأخباره في الصحف والمجلات التي أتوصل إليها، وما قيل فيه من تحقيقات وكتابات من أقلام أهل الفكر، ومن كتبهم وبحوثهم الفائقة. ¬

_ = النبوية في ضوء القرآن والسنّة، في ثبته بأهم مراجع الكتاب عنواناً "الملل والنحل" للإمام الشيخ محمد الخضر حسين. ط خاصة بكلية أصول الدين قديماً. وكرر هذا المرجع في الجزء الأول (ص 500)، والجزء الثاني (ص 674) -طبعة دار القلم بدمشق- الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1996 م. ولم أجد هذا الكتاب حتى اليوم. ولعلي أجده -إن شاء الله-. ويذكر الدكتور أبو شهبة في الجزء الأول من كتابه (ص 21): "أذكر أنه طلب إلي منذ بضعة عشر عاماً أن أكتب مقالاً لمجلة الأزهر بمناسبة الميلاد النبوي، فكتبت مقالا تحت عنوان: "عبقرية النبي السياسية"، وقد عُرض المقال على أستاذنا الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله رحمة واسعة-, وكان شيخ الأزهر آنذاك، فقرأ المقال وارتضاه، إلا أنه وقف عند العنوان، وصار يبتسم ابتسامته الوقورة المعبّرة، ففهمت ما أراد، واستشرته، فاشار عليّ أن أغيّر "عبقرية" بـ "موهبة"، فأذعنت بعد أن اقتنعت، وكتبت تحت هذا العنوان بضع مقالات موسمية في مجلة "الأزهر"، ومن يومها وأنا أبالغ في التحرّي حينما أكتب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

وستكون هذه الأسفار بحول الله تعالى مرجعاً للسادة أهل العلم والباحثين، وعوناً لهم في الدرس والتأليف، تسهّل الطريق أمامهم، وتخفف عنهم مشاق ومصاعب البحث عن المصادر إلى الإرث الفكري للإمام. ومن المفيد الإشارة إلى أن القارئ يجد في تراجم الإمام محمد الخضر حسين التي كتبها السادة أهل القلم، وأوردناها في المطبوعات التي أصدرناها، تشابهاً وتكراراً لبعض المراحل من سيرته المباركة، وخاصة: "الولادة - النشأة - الرحلات - تنقله في الأقطار - مشيخة الأزهر ... إلخ "، ويوضح هذا؛ أن في كل ترجمة عن الإمام آراء وتعليقات ووجهة نظر لكاتبها نحترمها أولاً، ونذكرها للحقيقة والتاريخ بوجه عام. والحمد لله على ما هدى، والحمد لله على نعمة الإسلام. علي الرّضا الحسيني

السياسة القضائية

السياسة القضائية (¬1) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وآله المهتدين، وصحبه المجتهدين. * السياسة: مصدر ساس يسوس، وترد في كلام العرب لمعان ترجع إلى معنى: التدبير، والرعي، والضبط، يقال: ساس فلان الدابّة: إذا قام عليها، وراضها، وفلان ساس وسيس عليه؛ أي: أَدَّبَ وأُذبَ، ويسست الرعية: استصلحتها بالأمر والنهي. فبينا نسوسُ الناسَ والأمْرُ أمْرُنا ... إذا نحن فيهم سُوقَةٌ نتنصَّفُ وساس المُلْكَ: دبر شؤون المملكة، قال ابن زريق: أعطيتُ ملكاً فلم أُحسنْ سياستَه ... كذاكَ من لا يسوس الملكَ يخلَعُهُ ¬

_ (¬1) محاضرة في السياسة القضائية ألقاها الإمام في السنة النهائية بقسم التخصص في القضاء بكلية الشريعة في الجامع الأزهر سنة 1365 هـ - 1946 م عندما كان مدرّساً فيها، وجدتها في مكتبة الجامع الأزهر تحت رقم 1250 قوانين، وطبعت في مطبعة الأزهر 1363 هـ - 1947 م.

* والقضاء: ذكر له علماء اللغة معاني متعددة ترجع إلى معنى: إتمام الشيء قولاً أو فعلاً، يقال: قضى غريمه دينه؛ أي: أداه، وقضى عليه؛ أي: أماته، وقضى الشيء: فرغ منه، وقضى: حَكَمَ وفصَل. وأما القضاء شرعاً، فقد اختلفت عبارات العلماء في تحديده، فمنهم من عرّفه ناظراً إلى ما يصدر عن القاضي من القول الذي يقع به الفصل، فقال: القضاء: الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام. ونظر بعضهم إلى ما يترتب على هذا الإخبار من قطع الخصومات، فقال: هو الفصل بين المتخاصمين. ورأى الشيخ ابن عرفة: أن القضاء في الشرع معنى حكمي؛ أي: اعتباري يختص بالقاضي، سواء فصل بالفعل، أو لم يفعل، فقال في حده: "صفة حكمية توجب لموصوفها نفوذ حكمه الشرعي، ولو بتعديل أو تجريح، لا في عموم مصالح المسلمين". قوله: "حكمية" يريد: اعتبارية، وقوله: "توجب لموصوفها نفوذ حكمه الشرعي"؛ أي: أن هذه الصفة الحكمية توجب إيجاباً شرعياً إمضاء ما حكم به، فخرج به من ليس له تلك الصفة؛ فإنه لا يجب تنفيذ حكمه، وقوله: "ولو بتعديل أو تجريح" يريد: أنها توجب نفوذ حكمه في كل شيء، ولو كان بتعديل أو تجريح، وقوله: "لا في عموم مصالح المسلمين" أخرج به: الإمام؛ لأن القاضي ليس له قسمة الغنائم، ولا تفريق أموال بيت المال، ولا ترتيب الجيوش، ولا قتل البغاة، ولا الإقطاعات. ويمتاز القضاء عن الفتوى مع اتحادهما في أن كلاً منهما إخبار عن الله

تعالى، وأنه لازم للمكلف: أن الفتوى إخبار محض، والحكم إخبار معناه الإنشاء والإلزام. فالمفتي مع الشارع كالمترجم مع القاضي ينقل عنه ما تلقاه منه لإشارة أو عبارة، أو فعل أو تقرير أو ترك، أما الحاكم مع الشارع، فكنائب الحاكم ينشئ الأحكام والإلزام، فكأنه قال له: أي شيء حكمت به على القواعد، فقد جعلته حكمي (¬1). ويمتاز القاضي والمفتي عن الفقيه المطلق؛ بأن القضاء والفتوى أخصّ من العلم بالفقه؛ لأن الفقه يتعلق بكلي من حيث صدقه على جزئيات، نحو: "البينة على من ادّعى، واليمين على من أنكر". أما القضاء والفتوى، فقائمان على إعمال النظر في الحوادث الجزئية، وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف، حق يتحقق انطباق ذلك الكلّي عليها، فحال الفقيه -من حيث إنه فقيه- كحال عالِم بكبرى القياس من الشكل الأول فقط، وحال القاضي والمفتي كحال عالِم بها مع علمه بصغراه، فالفقيه -مثلاً- يعلم أن البينة على المدّعي، وقد يخفى عليه متى عرضت عليه نازلة من هو المذعي من الخصمين؟ وتمييز المدّعي من المدّعى عليه في النوازل الجزئية من شأن القاضي والمفتي. وللقاضي صفات هي شروط في صحة ولايته معروفة في كتب الفقه. وهي: الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والذكورة والعلم والعدالة. وشرط (الذكورة) معروف بين علماء الإسلام في القديم والحديث، ومن شواهده: ما جاء في الصحيح من قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة"، ونسبوا إلى ابن جرير الطبري: أنه يجيز أن ¬

_ (¬1) "الإحكام في الفتاوى والأحكام" للقرافي.

تكون المرأة قاضية، ونسبوا إلى أبي حنيفة: أنه يجيز قضاءها فيما تشهد فيه، أما ما نسب إلى ابن جرير، فلم يصح نقله عنه، ومن لم ينظر إليه من جهة صحة النقل، قال: "هو من الشذوذ ومخالفة الإجماع بحيث لا ينبغي الالتفات إليه" (¬1). وأما ما نسب إلى الإمام أبي حنيفة، فمحمول على أنه يصحّ أن تقضي في واقعة على وجه التحكيم، لا على أنها تقلّد منصب القضاء. قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام": "ونقل عن محمد ابن جرير الطبري إمام الدين: أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله -كما نقل عن أبي حنيفة- أنها تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستنابة في الفضية الواحدة؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة"، وهذا الظن بأبي حنيفة وابن جرير، وقد روي: أن عمر بن الخطاب قدَّم امرأة على حسبة السوق، ولم يصح، فلا تلتفتوا إليه؛ فإنما هو من دسائس المبتدعة". وأما صفة (العلم)، فشرط القاضي في الأصل أن يكون بالغاً رتبة الاجتهاد. ولما قل في علماء الشريعة من يدرك هذه المرتبة، أجازوا ولاية المتابع لمذهب إمام من أئمة الاجتهادة حتى لا تتعطل الأحكام. ولا يعدل عمن له قدرة على الترجيح بين الأقوال إلى من قصر باعه عنها. ¬

_ (¬1) "الأحكام السلطانية" للماوردي.

وأما صفة (العدالة)، فمعدودة في شرط صحة القضاء كما قال سحنون: "من لا تجوز شهادته لا تصح ولايته". ومقتضى بطلان ولاية غير العدل: عدم نفاذ حكمه. وقال بعض الفقهاء: "إن حكَمَ، ووافق حكمه وجه الحق، مضى حكمه". فالقاضي العدل تحمل أحكامه على أنها موافقة لوجه الحق، وتنفذ إلا إذا تبين أنها مخالفة له، وغير العدل لا تحمل أحكامه على إصابة وجه الحق، ولا تنفذ إلا إذا تبين أنها صواب. والسياسة في قولنا: "السياسة القضائية" يراد بها: الأحكام والنظم المتعلقة بالقضاء، ويسميها الكاتبون في أسماء العلوم وتعريفاتها: (علم القضاء)، ويقولون في تعريفه." هو علم يبحث فيه على آداب القضاة في أحوالهم وقضاياهم، وفصل الخصومات، ونحو ذلك". * حكم الحكم يرفع الخلاف: إذا حكم حاكم في قضية على طريق الاجتهاد، فإن حكمه يرفع الخلاف، فليس لقاضٍ آخر أن ينقض الحكم في هذه القضية، إلا إذا خالف النص الجلي من الشريعة، أو الإجماع، أو القواعد القطيعة، وهذا هو المعروف في أحكام القاضي المحجتهد. وأما القاضي المتابع لإمام من الأئمة المجتهدين، فليس له أن يحكم إلا بالقول الراجح في مذهبه. قال ابن نجيم في إحدى رسائله: "قولهم: حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية يمضي، ولا يجوز نقضه، إنما هو في حق المجتهد، أما القاضي المقلِّد، فليس له الحكم إلا بالصحيح المفتى به في مذهبه، ولا ينفذ قضاؤه بالقول الضعيف".

وقال التسولي في "شرح العاصمة": "إن قضاة اليوم لا يمضي حكمهم بخلاف المشهور، أو الراجح، أو المعمول به". ووجه هذا الذي قرّروه: أن من لم يبلغ رتبة الترجيح من طريق الأدلة، لا يعدل عن الراجح إلا لقصد يخرج به عن سنّة العدل في القضاء. * مكانة القضاء: القضاء من الوظائف الشرعية الداخلة في مهمات الخلافة، ويكفيه شرفاً أنّ الرسل والأنبياء - عليهم السلام - كانوا يتولونه بأنفسهم، ونبّه النبي - صلى الله عليه وسلم - لفضله، وسموّ مكانته بقوله: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها، ويعلّمها". والمراد من الحسد: الغبطة، وهي أن تتمنّى مثل ما أوتيه غيرك. وحصر الغبطة في هاتين الخصلتين، وهي محمودة في كل خصلة من خصال الخيرة للتنبيه على بلوغ مكانة القضاء والإنفاق في الخير أقصى غاية في السموّ في نظر الشارع الحكيم، ومن أساليب البلاغة: استعمال أداة الحصر للدلالة على أهمية الشيء، وإحرازه المرتبة العليا في المعنى الذي قد يشاركه فيه غيره، فيرجع معنى الحديث إلى معنى: أنه لا غبطة كاملة إلا الغبطة في هاتين الخصلتين. ومن سموّ مكانة القضاء: أن القاضي يستدعي أكبر شخص في الأمة؛ كالخليفة إلى مجلس حكمه، ويقضي عليه متى كان الحق في جانب خصمه، وكذلك كان يفعل قضاة العدل في الإسلام؛ كأبي يوسف: حكم ليهودي في قضية رفعها على الخليفة هارون الرشيد، وكان بشير قاضي قرطبة: حكم لتاجر خامل على الخليفة عبد الرحمن الناصر، وقال له: إن لم تنفذ ما حكمت

به، فإني أستقيل من القضاء. وإذا كانت الأعمال تتفاوت في الفضل على قدر تفاضل غاياتها، فإن للقضاء غاية تعد من أجل الغايات: هي نصر المظلوم، وكفّ يد الظالم، وقطع المنازعات، والإصلاح بين الناس، وأداء الحق لمستحقه، ومن ذلك يستتب الأمن في البلاد، وإذا استتب الأمن، فهنالك طمأنينة النفوس، وسعادة الحياة. * سلطة القضاء: كل أمة في حاجة إلى ثلاث سلطات: سلطة تشريعية تضع قوانين تميز الحق من الباطل، والصالح والفاسد. وسلطة قضائية تصدر أحكامها على من يشتبه عليه الحق من الباطل، أو تغلبه أهواؤه على أن يخرج عن تلك القوانين. وسلطة تنفيذية تقوم على تنفيذ تلك الأحكام الصادرة من السلطة القضائية. ومصدر التشريع في القضاء الشرعي: هو الله -سبحانه وتعالى- بما أنزله في كتابه الحكيم، وما جاء في سنة رسوله الصادق الأمين - صلوات الله وسلامه عليه -, وما تضمنه الكتاب والسنّة من الأصول التي يرجع إليها المجتهد في تقرير أحكام الواقع إن لم يجدها في نص آية أو حديث. ومن هنا كان الإعراض عن الأحكام الشرعية إلى القوانين الوضعية؛ بزعم أن هذه القوانين أحفظ للمصلحة، وأشد مطابقة للحكمة كُفْراً لا مرية فيه، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ

لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. ويرجع النظر في السلطة القضائية إلى ما يدخل في حدود ولاية القاضي من أنواع القضايا التي ترفع إليه، ثم الموطن أو الزمان الذي يصدر فيه حكمه، ثم انفراده بالقضاء، أو إشراك غيره له فيه. أما ما يدخل في حدود ولايته، فيرجع إلى ما يرسمه له صاحب الدولة عند توليته، وقد كان القاضي في عصر الخلفاء الراشدين يفصل بين الخصوم فقط، ثم أضيف إليه -على التدريج- النظر في أمور أخرى، وصار يجمع إلى الفصل بين الخصوم: النظر في أحوال المحجور عليهم من فاقدي العقل واليتامى والمفلسين وأهل السفه، وفي الوصايا والأوقاف، والنظر في مصالح الطرقات والأبنية، وتصفّح الشهود والأمناء، واستيفاء الخبرة فيهم بالعدالة والجرح، وقسم التعازير، وإقامة الحدود في الجرائم الثابتة شرعاً (¬1). وكذلك اتسعت دائرة القضاء في الأندلس، حتى صار القضاة ينظرون في القليل والكثير بلا تحديد، وينفردون دون غيرهم بالنظر في الدماء والأوقاف والوصايا والأيتام وأموال الغيب. وإذا لم يرسم ولي الأمر لولاية القاضي حدوداً، كان المرجع في تحديدها إلى العرف، قال ابن القاسم: "اعلم أن عموم الولايات وخصوصها، وما يستفيده المولى بالولاية، يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف، وليس لذلك حدٌّ في الشرع، فقد يدخل في ولاية القضاء في بعض الأمكنة وبعض الأزمنة ما يدخل في ولاية الحرب، وقد تكون في بعض الأمكنة والأزمنة قاصرة على الأحكام الشرعية فقط، فيستفاد من ولاية القضاء في كل قطر ¬

_ (¬1) "مقدمة ابن خلدون".

ما جرت به العادة، واقتضاه العرف". وأما من جهة تخصيص السلطة القضائية بمكان، فيصح تولية القاضي الحكم في بلد، أو في محلة منه، وإنما ينفذ حكمه في المكان الذي عيّن له، ويصح توليته الحكم في القضايا التي ترفع إليه في داره، أو في مسجده، ولا يجوز له الحكم في غير داره، ولا في غير مسجده؛ لأن ولايته مقصورة على هذين المكانين. قال أبو عبد الله الزبير: "لم تزل الأمراء عندنا بالبصرة برهة من الدهر يستقضون قاضياً على المسجد الجامع يسمونه: قاضي المسجد، يحكم في مئتي درهم وعشرين ديناراً فما دونها، ويفرض النفقات، ولا يتعدى موضعه، ولا ما قدر له". وأما من جهة قصر قضائه على الزمن المعين، فيصح تقليده النظر بين الخصوم في يوم يعينه صاحب الدولة؛ كيوم السبت أو الأحد، أو أيام الأسبوع ما عدا الجمعة؛ ويكون حكمه في غير المدة المعينة غير نافذ؛ فإذا مضى يوم السبت، أو يوم الأحد -مثلاً-، استمرت ولايته التي هي صفة اعتبارية على أمثال اليوم المعين من الأيام، وإن كان ممنوعاً من النظر فيما عدا ذلك اليوم. وأما إفراد شخص بالقضاء، أو إشراك غيره له فيه، فيصح تولية قاضيين في بلد واحد على أن يختص كل منها يجانب منه، وعلى أن يختص كل منهما بنوع من الأحكام؛ كالأنكحة، أو المواريث. أما تولية قاضيين على أن يتصدر كل منهما للفصل في جميع القضايا التي ترفع إليه، فقد منعه بعض الفقهاء؛ حذراً من التشاجر في تجاذب الخصوم إليهما، وأجازه جمهور الففهاء، ويدفع ضرر التشاجر بأن يكون الحق في اختيار

أحد القاضيين للطالب، وفي تونس محكمتان: إحداهما حنفية، والأخرى مالكية، وجروا على أن يكون الحق في اختيار إحدى المحكمتين للمطلوب. ويصح تولية قاضيين على أن يشتركا في القضاء، فإذا وقعت الواقعة، نظرا فيها حتى يتفقا على الحكم، فينفذا ما اتفقا عليه، فإن اختلفا، رفعا الأمر إلى من هو فوقهما، فينظر فيه (¬1). * صلة القضاء بالحكّام: القضاء خطّة داخلة في مهمات الإمامة، والإمام يولّي القضاة لينوبوا عنه في أداء هذه المهمة، فللقضاء صلة بالرئيس الأعلى للدولة، حيث إنه داخل في شؤون ولايته، ثم إن الرئيس الأعلى قد يجعل تنفيذ الأحكام بيد القاضي نفسه، وقد يقصره على فصل النوازل، ويجعل تنفيذ أحكامه بيد غيره؛ كرجال الشرطة (المحافظة)، أو وزارة العدل. فصلة القضاء بالحكام الذين هم رجال الشرطة، أو رجال وزارة العدل، هي أنهم يقومون بتنفيذ أحكامه عندما يتعاصى المحكوم عليه عن الإذعان إلى الحكم. * الدعاوى: جمع دَعْوى، والدعوى في الأصل: اسم مصدر لفعل ادّعى، يقال: ادّعى الشيءَ؛ أي: زعم أنه له، حقاً أو باطلاً، ومعناها شرعاً -كما عرّفها الشيخ ابن عرفة-: قولٌ بحيث لو سلم، أوجب لقائله حقاً. * الدعوى الصحيحة: ذكر الفقهاء للدعوى الصحيحة التي يسمعها القاضي، ويطالب المدّعى ¬

_ (¬1) القاضي أبو بكر بن العربي في: شرح أبواب الأحكام من "صحيح الترمذي".

عليه بالجواب عنها: ستة شروط: 1 - أن تكون الدعوى محققة؛ أي: مقطوعاً بها؛ كأن يقول المدّعي: إن لي على فلان ألفاً، فلو قال: أشك، أو أظن أن لي عليه ألفاً، لم تسمع هذه الدعوى؛ لاستنادها إلى شك أو ظن. ونازع القرافي في الدعوى المستندة إلى ظن، ورأى قبولها، وأمر المدّعى عليه بالجواب عنها؛ بناء منه على أن الظن معتمد به في كثير من الأحكام الشرعية، وساق لهذا نظائر، منها: شهادة العدل الواحد، وهي لا تفيد إلا ظنّاً. ونوقش بأن الظن الذي تقوم عليه بعض الأحكام الشرعية إنما هو الظن القويّ الذي يكون قريبا من القطع، ويجوز للمدّعي أن يحلف معه على البتّ. والقطع شرط في صحة الدعوى عند من لا يرى توجه يمين التهمة، أما من يرى توجهها متى كان المدّعى عليه ممن تلحقه التهمة، فلا يعدّه في شروط صحتها. 2 - أن يكون المدّعى فيه معلوماً ببيان عينه؛ كهذا الكتاب، أو الثوب، أو بصفته؛ كلي في ذمته دنانير مصرية، أو عراقية، فإن قال: لي على فلان شيء، لم تسمع دعواه. ورأى الإمام المازري من فقهاء المالكية صحة الدّعوى بالمجهول، فيؤمر المدّعى عليه بالجواب؛ لعلّه يقرّ، فيؤمر بالتفسير، ويُسجن له، وموضع الخلاف: فيما إذا كان المدّعي لا يدري جنس المدّعى فيه، ولا قدره، فإن كان يعلم ذلك، وامتنع من ذكره، لم تسمع دعواه اتفاقاً. 3 - أن يكون المدّعى فيه ما لو أقرَّ به المدّعى عليه، لزمه، فلا تسمع

الدعوى على المحجور عليه ببيع ونحوه من المعاملات؛ لأن المحجور عليه لا يلزمه شيء من العقود، ولو أقرّ به، أو قامت عليه به بينة. 4 - أن تكون الدعوى فيما يتعلق به حكم شرعي أو غرض صحيح، فإن لم يتعلق بالمدعى فيه حكم، لم تسمع الدعوى؛ كأن يطلب المحكوم عليه من القاضي أن يحلف أنه لم يجر عليه في الحكم، أو يطلب المشهود له تحليف الشهود أنهم لم يكذبوا في شهادتهم. وإن لم يتعلق به غرض صحيح، كادعاء شخص على آخر بنحو قمحة، أو شعيرة، رفضت الدعوى كذلك. 5 - أن تكون الدعوى مما لا تشهد العادة والعرف بكذبه؛ كدعوى الحاضر الأجنبي ملك دار بيد من حازها الحيازة المعتد بها مع تحقق الشروط المعروفة (¬1). 6 - بيان سبب المعاملة، فلا يكفي أن يقول: لي على فلان مئة أو ألف دون أن يذكر سبب المعاملة؛ لاحتمال أن يكون سبب ما يدعيه فاسداً، ككونه من خمر، أو ربا؛ إذ لا يلزم المدعى عليه دفع ثمن الخمر شرعاً، ولا دفع ما هو ربا، ولا ثبت عليه ببينة، ومن ثم قال بعض فقهاء المالكية: إذا لم يسأل القاضي المدّعي عن سبب المعاملة، فهو كالخابط خبط عشواء، فإن سأله عن السبب، وامتنع من بيانه، لم يكلف المدعى عليه الجواب. ومن لا يعتدّ بهذا الشرط في صحة الدعوى، يذهب إلى حمل ما يدعيه المدّعي ¬

_ (¬1) هي أن يراه يتصرف في الدار بنحو الهدم والبناء والإيجار مدة الحيازة، وهو ساكت لا يعارضه فيها، ولا يدعي أن له فيها حقاً، ولا عذر له من نحو رهبة أو رغبة.

على وجه الصحة، حتى يتبين أنه وقع على وجه فاسد، والسؤال عن السبب من حق المدّعى عليه، وللقاضي أن ينبهه له إن لم يتنبه. * المدعي والمدعى عليه: يدور علم القضاء على معرفة المدعي والمدّعى عليه، ولم يختلفوا في أن المدّعي مطالب بالبينة إذا أنكر المدعى عليه، وأن المدعى عليه مطالب باليمين إذا لم تقم البينة، وقد يخفى على القاضي في بعض القضايا تمييز المدعي من المدعى عليه. وقد اختلفت عباراتهم في تحديدها، فقال ابن المسيب فيما ينسب إليه: كل من قال: "قد كان"، فهو مدع، وكل من قال: "لم يكن"، فهو المدعى عليه. ونوقش هذا بدعوى المرأة على زوجها المسيس في خلوة الاهتداء، فالزوج هنا هو المدّعي، وهو يقول: "لم يكن"، والمرأة مدعى عليها، وهي تقول "قد كان". وعرّفهما بعض الفقهاء بقوله: "المدّعي: من إذا سكت، ترك وسكوته، والمدّعى عليه: من إذا سكت، لم يترك وسكوت". ونوقش هذا باليتيم البالغ يطالب وليه بتسليم ماله له، فيقول الولي: قد دفعته لك، فالولي هنا هو المدّعي، واليتيم البالغ هو المدّعى عليه، ولو سكت الولي، لم يترك وسكوته. وعرّفهما القرافي فقال: "المدّعي: من كان قوله على خلاف أصل أو عرف، والمدّعى عليه: من كان قوله على وفق أصل أو عرف". ومثله قول ابن الحاجب: "المدّعي: من تجرد قوله عن مصدق، والمدعى عليه: من ترجح بمعهود أو أصل". ويريد بالمعهود: شهادة العرف، وبالأصل: استصحاب الحال. وأورد على هذا التعريف: أن المدّعي الذي بيده بينة لم يتجرد قوله

عن مصدق. وأراد الشيخ ابن عرفة أن يتخلص من هذا الإيراد فقال: "المدّعي: من عريت دعواه من مرجع غير شهادة، والمدعى عليه: من اقترنت دعواه به". وقد تتعارض أنظار الفقهاء في القضية يكون بجانب كل واحد من الخصمين مرجع يحتمل أن يجعله مدعى عليه؛ كالمرأة تدّعي على زوجها الحاضر أنه لم ينفق عليها، فذهب المالكية إلى أن المرأة مدعية، والزوج مدعى عليه؛ لأن العرف والغالب يشهد بصدق الزوج؛ وذهب الشافعية إلى أن الزوج مدع، والمرأة مدعى عليها؛ لأن الأصل عدم الإنفاق. * أقسام الدعاوى: لا يسير القاضي بالدعاوى سيرة واحدة، بل تختلف أحوالها، فيختلف نظره إليها، وبذلك انقسمت إلى ثمانية أقسام. 1 - ما لا يسمعه الحاكم، ولا يلزم المدّعي من أجل ما ادعاه شيئاً، وهي الدعاوى التي يكذبها العرف والعادة. 2 - ما لا يسمعه الحاكم، ويؤدِّب المدعي على ما ادعاه؛ كالدعاوى على أهل الدين والصلاح بما لا يليق بهم؛ منعاً لتسلط أهل الشر على أعراض الأبرياء من الناس. ومن الفقهاء من قال: لا يعاقب المدّعي في هذه الصورة؛ وحقق الإمام مالك النظر فقال: إن نسب إليهم ما لا يليق بهم على وجه المشاتمة، أُدِّب، وإن قاله على وجه المطالبة بحق، لم يؤدَّب. 3 - ما يسمعه الحاكم، ويمكن المدّعي من إقامة البينة على دعواه، ولا يلزم المدعى عليه بالجواب؛ كالدعاوى على الصغير والسفيه. 4 - ما يسمعه الحاكم، ويمنع المدّعي من إقامة البينة على صحة ما ادعاه،

ولكن يرى فيه القاضي رأيه؛ كدعوى شخص على من اعتدى على مال غائب من غير وكالة من الغائب، يريد صيانة ماله من الضياع. 5 - ما يسمعه الحاكم، ولا يلزم المدعى عليه الجواب عنه إلا بشرط؛ كدعوى الرجل العقار على من هو حائزه زاعماً أنه صار إليه ممن ورثه عنه، فلا يلزم المدعى عليه الجواب حتى يثبت المدعي موت من ادّعى أنه ورث ذلك العقار عنه. 6 - ما يسمعه الحاكم، ويمكّن المدعي من إقامة البينة، ولا يحكم له بموجب ماشهد له به على الفور، وهي دعوى الرجل: أن المفقود أوصى له، أو أوصى إليه، فإن القاضي يمكّن المدّعي من إقامة البينة على دعواه، ولا يحكم له بشيء، إذ لا يجب له شيء إلا بعد موت المفقود. 7 - ما يسمعه الحاكم، ويمكّن المدعي من إقامة البينة على دعواه، ويلزم المدعى عليه بالجواب، وهي الدعوى المستوفية لشروط الصحة السالف ذكرها. 8 - ما لا يسمعه الحاكم، ولا يمكّن المدّعي من إقامة البينة على ما ادعاه؛ كالمودع يجحد الوديعة، ثم يدّعي أنه ردّها، فلا تسمع دعواه، ولا يمكّن من إقامة البينة على أنه ردها (¬1). * دعاوى الحقوق ودعاوى التهم: فى عوى الحقوق: ما يطلب المدّعي بها حقاً على سبيل التحقيق في الدعوى، ولو لم يقم عليه بينة؛ كدعوى البيع أو القرض أو الإعارة أو الوصية ¬

_ (¬1) "التبصرة" لابن فرحون.

أو الغصب محققاً الدعوى لا يعتربه فيها ريب. ودعوى تهمة، وهي: ما لم يصدر عن تحقيق، وإنما يقول المدّعي: أتهم فلاناً بسرقة كذا، أو أتهم المدين مدّعي الإعسار بأن له مالاً حاضراً، وهذه هي الدعاوى التي اختلف الفقهاء في توجه اليمين قولاً واحداً، ومما تمتاز به دعوى التهمة: أنها لا تنقلب لو أراد المدعى عليه قلبها على المدعي. * طرق الحكم: البينات: القضاء العادل ما تحقق فيه أمران: علم القاضي بالحادثة التي يتصدّى للقضاء فيها، وعلمه بالحكم الذي ناطه الشارع بتلك الحادثة. أما علمه بحكم الشارع، فيستمده من نصوص الشريعة، أو من أصولها بطريق الاستنباط. وأما علمه بالحادثة، فيحصل من طرق تسمى: طرق الحكم، أو أدلة ثبوت الدعوى، أو الحجج الشرعية. وللفقهاء في هذه الطرق مذهبان: مذهب من يحصرها في أنواع معينة، ومذهب من يعوّل في ضبطها على حصول العلم بالحادثة، فكل ما يصل منه القاضي إلى ثبوت الواقعة، فهو طريق للحكم، ودليل بثبوت الدعوى. والأنول المعينة التي حصر فيها بعض الفقهاء طرق الحكم هي: البينة؛ أي: الشهادة، والإقرار، واليمين، والنكول، والقسامة، وعلم القاضي. وذهب آخرون إلى أنها ثلاثة فقط: الشهادة، واليمين، والنكول، وأسقطوا الإقرارة نظراً إلى أنه موجب للحق بنفسه، لا طريق للحكم؛ إذ الحكم: فصل الخصومة، ولا خصومة مع الإقرار، وليس على القاضي في حال

الإقرار إلا أن يأمر المدعى عليه بدفع ما أقر به. وأسقط القسامة؛ لأنها داخلة في اليمين، وأسقط علم القاضي؛ ترجيحاً لعدم صحة الإسناد إليه في فصل التوازن. وأما مذهب من يجعل مدار طريق الحكم على ما يظهر به الحق، فقد قرره ابن القيم، فقال: "البيّنة: اسم كل ما يبين الحق، فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمدعى: "ألك بيّنة؟ "، وقول عمر بن الخطاب: "والبينة على المدّعي" المراد بذلك: ما يبين الحق من شهود أو دلالة؛ فإن الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق مما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه، وشواهد له، ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصصه به؛ مع مساواة غيره في ظهور الحق، أو رجحانه عليه ترجيحاً لا يمكن جحده ودفعه؛ كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد في صورة من على رأسه عمامة، وبيده عمامة، وآخر خلفه مكشوف الرأس يعدو أثره، ولا عادة له بكشف رأسه، فبينة الحال ودلالته هنا تفيد ظهور حق المدعي أضعاف ما يفيده مجرد اليد عند كل أحد، فالشارع لا يهمل مثل هذه البينة والدلالة، ويضيع حقاً يعلم كل أحد ظهوره". الشهادات: وردت الشهادة في اللغة لمعانٍ: منها: الحضور، تقول: شهدت مجلس كذا؛ أي: حضرته. ومنها: الاطلاع والمعاينة، تقول: شهدت كذا؛ أي: اطلعت عليه، وعاينته. ومنها: الإخبار بالشيء على وجه القطع، تقول: شهد فلان بكذا؛ أي: أخبر به جازماً.

وأما معناها في الاصطلاح، فقد أشار القرافي إلى صعوبة ضبطه، فقال: أقمت سنين أسأل، أطلب الفرق بين الشهادة والرواية، وأسأل الفضلاء عنها، فيقولون: الشهادة يشترط فيها: العدد والذكورة والحرية؛ بخلاف الرواية. فأقول لهم: اشتراط ذلك فرع تصورها، فلو عرفت بأحكامها، لزم الدور، ثم قال "ولم أزل في شدة قلق حتى طالعت "شرح البرهان" للمازري، فوجدته قد حقق ذلك، وميَّز بين الأمرين، فقال "هما خبران، غير أن المخبر عنه إن كان عاماً لا يختص بمعين، فهو الرواية؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام -: "الأعمال بالنيات" فإن ذلك لا يختص بشخص معين، بل عام في كل الخلق؛ بخلاف قول العدل عند الحاكم: لهذا عند هذا دينار، فإنه إلزام معين لا يتعداه، والأول هو الرواية، والثاني هو الشهادة". وقد زاد بعض الفقهاء هذا الفرق تحقيقاً، فقال "إنَّ الخبر إنْ تعلق بجزئي، وقصد به ترتيب فصل القضاء عليه؛ كقولك: لفلان على فلان كذا، فهو الشهادة، وإن تعلق بأمر عام لا يختص بمعين، أو تعلّق بجزئي من غير قصد ترتيب فصل القضاء عليه؛ كحديث: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة"، ونحوه، فهو الرواية، وقد أوجز هذا المعنى من الأصوليين من قال: "الإخبار عن عام لا ترافع فيه الرواية، وخلافه الشهادة". وقد عزَف الشهادة بعض فقهاء الحنفية، فقال: "إخبار صدق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القاضي، ولو بلا دعوى" (¬1). فقوله: (إخبار) جنس، وقوله: (صدق) فصل أخرج الإخبار الكاذب، وقوله: (لإثبات حق) أخرج الإخبار الذي يكون لغرض غير إثبات الحق، ¬

_ (¬1) كتاب "التنوير".

وقوله: (بلفظ الشهادة) خرج به الإخبار بلفظ آخر، نحو: أعلم، وأجزم، وقوله: (في مجلس القاضي) أخرج الإخبار في غير مجلس القضاء، وقوله: (بلا دعوى) أدخل شهادة الحسبة، وهي ما يكون في حق الله تعالى (¬1)؛ فإنه لا يشترط فيها تقدم الدعوى. وعرّفها الشيخ ابن عرفة من فقهاء المالكية فقال: "الشهادة قول هو بحيث يوجب على الحاكم سماعُه الحكم بمقتضاه إن عُدل (¬2) قائله مع تعدد أو حلف طالبه". صيغة الشهادة: المعروف أن الحنفية يشترطون في أداء الشهادة لفظ: (أشهد). قال في "البدائع": "وأما الشرائط التي ترجع إلى نفس الشهادة، فأنواع، منها: لفظ الشهادة، فلا تقبل بغيرها من الألفاظ؛ كلفظ الإخبار والإعلام ونحوهما، وإن كان يؤدي معنى الشهادة تعبداً غير معقول المعنى". وقال في "الهداية": "إن النصوص نطقت باشتراط هذه اللفظة". ونصوص بعض المالكية تدل على أنهم لا يشترطون في أداء الشهادة لفظ: أشهد. وقال ابن قيم الجوزية: "وظاهر كلام أحمد بن حنبل: أنه لا يشترط في صحة الشهادة لفظ: أشهد، بل متى قال الشاهد: رأيت، أو سمعت، أو نحو ذلك، كانت شهادة منه". وقصر الأداء في الشهادة على لفظ: أشهد لا يقوم عليه دليل، ودعوى ¬

_ (¬1) كمن يرى رجلاً يعيش مع امرأة عيشة الأزواج بعد أن طلقها ثلاثاً، فيشهد لدى القاضي. (¬2) نسب إلى العدالة عند الحاكم نفسه.

التعبد في مثل هذا المقام لا يظهر له وجه وجيه. شروط قبولها: ترجع الشروط العامة إلى ثلاثة أصول: 1 - كون الشاهد من أهل الولاية على غيره، فيشترط فيه: أن يكون عاقلاً بالغاً حراً، فلا شهادة للمعتوه، ولا للصبي، ولا الرقيق. وأجاز مالك شهادة الصبيان في مواطن، وعلى شروط سيأتي بيانها. واستبعد ابن الهمام في "فتح القدير" عدم قبول شهادة العبد، وذلك ما قرره ابن القيم في كتاب "إعلام الموقعين"، إذ قال: حكى الإمام أحمد عن أنس بن مالك إجماع الصحابة على شهادته، فقال: ما علمت أحداً ردّ شهادة العبد، وقال: إذا قبلت شهادته على حكم الله ورسوله في الفروج والدماء والأموال في الفتوى، فلأن تقبل شهادته على واحد من الناس أولى وأحرى، كيف وهو داخل في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]؛ فإنه منّا, وهو عدل وقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وهو من رجالنا. 2 - العدالة، ومدارها على اجتناب الكبائر، واتقاء الصغائر، وحفظ المروءة. والعدل: من يجتنب (¬1) الكبائر، ويتحامى الصغائر غالباً (¬2)، ولا يأتي بما يخل بالمروءة من قول؛ كالتصريح بأقوال لم ينطق بها الشرع إلا بالكناية، ¬

_ (¬1) يراد من الاجتناب: ألا تصدر منه أصلاً، ويلحق بهذا: أن تكون قد صدرت منه، وعرفت توبته منها. (¬2) هذا في غير الصغائر الخسية؛ كالنظر إلى الأجنبية بلذة، أما الصغائر الخسية؛ كسرقة لقمة، وتطفيف حبة، فتلحق بالكبائر في قدحها بالعدالة، وإن وقعت مرة.

أو فعل؛ كإدمان اللعب بالحمام، ويرجع معنى المروءة إلى المحافظة على فعل مباح يوجب تركه الذمّ عرفاً؛ كترك الانتعال للموسر في بلد يزري بمثله الحفاء، وعلى ترك مباح يوجب فعله الذم عرفاً؛ كالأكل في السوق لغير السوقي، وإنما يشترط في الشاهد العدالة في بلد يكون فيه، أو فيما يقرب منه عدول، وقال ابن العربي في "أحكامه": "إذا كانت قرية ليس فيها عدول، وبعدوا عن العدول، فالذي عليه الجمهور: أن لا تجوز شهادة بعضهم لبعض". والمنقول عن كتاب "النوادر": "أما إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول، أقمنا أصلحهم وأقلهم فجوراً للشهادة، ويلزم ذلك في القضاء وغيره؛ لئلا تضيع المصالح، ولا أظن أحداً يخالف في هذا؛ لأن التكليف شرطه الإمكان. وبهذا عمل المتاخرون من فقهاء المالكية، وللخوف من ضياع المصالح ألغى الفقهاء التجريح بالكبيرة التي تعم بها البلوى؛ كالغيبة، ولا تجرح مسلماً بالغيبة؛ لأنها عمت بها المصيبة". جاءتني أيام ولايتي القضاء في مدينة "بنزرت" (¬1) رسالة من المحكمة العليا في عاصمة تونس بإصدار إذن في تجريح شهود إحدى البينات، فوقع تجريح أحدهم بأنه يؤخر الصلوات عن أوقاتها، ولم يكتف أعضاء المحكمة -وفيهم أساتذة لي- بهذا التجريح؛ كأنهم يرون تأخير الصلوات عن أوقاتها، وإن كان معدوداً في الكبائر، ملحقا بالغيبة في كثرة ابتلاء الناس به. 3 - انتفاء التهمة عن العدل في شهادته: تجيء التهمة إلى الشاهد من جهة القرابة، أو الزوجية، أو الصداقة، ¬

_ (¬1) مدينة في شمال تونس.

أو العداوة، أو كون الشهادة تجرّ إليه مغنماً، أو تدفع عنه مغرماً، أو حرصه على أداء الشهادة. أما شهادة القريب لقريبه، فقد اختلفت فيها آراء الفقهاء، فمنهم من جوّزها بإطلاق، ولم يجعل القرابة مانعة من الشهادة بحال، وهذا ما يقوله الظاهرية؛ كابن حزم وغيره احتجاجاً بالنصوص العامة الواردة في الإشهاد، وهي لا تفرق بين أجنبي وقريب. ومنعت طائفة شهادة الأصول للفروع، والفروع للأصول خاصة؛ نظراً إلى شدة القرابة التي قد تزحزح العدل عن مقتضى العدالة، وجوّزت شهادة سائر الأقارب بعضهم لبعض، وهذا مذهب الشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل. وأما شهادة الأخ لأخيه، فالجمهور يجيزونها، غير أن بعض الفقهاء قيدها بما إذا كان الشاهد عدلاً مبرزاً؛ وقيدتها طائفة أخرى بما إذا كان المشهود به يسيراً لا كثيراً؛ وقيدها آخرون بما إذا لم تنل الشاهد صلة المشهود له؛ كأن يكون في عياله. وأما شهادة الزوج لامرأته، والمرأة لزوجها، فمنعها بعض الفقهاء، وأجازها آخرون، وممن أجازها: القاضي شريح: حكي عنه أنه أجاز لامرأة شهادة أبيها وزوجها، فقيل له: إنه أبوها وزوجها! فقال: من يشهد للمرأة غير أبيها وزوجها؟ قال الزهري: لم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا الأخ لأخيه، ولا الزوج لامرأته، ثم دخل الناس، فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من قرابة، وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة، لم

يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان. وأما الصداقة، فتقدح في الشهادة متى اشتدت، ويلغت النهاية؛ إذ يكون صاحبها مظنة أن تنحرف به تلك العاطفة القوية عما توجبه العدالة، ومن أمارتها: أن يبسط كل منهما يده في مال الآخر. وأما العداوة، فتقدح في الشهادة متى كان منشؤها أموراً دنيوية، فإن كانت ناشئة من انتهاك الشخص حرمة من حرمات الشريعة، لم تعد في قوادح الشهادة؛ إذ لا تلحقه تهمة الشهادة عليه زوراً، وشهادة الزور من كبائر ما حرّمه الدين. وأما كون الشهادة تجرّ إلى الشاهد مغنماً، أو تدفع عنه مغرماً، فقد قالوا: لا تجوز شهادة رب الدين لمدينه المعسر، ولا الشريك لشريكه فيما يرجع إلى شركتهما، ولا المولى لعبده. وأما ظهور حرص الشاهد على أداء شهادته، فيعد قادحاً متى تعلقت الشهادة بحقوق العبادة إذ يثير ظهور حرصه شبهة أن تكون شهادته من قبيل ما يجرّ إليه نفعاً من المشهود له؛ كأن يتقدم بشهادته إلى مجلس القضاء قبل أن يطلبه المشهود له، وإنما الشأن أن يعلمه بها، وهو الذي يطلبه لأدائها في مجلس القضاء. وأما الحرص على أداء الشهادة في حقوق الله، فليس بقادح؛ إذ لا يثير تهمة جرّ منفعة دنيوية. وصفوة البحث: أن العدالة متى ثبتت، أوجبت لصاحبها قبول شهادته، ولا يقدح فيها مجرد قرابته من المشهود له، أو عداوته للمشهود عليه. ولكن التربية الدينية الصحيحة التي كانت سائدة في النفوس تضاءلت حتى لم تبق العدالة من القوة بحيث تسقط بجانبها تهمة محاباة أب أو ابن أو أخ، أو تهمة

قصد الإضرار بعدو من طريق شهادة الزور. وإذا كان الوهن في العدالة هو الغالب في الناس، صحّ أن تناط به الأحكام، ويبنى عليه عدم قبول شهادة من اشتدت قرابته، أو اتضحت عداوته، إلا أن يكون بالغاً في العدالة الدرجة العليا. وقد رأينا فيما عرفناه وصاحبناه من أهل النبل والتقوى من لو شهد لابنه أو أخيه، أو شهد على من يناصبه العداوة، لم يخالجنا ريب في صدقه، ولم نتردد في قبول شهادته. شروطها الخاصة: وأما الشروط الخاصة، فهي: الإسلام، والذكورة، والعدد، وتقدم الدعوى (¬1)، وكانت شرطاً لها خاصة؛ لأنها ليست شروطاً في جميع الشهادات؛ كما يظهر أمرها من بعض الفصول الآتية. - تزكية الشهود: قال الإمام أبو حنيفة: كل من أظهر الإسلام حُكم له بالعدالة، وقبلت شهادته حتى يظهر فسقه، فيقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم، ولا يسأل عن الشهودة إذ الظاهر: أن المسلم ينزجر عما هو محرّم في دينه، وفي الظاهر كفاية، فإن طعن الخصم في الشهود، أو كانت الشهادة على الحدود، أو القصاص، لم يكتف بظاهر العدالة، ولا بد من السؤال عن الشهود وتزكيتهم. وقال أبو يوسف ومحمد: لا بدّ من السؤال عن الشهود في السر والعلانية في جميع الحقوق، وهو مذهب الإمامين: الشافعي، وأحمد بن حنبل؛ نظراً ¬

_ (¬1) شرط في الشهادة على حقوق العباد كما تقدم، لا في حقوق الله.

إلى أن الغالب في الناس عدم العدالة، وفصَّل الإمام مالك، فقال: من جهل الحاكم أمره، ولم يعرفه بعدالة أو فسق، فلا بد من تزكيته، فإن كان الشاهد معروف العدالة عند القاضي؛ بحيث يزكيه عند غيره لو لم يكن قاضياً، يقبل شهادته بدون تزكية. شهادة الرجال: يشترط لصحة الشهادة على الزنا أربعة رجال؛ لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]، وقد انعقد الإجماع على اشتراط الذكورة في هذه الشهادة، وكون الشهود أربعة. وإنما تضم شهادتهم إذا اتفقوا على موضع الزنا، ووقت رؤيته، وصفته؛ فإن اختلفوا في الموضع، أو الوقت، أو الصفة، بطلت شهادتهم؛ قال في "إعلام الموقعين": إنما أمر الله سبحانه بالعدد في شهود الزنا؛ لأنه مأمور فيه بالستر، ولذا غلظ فيه النصاب، فإنه ليس هناك حق يضيع، وإنما هو حدّ وعقوبة، والعقوبات تدرأ بالشبهات، ويقبل فيما عدا ذلك من المعاملات وسائر الحدود شهادة رجلين. طائفة من قضاة: وحكى ابن القيّم عن بعض السلف: أنهم أجازوا وقضوا بشهادة رجل واحد، وقال: فإذا علم الحكم صدق الشاهد الواحد، فإن له الحكم بشهادته، وإن رأى تقويته باليمين، فعل. وقال: يجوز للحاكم الحكم بشهادة الرجل الواحد إذا عرف صدقه في غير الحدود (¬1). ¬

_ (¬1) "الطرق الحكمية" (ص 66، وص 75).

شهادة النساء: تقبل فيما لا يطلع عليه الرجال من نحو: الولادة، والبكارة، وعيوب النساء. قال الزهري: "مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن"، وقال ابن عمر: "لا تجوز شهادة النساء وحدهن إلا على ما لا يطلع عليه غيرهن من عورات النساء وحملِهن وحيضِهن". واكتفى الإمام أبو حنيفة في هذا الباب بشهادة امرأة واحدة، فألغى العدد كما ألغى الذكورة؛ ليخف النظر فيما لا يطلع عليه الرجال. وقال الإمام مالك: لا يقبل في ذلك إلا امرأتان، بناء منه على أن العدد معتبر في الشهادة، فيبقى بحاله، وإنما سقط اعتبار الذكورة للتعذر. وقال الشافعي: لا يكفي فيما ينفرد فيه النساء إلا أربع؛ لأن العدد معتبر في الشهادة، وقد جعل الله تعالى المرأتين قائمتين مقام الرجل الواحد، فيكون نصاب الشهادة أربعة من النساء. الرجل الواحد والمرأتان: يُقضى بشهادة رجل وامرأتين؛ فقال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282} (¬1). ¬

_ (¬1) هذه الآية ظاهرة في أن شهادة المرأة كانت بمنزلة نصف شهادة الرجل، حيث إن النسيان يعرض للمرأة أكثر مما يعرض للرجل، وهذا ما يقوله علماء الشريعة، ولم أر من شذَّ عنهم سوى شارح "فتح القدير"، فقد نفى أن يكون جعل شهادة المرأتين بمنزلة شهادة رجل لنقصان ضبط المرأة، وذهب إلى أن ذلك إنما كان لإظهار درجتهن عن الرجال، وقال: "ولقد نرى كثيراً من النساء يضبطن أكثر من الرجال، والفقهاء لا ينكرون أن بعض النساء يضبطن أكثر من بعض الرجال، ولكن الأحكام الشرعية تبنى على الغالب، وما تجري به العادة".

وقد اختلف الفقهاء فيما تقبل فيه شهادة الرجل والمرأتين، فقال أبو حنيفة: تقبل في جميع الأحكام إِلا القصاص والحدود، وقال الإمامان مالك، والشافعي: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إِلا في الأموال وتوابعه؛ كالآجال، والشفعة، والخيار، دون حقوق الأبدان، والنكاح، والطلاق، والدماء، والجراح، وما يتصل بذلك. شهادة الصبيان: يقول الفقهاء: إن البلوغ شرط في صحة الشهادة، وأجاز الإمام مالك شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح: قال في "الموطأ": "الأمر المجتمع عليه عندنا: أن شهادة الصبيان تجوز فيما بينهم من الجراح، ولا تجوز على غيرهم، وإنما تجوز شهادتهم فيما بينهم من الجراح وحدها، لا تجوز في غير ذلك إذا كان ذلك قبل أن يتفرقوا أو يخيبوا ويعملوا، فإن افترقوا، فلا شهادة لهم إِلا أن يكونوا قد أشهدوا العدول على شهادتهم قبل أن يتفوقوا"، وقوله: (الأمر المجتمع عليه عندنا) ظاهر في أن هذا مما جرى به عمل أهل المدينة، ونسبه ابن القيم إلى عمل الصحابة وفقهاء الأمصار، وقال: "فإن الرجال لا يحضرون معهم في لعبهم، ولو لم تقبل شهادتهم، لضاعت الحقوق، وتعطلت، وأهملت، مع غلبة الظن أو القطع بصدقهم، ولا سيما إذا جاؤوا مجتمعين قبل تفرقهم ورجوعهم إلى بيوتهم، وتواطؤوا على خبر واحد، وفرقوا وقت الأداء، واتفقت كلمتهم، فإن الظن الحاصل بشهادتهم أقوى بكثير من الظن الحاصل من شهادة رجلين". شهادة غير المسلم على المسلم: لا تقبل شهادة الكافر على المسلم في غير الوصية، واختلفوا في شهادته

عليه في وصية في السَّفر، فقال أبو حنيفة: تجوز على الشروط التي ذكرها الله تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} [المائدة: 106]. وقال الإمامان مالك والشافعي: لا تجوز، ولو على هذه الشروط، ورأوا أن الآية منسوخة، وروى حديث الشيخ ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنه -. "والآية صريحة في قبول شهادة الكافر على وصية في السفر لمن عدم الشاهدين المسلمين، ولم يجئ بعدها ما ينسخها، فإن المائدة من آخر القرآن نزولاً، وليس فيها منسوخ، وليس لهذه الآية معارض البتّة (¬1). شهادة غير المسلم على غير المسلم: ردّها بعض الفقهاء. وقال آخرون: تمضي، واحتجوا بأنهم يتعاملون فيما بينهم بأنواع المعاملات من المداينات، وعقود المعاوضات، وغيرها، ويقع بينهم الجنايات، ويتحاكمون إلينا، فلو لم تقبل شهادتهم بعضهم على بعض، لضاعت حقوقهم. واختلف هؤلاء، فقال بعضهم: إنما تجوز شهادة غير المسلم على أهل ملته. وروي عن الزهري أنه قال: تجوز شهادة النصراني على النصراني، واليهودي على اليهودي، ولا تجوز شهادة أحدهما على الآخر، وكذلك قال الحسن: إذا اختلفت الملل، لم تجز شهادة بعضهم على بعض. وهذا الرأي مبني على مراعاة العداوة التي تكون بين أصحاب الملتين المختلفتين. ورأى آخرون جواز شهادة نصراني على مجوسي، أو مجوسي على نصراني، ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين".

وصحَّ هذا عن عمر بن عبد العزيز، وجماعة من التابعين، وهو قول الإمام أبي حنيفة. شهادة غير العدل: سبق في بحث العدالة ما قاله صاحب "النوادر" (عبد الله بن أبي زيد القيرواني) في أهل بلد لا يوجد بينهم عدول، وما صرح به جماعة من الفقهاء في التجريح بالكبيرة تغلب على الناس؛ كالغيبة، وتأخير الصلاة عن وقتها، ونزيد هنا: ما نقله حسن صديق في كتاب: "ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي" عن شيخه الشوكاني، وملخصه: أن كثيراً من القرى التي يسكنها جماعة من الحرَّاثين المعروفين الآن بالقبائل قد لا يوجد في القرية الواحدة -وإن أكثر الساكنون بها- من يستحق أن يطلق عليه اسم العدل قط، ثم يقع بينهم التظالم في الدماء والأموال، وليس بينهم عدل معتبر في الشهادة، ولا يحضرهم عدل من غيرهم، فيترافعون إلى حكام الشريعة، فماذا يصنع الحاكم عند ترافعهم إليه؟ ولو يسمعون على كثرتهم بأنه ليس على من قتل نفساً، أو أخذ مالاً، أو هتك حرمة إِلا اليمين، لكان ذلك من أعظم البواعث لهم على الإفراط في ذلك، والتهافت عليه، وهذه الشريعة المطهّرة مبنية على جلب المصالح، ودرء المفاسد، فلو قال الحاكم المترافع إليه: هات البينة التي معك، ثم سمعها، واستكثر من عددها حتى تلوح له أمارات الصدق، كان ذلك أقرب إلى اعتبار جلب المصلحة الشرعية، ودفع المفاسد المخالفة للشرع. تحليف الشهود: المعروف أن الشاهد لا يحلَّف، وقال ابن وضّاح من فقهاء المالكية:

أرى لفساد الزمان أن يحلَّف الحاكم الشهود. وفعل هذا محمد بن بشير قاضي قرطبة، وقال ابن عباس - رضي الله عنه - بتحليف المرأة إذا شهدت بالرضاع، وورد في القرآن الكريم تحليف غير المسلم الشاهد على الوصية في السفر. ويتلخص من هذا: أنه يجوز للحاكم تحليف الشهود إذا اشتبه في أمرهم. التفريق بين الشهود: أوّل من فرق بين الشهود علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وكان فرَّق بين امرأتين شهدتا على يتيمة أنها بغت، وبالتفريق بينهما تبين أن شهادتهما زور، فقال علي: الله أكبر! أنا أوّل من فرّق بين الشاهدين (¬1). وصرح الفقهاء كلهم: أن الحاكم إذا ارتاب بالشهود، سألهم: كيف تحملوا الشهادة، وأين تحملوها؟ وذلك واجب عليه، متى عدل عنه، أثم، وجار في الحكم (¬2). الحكم بالتواتر: التواتر لغة: تتابع أشياء واحداً بعد واحد بينهما مهلة، وأما اصطلاحاً، فهو: تتابع الخبر عن جماعة إلى حيث يحصل العلم (أي: الاعتقاد القاطع) بالمخبر به. ومن شرطه: أن يكون الجماعة قد انتهوا في الكثرة إلى حد يمتنع معه تواطؤهم على الكذب، وأن يكون عليهم مستنداً إلى حس، لا إلى دليل عقلي، ولا يشترط فيهم العدالة، ولا الإسلام، فإذا تضافرت الأخبار على شيء؛ بحيث اشترك في العلم به القاضي وغيره، حكم بموجب ما تواتر عنده؛ كأن يتواتر عنده صلاح رجل أو فسقه، أو عداوته لغيره، أو فقره، أو موته، ¬

_ (¬1) "الطرق الحكمية" (ص 90). (¬2) "الطرق الحكمية" (ص 24).

أو سفره، فإنه يحكم بموجب ذلك، ولم يحتج إلى شاهدين عدلين. وبيّنة التواتر أقوى من الشّاهدين، ولا تقام بيّنة على خلاف التواتر؛ لأن البينة ظنية، والتواتر يقيني. الاستفاضة: استفاضة الشيء: اشتهاره بحيث يتحدث به الناس، ويستفيض بينهم، وهو درجة بين التواتر والآحاد، وهذا النوع من الإخبار، ويجوز الاستناد إليه في الشهادة، والاعتماد عليه في القضاء، والحكم به حكم يستند إلى حجة، لا إلى مجرد العلم، فلا يتطرق إلى الحاكم به تهمة، له أن يقبل شهادة شاهد استفاض في الناس صدقه من غير توقف على شهادة بعدالته، وهذه الشهادة كشهادة التواتر لا يصرح فيها الشاهد بالسماع، بل يجزم فيها بالشهادة. شهادة السماع: صفتها أن يقول الشهود: سمعنا سماعاً فاشياً من أهل العدل وغيرهم، أو يقولوا: لم نزل نسمع من الثقات وغيرهم أن هذه الدار -مثلاً- صدقة على بني فلان. وعرّفها بعض الفقهاء بقوله: هي لقب لما يصرح فيه الشاهد بإسناد شهادته لسماع من غير معين. ولا تكون شهادة سماع إذا قالوا: سمعنا من أقوام بأعيانهم، يسمونهم ويعرفونهم، وإنما هي شهادة على شهادة، فتخرج عن حدّ شهادة السماع، وهذه الشهادة تفيد ظناً دون شهادة الاستفاضة، وإذا أطلقت شهادة السماع في كتب الفقه، تنصرف إلى هذا النوع من الشهادة. ويعمل بها في نحو: العزل والولاية، والتجريح والتعديل، والكفر والإسلام، والسفه والرشد، والإيصاء والأحباس والصدقات، والرضاع والنكاح والطلاق

والخلع، والقسمة والنسب، والو لادة والموت والحمل، والإضرار بالأهل. وخصّها الإمام مالك بما تقادم زمنه تقادماً يبيد فيه الشهود، وتنسى فيه الشهادات (¬1). خبر الواحد: سبق في بحث شهادات الرجال: أن جماعة من الفقهاء قالوا: يجوز القضاء بشهادة الرَّجل الواحد من غير يمين متى وثق الحاكم بصدقه، وعزاه ابن القيم إلى أصحاب الإمام أحمد بن حنبل (¬2)، واكتفى المالكية بخبر الواحد فيما يرجع إلى أهل الخبرة والصنعة؛ كالأطباء العارفين بعيوب الحيوان أو السلع، وقيم المتلفات منها. وقال مالك: يقضى بقول الطبيب، ولو لم يكن على الإسلام؛ لأن قوله لم يكن على وجه الشهادة، إنما هو علم يأخذه الحاكم عمن يبصره ويعرفه مسلماً أو غير مسلم، واحداً كان أو اثنين، ومن هذا القبيل: القاسم إذا أرسله الحاكم لقسم شيء بين مستحقيه، ووثق به، ونصبه لذلك، فجاز للحاكم أن يعتمد على قوله وحده. القرائن: سبق في صدر بحث البينات: أنّ من الفقهاء من لا يحصرونها في أنواع مخصوصة، ويعد القرائن في جملة البينات. ودلالة القرائن تتفاوت في القوة والضعف، فتقوى حتى تفيد القطع، وتضعف حتى لا يصح الاعتماد عليها في القضاء، والمعتمد في تعرفها: قوة الذهن، والألمعية. قال صاحب "التبصرة": ¬

_ (¬1) وهو خمسون سنة كما في "المدونة"، أو عشرون سنة، وهو ما جرى به العمل. (¬2) "الطرق الحكمية" (ص 84).

ولا خلاف في الحكم بها، وقد جاء العمل بها في مسائل اتفقت عليها الطَّوائف الأربعة، وبعضها قال به المالكية خاصة. وقال ابن القيم: "الأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينات والأقارير وشواهد الأحوال، وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة، ولا تضبط، أمر لا يقدح في كونها طرقاً وأسباباً للأحكام، والبينة لم تكن موجبة بذاتها للحد، وإنما ارتباط الحد بها ارتباط المدلول بدليله، فإن كان هناك دليل يقاومها، أو أقوى منها، لم يلغه الشارع، وظهور الأمر بخلافه لا يقدح في كونه دليلاً؛ كالبيّنة والإقرار". ومن الفروع التي ذكرها المالكية والحنفية في الاعتماد على القرينة: أناّ إذا رأينا رجلاً مذبوحًا في دار، والدم يجري، وليس في الدار أحد، ورأينا رجلاً قد خرج من عنده سريع الحركة في حالة خوف وفزع، ومعه سكين في يده، علمنا أنه الذي قتله، وكان لوثاً يوجب القسامة، والقود. وفي كتب الفقه فروع كثيرة مبنية على الاعتماد على قرائن الأحوال (¬1). اعتبار الرسول وأصحابه لها: مما يشهد لاعتبار القرائن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الملتقط بدفع اللقطة لمن وصفها؛ بأن يعرف عفاصها ووكاءها (¬2)، فوصْفُه لها على هذا النحو المذكور أمارة على أنه صاحبها، فاستحقها بهذه الأمارة. وروى ابن ماجه وغيره عن جابر بن عبد الله، قال: أردت السفر إلى خيبر، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر، فقال: "إذا أتيت وكيلي، فخذ منه خمسة عشر ¬

_ (¬1) انظر: "التبصرة"، و"معين الحكام". (¬2) العفاص: الوعاء. والوكاء: الرباط.

وسقاً، فإذا طلب منك آية، فضع يدك على ترقوتهِ"، وهذا اعتماد في الدفع إلى الطالب على مجرد العلامة. وحكم عمر بن الخطاب، وابن مسعود - رضي الله عنهما - بوجوب الحد برائحة الخمر من فم الرجل، أو قيئه خمراً؛ اعتماداً على القرينة الظاهرة (¬1). اليمين: اليمين في اللغة: القوة، وأطلقت على الحلف؛ لأنه يتقوى لها الصدق الذي هو أحد طرفي الخبر. وهي أقسام ثلاثة؛ لأنها إما أن تكون لدفع الدعوى، أو تصحيحها، أو تتميم الحكم، وسمي: يمين الاستظهار. اليمين لدفع الدعوى: هي ما يوجه إلى المدّعى عليه بمال، فينكره، وهي المشار إليها بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "لو يعطى الناس بدعواهم، لادّعى أناس دماء رجال، وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" (¬2). وروى البيهقي هذا الحديث بلفظ: "البينة على المدّعي، واليمين على من أنكر". وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين على المدعى عليه" (¬3). وتخاصم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلان في أرض، فقال للحضري، وهو "المدّعي": "ألك بينة؟ "، قال: لا. قال: "فلك يمينه"، فقال: يا رسول الله! الرَّجل فاجر، لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، قال: "ليس ¬

_ (¬1) قال ابن القيم: ولا مخالف لهما من الصّحابة. (¬2) رواه مسلم، وأحمد. (¬3) رواه البخاري، ومسلم.

لك منه إِلا ذلك" (¬1). وجعلت البينة على المدّعي؛ لضعف جانبه؛ إذ يدّعي خلاف الظاهر، وجعلت اليمين على المدعى عليه؛ لأن معه ظاهر الحال، فأريد تقوية هذا الظّاهر باليمين. وأخذ جمهور الفقهاء بظاهر الأحاديث المروية في حلف المدعى عليه، وأبقوها على عمومها. واشترط الإمام مالك في تحليف المدعى عليه: أن يكون بين المدّعي والمدّعى عليه مخالطة (¬2)، أو ملامسة، روى "الموطأ" عن حميد ابن عبد الرحمن: أنه كان يحضر عمر بن عبد العزيز يقضي بين الناس، فإذا جاءه الرجل يدّعي على الرجل حقاً، نظر، فإن كانت بينهما مخالطة، أو ملامسة، أحلف الذي ادّعى عليه، وإن لم يكن شيء من ذلك، لم يحلفه. وقال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا، وهو قول الفقهاء السبعة بالمدينة. ¬

_ (¬1) رواه مسلم، والترمذي. (¬2) الخلطة عند المالكية تثبت بأشياء؛ كأن يتبايع المدّعي والمدّعى عليه مرتين أو ثلاثاً، أو يكونا شريكين، أو متقارضين، أو أن أحدهما أجير لصاحبه، أو أجر منه دابته أو داره، أو يثبت أن بينهما صحبة في دعوى الكفالة، أو يكون أحدهما صانعاً؛ كصباغ، أو صائغ.

أسماء الصفات وأسماء الأعيان المشيرة إلى وصف

أسماء الصفات وأسماء الأعيان المشيرة إلى وصف (¬1) في كلام العرب أسماء أعيان لا تُشير إلى وصف؛ نحو: أسد، وسيف، وذهب، وعنب، ونمر، وليل، وصخر، وماء. وفي كلام العرب أسماء مشتقة دلّت طريقة استعمال العرب على أنها مطردة في كل ما تحقق فيه الوصف الذي دلّت عليه، نحو: كاتب، وبليغ، وحسن، ومفضال. وفي كلام العرب أسماء أعيان أخذت من صفات وجدت معانيها في تلك الأعيان، وصارت هذه الأسماء تستعمل لهذه الأعيان خاصّة؛ نحو: النظام للخيط ينظم به اللؤلؤ ونحوه، والسماء لمطلع الكواكب، أو سقف البيت، والحسام للسيف القاطع. وهذان النوعان، أعني: أسماء الصفات، وأسماء الأعيان المشيرة إلى صفة، هما اللذان قد يتشابهان على الناظر، فكان القصد من هذا المقال: بحثها، وبيان وجوه الفرق بينهما في استعمال العرب، وفي عبارات المعاجم. * الفرق بينهما في استعمال العرب: يستعمل العرب اسم الصفة للدلالة على تلك الصفة من حيث قيامها ¬

_ (¬1) وجدت هذا البحث في أوراق الإمام المحفوظة في دار الوثائق القومية بالقاهرة، مرقوناً على الآلة الناسخة.

بموصوف، فيحتاج التركيب إلى اسم يدل على الموصوف، ثم يأتي اسم الصفة تابعاً له، نحو: شَرود، وجَموح، إذ يقال: جَمَلٌ شَرودٌ، وفَرَسٌ جَموحٌ. ويستعملون اسم العين المشير إلى صفة مستقلاً، فيقولون: سلَّ الحسام، وبعث إليه برسالة، وقبل منه الهدية. ومدار وصفية المشتق أو اسميته: على غلبة استعماله متصلاً بموصوف، أو مستقلاً عنه، فورود المشتق غير تابع لموصوف في بعض الشواهد لا يدل على اسميته؛ لاحتمال أن يكون الكلام من باب ما حذف منه الموصوف لدليل، كما أن وروده في بعض الشواهد تالياً لاسم العين لا يدل على وصفيته؛ لاحتمال أن يقصد من الجمع بين الاسمين معنى يقتضيه الحال؛ مثل: التوكيد، فقول الحريش بن هلال القريعي: ولكنّي يجولُ المُهْرُ تَحْتي ... إلى الغاراتِ بالعَضْبِ الحُسامِ لا يقوم وحده شاهداً على أن الحُسام صفة، ولا ينفي أن يكون من أسماء الأعيان المشيرة إلى وصف. وقول الشاعر العربي: دونَكَها مترعةً دِهاقا ... كأساً ذُعافاً مُزِجَتْ زُعاقا لا يقوم وحده شاهداً على أن الزُّعاق اسم للماء المرّ الغليظ، وينفي أن يكون اسم صفة للماء. وينبني على هذا الفرق: أن الكلام الذي يذكر فيه اسم الصفة يقدر فيه موصوف، فيكون من قبيل الإيجاز، والكلام الذي يذكر فيه اسم العين المشير إلى صفة؛ حيث لا يقدر معه موصوف، يكون من قبيل المساواة.

ويفرّق العرب بين الاسمين في صيغ الجموع؛ فإن لأسماء الأعيان صيغاً من الجموع الخاصة بها؛ كما أن الصفات قد تختص بصيغ لا تشاركها فيها أسماء الأعيان، ونجد العرب تجري الأسماء المشيرة إلى وجه التسمية مجرى أسماء الأعيان المَحْضة، ومثال هذا: أن ما كان على وزن (فَعيل) يجمع على (فُعْل)، بشرط أن يكون اسماً لا وصفاً، ومما دخل في الأسماء، وساقه النحاة في أمثلتها: كلمة: "قضيب" للغصن المقطوع، وهو من القَضْب، فقالوا في جمعه: قُضْبٌ. ومن هذا الباب: أنّ (فَعيلاً وفَعالاً)، يجمع على (أَفْعِلَة)، بشرط أن يكون اسماً، ومما توفر فيه شرط الاسمية، وجمعوه على (أَفْعِلَة): رغيف، وطعام، والرغيف مأخوذ من الرَّغْف الذي هو جمع العجين أو الطين كتلة، والطعام مأخوذ من طَعِم طَعْماً؛ أي: أكلَ، أو ذاق. وقد يجد النحاة ألفاظاً تتبادر منها الوصفية، وهي جارية في بعض الجموع مجرى الأسماء، فيعتذرون لها بأنها من الصفات التي غلبت عليها الاسمية؛ نحو: عَبْد، جمعه العرب على (أَفْعُل)، و (أَفْعُل) من الصيغ المختصة بالأسماء، فقال: النحاة - جمع على (أَفْعُل)؛ لغلبة الاسمية فيه على الوصفية. ومن وجوه الفرق بين الصفة واسم العين المشير إلى وجه التسمية: أن أسماء الصفات إذا تواردت على نوع من الأعيان، لا يحدث من تواردها عليه أسماء مترادفة، فلا يعدّ الناطق والضاحك المتواردين على الإنسان من قبيل المترادف؛ بخلاف الأسماء المشيرة إلى وصف؛ فإنها إذا تواردت على نوع من الأعيان، كانت أسماء مترادفة، ولو كانت الاسمية عارضة بغلبتها على الوصفية؛ كالحُسام والعَضْب للسيف.

ويفترق النوعان بأن اسم الصفة يصح إطلاقه على كل ما تحقَّق فيه الوصف إطلاقاً حقيقياً لغوياً، واسم العين اختلف أهل العلم في وجه استعماله، فأجاز بعضهم أخذ الأسماء التي تشير إلى معنى، وإطلاقها على ما يتحقق فيه ذلك المعنى، ولو لم يستعملها فيه العرب، ونسب هذا القول إلى نحاة البصرة، وحكى ابن جنّي في "الخصائص": أنه قول أكثر علماء العربية؛ كالمازني، وأبي علي الفارسي، وينسب إلى ابن درستويه. وذهب آخرون إلى أن الاسم مختص بالمعنى الذي استعمله فيه العرب، ولا يتعداه إلى كل ما تحقق فيه وجه التّسمية، ومن هؤلاء: العلامة ابن سيده؛ فإنه قال: "ليس لنا أن نطلق الاشتقاق على جميع الأشياء؛ لئلا يقع اللَّبْس في اللغة الموضوعة للبيان، ألا ترى انهم سمّوا الزجاجة: قارورة؛ لاستقرار الشيء فيها، فليس لنا أن نسمّي الجُبَّ أو البَحْرَ: قارورة؛ لاستقرار الماء فيهما". وتناول هذا البحث علماء أصول الفقه، واختلفوا فيه كما اختلف علماء العربية، وممن منع من تعدية الأسماء إلى ما تحقق فيه وجه التسمية: القاضي أبو بكر الباقلاني، والإمام الغزالي، وممن ذهب إلى عدم اختصاصها بما أطلقها عليه العرب: أبو إسحاق الإسفراييني. قال الإسفراييني في كتاب "الترتيب": تكلّمت يوماً مع أبي الحسن القطّان في هذه المسألة، ونصرت القول بجواز أخذ الأسماء قياساً، فقال أبو الحسن: من يقول بهذا يلزمه ما يلزم ابن درستويه، فقال: يجوز أخذ الأسامي قياساً إذا كان ما يقاس عليه مما أخذ واشتق اسمه من معنى فيه؛

مثل: القارورة، تسمى قارورة؛ لاستقرار الماء فيها، فكل ما في معناها يسمّى قارورة. قيل لابن درستويه: وماذا تقول في الجبّ يستقر الماء فيه، هل يجوز أن يسمّى: قارورة؟ قال: نعم، قيل: فما تقول في البحر والحوض؟ فالتزم ذلك، فاستبشعوا ذلك منه، وشنّعوا عليه. قال أبو إسحاق الإسفراييني: "قلت لأبي الحسن -أيش إذا أخطأ واحد في القياس، بل كان من سبيله أن يحترز فيه بنوع من الاحتراز؛ بأن يقال: ما يستقر فيه الماء، ويخف عن اليد ونحوه). ومنشأ الخلاف: أن اشتقاق الاسم من الوصف مبنيٌّ على رعاية: أن العين التي استعمل فيها قد اشتملت على معنى ذلك الوصف، وإذا كان وضع الاسم مبنياً على رعاية اشتمال العين على معنى الوصف، فمن المحتمل أن يقول قائل بصحة استعمال الاسم في كل عين تحقق فيها هذا الوصف، ولكن قصر العرب الاسم على نوع خاص من الأعيان لا يتجاوزونه في الاستعمال، يشعر بأن العرب قصدوا بأن يكون هذا الاسم خاصاً بالنوع الذي جرت عادتهم بإطلاقه عليه. فيكون هذا النوع هو الحقيقة، واستعماله في غيره -ولو تحقق فيه وجه التسمية- استعمالاً للفظ في غير ما وضع له. فالعرب -مثلاً- سمّوا الناقة تكون في أوائل الإبل عند الورود: "السُّلوف"، والظاهر أن هذا الاسم مأخوذ من سَلَف سَلَفاً وسُلوفاً؛ أي: تقلَّم، فلو أراد أحدٌ أن يستعمل السلوف في العربة الأولى من عربات متتابعة، لم يمنع من هذا الاستعمال مانع، وإنما يختلفون في طريق الاستعمال: أهو الحقيقة؛ لأن وجه التسمية الذي هو السَّلَف بمعنى التقدم متحقق في العربة الأولى، أم هو المجاز القائم على عدم وجه التسمية وجه شبه؟ وهذا هو الراجح فيما نرى.

ومما يرجع إلى الفرق بين اسم الصفة واسم العين في الاستعمال: أنك لا تستعمل اسم الصفة إِلا أن تفهم معنى الصفة، فلا تقول: افترسَهُ أسَدٌ وِرْدٌ إِلا أن تعرف معنى الوِرْد الذي جعلته صفة للأسد، أنها اسم العين، فإنك تستعمله في العين، وإن لم تدْرِ الوصف الذي يشير إليه الاسم، فتقول: فرَّ من القَسْوَرَة؛ أي: الأسد، مأخذ هذا الاسم، وما يشير إليه من القَسْر، وهو القَهْر. وربما أراد العرب من الأسماء المُراعى فيها وجه التسمية: الأعيان، غير ملاحظين ما تشير إليه تلك الأسماء من صفات، فالمَشْرَفيُّ -مثلاً- هو في الأصل: صفة للسيف، على معنى: أنه صنع في مشارف الشام، وكثر استعمال المشرفي وصفاً للسيف، حتى صار ذكره يغني عن ذكر السيف؛ كما قال امرؤ القيس: أيقتلُني والمَشْرَفِى مُضاجعي ... ومَسْنْونةٌ زرْقٌ كأنيابِ أغْوالِ وصاروا بعدُ يستعملونه في السيف غيرَ ملاحظين كونه مصنوعاً في المشارف، فيقول قائلهم: تقلدت المشرفيَّ، يريد: السيف، ولم يكن مصنوعاً في مشارف الشام، ولا أظنّ المتنبي عند ما قال يمدح سيف الدولة: ولا كُتْب إِلا المشرَفيَّة عنده ... ولا رسُلٌ إِلا الخميس العَرَمْرمُ قد أراد بالمشرفيّة: السيوف التي صنعت في مشارف الشام، بل مقام المدح يستدعي أن يكون سيف الدولة يهيئ للعدو سيوفاً ماضية، ولا يلاحظ في هذا المقام أن تكون من صنع المشارف، بل لا يلزم أن تكون صادرة من هذا المصنع، كما يقولون: المُهَنَّدُ، ولا يلاحظون أن يكون مصنوعاً في الهند، ويسمّون الرمح: رُدْيْنياً، وإن / يكن من صنع رُدَيْنة؛ أعني: المرأة التي كانت هي وزوجها يصنعان الرِّماح.

وقد يشير علماء اللغة إلى أن العرب يتجاوزون بالاسم المواضع المشتملة على وجه التسمية إلى المواضع الخالية منه، كما قال صاحب "الصحاح": سُمِّي الفرس حصاناً؛ لأنه حصّن ماءه؛ أي: ضَنَّ به، فلم ينزُ إِلا على كريمة، ثم كَثُر حتى سمّوا كلَّ ذَكَرٍ من الخيل: حِصاناً. ومن هذا النحو كلمة: القافلة، أصل وضعها للرفقة القافلة؛ أي: الراجعة من السَّفر، ثم توسع فيها على طريق المجاز، فاستعملوها في الرفقة راجعة من السفر، أو مبتدئة له (¬1). ويشابه هذا -وإن لم يكن من بحث أسماء الأعيان- كلمة: (البناء) بمعنى: الدخول بالزوجة، فأصله أن الرجل كان إذا تزوج، بنى للعروس خباء جديداً، ثم قيل لكل داخل بأهله: بانٍ، وإن لم يحصل منه بناء بيت. ومن قبيل هذا المثال كلمة: (الصفق، أو الصفقة) للعقد. فأصله: أن المتبايعين كانا إذا وجب البيع، ضرب أحدهما على يد صاحبه، فقالوا: صفَقَ له، أو على يده بالبيع، ثم استعملت الصفقة في العقد غير ملاحظ فيها ضرب اليد، وعلى اليد. * الفرق بين اسم الصفة واسم العين في عبارات المعجمات: قد يشير أصحاب المعجمات في شرح معاني الألفاظ أو توضيحها بالأمثلة إلى أن اللفظ من قبيل الصفات، أو من قبيل أسماء الأعيان المشيرة إلى وصف، ومن أبين ما يدلُّون به على الصفة: انهم يذكرون اسم العين، ويتلونه بذكر الصفة؛ كما قالوا: رجلٌ داهية: جيد الرأي، وسحابةٌ مذكية: ¬

_ (¬1) قد يقال في هذا المثال: إن وجه التسمية ثابت في الرفقة الراجعة على وجه التحقيق، وفي الرفقة المبتدئة للسفر على وجه التقدير الذي يجيء من قصد التفاؤل.

مطرت مرة بعد أخرى، وناقةٌ أُجُد: قوية موثقة الخَلْق، وموتٌ زؤام: كريه، وأرضٌ ناسكة: خضراء حديثة المطر. ومما يدلّون به على أن اللفظ من قبيل الصفات: أن يذكروه، ويشرحوه بوصف دون أن يذكروا معه اسم العين، كما قالوا: الجواد: السخيُّ، والشّامخ: الرافع أنفه كِبْراً، والشجاع: الشديد القلب عند البأس، والكيِّس: الظريف، والزمّيت: الوقور. فهذه العبارات من علماء اللغة ظاهرة في أن هذه المشتقات أسماء صفات، وشانها أن تذكر مع موصوفاتها، إِلا أن تقتضي الحال حذف الموصوف. ومما يدلُّون به على أن المشتق اسم عين لا صفة: أن يصرحوا بأنه اسم لا صفة؛ كما قال صاحب "القاموس": واليَعْمَلَة: الناقة النجيبة المُعْتَمِلَة المطبوعة، والجَمَلُ يَعْمَلٌ، ولا يوصف بهما، إنما هما اسمان، وكما قال صاحب "المصباح": ناقة حلوبٌ؛ أي: ذات لبن يحلب، فإن جعلتها اسماً، أتيت بالهاء، فقلت: هذه حلوبةُ فلان. وهذا صريحٌ في أن لفظ: حلوب يستعمل صفة، أنها حلوبة، فإنه يستعمل استعمال أسماء الأعيان. ويقرب من هذا: أن يذكروا للاسم وجهاً من التصرف ليس من شأنه أن يجري في أسماء الأعيان، ويقولون لك: إن العرب توهّموا أنه صفة، كما قال صاحب "المصباح": والفصيل لولد الناقة؛ لأنه يُفْصَلُ عن أمه، والجمع فِصْلان، وقد يجمع على فِصال، كأنهم توهموا فيه الصفة؛ مثل: كريم وكِرام. وقد ينبّهون على اسمية المشتق بقولهم: سمِّي كذا بكذا لكذا، قال صاحب "المصباح": ويسمّى الحاجب: حدّاداً؛ لأنه يمنع من الدخول، وقال:

والجارية: السفينة، سمِّيت بذلك؛ لجريها في البحر، وكما قال صاحب "الصحاح": سميت النّاقة أو البقرة: بَدَنَةً؛ لأنهم كانوا يُسمِّنونها، وذكر صاحب "اللسان": أن سَبَأَ بمعنى: اشترى، لا يقال إِلا في الخمر خاصة، ثم قال: والاسم: السِّباءُ، ومنه سمِّيت الخمر: سَبيئة، قال حسان: كأَنَّ سَبيئةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... يكونُ مِزاجُها عَسَلٌ وماءُ ومما هو ظاهر في الاسمية قولهم: كذا اسم كذا، كما قال صاحب "المصباح": واللَّقاح: اسم ما يُلقح به النَّخْلُ، وقال الأزهري: اللُّقَطَةُ: اسم الشيء الذي نَجده ملقى فنأخذه. وقال ابن الأثير في "النهاية": والدّلوك - اسم لما يُتدَلَّكُ به. ومما يدلُّّون به على الاسمية: اقتصارهم في شرح المشتق على ذكر اسم العين؛ كما قالوا: الوقود: الحطب، والأَسْحَم: زِقُّ الخمر، والصّارخ: الديك، والصراخ: الطاوس، والصهباء: الخمر، والأَدْهَم: القيد، والمدام: الخمر، والأنيسة: النار، واللَّبوس: الدرع، والأجْدل: الصقر. وقد يتبادر إلى الذّهن: أن ذكر المعجمات لاسم العين مع المعنى الذي يشير إليه الاسم يدلّ على اسميته؛ كما قالوا: الواضحة: الأسنان تبدو عند الضحك، والحسام: السيف القاطع، والقابوس: الرجل الجميل الوجه حسن اللون، والسَّيّقُّ: السحاب لا ماء فيه، والهابِذَةُ: الناقة السريعة، والنزح: الماء الكدر، والمشجونة: المرأة الكثيرة العمل، النشيطة، وإنما كانت الاسمية متبادرة من مثل هذه العبارة. لأن ذكر اسم العين من نحو: الأسنان والسيف والرجل والسحاب في شرح تلك الأسماء ظاهر في أن الموصوف داخل في مفهوم هذا الاسم، فلا حاجة إلى ذكره قبله.

لاحظنا هذا الوجه في شرح الألفاظ، ولكنا وجدنا كلمات كثيرة تذكر بعض المعجمات في شرحها اسم العين، ويوردها بعضهم على أنها صفات صريحة، فصاحب "القاموس" -مثلاً- يقول: الإجْفيل: الظليم ينفر من كل شيء، ويقول صاحب "أساس البلاغة": وظليم إجفيل: يجفل عن كل شيء، ويقول صاحب "القاموس": اللَّديم: الثوب الخَلَق، ويقول صاحب "أساس البلاغة": وثوب وخُفٌّ لديم، ويقول صاحب "القاموس": والمُمانِح: ناقة يذهب لبنها بعد أن تذهب ألبان الإبل، ويقول صاحب "الأساس": وناقة ممناح ومنوح: تمنح لبنها بعد أن تذهب ألبان الإبل. ويقول صاحب "القاموس": والجماد: الأرض، والسَّنَة لم يصبها مطر، ويقول صاحب "الأساس": وسنة جَماد، وأرض جَماد: لا حيا (لا مطر) فيها، ويقول صاحب "القاموس": والمرقومة: الأرض بها نبات قليل، ويقول صاحب "الأساس": وأرض مرقومة: فيها نبذ من النبات، ويقول صاحب "القاموس": والملساء: الخمر السلسة في الحلق، ويقول صاحب "الأساس": قهوة ملساء: سلسة الجَرْع. وإذا كان شرح اللفظ باسم العين مع الوصف لا يعدُّ دليلاً قوياً على اسميته، فأبعد منه دلالة على الاسمية: أن يشرحوا اللفظ بوصف، ويذكروا اسم العين بعد "من" البيانية مقدماً على الوصف، كما قالوا: والمَلُوس من الإبل: المِعْناقُ، السابق في كل مسير، أو مؤخراً عن الوصف؛ كما قالوا: السَّلوف: السريع من الخيل. وقد رأينا بعض المعجمات تأتي في شرح الأسماء على هذا الطريق، ونرى غيرها يسوقون هذه الأسماء مَساق الوصفية الصريحة، كما قال صاحب "القاموس": والعوجاء: الضامرة من الإبل، ويقول صاحب "الأساس": والناقة

العوجاء: العجفاء التي أضناها السفر، وقال صاحب "القاموس": والفالج: الفائز من السهام، ويقول صاحب "الأساس": وخرج له سهم فالج؛ أي: فائز، وقال صاحب "القاموس": والهامد: البالي المسود المتغير من النبات، ويقول صاحب "الأساس": ونبات وشجرٌ هامدٌ: يابس. * اختلاف الأسماء في الدلالة على وجه التسمية: من أسماء الأعيان ما يكون وجه اشتقاقه واضحاً؛ كما سمّوا الحيوان الذي يطير في الهواء: (طيراً)، والبرهان؛ لفرقه بين الحق والباطل: (فرقاناً) والخَلْق الذي لا نراه لاجتنانه؛ أي: استتاره: (جنّاً)، ومنه ما يكون وجه اشتقاقه خفياً لا يعرف إِلا بعد بحث، أو يذكره بعضهم، ولا يزيد على أن يكون وجهاً محتملاً؛ كما قال بعضهم: سمّي الثَّوْرُ ثَوْراً؛ لأنه يثير الأرض، وسمِّي الثَّوْب ثوباً؛ لأنه ثاب لباساً بعد أن كان غَزْلاً. قال أبو بكر الزبيدي: سئل أبو عمرو بن العلاء عن اشتقاق الخيل، فلم يعرف، فَمرَّ أعرابي، فسأله أبو عمرو عن ذلك، فقال الأعرابي: استفاد الاسم من فعل السَّيْر، فسأل بعض الحاضرين أبا عمرو عما أراد الأعرابي، فقال: ذهب إلى الخُيَلاءِ التي في الخَيْلِ، والعُجْبِ، ألا تراها تمشي العَرْضَنة (¬1) خُيَلاء وَتَكَبُّراً؟! وقد يكون مأخذ اسم العين غير واضح وضوحاً يقطع الشبهة، فيختلف فيه علماء اللغة كما اختلفوا في وجه تسمية الخمر عُقاراً، فقال بعضهم: لمعاقرتها؛ أي: ملازمتها الدَّنَّ، وقال آخرون: لعقرها شاربها عن المشي، وكما اختلفوا في وجه تسمية الخِوان: مائدة، فقال بعضهم: سمّي مائدة من ¬

_ (¬1) مَشى العَرْضَنَة: مشى معترضاً.

مادَ يميد: إذا تحرَّكَ، وقال آخرون: المائدة مأخوذة من مادَ يميد؛ أي: مارَ، أو أعطى؛ لأن مالكها مادها للناس، فهي فاعلة بمعنى مفعولة. * اختلاف اللغويين في وصفية اللفظ واسميته: من الأسماء المشيرة إلى وصف: ما لا يختلف اللغويون في اسميته؛ نحو: (القَلَم)، وهو مأخوذ من القَلْم؛ أي: القَطْع؛ لأنه يُبرى مرة بعد أخرى، (والخَمْر)، وهي مأخوذة من مخامرة العقل؛ أي: مخالفته، (والسَّفينة)، وهي مأخوذة من السَّفْن، وهو القَشْر؛ لأنها تقشر الماء كما تمخره. ومنها: ما تختلف عباراتهم في اسميته؛ كلفظ: (الوَرْدُ) فسَّره صاحب "القاموس" باسم العَيْن، فقال: الوَرْدُ: الأسد، وهذا ظاهر في أنه اسم من أسماء الأسد، وأتى به صاحب "الأساس" وصفاً، فقال: وفرَسٌ وأسَدٌ وَرْدٌ (¬1). ونحو كلمة: (الذُّعاف) شرحها صاحب "القاموس" باسم العين، فقال: الذّعاف: السُّمُّ أو سمُّ ساعة، وجاء به صاحب "الأساس" وصفاً، فقال: يقال لسُمِّ الساعة سم ذُعافٌ ونحو كلمة: (العَضْب) شرحها صاحب "القاموس" بالسيف، وأتى به صاحب "الأساس" وصفاً، فقال: وسيفٌ عَضْبٌ. ومن هذا الباب ألفاظ يسوقها بعض علماء اللغة في أمثلة الأسماء المترادفة، ويوردها آخرون موارد الصفات، كما عدَّ ابن خالويه في أسماء السيف: المأثور، والصَّقيل، والجراز، وأتى صاحب "القاموس" بالمأثور وصفاً، فقال: وسيفٌ مأثورٌ: في مَتْنِه أثَرٌ، وأتى صاحب "المصباح" بالصّقيل وصفاً، فقال: وسيفٌ صقيلٌ: فعيل بمعنى فاعل، وأتى صاحب "الأساس" بالجُراز وصفاً، فقال: وسيفٌ جُرازٌ. ¬

_ (¬1) من الورودة، وهي حمرة تضرب إلى صفرة.

وكما أورد صاحب "القاموس" في كتابه: "الأسل في تصفيق العَسَل" كلمة: (الصموت) في أسماء العسل، وشرحها في قاموس باسم العين مع الوصف فقال: والصَّموت: الشَّهْدَة التي ليس فيها ثُقْبَةٌ فارِغةٌ، وأتى بها صاحب "الأساس" وصفاً، فقال: وشَهْمَة صَموتٌ: ليست فيها ثُقبة فارغة. وربما كان سبب هذا الاختلاف: أن المشتق قد يرد في بعض الشواهد تلو اسم عين، فيذهب به بعض أهل العلم مذهب الوصفية، ويرد في بعض الشواهد مستقلاً، فيفهم آخر أن الاسمية غلبت فيه على الوصفية، فيقتصر في شرحه على اسم العين، أو يعدّه من قبيل الأسماء المترادفة. وقد نبَّهنا في صدر البحث على أن مدارَ الاسمية على غلبة الاستعمال. وفي هذا المقام يرجع الناظر متى أراد الترجيح إلى كلام الفصحاء من العرب؛ ليستبين من موارد الكلمة اسميتها، أو وصفيتها، أو يرجع في الترجيح إلى ما عرف به هذا اللغوي، أو ذلك اللغوي من الرسوخ في علم اللغة، وجودة التعبير، ووضع الأقوال الشارحة للأسماء موضعها. ولا يفوتنا أن ننبِّه على أن كثيراً من الأسماء المشيرة إلى وصف، وإن جرت مجرى أسماء الأعيان، قد يعود بها الفصحاء إلى معنى الوصفية المحضة، ونرى أصحاب المعجمات قد يذكرون في شرح الكلمة المعنيين الوصفي والاسمي، كما قال صاحب "القاموس": الهِزَبْرُ: الأسَدُ، والغَليظُ الضَّخْم، والشَّديد الصُّلْب، فيصبح الهزير اسم عين بمعنى الأسد كما في قوله: أفاطِمُ لو شَهدْتِ بيطنِ خَبْتٍ ... وقد لاقى الهِزَبْرُ أَخاكِ بِشْرا وأن يستعمل بمكان الوصف؛ أي: الشديد الصُّلب كما قال المتنبي: أَسَدٌ دَمُ الأَسَدِ الهِزَبْرِ خِضابُه ... مَوْتٌ فَريصُ الموتِ منه تَرْعَدُ

فمن المحتمل القريب أن نرجّح بخلاف عبارات بعض اللغويين في اسمية الكلمة ووصفيتها إلى أن لها وجهين من الاستعمال، يذكر أحدهم وجه الاسمية، ويذكر آخر وجه الوصفية، وكلاهما عربي فصيح.

الحالة السياسية في تونس محاولة إدماج التونسيين في الجنسية الفرنسية

الحالة السياسية في تونس محاولة إدماج التونسيين في الجنسية الفرنسية (¬1) أخذت الأمة التونسية منذ عهد بعيد تنهض من خمولها، وتجعل المعارف والنظام سلّماً لرقيها، وما برحت تسير في سبيل الحياة الزاهرة، وتسابق الأمم الراقية في ميدان الحضارة والآداب بخطا واسعة -ولاسيما يوم تقلّد إمارتها أحمد باشا- حتى عمدت إليها فرنسا مخترعة لبوس الحرية! ووضعت عليها سلطة تسمّى في لغة الاستعمار: بالحماية. وليس الغرض من هذا المقال التعرض لهذه الحماية من الوجه الذي ينظر إليه جهابذة السياسة وأساتذة حقوق الأمم؛ ليحكموا عليها بأنها وليدة عقد مشروع، أو أنها بنت القهر والحرص على استرقاق النفوس الحرة، والاستئثار بما يسَّر الله لها من مرافق الحياة، وليس الغرض أيضاً الدخول في تفاصيل ما تمطره على رؤوس الوطنيين من فنون الإرهاق، وضروب الاستعباد، وإنما نرمي بالبحث فيه إلى حلقة من سلسة آثار تلك الحماية المنكرة؛ حتى ¬

_ (¬1) جريدة "السياسة" القا هرية، لسان حال الأحرار الدستوريين - رئيس التحرير المسؤول الدكتور محمد حسين هيكل - العدد 393 الصادر في 25 جمادى الآخرَة سنة 1342 هـ الموافق 31 يناير 1924 م. هذا المقال للإمام محمد الخضر حسين، في مقدمة ما كتبه من مقالات للدفاع عن تونس وجهاده الشاق الطويل في السعي لاستقلالها.

يرى حُماة الإنسانية، وأنصار الحقيقة، كيف يتخبط الشعب التونسي تحت نير من الاضطهاد، لا يمكنه المقام معه على هدوء وسكينة، وإن بلغ من الأناة وحبّ السلم أشدَّهما. رأت فرنسا كيف أنفذت في التسلط على التونسيين كل ما تملك من قسوة، فبدا لها أن تفتح في سور سياستها الضاغطة منفذاً يردّدون منه أنفاس الحرية، ويمرقون منه إلى مستوى الكرامة عندها، فلم تسمح لها طبيعة الاستعمار -لسوء حظّهم- إِلا بأن تخلع عليهم ثوب التجنس بالقومية الفرنسية. اشتد حنق التونسيين لهذا القانون، فجاءت صحفهم طافحة باحتجاجات بالغة، ومقالات تغلي كالمراجل غيظاً وجزعاً، وتنذر الشعب بما يجرّه ذلك القانون في أذياله من العواقب المشؤومة على حال الاجتماع والسياسة، ولكن عميد فرنسا في تونس تلقى ذلك السخط العام وشرار الشكوى المتطاير حوله بمنتهى الاستخفاف والغطرسة؛ فإنه لا يدري أن الأمة التونسية قد ارتقى بها الشعور والاعتبار بتاريخها المجيد إلى صفوف أولي العزم من الأمم، فإذا أحست مكيدة تدبر لها، أو مظلمة تحمل على عاتقها، أرهفت حدَّ الرأي والعزيمة، ولا تنفك تصارع من يحاول حرمانها من التمتع بما تتمتع به أمثالها من الأمم المستقلة؛ حتى تفوز ببغيتها، ويطلع فجر الحرية الصادقة في أفق سياستها. ومن شاء أن يقضي العجب، فليقضه من جواب ذلك العميد إذ تظاهر بالعجب من هذه الثورة الفكرية المزعجة، قائلاً: "إن فرنسا لم تضع هذا القانون على وجه الإكراه، وللتونسي الذي يراه مخالفاً لدينه أن يحتفظ بقوميته". ليتني أعلم كيف نطق لسان ذلك العميد بهذا الجواب، وهو يدري،

وكل أحد يدري: أن للسلطة المتصرفة في البلاد التونسية قلبين: قلباً مشتقاً من الفظاظة والجور، وهو الذي تحمله ضد الوطنيين، وقلباً مزاجه الرأفة، وملؤه العطف والسخاء، وهو ما تحمله في صدرها عندما تدير أمور الفرنسيين أو المتفرنسين. وهذه المفاضلة المخجلة المزرية هي التي سهلت على فرنسا أن تصدر قانون التجنس في صورة الاختيار؛ حيث ترجو من أراذل القوم، ومن هم بمنزلة سقط المتاع: أن يهرعوا إليها، ويمدّوا سواعدهم لاعتناق قوميتها؛ حرصاً على جاه مصطنع، أو لذة عاجلة. ففرنسا تعلم حقَّ العلم أن هدمها لقاعدة المساواة بين الوطني والمتفرنس، ورفع هذا إلى مقام السيادة والسيطرة على الآخر، يغني غناء الإكراه، ويقوم مقام إجرائه بالقوة القاهرة. ولو كانت السلطة النافذة في تونس مفرغة في قالب العدل، ومدبرة لشؤون المتفرنس والوطني على النظام الذي تقتضيه حال الجماعة المشتركة في وطن واحد، لم ترض فرنسا أن تخرج هذا القانون في صيغة الاختيار، وعلى فرض أن تخرجه كذلك، وقانون المساواة مطرد، لم يكن لوقعه أثر غير استهانتها بشرف الحكومة؛ إذ من المحال أن يدور في خلد وطنيّ -وإن بلغ في السَّفَه بانحطاط الهمة الأمد الأقصى- أن يعتنق القومية الفرنسية مزدرياً بشرف قوميته، وحكمة شريعته. نصبت فرنسا حبالة هذا القانون في بلاد الجزائر يوم كان الجهل بقيمة القومية معششاً في كثير من الأدمغة، فاستدرجت به نفراً كان من شأنهم الممقوت أن يشمخوا بأنوفهم كبراً وخيلاء، ويدوسوا حقوق قومهم الأولين بأرجل آثمة،

ولم تعدم الحكومة أن تتخذ من أمثالهم أفواهاً تطفئ بها نور الشعور من نفوس الوطنيين، ومعاول تنقض بها كل حجر يضعونه في أساس نهضتهم. لقد كان في قصص هؤلاء المتفرنسين عبرة لأولي الألباب من التونسيين، وهي ما جعلتهم يحذرون من أن تمسخ نفوس منهم، وتصير بطبيعة التجنّس الفرنسي كالخوافي، بل القوادم للسلطة المستعمرة، فيزداد الشعب من بلائهم حنقاً على حنق، وربما عجل به ذلك الحنق المتراكم إلى أن تنقلب أناته عزماً نافذاً، وأنفاسه المكتومة شرراً متصاعداً، فينحل وكاء فتنة تفشل يد القوة الحاكمة عن وقف سيلها الجارف، وإعادة الراحة إلى قرارها المكين. فإذا عمي على فرنسا سوء طالع هذا القانون، وأصرت على نفاذه؛ بالرغم من احتجاجات الأمة، ومظاهر استيائها الأليم، فقد بقي في يد زعمائها سبل لعلاج هذا الداء الفاتك، لا تستطيع أية قوة أن تسدّها في وجوههم، ومن بين هذه السبل: تلقين الشعب واجباته الإسلامية الاجتماعية، وجعله على بصيرة من أن مقتضى التجنس بالقومية الفرنسية أن يقاتل تحت راية فرنسا، وإن كانت هاجمة على جماعة من إخوانه لغة وديناً، وهم في عقر دارهم آمنين. ولا جرم أن الانضمام إلى صفوف المخالفين -إذا اشتبكوا في حرب مع المسلمين- نزول إلى حضيض الارتداد عن الاسلام، ونكث لليد من عروته الوثقى. فامتشاق الطائفة المتنورة عزماً لا يُغْمد، وإشرابهم في قلوب الوطنيين كراهة الانسلاخ عن الوطنية، والاندماج في قومية المستعمر، مما يفتل عنق ذلك القانون، ويجعله كالمرقوم على صحيفة غدير ماء تخفق عليه أرواح عاصفة.

وليس لفرنسا وقتئذ إِلا أن تعضَّ سياستها ندماً على وضع قانون تعتدي به على مملكة مستقلة، ولم تجن منه ثمرة، بل غرست به أضغاناً بالقلوب، ومخازي في صحف التاريخ، وليست الأضغان في قلوب الرجال الناهضين إلا شرراً لا يلبث أن يتأجَّج، ويندلع منه لهيب فتنة شعواء. محمّد الخضر حسين

رسالة الإمام محمد الخضر حسين إلى الأستاذ محمد الصادق بسيس

رسالة الإمام محمد الخضر حسين إلى الأستاذ محمد الصادق بسيس (¬1) القاهرة في 15 رجب 1355 هـ حضرة الأديب الماجد ابننا العزيز محمد الصادق بسيس رئيس جمعية الشبان المسلمين! السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد: فقد تلقيت أول أمس من الدكتور أحمد فكري خطابكم الكريم، وهديتكم النّفيسة التي هي أثر من آثار جمعيتكم المجاهدة، ثم جريدة "الزهرة" المنشور بها مقالكم في وصف محاضرتنا التي ألقيت بمحطة الإذاعة، وقد سررت بخطابكم؛ لما يحمله من روح الودِّ الصادق، والدّلالة على أن في تونس شباباً يجمعون إلى استنارة الفكر، ونباهة الذّهن، ثقافة إسلامية صافية، وقابلنا الهدية بجزيل الشكر، ولاسيما هدية نعدّها فاتحة صلة بين مجلة "الهداية الإسلامية" بالقاهرة، وجمعية الشبان المسلمين بتونس. ¬

_ (¬1) نشرت في كتاب "الصادق بسيس: حياته، وآثاره" جمع وإعداد الأستاذ أبو زيان السعدي - ط تحت إشراف مركز الاتصال الثقافي بتونس. (انظر المقال المنشور في: القسم الثاني من هذا الكتاب تحت عنوان: "الأدب التونسي في القرن الخامس - مسامرة الشيخ محمد الخضر حسين". وهذه الرسالة رد على المقال.

أما المقال، فقد حررتموه بحسن ظنّ جعل الصغيرَ من سيرينا في نظركم كبيراً، وقد قرأه شبابُ الهداية، ووضعوه في لوحة ذات إطار، وعلّقوه في بهو شعبة شباب الهداية بالمركز العام للجمعية. وفي هذه الشعبة أعضاء من كليات الجامعة: الحقوق، والعلوم، والطب، وغيرها من المدارس العادية. وستوالي الجمعية إرسال مجلتها، وما يصدر عنها من مطبوعات إصلاحية أو أدبية إلى جمعيتكم النافعة. وتفضلوا بقبول أسنى تحيتي، وخالص شكري، وأسأل الله تعالى أن يؤيدكم، ويكثر من أمثالكم في الغيرة، ومواصلة الجهاد في حكمة وثبات. محمّد الخضير حسين

من الأدب التونسي المجهول إرشاد ونصائح شعر الشيخ محمد الخضر حسين

من الأدب التونسي المجهول إرشاد ونصائح (¬1) شعر الشيخ محمد الخضر حسين تقديم: ظافر كان المرحوم الشيخ محمّد الخضر حسين قريباً من نفوس زملائه وتلاميذه؛ بما جُبل عليه من علم وأدب وحسن خلق، وإرادة قويّة، وتصميم لا يعرف التّسليم. ولمَّا غادر البلاد التّونسية نهائياً بسبب العَنَت الذي لاقاه، لم يكاشف بما بيّت في نفسه إِلا صديق عمره الأستاذ الإمام الشّيخ محمد الطّاهر بن عاشور الذي آلمه الفراق، فكتب معرباً عن أسفه الشديد لمغادرة الشيخ الخضر بلاده مغادرة اليائس المهيض الجناح. وما إن استقرّ الشيخ الخضر بدمشق، حتى توالت رسائل تلاميذه عليه تعبّر عن حسرتهم لغيابه، والأمل في الابه. ومن أبرز هؤلاء التّلاميذ: الشيخ محمد بن عبد الجواد (قاضي المهدية والقيروان)؛ فقد كان قريباً من الشيخ الخضر، ومن صنوه محمّد الطاهر بن عاشور؛ لذكائه وعلمه، وسرعة بديهته. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية" - العدد السّادس من السنة السادسة والعشرين الصادر في ذي الحجة 1422/ محرم 1423 هـ - فيفري / مارس 2002 م - المجلس الإسلامي الأعلى للجمهورية التونسية.

وكان الشيخ الخضر يستنجب محمّد بن عبد الجواد، ويرى فيه الطالب المجتهد المخلص، فردّ على إحدى رسائله إليه بقصيد شعريّ عنوانه: "إرشاد ونصائح"، ضمّنه ما يختلج في ذهنه من خواطر صوّرها في هذا القصيد الذي لم يشمله ديوانه "خواطر الحياة". لذا نقدِّمه إلى قراء "الهداية" فيما يلي: إرشاد ونصائح سلام يُستَهَلُّ به النِّظامُ ... ومِنْ أدبِ المخاطبةِ السّلامُ تحيّيكم به من قبل رَقْم ... عَواطفُ في الضَّمير لها ارْتسامُ (محمّدُ) زارَني طِرْسٌ بليغٌ ... وطِرْسُ أخي الوَفاءِ لهُ ذِمامُ دعاني أنْ أخوضَ عُبابَ وَعْظٍ ... على نَسَقٍ يموجُ به انْسجامُ ويبلُغُ مَنْ يسيرُ على أناس ... بهِ ما يبلغُ الرّجلُ الهمامُ فأحجَمَ بالقريحةِ أَنَّ باعاً ... قصيراً لا يُساعفهُ اقْتحامُ ولكنَّ القرائحَ كالمطايا ... إذا جمحَتْ يُراوضُها الزّمامُ فهزّتْ للعلى القلمَ اقتياداً ... لفكرٍ فاستقادَ بما يُرامُ وناجاني بأنَّ النفسَ يعدو ... بها في زهرةِ الدُّنْيا هُيامُ فيسحبُها على حمَإِ الدّنايا ... إلى سوقٍ يروجُ بها الطَّغامُ وينفضُ كَيسها في كسْبِ خيرٍ ... تمتُّ بهِ إذا نَزَل الحِمامُ فإن يَنسج عليها العقلُ دِرْعاً ... حماها أن يشطَّ بها غَرامُ فإن العقْلَ كالنِّبراسِ تَهدي ... أَشعّتُه لما فيهِ السَّلامُ

وإنْ لمْ نَسقِهِ بمدادِ عِلْمٍ ... ذَوَى ببهيجِ زَهْرتهِ أُوامُ وإنَّ مَناهِلَ العِرْفانِ شتّى ... وكلٌّ حوْلٌّ حافَتِه ازْدحامُ ومنْ ألقى الرِّحالَ بعلْمِ شَرْعٍ ... وطافَ بغيره فهو الإِمامُ ومَا ثمرُ العلّومِ قريبَ مَجْنى ... يَطوعُ كما يطوعُ لكَ الثِّمامُ فلا يجْنيهِ إلّا ربُّ حزْمٍ ... يَنام المَشْرَفيُّ ولا يَنامُ تنافس في المعارف خاطبوها ... وكلّ في السباق له مَقامُ فهذا ماسكٌ طَرْفاً وهذا ... تهاوى تحتَ أخْمَصِه السَّنامُ وقد يتخطّفُ الرَّسْمينِ فِكْرٌ ... ودونَ الفَرْقِ بينهما قَتامُ فيجري في القَضاءِ على استواءٍ ... ويختلطُ المُحَلَّلُ والحرامُ وقد يبني الضلالُ خيامَ حقٍّ ... ويسكنُها فتشتَبِهُ الخِيامُ ولا ينحطُّ فكرُك حينَ يَطْفو ... على معنى يغوصُ له الكَهامُ فقد ينبو المهنّدُ عن مَحزِّ ... وما أوهى صرامتَه انْثلامُ فخُذْ بِعُرى المشورةِ فالمعاني ... تبوحُ سنَىً إذا حَمِي الْتحامُ لُباناتُ الرِّجالِ مثيلُ سُحْبٍ ... يمرُّ بها على النَّفْسِ اهتمامُ فهذي مُزنةٌ شملَتْ، وهذي ... تخصُّ بوَدْقِها، وذِهِ جَهامُ وهلْ يرتاحُ ذو قلبٍ لِغيْثٍ ... تكنَفهُ وقد قحطَ الأنامُ فما في مستطاعِ الفَرْدِ عَيْشٌ ... ولم يدمجْه في القَوْمِ التئامُ وهل تبقى الحياةُ خليطَ عُضْوٍ ... يفكّكُهُ عنِ الجسدِ اصطلامُ

فمنْ يبذُلْ لهم مسعاه يوماً ... تنادَوا أن ألمَّ به اهتضامُ ومنْ يمسِكْ إذا ما استصرخوهُ ... عِناناً يُسلموهُ إِذاً يُضامُ وفيهم من يرافقُ في صفاءٍ ... تفتقَ عن حقيقتهِ اللِّثامُ ومَنْ هو ماسحٌ بصباغِ وُدٍّ ... وللبغضاءِ في الصدرِ اضطرام ومَنْ يرمي على عَلَنٍ بضِغْنٍ ... يمثّله مقالٌ أو حُسامُ فمنْ صافى يُصافَ ومن يهاجمْ ... يدافع بالتي فيها قَوامُ ومَنْ لبِسوا المداجاةَ اسْتقمنا ... لهم عند التلاقي ما استقامُوا وفي الإخوان من يجفو ولكن ... يلوح لصدقِ خُلَّته وِسامُ فشدَّ إليكَ حَبْلَ الوصْلِ حينًا ... وإن شئت المَلامةَ فالمَلامُ وشأو الحمدِ يدرك باعتلاءٍ ... على غضَبٍ يهيجُ به انْتقامُ فكمْ قَدمٍ هَوتْ بمغاصِ ذَنْبٍ ... وسائقها لدى السعي احترامُ وما مُلَحٌ بنادي الأنْسِ تُلقى ... إلى أدبٍ عَلا إِلا جِمامُ فلا يطوي جلالَتَك انْبساطٌ ... يلَذُّ مع الرفيق به كلامُ وفي الرؤساءِ ذو أدبٍ فسيحٍ ... وفي أذواقِ بعضهمُ انْخِرامُ فنستوفي الخلوصَ لمنْ تَزَكّى ... ونحذرُ مَنْ يتيهُ به المَقامُ وما شأن الحياةِ بمستقرٍّ ... على حالٍ يحالفُه الدَّوامُ كِلا الحالين مِنْ كَدَرٍ وبِشْرٍ ... يُعانقُه على الأثَرِ انْصرامُ ومنْ يَصعرْ إلى الدّيباجِ خدّاً ... ونُضِّدَ في موائده طَعامُ

كمنْ يحسو لمخمصةٍ سَويقاً ... وباتَ ولِصْقَ لمَّتهِ الرِّجامُ يحول كلاهما في اللَّحْدِ قوتاً ... وينزَحُ ماءَ وجنتهِ الرّغامُ فلا تملأْ فؤادك بارتياحٍ ... إذا حيّاكَ من فَمِها ابْتسامُ تِلنْ أعطافُه للصبْرِ مهما ... تلاقت من نوائبها سِهامُ ومنْ ضغطَتْ عليهِ يدُ البلايا ... بأرزاءٍ يطيش لها المَنامُ توجَّهَ للذي نجّى (ابنَ متّى) ... وقد واراه في الحوتِ الْتقامُ ووضعُ يدٍ على العملِ انتهازاً ... لوَفْرِ المالِ يفعلُه الكِرامُ فتلكَ يدٌ تجولُ، وذاك قلبٌ ... له بمعونةِ الله اعتصامُ ولا يبتزُّ من نسُكِ الفتى أن ... تحيطَ به الجنائبُ والسِّيامُ وبسطُ الشكْرِ بين رُبى نعيمٍ ... أعزّ جنىً تفوقُ به السهامُ وسَمْتُ الشرْعِ أجمل ما تراهُ ... بصائرُ لم يلامِسْها سَقامُ فلا يجمد بصلبِكَ عن ركوعٍ ... تهكّمُ مَنْ عبادتُه المُدامُ أرى عمَرَ الحكيمَ كبيتِ شعرٍ ... تراصَف من مقاصدِه رُكامُ فذا لفظٌ لهُ معنى صُراحٌ ... وفي مطويِّهِ دُرَرٌ وِسامُ وهذا حِليُ ظاهرِه مُساغٌ ... وملءُ ضميرِه هِمَمٌ عظامُ ومنْ لم يفقهوا للوقتِ معنًى ... تباهَوا في خَلاعتهم ونامُوا ولاقوا من يجاذبهم لرُشْدٍ ... بأذنٍ لا يفضُّ لها صِمامُ إلى أن يستفيقَ بهم مشيبٌ ... وشيب الصَّدع للغاوي لِجامُ

ومنْ وافى النهايةَ في قصيدٍ ... دعاه لحسن مقطعِها خِتامُ وسِلْكُ العُمْرِ منتظمٌ، ولكنْ ... جهلتُ مَتى يكون له انفصامُ فأحسبُه وأحسبُ كلَّ يومٍ ... تبرَّج لي يُناطُ به التَّمامُ

رثاء الوزير الأكبر محمد العزيز بوعتور

رثاء الوزير الأكبر محمد العزيز بوعتّور (¬1) كُلُّ امرئٍ برسولِ الموْتِ مَوعودُ ... وكلُّ أُنْسٍ بذاتِ البَيْنِ مَحدودُ فأَحْزَمُ القومِ مَنْ يَعنو لخالقِهِ ... وعزمُه بِعُرى الطّاعاتِ مشدودُ لا يطمئنُّ بهِ عن شأوها ترفٌ ... ومورقٌ من خصيبِ العَيْشِ أُملودُ ¬

_ (¬1) قصيدة للإمام محمد الخضر حسين في رثاء الوزير الأكبر محمد العزيز بوعتور المولود في تونس في مستهل رجب 1240 وتوفي في غرة محرم 1325 هـ، استلم الوزارة الكبرى سنة 1299، وهو من أهل العلم والأدب والذكاء. انظر ترجمته في: كتاب "تونس وجامع الزيتونة" للإمام محمد الخضر حسين في مقال تحت عنوان: "نظرة في حياة وزير تونسي". نشرت قصيدة الرثاء في جريدة "المعارف" التونسية العدد السابع من السنة الأولى الصادر يوم الخميس 15 محرم 1225 هـ - 28/ 2/ 1907 م. وهي جريدة إسلامية عمومية أسبوعية لصاحبها محمد صادق المحمودي. وقدمت الجريدة قصيدة الرثاء بقولها: "وردت علينا هذه المرثية البليغة من إنشاء صاحب الفضيلة العالم الأديب صديقنا الماجد السيد الخضر بن الحسين في رثاء فقيد العلم والسياسة المرحوم الوزير الأكبر، ولما اشتملت عليه من نفائس المعاني، وبلاغة القول، نشرناها إشعاراً بفضل صاحبها، وإيماء إلى مكانة الفقيد في نفوس أهل العلم والمعرفة، وهي مرثية أثَّر فينا حسن أسلوبها، واشتمالها على أخص صفات المَرثي، ومحاسن أخلاقه وسياسته العمومية.

ليس المدامةُ في رأي الحكيمِ سوى ... مرارةٍ قاءَها في الدَّنِّ عنقودُ وما أعزّ حياةً بانَ صاحبُها ... وسعيُه بلسانِ الحمدِ معدودُ هذا الوزيرُ العزيزُ اجتازَ سابلة الْـ ... ـمحيا وساعدُه في البِرِّ مجهودُ أَنْسى الخطوبَ ولا أنسى غداةَ حَدا ... به الحِمامُ ورُكْنُ الصبْرِ مهدودُ عينُ الشّريعةِ فاضتْ حسرةً بدمٍ ... وصدرُها بشُواظِ الحُزْنِ مُوْقودُ كانت عزائمُهُ تَرْعى مصالِحَها ... إذا تَجافى عن الإصلاحِ جَلْمودُ وكان جانِبُها السّامي بهمَّتِه ... عليه دِرْعٌ من الإعزازِ مَسْرودُ يطاردُ الغَمْضَ عن جفنٍ حراستُه ... سِتْرٌ على مَعْهدِ العِرفانِ مَمدودُ ولا يغوصُ على مَنْحى سياستِه ... إِلا حجًى بثقافِ العِلْمِ مَمْهودُ وقد يجادلُ في مَعْنى عَدالتها ... لسانُ خَصْمٍ بأسْرِ الجهلِ مَصفودُ يبني بفصلِ خطابٍ للحقوقِ حِمىً ... كما انْتقى سابغاتِ الحربِ داودُ والنَّصْرُ في شُهُبِ الأرماحِ أولُه ... وتارةً ببليغِ القَوْلِ معقودُ إنْ صاغَ لفظاً لدى تقريرِ حادثة ... لم ينفَلِتْ عن حواشي اللَّفظِ مَقْصودُ تَخْطو بَراعتُه في طِرْسِه عَنَقاً ... فلا ترى الدُرَّ إِلا وهو مَنْضودُ أما الأناةُ فَطودٌ لا يميدُ به ... سيْلٌ ومَرْكَزُه في الحُكْمِ مَوْطودُ ........................ ... يومٌ كقارعةٍ دهماءَ مَشْهودُ (¬1) والناسُ من حولهِ هذا يساعفُه ... دَمْعٌ وهذا شجيُّ القلبِ مَكْمودُ ¬

_ (¬1) الشطر الأول من البيت مطموس في الأصل.

زاروا به مَضْجَعاً ثم انْثنوا زُمَراً ... وكُلُّهم بينهم في العود مَفْقودُ بَلْ أوفدوهُ على مَوْلى تواجِهُهُ ... منه الكرامةُ والرضوانُ والجودُ سيَنْجلي اليومُ ما لم يدرهِ فئةٌ ... بالأمْسِ والزُّهْدُ في الموجودِ معهودُ فالشَّمْسُ لا يقدِرُ الرّائي فضيلَتها ... إلّا إذا غشِيَتْ أنوارَها السُّودُ لا غَرْوَ إنْ قالَ ما سوف يؤرخه ... (ماتَ الوزيرُ فَرُكْن العَدْلِ مَضْهودُ) سنة 1325

تهنئة لمقام المشيخة الإسلامية

تهنئة لمقام المشيخة الإسلامية (¬1) زُفَّت إلى بيرمَ الرِّئاسةْ ... فابْتَهَجَ العِلْمُ والسِّياسهْ وثمرةُ العِلْمِ يَجْتنيها ... ذو هِمَّةٍ أَلقحتْ غِراسَهْ يا مُحْرِزاً خَصْلَتَيْ سِباقٍ ... في حَلْبَةِ الفَهْمِ والدِّراسَهْ تفرَّسَ النّاسُ فيك خيراً ... وطالما تصدُقُ الفِراسهْ وهكذا يُرْتَجى لنَفْع ... مَنْ كانَ ثوبُ الهُدى لباسَهْ فالعَدْلُ مِنْ مَفْصِلِ القضايا ... مِنْ نورِكُمْ آنسوا اقْتباسَهْ والعِلْمُ بالفِقْهِ والفَتاوى ... أقامَ في بَيْتِكُمْ أساسَهْ هذا حِمى الشَّرْعِ حَوَّطَتْهُ ... مِنْ عَهْدِ تقليدِكُمْ حِراسَهْ وما يَلي رَعْيَهُ حكيمٌ ... لا يملِكُ الضَّيْغَمُ افتراسَهْ وذا نظامُ العلّومِ ألقى ... إلى تدابيرِكم مِراسَهْ ¬

_ (¬1) نشرت في جريدة "الزهرة" العدد 727 الأحد 13 صفر الخير 1329 هـ الموافق 12 فيفري 1911 م - تونس - وجاء في تقديم القصيدة: "العالم الفاضل الزكي المتفنن الأديب الشاعر المجيد الشيخ السيد الخضر بن الحسين المدرس بالجامع الأعظم دام عمرانه".

فانْهَضْ لإصلاحِ ما تعفّى ... وردَّ من جامحٍ شِماسَهْ والحقُّ يا بن الكرامِ نورٌ ... وقد يُثير الهوى الْتباسَهْ هلْ في نواياكَ بَسْطُ باعٍ ... لِكَبْحِ من يبتغي انْعِكاسَهْ فما عَهِدْنا لديكَ إِلا ... أصالةَ الرأي والحماسَهْ ومن يَقِسْ آتيًا بماضٍ ... بنى على حُكْمِه قِياسَهْ لا بِدْعَ إن حُزْتَ في خصالٍ ... شهادةَ الطَّبْعِ والسَّلاسَهْ فالسيفُ في حَدِّهِ مضاءٌ ... يَفْري وفي جَنْبِهِ مَلاسَهْ لو فُوِّضَ الأمْرُ في انتخابٍ ... إلى حِجَى كُلِّ ذي كَياسَهْ تضافروا في الجوابِ أَرِّخْ ... (تُعْطى إلى بَيْرَمَ الرِّئاسَهْ) سنة 1329

من شعر الإمام محمد الخضر حسين

من شعر الإمام محمد الخضر حسين يتداول شيوخ الزيتونة والأدباء في تونس بيتين من الشعر، ينسب قولهما للإمام محمد الخضر حسين عند وداعه تونس في رحلته إلى الشرق، وكان في موقف الوداع الإمام محمد الطاهر بن عاشور، وجمع من تلامذة الإمام ومحبيه (¬1): أُوَدِّعُكُمْ واللهُ يعلمُ أنّني ... شَغُوفٌ بِكُمْ لا أَبْتغي البُعْدَ عَنْكُمُ وما عَنْ قِلىً (¬2) كانَ الفراقُ وإنَّما ... دولٍ تبدَّتْ فالسَّلامُ عَلَيْكُمُ ¬

_ (¬1) روى لي البيتين مع واقعة الوداع الشيخ محيي الدين قادي من علماء الزيتونة، كما سمعتهما من بعض رجال الفكر والأدب في تونس. (¬2) القلى: البغض والهجر. يقال: قلَى فلاناً قِلىً: أبغضه وهجره.

تقريض كتاب "مرآة البراهين في مضار النشوق والتدخين"

تقريض كتاب "مرآة البراهين في مضار النشوق والتدخين" للإمام محمد الخضر حسين تقريض لرسالة "مرآة البراهين في مضار النشوق والتدخين" من تأليف الأستاذ علي عبد الوهاب، وطبعت في تونس سنة 1317 هـ: ذِي روضةٌ فانْشَقْ شذى نفًحاتِها ... والْقُطْ نفيسَ الدُرِّ من زَهَراتِها وتوَقَّ عن نارِ الدُّخانِ أخا الفَلا ... حِ بِجَذْوة من نورِ إرْشاداتِها إيَّاكَ تُنسي النَّفْسَ أمراً بعدَ أنْ ... تتلو بألسِنَةِ الحِجا آياتِها لله مُبْدِعُ نَسْجِها من عارفٍ ... وَشَّى الطُّروسَ بِحَلْي تَحْقيقاتِها دُمْ (يا عليُّ) وفكرُكُمْ بمعارفٍ ... يَسْمو على الأقمارِ في هَلّاتِها

تقريض رسالة "إجمال القول في مضار الكحول"

تقريض رسالة "إجمال القول في مضار الكحول" للإمام محمد الخضر حسين تقريض لرسالة: "إجمال القول في مضار الكحول" من تأليف الأستاذ علي عبد الوهاب، وطبعت الرسالة بالمطبعة الأدبية بتونس سنة 1316 هـ. لله دَرُّكَ مُجْلياً لرسالةٍ ... تَصْبو لرَشْفِ رحيقِها الأَلبابُ أبديْتَ فيها للخمورِ مَهالكاً ... كيْ يَنْتهي عن شُرْبها المُرْتابُ فَلَنِعْمَ ما رَقمَتْ يداكَ وحبّذا ... صُنعاً بهِ عند الإله تُثابُ أخوكم محمد الخضر بن الحسين

* اسم الكتاب: رواية قالون بوجه واحد. * تصحيح الشيخ: صح من كاتبه محمد البشير الفورتي، لطف الله به. آمين. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الشيخ المربّي السيد الحسين بن علي بن عمر التونسي العلوي، فتح الله تعالى عليه. الحمد لله وحده، والصّلاة والسلام على من لا نبي بعده. هذا وإن التلميذ النّجيب المرقوم اسمه أعلاه يقرأ على العبد الفقير بالرواية المذكورة يمناه. وابتدأ من أمِّ القرآن. فتح الله على الجميع بمنِّهِ. وكتب في 5 رجب عام سبعة وثلاث مئة وألف.

* اسم الكتاب: الشيخ خالد -صُغرى الصُّغرى بشرح المؤلِّف- القطر بشرح مؤلفه. * تصحيح الشيخ: صح من كاتبه محمد كشير الشريف، وفّقه الله. آمين. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الشيخ الحسين الشريف العلوي، فتح الله عليه. الحمد لله وحده. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده. أما بعد: فإن الابن الأنجب محمد الأخضر المذكور أعلاه، ابن الناسك المربي الزاهد سيدي الحسين لازمني في السنة الماضية في الدرس يمناه إلى أن منّ الله بختمه، ويحضر بمواظبة تامة في الدرسين للكتاب الثاني والثالث، وابتدأ الأول من الأول، ووصل إلى: ما يستحيل في حقه تعالى، والثاني من الأول إلى الفصل الثاني من النواسخ، مع التأهل له. فتح الله على الجميع، بجاه النبي الشفيع. وكتبه المصحح يمناه في 7 رجب الأصب من عام 1307.

* اسم الكتاب: الشيخ خالد - القطر - الكفاية. * تصحيح الشيخ: صح محمد صالح الشريف. * الشهادة للتلميذ: محمد الأخضر بن الحسين بن علي بن عمر الشريف، فتح الله عليه. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فإن النجيب مواظب مع العبد بالدروس يمناه من أولها إلى ختم الأول، والبلوغ في الثاني السلكة الأولى إلى أثناء المنادى، والثانية علامات الأفعال، والثالث أثناء الصلاة، مع التأهل والاجتهاد، فتح الله على الجميع. وكُتب في رجب عام 1307.

* اسم الكتاب: الماكودي. * تصحيح الشيخ: أحمد بوخريص. * الشهادة للتلميذ: محمد الأخضر الشريف بن الحسين العلوي، فتح الله عليه. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. وبعد: فإن المذكور أعلاه من المواظبين في الدرس يمناه بأهلية، وبلغنا في الأفعال الخمسة، فتح الله لنا وله أبواب الخير؛ بجاه البشير النّذير، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وكتب في حادي عشر ثاني جمادى 1308.

* اسم الكتاب: المكودي على الخلاصة. * تصحيح الشيخ: صح من محمد صالح الشريف. * الشهادة للتلميذ: محمد الأخضر بن الحسين بن علي بن عمر الشريف. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فإن النبيه النجيب المذكور أعلاه مواظب مع العبد بالدرس يمناه، من أوله إلى باب الحلل، مع اجتهاد وحسن تفهم، فتح الله على الجميع، وكتب 12 في جمادى الثانية عام 1308.

* اسم الكتاب: الشيخ الزرقاني على العزبة -القطر بشرح مصنفه- الشيخ الملوي على السلم. * تصحيح الشيخ: محمد العزيز الوزير. * الشهادة للتلميذ: محمد الأخضر بن الحسين بن علي بن عمر الشريف. الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا الأوّاه، وآله ومن والاه. وبعد: فإن النجيب صاحب الدفتر أعلاه، ممن يحضر بالدروس يُمناه، مع المواظبة ويذل الجهد وحسن التلقّي، ولوايح النجابة خافقة عليه، من أوايلها إلى أن بلغ الآن في الأول: باب الحيض، وفي الثاني: أثناء باب الترخيم، وفي الثالث: أنواع الوكالة، حرر في ثانية جمادى سنة 1308.

* اسم الكتاب: المكودي. * تصحيح الشيخ: إسماعيل الصفايحي. * الشهادة للتلميذ: محمد الأخضر بن الحسين بن علي بن عمر الشريف، فتح الله عليه. الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وسلم، فإن صاحب الدفتر من المواظبين على الدرس يمناه من: كان إلى الاشتغال. وكتب في جمادى الثانية سنة 1308.

* اسم الكتاب: القطر بشرح مؤلفه. * تصحيح الشيخ: صح على الشنّوفي. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر الشريف الحسني، فتح الله عليه. الحمد لله حمداً يوافي نعمه، ويكافي مزيده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أَولي الخصائص الحميدة، صلاة وسلاماً دائمين ليوم حشر الله عبيده. وبعد: فإن الأنجب النبيه الحسني أعلاه ممن لازم باعتناء وحسن تلقٍّ الدرسَ يمناه من أوله للختم، ختم الله لنا وله بالسعادة، ورزقنا الحسنى وزيادة، كتبه في شعبان سنة 1308.

* اسم الكتاب: الشيخ المكودي على الخلاصة - المكودي على السلم. * تصحيح الشيخ: صح محمد صالح الشريف. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر، فتح الله عليه والمسلمين آمين آمين. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله. وبعد: فإن الأنجب الألمعي المذكور أعلاه ممن لازم العَبْد بالدرسين يمناه من أولهما إلى الختم، فتح الله على الجميع، كل ذلك مع مواظبة واجتهاد وحسن تفهّم، وكتب في شعبان عام 1309.

* اسم الكتاب: صغرى الصغرى. * تصحيح الشيخ: صح محمد المكي بن عزّوز. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر الشريف، فتح الله عليه. الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وسلم، وعلى آله. وبعد: فإن الابن النجيب المذكور أعلاه مواظب درس الحقير المشار إليه يمناه إلى أن وصلنا بهذا التاريخ مبحث النبوّات، نسأل الله الفتح على الجميع، كتب أوايل حجة الحرام سنة 1309.

* اسم الكتاب: صغرى الصغرى - الحطاب على الورقات - الدردير على المختصر الخليلي - المكودي على الألفية - التجويد برواية قالون. * تصحيح الشيخ: محمد المكي بن عزوز -وفقه الله-. * الشهادة للتلميذ: محمد الأخضر بن الحسين الشريف، فتح الله عليه. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وآله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن الشاب الأديب، اليلمع النجيب، ابننا السيد محمد الأخضر صاحب الدفتر، يحضر في الدروس الخمسة يمناه من أوايلها إلى أن ختمنا الأول والثاني. أما الثلاثة الباقية، فلا زال على الحضور فيها بمواظبة واعتناء وسيرة يفوز بالعلم من يقتفيها، فتح الله على الجميع، بجاه مصطفاه الشفيع - صلى الله عليه وسلم -، كتب أواسط جمادى الأولى سنة 1310. إلى أن بلغنا في الدردير: فضايل الوضوء، وفي المكودي: فما لذي غيبة أو حضور ... إلخ، وفي التجويد بالوجوه، فتح الله على الجميع. كتب في 11 شوال سنة 1310. وفي التجويد قرأ عليَّ من أول سورة البقرة إلى قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرّ} [البقرة: 177]. بتاريخه.

* اسم الكتاب: الأربعين النووية - بانت سعاد - الخزرجية في العروض - مقامات الحريري - الجزرية في التجويد. * تصحيح المؤلف: محمد المكي بن عزّوز. * الشهادة للتلميذ: محمد الأخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه-. الحمد لله، والصلاة والسلام على آله ومن والاه. وبعد: فإن الأنجب الأديب، الكيّس اللبيب، صاحب هذا الدفتر، حضر عند الفقير في الدروس الأربعة يمناه، بمواظبة واعتناء كلّي وحُسْنِ تلقٍّ إلى أن ختمنا الكتاب الأول دراية، وكذا الثاني ختم كذلك، ووصلنا في الثالث إلى: باب البحور، وفي الرابع إلى: المقامة الحادية والثلاثين، والخامس في الأثناء، فتح الله على الجميع، وكتب في 11 شوال 1310. ولازال يحضر في الكتب الأربعة من أوايلها، المقامات إلى الختم. صح محمد المكي بن عزّوز، كتب أوايل جمادى الثانية سنة 1314.

* اسم الكناب: لامية الأفعال - الأشموني - المطالع القطرية - مختصر السعد. * تصحيح الشيخ: إسماعيل الصفايحي. * الشهادة للتلمبذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه-. الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. وبعد: فإن صاحب الدفتر من المواظبين على الدروس الأربعة يمناه إلى أن يسر الله سبحانه ختم الأولين، وابتدأ الأخيرين إلى أن وصلنا في الآخر باب: متعلقات الفعل، مع اجتهاد وتأهل ونباهة وحسن سيرة -فتح الله عليه بمنّه-. وحرر في 2 ذي الحجة الحرام سنة 1311. والابتداء في اللامية من أولها، وفي شرح الأشموني من أثناء النواسخ أو الابتداء، وكتب في 2 المحرم سنة 1315.

* اسم الكتاب: السمرقندية بشرح الملوي - إيساغوجي - الخبيصي على التهذيب. * تصحيح الشيخ: مصطفى بن خليل. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه-. الحمد لله العزيز الدايم، والصلاة والسلام على الفاتح الخاتم، وعلى آله أهل المكارم. وبعد: فإن صاحب هذا الدفتر ممن لازم قراءة الكتب المزبورة يمناه بحزم سندين، وجدّ عصامين، وذوق مصيب لشوارد المرامين، وفهم وثمر لكل خير جمع، ونظر منشدة الألمعي الذي يظن بها الظن كأن قد روى وقد سمع، إلى أن منّ الله بالاختتام -منَّ الله علينا بحسن الختام-. وكتب في حجّة تمام عام 1311.

* اسم الكتاب: الدردير على المختصر الخليلي - السّوسي. * تصحيح الشيخ: محمد المكي بن عزّوز. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه-. الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين. وبعد: فإن ابننا الأنجب اللبيب الدرّاكة الشريف ابننا السيد محمد الخضر، لا زال يحضر بالكتاب المذكور على يمناه، بمواظبة واعتناء وحزم وحسن تفهم، إلى أن بلغنا: السترة من سنن الصلاة، وذلك دأبه في حضوره بالكتاب الثاني من أوله إلى أن ختمناه مرّتين. وكذا ختمنا قصيد الإمام البوصيري المسمى بالهمزية دراية، مع ملازمته لنا في مجالس علوم الدين، وما ألحق بها من لطايف بيانية، ونكات عربية، وأسرار الآيات القرآنية -فتح الله علينا وعليه-. وكتب في 8 قعدة سنة 1312.

* اسم الكتاب: مختصر السعد. * تصحيح الشيخ: إسماعيل الصفايحي. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه-. الحمد لله، صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وبعد: فإن النجيب الألمعي صاحب هذا الدفتر من المواظبين على الدروس يمناه إلى أثناء باب: الفصل والوصل، مع اجتهاد وأهلية وحسن تفهم -فتح الله على الجميع بمنَّه-. وحرر في ذي القعدة سنة 1312.

* اسم الكتاب: الحلي على جمع الجوامع. * تصحيح الشيخ: مصطفى رضوان. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه-. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه وعبده، وعلى آله وصحبه والتابعين من بعده. وبعد: فإن النجيب الأديب الألمعي المشارك المسمى أعلاه ممن حضر درس العبد الفقير للكتاب يمناه من أوله إلى أن بلغنا فيه: مبحث الاستثناء، وهو على غاية من الاجتهاد والمواظبة والتنبه، والله الميسر لختم الكتاب بمنّه، وكتب في ربيع الأنور سنة 1313. ولم يزل مستمراً على قراءة الكتاب المذكور، وهو بحالته الموصوفة، وصفات النجابة المعروفة، إلى أن يسر الله ختم الكتاب، ختم الله لنا وله بخير، وكفى الجميع الرضى. وكتب في المحرم سنة 1314.

* اسم الكتاب: المزهر. * تصحيح الشيخ: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه-. الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه. أما بعد: فإن الأنجب اليلمعي الفاضل، صاحب هذا الدفتر ممن انتظم في سلك درس الكتاب يمناه بمزيد أهلية وحسن تفهم إلى أن انتهينا فيه إلى: أثناء مبحث المتواتر والآحاد، والله المسؤول أن يبلغ الجميع من رضوانه غاية المراد، وقد كان ابننا المذكور حضر مع العبد بدرس الأشموني، ولامية الأفعال. وكتبه المصحح يمناه في 5 رجب سنة 1314.

* اسم الكتاب: الوسطى - البيقونية بشرح الزرقاني. * تصحيح الشيخ: مصطفى بن خليل. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه-. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فإن التلميذ المذكور أعلاه ممن حضر مع العبد في الدرسين يمناه من أولها إلى أن منَّ الله بالختم مع مواظبة واجتهاد، ونباهة وحسن سيرة فتح الله عليه- آمين. كتب في 4 ذي الحجة الحرام سنة 1314.

* اسم الكتاب: المطول - التاودي على العاصمية - الشامية. * تصحيح الشيخ: أحمد بوخريص. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه-. الحمد لله، والصلاة والسلام على حبيب الله، وعلى آله وصحبه. وبعد: فإن المذكور أعلاه، من خيار النجباء النبهاء المجدين المواظبين في الدروس يمناه، فتح الله لنا وله أبواب الخير بجاه البشير النذير، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم. بلغنا في الأول: وجوب التأكيد للمنكر، وفي الثاني: أثناء فصل البيع على الغايب، وفي الثالث: جمع الصفات، وبالله الإعانة. كتب في 24 حجة عام 1314. وابتدأ القراءة من الابتداء - صح من كاتبه أحمد بوخريص.

* اسم الكتاب: الدردير على المختصر. * تصحيح الشيخ: حسين بن حمد. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه- آمين. الحمد لله، صلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن صاحب هذا الدفتر مواظب على قراءة الكتاب يمناه مع جد واجتهاد، كفيلين -إن شاء الله- ببلوغ المراد، من باب: النكاح إلى أثناء: العدة، بأهلية. وكتب في 3 ذي الحجة سنة 1314. الحمد لله. لم يزل التلميذ المشهود له أعلاه يحضر معنا في قراءة الكتاب يمناه بمواظبة واجتهاد إلى أن بلغنا: أثناء بيع الخيار -فتح الله عليه- بجاه نبيه المختار، وآله الأخيار - في ذي الحجة الحرام سنة 1315.

* اسم الكتاب: مختصر السعد - الدرة. * تصحيح الشيخ: إسماعيل الصفايحي. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه- آمين. وبعد: فإن النبيه الأنجب صاحب هذا الدفتر ممن واظب على الدرسين يمناه إلى أن يسَّر الله سبحانه ختم الأول، بهالى: بسط الكسور في الثاني، وهو على كمال الأوصاف، وأهلية واجتهاد وحسن سيرة وعفاف -كثَّر الله من أمثاله، وفتح عليه بمنِّه-. وحرر في 2 المحرم الحرام سنة 1315.

* اسم الكتاب: الشفا بشرح الشهاب. * تصحيح الشيخ: صح من محمد جعيط. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه-. الحمد لله، والصلاة والسلام على أكمل خلق الله. وبعد: فإن الأديب الفاضل، سليل الأفاضل، المذكور أعلاه، رزقني الله وإياه تقواه، هو ممن يحضر في درس العبد لكتاب يمناه، مع المواظبة وحسن التفهم، سهَّل الله على الجميع طريق التعليم والتعلم. وقد انتهينا فيه في التاريخ إلى الباب الثاني في تكميل الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - المحاسن خَلْقاً وخُلقاً ... إلخ. وكتب له في محرم الحرام من عام 1315.

* اسم الكتاب: شرح الشيخ الزرقاني على المختصر الخليلي. * تصحيح الشيخ: صح محمد النجار. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه-. الحمد لله الفتّاح العليم، والصلاة والسلام على من هو بالمؤمنين رؤوف رحيم، وآله وصحبه الناهجين نهجه القويم. وبعد: فإن الفقيه النبيه الأنجب، صاحب هذا الدفتر، قد صاحب كاتبه في قراءة الكتاب يمناه، مع كمال أهلية، ومزيد تقدم ومواظبة، من أول باب النكاح إلى قول المصنف: ومنع الإحرام من أحد الثلاث. وكتب في 15 المحرم الحرام عام 1315، وربنا الفتّاح.

* اسم الكتاب: شرح القطب على متن الشمسية. * تصحيح الشيخ: صح من أحمد بن مراد. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين -فتح الله عليه-. الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وصحبه وسلم. وبعد: فإن التلميذ المزبور اسمه أعلاه، الفقيه النبيه المشمِّر عن ساعد جدّه واجتهاده، من الطلبة المواظبين على كاتبه في الكتاب يمناه، وذلك من قول المصنف: ونقيضا المتساويين، إلى قول المصنف: ويسمى حداً تاماً إن كان بالجنس والفصل الغريبين. وحرر في 15 محرم الحرام من عام 1315.

* اسم الكتاب: الشيخ التاودي على التحفة. * تصحيح الشيخ: صح من كاتبه عمر بن الشيخ -وفقه الله بمنِّه-. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه-. الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى، وآله وصحبه أهل الصدق والوفا. وبعد: فإن الألمعي الحازم المشمِّر عن ساعد الجدّ والاجتهاد، الأنجب الأنبه، الفاضل اللوذعي المشارك، ابننا صاحب هذا الدفتر المبارك من المجدين المواظبين على العبد الفقير في دراسة الكتاب يمناه، من أوله إلى قول المصنف: فصل في مسائل من النكاح -منحني وإياه بالفتح خير مانح وواهب-. وكتب في أوائل محرم 1316.

* اسم الكتاب: الشفا بشرح الشهاب. * تصحيح الشيخ: صح من محمد جعيط. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه- آمين. الحمد لله، والصلاة والسلام على أكمل خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن الثقة الأنجب الفاضل، سليل السادة الأفاضل، قد حضر على العبد في درس الكتاب يمناه -أظفره الله بمناه-، وهو في ذلك مواظب مجد، ذو فكرة وقّادة، تؤذن بأن ستصير له جياد المعارف منقادة، وذلك من الموضع الذي صحيح له فيه بصحيفة (24)، وقد بلغنا في التاريخ إلى أثناء فصل: في ذكر شجاعته - صلى الله عليه وسلم -. وكتب له في محرم الحرام من عام 1316.

* اسم الكتاب: شرح الشيخ الزرقاني على مختصر الشيخ خليل. * تصحيح الشيخ: صح من محمد النجار الشريف. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف -فتح الله عليه- آمين. الحمد لله الفتّاح العليم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وصحبه الناهجين منهجه القويم. وبعد: فإن الفاضل الألمعي، الأنجب اللوذعي، صاحب هذا الدفتر المصحح له في (صفحة 35) لم يزل مواظباً على قراءة الكتاب يمناه، إلى أن بلغنا فيه إلى قول المصنف: وفيها يلزمه تجهيزها به، وهو على ما عهد من كمال أهليته، واعتنائه ومزيد تقدمه، وربنا الفتّاح. وكتب في 18 المحرم الحرام عام 1316.

* الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف العلوي. الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وعلى آله وأصحابه أولي العهد والوفا. أما بعد: فإن الفقيه النبيه المشارك الشيخ محمد الخضر صاحب هذا الدفتر ممن رغب في التقدم لمجلس الامتحان عام التاريخ، وتقدم فيه بثلاثة دروس أولها: من المطول لشيخه العلامة المفتي سيدي أحمد بوخريص، وثانيها: من شرح الشيخ سيدي عبد الباقي على المختصر لشيخه العلامة المفتي سيدي محمد النجار، وثالثها: من شرح الخبيصي على التهذيب لشيخه المنعم المرحوم العالم المدرس السيد مصطفى بن خليل. وأنتج النظر أن يكون هذا المتقدم مستحقاً لرتبة التطويع، فأذن له في ذلك ليجتهد في تحصيل الكمالات العلمية، والله ولي الرشد. بتاريخ يوم الأحد 14 من صفر الخير عام 1316 ستة عشر وثلاثمائة وألف. صح محمد بيرم. أحمد الشريف. وإسماعيل الصفايحي. محمد الطيب النيفر.

* الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين الشريف العلوي. إجازة العلامة محمد المكي بن عزّوز. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الحبيب سيدنا محمد إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد: فإن الاشتغال بالعلم أشرف الأعمال، وبه يبلغ المرء من سعادة الدارين منتهى الآمال، وإقراؤه بلا سند كقتال بلا سلاح، والأسانيد هي أنساب الكتب، ولولا السند، لقال من شاء ما شاء، والسند من خصائص هاته الأمة المحمدية، وفي الإجازة من المدد والبركة ما هو مشاهد. وممن تأهل لها، وكان أحق بها وأهلها: ابننا الألمعي الماجد، ذو الخلال الفاخرة والمحامد، الدرّاكة الشيخ أبو عبد الله سيدي محمد الخضر ابن النّاسك الأوّاه، العارف بالله الأستاذ الشيخ سيدي الحسين الشريف العلوي العزّوزي، سار على الدَّرب فوَصَلْ، ودأَبَ بحزمٍ فأصبح والمقصود لديه حَصَلْ، جانبَ الكسل فاشتارَ العسل، جافى الرّاحة فملأ الرّاحة، بشهادة جهابذة الجامع، وحذّاق كرام المجامع، ولا اعتبار بكلام حاسد، أو متكبر أو متعصب معاند. وكان السيد المذكور قرأ على العبد الحقير وعلى غيره، بل شاركنا في الأخذ عن بعض أشياخنا -أدام الله النفع بهم - فمما حضره من دروس الحقير: شرح الدردير على المختصر، والمكودي على الألفية، والحطّاب

على الورقات، والتجويد برواية قالون، والجزرية، وصغرى الصغرى، والأربعون النووية، والجامع الصغير، وبانت سعاد، والهمزية للبوصيري، والخزرجية، والمقا مات الحريرية، والسوسي، والربع المجيب، كلها بالتدريس، فبعضها ختمناه، وبعضها قاربنا ختمه، وبعضها انتهينا إلى أثنائه. هذا سوى ما جرى ذكره من إفادات المذاكرات، ولاحت أقماره في دوران أفلاك المحاورات، خلال الاستنطاقات الشفاهية، والمسايلات الكتابية، فهنيئاً له من شابٍّ نَبَغْ، وسيبلغ إن شاء الله من أخذ عنه ما بَلَغْ. والآن لمّا حُظي برتبة التقديم لإقراء العلوم بالجامع الأعظم، استحق أن تكتب له إجازات مؤذنة باستكمال الشهادات. ومَنْ منعَ المُسْتوجبينَ فقد ظَلَمْ فأقول مستعيناً بالله: أجزت الشيخ محمد الخضر المذكور بعلوم المعقول والمنقول من الفنون المتداولة، والكتب المتناولة، كما أجازني بذلك شيوخي بأسانيدهم المتصلة بالمؤلفين، وتعدادهم هنا يطول، ولنقتصر على البعض تيمُّناً بهم، ولم أذكر هنا من أسانيدنا التونسية الجليلة إلا قليلاً، لأن المجاز المذكور يريد أخذها عن الحاضرين منهم. ولنبدأ بالحديث الشريف كما هو عادة المسندين مقدّماً موطأ الإمام مالك - رضي الله عنه - عن ساير الأئمة. فسندنا فيه عن العلامة الجامع للشريعة والحقيقة سيدي محمد أبي خضير المدني رحمه الله ورضي عنه، عن الشيخ أحمد بشارة الشافعي، عن الشيخ محمد الأمير الكبير، عن الشيخ علي السقّاط الفاسي، عن الشيخ محمد الزرقاني شارحه عن والده سيدي عبد الباقي، عن الشيخ علي الأجهوري، عن محمد بن أحمد الرملي، عن شيخ الإسلام زكريا،

عن الحافظ ابن حجر العسقلاني، عن النجم محمد بن علي بن عقيل، عن محمد بن علي المكفي، عن محمد بن محمد الدلاصي، عن عبد العزيز ابن عبد الوهاب بن إسماعيل، عن جده إسماعيل بن الطاهر، عن محمد ابن الوليد الطرطوشي، عن سليمان بن خلف الباجي، عن يونس بن عبد الله، عن يحيى بن يحيى بن يحيى، عن عم أبيه عبيد الله بن يحيى، عن أبيه يحيى ابن يحيى الليثي الأندلسي، عن الإمام مالك بن أنس، هذا برواية يحيى بن يحيى. ولنا أسانيد في الموطأ برواية محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - عن الإمام مالك رضي الله عن جميعهم وغيرها، ولنكتفي بما ذكرناه. وسندنا للإماميين البخاري ومسلم في صحيحيهما عن العالم المسن الشيخ سيدي محمد المكي بن الصديق، عن عمنا الشيخ سيدي المدني بن عزوز، عن جماعة منهم الشيخ محمد المرزوقي، عن الشيخ محمد الأمير الكبير، عن علي العروي، عن محمد عقيلة المكي، عن حسن العجيمي، عن أحمد بن محمد العجل اليمني، عن يحيى بن مكرم الطبري، عن البرهان إبراهيم بن صدقة الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عبد الأول الفرغاني، وكان عمره 140 عاماً، عن محمد بن شادبخت الفرغاني، عن أبي لقمان يحيى الختلاني، وعمره 143 عاماً، عن محمد بن يوسف الفرَبْري، عن الإمام البخاري. هذا في خصوص "صحيح البخاري". وأما سندنا في "صحيح مسلم"، فعن مجيزنا المذكور، عن شيخه سيدي المدني بن عزوز المذكور، عن الشيخ مصطفى بن عبد الرحمن مفتي الجزاير المالكي، عن الشيخ علي بن الأمين مفتيها المالكي، عن الإمام محمد الحفني القطب الشهير، عن شيخ الإسلام محمد الشرنبابلي، عن شمس الدين

البابلي، عن الحافظ سالم السنهوري، عن النجم الغيطي، عن القاضي زكريا. عن الحافظ ابن حجر العسقلاني، عن محمد بن أبي اليمن، عن محمد بن عبد الحميد المقدسي، عن أحمد بن عبد الدائم النابلسي، عن أبي عبد الله بن صدقة، عن محمد بن الفضل الفراوي، عن أبي الحسن عبد الغافر الفارسي، عن أبي أحمد بن عيسى بن عبد الرحمن، عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد ابن سفيان، عن الحافظ مسلم. وسندنا المسلسل بالمحمدين عن مجيزنا الشيخ سيدي محمد الشريف الإمام الأعظم بجامع الزيتونة، عن الشيخ سيدي محمد بن الخوجة شيخ الإسلام الحنفي، عن شيخ الإسلام سيدي محمد بيرم الثالث، عن شيخ الإسلام المالكي سيدي محمد المحجوب، عن الشيخ محمد الهدامحشي الحطاب، عن القطب محمد الحنفي المصري، عن محمد بن عبد العزيز، عن محمد البابلي، عن محمد حجازي الواعظ، عن محمد بن أحمد الغيطي، عن محمد الدلجي، عن محمد الخيضري، عن محمد المراغي، عن محمد الغرقشندي، عن محمد بن فليح، عن محمد بن مسلم، عن محمد بن عبد الرحيم، عن محمد بن مكي، عن محمد المدني، عن محمد بن طاهر المقدسي، عن محمد بن عبد الواحد البزار، عن محمد بن أحمد بن حمدان، عن محمد الكُشْميصَني، عن محمد الفِرَبْري، عن محمد بن إسماعيل البخاري -نفع الله الجميع بهم -. وقد منَّ الله عليَّ بسند عال في الصحاح الستة، أخذته عن الشيخ سيدي علي بن الحفاف المفتي المالكي بالجزاير، ومن الاتفاق الغريب: أني وجدته على فراش المرض ثابت العقل والميز، وعمره في نحو التسعين، ومنحني

هذا السند وغيره ظهر يوم الجمعة، وفي غيرها يوم السبت، توفي أواسط صفر ستة 1307. والسند هو عن شيخنا العلامة المذكور، عن الشيخ محمد صالح الرضوي، عن عمر بن مكي، عن القاضي شمهورش الجني، عن أصحاب الصحاح الستة صحاحهم. وسندنا في "الشفاء" للقاضي عياض، عن رئيس علماء الحرمين الشريفين الشيخ أحمد دحلان، عن الشيخ عبد الرحمن بن محمد الكزبري الشامي، عن صالح بن محمد العُمري، عن محمد بن سنة، عن مولاي الشريف محمد بن عبد الله، عن علي الأجهوري، والشهاب الخفاجي، وهما عن محمد الرملي، عن الإمام زكريا الأنصاري، عن محمد بن مقبل الحلبي، عن الصلاح ابن أبي عمر، عن علي بن عبد الواحد، عن أبي الحسن يحيى بن محمد، عن مؤلفه عياض، وبهذا نروي جميع تصانيفه كالمشارق، والإلماع، وشرح مسلم، وغيرها. والأربعون النووية، وجميع ما هو من تصانيف القطب النووي؛ كشرحه على مسلم، وحزبه المجرّب الخاصية للحفظ من شرور الجن والإنس، نروي ذلك بسند الشفا المذكور إلى علي الأجهوري، عن النور العراقي، عن الجلال السيوطي، عن علم الدين البلقيني، عن والده السراج البلقيني، عن الحافظ يوسف المزي، عن الإمام النووي. تآليف سيدي محمد السوسي في علم الكلام وغيرها: بسند الشفا المذكور إلى الشريف محمد بن عبد الله، عن أحمد المقري التلمساني، عن عمه سعيد المقري مفتي تلمسان ستين سنة، عن محمد بن عبد الرحمن بن

جلال التلمساني، عن سعيد الكفيف التلمساني، عن مؤلفها المذكور، وهو تلمساني. تآليف ابن هشام في النحو؛ كالمغني، والتوضيح، والقطر، وغيرها: أخذنا ذلك عن جماعة منهم: ابن العم الشيخ سيدي محمد العربي بن عزوز، والشيخ عمر بن محمد اليزيدي، وكلاهما عن شيخنا العلامة المتبحر في العلوم عمنا سيدي المدني بن عزوز، عن الشيخ يوسف الصاوي، عن الشيخ محمد الأمير، عن الشيخ علي السقاط، عن الشيخ أحمد النخلي المكي، عن محمد بن علاء الدين البابلي، عن سالم السنهوري، عن النجم الغيطي، عن شيخ الإسلام زكريا، عن الإمام ابن حجر، عن محب الدين ولد ابن هشام، عن والده. وكذا تآليف ابن مالك: أخذناها عن ابن العم الشيخ العربي بن عزوز، عن عمنا سيدي المدني بن عزّوز، عن مصطفى بن عبد الرحمن، عن علي ابن الأمين، عن القطب الحفني، عن العلامة البديري، عن علي الشَّبْرامَلِّسي، عن محمد الرملي، عن زكريا، عن صالح بن السراج البلقيني، عن إبراهيم بن أحمد التنوخي، عن الشهاب محمود بن سليمان، عن الإمام محمد بن مالك. وسندنا للمكودي شارح الألفية، عن العالم السّنّي الشيخ محمد بن الفزادري، عن الشيخ محمد صالح الرضوي، عن عمر بن عبد الكريم، عن صالح العُمري، عن محمد بن سنة، عن مولاي محمد بن عبد الله، عن أحمد المقري، عن عمه سعيد المفتي، عن علي بن هارون، عن المحقق محمد بن غازي المكناسي، عن أبي زيد عبد الرحمن، عن الشيخ المكودي.

وسندنا في تصانيف الإمام سعد الدين التفتازاني، فبسندنا المذكور في "صحيح مسلم" إلى القطب الحفني، عن البديري، عن المنلّا عبد الرحيم اللاري، عن عبد الكريم الكوراني، عن الشمس الرملي، عن الزين زكريا بسنده إلى الأبيوردي، عن مؤلفها سعد الدين. تفسير الجلالين: عن شيخنا الشيخ عمر بن محمد اليزيدي النفطي، عن عمنا سيدي المدني بن عزّوز، عن الشيخ يوسف الصاوي، عن الشيخ الأمير الكبير، عن الصعيدي، عن الشيخ عقيلة، عن حسن العجيمي، عن الإمام البابلي، عن سالم السنهوري، عن الشمس العلقمي، عن جلال الدين السيوطي، وهو مصنف النصف الأول من ذي الجلالين، وبهذا نروي تآليفه كلها؛ كالجامع الصغير، والإتقان، وكتاب الإعجاز، وغيرها. ونصف التفسير الأخير للجلال المحلي، فبهذا السند نفسه نرويه إلى السيوطي، عن شيخه الجلال المحلي. وسندنا إلى شرحه على جمع الجوامع بالسند المذكور في المكودي إلى صالح العُمري، عن عبد الكريم، عن عبد الله الغوطي، عن مولاي أبي القاسم بن محمد، عن والده، عن أحمد المقري، عن ابن العافية، عن العلقمي، عن السيوطي، عن المحلي. وسندنا للبيضاوي في تفسيره الجليل عن شيخنا العلامة سيدي عمر ابن الشيخ التونسي، عن الشيخ سيدي الشاذلي بن صالح الشريف، عن شيخ الإسلام سيدي محمد بيرم الثالث، عن الطاهر في الباطن والظاهر المحبوب سيدي حسن الشريف، عن العلامة محمد الغرياني، عن أحمد العمادي المالكي، عن محمد عقيلة المكي، عن عبد الله بن سالم البصري، عن محمد

ابن سليمان المغربي، عن علي الأجهوري، عن السراج عمر الجامي، عن الحافظ السيوطي، عن محمد المخزومي، عن تقي الدين بن يحيى، عن أبيه يحيى بن شمس الدين الكرماني، عن القاضي العضد، عن الشيخ زين الدين، عن القاضي البيضاوي. وسندنا للعضد في شرحه على ابن الحاجب وغيره من تآليفه، لنا إليه طرق عديدة منها: عن الشيخ علي بن موسى، عن الشيخ ابن هني المجاجي، عن محمد الأمير الصغير، عن والده الأمير الكبير، عن الأستاذ محمد الحفني، عن البديري، عن الملّا إبراهيم، عن الملّا محمد الشريف الصديقي، عن علي ابن محمد الحكمي، عن ابن حجر الهيتمي المكي، عن الجلال السيوطي، عن محمد المخزومي، عن يحيى بن محمد بن يوسف الكرماني، عن العضد. ومن أسانيدنا للقطب في شرحه على "الشمسية"، وعلى "المطالع"، وعلى "الإشارات": عن الشيخ سيدي عمر بن الشيخ، عن الشيخ الشاذلي ابن صالح، عن الشيخ بيرم الثالث، عن الشيخ عمر المحجوب، عن الشيخ الغرياني، عن أحمد العمادي المالكي الأحمدي، عن محمد عقيلة، عن عبد الله ابن سالم، عن أحمد العجل، عن الإمام يحيى الطبري، عن القاضي أبي إسعادات، عن جدّه القاضي عبد القادر بن أبي القاسم الأنصاري المالكي، عن المؤلف قطب الدين الرازي. وسندنا في "المختصر الخليلي": عن ابن العم سيدي عبد الرحمن ابن عزّوز، عن عمنا الشيخ سيدي المدني بن عزّوز، عن ابن عم والدي الشيخ علي أبي سالم بن عزّوز، عن عم والدي العلامة الولي الشيخ سيدي المبروك بن عزّوز، عن الشيخ سيدي محمد رويجع الشريف البوزيدي،

عن الشيخ موسى الجمني، عن الشيخ عمر الجمني، عن القطب سيدي إبراهيم الجمني، عن شارحي المختصر سيدي الخرشي، وسيدي عبد الباقي، وهما عن الشيخ علي الأجهوري، عن محمد النيوفري، عن عبد الرحمن الأجهوري، عن أحمد الفشي، عن علي السنهوري، عن الشمس محمد البساطي، عن تاج الدين بهرام الدميري، عن المؤلف سيدي خليل. وأما سندنا بالفقه إلى الإمام مالك: فعن شيخنا عمر بن محمد النفطي، عن عمنا سيدي المدني بن عزوز بسنده المذكور إلى علي السنهوري، عن طاهر بن علي النويري، عن حسين بن علي، عن أحمد بن هلال الربعي، عن قاضي القضاة فخر الدين، عن عمر الكِندي، عن العارف بالله القطب ابن عطاء الله الإسكندري، عن أبي بكر الطرطوشي، عن أبي الوليد الباجي، عن الإمام مكي القيسي، عن سيدي عبد الله بن أبي زيد القيرواني صاحب "الرسالة"، عن أبي بكر اللبّاد الإفريقي، عن يحيى الكناني، عن الإمام سحنون، عن الإمامين أبي القاسم، وأشهب، عن إمام الأيمة مالك بن أنس، وهو عن ربيعة، ونافع مولى ابن عمر، وتفقه ربيعة على أنس بن مالك، وتفقه نافع على مولاه ابن عمر، وأخذ أنس، وعبدالله بن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحيث يطول بنا تعداد الأسانيد واستقصاؤها، فلنمسك عنان القلم خاتماً بـ "دلائل الخيرات": أجازني به العالم المتفنن الشيخ علي بن عبد الرحمن الشهير: بابن سماية المدرس الحنفي بالجزائر، عن الشيخ محمد صالح البخاري، عن عمر بن عبد الكريم، عن صالح الغمري، عن محمد سعيد سفر، عن محمد طاهر الكردي، عن أحمد النخلي، عن وجيه الدين السيد عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أحمد الحسني المكانسي، عن أبيه أحمد،

عن جده محمد، عن أبي جده أحمد، عن المؤلف القطب الجزولي - رضي الله عنه -، وعن ساير السادات الذين جرى ذكر أسمائهم في هاته الورقات-. وأنبّه السيد المجاز متى اتصل بـ "ثبت" الحقير الذي لخَّصت فيه الأسانيد التي حصلت في من علماء تونس والجزائر ومصر والشام والحرمين الشريفين، وغيرها: أن يسند إليها كل ما أجازته هاته عامّة، وأذكره أن التثبت شرط في جميع الإجازات كما قاله المحقق التاودي في بعض إجازاته. وأوصيه باستعمال العلوم النافعة؛ إذ العلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر، وأؤكد عليه في إخلاص أعماله لله، وعليه بحُسْن الخُلُق والإنصاف، وإنه على النفس شديد، ومن تحقق الإنصاف له، صار ولياً لله، أو كاد. وأوصيه بالتواضع، ومن يراه متصفاً بضد ما ذُكِر، فمجانبته أكمل. وكنت تلقيت بيتين من بعض أساتذة فاس، فاحْفَظْهما، وهما: وإذا جلستَ إلى الرجالِ وأَشْرَقَتْ ... من جوِّ باطِنك العلومُ الشُرَّدُ فاحذَرْ مناظَرةَ الَحسودِ فَرُبَّما ... تغتاظُ أنْتَ فيَسْتَفيدُ ويَجْحَدُ وليذكرني بالدعاء، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. كتبه أحوج عباد الله إلى رحمة الله محمد المكي بن مصطفى بن عزّوز في جمادى الأولى سنة 1314.

* اسم الكتاب: المواقف - شرح الشيخ الزرقاني على المختصر الخليلي. * تصحيح الشيخ: صح من محمد النجار الشريف. * الشهادة للتلميذ: محمد الخضر بن الحسين. الحمد لله الواحد الأحد، رافع السماء وباسط الأرض من غير عمد، أشرقت على صفحات المكونات أنوار جوده، فشهدت بكمالاته ووجوب وجوده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه العلماء الراسخين. وبعد: فإن الفاضل الفقيه النبيه اليلمعي، المشارك البارع اللّوذعي، صاحب هذا الدفتر، قد صاحب في قراءة الكتابين يمناه المصحح في ثانيهما بصفحة 31 من هذا الدفتر، وكان حضوره في الأول من أوله، وقد بلغنا فيه إلى: المقصد الرابع من المرصد الثالث من الوقف الأول، كما بلغنا في الثاني إلى: أثناء فصل التفويض في الطلاق، وكل ذلك مع كمال الأهلية، ومزيد التقدم والاعتناء، وربنا الفتّاح. وكتب في 15 رجب الأصب عام 1319.

الحمد لله - هذه حياتي

الحمد لله - هذه حياتي (¬1) للإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر في كتاب: "الحمد لله - هذه حياتي" للعلامة الأجل الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، ذكر فيه صلته بالإمام محمد الخضر حسين فقال: * جمعية الهداية الإسلامية: وكنت أتردد -أيضاً- على جمعية "الهداية الإسلامية"، وكان المرحوم الإمام الأكبر الشيخ "محمد الخضر حسين" رئيساً لها. * الشيخ محمد الخضر حسين: والشيخ "محمد الخضر حسين" مؤمن صادق الإيمان، مجاهد، مناضل، وهو تونسي المنبت والنشأة، جاهد في صفوف الوطنيين، حتى حكم عليه بالإعدام، وجاء إلى مصر، عالماً، ثبتاً، فقيهاً، لغوياً، أديباً، كاتباً، من ¬

_ (¬1) طبع دار المعارف بمصر 1976 م. وهو العالم المتعمق الصوفي (1328 - 1398 هـ = 1910 - 1978 م)، ولد في (عزبة أبو أحمد) في محافظة الشرقية، ونال شهادة العالمية في الأزهر، وتولى مناصب علمية رفيعة، وصار أميناً عاماً لمجمع البحوث الإسلامية، ووزيراً للأوقاف، وشيخاً للأزهر، له مؤلفات غزيرة قيمة.

الرعيل الأول. وقد أرضى بنزعته المعتدلة، وحجته القوية، وتثبته مما يقول جميع الطوائف، وذلك أن كل رأي يقول به إنما يستند إلى دليل واضح مقبول. ولقد أسهم في الحركة الفكرية الإسلامية بنصيب وافر، فكتب في كل ما أثير في عصره الخصب في الفكر والبحث. كتب في "الخلافة" (¬1)، وفي "الشعر الجاهلي" (¬2)، وفي "حكمة الشريعة"، وفي "صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان". فقد كان عالماً تفرغ للعلم، لم يشغله عنه شاغل من شواغل الدنيا، أو الجاه والسلطان. وحينما تولى "مشيخة الأزهر" لم يغيّر شيئاً من عاداته، كان على استعداد كامل ودائم لأن يعيش على كسرة من الخبز وكوب من اللبن. ولأنه لم يكن له في شهوات المنصب من حظ، فإنه كان -دائماً- يحتفظ باستقالته في جيبه، ولقد كان يقول: "إن الأزهر أمانة في عنقي، أسلّمها -حين أسلمها- موفورة كاملة، وإذا لم يتأتَّ أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يديَّ، فلا أقلَّ من ألا يحصل له نقص". ومات -رحمه الله تعالى- لم يخلّف من حطام الدنيا شيئاً. مات وقد قدّم لأخراه النصيب الأوفر من حياته، بل كل حياته - رضي الله عنه -، وأرضاه-. وقد جمع الكثير مما كتَب، وتمَّ طبعه في "لبنان" (¬3) بعد وفاته، وهو كنز نفيس جَمُّ النفع لمن يحصّله. ¬

_ (¬1) كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" الذي ردَّ فيه الإمام على علي عبد الرازق. (¬2) كتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" الذي ردَّ فيه على طه حسين. (¬3) طبعت جميع الكتب في دمشق.

من وثائق محمد الصالح المهيدي

من وثائق محمد الصالح المهيدي (¬1) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ترجمة الشيخ سيدي محمد الخضر بن الحسين ولد في "نفطة"، وهي بلدة واقعة بناحية الجنوب من القطر التونسي. ¬

_ (¬1) محمد الصالح المهيدي (1322 - 1389 هـ) - (1902 - 1969 م): الكاتب، والصحفي، والمؤرخ، والباحث، من أعلام تونس، ولد في مدينة "نفطة" بالجنوب التونسي، وتلقى علومه في "جامع الزيتونة"، وحصل على شهادة معهد الحقوق، وعمل بالتدريس، وبجمعية الأوقاف، شارك في تحرير الصحف والمجلات من سنة 1920 م حتى سنة وفاته، وله دراسات قيمة ومحاضرات في المعاهد والنوادي الأدبية، وعمل في وزارة التربية، والثقافة، والدار التونسية للنشر. كان مغرماً في تصنيف ملفات خاصة بمكتبه للأعلام والأحداث، وفي مختلف الفنون والآداب، ومن حسن حظ الثقافة التونسية أن آلت ملفاته وكافة أوراقه إلى دار الكتب الوطنية بتونس. وهذا كسب كبير، وتضم الملفات والوثائق التي اطلعت عليها في قسم الدوريات بدار الكتب الوطنية ثروة ضخمة من المعلومات، وقد استفدت منها إلى أبعد الحدود في تراجم الأعلام الذين اعتنيت بتراجمهم ومؤلفاتهم. وللأستاذ محمد الصالح المهيدي -رحمه الله تعالى- عناية خاصة بكل ما يتعلق بالإمام محمد الخضر حسين، وكلاهما من مواليد مدينة "نفطة". وهو مثقف مجدّ وجادّ، خدم أعلام تونس والثقافة أجل خدمة. ومن مؤلفات الأستاذ المهيدي: تاريخ الصحافة التونسية وتطورها بالبلاد التونسية - أعلام الصحافة بتونس - تراجم التونسيين - تاريخ الصحافة المغربية - تاريخ المدن والقرى التونسية وغيرها. وله أحاديث قيمة ألقاها في الإذاعة التونسية.

كانت ولادته في اليوم السادس والعشرين من رجب 1293 هـ. ونشأ في زاوية والده القائمة في تلك البلدة. وابتدأ تعلّم القرآن الكريم وهو ابن خمسة أعوام وخمسة أشهر وخمسة أيام على أحسن الحفّاظ الذين تفقهوا بين يدي الأستاذ الشيخ سيدي المدني ابن عزّوز. وفي آخر صفر سنة 1306 هـ رحل به والده في جملة العائلة إلى مدينة تونس، وضرب بها أطناب الإقامة. وفي آخر هذه السنة أتمَّ حفظ القرآن على ظهر قلب. وكان في خلال تعلّم القرآن يتلقى دروساً في التوحيد والفقه والحديث عن الأستاذ الشيخ أحمد الأمين بن عزوز، بعضها في بلدة "نفطة"، وبعضها في حاضرة تونس، كما أنه تمرَّن في صناعة القريض على يد هذا الأستاذ الجليل. ومما بثَّ في نفسه داعية حبِّ العلم والأدب: أنه كان لا يغيب عن مجالس والده التي كانت محطَّ رحال الزائرين من أهل العلم والأدب، وكثيراً ما تدور فيها المذاكرات العلمية والأخلاقية. دخل صاحب الترجمة الجامعة الزيتونية سنة 1307 هـ، ودرس علوم الشريعة من فقه وأصول وكلام وحديث وتفسير، وعلوم العربية من نحو وبلاغة وأدب وفقه لغة، وبعض العلوم النظرية؛ كالمنطق، وأخذ هذه العلوم من كبار الأساتذة مثل: رئيس العلماء بالديار التونسية الأستاذ الشيخ سالم بوحاجب -مدَّ الله في حياته-، والأستاذ الشيخ عمر بن الشيخ، والأستاذ الشيخ أحمد بو خريص، والأستاذ الشيخ مصطفى رضوان، والأستاذ الشيخ محمد النجار، والأستاذ الشيخ ابن حسين، والأستاذ خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز، والأستاذ الشيخ إسماعيل الصفايحي، والأستاذ الشيخ مصطفى بن خليل، والأستاذ الشيخ طاهر صفر، والأستاذ الشيخ محمد بن يوسف. وشهد

دروس أساتذة آخرين أو مجالسهم على قلة؛ مثل: شيخ الإسلام أحمد بن الخوجة، وشيخ الإسلام أحمد كريم، والقاضي الشيخ الطاهر النيفر، والقاضي الشيخ محمود بيرم، والعلامة الشيخ الشاذلي بن القاضي، والشيخ محمد يحيى الشنقيطي، والشيخ النوري شيخ الشيوخ بوطن الجريد. ومن الشيوخ الذين كان يشهد مجالسهم، ويلتقط من معارفهم: المفتي المالكي الشيخ الطيب النيفر، والأستاذ الشيخ محمد السنوسي، وشيخ الإسلام محمود بن الخوجة. وخوطب صاحب الترجمة على ولاية القضاء خارج الحاضرة قبل أن يحرز شهادة العالمية، فامتنع؛ حيث رأى أن مبارحة المعهد الزيتوني تقف به دون الغاية المطلوبة. وفي سنة 1316 هـ تقدم لمجلس الامتحان، وألقى درساً من الشرح المطوّل على مختصر السعد، وآخر من شرح الزرقاني على مختصر الشيخ خليل، وثالثاً من شرح الخبيصي على التهذيب، وأحرز شهادة التطويع المساوية لشهادة العالمية بالجامع الأزهر، وأقبل على التدريس بالجامع الأعظم، مع الاستمرار على الحضور في بعض الكتب العالية؛ كتفسير القاضي البيضاوي الذي كان يدرّسه الأستاذان الشيخ عمر بن الشيخ، والشيخ محمد النجار، وشرح القسطلاني على صحيح البخاري الذي كان يدرسه الأستاذ الشيخ سالم بو حاجب، وشرح السعد للمؤلف الذي كان يدرسه الشيخ النجار. وفي سنة 1317 هـ عزم على الرحلة إلى مصر لاختبار الحالة العلمية، والمقام في ساحة الأزهر إن رأى في الأخذ عن أساتذته فائدة فوق ما يجتنيه من دروس الأساتذة بجامع الزيتونة.

فوصل إلى طرابلس الغرب، وأقام بها بضعة أيام نزيل الأستاذ محمد السماتي، ثم اعترضه عائق صرفه عن هذه الوجهة، فقفل راجعاً إلى الحاضرة، ومضى في سبيل التلقي والعلم بجامع الزيتونة. وفي سنة 1321 هـ أنشأ مجلة علمية أدبية تسمّى: "السعادة العظمى"، وأقبل عليها أهل العلم والأدب في تونس والجزائر، وانهالت عليه لأول بروزها رسائل التقريظ شعراً ونثراً. وقد حاول بعض من لم يفقهوا الغرض من تحريرها أن يلقوا في سبيلها عثرات، أو يمسوا صاحبها بأذى، فأومأ إليهم الوزير الشيخ محمد العزيز بوعتّور بالكف عن ذلك، فأحجموا. وممن كان يشدّ عزمه على متابعة نشرها الأستاذ الشيخ سالم بوحاجب، حتى قال له يوماً بعد انتهاء درس "صحيح الإمام البخاري": لا يهمك ما تلاقي في سبيل القيام بهذه المجلة، فالأمر كما قال ورقة بن نوفل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي". وفي سنة 1323 هـ تقلّد منصب القضاء بمدينة "بنزرت"؛ كما عهد له بالخطابة والتدريس بجامعها الكبير، واستمر قائماً بهذه الوظائف سنة وبضعة أشهر، ولما رأى خطّة القضاء محفوفة بمكاره، زيادة على كون العمل فيها أقل مما تتعلق به الهمة، راسل الحكومة بالاستعفاء منها، فتمهلت في قبوله، إلى أن كرر عليها المراسلة والخطاب مشافهة، وتحققت تصميمه على ذلك، فراسلته بقبول الاستقالة، وفي أثناء ولايته القضاء، ألقى محاضرة موضوعها: "الحرية في الإسلام" بنادي جمعية قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية، وحضرها جم غفير من العلماء والشبيبة المتنورة والمستشرقين. عاد صاحب الترجمة إلى الحاضرة، وتصدى للتدريس بجامع الزيتونة

الأعظم متطوعاً، وعينته الحكومة في لجنة تنظيم المكتبة الصادقية. وفي سنة 1325 هـ قام طائفة من أهل العلم بتأسيس جمعية زيتونية، وأقاموا حفلة بنادي المدرسة الخلدونية، فارتجل صاحب الترجمة خطاباً في تحبيذ المشروع، واستنهاض الهمم لتعضيده، وانتخب يومئذ عضواً في مجلس إدارتها، وكان أحد المشاركين في وضع قانونها. وفي سنة 1325 هـ تولى وظيفة التدريس بالجامع الأعظم. وفي سنة 1325 هـ عين مدرساً بالمدرسة الصادقية، وفي هذه السنة انتخبته هيئة إدارة المدرسة الخلدونية لدرس الإنشاء في هذه المدرسة، وألقى بها محاضرة موضوعها: "حياة اللغة العربية"، وكان النادي غاصاً بالعلماء والناشئة المفكِّرة وبعض المستشرقين. ولما قامت الحرب الطرابلسية الطليانية، كان من الداعين لمساعدة جمعية الهلال الأحمر، ونشر في جريدة "الزهرة" قصيدته التي يقول في طالعها: ردّوا على مجدِنا الذّكْرَ الذي ذَهَبَا ... يكفي مضاجعنا نَوْمٌ دَها حُقُبا ثم إن صاحب الترجمة رحل إلى بلاد الجزائر من عاصمتها إلى أكثر مدنها، وكان في أثناء رحلاته يلقي دروساً في الحديث والتفسير، والبلاغة والمنطق والعروض في بلاد مختلفة، وحضر دروس أو مجالس كثير من أفاضل علمائها؛ مثل: الشيخ عبد القادر المغربي، والشيخ عاشور، والشيخ حمدان الونيّسي، والشيخ محمد بن الخمّار، والشيخ المدني بن أحمد بن عمر، والشيخ عبد الحليم بن سماية، والشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي، والشيخ بن شريط.

وكان يلذّ له السفر إلى الجزائر؛ لما يجده لدى أهلها من شدة الحرص على المذاكرات العلمية، ولاسيما في أحكام الشريعة وآدابها، حتى إن سكان "وادي سوف" وما حوله من القرى كانوا يستقبلونه بغاية البشر والاحتفاء، ولشغفهم بدراسة الحديث والتفسير، كان يقضي الصباح والمساء وصدراً من الليل في إلقاء دروس وعظ بالجامع، أو في مجالس تعقد بمحل إقامته. أقرأَ صاحب الترجمة بجامع الزيتونة الأعظم فنوناً وكتباً متعددة؛ مثل: "شرح الدردير لمختصر خليل"، و"مختصر السعد"، و"شرح المحلى بجمع الجوامع"، و"شرح الأشموني لألفية ابن مالك"، و"التنقيح" للقرافي، و"المثل السائر" لابن الأثير، وأقرأ دروساً من "تفسير القاضي البيضاوي" بمسجد الشيخ سيدي قاسم الزلّيجي، حضرها طائفة من أذكياء أهل العلم، ولم ينقطع عنها إلا برحلته الشرقية. ونشر في الجرائد مقالات وقصائد اجتماعية إصلاحية؛ كقوله من قصيدة نشرت في جريدة "الزهرة": إن الحياةَ هي الأيامُ زاهرةٌ ... ولا أرى الموْتَ غَيْرَ العَيْشِ في نكًدِ ولا يَطيب الفتى عيشاً إذا نَسَجَتْ ... في أرضِه مُزْنةٌ والناسُ في جَرَدِ وإنما الشعبُ أفرادٌ مؤلفةٌ ... في هيئةِ الفرد ذو قلبٍ وذو جَسَدِ أما الفؤادُ فأربابُ السياسةِ إنْ ... هَمّوا بخيْرٍ فباقي الجسمِ في رَشَدِ وإن ذَكَتْ أمةٌ لانتْ قِلادتُها ... بكفِّ قائدِها في السهْلِ والسَّنَدِ والعِزُّ في الدولةِ العُظمى إذا بُنِيَتْ ... على أساسٍ من الأحْكام مُطَّرِدِ تحمي حقوقَ بني الإنسانِ قاطبةً ... لايعتدي أحدٌ منهم على أَحَدِ

والعدلُ أن يرِدوا فصلَ القضيةِ مِنْ ... باب المساواةِ لا إيثارِ ذي حَفَدِ وكيف يَرْجَحُ أقوامٌ ووزنُهُم ... فيما يُحَدُّ به الإنسانُ لمْ يزدِ إن الرعيةَ أعضاءٌ مساعدةٌ ... للمُلْكِ بالرأي والأموال والحَشَدِ تلكَ العظائمُ لا تشتدُّ أزْمتُها ... وطئاً إذا ضربوا فيها يداً بيدِ كذا المشاكلُ لا تجلو غوامِضَها ... إلا بمجلس شورى راسخِ العُمُدِ وإن تصادمتِ الأفكارُ لاح سنى ... حَقٍّ وأصبَح ذاك الحقُّ في زردِ والقابضونَ على أمرِ السياسةِ لا ... يسرُّهُمْ أنْ تُرى الأقلامُ في صَفَدِ يسمو بهم شرفُ الوجدانِ أن يضَعوا ... نظامَهُم بمكانِ العير والوَتدِ الخضر بن الحسين وفي سنة 1330 هـ انتقل إخوته ووالدته إلى الشام، ونزلوا في دمشق، والتحق بهم صاحب الترجمة بعد شهر، فمرَّ بمصر، واقترح عليه الطلبة قراءة درس بالجامع الأعظم، فألقى درساً في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122} الآية. وبعد أن مكث فيها ثلاثة أيام سافر إلى دمشق، فقضى فيها نحو شهر ونصف، وتعارف من خلال هذه المدة بكثير من علمائها وفضلائها، وألقى دروس وعظ بالجامع الأموي، ثم سافر إلى الآستانة، ودخلها أيام أعلنت الحرب بين الدولة العلية والبلقان، وأقام بها نحو أربعين يوماً نزيل خاله الأستاذ الشيخ محمد المكي بن عزّوز، فتعارف ببعض أهل الشرف والعلم، وتروّر على مكاتبها، وعاد إلى تونس في ذي الحجة آخر تلك السنة، وتوارد العلماء والفضلاء من أهالي الحاضرة على تهنئته بالقدوم، وواصل دروسه بجامع الزيتونة، ونشر خلاصة من

رحلته في جريدة "الزهرة". وفي سنة 1331 هـ ألقى محاضرة موضوعها: "مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها" بنادي جمعية قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية، وحضرها -كالمحاضرتين السابقتين- جمّ غفير من العلماء والناشئة المتنورة. وفي هذه السنة عقدت الحكومة لجنة لتأليف كتاب شامل لتاريخ المملكة التونسية، وعينته عضواً في هذه اللجنة، فعمل معها بضعة أشهر. وفي شهر شعبان من هذه السنة أزمع الرحلة إلى الشام، فسافر على طريق الجزائر، وفي بلدة "تبسّة" احتفل به مؤسسو مدرستها، والتمسوا منه الإقامة لديهم على الوجه الذي يختاره، فاعتذر، وغادرهم إلى مدينة "عنّابة" حيث ركب الباخرة إلى مرسيليا، ثم إلى الإسكندرية، ثم إلى مصر، فأقام بها ثلاثة أيام، التقى فيها بالأستاذ السيد رشيد رضا، ورفيق بك العظم صاحب "أشهر مشاهير الإسلام"، وغيرهم، ثم انتقل إلى الشام، ودخل دمشق في أوائل شهر رمضان، وألقى دروساً بالجامع الأموي، حضر بعضها الأستاذ محمد أفندي كرد علي، ونوَّه بشأنها في جريدة "المقتبس". ثم في أواخر هذا الشهر سافر إلى المدينة المنورة للتبرّك بالحضرة النبوية ومشاهدها المحترمة، فأقام بها نحو خمسة عشر يوماً، قضاها في مذاكرات علمية وأدبية، واقترح عليه طائفة من أهل العلم قراءة درس في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] الآية. فأجاب مقترحهم، وقرأه بالحرم النبوي ما بين المغرب والعشاء، وهناك أنشد قصيدته في الحضرة النبوية التي يقول في طالعها: أُحَييك والآماقُ ترسلُ مَدْمَعا ... كأنيَ أحدو بالسلامِ مُوَدِّعا وما أدمعُ البُشرى تموجُ بِوجْنَةٍ ... سوى ثَغْرِ صبًّ بالوصال تَمَتّعا

ولقي من أفاضل العلماء الأستاذ المحدّث السيد محمد بن جعفر الكتاني، والشيخ أحمد شمس خليفة، والشيخ ماء العينين الشنقيطي. وممّن لازم صاحب الترجمة في أغلب أوقات المذاكرات، وكان أحد الطالبين للدرس الذي ألقاه في الحرم النبوي: العالم الشيخ عبد العزيز البدّاح المدرّس لدى أمير الكويت الآن، وقد راسل هذا الشيخ بعد عوده إلى وطنه صاحب الترجمة برسائل متعددة، يطلب منه القدوم إلى الكويت بقصد الإقامة، فإن لم يتيسر، فعلى وجه الزيارة. ثم عاد إلى دمشق، فأقام بها بضعة أيام، وسافر إلى الآستانة العلية، وحين وصوله إليها عينته وزارة المعارف مدرساً لآداب اللغة العربية والفلسفة بالمدرسة السلطانية الجديدة في دمشق، وفي هذه المرة زار دار الفنون صحبة خاله الأستاذ الشيخ محمد المكني بن عزّوز مدرس علم الحديث بها. وحضر مجلس امتحان الطلبة في آداب اللغة العربية. وبعد أن أقام بالآستانة مقدار شهر ونصف، رجع إلى دمشق، فقام بوظيفة التدريس بالمدرسة المومأ إليها، وكان مع ذلك يحرر وينشر مقالات وقصائد في الإصلاح وتقويم الخلاف بين الأمتين التركية والعربية، زيادة على الدرس الذي كان يلقيه بالجامع الأموي في أيام رمضان. وفي سنة 1332 هـ قدم حاضرة دمشق الطيّاران فتحي وصادق، وتسابق الأدباء إلى نظم القصائد في هذا الغرض، فنظم من بينهم قصيدة نشرت في جريدة "المقتبس"، وكان لها وقع حسن في نفوس أهل الأدب من السوريين، وهي التي يقول في طالعها: قضيتَ مدىً بمضمارِ الحياةِ ... تجولُ على مُتونِ الصّافناتِ

كأنَّ الخيلَ غايةُ مُستطاعٍ ... وأسرعُ نافذٍ بكَ في فَلاةِ وفي سنة 1334 هـ زاره أحد المحامين من أدباء طرابلس الشام بكتاب ألّفه في أدبيات اللغة العربية، ورغب إليه أن يطالعه، وينبهه على ما يحتاج إليه من زيادة وإصلاح. وبعد أيام زاره صاحب الترجمة بمكتب المحاماة، وكان بجانبه أحد الشيوخ من أقاربه، فأخذ ذلك المحامي يخوض في سياسة الدولة، ويشير إلى تأليف حزب يعمل ضدها، فقام صاحب الترجمة في معارضته، وأقام له الشواهد على سوء عاقبة هذا الرأي، حتى انقطع عن الكلام، وطُويَ بساطُ المجلس. وبعد شهرين وقفت الحكومة على ما جرى في ذلك المجلس لإبلاع من بعض أقارب المحامي نفسه، فاستدعت دائرة الشرطة صاحب الترجمة يوم عشرين في رمضان من تلك السنة بالحقيقة، وتيقنت براءته من المشاركة في ذلك الغرض، واعتذر على عدم المبادرة إلى إعلام الحكومة بما صدر من ذلك المحامي: أنه لم يكن بيده دلائل وأمارات يستطيع أن يثبت بها ما يدعيه على ذلك المحامي متى أقام قضية، وطالبته الحكومة بالإثبات. والقانون يقتضي عقوبة من يتهم إنساناً بجريمة سياسية، ثم لا يثبتها ببينة، وقصَّ لهم حادثة رجل امتلأ منه الوالي غيظاً، وطرده من ساحته بعلّة أنه أبلغه بعض حوادث، ولما بحث عنها، لم يجد لها ما يصدقه. ورجل آخر اتهم فريقاً بمساعي ضد الحكومة، فلم تأخذ قوله على علاته، بل أودعته السجن، وطالبته بإثبات ما يدعيه على أولئك الفريق، فقنعت دائرة الشرطة بهذا الاعتذار، ووقع الإذن باعتقال صاحب الترجمة إلى أن تنتهي قضية المتهمين، فاعتقل في جملتهم بخان (مردم بك) ستة أشهر وأربعة عشر

يوماً، ولما عرضت أوراقه على المحكمة العرفية، أحضرته، وبحثت معه في القضية بتدقيق، ثم حكمت ببراءته، بل قدمت إلى جمال باشا طلباً بمكافأته، وقال له رئيس المحكمة العرفية فخري باشا يوم استدعاه من المعتقل ليخبره بحكم البراءة على ملأ من الناس: اطلب ماذا تريد، ونحن نسعى لك عند الدولة، فأجاب بأنه لا رغبة له في شيء، ولامه بعض الحاضرين من أعيان طرابلس الشام على عدم انتهاز هذه الفرصة، ولكن صار بعد ذلك يذكرها له في شواهد عدم الالتفات إلى المنافع المادية. اعتقل صاحب الترجمة، ولم يتزحزح عن مبدئه، بل كان وهو في نفس المعتقل يجادل المتطرفين في الإنكار على الدولة، حتى قال بعض أعيان السوريين الذين صاحبوه في المعتقل: ما رأينا رجلاً يدافع عن الحكومة وهو بين جدران سجنها إلا فلاناً، يعنون: صاحب الترجمة. ولما وصل خبر اعتقاله إلى الآستانة، كلّف وزير الحربية أحد رؤساء بعض أقسامها إرسال تلغراف على لسانه إلى جمال باشا يأمره بأن لا يفصل في قضية صاحب الترجمة شيئاً إلا بعد عرضها على وزارة الحربية بالآستانة. وقدّم صاحب الترجمة إلى المحكمة العرفية -زيادة على الجواب الشفاهي- دفاعاً نثراً، وآخر شعراً يقول في أوله: يسوسُ أخو الفِكْرِ القَضايا ويفصلُ ... وما كلُّ مَنْ ساسَ القضيةَ يَعْدِلُ وما ضلَّ وجهُ الحقِّ عن رأي باحثٍ ... وإن راح في بحر الدّجى يَتَوَغَّلُ ويلبس من صُنع القضاءِ مَحامِداً ... إذا كان من باب العَدالةِ يَدْخُلُ فيا مجلسَ الحكّامِ دونَكَ بعضَ ما ... أرَتْنا الليالي والحقائق تُنْقَلُ

وقال أيام حيل بينه وبين أدوات الكتابة وهو في المعتقل: غلَّ ذا الحبسُ يدي عن قلمِ ... كان لايصحو عن الطّرسِ فنَاما هل يذودُ الغَمْضُ عن مقلتِه ... أوْ يُلاقي بعلَه الموتَ الزّؤاما أنا لولا هِمَّةٌ تحدو إلى ... خدمة الإسلامِ آثرتُ الحِماما ليستِ الدُّنيا وما يقسُمُ مِنْ ... زَهْرِها إلا سراباً أو جَهاما وقال في حال الاعتقال، وقد جرت بينه وبين بعض الأدباء محاورة في المفاضلة بين الحاضرة والبادية: رأى صاحبي في الحبْسِ أن الحياةَ في الـ .... ـحضارةِ أرقى ما يتم به الأنْسُ فقلتُ له فضلُ البداوة راجِحٌ ... ويكفيكَ أنَّ البَدْوَ ليس به حَبْسُ (¬1) أُطلق سراح صاحب الترجمة في اليوم الرابع من ربيع الثاني سنة 1335 هـ، فأقبل إليه علماء دمشق وفضلاؤها وأدباؤها جماعات وفُرادى لتهنئته بالسلامة، ومن بينهم: جماعة من الموظفين الأتراك؛ لاطلاعهم على حقيقة القضية، ومعرفتهم بالأعمال التي قام بها صاحب الترجمة تجاه الأمة العثمانية. ولما انتهى خبر الإفراج عنه إلى الآستانة، بعث إليه الأستاذ إسماعيل ¬

_ (¬1) الأبيات في ديوان "خواطر الحياة": جرى سمر يوم اعتقلنا بفندق ... ضحانا به ليل وسامرنا رمس فقال رفيقي في شقا الحبس إن في الـ ... ـحضارة أنساً لا يقاس به أنس فقلت له فضل البداوة راجح ... وحسبك أن البدو ليس به حبس

الصفايحي برسالة التهنئة، ومما يقول له ضمنها: "أنا على يقين من براءتكم وإخلاصكم، ولم يدخل علينا شك في ذلك". وفي هذه السنة 1335 هـ كان يلقي دروساً دينية وأدبية بالمدرسة العثمانية، والتمس منه جماعة من أهل العلم قراءة كتب منها "صحيح الإمام مسلم"، و"بداية المجتهد"، و"المستصفى" للغزالي، و"المغني" لابن هشام، و"الكامل" للمبرد، فأجاب طلبهم، وشرع في دراستها بجامع باب سريجة، وواظب على قراءتها أشهراً إلى أن اقتضى الحال سفره إلى الآستانة سنة 1336 هـ، فسافر على طريق حلب، ثم أَدَنَةَ، ثم قونية، ثم أسكيشهر، ونزل في الآستانة ضيفاً مكرماً ببيت الأستاذ المرحوم الشيخ إسماعيل الصفايحي، وعيّن يومئذ كاتباً بالقلم العربي في بعض أقسام وزارة الحربية. كما عينته المشيخة الإسلامية واعظاً بجامع (الفاتح) في شهر رمضان مكان الأستاذ الشيخ إسماعيل الصفايحي حيث تنازل له عن هذه الوظيفة. ومن حسن تواضع ذلك الأستاذ الشيخ العظيم: أن حضر بنفسه في أول درس ألقاه صاحب الترجمة، وكان جالساً بجانبه داخل حلقة الدرس. ومما جرت إليه المناسبة في الدرس: أن صاحب الترجمة قرّر ما قاله ابن حزم في قصة داود - عليه السلام - من الأخذ فيها بظاهر القرآن، وأن قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21]، وارد في رجلين حقيقيين، لا كما يقوله بعض المفسرين من أنهما ملكان أتياه في سورة رجلين. فأورد أحد الحاضرين من الأتراك: أن هذا الوجه لا يصحّ معه قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]؛ فإن هذه الآية تدل على صحة ما يقوله المفسرون من أنهما ملكان أرسلهما الله لتنبيهه وعتابه على

ما صدر منه، فأجابه صاحب الترجمة بأن الخصمين لما تسوّرا المحراب، فزع منهما داود - عليه السلام -، وظن أنهما يريدان إذايته، وهذا الظن الذي سبق إليه، ووقع على بريئين من تلك الإرادة السيئة هو الذي ندم عنه، وعدّه مما يستحق أن يستغفر الله منه، واستحسن الأستاذ الشيخ إسماعيل هذا الجواب جداً، حتى كلف صاحب الترجمة بعد عوده إلى البيت لكتابته. وحضر صاحب الترجمة يوماً من أيام الجمعة بجامع تكية الشيخ ظافر، فرغب منه الإمام، وهو من الشيوخ المصريين، أن يقوم مقامه في الخطبة، فصعد المنبر، وارتجل خطبة في الحث على اتّباع الشرع العزيز، والتمسك بآدابه، وكان لها موقع في نفوس السامعين. وشهد حفلة صلاة الجنازة على السلطان محمد رشاد، ومبايعة السلطان وحيد الدين بقصر "طوب كبو"، وكلفته وزارة الحربية بتحرير منشور في الإعلام بوفاة السلطان الأول، ووصف حفلة مبايعة السلطان الثاني، والدعوة إلى مبايعته؛ ليوزع في أنحاء المملكة العثمانية. والتقى بالسيد أحمد السنوسي، وكان في صحبته يوم تجول بمحل آثار الانكشارية العتيقة، وحين أجري أمامه تمثيل بعض وقائع حربية بوسيلة السينما تغراف، وكلف بتحرير منشور في وصف استقبال هذا السيد، وعناية السلطان به، واختياره لأن يقلده سيف الملك، على خلاف عادة سلاطين آل عثمان الأقدمين من أن الذي يقلّدهم السيف إنما هو شيخ الطريقة المولوية. وحضر أياماً متعددة في درس الأستاذ الشيخ إسماعيل الصفايحي لصحيح البخاري بجامع الوالده، وتجري في الدرس أبحاث مفيدة، حيث إن الأستاذ الصفايحي يتصدى في الدرس لدحض الشبه التي يوردها زنادقة هذا العصر

على الإسلام، كما يتعرض لإبطال الآراء التي تنشرها بعض الصحف، وتكون مصادمة لتعاليم الشريعة. ثم اتخذ صاحب الترجمة منزلاً خاصاً بالقرب من الباب العالي، ورغب منه أحد أهل العلم من الأتراك الذين كانوا يشهدون دروسه الوعظية بجامع الفاتح قراءة "تفسير القاضي البيضاوي"، فأجاب مطلبه، وكان ذلك الشيخ يتردد عليه لسماع دروس من التفسير المومأ إليه إلى أن عزم صاحب الترجمة على مبارحة الآستانة. وفي أول يوم من رمضان سنة 1337 هـ انطلق من الآستانة إلى "بالي كسي"، ثم "أزمير"، وأقام بها نحو عشرين يوماً، ثم ركب الباخرة إلى إيداليا، فجزيرة قبرص، فإسكندرونة، فطرابلس الشام، وشهد بها اليوم الثاني من عيد الفطر في جملة بعض أعيانها الذين انعقدت بينه ويينهم صداقة في دمشق، ثم انتقل إلى حمص، ومنها إلى دمشق الشام. ومما قاله في أثناء هذا السفر: أنا كأسُ الكريمِ والأرضُ نادٍ ... والمطايا تطوفُ بي كالسُّقاةِ رُبَّ كأسٍ هوتْ إلى الأرض صَدْعاً ... بين كفٍّ تديرها واللَّهاةِ فاسْمحي يا حياةُ بي لبخيلٍ ... جَفْنُ ساقِيه طافحٌ بسُباتِ وقال: كأنيَ دينارٌ ودِمَشْقُ راحةٌ ... تعودتِ الإنفاق طولَ حياتها فكم سمحتْ بي للنّوى عقبَ النَّوى ... ولم أقْضِ حقَّ الأنْس بين سَراتِها وبعدما استقر به النوى في دمشق، عُيّن عضو شرف في المجمع العلمي، وبعث إليه رئيس المجمع محمد أفندي كرد علي بكتاب يقول فيه: "بناء على

ما عهد بكم من العلم والفضل والغيرة على المصالح الوطنية، قد انتخبكم المجمع العلمي العربي عضو شرف فيه؛ للاستعانة بآرائكم السديدة، واختباراتكم الثمينة، فالمرجو أن تتكرموا بقبول ذلك". وعاد صاحب الترجمة إلى إلقاء دروس دينية وعربية في المدرسة العثمانية، وهي أكبر مدرسة أهلية بدمشق، ثم عينته الحكومة لدرس صناعة الإنشاء والخطابة بالمدرسة العسكرية، وعينته وزارة المعارف مدرسَ العلوم الدينية بالمدرسة السلطانية "مكتب عنبر"، وبعد تعيينه هذه الوظيفة ترجح لديه السفر إلى مصر، فلم يتمكن من مباشرتها. ولقي صاحب الترجمة من علماء دمشق وأدبائها وفضلائها سائر أيام إقامته بها حفاوة واحتراماً، ولما عزم على الرحيل منها، كتب إليه صديقه خليل مردم رئيس الرابطة الأدبية رسالة يذكر فيها أسفه على الفراق، وفي صحبتها قصيدة أومأ في الرسالة أن تكون كالرَّتيمة وتذكار الود والصداقة. فبعث إليه صاحب الترجمة بالأبيات الآتية: ما النجمُ تجري بهِ الأفلاكُ في غَسَقٍ ... كالدُّرِّ تقذِفُه الأقلامُ في نَسَقِ لقد سلوتُ محيّا البدْرِ إذ طلعتْ ... عقيلةُ الطِّرْسِ والأجفانُ في أَرَقِ وكنتُ أرشُفُ من مجرى بَلاغَتِها ... راحًا فيهدَأ ما في الجأْشِ من قَلَقِ تخشى إذا أفصحتْ عمّا توهَّج مِنْ ... حماسةٍ أن تَشُبَّ النارُ في الوَرَقِ فألْبَسَتْها أساليبَ النَّسيبِ وكم ... ذاقَ الحشا لوعةً من ناعسِ الحَدَقِ هي الرَّتيمةُ فيما قالَ مبدعُها ... وهل يغيبُ السَّنا عن طلعة الفَلَقِ إني على ثقةٍ مِنْ أن ذكرَك لا ... ينفَكُّ مرتَسماً في النَّفْسِ كالخُلُقِ

وكيف أنسى خليلاً قد تضوَّعَ في ... حُشاشتي ودُّهُ كالعَنْبر العَبِقِ وفي الورى خَزَفٌ لكن تبرَّجَ في ... نضَارةِ الذهبِ الأصفى أو الوَرِقِ لا عتب إن ضاق باعي في القريضِ فلمْ ... يُضِئْ كما ضاءتِ الجوزاءُ في الأُفُقِ فإنَّ إحساسي الشِّعريَّ أَوشَكَ أنْ ... يلاقي النَّفَسَ الأقْصى من الرَّمَقِ لم تُبْقِ لي حادثاتُ الدَّهْرِ منه سوى ... أَثارةٍ كبقايا الشَّمسِ في الشَّفَقِ وكان جماعة من أهل العلم مثل: الأستاذ الشيخ محمود ياسين، والسيد الشريف النص، والسيد توفيق، والسيد عارف الدّوجي يعقدون مجالس في بيوتهم لمطالعة كتب شرعية أو أدبية، وكان بينهم وبين صاحب الترجمة مودة خالصة، وصداقة محكمة، ولما طابت له مذاكراتهم، وحمد رقة آدابهم وشرف همتهم في العلم، كان لا يغيب عن هذه المجالس -التي تنعقد في أغلب أيام الأسبوع- إلا لعذر، وختموا بهذه السيرة كتباً؛ مثل: "المواهب اللدنية"، وقد فارقهم وبين أيديهم "إعلام الموقعين" لابن القيم. وبما أن صاحب الترجمة باشر التدريس في مدارس الحكومة وبعض المدارس الأهلية مدة ليست بالقصيرة، تخرّج على يديه عدد كبير من التلاميذ، أصبحوا يشغلون اليوم دواوين الحكومة وغيرها من المصالح، وكان يلاقي منهم عاطفة احترام وإجلال يبدونها في مظهر جعله يشهد لتلك الناشئة بصحة العهد، وصفاء الذوق.

من وثائق محمد الصالح المهيدي السيد محمد الخضر حسين

من وثائق محمد الصالح المهيدي السيد محمد الخضر حسين عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية والأستاذ بكلية أصول الدين ورئيس جمعية الهداية الإسلامية. جاء في مجلة "الحديقة" الصادرة بالقاهرة في 7 أغسطس سنة 1939 م عدد 76، السنة الثانية: ما يأتي -محاطاً بصورة الأستاذ أبقاه الله-: شخصية فذّة قوية، ونفحة من نفحات الحق الزكية، جاد به الدهر وهو البخيل بالرجال، كما تجود الصخرة بالماء الزلال، سمت به الرجولة الحقّة التي بثّها الدين بين جوانحه، فجعل منه مظهراً من مظاهر البطولة الصادقة، والتضحية النبيلة. فقد وهبه الله -سبحانه وتعالى- إيماناً قوياً لا تزعزعه الشدائد، وصبراً جميلاً على المكاره، وعملاً دائباً في نصرة الحق والدين، وكفاحاً عن العقيدة، وجهاداً في سبيلها، وتطلّعاً إلى المثل العليا، وهياماً بمعالي الأمور، وترفعاً عن صغائرها وسفاسفها. تحادثه، فتلمس من حديثه حضور البديهة، وحسن البصيرة، وصفاء الذهن، وسرعة الخاطر، وتناقشه، فتجد نقاء النفس، وسداد الرأي، وهو يبدي الرأي بكل صراحة، فيدافع عنه من غير تغيير للحقائق، أو قلب للأوضاع، غزير المادة، وَساع الاطلاع، متّقد العقل، بعيد النظر، يحس نتيجة الشيء قبل حدوثه، ويقرأ في الناظر ما يجول في الخاطر، وهو إذ يعرف الحق

فيتمسك به، يفعل ما ينبغي عليه أن يفعله، ويقول ما يجب أن يقال. يشعر بالطريق المستقيم، فيسلكه، والسبيل السوي فيطرقه، ولا يحيد عنه بعدُ قيدَ أنملة. وهو -مع هذا- متواضع أشد التواضع، ولكنه تواضع في غير منقصة أو مذلّة، يترك عمله ليدلَّ عليه، ويتحدث عنه؛ بدلاً من أن يتحدث هو عن نفسه. نشأ السيد سليلَ بيت مجد في تونس، فظهرت عليه علامات النبوغ والذكاء منذ أن شبَّ وترعرع، فأخذ في البحث والاطلاع والتنقيب، تحدوه رغبة جامحة في العلم، ويدفعه الأمل في خدمة الدين والوطن، حتى إذا ما أحرز شهادة العالمية بتفوق، تطوّع للتدريس في الجامع الأعظم "جامعة الزيتونة"، وأنشأ مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول صحيفة صدرت في تونس باللغة العربية، وكانت حافلة بالمواضيع العلمية، والمسائل الأدبية، والأمور الاجتهادية، وقد لقيت لدى ظهورها تأييداً وترحيباً من كافة الطبقات. ثم رأت الحكومة أن تنتفع بجليل علمه، وعظيم مواهبه، فعيّن قاضياً شرعياً في "بنزرت"، ولكن أنّى للنفس الكبيرة أن تستكنَّ أو تهدأ، لقد وجد أن الحاضرة أولى بعلمه وجهوده، فاستقال من منصبه راضياً مختاراً، ورحل إلى تونس، فعين أستاذاً في جامعة الزيتونة، ومدرساً بالمدرسة الصادقية، وهي أكبر مدرسة للحكومة بتلك البلاد، وكانت له صولات وجولات في المباحث الدينية والأدبية والاجتماعية، وألقى محاضرات قيمة في نادي جمعية قدماء الصادقية، والمدرسة الخلدونية، وطبعت جميعاً، أذكر منها: "الحرية في الإسلام"، و"حياة اللغة العربية"، و"مدارك الشريعة الإسلامية"، و"الدعوة إلى الإصلاح"، وغيرها.

وما إن وجدت الحكومة فيه عالماً جليلاً، وناقداً مصلحاً، حتى أرادت أن تستفيد من خبرته وسعة اطلاعه، فأشركته معها في كثير من المشروعات الإصلاحية، فكان عضواً في لجنة وضع التاريخ التونسي العام، وعضواً بمجلس النظر في شؤون المدارس، وعضواً في لجنة تنظيم كتب المكتبة الصادقية، والمكتبة الزيتونية، وغيرها من المشروعات العلمية والاجتماعية. ثم رحل إلى الشام، فاستقبل هنالك استقبالاً حافلاً، وعيّن مدرساً لآداب اللغة العربية في المدرسة السلطانية، وإن أجمل ما توصف بها إقامته هنالك: ما ذكره أحد أعضاء المجمع العلمي (¬1) في دمشق إذ قال: "أستاذنا الجليل السيد محمد الخضر حسين، علم من أعلام الإسلام، هاجر إلى دمشق في عهد علامتي الشام: الشيخ البيطار، والشيخ القاسمي، فاغتبطا بلقائه، واغتبط بلقائهما، وكنا نلقاه ونزوره معهما، فأحكمت بيننا روابط الصحبة والألفة والود من ذلك العهد، ولما توفي شيخنا القاسمي سنة 1332 هـ، لم نجد نحن -معشر تلاميذه- من نقرأ عليه أحبّ إلينا، ولا آثر عندنا من الأستاذ الخضر؛ لما هو متصف به من الرسوخ في العلم، والتواضع في الخلق، والبرّ بالإخوان، وأخذنا منذ ذلك الحين نقتطف ثمار العلوم والآداب من تلكم الروضة الزاهرة، ونرتشف كؤوس الأخلاق من سلسبيل الهدى والتقوى، ولم يكن طلاب المدارس العالية في دمشق بأقل رغبة في دروسه، وإجلالاً لمقامه، وإعجاباً بأخلاقه من إخوانهم طلاب العلوم الشرعيين، بل كانوا كلهم مغتبطين في هذه المحبة والصحبة، مجتمعين حول هذا البدر المنير". وهكذا كانت مدة إقامته في الشام خالصة لخدمة العلم والدين، وتثقيف ¬

_ (¬1) العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار.

الشبيبة، وتنشئتهم على أسس قويمة من الخلق والعلم والدين، فلما أن [قامت] الحرب العالمية سنة 1914 م، خاض غمارها، وساهم فيها بنصيب وافر، فاتصل بالمرحوم أنور باشا التركي وزير الحربية حينذاك، ثم وصل إلى ألمانيا، فقضى فيها زهاء التسعة أشهر تعلم أثناءها اللغة الألمانية، ودرس حالة المجتمع هناك، ثم أقبل على دراسة علوم الكيمياء والطبيعة على البروفسور (هاردر) أحد كبار المستشرقين من العلماء الألمان، ثم رجع إلى دمشق، فمكث فيها قليلاً، ورحل إلى إستنبول، فعين محرراً بالقلم العربي في إدارة الأمور الشرقية، واستمر رافعاً لواء العلم حتى قارب عقد الهدنة، واشتدت الأحداث السياسية، فاضطر إلى الرحيل إلى ألمانيا ثانية، ومكث بها نحو سبعة أشهر، قضاها باحثاً ومنقباً، إلى أن خمدت نار الحرب، ووضعت أوزارها، فرجع.

من وثائق محمد الصالح المهيدي الشيخ الخضر حسين

من وثائق محمد الصالح المهيدي الشيخ الخضر حسين من زعماء الإصلاح الاجتماعي في العصر الحاضر: الشيخ الخضر بن الحسين، الذي جاهد الباطل والمحسوبية، وكافح الجهل والأنانية، وتصدى لرد الظلم ودحضه أينما حلَّ وارتحل، فكان من الموفقين. تستحق حياته المملوءة بالعمل الصالح التسجيل، وذلك يستدعي ويستلزم كتاباً، ولا يكفي لاحتوائه فصل في جريدة، ولكن طلب صاحب "العزة" الفاضل لنشر حياة هذا الرجل الكامل في ميدان الكفاح الإسلامي في جريدته، جعلني أضطر إلى استعراض ما لدي من المعلومات عن حياته وأعماله، حتى يكون في ذلك موعظة ودرساً للشباب المتحفز للنسج على منواله. * مولده ونشأته: ولد الشيخ الخضر بمدينة "نفطة" الواقعة في أقصى نقطة من الجنوب الغربي من المملكة التونسية في 26 رجب 1293 هـ من أبوين كريمين، فوالده من قادة رجال التصوف الإسلامي في القرن الماضي، وأمه هي ابنة العالم التونسي الشهير والصوفي المعروف الشيخ مصطفى بن عزّوز دفين بلدة "نفطة"، والذي لعب دوراً كبيراً في سياسة الدولة التونسية في أواسط القرن الماضي، عندما اشتدت وطأة ظلم الولاة وبغي العتاة، فكان الملجأ لمن حاق بهم مكرهم، ومجيرهم عند ذوي السلطة والنفوذ.

وانتقل والد الشيخ من مسقط رأسه إلى الحاضرة التونسية في العام السادس من هذا القرن 1306 هـ، وفيها بدأ يزاول حفظ القرآن الكريم إلى أن أتمّه، ثم أخذ يتعلّم مبادئ العلوم، حيث أدخل إلى جامع الزيتونة، وفيها تتلمذ إلى شيوخ أعلام أمثال المشايخ: عمر بن الشيخ، وسالم بوحاجب، ومحمد النجار، فزاول عنهم المنقول والمعقول إلى أن أحرز على شهادة التطويع سنة 1316 هـ. * الإصلاح الاجتماعي: كانت الروح السائدة في التعليم الزيتوني لا تبعث على الاطمئنان، فالتوكل والتسليم للقضاء والقدر هي كل ما يتحدث به شيوخ الزيتونة إلى تلاميذهم، وقد كان ذلك يفضي إلى طغيان سيادة الجبرية، فإذا جادل مجادل في العمل والكسب، وجاهر بالسعي والعمل المتواصل لخير هذا الوطن، عُدّت عنه أنفاسه، وابتعد منه الخاصة فضلاً عن العامة، وسبب ذلك يرجع في معظمه إلى الجو السياسي الذي غمر البلاد التونسية بعد انتصاب الحماية، واستمرار حالة الحصار سنوات عديدة، فالحكم العسكري، واستمرار حالة الطوارئ جعل أكثر الناس يهمسون برغائبهم المشروعة همساً، وفي آذان بعض الدوائر المسؤولة في الحكومة، أما أن يقوم خطيب على منبر يدعو الناس إلى الإصلاح الاجتماعي أو السياسي، أو تتولى صحيفة محلية القيام بهذا العمل، فذلك ضرب من المحال. * شجاعة نادرة: لكن الشيخ الخضر حسين خرق الاجتماع، وتقدم إلى ميدان العمل بخطى ثابتة، فأنشأ مجلة "السعادة العظمى" سنة 1321 هـ فكانت أول صوت ارتفع

ينادي بوجوب الإصلاح الاجتماعي، وحاول أن تكون في خطواتها الأولى كمجلة "المنار" بمصر، فكانت تشتمل على بحوث في التفسير والحديث، وإصلاح المجتمع الإسلامي، يقوم على تحريرها نخبة من شيوخه وزملائه، وكان الأمل أن تستمر على الظهور والصدور، لكنها لم تقو على ذلك؛ لأنها كانت سابقة عن أوانها، فاضطر الشيخ إلى إيقاف إصدارها. * إبعاده عن تونس: لم يقف الشيخ بعد احتجاب مجلته مكتوف اليدين، بل أخذ يقوم بإلقاء دروس وعظية، ويعقد الاجتماعات الخاصة لإرشاد الشعب إلى طرق الصلاح والسداد، وبينما هو في تلك الحال، إذ سلطت عليه الحكومة بعض قرابته، فحبَّب إليه قبول خطبة قضاء مدينة "بنزرت"، وكان ذلك في سنة 1323 هـ مع إسناد خطّة الإمامة والخطابة بجامعها الكبير، فقبل ما عرض عليه عساه يتخذ مما ذكر وسيلة لإبلاع رسالته إلى المجتمع، ومباشرة الحكم بالعدل بين الرعية، وإنقاذ السكان من ظلم القضاة المرتشين، حتى يكون قدوة لغيره من قضاة العدل. فارق الشيخ مدينة تونس، وانتصب في مدينة "بنزرت"، ووضع برنامجاً إعلامياً ذا ثبتين: الأولى قضائية، يطبق فيها قواعد الشرع الإسلامي كما هي فيما يعرض أمامه من القضايا الاستدقاقية والشخصية، والثانية اجتماعية، وهي معالجة أمراض المجتمع الإسلامي على طريق الخطيب المنبرية كل يوم جمعة، يرشد الناس فيها إلى أمور دينهم ودنياهم. ولما شرع في تطبيق برنامجه الإصلاحي، بدأت الدسائس تحوم حوله، وأخذ المرجفون يتقولون عنه الأقاويل، فحمله ذلك على المبادرة بتقديم استقالته مما هو مسند إليه من

الخطط، فأعفي من تكاليفها، وعاد إلى تونس. * التدريس بتونس: عاد الشيخ الخضر إلى تونس، وشرع يلقي دروساً حرّة بجامع الزيتونة إلى أن فتحت مناظرة لاختيار مدرس من الطبقة الثانية بجامع الزيتونة سنة 1325 هـ، فساهم مع المتناظرين، وكان الفوز حليفه، كما كان سبباً لتسميته مدرساً بالمدرسة الصادقية سنة 1326 هـ وعهدت إليه الخلدونية بإلقاء دروس على طلابها في فنون الإنشاء والخطابة، فتصدى لذلك على أكمل وجه.

من وثائق محمد الصالح المهيدي الشيخ الخضر حسين

من وثائق محمد الصالح المهيدي الشيخ الخضر حسين * كيف يقضي يومه بالقاهرة: يستيقظ الساعة 4 صباحاً، بعد نصف ساعة يكون بدار "الهداية الإسلامية"، حيث يستحم بالماء البارد كامل أيام السنة، وهي سنة اتبعها منذ كان بألمانيا أثناء الحرب العالمية الأولى، وبعد الصلاة يبدأ كتابة التفسير إلى الساعة 8؛ حيث يذهب إلى محل مجمع فؤاد الأول للغة العربية الذي هو عضو رسمي وموظف به. وهناك يشتغل بالعمل الموكل إليه من طرف كتابه المجمع إلى الساعة 11؛ حيث يعود إلى محل "الهداية" لمباشرة أعمالها الإدارية، والنظر فيما يرد عليها من بريد ورسائل وتحارير لمجلتها المؤسسة منذ جمادى 2 - 1347 هـ. ويمكث به إلى منتصف النهار؛ حيث يعود إلى منزله لتناول طعام الإفطار. وبعد الزوال يذهب على الساعة 3 إلى مقر مجلة "لواء الإسلام" (¬1). وبعد صلاة الظهر والعصر يباشر أعمال هاته المجلة التي يرأس تحريرها، فيقدم إلى مطبعته ما حرره من تفسير، ثم تقدم إليه المقالات المعدّة للنشر ليراجعها، ويصادق على ما يراه صالحاً للنشر، ويعدّل ما يقتضي التعديل، ¬

_ (¬1) صدر عددها الأول في رمضان 1366 هـ.

اللغات التي يحسنها

ويعيد إلى أصحابه مالم ير فائدة في نشره، ويمكث هناك إلى ما بعد الساعة 6، وبعد صلاة العصر ينتقل إلى محل جمعية الهداية لمقابلة الواردين، أو إلقاء محاضرة، أو السماع إليها، وإذا لم يكن هذا ولا ذاك، ينتصب مجلس للسمر يضم عدة علماء من الجمعية المذكورة، أو من الواردين عليها من الخارج، ويمكث هناك إلى الساعة 9؛ حيث يعود إلى منزله لتناول طعام العشاء والصلاة، ثم الراحة والنوم. * اللغات التي يحسنها: عندما هاجر الشيخ من تونس إلى البلاد العثمانية أولاً، وأقام بعاصمة دار الخلافة مدينة إسطنبول عند فضيلة الشيخ المكي بن عزّوز، تعلّم اللغة التركية حتى أحسن النطق بها وفهمها، وتدرّب على قراءة صحفها إلى أن ألمَّ بها إلماماً لا بأس به. وعندما اشترك مع جماعة من المسلمين -منهم: الشيخ صالح الشريف، والأمير شكيب أرسلان- في الحرب العالمية الأولى، وسافر إلى ألمانيا، اغتنم فرصة وجوده هناك، فتعلَّم الألمانية تعلّم استفادة أولاً حتى أتقنها بعض الاتقان، وتدرب على قراءتها وفهمها، وأصبحت له القدرة على الفهم والإفهام، حتى إنه ساهم في ترجمة بعض كتبها إلى اللغة العربية. وعندما انتقل إلى مصر، واستقر بها، بدأ يشعر بحاجته إلى تعلّم الإفرنسية، وقد تجاوز عمره السبعين، واشتدت رغبته في ذلك عندما أصبح عضواً في (جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا) حيث ترد على هذه المنظمة بالقاهرة صحف من الشمال الإفريقي ومن غيره باللغة الإفرنسية، وفيها من الأبحاث ما يقتضي الاطلاع، فبحث عن مدرس مصري لهاته اللغة، واتفق معه على إعطاء درس

في كل يوم بمقابل مالي، وذلك بمقر جمعية الهداية، وكان ذلك في سنة 1948 م إلى أن أصبح قادراً على القراءة والمطالعة بها، وكتابة بعض الجمل البسيطة. أمدّني بهاته المعلومات الأستاذ القليبي، ونحن ننتظر قدوم السيد بوحافة في عيادة الحكيم ابن ميلاد مساء يوم الجمعة 4 - 1 - 1371 هـ، 5 - 10 - 1951 م على الساعة 5 والنصف.

من وثائق محمد الصالح المهيدي

من وثائق محمد الصالح المهيدي الخضر حسين في سطور ولد بنفطة في سنة. . . . 1876 انتقل إلى تونس. . . . 1888 أحرز على التطويع بالزيتونة. . . . 1898 أنشأ مجلة السعادة العظمى. . . . 1903 ولي قضاء بنزرت. . . . 1905 أحرز على التدريس من الرتبة 2 بالزيتونة. . . . 1907 أحرز على التدريس بالصادقية. . . . 1908 انتقل إلى الشام مع عائلته. . . . 1911 أسند إليه التدريس بدمشق. . . . 1916 سجنه جمال باشا بدمشق مدة 6 أشهر. . . . 1916 سمّي منشئاً بوزارة الحرب بإستنبول. . . . 1917 تردَّد على برلين من عام. . . . 1917 سمّي واعظاً بجامع الفاتح بإستنبول. . . . 1918 انتقل إلى مصر بالسكن. . . . 1922 أصدر كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم". . . . 1925

سمّي مدرساً بقسم التخصص بالأزهر. . . . 1927 أصدر كتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي". . . . 1927 أسس بالقاهرة "جمعية الهداية الإسلامية". . . . 1928 ترأس تحرير مجلة مشيخة الأزهر "نور الإسلام". . . . 1930 ترأس (جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية). . . . 1945 ترأس تحرير مجلة "لواء الإسلام". . . . 1947 أسندت إليه مشيخة الأزهر. . . . 10 - 3 - 1952 توفي بالقاهرة ودفن بها في. . . . 3 - 2 - 1958

تلامذة جامع الزيتونة

تلامذة جامع الزيتونة (¬1) تحركت همة نخبة من تلامذة الجامع الأعظم إلى إنشاء جمعية تؤكد بينهم روابط الإخاء والمحبة، وتحدث فيهم قوة التعاون على طلب الإصلاحات اللازمة لهم في ترقية حال التعليم، كما أنهم اعتمدوا في أصل تأسيس هاته الجمعية على مساعدة فقراء التلامذة، وإعانتهم على تحصيل العلوم والمعارف بتأسيس نادٍ يجمع شتاتهم على المباحثة والتوسع في تبادل الأفكار، وهو مقصد جليل نؤمل أن تحمد عواقبه، وتأمن مباديه من العوائق. وقد حرر التلامذة قانوناً ذا فصول مختصرة تشتمل على مقاصد الجمعية، وأصول تأسيسها، وقرروا يوم الأحد الفارط موعداً لاجتماع عام بين التلامذة والأساتذة يتداولون فيه: تنقيح القانون، وانتخاب رئيس وأعضاء، وبعد توزيع الاستدعاءات على نجباء التلامذة وفضلاء المدرسين لحضور الجلسة التي أسندت رئاستها لفضيلة العالم النحرير الأستاذ الشيخ السيد الطاهر النيفر. وانعقد الاجتماع في الساعة الثالثة مساء يوم الأحد بحضور العلماء ¬

_ (¬1) جريدة "المعارف" التونسية - العدد الخامس من السنة الأولى الصادر في المحرم الحرام سنة 1324 هـ - 14 فيفري سنة 1907 م، ويرأس تحريرها محمد صادق المحمودي.

الأجلّة الذين أبدوا كامل الحنوَّ والمحبة لتلامذة الجامع الأعظم، وبرهنوا على كامل العناية بالشؤون النافعة، وفهمهم أسرار الاجتماع وفوائده بإجابتهم الدعوة هذه الجمعية الجديدة .. وافتتح الرئيس المشار إليه الجلسة لإلقاء خطاب بليغ (أوردت الجريدة نص الخطاب) .. ولدى جدوس الرئيس عند الفراغ من الخطاب، قام حضرة البليغ البارع الشيخ السيد الخضر بن الحسين، وارتجل خطاباً لطيفاً خاطب به الرئيس والحاضرين، يستحسن به المشروع، ويحرَّض على إتمامه، بدون أن يصدَّهم عن ذلك ما عساه يعترضهم من العقبات التي يزيلها الثبات، ويمحوها الاتحاد. ثم جلس هذا السيد الحازم بين هتاف الاستحسان. . . وبعد ذلك أجريت أعمال الانتخاب لرئيس وأحد عشر عضواً، فارتفعت الأصوات بانتخاب العلامة النحرير الأستاذ السيد محمد رضوان رئيساً. ثم تسمى أحد عشر عضواً بغلبية الأصوات (¬1). وهاكَ أسماءهم على ترتيب غلبية الأصوات: السادة الأفاضل: الخضر بن الحسين - محمد بن الشاذلي بن القاضي - الطيب رضوان - الصادق النيفر - الطاهر بن عاشور - بلحسن النجار - محمد النخلي - الطاهر النيفر - عمر بن عاشور - علي الشنوفي - عثمان بن الخوجة. . . ¬

_ (¬1) من الملاحظ أن الإمام محمد الخضر حسين نال غالبية الأصوات في الانتخاب، وهذا دليل على مدى تعلق ومحبة رجال الزيتونة لفضيلته بتقدمه على كبار الشيوخ الزيتونيين.

ربع ساعة أمام المذياع الأدب التونسي في القرن الخامس مسامرة الشيخ محمد الخضر حسين

ربع ساعة أمام المذياع الأدب التونسي في القرن الخامس مسامرة الشيخ محمد الخضر حسين (¬1) * كلمة في الشيخ -أبقاه الله-: الشيخ محمد الخضر حسين من الرجال العظام الذين أنبتتهم تربة بلادنا، وترعرعوا في أحضانها، ولقد أنبته الله نباتاً حسناً، فنشأ نشأة طيبة تناسب شرف نسبه، وأصالة عائلته، وطوى الشيخ بساط شبابه في الكوع من منابع العلوم والآداب، حتى امتلأ بذلك امتلاء كانت آثاره أن كان الشيخ من علماء تونس الأفذاذ، ومن أدبائها المشار إليهم بالبنان. وقد أخذ الشيخ في التدريس بالجامع الأعظم، فكان لدروسه الصدى ¬

_ (¬1) جريدة "الزهرة" التونسبة - العدد الصادر يوم الاثنين في 7 جمادى الثانية 1355 هـ - أوت آب 1936 م، نقلتها تصويراً من ملف وثائق محمد صالح المهيدي المحفوظة في قسم الدوريات بدار الكتب الوطنية بتونس. والباحث، الأديب، المفكر محمد الصادق بن محمود بسيّس (1332 - 1398 هـ = 1914 - 1978 م) من أعلام الثقافة الإسلامية، ولد بتونس، وتلقى علومه بجامع الزيتونية، ودرّس فيه. له مؤلفات عديدة - انظر كتاب: "تراجم المؤلفين التونسيين". توفي بتونس في 10 ذي العقدة 1398 هـ. وفي هذا المقال يتضح مدى محبة وتعلق أهل العلم التونسيين بالإمام محمد الخضر حسين.

القوي، والفائدة العظيمة، وزيادة على قيامه بذلك، فقد كان يلقي المحاضرات النفيسة في جمعية "قدماء الصادقية"، وكانت هاته المحاضرات من ذلك النوع الرفيع من البحث، والمقام الكبير من التحقيق والتمحيص. وألَّف الشيخ تآليف عديدة قبل هجرته إلى مصر، وأسس مجلة أسماها: مجلة "السعادة العظمى"، ومن تآليفه: "الدعوة إلى الإصلاح"، و"الحرية في الإسلام"، و"حياة اللغة العربية". ثم هاجت ريح زعزاع، وثارت عاصفة صخوب، أركبت الشيخ المركب إلى مصر، وأفئدةُ الناس تذوب حسرة، وقلوبهم تتقطّع لوعة. ولقي الشيخ احتفاء وتكريماً من الشرق والشرقيين، وأصبح الشيخ من أعلام الجهاد الإسلامي، ومن المذاويد عن شرع الله الحكيم، فردَّ على طه حسين في كتابه "نقض الشعر الجاهلي"، وأتى على طعناته، فإذا هي كرماد اشتدت به الرياح، ثم ردَّ على علي عبد الرازق في كتابه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، وبعث بأوهامه إلى مكان سحيق، وطعنها طعنة ما قدرت أن تعيش بعدها طرفة عين، وكذلك ردَّ الشيخ على "القاديانية" في كتاب نسيت اسمه، وهشَّم فيه مذهبهم. وتولى الشيخ رئاسة "جمعية الهداية الإسلامية"، ورئاسة تحرير مجلتها، وهناك أجال قلمه، فترجم لكثير من علماء بلاده وأدبائها مما دلَّ على أن الشيخ مضرب الأمثال في الوفاء، وأنه أوفى من أم جميل، وأنه يحنُّ إلى وطنه حنيناً. ورحم الله ابن الرومي: وحَبَّبَ أوطانَ الرجالِ إليهم ... مآربُ قضّاها الزمانُ هنالكَا إذا ذكروا أوطانهَم ذَكَرَتْهُمُ ... عهودَ الصبا فيها فحنّوا لِذَلِكا

وأبا تمام الطائي: نقِّلْ فؤادَك حيثُ شئتَ من الهَوى ... ما الحبُّ إلا للحبيب الأولِ كم منزلٍ في الأرضِ يَأْلَفُهُ الفَتَى ... وحنينُه أبداً لأوَّلِ منزلِ وتولى أيضاً رئاسة تحرير مجلة "نور الإسلام" لسان الأزهر، وكان له فيها مقالات غُرَر، ومما يدل على قيمتها الجليلة: أنها ترجمت إلى اللغة الإنكليزية تبشيراً بالإسلام، والشيخ كان من أكبر الذين كوّنوا مشروع (الشبان المسلمين) بمصر، وهو الآن مدرس بكلية أصول الدين، يدرّس أصول الشريعة؛ كالحديث والتفسير، وهو شاعر مفلق حاذق، ومن شعره الذي أحفظه قوله: بسطتَ شُعاعَ عِلْمك في نفوسٍ ... تسوقُ إليك ما اسطاعت حُتوفا كذا الأقمارُ تكْسو الأرضَ نوراً ... ولولا الأرضُ ما لقيتْ خُسوفا وقوله وهو من جيد الشعر: أرى مُثْمِرَ الأغصانِ يَدْنو من الثَّرى ... وعاطِلُها يبغي بهامتِه الشِّعْرى فَأَذْكُرُ إذْ يهوي الغمامُ تواضعاً ... وَيرْفَعُ مسلوبُ العُلا أنفَه كِبْرا وقوله: عذْرْتُكَ إذ صوَّرْتَ في نفسكَ الهُدى ... ضلالاً وصوَّرْتَ الضلالَ رَشادا فإنَّ زُجاجاتِ المصوِّرِ تقلِبُ الـ ... ـسَّوادَ بياضاً والبياضَ سَوادا ومن شعره في السجن الذي سجنه فيه السفاك جمال باشا بدمشق، وقد مكث فيه ستة أشهر:

أنا لولا هِمَّةٌ تحدو إلى ... خِدْمةِ الإسلامِ آثرتُ الحِماما ليستِ الدُّنْيا وما يقسُمُ مِنْ ... زَهْرِها إلّا سَرابا وقَتاما وما أبدع قوله وأجمله: لا خَيْرَ فيمنْ خفَّ طبعاً واشترى ... بلطائفِ الأُدَباءِ كأسَ مُدامِ والشِّعْرُ كالبَيْداء هذا مَهْمَهٌ ... قَفْرٌ وهذا كُنَّسُ الآرامِ وبعد: فقد رفع الشيخ تونس بعلمه الزاخر، وأدبه الكبير، وأخلاقه الإسلامية، نَعَمْ، رفعها مكاناً عليّاً، فله الشكر بكرة وعشيّاً. وقد منَّ الله على الأستاذ أن سهَّل له الذهاب إلى الحج، فحجَّ الشيخ في عام 1352 هـ، وعند رجوعه إلى مصر سالماً غانماً، احتفلت به جمعية "الهداية الإسلامية" احتفالاً لائقاً بمقامه الكريم، وعلمه الغزير، ومما قاله الأستاذ الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في خطبته: "أي وربّي الله! إن الأستاذ الخضر لنفحة من نفحات الحق في هذا العصر، جاد بها الجواد على هذا الزمان العقيم، فأحيا به من موات الإسلام، وجدَّد بعزمه من شباب الدين، ونضَّر بأخلاقه من وجه الفضيلة، ورفع بنبوغه من منار العلم، وجبر بهِمته من كسر الشّرق وأهل الشرق، فإذا نحن رحّبنا به، فإنما نرحب بلسان الإسلام والدين والفضيلة والعلم، والشرق والشرقيين". وأُلقيت في تلك الحفلة قصائد كلها تفيض إخلاصاً، وتتدفق محبة وحناناً لذلك الرجل الذَّكَر (¬1)، والعلّامة العَلَم. ¬

_ (¬1) يقال للكامل من الرجال: رجل ذَكَر، وللكاملة من النساء: امرأة أنثى.

ولقد ابتهج التونسيون ابتهاجاً عظيماً حين أعلن عن مسامرة بلديِّنا العلامة الشيخ الأخضر ابن الحسين، وكان ابتهاجي أنا على الأخص عظيماً حيث لم أتمتع لا برؤية الشيخ، ولا بالتلذذ بمجالسه العِذاب وأدبه، واطّلاعه الباهر الجميل، وسهراته الظراف، ومحاضراته الطراف، وبالأمس على الساعة التاسعة استمعنا مسامرة الشيخ عن الأدب التونسي في القرن الخامس. ألقى الشيخ مسامرته الطريفة بصوت فخم ضخم، حلو النبرات، جميل، وبلغة بديعة التعابير، فصيحة التراكيب، هي -وربَّك- البيان الكريم. وتكلم عن مهيئات تلك النهضة، وأنها بطبيعة الحال يجب أن تجاري النهضات الزاهرة في العراق، وبلاد الشرق، ولقد وجدت في القرن الخامس نهضة لم تأت بها الأيام، نهضة راقية ساحرة، بلغت من السمو والكمال والحظوة الكبرى والصيت الذائع البعيد، ثم تكلم الشيخ، فاستعرض كثيراً من شعراء ذلك العهد المزدهر السعيد؛ كابن شرف، وابن رشيق، والحصري صاحب "زهر الآداب"، وألقى نتفاً من شعرهم البديع، ومقاطيعهم التي هي كسجع الحمائم في الأسحار، وعبث الكواعب بالأوتار. وجعل الشيخ من أعظم العوامل المقوية لروح تلك النهضة: ملك القيروان إذ ذاك (المعزّ بن باديس)؛ فقد كان هذا الملك كَلِفاً بالأدب، عطوفاً على أهله، يصلهم بالصلات الحسنة، والعطايا الكبرى، فكان يجتمع في مجلسه نحو من مئة شاعر، ويقولون الشعر، فينبعث المعزّ- وهو مَنْ هو ضلاعة واطّلاعاً على الأدب - ناقداً، كاشفاً للغطاء عن الغلطات والعثرات التي عثروا فيها في ميدان القول الرحيب الفسيح. ثم تحدّث عن قيمة ابن شرف القيرواني النقدية، ومؤلَّفه في ذلك، وبيّن قيمة ابن شرف في النقد، وأنه من الذين كانوا ينقدون الشعر النقد العميق

البديع، وتكلم على ابن رشيق، وعلى كتابه الثمين "العمدة"، وعلى قيمة هذا الكتاب الجلّى، ومكانته في علم النقد، وأنه من الكتب التي كان لها الأثر الكبير في شدِّ ساعد هذا العلم، وذيوعه في العالمين، وأرسل الشيخ لفكره العنان، فأتى بالرائق الأنيق بالآيات البينات في هذا الموضوع، وأوسعه بحثاً طرياً، ورأياً شهياً. وقد حُرمنا كثيراً من المسامرة بسبب الهزم الصاخب، والأصوات الهائلة التي كانت تنبعث من محطة (البلجيك). وأضرّت بنا الضرر البليغ؛ حيث قطَّعت علينا المسامرة العزيزة تقطيعاً، وشوَّشتها تشويشاً، منعتنا من خيرٍ غمرَ، وحديث عال شريف. وختم الشيخ مسامرته المطرفة الرفيعة مبتهجاً بنهضتنا الأدبية، وبشعرائنا الحذّاق الذين لهم من وحي مجدهم ونهضاتهم التي أسدت للإنسانية أيادي بيضاء ومنناً حسناً بهيجة لهم من ذلك ما يبعث العزائم بعثاً دفّاقاً إلى جعل هاته النهضة تسابق تلك النهضة، فنسبق سبق الجواد، ونفوز بالقدح المعلّى، ثم قال الشيخ -أبقاه الله-: ولله الأمر من قبل ومن بعد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذا ما تيسر في أن أتصيَّدَه من مسامرة الشيخ، وإن ما التقَطْتُه من تلك الدرر الثمان الغوالي التي نثرها، فأقر العيون، وأطرب الأسماع، وإنه لمتعة كم نود أن يرسل أمثالها الأستاذ من آونة إلى أخرى، فيمتِّعنا بذلك تمتيعاً، نحن متشوقون شوق المهجور لنظرة، والصادي لرشفة. هذا وإن حُرِمْنا من رؤية الشيخ، ومن دروسه الفذّة، فلنا مما يرسله من بيانه السامي، وقلمه المجلّي في ميادين العلوم والآداب، وما يلقيه إلينا

من المحاضرات على طريق (المذياع) عوض. ومما يستلفت النظر: أن الشيخ ألقى مسامرته بتلك اللهجة التونسية القريبة من اللهجة العربية قرباً كبيراً، على طول إقامته بين ظهراني إخواننا المصريين، وقد أخبرني أخوه العالم اللغوي السيد المكي بن الحسين: أنه متأثر بلهجة شيخه العلامة إسماعيل الصفايحي. أدام الله الأستاذ علَمَ تونس في الشرق الخفّاق، ومثالاً كريماً للأخلاق النبوية الفضلى، وجعله شمساً تنير الحوالك، ومصباحاً يقي المهالك، والله على كل شيء قدير. محمد الصادق بسيس يوم السبت 4 جمادى الثانية 1355

العلامة التونسي الشهير الشيخ الخضر بن الحسين يسمى شيخا على الأزهر الشريف

العلامة التونسي الشهير الشيخ الخضر بن الحسين يسمى شيخاً على الأزهر الشريف (¬1) بناء على ملاحظات كبار العلماء تقرر إسناد مشيخة الأزهر الشريف إلى فضيلة العلّامة الشيخ محمد الخضر بن الحسين من هيئة كبار علماء الأزهر، وقد روعيت في هذه التسمية نزاهة فضيلته، وكفاءته، ومقدرته العلمية الفائقة، وأخلاقه الإسلامية العالية. وفضيلة العلامة محمد الخضر بن الحسين تونسي المولد والنشأة، وقد نشأ من أسرة معروفة في الجريد التونسي، وبعد أن حذق القرآن الكريم بمسقط رأسه في الجريد التونسي، شدَّ الرحال إلى العاصمة التونسية، وانخرط في سلك طلبة الجامع الزيتوني المعمور، وواصل التدرّج والسموّ في المراتب العلمية حتى أصبح من العلماء الأعلام الذين يشار إليهم بالبنان، واشتهر فضيلته بغيرته على الدين، وعمل 0 هـ المتواصل على إصلاح حال المسلمين. وهو يرى أن بلاد الإسلام هي وطن واحد لجميع المسلمين، وإن فرقت بينهم الحدود الوضعية، والفواصل الجغرافية الصناعية والسياسية. وبعد أطوار عديدة في حياته الحافلة، لا يتسع المقام والنطاق المحدود ¬

_ (¬1) جريدة "الزهرة" العدد 13760 الصادر في 29 ذي الحجة 1371 هـ - 19 سبتمبر 1952 م - تونس. ومديرها الأستاذ محمد عبد الرحمن الصنادلي. اقتطفت هذه الفقرات من مقال تحدث في مقدمته عن خلافات في الأزهر.

لتفصيلها، اعتزم الرحلة إلى الشرق، وزار مختلف الأقطار الإسلامية، ودرَّس العلم في مختلف أمهات المعاهد الشهيرة. ومنذ بضعة سنوات حطّ الرحال -بعد أن تقدمت به السن- في أرض الكنانة، فقوبل بالتبجيل والإجلال والتقدير اللائق بمقامه العلمي الرفيع، وأنيطت بعهدته مهام علمية سامية في الجامع الأزهر الشريف، وأخيراً اعتنق الجنسية المصرية، وأصبح عضواً بارزاً في هيئة كبار العلماء الأزهريين، حتى اختارته الحكومة المصرية الرشيدة منذ يومين لمشيخة الأزهر الشريف بموافقة هيئة كبار العلماء. وفضيلة الشيخ محمد الخضر بن الحسين يبلغ الآن السنة الثامنة والسبعين من عمره الحافل بالأعمال الإسلامية الجليلة. ونحن نهنئ فضيلته بهذا المنصب الجليل الذي أُسند لكفاءته، ونرجو له الحياة الطيبة الحافلة بالأعمال الصالحات في النهوض بالأزهر الشريف، ونسأل الله تعالى العلي القدير أن يبارك في عمره، وأن يمدّ في أنفاسه. وإنا لنعتبر تسميته على رأس أعظم معهد إسلامي في العالم شرفاً وفخراً وكسباً لتونس والتونسيين، ورابطة جديدة من روابط القربى والتعاون بين الشعبين المكافحين: تونس، ومصر.

من وحي القلم لمسة وفاء

من وحي القلم لمسة وفاء (¬1) عندما ينظر الباحث إلى تاريخ الإنسان في هذه الربوع، تهزّه مشاعر جيّاشة، وتأخذه سِنَة من النّخوة والاعتزاز بالانتماء إلى أرض تونس المجيدة. . . وذلك بتأثير ما يقرؤه على صفحات التاريخ من مآثر رائدة صنعتها أيادي أعلام تونسيين أفذاذ، نذروا حياتهم لرفعة الوطن، ولإصلاح المجتمع، ولتنمية التراث كمّاً ونوعاً. من هؤلاء الأعلام أريد أن أومض إلى جهود الشيخ محمد الخضر حسين، لاسيما وأن ذكرى وفاته الأربعين تمرّ بنا هذه الأيام، فقد مات -رحمه الله- في يوم 12 فيفري 1958 م بعد عمر ناهز 85 عاماً، حفلت بجليل الأعمال التي تذكر فتشكر. وبالمناسبة يمكنني القول باختصار شديد: إن الرجل قد برز طوداً شامخاً، شهدت بنبوغه وبفضائله منابر العلم مشرقاً ومغرباً، وقد أبان في هذا المجال عن جملة من الصفات العالية أذكر منها باختزال ثلاثاً: 1 - صفة العالم الإصلاحي الذي حرّك السواكن، وأيقظ النفوس، وأحيا الهمم، وهدَّ أقبية الجمود، وأقضَّ مضجع الرجعية الغائرة في التحجر، فعمل ¬

_ (¬1) مقالة للكاتب الأديب الأستاذ حسين المزوغي عن الإمام محمد الخضر حسين، نشرت في جريدة "الحرية" تونس - يوم الخميس 12 شباط فيفري 1998 م.

بكل ما أوتي من جهد من أجل تجاوز السلبيات، وهجر القوالب العقيمة، وإزاحة العوائق، وإجلاء سحب القتامة والظلام الحاجبة للرؤيا، والقابعة على الآفاق، تخنق الأمل، وتسدّ فرج النور والحياة. ومما يؤثر عنه: أنه دعا بحماس إلى فتح باب الاجتهاد، واستئنافِ آلياته من جديد، ونادى إلى حرية الرأي والتعبير، وانعتاق الإنسان التونسي بهدف بناء العقل، وتطوير أساليب التفكير التي لم تعد تواكب العصر. فتألب عليه المتزمتون والمحافظون، وعارضوه، وسعوا إلى النيل منه واضطهاده، لكن ذلك لم يثنه عن التشبث بقناعاته المستنيرة .. 2 - كان صاحبنا -إلى جانب صفاته الإصلاحية- شعلة من نار على أعداء الشعب، خصوصاً الاستعمار الذي احتل البلاد، واستعبد رقاب العباد. وفي هذا الإطار، رفع محمد الخضر حسين لواء الثورة الشاملة ضد قوات الاحتلال، واغتنم فرصة سفراته، وإقامته بالشام ومصر وألمانيا والجزائر؛ ليحرّض إخوانه المغاربة، وفي مقدمتهم التونسيين؛ لمقاومة الحماية الفرنسية، وكان يحفزهم ويؤلبهم حتى يكافحوا كفاحاً مستميتاً بهدف تقويض صرح العدو، وانتزاع حرية الوطن، والتخلص من ربقة الاحتلال. وقد أسس بمصر لهذا الغرض في سنة 1923 م جمعية "تعاون جاليات شمال إفريقيا"، ثم أنشأ بعد الحرب العالمية الثانية "جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا"، التي كان لها دور فعال في شد أزر الزعماء والمقاومين، وإبلاع صوتهم إلى المنظمات العالمية. . . وتضايقت فرنسا وقتها من نشاط الخضر حسين، فأصدرت عليه غيابياً حكماً بالإعدام وهو مقيم بدمشق، فهاجر إلى مصر لاجئاً حيث واصل نضاله إلى أن مات. 3 - ولعلّ الصفة الضاربة لرائدنا خلال حياته المليئة بالنشاط والحيوية،

هي: أنه كان -رغم تكوينه الزيتوني التقليدي- صاحب ثقافة واسعة، وفكر متفتح، ونفس ذوّاقة للفن والأدب، فقد كان يحب الشعر، وينظم القصائد العصماء، وله ديوان ضخم بعنوان: "خواطر الحياة" أصدره في سنة 1946 م. وألف كتاباً في "الخيال في الشعر العربي" ظهر في شكل مقالات، ثم طبع في عام 1928 م. . . كما له عدة مصنفات متنوعة يفوق عددها عشرة عناوين، دون بعض المجلات التي أسسها، وأبرزُها "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة تونسية في سنة 1904 م. . . وقد تأهل الشيخ محمد الخضر حسين- بفضل ثقافته القيمة، وسعة اطلاعه وعلمه الغزير- ليشع داخل الوطن وخارجه. . . فكان عضواً بالمجمع العلمي بدمشق، وعضواً بالمجمع اللغوي بالقاهرة. . . وانتمى إلى جامعة الأزهر، وشغل بها عدة وظائف، أهمها: توليه عن جدارة رئاسة مشيختها في سنة 1952 م. هذه -أخي القارئ- لمسة وفاء مقتضبة أسوقها إلى روح أحد الأعلام الروّاد الذين أحبوا تونس، وآمنوا بحظوظها، فنذروا العمر لخدمة الفكر، وتطوير المجتمع، وازدهار البلاد، وأقدموا على تضحيات جسام بما فيها الموت. فهم قد آمنوا بأن الموت خلود وحياة. . . خلود لهم، وحياة لوطنهم وأمتهم. . .

شخصيات إسلامية الإمام محمد الخضر حسين

شخصيات إسلامية الإمام محمد الخضر حسين (¬1) * الشخصية في سطور: ولد محمد الخضر حسين في مدينة "نفطة " بتونس سنة (1293 هـ = 1876 م). تلقَّى تعلميه في مسقط رأسه، ثم انتقل إلى تونس العاصمة مع أسرته، والتحق بجامع الزيتونة. بعد تخرُّجه في جامع الزيتونة عمل بالخطابة والتدريس والقضاء. أسَّس في تونس مجلة لخدمة الفكر الإسلامي بعنوان "السعادة العظمى". غادر تونس إلى الآستانة سنة (1329 هـ = 1911 م)، وتردّد بين دمشق والآستانة وبرلين، ودامت هجرته نحو عشر سنين. استقر في القاهرة سنة (1338 هـ = 1920 م)، وعمل في دار الكتب المصرية. التحق بالأزهر، وحصل على عالمية الأزهر، واشتغل بالتدريس فيه. دخل معارك فكرية كبيرة مع "طه حسين"، والشيخ "علي عبد الرازق". تولّى رئاسة تحرير مجلة "الأزهر"، ودخل مجمع اللغة العربية مع ¬

_ (¬1) ترجمة الإمام في الموقع على (الأنترنيت) www.ikhwanonline.com

الجيل الأول من علماء المصريين والعرب الأجانب سنة (1351 هـ = 1932 م). اشترك مع "أحمد تيمور" باشا في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، وأسس بمفرده جمعية "الهداية الإسلامية". تولى مشيخة الأزهر سنة (1371 هـ = 1952 م). توفي "محمد الخضر حسين" سنة (1377 هـ = 1958 م) تاركاً عدداً من المؤلفات المهمة. * المجاهد بالقلم: أتى على القاهرة حين من الدهر كانت مستقر العلماء، وقادةِ التحرير، وزعماءِ الإصلاح في العالم العربي والإسلامي، وشهد النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري نزوح عدد كبير من هؤلاء إلى قاهرة المعزّ التي فتحت لهم ذراعيها، وأحسنت استقبالهم، وكرمت وفادتهم، فقدم من الدولة العثمانية شيخ الإسلام "مصطفى صبري"، ووكيله "محمد زاهد الكوثري"، ومن الشام "طاهر الجزائري"، و"محمد كرد علي"، و"شكيب أرسلان"، ومن بلاد المغرب العربي "علال الفاسي"، و"محمد الخضر حسين"، و"البشير الإبراهيمي"، وغيرهم. واستقر بعضهم في القاهرة، واتخذها وطناً له، وعمل في مؤسساتها، وتبوأ المناصب العليا في الدولة؛ مثل: الشيخ "محمد الخضر حسين"، الذي قدِم من تونس إلى القاهرة، وأقام بها، وعمل في هيئاتها، ومؤسساتها العلمية حتى اختير شيخاً للجامع الأزهر. * المولد والنشأة: وُلد "محمد الخضر حسين" في مدينة "نفطة" بجنوب تونس في (26 من

رجب سنة 1293 هـ = 16 من أغسطس 1876 م)، وبها نشأ وتعلم، فحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وألمَّ بشيء من الأدب والعلوم العربية والشرعية. ثم انتقل وهو في الثانية عشرة من عمره سنة (1305 هـ = 1888 م) إلى تونس العاصمة، والتحق بعد عامين بجامع الزيتونة، وهو سورة مصغَّرة من الأزهر في ذلك العهد، تُقرأ فيه علوم الدين؛ من تفسير، وحديث، وفقه، ونحو، وصرف. وفي الزيتونة تقدم الطالب النابغة في تحصيل العلم، وظهرت أمارات نبوغه في العلوم العربية، والشرعية، وتجلّى ذوقه الأدبي في الإنشاء، حتى تخرَّج سنة (1321 هـ = 1903 م) حاصلاً على الشهادة العالمية، وأصبح بذلك من علماء الزيتونة. * في معترك الحياة: وفي العام الذي تخرج فيه أنشأ مجلة "السعادة العظمى"؛ لتَنْشر محاسن الإسلام، وتفضح أساليب الاستعمار الذي يحاول أن يطمس نور الشريعة عن عيون المسلمين، ويبذل جهوداً مضنية لتشويه اللغة العربية، ورميها بالجمود والتخلّف؛ لينصرف الناس عن قرآنهم المجيد، وأحاديث نبيَّهم الكريم، وقامت المجلة بمهمتها -حسب الطاقة والجهد- في عزم وصبر شديدين، وإلى جانب التدريس والخطابة بالجامع الكبير بمدينة "بنزرت" تولَّى قضاءها في سنة (1324 هـ = 1905 م)، غير أنه ما لبث أن ترك وظيفة القضاء المرموقة سنة (1326 هـ = 1908 م). وعاد إلى تونس العاصمة، وعمل مدرساً بالمدرسة "الصادقية"، وهي

المدرسة الثانوية الوحيدة بتونس يومئذ، وفي العام التالي تطوع للتدريس بجامع الزيتونة، ثم أحيلت إليه مهمة تنظيم خزائن الكتب الخاصة بهذه الجامعة العريقة، وتمَّ تعيينه رسمياً مدرساً بها. وفي أثناء ذلك يقوم بالخطابة في المنتديات الثقافية، داعياً إلى إحياء قيَم الحرية والتحرُّر، وبثِّ روح العروبة في النفوس، والعناية بالنشء وتعلميه. * رحلاته إلى العالم الإسلامي: ولما قامت الحرب الإيطالية الطرابلسية سنة (1329 هـ = 1911 م)، وزحفت الجيوش الغازية، واحتلت طرابلس، وبني غازي، وقف الخضر بقلمه من مغتصبيه، وأشعلت مقالات الشيخ الحماس في النفوس، ونبَّهت الغافلين من الأمة، وشعر المستعمر الفرنسي بخطورة ما يقوم به الشيخ المجاهد، فاتَّهمه ببثِّ روح العداء للغرب، وبدأ يضيّق عليه، واضطرَّ الشيخ إلى مغادرة تونس إلى الآستانة سنة (1330 هـ = 1912 م)، وعُيِّن مدرساً للتربية في المدرسة "السلطانية" وتعمَّدت رحلاته بين دمشق والآستانة وبرلين؛ في سبيل خدمة قضايا العالم الإسلامي، والاتصال بزعماء الحركات الإسلامية، إلى أن عاد مرة أخرى إلى عمله في المدرسة السلطانية سنة (1335 هـ = 1917 م)، وشرح لطلابه كتاب "مغني اللبيب" لابن هشام. * الاستقرار في القاهرة: ولما وقعت سورية في قبضة الاحتلال الفرنسي سنة (1338 هـ = 1920 م)، غادر الشيخ "الخضر حسين" دمشق، وقصد القاهرة، وما كاد ينزل حي الحسين غريباً لا يعرف أحداً، ومهاجراً في سبيل الله بقلمه المجاهد الشجاع، حتى وُفِّق للعمل بدار الكتب المصرية بأجرٍ زهيد لا يتفق ومنزلته الكبيرة، ثم توثَّقت

صلته بزعماء الفكر الإسلامي من أمثال: "أحمد تيمور"، و"محب الدين الخطيب"، و"عبد الوهاب النجَّار"، و"محمد رشيد رضا" الذين عرفوا قدر الرجل ومنزلته العلمية. وفي أثناء ذلك حصل على الجنسية المصرية، وتقدَّم إلى امتحان العالمية بالجامع الأزهر، وكان الشيخ عبد المجيد اللبَّان رئيس اللجنة مع نخبة من زملائه المختارين، فأبدى الشيخ من الرسوخ والتمكُّن ما أدهش، حتى إن الشيخ اللبّان صاح -إعجاباً- قائلاً: هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حجاج؟! ونال الشهادة العالمية الأزهرية، وبها صار أستاذاً في الجامعة الأزهرية. * معاركه الفكرية مع "علي عبد الرازق، وطه حسين": شاءت الأقدار أن يدخل "الخضر حسين" معارك فكرية لفتت الأنظار إليه؛ لسعة علمه، وقوة حُجَجِه، ونزاهته في عرض آراء الخصوم، وموضوعيته في الردِّ عليها، وبدأت معاركه الفكرية الكبرى سنة (1344 هـ = 1925 م) بنقضه لكتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ "علي عبد الرازق" الذي ادَّعى فيه أن الإسلام دين ليست به شريعة لسياسة الدولة والمجتمع، وحاول تجريد الإسلام من طابعه ودوره السياسي، وتجريد الدولة في وطن المسلمين من صبغته"لإسلامية، وتقديم الإسلام ديناً لا دولة، ورسالة روحية لا شرع فيها ولا سياسة. وتصدَّى الشيخ المجاهد هذا الكتاب الذي أثار ضجَّة واسعة، واحتفى به الكارهون لشرع الله، فنقده نقداً علمياً نزيهاً، معتمداً على الحجة والبرهان، والاستناد إلى القواعد الأصولية والفقهية، وضمن ذلك كتابه "نقض كتاب

الإسلام وأصول الحكم"، وفي العام التالي سنة (1345 هـ = 1926 م) ظهَر كتاب "في الشعر الجاهلي" لـ "طه حسين"، نادى باحتقار كل قديم دوِّن في صحف الأدب، والشكّ فيه، ويزعم أن معظم ما قيل منسوباً إلى شعراء الجاهلية اختلاقٌ زائف، وهاجم المقدّسات الإسلامية هجوماً لا هوادة فيه، وادَّعى أن حديث القرآن الكريم عن "إبراهيم" و"إسماعيل" - عليهما السلام - لا يكفي لإثبات وجودهما في التاريخ. وقد ردَّ الشيخ "الخضر" على "طه حسين" بكتابه "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، فصنع معه ما صنع مع كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، عندما فنَّده فقرة فقرة، مع أدب رفيع في الحوار، وبراعة في الجدل كشفت عن عقل متمكن ومتمرس في ميدان البحث والمناظرة. * جهوده الإصلاحية في القاهرة: لم يكن الشيخ ممن يكتفون بوسيلة واحدة من وسائل الإصلاح، فهو معلّم متمكن، وخطيب بارع، ومؤلف موهوب، وصحفي مجاهد، وداع إلى إنشاء الجمعيات الإسلامية، وقد اشترك في سنة (1346 هـ = 1927 م) مع صديقه العلامة "أحمد تيمور" في تأسيس "جمعية الشبان المسلمين"، التي تكونت للتعريف بالإسلام، والذَّود عن حضارته، وكانت مصر تتعرض لحملة ثقافية تغريبية لطمس هوية البلاد. ولما نجحت جمعية "الشبان المسلمين"، تفرَّغ الشيخ لإنشاء "جمعية الهداية الإسلامية"، وضمَّ إليها جمهرة مستنيرة من شيوخ الأزهر وشبابه، ومن طبقات المثقفين ثقافة مدينة، وأنشأ بها مكتبة كبيرة كانت نواتها مكتبته الخاصة، وأصدر مجلة تحمل اسم الجمعية، وأنشأ لها فروعاً بالأقاليم، وكانت

محاضراته المستمرة فيها، ومقالاته في المجلة جُهداً منظماً ومستمراً قدَّم من خلاله معالم دعوته للإحياء الإسلامي، والنهضة العربية، وتحرير ديار العروبة والإسلام، وقد جُمعت مقالاته ومحاضراته هذه في كتاب من ثلاثة أجزاء بعنوان: "رسائل الإصلاح". * في المؤسسات والهيئات العلمية: عرف أهل العلم في مصر قدر الرجل، وسعة علمه منذ أن نزل بها، فعهدوا إليه بالقيام ببعض الأعمال التي تحتاج إلى الراسخين في العلم، فعندما أصدر الأزهر مجلته التي بدأت باسم "نور الإسلام" في سنة (1349 هـ = 1930 م) عهد إلى الشيخ "الخضر" برئاسة تحريرها، فنهض بهذه المهمة ثلاث سنوات، وأرسى قواعد التحرير في المجلة، ونظم شؤونها، وعندما تكوّن مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة (1351 هـ = 1932 م) كان الشيخ "الخضر" من الرعيل الأول الذي اختِير لعضوية المجمع ضمن عشرين عالماً وأديباً من كبار رجال العلم في مصر والعالم العربي وأوروبا، واشترك في كثير من لجان المجمع العلمية، ونشرت له المجلة عدداً من البحوث اللغوية العميقة، وتقديراً لعلمه اختاره المجمع العلمي العربي بدمشق عضواً به، وفي سنة (1370 هـ = 1951 م) نال عضوية هيئة كبار العلماء- أكبر هيئة علمية إسلامية- برسالته: "القياس في اللغة العربية". * في مشيخة الأزهر: وعندما قامت حركة الجيش في (23 يوليو 1952 م) كان منصب شيخ الأزهر شاغراً، وقع اختياره على الشيخ "الخضر" إماماً أكبر، وشيخاً للإسلام، ووجهاً مشرقاً هذه الجامعة العريقة، ووُلي الأستاذ الشيخ المنصب الكبير،

وفي ذهنه برنامج إصلاحي كبير للنهضة الإسلامية التي يتطلع إليها العالم الإسلامي، لكنَّ رجال الحكم لم يتركوا الشيخ يعمل في هدوء، ووضعوا العراقيل في طريقه، وشعر الشيخ بضغوط تحُول بينه ويين ما يريد، أو تَطلب منه تنفيذ ما لا يرضيه، فتقدم باستقالته في (2 من جمادى الأولى سنة 1373 هـ = 7 من يناير 1954 م) قائلاً كلمته الشهيرة: "يكفيني كوب لبن وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العفاء". ويذكر له: أنه حينما تولَّى مشيخة الأزهر، لم يغير شيئاً من عاداته، ولم يكن له في شهوات المنصب من حظ، وكان دائماً يحتفظ باستقالته في جيبه، ويقول: "إن الأزهر أمانة في عنقي، أسلمها -حين أسلِّمها- موفورة كاملة، وإذا لم يتأتَّ أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من ألا يحصل له نقص". * مؤلفات الخضر حسين: لم يخلف الشيخ "الخضر" وراعه من حطام الدنيا شيئاً، لكنه ترك ذكرى طيبة، وسيرة حسنة في ميادين السياسة والجهاد والقدوة الحسنة، وترك كنوزاً من الفكر شاهدة على عقله المبدع، وجهده الدؤوب، ومن هذه المؤلفات: = رسائل الإصلاح. = نقض كتاب "الإسلام وأصول الحكم". = نقض كتاب "في الشعر الجاهلي". = القياس في اللغة العربية. = الخيال في الشعر العربي. = آداب الحرب في الإسلام.

= تعليقات على كتاب "الموافقات" للشاطبي. = خواطر الحياة "ديوان شعره". = وفاة الإمام الأكبر: بعد استقالة الشيخ "الخضر" من مشيخة الأزهر تفرَّغ للبحث والكتابة والمحاضرة حتى وافاه الأجل، فانتقل إلى جوار ربه مساء الأحد الموافق (13 من رجب 1377 هـ = 3 من فبراير 1958 م)، فشيَّعه العلماء وعارفو فضله ونضاله في مشهد مهيب، ودُفن في مدفن الأسرة التيمورية مع صديقه "أحمد تيمور" باشا. * مصادر الشخصية: = علي عبد العظيم - "مشيخة الأزهر منذ إنشائها حتى الآن" -الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية- القاهرة (1399 هـ = 1979 م). = محمد عبد المنعم خفاجى - "الأزهر في ألف عام" - عالم الكتب - ببيروت (1408 هـ = 1988 م). = محمد رجب البيومي - "النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين" - دار القلم - دمشق (1415 هـ = 1995 م). = محمد مهدي علام - "المجمعيّون في خمسين عاماً" - مطبوعات مجمع اللغة العربية - القاهرة (1406 هـ = 1986 م). = محمد عمارة - "معركة الإسلام وأصول الحكم" - دار الشروق - القاهرة (1410 هـ = 1989 م).

رسالة العالم الجليل محمد الصادق بن عرجون إلى العالم الفاضل اللغوي محمد المكي بن الحسين شقيق الإمام محمد الخضر حسين

رسالة العالم الجليل محمد الصادق بن عرجون (¬1) إلى العالم الفاضل اللغوي محمد المكي بن الحسين شقيق الإمام محمد الخضر حسين بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. القاهرة المعزّية - في 20 ربيع الأول سنة 1351 هـ - 24 يولية سنة 1932 م. = من عبد الله، خادم "الهداية الاسلامية" في ظل لواء المصلح الأكبر، المجدّد لأمر الدين الأنور، ذي المناقب الغرر، سيدي أبي عبد الله تاج العلماء، نسيج وحده، وواحد عصره، السيد السند محمد الخضر -مدَّ الله في أجله- صادق إبراهيم عرجون المصري الأدفوي. = إلى سماحة الفضل والتقى، ومعهد العلم والحسب، وذروة سنام المجد والنسب، السيد الأمجد فضيلة الأستاذ محمد المكي بن الحسين -أبقاه الله للغة الضاد ذخراً، وسلك به إلى العلا مذهباً-. آمين. أما بعد: حمداً لله لك ولآلك وصحابتك من أهل العلم وحملة الأقلام، فسلام ¬

_ (¬1) رسالة من العالم الجليل صادق بن إبراهيم عرجون في القاهرة إلى العالم اللغوي محمد المكي بن الحسين بتونس، وشقيق الإمام محمد الخضر حسين، بخصوص رغبته في كتابة ترجمة وافية عن شيخه الإمام محمد الخضر، صوّرت الرسالة من دار الكتب الوطنية بتونس - الدوريات - وثائق محمد صالح المهيدي ..

عليك وعليهم ورحمة الله ويركاته. شرفني كتابكم، فحرَّك من النفس ساكناً، ومن الشوق إليكم كامناً، ذلك أن أهل العلم من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على الخصوص، وإن تباعدت جسومهم، وافترقوا بالعناصر المادية، فما كان ذلك سارياً على أرواحهم؛ لسموّ عنصرها عن القيد إلى الإطلاق، فهم متعارفون متآلفون. من يوم طربوا من لذيذ خطاب: ألست، فقالوا: بلى. فمنَّ الله عليهم بأنس المحبة والاجتماع، ووقاهم الوحشة والافتراق، كما أخبرنا بذلك كامل الأخلاق، فيما رواه الأثبات الثقات: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". وحاشا أن تتناكر أرواح خدّام العلم وجنود الإسلام. أيها السيد! قد عرَّفتُك بالرغبة المُلِحَّة مني على أستاذي ومولاي (الخضر) في أن أحيط علماً بكل ما يتعلق به، أو يقاربه، وفي الحق لست أعلم كنه هذه الرغبة، وأجهل حقيقة الباعث إليها، ولا أدرك من نفسي إلا إحساساً باطنياً يدفعني إلى تعرّف كل شيء. وهنا إذا فزت ببعض ما كنت أجهل، شعرت بلذة إن شئت -أيها السيّد- فسمّها: لذة الوصل بعد الهجر كما يقولون مبالغة في الحلاوة ورضا النفس، فهل يكون هذا هو الحب مع الإجلال؟ ولِمَ لا، وهو لله والعلم والدين. عَرفتكَ بتقضي الفائقة الرائقة في اللغة وأسرارها، عرفتك بالحديث عنك كما سنحت الفرصة إزكاء للشوق، فهل يا تُرى تلتقي الأبدان؛ ليكون أبلغ في القرب والائتناس؟ سيكون -إن شاء الله- إذا سمحتم بزيارة مصر، حقق الله الآمال. أما حديث الأستاذ الجليل مجدد عهد ولي الدين ابن خلدون السيد

حسن حسني عبد الوهاب المؤرخ الكبير -حفظه الله سنداً لتاريخ الإسلام- عن "الفقير"، فذاك انعكاس سورة من خلقه الكريم في مرآة نفسه، ففاضت بالحديث إليكم في مناسبة، فإذا شكرته، فإنما هو شكر الجميل، وحمد الأخلاق الفاضلة، جزاه الله عن حسن ظنّه بإخوانه وأبنائه خير الجزاء. كوكب سنيّ أضاء من سماء المغرب في أفق (تونس الخضراء) شقيقة القاهرة وأختها، ومن القديم تزجي العناية الربانية بدور (تونس) إذا اكتملوا إلى مصر؛ ليبددوا سحباً من الشكوك، يحوك أديمها مراض الأفئدة ضعاف القلوب، وليضعوا في بناء الأخلاق أسساً، وليربّوا من الناشئة نفوساً، وحسبنا في القديم شيخ المؤرخين، وفيلسوف الاجتماع ولي الدين ابن خلدون، قاضي قضاتنا، وحضين تربتنا. وفي الحديث، هو ذلك البدر المنير، فرع الدوحة الطاهرة المباركة، أستاذي - وشرف الإضافة - استفدناه من (يا عبادي)، العلامة مجدد القرن الرابع عشر، سيدي صاحب الفضيلة والفضل الأستاذ الشيخ (محمد الخضر) - أطال الله في حياته-. كم أنا أيها الصديق الجليل شاعر بالغبطة والفخر، إذ كنت ملحوظاً بعناية هذا المربي العامل مشمولاً برعايته وفي كنفه، وإن نفسي لتدفعني بشدة إلى أن أصنع بقلمي -على عجزه- ترجمة وافية تحوي آثار قلم السيد المتفرقة شعراً ونثراً، والكلام على رحلاته في الشرق والغرب، ومناقبه، وسموّ محتده؛ تزلفاً إلى الله تعالى، وأداء بحق البنوّة والتلمذة، وقد استخرت الله تعالى في جمع المعلومات من مظانّها، ومراقبة ما يكتب عنه في الجرائد الإسلامية وغيرها، وساعدني -حفظه الله- وأرشدني إلى كثير منها.

وقد وقع في نفسي أنه لا بدَّ أن تكون لدى سيادتكم متفرقات منها وعنها، ولاسيما بعض أعداد مجلة "السعادة العظمى" التي كان يصدرها السيد في تونس، وفي بعض القصائد التي لم تنشر، أو نشرت قديماً في جرائد تونسية. وطالما دار بخلدي أن كتب إلى سيادتكم في هذا الشأن، حتى كنتم السابقين إلى الفضل، فجزاكم الله عني أحسن الجزاء، فإذا سمحتم بإسعادي بشيء مما ترونه مساعداً في محاولتي من حوادث تاريخية، ونوادر أدبية، حتى يتم لنا جمع أطراف الحديث، ثم نستعين الله في الوضع والترتيب عند توفيق الله، وفسحة الأوقات -إن شاء الله تعالى-. شرفتموني بطلب ثلاثة أعداد من جريدة "طريقه متى"، وها هي ذي مرسلة إليكم الآن. وإني على استعداد تام لإجابة لازمكم من مصر. والله ولي الهداية والتوفيق. وختاماً تقبلوا سلامي وتحياتي. المخلص صادق إبراهيم عرجون (¬1) الهداية الإسلامية ¬

_ (¬1) العالم الجليل والداعية الإسلامي محمد الصادق بن إبراهيم عرجون (1321 - 1400 هـ = 1903 - 1980 م) ولد في (أدفو) بمحافظة أسوان، من طلاب الإمام محمد الخضر حسين، ومن كتّاب مجلة "الهداية الإسلامية"، وله أبحاث قيمة فيها، نال شهادة التخصص من الأزهر، ودرَّس في معاهده وكلياته، وأصبح عميداً لكلية أصول الدين. له نشاط واسع في عدد من الجامعات الإسلامية، ولاسيما في جامعات أم القرى، والمدينة المنورة، والكويت، وبنغازي. وضع كتابه القيم: "محمد رسول الله منهج ورسالة" في أربعة مجلدات. وله مؤلفات عديدة (انظر ترجمته في: كتب الأعلام).

الإمام محمد الخضر حسين في كتاب "إمداد الفتاح بأسانيد ومرويات الشيخ عبد الفتاح"

الإمام محمد الخضر حسين في كتاب "إمداد الفتاح بأسانيد ومرويات الشيخ عبد الفتاح" أصدر المحقق والباحث الأستاذ محمد بن عبد الله آل الرشيد كتابه القيم: "إمداد الفتاح بأسانيد ومرويات الشيخ عبد الفتاح" في مجلد يضم 695 صفحة، وهو ثبت العلامة المحدث الفقيه الأصولي الأديب المسند فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، المولود بحلب سنة 1336 هـ، والمتوفى بالرياض سنة 1417 هـ، دفين المدينة المنورة -رحمه الله تعالى-. . بذل فيه الأستاذ الرشيد الجهد الموفق في التحقيق والتخريج، ونشرته (مكتبة الإمام الشافعي) في الرياض، والعائدة للمحقق في الطبعة الأولى (1419 هـ / 1999 م). وفي مقدمة الكتاب تقاريظ من كبار علماء العصر، وعددها سبعة عشر تقريظاً، ومنها: كلمة الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي الأديب والمؤرخ المعروف الذي شغل عدة مناصب علمية، ومنها: أستاذ بقسم الأدب والنقد في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر في المنصورة. يقول الدكتور البيومي في تقريظه تحت عنوان: (عبد الفتاح أبو غدة من بقايا السلف الصالح): "مازلت أذكر ما دار في ندوة لواء الإسلام المنعقدة لتأبين الإمام الأكبر محمد الخضر حسين، حيث قال أحد المتحدثين: إن الخضر بقية السلف الصالح، فاعترض الأستاذ محمد أبو زهرة قائلاً: إن معنى ذلك: أن السلف الصالح قد انتهى بموت الأستاذ الخضر، وما زال في المسلمين من يسير على منواله، فالأولى أن نقول: إنه من بقايا السلف

الصالح، وهذا حق، فبقايا السلف الصالح لا يزالون يُرسلون الضوء الثاقب في ظلام الحياة، ومن هؤلاء: الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة؛ حيث امتلأ وجدانه بحبّ الأطهار من متقدمي السلف، فسار على آثارهم، وجدّد ما تقادم من عهودهم. وهناك وجه للشبه بينه وبين الإمام الخضر حسين، هو: التمكّن من علوم اللسان والشريعة معاً على نحو متساوٍ، فهما يقولان في كل علم ما يقوله المتخصص في موادّه، حتى ليظُن من يقرأ لهما في موضوع ما: أن الواحد منهما قد جعله هدفه الأول في التحصيل، وقد كان هذا النمط شائعاً من قبل، ولكنه نادر جداً هذه الأيام! أيام الماجستير والدكتوراه. . .". أما ما جاء في كتاب "إمداد الفتاح بأسانيد ومرويات الشيخ عبد الفتاح" عن الإمام محمد الخضر حسين في (الصفحة 324) من الكتاب، فهو الآتي: محمد الخضر حسين (¬1) العلَّامة المحققُ الفقيه الأصوليُّ اللغوي الأديبُ الشيخ محمد الخَضر ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: "الأعلام" (6: 113)، "تاريخ علماء دمشق" (3: 270)، "تراجم المؤلفين التونسيين" (2: 126)، "معجم المؤلفين" (9: 279)، "معجم مصنفي الكتب العربية" (ص 475)، "النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين" (1: 51)، "محمد الخَضِر حسين: حياته وآثاره" بقلم: محمد مواعدة. و"الإمام محمد الخضر حسين بأقلام نخبة من أهل الفكر" جمع ابن أخيه السيد علي الرضا الحسيني الذي له -حفظه الله تعالى- سعي مشكور في جمع مؤلفات عمه الشيخ الخضر حسين؛ وتحقيقها ونشرها، كما قام كذلك بالعناية بكتب خال أبيه محمد المكي بن عزوز -جزى الله الأستاذ الفاضل العالم السيد علي الرضا عن العلم وأهله خير الجزاء- آمين.

ابن حسين التونسي شيخ الأزهر، ولد سنة (1292 هـ)، وتوفي سنة (1377) - رحمه الله تعالى-. ويروي عن: 1 - خاله محمد المكي بن مصطفى بن عزُّوز التونسي ثم الإسْلاَمْبُولي عن: أ - محمد أبو خُضَيْر، عن أحمد بَشَارة، عن الأمير الكبير. ب - محمد بن الصدِّيق، عن المَدَني بن عَزُّوز، عن مصطفى بن عبد الرحمن الجَزَائِري، عن عليِّ بن الأَمين، عن محمد بن سَالم الحِفْني، عن محمد الشّرنْبلالي، عن البَابِلي، وهو عن سالم السَّنْهُوري، عن الغَيْطِي، عن زَكريّا الأَنْصَاري. ج - أحمد بن إبْرَاهيم بن عِيسَى النَّجْدِي، عن عبد الرحمن بن حَسَن آل الشيخ النَّجْدي الحنبلي، عن عبد الرحمن الجبرْتي (¬1) الحَنفي، عن مُرْتَضى الزَّبِيدي. د- أحمد دَحْلاَن بما تقدَّم من أسانيده. هـ - محمد الشَّريف إمام جامع الزيتونة، عن محمد بن الخُوجَة الحنفي، عن محمد بيرم، عن محمد المحْجُوب. ¬

_ (¬1) جاء في كتاب الأستاذ أنور الجندي عن حياة أحمد زكي باشا المطبوع ضمن سلسلة "أعلام العرب" عند كلامه على خزانة زكي (ص 112): "ونسخة من الجزء الرابع من تاريخ الجبرتي -أي: مخطوط- ويحتوي على فصول كثيرة اضطُرّ إلى حذفها من النسخة التي طبعت في بولاق؛ لأن فيها هجوماً على محمد علي، ويساوي على ما أضيف من الأصل حوالي خمسين صفحة". اهـ.

2 - أبي النجا سالم بن عمر بوحاجب البنبلي (1243 - 1342 هـ)، عن: أ - أبي حفص بن سُودَة، عن محمد صالح الرَّضَوي. ب - محمد بن أحمد بن الخوجة، عن ابن التَّهامي الرِّبَاطي، عن الدُّمْهُوجي، والأمير الصغير، والعروسي، وبَيْرَم الثاني، وعن أحمد بن المبارك اللمطي، عن محمد بن أبي السُّعُود الفَاسي، عن أبيه، عن ابن أبي النعيم الغَسَّاني، عن أحمد بَابَا التنبكتي، عن عمِّه محمود، وهو عن جدِّه، عن السيوطي. ويروي أحمد بَابَا، عن أبيه، عن قُطْب الدين النَّهْرَوالي، عن زكريا الأَنصاري، والسِّنْبَاطي. ويروي أحمد بَابَا، عن أبيه، عن ابن حَجَر الهَيْتَمي، ويوسُف الأرميوني بسندهما، وعن عمَّه، عن ابن غازي، عن السَّخاوي، وعثمان الدِّيَمي، وابن مَرْزُوق الكفيف. ويروي الأخير عن ابن حَجر، وعن أبيه، وهو عن ابن صدِّيق الرسَّام، والمجد الفيروزأبادي، والهَيْتَمي، وابن الكُوَيْك، والسِّراج البُلْقِيني، وأبي زُرْعَة العراقي، وأبيه الزَّيْن عبد الرحيم العِرَاقي، والسِّراج بن المُلقِّن، وابن خَلْدُون المؤرِّخ، وابن عَرَفة، ومحمود العَيْني بما لهم. وعن جدَّه محمد بن أحمد بن مَرْزُوق، عن ابن سَيِّد الناس، وأبى حِيَّان، والتقيِّ السُّبْكي، ومحمد بن جَابر الوَادِيَاشي. ويروي ابن أبي النعيم، عن القَصَّار، عن البَدْر الغَزَّي، والنجم الغَيْطِي، وأحمد بن أحمد السِّنْبَاطي، عن جلِّه عبد الحق، ويروي ابن أبي النعيم، عن المنجور، عن سقين، عن ابن غَازي، وأحمد زَزُّوق، والأخير عن السَّخاوي

والدِّيَمي، وابن طريف الشَّاوي، عن ابن أبي المَجْد. وروى سقين، عن القَلْقَشَنْدي، وزكريا الأنصاري، وعبد العزيز بن فَهد. وروى سقين، عن الونْشَرِيسي، عن ابن مَرْزُوق الكفيف بما له. ج - محمد بيرم الرابع، عن بدر الدين الحَمَوي، وابن التِّهامي الرِّبَاطي، وأبيه بَيْرَم الثالث، وجدَّه بيرم الثاني بما لهم. 3 - أبى حفص عمر بن أحمد بن الشيخ (المولود نحو 1237 - 1329 هـ): تأتي أسانيده عند محمد الطَّاهر بن عاشُور. 4 - محمد النَّجار (ت 1329 هـ).

مقتطفات من الكتب من تتعلق بالإمام محمد الخضر حسين وتراثه

مقتطفات من الكتب من تتعلق بالإمام محمد الخضر حسين وتراثه * محمد الخضر حسين، وعلي الورداني (¬1): شاعت في هذا العهد فكرة تدوين الرحلات، وتنافس الكتاب في وصف الأقطار التي يزورونها، وفي تحليل أسباب الحضارات، وعوامل الترقي والنهوض إلى حيث العزّة والمجد والبحبوحة، والمغرب العربي من أكثر البلاد اتساعاً للرحّالة، وقد امتاز أبناؤه -من زمن بعيد- بالضرب في الأمصار، وتدوين الأخبار. . . وقد اشتهر في هذا الميدان -فضلاً عمَّن أتينا على ذكرهم - محمد الخضر حسين، وعلي الورداني. أما محمد الخضر حسين، فقد قام سنة 1906 م برحلة إلى الجزائر (¬2)، ووصف فيها المسالك والمعالم، وذكر الأدباء والعلماء الذين لقيهم، ودوّن ما كان بينه ويينهم من محاورات، وكان في ذلك كلّه كاتباً قديراً، تمتدّ عبارته امتداد متانة ورونق، وتترابط أجزاؤها ترابطاً وثيقاً، وكأني به من مدرسة عبد الحميد الكاتب، وابن المقفع، وهو في كتابته رجل العلم والفكر والدقّة، ¬

_ (¬1) من كتاب: "تاريخ الأدب العربي في المغرب" لحنّا الفاخوري - في حديثه عن عهد النهضة الحديثة. (¬2) انظر كتاب: "الرحلات" للإمام محمد الخضر حسين.

تروقك آراؤه وملاحظاته، وتستهويك مساجلاته وتحليلاته، إنه يلاحق الفكرة، ويشبعها درساً، ويلاحق الموضوع، ولا يهن له عزم ولا قلم، يلفُّ موضوعه لفّاً، ويبسط فيه آراءه بسطاً أنيقاً ممتعاً، فلا تلهيه زخرفة ولا صنعة، ولا يُثقل كلامه تعقيد ولا إغراب، إنها السهولة في حلّة الرونق والجلال. * مشروع كتاب تاريخ تونس (¬1): نعم. إن الكاتب العام "روا" قد طلبني للمشاركة في تأليف كتاب في التاريخ التونسي مع جماعة من رجال العصر، (منهم: الشيخ محمد الخضر حسين)، توزعوا هذه الخدمة بينهم، وقد استجبت لهذا الطلب؛ لأني أرى أنه لا يوجد تاريخ لتونس على النمط الذي تعاطيناه، وأشعر بحاجة الناس إلى مثل هذ التأليف. وقد شرعنا فيه وكتبنا، ثم ركدت ريح هذا المشروع الجليل؛ لأنه عمل غير خالص، بل وراءه غاية أخرى رمى إليها هذا الداهية الهرم (برنار روا)، وللحرب التي دارت رحاها في 2 أوت (أغسطس) 1914 م بين فرنسا وألمانيا، وشاركت فيها غالب الأمم الأوربية، والدولة العثمانية، دخْلٌ في إيقاف هذا الأمر. * كتاب "عَلَم الزيتونة الشيخ إبراهيم الرياحي" (¬2): جاء في تقديم الكتاب للدكتور محمد اليعلاوي: "إن الشيخ إبراهيم الرياحي (ت 1366 هـ / 1950 م) علم من أعلام جامع الزيتونة، يحق لتونس ¬

_ (¬1) من كتاب: "آثار الشيخ محمد النخلي" من كبار علماء وأدباء تونس - طبعة دار الغرب الإسلامي (ص 78 و 79). (¬2) من تأليف الاستاذ أحمد الحمدوني، وقدم له الدكتور محمد اليعلاوي - طبعة عام 1996 م تونس.

أن تفخر به كما افتخرت بالإمام ابن عرفة (ت 803 هـ / 1401 م) قبله، وبالشيخ الخضر بن الحسين (ت 1958) بعده. أما ابن عرفة فقد أوفاه زميلنا الراحل سعد غراب -رحمه الله- ما يستحق من العناية والدّرس، فخصص له -علاوة على أطروحته الضخمة (نشرت بتونس سنة 1992) - ما لا يقل عن ثماني دراسات وتحقيقات، وكذلك الشيخ الخضر، فإنه حظي بدراسات تونسية؛ ككتّيب الأستاذ أبي القاسم محمد كرو (تونس 1973 م)، ومشرقية كثيرة، وكأن ارتقاعه إلى مشيخة الأزهر بين سنتي (1952 - 1954) جعل منه شخصية مشرقية ومغربية على السواء، ثم إن سهر حفيده الأخ الأستاذ علي الرّضا الحسيني على نشر آثاره، يزيدنا تعرّفاً بهذا العالم المشترك، وبإنتاجه المتنوع". * كتاب "تاريخ المحاماة في تونس" (¬1) الأستاذ علي الرّضا الحسيني (التونسي): يقول المؤلف في كتابه (ص 299): "لا أظن أنه يوجد محام تونسي بلغت تجربته في باب "التحقيق" ما بلغته تجربة الأستاذ علي الرضا الحسيني، أو الأستاذ علي الرضا التونسي، إن الأستاذ علي الرضا الحسيني التونسي، تونسي الأصل، ولئن هو يتعاطى الآن المحاماة بدمشق العاصمة السورية الشقيقة، فهو ابن أخ العالم التونسي المهاجر محمد الخضر حسين، وينتسب إلى عائلة الحسين بن علي بن عمر الشريف من عائلة العمري بنفطة بالجريد التونسي بعد النزوح من "طولقة" في الواحات الجزائرية. ولئن اكتفى الأستاذ علي الرضا التونسي المحامي بتحقيق آثار الشيخ ¬

_ (¬1) للأستاذ المحامي الزميل محمد بن الأصفر، ويقع الكتاب في 413 صفحة، ويعتبر الكتاب موسوعة رائعة عن مهنة المحاماة والمحامين في تونس.

الخضر بن الحسين، فهو عمل كبير بحد ذاته، إذ قد بلغت آثار الشيخ 23 أثراً، وذلك فضلاً عن الرسائل، وعددها 15 رسالة. وقد توزعت على عدة اختصاصات: علوم القرآن - السيرة النبوية - التشريع الإسلامي - علم الكلام - التاريخ الإسلامي - اللغة العربية - الخواطر الإسلامية - الإصلاح - التراجم - الرحلات. وإن تحقيق آثار الشيخ الخضر حسين متعددة المشارب دلَّت على "موسوعية" ثقافة الأستاذ علي الرضا التونسي المحامي، وذلك ما يشرف سلك المحاماة.

الجزائر موقعها - سكانها - حالتها قبيل الاحتلال الفرنسي - وكيف وقع الاحتلال

الجزائر (¬1) موقعها - سكانها - حالتها قبيل الاحتلال الفرنسي - وكيف وقع الاحتلال يتناول شمال إفريقية أربعةَ أقطار: طرابلس، فتونس، فالجزائر، وتسمى: المغرب الأوسط، فالمغرب الأقصى، ويسمى الآن باسم مدينة كانت العاصمة الثانية لسلطان المغرب الأقصى، وهي: مراكش. * موقع الجزائر: الجزائر واقعة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، ويحدها شمالاً هذا البحر، وشرقاً المملكة التونسية، وغرباً المغرب الأقصى، وجنوباً الحد الذي يفصل بين صحراء الجزائر، وما يسمونه: إفريقية الفرنسية، وهو خط يمتد من أقصى جنوب طرابلس إلى جهة وادي "ريبودي أورو"، وقد وضع هذا الحد سنة 1909 م. * سكانها وعددهم: يسكن بلاد الجزائر تسعة ملايين نسمة، وينقسمون إلى ثلاثة أقسام: 1 - المسلمون، وعددهم 8.100.000 ثمانية ملايين ومئة ألف. 2 - الأوربيون، وعددهم 900.000، وكلهم من المسيحيين الذين ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزءان الخامس والسادس من المجلد الثاني والعشرين الصادر في جمادى الأولى 1369 هـ. مع ملاحظة أن المعلومات في المقال عن الجزائر عام 1949.

جاؤوا البلاد مستعمرين، أو موظفين، أو تجاراً، وأغلبهم من الفرنسيين، والإسبانيين، والإيطاليين. 3 - اليهود، وعددهم نحو مئتي ألف 200.000. وجميع الأوربيين واليهود مشمولون بالجنسية الفرنسية. والسكان الأصليون بالجزائر هم من عنصر البربر، وبالفتح الإسلامي دخل بلاد الجزائر أقوام من صميم العرب، واختلطوا بالبربر، وأخذت الروح العربية تسري مع الروح الإسلامية في قبائل البربر، إلى أن خرج المعز الصنهاجي بتونس عن طاعة الخليفة الفاطمي بمصر، فأرسل الفاطمي القبائل العربية من بني هلال، وبني سليم، وغيرهم إلى إفريقية؛ لينتقموا من الدولة الصنهاجية، ففتكوا بالدولة الصنهاجية، واجتاحوا دولة الحماديين بالجزائر. ولا يعنينا أن نذكر في هذا المقام ما كان لهجوم هذه القبائل من آثار منكرة، وإنما يزيد أن نقول: قد كان لنزول هذه القبائل ببلاد البربر أثر كبير في تقوية العنصر العربي، وأخذ البلاد مظهراً عربياً راسخاً. ثم نزح إلى الجزائر أيام الهجرة الأندلسية طوائفُ من عرب الأندلس، فازداد بهم العنصر العربي قوة. واستوطن في العهد الذي صارت فيه الجزائر ولاية عثمانية طوائفُ من الأتراك، وردوها بصفة شخصية، أو لأعمال حكومية، ولم تلبث أُسَر هؤلاء الأتراك أن استعربوا في عاداتهم ولغتهم، واندمجوا في الأمة الجزائرية، فسكان الجزائر المسلمون: عرب، أو بربر، أو أتراك مستعربون. * حالتها السياسية قبيل الاحتلال: قامت في الجزائر بعد الفتح الإسلامي حكومات تختص بها؛ كحكومة

بني حماد في "بجاية"، وحكومة بني عبد الوادي في تلمسان، ويشملها في بعض العهود سلطان الدولة العبيدية "الفاطمية" بتونس، وكانت في بعض العهود مشمولة برعاية دولة الموحدين في المغرب الأقصى، إلى أن مدّ إليها الإسبان أيديهم سنة 1509 م، واستولوا على "وهران"، و"بجاية" وغيرها، ثم جاء عروج بن يعقوب بربروس، وأخوه خير الدين بربروس من الروملي، فطردوا الأسبان، وصارت منذ ذلك العهد تابعة للدولة العثمانية، وجرت في أحكامها مجرى الولاية العثمانية، وفي عهد السلطان أحمد خان الثالث أحست حكومة الجزائر بشيء من القوة، فنحَتْ نحو الاستقلال في الأحكام، وأصبحت صلتها بالدولة العثمانية اسمية. وكان الوالي العام، وهو تركي يدعى: الباشا، أو الداي، وكانت الحكومة تتمتع باستقلال داخلي تحت السيادة الاسمية للخليفة العثماني، والأتراك بالجزائر هم الذين ينتخبون الوالي العام من أحد قدماء الجنود، ثم يرفعون تعيينهم له إلى السلطان بالآستانة، فيوافق على ذلك. وتنقسم الجزائر إلى ثلاث مقاطعات: مقاطعة قُسَنطينة، ومقاطعة المديَّة، ومقاطعة وَهْران، وللوالي العام في كل مقاطعة نائب يدعى: الباي، وكل باي من هؤلاء يتصرف في مقاطعته تصرف المستقل، وتكاد علاقته بالوالي العام (الباشا) لا تتجاوز الجندية، ومال الجبايات المفروض على المقاطعة دفعُه للخزينة العامة. * حالتها الثقافية: لم يكن بالجزائر لذلك العهد معهد علمي؛ كجامع الزيتونة في تونس، أو جامع القرويين في فاس، ولا مدارس خاصة للتعليم، وإنما تدرس بها علوم

الدين والعربية وملحقاتها؛ من نحو: المنطق، والحساب، والفلك في المساجد، وزوايا (رياضيات) مشايخ الطرق، وهي منتشرة في طول البلاد وعرضها، وهذه الطرق لا تخلو من بدع ينكرها علماء الشريعة، ولكن زواياها قامت بتحفيظ القرآن الكريم، ودراسة العلوم الدينية والعربية في وقت لم يوجد فيه ما يقوم مقامها في ذلك القطر من المدارس والمعاهد العلمية. وقد يرحل بعض طلاب العلم الجزائريين إلى الجامع الأزهر، أو جامع الزيتونة، أو جامع القرويين، ثم يعودون إلى الجزائر، ويعلِّمون ما تلقوه في هذه الجامعات من علوم. وقد اطلعنا على مؤلفات في العلوم الدينية أو العربية لجماعة من علماء ذلك العصر، فألفيناها تدل على اطلاع ورسوخ في العلم. * كيف وقع احتلال فرنسا للجزائر؟ كان آخر الولاة الأتراك بالجزائر حسين باشا، تسلم ولايتها في 22 فبراير سنة 1818 م، وكان ذا شهامة وعزم، فأقبل على تنظيم الجندية، وتقوية الأسطول، وأخذ يُعِدُّ القوة ما استطاع، وفي عهده هجمت فرنسا على الجزائر، وتمّ لها احتلالها من بعد، أما الأمر الذي اتكأت عليه فرنسا في هذا الهجوم، فهو أنه كانت في الجزائر شركة تدعى: شركة باكري وبوشناق (اليهوديَّين)، وكان لهما معاملات جارية مع فرنسا، حتى صار للشركة على فرنسا من الديون سبعة ملايين من الفرنكات، وكان على هذه الشركة ديون كثيرة، بعضها لخزينة الحكومة الجزائرية، وبعضها لأفراد من التجار، فدفعت فرنسا لباكري وبوشناق من دَينهما المشار إليه 4.500.000، وأبقت 2.500.000 فرنك في خزينة الودائع إلى أن تنتهي قضية الشركة مع غرمائها، وأدرك حسين باشا من صنيع

فرنسا ضياعَ حق الخزينة الجزائرية، فبعث إلى ملك فرنسا رسالة في هذا الشأن، فلم يرد إليه الملك جواباً، وكانت فرنسا تترقب فرصة لوجود خلاف بينها وبين حكومة الجزائر؛ لتتذرع به إلى إعلان الحرب عليها. قال (مسيو هنري فارو) في كتابه "التاريخ العام للجزائر" ما نصه: كانت حكومة فرنسا قد عزمت على أن تضع حداً للقرصنة الجزائرية، وأرادت أن تغتنم فرصة مغيب أكبر السفن الحربية الجزائرية في الشرق؛ كي تجد دعوى تبرر إعلان الحرب على الجزائر، فأرسلت تعليمات خاصة إلى قنصلها تأمره بأن يغتنم أي فرصة لإيجاد الخلاف النهائي. وكان حسين باشا يخاطب قنصل فرنسا (الجنرال دوفال) في شأن ما كتب به إلى ملك فرنسا من حق الخزينة الجزائرية في أموال (باكري وبوشناق)، فلا يجد عنده الجواب المرضي. وفي أول يوم من شوال سنة 1243 هـ دخل القنصل (دوفال) على الباشا مهنئاً بعيد الفطر، فسأله عن عدم رد الملك جواباً عن رسالته، فأجابه (دوفال) في حدَّة: ليس من عادة الملك أن يتنازل لإجابة من هو دونه، فاغتاظ الباشا من هذه الإهانة الخارجة عن حدود اللياقة، وكانت في يده مروحة من ريش النعام، فصاح بالقنصل مشيراً بالمروحة: "أخرج من هنا"، ولمست أطرافُ المروحة وجه (دوفال)، فخرج القنصل، وأسرع بإخبار ملك فرنسا بما وقع، فجاءه الأمر بمغادرة الجزائر، فغادرها هو ومن معه من الفرنسيين المقيمين في الجزائر. أجمعت فرنسا على محاربة الجزائر، وسيّرت جيشاً بقيادة الأميرال (دوبري) في 21 ذي الحجة سنة (1245 هـ، 19 يونيه سنة 1830 م)، ونزل

بمرسى قريبة من العاصمة تدعى: (سيدي فرج). واتصل الخبر بحسين باشا، وتلقاهم بجيوش كانت عاقبتهم - بعد دفاع عنيف - الفشل، وتقدم الفرنسيون إلى العاصمة، فطلب الباشا الأمان لنفسه وأهله وجميع الأهالي، فأجابه قائد الجيوش الفرنسية على شروط تضمنتها معاهدة كتبها القائد الفرنسي، وأرسلها إلى الباشا للتوقيع عليها، ولم يسعه إلا التسليم، فوضع على المعاهدة توقيعه، ونص المعاهدة: 1 - على الساعة العاشرة من صباح يوم 5 يوليه، يسلّم إلى الجند الفرنسي حصن القصبة، وسائر الحصون الأخرى التابعة للجزائر، ومرسى هذه المدينة. 2 - يتعهد القائد العام للجند الإفرنسي نحو صاحب السمو داي الجزائر، بأن يترك له حريته، وكل ثروته الخاصة. 3 - يستطيع الداي بكل حريته، أن يسافر صحبة عائلته وأمواله إلى المكان الذي يختاره، وما دام مستقراً في الجزائر، فإنه يكون تحت حماية القائد العام للجند الإفرنسي، وتقوم فرقة من الجند الإفرنسي على حراسته وحراسة عائلته. 4 - كل الجنود الأتراك التابعين أوجاق الجزائر يتمتعون بنفس الحقوق المقررة في الفصول السابقة. 5 - إقامة الشعائر الدينية المحمدية تكون حرّة، ولا يقع أي مساس بحرية السكان من مختلف الطبقات، ولا بدينهم، ولا بأملاكهم، ولا بتجارتهم وصناعتهم، وتحترم نساؤهم، والقائد العام يتعهد بذلك عهد الشرف. 6 - يقع تبادل هذه الوثيقة ممضاة يوم 5 يونية قبل الساعة العاشرة

صباحاً، وفي الحال تتسلم الجنود الفرنسية القصبة، وقلاعاً أخرى. وبعد أن استقرت العساكر بالعاصمة، انتقل حسين باشا وأتباعه إلى "نابلي"، ثم إلى "الإسكندرية"، ولما دخلها، احتفى به الخديوي محمد علي باشا، وتوفي هناك سنة 1254 هـ. * نهوض الوطنيين لمحاربة فرنسا: بعد احتلال فرنسا لعاصمة الجزائر، جرت بينها وبين الجزائريين حروب في مواطن خارج العاصمة، فأحياناً ينتصر الجزائريون، وأحياناً ينتصر الفرنسيون، وفي أثناء هذه الحروب تداعى العلماء والأعيان للنظر في اختيار شخص توفرت فيه شروط الإمارة؛ ليبايعوه، فيجمع كلمتهم، وينهض بهم إلى دفاع العدو عن أوطانهم، فأجمع رأيهم على بيعة السيد محيي الدين عبد القادر المختاري، وكان معروفاً بالعلم والصلاح، وكانت له زاوية (رباط) لطلبة العلم وقراءة القرآن، فجاؤوه، وعرضوا عليه البيعة، فقبل بيعتهم على الجهاد، وجرت بينه وبين حاكم "وهران" الجنرال (يوبه) حروب ظهر فيها إقدام ابنه الأمير عبد القادر، وحسن سياسته. وتقدم عند هذا العلماءُ ورؤساء القبائل إلى السيد محيي الدين، وألزموه بقبول بيعة الإمارة له، أو لولده عبد القادر، فوافق على أن تكون الإمارة لابنه عبد القادر، فبايعوه بذلك، وتمت البيعة في (3 رجب سنة 1248 هـ - 27 نوفمبر سنة 1832 م)، وكانت بلدة "معسكر" حاضرة الإمارة، فنهض الأمير لمحاربة الفرنسيين، واستمر في جهاده نحو 15 سنة، كانت له فيها انتصارات باهرة، وأخيراً قوي جانب فرنسا، وأحس الأمير بالضعف عن التمادي في الحرب، فجمع أولي الأمر من خاصته، وتداولوا الأمر بينهم، وقرروا التسليم للفرنسيين، وبعث الأمير إلى الجنرال

(لاموريس) حاكم ولاية "وهران" يخبره بقرار التسليم، وسار الأمير إلى العاصمة، وسلّم سيفه إلى (الدوك درمال) حاكم الجزائر في 22 ديسمبر 1847 م، وكانت عاقبته كما هو معروف في تاريخ حياته، أن صار إلى دمشق، وبقي بها إلى أن توفي ليلة (19 رجب سنة 1300 هـ - سنة 1883 م)، عن 76 عاماً -رحمه الله-، وجازاه عن جهاده خيراً-. وتتابع بعد هذا نهوض الوطنيين في وجه فرنسا؛ كوقائع القبائل وأولاد سيدي الشيخ، والمقراني، وأبي زيان، وابن الحداد، وغيرهم، وتستمر هذه الحروب في عنف، ويؤول أمرها إلى تغلب الفرنسيين، وفي سنة 1848 م أعلن المجلس الوطني الفرنسي أن الجزائر أرض فرنسية، ولله الأمر من قبل ومن بعد. محمّد الخضر حسين

هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام

هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام (¬1) شعر أبي تمام مملوء بالمعاني البديعة، وهو معرض استعارات مليحة، وكنايات لطيفة، وفنون من محاسن البيان، أبدع الشاعر صنعها، وأحكمَ وضعها، فما أشبه ديوان شعره بسماء تألقت كواكبها، أو روضة أينعت أزهارها. يطالعه الغريب، فيسلو أوطانه، ويعلل به الكئيب، فينسى أشجانه، ولو كان الشعر حلية، لما كان شعر أبي تمام إلا قلائد في نحور الحسان. ولعلك تعجز أن تجد شاعراً يسبق في كل حلبة، ويصيب في كل رَمْية، فلا عجب أن تصادف في شعر أبي تمام ما ينبو عنه ذوقك السليم، أو ما لا تصل إلى معناه إلا بعد تأمّل طويل. ولارتفاع شعر أبي تمام إلى ذروة البراعة، وانحرافه في بعض الأحيان عن سنن الفصاحة، عُني به طائفة من الأدباء، فتناولوه بالشرح أو النقد، وما هم إلا كغيرهم كان الكتاب يصيبون ويخطئون، ويكفي الكاتبَ فضلاً أن تكون ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد السابع الصادر في رجب 1353 هـ. وتحت يدي صورة عن النص المخطوط بيد الإمام زودني بها الأستاذ الباحث محمد عبد الله آل الشيخ من الرياض.

إصابته أكثر من خطئه، ويكفيه إخلاصاً أن لا يعيب القول، وهو يعلم أنه سليم، أو يصفه بالصحة، وهو يعلم أنه سقيم. أقول هذا وبين يدي كتاب يشتمل على ما لأبي تمام من أخبار، ويحتوي على لُمَع من شعره المختار، وإيراد ما يتعلق بذلك من الآثار. ألف هذا الكتاب الأديبُ الفاضل المرحوم يوسف البديعي قاضي الموصل المتوفى سنة 1013 هـ، وسمّاه: "هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام"، فتحدث فيه عن حياة أبي تمام، وما يتصل بها من نحو تراجم الرجال الذين تعرض هذا الشاعر لمديحهم، وسلك في حديثه هذه أحسن الطرق وأغزرها فائدة، يشرح ما يقصده الشاعر من المعاني، ويوضح ما يشير إليه من الحوادث. وقد عُني بالنظر في هذا الكتاب حضرة الأديب الكامل الأستاذ محمود أفندي مصطفى أستاذ الآداب بكلية اللغة العربية من الجامعة الأزهرية، وعلّق عليه حواشيَ تعرَّض فيها للتعريف بالرجال الذين ورد ذكرهم في هذا الكتاب عرضاً، وأضاف إلى هذا: شرح كثير مما ورد في الكتاب من شعر أبي تمام. وطريقتُه في هذه الحواشي: أن يبين المعاني الأصلية للكلمات، وما خرجت إليه من مجاز أو كناية، ويصور المعنى الذي يفهم من النظم بأجود عبارة، ثم يتناوله بالنقد. فيطروه إن رآه أحسن الرماية، ويناقشه إن رآه ارتكب ما لا يلائم الذوق، أو ما لا تحتمله قوانين الفصاحة. ولم يَفُته أن ينقل من آراء المتقدمين الذين كتبوا في شعر أبي تمام؛ أمثال: الأسدي، ويتعقب هذه الآراء بالاستصواب تارة، والاستهجان أخرى. وقد خرج كتاب "هبة الأيام" مع هذه الحواشي في طبع جميل على ورق جيد، فكان الكتاب وحواشيه فتحاً لطريق يصل منه عشاق شعر أبي تمام

إلى ما تهوى أنفسهم، وبسطاً لأشعة تجعل كثيراً من معانيه الجامحة تحت أنظارهم. فعلى البديعي السلامُ والرحمة، وللأستاذ محمود أفندي مصطفى الشكرُ على ما بذله من همة، وأسداه إلى اللغة العربية من نعمة. محمّد الخضر حسين

صوت الحق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صوت الحق (¬1) من الديوان الجديد لفضيلة الأستاذ رئيس التحرير أقْبَلَ الصُّبْح بوجهٍ طَلِقِ ... وتوارى الليلُ خلْفَ الأُفُقِ فنفضتُ النَّومَ عَنْ جفني عسى ... أقتني العِبْرةَ مما ألتقي بادَهَتْني غَيْضَةٌ (¬2) قائمةٌ ... خِلْتُها باقيةً مِنْ غَسَقِ خُضْتُ في ظلمائها إلا كُوى ... بين لُدْنٍ تنحني أو ترتقي هزَّزَتْ أغصانَها الريحُ كما ... هزَّ كفٌّ وتراً في نَسَقِ رُبَّ صوتٍ هبَّ في الغابِ ولمْ ... يَدْرِ مغزاه أسيرُ الوَرَقِ مِنْ حفيفِ الشجر السامي الذُّرى ... وخريرِ السلسل المُنْدَفِقِ وهديلٍ لحمام مُطْرِبٍ ... ونُعاقٍ لغرابٍ مُقْلقِ سرتُ في الدَّوْح بسمعٍ مُرهَفٍ ... لهتافٍ وفؤادٍ ذَلِقِ فإذا صوتٌ بديعُ الوَقْعِ لمْ ... يَكُ بالهمْسِ ولا بالصَّعِقِ ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزءان الحادي عشر والثاني عشر من المجلد الحادي والعشرين، الصادران في جمادى الأولى والآخرة 1368 هـ. قصيدة لم تنشر في ديوانه "خواطر الحياة". (¬2) بادهتني: فاجأتني الغيضة: مجتمع الشجر.

ليسَ باللَّحْنِ الذي يوقِعُه ... ناقرُ العودِ وحادي الأَيْنُقِ أبهجَ الروحَ كما يكسو النَّدَى ... ذابلَ الأزهارِ أبهى رونَقِ راعَني الصوتُ بصمتٍ والأسى ... حالَ ما بين الكَرى والحَدقِ ضربَتْ بين ضلوعي غمرةٌ ... بجناحيها كغيمٍ مُطْبِقِ قمتُ أسعى دائباً أنشدُه ... في حمى المثري وكوخ المُمْلِقِ أُوجسُ الخيفةَ أنْ يَفجَعني ... صَوتُ بوُمٍ بعدَه أو عَقْعَقِ (¬1) حام بي اليأسُ فعرَّجْتُ على ... هَضْبَةٍ شَمَّاءَ قَبْلَ الفَلَقِ لُذْتُ بالسَّفْحِ وحيداً أبتغي ... سِنَةً أُشْفَى بها من أَرَقي فإذا الصوتُ تهاوى من عُلاً ... كشعاعِ القمَرِ المتَّسِقِ لبسَ النفسَ بعهدٍ خطَّه ... قلمُ الغيبِ بأجلى مَنْطِقِ هو صوتُ الحقِّ من لم يُرْعِهِ ... سمْعَ مِطواعٍ يَعِشْ في رَهقِ (¬2) ¬

_ (¬1) طائر يُتشاءم به كالبوم. (¬2) الرهق: السفه، وركوب الشر، وانتهاك المحارم.

تزويد أحد الشبان التونسيين بموعظة

تزويد أحد الشبان التونسيين بموعظة (¬1) سرْ في هذه الحياة، واليقظةُ نورُ عينيك، والحزمُ عن يمينك، والتأني في الأمور عن يسارك، فإن من غلبت غفلته على يقظته، كان العطب أقربَ إليه من السلامة، ومن فاته الحزم، ذهب شطر حياته سُدى، ومن يقوم على الأمور قبل أن يتدبرها، لا يأمن أن يقع في غير رشد، ويعود بغير حمد، وإن رُزقت الاعتمادَ على الله من صميم قلبك، وَفَّقك لأن تكون يقظاً حازماً بصيراً بالعواقب. محمّد الخضر حسين ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزءان الحادي عشر والثاني عشر من المجلد الحادي والعشرين، الصادران في جمادي الأولى والآخرة 1368 هـ.

مرقاة العلا

مِرْقاة العُلا (¬1) من الديوان الجديد لفضيلة الأستاذ رئيس التحرير نبتَتْ نفْسُكَ في وادي هُدى ... وشَفَتْ مِنْ مَنْهَل العلْمِ صَداها واكتَستْ بالحمدِ أسنى حلَلٍ ... أورثَتْها في الورى عِزّاً وجَاها تِلكَ مِرْقاةُ العلا والنفسُ إنْ ... أحرزَتْها بلغَتْ أقصى مُناها أتراها أمِنَتْ عاصفةً ... من هوى تطفئ بالعَصْف سناها؟ يصرِفُ اللهُ الهوى عَنْ أنفُسٍ ... جعلَتْ طاعتَه قُطْبَ رَحاها محمّد الخضر حسين ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الأجزاء من السابع إلى العاشر من المجلد الحادي والعشرين، الصادرة في محرم وصفر والربيعين 1368 هـ.

إجازة الإمام محمد الخضر حسين للعلامة الشيخ حامد التقي الدمشقي

إجازة الإمام محمد الخضر حسين للعلامة الشيخ حامد التقي الدمشقي بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ نحمدك يا من استنارت البصائر بطوالع هدايته، وتنافس الحكماء البالغون في مجال عبادته، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد أكمل الخليقة، وعلى آله وصحبه الذين أخذوا في سياسة الأمم ودعوتها إلى الخير بأقوم طريقة. أما بعد: فإن العالم الكامل صاحبنا الشيخ حامد بن الشيخ أديب، قد تنازل به حسنُ ظنه إلى أن التمس مني أن أكون في قَبيل من كتبوا له بالإجازة. وكان -حفظه الله تعالى- من شاركنا بالتفاهم في عرض دروس "صحيح الإمام مسلم"، وكتاب "المستصفى" للغزالي، و"مغني اللبيب"، و"بداية المجتهد"، و"الكامل" للمبرّد، زيادة على المذاكرات والمسامرات العلمية المملوءة بالمباحث الدالَّة على سموِّ مداركه، وصفاء ذوقه، وشرف همته، حتى اتسع أملنا -بعد أن تضاءل- بأن الله سيقيم لهذه الشريعة المباركة رجالاً يذودون عن حقائقها ما يغشى من البدع، ويمزِّقون بحجبها الدامغة ظلماتِ الإلحاد.

فلم يسعني -بعد الإحجام مدة- إلا أن أساعد على ما اقترحه علىَّ مرة بعد أخرى، فأقول: قد أجزت للعالم المستقيم الشيخ حامد المذكور ما ثبت إجازته لي في شعبَتي المعقول والمنقول، والفروع والأصول، كما أجاز لي بذلك الأستاذان الكبيران: الشيخ محمد بن الشيخ المفتي المالكي بحاضرة تونس، وخالنا الشيخ محمد المكي بن عزّوز، وغيرهما. وأوصيه كما أوصاني أولئك الأساتيذ، بأن يجعل تقوى الله تعالى لباسه في السر والعلن؛ فإن التقوى ملاك السعادة كلها، وأذكّره بأن من تعلم العلم لفضيلته، لم يوحشه كساده، وأن التعليم الذي تسري في مسالكه روح الإخلاص، لابدَّ أن يجتنى منه ثمرة طيبة. وفي أملي أن لا ينساني من صالح دعواته. والحمد لله رب العالمين كتبه راجي عفو ربه محمد الخضر حسين التونسي في 16 جمادى الثانية 1336 هـ

الشيخ محمد الخضر حسين

الشيخ محمد الخضر حسين (¬1) شاعت دعوة الإصلاح، وذاعت بين المفكرين بتونس، منذ ارتبطت النخبة الثقافية الناهضة في سيرتها نحو المثل العليا لحركاتها، بالحركة الإسلامية العالمية للإصلاح الديني والفكري: حركة العروة الوثقى. وكان انتشار هذه الدعوة الإصلاحية من طريق التنويه، والانتماء المتغالي، والدعاية المتعصبة؛ فكان من الضروري أن يُحدث انتشارُ الدعوة من تلك الطرق ردّاً إنكارياً، ومقاومة خانقة، وإعراضاً نافراً، لا سيما وقد جاءت الدعوة الإصلاحية تتناول أوضاعاً مما حسنه الإلف، وخلع عليه قدمُ العهد حُللَ الوقار والاعتبار. وإن الدعوة الإصلاحية قد دخلت إلى البلاد التونسية من أول أمرها تجرّ وراءها عاصفة من الإنكار والمقاومة، كانت قد قامت حولها في المشرق، فيما جندت القوات العديدة المتباينة بإستانبول والقاهرة وغيرهما من مدمرات لمعاقل الدعوة، وسدودٍ في مسالكها، فأحدث بلوغُ الدعوة الإصلاحية إلى تونس اضطراباً في الأفكار، ولّد انقساماً، وتناحراً، وتنابزاً بالجهل وبالكفر، واعترت الألبابَ دهشةٌ من جرّاء ذلك الاضطراب، أخذ بها الطلبة والمتتبعون ¬

_ (¬1) كتاب "أركان النهضة الأدبية بتونس" للعلامة البحر محمد الفاضل بن عاشور.

لنشريات الدعوة وكتبِها من ذوي المشاركة الثقافية المنزلين دون منازل العلماء، في حال أن العلماء وأصحابَ الأقلام كادت أن تتقسمهم الفتنة بين موقفي الإفراط في مناصرة الدعوة، والتفريط فيها. فكانت هذه الحالة من الاضطراب والحيرة مقتضية ظهورَ شهاب ثاقب من شهب العلم والأدب يهدي الحائرين، ويؤمن المضطرين، إذ يتناول قضية الإصلاح، فيعرضها على معيار البحث العلمي الرصين، والنقد المنطقي النزيه، اللذين يسموان بها عن معركة المتبارزين من المفرّطين والمفرطين. فكان ذلك الشهاب الثاقب الذي متَّن أركان النهضة الإصلاحية هو رجل الهداية، وصاحب السعادة، الشيخ الخضر حسين؛ الذي لو كان للنهضة العلمية والأدبية بتونس في القرن الرابع عشر أن تتمثل إنساناً ناطقاً، لما كانت إلا إيّاه، وهو الذي طافت في شخصه أرجاء البلاد الشرقية، حتى احتلت في عِطْفيه أسمى مقام علمي في الشرق الإسلامي، وهو مقام شيخ الأزهر الشريف. وردَ الشيخ الخضر على العاصمة التونسية من بلاد الجريد، لا يحدو به وبأبيه وبأسرته كافةً إلا تعلقُ الفكر بجامع الزيتونة الأعظم، وهوى الفوز بما تزخر به العاصمة التونسية من أمجاد العلم، ومباهج الأدب. فدخل مدينة تونس 1304 هـ وهو يافع ابن اثني عشر عاماً، وانقطع إلى طلب العلم بجامع الزيتونة؛ فانغمس في غمار الحياة الفكرية والأدبية، لا يشعر بذاته، ولا يأنس بحياته، إلا في ذلك الأُفُق المشرق المنعش. وظهرت قيمته الفكرية، وبرزت موهبته الأدبية، فأصبح مشاراً إليه بالامتياز بين أقرانه، وزاده خلقُه الزكي جلالاً، وطبعُه الهادئ حباً واعتباراً،

ومنذ انتصب لإلقاء الدروس، قبل ولايته التدريس بصفة رسمية، عظُمت مكانته في نفوس الطلبة، وذاع صيته في العلم الصحيح، والفكر الحر، فأصبح قائداً من قادة الفكر ذوي النفوذ البليغ في نفوس الشباب، واشتد تعصب الطلبة الزيتونيين له، وعظم اعتدادهم به. وكانت الحركة الفكرية يومئذ متطلعة إلى بروز نشرة دورية تتناول ما كان يدور في الأفكار والمجادلات من بحوث ونقود، ولم يكن قد صدر قبل ذلك في البلاد التونسية من الدوريات غير الصحف، فتطلعوا إلى إيجاد مجلة، فكان مترجَمُنا العظيم هو الذي انتدب ليسدد ذلك العوز، فأصدر أول مجلة عربية في البلاد التونسية، وهي مجلة "السعادة العظمى" التي صدرت في شهر المحرم سنة (1322 هـ - 1904 م). وبقدر ما أحاط بمجلة "السعادة العظمى" من القبول الحسن والتأييد، وما قابلتها به الصحف من ترحيب، وما انثال عليها من التقريظ بالرسائل والقصائد من طرف رجال العلم وطلاب الشباب، فإن كثيرين آخرين قد ساءهم مطلعها، وآلمهم ما بدت به من نزعة إلى حرية النقد، ودعوة إلى احترام التفكير، وتأييد لفتح باب الاجتهاد، بمناداة صاحبها في المقال الأول الذي قدم به مجلته بقوله: "إن دعوى أن باب الاجتهاد قد أُغلق، هي دعوى لا تُسمع إلا إذا أيدها دليل يوازن في قوته الدليلَ الذي فتح به باب الاجتهاد أولاً"، فثارت الثائرة في وجهه ووجه مجلته من جلّ هذه المقالة وأمثالها، وقامت هيئة النظارة العلمية بحامع الزيتونة الأعظم تعارض في صدور المجلة، وتطالب الحكومة بتعطيلها؛ وكانت بذلك مجلبة لكثير مما نال صاحبها من الاضطهاد طيلة مقامه بتونس.

وبرزت في هذه المجلة بصفة واضحة: قوةُ صاحبها في فني النثر الفني والعلمي، كما تجلّى فيها اتجاهه إلى تجديد أغراض الشعر بصوغ القصائد في المعاني الاجتماعية والحكمية، والإشادة بالمجد، والتوجيه إلى مسالك النهضة والتحرير والتجدد. واتجهت المساعي نحو مترجَمنا من الجمعيات الرسمية وغير الرسمية، تنتخبه للاشتراك في الأعمال الهامة، فانضم إلى اللجنة العلمية التي قامت (بالتعريف بكتب خزائن جامع الزيتونة الأعظم)، واشترك في (لجنة تدوين التاريخ التونسي)، وسمي مدرساً بالجامع الأعظم بالمناظرة، وانتخب للتدريس بالمدرسة الصادقية، ودعا إلى إحياء الآداب العربية بالدراسة في قصيدة بديعة رفعها إلى النظارة العلمية، وكان له درس عظيم الصدى لكتاب "المثل السائر" لابن الأثير شُدَّت الرحال لشهوده بجامع الزيتونة. وجاء دور المحاضرات العلمية على منابر الجمعيات الثقافية؛ مثل: الخلدونية، وقدماء الصادقية، فكان من السابقين الأولين من مبرزي ذلك الميدان، وقام بالمحاضرات البديعة الرنّانة؛ مثال: محاضرتيه الذائعتين: "الحرية في الإسلام"، و"حياة اللغة العربية"، وبلغت فكرة إحياء الثقافة العربية وتمكنها من وسائل الانتشار والسيادة مبلغها الأعلى، واندفع طلبة الزيتونة تهزّهم الحماسة في سبيل إصلاح تعليمهم، فتأسست -تحت إشراف المترجَم وباعتنائه، وتوجيهه- أولُ منظمة طالبية بتونس باسم (جمعية تلامذة جامع الزيتونة) سنة (1324 هـ - 1907 م). وبذلك بدأ الشيخ الخضر يُستهدف لما استُهدف له المصلحون العاملون من قبله، من آثار المكائد والسعايات والدسائس، فأصبحت كل حركة تبدو

من الطلبة محمولة على حسابه، ونظرَتْه أعين المسؤولين شزراً عندما أعلن طلبة الزيتونة الإضراب عن الدروس سنة (1328 هـ - 1915 م) باعتبار كونه المسؤول عن ذلك التحرر. وبدأت مظاهر النقمة تنتابه، فناله في المناظرات التي شارك فيها للإحراز على منصب التدريس من الطبقة الأولى، اضطهاداتٌ أبعدته اصطناعاً عن الفوز في المناظرة، على ما أبدى من الكفاءة والتفوق، فزادت بتلك الاضطهادات منزلته ارتفاعاً، حتى أصبحت تلك الأحداث مادة للون من التفكير، وغذاء لصنف من الأدب لم تزل آثارهما حية إلى اليوم. وأحسَّ المترجَم بتضايق عظيم يرتفع على نسبة ما يرتفع إقبال أنصاره عليه، ومفاداتهم في تعظيمه وإكباره، فترتفع بذلك نقمة أضداده، وتكالبُهم على أذاه والوقيعة فيه. فدفع به ذلك التضايقُ إلى أن يطلب مجالاً لحياته الفكرية والعلمية خارج البلاد التونسية، لا سيما وهو من أنصار الجامعة الإسلامية الكبرى الذين يؤمنون بخدم الملة الإسلامية خدمة لا تضيق بها حدود الأوطان. فسافر أولاً إلى مصر، وسورية، وتركيا سنة (1330 هـ - 1912 م)، وكتب عن ذلك رحلة بديعة نشرت تباعاً في جريدة "الزهرة" طافحة باعتباراته وأفكاره، ومقابساته ومساجلاته، ومقاطيع من شعره. ثم عاد إلى الرحلة في العام الموالي، فكانت رحلته التي لم يقدر للبلاد التونسية أن تفوز به بعدها. وقصد في رحلته سورية، وانتصب للتدريس بدمشق، وتخرجت عليه هنالك نخبة رجال العلم والفكر والأدب، الذين لم تزل ذكراه بينهم جليلة

مرعية إلى اليوم، وسافر من سورية إلى تركيا وألمانيا وبلاد البلقان، ثم عاد إلى سورية، فلم يستقر بها حتى فارقها، واستقر نهائياً بمصر. ونشر من كتبه ومقالاته، وألقى من دروسه ومحاضراته في الأقطار التي تنقل بينها، ما رسخت به سمعته العلمية؛ فاعتبر قطباً من أقطاب العلم في البلاد الإسلامية مشاع الانتساب إلى دار الإسلام كلها. وأسّس بمصر (جمعية الهداية الإسلامية)، وأشرف على إصدار مجلتها الراقية، وتولى التدريس بالجامعة الأزهرية، ثم دخل في هيئة كبار العلماء، وانتخب في عهد حكومة الثورة شيخاً للأزهر الشريف سنة (73 - 52)، فبلغ بذلك قمة المجد العلمي في عناوينه الرسمية. وقد كان قبل ذلك من الأعضاء الأولين في المجمع العلمي العربي بدمشق، ومن الأعضاء الذين تأسس بهم مجمع اللغة العربية في مصر، وكان في كلٍّ من المجمعين ركناً من أركان العلم والعمل؛ بحيث إن معهده الأصلي، وهو جامع الزيتونة، والبلاد التي نشأ بها، وهي البلاد التونسية، يعتدان بذكر طيب، وفخر موثَّلٍ فازا به في أقطار الإسلام والعروبة، ما كان لذلك القطر ولا لذلك المعهد أن ينالاه، لو لم ينجبا هذا العبقري اللامع الذي رفع لهما الفخار في الخالدين. * سنوات مع الشيخ الخضر (¬1): من الإنصاف أن أقرر -بادئ ذي بدء-: المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين علم من أعلام الفكر الديني الأفذاذ الذين أضافوا إلى صفحاته المشرقة ¬

_ (¬1) مجلة "الهلال"، القاهرة، السنة الثالثة والتسعون، (29 جمادى الآخرة 1404 هـ أول أفريل 1984 م).

أمجاداً مزدانة بالعلم والفضل والكفاح. وقبل أن يسبقني يراعي إلى هذه الأمجاد، أود أن أنبه إلى أني لست فضولياً فأكتب عن المشاهير حباً في الاستبصار، ولكنها مشيئة الله التي قضت بأن كون قريباً من الشيخ محمد الخضر حسين، فقد كنت سكرتيراً عاماً لجمعية (الهداية الإسلامية) بالقاهرة منذ عام 1949 م، وكان فضيلة الإمام رئيساً لهذه الجمعية، كما كنت سكرتيراً لتحرير مجلة "الهداية الإسلامية"، ثم مديراً لتحريرها، وكان -رحمه الله- رئيساً للتحرير. من أجل ذلك عرفته، وارتبطت به ارتباطاً وثيقاً، لا يختلف في مضمونه ومبناه عن ارتباط الابن بأبيه. كذلك فإنه يحق لي أن أقدمه للقراء في كلمة موجزة. ولد الشيخ محمد خضر حسين سنة 1873 م في قرية "نفطة" من أعمال تونس؛ وتربّى فيها، حتى إذا اشتد عوده، انتقل إلى مدينة تونس؛ حيث التحق سنة 1899 م بجامع الزيتونة، وتلقى العلم فيه على كبار شيوخه. وتقول "الموسوعة العربية الميسرة" التي تصدرها دار القلم: إن المرحوم الإمام أنشأ أول مجلة ظهرت في المغرب سميت بـ: "السعادة العظمى". لكن الإمام لم يمكث طويلاً في المغرب، فقد رحل إلى دمشق، وأقام بها، واشتغل مدرساً بالمدرسة السلطانية، ثم انتقل إلى الآستانة؛ حيث أسند إليه تحرير القسم العربي بوزارة الحربية. وعندما احتل الحلفاء الآستانة؛ هرب منها إلى ألمانيا، ثم جاء إلى مصر سنة 1918 م، فأقام بها، واشترك في تأسيس (جمعية الشبان المسلمين)، ورأس تحرير مجلة "الهداية الإسلامية"، ثم رأس تحرير مجلة "لواء الإسلام"، كما اشتغل بالتدريس في الجامع الأزهر،

وأصبح شيخاً له سنة 1952 م، وعيّن بالمجمع اللغوي منذ إنشائه. وكان -رحمه الله- مثلاً حياً للخلق الحسن ... فما سمعته قطّ ينطق بشتم أو سباب، أو بلفظ بذيء، حتى في أشد حالات غضبه، كان عفّ اللسان، وقليلاً ما كان يغضب. وكان غضبه لما يغضب الله ورسوله. كان لا يخوض في سيرة أحد الناس، وإذا سمع أحداً يغتاب غيره، يبتعد عنه، ويترك له المكان. كان إذا تكلم، خفض من صوته، وإذا مشى، كان من الذين يمشون على الأرض هَوْناً، حتى لا نكاد نسمع له وَقع أقدام. وإذا خاطبه إنسان، مهما قل شأنه، أنصت لكلامه حتى يفرغ المتكلم من كلامه. وكان -رحمه الله- يعتزّ بكرامته، فقد عاش ولم يطلب مخلوقاً في رجاء قط. وأذكر في ذلك واقعتين طريفتين: الأولى: تتلخص في أن الجمعية -وقتذاك- اعتادت أن تستضيف كل أسبوع محاضراً ليلقي محاضرة دينية في الجمعية، وكان "الأهرام" يعلن عن هذه المحاضرات، لكنه بعد فترة كفَّ "الأهرام" عن الإعلان، لذلك طلبت من المرحوم الإمام أن يتصل تليفونياً بصديق للجمعية في الأهرام؛ ليتوسط عند المختصين بالإعلان في الأهرام؛ من أجل الإعلان عن محاضرات الجمعية، لكن الإمام رفض. فلما قلت له: أعطني بطاقة منك لأقدمها لهذا الصديق، وسأشرح له الموضوع. لكنه رفض -أيضاً-. فقلت له: سأذهب إلى هذا الصديق، وأخبره بأن فضيلة الإمام كلّفني بالاتصال بك من أجل الإعلان عن محاضرات الجمعية. لكن الإمام ردّ على الفور قائلاً: "لا تقل إني كلفتك بشيء عنده؛ لأن هذا يعتبر رجاء، ولقد عشت سنين طويلة لم

أرجُ مخلوقاً، ولن أسمح للساني أن يلفظ بطلب أو رجاء ما دمت حياً". أما الواقعة الثانية: فتنحصر في أنه بعد أن تم اختيار الإمام الشيخ محمد الخضر شيخاً للأزهر عام 1952 م، زاره الرئيس السابق محمد نجيب في الأزهر للتهنئة. وبعد انقضاء فترة على هذه الزيارة، ذهب السيد حسين الشافعي إلى فضيلة الإمام، وأخبره بأن الرئيس محمد نجيب يطلبه لأمر ما، فغضب الإمام، وأخرج ورقة من درج مكتبه، وكتب عليها استقالته، ثم قال للسيد حسين الشافعي: "قل لسيادة الرئيس: إن شيخ الأزهر لا ينتقل إلى الحاكم"، وعبثاً حاول السيد حسين الشافعي أن يثني الإمام عن الاستقالة. مؤلفات الإمام قسمان: 1 - قسم مخطوط لم يطبع بعد. 2 - وقسم مطبوع. أولاً - المخطوط عبارة عن كتابين: الأول: سجل لآرائه المختلفة في بعض المسائل. وكان الإمام الراحل قد أوصى بأن يؤول هذا المخطوط إلى دار الكتب المصرية بعد وفاته، وكلف السيد أحمد عبد الرحمن سكرتير (جمعية الهداية الإسلامية) بتنفيذ وصيته بعد وفاته. أما المخطوط الثاني، فهو عبارة عن سجل لتاريخ حياة الإمام، ويقع في أربعة مجلدات كبيرة، وكان الإمام قد أعطاه لمدير مكتبه المرحوم الشيخ عبد الحليم بسيوني ليتولى طبعه. لكن الشيخ عبد الحليم توفي، ولم يكن الكتاب قد طبع بعد. وللآن لا نعلم شيئاً عن مصير هذا المخطوط.

ثانياً - كتب مطبوعة تربو على أربعة وثلاثين كتاباً، تشمل الأدب والفلسفة والاجتماع والتاريخ والدين. أذكر منها هذه الكتب: 1 - في الأدب: كتاب: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، كتاب: "الخيال في الشعر العربي". 2 - في الاجتماع والدين: كتاب باسم: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، كتاب باسم: "الدعوة إلى الإصلاح". 3 - في الفلسفة: كتاب: "مناهج الشرف"، كتاب: "مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها". 4 - في التاريخ: كتاب: "تونس تحت الاحتلال الفرنساوي". هذه لمحة سريعة عن الإمام الراحل محمد الخضر حسين، وكتبه التي فُقدت من المكتبات. لذلك فإني أرجو أن تهتم الهيئات الحكومية المشتغلة بالنشر بطبع ونشر كتب هذا العالم الجليل؛ لتكون نبراساً لنا على الطريق (¬1). السيد كمال الشوري وكيل وزارة العدل سابقاً ¬

_ (¬1) ملاحظة: لقد طبعت كافة آثار الإمام محمد الخضر حسين، ولله الحمد والشكر.

علم من أعلام الزيتونة الشيخ محمد الخضر حسين من خلال آثاره العلمية

علم من أعلام الزيتونة الشيخ محمد الخضر حُسين من خلال آثاره العلمية (¬1) الأستاذ محمود الشمام عالم فقيه متعمق، جامع محقق، وطني مكافح، مدرس محاضر، خطيب حاذق، أديب شاعر متمكن، زيتوني صادقي، خلدوني أزهري. انتسب إلى كل هذه المعاهد، ودرس بها، وأخلص في حبها، وذكرها، واعتزّ بالانتماء إليها. يخوض معامع السياسة، ويرتمي في ساحات الكفاح بروح مغامر مكافح، مؤمن بأن التضحية في سبيل الوطن لا جزاء لها إلا الجنة. هو وديع لطيف، خجول متواضع، يلتهب ناراً في بحوثه وأدبه وشعره، وسعيه السياسي. هو رحّالة جاب البلاد الإسلامية، وبعض البلدان الغربية، وسخّر مواهبه وقدراته وإمكانياته وعلمه في سبيل مبادئه السياسية والعلمية، حتى ألقى عصا الترحال بالبلاد المصرية، وسكن القاهرة المعزِّية، فكان الجوهر الثاني مبعوثَ الجامعة الزيتونة؛ لتحصين ما أسسه الجوهر الأول ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية" تصدر عن المجلس الإسلامي الأعلى بتونس، العددان الخامس والسادس من السنة الثانية والعشرين لعام (1418 هـ - 1998 م).

مبعوثُ الدولة الفاطمية. ذلكم هو الشيخ الإمام القاضي، المدزس بالجامع الأعظم جامعِ الزيتونة وشيخ الأزهر بالقاهرة، محمدُ الخضر بن حسين بن علي بن عمر الشريف النفطي الجريدي التونسي. * ولادته: اختلفت الروايات حول ضبط تاريخ ميلاده، فذكر حفيده للأخ الأستاذ علي الرّضا الحسيني: أنه ولد سنة 1874 م، لكن أثبت غيره -وهو الراجح-: أنه ولد سنة (1290 هـ الموافق 1873 م). وكانت ولادته بمدينة "نفطة" من الجنوب التونسي، مهدِ العلماء الفقهاء، والأدباء النبغاء، المعروفة بالكوفة الصغرى، كما عُرفت جارتها "توزر" بالبصرة. لا أحسب أني في حاجة للتعريف بهذه المدينة الفيحاء "نفطة"، فهي غنية عن التعريف. وعائلة ابن الحسين ماجدة في حسبها ونسبها المتصلِ بالشرف النبوي الكريم، وإخوة الشيخ الخضر هم: محمد الجنيدي، ومحمد العروسي، ومحمد المكي، وزين العابدين. وأفرادها الذين عرفناهم نجوماً لامعة في سماء العلم والمعرفة هم: مترجَمنا الشيخ الخضر، وأخوه الشيخ محمد المكي، وأخوهما الشيخ زين العابدين. وقد عرفتُ ثلاثتهم عن قرب معرفة شخصية. ففي غضون زيارتي للقاهرة رفقة المولى الخال الشيخ سيدي الحاج علي ابن الخوجة، تشرفت بزيارة الشيخ محمد الخضر بمحله، فأكرمنا وأطعمنا، ورحّب بنا، ومدَّنا

ببعض إنتاجه، وزوّدنا بنصائحه وتوجيهاته، وفي غضون زيارتي لدمشق، زرت شقيقه الشيخ زين العابدين، فاستضافني، وفرح بمقدمي، وأهداني بعض كتبه. وهناك تعرفت على ابنه الأستاذ علي الرضا الذي زارني بتونس. أما الشيخ المكي، فهو صديق العائلة، تعرفت عليه بواسطة شقيقي سيدي محمد شمام صديقه الحميم، وكان يزورنا بمحلنا من نهج الناعورة نهج الباشا، ونزوره برحبة الغنم، ونجالسه في مكتبة الاستقامة عند الشيخ الثميني، توفي الشيخ المكي -رحمه الله- في (20 شعبان سنة 1382 هـ الملاقي 26 جانفي سنة 1963 م). وثلاثتهم -رحمهم الله- من كابر العلماء، أثروا المكتبة العربية بمؤلفاتهم وتحريراتهم، فخلّد التاريخ ذكرهم، وها نحن أولاء نعدد محاسنهم مترحِّمين عليهم. وعائلة الشيخ محمد الخضر تنتسب إلى الطريق الصوفية، فأبوه، وجدُّه للأب ينتسبان للطريقة الرحمانية، أما جدّه لأمه، فهو الشيخ مصطفى ابن عزوز شيخ الطريقة الرحمانية، وخاله الذي رباه وعلمه هو الشيخ محمد المكي بن عزوز كان علماً من أعلام العلم والأدب والمعرفة الواسعة، وفذاً من الأفذاذ في معرفة الكتب، مع الحرص على اقتنائها وجمعها، كان أديباً شاعراً، تولّى خطة الإفتاء بنفطة، وانتقل إلى الآستانة ودرّس بها الحديث الشريف، ونقل معه من تونس مكتبته التي يصفها الشيخ الفاضل ابن عاشور بأنها مكتبة من أندر وأعز وأنفس المكتبات وأفضلها من الخزائن الخاصة في العالم الإسلامي. -توفي رحمه الله- سنة (1334 هـ الملاقي 1916 م).

في هذه البيئة، وفي كنف خاله هذا، تربّى شيخنا الخضر، الذي تحدث عن نشأته، فقال: "نشأت في بلدة من بلاد الجريد بالقطر التونسي يقال لها: "نفطة"، وكان للأدب المنظوم والمنثور في هذه البلدة نفحات تهب في مجالس علمائها، وكان حولي من أقاربي وغيرهم من يقول الشعر، فتذوقت طعم الأدب من أول نشأتي، وحاولت وأنا في سن الثانية عشرة نظم الشعر" حتى انتهى بإصدار ديوان "خواطر الحياة". وهو يتحدّث عن عناية خاله به، فيقول: "أستاذي الذي شبّت في طوق تعليمه فكرتي، وتغذيت بلبان معارفه في أول نشأتي، العلامة الهمام القدوة خالنا الشيخ محمد المكي بن عزّوز". وخاله هذا يراسله مقرظاً مجلة "السعادة العظمى" التي أصدرها حفيده معرِّضاً بأنه ربّاه وسانده، فيقول له: "وأنبئكم أنه لما أشرقت غرّتُها، وانبلجت ديباجتها، تصفَّحت دررَ عقودها، وتعمدت سبرَ عودها، لنعلم كيف نتيجة تربيتنا، وإلى أي طور بلغ فرعُ دوحتنا، وبأي ثمرة تفتر أكمامُه، وعلى الوطن بأي صفة تهب أنسامُه". * التحاقه بجامع الزيتونة: انخرط الشيخ الخضر في سلك طلبة الزيتونة سنة (1307 هـ الملاقي 1887 م)، وأغرم من أول عهده في الدراسة بالأدب والشعر. يقول متحدثاً عن نفسه في مقدمة ديوانه "خواطر الحياة": "انتقلت أسرتي إلى مدينة تونس، والتحقت بطلاب العلم بجامع الزيتونة، وكان من أساتذة الجامع -وهم في الطبقة العالية من طلاب العلم- من أولعوا بالأدب،

والتنافس في صناعة الشعر والقريض إلى شأو غير قريب، فاقتفيت أثرهم، وكنت أنظم قصائد تهنئة لبعض أساتذتي عند ختم وإتمام دراسة بعض الكتب". وأشار إلى بعض شيوخه، وتحدث عنهم؛ كالشيخ سالم بو حاجب، والشيخ محمد النجار، والشيخ عمر بن الشيخ. وقد ترجم للأخيرين في كتابه: "تونس وجامع الزيتونة". وترجم لأستاذه سيدي عمر بن الشيخ في مجلة "الهداية الإسلامية"، وذكر أن الشيخ محمد عبده كان حضر أحد دروسه عند زيارته لتونس سنة 1884 م. أما الشيخ محمد النجار، فقد صادقه، وشاركه في تحرير مجلة "السعادة العظمى". وكتب عن شيخه سالم بو حاجب: "حضرت دروسه عندما أخذت في قراءة الكتب العالية، فشعرت بأني دخلت في مجال أفسح للنظر، وادعى لنشاط الفكر". ولما مات الشيخ سالم بو حاجب كان شيخنا الخضر بالقاهرة، فقال يرثيه: فقدَتْ سماءُ المجدِ بدراً عزَّ أن ... تحظى برؤية مثله الألحاظُ وواصل دراسته الزيتونية حتى تحصَّل على شهادة التخرج، شهادة "التطويع" سنة (1316 هـ الملاقي 1898 م). وتطوع للتدريس بالجامع الأعظم. وابتدأ جهاده الثقافي إثر تخرجه، فسعى لإصدار مجلة علمية أدبية جامعة هي الأولى من نوعها، مجلة: "السعادة العظمى". صدرت نصف شهرية

في محرم سنة (1322 هـ الملاقي سنة 1904 م). وأيّدها علماء الإصلاح؛ مثل: الشيخ سالم بو حاجب الذي خاطب تلميذه الشيخ الخضر بقوله: "أقول لك ما قاله ورقة بن نوفل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي،، يشير إلى النقد الذي لقيته المجلة من بعض الناقدين. وكانت أبحاث المجلة تشتمل على المواضيع العلمية والأدبية والأخلاقية، وتلقي الأسئلة والإجابة عنها. وشيخنا الخضر يوجز مقاصده ومراميه الإصلاحية في بيت بليغ، وهو الشاعر الفحل، والمصلح المفكر، فيقول: إنَ المعارِفَ والصنائعَ عدَّةٌ ... بابُ الترقّي من سِواها موصَدُ ويقول: ولا تعودُ إلى شعبٍ مجادتُه ... إلا إذا غامرتْ هِمّاتُه الشُّهُبا وكأني به يتبنى قول شاعر تونس ومفتيها أبي الثناء محمود قبادو: دليلُ اصطفاءِ اللهِ للعبْدِ علمُهُ ... وتشريفُه أن يكشفَ الحقَّ فهمُهُ ومن لم يَجُسْ خُبراً أروبا وأهلَها ... ولم يتغلغل في المصانع فهمُهُ فذلك في كِنِّ البلاهةِ داجنٌ ... وفي مضجعِ العاداتِ يُلهيه حلمُهُ وقد شارك في تحرير هذه المجلة عدة علماء من جامع الزيتونة؛ كالشيخ الطاهر بن عاشور، والشيخ محمد النجار، والشيخ بلحسن النجار، والشيخ محمد النخلي. وصدر من هذه المجلة واحد وعشرون عدداً. ثم توقفت عن الصدور؛ لأن صاحبها تولى خطّة القضاء ببنزرت، وذلك عام (1323 هـ الملاقي 1905 م)،

ولم يمكث بهذه الخطة إلا بضعة أشهر، عاد بعدها إلى تونس، وإلى التدريس بالجامع الأعظم. وارتقى إلى خطة مدرس من الطبقة الثانية إثر نجاحه في مناظرة سنة (1325 هـ الملاقي 1907 م)، كما عُين أستاذاً بالمدرسة الصادقية، ودُعي للتدريس بالجمعية الخلدونية، ثم انتخب عضواً بهيئة هذه الجمعية مع جماعة من كابر العلماء المشايخ: محمد رضوان، الطاهر النيفر، الطاهر ابن عاشور، بلحسن النجار، الصادق النيفر. * رحلة الشيخ الخضر إلى الشرق: لأمور سياسية، وضيق عام إثرَ الضغط المسلط على الناس من حكومة الاستعمار، وكبت الحريات، ثم لأجل أمور عائلية، منها: هجرة خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز إلى الآستانة، وهجرة إخوته إلى دمشق، ثم إخفاقه في نيل التدريس من الطبقة الأولى؛ لأجل كل هذه العوامل مجتمعةً فكر شيخنا في الرحيل، وزيارة الأهل والأقارب. وفعلاً سافر يوم الخميس (4 شعبان سنة 1330 هـ الملاقي 18 جويلية 1912 م)، وزار جزيرة مالطة، والإسكندرية، والقاهرة؛ حيث ألقى درساً بالأزهر، ثم زار فلسطين ودمشق، والتقى هناك بإخوته، وقضى معهم شهر الصيام، ثم انتقل إلى بيروت، ومنها إلى إسطنبول لزيارة خاله الشيخ محمد المكي، ورجع إلى تونس في ذي الحجة سنة (1330 هـ الملاقي نوفمبر 1912 م)، ونشر بجريدة الزهرة سنة (1331 هـ / 1913 م) خلاصة رحلته قائلاً: "اقترح عليّ جماعة من الفضلاء أن أحرر خلاصة في آثار رحلتنا الشرقية، فعطفت عنان القلم لمساعفة اقتراحهم، بعد أن رسمت له الوجهة العلمية

سبيلاً لا يحيد عن السير في مناكبها. ولئن لم يلتقط الناظر منها درة علمية فائقة، فإنها لا تخلو من أن تنبسط له بملحمة أدبية رائعة، وإليك التحرير: سنح لي باعث الرحلة إلى بلاد الشام، وهو زيارة الأهل وفاءً بحق صلة الرحم" .. وقال يخاطب ربان السفينة وقائدها: حادي سفينتنا اطْرَحْ من حُمولَتها ... زاد الوقود فما في طرحِه خطرُ وخُذْ إذا خمدت أنفاسُ مِرْجَلِها ... من لوعة البينِ مقباساً فتستعرُ ثم يقول: وإني لأدرك في مثل هذا الموطن دقة نظر إمام الحرمين (عبد الملك النيسابوري المتوفى سنة 1085 هـ) حين قيل له: لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور: لأن فيه فراق الأحبة. وقد لاحظنا هنا أن بعض من أرَّخ لهذا الرجل ذكر أن سبب رحيله هو إخفاقه في المناظرة بسبب حيفٍ ناله من ممتحنيه، وهذا غير صحيح؛ لأمور، منها: أ - أن الشيخ خرج من تونس لزيارة أهله وإخوته بسورية وفاء بحق صلة الرحم؛ كما ذكر هو نفسه. ب - أن الشيخ لما ألف كتاباً في الردّ على الشيخ علي عبد الرازق، وضع مقدمة قال فيها: "رأيت -وأنا بتونس- أن القيام بحق الإسلام يستدعي مجالاً واسعاً، وسماء صافية، فهاجرت منها والعيشُ رغيد، والأمة في إقبال، والإخوان في مصافاة، وأنزلت رحلي بدمشق الشام، فمدت لنا الأيام في الأمل ظرفاً، فإذا رحى الحرب العالمية تدور، وحامل رايتها يُنجد ويغور. وبعد أن وضعت

الحرب أوزارها، وأخذت البلاد العربية والتركية هيئة غير هيئتها، هبطتُ مصر". فهو يذكر سبب خروجه من تونس متطلعاً إلى حرية الرأي والفكر والعمل. وهو يذكر تونس بكل خير، ويعترف بأنه خرج منها والعيشُ رغيد، والإخوان في مصافاة، ولا شيء في كلامه مما يروِّجه الحاقدون من إساءات. ويؤيد هذا: ما أشار إليه الشيخ الفاضل ابن عاشور عندما ترجم للشيخ الخضر، فقال: "وبدأ الشيخ يُستهدف لما استُهدف له المصلحون العاملون من قبله من المكائد والسعايات والدسائس، فأصبحت كل حركة تبدو من الطلبة محمولة على حسابه، ونظرته أعين المسؤولين شزراً عندما أعلن طلبة الزيتونة الإضراب عن الدروس سنة (1328/ 1915) باعتباره المسؤول عن ذلك التحرر. وبدأت النقمة تنتابه ... إلخ". ج - لما زرته بالقاهرة، تجاسرتُ وألقيت عليه سؤالاً عن أبيات تُنسب إليه، وهل كانت الحوادث التي تشير إليها دافعاً دفعه إلى الهجرة؟ فضحك -رحمه الله- ملء شدقيه، وقال: تونس عزيزة، وأهلها كرام، وأنا لا أنساها، ولا أنسى حلو أيامها، وهذا الشيخ الكريم ابن الكرماء -يشير إلى الشيخ الخوجي- يشهد بصدق ما أقول، وبزيف تلك الأراجيف. ولما خرجنا من عنده، سألت الشيخ الخوجي الكريم ابن الكرماء، فحقق لي أن المناظرة كانت بين رجلي علم، فاز أحدهما باستحقاق، ولم يقع فيها أي حيف. ولما رجعت إلى تونس، سألت الشيخ الحطاب بوشناق، فحقق لي

أنه حضر المناظرة، وأن الشيخ محمد العنابي برز في إلقاء لدرس وشرحه، ونال إعجاب الحاضرين وإذا كانت المبارزة والمناظرة تقع علانية، فقد أيقن كل الحاضرين بفوز الشيخ العنابي قبل دخول المشايخ النظار للمفاوضة، وقبل التصريح بالنتيجة. والأبيات -التي أشرنا إليها، والمنسوبة إلى الشيخ الخضر- نشرتها جريدة "إظهار الحق"، وهي جريدة معارضة لصاحبها محمد القبايلي، صدرت سنة (1904/ 1322)، ونصها: تبّاً لهاتيك النَّظَارةِ أصبحَتْ ... كالثَّوْبِ يُطْرَحُ في يَدِ القَصَّارِ وأناملُ القصّارِ تعملُ مثلَ آ ... لاتٍ تُحرِّكُها يدُ النَّجّارِ والقصار هو قاضي تونس، والنجار هو الشيخ بلحسن النجار كاتبُ سر القاضي وقتَها، والمفتي فيما بعد سنة (1373/ 1953). وقد تحدث عنه الشيخ الخضر بالمدح والثناء عدة مرات. وكان حدثني شيخي الجليل المرحومُ الحطاب بوشناق برواية أخرى رواها عن الشيخ صالح المالقي، ترجِّح استحقاقَ الشيخ الخضر للخطة، والفوز في المناظرة. وقال: إنه يحفظ أبياتاً تنسب للشيخ الخضر. ومضت الأيام، وعثرت على كنش المنعم الشيخ صالح المالقي، فوجدت به قصة المناظرة، وأنه حضرها، وكان وقتَها مدرساً من الطبقة الأولى، وأنه كان ينتظر فوز الشيخ الخضر؛ لأنه جاد. ثم أورد أبياتاً منسوبة إلى الشيخ الخضر، لكنه لم يجزم بصدورها عنه. والأبيات هي محاورة بين شاوش الوزير-أي: حاجبه-، وبين الشاكي، ثم بين الوزير وأعضاء اللجنة في الاسفسار عن النجاح والخيبة، وأسباب ذلك، وعن تظلم الشاكي. وهي أبيات ضعيفة في نسجها،

ضعيفة في تركيبها، ولا أعتقد أنها من شعر شيخنا -نعَّمه الله-. والوزير المشتكى إليه حينها هو الشيح يوسف جعيط -رحمه الله-. * علاقة الشيخ الخضر بالصادقية: لقد كانت للشيخ الخضر علاقة متينة بالصادقية وطلبتها ونادي قدمائها، لا تقلّ متانة عن ارتباطه بالجامع الأعظم جامع الزيتونة الذي تخرج منه، وبالمدرسة الخلدونية التابعة للجامع، والتي يدرّس بها. لقد انتدب الشيخ الخضر للتدريس بالصادقية، وزامل هناك كثيراً من مشايخ الزيتونة وتخرجت على يديه أفواج عديدة من طلبة الصادقية. التحق كأستاذ بالمعهد الصادقي سنة (1325 هـ / 1907 م)، وواصل عمله هناك مدة ستة أعوام، ولما سافر في رحلته الأولى -التي أشرنا إليها- تخلف عن الحضور للتدريس مدة طويلة، ولم يعلن استقالته، ولما رجع في 24 نوفمبر سنة 1912 م، أشعرته إدارة المعهد بفصله عن التدريس؛ لتغيبه، ولأنه عوض بغيره؛ خلافاً لما ذكره محفوظ من أنه رجع بعد يومين من افتتاح الدروس، وأن فصله كان لأسباب سياسية. أما علاقته بنادي القدماء، فهي علاقة حميمية متينة. وقد ألقى بنادي القدماء عدة محاضرات: 1 - "الحرية في الإسلام"، ألقاها مساء يوم (17 ربيع الآخر سنة 1324 هـ / 1906 م)، تحت إشراف عضو هيئة النادي العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الذي ألقى كلمة قيمة عقب انتهاء المحاضرة، وقد طبعت هذه المحاضرة عدة مرات، وهي معروفة متداولة. 2 - ثم ألقى شيخنا الخضر حسين (1327 هـ / 1959 م) محاضرة أخرى

بنادي القدماء تحت عنوان: "حياة اللغة العربية"، وقد طبعت مرات، ونشر الجانب الشعري منها في ديوانه "خواطر الحياة"، وهو يقول: لغةٌ قد عقدَ الدّينُ لها ... ذمة يكلؤُها كلُّ بَشَرْ أولمْ تُنسج على مِنوالها ... كَلِمُ التَّنْزيلِ في أرْقى سُوَرْ فأقيموا الوجْهَ في إحيائها ... وتلافوا عقدَ ما كان انتثرْ 3 - وألقى محاضرته الأخيرة على منبر نادي القدماء قُبيل هجرته إلى الشرق سنة (1331 هـ / 1912 م) تحت عنوان: "مدارك الشريعة الإسلامية". وبهذه المحاضرة ودّع وداع الهجرة إلى الشرق. ولم تكن رحلته هذه كالأولى بنية الرجوع والعودة إلى وطنه ومعهده وطلبته. * رحلته إلى الشرق: ففي سنة (1331 هـ / ديسمبر 1912 م) اعتزم الرحيل والهجرة إلى دمشق محل سكنى إخوته، وأبت زوجته أن تصاحبه، فودعها قائلاً: قالَ يومَ الوداعِ وهو يُعاني ... سكرةَ البينِ: ليتني ما عَرَفْتُكْ وبدمشق سكن مع إخوته، وباشر التدريس بأبرز معاهدها العلمية، خاصة الجامع الأموي، وهناك ناله الأسى، واتهم سياسياً، وسجن وحوكم، ثم ظهرت براءته، وخرج من السجن يشكو ضياع فترة من العمر لم يمسك فيها القلم: غلَّ ذا الحبسُ يدي عنْ قلمِ ... كان لا يَصْحو عن الطِّرْسِ فناما وعاد إلى نشاطه العلمي المعرفي حتى دير للعمل بتركيا، فارتحل إليها،

وأوفدته إلى ألمانيا في مهمة. وهناك اتصل ببعض الأحرار من التونسيين، وعانى معهم مشقة الغربة، والسعي لتحرير الوطن بكشف عيوب أعدائه. وإثر انتهاء الحرب العالمية الكبرى عاد إلى دمشق، وعاد للتدريس، وانتخب عضواً بالمجمع بها مع الأستاذ حسني عبد الوهاب سنة (1338 هـ / 1919 م). ولما دخلت فرنسا إلى سورية، وكانت من نصيبها عند قسمة تركة الرجل المريض المنهار المغلوب، هاجر صاحبنا إلى القاهرة سنة (1339 هـ / 1920 م)؛ لأن مصر لا علاقة لها بالدولة التي تستعمر بلاده تونس. وهو يقول في كلمة الإهداء لكتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم": "وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وأخذت البلاد العربية والتركية هيئة غير هيئتها، هبطت مصر". في مصر، وفي القاهرة المعزية، اشتد ساعدُه المعرفي، وتعددت نشاطاته العلمية الثقافية، وتمتنت صلاته برجال العلم والأدب، وتفرغ لكل ذلك، وابتعد عن المغامرات السياسية وأهوالها ومصائبها. ولما راوده الحنين إلى دمشق وساكنيها من إخوته، قال: يقولُ: تقيم في مِصْرٍ وحيداً ... وفَقْدُ الأُنْسِ إحدى الموتتَيْنِ ألا تحدو المطيَّة نَحو أرضٍ ... تعيدُ إليكَ أنسَ الأسْرتَيْنِ وعيشاً ناعماً يدعُ البقايا ... من الأعمارِ بِيضاً كاللُّجَيْنِ فقلتُ له: أيحْلو لي إيابٌ ... وتلك الأرضُ طافحةٌ بغَيْنِ وهكذا حكم على نفسه بالابتعاد عن كل أرض تحكمها فرنسا، ولو كانت مسقط رأسه، ولو كانت عائلته بها. وهكذا استقر نهائياً بمصر التي أثمر بها زرعه، وكثر عطاؤه، وعرف

بها الناس مقامه حتى تربَّع على عرش العلم بتوليه مشيخة الأزهر، وهذه فترة طويلة يصعب الحديث عنها في صفحات قليلة. واخترنا -كما اختار هو من قبلنا- الجانبَ العلمي الثقافي في الفقه والنقد والدراسات، تاركين الحديث عن نشاطه الأدبي والشعري والاجتماعي والصحفي، وبالأخص السياسي، إلى فرصة أخرى قد تسنح أو لا. وهذه الناحية التي اخترناها لإبراز شخصيته هي أبرز نواحي حياته، تصور لنا أكبر ما بلغه هذا العالم الجليل من علو كعب في ميادين العلم والمعرفة، ومن إخلاص في الذود عن الدين واللغة العربية. * الشيخ محمد الخضر الفقيه الناقد: نحن نعلم أن الأديب أو الشاعر تتواجد داخلَه مَلَكَة النقد، فهو يسعى لنقد ذاته وأعماله وآثاره، وما يخطه قلمه معبراً عن وجدانه، يعمل جاهداً حتى لا يبعث بنتاجه يسعى بين الناس دون أن يغربله ويصفيه وينقيه، وإن لم يفعل، هزلت ثمرته، وتدنت، وأعرض عنها الناس. وكذلك العالم الفقيه يعيش بين صحفه وأوراقه وكتبه، يفحص وبحقق ويدقق، ثم يكتب، لكن ملكة النقد عنده تبعث فيه الإحساس والشعور بمتطلبات الكمال والإبدل، والهروب من مطبات الأخطاء وهزيل الرأي. وهو لذلك يربو بنفسه عن الانزلاق والانحراف، ولا يرضى ذلك لغيره، بل يسعى لإنقاذ الآخرين من السقطات والهفوات والانحرافات. والفقيه العالم الأديب المحقق صاحبُ الشعور الصادق، له مبادئ دينية ومقاييس علمية تسري مع دمه، وتسيطر على أفكاره وآرائه واتجاهاته، تنير طريقه، وتوضح سبل سيره. وإذا شعر يوماً بمن يهاجم تلكم المبادئ،

أو يسعى لإفساد تلكم المقاييس، ثارت ثائرته، وفزع إلى قلمه وقرطاسه؛ كما يفزع المقاتل إلى سيفه ودرعه يردُّ صولة كل صائل، ويدفع دفاعاً شرعياً هجمةَ كل مهاجم. وهكذا كان شيخنا -رحمه الله- في مختلف مراحل حياته، يثور كلما مُسَّت مبادئُه، حتى جمع له الناس ملفات قضايا كان فيها فارساً مغواراً، يكرُّ ويهاجم بقلمه ولسانه. ونشير إلى بعض هذه الملفات؛ لأن آثارها هي آثاره الخالدة الدالة على الرجل وقيمته العلمية المميزة. * قضية علي عبد الرازق: في خلال سنة (1344 هـ / 1925 م) أُثيرت قضية فكرية سياسية بمصر، ترافَع فيها علماء أجلاء، وتراشق كتّاب مميّزون، وكئر اللّغط حولها في الصّحف المحترمة يومَها؛ مثل: مجلة "المنار"، ومجلّة "الهداية الإسلامية"، وصحيفة "السّياسة" الأسبوعيّة واليوميّة. وكنّا -معشر الطّلبة- حينها نتلقف أخبارها، ونتنسّم شذى جديدها بلهفة وحرص، مدفوعين بعوامل متعدّدة ووطنيّة وسياسية. ووجد بعضهم فرصته السانحة لترويج الجرائد المصريّة، خاصة جريدة "السياسة" الأسبوعية، وإيصالها إلى المتشوقين المتلهفين لأخبارها، وبيعها فورَ وصولها لتونس. تلك هي قضية علي عبد الرازق أحدِ علماء الأزهر، والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية؛ فقد ألف كتاباً سماه: "الإسلام وأصول الحكم".

شارك في هذه المعركة شيخنا الجليل محمد الخضر حسين مشاركة واعدة فاعلة ومؤثرة. والواجب يدعونا إلى أن نشير إشارة عابرة إلى هذه القضية، وإلى دور شيخنا فيها، وما ألفه وكتبه عنها، وهو مؤلَّف نصنفه في الرتبة الأولى من تآليفه وكتاباته. وفي ذلك تسجيل وتأريخ للحركة الفكرية المصرية، في غضون عهد الملوكية والاحتلال الإنجليزي، والاتجاهات السياسية في ذلكم العهد. في 3 مارس سنة 1924 م ألغى نظامُ البلاد التركية الثائر بقيادة أتاتورك الخلافةَ الإسلامية، بعد أن أعلنت الجمعيّة الوطنيّة التركيّة المنعقدة بأنقرة يوم (19 أكتوبر سنة 1924 م) النظام الجمهوري، فبادر رئيس الجمهورية مصطفى كمال باشا بإلغاء الخلافة. وتأثّر العالم الإسلامي لهذا الأمر الجلل، وسعى رجاله ومفكروه إلى إيجاد حل لهذه المشكلة، وشارك في ذلك من تونس: الزعيم الثعالبي، والأستاذ أحمد توفيق المدني، والشيخ علي كاهية، والشيخ سليمان الجادوي، والأستاذ الطيب بن عيسى. وتهيأ أفرادٌ للجلوس على عرش الخلافة الشاغر، منهم: ملك مصر عهدئذٍ أحمد فؤاد. ووقع التحرك سريعاً لإنجاح مسعاه، وأقيم مؤتمر إسلامي، وأصدر مجلة تحمل اسم: "الخلافة الإسلامية"، ودعا بعض الكتاب إلى وجوب مبايعة خليفة مكان الخليفة المخلوع الذي أزاحه كمال أتاتورك عن عرش الخلافة. وكان الظرف السياسي ساعتها بمصر ضد حزب الأغلبية حزب الوفد الذي فاز في الانتخابات، فأمر الملك فؤاد بحل البرلمان، وأقصى زغلول

باشا عن الحكم برغم متانة علاقته بالشعب. واتّحد حزب الأحرار الدستوريين مع حزب الاتحاد، وتشكّلت وزارة برئاسة زغلول باشا؛ للوقوف مع الملك في وجه المد الوفدي الذي يتمتع بحب الشعب. في هذا الجو المكهرب أصدر أحد شيوخ الأزهر من مناصري حزب الأحرار الدستوريين، من عائلة أصيلة ميسورة تناصر ذلك الحزب، وتشد أزره، وهو الأستاذ الشيخ علي عبد الرازق ... أصدر كتابه: "الإسلام وأصول الحكم". والكتاب موجه في تحريره ونقده أولاً وبالذات لمحاربة فكرة تنصيب فؤاد على العرش عرشِ الخلافة لعدة أمور، منها: أنه غير مؤهل دينياً وعلمياً وثقافياً ووطنياً لهذا المنصب، ثم لأن الإنجليز يناصرونه ويؤيدونه، ولهم غاية في هذه اللعبة السياسية ضد الإسلام والمسلمين، وكان موضوع الكتاب: الخلافة وموقعها الديني والسياسي، وسندها من التشريع الإسلامي. وثارت عاصفة هوجاء، وأتت على الائتلاف الحاكم، وخرج الأحرار الدستوريون من الوزارة. يقول الشيخ علي عبد الرازق في كتابه هذا "الكتاب الأول، الباب الثالث، الفقرة الثامنة وما بعدها": "من الطبيعي عند المسلمين الذين يدينون بالحرية رأياً، ويسلكون مذاهبها عملاً، ولا يألفون إلا الله ربّ العالمين، ويناجون ربهم بذلك الاعتقاد في كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل في خمسة أوقاتهم للصلاة. من الطبيعي أولئك الأباة الأحرار أن يأنفوا الخضوع لرجل منهم أو من

غيرهم، ذلك الخضوع الذي يطالب به الملوك رعيتهم؛ خضوعاً للقوة، ونزولاً على حكم السيف القاهر. والغيرة على الملك تحمل الملك على أن يصون عرشه من كل شيء قد يزلزل أركانه، أو ينقص من حرمته، أو يقلل من قدسيته. وقد يصبح الملك وحشاً سفاحاً، وشيطاناً مارداً إذا ظفرت يداه بمن يحاول الخروج عن طاعته، وتقويض عرشه، وقد يصبح عدواً لدوداً لكل بحث، ولو كان علمياً، إذا تخيل أنه قد يمس قواعد ملكه" انتهى النقل. وبالرغم من أن الكتاب له وجهة وغاية سياسية، إلا أن صاحبه ضمَّنه أفكاراً رأى ناقدوه أنها خارجة عن اللياقة والكياسة، ووُجِّهت له تهم متعددة، نلخصها فيما يلي: أ - جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية خالصة، لا ارتباط لها بأمور الدنيا وشؤونها. ب - إنَّ جهاد الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان في سبيل اتساع نفوذه، لا في سبيل الدعوة إلى الدين وإبلاغه. ج - إنَّ نظام الحكم في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان غامضاً مبهماً موجباً للحيرة. د- إنّ حكومة أبي بكر - رضي الله عنه - والخلفاء من بعده كانت لا دينية. وكان التعبير الأخير موجباً لإثارة الغضب عند كافة الناس. وظاهر أنّ المؤلّف لم يقصد أنّها كانت لائكيّة لا تدين بدين. لكن التعبير كان فيه تهوّر، ولو أنه لم يكن مقصوداً. والإمام محمد عبده زعيم حركة الإصلاح عالج من قبل هذه النقط

المثارة من علي عبد الرازق، وأبدى رأياً فيها، وظهر أن الشيخ علياً تقفى خطاه، لكن بأسلوب فيه بعض العنف. فالإمام عبده يقول (عن كتاب "الإسلام والنصرانية" طبعة ثانية ص 70 - 71): "الأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصب الخليفة، والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلعه متى رأت مصلحة في ذلك. ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه تيوكراتيك (theocratique)؛ أي: سلطة إلهية، فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة، وله في رقاب الناس حق الطاعة لا بالبيعة، وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة، بل بمقتضى حق الإيمان". وهو يقول: ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير من الشر، وهي قوة أو سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم. وهو يشرح طرح الاجتهاد، وحرية الرأي والفكر؛ إذ يقول: ولا يجب على المسلم أن يأخذ عقيدته، ويتلقى أصول ما يعمل به عن أحد إلا عن كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ولكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله، بدون توسيط أحد من سلف أو خلف، وإنما يجب عليه -قبل ذلك- أن يحصل من وسائله ما يؤهله للفهم؛ كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها، وأحوال العرب، خاصة في زمان البعثة، وما كان الناس عليه زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي، مع معرفة النّاسخ والمنسوخ من الآثار،

فإن لم تسمح حاله بالوصول إلى ما يعد لفهم الصواب من الكتاب والسنّة، فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما. وله، بل عليه أن يطالب المجيب بالدليل على إجابته، سواء كان السؤال في أمر الاعتقاد، أو في حكم عمل من الأعمال، فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية من الوجوه" انتهى النقل. وحوكم علي عبد الرازق من هيئة العلماء، ومن مشيخة الأزهر، وجُرِّد من وظائفه، حتى من خطة القضاء الشرعي. هذا من النّاحية الرّسمية والعلمية والجامعية. أما من ناحية الباحثين النقاد الذين هم بالمرصاد، فقد تصدى للرد عليه جماعة من علماء مصر، ومن بلدان إسلامية أخرى، منها: تونس. فقد جَرَّد شيخنا الخضر قلمه، ورد بكتاب في حجم كتابه، به دراسة قيمة علمية نقدية تستند إلى الحجة والدليل والمراجع: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم". وأفضل تقديم لهذا الكتاب هي مقولة لناقد أديب باحث عالم يظهر أنه منحاز للشيخ علي عبد الرازق يدافع عنه، لكن ذلك لم يمنعه من تحبير هذه المقولة في حق الشيخ الخضر. يقول الأستاذ محمد عمارة في كتابه: إن أجود دراسة فكرية كتبت ضد كتاب "الإسلام وأصول الحكم" هي التي كتبها الشيخ محمد الخضر حسين، وأخرجها في كتاب عنوانه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم".

وهذه الشهادة من باحث متبصر يمكن لنا أن نقول عنها: والحق ما شهد به الخصوم. وإنّي أحقّق أنّ الشيخ الخضر كان في مؤلفه هذا مثالاً للعالم المحقق ذي الخلق الرفيع، يقرع الحجّة بالحجّة، ويرد الدّليل بالدّليل، ولا يُسِفُّ في تعبيره، ولا يخرج عن حدود النقد النزيه المدعم. وقد رأينا أنّ أحد مناصري الشيخ علي عبد الرازق يقرّر علوّ نقد الشيخ الخضر، وتماسكَ أجز الله، وتعمقه، وترابطَ ردوده، وسموها. وكأنّه -برّد الله ثراه- أراد أن يترك مؤلفاً علمياً لا لغو ولا غث به يخدم العلم والفكر، فكان له ما أراد. وللحقيقة والتّاريخ، فإن كتاب الشيخ الخضر هو شرح وإيضاح ونقد لكتاب الشيخ علي عبد الرازق، يبيّن غموضه، ويوضح عيوبه، ويكشف هفواته وزلاته، ويحاول إصلاحها. كنت يوماً أطالع كتابَي الشيخين: عبد الرازق، والخضر، إذ دخل عليّ شيخ من شيوخي أستاذ لي، وقال: إنك تجمع بين النار والماء. فقلت: لعلّ هذا يخفّف من حدّة تلك. والشيخ علي عبد الرازق واحد من أسرة فضل وعلم لها مجد تالد، منها: عبد الرازق باشا الكبير الذي وقف على قبر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده راثياً، مع خمسة من أقطاب مصر، منهم: حفني ناصف الذي راسل فيما بعد حافظ إبراهيم قائلاً: أتذكرُ إذْ كنّا على القَبْرِ ستّة ... نعدّدُ آثارَ الإمام ونخطبُ حتّى يقول:

أبو خطوة ولى وقفّاهُ عاصمٌ ... وجاءَ لعبد الرازق الموت يطلبُ ومن أسرة عبد الرازق: الشيخ مصطفى بن حسن بن عبد الرازق، وهو باحث فقيه أديب، وزير للأوقاف، شيخ للأزهر، درس بفرنسا وبمصر، وله مؤلفات مطبوعة. ومن الذين تصدّوا للرد على كتاب "الإسلام وأصول الحكم": شيخنا الجليل علامة تونس محمد الطاهر بن عاشور الذي ألّف كِتاباً صغيراً سمّاه: "نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم"، طبع بالقاهرة بالمطبعة السلفية سنة (1344 هـ / 1925 م). وهو لم يفعل كصاحبه وصديقه الشيخ الخضر، ولم يمسك بتلابيب الشيخ عبد الرازق، بل إنه ردّ عليه رداً جميلاً لطيفاً، مفنّداً بعض مزاعمه، شارحاً بعض مواقفه، وموافقاً لبعض المقولات مع تقويم مقوماتها. فهو يشرح -مثلاً- موقف الشيخ عبد الرازق من الخلافة شرحاً دقيقاً، فيقول: إن الخلافة ظهرت صدر الإسلام في أجلى مظاهرها، ثم أخذت تتضاءل من عهد الخليفة الرابع، فلم تزل في تضاؤل وتراجع، ومرض وسلامة إلى أواسط الدولة العباسية، واستمرّ خروج الخارجين حتى بلغت إلى حد صارت به بقية اسم يورث، وليس لصاحبها من الحط إلّا الدّعاء فوق المنابر؛ كما قال ابن الخطيب في "رقم الحلل"، وصار اللّقب مجازاً لا حقيقة، إلّا أنّه مجاز سوغته علامة اعتبار ما كان، ولو أريد إعطاؤه من أوّل الأمر على تلك الحالة، لما كان، إذ كيف يمنح هذا اللقب لمن يكون على تلك الحالة بعد منحه كحالة قبله، وما يستطيع أن يفعل إذا كان أعزل عن كلّ قوّة؟ وهل يستطيع بالألقاب اللّفظية أن ينجو من الهوة؟ وكيف يطمع في ذلك من لا يدفع عن نفسه، ولا يكون غده أفضلَ من أمسه؟ أليس إيجاد هذا المنصب

السامي من باب الجاد الموهوم؛ كما تحاول جمعيات الخلافة اليوم؟ ولا أحسب هذا يشتبه على من له حظّ من العلوم" انتهى النقل. وجَلِيٌّ: أن كلمات الشيخ ابن عاشور كانت مقنعة وكافية، لو أخذ بها الشيخ عبد الرازق في كتابه. ورسالة الشيخ ابن عاشور هذه من أفضل ما كُتب في هذا الموضوع من رجل محقق يصيب هدفه دون عنف، بل يدفع بالتي هي أحسن، فتكون الغلبة له، والنصر حليفه. ولا تحسبن الشيخ الخضر بعيداً عن بعث هذه الرسالة العاشورية، فهي لصديقه الحميم الحبيب، طبعَها هو في مطبعة صديقه الآخر محبِّ الدين الخطيب. ولم يقف الأمر بالشيخ الخضر عند هذا الحدّ، فقد شجع شيخاً آخر من تونس أحد أصدقائه الخلص على أن يخوض هذه المعمعة والمعركة الفكرية، وهو فقيه عالم جليل، شيخُنا محمد البشير النيفر، المدرسُ، والإمام الخطيب المفوه، الذي صدر له أخيراً كتاب قيم به تراجم لأعلام أسرته، وقد حقّقه ونشره صديقنا القاضي الأستاذ محمد المختار النيفر. شارك شيخنا محمدُ البشير النيفر بدراسة قيمة جامعة ألقاها بجامع أبي محمد في رمضان سنة (1344 هـ / 1925 م) تحت عنوان: "عبادات ونظم اجتماعية"، نقل فيها فقرات طويلة من كلام الشيخ علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، ولم يذكر اسمه، وقفّى ذلك بتنفيذ ما جاء بها. وهي دراسة طويلة نشرها صديقه وصفيُّه شيخُنا الخضر في مجلته مجلة

"الهداية الإسلامية" عدد 104 سنة (1347 هـ / 1928 م)، وأثنى على صاحبها ثناء جميلاً. ونجد الشيخ الخضر يعرض بمواطنه وبلديّه الزعيم الشيخ الثعالبي، وينتقده، وذلك بنشره لرسالة كتبها ناقد ضدّ تصريحات للثعالبي تناصر في نظره الشيخ علي عبد الرازق. والشيخ الثعالبي صديق حميم لعائلة عبد الرازق، وللأحرار الدستوريين، ولمّا سأله صحفي بالعراق، أجابه إجابة استفاد منها الكاتب: أنها تناصر آراء كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، مع أنّها -في الواقع- كانت تناصر حريّة الرّأي، وحقّ الصّدع به. فتلقّفتها مجلة "الهداية الإسلامية"، ونشرتها في عدد 9 سنة (1348 هـ / 1929 م). ونشرُها دليل على الرضاء بما جاء بها من نقد لاذع لا يقوم في نظري على أساس متين، بل أقرب إلى الأسلوب الخطابي المهاجم. وعلى كلٍّ، فهذه التصريحات بالعراق، ونقدها بمصر تجعل الزعيم الثعالبي مشاركاً في هذه المعركة الفكرية الحادّة، حتى ولو لم يقصد هذه المشاركة. وقد شاركت جريدة "الصواب" التونسيّة في ذلك التاريخ بمقال تدافع به عن حرية الرأي، وتناصر ما ذهب إليه الزعيم الثعالبي، فتقول: هذا التحامل على الكتاب وصاحبه هو لنيل رضا نواح معينة ذات مطاعم في تبوُّء منصب الخلافة. وهو مقال طويل يشارك به قلم آخر من تونس دفاعاً عن حرية الرأي، وإن لم يخض في صلب الموضوع، فهو يناصر شقاً، ويقف في الصفّ المقابل

لصفّ شيخنا الخضر. وقد كان شيخنا الخضر بالمرصاد لكل من تحدثه نفسه بالخروج عن المبادئ السليمة التي آمن بها، ولذا فقد ألف كتابه الآخر: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" رداً على طه حسين. وكان كتابه هذا -أيضاً- من أحسن ما كُتب في الردّ على طه حسين، الذي اعترف بأنّ كتاب الشيخ الخضر أهم الردود، وأشدّها حجّة ضدّه؛ كما نقل عنه ذلك الشيخ الفاضل ابن عاشور. وقد كتب شيخنا محمد الخضر نقداً آخر لطه حسين يرد به على البحث الذي قدّمه في مؤتمر المستشرقين بجامعة أكسفورد تحت عنوان: "حقيقة الضمير الغائب في القرآن"، وهو يقول في ردّه: إنّ المحاضرة كانت طائشة الوثبات، كثيرة العثرات، وإنّ المحاضر وضع لمحاضرته أساساً خرباً، فكان ما بناه عليه متداعياً للسقوط متخاذلاً. على أن الشيخ محمد الخضر لم يكف عن ملاحقة الشيخ علي عبد الرازق، وصد حركاته، والرد عليه كلما ظهر له نشاط علمي. فقد نشر الشيخ علي عبد الرازق سنة (1346 هـ / 1927 م) مقالاً في جريدة "السياسة" الأسبوعية عرّض فيه بالأشخاص الذين يتمسحون بالأعتاب، ويعظمون بعض أصحاب السلطة والنفوذ، وقال: إن الرسول الكريم - عليه أفضل الصلاة والتّسليم - لم يكن ملكاً، ولا ثرياً، ولا فيلسوفاً، ولا فاتحاً عظيماً، ولا مخترعاً، وإنما تبدو عظمته في كلمة التوحيد: لا إله إلا الله. فرد عليه الشيخ الخضر بمحاضرة تحت عنوان: "العظمة" ألقاها بعد شهر واحد من ظهور مقال الشيخ علي، وطبعت عامها بالمطبعة السلفية

لصاحبها صديقه وصفيِّه محب الدين الخطيب. وممّا شمله نقد الشيخ الخضر "كتاب الحدّاد عن المرأة" (¬1)؛ فقد نشر دراسة عنه في مجلة "نور الإسلام" التي يرأس تحريرها سنة (1349 هـ / 1630 م). ثمّ نشرت هذه الدراسة في كتاب "بلاغة القرآن" المطبوع سنة (1391 هـ / 1971 م). وهو -رحمه الله- يتابع ما يكتب في جريدة "السياسة" الأسبوعيّة صحيفة حزب عبد الرازق، وإن عثر بها على رأي مخالف، انتقده وفنّده. ففي فاتح سنة (1356 هـ / مارس سنة 1937) نشر في مجلة "الهداية الإسلامية" نقداً علميّاً معمّقاً يردّ به على مقال لأحد العلماء يتعلّق بالحدود في الإسلام. وقبل ذلك، وفي سنة (1349 هـ / 1930 م) صدر كتاب "الهداية والعرفان في تفسير القرآن"، مؤلفه الشيخ محمد أبو زيد الدمنهوري، فنقده الشيخ الخضر نقداً طويلاً جامعاً، يعدّ -بحقّ- من المراجع العلميّة، أثرى به المكتبة الفقهيّة الإسلاميّة. وهكذا واصل -رحمه الله- عمله الثقافي والنقدي اللغوي، يبذل الجهد، ويواصل العطاء دون كلل. ولم يتخل عن حضور جلسات المجمع اللغوي حتى وافته المنية، واختاره الله لجواره منذ أربعين عاماً، وذلك يوم الأحد (13 رجب الأصب سنة 1377 هـ الملاقي 2 فيفري سنة 1958 م)، ودفن ¬

_ (¬1) كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" للطاهر الحداد.

بمقبرة آل تيمور بالقاهرة حسب وصيته، رحم الله هذا الرّجل العظيم العالم الجليل الذي أحببناه كما أحبّنا، وها نحن أولاء نعدد بعض محاسنه وآثاره العلمية في ذكرى وفاته الأربعين، (رمضان 1418 هـ - 1998 م). محمود شمام (¬1) ¬

_ (¬1) من كبار القضاة في تونس، وكاتب إسلامي معروف.

على هامش ذكرى الإمام الشيخ محمد الخضر حسين

على هامش ذكرى الإمام الشيخ محمد الخضر حسين محاورة شعرية بين العالم الشاعر المرحوم علي النيفر، وشيخه العلامة الشاعر الإمام المرحوم الشعغ محمد الخضر حسين (¬1) للأستاذ الفاضل محمد المختار النيفر (¬2) لمّا سافر الوالد -عليه رحمة الله- للحجّ في موسم (1368 هـ - 1948 م)، أقام أياماً بالقاهرة ذهاباً وإياباً، وسعى للاتصال بشيخه الخضر -رحمه الله-، وقد تيسر له ذلك، وحظي بكرم وفادته، ولدى رجوعه إلى تونس، حبّر هذه القصيدة البليغة؛ تنويهاً بشيخه العلامة الشيخ محمد الخضر حسين، ووجّهها له بواسطة أحد أقاربه، وهو: المرحوم الشيخ محمد الطاهر النيفر؛ ليسلمها له في موسم الحج الموالي، وقد لبى له هذه الرغبة، وبلّغ هذه القصيدة لصاحبها، وإليكها: أَزْجِ القوافي شُرَّداً وأوابدا ... لحمىً يعجُّ مكارماً ومَحامدا وأَنِخْ كرائِمَها لديهِ فَساحُهُ ... ترْعى القصيدَ ولا تردُّ القاصدا غيلُ الأعاربِ ملتقى أبطالِهم ... وربيعُ مُسْنِتِهِمْ وحَسْبُك رافدا ¬

_ (¬1) نشرت في "المجلة الصادقية" -تصدرها: جمعية قدماء تلامذة المدرسة الصادقية- العدد 16 أكتوبر 1999 م - تونس. (¬2) من كبار القضاة في تونس.

حيثُ الرضا "الخضر الحسين" تخالُ ما ... يُبديه من غُررِ البيانِ قلائدا حيثُ ابتنى في مصرَ للخضراءِ مِنْ ... عِرفانِه علماً يغيظُ الحاسدا أعلى مناراً "للهداية" (¬1) في مغانيـ ... ـها فعادَ به المضلَّلُ راشِدا وبه "لوا الإسلام" (¬2) يخفق عالياً ... فأظلَّ مَحْروراً وأدفأَ صارِدا قد أذكرانا منه صرح "سعادة ... عظمى" (¬3) بتونس كان أعلى شائدا و"الأزهر" المعمور حبّر "سفره" (¬4) ... حقباً وأطلع في سَماهُ فَراقِدا ولكمْ به قد بثَّ علماً نافعاً ... نقعَ الغليلَ لمن أتاه وارِدا يحكي الذي أَحيا به "زيتونة" العرْ ... فان في علمٍ أضاء معاهدا و"المجمع اللغوي" (¬5) في مصرَ غدا ... فيه لما يُعلي العروبة ماهِدَا وبحسبِهِ أنْ راح يرأسُ "جبهةً" (¬6) ... لدفاعِ من ناوى المغاربَ صامدا ما زال يرأسها بعزمةِ أيِّدٍ ... في صحبة الأبرار يدأبُ ذائِدا سبحان من أولاك علماً واسعاً ... وتقىً وخلقاً مثل خِيمك ماجِدا يا فخرَ تونس يا ميمّمَ من نأى ... عنها بمصرَ مُهاجِراً أو وارِدا ¬

_ (¬1) إشارة إلى جمعية (الهداية الإسلامية) التي كان يرأسها، وإلى مجلتها التي كان يصدرها بمصر. (¬2) إشارة إلى مجلة "لواء الإسلام" التي كان يصدرها بمصر -أيضاً-. (¬3) إشارة إلى مجلة "السعادة العظمى" التي كان أصدرها بتونس قبل هجرته لمصر. (¬4) إشارة إلى مجلة "الأزهر" التي كان يرأس تحريرها عند ذلك. (¬5) إشارة إلى عضويته بالمجمع اللغوي المذكور بمصر. (¬6) إشارة إلى (جبهة الدفاع عن أقطار شمال إفريقية المحتلة) التي كان يرأسها.

يا أنسَ مغتربٍ وموئلَ لاجئٍ ... وكفى بما شهد البريّة شاهدا أهدي لكم مني تحيةَ شائق ... لكريم خلقكم الهنيّ مواردا ما زلتُ أذكرها بمصرَ مجالساً ... لكُم علينا قد نثًرْنَ فَرائدا (¬1) أبقاك من رقاكَ أرفعَ رتبةٍ ... وحباك من كل الأمورِ مَراشِدا وبقيتَ من كل الخُطوبِ مسلَّماً ... لجميعِ ما ترجو وتأملُ واجدا علي النيفر تونس 27 ذو القعدة 1368 هـ لما بلغت القصيدة الشيخَ الإمام محمد الخضر حسين، أنس بها، وأجاب عنها بقصيدة على نفس الروي والقافية، وجّهها للوالد (الشيخ علي النيفر) عن طريق البريد، بتاريخ المحرم سنة (1369 هـ - 1949 م) قدّم لها بما يلي: "حضرة الأستاذ الماجد الشيخ علي النيفر -حفظه الله-. بعد إهداء أطيب التحية، أتشرف بأن أجيب عن قصيدتكم الغرّاء بالقصيدة التالية": رعى اللهُ حسنَ العهْدِ هزَّ قريحةً ... فألْقَتْ علينا من حَلاها فَرائدا وما الكَلِمُ الفُصْحى سِوى دُرَرِ إذا ... تَلاقتْ على القِرْطاسِ صارت قَلائدا وربَّ قصيدٍ هاجَ ذكرى تثيرُ مِنْ ... تَباريحِ شوْقٍ ما يُذيبُ الجَلامدا قصيدٌ بدا من أفْقِ أرضٍ نشأتُ في ... مِهادِ رُباها لا عدِمْتُ القصائدا ¬

_ (¬1) إشارة إلى ما حباه به من كرم الوفادة عند اجتماعه به إبان مروره بمصر في أثناء ذهابه ورجوعه من الحج.

أبا الحَسَنِ اسْتَسْمَنْتَ ذا ورَمٍ أما ... ترى عزْمَه بين الجَوانح خامِدا (¬1) ولا خيرَ فيمنْ عاد صارمُ عزْمِهِ ... كَهاماً وَيرْضى أن يُسمّى المجاهِدا وأطربتَ ظمآنَ استبانَ لِداتُهُ ... مَواردَ عِرْفانٍ وضلَّ المَواردا نظرتَ بعينِ الوِدّ سيرَتَه فما ... دَرَيْتَ الذي تَدْريه لو جِئْتَ ناقِدا حَمِدْنا سُراكم يومَ وافيتَ قادماً ... على الطّائرِ الميمونِ للحجِّ قاصِدا طَلعْتَ علينا واشتياقي لتونسٍ ... يقلِّبُ جَمْراً بين جنبيَّ واقدا فأهْديتَ طاقاتٍ من الأُنْسِ طالما ... بَكَرْتُ لها بين الخَمائلِ ناشِدا لقيتُ بلقياكَ الأريبَ الذي حكى ... بسيرته الحسناءِ جَدّاً ووالدا (¬2) ذكرتُهما عندَ اللقاءِ وإنما ... ذكرتُ علوماً جمةً ومَحامِدا ولم أنْسَ أنْ كان الموقَّرُ جدُّكُم ... غداةَ امتحاني مُستشاراً وشاهِدا فنوَّهَ بي عَطْفاً وتنويهُ مِثْلِهِ ... يروّجُ ذِكْراً مثلَ ذِكْرِيَ كاسِدا (¬3) بعَيْشِكَ حَدِّثْني عن المعهد الذي ... قضيت به عهدَ الشبيةِ رائدا (¬4) حَظيتُ بأشْياخٍ ملأتُ الفؤادَ مِنْ ... تَجِلَّتهمْ لمّا خَبِرْتُ الأماجدا بيانُ أديبٍ يقلِبُ الليلَ ضَحْوةً ... وفِكْرَةُ نِحْريرٍ تَصيدُ الأوابِدا ¬

_ (¬1) أبا الحسن: الشيخ علي النيفر من كبار أدباء تونس وعلمائها، وشبَّ في وسط آل النيفر العلمي. (¬2) يعني بالجدّ: الشيخ محمد الطيب النيفر شيخ الإسلام المالكي، وبالوالد: الشيخ محمد النيفر والده، وهو قرينه في الدراسة. (¬3) يشير إلى موقف الجدّ المذكور عند اجتيازه مناظرة التدريس. (¬4) يعني: جامع الزيتونة الذي نهل من معارفه، وكان كثير الحنين إليه.

فلم يُرِني أدْرى وأنبلَ مِنْهُمُ ... رحيلٌ طوى بي أبْحُراً وفَدافِدا ويأبى قريضي وهو ضَيْفُ حِماكَ أن ... يَمُرَّ بمرْسى المَهْدوِيِّ مُحايِدا (¬1) فَلي في نَقاها جيرةٌ كنتُ أقتَني ... طَرائفَ من إيناسِهِمْ وتَلائِدا فدعْهُ يُحيّيهم حِفاظاً لعهْدِهِمْ ... ويأوي إلى مَغْناكَ في الطّرْسِ عائِدا المخلص محمّد الخضر حسين ¬

_ (¬1) أشار الشيخ الخضر بالأبيات الثلاثة الأخيرة إلى رغبته في إطلاع صاحبه وصديقه الوفي العلامة الإمام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور -رحمه الله-: على القصيدة. ويذكر الوالد -رحمه الله- أنه وفى له بطلبه، وأطلع شيخه على القصيدة المذكورة الذي أرجعها له بعد ذلك. وكان الشيخ الإمام في ذلك الوقت شيخ الجامع الأعظم، والوالد نائبه الأول. ومرسى المهدوي: معروف في ضاحية المرسى بتونس.

في ذكرى الشيخ الإمام محمد الخضر حسين (1873 هـ -1958 م)

في ذكرى الشيخ الإمام محمد الخضر حسين (1873 هـ -1958 م) حول شعر الخضر (¬1) موجز كلمة عن (شعر الشيخ محمد الخضر بن الحسين) ألقي في سهرة من سهرات رمضان (1418 هـ، 1998 م)، إثر محاضرة عن حياة الشيخ وأعماله ألقاها الأستاذ محمود شمّام ... على منبر (قدماء الصادقية). أعددت لهذه السهرة الرمضانية حديثاً موسَّعاً عن المغفور له العلامة الشيخ (محمد الخضر بن الحسين)، في خصوص (جانبه الشعري)؛ وذلك: بالنظر في ديوانه "خواطر الحياة"، وإخضاعه للمقاييس الشعرية: قديمها وحديثها. وبالنظر -أيضاً- فيما له- هو نفسه- من رأي في الشعر، أو في شعره خاصة، سواء من خلال شعره؛ كقوله: لا خيرَ فيمنْ جفَّ طبعاً، واشترى ... بلطائفِ الأدباءِ كأسَ مُدامِ والشعرُ كالبيْداءِ: هذا مَهْمَهٌ ... قفْرٌ، وهذا مرتعُ الآرامِ أو من خلال كتابه: "الخيال في الشعر العربي" الذي وقفت عنده قليلاً: أ - لأقارن -من حيث الشكل في الأقل- بينه وبين محاضرة شاعرنا: ¬

_ (¬1) "المجلة الصادقية": تصدرها (جمعية قدماء تلامذة المدرسة الصادقية) - العدد العاشر، جوان 1998 م - تونس.

(أبي القاسم الشابي) التي أُلقِيت على منبر جمعيتنا هذه: (قدماء الصادقية)، بعنوان: "الخيال الشعري عند العرب). ب - لأتساءل: أكان لأحدِ الرجلَيْن تأثّر بالآخر في هذا المجال، أو تأثيره فيه؟ ثم انتقلت من المقارنة بين الشابي وابن الحسين في أثريهما المعنِيّيْن بالخيال الشعري، إلى المقارنة بينهما في عنواني ديوانَيْهما؛ إذ تعلّقا معاً فيهما بالحياة، فبينما سمّى صاحب سَهرتنا ديوانه: "خواطر الحياة"، نجد الشابيّ يسمي ديوانه: "أغاني الحياة"!. وقد تساءلت -هنا أيضاً- عن مدى تأثّر أحد الشاعرين بالآخر، أو تأثيره فيه ... قلت: إنّي أعددت حديثاً موسّعاً، ذلك موجز مدخله ... إلا أن حرصي على الاختصار في تدخّلي هذا دعاني إلى الاقتصار فيه على النتائج، وطيّ المقدّمات، إلا أقلّها. ومن النتائج التي انتهيت إليها: أنّ الشيخ الخضر يندرج -حسب رأي- في الطبقة الثانية (¬1) من طبقات الشعراء الذين تحدّث عنهم الشاعر -أو الناظم- الطريف الذي صنع هذه الأبيات: الشعراءُ -فاعلمن- أربعهْ ... فشاعرٌ يجري ... ولا يُجرَى معَهْ وشاعرٌ يخوض كُلَّ مَعْمَعَهْ ... وشاعرٌ لا تَشْتَهي أنْ تسمعَهْ وشاعرٌ لا تَسْتَحِي أنْ تَصْفَعَهْ ¬

_ (¬1) جميع الأدباء والنقاد الذين درسوا شعر الإمام جعلوه في الطبقة الأولى من الشعراء.

ذلك؛ لأنّ صاحبنا مكتمل الأدوات الشعريّة، فهو متين الديباجة غالباً، عارفٌ بمداخل الشعر ومخارجه، قادرٌ على أن يلج به كل ميادين الحياة، ولكنّه لم يكن -في جُلّ شعره- بارع الخيال جدّاً، أو ذا صور شعريّة رائعة ... وإن كان من صوره ما يحرّك قارئه أو سامعه، وهو كثير، ويستجيب للقاعدة التي سنّها القديم القائل: إذا الشعرُ لم يَهْزُزْكَ عندَ سمِاعِهِ ... فليس جديراً أن يُقال له الشعرُ! ومن نماذج شعر الخضر: هذه القطعة التي اقتبس من عنوانها عنوان ديوانه: "خواطر الحياة"، والتي أنشأها وهو طريح الفراش، فظهر أثر ذلك في بعض أبياتها: أرَقٌ وهل يبغي القريحُ سوى السُباتْ؟ ... والقلبُ خفّاق كقادِمَةِ القَطاةِ لا تُرْهقيني -ياحياةُ- ضنىً ... أما ... يكفي خطوبٌ كالأسِنَّة في اللَّهاةِ؟ ما أنت ملقيةٌ بسلْمٍ أقتني ... في ظلّه الضافي مفاخرَ رائعاتِ وإذا طغَى سَقَمٌ ليُسلِمَني إلى ... بطنِ الثَّرى ... أيقظتُ أجفَانَ الأُساةِ إنْ كنتُ مرقاةَ الفلاح لأمَّةٍ ... ضَربت بسطوتها على أيدي البُغاةِ فالمَوتُ مِرقاةُ الهناءَةِ يوم لا ... يجد الأسارَى مِنْ فداءٍ أو حُمَاةِ ونزعة التأمّل والاعتبار التي تلوح في هذه القطعة، وفي عدد من مقطوعاته الأخرى، وأبياتٍ من قصائده، مع العلم -من الاطّلاع على حياته- أنه، إلى جانب تضلّعه في اللغة، كان من خيرة فقهاء عصره ... هذان الأمران دفعاني إلى التساؤل عمَّا إذا كان شعر الخضر من (شعر الفقهاء)؟.

وانتهيتُ إلى الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب وبالسلب في آن واحد، دون الشعور بأيّ تناقض: أجبتُ بنعم؛ لأنّ رَبَّ أيَّةِ صناعة لابدّ أن يتأثّر بصناعته تأثّراً يقوى حيناً، ويضعف حيناً. ولكن هذا التأثّر لا يبلغ مبلغ الانتقاص من قيمة إنتاج المنتج إذا كان يمتلك أدوات الإنتاج؛ وذلك ما أثبتناه قبلُ لصاحبنا. فالفقيه -أيُّ فقيه- لا يَعيب شعرَه أنّه فقيه، بل يعيبه أنه لا يملك ما يُنتجِ به الشعر؛ بأن يكون ضَحْلَ الخيال الذي يولّد به الصُّوَر الشعريَّة، أو يكون غيرَ قادر على التصرّف في اللّغة التي يعبّر بها عن صُوَره، برغم أنه يعرفها حقَّ المعرفة، بوصفه فقيهاً دارساً لكتاب الله تعالى، ولسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهما من أروع النّصوص الأدبية التي تميّزت بها الفغة العربية. واستدللتُ على أنّ وصف المنتج بالفقيه لا يعيب شعره حتماً، بأمرين: أوّلهما: أنّ من كبار الفقهاء، بل المجتهدين منهم، مَنْ كان معروفاً بالشاعريّة، وعنيت بذلك خاصة (الإمام الشافعي)، الذي جُمع له من شعره ديوانٌ، والذي يعتز بذلك الشعر، ويصل به الأمر إلى حد أن يفخر -وهو المتواضع- بشاعريّته، فيقول: ولولا الشعرُ بالعلماءِ يُرزي ... لكنتُ -اليومَ- أشعرَ من لَبيدِ ومن هذا القبيل: أن أهل الفكر والأدب، شعرِه ونثره، لم يكن أيٌّ منهم في المجتمع الإسلامي ليخلوَ من تمكّن من (الثقافة الإسلامية)، بما فيها: الفقه وأصوله، والعقائد ... ونحوها، ومع ذلك، فقد برع منهم مَن لا يحْصَون عدّاً في الإنتاج الأدبي -ومنه الشعر-، دون أن يُعاب أحدٌ منهم بفقهه أو عقيدته، وكفانا هنا ذكر (الجاحظ)، وما له من شهرة بالبراعة في النثر العربي، وهو

صاحب مذهب فيه، كما أنه صاحب مذهب في العقائد. لكن لا يمكننا أن ننكر -مع كل ما ذكرناه- أن للفقيه حدوداً خلُقيّة يقف عندها، ولا يسمح لنفسه أن يتجاوزها في سبيل أن يوصف إنتاجه الشعري أو غيره بأنه جيّد. كما أنّ له قِيَماً ومبادئ تتسرّب في شعره- حتى إذا لم يتعمّد إقحامها - تأثّرَاً بمكوّناته ... بينما يتحللّ منها الشاعر غيرُ الفقيه، بما يُكسبه قَبولاً عند قرّائه ومستمعيه، ويجعل حظّه في النجاح أوفر. وخاصّة لدى الشبّان، والمتطلّعين إلى دغدغة العواطف! وقديماً قيل: "الشعر نكِدٌ ... يضعف في الخير، ويقوى فيما عداه"، أو ما في معناه. وقد ختمتُ هذا الاستدلال الأول بذكر (أبي العتاهية) في طوره الثاني، حين أعلى في شعره الزهد ... وقلتُ هنا: إنّ أحداً لم يقل بأنّ هذا الشاعر لم يعد في هذا الطور شاعراً؛ لأنه تزهّد، ومال إلى القول في الأخلاق والدين، وركّز بدل الدنيا على الآخرة. وأشرت إلى أنّه لم يحتفظ بمكانته الشعريّة إلّا لأنّ اكتمال أدواته الشعريّة لم يزُل عنه. وكذلك كل شاعر، ولو كان فقيهاً كالشيخ الخضر؛ مع بقاء الفوارق القائمة بين أيّ شاعر وآخر، أو طبقة وأخرى من الشعراء، طبعاً. وثانيهما: -أي: ثَاني الاستدلالَيْن-: أنّه لا فرق عندي بين الشاعر الفقيه، والشاعر الحقوقي، وغيرهما من أصحاب الاختصاصات العلمية الأخرى، في عصرنا وبلدنا، وفي سواهما من الأعصار والأمصار، ومن أمثلة ذلك: أ - في تونس: - الشاعر الحقوقي: محمد الهادي المدني. - الشاعر الصيدلاني: الحبيب جاوحدو.

- الشاعر الاقتصادي: محمد السعيد الخلصي. - الشاعر الفيزيائي: علي بلحاج (علي عارف). - الشاعر المؤرخ: الميداني بن صالح. ب - في مصر: - الشاعر المهندس: علي محمود طه. - الشاعر الطبيب: إبراهيم ناجي. الشاعر النحال: أحمد زكي أبو شادي ... إلخ. ولمَ نذهب بعيداً، ونحن نعلم أن "رباعيّات الخيّام" من أروع الشعر العالمي، وصاحبها فلكي؟! وأن "إيليا أبو ماضي" آية في الشاعرية بين المعاصرين، وهو تاجر؟. هذا ما يخصّ الإجابة بـ "نعم" عن سؤالنا: هل كان شعر الخضر بن الحسين شعر فقهاء؟. أمّها الإجابة بـ "لا"، فقد اكتفيتُ فيها بإيراد نماذج من شعر الخضر، تُغني عن أيّ تعليق، وإن علّقت على بعضها، وهي تقيم الدليل على أنّ صاحبنا شاعر لا يخلو من إجادة، بل وبراعة. فالرجل الذي يقف في مناسبات عديدة بين أقطاب اللغة والمعرفة والأدب من عرب مسلمين، وعرب غير مسلمين، ومُستشرقين، وغيرهم من السياسيّين المتضلّين في الخطاب وفنون القول، ويلقي قصائد مطوّلة، أو لنقل: معلّقات يصل بعضها إلى ستين بيتاً، لا يضعف فيها ولا تتداخل معانيه؛ لا يمكن أن يُحجب عنه وصفُ الشاعريّة، أو تُنتقص بأنّها من (شعر الفقهاء). فلنستمع إليه وهو يخاطب أولئك المختصّين، مُحَييّاً (مجمع اللغة

العربية بمصر) الذي هو أحد أعضائه المؤسِّسين؛ فيقول في المطلع: ما زلتَ تقتِنصُ المنى أسْرَابا ... وتُديرُ من خَمْرِ الصَّفا أكوابا ويقول بعد: أسلو البقاعَ سوى تهامةَ إنها ... كانتْ إذا خبروا البلادَ لُبابا هي هالةُ العرْبِ الأُلى شادوا على ... هامِ النجوم الزاهراتِ قِبابا وأمدّهم وحيُ السّماءِ بحكمةٍ ... ساسوا بها الأجسامَ والألبابا إنْ سولموا كانوا الملائكَ سجَّداً ... أو حُوربوا كانوا الليوثَ غِضابا عرّجْ على التاريح يُملِ عليك من ... خطراتِ هاتيكِ النفوسِ عُجابا لا أظنّ أنّ مثل هذا الشعر فيه ما يعيب قائله! بل هو الشعر! ولا أظنّ أننا في حاجة إلى الوقوف مع الخضر أمام (مجمع اللغة العربية) مرّة أخرى، برغم أنّه كرّر وقفاته عنده، وعدّد قصائده فيه، مُنَوّهاً بالمجمع وغاياته النبيلة، ومنتصراً للّغة العربية الفصيحة، ومُحَيِّياً رجالات الفكر الذين يعملون في صلب المجمع لإحياء اللغة وقواعدها وتراثها؛ جارياً في ذلك على نحو ما كان أنشده هو نفسُه من شعر في "حياة اللغة العربية"، على غرار ما فعل حافظ إبراهيم على لسانها ... ومن أبيات الشيخ الخضر: لُغَةٌ أُودِعَ في أصدافِها ... من قوانينِ الهدى أَبْهى دُرَرْ! لغةٌ يُقطَفُ من أغصانها ... زهْرُ آدابٍ وأخلاقٌ غُرَرْ هي بحرٌ ... غُصْ على حِليتها ... فلآلي البحر ليست تنحصر ونخلص من حديث "اللّغة" في هذا الشعر، إلى استعراض جملة الأغراض

التي عني الخضر في قصائد ديوانه بالإنتاج فيها: وهي -في مجموعها- أغراض الشعراء الذين سبقوه، أو عاصروه من أبناء العروبة والإسلام، إلّا أنّه اهتمّ كثيراً بالمبادئ والقيَم؛ من دين، وأخلاق، واجتماعيّات ... خصّص لبعضها قصائد، واكتفى في بعضها الآخر بمقطوعات، أو خواطرَ عابرة. وأحسب أن الأَنَفَة وعزّة النفس هي أبرز -أو من أبرز- ما أنشأ فيه شعره. مثلاً: (نخوة): تبغي الليالي إن تَفُلَّ حُسامي ... وتصدَّ وجدي بالعلا وغرَامي طفقَتْ تحثُّ خُطا المطيّةِ بعدَما ... أَلقت لها أيدي النّوى بزِمامِ أتَخالني أبلَى بسلوةِ خاملٍ ... ما شطَّ عن وطني العزيز مقامي العزمُ ما بين الجوانح مرهَفٌ .... والمجدُ أنّى سِرتُ فهو أمامي والحديث عن (الوطن) الأنيس في هذه الأبيات ينبهنا إلى غرض آخر جليل من أغراض شعر الخضر، لا يكاد يغفل عنه، وهو (الوطنيات) التي ألهبت حماستَه إلى القول فيها غُربتُه الطويلة المبكرة، وكثرةُ ما عاناه في تنقّلاته ورحلاته (البَطّوطية). ومن نماذج وطنيّاته: قَوله -إثر محادثة له مع أديب قدم عليه من تونس-: أمحدّثي ... رُبّيتَ في الوطن الذي ... رُبّيتُ تحتَ سمائه وبلغتُ رُشْدا وجَنْيتَ زهر ثقافة من روضَةٍ ... كنتُ اجتنيتُ بنفْسجاً منها ووَردا هاتِ الحديث ... فإنّني أصبو ... إلى ... أنباء "تونسَ" من صميم القلب جِدّا وهو لا يذكر "تونس" إلّا ذكر معها، أو في مقدّمة حديثه عنها "جامع الزيتونة"، ونوّه به وبأهله، معترفاً بفضله -وفضلهم- عليه، كما يتّضح ذلك

من المثال سالف الذّكر، وسواه. ويرتبط بوطنيّاته أوثقَ ارتباط: غرضان آخران، هما: "المِلّيّات" بما يشمل "العروبة" و"الإسلام" وبلدانهما، ثم "الإخوانيّات" بما يشمل الكلام عن أصدقائه وأترابه القدامى والمحدَثين. ففي مجال "المِلّيّات" نجد الرجل من السبّاقين إلى تناول موضوع "فلسطين والصهيونية"، وما لوعد "بلفور" من ظلم فادح للعرب والمسلمين، وفي قصيدة: "أي فلسطين" شاهدٌ على ما نقول؛ إذ جاء في أبياتها الأولى قوله: نصبَ البُغاةُ على ذراكِ لواءَ ... وكسَوْا مرابعَكِ الحسانَ دماءَ كنتِ الشّرى ... وديارُك الآجَامُ ... لا ... يبني حَوالَيْها الجبانُ خِبَاءَ وبنوكِ أسْدٌ ... مَن يجسّ طبَاعَها ... لم يلقَ إلا نخْوةً وإِبَاءَ وفي الأثناء نجده يقول: ما لليهود استوطنوكِ ... وصاعروا ... بعد الهوانِ ... خُدودَهم خُيَلاءَ هاتي -فلسطينُ- الحديثَ عن الذي ... خَلَعت يداه على اليهود وَلاءَ وأعدَّ للعرب الكرام قذيفَةً ... فتّاكةً ... أو طعنةً نَجْلاءَ! ما "وعد بلفورٍ" سوى الزَّبَدِ الذي ... يطفو ويذهبُ في الفضاءِ جُفاءَ نرجو أن يكون كذلك، ولكن لا يظهر لهذه النّبوءة في الواقع أيّ أثر. وللشاعر في "الملّيات" قصائدُ ومقطوعاتٌ عن غير فلسطين، وأخصّها عن "دمشق الشام، والسعوديّة، وتركيا، وشمال إفريقية، ومصر"، وغيرها، ونحن نكتفي بما ذكرناه منها.

أما "الإخوانيّات"، فهي عند ابن الحسين ميدان فسيح، وعالم ممتع له ولقرّاء شعره؛ تلمس فيه وفاء الرجل وإخلاصه، وحسنَ تعامله مع الذين تربطه صلة الأخوة بهم، وتربطهم به. وتتميّز إخوانيّاته التونسية عن سواها تميزاً واضحاً؛ إذ هي ترتبط عنده دائماً بذكرى الوطن، والحنين إليه وإلى ذويه. ومن بين التونسيين يتميز الشعراء الذين بادَلَهم شعراً بشعر؛ كأمير شعراء تونس المغفور له "محمد الشاذلي خزنه دار"، والشاعر الملهَم المغمور الشيخ "عليّ النيفر" ... وحتى الشعراء غير المعروفين بإنتاجهم للشعر من التونسيّين؛ مثل: الشيخ "محمد المأمون النّيفر". ومن طريف من نلتقي بهم في هذا المجال الإخواني: علّامتنا الشيخ "محمد الطاهر بن عاشور" الذي نكتشفه شاعراً في مراسلة لصديقه الحميم شاعرِنا العلّامة الشيخ "محمد الخضر بن الحسين" الذي يجيبه عنها بقصيدة من وزنها وقافيتها: فقصيدة ابن عاشور منها: قوله في أولها: بعدتَ ونفسي في لقاكَ تَصيدُ ... فلم يغنِ عنها في الحنانِ قصيدُ وخلّفتَ ما بين الجوانحِ غُضَةً ... لها بَين أحشاءِ الضّلوعِ وَقودُ وفي جواب الخضر نقرأ قوله، في المطلع: بعدتُ بجثماني. . . وروحي رهينةٌ ... لديكَ. . . وللودِّ الصميمِ قيودُ لقيت الوداد الحُرَّ في قلب ماجد ... وأصدق من يُصْفي الوداد مَجيد! ويقول في بيت الختام ... ولا ينسى وطنيّه ونضاله:

ليالٍ قضيناها بتونس ... ليتَها ... تعودُ وجيْشُ الغاصِبين طَريدُ وعلى ذكر ابن عاشور أقول: إنّ في شعر ابن الحسين ما يدل على أنّه يعتبره صفيّه وخلّه الودود، ولذا فإنه كلّما ذكر تونس، أو شأناً من شؤونها، أو بعضَ أهلها، جرّه ذلك إلى ذكر "ابن عاشور"، كما كان يذكر "الزيتونة"، ولا يوازي الشيخَ ابنَ عاشور في هذه المكانة إلا أحمد تيمور باشا في مصر، وفي ذلك يقول بعد موت تيمور: تقاسَم فلبي صاحبانِ، وَدِدْتُ لو ... تملَّتْهُما عينايَ طولَ حياتي وعلّلتُ نفسي بالمنى، فإذا النوى ... تُعِلّ الحشا طعناً بغير قَناةِ فـ (أحمدُ) في مصرٍ قَضى و (محمّدٌ) ... بتونسَ لا تَحظَى به لحظاتِي أعيشُ وملءُ الصدْرِ وحشةُ مترفٍ ... رمتْه يدُ الأقدارِ في فَلَواتِ ومن هذه "الإخوانيات" أنتقل مع شاعرنا الخضر إلى غرضين تقليديين، هما: "المدائح"، و"المراثي". فأمّا "المدائح"، فهي نادرة في شعره، ولكنّها موجودة؛ وفي طليعتها ما لا يكاد يخلو منه ديوان شاعر مسلم، وهو: "مدح خير البريّة" - عليه الصلاة والسلام والتحيّة -. وللشيخ الخضر في ذلك أكثرُ من مدحة نبويّة، ومنها "قافيّة" في "ذكرى المولد" عام 1359 الهجري، يقول فيها: ذكرْنا كيفَ لاحَ جبينُ طه ... وهَبَّ الفجرُ يُؤْذِنُ بانبثاقِ كأن الفجرَ والميلادَ جاءا ... لإجلاءِ الظّلامِ على اتّفاقِ ألا مَنْ مبلغٌ قمراً توارى ... وساطعُ نورِه في الناس باقِ سلاماً كالصَّبا مرّت بروضٍ ... ولاقتها الكمائمُ بانفتاقِ

أرومُ مديحَه وإخالُ أنّي ... سأحظَى منه بالسيْلِ الدِّفاقِ فيبهرُني عُلاه ... كأنّ فكري ... توثّبَ وهو مشدودُ الوَثاقِ ومن مدائح الخضر الشهيرة: "موشحه التّام" المطوَّل الذي أنشأه في "عبد الرحمن الداخل": (صقر قريش) ... ولا مجال هنا لإيراده. وأمّا "المراثي"، فهي عند الشيخ الخضر بابٌ آخر من أبواب القول الذي يتحرّى الإجادة فيه، والتعبير به عن الوفاء والإخلاص، فوقَ التعبير عن لوعة الفراق الأبدي، وما ينوب المفجوعين في الفقيد -أو الفقيدة- من خسارة لا تعوّض بحال. وقد تناولت مرثيات الخضر في الطليعة: أمّه، السيّدة "حليمة بنت الشيخ مصطفى بن عزّوز"؛ وتناولت زوجته -بل إحدى زوجاته- السيدةَ "زينب". كما تناولت عدداً من الشخصيات التاريخية؛ مثل: "صلاح الدين الأيوبي"، أو المعاصر مثل الوزير "محمد العزيز بو عتّور"، وشيخه المفضّل المحترم "سالم بو حاجب"؛ وله مراثٍ في سوى هؤلاء. وممّا جاء في رثاء والدته: قوله: أوْدَعُوها قعْرَ لحدٍ، ضرَبوا ... فوقَه من لازبِ الطينِ خِتاما يا سقاةَ التّرب ماءً. . . هاكمُ ... عبراتي. . . إنّ في الجَفن جِماما أفلا يبكي الفتى نازحةً ... سهرَتْ من أجله الليلَ وناما؟ هنا أقف عن عرض المختارات المبوّبة من شعر محمد الخضر بن الحسين، بل عن الكلام بالتمام، برغم أنّ عنوان ديوان شاعرنا "خواطر

حياة" حملني على تتَبُّع خواطره الحرّة المسجّلة في مقطوعات، والمنبثقة بين قصائده هنا وهناك؛ وبعد تتبّعها، اخترت منها الكثير، وبوّبتها، وعلّقت على بعضها تعليقات لا يتّسع المقام لتقديمها، ولا حتى لتقديم الخواطر مجرّدة عن التعليقات، وإن كان في بعضها طرافة وشاعريّة. فليقس ما لم يقل ... الأستاذ البشير العريبي (¬1) ¬

_ (¬1) كاتب تونسي.

قال أمير شعراء تونس الشاذلي خزنة دار في تهنئة الشيخ الخضر بن الحسين بمشيخة الجامع الأزهر، ودخول العام الهجري الجديد

قال أمير شعراء تونس الشاذلي خزنة دار في تهْنِئَة الشيخ الخضر بن الحسين بمشيخَة الجامع الأزهر، ودخول العام الهجري الجديد " لِمشيخةِ الجامعِ الأزهَرِيّ ... تَهاني ابن تُونسُ والجامِعَيْنِ وَإِقْبال عَام جَديد سَعيد ... يُؤَرّخُهُ الخِضر بنُ الحُسَيْنِ" 1372 هـ - 1952 م

محمد الخضر بن الحسين التونسي

محمد الخضر بن الحسين التونسي (¬1) (السيد محمد الخضر بن حسين التونسي) المالكي، اللغوي، شيخ الجامع الأزهر، الإمام، العلامة، البحر، الحبر، الصالح، الفالح. ولد -رحمه الله تعالى- سنة 1292 هـ في "نفطة" من مقاطعة الجريد بتونس. ووالده من أسرة شريفة أصلها من الجزائر. وكانت والدته من صالحات النساء، وله فيها قصيدة: (بكاء على قبر) أنشأها لما بلغه خبر وفاتها سنة 1335 هـ، ووالدها جدّه لأمه من أهل العلم والفضل أبو النخبة مصطفى بن محمد بن عزّوز الولي العارف الفقيه التقي، المتوفى سنة 1282 هـ، ترجمه في "شجرة النور الزكية"، وتاريخ الوزير أحمد ابن أبي الضياف، وللشيخ إبراهيم الرياحي فيه مدائح شعرية ونثرية. وأبو جدّه لأمه العالم الفاضل العمدة محمد بن عزّوز المقرئ، أخذ عن والده القراءات والعلوم، ترجمه في "شجرة النور الزكية"، والشيخ الحفناوي ابن عروس في "تعريف الخلف برجال السلف". ¬

_ (¬1) من كتاب "تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع. أو إمتاع أولي النظر ببعض أعيان القرن الرابع عشر". جمع: أبي سليمان محمود سعيد بن محمد ممدوح الشافعي -عفا الله عنه-. طبعة دار الشباب للطباعة- القاهرة.

أما خاله، فهو الإمام الرحلة السيد محمد المكي بن عزوز المالكي، فهو من كبار علماء عصره، اشتهر بالحديث والفقه، والأصول والأدب، مع الصلاح الظاهر، وترى في "فهرس الفهارس" للسيد عبد الحي الكتاني- رحمه الله تعالى- ثناء كبيراً عليه في المقدمة، وفي ترجمته، توفي في إستانبول سنة 1334 هـ -رحمه الله تعالي-، وترجمه ابن أخيه السيد محمد الخضر، وله قصيدة في رثائه أثبتها في "ديوانه"، وهو من أَمَنِّ الناس عليه في العلم. وفي سنة 1306 هـ انتقلت أسرته من "نفطة" إلى تونس، وكان قد تلقى بعض المبادئ الشرعية والعربية، وتأدب بأدب الإسلام، فالتحق بجامع تونس الأعظم الزيتونة سنة 1307 هـ، وتلقى العلم عن جهابذة علماء الزيتونة، وفي سنة 1321 هـ حصل على الشهادة العالمية، وطُلب منه التدريس، ولكنه أبى، وواظب على حضور دروس مشايخه، ومنهم: سالم بن عمر بو حاجب، وخالد المكي بن مصطفى بن عزّوز، وصالح الشريف، والمفتي محمد بن عثمان بن النجار، وغيرهم من أكابر علماء الزيتونة. وفي سنة 1324 هـ تولى القضاء بمنطقة (بنزرت)، والتدريس والخطابة بجامعها، ولكنه بعد عدة سنوات ترك القضاء؛ لأن الجمع بينه وبين حياته العلمية صار صعباً عليه، فجلس للتدريس بجامع الزيتونة، وفي المدرسة الصادقية بتونس، واعتنى بالكتب الملحقة بالزيتونة، وقام بترتيبها. وفي أثناء تدريسه، كان له عدة محاضرات في أماكن متعددة، دعا فيها إلى طاعة الله تعالى، والوقوف على أسرار أحكام الشريعة المطهرة، ومجاهدة الكفار، واعتنى باللغة العربية اعتناءً قلَّ نظيره. وفي سنة 1329 هـ، وجهت إليه -بسبب مهاجمته للكفار- تهمة العداء

للغرب، وأصبح ملاحقاً، فسافر إلى الآستانة متذرعاً بزيارة خاله المذكور، ثم عاد إلى تونس، ولكنه وجد الأمر كما هو أولاً، فعزم على الهجرة إلى دمشق الشام -حرسها الله تعالى-، فمرَّ في طريقه إليها بمصر، واجتمع بالنخبة المختارة؛ كالشيخ بخيت المطيعي، والشيخ حسونة النواوي، والشيخ أبي الفضل الجيزاوي، والشيخ طاهر الجيزاوي، وصديقه الحميم -فيما بعد- أحمد تيمور باشا، وغيرهم. ولما وصل دمشق، اعتنى بمقابلة العلماء، وتفحّص المخطوطات، ودرّس اللغة العربية في (المدرسة السلطانية) بدمشق. وفي سنة 1331 هـ ركب سكة الحجاز لزيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأداء النسكين، فتم له ذلك، وله قصيدة في هذه الزيارة ذكرها في "ديوانه". وفي أثناء تدريسه للغة العربية في دمشق، درّس كتاب "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام الأنصاري المتوفى سنة 761 هـ بمحضر جماعة من حذّاق الطلاب، وكان يرجع في المسائل المتعلقة بالسماع والقياس إلى الأصول المقررة والمستنبطة، فاقترح عليه بعض الطلاب جمع هذه المحاضرات، فألف مقالات تشرح حقيقة القياس في اللغة العربية، ومنها ألف كتابه الفذّ "القياس في اللغة العربية" المطبوع مرات. وتردد في هذه الفترة ما بين إستانبول ودمشق، وفي أثنائها دخل السجن في دمشق، ثم أُفرج عنه بواسطة أنور باشا. وبعد تدهور الأحوال في الشام، ودخول الكفار، هاجر الشيخ إلى مصر سنة 1339 هـ. وفي مصر اشتغل بالكتابة والتحرير والدرس، مع المطالعة التي لا تنتهي.

ورغب -رحمه الله تعالى- في الانتظام في سلك علماء الأزهر، فتقدم لامتحان الشهادة العالمية -وهو العالم المشهود له بعلمه من العلماء-، فقام على امتحانه لجنة برئاسة العلامة الشيخ عبد المجيد اللبان، وكانت اللجنة كلما اكتشفت آفاق علمه، زادت في المناقشة، وتخرّج على يديه واستفاد بعلمه كثير من الحذاق. وفي سنة 1344 هـ كتب ردّاً قوياً دفع به شُبه كتاب "الإسلام وأصول الحكم" سمَّاه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، وفي شهر واحد نفدت طبعته؛ لشدة الإقبال عليها، ثم كتب رداً قوياً على كتاب "في الشعر الجاهلي"، سمَّاه: "نقض كتاب الشعر الجاهلي". وتسابق أصحاب المجلات الإسلامية إليه للكتابة على صفحاتها، فكتب في مجلات "نور الإسلام"، و"الأزهر"، و"الهداية الإسلامية"، و"الشبان المسلمين"، و"لواء الإسلام". وأسس جمعية إسلامية كبرى اسمها: (جمعية الهداية الإسلامية) ضمت العديد من علماء الأزهر، وكان يقضي كثيراً من الليل بها في محاضرة الشباب وأهل الفضل بأساليبه البليغة السهلة، وتقريره الحسن، وقد جمع الكثير من محاضراته هذه في كتابه "رسائل الإصلاح" الذي طبع في ثلاثة أجزاء. وعندما أسس (مجمع اللغة العريية) بالقاهرة، كان المترجَم له من أقدم أعضائه، وكتب في مجلته، وساهم في نشاطه إسهاماً ملموساً، وله بحوث وقصائد في الدفاع عن اللغة العربية، وبيان أسرارها، وعرض جوهرها، وانتخب عضواً مراسلاً بالمجمع العلمي العربي بدمشق. وواصل السيد محمد الخضر حياته في الخطابة والمحاضرات، والكتابة

والدرس في حلقات الأزهر وكلياته، فكان يدرِّس بكليتي أصول الدين والشريعة منذ حصوله على العالمية. وفي سنة 1370 هـ نال عضوية هيئة كبار العلماء بالأزهر المعمور برسالة "القياس في اللغة العربية". وعندما وقع الانقلاب العسكري في مصر سنة 1371 هـ , وحُلّت الأحزاب السياسية، اختاره قادة الانقلاب شيخاً للجامع الأزهر، فعيّن فيه يوم الثلاثاء 26 من ذي الحجة سنة 1371 هـ، ولكنه ترك هذا المنصب بعد فترة؛ ليواصل العكوف على الكتب والكتابة. وفي 13 رجب سنة 1377 هـ انتقل إلى رحمة العليم الرحمن الرحيم المنّان، وفي اليوم التالي صُلّي عليه بعد الفريضة في الجامع الأزهر، ومشى في جنازته العلماء من أحبابه وطلابه، والمنتسبين إلى العلم، وكانت جنازته كبيرة حتى بلغ النعش بابَ الخَلْق والموكبُ متصل فيما بينه وبين الأزهر، ودفن بجوار صديقه العلامة البحّاثة أحمد تيمور باشا المتوفى سنة 1348 هـ - رحمهما الله تعالى-. وترك عدّة من المصنفات، ذكرتُ بعضها، وله غير ذلك: "تعليقات على كتاب الموافقات في الأصول للإمام الشاطبي"، و"تعليقات على شرح التبريزي للقصائد العشر"، و"رسالة في السيرة النبوية الشريفة"، و"رسالة في آداب الحرب في الإسلام". أما مقالاته المتعددة، فهي بكثرة؛ بحيث إن جمعت، زادت عن عشرة مجلدات.

رثاء المنعم العلامة الشيخ محمد الخضر حسين نظم الشيخ المنعم على النيفر

رثاء المنعم العلامة الشيخ محمد الخضر حسين نظم الشيخ المنعم على النيفر قال الشيخ في رثاء شيخه العلّامة الإمام محمّد الخضر حسين هذه القصيدة، التي كان يعتزم المشاركة بها في حفل الأربعينية الذي أقامته (الجمعية الخلدونية) لتأبينه، إلا أنه يذكر أنه لم يتمكن من ذلك؛ لأنه لم يتمها. وهذه هي القصيدة: ليَوْمِك خَطْبٌ صيَّر الدمعَ جامدا ... وساءَ أحبّاءً كما سرَّ حاسدَا ومثلُكَ من تَهْمي عليه مدامعٌ ... ولكنَّ هوْلَ الخطْبِ قد لجَّ جاهِدا إذا ذُكِرَ الأعلامُ في الشَّرْعِ واللُّغى ... عددناكَ ألْفاً لسْتَ في العَدِّ واحدا (¬1) لكُمْ في صراع المبْطِلينَ موَاقفٌ ... تَرُدُّ عن الحقِّ الجريءِ المُجالِدا لكَ اللهُ كَمْ أفحمْتُمُ مِنْ مُعانِدٍ ... لكَ اللهُ نِحْريراً لكَ اللهُ ناقِدا لقد كنْتَ في ماضي حياتِك عِبرْةً ... وإنّك في ذا اليَوم أوعَظ هاجِدا لئن مُتَّ ما ماتتْ مآثرُك التي ... تخطّتْ بحاراً للدُّنا وفَدافِدا وما ماتَ من أبْقى جميلاً مخلَّداً ... ولا ماتَ من أولى عُلاً ومَحامِدا لقد شِدْتَ للخضراءِ مَجْداً وسُؤدَداً ... وأبقيْتَ للزَّيْتونةِ الفَخْرَ خالِدا ¬

_ (¬1) اللُّغى: جمع اللغة.

وكم أبرزتْ زيتونةُ العِلْمِ تلكَ مِنْ ... فطاحلَ في جيدِ الزمانِ قلائِدا كمثْلِ ابنِ خلدونٍ ومثلِ ابْن عَرْفةٍ ... وغيرهما ممن تجلّوْا فرائِدا وكم بهمُ فاخرتَ دهراً وحسب ذي الْـ ... ـحِفاظ وفاءً ذكرُه ما تباعَدا بِهَدْيِهمُ ما بيننا كنتَ تهتدي ... ومَنْهَلَهم منه لقد كنتَ وارِدا بـ (زيتونةِ) العرفانِ و (الصادقية) انْـ ... ـبَرَيْتَ لِبَثِّ العلْمِ تُلْقي فَرائِدا وأنشأتمُ سِفْراً بـ"عظمى سعادة" ... يضُمُّ علوماً جَمَّةً وفوائِدا وفي (ثغرِ بنزرتٍ) وليتُمْ (قضاءه) ... فأنصفتَ مظلوماً يَؤُمُّك قاصِدا لقد زِنْتَ ما وُلِّيتَه من مناصبٍ ... وحسْبُكَ ما يروي البريةُ شاهِدا وأزمعتَ عنّا بعد ذاكَ ترحُّلاً ... إلى حيثُ قد لاقيتَ حَظّاً مساعِدا وما الذنبُ يُعْزَى إذْ رحلتُم لتونسٍ ... ولكنَّ دهراً للكرامِ مُعانِدا ففضلُكَ يتلوه الزمانُ ولا ترى ... بذا القطْرِ من يُلفي له الدهرُ جاحِدا قضيتَ وخَلَّفْتَ الثناءَ معطّراً ... إلى مصرَ حيثُ الضيفُ يكرمُ وارِدا ثويتَ بها في خير مَثْوىً يحل مَنْ ... أوى لحماه من ذوي الفضل وافِدا فثابرتَ في نصْرِ الحقيقةِ جاهداً ... وفي نصر دينِ الحقِّ كنتَ مُجاهِدا وأنشأتَ فيها (للهدايةِ) نادياً ... يردُّ إلى الحقِّ الجَحودَ المُعانِدا وأصبحتَ فيها من كبارِ هداتِها ... و"أعلامِها" تهدي إلى الرُّشْدِ حائِدا وللأزهَرِ المعمورِ صِرْتَ "عَميدَه" ... وأعظِمْ بكُمْ فيهم رئيساً وقائِدا وللَّغةِ الفُصْحَى لقد زِنْتَ مجمعاً ... وأيقظْتَ منها فيه ما كان هامِدا علي النيفر

تونس ملهمة الشعراء محمد الخضر حسين

تونس ملهمة الشعراء محمد الخضر حسين (¬1) ما الأنسُ في أقداح تدورْ ... ما بينَ حورْ إنَّ الَّتي تلفحنا في الصّدورْ ... نارُ الغيورْ من الشعراء الّذين عشقوا تونس، وتغنّوا بها في كثير من القصائد والمقطوعات، وحنّوا إليها وهم في ديار الغربة، ونارُ الشّوق ملتهبة في نفوسهم، نذكر: محمّد الخضر حسين كما يبدو في ديوانه "خواطر الحياة". طبع الديوان مرّات عديدة بالقاهرة سنة 1946 و 1953 م، وبدمشق سنة 1978 م. ولد الشاعر بنفطة سنة 1873 م، والتحق بجامع الزّيتونة وهو في الثّانية عشرة من عمره، وتحصّل على الشّهادة العالميّة في العلوم الدّينيّة والعربيّة، كان له نشاط ثقافي وصحفيّ باهر أوّلاً بتونس؛ حيث أصدر فيها مجلّة "السعادة العظمى"، ثم بالقاهرة حين التجأ إليها سنة 1920 م، وأصدر فيها مجلة "الهداية الإسلاميّة"، ورأس تحرير مجلّات عديدة، منها: مجلّة "نور الإسلام"، و"لواء الإسلام". عيّن عضواً بالمجمع العلمي العربي بدمشق، والمجمع اللّغوي بالقاهرة، وتولّى مشيخة الجامع الأزهر سنة 1952 م وتوفّي سنة 1958 م. ¬

_ (¬1) كتاب "تونس ملهمة الشعراء" للدكتور أحمد الطويلي.

يتردّد اسم تونس في ديوان "خواطر الحياة" في عدد من القصائد والمقطوعات، منها: موشّح طويل يبثّ فيه أشواقه إلى وطنه تونس، ويرسل تحيّاته إليه، ويثير ذكرياته به، ويخاطب مواقع جميلة: حيّا ربَى تونسَ ذات الزّهور ... عهدُ السّرورْ وافترّ في طلعةِ تلكَ القصورْ ... أنسُ البدورْ يصف محمّد الخضر حسين تونس بالجمال، ويرسم نفسه المشوقة التي تحسّ بداء الغربة وهو داء عضال، قد ذهب الشّاعر له فريسة يلهب خياله: ما ليَ لا ألمحُ من ذي الجمالْ ... سوى الخيالْ ألَمْ يكنْ يُدْني قطوفَ الوصالْ ... بلا مَلالْ الشوقُ ألقى مُهْجتي في نضالْ ... ماضي النّصالْ ماذا ترى والهجرُ فيما يُقالْ ... داءٌ عُضَالْ ويقول: يا موْطني لم أنس عهدَ الشّبابْ ... عذبَ الرِّضابْ بَيْني وبين المجد عهدٌ يُهابْ ... فلا عِتابْ إنهّ ابتعد عن موطنه لبناء مجده في دار الغربة، وليخدم بلاده، فكان من رجالات النّهضة في العالم العربي في النّصف الأوّل من القرن العشرين. ويحنّ الشّاعر إلى شاطئ المرسى المونقال في طالما تمتعّ بالتّنزّه فيه، فيشير إلى النّسمات العليلة التي تهبّ من البحر، فتسْتروح النّفوس، إنّها نسمات الوطن المحمّلة بالنّفحات العبقة التي تهبّ برداً وسلاماً على القلوب، فتحييها من ركودها، وتجدّد نشاطها وإلهامها: يا نسمةً ماست كشارب راحْ ... قبل الصّباحْ

والطّلُّ أصفى من دموع المِلاحْ ... فوق الوِشاحْ هُبّي وجُزي في النّوادي الفساحْ ... ذيلَ المرَاحْ هبي وهاتي نفحَ أُنسٍ قَراحْ ... يَشْفِي الجراحْ ومن المقاطع الجميلة التي تزخر بمشاعر الشّوق والحنين إلى تونس الخضراء، وإحساس الألم للبعد عنه، هذا المقطع يكشف فيه الشّاعر أنّه تلقّى دروس الحبّ منذ كان صغيراً فيه، وأن تونس في قلبه، وأنّها أرض طيّبة، "وطن طاب مبيتاً ومقيلاً": وطني علّمتني الحبَّ الذي ... يدعُ القلبَ لدى البيْن عَليلا لا تلمني إنْ نأى بي قَدَرٌ ... وغدا الشّرقُ من الغَرْب بَديلا عَزْمةٌ قد أبرَمتْها همّةٌ ... وَجَدَتْ للمجد في الظّعن سبيلا أنا لا أنسى على طولِ النَّوى ... وطناً طاب مَبيتاً ومَقيلا في يميني قلمٌ لا ينثني ... عن كفاح وَيرى الصّبرَ جَميلا وعندما زاره بمصر أديب قادم من تونس الخضراء، حرّك أشجانه، وألهب حنينهَ، وأثار ذكرياته، فعبّر عن حبّه لوطنه، ذاكراً علاقته به، ووفاءه له؛ إذ هو يَدين له بتكوّنه العلمي، ويتشوّق إلى أخبار تونس وناسِها، فيقول مخاطباً هذا الأديب، وكلّه عرفان بالجميل للوطن: أمحدّثي رُبّيتَ في الوطن الذي ... رُبّيتُ تحتَ سمائه وبلَغْتُ رُشْدا وجَنيْتَ زهْرَ ثقافةٍ من روْضةٍ ... كنتُ اجتنيتُ بنفْسجاً منها ووَرْدا هاتِ الحديثَ فإننّي أصبو إلى ... أنباء تونسَ من صميم القلب جِدَّا ونشير إلى القصيدة ائتي تعجّ بعواطف الأسى الناتجة عن البعد عن

الوطن، وكأنّ ضمير الشّاعر يؤنبه على الهجرة، وتركه تونس بلاد الأنس والعيش النّاعم والأهل الطّيّبين، فيعبّر عن لواعج الحنين إليها، وأسمى المشاعر نحوها، وأجمل التّمنّيات؛ لتعيش تونس أبداً "تسامي في علاها الفرقدين". وهذا هو الحوار الذي ضمّنه الشاعر قصيدتَه، حوار بينه وبين شخص لامه عن نزوحه إلى أرض المشرق، فيقول: رَضيتُ عن اغترابي إذ لَحَاني ... فَتىً لا ينظرُ الدُّنيا بِعَيْني يقولُ: تُقيمُ في مصرٍ وَحيداً ... وفقدُ الأنس إحدى الموتتَيْنِ ألا تحدُو المطيّةَ نحو أرضٍ ... تُعِيدُ إليكَ أُنْسَ الأسْرتَينِ وعيشاً ناعماً يدع البقايَا ... من الأعمار بِيضاً كاللُّجَيْنِ وقومٌ أَمْحَضوكَ النُّصحَ أمسوا ... كواكبَ في سماء المغربَيْنِ ويختم محمّد الخضر حسين قصيدته بعد أن يبيّن الظّروف القاهرة التي ألجأته إلى الهجرة بهذين البيتين المعبّرين عن نفثة المشتاق، والعلاقة الوطيدة بين الشّاعر ووطنه تونس الخضراء. يقول وهو العاشق الولهان الذي تثور في نفسه الذّكريات الطّيبة، فيحنّ إلى تلك اللّيالي الّتي قضاها في الرّياض التّونسيّة: أحنُّ إلى لياليها كصبٍّ ... يَحِنُّ إلى لَيالي الرَّقْمَتَيْنِ (¬1) ومطمحُ همّتي في أن أراها ... تُسامي في عُلاها الفَرْقَدَيْنِ (¬2) الدكتور أحمد الطويلي (¬3) ¬

_ (¬1) الرّقمتان: روضتان بناحية الصّمان. (¬2) الفرقدان: نجمان قريبان من القطب الشمالي يهتدى بهما. (¬3) أستاذ جامعي تونسي، وباحث وكاتب له عشرات المؤلفات.

رسائل محمد الخضر حسين

رسائل محمّد الخضر حسين (¬1) بقلم الدكتور أحمد الطويلي صدرت بدمشق "رسائل الخضر" بعناية حفيدهِ للأخ علي الرّضا الحسيني، ومعلوم أن محمد الخضر حسين هو صاحب أول مجلة ظهرت في تونس، هي مجلة "السعادة العظمى" التي صدرت سنة 1904 م، وعُيّن إماماً لجامع الأزهر سنة 1952 م، وتوفي بالقاهرة سنة 1958 م، وهو صاحب العشرات من التآليف العلمية والأدبية، والمئات من المقالات كان نشرها في المجلات والجرائد بتونس ودمشق والقاهرة. ويكشف كتاب "من أوراق ومذكرات الإمام محمد الخضر حسين، رسائل الخضر" الكثيرَ عن حياة الإمام الأديب من خلال رسائله، وعلاقته بعلماء تونس، وبأسرته التي بقيت فيها إثر هجرته إلى المشرق، ففي هذا الكتاب نجد رسائل نثرية وشعرية كتبها الخضر إلى محمد الطاهر بن عاشور، ومحمد الصادق النيفر، ومحمد المقداد الورتتاني، وخاصة إلى أخيه محمد المكي بن الحسين، وغيرهم من علماء تونس. فقد بقي محمد الخضر على صلة وطيدة بوطنه الأول، يتتبع أخباره، ¬

_ (¬1) جريدة "الحرية" تونس. العدد الصادر في 20/ 1/ 2000 م.

يبعث إليه بمنشوراته، ويحث الأساتذة على الكتابة في المجلات التي أسسها في مصر، أو التي رأس تحريرها. إلا أننا نستقي كثيراً من الأخبار عن إقامته المصرية من خلال رسائله إلى أخيه محمد المكي بن الحسين، فهو يتصل بجريدتي "الوزير"، و"النديم" اللتين تصدران بتونس. وهو يقول في إحدى رسائله إليه: "نريد إطلاع المصريين وعلماء الشرق على آثار علماء تونس، وخصوصاً بعد أن رأيناهم يعجبون بما يكتبه أولئك الأساتذة، ويقوم لديهم شاهد على أن في تونس نهضة علمية راقية" (ص 66)، وهو يطلب من أخيه أن يتصل بالشيخ أبي الحسن النجار "إن كان له تحرير في بعض الموضوعات العلمية، فليتكرم بإرساله لينشر في المجلة" (ص 66). هو يُعلِم أخاه بأنه اتصل بمقال من الشيخ الشاذلي النيفر، وسينشره له، ويفيد: بأن حسن حسني عبد الوهاب بادله الزيارة، وسافر إلى فلسطين، ومنها إلى الشام، "وقد قوبل هنا -أي: في مصر-، ما ولاسيما من وزارة الأوقاف بالاحترام، إذ رأوا فيه نباهة وفضلاً". وقد كان للخضر الفضلُ في إدخال محمد الطاهر بن عاشور للمجمع العلمي بالقاهرة، يقول في رسالة موجهة إليه: "عُقدت في المجمع اللغوي جلسة لتعيين أعضاء مراسلين، وقد عرضتُ اسمَ فضيلتكم، ووقع الإجماع على انتخابكم عضواً مراسلاً للمجمع، وهذه العضوية ترشح صاحبها لعضوية المجمع من بعدُ عند الحاجة إلى ذلك، ولهذا رضيت الاكتفاء بهذه العضوية، وإن كان مقامكم أعلى منها" (ص 122). وهو يرد تهمة أنه فرنسي تابع للحماية الفرنسية، فيقول في رسالة موجهة

إلى محمد رشيد رضا صاحب مجلة "المنار": "الواقع أني بارحت تونس بقصد الإقامة في دمشق الشام سنة 1331 هـ، وعندما نزلتها كتبتُ اسمي في سجل التابعين للحكومة العثمانية (...)، وبعد انتهاء الحرب قدمتُ مصرَ، وكلما اقتضى الحالُ أني أكتبُ تبعيتي في ورقة رسمية، أثبتُّ فيها أني تابع للحكومة المحلية، ولا أعرف -إلى كتابة هذه الأسطر- مكانَ السفارة أو القنصلية الفرنسية في القطر المصري، ولا أدري في أي شارع من شوارع القاهرة هي" (ص 96). وقد بقي في مصر مصحِّحاً بالقسم الأدبي من دار الكتب قبل أن يُنتدب لإلقاء الدروس بجامع الأزهر، وكان يجمع بين العملين، ثم انفرد بالثاني. وهو يعطينا تفاصيل عن عمله اليومي، ونشاطه العلمي ساعةً بساعة بالقاهرة (ص 62 و 68 و 95)، ويقول عن تجنسه بالجنسية المصرية في رسالة مؤرخة في ذي الحجة 1350 هـ: "قرر مجلس الوزراء منحي التجنس بالجنسية المصرية، وسعيت في هذا؛ لأن تعييني للتدريس على وجه ثابت يتوقف عليه" (ص 74). وبالجملة: نجد 15 رسالة إلى محمد الطاهر بن عاشور، وإحدى عشرة رسالة إلى محمد المكي بن الحسين، وأربع رسائل إلى محمد الصادق النيفر، ورسائل شعرية مفردة إلى العديد من العلماء والشعراء، منهم: محمد الشاذلي خزندار، ومحمد المكي بن عزوز، ومحمد رشيد رضا، وزين العابدين بن الحسين ... إلخ

الخضر حسين، محمد (27/ 7/ 1292 - 14/ 7/ 1377 هـ) (1874 - 3/ 2/ 1958 م)

الخضر حسين، محمد (¬1) (27/ 7/ 1292 - 14/ 7/ 1377 هـ) (1874 - 3/ 2/ 1958 م) من هو- أول شيخ لجامع الأزهر في عهد حكومة الثورة في مصر، عالم جليل، شاعر، ومجاهد كبير، ومصلح اجتماعي، تونسي المولد والنشأة، مصري الدار والإقامة، وعضو (جمعية كبار العلماء في الأزهر) منذ عام 1951 م، وعضو (المجمع العلمي العربي) بدمشق، و (المجمع اللغوي) في مصر، ورئيس جمعية (الهداية الإسلامية)، ورئيس (جبهة الدفاع عن شمال إفريقية)، ورئيس تحرير مجلة "نور الإسلام"، ومجلة "لواء الإسلام"، ومنشئ مجلة "الهداية الإسلامية". هو شقيق السيد زين العابدين من كبار العلماء بدمشق، والسيد محمد المكي بن الحسين من كبار العلماء بتونس. ولد في مدينة "نفطة" في تونس، وبها نشأ، وتلقى العلم بجامع الزيتونة، وأحرز منه الشهادة العالمية، وتولى القضاء الشرعي في مدينة "بنزرت" وضواحيها. أُسند إليه التدريس في الجامع المذكور، وفي المدرسة الصادقية، ونشر في تونس بواكير مؤلفاته. جاء دمشق عام (1331 هـ، 1912 م)، وألقى دروساً له في الجامع الأموي. شدّته إلى الشيخ عبد الرزاق البيطار، وجمال الدين القاسمي آصرةٌ متينة من الود الخالص. ¬

_ (¬1) كتاب "مصادر الدراسة الأدبية - الفكر العربي الحديث في سير أعلامه" منشورات الجامعة اللبنانية - تأليف الأستاذ يوسف أسعد داغر - طبعة بيروت 1972 م.

سافر إلى "الآستانة" أيام الحرب العالمية الأولى، وتولى التحرير بالقلم العربي في وزارة الحربية، ثم عاد إلى دمشق، واعتقله جمال باشا مدة. هاجر إلى مصر عند احتلال الفرنسيين دمشق عام 1920 م، فأنشأ فيها (جمعية الهداية الإسلامية). عيّن مصححاً بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية. نال الشهادة العالمية من الأزهر، وتفرغ فيه للتدريس في كليتي الشريعة وأصول الدين نحواً من 20 سنة. تولى رئاسة تحرير مجلة "الأزهر" من جمادى الأولى 1352 إلى رجب 1371 هـ، بعد أن تولى مدة رئاسة تحرير مجلة "لواء الإسلام". وكسب بعد طول مكثه في مصر الجنسيةَ المصرية، وعيّن بعدها شيخاً للأزهر، فكان أول شيخ له في عهد الثورة. * مؤلفاته: - "آداب الحرب في الإسلام" (رسالة في نظام الحرب وآدابه في الإسلام). - "الحرية في الإسلام" - تونس، 1907 م، ص 64) رسالة في حقيقة الحرية والشورى والمساواة). - "الدعوة إلى الإصلاح" - تونس، المطبعة الرسمية العربية، 1328 (1910) ص 41. راجع في هذه المؤلفات: مجلة "المجمع" (18: 81). نقده في "المقتبس" (7: 782). - "خواطر في الحياة" - القاهرة، 1947 م (ديوان شعر). - "الخيال في الشعر العربي" - مصر، المطبعة الرحمانية، 1340 (1922)، ص 92 (رسالة أدبية في 92 صفحة تبحث في ماهية الشعر، وأهمية التخيل وأنواعه، وفنونه وأطواره، والغرض منه).

- "رسائل الإصلاح"، الجزء الأول- مجموعة تتضمن 25 مقالة أو رسالة في ضروب الإصلاح الديني والمدني مقسمة إلى أربعة أقسام: 1 - قسم الأخلاق والاجتماعيات. 2 - قسم المباحث الدينية. 3 - قسم السيرة النبوية وتراجم الرجال. 4 - مباحث اللغة وصناعة الأدب. نقده في مجلة "المجمع العلمي العربي بدمشق" (18: 81). - "القياس في اللغة العربية". نقده في "مجلة "المجمع العلمي العربي" (مجلد 18: 83). - "محمد رسول الله وخاتم النبيين" (شذرات من السيرة النبوية). - "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" - القاهرة، المطبعة السلفية، ص 245 (ردّ فيه على كتاب الشيخ علي عبد الرازق). نقده في "مجلة المجمع" (5: 569). - "نقض لكتاب: في الشعر الجاهلي" لطه حسين - القاهرة، المطبعة السلفية 1345 هـ، ص 362 (رد فيه على آراء الدكتور طه حسين في "الشعر الجاهلي"، في عداد من ردوا عليه، وهم كثيرون، منهم: محمد جمعة في كتابه "الشهاب الراصد"، ومحمد أحمد الغمراوي في كتابه "النقد التحليلي لكتاب: في الأدب الجاهلي"، ومصطفى صادق الرافعي في كتابه: "تحت راية القرآن"، و"المعركة بين القديم والجديد"، والشيخ مصطفى الغلاييني في كتابه: "نظرات في اللغة والأدب"، ومحمد فريد وجدي في كتابه: "نقد كتاب الشعر الجاهلي". نقده في "المشرق" 27 (1929): 72.

مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها

مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها (¬1) من علماء الدين رجالٌ اطلعوا على أسرار الشريعة، فأنشؤوا يبثّونها في صور مختلفة، وُيشربونها القلوبَ بلسان يوافق الأذواق العصرية، ومن هذه الفئة الفاضلة: السيد محمد الخضر بن الحسين، من مدرسي الجامع الأعظم في تونس سابقاً، فقد اعتاد هذا الأستاذ أن يلقي محاضرات يبيّن فيها حكمة الشريعة، ينشرها في كراسات خاصة يبثّها بين جميع الطبقات. وآخر محاضراته التي ألقاها في تلك العاصمة رسالة في "مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها" أفاض فيها من حكمة التشريع والشراع وتقسيمها، ومنابع الشريعة الإسلامية، والإسلام دين وسياسة، واختلاف المذاهب وانتشارها، وطبقات الفقهاء، والفقهاء والأمراء، كل ذلك بعبارة منسجمة تجمع إلى الطلاوة متانة، وهاك نموذجاً مما قاله في اختلاف المذاهب: كره الشارع التفرقَ في الآراء، وندب الأمةَ إلى الوفاق بقدر ما يمكنها، ولكنّه يعلم أن تماسكهم وسيرهم في جميع الأحكام على مذهب واحد غيرُ ميسر لهم، فأذن لهم -بعد بذلهم الوسع في اتفاق الرأي- أن تأخذ كل طائفة بما استقرت عليه أفهامهم، ولا يضرّهم -متى تمكنوا في صناعة تقرير الأحكام، واستوفوا شروطها- أن لا يصيبوا وجه الحق في الواقع، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حكم ¬

_ (¬1) مجلة "المقتبس" - دمشق المجلد الثامن (ص 310 و 311).

الحاكم، فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، فأخطأ، فله أجر"، وأطلق الشارع للعقول عنانها في الاجتهاد؛ ليفتح لها المجال في النظر، ويربيها على مبدأ الاستقلال بالرأي، حتى لا يستولي عليها التقليد من جميع جهاتها، فيتخللها الجمود، ويصبح الفرق بينها وبين العقول المتصرفة كالفرق بين الماء الراكد في حمأ، والماء المنهمر على الصفا لا يمازجه كدر. ومن شعر بهذه الحكمة، لا يمكنه الغض من جانب علماء الإسلام، حيث أفضى بهم الاجتهاد إلى الاختلاف، بل هذا مما يجر إلى الاعتراف بمزيتهم، ويبرهن على أنهم نشؤوا على مبدأ البحث واستقلال الفكر، ولو أنهم كانوا بعقول خامدة، وإرادة ميتة، لاتبعوا ما يفتي به أولُ فقيه منهم، وتسلموه بتقليد. وبعدَ أن أبان الوجوه المتعددة التي تدعو المجتهدين إلى الخلاف، قال: ولو أن أهل الإسلام استمروا على تأليف الجمعيات العلمية؛ لتحرير أحكام الحوادث، واستخلاص الحقيقة من الآراء المتلاقية، لالتأمت عدة خلافات حقيقية، وسقطت أقوال كثيرة من حساب مسائل الخلاف، وقد كان للسلف اهتمام بجمع العلماء في المسائل المشكلة؛ فقد نقل الحافظ ابن عبد البرّ عن المسيب بن رافع: أنه إذا جاء الشيء من القضاء ليس في الكتاب، ولا في السنّة، رُفع إلى الأمراء، فجمعوا له أهل العلم، فما اجتمع عليه رأيهم، فهو الحق اهـ.

حفلة الترحيب بالرئيس الجليل

حفلة الترحيب بالرئيس الجليل (¬1) أقامت (جمعية الهداية الإسلامية) حفلة ترحيب بفضيلة رئيسها الجليل العلامة المجاهد السيد محمد الخضر حسين، احتفاءً بعودته سالما غانماً من الأقطار الحجازية. فأخذت دار الهداية زُخرفها، وازّينت، وأقبل العلماء والأدباء والجمهور من كل حدب؛ وافتتح الحفل بالقرآن الكريم قارئ الجمعية الشيخ عباس حسن، ثم نهض فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، فارتجل كلمته المنشورة فيما بعد، وقفّاه فضيلة الأستاذ الشيخ محمد منجود بكلمة رقيقة مناسبة، وتلاه الأستاذ الشيخ علي سيد منصور، فأنشد قصيدته العصماء التي تراها في غير هذا المكان، ثم ألقى الشيخ عبد الوهاب سليم كلمة جيّدة جامعة، ووقف على أثره الأستاذ حسن أفندي، فارتجل كلمة جذابة فياضة، وتقذم فضيلة الأستاذ الشيخ علي محفوظ، فألقى كلمة ترحيب قيّمة، شفعها بالكلام على فضل يوم عاشوراء، وما أحدث الناس فيه. وكتب وخطب ورحّب وهنّأ عدد كثير غير هؤلاء لا تتّسع المجلة لذكرهم، كما لا تنسى لهم صادقَ شعورهم، وجميلَ عطفهم. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد الخامس، الصادر في صفر 1352 هـ.

وكان الأستاذ الرئيس قد انتبذ من الحفلة مكاناً قصياً؛ حياءً من مواجهة الثناء والتقدير والإكبار الذي يُفاض عليه من حضرات الخطباء والشعراء (¬1). وأخيراً: أقبل فضيلته يمشي على استحياء، وجعل يشكر الحفلة والمحتفلين في أدبه الجم، ووقاره المعروف، وكلماته الحكيمة، وقد اعتذر فضيلته بأنه لم يعلم بالحفلة إلا من الصحف، بعد إعلان حضرات أعضاء الجمعية عنها، ثم وعد فضيلته أن يتحدث عن رحلته هذه في فرصة قريبة. وختمت الحفلة كما بدأت بآي الذكر الحكيم من الصيّت المبدع والقارئ الممتع الشيخ عباس حسن. ¬

_ (¬1) لم تنشر جميع الخطيب والقصائد في مجلة "الهداية الإسلامية"؛ مما يؤكد عزوف الإمام محمّد الخضر حسين عن الإطراء والمديح.

حفلة تكريم رئيس الجمعية

حفلة تكريم رئيس الجمعية (¬1) أقامت (جمعية الهداية الإسلامية) حفلة تكريم لفضيلة رئيس الجمعية السيد محمّد الخضر حسين بمناسبة عودته من البلاد السورية، وضمَّ إلى هذه المناسبة مرور عشر سنين على تأسيس الجمعية، وكان ذلك في مساء الجمعة (16 شعبان سنة 1356 هـ - الموافق 22 أكتوبر سنة 1937 م). ولما حلَّ موعد الحفل، أقبل على دار الجمعية نخبة من رجال الفضل والعلم والأدب، ثم قام الجميع إلى موائد الشاي، وبعد أن تناولوا الشاي، قام الأستاذ محمود حافظ أمين السر العام للجمعية، والمدرس بكلية العلوم، وخطب بإسهاب عن حياة فضيلة الرئيس، وقد نشرناها فيما بعد. ثم تلاه فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عرفة عضو مجلس إدارة الجمعية، والأستاذ بكلية اللغة العربية، فتكلم على حياة الأستاذ من الوجهة العلمية، ثم عرَّج على مكانته بين الأساتذة. وبعد ذلك تكلم فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب سليم عضو مجلس الإدارة، ونوّه بالخلق الحميد الذي نشأ عليه فضيلة رئيس الجمعية. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد العاشر الصادر في (رمضان 1356 هـ - نوفمبر 1937 م).

وتلاه محمود عبد المجيد عضو مجلس الإدارة، وأمين سر شعبة شباب الهداية ورهط الجوالة، والطالب بكلية الحقوق، فذكر فضلَ فضيلة المحتفَى به على الشباب، وغرسَه فيهم الروح الدينية في أسلوب بليغ يجعلهم يقبلون عليها. ثم جدد العهد بين يديه نيابة عن زملائه شباب الجمعية وأعضاء الرهط. ثم تكلم الأديب موس شوقي أحمد عضو مجلس الإدارة، وأمين السر المالي للجمعية، والطالب بكلية الحقوق، على أدب فضيلة الرئيس، وتلا القصيدة التي حيا بها دمشق في هذه الرحلة، فقوبلت بالاستحسان. ثم قام الأستاذ الدكتور محجوب ثابت بك، فذكر ما لتونس من يد طولى على العلم والدين، كما ذكر ما كان لفضيلة المحتفَى به من طيب الأثر وحسن العمل. وبعد ذلك تكلم الأديب عبد الغني محمود نيابة عن فرع الجمعية بالجيزة، فأجاد، ونوّه بفضل الرئيس وجهاده في سبيل الدعوة للخُلق والسجايا الحميدة. ثم خطب الأديب محمد خير الجلاّد عن الجالية السورية، فأحسن، وذكر ما كان يسمعه من أساتذته الذين تلقوا العلم عن فضيلة الأستاذ السيد محمد الخضر حسين، وما كانوا يذكرونه من غزارة علمه وتواضعه ووفائه. وبعد ذلك تكلم أحد أعضاء النادي الأندونيسي نيابة عن رئيس النادي والجالية الأندنوسية في مصر، فشكر للرئيس كرم أخلاقه في معاملة ضيوف مصر من المسلمين. ثم تكلم الأديب عبد الرزاق الحمود عضو البعثة العراقية، بكلية الحقوق

عن الجالية العراقية، والشباب العراقي، فشكر -أيضاً- للرئيس عطفه على الشباب الإسلامي، ونوّه بنواحي الفضل التي عرف بها فضيلته. وخطب الأستاذ الهياوي، والدكتور عبد العزيز نظمي بك. وألقى فضيلة الأستاذ المحتفَى به كلمته المنشورة فيما بعد. وانتهت الحفلة حيث كانت الساعة العاشرة مساء، والكل يلهج بالثناء على ما تقوم به الجمعية من الأعمال، وما يصرفه فيها فضيلة الرئيس من المجهودات الموفقة (¬1). محمود عبد المجيد أمين سر شعبة شباب الهداية ¬

_ (¬1) لم تنشر الكلمات التي ألقيت بالحفل في مجلة "الهداية الإسلامية" وهذا ما يظهر ابتعاد الإمام محمد الخضر حسين عن الثناء والمديح لعلمه وفضله. وإنها خسارة للتاريخ والثقافة عدم نشرها.

تكريم أعضاء في جمعية الهداية الإسلامية

تكريم أعضاء في جمعية الهداية الإسلامية (¬1) * من خطبة الأستاذ عبد المنعم خلاف: والواقع أنّ هنا مَنْ هم أحقُّ بالتكريم منا: هؤلاء هم الذين تعهدونا برعايتهم حتى وصلنا إلى الغاية التي كرمتمونا من أجلها. هم الذين أرونا النقص الذي يملأ حياتنا، وبصّرونا بالثغر التي كنّا فيها، ثم سمّدونا نحوها، فكنّا بهم طلبة غير عاديين، لا عن ذكاء فارط، ولا عن علم ضافٍ ... ولكن باهتمامنا بالمسالة الإسلامية، فإذا شئتم، فكرّموهم هم، فما يُكرم النبات لنموه وازدهاره، وإنما تُكرم الأيدي التي تعهدته وحاطته. ومن أعظم الذين تعهدونا بتربيتهم: شخصيتان عظيمتان في الجماعات الإسلامية، هما: فضيلة السيد الجليل محمد الخضر حسين رئيس هذه الجمعية، وحضرة الكاتب الكبير السيد محب الدين الخطيب كاتم سرها. أما أولهما، فمثَلٌ للإنسانية الفاضلة التي تدع من يتصل بها يشعر شعوراً عميقاً أنه أمام مثل يضربه الله بين يدي هذا العصر؛ ليفسر به قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، وهو خير مصداق ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد الخامس الصادر في رجب 1351 هـ. أقامت جمعية "الهداية الإسلامية" حفل تكريم أعضاء جمعية الهداية الإسلامية الذين أكملوا دراستهم العليا. وهذه مفتطفات من بعض الخطيب.

لقول القائل: "كلما زاد علم الرجل، خفض جناحه، كالشجرة كلما زادت ثمارها، تواضعت أغصانها". وحقيقة يا سادتي! إن السيد الخضر طراز نادر في هذا الزمن! فهو - على امتلائه بقدر من العلوم والمعارف قلّما يتيسر لغيره من معاصريه، وعلى نباهة شأنه بين أهل زمانه، حتى إنه ليعدّ حجة من حجج الإسلام -هو- على هذا كله - خافض الجناح، مصفى الخلق، متواضع، يسير في طريقه كما يقف في صلاته. وناسُ هذا الزمان أعلى رؤوسهم أفرغُها، وأرفُع أصواتهم أنكرُها، فهم كالطبول تملأ الدنيا ضجيجاً، ولكنك إذا غمزتها بإبرة، تكشفت لك عن تجويف وفراغ. وناحية أخرى في السيد الخضر جديرة بالاقتداء: هي عمله الدائب للإسلام -على شيخوخته وعلو سنّه-، ولن ينسى الذين رأوه في الاجتماعات التمهيدية لتأسيس (جمعية الشبان المسلمين) في ذلك المكتب التاريخي بدار المكتبة السلفية، تلك الشيخوخةَ الجليلة المتحمسةَ المواظبةَ، التي كانت تأبى إلا أن تتولى الأعمال الكتابية في تلك الجلسات، دون أن تتركها للشباب. فبمثل هذا فليقتدِ الذين يريدون أن يعود مجد الإسلام. فإلى هذا الينبوع يرجع قسط عظيم مما فينا من ماء، ولولاه لخرجنا كما يخرج أغلب شباب هذا البلد، لا نرمي إلى غاية، ولا نسعى إلى مثل، فهما أحق بالتكريم لا نحن -بارك الله فيهما، وأثابهما كفاء ما لهما من فضل-. * من خطبة الأستاذ الشيخ عبد القادر يوسف: منذ خمس سنين أو يزيد، فكرتُ أنا وفريق من إخواني شباب الأزهر الناهض فيما وصلت إليه حال المسلمين من الضعف والانحلال، تلك الحال

التي سهَّلت لأعداء الإسلام الاجتماعَ والتآمر ضدَّه، وفكرنا مع ذلك في الدعايات الواسعة النطاق التي قامت بها جيوش أهل الباطل، هذه الدعايات التي نظمت وأحكمت: فمن جمعيات للتبشير تغزو قلوب الشباب تحت ستار العلم، وتلقي في روعه الشك، وتزحزحه عن دينه بزخرف القول وزوره، ومن مستشفيات يستغل المشرفون عليها ما بالمريض من ضعف، وما عنده من أمل في الشفاء؛ ليؤثروا على عقيدته. ومن جرائد تنفث سموماً فتاكة باسم المدنية والتجديد. في هذا الجو الذي تجاوبت فيه أصداء المضلّلين، وتكاثفت فيه سحب الباطل، حتى كادت تحجب ضياء الحق؛ عقدنا النية على القيام بعمل يُناهض عملَ المبطلين. ولما اختمرت الفكرة في نفوسنا، عرضناها على رجل من كبار المصلحين، عرفنا فيه العزم الصادق، والإيمان الثابت، والتضحية بمثلها الأعلى في سبيل إعلاء كلمة الله. ذلكم الرجل العامل هو صاحب الفضيلة السيد محمد الخضر حسين. عرضنا فكرتنا على فضيلته، فتقبلها بقبول حسن، وأنبتها نباتاً حسناً. فكان قبوله لها أكبر مشجع لنا على السير في طريقنا، وما زال يتعهدنا بنصحه، ويرسم لنا الطرق المجدية حتى برزت الفكرة من حيز القول إلى حيز العمل، فظهرت هذه الجمعية الناهضة، وشعارها: الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

تقدير علمي

تقدير علمي (¬1) كان رئيس تحرير هذه المجلة قدَّم نسخة من مؤلفه "رسائل الإصلاح" إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ الجامع الأزهر سابقاً، فتلقى من فضيلته الخطاب الآتي: حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد الخضر حسين، عضو المجمع اللغوي، والمدرس بكلية أصول الدين، ورئيس جمعية الهداية الإسلامية بمصر. السلام عليكم ورحمة الله. وبعد: فقد تلقيت بمزيد السرور والغبطة كتابكم القيم: "رسائل الإصلاح"، كما تلقيت من قبلُ كتبكم النافعة المفيدة، وإني أشكركم على ما تقدمونه من كتب نافعة في الدين والعلم والأخلاق. وأسال الله أن يُبقيكم لتفيدوا العالم الإسلامي بما تقدمونه من كتب نافعة مفيدة، والسلام على فضيلتكم، ورحمة الله. ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد الحادي عشر، الصادر في جمادى الأولى 1358 هـ.

مذكرات شيخ الأزهر

مذكرات شيخ الأزهر (¬1) الأوراق الخاصة بشيخ الأزهر التونسي محمد الخضر حسين انتقلت إلى دار الكتب والوثائق؛ لتزيح عنها التراب، بينما تنفرد "روز اليوسف" بالاطلاع على المذكرات التي تؤرخ لمعارك مهمة في تاريخ هذا الوطن. من الأوراق الكثيرة التي يصل عددها إلى الآلاف، كان لابد أن ننتقي الأهم. وأوراقه تقول: إنه ولد في تونس في الثلث الأخير من القرن قبل الماضي، وتلقى العلم في جامع الزينونة الذي كان الجامعة الإسلامية الثانية بعد الأزهر. ثم تولى القضاء في مدينة "بنزرت" التونسية، وهو يسجل هذا في مذكراته قائلاً: "في شهر ربيع الآخر سنة 1323 هجرية، وهو يوافق 1902 ميلادية، عُينت قاضياً لمدينة "بنزرت" وملحقاتها، وقد أصدر المرسومَ محمد الهادي باشا باي صاحبُ المملكة التونسية -سدد الله تعالى أعماله، وبلّغه آماله-". ¬

_ (¬1) مقتطفات نزيهة وشريفة اخترناها من تحقيق صحفي نشرته مجلة "روز اليوسف" في العدد 3778 تاريخ 10/ 11/ 2000 م القاهرة؛ لما فيها من أهمية ذكرها الإمام محمد الخضر حسين بنفسه. وصرفنا النظر عن فقرات أخرى لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وهي من نسج خيال وتصورات وأوهام المجلة.

وكما هو واضح، فقد كان الشيخ يملك طموحاً كبيراً تعجز تونس عن استيعابه، لذلك أدرك أنه لابد من الهجرة إلى الشرق، وخاصة أنه كان يعارض الاحتلال الفرنسي بشدة، ويعتبر السلطان العثماني هو صاحب الولاية الشرعية على بلاد المسلمين. ولذلك اختار أن يسافر إلى دمشق التي كانت لا تزال في قبضة الوالي العثماني الصارم جمال باشا، وكان يحكمها باسم السلطان العثماني. والأكيد أنه لعب دوراً أساسياً لصالح تركيا وألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وهو ما جعل الفرنسيين يطلبون رأسه، ويحكمون عليه بالإعدام عقبَ سفره من تونس، ثم يكررون الحكم عقب استيلائهم على دمشق في 1916 م. ومن الواضح أن حياته في دمشق لم تكن سهلة؛ فقد تعرض هناك للاعتقال، وإن كان قد حقق ما أراد من الالتحام بالحركة السياسية في المشرق العربي. لكن الجزء الأهم من أوراق شيخ الأزهر هو ذلك الذي يروي فيه سفره لألمانيا بعد سقوط "الآستانة" في يد قوات الاحتلال بثلاثة أيام. وهو يذكر علاقته بعدد من الساسة المصريين الذين كانوا وقتها رجال السلطان العثماني، قائلاً: "في سنة (1333 هـ 1915 م) سافرت إلى الآستانة بطلب من وزارة الحربية، وقابلت أنور باشا، وتقرر سفري إلى ألمانيا، فسافرت يرافقني أحد الضباط الألمانيين، ومررنا على رومانيا، والنمسا حتى وصلنا إلى برلين، ووجدت في المحطة الشيخ عبد العزيز جاويش، والدكتور منصور رفعت، ونزلت المنزل الذي به الشيخ جاويش، والشيخ عبد الرشيد إبراهيم، وقابلت

سفير الدولة العلية إبراهيم حقي. ثم ذهبت إلى وزارة الخارجية، وقابلت بعض موظفيها، ثم ذهبت إلى إدارة الاستخبارات الشرقية، ولقيت هناك الشيخ أحمد والي أخا الشيخ حسين والي، وكان مدرساً للغة العربية في جامعة برلين. وأقمت في برلين عشرة أيام، وذهبت بعدها يصاحبني مدير إدارة الاستخبارات الشرقية إلى قرية تبعد عن برلين مسيرة نحو خمسين دقيقة في القطار، يقال لها "ويزندورف"، وبقرب من هذه القرية محلُّ أسرى الحرب التونسيين والجزائريين والمراكشيين (¬1)، ودخلت محل الأسرى، ورأيت بينهم كثيراً ممن كنت عرفتهم في تونس والجزائر، وأقمت في نُزُل بهذه القرية نحو شهرين، أتردد خلالها على برلين، ثم انتقلت إلى الإقامة في نفس برلين، وصرت أذهب منها إلى قرية "ويزندورف" في الأسبوع مرتين أو ثلاثة". وفي جزء آخر من أوراقه عن أيامه في ألمانيا يقول: "وكنت ألاقي في إدارة الاستخبارات الشرقية كبير المستشرقين "نفرتمن"، وكان قد أنكر على الحكومة الألمانية موافقتها لتركيا على إعلان الجهاد الديني، ووجدت بينه وبين الشيخ صالح الشريف مناقشات في هذا الشأن. وأخذنا نتحدث عن الفرنسيين، فأثنى على أخلاقهم، وقال: إن فيهم ¬

_ (¬1) لم يذكر الكاتب -قصداً وعن سوء نية- المهمة الجهادية الكبرى التي قام بها الإمام محمد الخضر حسين في ألمانيا، وهي الاتصال بالأسرى المغاربة لتنظيمهم وعودتهم إلى المغرب لمحاربة الاستعمار الفرنسي. (راجع: كتاب "جبهة الدفاع عن إفريقية الشمالية"، وفيه المشاهد الرافعة لنضال وجهاد الإمام محمد الخضر حسين).

أصدقاء، وإنما رجال السياسة هم الذين يحملون العداوة لألمانيا". إن الشيخ -وكما روى في أوراقه- عاد من ألمانيا إلى دمشق بعد هزيمة دول المحور، لكن الحال لم يطل به هناك؛ إذ يقول في إحدى أوراقه: "دخلت فرنسا دمشق، وكانت قد حكمت عليَّ في تونس أيام الحرب بالإعدام، فقررتُ التخلص إلى مصر، وسعى الدكتور سعيد الأسيوطي لدى المعتمد الإنجليزي، فأصدر في جوازاً منه إلى مصر". ثم يروي قصة دخوله مصر قائلاً: "سافرت من دمشق على سكة حديد يوم الاثنين 24 من ذي القعدة 1338 هـ، وبتُّ ليلة بحيفا، واستأنفت السفر من الغد إلى القاهرة. نزلت بالمحطة، ولقيت بها الأستاذ خير الدين الزركلي، وأحمد أفندي عبيد، وبت تلك الليلة في نزل (دار السلام)، وذهبت صباحاً إلى رواق المغاربة، وأجرت غرفة متواضعة بربع في الباطنية. ثم أخذ التعارف بيني وبين علماء الأزهر يزداد يوماً فيوم، فعرفت الشيخ محمد حسنين مخلوف، والشيخ عبد الكريم عطا، والشيخ محمد شتاكرد، وزرت الشيخ أبا الفضل في الجامع الأزهر، فرأيت منه عطف شيوخ الأزهر الذين يراعون الصلة العلمية، ولا ينظرون بعدها إلَّا إلى الرابطة الإسلامية". وعندما اشتعلت معركة "الإسلام وأصول الحكم"، شنّ الخضر حسين هجوماً ضارياً على علي عبد الرازق، وألف كتاباً يرد فيه على كتابه. وهو يروي هذه الوقائع في أوراقه قائلاً: "وكنت أزور جعفر باشا والي بالمطريَّة، فأرى منه احتفاءً وحسنَ لقاء. وفي أيام ولايته لوزارة المعارف نُدبت للتصحيح بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية.

وفي شهر محرم سنة 1342 هـ قدمت مذكرة لشيخ الجامع الأزهر الشيخ أبي الفضل أطلب فيها قبولي لأداء امتحان شهادة العالمية الأزهرية، فقبلها شيخ الأزهر، وحولها إلى مجلس الإدارة، فوافق مجلس الإدارة يومئذ على دخولي الامتحان، وعرضت بعد ذلك على المجلس الأعلى للأزهر، وكان الشيخ أبو الفضل يقول: سنعطيك شهادة العالمية الأزهرية، ولكن أحد الأعضاء ممن له رأي في المجلس ذكر للمجلس أنني أشتغل بالسياسة، فرفض الطلب. وفي سنة 1343 هـ ظهر كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ عبد الرازق، فرأيته قد مشى في غير طريق، وفرغ إلى غير تحقيق، وأخذت أبين غلطاته، وأوجِّه انحرافَه عن قصد السبيل، ولما انتهيت إلى هذا النقد، سميته: "نقص كتاب الإسلام وأصول الحكم"، فطبعته، وكتبت عليه إهداء إلى خزانة صاحب الجلالة ملك مصر فؤاد الأول، ودفعت نسخة منه إلى يد كبير أمناء جلالة الملك، وقابلته في صحبة أحمد تيمور باشا، وتوفيق نسيم باشا، وكان رئيسَ الديوان الملكي، وقدمت إليه نسخة من الكتاب، فقدَّره قدره، ووجدت منه بعد ذلك مودة، وقياماً بحق هذه المودة عند كل مناسبة". "ظهر في سنة 1343 هـ كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، واتفق أن زرتُ السيد رشيد رضا، فوجدت عنده هذا الكتاب، وقرأته كله، وفهمت مراميه، ورأيت أن فيه آراء خاصة. فعزمت أن أكتب في مناقشته، وألفت كتابي في "نقض الإسلام وأصول الحكم"، وشرعت في طبعه ... وكان الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار

المصرية يطلع على كل ملزمة تطبع منه. والتقيت بالشيخ أبي الفضل شيخ الأزهر في منزل السيد أحمد رافع، وصرت أقدم إليه ما يطبع من بعد. وعرض عليَّ عند قرب انتهاء طبع الكتاب أن أمنح شهادة عالمية الأغراب، فأبيت، وقلت: إني مستعد لامتحان شهادة العالمية الأزهرية، فراجع السكرتير العام الشيخ حسن والي بمحضر، فأظهر صعوبة في ذلك، وتمسكت أنا برفض شهادة الأغراب. وصدر الكتاب سنة 1344 هـ، وقدمت نسخة من الكتاب لحضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول، وصاحبني عند تسليمها إلى كبير الأمناء ذي الفقار باشا سعادةُ أحمد تيمور باشا. وبعد قليل تولى رئاسة الديوان توفيق نسيم باشا، فقابلته، ودار بيننا حديث يدل على أنه يُعنى ببحث المسائل الفقهية". "وفي هذه السنة 1347 هجرية، سافر الدكتور طه حسين إلى مؤتمر المستشرقين السابع عشر بجامعة (أكسفورد)، وألقى هناك محاضرة موضوعها: "ضمير الغائب، واستعماله اسمَ إشارة في القرآن"، ونشر في مجلة "الرابطة الشرقية" ملخصَ لهذه المحاضرة، فحررتُ في نقده رسالة بينت فيها خطأه في فهم عبارات علماء العربية بوضوح، ونشرت الرسالة في مجلة "الهداية الإسلامية". ولما بلغني أن شيخ الأزهر -أعني: الشيخ المراغي- يريد بحث ما كتبه الدكتور طه حسين، زرته، وقدمت له نسخة من المجلة، فأخذ يقرأ ما كتبته إلى أن أتى على آخره، وقال في: ابعث إلى الدكتور نسخة منه، ثم قال: هم يقولون: إن الذي يقدم بحثاً إلى المؤتمر لا يأخذ على عهدته صحته، بل يلقي ما بدا له من الرأي، والمؤتمر يبحثه، ويقرر صحته أو خطأه.

وفي سنة 1348 هـ ألقى الدكتور طه حسين محاضرات، وذهب فيها إلى أن علم البيان العربي مأخوذ من بيان اليونان، فألقيت محاضرات بجمعية الهداية الإسلامية، بينت فيها كيف نشأ علم البلاغة، وتكامل في أحضان علماء العربية تحت ضوء بحثهم في كلام البلغاء وأساليبهم، ونشرت هذه المحاضرات في مجلة "الهداية الإسلامية" -أيضاً- ". والحقيقة أن أوراق الشيخ الخضر مليئة بالعشرات من المواقف، فهو يروي في أوراقه قائلاً: "وفي 21 ذي القعدة سنة 1350 هـ حضرتُ مجلس النواب الذي حضّر فيه الدكتور عبد الحميد استجواباً موجهاً إلى معالي وزير المعارف حلمي عيسى باشا عن حال الدكتور طه حسين، ومسلكه في الجامعة من جهة الدين والأخلاق، واتفق أن كان هذا أول يوم شهدت فيه مجلس النواب". وفي موضع آخر من مذكراته يوضح "وفي أول أكتوبر سنة 1929 م صدر إذن ملكي على لسان رئيس الديوان توفيق نسيم باشا إلى شيخ الأزهر بالنيابة للشيخ عبد الرحمن قراعة يندبني للتدريس بالأزهر، فندبت لتدريس آداب اللغة والتاريخ الإسلامي بقسم التخصص". ويقول الشيخ: "حضرت في حفلتين خطب فيهما سعد باشا زغلول في القضية الوطنية، وكان تأثيره على الجمهور الطامح يومئذ لاستقلال البلاد عظيماً، ولم يتفق لي أن رأيته في غير هاتين الحفلتين، وكان الشيخ عبد العزير جاويش حدثه سنة 1344 هـ عن كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، ثم خاطبني عن طريق التليفون، وأنا بدار الكتب المصرية، يطلب مني تحضير نسخة من الكتاب لتقديمها للباشا، وقال لي: سآخذ منه موعداً للمقابلة،

وأخبركم، فاحضرت النسخة، ولكن الشيخ جاويش لم يعد لمخاطبتي في هذا الشأن، ولم أسأله بعد". والأكيد: أنه من الصعب الحكمُ على رحلة عمر طويلة من زاوية واحدة، فالشيخ الخضر كان طموحاً، وكان دائماً على علاقة حسنة بالحكام الذين كانوا يتوسم أنهم سيرفعون راية الخلافة الإسلامية. ولكنه كان -أيضاً- ذا تاريخ مشرِّف في زعامة (جبهة تحرير شمال إفريقية، ومعاداة الاستعمار الفرنسي. لكن أوراقه تؤكد أنه خاض معارك ضارية، وأن ذلك لم يقتصر على طه حسين، وعلي عبد الرازق، ولكنه امتد ليشمل الشيخ محمود شلتوت الذي أصبح شيخاً للأزهر في الستينات ... فهو يكتب عن معركته مع الشيخ شلتوت قائلاً: "وفي سنة (1361 هجرية 1940 م) نشر الشيخ محمود شلتوت مقالة في مجلة "الرسالة" تحت عنوان: "الهجرة وشخصيات الرسول"، وأنكرها أهل العلم؛ إذ كان فيها تقويض جانب عظيم من أصول الشريعة الغراء، فكتبتُ في الرد عليه رسالة طُبعت مستقلة بعد نشرها في مجلة "الهداية الإسلامية"، وعنوانها: (نقد مقالة الهجرة وشخصيات الرسول)، ووقعت هذه الرسالة عند العلماء المستنيرين موقع القبول، وأقبلوا على اقتنائها؛ إذ رأوها كافية لرد الشُّبه التي حامت على رأي الشيخ شلتوت". تحقيق وائل لطفي

من أعلام الاجتهاد الإسلامي الحديث

من أعلام الاجتهاد الإسلامي الحديث الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين (¬1) * عقل إسلامي مجدِّد، ومناضل في سبيل النهضة العربية والإحياء الإسلامي. * كلان لسان الأصالة المعبّر عن مشكلات المعاصرة وضرورتها. ليست هذه بالترجمة المستفيضة لحياة الشيخ الفاضل محمد الخضر حسين، وإنما هي "بطاقة" تجتهد لتكثف هذه الحياة الخصبة في سطور. - فمن أسرة جزائرية "شريفة" - يرتفع نسبها إلى الأمراء الأدارسة بالمغرب - جاء والده، ومن أسرة تونسية - اشتهرت بالعلم والفضل والتقوى هي أسرة عزوز - جاءت والدته ... - وفي مدينة "نفطة" من أعمال "الجريد" بجنوب القطر التونسي، ولد شيخنا في (26 رجب سنة 1293 هـ 16 أغسطس سنة 1876 م) ... وفي "نفطة" كانت نشأته الأولى، التي تأثر فيها بأبيه، وبخاله السيد محمد المكي ابن عزوز، الذي كان من كبار العلماء، وموضع احترام رجالات الدولة العثمانية يومئذ، والذي قضى الشطر الأخير من حياته في الآستانة؛ تلبية لرغبة السلطان عبد الحميد (1258 - 1336 هـ 1842 - 1918 م) ... وله مؤلفات علمية ¬

_ (¬1) مجلة "الدوحة"، العدد 125 الصادر في (شعبان 1406 هـ - ماي أيار 1986 م)، قطر، مقالة الدكتور محمد عمارة.

معروفة، وترجمة في بعض كتب التاريخ. وفي هذه النشاة الأولى بـ "نفطة"، حفظ شيخنا القرآن الكريم، وألمَّ بجانب من الأدب، والعلوم العربية، والشريعة. * نبوغ مبكر: - وفي الثانية عشرة من عمره (سنة 1305 هـ، سنة 1888 م) انتقل مع أسرته إلى تونس العاصمة، وبعد عامين (سنة 1307 هـ , سنة 1889 م) التحق "بجامع الزيتونة" المناظر في تونس والمغرب للجامع الأزهر الشريف. وفي الزيتونة تقدم الفتى في تحصيل العلم، وظهرت أَمارات نبوغه في علوم العربية، وعلوم الشريعة، وتجلى ذوقه الأدبي في الإنشاء وفي التذوق، حتى لقد طلبتْه الحكومة ليتولى بعض الخطط العلمية، قبل إتمام دراسته، لكنه اعتذر عن عدم القبول لرغبة حكومة تونس الفرنسية! - كانت رحلته الأولى خارج تونس إلى الشرق، ولما يزل طالباً، فزار طرابلس الغرب في ليبيا سنة (1317 هـ، سنة 1899 م)، فأقام بها أياماً، ثم عاد إلى تونس، فلازم جامع الزيتونة. - وفي سنة (1321 هـ سنة 1902 م) نال شهادة العالمية، وأصبح من علماء الزيتونة، وفي العام نفسه الذي تخرج فيه من جامع الزيتونة أنشأ مجلة "السعادة العظمى"، التي كانت رائدة المجلات العلمية والأدبية في بلاد الشمال الأفريقي يومئذ، فلفَتَ الأنظار إلى قلمه ولسانه، فلقد كان خطيباً، ومحاضراً، إلى جانب كونه أديباً وشاعراً وكاتباً. - وفي سنة (1324 هـ سنة 1905 م) تولى قضاء مدينة "بنزرت" ومنطقتها، إلى جانب التدريس والخطابة بجامعها الكبير.

- وفي (17 ربيع الآخر سنة 1324 هـ 9 يونيو سنة 1906 م) ألقى في نادي قدماء خريجي المدرسة الصادقية محاضرة عن "الحرية في الإسلام"، فكشف بها عن موقف فكري ذي مغزى في بلد يستبد بحكمه المستعمرون الفرنسيون، ثم ما لبث أن استقال من قضاء "بنزرت"، وعاد إلى تونس العاصمة مدرساً بالمدرسة الصادقية، وكانت المدرسةَ الثانوية الوحيدة بتونس يومئذ، وكان ذلك في سنة (1326 هـ سنة 1908 م)، وفي العام التالي لتدريسه بالصادقية (1327 هـ سنة 1909 م) تطوع للتدريس بجامع الزيتونة، ثم أحيلت إليه مهمة تنظيم خزائن الكتب الخاصة بهذه الجامعة، وتم تعينه، رسمياً، مدرساً بجامع الزيتونة. - وفي سنة (1325 هـ سنة 1907 م) اشترك في تأسيس (الجمعية الزيتونية)، ثم كلف بالخطابة في "الخلدونية"، وفي (11 شوال سنة 1327 هـ 26 أكتوبر سنة 1909 م) ألقى محاضرة في نادي الجمعية الخلدونية عن "حياة اللغة العربية"، وفي العام التالي (1328 هـ سنة 1910 م) نظم قصيدة يدعو فيها علماء جامع الزيتونة إلى العناية بتنشئة جيل من الكتاب والأدباء والدعاة، فوضحت مقاصده من وراء الدعوة إلى إحياء قيم "الحرية"، و"العروبة"، وأدوات "الكتابة" و"الخطابة" في وطن يخضع لاستعمار ينهب خيراته، ويستبد بمقدراته، ويمسخ هويته العربية الإسلامية! - ولما قامت الحرب الطرابلسية في (5 شوال 1329 هـ 29 سبتمبر 1991 م) بين إيطاليا والدولة العثمانية، وزحفت الجيوش الإيطالية، فاحتلت طرابلس، وبنغازي، وقف الشيخ الخضر بقلمه ولسانه، ومن خلال مجلته "السعادة العظمى" يستنفر الأمة لتقاوم الغزو الإيطالي، ويستنهض الدولة

العثمانية لاستخلاص الحق من غاصبيه. ومن بيانه في ذلك: قصيدة مطلعها: رُدُّوا على مجدِنا الذكْرَ الذي ذهبا ... يكفي مضاجِعَنا نومٌ مضى حقبا! - ثم سافر إلى الجزائر زائراً لأمهات مدنها، ومحاضراً فيها، وعاد إلى تونس يواصل دروسه بالزيتونة، ونشاطه في المحاضرات والخطابة، والكتابة في الإصلاح الإسلامي، والنهضة العربية، وإذكاء الروح الوطنية. * صِدَام مع الاستعمار: - وفي هذه الفترة رفض رغبة الحكومة ضمَّه إلى سلك القضاء في محكمة فرنسية! - وكان لابد من الصدام بين سعي الشيخ المناضل، وبين سلطات الاستعمار الفرنسي في تونس، فوجهت هذه السلطات إليه في سنة (1329 هـ سنة 1911 م) تهمةَ "بث روح العداء للغرب، وبخاصة لسلطة الحماية الفرنسية في تونس". فلما استشعر الشيخ الخطر على حياته، غادر تونس إلى الآستانة؛ بحجة الرغبة في زيارة خاله السيد محمد المكي بن عزوز، الذي كان يعيش هناك، وكانت رحلته هذه إلى الآستانة عبر مصر، فدمشق، لكنه لم يلبث أن حسن إلى وطنه تونس، فعاد إليه، عبر نابولي في إيطاليا، ونشر أخبار رحلته هذه، وعينته الحكومة عضواً بإحدى لجان التاريخ التونسي. لكن الجو الخانق الذي كان مفروضاً على تونس من سلطات الاحتلال الفرنسي دعاه إلى الهجرة ثانية، فقصد إلى دمشق، وفي طريقه إليها مر بالقاهرة، فلبث فيها مدة وجيزة تعرَّف فيها على كوكبة من العلماء الأعلام المناضلين في سبيل النهضة العربية، والإحياء

الإسلامي، منهم: الشيخ طاهر الجزائري (1268 - 1338 هـ 1852 - 1920 م)، والسيد محمد رشيد رضا (1282 - 1354 هـ 1865 - 1935 م)، والسيد محب الدين الخطيب، وأحمد تيمور باشا (1288 - 1345 هـ 1871 - 1930 م). وفي دمشق عُين مدرساً للغة العربية في المدرسة السلطانية سنة (1330 هـ سنة 1912 م). وخلال تلك الفترة سافر إلى القسطنطينية، فوصلها يوم إعلام حرب البلقان "الروسية - العثمانية" في (ذي القعدة سنة 1330 هـ، أكتوبر سنة 1912 م)، ثم عاد إلى دمشق، ومنها سافر بسكة حديد الحجاز إلى المدينة المنورة سنة (1331 هـ 1913 م)، ثم عاد إلى دمشق. ومن دمشق سافر إلى الآستانة، ولقي وزير حربيتها أنور باشا (1299 - 1340 هـ، 1882 - 1922 م)، فاختاره محرراً عربياً بالوزارة، ولقد أتيحت له الفرصة ليلمس عوامل الفساد التي تفتك بمقومات الدولة، فسجل ذلك شعراً في قصيدته التي نظمها سنة (1332 هـ 1914 م)، والتي يقول فيها: أَدْمى فؤادي أَنْ أرى الـ ... أقلامَ ترسُفُ في القُيودِ فهجَرْتُ قوماً كنتُ في ... أنظارِهِمْ بيتَ القَصيدِ وحسبتُ هذا الشرقَ لم ... يبرحْ على عهدِ الرشيدِ فإذا المجالُ كأنَّه ... من ضيقِه خُلُق الوليدِ! - وفي سنة (1333 هـ، سنة 1915 م) أرسله أنور باشا إلى العاصمة الألمانية برلين في مهمة رسمية، فمكث بها تسعة أشهر، اجتهد خلالها أن يتعلم اللغة الألمانية، وعندما تحدث إليه المدير الألماني للقسم الشرقي بوزارة الخارجية الألمانية، خلال صحبته بقطار ضواحي برلين، عن قول ابن خلدون (732 - 808 هـ، 1332 - 1406 م): إن العرب أبعدُ الناس عن السياسة،

رفض هذا التفسير العنصري لكلام ابن خلدون، ودافعَ عن العرب، ونظم أبياتاً قال فيها: عَذيري من فَتى أَزْرى بقومي ... وفي الأهواءِ ما يلد الهذاءَ سَلُوا التاريخَ عن حكمٍ تملَّتْ ... رعاياهُ العدالةَ والإخاءَ هو الفاروقُ لم يدركْ مداهُ ... أميرٌ هَزَّ في الدنيا لِواءَ ومن برلين عاد إلى الآستانة، وما لبث أن ضاقت به، فحن إلى دمشق، وعاد إليها. * ويدخل السجن: وفي دمشق اعتقله السفاح أحمد جمال باشا (1289 - 1340 هـ 1872 - 1922 م) الحاكمُ العام في سورية، في (رمضان سنة 1334 هـ، يوليو سنة 1916 م) لعدة أشهر، حتى أنقذه من السجن تدخُّل وزير الحربية العثمانية أنور باشا، فغادر دمشق بعد الإفراج عنه إلى الآستانة، فأوفده أنور باشا ثانيةً، إلى برلين سنة (1335 هـ، سنة 1917 م)، فالتقى فيها بزعماء الحركات الإسلامية هناك، من مثل: الشيخ عبد العزيز جاويش (1293 - 1347 هـ، 1876 - 1929 م)، والدكتور عبد الحميد سعيد (1299 - 1359 هـ، 1882 - 1940 م)، والدكتور أحمد فؤاد، ثم عاد بعد فترة طويلة إلى الآستانة، ومنها رجع إلى دمشق، وإلى التدريس في المدرسة السلطانية بقية سنة (1335 هـ وسنة 1336 هـ، سنة 1917 وسنة 1918 م)، فشرح لنجباء الطلاب كتاب ابن هشام (708 - 761 هـ 1309 - 1360 م) "مغني اللبيب" في علم العربية، وهو الشرح الذي كان الأساس لبحثه في "القياس وشروطه ومواقفه وأحكامه"، وهو البحث الذي طوره، فيما بعد، كتاباً نال به عضوية "هيئة كبار العلماء"

بالجامع الأزهر، وطبع سنة (1353 هـ، سنة 1934 م). - وفي سنة (1337 هـ , 1918 م) سافر من دمشق إلى الآستانة، وكانت الحرب العالمية الأولى في نهاياتها، ومنها توجه إلى ألمانيا للمرة الثالثة، فقضى بها سبعة أشهر، وكانت نُذُر الزوال للدولة العثمانية تُطل في الأفق، فعاد من ألمانيا إلى دمشق مباشرة! ... - وصادفت عودته إلى دمشق إقامةَ الحكم العربي بقيادة فيصل بن الحسين (1300 - 1352 هـ , 1883 - 1933 م) سنة (1338 هـ , سنة 1919 م)، لكن الاحتلال الفرنسي عاجل هذا الأمل العربي سنة (1338 هـ , سنة 1920 م)، ففكر الشيخ الذي هاجر من تونس المحتلة بالفرنسيين في العودة إليها، بعد أن احتلوا دمشق أيضاً! ... لكنه رحل إلى القاهرة، وألقى بها عصا ترحاله الذي استمر عشر سنوات، فاستوطن القاهرة سنة (1399 هـ، سنة 1921 م). - وفي القاهرة أعانه الاستقرار في الإنتاج العلمي المنظم، والنشاط الإصلاحي الدائم، فوضحت معالم نهجه في التجديد والإصلاح، وتكونت من حوله حلقات الطلاب والمريدين، وأخذت تأثيرات علمه وإصلاحه تلفتُ إليه أنظار العلماء وطلاب الإصلاح. ففي سنة (1340 هـ ,1922 م) ألف رسالته: "الخيال في الشعر العربي". واشتغل عدة سنوات في التحقيق لكتب التراث بالقسم الأدبي في دار الكتب المصرية، وتجنس بالجنسية المصرية، ثم تقدم إلى امتحان العالمية لجامع الأزهر، فحصل عليها بجدارة، وأصبح واحداً من علماء الأزهر الشريف. - ولم يكن التجنس بالجنسية المصرية، ولا الانخراط في "هيئة كبار

العلماء"، والاشتغال بالبحث والتحقيق، لم يكن في ذلك ما يعوق الشيخ الخضر عن مواصلة النهوض بمسؤولياته وواجباته كعالم مسلم، ومجاهد عربي، و-أيضاً- رعاية حقوق وطنه الأصلي تونس، وأشقائه الرازحين بالمغرب تحت نير الاستعمار الفرنسي، فنهض الشيخ في سنة (1342 هـ , سنة 1924 م) بتأسيس (جمعية تعاون جاليات إفريقية الشمالية)؛ لتكتيل وتحريك جهود أبنائها في خدمة قضية تحرير هذه البلاد من الاستعمار، ولقد كانت هذه الجمعية مكان اللقاء والتعاون بين أحرار تلك البلاد ومناضليها، فضمت عضويتها من المغرب: الفضيل الورتلاني، ومن الجزائر: البشير الإبراهيمي (1306 - 1385 هـ , 1889 - 1965 م)، ومن تونس: الحبيب بورقيبة (1221 هـ، 1903 م). * معاركه الفكرية: - وفي سنة (1344 هـ , سنة 1925 م) بدأت معاركه الفكرية الكبرى بكتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، ولقد كان الشيخ صديقاً لأسرة عبد الرازق، يتردد على منزلهم، وبينه وبينهم علاقات المودة والاحترام، وعندما قارب طبع كتاب الشيخ علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" على التمام، طلب آل عبد الرازق من الشيخ الخضر عناوين زعماء العالم الإسلامي ومفكريه؛ ليهدوا إليهم الكتاب، فأتاهم بقائمة العناوين من صديقه محب الدين الخطيب، فلما طبع كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، أهديت إليه نسخة منه، ففاجأته أفكار صاحبه، فعكف على الرد عليه ونقضه، فطبع الرد في نفس السنة، ونفدت طبعته خلال شهر واحد! وفي العام التالي (سنة 1345 هـ، سنة 1926 م) ظهر كتاب "في الشعر

الجاهلي" للدكتور طه حسين، فرد عليه الشيخ بكتابه "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، فصنع معه ما صنع مع كتاب "الإسلام وأصول الحكم" عندما فنده فقرة فقرة، وفكرة فكرة، مع أدب رفيع في الحوار، وبراعة في الجدل، كشفت عن عقل متمكن ومتمرس في ميدان البحث والمناظرة، يغترف صاحبه من معين من العلم لا يغيض. لقد أدى الرجل بهذين الكتابين حقَّ دينٍ وأمة، ونهض بفرض كفائي وجب على الأمة جمعاء، وكان -بحق- كما قال هو: ناضلْتُ عن حقٍّ يحاولُ ذو هَوى ... تصويرَهُ للناس شيئاً مُنْكَرا - وفي سنة (1346 هـ، سنة 1927 م) اشترك مع صديقه العلامة أحمد تيمور باشا في تأسيس (جمعية الشبان المسلمين)، التي جاءت طليعة الجمعيات الإسلامية التي تكونت للتعريف بالإسلام، والذود عن حضارته في تلك الحقبة التي تميزت بزحف فكرة "التغريب" على وطن العروبة، وعالم الإسلام، ولقد رأس أولَ اجتماع تحضيري لتأسيسها في (25 نوفمبر سنة 1927 م). كذلك نهض الشيخ الخضر بتأسيس (جمعية الهداية الإسلامية)، التي ضمت كوكبة من المثقفين ثقافة دينية ومدنية، وأصدر لها مجلة "الهداية الإسلامية"، وكون لها مكتبة عامة، جعل من مكتبته الخاصة نواة لها، ولقد امتد نشاط هذه الجمعية إلى الأقاليم، فقامت لها فروع فيها، وكانت محاضراته المستمرة فيها، ومقالاته في المجلة جهداً منظماً ومستمراً، قدم -من خلاله- معالم دعوته للإحياء الإسلامي، والنهضة العربية، وتحرير ديار العروبة والإسلام، ولقد جمعت مقالاته ومحاضراته هذه في كتاب من

ثلاثة أجزاء هو "رسائل الإصلاح". - وعندما أصدر الأزهر مجلته، التي بدأت باسم "نور الإسلام" في سنة (1349 هـ، 1930 م) عهد إلى الشيخ الخضر برئاسة تحريرها، فنهض بهذه المهمة من عددها الأول (محرم سنة 1349 هـ، مايو سنة 1930 م) حتى عدد ربيع الآخر سنة (1352 هـ، يوليو سنة 1933 م) عندما استقال من رئاسة تحريرها، رافضاً التعاون مع الأستاذ محمد فريد وجدي (1295 - 1373 هـ , 1878 - 1954 م) الذي عين -دون إذن الشيخ الخضر- مديراً لتحرير المجلة، وكان بينهما جدل فكري يومئذ في الصحف والمجلات، ولم تفلح وساطة الشيخ الظواهري (1295 - 1363 هـ، 1878 - 1944 م) -شيخ الأزهر- في أثنائه عن الاستقالة، وكان معاشه -يومئذ- أقل من خمسة جنيهات؟! لكن نشاطه تواصل في التدريس بكلية أصول الدين. * في المجمع اللغوي: - وعندما تكون "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة في سنة (1351 هـ , سنة 1932 م) من عشرين عضواً عاملاً، كان الشيخ الخضر واحداً من أقدم هؤلاء الأعضاء، ومن أكثرهم إنتاجاً، فلقد شارك في كثير من لجان المجمع العلمية، من مثل: لجنة اللهجات، ولجنة الآداب والفنون الجميلة، ولجنة دراسات معجم (فيشر)، ولجنة الأعلام الجغرافية، ولجنة الأصول، ولجنة معجم ألفاظ القرآن الكريم، ولجنة المساحة والعمارة، ولجنة المعجم الوسيط، الأمر الذي يعكس وزنه العلمي، وثقله الفكري، وثقافته الموسوعية، وجهده الدؤوب في خدمة الفكر. كذلك نشرت له مجلة المجمع العديد من الأبحاث، من مثل:

1 - "المجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية". 2 - "شرح قرارات المجمع، والاحتجاج بها، وتكملة مادة لغوية ورد بعضها في المعجمات، ولم ترد بقيتها". 3 - "الاستشهاد بالحديث في اللغة". 4 - "وصف جمع العاقل بصيغة فعلاء". 5 - "اسم المصدر في المعجم". 6 - "طرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية". 7 - "شعر البديع في نظر الأدباء". 8 - "من وُثِّق من علماء العربية ومن طُعن فيه". ولم يقف نشاطه المجمعي عند مجمع القاهرة، فلقد اختير عضواً بالمجمع العلمي العربي بدمشق. - وفي سنة (1366 هـ , سنة 1947 م) رأس تحرير مجلة "لواء الإسلام"، وبدأ فيها تفسيره للقرآن الكريم. - وفي سنة (1370 هـ، سنة 1951 م) نال عضوية (هيئة كبار العلماء) برسالته "القياس في اللغة العربية". وعندما قامت الثورة المصرية في 23 يوليو سنة 1952 م، كان منصب شيخ الأزهر شاغراً، فوقع اختيار الثورة وحكومتها على الشيخ الخضر إماماً أكبرَ، وشيخاً للإسلام، ووجهاً مشرقاً لهذه الجامعة العريقة تطلّ من خلاله على عالم العروبة والإسلام، فتوجه ثلاثة من الوزراء إلى منزل الشيخ بشارع خيرت، في يوم الثلاثاء (26 ذي الحجة سنة 1371 هـ , 6 سبتمبر سنة 1952 م) طالبين منه قبولَ مشيخة الأزهر، فنهض بالأمانة ما وسعت طاقته، وعندما

أحس بضغوط تحول بينه وبين تنفيذ ما يريد، أو تطلب منه تنفيذ ما لا يرضى، صمم على الاستقالة في (2 جمادى الأولى سنة 1373 هـ، 7 يناير 1954 م) قائلاً كلمته الشهيرة: "يكفيني كوب لبن، وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدهما العفاء"؟! ... ولقد ألمح إلى ملابسات استقالته عندما قال: "إن الأزهر أمانة في عنقي، أُسلِّمها -حين أُسلِّمها- موفورةً كاملة، وإذا لم يتأتَّ أن يحصل للأزهر مزيدٌ من الازدهار على يدي، فلا أقل من ألا يحصل له نقص". - ومنذ ذلك التاريخ تفرغ للبحث والكتابة والمحاضرة، حتى وافاه الأجل، فانتقل إلى جوار ربه مساء يوم الأحد (13 رجب سنة 1377 هـ، 3 فبراير سنة 1958 م)، فشيعه العلماء والفضلاء والعارفون لفضله وعلمه ونضاله، حتى لقد امتد موكبُ جنازته ما بين ميدان باب الخَلْق، والجامع الأزهر الشريف. * الكنوز الباقية: ولم يخلف الرجل وراءه من حطام الدنيا شيئاً، حتى لقد دفن - بناء على وصيته - بمدفن الأسرة التيمورية، مع صديقه العلامة أحمد باشا تيمور، لكنه خلّف - غيرَ النضال، والأثر الطيب، والذكر الحسن، والقدوة الصالحة - كنوزاً من الفكر، شاهدة على عقله المبدع والمجدد، وجهده الدؤوب، وعزمه الذي لم يعرف الوهن أو التقصير، فغير خطبه ومحاضراته ومقالاته وأبحاثه التي لم تجمع خلَّف لنا هذه المؤلفات: 1 - "رسائل الإصلاح" - في ثلاثة أجزاء. 2 - "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم". 3 - "نقض كتاب في الشعر الجاهلي".

4 - "القياس في اللغة العربية". 5 - "الخيال في الشعر العربي". 6 - "آداب الحرب في الإسلام". 7 - "خواطر الحياة" (ديوان شعر). 8 - "تعليقات على كتاب "الموافقات" للشاطبي". لقد كان -رحمه الله- عقلاً إسلامياً مجدداً، ومناضلاً في سبيل النهضة العربية، والإحياء الإسلامي، يتحلَّى بخلق الأولياء والصديقين والشهداء. - فهو في تونس يواجه الاستبداد الاستعماري، والمسخ الحضاري بالدعوة إلى إحياء العربية؛ لتكون سلاحاً في معركة الأمة من أجل حريتها، واستخلاص هويتها العربية الإسلامية، ويستنهض الشعب بإبراز قيمة ومكانة "الحرية" في الإسلام، ويدفع الثمن هجرة من الربوع التي نشأ فيها. - وهو في المشرق، بدمشق، يواجه تسلط السفاح أحمد جمال باشا، فيدفع الثمن سجناً وتعذيباً، فلقد كان عداؤه للاستعمار الأجنبي وللاستبداد الداخلي شديداً ودائماً. فَلا كانَ من عيشٍ أَرى فيه أُمَّتي ... تُساسُ بِكَفَّيْ غاشمٍ وغريبِ! وهو في مصر يتصدى لخطر الغزو الفكري، ممثلاً في تياره "التغريب"، فينقض كتابي علي عبد الرازق، وطه حسين، ويسهم بالفكر في إنهاض العروبة، وتجديد الإسلام، ويسلك سبل التنظيم - الاجتماعي والفكري والقومي والعلمي - من خلال (جمعية الهداية الإسلامية)، ومجلتها، و (جمعية تعاون جاليات إفريقية الشمالية)، و (جمعية الشبان المسلمين)، و (وهيئة كبار

العلماء)، و (المجامع اللغوية)، و (القسم الأدبي بدار الكتب المصرية)، ومجلات "نور الإسلام"، و"لواء الإسلام" ... إلخ؛ ليجمع الأنصار حول فكره التجديدي، وليمهد السبل لهذا الفكر؛ كي يوضع في الممارسة والتطبيق. لقد جمع إلى وعيه بتراث أمته وكنوزها الحضارية، وعياً بالتحديات المعاصرة التي تحول بينها وبين النهضة والإحياء، فكان لسان "الأصالة"، المعبر عن مشكلات "المعاصَرَةِ"، وضروراتها، يذود عن "فكر الإسلام ومجد العروبة"، ويدعو إلى النهضة الحديثة المرتكزة على "المعارف"، و"الصناعات". أبناءَ هذا العصرِ! هل من نهضةٍ ... تشفي غَليلاً حرُّه يتصعَّدُ؟! هَذِي الصنائعُ ذُلِّلَتْ أدواتُها ... وسَبيلُها للعالَمينَ مُمَهَّدُ إِنَّ المعارفَ والصنائعَ عُدَّةٌ ... بابُ الترقِّي من سِواها مُوصَدُ! ولقد أصاب صديقُه العالم الفاضل محبُّ الدين الخطيب، عندما وصفه، فقال: "هذا رجل آمن بالإسلام ودعوته، وأحبَّ من صدر حياته أن يكون من الذين قال الله سبحانه فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30} (¬1). محمد عمارة ¬

_ (¬1) لقد جمعنا مادة هذه الصفحات عن حياة الشيخ الخضر من مقال صديقه محب الدين الخطيب، وعنوانه: (شيخ الأزهر السابق: السيد محمد الخضر حسين) مجلة الأزهر، عدد شعبان سنة 1377 هـ. وكتاب "مشيخة الأزهر" لعلي عبد العظيم (ج 2 ص 147 - 162)، طبعة القاهرة سنة 1979 م

مقدمة علامة الشام محمد بهجة البيطار

مقدمة عَلَّامة الشام محمد بهجة البيطار (¬1) كان من حكمة الله تعالى ورحمته أن يسر لنا -معشر طلاب العلم- بعد وفاة شيخنا علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي: إماماً حكيماً، وهو أستاذنا الشيخ محمد الخضر حسين -رحمهما الله تعالى، ورضي عنهما-؛ فقد شملنا بعنايته بعد وفاة صديقه القاسمي (1332 هـ)، وخيّرنا فيما نحب أن نقرأه من العلوم والفنون والكتب، فكان أن وقع اختيارنا -بتوجيهه وإرشاده- على كتاب "المستصفى في أصول الفقه" لحجة الإسلام الغزالي، وكتاب "بداية المجتهد" للفيلسوف ابن رشد في فن الخلاف، و"صحيح الإمام مسلم" في علم الحديث، و"المغني في العربية" لشيخ النحاة ابن هشام، و"الكامل في الأدب" للمبرد. فتولى شيخنا قراءة هذه الكتب على أفضل طريقة، وأنشأ تعليقات مهمة عليها، يصح أن تكون مرجعاً فيما يُشكل على الباحث في مطالبها المنوعة، ومقاصدها العليا، وقد نظمت أبياتاً في ذلك العهد في شأنها، وقرأتها على ¬

_ (¬1) مقدمة علامة الشام الشيخ محمد بهجة البيطار لكتاب "دراسات في العربية وتاريخها" للإمام محمد الخضر حسين - الطبعة الأولى (1380 هـ - 1960 م) بدمشق، ولم تكرر في الطبعات التالية للكتاب؛ لذا اقتضت الأمانة العلمية أن نوردها هنا.

أستاذنا الخضر والطلاب في جلسة الدرس، فأعجبته -عليه الرحمة والرضوان- من حيثُ كونهُا تاريخاً لمجتمعنا، وقراءتنا عليه، وقدمت له منها نسخة، وها هي هذه: يا سائلي عن درْسِ رَبِّ الفضلِ مولانا الإمام ابنِ الحسينِ التونسي محمدِ الخضرِ الهمام سَلْ عنه مُستصفى الأُصول لليثِ مُعْتَرك الزِّحام أعني الغزاليَّ الحكيمَ رئيسَ أعلامِ الكلام وكذاكَ في فَنِّ الخلافِ بدايةَ العالي المقام أعني ابنَ رشدٍ مَنْ غدا بَطَلَ الفلاسفةِ العِظام وكذلك المغني إلى شيخِ النحاةِ ابنِ الهشام وكذا كتاب أبي يزيدَ ابنِ المبرِّدِ في الختام تلك الدروسُ كما الشموسِ تُنير أفلاكَ الظلام فتكونُ منكَ حقائقُ المعنى على طرفِ الثمام فالحقُّ عَوَّضَنا به من شيخِنا شيخِ الشآم وكذا صحيحُ أبي حسينٍ مسلمٍ حبرِ الأنام فعليه ما ذرّ الغزالة رحمةُ الملكِ السلام وقد أشار أستاذنا الجليل في مقدمة هذا الكتاب إلى دراستنا إياه عليه، وإلى اقتراحنا جمعَ أصوله المفرقة، وإلى استجابته لنا بقوله -رحمه الله رحمة الأبرار-: واستخدمت القلم في تحرير مطلبهم، فألفت مقالات تشرح حقيقة القياس، وتفصِّل شروطه، وتدل على مواقعه وأحكامه، وقد كتبتُ هذه الرسالة

في عهده، وأطلعته على كلمتي فيها، فراقته، وأذنَ في بنشرها، وها هي ذي بنصِّها: * القياس في اللغة العربية: أورد المؤلف لهذا الكتاب مقدمات في فضل اللغة العربية، ومسايرتها للعلوم والمدنية، وحالها في الجاهلية، وارتقائها في الإسلام، وجعله إياها لغة الشعوب، وبحث في وجه الحاجة إلى إنشاء مجمع لغوي؛ ليرفع لواء اللغة العربية في الشرق والغرب، ثم بعد أن مهد المؤلف تمهيداً بين فيه حاجتنا إلى القياس في اللغة، عقد فصلاً ممتعاً تحت عنوان: "أنواع القياس، وما الذي نريده من بحثه في هذه المقالات؟ " استهله بقوله: تجري كلمة القياس عند البحث في معاني الألفاظ العربية وأحكامها، فترد على أربعة وجوه: 1 - حمل العرب أنفسهم لبعض الكلمات على أخرى، وإعطاؤها حكمها؛ لوجه يجمع بينهما. 2 - أن تعمد إلى اسم وُضع لمعنًى يشتمل على وصف يدور معه الاسمُ وجوداً وعدماً، فتعدِّي هذا الاسمَ إلى معنى آخر تحقَّقَ فيه ذلك الوصف، وتجعلَ هذا المعنى من مدلولات ذلك الاسم لغة، ومثال ذلك: اسم (الخمر) عند من يراه معتَصراً من العنب خاصة. 3 - إلحاق اللفظ بأمثاله في حكم ثبت لنا باستقراء كلام العرب حتى انتظمت منه قاعدة عامة؛ كصيغ التصغير، والنسب، والجمع. 4 - إعطاء الكَلِم حكَم ما ثبت لغيرها من الكلم المخالفة لها في نوعها، ولكن توجد بينهما مشابهة من بعض الوجوه، كما أجاز الجمهور ترخيمَ المركب

المزجي؛ قياساً على الأسماء المنتهية بتاء التأنيث. ثم قال -بعد أن بسط القولَ في هذه الأقيسة الأربعة التي أوردنا منها ما يدل عليها-: "وهذا النوع من القياس، والذي قبله-أي: الثالث والرابع- هما موقع النظر، ومجال البحث في هذه المقالات، واخترت للفرق بينهما التعبيرَ عن الأول: بالقياس الأصلي، وعن الثاني: بقياس التمثيل". وقد ذكر في القياس الأصلي ما يحتج به في تقرير أصول اللغة ومفرداتها، وألقى في القياس في صيغ الكلم واشتقاقها نظرة على المصادر والأفعال ومشتقاتها؛ كاسمي الفاعل والمفعول، وأفعل التفضيل. وقد استشهد بكلام المحققين على الاحتجاج بالكتاب العزيز، وفصّل القول في القياس على الحديث الشريف، ثم عقد فصلاً مهماً في الاشتقاق من أسماء الأعيان؛ لإصابتها أو إمالتها، (قلت: لعله أو إنالتها، كما ذكره من بعد، ومثل بنحو: شحمه ولحمه: أطعمه ذلك، ص 69). وجاء بعده فصل عنوانه: "ما هو الاستقراء الذي قامت عليه أصول الاشتقاق؟ "، وقد حقق فيه أن الأفعال والمصادر التي لم يُسمع لها فروع في الاشتقاق على نوعين: 1 - منها: ما لم يتصرفوا فيه، على كثرة وروده في محاوراتهم ومخاطباتهم؛ مثل: وَيْل، ووَيْح، ونعم، ويذر، وما يماثلها، فيجب أن تبقى على هيئتها بدون اشتقاق منها، ولا أدنى تصرف فيها. 2 - ومنها: ما لا يكثر في مخاطباتهم حتى يستفاد من وروده بهيئة واحدة أنهم قصدوا إلى ترك تصريفه، فيصح لنا أن نجري قاعدة الاشتقاق في هذا النوع، وإن لم ندر أن العرب تصرفوا فيه على هذا الوجه من الاشتقاق؛

كاشتقاق فعلٍ واسمِ فاعلٍ مما سُمع مصدرُه، أو إحداثِ مصدرٍ لفعل مسموعٍ -مثلاً-. ثم أنشأ فصولاً قصيرة وغير قصيرة في أنواع الأقيسة الكثيرة؛ كأقيسة التمثيل والشبه والعلة، وأقسام علة القياس، وأقسام قياس العلة، وشرط صحة قياس التمثيل، ومباحث مشتركة بين القياس الأصلي والقياس التمثيلي، والقياس في الاتصال، وفي الترتيب، والفصل والحذف، ومواقع الإعراب، وشرط العمل، والقياس في الأعلام، ثم ختم الكتاب باقترل الأستاذ المغربي في الكلمات غير القاموسية، وجوابه على هذا الاقتراح. وقد بحث الأستاذ في هذه الفصول جميعها بحث الناظر المستقل المستدلّ، فبين في كل منها ما يُقبل وُيرد، وما يقاس عليه وما لا يقاس، ومذهبه وسطٌ بين المعجميين الذين يجمُدون على السماع فيما يمكن إجراء القياس فيه لاستيفاء شروطه، وبين من يفتاتون على اللغة، فيشتقون من عندهم أقيسة لا تستند إلى نصوص لغوية، ولا قواعد عربية من صرفية أو نحوية، ومن هذه الرسالة يعلم أن المعاجم اللغوية وحدَها لا تفيد معرفة الأسس التي ينبني عليها القياس الصحيح من غيره؛ لأنها لم توضع لذلك، بل لابد من الجمع بين معرفة النصوص، ودراسة القواعد والأصول التي تشتق منها الفروع، وتجري على مقتضاها الأحكام. هذا ما كتبته في موضوع العلامة الإمام - عليه من الله الرحمة والرضوان والسلام -. دمشق في 28 ذي الحجة 1379 هـ 22 حزيران 1960 م

محمد الخضر حسين لغويا وناقدا أدبيا

محمد الخضر حسين لغوياً وناقداً أدبياً (¬1) سأتناول في هذه الدراسة طُروحاتِ محمد الخضر حسين بخصوص اللغة والنقد الأدبي، وذلك بتحليل للكتابات التي عالج فيها المواضيع المرتبطة بالمادتين المذكورتين، ويتقويمهما، وياستخلاص أفكارها الرئيسية، ونتاجها، وهذه الكتابات هي: أ - "حياة اللغة العربية". ب - "القياس في اللغة العربية". ج - "الخيال في الشعر العربي". د - "نقض كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين". 1 - محور اللغة: أ - كتاب "حياة اللغة العربية": هي -في الأصل- محاضرة ألقاها محمد الخضر حسين بنادي (جمعية قدماء الصادقية) في مساء السبت (11 شوال 1327 هـ الموافق لـ 23 أكتوبر 1909 م)، وطبعت في نفس السنة في كتاب يحتوي على ستين صفحة، ثم ¬

_ (¬1) دراسة قيمة للباحث والكاتب التونسي الأستاذ محمد الشاذلي الساكر - نشرت في الملحق الثقافي في جريدة "الحرية" 29 نوفمبر 2007 م - تونس.

أدمجت في كتاب "دراسات في العربية وتاريخها"، تركزت مضامين هذا البحث حول: - دراسة اللغة العربية من حيث ألفاظُها، والأطوارُ التي مرت بها، واتساع نطاقها، وإشعاعها الحضاري، وعنده: أن الألفاظ أو الكلمات ودلالاتها ووظائفها هي لا تعني شيئاً في حد ذاتها إلا حين يتفق على إسنادها هذا المعنى أو ذاك، وأن اللغة هي اصطلاح قبل كل شيء، أو ضبط الغرض القائم في النفس، وتمييزه عما سواه، وأن اللغة هي ظاهرة اجتماعية أولاً، وظاهرة نفسية ثانياً، وهي الأداة المثلى لتكوين المجتمعات؛ لأنها وحدها القادرةُ على تأسيس كل أنماط الاتصال بين أفراد المجتمع الواحد، ليس هذا فحسب، بل هي الضامنةُ لترابط أفراده، وتوحدهم روحياً، فمتى أهملت الأمة لغتها، وزهدت فيها وفي تعلمها، انفصمت عرا جامعتها لا محالة، وخصوصاً الأمة العربية. واللغة العربية مثلها مثل جميع اللغات، عرفت عدة أطوار في حياتها، لكنها لم تبلغ أشدها إلا مع القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، لكن، ومع انحدار الحضارة العربية، عرفت هذه اللغة نفس المصير؛ إذ ضعفت، وانتشر التحريف في تراكيبها وصيغها، وسيطر التزويق والبهرجة اللفظية على أساليبها، وكثر المنظرون فيها حد التطرف؛ يقول عبد القاهر الجرجاني: "إن الألفاظ خدم للمعاني، وإن المعاني مالكة سياسة الألفاظ". والخضر حسين يعتقد أن هذا الكلام لا يصح على اللغة العربية؛ لتجانس معنى اللفظ مع الصوت، وتطابق الكلمة مع مضمونها، واعتدال تركيب الكلمات، وخاصة الثلاثية منها، وحكمة ترتيبها بحسب معانيها القائمة في

النفس، ويذهب إلى: أن اللغة العربية تطورت مع الحضارات التي عرفها العرب، وعبر المراحل التاريخية التي مر بها الإسلام والمسلمون، ولذلك فهي قادرة على الارتقاء، وعلى مزيد التطور، وعلل ذلك بقوله: 1 - تعدد وجوه دلالات الألفاظ واشتقاقها. 2 - تعدد الأساليب اللغوية، واقتباسها من اللغات الأخرى، وأخذها للمصطلحات الأجنبية التي تزيد في إغنائها، وتُكسبها قوة وتجدداً: "تتلقى العربية ما يرد عليها من الألسنة الأخرى، وتقبله بقبول حسن، بعد تنقيحه وسكبه في قالب عربي، فلا مانع من أن نقتبس أسماءها الموضوعة لها في اصطلاح مخترعيها عند استحسانها وتهذيبها، ثم نحشرها في زمرة ما هو عربي فصيح". 3 - ثراء العربية بالألفاظ، وبأدوات الربط، وترادف عدد كبير من هذه الألفاظ نفسها، والتمييز بين المذكر والمؤنث. وفي اعتقاده: أن أخطر الأمراض التي تتعرض إليها لغة الضاد هو: "لغة العامة" التي يعتبرها لغة عربية محرّفة ... يجدر السعي إلى معالجتها وإصلاحها، وينصح بالكف عن استعمال هذه اللهجات، والامتناع عن تدوينها. ب - كتاب "القياس في اللغة العربية": في الأصل هو بحث نشره تباعاً بمجلة "المنار" في سنة 1922 م، ثم أصدره في كتاب يحتوي على 120 صفحة، وذلك في سنة (1353 هـ / 1934 م). وهو نفس البحث الذي قدمه -بعد ذلك- إلى هيئة كبار العلماء، فقبلته بالإجماع، وأسندت له عضويتها سنة 1950 م.

وقد أعاد طبع هذا البحث علي الرّضا الحسيني ناشرُ آثار محمد الخضر حسين في كتاب تحت عنوان: "دراسات في العربية وتاريخها"، وقد ضم هذا الكتاب عدة بحوث أخرى ودراسات كتبها المؤلف في مناسبات مختلفة حول اللغة العربية. وقد أوضح الخضر حسين في بحثه المتحدث عنه مرونةَ اللغة العربية، وقدرتها الفائقة على مسايرة الحضارة والعلم. كما أكد على العلاقة الجوهرية بين اللغة والفكر، و"أن هذه لن تكون إلا بذلك، والحكمس صحيح"، وبيّن تأثير كل منهما على الآخر، وتفاعله معه، وسيطرة هذه على ذلك، والعكس، بإيجاز بيّن أن اللغة هي فكر، والفكر هو لغة. كما أكد على استحالة تأسيس لغة عالمية واحدة (الاسبرنتو)؛ لاختلاف الأمم والشعوب من حيث العقليات، وظروف المعيشة، والظروف البيئية، واختلاف الإحساس والتفكير، والرؤية إلى العالم. كما اقترح "تأليف مجمع لغوي" يحدد أسباب هذا التخلف الحاصل في اللغة العربية، وعجزها عن مواكبة الحضارة المعاصرة والعلم، وتخلفها الواضح عن بقية اللغات، ثم يضع وسائل علمية وناجعة للنهوض باللغة العربية؛ لكي ترتفع إلى مستوى اللغات الراقية. كما بيّن حاجة العربية إلى القياس؛ حتى تتمكن من إيصال كل المعاني والعواطف والصور، وقسم القياس إلى: - قياس أصلي، ويكون فيه المقاس عليه لغةً من لغات العرب على اختلافها؛ كما جاء في القرآن الكريم، وفي الحديث النبوي الشريف.

- قياس تمثيلي، ويراد به: إلحاق نوع من الكلام بنوع آخر في حكم، وذلك إذا انعقد بينهما شبه من جهة المعنى، أو من جهة اللفظ، ويسمى: "قياس الشبه"، أو اشتراكاً في الصلة التي يقع في ظنهم أن الحكم قائم عليها، ويسمى: "قياس العلة". وحلل الخضر حسين أشكال القياس مستشهداً بنصوص نثرية وشعرية لتدعيم طرحه، مبيناً الفروق بينها، وبين طروحات النحاة واللغويين الذين سبقوه في الزمان. كما أبرز القواسم المشتركة بين نوعي القياس المذكورين، وخاصة في الاتصال بين الألفاظ وترتيبها، والفصل بين بعضها البعض، سواء باستعمال الأدوات؛ مثل: حروف الجر، أو بالرجوع إلى عوامل الإعراب وحالاته التي جاءت في كتب النحو العربي، وعنده: "أن اللغة هي نظام أو لا تكون". 2 - "محور النقد الأدبي": إن العمل الذي قام به محمد الخضر حسين هي عملية إحياء وتجديد للنقد الأدبي، وهو دعوة لفتح باب الاجتهاد في نظرية الخيال التي قال بها فلاسفة الإسلام: الفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وقلة من المهتمين بالشأن البلاغي، وعلى رأسهم: عبد القاهر الجرجاني، عاملاً على إيضاح هذه النظرية، والإضافة إليها، وتطويرها؛ بهدف إحيائها، وذلك بربطه الإبداع الشعري بالخيال، والنظر إلى فن الشعر على أنه عملية تخييلية عمادُها الخيال. وقد بسط طرحه في كتابه "الخيال في الشعر العربي" الذي نشره في سنة 1922 م، وهو الأول من نوعه في النقد العربي التنظيري الحديث، باتفاق كل النقاد العرب.

وقد رجع في عمله هذا إلى التراث العقلي بخصوص الخيال والتخييل والمخيلة، دون أي اتكاء على أي تراث آخر (الصوفي مثلاً)، ودون الرجوع إلى أي شكل من أشكال المعرفة التي لها قول في الخيال مغاير لمقولات الفلاسفة العرب، ولبعض البلاغيين. والخضر لم يتردد في تطعيم أفكاره بمعطيات غربية رآها تتلاءم مع الفلسفة الإسلامية والبلاغة العربية، وهذه المعطيات تتعلق بالخصوص بالعلوم الإنسانية، وفي مقدمتها علمُ النفس. ويذهب إلى: أن تعريف النقاد القدامى للشعر قد اقتصر على اللفظ، ونسي الروح التي تجعل الكلام شعراً، وتميزه عن النثر، وهو التخييل. ثم حَوْصل آراءَ فَلاسفة الإسلام حول مفهومهم لهذه الملكة النفسية التي هي الخيال، وناقشها، ثم عرّف المخيلة بأنها: "قوة تتصرف في المعاني؛ لتنتزع منها صورًا بديعة"، وتعتمد في ذلك على تداعي المعاني، ثم يذهب إلى: أن جمال التخيل هو أعظم أركان الشعر، وأن الخيال هو المبدأ الأساسي الذي يجب أن نعرف به ماهية الشعر. يقول: "ذهب بعضهم في حد الشعر إلى أنه كلام موزون مقفّى، وهذا مثل من يشرح لك الإنسان بأنه حيوان بادي البشرة، منتصب القامة، فكل منهما قد قصر تعريفه على ما يدرَكُ بالحاسة الظاهرة، ولم يتجاوزه إلى المعنى الذي تقوم به الحقيقة، ويكون مبدأ لكمالها، وهو التخييل في الشعر، والنطق في الإنسان، فالروح التي يعدّ بها الكلام المنظوم من قَبيل الشعر إنما هي: التشابيه والاستعارات، وغيرها من التصرفات التي يدخل لها الشاعر من باب التخييل".

والخيال عنده: خاصية نوعية ضرورية للشعر، وبدونها لا يكون الشعر شعراً، وأن نقد الشعر وتنظيره لابد أن يراعى فيهما ملكة الخيال؛ لأن هذه الملكة هي القادرة وحدها على إبداع شعر عظيم بواسطة التصرف في تشكيل المعاني، أو كما يقول: "قدرة على سبك المعاني وصوغها في شكل بديع". وهو يعتبر أن الخيال هو نشاط نفساني بَحْت، له تأثيره الحاسم على الشاعر المبدع في لغته، وفي مضامينه، وفي أسلوبه، وهي القدرة على التعبير عن نفس المعنى بطرق مختلفة، بالتصرف في كل عناصر البلاغة؛ من استعارة، وتشبيه، وتصوير، تجعل المتقبل يتمثل هذا الشعر، ويستسيغه، ويتمثله، ويتجاوب معه؛ لطرافته، وجِدَّته، وحيويته، واصفاً إياه بالبديع. والخيال وحده، أو عملية التخييل هي وحدها التي تعطي كساء اللغة الشعرية، وترتفع بها عن لغة الحديث والخطاب العادي؛ لأن اللغة الشعرية هي لغة تجتذب النفوس، وتسحرها؛ لأن النفوس في جوهرها ترتاح للجديد، وللمبتكر، وللغريب، وللطريف، ولكل شيء "تشاهده في زي غير الذي تعهده به"، والتخييل هو وحده الذي يعرض على النفس المعاني في لباس جديد، ويجليها في مظهر غير مألوف. ويذهب هذا الناقد إلى أن العملية الإبداعية في الشعر تنهض بواسطة التخييل التي تربط بين ملكتي الإدراك والذاكرة، وبفعل هذه الملكات الثلاث تشكل المعنى البديع الذي يكون له التأثير الحاسم لدى المتقبل له، محفزاً عنده ملكة الانفعال. والخضر يفرق بين مصطلحات ثلاثة هي: التخيل، والتخييل، والمخيلة. والمخيلة هي "القوة النفسية"، أو الملكة التي تمكن الشاعر من استعادة

الصور التي اختزنتها ذاكرته، فيستحضرها، ويعيد تشكيلها من جديد بصيغة مبتكرة؛ لكي يصدم بها مخيلة المتلقي، ويُثريها انفعالياً إلى درجة التجاوب الكلي معها. أما مصطلح الخيال عنده، فلا علاقة له بالمصطلح الفلسفي، فقد حول معناه، فأصبح يشمل كل جوانب العملية الإبداعية الشعرية، والمتكونة من: التخيل، والمخيلة، والذاكرة، والانفعال. ويذهب إلى: أن مخيلة الشاعر تستخلص من صور الذاكرة ما يلائم الغرض، وتطرح ما زاد على ذلك، فتفصل الخاطرات عن أزمنتها، أو ما يتصل بها مما لا يتعلق به القصد من التخييل، ثم تتصرف في تلك العناصر بمثل: التكبير أو التصغير، وتأليف بعضها إلى بعض، حتى تظهر في شكل جديد. وهذا الشكل الجديد الذي أنتجته مخيلة الشاعر قسمه إلى ظاهرتين يقول: إنهما متعارضتان من حيث الظاهر. الظاهرة الأولى: وهي عملية التجسيد التي يقوم بها الإدراك الحسي. الظاهرة الأخرى: وهي عملية التجريد التي يقوم بها العقل. وإن الإبداع الشعري هو نتيجة للتفاعل بين الإدراك الحسي المتجه نحو الموضوع والعقل الذي هو الذات، والخيال الرابط بين هذه العناصر، أو بين الحس والعقل والخيال، وهو الأهم. إن الإدراك الحسي في هذا الطرح هو مجرد مستقبِل لما يحدث خارجه في عالم الناس، وفي عالم الطبيعة، وإن الموضوع المادي هو مجرد معطًى لم تعمل الذات على تشكيله، واقتصر دورها على إدراكه، ثم تخزينه في الذاكرة.

ولذلك تبقى (المخيلة) بالنسبة للخضر هي العنصر الأساسي لكل إبداع شعري؛ لتوسطها لطرفي المعرفة، وهما: الإدراك الحسي، والعقل. وهو يعتبر الإحساس أدنى مرتبة من المخيلة؛ لأنه منبع الانفعالات والغرائز. وفي المقابل: يعتبر العقل أرقى مرتبة من المخيلة؛ لأنه عماد المنطق والمعرفة اليقينية. وهذا يعني عنده: أن المخيلة كما اقتربت من الحس، واقترنت به، كانت الأشعار عرضة للخطأ، همُّها إرضاءُ النزعات الدونية للإنسان، وهذا ما "تتشوق إليه نفسه الأمارة بالسوء". ولأن الحس يقرب المتخيلة من الغريزة، ويربطها بها، فإن ذلك ينتج عنه معرفة زائفة، أو خيالاً زائفاً ينتج عنه الانحطاط الروحي والأخلاقي والذهني للإنسان. وحَوْصَل الخضر حسين الشروطَ الواجب توفُّرها لكي يستطيع العقل الإمساك بالمعاني، والتفريق بينها، في عناصر ثلاثة، هي: - اقتران معنيين في الذهن؛ حيث يكون الإحساس بهما في وقت واحد؛ لارتباطهما بمكان، أو زمان، أو حادثة معينة. - تبايُن الصور وتضادُّها؛ مما يجعلها تحيل إلى بعضها، ومثالها: الشجاعة والجبن، الصدق والكذب، الجمال والقبح، العدل والظلم، وهكذا. - التشابه والتماثل بين المعاني في أمور خاصة؛ أي: اشتراك المعاني في مواصفات ما. وأشار هذا الناقد إلى أن تداعي المعاني يختلف من شاعر إلى آخر؛ نظراً

لاختلاف الطبائع والعواطف، والمحيط وظروف الحياة ودرجة التمدن. والخلاصة هي أن الحس يرجع بالمخيلة إلى عالم الغرائز، والعقل يرتفع بها إلى عالم الحقيقة، وأن الخيال لا يمكن أن يكون حراً طليقاً دون أي قيد، بل من الضروري تدخُّلُ العقل؛ لكبح جماحه، وهديه؛ لكي لا تصبح القصائد مجردَ هلاوس. وهو يعتبر: أن الخيال ليس مجرد ملكة نفسية، بل هو -أيضاً- ملكة بلاغية، قادرة على المزاوجة المتكاملة بين البناء والمضمون، بين الشكل والمعنى، وهذه المزاوجة يلعب فيها العقل الدور الأساسي، وقد عبر عن ذلك بقوله: "إن التخييلي من الكلام هو: الذي يرده العقل، ويقضي بعدم انطباقه على الواقع، إما على البديهة، أو بعد نظر". وهو يَعْتَبر أن الخيال الشعري هو بدرجة أُولى: أداء لغوي متميز وممتاز لمعان سابقة عليه، وهو إعادة تشكيل لمعان مجترة بواسطة لغة جديدة، وأن البناء اللغوي هو الذي يحدد درجة الخلق الشعري. وهو بذلك يُرجع القيمةَ الفنية للشعر العظيم إلى المظهر الشكلي اللغوي، وليس فقط إلى المعنى ذاته، ومحتواه المجرد. وقدرةُ الشاعر المبدع تكمُن في تمكن خياله في إعادة تشكيل مفردات في مجازات وعلاقات وتراكيب جديدة، يعبّر بها عن نفس المعاني، لكن بأكثر خصوصية، وأكثر دقة، وأكثر عمق، وبأكثر فنية، وبأكثر حذق بلاغي. واعتقاده أن اللغة وفنون البلاغة قادرة على تحمل أي عبء يرهقها به الشاعر، على شرط أن يتدخل الخيال المحكوم بالعقل. وعنده: أن هذا الشكل من الخيال اللغوي البلاغي مهمته هي:

- تكثير القليل. - تكبير الصغير. - تصغير الكبير. - جعل الموجود بمنزلة المعدوم. - تصوير الأمر بصورة أخرى. ولهذا العنصر الأخير أربعة أحوال: أولها: تخيل المحسوس في صورة المحسوس. وثانيها: تخيل المعقول في صورة المحسوس. وثالثها: تخيل المعقول في معنى المعقول. ورابعها: تخيل المحسوس في صورة المعقول. ومثل هذه الصيانات لا تتم -عنده- إلا بواسطة لغة مرجعيتُها البلاغة بكل روافدها وتفرعاتها، وأن مرجعية هذه البلاغة لابد وأن تكون العقل، وقد أرجع الناقد جودة الخيال إلى: - الحياة في إطار حضاري؛ "لما في ذلك من كثرة الصور، وتعدد المناظر، فتغزر مادته، وتكون مخيلته -الشاعر- أكثر عملاً في إنشاء المعاني". - توفر الحرية "ومَنْ ذا ينكر أن الخيال الذي يسخره صاحبه في كل غرض، ويُطلق له العِنان في كل حلبة، يكون أبعدَ مرمى، وأحكم صنعة من خيال الشاعر الذي حصرته السياسة في دائرة، ورسمت له خطبة لا يفوتها؟! ". أما المفاضلة بين الشعراء، فإنها لا تصل -عنده- إلا إذا تناول الشاعران معنى واحداً لواقعة واحدة، أو مختلفة، أو قصدا غرضاً واحداً، واختلفا في

الصورة المعبرة عنه، أما المفاضلة بين إنتاج شاعرين، فهذا لا يصح إلا بالنسبة للناقد الذي تناول معظم شعرهما، على أن يعرف بالرجحان وبالموضوعية. وعنده: ما يميز الشاعر الجيد عن غيره، هو: من كان "شعره أقل خطوراً على الذاكرة، أو أوسع نطاقاً في التخييل، أو ألذ وقعاً على الذوق". - غرابة المعاني المتخيلة مع الجمع الجيد لكل أجزاء القصيد. - التوسع في الخيال مع ابتعاد عن البساطة، وعن التعقيد المفرط. - الالتزام بالذوق السليم. والخضر حسيَن يعتبر أن المعاني المطروقة عن الشعراء هي نفسها تقريباً، ولذلك فإن السرقات الشعرية مقبولة مادام الشكل أو البناء مبتكراً، فكلما كان هذا الأخير جيداً، كان القصيد بليغاً، وفي بعض الأحيان تكون السرقة أبلغَ وأكثر براعة من الأصل، وهنا يرجع الفضل لللاحق، لا للسابق؛ أي: للفرع، لا للأصل. ولاحظ: أن "فن التخيل كسائر الملكات والصنائع يترقى شيئاً فشيئًا ... وهذا ما حصل في الشعر العربي، فالخيال في الجاهلية شحيح يسير على نفس المنوال، وإن أمثله الخيال الراقي نادرة في أشعار الجاهليين"، وأرجعَ ذلك إلى أن العرب في الجاهلية كانوا لا يشاهدون إلا مناظر فطرية؛ كالكواكب والحيوانات والصحراء. ثم وبعد نزول القرآن، وما أضافه من معان جديدة وصور طريفة، ترقى الخيال الشعري وتطور، ثم ترقى في العهد العباسي نتيجة لاختلاط الأمة العربية بأمم أخرى، واحتكاكها بحضارات مغايرة لحضارتهم، فازداد

الذوق العربي تهذيباً، والمعاني غزارة وتنوعاً. واعتقاده هو أن مسيرة الشعر العربي هي مسيرة موصولة الحلقات، بدايتها الشعر الجاهلي، ونهايتها الشعر المعاصر؛ أي: أن هذا الشعر حافظ على روحه، وعلى أركانه، وأنه لم يتعرض إلى طفرات أو فواصل فارقة ذهبت به، هي مجرد قفزات حققها بعض الأفذاذ من الشعراء. وعنده: أن التراث الشعري العربي هو تراث ثري بإبداعاته وبأساليبه، وبمضامينه وبلغته، وأنه من المستحيل تجاوزه من قبل أشعار الأمم الأخرى، أو تدميره واجتثاثه. والأهم في الأزمنة المعاصرة، هو: إعادة قراءته ونقده بموضوعية، واستخلاص جوهره؛ لأن ذلك يساعد على النهوض به. * نقض كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين: أثار كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" ضجة كبيرة في الوسطين الديني والأدبي، فتصدى للرد عليه جمهور من علماء الدين، ومن الأدباء، من ضمنهم: محمد الخضر حسين، الذي وضع كتاباً في الغرض عنونه بـ: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، ويشتمل هذا الكتاب على ثلاثة أبواب، وستة عشر فصلاً، وهو نفس التقسيم الذي اتبعه طه حسين. يقول الخضر حسين بأن كتاب "في الشعر الجاهلي" ليس فيه ما يثير سخط الناس سوى ما كان طعناً في الإسلام صراحة أو غمزاً، وما عدا هذا، إنما هو الخطأ، أو الشذوذ الذي اعتاد أهل العلم سماعه في طمأنينة، وتقويمه برفق وأناة، والآراء التي يقول طه حسين: إنه سيعلمها إلى الناس على الرغم من سخطهم، إنما هي آراء سبقه إليها آخرون، منهم: عمر بن الخطاب الذي

قال: "تشاغل العرب عن الشعر وروايته في صدر الإسلام بالجهاد، ولما جاءت الفتوح، واطمأنت العرب، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم منه الكثير". وقد تبع ابن الخطاب في قوله ابنُ سلام الذي كان ينقد ما كان يرويه ابن إسحاق وغيره من أصحاب السير في الشعر يضيفونه إلى عاد وثمود، ويؤكد أن هذا الشعر منحول مختلق. كما تبعه جرجي زيدان، ومصطفى صادق الرافعي، ومرغليوث، الذي ادعى أن الشعر الجاهلي مزور ومصنوع، وذلك منذ سنة 1916 م. ويعقب الخضر حسين: "صحيح أن في الشعر الجاهلي تزويراً، وهو ما لا يختلف فيه النقاد القدامى والجدد، أما أن يكون التزوير قد استحوذ على الشعر الجاهلي بأسره، أو أتى على الكثرة المطلقة؛ بحيث يكون الصحيح قليلاً جداً لا يمثل شيئاً، ولا يدل على شيء، فدعوى لا تتكئ على رواية، ولا يقوم بجانبها برهان". ويضيف: "صحيح أن صفوة الشعر كان يُتلقى بالرواية حفظاً، ولكن من المحتمل جداً أن يصل شيء منه عن طريق الكتابة. وقد حكى ابن جنّي في "الخصائص ": "أن النعمان بن المنذر أمر، فنسخت له أشعار العرب في كراريس، ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إن تحت القصر كنزاً، فاحتفره، فاخرج تلك الأشعار"، كما أن ابن سلام أورد في "طبقات الشعراء" ما يوافق هذه القصة، قال: "وقد كان عند النعمان بن المنذر ديوان فيه أشعار الفحول، وما مُدح به هو وأهل بيته، فصار

ذلك إلى بني مروان". وُيروى عن ذي الرمة: أنه قال لعيسى بن عمر: "أكتب شعري، فالكتاب أحبُّ إلي من الحفظ". والخضر حسين لم ينزه رواة العرب من الغلط والغلو، والإضافة والحذف والانتحال، يقول في ذلك: "ولا ندري مَن هذا الذي يعتقد أن خَلَفاً، أو حَمَّاداً، أو أبا عمرو، والأصمعيَّ أذكى من المعاصرين أفئدة، ولم يقع في الناس سوى أنهم يرجعون إليهم وإلى أمثالهم في أمر كانوا يقومون عليه، ولا طمع في الوصول إليه من غير طريقهم، وهو هذا الشعر العربي". ويذهب هذا الناقد إلى أن الأخطاء المنافية للمنهج العلمي السليم التي وقع فيها طه حسين هو تشكيكه في اللغة الجاهلية، وقد تبين من كلامه أنه يجهل هذه اللغة، وقصارى ما فعل أن قال ما سمع النقاد من قبله يقولونه، وهو أن البحث الحديث أثبت خلافاً قوياً بين لغة حمير ولغة عدنان، متأثرين يقول أبي عمرو ابن العلاء: "ما لسانُ حِمير بلساننا، ولا لغتهم لغتنا". وكانت النزاهة العلمية وأصول البحث العلمي تحملان على طه حسين التفصيل في خاصيات كلٍّ من لغة حمير، ولغة عدنان، وضرب الأمثلة الشعرية والنثرية؛ للتدليل على وجاهة رأيه. والخضر حسين لا يقصد أن الشرق هو في غنى عن الغرب، أو أن الشرق هو أعظم من الغرب، بل عنده أن الشرق اليوم هو في تراجع حضاري خطير،

وأن الغرب يتحمل الآن وحده مسؤولية الرقي والتقدم في العالم. كما أنه لا ينكر ما "لديكارت" من فضائل على العلم والفلسفة ومناهج البحث، بل يذكر الغلو في إصدار الأحكام، والحط من شأن الحضارة العربية، والتغافل عن القول بأن الغزالي وابن خلدون وأضرابهما كانوا من المؤسسين للمناهج وللعلوم التي ارتكز عليها ديكارت وأضرابه. وعنده: أنه لا شك في أن في الغرب ثقافة وعلماً، وأساليب بحث وتأليف، لكن من الضروري مناقشتها، وأن لا نمنحها من التقدير أكثر مما تستحق، وأن لا نحجم عن نقدها، والبحث عن منشئها، وما يترتب عليها من نتائج، ثم الحكم على إيجابياتها وسلبياتها معاً كأي عمل بشري قابل للخطأ وللصواب. وهذا يقال إنما بالنسبة لما أبدعه العرب من علوم وآداب، ومناهج بحث وتأليف. لكن من غير العلمي الرفع من شأن علم أو أدب أو منهجِ بحث على حساب آخر دون التمحيص والتدقيق، والإدلاء بالحجة والبرهان القاطع. ويضيف: "صحيح أن المحدثين أوسعوا دائرة العلوم، وحققوا أشياء كانت غامضة، واستكشفوا أموراً كانت مجهولة، وهذا يدل على أن عقولهم أكبر من عقول القدماء، وإنما سنّة ترقي العلوم والفنون، وأن يبني المتأخر على أساس، أو الحجرِ الذي يصنعه المتقدم، ولو أخذنا نبغاء هؤلاء المحدثين، وحشرناهم في بعض العصور القديمة، لم يأتوا أحسن مما أتى نبُغاء ذلك العصر".

ويقول: "إن القدماء من المسلمين درسوا علوماً شتى، فخاضوا غمارها، وسابقوا الغير في الوقوف على أسرارها، وأبصروا فيها حقاً وباطلاً، ولم يقتصروا في علمهم بالحق حقاً على دليل موافقته للدين، ولا في معرفتهم للباطل باطلاً على دليل مخالفته له، بل كانوا يتوسمون في ذلك منهج المنطق الصادق، ويقرعون الحجة النظرية بمثلها". وعنده: ليس من العلم في شيء تأليف كتاب بهدف الازدراء بانجازات الغير، أو بهدف ازدراء العلماء والأدباء، وهنا يضع الكاتب نفسه في مثل ما يشهر به؛ إذ أنه سيتهم بدوره بالتعصب والتحيز، وبعدم التثبت. وهنا يضيق بمناهج النقد الديكارتية وغيرها ذرعاً، يتجاوز قواعدها، ويتجاهل قوانينها، ولا يحترم الصدق في البحث مغلباً هواه، ويصبح شغله الشاغل إيجاد مبررات لما تخيله، ويسوق أفكاره في صورة قطعية زاهية. وعنده: ليست المزية في تصوير المنهج، وإنما المزية في العمل عليه بجد واستقامة، صانه من الخطل الاعتقاد في أن كل جديد هو جديد حقاً، وإن كل قديم يشير إلى التخلف والباطل. والخضر حسين يعتقد: أن توظيف مناهج البحث الحديثة في النقد الأدبي غير كاف، خصوصاً إذا استعملت بهدف التحقير والتهجم، أو بهدف زعم الناقد بأنه أحاط بما لم يحط به أحد من قبله. وعنده: البحث في الرأي أو الرواية دأب كل عالم نقّاد، وما البحث إلا أثر الشك في صحة الرأي، أو صدق الرواية، والشك قد يكون ذريعة للعلم، وقد ينحدر بصاحبه في جهالة، والأول محمود العاقبة، والثاني لا خير فيه.

وإذا ظهرت العاطفة على القلم، فلا تسمع إلا غلواً في القول، وجحوداً لكثير من الحقائق. وملخص ما عابه الخضر حسين على طه حسين هو: - توظيف النقد الأدبي لأغراض لا علاقة لها بالأدب. - إغفاله ذكر مصادره، وكأن ما قاله هو من بنات أفكاره، ومن استخلاصه الشخصي، وفي الواقع: أنه اقتصر على ترديد ما قال به النقاد قبله، ومرغليوث دون إضافة حقيقية. - التعميم والتسرع في الإدلاء بالأحكام دون تثبت ولا رواية، ولا تدليل موضوعي بالشعر أو بالتثر على أقواله. - اعتقاده في إمكانية تعميم منهج ديكارت على النقد الأدبي، مع أن العلوم الإنسانية تفتقر إلى منهج صارم، وأنه لا علاقة بين مناهج العلوم الصحيحة والأدب (¬1). ¬

_ (¬1) أ - لعبت مجلة "السعادة العظمى" التي أسسها محمد الخضر حسين دوراً رائداً وأساسياً في تحديد مفهوم الشعر العصري ... وفي المناداة بتكريسه؛ ليكون رافداً للنهضة الأدبية التونسية. وقد نشرت هذه المجلة مقالاً مسترسلاً (في فضاء 6 أعداد) لعبد العزيز المسعودي بالإمكان مفصلته إلى المعاني التالية: - نقد شديد لمضامين الشعر التقليدي، وقد عاب عنها التعقيد والمديح. - وأن الشعر معنى عظيم يدرك بالوجدان، وكل تضييق عليه (بناء ومضموناً وأسلوباً) هو قتل له.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = - أن الخطر كل الخطر هو النظر إلى فن الشعر كلفظ وعروض وقافية؛ لأن الشعر في جوهره هو حالة من حالات النفس. - الشعر هو شقيق الرسم، ولذلك على الشاعر أن يرسم بالكلمات ما يشاء حتى "يخال من يقرأ أشعاره أنه ينظر إلى لوح من الألواح المصورة بقلم الرسام وفرشاته". - ولمزيد من تحرر الشعر من قيوده ضرورة كتابة الشعر الحُرّ، أو القصيد النثري. ب - لقد ذكرنا مصادر هذا البحث داخل المتن، وهي الكتابات التالية: - "حياة اللغة العربية". - " القياس في اللغة العربية". - "الخيال في الشعر العربي". - "نقض كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين"، وقد أوفيناها حقها.

الإمام محمد الخضر حسين

الإمام محمد الخضر حسين (¬1) في الثاني من الشهر الثاني في العام القادم، يمرُّ خمسون عاماً على وفاة عالم جزائري جليل، خطّت الأقدار في صحيفته أن يولد في خارج الجزائر، وأن يقضي حياته بعيداً عنها، وأن ينسب إلى غيرها، إنه العلامة الخضر حسين. إنني أقترح بهذه المناسبة أن يُعقد ملتقى دولي لدراسة حياة هذا العالم وآثاره، فهو ذو شهرة واسعة، وترك تراثاً علمياً ثرياً. لقد استعجلت الحديث عن هذه الذكرى؛ لكي يتمكن المسؤولون -إن خلصت نياتهم، وصحّت عزائمهم- من الإعداد الجيد لهذه المناسبة بما يتناسب مع قيمة هذا العالم العلمية والنضالية، حتى لا يقول المعذّرون: إن الوقت داهمنا. إن المؤسسات المؤهلة لإقامة هذا الملتقى هي المجلس الإسلامي الأعلى، وزارة الشؤون الدينية، وزارة التعليم العالي، المجلس الأعلى للغة العربية، مجمع اللغة العربية. فإن لم تتمكن هذه المؤسسات من إقامة هذا الملتقى، أو رَغِبَتْ عنه، فلْتتولَّ إقامته الزاويةُ العثمانية في "طولقة"، أو الزواية القاسمية في "الهامل"؛ لما بينه وبينهما من رحِمٍ مادية وروحية. ¬

_ (¬1) للكاتب والباحث الجزائري الأستاذ محمد الهادي الحسني - جريدة "الشروق"، العدد 1912 الصادر في (8 فيفري 2007 م - الموافق 20 محرم 1428 هـ) - الجزائر.

ولد الإمام محمد الخضر حسين في 21/ 7/ 1873 م بمدينة "نفطة" التونسية، التي استقرت بها أسرته بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر. وبعد أن استظهر آي الذكر الحكيم، وألم بمبادئ العلوم الشرعية واللغوية، انتقل إلى مدينة تونس، وهو في الثالثة عشرة من عمزه، فالتحق بجامع الزيتونة، وتخرج فيه بشهادة التطويع عام 1898، وكان من شيوخه فيه: خاله محمد المكي بن عروز، والشيخ سالم بو حاجب، والشيخ محمد النجار، والشيخ عمر بن الشيخ، وقد أثر كل واحد من هؤلاء الشيوخ في جانب من جوانب شخصية الإمام محمد الخضر، الذي أشاد بهم، ولم ينس فضلهم عليه. ومما يلفت النظر: أن الإمام محمد الخضر حسين لاحظ -وهو طالب- أن مادة الإنشاء التي تُعِدُّ الطالب للكتابة، وتهيئه للتحرير لا تجد الكفاية من العناية، فوجّه أبياتاً شعرية إلى أشياخه، يلفت فيها أنظارهم إلى هذا النقص، داعياً إلى تداركه، ومنها: بذلتم في نَفاقِ العلمِ وُسعاً ... وذلَّلتم طرائقه الصِّعابا ولكنَّ الخصاصةَ في فنونٍ ... تساورني المخافة أن تُعابا أصابَ صناعةَ الإنشاء مَحلٌ ... وغاض مَعينُها إلا سرابا أني علم البيان نغوص فهماً ... ونملأ من جواهره الوِطابا وإن ركبتْ أناملنا يراعاً ... تعاصى أن يشق بها عُبابا ولا ترقى شؤونُ الشعب إلا ... بأقلامٍ تناقشه الحسابا كانت همة محمد الخضر حسين متعلقة بالانضمام إلى هيئة التدريس بجامع الزيتونة، ولكن المؤامرات والمناورات حالت بينه وبين ما يشتهي، فاكتفى بإلقاء الدروس تطوعاً.

لم يقل محمد الخضر حسين ما يقوله المعذِّرون: "صحَّ مني العزمُ والدهر أبي"، فقرر أن يُوسع ساحة تأثيره، وأن يكون معلماً غير مباشر لأكبر عدد من الناس، فأسس في عام 1904 م مجلة "السعادة العظمى"، و"هي أول مجلة عربية ظهرت في تونس" (¬1)، ولكن عمرها لم يطل؛ إذ توقفت في يناير 1905 م بعدما صدر منها واحد وعشرون عدداً. رأى المستعمرون الفرنسيون وأولياؤهم من التونسيين أن يقيدوا محمد الخضر حسين بوظيفة تحدد حركته، وتقلل نشاطه، فعينوه قاضياً في مدينة "بنزرت"، وخطيباً في جامعها، و"كان للشيخ محمد الطاهر بن عاشور قسط كبير في التأثير عليه لقبول هذه الوظيفة" (¬2)، ولكن الشيخ لم يستطع صبراً، فاستقال بعد بضعة أشهر، ولا يُستبعد أن تكون هذه الاستقالة قد وقعت بعد ضغوط عليه إثر محاضرته الشهيرة: "الحرية في الإسلام" التي لقيت صدًى واسعاً، ونالت قبولاً كبيراً. قام الشيخ محمد الخضر حسين برحلتين إلى الجزائر، موطنِ آبائه وأجداده، وكانت أولى الرحلتين في عام 1903 م، وكانت ثانيتهما في 1904 م، ولعله كان يستكشف من خلالهما إمكان العمل في الجزائر، ولكنه أدرك أن الجزائر تعيش في سَموم وحميم، وأن الوضع فيها أسوأ من تونس أضعافاً مضاعفة، وأن يوماً من العذاب فيها كألف يوم في غيرها. وفي سنة 1912 م سافر الشيخ إلى دمشق، وكان قد سبقه إليها في السنة التي قبلها إخوانه: زين العابدين، والمكي، والعروسي، كما أن خاله ¬

_ (¬1) محمد مواعدة: "محمد الخضر حسين"، ط 2، (ص 32). (¬2) المرجع نفسه (ص 38).

العلامة محمد المكي بن عزوز قد سبقهم إلى الإقامة بمدينة إستانبول منذ عام 1898 م. وجد الشيخ في دمشق من الحرية النسبية ما لم يجده في تونس، فنثر معارفه، فتهافت عليه عِلْيَة القوم ووجهاؤهم، وعقدت المجالس العلمية، وكان الشيخ الخضر "واسطة العقد في تلك المجالس" (¬1)، وانتصب للتدريس في "كرسي الشيخ محمد عبده" (¬2) في المدرسة السلطانية. اندلعت الحرب العالمية الأولى، وكانت تركيا طرفاً فيها إلى جانب ألمانيا، فضيقت الحكومة التركية حرية القول ومجال الحركة على الناس، وكانت ممارسة ممثليها في الشام -وعلى رأسهم جمال باشا- سيئة ظالمة، فتعرضت إلى انتقادات، خاصة أن أمر تركيا يزيد من يسمون: الشبان الأتراك ذوي الاتجاه اللائكي، المتورطين في التعامل مع الصهيونية والماسونية، وكان الشيخ محمد الخضر ممن مسّهم نصب وعذاب جمال باشا؛ إذ ألقاه في السجن بضعة شهور. * نضال في سبيل القضبة الوطنية: دُعي الشيخ محمد الخضر إلى إستانبول في عام 1917 م، وعهد إليه بوظيفة "التحرير بالقلم العربي" في وزارة الحرب التركية، ولكن مقامه لم يطل في تركيا، فانتقل رفقة مواطنه صالح الشريف (من الصومام) إلى ألمانيا وسويسرا، وشكَّلا لجنة لتحرير الجزائر وتونس، يؤازرهما فيها مجموعة ¬

_ (¬1) "آثار الإمام الإبراهيمي" (ج 3، ص 566). (¬2) أنور الجندي: "الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقية" (ص 17).

من المناضلين الجزائريين والتونسيين، وكان من أهداف هذه اللجنة: إعلان الثورة على فرنسا في شمال إفريقية، واعلان "جمهورية شمال إفريقية"، و"ذهب وفد برئاسة الشيخ الخضر حسين إلى وزارة الخارجية الألمانية، ووعد الألمانُ الوفدَ بإمداد الثورة بالسلاح ولوازم الحرب" (¬1). وكان المعوّل في هذه الثورة على الجنود المغارييين في الجيش الفرنسي، الذين وُجهت إليهم فتاوى بوجوب ترك صفوف الجيش الفرنسي، والالتحاق بالجيش الألماني، وقد أُعدَّ في برلين معسكرٌ لتجميع هؤلاء الجنود سُمي: "معسكر الهلال"، ولكن الحرب توقفت في سنة 1918 م قبل أن تكتمل الاستعدادات. واصل الشيخ محمد الخضر عمله مع مواطنه الشيخ صالح الشريف، ومجموعة من المناضلين الجزائريين والتونسيين، وكان أبرز عمل قاموا به هو: توجيه تقرير إلى مؤتمر الصلح بباريس بحقوق الشعبين، وكان التقرير تحت عنوان: "مطالب الشعب الجزائري والتونسي"، وقد وقعه من الجزائريين كل من الشيخين: صالح الشريف، ومحمد الخضر حسين، ومحمد مزيان التلمساني، ومحمد بيزار الجزائري، وحمدان بن علي الجزائري، ومن التونسيين: محمد الشيبي، واسماعيل الصفايحي، ومحمد باش حامبة ... عاد الشيخ إلى دمشق، وما كاد يلتقط أنفاسه، ويعود سيرته الأولى في التدريس ونشر العلم حتى كانت جحافل الجيش الفرنسي تحتل سورية، فانتقل الشيخ إلى القاهرة حيث ذاع صيته، وسما مكانه، وسطع نجمه. ¬

_ (¬1) أحمد العباسي: "الشيخان المجاهدان" (ص 50).

وفي القاهرة أسس الشيخ في عام 1924 م (جمعية تعاون جاليات إفريقية الشمالية)، كما أسس في الأربعينيات (جمعية الدفاع عن إفريقية الشمالية)، رفقة الأمير سعيد الجزائري، والشيخ الفضيل الورتلاني، والأمير عبد الكريم الخطابي، وغيرهم. واختير للتدريس في جامع الأزهر، ورأس (جمعية الهداية)، و"مجلتها"، وتولى رئاسة تحرير مجلة "نور الإسلام"، ونال عضوية هيئة كبار العلماء، كما عين عضواً في (مجمع اللغة العربية) عندما أسس المجمع في سنة 1932 م، فقد "جمع بين التفقه في الدين واللغة والأدب" (¬1)، وكان أرقى ما تقلده من مناصب هو: مشيخة الأزهر، الذي عُين شيخاً له، من غير سعي منه، في أواخر عام 1952 م، إلى أن تخلى عن إدارته بإرادته في جانفي 1954 م، بعد أن "ضرب أكبر مثل للتاريخ بالإخلاص والتفاني في العمل لمصلحة الأزهر والإسلام" (¬2)، وقد قال عندما وُلي رئاسة الأزهر الشريف: "وُليتُ أمر الأزهر، فإن لم يَزِد في عهدي، فلن ينقص منه شيء". * معارك علمية: إن أهم ما أبان عن مكانة الشيخ محمد الخضر العلمية، ولَفَت إليه الأنظار، وحاز بسببه الإعجاب والتقدير هو: رده العلمي، القوي الحجة، الساطع البرهان على كل من الشيخ علي عبد الرازق، والدكتور طه حسين. فقد كتب الشيخ عبد الرازق في سنة 1925 م كتاباً سماه: "الإسلام ¬

_ (¬1) "مجمع اللغة العربية في ثلاثين عاماً"، القسم الثاني (ص 158). (¬2) محمد سعيد البوطي: "من الفكر والقلب" (ص 242).

وأصول الحكم "، نفى فيه أن تكون الخلافة من الدين، وزعم أن الدين لا يتدخل في شؤون الحكم، وقد ردّ عليه الشيخ محمد الخضر بكتاب من 552 صفحة، سماه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم". كما كتب الدكتور طه حسين في سنة 1926 م كتابه المشهور: "في الشعر الجاهلي"، ادعى فيه أن هذا الشهر منحول، مردّداً في ذلك دعوى المستشرق (مارجوليوث)، فتصدى الشيخ محمد الخضر لهذه الدعوى ولصاحبها، وكتب رداً تحت عنوان: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، وقد لاحظ بعض الدارسين أن كلمة "نقض" التي استعملها الشيخ أكثر حدة وشمولًا من كلمة نقد، وقد اعترف الدكتور طه حسين -كما روى الشيخ محمد الفاضل بن عاشور-: أن "كتاب الشيخ محمد الخضر من أهم الردود، وأشدها حجة" (¬1). رحم الله الإمام محمد الخضر حسين، وبوأه مقعد الصدق؛ فقد عاش "كأنما يستشعر دائماً أنه لم يخلق لنفسه، وإنما للإسلام" (¬2)، الذي ما هوجم في وقعة إلا وكان للأستاذ -محمد الخضر- دفاع أمتن من الفولاذ، وأرسخ من الجبال الراسيات" (¬3). ¬

_ (¬1) محمد مواعدة: مرجع سابق، (ص 86). (¬2) البوطي ... (ص 241). (¬3) محب الدين الخطيب: نقلاً عن آثار الإمام ابن باديس، ج 3، (ص 114).

الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين

الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين (¬1) عُين الشيخ الخضر حسين شيخاً للأزهر في يوم الأربعاء (27 من ذي الحجة 1271 هـ 17 سبتمبر 1952 م). وكان أحمد تيمور في مقدمة الذين قدّروا فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر السابق حين قدم مصر من أكثر من ربع قرن. وقد عشر السيد خليل ثابت رئيس لجنة نشر المؤلفات التيمورية بين آثار العلامة أحمد تيمور على ترجمة لحياة محمد الخضر حسين هذا نصها: ولد بمدينة "نفطقه بالقطر التونسي في (27 رجب سنة 1293 هـ)، واشتغل بالعلم، وحفظ القرآن الكريم، وقرأ بعض الكتب الابتدائية في بلده، وفي آخر سنة 1306 هـ رحل مع أبيه وأسرته إلى القاعدة التونسية، فاشتغل بالطلب، ثم دخل الكلية الزيتونية سنة 1307 هـ، فقرأ على أشهر أساتذتها، وتخرج عليهم في العلوم الدينية واللغوية، ونبغ فيها وفي غيرها، فطُلب لتولي ¬

_ (¬1) من كتاب "الأزهر في ألف عاماً"، الجزء الأول، للدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، الطبعة الثانية (1408 هـ - 1988 م).

بعض الخطط العلمية قبل إتمام دراسته، فأبى، وواظب على حضور حلقات الأكابر؛ مثل: الشيخ عمر بن الشيخ، والشيخ محمد النجار، وكانا يدرِّسان التفسير، والشيخ سالم بو حاجب، وكان يدرس "صحيح البخاري". ثم رحل إلى الشرق في سنة 1317 هـ، ولكنه لم يبلغ طرابلس حتى اضطر إلى الرجوع بعد أن أقام بها أياماً، فلازم جامع الزيتونة يفيد ويسفيد، إلى سنة 1321 هـ، فأنشأ فيها مجلة "السعادة العظمى"، ولاقى في سبيل بث رأيه الإسلامي ما يلاقيه كل من سلك هذا السبيل. وفي سنة 1323 هـ ولي القضاء في مدينة "بنزرت"، والتدريس والخطابة بجامعها الكبير، ثم استقال، ورجع إلى القاعدة التونسية، وتطوع للتدريس في جامع الزيتونة، ثم أحيل إليه تنظيمُ خزائن الكتب بالجامع المذكور. وفي سنة 1325 هـ اشترك في تأسيس جمعية زيتونية، وفي هذه المدة جعل من المدرسين المعينين بالجامع المذكور. وفي سنة 1326 هـ جعل مدرساً بالصادقية، وكلف بالخطابة في مواضيع إنشائية بالخلدونية، ولما قامت الحرب الطرابلسية بين الطليان والعثمانيين، كان من أعظم الدعاة لإعانة الدولة، ونشر بجريدة الزاهرة قصيدته الشهيرة التي مطلعها: رُدُّوا على مَجْدِنا الذِّكْرَ الذي ذَهبا ... يكفي مضاجعنَا نومٌ دَهَى حِقَبا ثم رحل إلى الجزائر، فزار أمهات مدنها، وألقى بها الدروس المفيدة، ثم عاد إلى تونس، وعاود دروسه في جامع الزيتونة، ونشر المقالات العلمية والأدبية في الصحف. وفي سنة 1230 هـ سافر إلى دمشق ماراً بمصر، ثم سافر إلى القسطنطينية،

فدخل يوم إعلان حرب البلقان، فاختلط بأهلها، وزار مكاتبها، ثم عاد إلى تونس في ذي الحجة من هذه السنة، ونشر رحلته المفيدة عنها، وعن الحالة الاجتماعية بها ببعض الصحف، ثم جُعل عضواً في اللجنة التي ألفتها حكومة تونس للبحث عن حقائق في تاريخ تونس، ثم ترك ذلك لما عزم على المهاجرة إلى الشرق، فرحل إليه، ونزل مصر، وعرف بعض فضائلها، ثم سافر إلى الشام، ثم للمدينة المنورة، ثم إلى القسطنطينية، ثم عاد معيناً مدرساً للغة العربية والفلسفة بالمدرسة (السلطانية) بدمشق، وبقي كذلك إلى أن اتهمه مدة الحرب العظمى جمال باشا حكم سورية بكتم حال المتآمرين على الدولة، واعتقله ستة أشهر وأربعة عشر يوماً، ثم حوكم، فبرئ من التهمة، فأطلق سبيله في شهر ربيع الثاني سنة 1335 هـ. ومن شعره في حبسه، وكانوا حالوا بينه وبين أدوات الكتابة: غَلَّ ذا الحبسُ يدِي عن قلمٍ ... كان لا يَصْحو عن الطِّرْسِ فناما هل يذودُ الغمض عن مقلته ... أو يلاقي بعدَه الموتَ الزؤاما أنا لولا همةٌ تحدو إلى ... خدمة الإسلام آثرتُ الحِماما ثم استمر على التدريس بالمدرسة بدمشق إلى أن دُعي إلى القسطنطينية سنة 1136 هـ. ثم هاجر إلى إستنبول بعد عام، وعمل محرراً بالقلم العربي بوزارة الحربية، ثم أرسلته الحكومة إلى ألمانيا للقيام بعمل سياسي، وهو تذكير الأسرى هناك بظلم فرنسا، ثم رجع إلى الشام، فدرس الفقه بالمدرسة السلطانية العربية ... وبعد أن احتلت فرنسا الشام بعشرة أيام هاجر إلى مصر في عام 1329 هـ، ثم نال الشهادة العالمية بالأزهر، وتولى التدريس بكلية أصول الدين والتخصص اثنتي عشرة سنة.

وتولى رئاسة تحرير "مجلة الأزهر"، و"لواء الإسلام"، ورئاسة (جمعية الهداية الإسلامية)، واختير عضواً بهيئة كبار العلماء 1951 م، وهو إلى ذلك عضو بمجمع اللغة العربية منذ أنشئ. وقد استقال فضيلته من المشيخة في (2 جمادى الأولى 1373 هـ - 8 يناير 1954 م)، وتوفي -رحمه الله- في 14 رجب عام 1377 هـ. وقد نعى الأزهر في يوم الاثنين 14 رجب سنة 1377 هـ عالماً إسلامياً جليلاً، ومجاهداً من الرعيل الأول، ممن أبلوا البلاء الحسن في كفاح الاستعمار: الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر السابق، ورئيس (جمعية الهداية الإسلامية) عن نيف وثمانين عاماً، قضى معظمها في التدريس، وفي الكتابة والتأليف، وفي جهاد مرير في شبابه دفاعاً عن حقوق عرب شمال أفريقية وغيرهم من أقطار العروبة. ولد الفقيد الجليل في وطنه الأول في بلدة "نفطة" من مقاطعة الجريد بتونس، ونشأ في بيت علم ينتمي أصله إلى الجزائر، وشرع في طلب العلم في بلدته، ثم أتم تعليمه في جامعة الزيتونة، وتخرج منها، ومارس بعد تخرجه التدريس، ثم القضاء، كما قام وإنشاء أول مجلة علمية أدبية بالمغرب، ثم رحل إلى تركيا، وأقام بها وقتاً قصيراً، ثم حضر إلى دمشق؛ حيث عين مدرساً بمدرستها الثانوية الوحيدة يومذاك -وكانت تعرف بمدرسة عنبر-, وطل في دمشق إلى أوائل الحرب العالمية، ثم رجع إلى إستانبول، فانتدبته الدولة العثمانية إلى برلين مع بعثة مؤلفة من كبار علماء شمال إفريقية للاتصال بأبناء شمال إفريقية ممن وقعوا في أسر الألمان في أثناء الحرب، وبانتهاء الحرب عاد إلى دمشق مدرساً في نفس المدرسة، وكان العهد عهد

الحكومة الفيصلية الوطنية. وكانت الحكومة الفرنسية قد حكمت عليه بالإعدام؛ لانضمامه إلى الدولة العثمانية، ولذهابه إلى ألمانيا -كما مر ذكره-، فما إن دخلت فرنسا سورية حتى غادرها جميع الأحرار من المجاهدين العرب، وكان منهم الفقيد الشيخ الخضر، فجاء إلى مصر حوالي عام 1920 م، وظل فيها بعض الوقت مغموراً، ثم عرف فضله ومكانته، فعين أولاً مصححاً بدار الكتب المصرية. وفي هذه الأثناء صدر في مصر كتابان شهيران أحدثا دوياً في ذلك الوقت في الأوساط الفكرية، وهما: كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للعالم الأزهري الشيخ علي عبد الرازق، وكتاب "في الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين، ونظراً لما اشتمل عليه هذان الكتابان من آراء مضللة، تصدى بعض كبار الباحثين للرد على كل منهما، وكان للمرحوم الشيخ محمد الخضر حسين فضل الرد على كلا الكتابين حينئذ؛ حيث أفرد لكل منهما كتاباً مستقلاً، كانا من خير ما كتبه الكاتبون في هذا المجال. وظل الفقيد يعمل مصححاً بدار الكتب بضع سنوات إلى أن مُنح شهادة العالمية الأزهرية، ثم تعين مدرساً بالأزهر، وكان ذلك في عهد الشيخ المراغي ... وأخيراً تعين عضواً في هيئة كبار العلماء، وهو المنصب الذي أهله -فيما بعد- لأن يصبح شيخاً للأزهر. وعقب تعيينه مدرساً بالأزهر أنشأ (جمعية الهداية الإسلامية) بمصر، وظل يرأسها، ويرأس "مجلتها" إلى عهد قريب، كما كان أول رئيس تحرير لمجلة "نور الإسلام "، وهي المجلة التي أصدرتها مشيخة الأزهر سنة 1349 هـ.

وللشيخ محمد الخضر حسين يرجع الفضل في تكوين جمعية (تعاون جاليات إفريقية الشمالية) في مصر قبل حوالي عام 1924 م، وكان يرأس هذه الجمعية بنفسه، وهدفها: رفع مستوى تلك الجاليات من الناحيتين الثقافية والاجتماعية. غير أن هذه الجمعية لم تعش طويلاً؛ لأن استعماراً ثلاثياً: إيطالياً، وفرنسياً، وإسبانياً كان لها بالمرصاد، فقضى عليها في سنواتها الأولى. وللفقيد الكبير -عدا كتابيه السالفي الذكر- محاضرات، ورسائل عديدة مطبوعة ومتداولة، وهو كاتب بليغ، وله ديوان شعر مطبوع، وقد اشتهر بمقالاته وبحوثه في كبرى المجلات الإسلامية. وعندما صدرت مجلة "لواء الإسلام" لصاحبها الوزير السابق الأستاذ أحمد حمزة، كان الشيخ الخضر يرأس تحريرها، وظل بها إلى عين شيخاً للأزهر، ثم استأنف نشر مقالاته فيها بعد تنحيه من المشيخة، وآخر مقالاته فيها في جزء رجب الأخير. كما كان عضواً في (مجمع اللغة العربية) بمصر منذ إنشائه قبيل الحرب العالمية الثانية. وكتب الأستاذ أنور الجندي عن محمد الخضر حسين يقول: "كان نظام التعليم في المعهد الزيتوني من أسباب تنافس أصحاب المذهبين: المالكي، والحنفي في ميدان العلم، وقد أخرج جامع الزيتونة فقهاء يعتزون بعلمهم، ويزهدون في المناصب، أدركت من هؤلاء فقهاء وأساتذة بلغوا الغاية في سعة العلم، وتحقيق البحث؛ مثل: عمر بن الشيخ، وأحمد بن الخوجة، ومحمد النجار، ومن نظر في فتاوى هؤلاء الأساتذة،

أو رسائلهم التي حرروا بها بعض المسائل العويصة، رآهم كيف يرجعون إلى الأصول والقواعد ومراعاة المصالح، ولا يقنعون بنقل الأقوال دون أن يتناولوها بالنقد والمناقشة. ويدلنا التاريخ القريب على أن بعض رجال الدولة التونسية عندما اتجهوا إلى إصلاح الحالة السياسية أو العلمية أو الاجتماعية، وجدوا فقهاء يدركون مقتضيات العصر، ويعرفون كيف تسعها أصول الشريعة بحق، فكانوا يعقدون منهم بعض لجانهم، ويستنيرون بآرائهم؛ مثل أساتذتنا: عمر بن الشيخ، وسالم أبو حاجب، ومصطفى رضوان، ومازال الرسوخ في الفقه، وربط الأحكام بأصولها، من مواضع عناية الأساتذة في جامعة الزيتونة لهذا العهد، يشهد بهذا: ما نقرؤه في محاضراتهم ومقالاتهم التي تنشر في الصحف التونسية والمصرية. كانوا يدرسون الفقه بأنظار مستقلة، وآراء تستضيء بالأدلة، ويتفاضلون فيها على قدر تفاضلهم في العبقرية وسمو الهمة ... ". لاشك كان محمد الخضر حسين علماً من أعلام الفكر المغربي الاسلامي، مكافحاً وطنياً، ومغترباً في سبيل الحفاظ على حرية الكلمة، وأقام كابن خلدون بقية عمره في مصر، ورقي فيها إلى أعلى المناصب، وعمل في ميداني الاصلاخ الإسلامي، والقياسي اللغوي، وعمل في التدريس والصحافة والكفاح الوطني، ولقد أتيح له أن يقاوم حركات التغريب بدعوته إلى إنشاء (جمعية الشبان المسلمين)، وكانت مجلته وقلمه من ألسنة الدفاع عن المغرب وقضاياه، ومعلماً قوياً يستصرخ المشارقة حين يكشف لهم عن مؤامرات الاستعمار، ويدعوهم إلى مقاومة التغريب، والتجنيس والفرنسة،

فهو منذ أقام في مصر بعد الحرب العالمية الأولى يحمل هذه الرسالة، ويعمل في كل هذه الميادين: الإسلام، واللغة، والكفاح السياسي. وكان محمد الخضر حسين مستنيراً، متفتح الذهن، يدعو إلى الإصلاح على أسس قاعدة علمية واضحة، فهو يعتمد الرأي حيث يثبته الدليل، ويتقبل الحكم متى لاحت بجانبه حكمة، ويثق بالرواية، بعد أن يسلمها النقد إلى صدق الغاية. ومن رأيه: أن على العلماء قول كلمة الحق لأهل الحل والعقد دائماً، وعدم التوقف عنها. "لا ينبغي لأهل العلم أن يغفلوا عن سير أرباب المناصب والولايات، فمن واجبهم أن يكونوا على بينة من أمرهم، حتى إذا أبصروا عوجاً، نصحوا لهم بأن يستقيموا، أو رأوا حقاً مهماً، لفتوا إليه أنظارهم، وأعانوا على إقامته. ومن أدب العلماء: أن ينصحوا للأمة فيما يقولون أو يفعلون، ويحتملوا ما ينالهم في سبيل النصيحة من مكروه، وكم من عالم قام في وجه الباطل، فأوذي، فتجلد للأذى! ". وقد كانت حياة الخضر حسين رمزاً على هذا المعنى، معنى: طلب الحرية، والهجرة من بيئة الظلم؛ فقد فر من تونس، ومن الشام، ومن تركيا، وكان فراره؛ ليحتفظ لنفسه بحقه في الكلمة، يقول: "نشأت في بلدة من بلاد الجريد بالقطر التونسي يقال لها: "نفطة"، وكان للأدب المنظوم والمنثور في هذه البلدة نفحات تهب من مجالس علمائها، كان حولي من أقاربي وغيرهم من يقول الشعر، فتذوقت الأدب من أولى نشأتي. وحاولت وأنا

في سن الثانية عشرة نظمَ الشعر. وفي هذا العهد انتقلت أسرتي إلى مدينة تونس، والتحقتُ بطلاب العلم بجامع الزيتوطا)، وكان ذلك عام 1899 م، أحب أستاذَه الشيخ سالم بو حاجب الذي كان يحثه على البحث، ويلاقي السؤال المهم بابتهاج، ويدعو للطالب بالتفتح، يقول: "كان يقول الشعر، مع كونه يغوص على المسائل العلمية بفكر ثاقب"، وكان الشيخ بو حاجب قد رفض وِسَام السلطان، ووسام الباي، فأحب منه الشيخ الخضر هذا الاعتداد بالنفس، "بعد أن نلت درجة العالمية، أنشأت مجلة علمية أدبية، وهي أول مجلة أنشئت بالمغرب، فأنكر علي بعضُ الشيوخ، وظن أنها تفتح باب الاجتهاد، وشجعني على إنشائها شيخنا بو حاجب، كما شجعني عليها الوزير محمد بو عتور". كانت خطته: الإصلاح الاجتماعي والديني، والعمل لإعادة مجد الإسلام، ولكنه لم يلبث أن اختلف مع السلطات بشأن العمل في القضاء، بعد أن وليّه في "بنزرت" 1905 م؛ إذ فضل العودة إلى التدريس في الزيتونة، فلما خاطبته المحكمة الفرنسية 1325 هـ بالعمل في المحكمة عضواً؛ ليحضر حكمها بين الوطني والفرنسي، امتنع، ولم يقبل أن يصدر الحكم الجائر. واستقر رأيه إثر ذلك على الهجرة إلى الشرق، فاستوطن دمشق عام 1912 م، وكانت تحت سلطات العثمانيين، فنصب للتدريس في المدرسة السلطانية في كرسي الشيخ محمد عبده. ثم اعتقله جمال باشا حاكمُ الشام، ورحل إلى الآستانة، فأُسند إليه التحرير بالقسم العربي بوزارة الحربية، وحين احتل الحلفاء الآستانة، رحل

مع زعماء الحركة الإسلامية: عبد العزيز شاويش، وعبد الحميد سعيد، والدكتور أحمد فؤاد. وعاد إلى دمشق 1918 م في عهد الحكومة العربية لفيصل، وعهد إليه بالتدريس في المدرسة السلطانية، ولكن فرنسا لم تلبث أن بسطت سلطانها على سورية، فترك دمشق إلى القاهرة 1919 م، وفي مصر عرف الشيخ أحمد تيمور باشا، الذي كان خير رفقائه، وكان له فضل واضح في إنشاء (جمعية الشبان المسلمين) مع السيد محب الدين الخطيب صاحب "الفتح". كما أنشأ من بعد (جميعة الهداية الإسلامية)، ومجلة "الهداية الإسلامية"، وتولى ثمة مجلة "لواء الإسلام"، ومجلة "الأزهر"، واتصل بالأزهر، ونال إجازته، وعمل في كلياته، واختير عضواً في جماعة كبار العلماء، فشيخاً للأزهر عام 1952 م، وعضواً في (مجمع اللغة العربية). وتطلع إلى مجد المغرب وحريته. وقد كانت مجلة "الهداية": مجلة مغربية واضحة الدلالة في كتابتها وأبحاثها، ودفاعها عن مختلف المواقف الوطنية والإسلامية والعربية، ورأس (جبهة شمال إفريقية)، التي ضمت الرجال الذين سعوا نحو مصر من أجزاء المغرب العربي. وكان الشيخ الخضر كاتباً، وشاعراً له شعر كثير جيد، وقد وصفه الفاضل ابن عاشور (¬1)، فقال: كان كاتباً بليغاً، ذا طبع خاص، وأسلوب قوي الروح الأدبية، فصيح العبارة، بليغ التركيب، ينزع إلى طرائق كتاب ¬

_ (¬1) "الحركة الفكرية والأدبية في تونس".

الترسل الأولين، رحل عام 1912 م إلى مصر وسورية وتركية، فكتب رحلة بديعة نشرت في مجلة "الزهرة"، طافحة بانتقاداته وأفكاره. وأشار إلى مجلة "السعادة العظمى" (التي أصدرها في تونس 1904)، فقال: إنها كانت مركزًا للحركة الفكرية، وقوة توجيهية متصلة بجميع أهل الثقافة العربية، يجتمع تحتها شقان متباعدان ... ولم تدم إلا عاماً ناقصاً. وللخضر حسين مؤلفات عديدة، أهمها: "محمد رسول الله"، "رسائل الإصلاح"، "آداب الحرب في الإسلام"، "القياس في اللغة العربية"، هذا بالإضافة إلى عشرات الفصول والمقالات في صحف مصر والمغرب والشام ...

الأخوة بين الإمامين محمد الخضر حسين , ومحمد الطاهر بن عاشور

الأخوَّة بين الإمامين محمد الخضر حسين , ومحمد الطاهر بن عاشور (¬1) كان من أعزّ أقرانه إليه الشيخُ الإمام محمد الخضر حسين، الذي زامله في الزيتونة دراسة، وتوجّهاً فكرياً؛ إذ انعقدت بينهما صداقة بدأت سنة (1317 هـ = 1899 م)، كان يحوطها العلم والفكر، وتحمل في طيّاتها روحَ الصفاء، ولهجَةَ الصدق، وكان في محطّات حياتهما كثير من التشابه، فالشيخ محمد الطاهر بن عاشور تولّى مشيخة الجامع الزيتوني، وتولَّى الشيخ محمد الخضر حسين مشيخة الجامع الأزهر، وهو أوّل من يتولَّى هذا المنصب من غير مصر، ومن مظاهر التشابه بينهما: أنهما كانا من المعتنين بالأدب، إضافة إلى عنايتهما بالعلوم الشرعية، وكان ذلك نادراً بين أقرانهما، كما تولَّى الاثنان الردّ على الشيخ علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، كما دعا كلاهما إلى اعتماد الإصلاح والنظام الاجتماعي، فكتب محمد الخضر حسين: "رسائل الإصلاح "، وكتب ابن عاشور: "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام". وهذه العلاقة جسّدها الرجلان بقصائد ومراسلات. ¬

_ (¬1) من كتاب "محمد الطاهر بن عاشور علامة الفكر وأصوله والتفسير وعلومه" من سلسة (علماء ومفكرون معاصرون، لمحات عن حياتهم وتعريف بمؤلفاتهم) لفضيلة الأستاذ إياد خالد الطباع.

منها: أنَّه لمَّا تولّى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور التدريس في جامع الزيتونة سنة (1323 هـ)، هنَّأه الشيخ محمد الخضر حسين بقصيدة من ستة عشر بيتًا، منها (¬1): مَسَاعي الوَرَى شَتَّى وكلٌّ لَهُ مَرمَى ... ومسعى ابنِ عاشور له الأمدُ الأسمى فتىً آنَسَ الآدابَ أوَّلَ نشئِهِ ... فكانتَ لهُ روحاً وَكَانَ لها جِسْما وما أدبُ الإنسانِ إلا عوائدٌ ... تَخُطُّ لهُ في لَوْحِ إحسَاسِه رَسْما وَذِي خُطة التَّدريس توْطئَةٌ لأنْ ... نرَاهُ وِقَسْطاسُ الحقوقِ بِهِ يُحْمَى رَجاءٌ كَرَأْي العينِ عندَ أُولي الحِجا ... يوافيْه كالمَعْطوفِ بالفاءِ لاثُمَّا بَلَونْا حُلى الألفاظِ في سلْكِ نُطْقِهِ ... فَلَمْ يُلْفِ صَافِي الذَّوْقِ في عِقدِهَا جَشمْا وفي سنة (1330 هـ)؛ مرَّت بالشيخ محمد الخضر حسين الباخرة التي كان يركبها في أثناء رجوعه من الآستانة إلى تونس بالقرب من شاطئ المرسى؛ حيث كان يقيم صديقه الشيخ محمد الطاهر (¬2)؛ فقال: قَلبي يُحَيِّيك إذْ مَرَّتْ سَفِينتُنَا ... تُجَاهَ وَاديكَ والأموَاجُ تَلْتَطِمُ تَحِيةً أَبرقَ الشّوقُ الشَّديْدُ بِهَا ... في سِلْكِ وِدٍّ بأقْصَى الرُّوحِ يَنْتَظِمُ وبعد هجرة الشيخ محمد الخضر حسين إلى دمشق من تونس سنة (1331 هـ) بعث صديقه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وهو قاضي القضاة بتونس رسالةً مصدّرة بالأبيات التالية (¬3): ¬

_ (¬1) "خواطر الحياة" (ص 226)، وهو ديوان شعر للشيخ محمد الخضر حسين. (¬2) "خواطر الحياة" (ص 231). (¬3) "خواطر الحياة" (ص 93).

بَعُدْتَ ونفسي في لقاكَ تصيدُ ... فلمْ يُغنِ عَنهْا في الحنانِ قصيدُ وخَلَّفْتَ ما بين الجوانحِ غُصَّة ... لها بَينَ أحشاءِ الضُّلوعِ وَقودُ وأضحَتْ أماني القُربِ منك ضئيلةً ... ومُرُّ الليالي ضعفُها سيزيدُ أتذكرُ إذا ودّعتنا صبحَ ليلةٍ ... يموجُ بها أنسٌ لنا وبرودُ وهل كانَ ذا رمزاً لتوديع أُنسِنا ... وهل بعد هذا البينِ سوفَ يعودُ ألم ترَ هذا الدهرَ كيفَ تلاعبَتْ ... أصاِبعُه بالدرِّ وهو نَضيدُ إذا ذكروا للودّ شخصاً محافظاً ... تجلّى لنا مرآكَ وهو بعيدُ إذا قيلَ: مَن للعلمِ والفكرِ والتُّقى ... ذكرتُكَ إيقاناً بأنْكَ فريدُ فقل لليالي: جَدِّدي من نظامِنا ... فحسبُكِ ما قد كانَ فهو شديدُ وكتب ابن عاشور تحتها: وهذه كلماتٌ جاشت بها النفس الآن عند إرادة الكتابة إليكم، فأبثّها على علّاتها، وهي إنْ لم يكن لها رونق البلاغة والفصاحة؛ فإنَّ الودّ والإخاء والوجدان النفسي يترقرقُ في أعماقها. فأجابه محمد الخضر حسين بقصيدة؛ من ثلاثة عشر بيتاً (¬1)؛ أذكر منها: أَيَنْعَمُ لي بالٌ وأنتَ بعيدُ ... وأسلو بطَيفٍ والمنامُ شريدُ إذا أَجَّجَتْ ذِكراكَ شوقي أُخْضِلَتْ ... لَعَمْري -بدمع المُقلَتينِ- خُدودُ بعُدْتُ وآمادُ الحياةِ كثيرةٌ ... وللأمدِ الأسمَى عَليَّ عُهودُ بعُدْتُ بجُثماني وروحي رهينةٌ ... لديكَ وللودِّ الصَّميمِ قُيودُ ¬

_ (¬1) انظر: "خواطر الحياة" (ص 93 - 95).

عرفتُكَ إذ زُرْتُ الوزير (¬1) وقَدْ حَنا ... عَلَيِّ بإقبالٍ وأنتَ شَهيدُ فكانَ غروبُ الشَّمسِ فجر صداقةٍ ... لها بينَ أحناءِ الضُّلوعِ خُلودُ ألَمْ تَرْمِ في الإصلاحِ عن قَوس ناقدٍ ... درى كيف يُرعى طارِفٌ وتَليدُ وقُمتَ على الآداب تحمي قديمها ... مخافةَ أن يَطغى عليه جديدُ أتذكُرُ إذ كُنَّا نبُاكر معهداً ... حُميَّاهُ عِلْمٌ والسُّقاةُ أُسودُ أتذكُرُ إذْ كُنَّا قَريْنَينِ عِنْدَما ... يَحِينُ صُدورٌ أو يَحِينُ وُرودُ فأين ليالينَا وأسمارُها التي ... تُبَلُّ بها عِندَ الظّماءُ كُبُودُ ليالٍ قضيناها بتونسُ ليْتَها ... تعودُ وجيشُ الغاصبينَ طَريدُ وعندما بلغه تولّي صديقه ابن عاشور القضاء بتونس سنة (1332 هـ) هَنّأه بقصيدةٍ من ثلاثةَ عشرَ بيتاً، وكان يومَها بدمشق، أذكر منها (¬2): بسطَ الهناءُ على القلوب جناحا ... فأعادَ مُسوَدَّ الحياةِ صَباحا إيهٍ مُحَيّا الدهرِ إنَّكَ مؤِنسٌ ... ما افترَّ ثغرُكَ بِاسماً وضَّاحا وتَعُدُّ ما أوحشتنا في غابرٍ ... خالاً بوَجْنَتِكَ المُضيئة لاحا لولا سوادُ الليلِ ما ابتهج الفتى ... إنْ آنَسَ المصباحَ والإصباحا ياطاهرَ الهِمَمِ احتمَتْ بكَ خُطَّةٌ ... تبغي هُدًى ومروءة وسماحا سحبتْ رداءَ الفخرِ واثقةً بما ... لكَ من فؤادٍ يعشقُ الإصلاحا ¬

_ (¬1) الوزير: هو محمد العزيز بوعتّور، وقد من ذكره، وفي البيت اشارة إلى أول لقاء بين الخضر حسين وابن عاشور. (¬2) "خواطر الحياة" (ص 65 - 66).

ستشدُّ بالحزمِ الحكيمِ إزارَها ... والحزمُ أنفسُ ما يكونُ وِشاحا أنسى ولا أنسى إخاءكَ إذْرمَى ... صرفُ الليالي بالنَّوى أشباحا أسلُو ولا أسلُو عُلاكَ ولو أتتْ ... لبنانُ تُهدي نَرجِساً فيّاحا أوَلَمْ نكُن كالفَرْقَدَيْنِ تَقارَنا ... والصَّفْوُ يملأُ بيننا أقداحا ويلحظ القارئ لهذه الأبيات عظمَ المحبّة والمودّة التي نشأت بين هذين العَلَمَيْن التونسيين، بدءاً من عهد الطلَّب، وانتهاءً بافتراق الرجلين كل منهما في قطر، وهي تشير إلى الاحترام وتقدير العلم عنده، ونزعة الإصلاح التي يميل إليها الشيخ الطاهر، ويشاركه فيها محمد الخضر حسين، وقد بلغ من مقدار حبّه له: أنْ مسألة بعض الأدباء: كيف كانت صلتكم بالشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تونس؟ فأجابه بهذه الأبيات (¬1): أَحْبَبْتُهُ مِلْءَ الفؤَادِ وَإنَّما ... أحْبَبْتُ مَنْ ملأَ الوِدادُ فؤادَهُ فظفرتُ مِنْهُ بصاحِبٍ إنْ يَدْرِ ... مَا أشْكُوهُ جافَى ما شَكَوْتُ رُقادَهُ ودَرَيَتُ منه كما دَرَى منّي فَتًى ... عَرَفَ الوفاءُ نِجَادَهُ وَوِهَادَهُ ويقول فيه (¬2): ولما كان بيني وبينه من الصداقة النادرة المثال، كنّا نحضر دروس بعض الأساتذة جنباً لجنب؛ مثل: دروس الأستاذ الشيخ سالم بو حاجب لـ "شرح القسطلاني على البخاري"، ودرس الأستاذ الشيخ عمر بن الشيخ لـ "تفسير البيضاوي"، ودرس الأستاذ محمد النجار لكتاب "المواقف"، وكنت أرى شدّة حرصه على العلم، ودقّة نظره؛ متجلّيتين في لحظاته وبحوثه. ¬

_ (¬1) "خواطر الحياة" (ص 90). (¬2) "تونس وجامع الزيتونة" (ص 125 - 126).

ويقول فيه: انعقدت بيني وبينه سنة (1317 هـ) صداقة بلغت في صفائها ومتانتها الغايةَ التي ليس بعدها غاية، وصداقةٌ بهذه المنزلة تقتضي أن نلتقي كثيراً، وأن يكون كلٌّ منّا يعرف من سريرة صاحبه ما يعرفه من سريرته، فكنتُ أرى لساناً لهجتُه الصدق، وسريرة نقية من كل خاطر سيّئ، وهفة طفاحة إلى المعالي، وجدّاً في العمل لا يمسّه كل، ومحافظة على واجبات الدين وآدابه، وبالإجمال: ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه وسماحة آدابه بأقلّ من إعجابي بعبقريته في العلم.

تدهور الفكر العربي

تدهور الفكر العربي * لم يكن كتاب "الشعر الجاهلي" يحتاج إلى قرع كل هذه الطبول. * أخالف د. مؤنس في أهمية كتابي: "الإسلام وأصول الحكم"، و "الشعر الجاهلي" (¬1). * الحقيقة ولو مرة ... الفكر المصري لم يولد بعد: قضية طرحتها مجلة "الهلال" تحت عنوان: (تدهور الفكر العربي). وقد طرحها الدكتور حسين مؤنس في عدد شهر يوليو 1977 م، وقد شارك في هذه القضية عدد من الكتاب، وأدلوا بآرائهم وتعليقاتهم، ومنهم: الأستاذ فتحي رضوان في بحث قيم (الحقيقة ولو كانت مرة - الفكر المصري لم يولد بعد) في مجلة "الهلال" العدد الصادر في سبتمبر 1977 م. وقد تعرض الأستاذ فتحي رضوان بكثير من الجرأة لهذا الموضوع، ومما قاله: "فإنني أرى الفكر العربي لم يولد بعد". إن الأسماء التي ذكرها الدكتور حسين مؤنس، والتي نشر صور بعض أصحابها، هي أسماء مترجمين، وملخصين، وقصاصين، ورواة، ومفتشين، وأصحاب خواطر أدبية حيناً، وفلسفية حيناً، وجامعي شذرات تاريخية آناً، ومحللي شخصيات آناً ثانياً، ¬

_ (¬1) مجلة "الهلال" المصرية، عدد سبتمبر 1977 م، الأستاذ فتحي رضوان.

ولكنهم جميعاً لا يندرجون تحت قسم: (المفكرين). ويهمنا من هذا الحديث ما يتعلق بالإمام محمد الخضر حسين. يقول الأستاذ فتحي رضوان: (ولقد درجنا أن نعدّ عدداً من الكتب كأنها معالم طريق التجديد، وفي مقدمتها كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم"، وكتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي". والحق أنني أستأذن في أن أخالف الدكتور حسين مؤنس في إضفاء الخطر والأهمية على هذين الكتابين، لا لأني أخالف صاحبي الكتابين الشهيرين فيما أورداه في كتابيهما، فهو -في نهاية الأمر- ليس بالشيء الجسيم، وهو لا يدل على نزعة تجديد، ولا شجاعة رأي، لا أن يكون كل منهما بداية سلسلة من المقالات والدراسات والبحوث، تهدف إلى إعادة النظر في كثير من المسلمات في مجالات الدين والأدب. على أن مواطن الخسارة كان في مجافاة كل المؤلفين للمنهج العلمي، الذي افترض الناس أن الكتابين في حقيقة الأمر دعوة عملية إلى تطبيقه، فإن خلاصة كتاب "الإسلام وأصول الحكم": أن الخلافة ليست ركناً من أركان الإسلام، فالإسلام -كدين وعقيدة-، يمكن أن يقوم، وأن يؤدي المسلمون الفرائض التي فرضها الله عليهم؛ من صلاة وصيام وزكاة وحج، دون أن يتعلق شيء من ذلك بقيام الخلافة، واختيار خليفة، وأن الخلافة ليست إلا صورة من صور الحكم اهتدى إليها المسلمون الأوائل عقب وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن المسلمين أصبحوا يكوِّنون شعباً متحداً، يشغل شبه الجزيرة العربية. وما يجتمع قوم في موقع من الأرض إلا احتاجوا إلى حكومة تدبر أمرهم، أياً

كان دينهم، وأياً كانت عقيدتهم، والمسلمون ليسوا بدعاً بين الناس. وخلص من هذا إلى: أن رسالة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - كلها رسالة روحية، جاء ليدعو الناس إليها، وليبشر بأحكامها وأصولها، فإذا كان قد تولى شيئاً من شؤون الدنيا؛ كتولية الولاة، أو إرسال البعوث، أو توجيه السرايا، أو عقد المحالفات، أو فض الخصومات، أو الحكم في المنازعات، فذلك كله بقصد أداء الرسالة، لا لأنها من عمله أصلاً، ولا لأنها تدخل في جوهر دعوته، أو تكمل رسالته، ويمكن تصور حياته كلها خالصة للدعوة، ولتلقين أحكام الدين، وتثبيت المسلمين على محبته، وتفسير ما تمخض من آيات القرآن الكريم، وضرب الأمثلة؛ لتوضيح ما قصده رب العالمين. ومثل هذا القول، لا يعد ضرباً من التجديد في الإسلام، وكان المسلمون جديرين بأن يسمعوه في هدوء وأناة، وأن يردوا عليه في رفق ولطف؛ ذلك لأن الخلافة فقد معناها منذ قرون، وقد سقطت كثير من دول المسلمين وشعوبهم في أيدي دول الغرب، يستأثرون بالحكم والسلطة فيها دون أهلها. ولكن الذي هاج غضب المسلمين: أن كتاب "الإسلام وأصول الحكم" ظهر في وقت كان أمرهم جرحاً دامياً، فقد أسقط مصطفى كمال هذه الخلافة، بعد انتصار الأتراك بقيادته على اليونانيين الذين كان يؤيدهم ويحرضهم (لويد جورج) رئيس وزراء بريطانيا، وكانت هذه الانتصارات قد أرضت كبرياء المسلمين، وعوضتهم عما لحق بهم بعد هزيمة تركيا وألمانيا في حرب 1914 - 1918، وبعد انسلاخ دول العرب كلها من سلطان الخلفية العثماني، واقتسام الإنجليز والفرنسيين ... وقد تقدم العلماء بنقد متسم بالوقار والرصانة لكتاب "الإسلام وأصول

الحكم "، وفي مقدمة هذه الدراسات: كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم " للشيخ محمد الخضر حسين، وهو من علماء تونس، وكان قد لجأ إلى مصر يطارده حكم بالموت من محاكم فرنسا العسكرية بتونس، فجاء كتابه أثراً علمياً جليل القدر، فقد خلا من كلمة جارحة يوجهها للمؤلف الشيخ علي عبد الرازق، أو عبارة نابية، بل قنع بتوجيه الكلام إليه، إما بلفظ: "المؤلف"، أو: "صاحب الكتاب". وكان المأمول أن يرد الشيخ علي عبد الرازق على كتاب الشيخ الخضر حسين- رحمهما الله- بشيء يساويه عمقاً وشمولاً، ولكنه آثر الصمت، واختار العافية، ولا يستطيع أن يدعي أنه فعل ذلك إشفاقاً من شر خطير يناله؛ فقد وجه -وهو يودع العمامة والزيَّ الأزهري- إلى علماء الأزهر كلاماً عنيفاً، وهو يعلم أن هؤلاء الأزهريين قادرون على أن يؤلِّبوا عليه الرأي العام. ثم ماذا كان معه؟ اشتغل بالمحاماة الشرعية، واطمأن إليها، وكسب منها مالاً غير قليل -كما يقول بعض المتصلين به-, ثم شارك في السياسة، حتى اختير وزيرًا، وظفر بلقب الباشاوية، وهذا كله يدل دلالة قاطعة على أنه كان في وسعه أن يواصل نشر فكرته، وبث دعوته، وأن يخلق من كتابه حركة فكرية. فإذا أضفينا إلى كتاب "الإسلام وأصول الحكم" نعتاً من النعوت التي تجعله معلَماً من معالم الفكر المصري أو العربي، فنحن نصف الأشياء بأكثر مما تستحق، وإذا أردنا أن نضع اسم صاحب الكتاب في قائمة المجددين، وأبطال التحرير العقلي في بلادنا، فالتاريخ والحقيقة يأبيان ذلك ويرفضانه. وقد حدث مثلُ ذلك تماماً مع الدكتور طه حسين في كتابه "في الشعر

الجاهلي"؛ فقد أصدر الدكتور طه هذا الكتاب. ولسنا نريد هنا أن نتعقب هنا آراء الدكتور طه حسين، إنما نريد أن نقول: إن الذين طمعوا في أن يأتي من وراء هذا الكتاب -أياً كان نصيب صاحبه من الأمانة، وأياً كان نصيب الأفكار فيه من السلامة- حركةُ تجديد فيها أساليب النقد، ويعاد بفضلها النظر في مناهج البحث. ولقد فتحت أبواب هذه الفرصة المجيدة واسعة أمام الدكتور طه حسين، فقد نهض للرد عليه علماء أفاضل، أحسنوا قراءة كتابه، واجتهدوا في الرد عليه بالحجة والبرهان، والنص والدليل، فترك لهم الميدان، ولاذ بالصمت كصاحبه وزميله الشيخ علي عبد الرازق. كتب في الرد على كتاب "في الشعر الجاهلي" الأساتذة: محمد فريد وجدي، والشيخ محمد الخضر حسين، ومحمد لطفي جمعة، والدكتور كامل الغمراوي، كتباً هي حقاً من مفاخر الفن الأدبي العلمي، فلم تكن مهارة تتقزز لها النفس، ولا تطاولاً يضيق به الذوق، ولا تعالماً تنحط به معايير الحياة الأدبية.

حكم عليه بالإعدام في تونس ... فأصبح شيخا للأزهر

حكم عليه بالإعدام في تونس ... فأصبح شيخاً للأزهر (¬1) تولى الإمام محمد الخضر حسين مشيخة الأزهر في الفترة من (1952 وحتى 1954 م)، وهو أول شيخ للأزهر من أصل تونسي؛ فقد درس في جامع الزيتونة، وحصل الشهادة العالية، وعمل قاضياً لـ "بنزرت" لفترة ... إلا أن مناهضته للاحتلال، وتنديده بالوجود الأجنبي في الدول العربية، جعلاه يفر إلى تركيا ... ثم الشام، كان مسك الختام الاستقرار في مصر، وحصوله على الجنسية المصرية، والدراسة في الأزهر ليحصل على "الشهادة العالمية" ... كتب الشيخ الخضر حسين الشعر، وألف الكتب، وأصبح عضواً في (مجمع اللغة العربية). ثم شيخاً للأزهر مع بداية ثورة يوليو 1952 م؛ ليكون أول شيخ له من أصل تونسي. ولد الشيخ محمد الخضر حسين عام (1293 هـ، 1877 م) في قرية "نفطة" في تونس من أسرة كريمة ترجع أصولها إلى الجزائر ... وينتمون إلى أسرة الأدارسة التي أسست الدولة المعروفة باسمها. نشأ وتربى في تلك القرية، وحفظ القرآن صغيراً، وحين اشتد عوده، انتقل إلى مدينة "تونس" ¬

_ (¬1) مجلة "نصف الدنيا"، العدد 667 الصادر في 24 نوفمبر 2002 م -بقلم جيهان لطفي- القاهرة.

حيث التحق بجامع الزيتونة سنة 1899 م، والذي يشبه جامع الأزهر في عظمته وشموخه كقبلة لعلوم الدين، ونال فيه شهادة العالمية عام 1317 هجرية، وعندما تخرج، تولى قضاء "بنزرت" ومنطقتها، وكان يخطب في جامعها، وشارك في تأسيس (الجمعية الزيتونية)، ثم عين مدرساً بمعهد الزيتونة. كان يهوى الشعر ... فكان شاعراً مجيداً، نظم قصائد رائعة، وندد فيها بالاستعمار الفرنسي لتونس، وقد اشتهر بعدائه للسياسة الفرنسية، التي كان يهاجمها في مجلة "السعادة العظمى"، وكان يبث روح المقاومة في تلاميذه، ويريد بذلك أن يغرس فيهم الروح الوطنية، والحرية الإنسانية التي يدعو إليها الإسلام، فحقد عليه الاستعمار، ودُبرت له مكيدةٌ سياسية قُدِّم من أجلها للمحاكمة، وحُكم عليه غيابياً بالإعدام ... فهاجر إلى بلاد الشام، ومعه عائلته، وفيها تولى تدريس العلوم العربية والدينية في المدرسة (السلطانية)، وقد أوفده أنور باشا وزير الحربية التركية إلى ألمانيا في مهمة سياسية، فقضى فيها 9 أشهر حتى عاد بعدها للشام، وفي تركيا أسند إليه تحرير القسم العربي بوزارة الحربية، وكانت له أنشطة فكرية وأدبية واسعة هناك، وعندما احتل الحلفاء الآستانة، عاد إلى ألمانيا مرة أخرى، وبعد ذلك رحل إلى مصر عام 1922 م ليشتغل بالكتابة والتحرير، وإلقاء الدروس حتى عام 1931 م. وكان الشيخ محمد الخضر حسين قد التحق بالجامع الأزهر، وحصل على شهادة العالمية، ثم حصل على الجنسية المصرية. وألف رسالته القيمة "الخيال في الشعر العربي"، وأسس (جمعية تعاون جاليات إفريقية الشمالية)، وكان دائب الحركة، يحاضر، ويسطر المقالات، ويكتب البحوث، وعندما ظهر كتاب "أصول الحكم" للشيخ (علي عبد الرازق)،

تصدى له الشيخ الخضر، ونقده نقداً شديداً، وفند آراءه، ثم تصدى لكتاب (طه حسين) في "الشعر الجاهلي" عام 1345 هجرية، وقسا عليه، وأرجع آراءه إلى أساتذته المستشرقين، ثم تولى رئاسة تحرير مجلة "الأزهر" عام 1349 هجرية، وعين أستاذاً لكلية أصول الدين، فأفاد طلابه، وجمع مجموعة "رسائل الإصلاح"، واشترك في كثير من لجان المجمع اللغوي، ونال عضوية جماعة العلماء برسالته "القياس في اللغة العربية"، وقد اشتغل بالتدريس في الجامع الأزهر. وفي عام 1952 م تولى مشيخة الأزهر ... وبدأت حكاية توليه المشيخة في سبتمبر عام 1952 م بزيارة السيد فتحي رضوان، والشيخ أحمد حسن الباقوري، وعبد العزيز علي من مجلس قيادة الثورة في أثناء انعقاده، وذهبوا إلى الشيخ محمد الخضر حسين عضو جماعة كبار العلماء، ورئيس تحرير مجلة "الأزهر"، وعرضوا عليه باسم مجلس الوزراء، واللواء محمد نجيب مشيخةَ الأزهر، وعلق وقتها للصحف فور توليه المنصب: أنها مفاجأة سارة، وأرجو المعونة من الله، وأن يحقق أملنا في الأزهر، وعندما سئل عن رأيه في كبار علماء الأزهر الذين يشغلون مناصب هامة، فقال: ليس في رأي معين في واحد من حضراتهم، وكلهم موضع إجلالي واحترامي وتقديري، وكان عمرُ الشيخ الخضر حسين حين تولى مشيخة الأزهر 78 عاماً. * آراؤه في مسائل مختلفة: كان يرى أن طلاب البعوث هم المرايا التي تصورنا عند أممهم وشعوبهم -بما فينا من مزايا وخصائص ومناقب- أصدقَ تصوير، وإذا كان ذلك، فلا بد من العناية بوضع نظام خاص بإعدادهم لتقديم رسالتهم على خير وسلام،

ويجب أن تكون العلاقة بين طالب الأزهر وأستاذه علاقة روحية، قوامها الحب والمودة، والإخاء والخير. "أميل بطبعي إلى الخير والسلام، ولم بن في حياتي متحزباً ولا متعصباً، بل كنت دائماً أكره التعصب والتحزب، وأؤثر أن آخذ الأمور باللين والهوادة، وشيخ الأزهر يمثل الأزهر، ويقوم على تحقيق معاني الخير والتواد والتحاب بين الناس، والأزهريون -بحكم وضعهم ووصفهم- هم الذين يبصرون الناس بحقائق دنياهم، لذا كان طبيعياً أن يكونوا متحابين في الله". وعندما أثير أن هناك اتجاهاً لتوحيد الزي في مصر، والاستعاضة عن الطربوش بالبيريه، أو القبعة، عدا رجال هيئة العلماء، والعلماء المشتغلين بالتدريس، علق بقوله: "إنني علمت أن هناك اقتراحاً أن يكون الزي الموحد هو الزي الأوربي، لأنه أصبح عالمياً، ولأنه من الناحية العلمية أكثر ملاءمة لهيئات العمال والفلاحين، وهذا الزي يتألف من قميص وبنطلون بأثمان مناسبة، وأوضح: بأن القبعة والبيريه ليست زياً عالمياً، وأن فئات كثيرة من الملايين في آفاق لا حد لها من قارات الأرض لم تتخذ هذا الزي، وليس من الحتم على أية أمة أن تجاري الشكليات -حتى لو كانت عالمية- قبل أن تقنع بأنه أصلح لها، والأصلح لجو كل أمة هو ما دلتها عليه تجارب ألوف السنين، ومصر -على وجه الخصوص- عضو ممتاز في العالم الإسلامي الذي يزيد تعداده على 500 مليون لن يرضى بأن يُفني شخصيته في غيره، ويندمج في الزي الأجنبي المزعوم عنه أنه عالمي. لاسيما وأن في سنن الإسلام الجوهرية، التي لا يمكن أن يتساهل فيها المسلمون إلا بانحرافهم عن دينهم: أن يكونوا متميزين عن غيرهم، وأئمةُ

المسلمين يعدون من الخروج على الإسلام الانحراف عن زيه إلى زي غير المسلمين فيما اختصوا به من علامات". وقد اتفق معه الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت، وقال: "إن قول الإمام الأكبر ... قول فصل". وفي التعامل مع غير المسلمين كان يرى: أن الإسلام ينظر إلى رسالات الله كلها على أنها دين واحد تتفق في أصولها وروحها وغاياتها، وإن اختلفت في صورها ومظاهرها وتطورها. تحدث عن الشيوعية والرأسمالية بقوله: إن من مظاهر الكمال في دين الإسلام وأحكامه: أنه لم يعارض الفطرةَ الإنسانية في أي من طبائعها، ومنها: مبدأ الملكية الشخصية، فاعترف به، وأكده، ولكنه جنح فيه إلى الاعتدال، وشرط أن يكون ذلك بالأسباب المشروعة التي أحلها الله، ثم رتب عليه تكاليف شرعية هي نصيب الجماعة من أموال أصحاب الأموال، وحث أهل الغنى على الأخذ بيد أهل الفاقة، ومبدأ آخر هو: تفاوت الناس في مواهبهم ومداركهم، وقدرتهم على الكسب، والحث على قيمة العمل، ومن أعظم ما اتخذه الإسلام لحماية الفقراء من استغلال الرأسمالية وأصحاب الأموال: تحريمه للربا وقطع دابر المراباة في المجتمع الإسلامي. أما الشيوعية، والتي تزعم أنها نزعت الثروة من يد أفراد، ووضعتها في يد مجموعة قليلة العدد، صادارةِ واحدة ... يعيشون الآن في ترف وغطرسة، والجماعة كلها تعاني من مَلَل ورَتابة، مسلوبي الإرادة. وكتب قصيدة مطولة عند توقيع المعاهدة (الليبية - الإيطالية) ... رافضاً الاستعمار الذي يفرض شروطه على الدول.

ويحكي عنه السيد كمال الشوري سكرتير عام (جمعية الهداية الإسلامية) بلاظوغلي عام 49، وكان الشيخ الخضر حسين رئيساً لها، ومدير مكتبه ... إنه -رحمة الله عليه- من أعلام الفكر الديني الأفذاذ، الذين أضاؤوا سجل الخالدين، وأضافوا إلى صفحاته المشرقة أمجاداً مزدانة بالعلم والفضل والكفاح، وكان مثالاً حياً للخلق الحسن؛ حيث لم يكن ينطق بسباب أو شتائم، حتى في أشد حالات الغضب، فقليلاً ما كان يغضب، إلا لما يغضب الله ورسوله، وكان عف اللسان، لا يخوض في سيرة إنسان، وإذا سمع أحداً يغتاب غيره ... غضب، وابتعد عنه، وترك له المكان ... كان إذا تكلم، خفض من صوته، وإذا مشى، سار الهوينى، حتى لا تكاد تسمع له وقع أقدام، وإذا خاطبه إنسان -مهما كان صغيراً-، أنصت إلى كلامه، ولا يتكلم أبداً حتى يفرغ المتحدث من كلامه، كان كريماً، فلا يُبقي من راتبه- ثم معاشه بعد ذلك- شيئاً، بل يوزع الفائض عن حاجته على الفقراء، وكان يقول: لا أحب أن يفاجئني الموت ومعي شيء من متاع الدنيا. وعندما توفيت زوجته الأولى، ولم يكن قد أنجب منها، تزوج بغيرها في خلال أيام من وفاتها، وقال: لا أريد أن أترك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان وقت زواجه بالثانية قد جاوز الـ 70، ولم يعش مع زوجته الثانية طويلاً؛ فقد توفي ولم ينجب منها. ويضيف السيد كمال الشورى في حديثه عن شخصية الإمام الخضر حسين اعتزازه بالكرامة: وكان -رحمه الله- يجمع بين خصلتين حميدتين: التواضع المحبوب، والاعتزاز بالكرامة، أما تواضعه، فكان حديث أهل العلم والفضل.

الاجتهاد والفكر المستنير بالبلاد التونسية في القرن العشرين نماذج من المجتهدين التونسيين في القرن العشرين

الاجتهاد والفكر المستنير بالبلاد التونسية في القرن العشرين نماذج من المجتهدين التونسيين في القرن العشرين الشيخ محمد الخضر حسين (¬1) ولد سنة (1293 هـ الموافق 1876 م)، وتوفي سنة (1377 هـ الموافق 1958 م). وهذا الشيخ المصلح ذو الفكر الاجتهادي التنويري هو: محمد الخضر ابن الحسين بن علي بن عمر الحسني التونسي، عالم، أديب، وباحث، يقول الشعر، من أعضاء المجمعين العربيين بدمشق والقاهرة، وممن تولوا مشيخة الأزهر، أنشأ (جمعية الهداية الإسلامية) إثر انتقاله من سورية إلى القاهرة (مصر)، وتولى رئاستها وتحرير مجلتها، إنه من كبار المصلحين التونسيين، والمجتهدين الذين دعوا إلى التجديد وإعمال العقل. وكأدلة على اجتهاده التنويري: ما ورد في كتابه "الدعوة إلى الاصلاح"، حيث قال عند حديثه عن الإسلام والعلم ما يلي: ... والواقع أن الإسلام قد رفع قدر العلم، ونوه بشأن العقل، وسلك بطلاب العلم مسالك النظر والاجتهاد، وعودهم على نقد الآراء، وتمييز زائف ¬

_ (¬1) جريدة "الصباح" العدد الصادر في 28 جويلية 2006 م تونس. من بحث للأستاذ الدكتور محمد بوزغيبة.

الأخبار من صحيحها، فلما نقلت العلوم النظرية إلى اللغة العربية، وجدت منهم نفوسًا تلذ العلم، وعقولاً تنشط للمناظرة، وألسنة تعرف كيف تقرر الحجة، ففتحوا لها صدورهم، ووضعوها تحت سلطان أنظارهم، ولم يمنعهم إعجابهم بها، وتنافُسهم على التضلُّع من مواردها، أن يطلقوا الأعنة في مناقشاتها، وتقويم المعوَجّ من مذاهبها، فسدوا ثغوراً يأتي من قِبَلها الباطل، وذللوا لطلاب العلم الطريقال في تفيؤوا فيه ظلال الرشد، وتُدني فيه الفلسفةُ المعقولة قُطوفَها، فقامت للعلوم -على اختلاف موضوعاتها- سوق نافقة، وأصبحت ترى علوم الشريعة، وعلوم الفلسفة المعقولة يلتقيان في النفوس المطمئنة بالإيمان، وتسنَّى للتاريخ أن يحدثك عن كثير من علماء الإسلام، ويصفهم بأنهم جمعوا بين العلوم الشرعية، والعلوم الفلسفية؛ كالغزالي، وابن رشد أبي عبيدةَ مسلمِ بن أحمد الأندلسي، وهو أول من اشتهر في الأندلس بعلم الفلسفة، وكان -مع هذا- صاحبَ فقه وحديث. فمن خلال كلامه في كتابه "الدعوة إلى الإصلاح" نلحظ ميله إلى إعمال العقل عند دراسة المسائل، واستحسانه للنقد البناء، ومناقشة الآراء، كما نفهم دعوته إلى تنشئة الجيل الصاعد من التلاميذ والطلبة على الاجتهاد التنويري، واستخدام العقل؛ للوصول إلى نتائج إيجابية؛ قصدَ النهوض بأوطاننا، وتتبين -أيضاً- من كلامه حثه الشباب على الاقتداء بالمفكرين العرب المسلمين الذين لم يهملوا العقل في أعمالهم واجتهادهم، وقد ذكر من بين هؤلاء: - الغزالي أبو حامد محمد بن محمد. - وابن رشد الحفيد صاحب "تهافت الفلاسفة"، و"فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال".

رجل عظيم ويزيده عظما وقدرا أنه يعرف قدر العظيم

رجل عظيم ويزيده عظماً وقدراً أنه يعرف قدر العظيم (¬1) ما كنت أحسب - وأنا أنعي إليه (¬2) شيخَنا وإمامنا الراحل (¬3)، وقد أسلم الروح إلى بارئها - إلا أنه يجاملني بكلمة عزاء تمر كما يمر غيرها من الكَلِم، ولكن ما كان أعظمَ دهشتي حينما فزع واسترجع، ثم أخذ يلقي عليَّ درساً في تقدير العظماء الراحلين، درساً خليقاً بأن يسجل ويروى في تاريخ الخالدين. كانت بين الشيخين خصومة في بعض مسائل العلم (¬4)، ولكنها كانت خصومة نبيلة كريمة، من قبيل (الخصومة بين الأكابر)، تلك التي سجلنا نماذج من طرازها الأول في المجلد الخامس والعشرين. وكان من أدب فقيدنا الراحل -تغمده الله برحمته-: أن يسجل مسائل ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر"- الجزء الأول من المجلد التاسع والعشرين، يصور لنا العالم الأزهري الفاضل طه الساكت مشهداً من أخلاق الإمامين: محمد الخضر حسين، ومحمود شلتوت -رحم الله الجميع-. (¬2) أي؛ الإمام محمود شلتوت. (¬3) أي: الإمام محمد الخضر حسين. (¬4) رد الإمام محمد الخضر حسين على مقالة الإمام محمود شلتوت (الهجرة وشخصية الرسول).

الخلاف بينه وبين خصمه في مقال أو رسالة، ثم يأتي عليها بالحجة الساطعة، والبيان الناصع، في أمانة من النقل، وعفة من القول، هما المثال الأعلى لمن يبتغي الإنصاف والحق من أعدل طريق وأمثلِه. ويقرأ خصمه الرد عليهم في مقالاته وكتبه، وكلهم أو جُلُّهم من عِلْية القوم، وأكابر الكتّاب، فيعجبون للأدب الرشيد، والقول السديد، والحجة البالغة، والعلم المصفى، والحكم البصير النافذ، الذي يتقدمه الإخلاص والإيمان، ويصحبه العدل والإحسان، فيخشع له كل عالم وأديب، ويهابه كل دفع أو تعقيب. لكن النبلاء من خصمه، يفيدون من ذلك النبع الفياض، والأدب العالي الرفيع، ثم ينوِّهون به في حياته، ويدعون إلى التخلق به بعد وفاته، وكذلك فعل "الرجل العظيم". كانا عضوين بالمجمع اللغوي، إلا أن "إمامنا" (¬1) كان أسبق؛ إذ كان ركنًا من أركان المجمع منذ أنشئ، وكانا عضوين في جماعة كبار العلماء، إلا أن "عظيمنا" (¬2) كان أسبق منذ بضع سنين. فلما تقدم إمامنا إلى عضوية الجماعة، ظن من لا يعرفون"الرجل" (¬3): أن الفرصة قد هيئت للوقوف في طريق خصمه، لكنها كانت مفاجأة كريمة حاسمة أن زكّاه الخصم النبيل وهو يقول: "إنَّ من لا يزكي السيد الخضر في عضوية الجماعة، فإنما يلغي عقله، أو يسقط نفسه"، أو قال كلمة نحوها. ¬

_ (¬1) الإمام محمد الخضر حسين. (¬2) الإمام محمود شلتوت. (¬3) الإمام محمود شلتوت.

فلما قضى الله قضاءه، واستأثر شيخنا برحمته، هزّني الرجل بكلماته هزّاً، وهو يدعو إلى التأسي به، حتى كأن المسرة كانت ترتجف من هوله ما أصابه، أو من عظمة ما يقول. أما بعد: فإن أهمك أن تعرف "الرجل"، فحسبك أنه يشغل مركزاً اجتماعياً خطيراً، ما خلا منصباً أزهرياً كبيراً، فإن لم تعرفه بعد ذلك، فحسبك درس عظيم، من رجل عظيم، في إمام كريم، عاش في الله، وجاهد في الله، ثم مات في الله، ورحل -بإذن الله- إلى الرفيق الأعلى {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ} [النساء: 69]. العالم الأزهري طه محمد الساكت

القياس في اللغة العربية للأستاذ محمد الخضر حسين عضو مجمع اللغة العربية الملكي

القياس في اللغة العربية للأستاذ محمد الخضر حسين عضو مجمع اللغة العربية الملكي (¬1) القياس فن واسع الأطراف، متشعب المسالك، يمتُّ إلى كل باب من أبواب اللغة بصِلة، ويكاد يجري ذكره عند كل مسألة، ولولاه، لضاقت الفصحى على أبنائها، وقعدت بهم عن مسايرة ركب الحياة. لم يؤلَّف فيه -على ما أعلم- غيرُ هذا الكتاب. وسبب تأليفه: أن مؤلفه البحاثة الأستاذ محمد الخضر حسين كان يمر في أثناء دراسته لعلوم العربية على أحكام تختلف فيها آراء العلماء، فيقصرها بعضهم على السماع، ويراها آخرون من مواطن القياس. وقد يحكي بعضُهم المذهبين، دون أن يذكر الأصول التي قام عليها ذلك الاختلاف، فرأى فضيلته: أن التمسك بمثل هذه الأقوال من المتابعة التي لا ترتاح إليها نفس العالم الحر -ولا سيما أن الكتب التي اعتمد عليها أصحاب هذه الأقوال قد أصبحت في متناول أيدينا-، فأخذ يوجه نظره الثاقب إلى الأصول العالية التي يراعونها في أحكام القياس والسماع، حتى ظفر بقواعد صريحة أضاف إليها غيرها مما استنبطه، أو ابتدعه، فكان من ذلك "كتاب القياس". ¬

_ (¬1) مجلة "الرسالة" العدد 149 - 20 صفر 1455 هـ , القاهرة - للأستاذ سيد أحمد صقر.

شرح الأستاذ في هذا الكتاب حقيقة القياس، وفصَّل شروطه، وجمع أصوله، وضم أشتاتها، وأبرزها في ثوب قشيب، سهلةَ القطاف للراغبين، وقدم له بمقدمة رائعة في فضل اللغة العربية، ونشأتها، ومسايرتها للعلوم المدنية، وحاجتها إلى المجتمع، وتأثيرها في الفكر، وتأثير الفكر فيها، إلى غير ذلك من الأبحاث الموجزة الشائقة. ثم تكلم عن القياس، ووجه الحاجة إليه، وذكر أقسامه، وخص منها بالبحث: القياس الأصلي، وقياس التمثيل، وتكلم عن الأمور المشتركة بينهما؛ كالقياس في الاتصال، والترتيب والحذف والفصل، إلى آخر تلك المباحث التي طبق فيها المؤلف مفاصل السداد، وأصحاب شواكل المراد، ودل بها على تبحره في علوم اللغة، وتمكنه من ناصيتها. بيد أني كنت أحب أن يطلق الأستاذ ليراعته العنان، ويبسط القول بعض البسط، ويكثر من المثل والشواهد؛ لتكون الفائدة بكتابه أعم وأعظم. وإن كان للأستاذ العذر فيما ذهب إليه من الإيجاز. السيد أحمد صقر

الشيخ محمد الخضر حسين

الشيخ محمد الخضر حسين (¬1) [1] في ظهر الاثنين (14 رجب 1377 هـ - 3 فبراير 1958 م) شيعنا جنازة شيخ من شيوخ الإسلام، وإمام من أئمة الدين، هو: المغفور له الشيخ محمد الخضر حسين -طيب الله ثراه-. تولى الشيخ الخضر مشيخة الأزهر الشريف في ظلال الثورة المصرية، وبعطف ثوار مصر الأحرار، وذلك يوم الأربعاء (27 من جمادى الأولى 1371 هـ -17 سبتمبر 1952 م)، وكان خلال توليه لهذا المنصب الإسلامي الجليل يضرب الأمثلة الرفيعة في العزة والسمو، والكرامة والغيرة على الأزهر ورجاله، وعلى الإسلام ومستقبل المسلمين، واستقال من المشيخة لظروفه الصحية في الثاني من (جمادى الأولى عام 1373 هـ - 8 يناير 1954 م). وتولى تحرير مجلة "نور الإسلام" منذ أصدرها الأزهر الشريف، كما كان رئيساً لتحرير مجلة "لواء الإسلام". وعين عضواً في (المجمع اللغوي) بالقاهرة منذ إنشائه، واختير عضواً في (جماعة كبار العلماء) بالأزهر الشريف عام 1951 م، وهو منشئ مجلة ¬

_ (¬1) من كتاب "من تاريخنا المعاصر" للأستاذ محمد عبد المنعم الخفاجي - الطبعة الأولى (1377 هـ - 1958 م).

"الهداية الإسلامية"، وجمعيتها، وقد تولى التدريس في كلية أصول الدين سنين عديدة قبل اختياره لمنصب المشيخة الرفيع. [2] ولد الشيخ الخضر بمدينة "نفطة" بالقطر التونسي في (27 رجب عام 1293 هـ)، وتلقى ثقافته الأولى، وحفظ القرآن الكريم في بلاده، وفي هذا الحين كان قد انتقل مع أسرته إلى العاصمة "تونس" عام 1306 هـ، ودخل الكلية الزيتونية عام 1307 هـ , وتلقى تعليمه الديني فيها على شيوخ أجلاء. وفي عام 1317 هـ رحل إلى طرابلس، ثم عاد إلى تونس، ووالى دراسته في الزيتونة إلى عام 1321 هـ، وأنشأ فيها مجلة "السعادة العظمى"، ثم ولي القضاء في مدينة "بنزرت" عام 1323 هـ، وعمل كذلك في الخطابة والوعظ والتدريس في جامعها الكبير، وسرعان ما استقال، ورجع إلى العاصمة، وتطوع للتدريس في الزيتونة، وأشرف على خزائن الكتب فيها. وفي عام 1323 هـ اشترك في تأسيس جمعية زيتونية، وعين مدرساً رسميًا بالمدرسة الصادقية، وفي المدرسة الخلدونية. وأخذ يكافح الاستعمار، واشترك في الكفاح في الحرب الطرابلسية التي نشبت بين الطليان والعثمانيين، ونشرت له قصيدته: رُدُّوا على مجدِنا الذِّكْرَ الذي ذَهَبا ... يكفي مضاجِعَنا نومٌ دَهَى حِقَبا ورحل إلى الجزائر، فزار مدنها، وألقى الدروس في مساجدها، ثم عاد إلى تونس يوالي تدريسه في الزيتونة. وفي عام 1330 هـ سافر إلى دمشق ماراً بمصر، ومنها سافر إلى القسطنطينية، وأقام فيها وقتاً قليلاً، ثم عاد إلى تونس في آخر هذه السنة،

ونشر رحلته المفيدة عن عاصمة الخلافة، وعين عضواً في اللجنة التي أُلفت لكتابة التاريخ التونسي وتحقيقه. ثم هاجر إلى مصر، وسافر إلى دمشق، فالمدينة المنورة، فالقسطنطينيهَ، ثم عاد إلى دمشق، وعمل مدرساً بالمدرسة السلطانية فيها، ونشبت الحرب، وثار الشيخ مع الأحرار ضد الاستبداد التركي، فاتهمه جمال باشا حاكم سورية بالتآمر، واعتقله أكثر من ستة شهور، وحوكم، فبرأته المحكمة، وأطلق سراحه في ربيع الثاني عام 1335 هـ، فعين محرراً بالقلم العربي بوزارة الحربية، ثم أرسلته الحكومة إلى ألمانيا؛ ليعظ الجنود المسلمين فيها، ورجع إلى الشام مدرساً بالمدرسة السلطانية، ولما احتلت فرنسا الشام عام 1336 هـ , هاجر إلى مصر، وأقام فيها مكرماً من شعبها وحكومتها، وشتى الهيئات العلمية والدينية والأدبية فيها. وألَّف عدة كتب مرموقة، منها: "الرد على آراء الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي". وظلَّ عاكفاً على المحاضرة في (جمعية الهداية)، والكتابة في المجلات التي تولى التحرير فيها، والتدريس في كلية أصول الدين بالأزهر الشريف، والبحث في المجمع اللغوي، حتى اختير عضواً في جماعة كبار العلماء، فشيخاً للأزهر الشريف. ولما ترك الأزهر، عاد إلى نشاطه العلمي والإسلامي مبجَّلاً مهيباً مرموقاً، حتى توفاه الله إلى رحمته ورضوانه، مذكوراً بالخير والتقدير والإكبار من جميع عارفي فضله، ومبجِّلي علمه، ومن تلامذته ومريديه والمستفيدين من تفكيره -رحمه الله، وأكرم مثواه-.

محمد الخضر حسين (1877 - 1958 م)

محمد الخضر حسين (¬1) (1877 - 1958 م) عَلَمٌ من أعلام الإسلام والعروبة، جمع بين التفقه في الدين واللغة والأدب. ولد المرحوم الشيخ الأكبر محمد الخضر حسين في سنة 1877 م في بلد من أعمال تونس، وحفظ القرآن الكريم، وشدا شيئاً من الأدب في بلدته على أيدي علمائها، فتذوق طعم الأدب منذ نشأته، بل حاول نظم الشعر وهو في الثانية عشرة، وبعدها التحق بجامع الزيتونة سنة (1307 هـ / 1889 م) بعد أن نال منه درجة العالمية، ودخل بعد ذلك معترك الحياة، فأنشأ مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة أنشئت ببلاد المغرب العربي، وكانت مجلة علمية أدبية، ثم تولى القضاء في "بَنْزَرْت" سنة 1905 م، وتركه ليعمل بالتدريس في جامع الزيتونة، ثم رحل عن تونس إلى دمشق إثر ثورات وطنية؛ حيث صمم الفرنسيون على التنكيل بكل من يوقظ روح الوطنية ضد المستعمر الفرنسي. وعمل في دمشق بالتدريس بالمدرسة السلطانية سنة 1912 م، ثم رحل بعدها إلا الآستانة، وسافر بعد ذلك إلى ألمانيا مرتين، كانت المرة الأخيرة ¬

_ (¬1) من كتاب "المعجميون في خمسة وسبعين عاماً" للدكتور محمد مهدي علام، والدكتور حسن عبد العزيز - طبع (1428 هـ - 2007 م)

حين احتل الحلفاء الآستانة، وهناك المنتقى بزعماء الحركة الإسلامية، كالشيخ عبد العزيز جاويش، والدكتور عبد الحميد سعيد، والدكتور أحمد فؤاد، وانتقل الشيخ بعد ذلك إلى مصر، وقام فيها بأعمال جليلة، فاشترك في تأسيس مجلة "نور الإسلام"، وهي التي أصبح الآن اسمها مجلة "الأزهر". وضمه الأزهر إلى علمائه أستاذاً في كلياته، واختير عضواً في جماعة كبار العلماء، ثم عين شيخاً للأزهر سنة 1952 م. وعندما أنشئ (مجمع اللغة العربية) بالقاهرة سنة 1932 م كان من الرعيل الأول الذين اختيروا لعضويته سنة 1933 م. وقد كانت حياة الشيخ كلها دفاعاً عن الدين والوطن العربي، ولقي في سبيل ذلك تغربه عن موطنه. يقول الشيخ في بعض حديثه: "خاطبتني المحكمة الفرنسية سنة 1325 هـ -بإشارة من شيخ المدينة- أن أكون عضواً في المحكمة؛ لأحضر حكمها بين الوطني والفرنسي، فامتنعت عن هذه العضوية، ولم أرض أن يصدر الحكم الجائر بحضوري". وكان يرى أن الطريق إلى إعادة مجد المسلمين الضائع هو الإيمان، والاتجاه إلى الصناعة والعلوم المادية وفي ذلك يقول: أبناءَ هذا العصر هل من نَهضةٍ ... تَشْفِي غليلاً حَرُّه يَتَصَعَّدُ هَذي الصَّنائعُ ذُلّلتْ أدواتها ... وسبيلُها للعالمينَ مُمَهَّدُ إنَّ المعارفَ والصَّنائعَ عُدَّةٌ ... بابُ التَّرقي من سواها مُوصَدُ قال عنه الأستاذ محمد علي النجار في حفل تأبينه: "وجملة القول: إن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره

إلا في النَّدْرَى، فقد كان عالماً ضليعاً، وكان -مع ذلك- عالماً بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصدُ الناس ومعاقد شؤونهم، حفظاً على العربية والدين، يردُّ ما يوجه إليهما، وما يصدر من الأفكار منابذاً لهما، قوي الحجة، حسن الجدال. وكان عفَّ اللسان والقلم، لا يتناول المنقود بما يُخزيه، وما يَثْلم عرضه، وكان يكره ذلك لمجادله وخصمه". مجلة "المجمع" (ج 14). وله مؤلفات كثيرة، منها: 1 - "بلاغة القرآن". 2 - "العظمة". 3 - "تونس وجامع الزيتونة". 4 - "الموافقات في أصول الأحكام". 5 - "علماء الإسلام في الأندلس". 6 - "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان". 7 - "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، المكتبة العلمية - بيروت. 8 - "حياة اللغة العربية". 9 - "الدعوة إلى الإصلاح". 10 - "الخطابة عند العرب". 11 - "تراجم الرجال". 12 - "خواطر الحياة"، (ديوان الشعر). 13 - "رسائل الإصلاح".

14 - "محمد رسول الله وخاتم النبيين". 15 - "مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها". 16 - "الخيال في الشعر العربي". 17 - "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم". 18 - "دراسات في العربية وتاريخها". * أعماله المجمعية: أ - اللجان التي اشترك فيها: اشترك في كثير من لجان المجتمع؛ مثل: لجنة اللهجات، ولجنة الآداب والفنون الجميلة، ولجنة دراسة معجم (فيشر)، ولجنة الأعلام الجغرافية، ولجنة الأصول، ولجنة معجم ألفاظ القرآن الكريم، ولجنة المساحة والعمارة، ولجنة المعجم الوسيط. ب - البحوث والمقالات: البحوث والمقالات التي ألقاها أو نشرها بالمجلة كثيرة، نذكر منها: 1 - التضمين. (محاضر جلسات دور الانعقاد الأول). 2 - نيابة بعض الحروف عن بعض. (محاضر جلسات دور الانعقاد الأول). 3 - المجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية. (مجلة "مجمع اللغة العربية" ج 1). 4 - شرح قرارات المجمع والاحتجاج لها (تكملة مادة لغوية ورد بعضُها في المعجمات، ولم ترد بقيتها). (مجلة "مجمع اللغة العربية" ج 2).

5 - الاستشهاد بالحديث في اللغة. (مجلة "مجمع اللغة العربية" ج 3). 6 - وصف جمع العاقل بصيغة فعلاء. (د 14، جلسة 11 للمؤتمر - مجلة "مجمع اللغة العربية"ج 7). 7 - اسم المصدر في المعاجم. (د 16، جلسة 9 للمؤتمر- مجلة "مجمع اللغة العربية" ج 8). 8 - طرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية. (د 17، جلسة 12 للمؤتمر- مجلة "مجمع اللغير العربية" ج 8). 9 - الشعر البديع في نظر الأدباء. (د 21، جلسة 8 للمؤتمر- مجلة "مجمع اللغة العربية" ج 11). 10 - من وثق من علماء العربية ومن طُعن فيه. (د جلسة 2 للمؤتمر - مجلة "مجمع اللغة العربية"ج 12). وقد صدرت له في تونس ترجمة وافية في كتاب "أعلامنا: محمد الخضر حسين" للأستاذ أبي القاسم محمد كرو. وقد وصلني هذا الكتاب وأنا أقدم: "المجمعيون في خمسين عاماً" للمطبعة.

شهادة عن الشيخ محمد الخضر حسين

شهادة عن الشيخ محمد الخضر حسين (¬1) التقيت بأحد تلامذة الشيخ محمد الخضر حسين بجامع الأزهر بالقاهرة، وهو الشيخ أحمد بوقرة العوني التونسي، وكان تتلمذ على يديه طيلة عشر سنوات. قلت له: هاتِ حدثني عن شيخك شيخ الأزهر، والعالم التونسي الكبير، صاحبِ المؤلفات الكثيرة، ومن أشهر العلماء التونسيين في الشرق، ممن أسدَوا له الخدمات العلمية الجليلة. قال الشيخ: ولد محمد الخضر في "نفطة"، ثم تحول إلى تونس وعمره ستَّ عشرة سنة، كانت له علامة بالكيِّ في عنقه. وسكن بتونس في الأول في نهج المرّ بباب منارة، في منزل أخيه العالم محمد المكي بن الحسين. وسرعان ما ارتبط بعلاقة وثيقة مع الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، ولم يكن يفرق بينهما في العمر غير سنتين، وكان يسهر معه في داره، وكان ¬

_ (¬1) بقلم الباحث والكاتب التونسي الدكتور أحمد الطويلي، صحيفة الحرية، الملحق الثقافي، الصادر في 31/ 1/ 2002 م، تونس. وقدمت الصحيفة المقال بقولها: "يبقى الشيخ محمد الخضر حسين علماً تونسياً بارزاً، استفادت من خدماته وعلمه وفكره كل الأمة العربية والإسلامية".

الشيخ الطاهر يقاسمه طعامه، وقد نظم محمد الخضر شعراً توجه به لمحمد الطاهر بن عاشور قال له: أَينعَمُ لي بالٌ وأنتَ بعيدُ ... وأسلو بطيفٍ والمنامُ شريدُ لقيتُ الودادَ الحرَّ في قلب ماجدٍ ... وأصدقُ مَنْ يُصفي الودادَ مجيدُ فأين ليالينا وأسمارُنا التي ... تُبَلُّ بها عند الظَّماء كبودُ ليالٍ قضيناها بتونسَ ليتها ... تعود وجيشُ الغاصبين طريدُ فأجابه محمد الطاهر بن عاشور من قصيدة: إذا ذكروا للودِّ شخصاً محافِظاً ... تجلّى لنا مرآك وهو بعيدُ إذا قيل مَنْ للعلمِ والفكرِ والتُّقى ... ذكرتُك إيماناً بأَنكَ فريدُ فقل لليالي جَدِّدي من نظامنا ... فحسبكِ ما قد كان فهو شديدُ عيِّن محمد الخضر حسين قاضياً ببنزرت، وكان يخطب في الجُمع، وضايقته حكومة الحماية الفرنسية حينما أصدر مجلة "السعادة العظمى"، فأراد الانتقال إلى الشرق، وتحول إلى مصر، وألقى بالجامع الأزهر درساً حضره أكبر المشايخ، فأعجبوا بعلمه، وقال له الشيخ عبد المجيد الغرياني: لقد ذكرتنا بابن عرفة. وسمع وهو غائب في مصر بأنه عُزل من التدريس بجامع الزيتونة، فعاد إلى تونس، ثم صمم على الرحلة إلى بيت الله الحرام، فباع منزله، وتوجه إلى المشرق عن طريق أوربا. وقصد سويسرا مع ثلاثة من المشايخ، وقد نفد ما عندهم من مال، واتصل بهم وزير مشرقي حينما علم بهم، واقترح عليهم الذهاب إلى ألمانيا للقيام بنشاط سياسي، فرحبوا بالفكرة؛ لأن ألمانيا كانت

حليفة الدولة العثمانية، وقاموا هناك بخدمات لفائدة سياسية ضد الحلفاء. وفي ألمانيا اتصل الخضر بألماني، واقترح عليه تعليمه الألمانية، وبالمقابل يعلمه العربية، وهذا ما كان. وفي ألمانيا بلغه نعيُ خاله العالم محمد المكي بن عزّوز، فرحل إلى إسطنبول، وأسرع بالتوجه إلى قبره، ورثاه بقصيدة قال فيها: رُبَّ شمسٍ طلعتْ في مغربٍ ... وتوارى في ثَرى الشرقِ سَناها ها هنا شمسُ علومٍ غَرَبَتْ ... بعد أن أبلَتْ بترشيشَ (¬1) ضُحاها بفؤادي لَوْعَةٌ من فقدِها ... كما أذكرُهُ اشتدَّ لَظاها طِبْ مقاماً يا بنَ عَزُّوزٍ فقدْ ... كنت تُعطي دعوةَ الحقِّ مُناها وأقام في إسطنبول، ودرس الحديث النبوي الشريف، ثم رحل إلى سورية، وألقى فيها دروساً لاقت الاستحسان والإعجاب. وإذ ذاك سمع بأن فرنسا أرسلت قواها إلى سورية، وخشي من أن تلاحقه، وأُوصي بأن يغادر بَرَّ الشام، وقيل له: إنك محكوم عليك بالإعدام في تونس؛ لنشاطك السياسي بها وبألمانيا، فانتقلَ إلى القاهرة، ونزلَ بحيّ خان الخليلي قرب سيدِنا الحسين. وقد ارتبط محمد الخضر بعلاقة وطيدة مع أحمد تيمور، فكنت تراهما دومًا معاً، وكانا صديقين وفيين لبعضهما بعضاً، وهو الذي قربه إلى الملك فؤاد، فصار يجالسه، وكتب له كتاب "نقض كتاب الشعر الجاهلي" رداً على طه حسين، وكان يشتغل في دار الكتب، فأمر الملك بأن يكون مدرساً بالجامع ¬

_ (¬1) اسم قديم لتونس.

الأزهر، وامتُحن بالرواق العباسي، ونال شهادة العالمية هنالك، وصار مدرساً بكلية أصول الدين بالجامع الأزهر، يُدرِّس للقضاة السياسة الشرعية إلى أن تولى مشيخة الأزهر.

الشيخ الخضر حسين منافح عن الإسلام والعروبة

الشيخ الخضر حسين منافح عن الإسلام والعروبة (¬1) فتحت مصر أبوابها في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري لزعماء النهضة والإصلاح، واستقبلت قادةَ التحرير في العالم الإسلامي، فحلُّوا بها خيرَ محلّ، ولَقُوا من الحفاوة والكرم ما جعلهم ينعَمون بالاستقرار فيها، وصارت القاهرة كعبةَ العلماء، ومهوى الأفئدة، اتخذها بعضهم موطناً دائماً له، واستقر بعضهم فيها حيناً من الدهر، ثم عاد إلى بلاده. واستقبلت مصر في هذه الفترة محمد رشيد رضا صاحب مجلة "المنار"، ومحب الدين الخطيب صاحب المكتبة السلفية المجاهد المعروف، والعلامة محمد صبري شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، ووكيله الشيخ محمد زاهد الكوثري، والشيخ محمد الخضر حسين، وغيرهم. ولم تكتف مصر بحسن استقبال هؤلاء الأعلام النابهين، بل منحت بعضَهم جنسيتها، وبوأته أعلى المناصب الدينية، مثلما فعلت مع الشيخ محمد الخضر الحسين؛ حيث اختارته ضمن الرعيل الأول المؤسس لـ (مجمع اللغة العربية)، وعينته أستاذاً في كلية أصول الدين، وكافأته بتنصيبه شيخاً للجامع الأزهر. ¬

_ (¬1) http://www.nahdha.net/library/khidhrweb.htm

* المولد والنشأة: ولد محمد الخضر حسين بمدينة "نفطة" التونسية في (26 رجب 1293 هـ / 16 أغسطس 1876 م)، ونشأ في أسرة كريمة تعتز بعراقة النسب، وكرمِ الأصل، وتفخر بمن أنجبت من العلماء والأدباء، وفي هذا الجو المعبق بأريج العلم نشأ "الخضر حسين"، فحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وشدا شيئاً من الأدب والعلوم الشرعية، ثم انتقل مع أسرته إلى تونس العاصمة سنة (1305 هـ، 1887 م)، وهو في الثانية عشرة من عمره، والتحق بجامع الزيتونة، وأكبّ على التحصيل والتلقي، وكانت الدراسة فيه صورة مصغرة من التعليم في الجامع الأزهر في ذلك الوقت، تُقرأ فيه علوم الدين؛ من تفسير وحديث وفقه وعقيدة، وعلوم اللغة؛ من نحو وصرف وبيان، وكان من أبرز شيوخه الذين لصل بهم، وتتلمذ لهم: عمر بن الشيخ، ومحمد النجار، وكانا يدرسان تفسير القرآن الكريم، والشيخ سالم بوحاجب، وكان يدرس "صحيح البخاري"، وقد تأثر به الخضر الحسين، وبطريقته في التدريس. * بعد التخرج: تخرج محمد الخضر الحسين في الزيتونة، غزيرَ العلم، واسع الأفق، فصيح العبارة، محباً للإصلاح، فأنشأ مجلة "السعادة العظمى" سنة (1321 هـ، 1904 م)؛ لتنشر محاسن الإسلام، وترشد الناس إلى مبادئه وشرائعه، وتوقظ الغافلين من أبناء أمته، وتفضح أساليب الاستعمار، وقد لفت الأنظار إليه بحماسه المتقد، ونظراته الصائبة، فعهد إليه بقضاء "بنزرت"، والخطابة بجامعها الكبير سنة (1324 هـ، 1905 م)، ولكنه لم يمكث في منصبه طويلاً،

وعاد إلى التدريس بجامع الزيتونة، وتولى تنظيم خزائن كتبه، ثم اختير للتدريس بالمدرسة الصادقية، وكانت المدرسة الثانوية الوحيدة في تونس، وقام بنشاط واسع في إلقاء المحاضرات التي تستنهض الهمم، وتنير العقول، وتثير الوجدان، وأحدثت هذه المحاضرات صَدًى واسعاً في تونس. ولما قامت الحرب الطرابلسية بين الدولة العثمانية وإيطاليا، وقف الخضر حسين قلمه ولسانه إلى جانب دولة الخلافة، ودعا الناس إلى عونها ومساندتها، وحين حاولت الحكومة ضَمَّه إلى العمل في محكمة فرنسية، رفضَ الاشتراك فيها، وبدأ الاستعمار الفرنسي يضيق عليه، ويتهمه ببث روح العداء له، فاضطر الشيخ محمد الخضر الحسين إلى مغادرة البلاد سنة (1329 هـ، 1910 م)، واتجه إلى إستانبول. * بين إستانبول ودمشق: بدأ الخضر حسين رحلته بزيارة مصر وهو في طريقه إلى دمشق، ثم سافر على إستانبول، ولم يمكث طويلاً، فعاد إلى بلاده ظاناً أن الأمور قد هدأت بها، لكنه أصيب بخيبة أمل، وقرر الهجرة مرة ثانية، واختار دمشق وطنًا له، وعُين بها مدرساً للغة العربية في المدرسة السلطانية سنة (1331 هـ , 1912 م)، ثم سافر إلى إستانبول، واتصل بأنور باشا وزير الحربية، فاختاره محرراً عربياً بالوزارة، ثم بعثه إلى برلين في مهمة رسمية، فقضى بها تسعة أشهر، وعاد إلى العاصمة العثمانية، فاستقر بها فترة قصيرة لم ترقه الحياة فيها، فعاد إلى دمشق، وفي أثناء إقامته تعرض لنقمة الطاغية "أحمد جمال باشا" حاكم الشام، فاعتقل سنة (1334 هـ، 1916 م)، وبعد الإفراج عنه عاد إلى إستانبول، وما كاد يستقر بها حتى أوفده أنور باشا مرة أخرى إلى ألمانيا

سنة (1334 هـ , 1916 م)، والتقى هناك بزعماء الحركات الإسلامية؛ من أمثال: عبد العزيز جاويش، وعبد الحميد سعيد، وأحمد فؤاد، ثم عاد إلى إستانبول، ومنها إلى دمشق؛ حيث عاد للتدريس بالمدرسة السلطانية، ودرّس لطلبته "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام النحوي المعروف، حتى إذا تعرضت الشام للاحتلال الفرنسي، اضطر الخضر الحسين إلى مغادرة دمشق، والتوجه صوب القاهرة. * الاستقرار في القاهرة: نزل محمد الخضر القاهرة سنة (1339 هـ , 1920 م)، واشتغل بالبحث وكتابة المقالات، ثم عمل محرراً بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، واتصل بأعلام النهضة الإسلامية في مصر، وتوثقت علاقته بهم، ثم تجنّس المصرية، وتقدم لامتحان شهادة العالمية بالأزهر، وعُقدت له لجنة الامتحان برئاسة العلامة عبد المجيد اللبان، مع نخبة من علماء الأزهر الأفذاذ، وأبدى الطالب الشيخ من رسوخ القدم ما أدهش الممتحنين، وكانت اللجنة كلما تعمقت في الأسئلة، وجدت من الطالب عمقاً في الإجابة، وغزارة في العلم، وقوة في الحجة، فمنحته اللجنة شهادةَ العالمية، وبلغ من إعجاب رئيس اللجنة بالطالب العالم أن قال: "هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج؟! ". * معاركه الفكرية: شاءت الأقدار أن تُمتحن الحياة الفكرية بفتنة ضارية أثارها كتابا: "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، و "في الشعر الجاهلي" لطه حسين، وكان الشيخ محمد الخضر حسين واحداً ممن خاضوا هذه المعركة بالحجة القوية، والاستدلال الواضح، والعلم الغزير.

أما الكتاب الأول، فقد ظهر في سنة (1344 هـ ,1926 م)، وأثار ضجة كبيرة، وانبرت الأقلام بين هجوم عليه، ودفاع عنه، وقد صدم الكتاب الرأي العام المسلم حين زعم أن الإسلام ليس دين حكم، وأنكر وجوب قيام الخلافة الإسلامية، ونفى وجود دليل عليها من الكتاب والسنّة، وكانت الصدمة الثانية: أن يكون مؤلف هذا الكتاب عالماً من علماء الأزهر. وقد نهض الشيخ محمد الخضر حسين لتفنيد دعاوى الكتاب، فأصدر كتابه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" سنة (1344 هـ، 1926) تتبع فيه أبواب كتاب علي عبد الرازق، فكان يبدأ بتلخيص الباب، ثم يورد الفقرة التي تعبر عن الفكرة موضوعِ النقد، فيفندها، ونقد استخدام المؤلف للمصادر، وكشف أنه يقتطع الجمل من سياقها، فتؤدي المعنى الذي يقصده هو، لا المعنى الذي يريد المؤلف. وقد كشف الخضر الحسين في هذا الكتاب عن علم غزير، وإحاطة متمكنة بأصول الفقه، وقواعدِ الحجاج، وبصيرة نافذة بالتشريع الإسلامي، ومعرفة واسعة بالتاريخ الإسلامي ورجاله وحوادثه. وأما الكتاب الآخر، فقد ظهر سنة (1345 هـ , 1927 م)، وأحدث ضجة هائلة؛ حيث جاهر مؤلفة الدكتور طه حسين بالاحتقار والشك في كل قديم دُوِّن في صحف الأدب، وزعم أن كل ما يُعد جاهلياً، إنما هو مختلَق ومنحول، ولم يكتف بهذه الفرية، فجاهر بالهجوم على المقدسات الدينية؛ حيث قال: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي ... "، وقد انبرت أقلام غيورة لتفنيد ما جاء في كتاب "الشعر الجاهلي" من أمثال: الرافعي،

والغمراوي، ومحمد فريد وجدي، ومحمد الخضر حسين، الذي ألف كتاباً شافياً في الرد على طه حسين، وكتابه بعنوان: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، فَنَّدَ ما جاء فيه، وأقام الأدلة على أصالة الشعر الجاهلي، وكشفَ عن مجافاة طه حسين للحق، واعتماده على ما كتبه المستشرق الإنجليزي (مرجليوث)، دون أن يذكر ذلك. * في ميادين الإصلاح: اتجه الشيخ إلى تأسيس الجمعيات الإسلامية، فاشترك مع جماعة من الغيورين على الإسلام سنة (1346 هـ، 1928 م) في إنشاء (جمعية الشبان المسلمين)، ووضع لائحتها الأولى مع صديقه محب الدين الخطيب، وقامت الجمعية بنشر مبادئ الإسلام، والدفاع عن قيمه الخالصة، ومحاربة الإلحاد العلمي، ولا تزال هذه الجمعية -بفروعها المختلفة- تؤدي بعضاً من رسالتها القديمة. وأنشأ -أيضاً- (جمعية الهداية الإسلامية)، وكان نشاطها علمياً أكثر منه اجتماعيًا، وضمت عدداً من شيوخ الأزهر وشبابه، وطائفة من المثقفين، وكوّن بها مكتبة كبيرة كانت مكتبته الخاصة نواة لها، وأصدر مجلة باسمها كانت تحمل الروائع من التفسير والتشريع، واللغة والتاريخ. وإلى جانب هذا النشاط الوافر تولى رئاسة تحرير مجلة "نور الإسلام" -الأزهر الآن- التي أصدرها الأزهر في (المحرم 1349 هـ , 1931 م)، ودامت رئاسته لها ثلاثة أعوام، كما تولى رئاسة تحرير مجلة "لواء الإسلام" سنة (1366 هـ، 1946 م)، وتحمَّل إلى هذه الأعباء: التدريس بكلية أصول الدين، فالتف حوله الطلاب، وأفادوا من علمه الغزير، وثقافته الواسعة.

وعندما أنشئ (مجمع اللغة العربية) بالقاهرة (1350 هـ , 1932 م)، كان من الرعيل الأول الذين اختيروا لعضويته، كما اختير عضواً بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وأثرى مجلة "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة ببحوثه القيمة عن صحة الاستشهاد بالحديث النبوي، والمجاز والنقل، وأثرهما في حياة اللغة العربية، وطرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدِها في البلاد العربية. * مشيخة الأزهر: نال الشيخ عضوية جماعة كبار العلماء برسالته القيمة "القياس في اللغة العربية" سنة (1375 هـ، 1955 م)، ثم لم يلبث أن وقع عليه الاختيار شيخاً للجامع الأزهر في (26 ذي الحجة 1371 هـ، 16 سبتمبر 1952 م)، وكان الاختيار مفاجئًا له، فلم يكن يتوقعه أو ينتظره بعدما أكبر في السن، وضعفت صحته، لكن مشيئة الله تكرم أحد المناضلين في ميادين الإصلاح؛ حيث اعتلى أكبرَ منصب ديني في العالم الإسلامي. وكان في ذهن الشيخ حين ولي المنصب الكبير وسائلُ لبعث النهضة في مؤسسة الأزهر، وبرامج للإصلاح، لكنه لم يتمكن من ذلك، ولم تساعده صحته على مغالبة العقبات، ئم لم يلبث أن قدم استقالته احتجاجاً على اندماج القضاء الشرعي في القضاء الأهلي، وكان من رأيه أن العكس هو الصحيح، فيجب اندماج القضاء الأهلي في القضاء الشرعي؛ لأن الشريعة الإسلامية ينبغي أن تكون المصدر الأساسي للتشريع، وكانت استقالته في (2 جمادى الأول 1372 هـ، 7 يناير 1954 م). ويذكر له في أثناء توليه مشيخة الأزهر قولته: "إن الأزهر أمانة في عنقي، أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأتَّ أن يحصل للأزهر مزيدٌ من

الازدهار على يدي، فلا أقلَّ من أن لا يحصل له نقص". وكان كثيراً ما يردد: "يكفيني كوب لبن وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العفاء". * مؤلفاته: كان الشيخ عالماً، فقيهاً، لغوياً، أديباً، كاتباً من الرعيل الأول، أسهم في الحركة الفكرية بنصيب وافر، وترك للمكتبة العربية زاداً ثرياً من مؤلفاته، منها: - "رسائل الإصلاح"، وهي في ثلاثة أجزاء، أبرز فيها منهجه في الدعوة الإسلامية، ووسائل النهوض بالعالم الإسلامي. - "الخيال في الشعر العربي". - "آداب الحرب في الإسلام". - "تعليقات على كتاب الموافقات للشاطبي". - ديوان شعر "خواطر الحياة". بالإضافة إلى بحوث ومقالات نشرت في مجلة الأزهر "نور الإسلام"، و"لواء الإسلام"، و"الهداية الإسلامية". * وفاته: وبعد استقالته من المشيخة تفرغ للبحث والمحاضرة حتى لبى نداء ربه في مساء الأحد (13 من رجب 1377 هـ , 28 فبراير 1958 م)، ودفن بجوار صديقه أحمد تيمور باشا بوصية منه، ونعاه العلامة محمد علي النجار بقوله: "إن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره، إلا في النّدْرى؛ فقد كان عالماً ضليعاً بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصد الناس ومعاقد شؤونهم، حفيظًا على العروبة والدين، يردُّ على ما يوجَّه إليهما،

وما يصدر من الأفكار منابذاً لهما، قوي الحجة، حسن الجدال، عفَّ اللسان والقلم ... ". * من مصادر الدراسة: - أنور الجندي: الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقية -الدار القومية للطباعة والنشر- القاهرة- (1385 هـ، 1965 م). - علي عبد العظيم: مشيخة الأزهر منذ إنشائها حتى الآن -مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية- القاهرة - (1399 هـ , 1979 م). - محمد رجب البيومي: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين - دار القلم - دمشق - (1415 هـ، 1995 م). - محمد مهدي علام: المجمعيون في خمسين عاماً - مطبوعات مجمع اللغة العربية - القاهرة - (1406 هـ، 1986 م). - محمد علي النجار: كلمة في تأبين الشيخ محمد خضر حسين - محاضر جلسات مجمع اللغة العربية - الجزء الحادي والعشرون.

العلامة محمد الخضر الحسين

العَلَّامة محمد الخضر الحسين (¬1) * نسبه: هو العالم، العلامة، اللاحق السابق، خاتمة العلماء المحققين، الشيخ محمد الخضر بن السيد حسين التونسي. * ولادته: ولد المترجم في بلدة "نفطة" من مقاطعة الجريد بالقطر التونسي سنة ألف ومئتين واثنين وتسعين، الموافق سنة ألف وثمان مئة وأربع وسبعين ميلادي. * نشأته: نشأ المترجم على الأخلاق الفاضلة، والفعال الجميلة، ولما بلغ الثانية عشرة من عمره، انتقل مع والده إلى عاصمة البلاد "تونس"، والتحق بجامع الزيتونة أرقى المعاهدِ الدينية في تلك البلاد، وحصل منه على الشهادة العالمية في العلوم الدينية والعربية. * أعماله في بلاده: تولى المترجَم القضاء الشرعي في مدينة "بنزرت" وملحقاتها سنة ألف وتسع مئة وخمس، ثم ترك القضاء رغبة في التعليم، فعيِّن مدرساً للدروس ¬

_ (¬1) من كتاب "أعلام الإسلام" للأستاذ عبد الوهاب سكر - طبع المكتبة العربية بحلب.

الدينية والعربية في جامع الزيتونة، كما تولى التدريس في المدرسة الصادقية. وأنشأ مجلة تسمى: مجلة "السعادة العظمى"، وأغلقتها سلطات الاستعمار الفرنسي. * هجرته إلى دمشق وأعماله فيها: ولما حكم عليه بالإعدام؛ لاشتغاله بالسياسة، ودعوته إلى النضال ضد فرنسا، هاجر مع عائلته إلى دمشق، سنة ألف وثلاث مئة واحدى وثلاثين، واتصل بطبقاتها، فحصلت له المكانة عند الجميع. وتولى في دمشق التدريس في المدارس الرسمية، والأهلية، ثم عُين محرراً في ديوان وزارة الحربية التركية، وفي إبان الحرب العالمية الأولى سافر مرتين إلى ألمانيا بمهمة رسمية موفَداً من قبل أنور باشا وزير الحربية. * اعتقاله في دمشق: ولما رجع من مهمته قادماً من دمشق، اعتقله جمال باشا -فورَ وصوله- أشهراً بدمشق، بدون سبب ولا موجب، سوى منعه من التدريسة خشية أن يبث أفكاراً تنافي رغبة السفاح، ثم أفرج عنه. * هجرته إلى مصر، وأعماله فيها: وفي سنة ألف وتسع مئة واثنتين وعشرين ميلادية هاجر المترجم إلى القاهرة لاجئاً سياسياً؛ فراراً من ملاحقة الافرنسيين، ودخل فحص الشهادة العالمية الأزهرية، فاستحقها، ثم عين من قبل وزارة المعارف مصححاً بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، ثم رغب في التدريس، فعين مدرساً للفقه في كلية أصول الدين، ثم عين أستاذاً بأقسام التخصص في كليتي الشريعة وأصول الدين، وبقي مدرساً قريباً من عشرين سنة، كما عين عضواً في (المجمع

اللغوي بالقاهرة، وقدم رسالته العلمية "القياس في اللغة العربية"، فنال بها عضوية هيئة كبار العلماء، وفي سنة ألف وتسع مئة واثنتين وخمسين اختير لمشيخة الأزهر. * جهوده الدينية والاجتماعية: وفي مدة إقامته في القاهرة، أنشأ (جمعية الهداية الإسلامية)، وأصدر مجلة تحمل نفس الاسم، واستلم تحرير مجلة "نور الإسلام"، كما استلم تحريرها حينما سميت: مجلة "الأزهر"، وترأس (جمعية جبهة الدفاع الإفريقي الشمالي). * مؤلفاته: له مؤلفات كثيرة ونافعة، منها: "رسائل الإصلاح"، ثلاثة أجزاء، "القياس في اللغة العربية"، وهو الذي نال به عضوية هيئة كبار العلماء، "الحرية في الإسلام"، "مناهج الشرف"، "الدعوة إلى الإصلاح"، "الخيال في الشعر العربي"، "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، وكلها مطبوعة، وغير ذلك. * وفاته: توفي -رحمه الله- عصر يوم الأحد الثاني عشر من شهر رجب سنة ألف وثلاث مئة وسبع وسبعين هجرية، الموافق اليوم الثاني من شهر شباط سنة ألف وتسع مئة وثمان وخمسين ميلادية، ودفن بتربة آل تيمور -رحمه الله رحمة واسعة- (¬1). ¬

_ (¬1) الأستاذ الجليل الشيخ بهجة البيطار في أول كتاب للمترجم "دراسات في العربية وتأريخها".

إفريقيا الشمالية حديث لرئيس جبهة الدفاع عنها

إفريقيا الشمالية حديث لرئيس جبهة الدفاع عنها (¬1) قال مندوب "الأهرام" فضيلة الأستاذ محمد الخضر حسين لمناسبة عودته إلى جبهة الدفاع عن إفريقية الشمالية. وقد تحدث فضيلته عن هذه الجبهة، فذكر أنها تتألف من تونسيين، وجزائريين، ومراكشيين درسوا قضية المغرب دراسة وافية، وآمنوا بأن نضالهم من أجلها إنما هو نضال عن حقوق خمسة وعشرين مليوناً من العرب المسلمين، ما زالوا يزدادون على مر الأيام حماسة لقضيتهم، وعزماً على تذليل كل ما يعترض سبيلهم من صعاب. وهنا قال: إن الصلة بين الجبهة وأمانة جامعة الدول العربية وثيقة العرا، وقد ازدادت توثقاً بتصريحات سعادة عبد الرحمن عزام باشا، وبالقرار الذي أصدره مجلس الجامعة بشأن الاتجاه إلى تحرير المغرب من الاحتلال المزري بالكرامة والإنسانية. وخلص من ذلك إلى الحديث عن البرنامج الوطني للجبهة، فذكر أنه يقوم على التماس جميع الوسائل التي تبعها الأحرار المناهضون لمكافحة أو نصرة حق. وقد عقدت الجبهة العزم على المضي في سبيل الوصول إلى غايتها الوطنية. ¬

_ (¬1) مجلة "سعادة الشباب"، العدد 3، تاريخ 19/ 3/ 1366 م.

التعريف والنقد دراسات قي العربية وتاريخها تأليف محمد الخضر حسين

التعريف والنقد دراسات قي العربية وتاريخها تأليف محمد الخضر حسين (¬1) المدرسة القديمة في تلقي علوم الدين وعلوم اللغة العربية، التي كان يتربم فيها الشيخ على دكة، أو على الأرض، مستنداً إلى عمود في مسجد، أو غيرَ مستند، وأمامه حلقة من الطلاب يقرؤون عليه كتباً صفراء قديمة، وهو يشرح ويعلق ما يطيب له الشرح والتعليق؛ كمثل الكتب التي ذكر الأستاذ بهجة البيطار في مقدمة الكتاب الذي نحن بصدده: أنها الكتب التي كانوا يقرؤونها على أستاذهم الشيخ محمد الخضر حسين، وهي: "كتاب المستصفى في أصول الفقه" لحجة الإسلام الغزالي، وكتاب "بداية المجتهد" للفيلسوف ابن رشد في فن الخلاف، و"صحيح الإمام مسلم" في علم الحديث، و"المغني في العربية" لشيخ النحاة ابن هشام، و"الكامل في الأدب" للمبرد، هذه المدرسة القديمة أوشك أن يعفي عليها الزمن، ولم تستطع الجامعات الحديثة - بما فيها الجامعة الأزهرية - أن تكون الخلائف الصحيحة لها، وأن تقوم بوظيفتها. تلك مشكلة خطيرة من مشكلات تكون العلماء والباحثين في علوم الدين وعلوم العربية، لسنا في مجال بحثها، ولكن ذكرني بها الكتاب القيم: ¬

_ (¬1) مجلة "مجمع اللغة العربية" بدمشق، الجزء الأول من المجلد السادس والثلاثين، مقال للأستاذ عبد الكريم زهور.

"دراسات في العربية وتاريخها" للمغفور له محمد الخضر حسين. وقد جمع الأستاذ علي الرضا التونسي (¬1) في هذا الكتاب أبحاثاً طُبعت أول مرة في كتيبات منفردة، وهي: "القياس في اللغة العربية"، و "حياة اللغة العربية"، و"الإمتاع بما يتوقف تأنيثه على السماع"، وأخرى نُشرت في مجلة "الهداية الإسلامية"، وهي: "الاستشهاد بالحديث في اللغة"، و"موضوع علم النحو"، و"التضمين"، و"تيسير وضع مصطلحات الألوان"، و"طوق وضع المصطلحات"، و"حول تبسيط قواعد النحو والصرف والرد عليها". وقد ذكر لي الأستاذ أحمد راتب النفاخ: أن هنا سقطاً (¬2) في بحث القياس، وحين قرأته اختل بالفعل أمامي المعنى بين آخر صفحة (31)، وأول صفة (32)، وحين رجعت إلى كتيب "القياس في اللغة العربية" (المطبوع في المطبعة السلفية سنة 1353 هـ) وجدت أن أربعة أسطر قد سقطت هي: " ... أن يجري حذف "أن" المصدرية -كما ورد في الآية- مجرى ما يصح القياس عليه". "وقرر جماعة من النحاة: أنه لا يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمعمول المضاف، من نحو: "ضربَ عمراً زيدٍ"، وقد ورد على نحو هذا المثال قوله تعالى في قراءة ابن عامر: {قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} ". ¬

_ (¬1) الحسيني. (¬2) تم استدراكه في الطبعات اللاحقة للكتاب، علماً أن السقط وقع في طبعة 1960 م، دمشق - مكتبة دار الفتح.

العلامة الشيخ محمد الخضر حسين الطولقي مشيخة الأزهر, وتأسيس أول مجلة بتونس

العلامة الشيخ محمد الخضر حسين الطولقي مشيخة الأزهر, وتأسيس أول مجلة بتونس (¬1) (1873 م - 1958 م) مما لا شك فيه: أن بلاد المغرب العربي، والجزائر بالخصوص، قد أنجبت الكثير من فطاحل الأعلام والعظماء في شتى الميادين، إلا أن أكثرهم، ولظروف عديدة، قد نبغ، وامتد عطاؤه في المشرق العربي أكثر منه في المغرب، ومن هؤلاء: العلامة الشيخ محمد الخضر حسين الطولقي. وللأسف الشديد: أن جلّ المشارقة يعلمون أنه من عائلة جزائرية الأصل كانت تسكن منطقة "برج ابن عزّوز"، دائرة طولقة، ولاية بسكرة، إلا أنهم ولأسباب لا يُقرون بذلك! وفي هذه الدراسة سوف نسلِّط بعض الأضواء واللمحات، حول شخصيته، ومسيرته العلمية، والإصلاحية، والفكرية، والأدبية، والصحفية، كما وجبت الإشارةُ إلى العراقيل التي اعترضت سبيلي في أثناء إعدادي لهذه الترجمة، وخاصة منها: قلة المراجع، وشُحُّها التي تطرقت إلى هذا العَلَم بالدراسة والتحليل، باستثناء بعض الإشارات المقتضبة والمتقطعة في ثنايا مؤلفاته للتعريف به، وكذا كتاب "محمد الخضر حسين الطولقي حياته وآثاره" ¬

_ (¬1) من كتاب "أعلام من بسكرة" للكاتب والباحث الجزائري الأستاذ فوزي المصمودي.

للأستاذ محمد مواعدة الذي نال به درجة الكفاءة في البحث سنة 1972 م بتونس، وقد اتخذته أساساً لهذه الدراسة. * شيء من حياته: ولد العلامة الشيخ محمد الخضر حسين بنفطة بتونس، في 21 جويلية 1873 م الموافق لـ 26 رجب 1293 هـ؛ كما أكد ذلك الأستاذ محمد مواعدة في كتابه، وقيل: سنة 1874 م؛ كما في كتابه "القياس في اللغة العربية" الذي طبع -أيضاً- بالجزائر. وقد كان أبوه الحسين بن علي بن عمر من مريدي وأتباع الشيخ مصطفى بن عزوز، وصاحب الطريقة الرحمانية، وجدّ الشيخ محمد الخضر حسين من أمه، أما جده من الأب الشيخُ عليُّ بن عمر، فهو من العلماء الكبار، ومؤسس الزاوية العثمانية الرحمانية بطولقة في 1780 م. وفي 1837 م هاجر الشيخ مصطفى بن عزوز بمعية عائلته وأتباعه ومريديه إلى "نفطة" بتونس؛ نتيجة للأوضاع المزرية التي تسبَّبَ فيها الاستعمار الفرنسي، وصحب معه ابنَ أخته الشيخ حسين بن علي بن عمر والدَ مترجَمنا الشيخ محمد الخضر حسين، أما خاله، فهو الشيخ العلامة محمد المكي بن عزوز، مفتي "نفطة"، والمدرس بجامع الزيتونة، ومدرس الحديث بمدرسة دار الفنون بالآستانة بتركيا، وقد توفي ودفن بها سنة 1915 م. وفي هذا الجو العلمي، وببلدة "نفطة" موطن العلماء، والمركز العلمي الشهير بتونس، يترعرع شيخنا محمد الخضر حسين، وينهل من مَعينها، ويسعفه الحظ أن يتتلمذ على يد عدد من علمائها وشيوخها؛ حيث حفظ القرآن على يد مؤدبه الخاص الشيخ عبد الحفيظ اللموشي، ودرس بعض العلوم على يد خاله العلامة محمد المكي بن عزوز.

يقول العلامة محمد الخضر حسين في ديوانه الشعري "خواطر الحياة": نشأت في بلدة من بلاد الجريد التونسي يقال لها: "نفطة"، وكان للأدب المنظوم والمنثور في هذه البلدة نفحاتٌ تهب في مجالس علمائها، كان حولي من أقاربي وغيرهم من يقول الشعر، فتذوقت طعم الأدب من أول نشأتي، وحاولت وأنا في سن الثانية عشرة نظم العشر. (من ديوانه الشعري "خواطر الحياة" (ص 6). وعند بلوغه الثانية عشرة، انتقلت عائلته إلى العاصمة تونس سنة 1886 م، أين تمكن من مواصلة دروسه بجامع الزيتونة مع إخوته الأربعة، وقد كان -زيادةً على دروسه النظامية- يختلف إلى بعض الحلقات والمجالس، وأبرز الذين تاثر بهم هم الشيوخ: سالم بو حاجب، عمر بن الشيخ، محمد النجار، وقد أثنى عليهم في كثير من المناسبات والكتابات، وخاصة من خلال مجلة "الهداية الإسلامية". وقد بقي شيخنا كذلك حتى تخرج في جامع الزيتونة، وتحصَّل على شهادة التطويع سنة 1898 م، وقد حاول بعدها السفر إلى المشرق العربي؛ لطلب العلم، والاحتكاك ببعض العلماء والمصلحين، لكنه لم يتمكن من ذلك لأسباب مجهولة، برغم أنه وصل إلى ليبيا، ثم عاد أدراجه. * رحلاته إلى الجزائر: تمكن شيخنا من زيارة موطنه الأصلي الجزائر مرتين طوال حياته، وقد دَوَّن رحلته الثانية بالتفصيل في مجلة "السعادة العظمى" عددي 19/ 20، وقد كانت الرحلة الأولى سنة 1903 م، أما الثانية، فكانت سنة 1904 م، اتصل من خلالها بعدد من العلماء والمصلحين الجزائريين؛ كالشيخ المصلح

محمد بن أبي شنب، والعلامة الشهير عبد القادر المجاوي، وقد أخذ عن شيخنا: أنه لم يتطرق في وصفه لهاتين الرحلتين للأوضاع المزرية التي يعيشها بنو قومه في ظل الاستعمار الفرنسي الغاشم، وربما تناولها في كتابات أخرى تظل مجهولة. * إصداره مجلة "السعادة العظمى" (1904 م): إضافة إلى الدروس التي كان الشيخ يلقيها بجامع الزيتونة والأماكن العامة، ظل يفكر في إيجاد وسيلة أخرى تكون أكثر شمولية، وفي متناول الجميع، فاهتدى إلى إصدار مجلة أطلق عليها اسم: "السعادة العظمى"، وذلك في أفريل 1954 م، وهي أول مجلة عربية صدرت بتونس، وقد كانت نصف شهرية، صدر منها 21 عدداً، ثم انقطعت عن الصدور، وقد كان الشيخ يُعِدُّ بنفسه مادتها الإعلامية، ولهذا عُدَّت تأليفاً من تآليفه، وقد واجهتها العديدُ من العقبات، حتى إن بعض المغرضين طلب من السلطات التونسية توقيفها، وقد رفض الوزير التونسي -آنذاك- محمد العزيز بو عتّور توقيفها، قائلاً: "إن ما تنشره المجلة لا يعارض الشرع ولا القانون"، فآزره ثلة من العلماء والمصلحين، ووقفوا بجانبه في هذه المحنة. * رحلته إلى سورية (1912 - 1920 م): لم ينقطع شوق الشيخ إلى زيارة المشرق العربي إلى أن تمكن من ذلك سنة 1912 م؛ حيث سافر إلى سورية ماراً بمصر؛ حيث التقى بالشيخ محمد رشيد رضا، ومنها إلى الحجاز، وألبانيا، والآستانة، ثم استقر به المقام بدمشق، وقد ابتهج به علماء دمشق، وفرحوا بقدومه؛ لأن شهرته وصلت إليهم من خلال مؤلفاته؛ كـ: "الحرية في الإسلام"، و"الدعوة إلى

الإصلاح"، و"حياة اللغة العربية"، كما اتصل بالعديد من العلماء؛ كالشيوخ: يوسف النبهاني، وسعيد الجزائري. وفي أثناء مقامه بدمشق ساهم في بعث الحركة الإصلاحية، والثقافية، والإعلامية؛ من خلال دروسه بالمدرسة السلطانية، والجامع الأموي، ومقالاته ومجالساته. كما عُرف عنه الميل إلى تأييد الخلافة العثمانية، ويرغم ذلك، فقد اتهمه الأتراك بالثورة عليهم، فسجن، ولما حوكم، ثبتت براءته، بعدها عيّن منشئاً عربياً بوزارة الحربية العثمانية. وفي سنة 1919 م تأسس (المجمع العلمي العربي) بدمشق، فعين العلامة محمد الخضر حسين عضواً عاملاً به. * رحلته إلى مصر: بعد احتلال سورية من طرف الاستعمار الفرنسي سنة 1920 م إثرَ معركة ميسلون الشهيرة، قرر شيخنا الرحيل إلى مصر، وهي الفترة التي عَرف فيها الشيخ الاستقرار والشهرة العلمية وقيمة العطاء، وفي أثناء مكوثه بمصر سقطت الخلافة العثمانية سنة 1924 م على يد كمال أتاتورك، فثارت ضجة كبرى في العالم الإسلامي بين المؤيدين للإلغاء، والمعارضين له، وكان علي عبد الرازق أبرز المؤيدين؛ حيث أصدر كتابه الشهير: "الإسلام وأصول الحكم" سنة 1925 م نافياً من خلاله صلة الإسلام بالسياسة، وفصل الدين عن الدولة، فانبرى له شيخنا العلامة محمد الخضر حسين بالرد عليه من خلال كتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، نال بعده حظوة عظيمة بين العلماء، وحتى لدى الملك المصري فؤاد، وفي سنة 1926 م ألف الدكتور طه حسين كتابه

"في الشعر الجاهلي"، فتصدى له الشيخ مُفَنِّداً مزاعمه من خلال مؤلفه: "نقض كتاب الشعر الجاهلي"؛ مما تسبب في نشوب خلافات فكرية بينه وبين الدكتور طه حسين استمرت حتى بعد هذه الضجّة. * تأسيس (جمعية الهداية الإسلامية) (1928 م): لم يقتصر نشاط الشيخ -رحمه الله- على الكتابة والدروس فقط، بل جمع حوله ثلة من العلماء؛ كالأستاذ مصطفى المراغي شيخ الأزهر، والأستاذ عبد الحليم النجار، والشيخ عبد الحليم مدكور، والشيخ عبد الوهاب النجار، فأسسوا (جمعية الهداية الإسلامية) سنة 1928 م، واختاروا العلامة الخضر حسين رئيساً لها، وكانت تهدف أساساً إلى: - السعي إلى تمتين الصلات بين الشعوب الإسلامية، وتوثيق الروابط بينها، والقضاء على الخلافات. - التعريف بحقائق الإسلام، ونشرها بأسلوب عصري، ومقاومة الإلحاد والتفسخ. - إصلاح شأن اللغة العربية. وقد أصدرت الجمعية مجلتها "الهداية الإسلامية" الغراء التي لعبت دوراً بارزاً في نشر الوعي والإسلام الصحيح، وقد استمرت في الصدور شهرياً منذ 1929 م إلى غاية اندلاع الحرب العالمية الثانية، وبموازاة ذلك استمر الشيخ في التدرشى بالجامع الأزهر، كما أسندت إليه مجلة دينية علمية أخلاقية تاريخية حكيمة، وذلك سنة 1930 م. * تقليده مشيخة الأزهر الشريف (1952 م): في سبتمبر 1952 م، وقد ناهز الشيخ الثمانين من عمره، وبعد انتصار

الضباط الأحرار بمصر، وإلغاء الملكية، تقرر تعيين الشيخ محمد الخضر حسين شيخاً للأزهر الشريف، فأبدى الشيخ امتناعاً في البداية، وذلك لخطورة وأهمية المسؤولية، لكنه قبلَ بها بعد إلحاح السيد حسن الباقوري وزير الأوقاف المصري، قائلاً: "هذا أمر تجنيد، وفي هذا العهد المبارك تجند الكفاءات النزيهة لخدمة مصر"، فأجابه الشيخ بعد قبوله: "وأنا لا أهرب من الجندية، ويوفق الله"، ولا شك أنه تذكر حينها والدته التي كانت تداعبه وهو صبي، وهي تقول له بالعامية: "لخضر يا لخضر، تكبر وتولي شيخ الأزهر"، بعدها بسنتين أحس شيخنا بالتعب والكلل؛ مما منعه من أداء واجبه، فقدم استقالته سنة 954 أم ليتفرغ بعد ذلك للحياة الثقافية. * من مؤلفاته وآثاره (المطبوعة): 1 - "الحرية في الإسلام" تونس 1909 م. 2 - "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" القاهرة 1926 م. 3 - "نقض كتاب الشعر الجاهلي" القاهرة 1927 م. 4 - "الدعوة إلى الإصلاح" القاهرة 1928 م. 5 - "علماء الإسلام في الأندلس" القاهرة 1928 م. 6 - "القياس في اللغة العربية" القاهرة 1935 م، وقد طبع بالجزائر كذلك. 7 - ديوان شعر بعنوان "خواطر الحياة" القاهرة 1953 م. 8 - "دراسات في العربية وتاريخها" دمشق 1961 م. 9 - "رسائل الإصلاح" دمشق 1971 م. 10 - "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان" دمشق 1971 م. 11 - "بلاغة القرآن" دمشق 1971 م.

12 - "تونس وجامع الزيتونة" دمشق 1971 م. 13 - "الخيال في الشعر العربي" دمشق 1971 م. 14 - "محمد رسول الله وخاتم النبيين" دمشق 1972 م. إضافة إلى مئات المقالات والمحاضرات التي نشر أغلبها، وإذا سمحت الظروف، سنتناول بالدراسة -إن شاء الله- مؤلفاته، وكذا الشيخ محمد الخضر حسين الرجل العالم والسياسي والشاعر والمصلح. * وفاته: وقد التحق الشيخ محمد الخضر حسين بربه في 2 فيفري 1958 م، وحضر جنازته كبار رجالات الدولة المصرية، والعلماء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ودفن بمقبرة آل تيمور، بالقرب من صديقه الأستاذ أحمد تيمور، وعملاً بوصيته. * المراجع: 1 - محمد مواعدة - محمد الخضر حسين حياته وآثاره - الدار التونسية - تونس - 1974 م. 2 - الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي - من الفكر والقلب (فصول من النقد في العلوم والاجتماع والآداب) - دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع - عين مليلة - أم البواقي - الجزائر) 1990 م. 3 - الدكتور عمار طالبي - ابن باديس - حياته وآثاره. 4 - مجلة الدوحة القطرية- عدد ماي 1986 م. 5 - فوزي مصمودي - جريدة الشعب - العدد 10749 - الاثنين 24 جويلية 1995 م.

مقابلة فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين

مقابلة فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين (¬1) يوم الأحد 12/ 5/ 1370 هـ، 18/ 2/ 1951 م "ونزلت أنا والشيخ عبيد الله (البلياوي) عند دار (جمعية الهداية الإسلامية)، وقد كان الأستاذ طه الساكت طلب مني الحضور في دار الجمعية الساعة السادسة مساء، وقابلَنا هنا الشيخ محمد الخضر حسين رئيسُ الجمعية، ومدرسٌ في كلية أصول الدين سابقاً، وكنت أعرفه من مقالاته، ورسائله العلمية، وبحوثه اللغوية من زمان، وأعرفه كعالم راسخ في العلوم الدينية والأدبية، فاعتذر عن تخلفه في الموعد بسبب المرض. وسألته عن مدة إقامته في مصر، فقال: لي الآن ثلاثون عاماً في مصر، وأصلي من الجزائر، ومولدي تونس، وقضيت نحو عشرة أعوام قبل مصر في سورية وغيرها. وقد تخرج في جامع الزيتونة بتونس، وأقام في ألمانيا. كذلك سألته عن الأزهر، وجامع الزيتونة، أيهما أقدم؟ وأيهما أعظم؟ فقال: الأزهر أقدم وأعظم، ويليه في التقدم وكثرة الطلبة جامعُ الزيتونة؛ فإن ¬

_ (¬1) من كتاب "مذكرات سائح في الشرق العربي"، بيروت، مؤسسة الإرسال - الطبعة الثالثة 1403 هـ - 1983 م، لفضيلة الأستاذ أبي الحسن علي الحسني الندوي.

المتعلمين فيه الآن يبلغون عشرة آلاف، مع أن إحصاء تونس لا يزيد على ثلاثة ملايين ونصف مليون. ثم ذكر ردَّه على القاديانية، وسأل أسئلة عنها، وعن بعض رجالها، وأهدى إلينا كتباً من تأليفه، منها: "رسائل الإصلاح"، وهي مجموعة مقالاته في الدين والاجتماع والأخلاق، في ثلاثة أجزاء، و"آداب الحرب في الإسلام"، و"خواطر الحياة"، وهو ديوان شعره، و"طائفة القاديانية"، وقد تذكرت بوؤيته والحديثِ معه كثيراً من علماء الهند في الهدوء، ورسوخ العلم".

الإمام محمد الخضر حسين الجزائري حياته وآثاره

الإمام محمد الخضر حسين الجزائري حياته وآثاره (¬1) الهجرة في سبيل الله متنفَّس الأحرار، وملاذ الثوار، الذين حوصروا في آرائهم وعقائدهم، وحرموا من أداء أمانتهم العلمية، وواجباتهم الإسلامية، ومُسُّوا في كرامتهم وحرياتهم، فتراهم يتخذون الهجرة سفناً، شعارُهم قول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]. وهكذا كان الجزائريون إبان الحقبة الاستعمارية الصليبية الحاقدة، يضربون في الأرض مهاجرين؛ حفاظاً على دينهم، ونشراً لتعاليمه، وإبلاغاً لقضيتهم، ومن بين هؤلاء الجزائريين المهاجرين: الشيخ سيدي مصطفى ابن عزوز البرجي، جد الشيخ الخضر لأمه، الذي فر إلى "نفطة" في منطقة الجريد التونسي، وأسس زاويته المشهورة سنة 1837 م، والتي تنتسب إلى الطريقة الخلوتية الرحمانية، والجدير بالذكر: أن أتباعه ومريديه الذين هاجروا معه حملوا عبء التأسيس، ومن بين هؤلاء: الشيخ الحسين بن علي والدُ الإمام الخضر، الذي تزوج بنتَ شيخه مصطفى بن عزّوز السيدةَ حليمة السعدية. ¬

_ (¬1) لفضيلة العلامة الشيخ أحمد رشيق بكيني أستاذ بالزاوية الحملاوية والمعهد الإسلامي بالتلاغمة - الجزائر - عن مجلة "منبر الإمام مالك بن أنس"، العدد الرابع - ربيع الأول (1423 هـ / 2002 م).

وفي هذا الجو العائلي، المفعَم بالصلاح والعلم والتقوى، ولد الإمام الخضر بنفطة سنة 1873 م، وقضى طفولته الأولى في زاوية جده الرحمانية؛ حيث حفظ القرآن الكريم، وأخذ مبادئ العلوم اللغوية والشرعية على عدد من العلماء والمشايخ، من بينهم: خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز. والإمام الخضر شريف النَّسبين، يتصل نسبه بسيد الوجود سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو: الإمام محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر بن الموفق ابن محمد بن أحمد بن علي بن عثمان بن يوسف بن عبد الرحمن بن سليمان ابن أحمد بن علي بن أبي القاسم بن علي بن أحمد بن حسن بن سعد بن يحيى بن محمد بن يونس بن لقمان بن علي بن مهدي بن صفوان بن يسار ابن موسى بن عيسى بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن عبد الله الكامل ابن الحسين المثنى بن الحسن السبط بن فاطمة الزهراء بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي سنة 1886 م انتقلت عائلة الإمام الخضر من "نفطة" إلى تونس للإقامة الدائمة، وبعد سنة من استقرارها التحق الإمام الخضر بجامع الزيتونة، وهو في الرابعة عشرة من عمره. وفي سنة 1898 م تحصل الإمام الخضر على شهادة التطويع بعد إحدى عشرة سنة قضاها في رياض الزيتونة متقلباً بين علمائها ومشايخها. ولأن أسرته حملت لواء التعليم في منطقة الزاب الجزائري -ولا زالت- والجريد التونسي، فقد فضل أن ينخرط في سلك المدرسين بجامع الزيتونة، وأن يواصل تحصيله العلمي بالمطالعة الجادة. وفي سنة 1904 م أسس مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة عربية تظهر في تونس، التي توقفت عن الصدور بعد سنة من تأسيسها، وبتوقفها

سنة 1905 م تولى الإمام الخضر منصب القضاء ببنزرت، ولكنه استقال منه بعد شهور، وعاد إلى التدريس في جامع الزيتونة، وكأني به خُلِقَ للتعليم، أو خُلِقَ التعليم له. وفي سنة 1906 م أسست (جمعية تلاميذ جامع الزيتونة)، وكان الإمام -رحمه الله- من المؤسسين الأوائل لهذه الجمعية، ولأن الإمام جزائري، فقد كان كثيراً ما يتردد لزيارة الأهل والأقارب، سواء في أثناء إقامته في "نفطة"، أو إقامته في "تونس"، أو غيرهما. وفي سنة 1911 م هاجرت والدته مع إخوته إلى دمشق بسورية، وبعد سنة من إقامتهم التحق بهم الإمام الخضر، مقتفياً بذلك سُنَّة أجداده الذين هاجروا من الزاب الجزائري إلى الجريد التونسي؛ حفاظاً على دينهم، ونشراً لتعاليمه، وإبلاغاً لقضيتهم. وفي سورية تولى الإمام الخضر التدريس بالمدرسة السلطانية، وإلقاء المحاضرات في الجامع الأموي، وغيره من الأماكن المشهورة، كما كان موئلاً للجالية الجزائرية. وفي سنة 1916 م اتهم الإمام الخضر بتعاطفه مع الوطنيين السوريين الذين قاموا ضد نظام الحكم العثماني، فسجن لمدة ستة أشهر، وكاد أن يعدم لولا أن الله سلم، وإثر تبرئته التحق للعمل في وزارة الحربية التركية ككاتب عربي بالآستانة، ثم كلفه الباب العالي بمهام سياسية إلى ألمانيا. وفي سنة 1920 م وجد الإمام الخضر نفسه في ملاحقة فرنسا الصليبية إثر احتلالها لسورية، فما كان منه إلا أن يهاجر إلى القاهرة. وفي القاهرة كان الإمام الخضر يشتعل نشاطاً، ويلتهب حيوية، ومن

بين النشاطات والأعمال التي قام بها، والمناصب التي شغلها: - تأسيس (جمعية تعاون جاليات شمال إفريقية). - التدريس في الجامع الأزهر. - تأسيس (جمعية الهداية الإسلامية). - ترأس هيئة تحرير مجلة "الهداية الإسلامية". - ترأس تحرير مجلة "نور الإسلام الأزهرية". - تعيينه عضواً في (المجمع اللغوي) بالقاهرة، كما عُين من قبلُ عضواً عاملاً في (المجمع العلمي العربي) بدمشق. - تأسيس (جبهة الدفاع عن إفريقية الشمالية). - انتسابه إلى (هيئة كبار العلماء). وأخيراً توّجت نشاطاته وأعماله باختياره لتولي منصب مشيخة الجامع الأزهر سنة 1952 م، فقبل به بعد إلحاح أصدقائه، ووفدِ الوزراء الذي زاره في منزله. ولقد كان -رحمه الله - كما حدثني شيخنا العلامة سيدي أحمد إدريس عبده عن شيخنا العلامة إبراهيم أبو الخشب: خيرَ رجل تولى مشيخة الأزهر. وفي سنة 1954 م قدّم استقالته؛ نظراً لكبر سنه، واعتلال صحته، وقد جاوز عمره الثمانين. وفي يوم 2 فيفري 1958 م انتقل الإمام الخضر إلى جوار ربه عن سن يناهز الخامسة والثمانين سنة، وقد دفئ بالقاهرة في المقبرة التيمورية بوصية منه، فرحم الله إمامنا رحمة واسعة، وألحقه بالذين أنعم الله عليهم. وقد ترك الإمام الخضر آثاراً كثيرة منها الكتب التالية:

- "أسرار التنزيل". - "بلاغة القرآن". - "محمد رسول الله وخاتم النبيين". - "تراجم الرجال". - "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان". - "دراسات في الشريعة الإسلامية". - "رسائل الإصلاح". - "محاضرات إسلامية" - "الرّحلات". - "القاديانية والبهائية" - "الهداية الإسلامية". - "دراسات في العربية وتاريخها". - "دراسات في اللغة". - "الخيال في الشعر العربي ودراسات أدبية". - "نقض كتاب في الشعر الجاهلي". - "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم". - "نظرات في الإسلام وأصول الحكم". - "القياس في اللغة العربية". - "أحاديث في رحاب الأزهر". - "هدى ونور".

ذلكم هو غيث الجزائر، ينزل على ربوع العالم الإسلامي، فينبت القرآن والعلم والجهاد، وتلكم هي منطقة الزاب الجزائري، تسطع أشعتها على الأمة الإسلامية، فتنقلب مضيئة وضاءة.

محمد الخضر بن الحسين

محمد الخضر بن الحسين (¬1) (1873 - 1958 م) عَلَم من أعلام تونس، من أصل جزائري، اسمه في الأصل: محمد الأخضر، ثم غيره إلى محمد الخضر. مصنّف من روّاد الكتّاب الإسلاميين، صار شيخاً للأزهر الشريف، وعضواً في (مجمع اللغة العربية) بمصر. ولد في "نفطة" بالجنوب التونسي في 23 تموز (يوليو). انتقل مع أسرته إلى العاصمة التونسية (1888 م)؛ حيث أتم حفظ القرآن، ثم التحق بالزيتونة، فأخذ عن شيوخها، ومنهم: سالم بوحاجب، وعمر بن الشيخ، ومحمد النجار، وغيرهم. كان محباً للأدب واللغة، ونظم الشعر في المناسبات. أصدر مجلة "السعادة العظمى" (1904 م)، وهي أول مجلة تونسية، امتازت هذه المجلة بالدعوة إلى فتح باب الاجتهاد، واحترام حرية النقد، وحرية التفكير. تولى التدريس بجامع الزيتونة، وحين أضرب هؤلاء لسبب ما، عُدَّ هو المسؤول عن ذلك. ¬

_ (¬1) من كتاب "موسوعة أعلام العرب"، الجزء الأول، بيت الحكمة، بغداد - الطبعة الأولى سنة 2000 م - 1420 هـ، بغداد.

تضايق المتزمتون الرجعيون من سلوكه وأفكاره، فأُبعد عن العاصمة؛ حيث عين قاضياً في "بنزرت" (1905 م). وحدث أن ألقى محاضرة في نادي قدماء الصادقية سنة (1906 م) بعنوان: "الحرية في الإسلام"، فضايقته السلطة الاستعمارية، فاستقال من منصبه القضائي. ثم اجتاز بنجاح مناظرة التدريس من الطبقة الثانية في جامع الزيتونة (1907 م)، فعين بعدها مدرساً بالمدرسة الصادقية. وبسبب كونه من دعاة الجامعة الإسلامية، فقد ذاق مرارة الظلم في مناظرة التدريس من الطبقة الأولى. فرحل بعدها إلى الآستانة، حيث يقيم خاله محمد المكي بن عزوز، وعاد إلى تونس بحراً في (2 كتوبر/ سنة 1912 م)، فمنع من التدريس بالصادقية؛ بحجة تأخره يومين عن افتتاح العام الدراسي بالمعهد، فآثر الهجرة إلى بعض أقطار الشرق، ومعه إخوته الأربعة. زار مصر والشام والحجاز، وبلداناً أخرى؛ كألبانيا، وتركيا، ومعظم دول البلقان، واستقر بدمشق، ومارس التدريس بالمدرسة السلطانية فيها إلى سنة (1917 م). وقد سجنه جمال باشا السفاح بضعة أشهر بتهمة التستر على الحركة العربية السرية المناهضة للأتراك، حوكم، فثبتت براءته مما اتهم به. ثم أرسل في وفد من العلماء إلى ألمانيا مكلفين بمهمة من قبل الدولة العثمانية، ولبث فيها نحو تسعة أشهر، تعلم في أثنائها اللغة الألمانية، وتردد بين برلين والآستانة خلال الحرب العالمية الأولى، ومكث ثانية ببرلين نحو سبعة أشهر، وحين عاد إلى الآستانة، وجدها قد سقطت بأيدي قوات الحلفاء، فذهب إلى دمشق، وفيها الأمير فيصل بن الحسين، فسمي مدرساً في ثلاثة معاهد هي: (المدرسة العثمانية، والمدرسة العسكرية، والمدرسة السلطانية).

وصار بعد ذلك عضواً في (المجمع العلمي العربي) بدمشق. وحين احتل الفرنسيون دمشق في منتصف عام 1920 م - وكان الفرنسيون قد حكموا عليه بالإعدام غيابيًا بتهمة تحريضه المغاربة والتونسيين للثورة على الاستعمار الفرنسي- فرَّ من دمشق، وتوجه إلى مصر، وعُيِّن مصححاً للمطبوعات في دار الكتب المصرية، وهي وظيفة لا تسند إلا للأكفياء. وفي عام 1923 م أسس جمعية (تعاون جاليات شمال إفريقية)، وتولى رئاستها. وتجلى نبوغه حين تصدى للشيخ علي عبد الرازق، حين صنف كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، وادعى أن الخلافة ليست شرطاً من شروط الحكم في الإسلام، فنقضه صاحبنا بكتاب طبع عام 1925 م عنوانه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، فكان مبدأ شهرته. وفي عام 1926 م طلع طه حسين على الناس بكتابه "في الشعر الجاهلي" الذي طبق فيه منهج (ديكارت) في الشك في الشعر الجاهلي، وزعم أن جُلَّه منحول، وأنكر نزول سيدنا إبراهيم بالحجاز -خلافاً للنص على ذلك في القرآن الكريم-, فرد عليه مترجَمنا بكتاب عنوانه: "نقض كتاب الشعر الجاهلي" طبع في السنة ذاتها بمصر، ثم طبع غير مرة، فاستطالت شهرته. ومنح الجنسية المصرية، واجتاز امتحان شهادة العالمية في الأزهر بتفوق، وغدا من مدرسيه في معاهده الثانوية، ثم أستاذاً في كليات الأزهر الشريف. عيّن عضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة (1933 م). وفي عام 1950 م طلب قبوله عضواً في هيئة كبار العلماء، ومن شروطها: تقديم بحث علمي ممتاز، فقدم بحثاً مطولاً عن القياس في اللغة العربية، فقبل بالإجماع.

وكان -قبل ذلك- قد أسس (جمعية الهداية الإسلامية)، وتولى رئاستها، كما تولى رئاسة تحرير مجلة "نور الإسلام"، ومجلة "الأزهر". كما أسس بعد الحرب العالمية الثانية "جبهة الدفاع عن شمال إفريقية" في القاهرة، التي تبنت الدفاع عن قضايا المغرب العربي. وحين قامت ثورة يوليو 1952 م بمصر، سمي شيخاً للجامع الأزهر في أيلول من العام نفسه. وبسبب ما تعاوره من الأمراض التي أنهكت قواه البدنية، استقال من منصبه في كانون الثاني 1954 م. وفي 12 شباط (فبراير) أدركته المنية بالقاهرة، ودفن فيها، ولم يعقِّب، وترك مكتبة نفيسة أهداها لزوجته. من آثاره الأدبية واللغوية: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" (القاهرة 1926 م)، "الخيال الشعري عند العرب" (القاهرة 1928 م)، "القياس في اللغة العربية" (القاهرة 1934 م)، و"خواطر الحياة" ديوان شعر، (القاهرة 1946 م). ومن مؤلفاته الدينية المطبوعة: "أسرار التنزيل"، وفيه تفسير لبعض آيات القرآن الكريم. "تونس وجامع الزيتونة"، وهو مجموعة مقالات جمعها ابن أخيه بعد وفاته مما له علاقة بتونس، وطبع بدمشق (1971 م). "بلاغة القرآن"، وهو مجموعة مقالات نشرت في مجلات مختلفة، جمعها وطبعها السيد علي الرضا الحسيني ابن شقيقه زين العابدين، ونشرها في دمشق (1979 م). و"رسائل الإصلاح"، وهو في عدة أجزاء، نشر المترجَم له في حياته

منها ثلاثة أجزاء، وتتناول جملة كبيرة من بحوثه في الدين والأخلاق، والتراجم والتاريخ، وأصول الفقه، والأحكام العملية، والسيرة النبوية. وقد طبع هذه الأجزاء في القاهرة بدءاً من عام 1938 م. ثم طبعه ابن أخيه بعد وفاته بعد تغيير في ترتيبه: "الحرية في الإسلام" طبع في تونس سنة 1909 م، ثم طبع في تونس -أيضاً- سنة 1972 م ضمن منشورات دار المغرب العربي: "الدعوة إلى الإصلاح" تونس 1910 م، ثم أعيد طبعه منقحاً في القاهرة سنة 1921 م. "طائفة القاديانية" القاهرة 1932 م. "علماء الإسلام في الأندلس" القاهرة 1928 م. و"نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" الذي مر ذكره. وثمة كتاب عنوانه: "تراجم الرجال" تونس 1972 م مجموعة مقالات ترجم فيها لعدد من أعلام الإسلام. كتب عن الشيخ محمد الخضر الحسين كلٌّ من: أحمد تيمور، الفاضل ابن عاشور، حسن حسني عبد الوهاب، أبو القاسم محمد كرو، محمد مواعده، والأخيران خصَّه كلُّ واحد منهما بكتاب يرأسه.

سلالة الشيخ علي بن عمر

سلالة الشيخ علي بن عمر (¬1) هذه السلالة ضمّت في حلقاتها علماء أعلاماً، ومجاهدين، ودعاة أسسوا مساجد وزوايا؛ لبث القرآن والعلوم الإسلامية، ومحاربة الجهل، وإيواء اليتامى وأبناء السبيل، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، ولبعضهم مؤلفات ساهمت في إثراء التراث الإسلامي واللغوي. ولنذكر فيما يلي بعضهم. أنجب الشيخ علي بن عمر عشرة أولاد: أربعة منهم لم يعقِّبوا، وهم: محمد، والطيب، والحسين، والشيخ، وهو آخر إخوته وفاة، وذلك في سنة 1333 هـ. والباقون هم: - الحسن، وقد مات صغيراً. - بلقاسم، الذي اشتهر بالتقوى والورع، والتواضع والصدقات، وهو مدفون بقرب والده، وترك ثلاثة أولاد: محمد، والطاهر، والحاج. - أحمد بن عمر، الذي اشتهر بالعلم، واستوطن تونس، ولما جاء ¬

_ (¬1) من كتاب "أضواء على الطريقة الرحمانية الخلوتية" للأستاذ عبد الباقي مفتاح - كاتب وباحث جزائري.

لزيارة إخوته وزاوية والده، مكث فيها نحو اليومين، وتوفي ودفن بها. وترك أربعة رجال من أعلام العلماء المدرسين: كبيرهم الأستاذ الشيخ المدني، والأستاذ الشيخ الحسن، والشيخ المكي، وعلي، وهو أصغرهم. - إبراهيم، وهو مدفون بالزاوية، وترك ولدين: عبد العالي، وعبد المجيد. - الحفناوي، وهو رجل عالم عامل، تخرج على يديه تلاميذ، وحاز على شهرة عظيمة، توفي ولم يبلغ الخمسين من عمره، ودفن بالزاوية، وترك ثلاثة رجال: العلامة الأستاذ الشيخ الهاشمي، والشيخ المختار، وكبيرهم العلامة الشيخ المبروك، وهو والد العلامة الأديب الشاعر الحاج عبد الله، الذي له قصائد عديدة ممتازة، منها: قصيدته المشهورة في سلسلة رجال الخلوتية، وهي تتألف من 51 بيتاً. - الإمام الشيخ المربي الأستاذ علي بن عثمان، الذي خلف والده على مشيخة الزاوية، وقد توفي عن ثلاث نسوة، وخمسة أولاد، كبيرهم خليفته على الزاوية الشيخ عمر، وخليفته بعده أخوه الشيخ سيدي الحاج، وأخوهما الحسين، الذي اشتهر بالكرم والتواضع، وأصغرهم مصطفى، الذي استوطن مدينة "بو سعادة". - الحسين، الذي تربى عند الشيخ مصطفى بن محمد عزوز في زاويته بنفطة، وبعد وفاة الأستاذ المذكور، قطن ببلدة تونس إلى أن توفي، ودفن بها سنة 1309 هـ، له رسالة مخطوطة عنوانها: "فاكهة الحلقوم في نبذة قليلة من أحوال القوم"، وهي منشورة في كتاب "زاوية مصطفى بن عزوز نفطة تونس"، مع ترجمة وافية لحياته، لعلي الرّضا الحسيني، وله "رسالة لطيفة

في الطريقة"، وله "دقائق النكت". وقد رثاه الشيخ المكي بن مصطفى بن عزوز بأبيات بدأها بقوله: ما ثمَّ موعظةٌ لكلِّ مشاهدِ ... مثلُ المنيةِ وهي أرصدُ راصِدِ خلّف الشيخ الحسين أبناء، أشهرهم: الشيخ زين العابدين، والشيخ الأكبر إمام الأزهر محمد الخضر، والعلامة اللغوي محمد المكي. ومن أشهر أبناء الشيخ: زين العابدين الكاتب الأديب، الشاعر الدمشقي علي الرّضا الحسيني، الذي طبع كافة مؤلفات والده وعمّيه المذكورين، وله دواوين شعر عديدة، ومسرحيات، ومجموعات قصص، وبحوث أخرى، وكتب حول زوايا وعلماء أسرة الشيخ علي بن عمر، منها: - "من أوراق ومذكرات الإمام محمد الخضر حسين". - "من أقوال محمد الخضر حسين". - "الإمام محمد الخضر حسين بأقلام نخبة من أهل الفكر". - "كتابات حول الإمام محمد الخضر حسين". - "صفحات من سيرة محمد الخضر حسين وأخويه زين العابدين ومحمد المكي". - "سيدي الوالد زين العابدين بن الحسين التونسي". - "محمد المكي بن الحسين، حياته وشعره". - "محمد المكي بن عزوز، حياته وآثاره". - "محمد بن عزوز نور الصحراء". - "زاوية علي بن عمر طولقة الجزائر".

- "زاوية مصطفى بن عزوز نفطة تونس". - "أعلام المهاجرين التونسيين: محمد بن يوسف الكافي - صالح الشريف". - "أعلام الهداية الإسلامية". - "صالح بن الفضيل التونسي - حياته وآثاره". - "جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية". - "الطريق إلى القمة: قصة عن ثورة الجزائر". - "رسائل إلى ولدي ماهر". - "من أسبوع لأسبوع". - "المقدمات". - "كتب تونسية مهداة". - "من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة". لكن أشهر أعلام علماء سلالة الشيخ علي بن عمر خارجَ الجزائر هو: شيخ الأزهر الخضر بن الحسين، الذي نقف عند ترجمته في السطور التالية: * الإمام محمد الخضر حسين الجزائري: من أبناء زاويتي "طولقة"، و "نفطة" الإمامُ الأكبر لجامع الأزهر في بداية الخمسينات من القرن العشرين، العلامة المتبحر، الشيخ محمد الخضر الحسين. في العدد الرابع من مجلة "منبر الإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه - " ربيع الأول

1423 هـ، 2002 م، ص 15 - 55، التي تصدر من الزاوية الحملاوية، يوجد مقال للأستاذ أحمد رشيق بكيني حول الشيخ محمد الخضر، نصُّه فيما يلي (¬1): وقد جمع علي الرضا الحسيني بحوثاً من أعداد مجلة "الهداية الإسلامية" قال عنها في آخر كتابه "زاوية علي بن عمر بطولقة وشيوخها"، المطبوع بالدار الحسينية للكتاب في دمشق سنة (1423 هـ، 2002 م): بين يدي وتحت نظري مجلدات مجلة "الهداية الإسلامية" الأربعة والعشرون، أصدرها الإمام محمد الخضر حسين بالقاهرة، بدءاً من الجزء الأول الصادر في جمادى 1347 هـ , وحتى الجزء الأخير في ربيع الثاني 1347 هـ , عشت معها، وراجعتها مدة خمسة وعشرين عاماً أقطف ثمارها، وأستعين بها على جمع وتحقيق تراث الإمام محمد الخضر حسين؛ حيث أديت الرسالة كاملة بحول الله وفضله. وجدت في تلك الموسوعة الإسلامية الكبرى روائع في مختلف العلوم والآداب لكبار العلماء والباحثين ... لذا عزمت وتوكلت على الله -جل جلاله- لإصدارها بكتب تكون في متناول الراغبين فيها. ¬

_ (¬1) المقال المنشور في هذا الكتاب. وحذفناه منعاً للتكرار.

العلامة محمد الخضر حسين التونسي

العلامة محمد الخضر حسين التونسي (¬1) (¬2) العلامة الخضر بن الحسين التونسي المالكي، ولد بتونس، وبها نشأ، وطلب وحصل، ودرس بجامع الزيتونة، ثم هاجر إلى المدينة، فأقام بها مدة، ثم ارتحل إلى بلاد الشام، ثم قدم القاهرة واستوطنها. ودخل لامتحان العالمية الأزهرية على أكبر؛ لينخرط رسمياً في علماء الأزهر، ويوظف مدرساً به، وذلك في سنة أربع وأربعين، فحاز الشهادة الأزهرية، ووظف مدرساً به. وله مؤلفات مطبوعة، وأسس مع جماعة من علماء الأزهر (جمعية الهداية الإسلامية)، وتولى رئاستها، وصارت الجمعية تصدر مجلة باسمها، كان هو المحرر لها، والكاتب بها، وكان يتردد إلى منزلي، ويسألني عما يحتاجه من الأحاديث، ولاسيما أيام تأليفه للرد على كتاب "الإسلام وأصول ¬

_ (¬1) محمد الخضر بن حسين (محمد الأخضر بن الحسين) بن علي بن عمر الحسيني، التونسي مولداً، دفين القاهرة (بتربة صديقه أحمد تيمور) سنة 1377 هـ. انظر: "الأعلام" (6/ 113/ 114)، وكتاب "محمد الخضر حسين حياته وآثاره" تأليف محمد مواعدة. (¬2) من كتاب "البحر العميق في مرويات ابن الصديق" للأستاذ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري - دار الكتبي القاهرة، 2007 م.

الحكم" لعلي عبد الرازق. وأجاز لي إجازة عامة، كما أجاز له خاله (العلامة المطلع الشهير الشيخ) (¬1) محمد (¬2) المكي بن مصطفى بن عزوز، وليس له رواية عن غيره، وهو يروي عن جماعة كثيرة. منهم: محمد أبو خضير المدني، عن أحمد بشارة الشافعي، عن الأمير الكبير. ومنهم: المكي بن الصديق، عن المدني بن عزوز، عن المرزوقي، عن الأمير الكبير. ويروي المدني بن عزوز المذكور عن مصطفى بن عبد الرحمن الجزائري، عن علي بن عبد القادر بن الأمين، عن الشمس محمد الحفني، عن محمد الشرنبلالي، عن الشمس محمد بن علاء الدين البابلي في "ثبته". ومنهم: محمد الشريف إمام جامع الزيتونة، عن محمد بن الخوجة، عن محمد بيرم، عن محمد الهدّي مُحَشِّي الحطاب، عن الحفني بما في "ثبته". ومنهم: علي بن الحفاف، عن محمد صالح بن خير الله الرضوي، ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من "ب". (¬2) محمد المكي بن مصطفى بن محمد بن عزوز الحسني الإدريسي، ولي الإفتاء، ئم القضاء، من مؤلفاته: "الأجوبة المكية عن الأسئلة الحجازية"، و"عمدة الإثبات"، "وتلخيص الأساتذة". ثوفي بالآستانة سنة 1334 هـ. انظر: "فهرس الفهارس" (1/ 4، 2/ 229)، و"الأعلام" (7/ 109 - 110).

عن عمر بن المكي، عن شمهروش، عن أصحاب الكتب الستة: البخاري، ومسلم، والأربعة، وليس لهذا أصل. ومنهم: الشهاب أحمد زيني دحلان، عن عثمان بن حسين الدمياطي، وعبد الرحمن بن محمد الكزبري، فالأول عن الأمير، والثاني عن جماعة، منهم: الفُلّاني، ومنهم: غيرُ هؤلاء من المذكورين في ثبته "عمدة الأثبات". ولما انقلب الحكم بمصر، وتولاه العسكريون، وقضوا على الأحزاب، عزلوا من كان شيخاً للأزهر؛ لدخوله في الأحزاب، ثم لم يجدوا من يتولى المشيخة ممن هو بعيد عن النزعة الحزبية غيرَهُ, فولوه مشيخة الأزهر، فبقي بها نحو سنتين. ولما زرت القاهرة بعد خروجي من الاعتقال سنة ثلاث وسبعين، زرته بمقر المشيخة، ثم لم يبق بعد ذلك إلا نحو ثلاثة أشهر، ثم حصل ما أوجب فصلَه وتوليةَ غيره، ولا يزال حياً إلى وقتنا هذا (آخر سنة ست وسبعين في القعدة منها).

محمد الخضر بن حسين التونسي

محمد الخضر بن حسين التونسي (¬1) (السيد محمد الخضر بن حسين التونسي) المالكي اللغوي، شيخ الجامع الأزهر، الإمام العلامة، البحر الحبر، الصالح الفالح. ولد -رحمه الله تعالى- سنة 1292 هـ في "نفطة" من مقاطعة الجريد بتونس. والده من أسرة شريفة أصلها من الجزائر. وكانت والدته من صالحات النساء، وله فيها قصيدة: (بكاء على قبر)، أنشأها لما بلغه خبر وفاتها سنة 1335 هـ، ووالدُها جده لأمه من أهل العلم والفضل، أبو النخبة: مصطفى بن محمد عزوز، الولي العارف الفقيه التقي، المتوفى سنة 1282 هـ، ترجمه في "شجرة النور الزكية"، و"تاريخ الوزير أحمد ابن أبي الضياف"، وللشيخ إبراهيم الرياحي فيه مدائح شعرية ونثرية. أبو جده لأمه العالمُ العمدة محمدُ بن عزوز المقرئ، أخذ عن والده القراعات والعلوم، ترجمه في "شجرة النور الزكية"، والشيخ الحفناوي بن عروس في "تعريف الخلف برجال السلف". ¬

_ (¬1) من كتاب "تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع" تأليف: محمود سعيد بن محمد ممدوح - دار الشباب للطباعة بالقاهرة، 1984 م.

أما خاله، فهو الإمام الرحلة السيد محمد المكي بن عزوز المالكي، فهو من كبار علماء عصره، اشتهر بالحديث والفقه، والأصول والأدب، مع الصلاح الظاهر، وترى في "فهرس الفهارس" للسيد عبد الحي الكتاني -رحمه الله تعالى- ثناءً كبيراً عليه في المقدمة، وفي ترجمته: توفي في إستنبول سنة 1334 هـ -رحمه الله تعالى-. وترجمه ابن أخيه السيد محمد الخضر، وله قصيدة في رثائه أثبتها في "ديوانه"، وهو من أمنِّ الناس عليه في العلم. وفي سنة 1306 هـ انتقلت أسرته من "نفطة" إلى تونس، وكان قد تلقى بعض المبادئ الشرعية والعربية، وتأدب بأدب الإسلام، فالتحق بجامع تونس الأعظم الزيتونة سنة 1307 هـ، وتلقى العلم عن جهابذة علماء الزيتونة. وفي سنة 1321 هـ حصل على الشهادة العالمية، وطلب منه التدريس، ولكنه أبى، وواظب على حضور دروس مشايخه، منهم: سالم بن عمر بوحاجب، وخاله المكي بن مصطفى عزوز، وصالح الشريف، والمفتي محمد بن عثمان بن النجار، وغيرهم من أكابر علماء الزيتونة. وفي سنة 1324 هـ تولى القضاء بمنطقة "بنزرت"، والتدريس والخطابة بجامعها، ولكنه بعد عشر سنوات ترك القضاء؛ لأن الجمع بينه وبين حياته العلمية صار صعباً عليه، فجلس للتدريس بجامع الزيتونة، وفي المدرسة الصادقية بتونس، واعتنى بالكتب الملحقة بالزيتونة، وقام بترتيبها. وفي أثناء تدريسه كان له عدة محاضرات في أماكن متعددة، دعا فيها إلى طاعة الله تعالى، والوقوف على أسرار أحكام الشريعة المطهرة، ومجاهدة الكفار، واعتنى باللغة العربية اعتناء قلَّ نظيره.

وفي سنة 1329 هـ وُجهت إليه بسبب مهاجمته للكفار تهمةُ العداء للغرب، وأصبح ملاحَقًا، فسافر إلى الآستانة متذرعاً بزيارة خاله المذكور، ثم عاد إلى تونس، ولكنه وجد الأمر كما هو أولاً، فعزم على الهجرة إلى دمشق الشام -حرسها الله تعالى-, فمر في طريقه إليها بمصر، واجتمع بالنخبة المختارة؛ كالشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ حسونة النواوي، والشيخ أبي الفضل الجيزاوي، والشيخ طاهر الجزائري، وصديقه الحميم -فيما بعد- أحمد تيمور باشا، وغيرهم. ولما وصل دمشق، اعتنى بمقابلة العلماء، وتفحص المخطوطات، ودرس اللغة العربية في المدرسة السلطانية بدمشق. وفي سنة 1331 هـ ركب سكة حديد الحجاز لزيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأداء المنسكين، فتم له ذلك، وله قصيدة في هذه الزيارة ذكرت في "ديوانه". وفي أثناء تدريسه للغة العربية في دمشق درس كتاب "مغني اللبيب عن كتاب الأعاريب" لابن هشام الأنصاري، المتوفى سنة 761 هـ بمحضر جماعة من حذاق الطلاب، وكان يرجع في المسائل المتعلقة بالسماع والقياس إلى الأصول المقررة والمستنبطة، فاقترح عليه بعض الطلاب جمعَ هذه المحاضرات، فألف مقالات تشرح حقيقة القياس في اللغة العربية، ومنها ألف كتابه الفذ "القياس في اللغة العربية" المطبوع مرات. وتردد في هذه الفترة ما بين إستانبول ودمشق، وفي أثنائها دخل السجن، ثم أفرج عنه بواسطة أنور باشا. وبعد تدهور الأحوال في الشام، ودخول الكفار، هاجر الشيخ إلى مصر سنة 1329 هـ.

وفي مصر اشتغل بالكتابة والتحرير والدرس، مع المطالعة التي لا تنتهي. ورغب -رحمه الله تعالى- في الانتظام في سلك علماء الأزهر، فتقدم لامتحان الشهادة العالمية -وهو العالم المشهود له بعلمه من العلماء-, فقام على امتحانه لجنة برئاسة العلامة الشيخ عبد المجيد اللبان، وكانت اللجنة كلما اكتشفت آفاق علمه، زادت المناقشة. وتخرج على يديه، واستفاد بعلمه كثير من الحذاق. وفي سنة 1344 هـ كتب رداً قوياً دفع به كتاب "الإسلام وأصول الحكم" سماه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، وفي شهر واحد نفدت طبعته؛ لشدة الإقبال عليها. ثم كتب رداً قوياً على كتاب "الشعر الجاهلي" سماه: "نقض كتاب الشعر الجاهلي". وتسابق أصحاب المجلات الإسلامية إليه للكتابة على صفحاتها، فكتب في مجلات "نور الإسلام"، و"الأزهر"، و"الهداية"، و"الإسلام"، و"الشبان المسلمين"، و"لواء الإسلام". وأسس جمعية إسلامية كبرى اسمها (جمعية الهداية الإسلامية) ضمت العديد من علماء الأزهر. وكان يقضي كثيراً من الليل في محاضرة الشباب وأهل الفضل بأساليبه البليغة السهلة، وتقريره الحسن، وقد جمع الكثير من محاضراته هذه في كتابه "رسائل الإصلاح" الذي طبع في ثلاثة أجزاء. وعندما أسس (مجمع اللغة العربية) بالقاهرة، كان المُتَرْجَم له من

أقدم أعضائه، وكتب في مجلته، وساهم في نشاطه إسهاماً ملموساً، وله بحوث وقصائد في الدفاع عن اللغة العربية، وبيان أسرارها، وعرض جوهرها. وانتخب عضواً مراسلاً بالمجمع العلمي العربي بدمشق. وواصل السيد محمد الخضر حياته في الخطابة والمحاضرات، والكتابة والدرس في حلقات الأزهر وكلياته، فكان يدرس بكليتي أصول الدين، والشريعة، منذ حصوله على العالمية. وفي سنة 1370 هـ نال عضوية هيئة كبار العلماء بالأزهر المعمور برسالة "القياس في اللغة العربية". وعندما وقع الانقلاب العسكري في مصر سنة 1371 هـ , وحُلت الأحزاب السياسية، اختاره قادة الانقلاب شيخاً للجامع الأزهر، فعين فيه يوم الثلاثاء (26 من ذي الحجة سنة 1371 هـ)، ولكنه ترك هذا المنصب بعد فترة؛ ليواصل العكوف على الكتب والكتابة. وفي (13 رجب سنة 1377 هـ) انتقل إلى رحمة العليم الرحمن الرحيم المنان، وفي ظهر اليوم التالي صلي عليه بعد الفريضة في الجامع الأزهر، ومشى في جنازته العلماء من أحبابه، وطلابه المنتسبين إلى العلم، وكانت جنازته كبيرة، حتى بلغ النعش باب الخلق، والموكب متصل بينه وبين الأزهر، ودفن بجوار صديقه البحاثة أحمد تيمور باشا المتوفى سنة 1348 هـ -رحمهما الله تعالى-. وترك عدة من المصنفات ذكرتُ بعضها، وله غير ذلك: "تعليقات على كتاب الموافقات في الأصول للإمام الشاطبي"، و"تعليقات على شرح

التبريزي للقصائد العشر"، و"رسالة في السيرة النبوية الشريفة"، و"رسالة في آداب الحرب في الإسلام". أما مقالاته المتعددة، فهي بكثرة؛ بحيث إن جمعت، زادت عن عشرة مجلدات.

القاديانية

القاديانية (¬1) الندوي - المودودي - محمد الخضر حسين: رابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة - طبعة 1972 م - 130 ص - 16.5 × 11.5 سم. هذا الكتاب يبين حقيقة حركة من الحركات الهدامة في العالم الإسلامي، وهي الحركة القاديانية التي استفحل أمرها في بكستان في مطلع الخمسينات. الكتاب عبارة عن مقدمة، وثلاث مقالات، المقدمة بقلم حسين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية سابقاً، والمقالات هي على التوالي: (القاديانية ثورة على النبوة المحمدية والإسلام) بقلم الأستاذ أبي الحسن علي الحسني الندوي، و (المسألة القاديانية) للمرحوم العلامة أبي الأعلى المودودي، و (طائفة القاديانية) للشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر سابقاً. وهي تستعرض تاريخ القاديانية ونشوءها في مطلع القرن العشرين على يد مرزا غلام أحمد القادياني، وبمباركة الاستعمار الإنجليزي ورعايته، ولذلك كان من جملة ما دعت إليه القاديانية: إعطاء الولاء للإنجليز، وإلغاء فريضة ¬

_ (¬1) من كتاب "دليل مكتبة الأسرة المسلمة" خطة وإشراف عبد الحميد أحمد أبو سليمان - طبع المعهد العالمي للفكر الإسلامي - "فرجينيا" الولايات المتحدة - سنة (1412 هـ - 1991 م).

الجهاد، وقد ادعى غلام أحمد القادياني أن روح المسيح حلّت فيه، وأنه يأتيه الوحي من الله، وأن الله أوحى إليه أكثر من عشرة آلاف آية هي مثل القرآن والإنجيل، وجعل بلدة "قاديان" مدينة مقدسة بعد مكة والمدينة، وفرض الحج إليها، وادعى أن من لا يؤمن به كافر، وحرم الزواج والمصاهرة مع المسلمين، إلى آخر ما هنالك من ضلالات. وقد دعم المؤلفون بحثهم بالنقول الدقيقة من كتب القاديانيين أنفسِهم بما لا يدع مجالاً لأحد لأن يدافع عنهم. وبعد: فالكتاب يعد كتاباً قيماً وافياً، الغرض منه كشف حقيقة القاديانية المارقة الهدامة، ومما يجدر ذكره: أن القاديانيين قاموا بأعمال دموية بشعة ضد مجموعة من الطلبة المسلمين في باكستان عام (1395 هـ / 1975 م)، وأدى هذا العمل في حينه إلى ضجة كبيرة، وردود فعل واسعة، وكان مما تمخضت عنه هذه الردود: اعتبار القاديانيين في باكستان، وللمرة الأولى "رسمياً" أقليةً غيرَ مسلمة، وتم ذلك بعد مناقشات واسعة وساخنة احتدمت في باكستان كلها، وعلى شتى الأصعدة والمستويات. والكتاب مناسب للطلاب المتفوقين في الثانوي، ولطلاب الجامعة ومَنْ في مستواهم.

العلامة السيد محمد الخضر بن حسين التونسي الأزهري شيخ الأزهر (ت 12 رجب 1377 هـ)

العلامة السيد محمد الخضر بن حسين التونسي الأزهري شيخ الأزهر (¬1) (ت 12 رجب 1377 هـ) (¬2) اتصل به (أي: الشيخ محمد ياسين الفاداني)، واستفاد كثيراً، واستجازه له الشيخ محمد الحافظ القاهري، فأجازه لفظاً إجازة عامة بمروياته. * شيوخه: من أجلّهم: خاله المحدث المسند محمد المكي بن مصطفى بن محمد ابن عزوز التونسي، وهو عاليًا عن المعمر محمد أمين النويني الحسيني الشرواني، عن المفتي السيد عبد الرحمن بن سليمان الأهدل بما في ثبته "النفس اليماني"، وعن تلميذه محمد عابد السندي المدني بهما ثبته "حصر الشارد". وروى المكي بن عزوز -أيضاً- عن شيخ الإِسلام حميدة بن محمد ابن الخوجة التونسي، عن أبيه الشمس محمد بن الخوجة، والبرهان إبراهيم الرياحي، وبيرم الرابع، بأسانيدهم. وروى ابن عزوز -أيضاً- عن المعمر محمد فرهاد بن عمر الديزوي ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في "تشنيف الأسماع" (ص 190). (¬2) من كتاب "بلوغ الأماني في التعريف بشيوخ وأسانيد مسند العصر محمد ياسين الفاداني" للأستاذ محمد مختار الفلمياني - دمشق (1408 هـ - 1988 م).

الإسلامبولي، عن أبي القاسم الطرابلسي الأزهري، عن محمد بن صالح البنا الإسكندري، عن زين العابدين جمل الليل، عن محمد بن محمد بن عبد الله المغربي، عن أبيه، عن محمد بن عبد الرحمن الفاسي، بما ثبته "المنح البادية". وروى ابن عزوز -أيضاً- عن السيد محمد دلال اليمني الصنعاني، عن عبد الكريم بن عبد الله أبو طالب، بما فيه في ثبته "العقد النضيد في متصل الأسانيد"، وعن أحمد بن علي الشرعي اليمني، وهو عن القاضي أحمد بن محمد الشوكاني، عن أبيه الإمام القاضي محمد بن علي الشوكاني، بما ثبته "إتحاف الأكابر". وروى ابن عزوز -أيضاً- عن العلامة السلفي أحمد بن إبراهيم بن عيسى السديري النجدي، عن عبد اللطيف بن عبد الرحمن النجدي، عن أبيه. وروى ابن عزوز -أيضاً- عن محمد صالح بن محيي الدين اللاذقي، عن عبد القادر بن عمر الحبال الزبيري، عن الشيخ أحمد بن شنون الحجاز الحلبي، عن الشمس محمد الكزبري الأوسط، بما في "ثبته". وروى ابن عزوز -أيضاً- عن شيخ الجماعة بتونس أبي حفص عمر بن الشيخ، وعن إمام مسجد الباشا بتونس محمد بن أحمد الشريف، كلاهما عن الشاذلي بن صالح التونسي. وروى ابن عزوز -أيضاً- عن أبي العلاء إسماعيل حقي بن إبراهيم الزعيمي المناستيري، عن أبي المحاسن يوسف ضياء الدين أفندي، الإستانبولي، عن حافظ سيد أفندي، عن أسعد المعروف إمام زاده، عن عثمان أفندي، عن مفتي بعلبك الشيخ هبة الله بن محمد بن يحيى، بما في "ثبته".

وروى ابن عزوز -أيضاً- عن الشيخ محمد المكي المرزوقي، عن الشيخ محمد المدني بن عزوز، عن الشيخ مصطفى الكبابطي، عن علي بن الأمين، عن محمد الأمير الكبير، بما في "ثبته" الشهير. وروى ابن عزوز -أيضاً- عن الشيخ محمد نور أفندي أمين الفتوى بالآستانة، عن محمد أمين المعروف بشهري حافظ، عن محمد أفندي الفوزاني، عن مصطفى القونوي، عن الحاج محمد بن مصطفى اليغليجوي، عن قره خليل القونوي، عن أبي سعيد الخادمي، عن والده مصطفى الخادمي، عن الشيخ الأركلوي، عن الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، بأسانيده، وهذا سند عجيب وغريب.

أعلام مصر والعالم. . . لوديع فلسطين

أعلام مصر والعالم. . . لوديع فلسطين (¬1) من أعلام المغرب محمد الخضر حسين ذكره بلا صورة ص 126، وأحال إلى الصفحة 999؛ حيث قال عنه: "شيخ الجامع الأزهر، تونسي الأصل، ولد سنة 1876 م وتوفي سنة 1958 م، تولى مشيخة الأزهر في مصر، وانضم إلى عضوية مجمع القاهرة في بداية تكوينه. وهذه الترجمة ليس فيها من مؤلفاته أي كتاب، وفيها أمران بارزان من حياته، وكثير منها أحداث بارزة: توليته مشيخة الأزهر، وتعيينه في المجمع عند تكوينه. وأكتفي هنا بالإضافات التالية: أ - سجنه السفاح جمال حاكم الشام، وكاد يعدمه. ب - حكم عليه الاستعمار الفرنسي غيابياً بالإعدام في نهاية الحرب العالمية الأولى. جـ - ولد في "نفطة" (جنوب تونس)، وتعلم في الزاوية، ونبغ في تونس قبل أن يهاجر إلى الشرق. ¬

_ (¬1) من مقال منشور في جريدة "الحرية" (الملحق الثقافي) العدد 720، الصادر في 13 مارس 2003 م. وتناول كاتب المقال كلّاً من: جوهر الصقلي، وعبد الكريم الخطابي. وأخذنا منه ما يتعلق بالإمام محمد الخضر حسين.

د - له أكثر من 40 كتاباً مطبوعاً، منها: ديوان شعر. هـ - من أشهر كتبه: ردّه عام 1925 م على كتاب "الإِسلام وأصول الحكم " لعلي عبد الرّازق، وردّه المتزن عام 1926 م على طه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي"، الذي حذف منه فصلاً، وأعاد طبعه باسم: "في الأدب الجاهلي". و- تولى رئاسة تحرير خمس مجلات مصرية، منها: مجلته "الهداية الإِسلامية" الناطقة شهرياً باسم الجمعية لمدة ثلاثين عاماً. ز - هو أول من أنشأ مجلة في تونس عام 1904 م باسم "السعادة العظمى". ح - كان العضو الأيمن للمجاهد محمد عبد الكريم الخطابي، كما ساعد الحبيب بورقيبة عام 1945 م على لجوئه إلى القاهرة. وكذلك فعل مع غيره، خاصة محيي الدين القليبي. ط - كان يحب بلده "تونس"، ويدافع عنه، ولم تنقطع كتاباته عنه. وكذلك رسائله إلى رجاله وعلمائه، وخاصة صديق حياته: محمد الطاهر ابن عاشور. أبو القاسم كرّو

تونسي ثائر في ثورة عبد الناصر

تونسي ثائر في ثورة عبد الناصر الشيخ محمد الخضر حسين الذي قال لعبد الناصر بالصوت العالي: "لا" (¬1) ولد الشيخ بنفطة يوم 23 جويلية 1873 م، وبها نشأ، وتذوق طعم الأدب، فحاول نظم الشعر وهو في الثانية عشرة من عمره. انتقل مع أسرته إلى تونس سنة 1888 م؛ حيث أتم تعليمه الابتدائي، والتحق بجامع الزيتونة، فأحرز على شهادة التطويع سنة 1898 م. وأصدر مجلة "السعادة العظمى"، فتضايق بعض المدرسين، ورجال المجلس الشرعي من أفكاره التحررية فيها، فأُبعد عن العاصمة، وسمي قاضياً ببنزرت، لكنه عاد إلى جامع الزيتونة بنجاحه في مناظرة التدريس من الطبقة الثانية. وقام برحلات متعددة، وزار دمشق مراراً، ولما أصدرت عليه فرنسا حكماً بالإعدام غيابياً في أثناء قيامه بتحريض المغاربة عامة، والتونسيين خاصة على الثورة ضد الحكم الفرنسي، توجّه إلى مصر، وهناك وضع عصا الترحال، واستقر بها يدرس ويحاضر، ويدخل في معارك فكرية كبرى، إلى أن أحيل على التقاعد سنة 1950 م. ¬

_ (¬1) مجلة "الصريح"، العدد 343 الصادر في (10 جمادى الأولى 1422 هـ - 31 جويلية 2001 م) - تونس.

ولما قامت الثورة المصرية، سمّي شيخاً للأزهر في يوم الأربعاء من شهر سبتمبر 1952 م. وتقول بعض الوثائق: إنه لما ولي الخطة، كتب استقالته بخط يده، وأمضاها، وترك تاريخها فارغاً، وسلمها لكاتبه الخاص وهو يقول: "هذه أمانة بين يديك، أكمل تاريخها يوم أن تراني قد تركت الحق، وسرت في طريق الباطل، ولا تراجعني". ويقول التاريخ وهو يشهد له: إن الرئيس جمال عبد الناصر كان يهابه، ويقدّره، ولما أصدر عبد الناصر يوماً قانوناً يتنافى مع الشريعة الإِسلامية، لم يطلب الشيخ موعداً لزيارة عبد الناصر لمراجعته، وإنما كلمه هاتفياً، وهو يصيح ويغضب لله، ولشرع الله. فما كان من عبد الناصر إلا أن اعتذر له، ووعده بإلغاء القانون توّاً، وقد فعل. ولما أحس الشيخ بمرضه، وعجزه عن مواصلة الأمانة، استقال سنة 1954 م، وتوفي في 12 فيفري سنة 1958 م. السلامي

27 - كتابات حول الإمام محمد الخضر حسين

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (27) «كِتَابَاتٌ حَولَ الإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة من خلال البحث العلمي الجادّ، والجمع والتحقيق لآثار الإِمام محمد الخضر حسين طوال مدة تربو عن عشرين عاماً، كنت أجد بين يدي كتابات لمفكرين وباحثين ورجال صحافة منشورة في الجرائد اليومية، والصحف والمجلات الأسبوعية والشهرية، وفي المصنفات والكتب، تتحدث في مسيرة الإِمام ومراحل حياته. تحفظت على تلك المقتطفات والمنتخبات بين أوراقي في المكتبة، وأنا أحرص عليها حرص البخيل على ديناره، وأعود إليها من حين لآخر، فأجد ورقاتها في ازدياد، حتى إذا تجمعت في سِفر، نادتني الأمانة العلمية أن أخرجه إلى النور. لم تكن الغاية من نشر هذه الكتابات في كتاب، ووضعها تحت نظر القارئ، التطلع إلى المزيد من الشهرة للإمام، أو الافتتان بعبارات الثناء المرصعة، والمدائح البليغة، وهو أبعد من عرفنا من أهل العلم عن السعي وراء الإطراء والأضواء طوال حياته المباركة. ولم يكن المرمى من إخراج الكتاب المفاخرة والمباهاة بكلمات التعظيم التي خطتها أقلام الكاتبين في مصنفاتهم المجموعة، فهي كلمات لا تزيد في صحيفة الإنسان عند ربه. وإنما هي الأعمال تنطق بعظمة صاحبها، وهي القول

الفصل يوم الحساب. المراد الذي نرجو ثواب النفع به: أن يستفيد الدارس والمحقق والمؤرخ من التراجم والبحوث، ويجدوا بغيتهم التي يسعون وراءها، وعندما تحصل الفائدة العلمية، فهي الغاية والرجاء من هذا الكتاب. من الواضح في هذه التراجم: التشابه البعيد في السرد والعرض، وتكرار الوقائع والأحداث بين ترجمة وأخرى، لا سيما الحديث عن الولادة والنشأة، والدرجات العلمية، والإقامة والترحال، وتعداد المؤلفات إلى الوفاة. لا بد للكاتب الذي يخوض في البحث العلمي ليترجم علماً من الأعلام أن يتطرق بإيجاز أو إطالة إلى مراحل الحياة، ومن خلالها يتعرض إلى الأفكار والآراء، ويبث دراسته التي قصدها في مقاله أو كتابه. إن هذا الكتاب "كتابات حول الإمام محمد الخضر الحسين" تعبير عن مطالعات كَتَبتِها، وأنظارهم وآرائهم التي ارتأوها في مسيرة الإمام عِلمًا وعملاً، وجهادًا شاقًا من أجل رسالة الإسلام، وإعلاء كلمة الله في المعمورة. ولا يعني بالضرورة قبولنا بكل ما ورد فيها من أقوال -ولنا وجهة نظر خاصة- ولكن قدمناها على حالاتها للتاريخ والمعرفة والأمانة العلمية. واكتفيت بذكر بعض التعليقات الموجزة في الهامش لا بد منها. وطريقتنا في تقديم الكتاب: إيراد البحوث والمنتخبات حسب تواريخ صدورها، وذكر أسماء الكتّاب، وبيان المراجع التي أخذنا عنها من الصحف والمجلات والكتب، وتدوين كل ذلك في الهوامش ومطالع كل فصل. وأدرجنا في أواخر الكتاب: (النشرة الأدبية لجمعية شباب الخضر بن الحسين النفطي)، بعض أبوابها؛ خدمة للتراث، وإحياء لتلك النشرة التي تمثل

وفاء تونس لعظمائها، وبالخصوص أبناء مدينة "نفطة". جدير بي، ولزامٌ علي في هذا الموقف، أن أشيد بالكلمات الطيبة الطاهرة التي تلقيتها من السادة العلماء والكتَّاب، وتلامذة الإمام، والباحثين والجامعيين خلال قيامي بالواجب الديني في جمع ونشر هذا التراث الرائع. ربنا تقبل أعمالنا خالصة لخدمة الإسلام، والحمد لله أن جعلنا من المسلمين، والحمد لله على نعمة الإسلام. علي الرّضا الحسيني

باقات شعر مهداة إلى الإمام محمد الخضر حسين

باقات شعر مهداة إلى الإمام محمد الخضر حسين (¬1) شعر: علي الرضا الحسيني باقات شعري مهجتي فيها ... وإلى الإمام (الخِضْرِ) أرويها وعلى مقام الطهر أنثرها ... مقرونة بوفاء مهديها مهما نظمت قصائداً تتلى ... فأنا المقصّر لستُ أوفيها في القلب حبٌّ لا تُصوِّرُهُ ... كفٌّ ولو بلغتْ مراميها * * * وفاء (¬2) وفاؤكَ لا يُماثِلُه وفاءُ ... وعزْمُكَ لا يُكافِئُه الثَّناءُ هو الإخلاص لا يدريه إلا ... رجالٌ في طبائعهم إباءُ وما قبْرُ (الإِمام الخضْرِ) شمساً ... ولكنْ فيه تَسْتلقي ذُكاء (¬3) ¬

_ (¬1) أبيات من الشعر نظمتها بمناسبات مختلفة في الإمام محمد الخضر حسين، ونشرت في ديواني "تونسيات"، وديواني "بثينة". (¬2) ديوان "تونسيات" - أبيات نظمتها بمناسبة زيارة الوزير الأول في تونس المرحوم السيد الهادي نويرة لقبر الإمام في القاهرة باحتفال رسمي. (¬3) ذكاء: الشمس.

وليس مُقامُه في مِصْرً إلَّا ... دليلٌ أن تونُسَنا عَطاءُ تَباهى الأزْهَرُ المعمورُ فيه ... وللإسلامِ في (الشَّيخِ) ارْتقاءُ * * * في المرسى (¬1) وفي (المرسى) (¬2) دُعِينا للعَشاءِ ... فأكْرِمْ بالديارِ وباللقاءِ أَعَدْنا ذِكرياتٍ خالداتٍ ... ومِنْ عهدِ المحبةِ والإخاءِ هُنا (البحرانِ) (¬3) قد فاضا عُلوماً ... هنا (القَمَرانِ) (¬4) في أسنى ضِياءِ كذا تسري المودَّةُ من جدودٍ ... إلى الأحفادِ في أجلى صَفاءِ * * * جامع الزيتونة (¬5) وقْفتُ عند مَنارِ الدّينِ أسْألُه ... يا منبعَ النّورِ أينَ العلْمُ والأَدبُ؟ أين الشُّيوخُ بناةُ المجدِ ما صَنعوا ... أين (ابن عاشورَ) أين (الخِضْرُ) والشُّهبُ (¬6) ¬

_ (¬1) دعيت إلى العشاء في قصر آل عاشور بالمرسى. وتذكرت صداقة الإمامين الكبيرين، فقلت الأبيات بالمناسبة. (¬2) المرسى: ضاحية من مدينة تونس على البحر، يقطن بها آل عاشور. (¬3) البحران: الإمام محمد الخضر حسين، والإمام محمد الطاهر بن عاشور. (¬4) القمران: كناية عن الضياء المشع من وجهي الإمامين. (¬5) إن جامع الريتونة قلعة إسلامية أنجبت العديد من العلماء، وله الفضل الأكبر في استقلال تونس ودول المغرب العربي. نظمت الأبيات في إحدى زياراتي للجامع الأعظم. (¬6) الإمام محمد الطاهر بن عاشور والإمام محمد الخضر حسين.

ما باله أظلَم المِصْباحُ من وَهَنٍ ... ودمعةٌ من ذرى المحرابِ تَنْسكِبُ؟! يا وَيْحَ نفسي على الإِسلام ينهَشُهُ ... نابٌ ويعبَثُ في (الزيتونة) العَطَبُ لن يهدمَ الشَّرُّ أبراجاً مشيدةً ... على الفضيلةِ أو تمضي بها النُّوَبُ وطفْتُ في قلعة الإيمانِ أُخبِرُها ... أنَّ البقاءَ لها ما عَاشتِ العربُ تونس - جانفي - كانون الثاني 1978 م * * * بهجة الإسلام (¬1) يَسْقيكَ مِنْ عِلْمِ الألى أكواباً ... وُيريكَ من سحرِ البيانِ عُجابا فَذٌّ حوى كلَّ العلومِ بصَدْرِه ... ثمَّ ارتقى في العالمين شِهابا في كلِّ فنِّ قولُه موسوعةٌ ... وبِطُرفَةٍ يُملي عليكَ كتابا فسَلِ المنابرَ هَلْ علاها مثلُه ... وتملّكَ الأسماعَ والألبابا؟ بحرٌ من الايمانِ غابَ قرارُهُ ... يهديك من درِّ الحديثِ صَوابا طودٌ من العرفانِ يسكبُ حكمةً ... في كلِّ أرضٍ تعْشَق الآدابا يا بهجةَ الإسلامِ فوقَ جبينهِ ... كمْ ذا فتحتَ إلى المعارف بابا وكشفتَ عن وجه الشريعة غُمَّةً ... وأزحتَ عن تاريخها الأَوْصابا هذا هو (الخِضْرُ الحسينُ) بفضلِه ... طربتْ دمشقُ وصفَّقتْ إعجابا ¬

_ (¬1) ديوان "بثينة". قيلت بمناسبة إحدى زيارات الإمام محمد الخضر حسين لمدينة دمشق.

ماذا أقول؟ (¬1) لمّا دنا ومددْتُ مِنْ شوقي يدي ... للقائِه أحسَسْتُ قلبي في اليدِ صافحتُ كفّاً أبْدَعتْ وتفنَّنتْ ... بصياغةِ الدُّرِّ النّفيس الجيِّدِ جمعَ الفصاحةَ والبلاغة والحجى ... والصِّدْقَ في قلمٍ أَبِيٍّ أَصْيَدِ أمّا الوفاءُ فإنَّهُ من أهْلِهِ ... وسيوفُه عن حَقِّها لمْ تُغْمَدِ وافى كتابُكَ شامخاً فضممْتُه ... من بعْدِ تقبيلِ الغِلافِ الأمجدِ وتلوتُه وأعدْتُ منه تلاوةً ... وسعدتُ بالبحثِ الفريدِ الأوْحدِ ماذا أقول؟ لقد هتفتُ مُنادياً ... بُشراكِ تونسُ بالأديب (محمَّدِ) * * * مشيخة الأزهر (¬2) يتساءلونَ هناكَ ما الخَبَرُ؟ ... لما بَدا في الجامِعِ القمرُ وتهامَسوا في كلِّ زاويةٍ ... وتصايحوا وتطايرَ الشَّررُ مِنْ تُونسُ الخضْراءَ صاحِبُها ... بالعِلْم والإيمانِ يأتَزِرُ ما آزَرَتْهُ قبيلة كثُرَتْ ... أفرادُها حتى ولا مُضَرُ ¬

_ (¬1) ديوان "تونسيات". أهداني الأستاذ الأديب التونسي محمد مواعدة كتابه القيم "محمد الخضر حسين حياته وآثاره"، فنظمت إليه هذه الأبيات. (¬2) ديوان "بثينة". - عندما استلم الإمام محمد الخضر حسين مشيخة الأزهر، قامت ضجة في صفوف الفجار الذين لا يعترفون أن الأزهر لجميع المسلمين، ونظمت الأبيات.

جاءتْه طَوْعاً من فضائلهِ ... لا الأهلُ لا الأنصارُ قد نصَروا * * * أم المشاهير (¬1) ما أقربَ اليوم بالأمْسِ الذي التقيا فيه ... الحفيدانِ في روضاتِ عاشورِ إنيّ أرى (الطَّاهرَ) المبرورَ مُنْشرحاً ... يعانِقُ (الخِضْرَ) في عُرْس من النُّور يحقُّ واللهِ للخضراء إن فَخَرَتْ ... بالفرقدين أضاءا كُلَّ دَيْجورِ لو أن تونسَ لم تُنْجِبْ حرائرُها ... إلّا هما لغَدَتْ أمَّ المشاهيرِ * * * دمشق ترحب بالأمام محمد الخضر حسين (¬2) مَرْحَبًا بالإمامِ يُكْرم جِلَّقْ ... فتعالى بها الإباءُ وحَلَّقْ وتغنّى في دَوْحها كلُّ شادٍ ... وانْتشى القلبُ باللّقاءِ وصَفَّقْ في عيونِ الجميع تلقى سَلاماً ... وابتساماً على الشّفاهِ ورَوْنَقْ مرحبًا بالإمام خيْرِ إمامٍ ... بكَ قلبي من الرَّجاءِ تعلَّقْ * * * ¬

_ (¬1) ديوان "بثينة". - بين الإمامين محمد الخضر حسين ومحمد الطاهر بن عاشور أخوة كانت مضرب الأمثال في تونس. وقد اجتمعت في المرسى بالحفيد الصديق الدكتور عياض بن عاشور عميد كلية الحقوق مرات عديدة. (¬2) ديوان "بثينة". أبيات نظمت في إحدى زيارات الإمام لمدينة دمشق.

الوسام (¬1) شَرُفتُ وزاننَي ذاك الوسامُ ... وفي الصدْرِ الرَّحيبِ لهُ مُقامُ كفاني أنَّ تُونسُ كرَّمَتْني ... وتونسُ كلُّها الأهْلُ الكِرامُ وما نِلْتُ الذي فاخَرْتُ فيه ... وصاحِبُهُ هُوَ (الخِضْرُ) الهُمام وللخِضرِ الحُسينِ تطيبُ ذِكْرى ... بُطولاتٍ يُسطِّرُها حُسامُ لَهُ التَّكْريمُ في الدُّنيا وحقّاً ... بصَدْرِ (الخِضْرِ) يفْتَخِرُ الوِسامُ حمى عن تونسُ ولها تَنادى ... وشُقِّقَ عندَ طَلْعتِه الظَّلامُ تقلَّبَ في بلادِ الله غازٍ ... مِنَ (الخضراء) تدْعوهُ (الشَّآمُ) وفي (استنبول) ناضلَ في ثباتٍ ... وفي (برلينَ) عَزْمٌ لا يُضامُ وحطَّ رِحالَهُ في (مِصْرَ) طوداً ... من الإيمانِ ظلَّلَهُ الغَمامُ أتاه الأزهرُ المعمورُ يزهو ... بمشْيَخَةٍ ترأَّسَها الإمامُ فقلَّدَ تونسَ الخضراءَ تاجاً ... وأوسمةً تحارُ بِها الأنامُ وكَمْ أنجَبْتِ تونُسُ من عظيمٍ ... حَكَتْهُ الشمسُ والبَدْرُ التمامُ لزينِ العابدينَ مزيدُ شُكْرٍ ... وللخِضْرِ الحُسَيْنِ لَهُ السّلامُ ¬

_ (¬1) ديوان "بثينة". منحني السيد الرئيس زين العابدين بن علي رئيس الجمهورية التونسية وسام الجمهورية، وقلدني إياه في حفل بقصر قرطاج العامر بتونس في (23 ربيع الأول 1417 هـ - 7 أوت آب 1996 م) نظراً لما قمت به من جمع وتحقيق تراث الإِمام محمد الخضر حسين وغيره من رجالات تونس. وإن السيد الرئيس قصد تكريم الإمام بوضعه الوسام على صدري.

الإمام محمد الخضر حسين (¬1) هذا الإمامُ (محمدُ الخِضْرُ) الذي ... هزَّ السيوف وسدَّدَ الأقلاما فهو الفتى والكهلُ والشيخُ فَسَلْ ... عنه المنابرَ واسأل الأيّاما في كل ميدان أتاه مُجلِّياً ... رفعَ الأذانَ وحطَّمَ الأصناما (ابنُ الحسين) وابْنُ سيدة النَّسا (¬2) ... من أرضَعَتْهُ لبانَها إسلاما نسبٌ إلى شرف النبوة ينتمي ... أَكرِمْ به نَسَباً زكا إلهاما دع أصلَهُ وصفاتِه وانظرْ إلى ... أمجادِهِ تروي لكَ الإِقْداما * * * الإمام محمد الخضر حسبن (¬3) ألا إنّ الإمام الخِضْرَ بحْرٌ ... وفي أعماقِه الدُّرُّ الثمينُ حباهُ اللهُ فِكْراً عبقرياً ... وقلباً فيه إخلاصٌ متينُ تناهَتْ كلُّ مكْرُمةٍ إليهِ ... وأشرقَ من معارفه الجبينُ تصدىّ للضَّلالِ بسيْفِ حقٍّ ... وينصرُهُ على الأعداء دينُ ¬

_ (¬1) ديوان "بثينة". أبيات قلتها في مقدمة كتاب "الإمام محمد الخضر حسين بأقلام نخبة من أهل الفكر". (¬2) والدته السيدة البارة المرحومة حليمة بنت سيدي مصطفى بن عزوز التي أشرفت على تعليم الإِمام في طفولته، ومن الشهيرات بالتقى والصلاح. ولدت بتونس سنة 1270 هـ، وتوفيت بدمشق سنة 1335 هـ. (¬3) ديوان "بثينة".

الشجرة المباركة

الشجرة المباركة (¬1) يعرّف شهودُه الأجلَّ الأمثل، الأمجد العلامة الأفضل، والفهامة الأمثل، صدر المدرسين، وعمدة البلغاء المدققين، وافتخار العلماء الراسخين، الذي جمع شمل العلوم ونسق نظامها، ورفع منار الإفادة وضاعف إعظامها، منهج منهاج العلوم، وجمع جوامع المنطوق والمفهوم، وإرث العلم كابراً عن كابر، الحائز من الكمالات ما قصرت عنه عقول الأكابر، المشار بالتعظيم إليه، والمفرد المتفق بالثناء عليه، أصيل الجدَّين، وشريف النسبين، الشيخ محمد الخضر بن الحسين بن علي بن أحمد بن عمر بن أحمد بن علي بن عثمان معرفة صحيحة تامة، ويشهدون مع ذلك بأنهم لا زالوا منذ نشؤوا وعقلوا يسمعون سماعاً فاشياً مستفيضاً جارياً على ألسنة الثقات من أهل العدل وغيرهم إلى أن حصل لهم العلم بذلك، وقام عندهم مقام اليقين؛ كوجود مكة المكرمة، والمدينة المنورة -زادهما الله تشريفاً وتعظيماً -. فإن الأجلَّ الشيخ محمد الخضر المذكور شريف النسب، إدريسي حسني من أحفاد الولي الصالح الشيخ سيدي علي بن عثمان المذكور، وإن نسبه المذكور متصل بالجناب الرفيع سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم -، ومشهور بذلك بين ¬

_ (¬1) النسب النبوي الشريف للإمام محمد الخضر حسين، والكتابة مأخوذة عن الأصل المحفوظ في مكتبتي.

الناس، وحائز للنسب المذكور، لا يعلمون من طعن عليه في ذلك، كل ذلك في علمهم، وعليه أدوا شهادتهم هنا مسؤولة منهم لسائلها، بالإذن من مولانا الإمام مرجع الخاص والعام، نعمة الله تعالى في هذا الزمان على الأنام، قدوة المحققين، وفخر العلماء الراسخين، إذا أتعب راحته بقلم الفتيا، أراح أرواح أهل الدنيا، تضحك ببكاء أقلامه الطروس، ويري في صورة خطوطه حظوظ النفوس، مفرد الزمان، إلا أنه قائم مقام الجمع، والمستغرق أوصاف الإنسان، عند كل منطق وسمع، أوحد العلماء الأعلام، الشيخ سيدي محمد بيرم مفتي الأنام، لا زالت أقلام الفتوى مشرّفة ببنانه، والأحكام الشرعية موضحة ببيانه، تلقى منه مشافهة بتاريخ يوم الإثنين سادس صفر الخير من عام واحد وثلاثين وثلاثمائة وألف، والثالث عشر من جانفي سنة ثلاثة عشر وتسعمائة وألف. واتصال نسب الشيخ المشهود فيه أعلاه، وسلسلة أجداده الأخيار، هو أنه الشيخ محمد الخضر بن الحسين بن علي بن أحمد بن عمر بن الموفق ابن محمد بن أحمد بن علي بن عثمان بن يوسف بن عمران بن يوسف بن عبد الرحمن بن سليمان بن أحمد بن علي بن أبي القاسم بن علي بن أحمد ابن حسن بن سعد بن يحيى بن محمد بن يونس بن لقمان بن علي بن مهدي ابن صفوان بن يسار بن موسى بن عيسى بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر ابن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن فاطمة الزهراء بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. شهد به: المكرم الأجل العلامة الشيخ الصادق النيفر، الشريف - معروف.

شهد به: المكرم الأجل الفقيه الخير الشيخ عبد الحميد بن باديس - معروف. شهد به: المكرم الأجل الفاضل المختار ابن المنعم الشيخ محمد التولة - معروف. شهد به: المكرم الأجل الخير محمد ابن المنعم العلامة عبد القادر البغدادي - معروف. شهد به: الأجل الفقيه العلامة الشيخ قدور بن حمودة باصوم - معروف. شهد به: الأجل الخير التالي كتاب الله عبد القادر بن إبراهيم الشريف - معروف. شهد به: الأجل الأمثل المرعي الأمين ابن المنعم العلامة إبراهيم بوعلاق - معروف. شهد به: الأجل الفقيه النبيه الشيخ محمد بن صالح شُهر بوصبع الورتتاني - معروف. شهد به: الأجل الفقيه النبيه الشيخ أحمد ابن الحاج بلقاسم الشعنبي - معروف. شهد به: الأجل الخير محمد عبد النبي أمين القوطاجية - معروف. شهدبه: الأجل الخير المسن عمر ابن المرحوم أحمد العتكي، به شهر - معروف.

شهد به: الأجل الخير المسن الحاج الطاهر ابن الحاج عباس - معروف. شهد به: الأجل الخيرّ الخذار ابن المرحوم إبراهيم الرياحي - معروف. شهد به: الأجل الأمثل شقيقه عبد اللطيف الوكيل الرسمي - معروف. الحمد لله: يعرف شهيداه الشهود المذكورين أعلاه كالمعرفة أعلاه، ويشهدان مع ذلك بأن كل واحد منهم عدل رضيّ ممن تُقبل شهادته، وترضى أحواله، ويعمل بها شرعاً كل ذلك في علمهما، وعليه أديا شهادتهما هنا مسؤولة منهما لسائلهما بالإذن والتاريخ أعلاه. شهد به: الأجل الأمثل الخير محمد ابن المرحوم علي شهر بن فدير. شهد بذلك: الأجل الأمثل العفيف الطيب ابن المنعم محمد الأكبر بوخريص - معروف نفسه. الحمد لله: حرر شهادة الشهود المذكورين أعلاه أصلاً وتزكية، وقبلها منهم بالإذن والتاريخ أعلاه فقير ربه محمد بن الحبيب المكي. ختم 20 في العشرين من صفر الخير عام أحد وثلاثين وثلاثمائة وألف.

الحمد لله: وبمثل ما شهد به الشهود أعلاه يشهد فقير ربه، الراجي حسن عقباه، الصادق المحرزي -لطف الله به-. الحمد لله: وبمثل ما شهد به الشهود المذكورون أعلاه يشهد فقير ربه علي بن رمضان. يشهد العاقد ثبوت وصحة النسب الطاهر لفضل صاحبه المشار إليه أعلاه، فقير ربه علي خليفة -وفقه الله تعالى-. وبمثل ما نظمته الشهادة أعلاه يشهد فقير ربه أحمد بن عبد الله العياري -لطف الله به-. أما بعد: حمداً لله تعالى الذي أطلع في سماء النبوءة المحمدية نجوم عرفانها، وأسنى من أنوارها ما يقصر الشكر عن عظيم شأنها، والصلاة والسلام التأمين الأكملين على الذات الشريفة المحمدية، وعلى أهل البيت المطهر، والأصحاب أهل الشرف الأقعس الأطهر, فقد طالعت هذا الرسم المتضمن نسب السادة المحررة أسماؤهم في مضمونه، الساطعة أنوار نسبهم في غضونه، وعلمت أنه أخذ من الثبوت حقه، مفيد حق الإفادة مستحقه، لا سيما وواسطة ذلك العقد، المبرء من الوصم والنقد، الفاضل الاكمل الأرضى الزير الشيخ محمد بن الخضر بن الحسين. فقد أتم الله عليه النعمة بشرف النسب، إذ حظي به بشرف العمل المكتسب، أفاض الله على الجميع سجال كرمه، وختم للجميع بالحسنى،

وبوأنا بفضله المقام الأسنى. آمين. واعلم بذاك من يشهد على هذا الرقيم العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد الشريف، نقيب السادة الأشراف- أخذ الله بيده، في يومه وغده-. آمين. في 30 ربيع الأول، وفي 26 فيفري سنة 1331 هـ - 1913 م. * الحمد لله الذي جعل النسب المحمدي أكرم الأنساب، ونظم العترة الطاهرة في سلك المقربين والأحباب، وأجلُّ الصلوات وأكمل التحيات من المولى الوهاب، لمختاره المرسل رحمة عامة لأولي الألباب، وآله وصحبه الحائزين به من المفاخر اللباب، المفتوح لهم من أبواب الفوز أعظم باب. أما بعد: فقد قرت العين برؤية هذا العقد الثمين، الذي جواهره في أصداف السؤدد الأسنى، وفروعه كأصوله أهل المناقب الحسنى، فأكرم بمن خصه الله بهذا الانتساب العالي، وألبسه حلل العلم والفضل والمعالي، فرع زكي من هاته الشجرة المباركة الطيبة الثمار، التي لها في روض الصحة والقبول أتم قرار، ألا وهو العالم المسيب، الخلاصة الأريب، المدرس الشيخ السيد محمد الخضر بن الحسين، ولا جرم أنه حق على كل مسلم تعظيم هؤلاء السادة وودادهم، وهل جزاء من هم أمان لأهل الأرض إلا إكرامهم وإسعادهم. نسأل الله الكريم المتعال، أن يقدر لنا الفوز بحبهم في الحال والمآل، والسلام. حرره فقير ربه مصطفى بن الخوجة المفتي الحنفي بتونس في ربيع الأنور 1331 هـ * الحمد لله الذي خص العترة النبوية بمزيد الاحترام، وبسط لهم من

فضله موائد الإكرام، وجعلهم أمان الأرض، وظل وارف من رواقه بالطول والعرض، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى، مصباح السؤدد الذي لا يقضى ولا يطفى، وعلى آله وأصحابه، وكل من تحلى بآدابه. أما بعد: فقد تيمنت بهذا الرسم المبارك الذي أثبت لصاحبه النسب الشريف، وأوجب له من الفضل التليد والطريف، بلغه الله إسعاده، ورزقه الحسنى وزيادة، وأعاد علينا من بركة آل البيت الطاهر، ما يستفيد منه الباطن والظاهر. آمين. حرره الفقير إلى ربه تعالى محمد الطيب النيفر، المفتي المالكي بالمملكة التونسية -وفقه الله تعالى- في 9 شعبان الأكرم سنة 1331 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فقد تيمنت بمطالعة هذا النسب الصحيح الثابت بالبينة أعلاه، وأشهد بما شهدت به هذه البينة، وأنا فقير ربه محمد الأزهري بن مصطفى بن عزوز، خادم الطريقة الرحمانية، وشيخ الزوايا العزوزية بتونس، وكتب في شعبان 1331 هـ. * الحمد لله على نعمه التي لا تعد، ومننه التي لا تحد، والصلاة والسلام على رحمة الله للعالمين، وعلى آله وصحبه وتابعيهم إلى يوم الدين. أما بعد: فقد تشرفت بمطالعة هذا النسب الشريف، شامخ القدر المنيف،

وما احتوى عليه من قلائد الفخر، عبيقة النشر، والشمس لا تحتاج لبرهان، والحق لا يخفى على العيان، والعبد الحقير أشهد بما شهدت به البينة أعلاه بالشهادة بالسماع الشائع على ألسنة الثقات وغيرهم منذ نشأنا إلى ساعة التاريخ. حقق الله لنا هذا الانتساب بجاهه عند الله. آمين. كتبه ببنانه فقير ربه أحمد الأمين بن المدني بن عزوز- لطف الله به في سائر أحواله، وأدام له بأحسن حال نعمة الجيرة بالنبي وآله- آمين. 8 في شوال المبارك سنة 1331 هـ المدرس بالحرم النبوي. الحمد لله: * بعد ما تشرفت بهذا النسب الشريف، المشتهر ذكره بين الخاص والعام، شهدت بما شهدت به تلك البينة، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وأنا الفقير إلى ربه محمد المصطفى بن التارزي بن عزوز، التونسي، المدرس بالحرم النبوي بالمدينة المنورة -زادها الله تكريماً- في 8 شوال سنة 1331 هـ. الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى: وبعد: فقد تشرفت بالاطلاع على هذه الشجرة المباركة، شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وأشهد بما شهد به الشهود أعلاه شهادة بلا ريب. نشأنا على سماع اتصال هذا البيت بالحضرة المحمدية نسباً فاطمياً ثابتاً، ينطق به كل لسان، ويعتقده كل جنان. يتحدث به كل صادر ووارد من العلماء والأشراف والعامة وغيرهم. لا أسمع إلا ذلك منذ عرفت اليمين من الشمال

إلى وقتنا هذا، فعلى الواقف عليها أن يعرف مقام صاحبها بالاحترام؛ لاتصال نسبه بسيدنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، مع ماله من الفضل والعلم، والعقل والحلم، كَثَّر الله من أمثاله في الإِسلام. كتبه محمد المكي بن عزوز، مدرس التفسير والحديث في دار الفنون بالآستانة -وفقه الله، ومنحه رضاه-. بتاريخ 11 ذي القعدة الحرام سنة 1331 هـ بخير من دعا الورى ... إلى الصراط الأقومِ وآله أهلِ التقى ... والشرفِ المسلَّمِ أسلك مسالكَ الرضا ... بأحمدَ بنِ بيرمِ قاله وكتبه عبد ربه أحمد بيرم، شيخ الإِسلام بتونس في 24 أشرف ربيعي سنة 1331 هـ بِسْمِ اللهِ الرَحَّمَنِ الرِحَّيمِ * بعد حمده تعالى، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، ولمن لآل بيته والى. وبعد: فقد اطّلعت على هذه النسبة الحسنية الشريفة لصاحبها الصديق الصادق العالم النحرير السيد الشيخ محمد الخضر من أشراف تونس الغرب، وعين علمائها وفضلائها، ونزيل دمشق الآن. وقد حازت هذه العائلة الكريمة شرف العلم والنسب. وقد يحق لها الافتخار بهذا النسب المصدق عليه من

علماء أبرار، وسادة أخيار -نفعني الله برجاله وأهله-. كتبه الفقير لله -عز شأنه- محمد أديب تقي الدين الحصني الحسني نقيب السادة الأشراف بدمشق بِسْمِ اللهِ الرَحَّمَنِ الرِحَّيمِ * يا ربنا لك الحمد حمداً يوافي نعمك، ويكافئ مزيدك، لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد أنبيائك ورسلك، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار. وبعد: فقد أطلعني صديقنا الأخ بالله الشيخ الأجل الفاضل الأمجد العالم الأوحد الشيخ محمد الخضر على هذا النسب الشريف، والعقد اللطيف، المتصل بسيد الرسل الكرام، عليه وعليهم أفضل صلاة وأتم سلام. فقرّت برؤياه العين، وزال عن القلب الغين، فجزاه الله خير الجزاء في هذه الدنيا وفي الأخرى. ونفعنا بهم جميعاً. آمين. كتبه الفقير محمد أبو الخير عابدين، الحسني الدمشقي مفتي دمشق الشام بِسْمِ اللهِ الرَحَّمَنِ الرِحَّيمِ أما بعد: حمداً لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. فأقول: إني قد تشرف ناظري، وابتهج خاطري، بالاطلاع على نسخة

هذا النسب الشريف، المحتوي من الطهارة على ما لا يحاوله الخيال الطريف، فتأثر منه مشام القلب لبروق أنواء التونسية في دمشق الشام، وصقل منها العارضان، فكأنما سُقي سقي البشام. أسأل الله العظيم، بحرمة نبيه الكريم، أن يثفعني وإياه من بركات رجاله العظام، أئمة الدين وأساطين الإسلام. قاله أقل الأنام: محمد أسعد صاحب زاده، العثماني نسباً، الخالدي النقشبندي طريقة ومشرباً بِسْمِ اللهِ الرَحَّمَنِ الرِحَّيمِ * الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه. وبعد: فقد أطلعني الصديق العزيز والأخ في الله فضيلة الأستاذ الشيخ زين العابدين بن الحسين الحسني شقيق المرحوم الأستاذ الشيخ محمد الخضر ابن الحسين بن علي الحسني شيخ الجامع الأزهر على هذا النسب الشريف المتصل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فابتهجت به نفسي، وقرت به عيني. وأسأل الله الكريم أن يجزيه خير الجزاء، وينفع به المسلمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين. نقيب أشراف الشام الفقير محمد سعيد الحمزاوي 12 صفر 1396 هـ

بِسْمِ اللهِ الرَحَّمَنِ الرِحَّيمِ * الحمد لله الذي جعل نسبة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فوق كل نسب، واختار المختار من أشرف العرب. وبعد: فإني قد تشرفت بهذه السلالة الطاهرة النبوية، والعترة التركية الحسنية - أمدنا الله بمددهم الرباني، والفيض الرحماني، وحفظهم وتولاهم، وأطال تعالى في الإِسلام تشريفهم -. آمين آمين. كتبه العبد الفقير في باب الله محمد عيد السفرجلاني، عفي عنه. آمين بدمشق الشام الشريف. ربيع الأول

تهنئة للإمام محمد الخضر حسين بتوليه القضاء في مدينة "بنزرت"

تهنئة للإمام محمد الخضر حسين بتوليه القضاء في مدينة "بنزرت" (¬1) * الإمام محمد الطاهر بن عاشور: أيها السادة الأعيان! ويا أيها الصديق النحرير! إذا تنازع العقل والوجدان، افتقرت اللغة، وضاق البيان، فالوجدان يقنع النفس بما تجده محضراً، والعقل يصرفها إلى غب الشيء وفائدته المرجوة. وأنا الآن تتجاذبني قوتان بجاذب متضاد: أراني فيها ميتهجاً مسروراً بارتقاء صديقنا النحرير، واسطة عقد جمعنا في هاته الليلة النيرة، على حين أجدني -مهما تذكرت لازم هذا الارتقاء؛ من مبارحته نادي أنسنا - أسِفاً على بُعد من أبعته نفسي، واتخذته صديقاً خالصاً منذ سبع سنين. ولكني أغالب وجداني، وأجمع حافظتي، وأزجر لساني، فأغلّب السرور على الأسف، وكذلك ينتصر أحد الخصمين على قِرنه متى قامت الحجة. ¬

_ (¬1) أوراق مخطوطة بخط الإمام محمد الطاهر بن عاشور تتضمن الخطاب الذي ألقاه مساء يوم 15 ربيع الثاني 1323 هـ في داره بالمرسى من الضواحي الشمالية لمدينة تونس، بمناسبة تولية الإمام محمد الخضر حسين القضاء في مدينة "بنزرت". وهذه الكلمة تمثل مدى سمو وصفاء الصداقة بين الإمامين - رضوان الله عليهما -.

وهذا احتفالنا الآن يمثل انتصار العقل على الوجدان، فلنا أن نعتبره رسمًا محسوساً يشخص معنى فلسفياً علياً. ما كان للعقل أن ينتصر على وجداننا القوي، لولا تجلي المستقبل من خلال هذا الارتقاء باسمًا عن نتائج علمية، وأريج ثناء تفخر به الفيئة الأدبية (وربما غُلب القوي بابتسامة تملك لبّه) سيظهران للعيان في استقامة وكمال صديقنا هذا، اللذين لم يزالا مجهولين عن كثير من الذين لم يبتلوا أخلاقه، كما يجهل شذى العنبر من لم يختبره. وقد عرفت الحكومة من صديقنا هذا، وعرف الناس منه، بما جاءت مجلته العلمية العظمى (¬1)، التي أنشأها في السنة الماضية من البرهان على أن في الطبقة العلمية العربية التونسية، المتهمة بالبعد عن الشعور بالحاجات القومية، رجالاً يقتاد الواحد منهم الأفكار، ويأتي بالآيات والأعمال الكبار. هكذا جعل رفيقنا هذا بمجلته لهاته الفيئة اسماً شهيراً في النهضة، وهو اليوم يرفع شأن أهل التحرير في أعين من يسوء ظنهم فيه؛ إذ يرون كافة ثقة الحكومة، لهذا أسهم بواحد من رجال القلم .. وهو بذلك ثاني رجل في الإِسلام ارتقى من دور التحرير إلى مقام الخطط الشرعية، ولعلكم تعرفون أن الأول هو الأستاذ الشهير الشيخ محمد عبده. عجباً لناموس الارتقاء كيف تأخذ نظائره بأيدي الاتحاد، فتنتاب الأفكار كما تنتاب الأمم والأفراد. ¬

_ (¬1) إشارة إلى مجلة "السعادة العظمى" التي أصدرها الإمام محمد الخضر حسين بمدينة تونس.

لقد مضى حين من الدهر على مرسى "بنزرت" الجميلة المنيعة، كانت تعد مع الأخريات، فلما أتاح لها حكم القدر أن يعتني بها المعتنون، فتكون من أشهر المراسي الحربية على ساحل البحر المتوسط، وأن تصبح كما هيّأتها الخِلقة من المملكة التونسية على صورة العين من رأس الفتاة العربية (¬1). استدعت نباهتها السياسية إصلاح حالها المدنية، وابتدأت بإصلاح قضويتها؛ لأن القاضي هو سوط عدل الله يرفع على الظالمين؛ حتى يُصلح الناس أجمعين. وعسى أن يقوم من شذى الثناء على صديقنا في تلكم الأصقاع، ما تفاخر به بقية البقاع، فتهرع كلها تطلبه إلى وظائفها وتنصاع. أريد أن أختم قولي، فألتمس منك أيها الصديق المخلص، أن تتقبل مني أبيات أملاها عليّ الضمير، على بُعد ما بيني وبين الشعر: قسماً بإحساس المودَّة بيننا ... أكَّدتُ في ملأ من الأحباب لَسرورُ ساعات تذكِّر أُنْسَكُم ... في النفس أحلى من نَوال طِلاب والآن قُدِّر أن يشطّ مزارُنا ... حتى يعوَّض جمعُنا بكتاب ولتلك في قلب الصديق حزازةٌ ... ما هي دون نوافذ النشّاب لكنَّ للعدل المضيَّع دعوة ... تقضي علينا بامتثال جواب فاهنأ بهذا الارتقاء وكُن به ... مَثَلَ الفضيلة مظهرَ الإعجاب ¬

_ (¬1) أردت الإشارة إلى هيئة المملكة من الخريطة، فإنها تشبه فتاة عربية مادّة يدها للشرق، وبنزرت منها بمكان العين من الرأس شمالاً. "هذا التعليق للإمام محمد الطاهر بن عاشور في المخطوط".

وإليك أيها الصديق تحية طيبة، تصحبونها معكم؛ لتذكركم وداداً لا يفنى وإن طال الزمان، وتفارقت الأبدان (¬1). (توقيع الإمام محمد الطاهر بن عاشور) ¬

_ (¬1) وفي نهاية المخطوط، دوّن الإمام محمد الطاهر بن عاشور بخطه هذه الكلمات: "خطاب ألقيته على مأدبة ودل الشيخ النحرير محمد الخضر بن حسين، إذ تعين قاضياً ببنزرت في يوم السبت مساء 15 ربيع الثاني 1323 بمنزلي بالمرسى، وبحضور طائفة من الأعيان، ومن رجال القلم والعلم". (توقيع الإمام محمد الطاهر بن عاشور)

الملحق

الملحق (¬1) ينتظر السادة الحاضرون ما سألقيه على هذا البساط من العبارات في تهنئة صديق الجميع بولايته خطبة القضاء. وبودي لو تستنزل الدراري، فأنظمها في جِيْدِ مديحه عقداً، أو تكون لي قدرة على تجسيم ألفاظ الهناء، وترصيعها بالجواهر واليواقيت. أو في الأقل أكون ذا براعة في صوغ البيان، واستجلاء عرائسه البديعة للعيان، حتى أظهر من المعاني الشعرية ما يكون لها التسلط على شعور الشاعر وذوق الأديب. أقول هذا, ولا أرى محيصاً عن إظهار ما يضمه الفؤاد من صور المسرّة، وما ترسمه فيه من أشكال الانشراح. فإن أحسن ليالي أيامي، هاته الليلة التي وقفت بها أمام صديقي هذا مهمماً له بهاته الخطة الشريفة، بعد أن ترقبناها من الزمان، ورجوناه تغيير رسوم أخلاقه الموقوفة على الشح والبخل. ¬

_ (¬1) ضُمت إلى الأوراق المخطوطة بيد الإمام الطاهر بن عاشور، ورقة بخط الأستاذ عبد الملك بن عاشور، وهو أخو الإمام، تضمنت بعض الأقوال التي وردت على لسان الإمام محمد الطاهر في الحفل، وأثبتناه بنصها.

ورجائي منك أيها الصديق، أن تغفر زلاته، وتغلب الآن حسناته على سيئاته، وتتقبل من ودودكم الهنا، فقد نيل المنى (¬1). ¬

_ (¬1) العبارات أعلاه، وقع سردها على مائدة وداع، أعدها أخبرنا الشيخ سيدي الطاهر ابن عاشور بمناسبة ولاية صديقنا الشيخ سيدي محمد الخضر بن الحسين خطبة القضاء ببنزرت - في 15 ربيع الثاني عام 1323. (توقيع عبد الملك بن عاشور)

التهاني التدريسية

التهاني التدريسية (¬1) الشاعر صالح السويسي القيرواني أنعم ببشرى بها طير الهنا صدحا ... والقلب من طرب قد صار منشرحا أنعم بخطة تدريس بها ابتهجت ... نفس الذي عن طريق الحق ما برحا قد حازها (الخضر) الراقي بهمته ... صرح المعالي بحزم للسما نطحا يا (ابن الحسين) رعاك الله من رجل ... عنه الثناءكمسك في الورى نفحا أنلتَ كلَّ صديق من ولايتكم ... كأس المسرة حتى قلبه طفحا لله درك من فرد به بزغت ... شمس العلوم ومن إيمانه رجحا والمرء إن حسنت منه سريرته ... نال الكمال وحاز الخير والمنحا فاهنأ بخطة علم أنت بهجتها ... واسعد بفضلك ما زند النُّهى قدحا ¬

_ (¬1) جريدة "المعارف" العدد 23 الصادر في 22 جمادى الثانية 1325 هـ - أوت آب 1907 م - تونس. وجاء في مقدمة القصيدة تحت عنوان: (التهاني التدريسية): اتصلنا بقصيدة رائقة في تهنئة صاحب الفضيلة والكمال، العالم الأديب الشيخ سيدي محمد الأخضر بن الحسين المدرس الثاني بجامع الزيتونة الأعظم لإحرازه على منصب التدريس المشار إليه. نظم عقدها الثمين فضيلة الأديب السيد صالح السويسي القيرواني. (ولم تنشر هذه الأبيات في ديوان الشاعر المطبوع).

تهنئة الأدباء

تهنئة الأدباء (¬1) محمد الطاهر بن العربي النفطي جميل التهاني في جليل الرغائب ... لعمرك عن مثلي من إحدى الضرائب ويجدر بي أن لا أرى متغاضيًا ... متى اهتزت الأعطاف من كل جانب ليجري نفسي فوق طرسي محبّراً ... ويهتف لُسْني في إقامة واجب وأشدو برنّات الثنا وضروبه ... لكي أجعل الأذواق صيد مطالبي كما اصطادها ذاك الهمام وقد غدا ... به مُيَّلَ الأكوار وفدُ المناصب توزع ذكراً عند بادٍ وحاضرٍ ... فبين أنوفٍ نشره وذنايب أهنيكم (يا ابن الحسين) بما تلى ... وإن لم أكن فذاً فلي أجر صائب وقلت أهنيكم وإن كنت مخطياً ... حذارك أن تعتدّها من مثالبي ¬

_ (¬1) جريدة "المعارف" العدد 24 الصادر في 29 جمادى الثانية 1325 هـ - 8 أوت آب 1907 م - تونس. وجاء في مقدمة القصيدة: "اتصلنا بالقصيدة الآتية تهنئة لأستاذ العلم والأدب الشيخ سيدي الخضر بن الحسين بمناسبة ارتقائه لخطة التدريس. نظم عقد دررها الثمينة الأديب الكامل السيد محمد الطاهر بن أبو بكر بن العربي النفطي المتطوع بالجامع الأعظم. وخدمة للعلم والأدب ننشرها بنصها مع الافتخار على صفحات "المعارف".

وإلا صواب القول أهني وظيفكم ... بكم وأهالي الجامع المتطارب على أنني أهني الأنام بأسرهم ... خصوصاً بني الآداب زهر المراكب وذلك لما أعربت أن بيننا ... لواء التساوي مستحث الكتائب رعى الله أعلاماً رعوا حرمة لِما ا ... دّخرت فمازوك امتياز الأقارب أما سمعوا استدلالك الصبح واضحاً ... وقولك صبحاً كاشفاً عن غرائب وليس ذوو التمييز غيرهم وإن ... يجزهم فمن أهل الحجا في المغارب وما أنت إلا فوق ما أمّلوا بها ... وهل بخسوا يوماً حقوقاً لطالب نهضت مكبّاً للمعالي مزاحماً ... وذاك بأطراف النهي لا المناكب وعزّزت مجد الجَدِّ بالجِدِّ سالكاً ... حُزون الثنايا معضلات العواقب وما زال هذا دأبك الدهر دائماً ... إلى أن خفضت النجم غب نواصب فتِي خطّة أمَّتك عن وجا ... ألمَّ بها من قبل تثقيف ثاقب أتتك تجر الذيل معلقة بما ... يليها بُعَيدٌ عند نشر الذوائب تطوَّلْ عليها بالقبول وجلِّها ... كأبهى مهاة حليها بالترائب بدرسك للآداب درساً مشرفاً ... لنا عن بسيط وافر متقارب فنأتيك منها والعِياب مجفَّف ... ونرجع من مغذاك بجر الحقائب فلولاك لم ندرِ المبرّد كاملاً ... ولولاك لم يونق يتيم الثعالبي ومن مفصحٌ عن ثعلب وفصيحه ... إذا أنت لم تبد الصفي لصاحب وهل أنسوا من مؤنس أو تقلدوا ... قلائد عقيان وحنّوا لراغب وإني أرى لابن الحسين مواقفاً ... يسلمها لابن الحسين كواهب متى ردَّ طرفاً في لآلئ نظمكم ... يعضُّ بناناً حيث فاه بعائب

رحلة مفتي القيروان الشيخ محمد الجودي

رحلة مفتي القيروان الشيخ محمد الجودي (¬1) وكان ممن اجتمعت به بالشام: الأخ العزيز الفاضل، العالم العامل، الشيخ سيدي الإمام محمد الخضر بن الحسين، كان من المدرسين بجامع الزيتونة، وهاجر إلى الشام، ورتب بمدرسة أسست لمدة نحو شهر، وجعل له في المرتب ما يساوي مئة وسبعين فرنكاً، وهي مدرسة تشتمل على عشرة أقسام، تزاول حفظ القرآن العظيم، والعلوم الشرعية والطبيعة. وكان من المعلمين بها أخوه الشيخ زين العابدين، له في المرتب ما يساوي مئة وثلاثين فرنكاً. وقد زرناها، فوجدناها في غاية الاتساع والانتظام، وبوسط صحنها خصة وحوض كبير، وهو يتدفق ماء، وبيوتها علوية وسفلية، وبوسط الصحن ¬

_ (¬1) رحلة مفتي القيروان الشيخ محمد الجودي المتوفى سنة 1943 م إلى الحج وبلاد الشام. نسخة خطية في كراس بخط المؤلف. بمكتبة الأستاذ إبراهيم شبوح. وقد زودني مشكوراً بورقات مصورة عن المخطوط، والتي تتعلق بالإمام محمد الخضر حسين، والشيخ محمد الجودي التميمي القيرواني (1278 - 1362 هـ = 1861 - 1943 م) مسند وفقيه ومؤرخ، نشأ في القيروان، وله عناية بالتاريخ والتراجم والبحث عن الكتب النادرة، زار الديار المقدسة للحج ثلاث مرات، وزار دمشق. من مؤلفاته: "تاريخ قضاة القيروان".

جنينة مغروسة أشجاراً، يتنزه بها التلامذة عند خروجهم للراحة. واجتمعنا بمديرها، واسمه محمد كامل القصاب، وهو رجل في غاية الرياضة واللطافة، وله معارف جمة على الطراز الحديث، فتلقانا بأحسن الملاقاة، وفرح بنا كثيراً، وقدم لنا القهوة. وكان ممن اجتمعنا به مع الشيخ الأخضر، إخوته: الشيخ الجنيد، والشيخ العروسي، وأخوهم الشيخ المكي معلم بالمدرسة العثمانية الدمشقية، والشيخ حسونة ابن أخيهم، وزرنا هاته المدرسة صحبة الشيخ العروسي، وتلقانا مديرها بالترحاب والإكرام، وعرفنا، وفرح بنا فرحاً شديداً، وهو الشيخ محمد كامل القصاب، رأسها السيد محمد كامل القصاب، ومديرها أحمد جودت المارديني، وأستاذ العلوم الدينية السيد محمد الحمصي، ومدرس الأخلاق الشيخ إبراهيم رمضان، وأستاذ القرآن اثنان هما: الشيخ محمد الحلواني، عبد القادر السرداني، وأستاذ العلوم العربية سليم أفندي الجندي، ومحمد أفندي البزم، ومحمد المكي بن الحسين التونسي أخ الشيخ الأخضر، وأستاذ الرياضية عبد الغني أفندي المحملجي، وكذا الطبيعيات، وأستاذ الرياضية واللغة الفرنساوية درويش أفندي القصاص، أستاذ التاريخ توفيق بك البساط، اللغة الفرنساوية مصطفى أفندي كاظم، والجغرافية واللغة العثمانية الأمير فايز الشهابي، حسن الخط والرسم موسى أفندي الشلبي، وسليم أفندي الحنفي، والتركية والفقه محمد أحنف الحقفي، والأعداد والحساب أفندي الحمصي، ومبادئ القراءة والكتابة توفيق أفندي، وأستاذ الرياضة البدنية وناظر المدرسة رضا أفندي الحلو. وعرض علينا أربعة من أصغر التلامذة، لا يتجاوز سن الواحد سبعة

أعوام، وناولني مصحفاً، وقال: عين لهم مكاناً يقرؤون منه، ففتحت المصحف، فأول ما رأيت: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58} فناولته أحدهم، فقرأ قراءة تدبر مع حسن أداء، وإعطاء مخارج الحروف حقها، ثم سئل عن معاني الألفاظ، فأجاب بأحسن جواب، ثم سئل عن معاد الضمائر وإعراب الكلمات، فأجاب كذلك، لم يتلعثم في جوابه، ثم وقف أحدهم، وسرد قصيدة المعري التي منها: وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل مع إشارة حسية بيده، وإعراب لكل ما سئل عنه من الأبيات، وبيان المعاني؛ بحيث أني شاهدت ما يبهر العقل من الأجوية الحاضرة على صغر السنن" ثم أذن لهم بالذهاب، فقاموا بآداب، وودعونا، وخرجوا. ثم دعا أربعاً من قسم أعلى منهم، فأتوا بما هو أرقى، وكانت القراءة في المصحف من قوله تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف: 16] , فبينوا، وأعربوا، وفسروا المعاني بأحسن تفسير، ثم سئلوا عن الجغرافية، فأجابوا عن القطر المصري والأفريقي ومن احتله، ومن جملة ما ذكر عن تونس: أن جميع الدول صادقت على الاستعمار، إلا الدولة العثمانية فلم تصادق. ثم سئلوا: هل يمكن للإسلام عود شبابه؟ فأجابوا: نعم، يعود باتباع ما جاء به الشرع، والاتحاد، فسئل عن الدليل، فأجاب بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. ثم قام أحدهم، وسرد قصيدة حماسية، تبعث النفوس على الشهامة وعلو الهمة، ثم أذن لهم بالانصراف بعد أن سقاهم المدير القهوة، وخرجوا بالآداب كالأول. واستأذنا بالخروج، وقام المدير مشيعاً لنا لباب المدرسة.

وأخبرنا الشيخ الخضر -لما أعلمناه بما ذكر- بأن ما وقع من إكرامنا لم يقع لغيرنا، وأن عادته إذا أتى أكبر كبير، يذهب معه للأقسام، ويقول له: سل عما شئت، ولا يعرض للوافد، ولا يشيعه، وكان ذلك في يوم الأحد المذكور. وفيه زرنا العلامة النحرير، فريد عصره الشيخ بدر الدين، عالم البلد بدار الحديث، التي كان بها الإِمام النووي وغيره، وهي مدرسة كبرى، فوجدنا الشيخ ببيت منها، وهو رجل مسن عليه علامة الصلاح، وحوله كتب، وهو يتدفق علماً، فسأل سي العربي بسيس عن أحوال المسلمين مع الدولة الحامية، فأجابه بأن الشعائر مقامة على أحسن ما يكون، وأنهم أحسن من غيرهم في الدول الأجنبية، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: روينا بالسند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحب في الله، والبغض في الله من الإيمان"، ثم سألته أن يجيزني، فأجابني إلى ذلك. واستدعانا الشيخ الخضر للعشاء بداره، وحضر معنا إخوته وابن أخيه، وذكر لنا أنه لما ذهب إلى المدينة المنورة في رمضان، أنشأ قصيدة في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووعدني بإعطاء نسخة منها، وذكر أنها نشرت بالجرائد الشرقية، والتمستها منه ليسلم لي الجريدة التي فيها. وجرت بيننا مذاكرات أدبية، وأنشدنا بيتين، ذكر أن رجلاً أتى إلى صلاح الدين الأيوبي بمروحة، وقال له: هذه هدية لم ينلها أحد من أسلافك، ولا من الملوك، فغضب صلاح الدين، فقال له: اقرأ ما بها، فإذا بها منقوش: أنا من نخلة تجاور قبراً ... ساد من فيه سائرَ الناس طرّا

شملتني سعادة القبر حتى ... صرت في راحة ابن أيوب أُقرا فسرّ بذلك، وأجازه. وذكر أن الشيخ سالم بوحاجب قرأ بين يدي الملك الناصر بأي تونس "فتح المتعال في مدح النعال" للمقري، وكان بخط الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي، فأنشأ بيتين على هذا المثال لم يستحضر إلا الثاني، وهو: شملتني سعادة الخط حتى ... صرت في كف ناصر الدين أُقرا وقد اجتمعت بمجلس مولانا العالم سيدي محمد أمين السفرجلاني بمسجد السنجقدار بتلامذته الأفاضل ذوي الأخلاق الحسنة الطيبة: سيدي الحاج محمود رمضان الدمشقي، وسيدي الحاج محمد الشرايبي، وسيدي الحاج علي بن سعيد حافز، والسيد رسلان الرفاعي، وسيدي كمال بن مصطفى الإِمام، والشيخ إبراهيم بن مصطفى العطري. وفي يوم الاثنين من 22 صفر، زرنا مقام القطب الغوث سيدي محيي الدين، ورأينا بتابوته بيتين: قبر محيي الدين ابن العربي ... كل من لاذ به أو زاره قضيت حاجاته من بعدما ... غفر الله له أوزاره وبأركان القبة الأربع: إنما الحاتمي في الكون فرد ... وهو غوثٌ وسيدٌ وإمام إن سألتم متى توفي حميداً ... قلت أرخ (مات قطب همام) مولده سنة 560 - وفاته سنة 638 وبلصق ضريحه شريح ابنه سيدي عماد الدين جوفيه، وجوفيه ضريح

ابنه الآخر سيدي سعد الدين. وتوفي هذا الثاني المجاهد عبد القادر بن محيي الدين وعلى قبره: لله أفق صار مشرق دارتي ... قمرين هلا من ديار المغرب الشيخ محيي الدين ختم الأوليا ... قمر الفتوحات الفريد المشرب والفذ عبد القادر الحسني الأمير ... قمر المواقف ذا الولى ابن النبي من نال من أعلى رفيق أرخوا ... (أزكى مقامات الشهود الأقرب) في 19 رجب سنة 1300 هـ وكان الذي بالمقام السيد محمد سليم الأكرمي الدمشقي، وابن عمه الشيخ مصطفى، وبعد زيارتنا للشيخ محيي الدين، زرنا ضريح الشيخ عبد الغني النابلسي، وهو بيت لطيف فيه قبره، وقبليه بيت صغير به قبر ابن ابنه سيدي مصطفى النابلسي، وأبو مصطفى إسماعيل بن الشيخ عبد الغني، والبيتان بوسطه مسجد جامع خطبه. وبعد زياراتنا للمقامات المذكورة، توجهت مع الفاضل الكامل سيدي العروسي بن الحسين لحضرة الأستاذ سيدي بدر الدين، واستلمنا منه الإجازة التي وعدنا بها، ووجدناه يقرئ في "مختصر السعد على التلخيص" في مذهب الاستعارة بالكتاب على مذهب الجمهور، والسكاكي، بأحسن تقرير مع رياضة تامة. وكان من الحاضرين بدرسه الشيخ عبد الرحمن (¬1) .. ¬

_ (¬1) انتهت الأوراق المصورة من الرحلة، والمرسلة لي.

نقض كتاب "الإسلام وأصول الحكم"

نقض كتاب "الإسلام وأصول الحكم" (¬1) منذ عام تقريباً ظهر في عالم المطبوعات كتاب، كان لما تضمنه واشتمل عليه من آراء ونظريات، له مظهر فاتن، وباطن مظلم، فانخدعت بالمظهر عقول، ونفذت إلى الباطن عقول، فاحتدم الجدل، وثارت عاصفة وعاصفة، إحداهما تناقش الكتاب من الوجهة الدينية، والأخرى تحاسب المؤلف من الوجهة السياسية. واشتدت العاصفتان حتى ألقت إحداهما مؤلف كتاب "الإسلام وأصول الحكم" خارج زمرة العلماء، واقتلعت الثانية بعض الوزراء من كراسيهم اقتلاعًاا، تلاه حرمان الشيخ علي عبد الرازق مؤلف الكتاب من مركزه في القضاء الشرعي. وليس عجيباً أن يثير هذا الكتاب مثل هاتين العاصفتين، ففي اسمه ما يدل على خطورة موضوعه، وعلى أن مؤلفه قد تعرض للخلافة، وللخلافة في نظر العالم الإِسلامي وغير العالم الإِسلامي أهمية عظيمة، ومكانة خطيرة؛ لأنها تمثل معنى الحكومة التي تقود المسلمين وتسوسهم، ولأنها المجمع ¬

_ (¬1) مجلة "المكتبة" الجزء الثاني من السنة الثانية، الصادر في رمضان 1344 هـ. وهي مجلة شهرية تبحث عن المؤلفات وقيمتها العلمية، ومديرها الأستاذ عبد العزيز الحلبي - القاهرة.

الذي تجتمع حوله قلوب المسلمين على اختلاف مشاريهم، وتباين جنسياتهم، والمصدر الذي تصدر منه بواعث حركتهم، ودواعي سكوتهم. على أن مؤلف كتاب "الإسلام وأصول الحكم" وقد تعرض لهذا الموضوع الخطير بصفمَه عالماً من علماء الإِسلام، وقاضياً من قضاة المحاكم الشرعية في مصر، لم يتجه في مباحثه الاتجاه الذي كان يجب أن يتجه فيه مؤلف اجتمع له مثل هاتين الصفتين الإسلاميتين، ولم يبن آراءه ونظرياته التي قصد إلى إذاعتها وترويجها بتأليف هذا الكتاب على أدلة تشهد بأنه درس العلوم الإسلامية، وتشبّع بمبادئها، وفهم أغراضها ومراميها، وأدرك حقيقة المصالح والثمرات التي يستفيدها الناس بالعمل بها، والسير على منوالها، بل كان اتجاهه في مباحثه اتجاه رجل يخالف المسلمين في عواطفهم وميولهم، وكانت الأدلة التي أقام عليها آراءه ونظرياته أدلة رجل لم يدرس العلوم الإِسلامية، ولم يدرك أسرارها, ولم يتشبع بمبادئها، وإنما هو رجل مهوّش أراد أن يستثمر ماله من صفة دينية في سبيل نشر مبادئ وآراء لا تقبلها العلوم الإسلامية، ولا ترضاها العقول السليمة، ولا تؤيدها أدلة صحيحة، فكأنما كان كل همه أن ينتزع من النفوس يقينها واطمئنانها، ويحل محلهما الشك والاضطراب. ولسنا نتهم الرجل بسوء النية، وفساد الطوية، ولكنا نظن أنه كان يقرأ للعلماء الأجانب أكثر مما يقرأ للعلماء المسلمين، وان ذلك قد أثر في نفسه حتى خضعت لآراء الأجانب، واعتادت تلقيها بالقبول دون موازنة بينها وبين الآراء الإسلامية، وتمييز ما فيها من طيب وخبيث، وكان من أثر ذلك أن ضعفت الآراء الإسلامية في نظره، وانحطت قيمتها، وانطفأ نور أدلتها، والعقول مهما

رجحت، فلن تسلم من خطأ، والنفوس مهما قويت، فلن تبرأ من ضعف. وفوق ذلك، فإن موضوع كتابه من الموضوعات المتروكة التي يجهلها أكثر الناس، والتي لا يكاد يستطيع البحث فيها بحثاً علمياً صحيحاً إلا أفراد قليلون من علماء المسلمين ... كل هذه العوامل مجتمعة هي التي أثرت في مؤلف كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، فحملته على أن يخرج للناس كتابه الذي أثار ما أثار من عواصف شديدة، وجدل عنيف. على أن لكتاب "الإسلام وأصول الحكم" فائدة عظيمة لم نكن لنحصل عليها لولا صدوره، ولم يكن ليستفيد منها كثير من الناس لو لم يثر ما أثار من عواصف وجدال. تلك هي تحرك العلماء إلى البحث في هذه الموضوع، والكتابة فيه، مبينين وجه الحق والصواب، كل بقدر ما وسعه طوقه، وأحاط به علمه. فقد بقيت الصحف المصرية عدة شهور تنشر الفصول الممتعة، والمقالات الضافية في هذا الموضوع، والناس يقرؤونها باهتمام عظيم، ورغبة صادقة. ولكن هذه الفصول والمقالات التي كانت تنشرها الصحف، لم تكن خالصة للبحث العلمي البريء الذي يهدم الشكوك، ويزيح عن وجه الحق سحب الغموض والإبهام، بل كانت مشحونة بما أثارته كهرباء الغضب والحنق التي استولت على أكثر الكاتبين؛ مما حطّ من قيمة هذه المقالات، وذهب برونقها، وأضعف من فائدتها. لذلك بقي أكثر الناس يعتقدون أن كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لا يزال قائماً يبث الشكوك والأوهام في النفوس والعقول، حتى ظهر كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" الذي ألفه فضيلة الأستاذ (السيد محمد

الخضر حسين) أحد مدرسي جامع الزيتونة، وأحد قضاة المحاكم الشرعية بتونس سابقاً. فقد تناول هذا الكتاب نقض ما جاء في "كتاب الإسلام وأصول الحكم" مما يخالف المبادئ الإسلامية، ويحود عنها، بطريقة تدل على رسوخ قدم الأستاذ السيد محمد الخضر في العلوم الإسلامية والعربية، وتضلعه منها تضلعًا يجعله في صفوف كبار العلماء الباحثين الذين يعرفون كيف يصلون بالقارئ إلى الحق الناصع في رفق وسهولة، دون أن يرهقوا ذهنه، أو يحرجوا صدره. فأدلة ناصعة، ولغة بينة، وقصد في التعبير في غير غموض أو إبهام، وأدب صريح، وخلق متين، يدل على أن صاحبه ممن تأدبوا بالأدب الإسلامي، وتشبعوا به، وفهموا معنى قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. ثم حسن ترتيب وتنسيق في المناقشة وسوق الأدلة، لا يدع في نفس القارئ مجالاً للشك، ولا يترك شبهة تتردد في صدره دون أن يقضي عليها قضاء نهائياً. كل ذلك في تواضع العالم الصادق النظر، النزيه الغرض، الذي لا يقصد من بحثه وجدله إلا إحقاق الحق، وإزهاق الباطل. ونريد أن نأتي لك بمقدمة كتاب "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم"؛ لتقوم عنا بإرشادك بعضَ الشيء إلى قيمة الكتاب، ومقدرة مؤلفة الفاضل، فقد نشعر بالعجز عن إيفائه حقه من المدح والتقريظ. قال: "وقع في يدي كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبد الرازق، فأخذت أقرؤه قراءة من يتغاضى عن صغائر الهفوات، ويدرأ تزييف الأقوال

بالشبهات. وكنت أمر في صحائفه الأولى على كلمات ترمز إلى غير هدى، فأقول: إن في اللغة كناية ومجازًا، ومعميات وألغازاً، ولعلها شغفته حباً حتى تخطى بها المقامات الأدبية، إلى المباحث العلمية، وما نشبت أن جعل المعاني الجامحة عن سواء السبيل تبرح عن خفاء، وتناديها قوانين المنطق فلا تعبأ بالنداء. وكنت -بالرغم من كثرة بوارحها- أصبّر نفسي على حسن الظن بمصنفها، وأرجو أن يكون الغرض الذي جاهد في سبيله عشر سنين حكمة بالغة، وإن خانه النظر فأخطأ مقدماتها الصادقة. وما برحت أنتقل من حقيقة وضّاءة ينكرها، إلى مزية مجاهد خطير يكتمها، حتى أشرف على خاتمته، وبرزت نتائجه، وهي أشبه بمقدماته من الماء بالماء، أو الغراب بالغراب. فوَّق المؤلف سهامه في هذا الكتاب إلى أغراض شتى، والتوى به البحث من غرض إلى آخر، حتى جحد الخلافة، وأنكر حقيقتها، وتخطى هذا الحد إلى الخوض في صلة الحكومة بالإسلام، وبعد أن ألقى حبالاً وعصيًّا من التشكيك والمغالطات، زعم أن النبي - عليه السلام - ما كان يدعو إلى دولة سياسية، وأن القضاء وغيره من وظائف الحكم، ومراكز الدولة ليست من الدين في شيء، وإنها هي خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها. ومسَّ في غضون البحث أصولاً لو صدق عليها ظنه، لأصبحت النفوس المطمئنة بحكمة الإسلام وآدابه مزلزلة العقيدة، مضطربة العنان. كنا نسمع بعض مزاعم هذا الكتاب. من طائفة لم يتفقهوا في الدين، ولم يحكموا مذاهب السياسة خبرة، فلا نقيم لها وزناً, ولا نحرك لمناقشتها قلماً، إذ يكفي في ردها على عقبها صدورها من نفر يرون الحط في الأهواء

حرية، والركض وراء كل جديد كياسة. كنا نسمع هذه المزاعم، فلا نزيد أن نُعرض عمن يلفظون بها، حتى يخوضوا في حديث غيرها. أما اليوم، وقد سرت عدواها إلى قلم رجل ينتمي للأزهر الشريف، ويتبوأ في المحاكم الشرعية مقعداً، فلا جرم أن نسوقها إلى مشهد الأنظار المستقلة، ونضعها بين يدي الحجة، وللحجة قضاء لا يستأخر، وسلطان لا يحابى، ولا يستكين. لا أقصد في هذه الصحف إلى أن أعجم الكتاب جملة، وأغمز كل ما ألاقي فيه من عوج؛ فإن كثيراً من آرائه تحدثك عن نفسها اليقين، ثم تضع عنقها في يدك، دون أن تعتصم بسند، أو تستتر بشبهة، وإنما أقصد إلى مناقشته في بعض آراء يتبرأ منها الدين الحنيف، وأخرى يتذمر عليه من أجلها التاريخ الصحيح. ومتى أميط اللثام عن وجه الصواب في هذه المباحث الدينية التاريخية، بقي الكتاب ألفاظاً لا تعبر عن معنى، ومقدمات لا تتصل بنتيجة. والكتاب مرتب على ثلاثة كتب، وكل كتاب يحتوي على ثلاثة أبواب، وموضوع الكتاب الأول: (الخلافة والإسلام)، وموضوع الكتاب الثاني: (الحكومة والإسلام)، وموضوع الكتاب الثالث: (الخلافة والحكومة في التاريخ). وطريقتنا في النقض: أن نضع في صدر كل كتاب ملخص ما تناوله المؤلف من أمهات المباحث، ثم نعود إلى ما نراه مستحقاً للمناقشة من دعوى أو شبهة، فنحكي ألفاظه بعينها، ونتبعها بما يزيح لبسها، أو يحل لغزها، أو يجتثها عن منبتها، وتخيرنا هذا الأسلوب؛ لتكون هذه الصحف قائمة بنفسها،

ويسهل على القارئ تحقيق البحث، وفهم ما تدور عليه المناقشة، ولو لم تكن بين يديه نسخة من هذا الكتاب المطروح على بساط النقد والمناظرة". لا شك أن القارئ بعد أن اطلع على هذه المقدمة، قد أدرك شيئاً من قيمة الكتاب الذي نحدثه عنه، وعرف أنه كتاب يحوي بين دفتيه من المباحث الخطيرة، والموضوعات الهامة، ما لا يتيسر لكثير من العلماء الوصول إليها رغم البحث الطويل، والجهاد المستمر، وأنه ليس كتاباً دينياً فقط لا يهم إلا المشتغلين بالمسائل الدينية، بل هو كتاب يحتاج إليه أكثر متعلمينا أشد احتياج، لا سيما المشتغلون منهم بالمسائل العامة، بل نقول: إن المشتغلين بالمسائل العامة والقانونية أحوجُ الناس إلى دراسة هذا الكتاب، والانتفاع بما جاء فيه في أكثر مسائلنا الخطيرة؛ كمسألة وجوب نصب الخليفة بناء على القاعدة الشرعية الثابتة التي تقول: "الضرر يزال"، وكمسألة معرفة المسلمين لعلوم السياسة، وكمسألة النظام الملكي، وهل هو ينافي الحرية والعدل؟ ومسألة شكل حكومة الخلافة، ومسألة القضاء في الإسلام في العهد النبوي وبعده، ومسألة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان رسولاً، وكان رئيساً سياسياً أيضاً، ومسألة الاجتهاد في الشريعة وشرائطه، والشريعة الإسلامية وإدارة البوليس، والتشريع الإسلامي والزراعة والتجارة والصنائع، والتشريع الإِسلامي والأصول السياسية والقوانين ... إلى غير ذلك من المسائل المهمة التي ينبغي لكل مشتغل بالمسائل العامة أن يدرسها دراسة جيدة، وقد أوفاها الأستاذ الجليل الشيخ الخضر حقها من البيان والتفصيل، بما امتاز به من تعمق ورسوخ في العلوم الإسلامية، مع معرفة وافية بالآراء الغربية المختلفة فيما يجب أن يكون عليه نظام الحكم في الأمم ليكون أضمن للحرية والعدل.

السيد محمد الخضر حسين

السيد محمد الخضر حسين (¬1) تجنس السيد محمد الخضر حسين التونسي بالجنسية المصرية، والسيد الخضر من أشراف تونس، وقد اشتهر أهله بالفضل والعلم والدين. وجدّه لأمه محمد بن عزوز، أخذ طريقة الشيخ الحفني الكبير شيخ الطريقة الخلوتية، عن الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري تلميذ الشيخ الحفني، وعنه أخذ جده لأبيه الشيخ علي بن عمر، فكان خليفة هذه الطريقة في المغرب. ولد السيد الخضر بمدينة "نفطة"، وحفظ القرآن الكريم صغيراً، ثم انتقل مع والده إلى مدينة تونس، ودرس في جامع الزيتونة، ونال شهادة العالمية (¬2) وهو في الرابعة والعشرين من سني حياته، ثم سافر إلى طرابلس الغرب، وعاد إلى تونس، وأنشأ مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة عربية دينية ظهرت في تلك البلاد. فأقبل عليها العلماء، ونشّطه أهل الفضل، ¬

_ (¬1) مجلة "الفتح" العدد 290 من السنة السادسة الصادر في ذي القعدة 1350 هـ - القاهرة. ملاحظة: يبدو لي أن هذه المعلومات استقاها السيد محب الدين الخطيب صاحب المجلة من الإمام محمد الخضر حسين، ولعلها أوضح موجز عن حياته. (¬2) المقصود بها: شهادة (التطويع).

وفي مقدمتهم الوزير الشيخ محمد العزيز بوعتور، والشيخ سالم بوحاجب. ثم قُلِّد القضاء في مدينة "بنزرت"، والخطابة والتدريس في جامعها الكبير. ولم يكتف بعمله الرسمي، بل عمد إلى إلقاء المحاضرات العامة. وضاق ذرعاً بقيود الوظيفة الرسمية وأصفادها، فاستعفى، وعاد إلى تونس متبرعًا لإلقاء الدروس في المعهد الزيتوني، وقدر ولاة الأمر خدمته، وشريف مقصده، فعينوه مدرساً رسمياً في معهد "الزيتونة"، وعضواً في ترتيب مكتبته، ومدرساً في المدرسة الصادقية، وعهدت إليه الجمعية الخلدونية في إلقاء محاضرات على طلبتها في آداب اللغة العربية. ولما قامت الحرب الطرابلسية، نظم عدة قصائد في الحث على معاونة الطرابلسيين كان لها أحسن وقع في القلوب، وبسط الأكف، ثم سافرت أسرته إلى دمشق، فلحق بها، وقضى بالقاهرة ثلاثة أيام، فألقى في الأزهر درساً في قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122]. فأدرك السامعون مقامه وفضله، وتابع سفره إلى دمشق، ثم قَصد الآستانة في أيام الحرب البلقانية، وزار مكتباتها ومعاهدها العلمية، وتعرف إلى علمائها وآدابها، وعاد إلى تونس مدرساً ومحاضراً، ثم قصد المدينة المنورة، فإستنبول، فدمشق مدرساً للفلسفة والآداب العربية في المدرسة السلطانية. وقضى أيام الحرب العظمى متنقلاً بين برلين وإستنبول ودمشق. ففي برلين تعرّف إلى كبار العلماء المستشرقين، وزعماء الحركة المصرية، وفي مقدمتهم المرحومون الشيخ عبد العزيز جاويش، ومحمد فريد، وإسماعيل لبيب. وفي إستنبول عين في قسم المباحث السياسية بوزارة الحربية، فواعظاً

في مسجد (الفاتح). وفي الشام وشى به بعضهم وشاية سياسية إلى جمال باشا، فاعتقله ستة أشهر و 14 يوماً، ثم ظهرت براءته فأفرج عنه. ثم نزل مصر، ومع تحاميه الإعلان عن نفسه، فإن عارفي فضله ونبله أحلّوه المحل اللائق بكرامته، وانتدب للعمل خمسة أعوام في دار الكتب المصرية، فانتهز الفرصة، وألقى على بعض الكتب القديمة نظرات دقيقة، واستخرج منها ما لم يفقه إليه أحد قبله، وتقدم لامتحان العالمية الأزهرية، فنال شهادتها بتفوق. وللسيد الخضر مؤلفات جمّة، منها: حياة اللغة العربية - الخيال في الشعر العربي- الدعوة إلى الإصلاح - مدارك الشريعة الإِسلامية - نقض كتاب "الإسلام وأصول الحكم" - وشرح وجيز على كتاب "الموافقات" للشاطبي - نقض كتاب "في الشعر الجاهلي" - تعليقات على "شرح القصائد العشر" للتبريزي ... إلخ. وكانت له اليد الطولى في إنشاء "جمعية الشبان المسلمين" بالقاهرة، وأنشأ "جمعية الهداية الإسلامية" ويتولى تحرير مجلتها، وإدارة شؤونها، ويرأس الآن تحرير مجلة "نور الإسلام" الأزهرية، ويدرّس في كلية أصول الدين بقسم التخصص. ولا جدال في أن تجنيس السيد الخضر بالجنسية المصرية غنم لمصر، وجوهرة يزدان بها تاج علماء الدين.

إلى العلامة الجليل السيد محمد الخضر حسين بمناسبة سفره إلى الأقطار الحجازية

إلى العلامة الجليل السيد محمد الخضر حسين بمناسبة سفره إلى الأقطار الحجازية (¬1) محمد صادق عرنوس سافرْ إلى الحجِّ ميموناً بك السفرُ ... واقْضِ المناسكَ مزهواً بكَ الحجرُ جاهدتَ في الله فانزِلْ في ضيافتِه ... لك المثوبةُ والإكبارُ والظفرُ إن الصفا مذ نويتَ الحجَّ مغتبطٌ ... لزَوْرة العالم الرِّبِّيِّ منتظرُ وهلْ رأى منذ حين في مواسمِه ... كموسم حجَّ فيه السيدُ الخَضِرُ هذا النحيفُ المغالي في تواضعِه ... به الحنيفيةُ البيضاء تفتخر كم ذاد عنها أعاديها بمفرده ... في موقفٌ تتحاشى مثله الزُّمَرُ فلم تصب منهمُ يوماً بكارثةٍ ... إلا وكان له في دفعها أثرُ كأنه ديدبانٌ في حراستِها ... هيهات يثنيه عن إنقاذها وَطَرُ إقرأ له الردَّ بعد الردِّ يرسلُه ... على العدا أين منه الصّارِمُ الذَّكَرُ في قابي لم يطُفْ هجزٌ بساحته ... لكنّه من صميم الحقِّ منحدرُ ¬

_ (¬1) مجلة "الفتح" العدد 338 - السنة السابعة - الصادر في 4 ذي الحجة 1351 هـ - قصيدة للشاعر الإسلامي الكبير محمد صادق عرنوس بمناسبة سفر الإمام محمد الخضر حسين لأداء فريضة الحج عام 1351.

في مهبطِ الوحي سلْ عن دائناً فئةً ... نامت وطالَ بنا في المحنة السهر ألم يعد ثم في إنقاذنا أملٌ ... هل انطفا نورُه واستفحلَ الخطرُ قلْ للحجيجِ إذا وافيتهم بمِنى ... قولاً له وقعه فالحجُّ مؤتمرُ هنا انبثاق الهدى يا قومُ فاتّعِظوا ... ومهبطُ الروح بالتَّنزيلِ فاعْتبروا يا أيّها الناسُ دينُ الله مُنتَهكٌ ... أينَ الكتابُ وأين الآيُ والسُّوَرُ اللفظُ باقٍ ومعناهُ الكريمُ مضى ... والروحُ إنْ فُقِدَتْ ما تَنفعُ الصُّوَرُ غوصوا على دُرَّه المكنونِ والتمسوا ... منه الشفاء ففيه الوِرْد والصَّدَرُ يا للعجائب ظمأى والحيا معكم ... لو شئتم انهلَّ عذباً ما به كدرُ موقوفة عودة العزّ القديم على ... أن يعمل العقل في التنزيل والبَصَرُ إذا غدا عادةً فيكم مؤثلة ... تقلص الذل عنكم وانجلى الضررُ

الترحيب بالإمام محمد الخضر حسين بمناسبة عودته من أداء فريضة الحج

الترحيب بالإمام محمد الخضر حسين بمناسبة عودته من أداء فريضة الحج (¬1) محمد عبد العظيم الزرقاني الحمد لله على سابغ نعمته، والصلاة والسلام على مظهر رحمته، سيدنا محمد وآله وصحابته. أيها السادة! قد علّمنا الحق فيما علّم، أن نحتفل بسلامة الهداة من عباده، ونجاة المصلحين من خلقه، وأقرب شاهد نضربه به مثلاً لذلك: هو هذه الليلة الغراء، ويومها الأغر (يوم عاشوراء) المبارك، الذي اعتبره الإسلام موسماً يتقرب فيه الخلق إلى الخالق، احتفاء بفوز طائفة من رسله، وشكراً على نجاة فئة من أنبيائه، في الأمس البعيد المتغلغل في أحشاء الماضي، قد تجلت عناية ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد الخامس، الصادر في شهر صفر سنة 1352 هـ - القاهرة. أقامت جمعية "الهداية الإسلامية" في القاهرة حفلة ترحيب بالإمام محمد الخضر حسين رئيس الجمعة، ورئيس تحرير المجلة، وذلك في ليلة الجمعة العاشر من المحرم سنة 1352. وقد ألقيت فيها القصائد والخطب، وهذه كلمة أحد العلماء الأفاضل، والعضو في الجمعية، والكاتب الإسلامي الكبير الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني.

الكريم لبعض خاصته من خلقه، وأمنائه على رسله، فنجّاهم، وكتب لهم السلامة والفوز، ووافق ذلك يوم عاشوراء. وفي هذا اليوم الحاضر الجديد، الذي يرفّ من الجدة، تتجلى العناية الإلهية لرجل من رجالات الإصلاح والجهاد، بل تتجلى هذه العناية الربانية لجمعية الهداية الإسلامية في شخص رئيسها الموقر، وأوبته إليها سالماً غانماً، ويصادف ذلك اليوم أيضاً يوم عاشوراء، فما أسعده يوماً يعيد التاريخ فيه نفسه، ويعتز فيه الحق وأهل الحق قديمًا وحديثا، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68} [وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]. نعم، إن هذه أول ليلة من ليالي محاضرات الجمعية بعد عودة عميدها إليها من الأقطار الحجازية المباركة، تصحبه سلامة السلام، وترعاه عناية الحق، وتترادف عليه أنوار الحج الأكبر، وينفح من لدنه أريج المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وحقّ للجمعية أن تتخذ هذه الليلة عيداً تتبادل فيه آيات التهاني والتبريك، وتظهر معالم الفرح والبهجة، وتنشر أعلام السرور والغبطة، وتشكر مولي النعم على هذه النعمة؛ فإن الأستاذ يتبوأ من الجمعية مكان الرأس من الجسد، والنور من العين، والروح من البدن، وأي سرور يعدل سرور الجسم يعود إليه رأسه، والعين يردّ إليها نورها، والبدن تبعث فيه روحه.! لك اللهم من الحمد ما يفوق كل حمد، ومن الشكر أضعاف كل شكر، سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. أي وربي! إن الأستاذ الخضر لنفحة من نفحات الحق في هذا العصر، جاد به الجواد على هذا العالم العقيم، فأحيا به من موات الإسلام، وجدّد

بعزمه من شباب الدين، ونضر بأخلاقه من وجه الفضيلة، ورفع بنبوغه من منار العلم، وجبر بهمته من كسر الشرق وأهل الشرق ... فإذا نحن رحبنا به، فإنما نرحب بلسان الإسلام والدين، والفضيلة والعلم، والشرق والشرقيين. أطال الله في أيامه، وزاد في همته، وأكثر في المسلمين من أمثاله، وضاعف في الأمة من نفعه. أيها السادة! إن جمعية الهداية الإسلامية تشكر لكم هذا الشعور الفياض الذي دفعكم إلى مشاركتها هذا السرور، ومبادلتها هذه التهاني، ومشاطرتها ذلك الترحيب، نسأله -وهو الجواد الكريم- أن يهيئ لكل منا عهداً قريباً يتمتع فيه بما تمتع الأستاذ من حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن يؤيد الإسلام والمسلمين بروح من لدنه، {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39] , والسلام عليكم ورحمة الله.

محاضرة الأستاذ الخضر بن حسين

محاضرة الأستاذ الخضر بن حسين (¬1) في مساء يوم الجمعة الفائت، سمعنا (بالراديو) من مصر صوت أستاذنا ¬

_ (¬1) جريدة "المنار التونسي" العدد الثالث من السنة الأولى الصادر في 6 جمادى الثانية 1355 هـ - 24 أوت 1936 م - تونس. تعليق: هذا الخبر يمثل محبة الشعب التونسي الصادقة للإمام محمد الخضر حسين، وتقصيه لأخباره وأحاديثه عبر المذياع. ويشير من ناحسة ثانية إلى أن الإمام كان دائم التواصل مع وطنه تونس، وحرصه وعمله المخلص على نشر أنباء تونس، وبيان مكانتها في الشعر والأدب، ورجالاتها مع أهل تونس. ونلفت النظر هنا إلى كتاب "تونس وجامع الزيتونة" للإمام، الذي خص فيه تونس ببحوث هامة عن شعرائها وفقهائها وأعلامها من شيوخ الزيتونة، وصفحات من تاريخها ونضالها. واطلعت من خلال البحث في مجلة "العالم الأدبي" العدد الأول من السنة الرابعة الصادر في 11 محرم 1352 هـ - 6 ماي 1933 م على كلمة بعث بها الإمام محمد الخضر حسين إلى إدارة المجلة تحدث فيها عن مجلة "البدر" التونسية، فقال: "فقد بلغتنا مجلة البدر، وهي من المآثر التي تفتخر بها البلاد التونسية؛ لأنّا في الشرق لا نجد دليلاً على رقي الشعب التونسي إلا بمثل هذه المؤلفات الحديثة الراقية. ولو عرفت الأمة أن سمعتها في الخارج، إنما ترتفع بمثل هذه الآثار, لبذلت مجهودها في مساعدتها، وفي تحصيل الآمال على سمعة فاخرة في الخارج خير كثير".

العزيز العلامة النحرير الشيخ الخضر بن حسين -كما نعهده- ذلاقة وفصاحة، لم تغير فيه لهجة المصريين وقلبهم لحروف المعجم. وقد فتن الناس بسماع ذلك الصوت الذي حرموا سماعه عشرات السنين. وكان موضوع حديثه "الشعر التونسي في القديم والحديث". فتكلم جنابه على الشعراء، وذكر من شعرهم، وبيّن أن نقد الشعر وفلسفة الأدب أول من ضرب في فنهما سهم أدباء تونس والقيروان والمهدية، وغيرها من بلدان المملكة التونسية؛ كابن رشيق، وغيره في القديم. ويوجد الآن شبيبة ناهضة، ضربت في جميع فنون الشعر والتثر، ويلغت فيهما الكمال، وإذا عدَّ الشعراء والكتّاب في العالم، فيحتلون المراكز الأولى، ويوضعون في أول الصفوف، وإن ذلك الشبل من ذلك الأسد، ومن يشابه أباه فما ظلم. هذا خلاصة ما سمعناه من الأستاذ الخضر بن الحسين يلقيه على مسامعنا من مصر بمعناه. وإن السرور لعمَّ البلاد، وللشيخ أصدقاء وتلامذة وأقارب وأحباب كثيرون، يودون رؤيته وسماع حديثه العذب. وها نحن نسمع كلامه ولا نراه، متعنا الله برؤية وجهه الكريم، وجمعنا الله به في أبرك الساعات.

مصنفات الأستاذ السيد محمد الخضر حسين

مصنفات الأستاذ السيد محمد الخضر حسين العلامة محمد بهجة البيطار (¬1) 1 - "رسائل الإصلاح"، الجزء الأول: هي مقالاتٌ نافعة، بل أصول جامعة في الإصلاح العام، تشتمل على نحو خمس وعشرين رسالة أو مقالة في ضروب من الإصلاح الديني والمدني، وقد قسمها أربعة أقسام كما جاء في مقدمتها: 1 - قسم الأخلاق والاجتماعيات. 2 - قسم المباحث الدينية من أصول الدين وأصول الفقه، والأحكام العملية. 3 - قسم السيرة النبوية وتراجم الرجال والبحوث التاريخية. 4 - قسم مباحث اللغة وصناعة الأدب. وأكثر رسائل هذا الجزء الأول من القسم الأول -أي: الأخلاق والواجبات-، ومن مباحثه الطريفة التي عالجها الأستاذ: التعليم الديني في مدارس الحكومة، العلماء والإصلاح، أصول سعادة الأمة، الغيرة على الحقائق والمصالح، الشجاعة وأثرها في عظمة الأمم، الانحراف عن الدين علله وآثاره ودواؤه، ضلالة فصل الدين عن السياسة، الرِّفق بالحيوان، محاكاة المسلمين للأجانب، علة إعراض الشبان عن الزواج، النبوغ في العلوم والفنون. ¬

_ (¬1) مجلة "مجمع اللغة العربية" بدمشق، الصفحة 81 من المجلد الثامن عشر - سنة 1943 م. عرض لبعض مؤلفات الإمام التي وصلت إلى المجمع في حينها.

2 - (محمد رسول الله وخاتم النبيين): هذه شذرات من السيرة النبوية، بيّن فيها الأستاذ حال العرب قبل الإسلام، ونشأته - عليه الصلاة والسلام -، ودلائل نبوته، والقرآن الكريم وإعجازه، وبشارات الرسل بنبينا، ومعجزاته - صلى الله عليه وسلم -، وعموم رسالته، ودوام شريعته، وختم النبوة به، وخلقه وآدابه، واجتهاده في عبادة ربه، ثم ختمها بفصل في أثر دعوته في إصلاح العالم. وقد ذكر في طليعة الرسالة ما دعاه إلى تأليفها بقول: "ما أراه في تلك الصحف- صحف الطاعنين في الإسلام - من زور وبهتان، ثم ما أذاعته الصحف من قصص محاولة تلك الطائفة لتنصير بعض الفتيان والفتيات". 3 - "آداب الحرب في الإسلام": وهذه الرسالة جمعت فصولاً في نظام الحرب وآدابه في الإسلام، بينت منشأها، والاستعداد لها، والتدريب عليها، وإعلانها، والشعار فيها، وتعهد الجند بالموعظة. ومن محاسن ما جاء فيها أيضاً: أثر الاستقامة في الحرب، والشورى فيها، والرِّفق بالجند، ومجاملة رسل العدو، وعدم التعرض لهم بأذى، وتجنب قتل من لا يقاتل، وحسن معاملة الأسرى، وختمها بأبواب منها: (عقد الصلح) إذا جنح له العدو. من تدبر هذه الرسالة النافعة علم أن الحرب في الإسلام ليست للقهر والاستعباد، بل لدفع الاعتداء والظلم، ونشر لواء الحق والعدل، وقد كان الخلفاء العظام يوصون قوادهم بأن لا يقطعوا شجراً، ولا يفسدوا ثمراً، ولا يقتلوا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً، ولا يُجهِزوا على جريح، ولا يعتدوا على من كف عن الحرب، وأين منها الحروب التي تستخدم أفتك الآلات الحديثة لتدمير المدن، وتعذيب أهلها الآمنين؟!.

4 - "القياس في اللغة العربية": أورد المؤلف لهذا الكتاب مقدمات في فضل اللغة العربية، ومسايرتها للعلوم والمدنية، وحالها في الجاهلية، وارتقائها في الإسلام، وجعله إياها لغة للشعوب، وبحث في وجه الحاجة إلى إنشاء مجمع لغوي ليرفع لواء اللغة العربية في الشرق والغرب، ثم بعد أن مهد المؤلف تمهيداً بين فيه حاجتنا إلى القياس في اللغة، عقد فصلاً ممتعاً تحت عنوان: أنواع القياس، وما الذي نريد من بحثه في هذه المقالات، استهله بقوله: تجري كلمة القياس عند البحث في معاني الألفاظ العربية وأحكامها، فترد على أربعة وجوه: 1 - حمل العرب أنفسهم لبعض الكلمات على أخرى، وإعطاؤها حكمها لوجه يجمع بينهما. 2 - أن يعمد إلى اسم وضع لمعنى يشتمل على وصف يدور معه الاسم وجوداً وعدماً، فتعدي هذا الاسم إلى معنى آخر تحقق فيه ذلك الوصف، وتجعل هذا المعنى من مدلولات ذلك الاسم لغة، ومثال هذا اسم (الخمر) عند من يراه معتصراً خاصة. 3 - إلحاق اللفظ بأمثاله في حكم ثبت لها باستقراء كلام العرب حتى انتظمت منه قاعدة عامة؛ كصيغ التصغير والنسب والجمع. 4 - إعطاء الكلمة حكم ما ثبت لغيرها من الكلم المخالفة لها في نوعها، ولكن توجد بينهما مشابهة من بعض الوجوه؛ كما أجاز الجمهور ترخيم المركب المزجي قياساً على الأسماء المنتهية بتاء التأنيث. ثم قال- بعد أن بسط القول في هذه الأقيسة الأربعة التي أوردنا منها ما يدل عليها -: وهذا النوع من القياس، والذي قبله-أي: الثالث والرابع- هما موقع النظر، ومجال البحث في هذه

المقالات، واخترت للفرق بينهما التعبير عن الأول بالقياس الأصلي، وعن الثاني بقياس التمثيل، وقد ذكر في القياس الأصلي ما يحتج به في تقرير أصول اللغة ومفرداتها، وألقى في القياس في صيغ الكلم واشتقاقها - نظرة على المصادر والأفعال ومشتقاتها؛ كاسمي الفاعل والمفعول، وأفعل التفضيل. وقد استشهد بكلام المحققين على الاحتجاج بالكتاب العزيز، وفصل القول في القياس على الحديث الشريف، ثم عقد فصلاً مهماً في الاشتقاق من أسماء الأعيان، وتصرفِ العرب فيها، وأخذهم منها أفعالاً في أوزان مختلفة، وأسماء فاعلين ومفعولين. وذكر منها اشتقاق الفعل من أسماء الأعيان؛ لإصابتها أو إمالتها، (قلت: لعله: أو إنالتها -بالنون- كما ذكره من بعد، ومثل بنحو: شحمه ولحمه: أطعمه ذلك. ص 69). وجاء بعده فصلٌ عنوانه: ما هو الاستقراء الذي قامت عليه أصول الاشتقاق؟ وقد حقق فيه أن الأفعال والمصادر التي لم يسمع لها فروع في الاشتقاق على نوعين: منها: ما لم يتصرفوا فيه على كثيرة وروده في محاوراتهم ومخاطباتهم مثل: ويل وويح ونعم ويذر وما يماثلها، فيجب أن تبقى على هيئتها بدون اشتقاق منها، ولا أدنى تصرف فيها. ومنها: ما لا يكثر في مخاطباتهم حتى يستفاد من وروده بهيئة واحدة أنهم قصدوا إلى ترك تصريفه، فيصح لنا أن نجري قاعدة الاشتقاق في هذا النوع، وإن لم ندر أن العرب تصرفوا فيه على هذا الوجه من الاشتقاق؛ كاشتقاق فعل واسم فاعل مما سمع مصدره، أو إحداث مصدر لفعل مسموع -مثلاً-. ثم أنشأ فصولاً قصيرة وغير قصيرة في أنواع الأقيسة الكثيرة؛ كأقيسة

التمثيل، والشبه، والعلة، وأقسام علة القياس، وأقسام قياس العلة، وشرط صحة قياس التمثيل، ومباحث مشتركة بين القياس الأصلي والقياس التمثيلي، والقياس في الاتصال، وفي الترتيب، والفصل والحذف، ومواقف الإعراب، والعوامل، وشرط العمل والقياس في الأعلام. ثم ختم الكتاب باقتراح الأستاذ المغربي في الكلمات غير القاموسية، وجوابه على هذا الاقتراح. وقد بحث الأستاذ في هذه الفصول جميعها بحث الناظر المستقل المستدل، فبين في كل منها ما يقبل وما يرد، وما يقاس عليه وما لا يقاس، ومذهبه وسط بين المعجميين الذين يجمدون على السماع فيهما يمكن إجراء القياس فيه لاستيفاء شروطه، وبين من يفتاتون على اللغة، فيشتقون من عندهم أقيسة لا تستند إلى نصوص لغوية، ولا قواعد عربية من صرفية أو نحوية. ومن هذه الرسالة يعلم أن المعاجم اللغوية وحدها لا تفيد معرفة الأسس التي ينبني عليها القياس الصحيح من غيره؛ لأنها لم توضع لذلك، بل لا بد من الجمع بين معرفة النصوص ودراسة القواعد والأصول، التي تشتق منها الفروع، وتجري على مقتضاها الأحكام.

في طريق القاهرة مع الأستاذ الخضر حسين

في طريق القاهرة (¬1) مع الأستاذ الخضر حسين في مقهى قريب من الأزهر، قابلت زميل الدراسة الأخ إسماعيل بن شعبان، الذي كان موجوداً بالقاهرة، وأبديت له رغبتي في الاتصال بالشيخ محمد الخضر حسين العلامة التونسي الذي رفع اسم تونس بربوع أرض الكنانة عِلماً وعملاً، والمدرس بقسم التخصص بالجامعة الأزهرية، والعضو بهيئة كبار العلماء، ورئيس "جمعية الهداية الإسلامية". فابتسم الأخ إسماعيل، وقال: اجلس، فأنا على موعد مع شيخنا هذه اللحظة. وقدم الشيخ، وقُدِّمْتُ إليه، فصافحني بحرارة، وكان فرحه بوجودي عظيماً لأمور ثلاثة حسبما صرّح لي بذلك: أولاً: لأنني تونسي زيتوني. وثانياً: لأني أنتسب إلى المرازيق الحي العربي الذي عرفه الأستاذ في أيام شبابه. وثالثاً: لأني أعمل مع أعز أصدقائه السيد الشاذلي القسطلي ¬

_ (¬1) جريدة "النهضة" التونسية - العدد الصادر في 27/ 4/ 1951 م. مقالات نشرت على حلقات باسم مستعار (زورق اليم)، الحلقة 12، وقد أخذنا منها ما يتعلق بالإمام محمد الخضر حسين.

مدير جريدة "النهضة". وانتقلنا إلى بيت الأخ إسماعيل بنزل الأزهر، وهناك انطلق الأستاذ الخضر يتحدث عن تونس في حرارة الابن المخلص البار. شيخ جاوز السبعين، أو لعله شارف الثمانين، نحيل الجسم، معروق الوجه، يحمل نظارتين على عينيه، لم يكد يشرع في الحديث عن بلاده تونس حتى ارتفع صوته شيئاً ما حاملاً في نبراته حرارة الذكرى. وتحدث عن أيامه بالزيتونة طالباً ومدرساً، وعن شيوخه، وعن تلاميذه، وعن كتب التعليم وأساليب الدراسة، ولكنه لا يريد أن يعلق بشيء عن حركة الطلبة الأخيرة. ويذكر أصدقاءه من العلماء، وفي مقدمتهم سماحة الإمام الشيخ سيدي الطاهر بن عاشور، وعن أصدقائه من رجال السياسة والصحافة، وفي مقدمتهم حضرة مديرنا السيد الشاذلي القسطلي، وينتقل الأستاذ الخضر من هنا إلى السؤال عن صديقه القسطلي، وعن أعماله بالبلدية، وحدثته عن ذلك كله بما فيه الكفاية، فابتسم وقال: لقد عرفته من أيام الشباب رجلاً عملياً متحركاً، واعتقدت، ولست بمخطئ في اعتقادي: أنه أخلص العاملين لفائدة بلادهم، وأن في استطاعته أن يعمل كثيراً، وأن يصنع ما يعجز عنه غيره. وحاولت استدراج الأستاذ بلباقة إلى الحديث عن السياسة، وعن الأحزاب الوطنية؛ لأستطلع رأيه، فلم أسمع منه إلا كلمة واحدة في معرض الحديث عن صديقه القسطلي، وهي قوله: إنه يعمل ما يعجز عنه (الغلاة)، ومن كلمة (الغلاة) عرفت رأي الأستاذ، فلم أحاول الدخول معه في حديث من هذا النوع.

في سبيل الله والوطن شيخ الأزهر الجديد

في سبيل الله والوطن شيخ الأزهر الجديد محمد عبد الله السمان (¬1) ما تعودت أن أشارك الكتّاب في اصطناع الكتابة عن شيوخ الأزهر، كما احتلّ أحدهم كرسي رياسته، أو نحّي عنه؛ لأن الأزهر منذ أعوام طوال وهو في محنة قاسية، صنعها بأيديهم أبناؤه، والبكاؤون على مستقبله زوراً وبهتاناً، ومرت هذه المحنة القاسية بالأزهر، ولم يزد خلافاً على كونه ميداناً للمهازل التي يتعفف القلم عن ذكرها، ومجالاً للصخب والجلبة والغوغاء، ولعن الله المناصب؛ فقد كانت سبب محنة الأزهر، وكادت تخرجه عن هيبته ووقاره. أصر كبار رجال الأزهر على أن يقلّدوا الزعماء السياسيين، فخلقوا بين جدران الأزهر أحزاباً متنافرة متشاحنة، وأصبح لكل منهم أشياع وأتباع يسيرون في ركبه، ويهتفون له في كل مناسبة، أو في غير مناسبة، وينتصرون لآرائه واتجاهاته وتصريحاته، حين يرى رأياً، أو يتجه إلى اتجاه، أو يصرح بتصريح، وهؤلاء الأشياع والأتباع يثبتون وجودهم وإخلاصهم لزعيمهم ¬

_ (¬1) كاتب إسلامي معروف -جريدة "منبر الشرق"- العدد الصادر يوم الجمعة 13 محرم سنة 1372 م الموافق 3 أكتوبر سنة 1952 م. وتصدر في "جنيف" بسويسرا.

كلما خلا كرسي المشيخة؛ فإنهم يشمرون عن سواعدهم ليدعوا له، وينشرون الأكاذيب، ويصنعون التهم والأباطيل التي تشوه سمعة منافسه، ويكتبون مطالبهم إلى الجهات المسؤولة، منها ما يرفع صاحبهم إلى القمة، ومنها ما يهبط بمنافسه إلى الحضيض، ولجأ كبار رجال الأزهر لتأكيد هذه الزعامة الجوفاء إلى كسب عواطف الأساتذة والطلبة، حتى بوسائل غير مشروعة. ولعل مهزلة (الصعيدي والبحراوي) التي كانت تمثل على مسرح الأزهر لم يزل صداها يدوي في آذاننا إلى اليوم، وأما الدماء التي سالت فوق أرض الأزهر من جرائها، فلم تزل آثارها إلى اليوم، وما كنا نملك إلا أن نضحك - وشر البلية ما يضحك- على هذا الحصن الذي تهدف رسالته إلى إيجاد الوحدة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وقد عجز عن أن يوجدها بين جدرانه. وفي سبيل المنصب باع البعض من كبار رجال الأزهر ضمائرهم، ولعلنا لم ننسَ بعد تلك البرقية المسهبة التي أرسلها شيخ كان مرشحاً لمشيخة الأزهر إلى الملك الخليع في "دوفيل" يتمنى له طيب الإقامة وسط رقصات الأكتاف، وهزات البطون من الساقطات اللاهيات، ولعلنا لم ننس أشباح العمائم الضخام وهي في ميناء الإسكندرية تودع هذا الملك الساقط، أو تستقبله حين كان يرحل ويعود. وحدثت وثبة الجيش المباركة، ولم يكن هدفها سوى التطهير، وكان لا بد أن تشمل حركة التطهير هذه الأزهر (المعمور)، ولم تستطع هيبة الأزهر ولا وقاره أن يحولا دون ذلك؛ لأن هيبة الأزهر ووقاره قد تخليا عن أبناء الأزهر، وبقيا في البنيان الشامخ وحده، ووثبة التحرير لم يكن يلائمها لمشيخة

الأزهر إلا شيخ لا تجريح في سمعته، ولا تشويه في صفحته، ليس صعيدياً ولا بحراوياً، حتى لا تكون هناك فتنة، وليس من ورائه أشياع أو أتباع يهرجون، حتى لا تكون هناك مهزلة، وليس راغباً في المنصب حتى يظل للمنصب الكريم هيبته، وليس زاهداً في ذرة من كرامته حتى تظل كرامة الأزهر في إطار من الذهب الخالص، محوطة بالإجلال والوقار، وأعتقد أن ولاة الأمور ما تعبوا في شيء تعبهم في العثور على شيخ للأزهر تكتمل فيه هذه الصفات، كما أعتقد أن إخلاصهم للأزهر هو الذي وفقهم إلى اختيار هذا الشيخ الجديد الذي تتوفر فيه كل هذه الصفات. والشيخ الجديد -فضيلة الأستاذ محمد الخضر حسين- عالم جليل، لم يعترف إلا بالنسبة الإسلامية، فقد جاهد في مسقط رأسه من أجل الإسلام ووطنه، حتى أوشك حبل المشنقة أن يضرب حول عنقه، وجاهد في مصر والشام وغيرهما من أجل العروبة والإسلام، وجاهد في بلاد أوربا بقلمه ولسانه داعياً للإسلام وأمته. والشيخ الجديد ليس من خلفه أشياع ولا أتباع حتى يهرجوا له؛ لأن وقاره يسمو به عن أن يتخذ من حوله أشياعاً أو أتباعاً، ولأن اعتزازه بنفسه يربآن عن اتخاذ هؤلاء الأشياع والأتباع. والشيخ الجديد ليس راغباً في المنصب، ولا في المظهر؛ لأن مكانته العلمية والأدبية أغنته عن كل هذا؛ فقد ظل السنوات الطوال منعزلاً في حدود عمله، وهو أستاذ في كلية أصول الدين، وعضو هيئة كبار العلماء، وعضو مجمع فؤاد للغة العربية، ورئيس جمعية الهداية الإسلامية، ورئيس تحرير مجلات: الأزهر، ولواء الإسلام، والهداية الإسلامية، ولا أعتقد أن الشخصية

التي تشغل مثل هذا الحيز في ميدان العلم والأدب، تتوق إلى أي منصب مهما كان شأنه. والشيخ الجديد أكبر وأجل من أن يزهد في ذرة من كرامته، فهو مستعد لأن يبذل روحه وما يملك في سبيل كرامته، وليس مستعداً لأن يبذل ذرة منها في سبيل الإبقاء على حياته، ولا في سبيل الدنيا. ولقد حدث ذات يوم أن قدم استقالته من جمعية الهداية الإسلامية، وأنا عضو في مجلس إدارتها، وكان سببها أن قسم الجمعيات الدينية بوزارة الشؤون خاطبه في رسالة بعبارة: (حضرة رئيس جمعية الهداية الإسلامية) دون أن يراعي مكانة الرجل الذي أصر على الاستقالة، لولا أن كتبنا إلى وزارة الشؤون محتجين على إجرائهم الخالي من الذوق. وبعد: فإن الأزهر اليوم ليبدأ عهداً جديداً، والأمل كبير جداً في أن يخطو إلى الإمام خطوات موفقة في سبيل الإصلاح الذي يعود على الإسلام ووطنه وأمته بالخير واليمن، وكل ما نرجوه أن يحفظ الله الشيخ الجديد من أن تكون له حاشية، فهي سر كل بلاء في كل عهد، والله الموفق.

حظوة شيخ الأزهر الجديد

حظوة شيخ الأزهر الجديد (¬1) لأول مرة في تاريخ الأزهر، أو في تاريخ شيوخ الأزهر، يذهب ثلاثة من الوزراء يطرقون باب شيخ، شيخ يبعد كل البعد عن الأزهر، وسياسة الأزهر، وأزمة الأزهر، ومناصب الأزهر. ذهب ثلاثة من الوزراء إلى شارع خيرت؛ ليطرقوا باب الشيخ الخضر حسين التونسي الأصل، المصري الجنسية، وذهبوا إليه ليقولوا: أنت شيخ الأزهر. وكان جواب الشيخ: أنه ابتهل إلى الله أن يعينه ويساعده. وقد قوبل نبأ تعيين شيخ الأزهر الجديد بالرضا والغرابة: الرضا؛ لأنه لا ينتمي لحزب سياسي، ولم يعرف أنه أيد زعيماً من الزعماء، أو حزباً من الأحزاب، ثم إنه لا يرجو مغنماً من الدنيا؛ لأنه شارف السين التي لا تسمح للإنسان بالتفكير إلا في الله، وبهذا، فالمنظور أنه سيعمل لله، وأنه سيعمل للأزهر، من حيث رفع مكانته. وأهم من ذلك كله: أنه لا حاشية له في الأزهر تسيره، بل إنه سيعمل من وحي إرادته، وما يرتضيه الأزهر، وهذا هو المهم، أما كونه تونسياً، فالأزهر للعالم الإسلامي أجمع. أما الغرابة في التعيين، فلأنه تونسي الأصل، وغريب على الأزهر أن ¬

_ (¬1) جريدة "الوزير" التونسية - العدد 773 الصادر بتاريخ 7 ربيع الثاني 1372 هـ - 25 ديسمبر 1952 م - تونس.

يتولى مشيخته غير مصري، فلم يعرف عن أجنبي تولى مشيخة الأزهر إلا اثنان تقريباً، هما: الشيخ المهدي العباسي، والشيخ عليش، فهما من المغاربة، إلا أن أصلهما تمصر، وكانا هما من الذرية؛ بخلاف الشيخ الحالي؛ فلقد جاء إلى مصر، ثم تجنس بالجنسية المصرية حديثاً. والمهم أن اختياره جاء اختياراً موفقاً، فهو أصلح إنسان تولى هذا المنصب الخطير، ولا يستطيع أن يدس له إنسان، أو يحوله عن خطئه، وليس هناك مؤثر خارجي يستطيع أن يؤثر فيه، بل سيعمل من وحي إرادته فحسب. والوكيلان أما الوكيل الأول: فقد لقي قبولاً من الجميع؛ لأن الأستاذ محمد عبد اللطيف دراز عرف بين الأزهريين بجهاده المرير، وحسن إدارته، وسعة أفقه العلمي، وحبه، بل وتفانيه في خدمة الأزهر والأزهريين، ولم يشذ عن هذا التأييد إلا حفنة كانت تطمع في بعض المناصب التي ولت باستقالة شيخ الأزهر، والتهاني التي يتلقاها تدل على أنه رجل يستحق المنصب الذي تقرر أن يشغله وهو كفء له. وأما الوكيل الثاني: وهو الشيخ محمد نور الحسن، فهو رجل سوداني المولد، عالم فاضل، عرف بسعة علمه في الدوائر الأزهرية، إلا أن بعض المسؤولين في الأزهر يقولون، ومنهم مصدر هذا الحديث: إنه لم يعلم أنه عين في الأزهر وكيلاً ثانياً إلا من الصحف، ومن التهاني التي أرسلت إليه، وهو- وإن كان من حاشية الشيخ السالف، وقد رشحه في شروطه -، فهو -كما قلنا - واسع الأفق والتفكير، وتقلد مناصب عدة في الأزهر، أظهر فيها براعة تدل على التفكير وحسن التدبير.

تهنئة إلى الأستاذ الإمام فضيلة شيخ الجامع الأزهر الجديد سماحة الشيخ محمد الخضر بن الحسين

تهنئة إلى الأستاذ الإمام فضيلة شيخ الجامع الأزهر الجديد سماحة الشيخ محمد الخضر بن الحسين سالم ضيف (¬1) قف فوق منبر مجد الشرق يا خَضِرُ ... واهتف بأن العلا بالعلم يعتبرُ ولا حياة لهذا الشرق راقية ... إلا بعلم وأخلاق لها أثر وبالفنون فنون العصر أجمعها ... ما هي إلا من الإسلام تنحدرُ ومن يرى غير هذا رأيه خطر ... إلى العروبة والإسلام يحتقر (أبا محمد) يا من فزت واتجهت ... لك المحافل واهتزّت لك الفِكر يا أيها (الخضر) المحمود سيرتُه ... الفوز يأتي لمن يسعى ويصطبر يا (ابن الحسين) أيا من زان أمته ... أنت العظيم وبحر كلّه درر ها هي الإمامة قد جاءتك طائعة ... بالجامع الأزهر السامي لها عبر تقول يا من له في العلم منزلة ... رفيعة إنني أهواك يا قمرُ عصر المحاباة قد ولّى بخسته ... وجاء عصرٌ إلى الأكفاء ينتصر إلى الهداية والإصلاح بغييته ... وبالعروبة والإسلام يفتخر ¬

_ (¬1) شاعر تونسي من "نفطة". جريدة "الأسبوع" - العدد 309 - سنة 1952 م تونس.

فاهنأ بما نلته بالعلم محترماً ... وكن كأنت إلى الإسلام تنجبر فالجامع الأزهر الزاهي بطلعتكم ... قد اعتراه سرور ليس ينحصر ومصر كلها مثل الشرق في فرح ... وتونس جذلى لما جاءها الخبر و"نفطة" أمك السمحا تباهى بكم ... وتدعو يا ابني لك الإسعاد مزدهر

أي مغزى سام في وضع الشيخ الخضر على رأس الأزهر الشريف؟

أي مغزى سامٍ في وضع الشيخ الخضر على رأس الأزهر الشريف؟ (¬1) العلامة محمد الفاضل بن عاشور ما انفكت مدينة الفسطاط منذ أنشئت، ثم مدينة القاهرة منذ خلفتها، ترتبط مع القطر التونسي بأعمق المعاني، وأوثق الصلات. فقد كان فسطاط عمرو مركز القيادة العامة لفتح إفريقية، ثم كان العمال والقواد المتعاقبون عليه أول المسؤولين عن إسلام المغرب وتعريبه. وكانت الجيوش المرابطة بمصر، والزاحفة عليها، هي جيوش الغزو، وإمداد الفتح للبلاد التونسية. فعبد الله بن أبي سرح، ومعاوية بن حديج، وحسان ابن النعمان، وعقبة بن نافع، وموسى بن نصير، لم تعقد ألويتهم، وترسم خططهم، وتنظم حركاتهم إلا بمصر. والصحابة الكرام الذين شرفوا هذه التربة التونسية، قد كان في مصر سابق كفاحهم، وعلى أرضها ماضي عبادتهم، وفي جامع الفسطاط قديم حديثهم، والفقهاء العشرة من التابعين فقهوا مصر وأرشدوها وعلموها، قبل أن يفقهوا ¬

_ (¬1) صحيفة"الأسبوع"- العدد 334 الصادر في 18 ماي مايس 1953 م تونس. ملاحظة: يبدو أن لهذ البحث تتمة لم أعثر عليها في الأعداد اللاحقة من الصحيفة، ونشرناه؛ لما فيه من فائدة علمية جليلة.

أو يرشدوا ويعلموا بأفريقية، لذلك بقيت الأرض التونسية مرتبطة ارتباطاً روحياً بالأرض المصرية، بلغ أوجَهُ في ختام القرن الثاني بتخريج سحنون عن ابن القاسم، وإمداد مصر للقيروان بمدونة فقه مالك. من يومئذٍ لم يقم حكم، أو يجرِ عمل، أو ينتشر مذهب بأحد القطرين، إلا وهو يترامى إلى القطر الآخر تراميَ الشيء إلى صلته الضرورية، ومدى انتشاره الطبيعي، وذلك هو الذي يعلل الصدام الذي نشأ في القرن الثالث بين دولتي بني الأغلب، وبني طولون، فقد كانت كل واحدة منهما ترى أن حدود حكمها منقوصة الأطراف، ما دام أحد القطرين غير منضم إليها. ونشأت في "المهدية" دولة العبيدين، فامتلكها -وهي في مهدها- شعور بأن لا دولة لها راسخة الدعائم، ولا دعوة فاطمية ثابتة سائرة، إلا بجميع القطرين المصري والتونسي تحت عرش المهدي، فتولدت عن هذا الشعور مدينة القاهرة، تونسية العمران، مغربية الوجهة، بربرية العصبية، وتأثرت بمحاكاة "المهدية" في شكلها وخططها، فكان لها كما للمهدية باب النصر، وباب الفتوح، وباب زويلة، والسقيفة، وحارة كتامة. وانشق الجامع الأزهر على قواعد مذهب تأصلت عقائده في "المهدية"، وتفرع فقهه فيها، واستندت الروح الأزهرية في رواجها الشعبي على خطابة ونثر وشعر، كانت كلها تونسية العوامل، مهدوية الطبائع. وتأثرت عمارة الأزهر في أشكالها الهندسية وفنونها الزخرفية بمحاكاة أقواس وعمد أشرقت عليها شمس المهدية، وأزهار وأقمار ترطبت بأنفاس نسيمها البليل، فاستوثقت بذلك كله وحدة القطرين، واتسقت الروابط بينهما، حتى إنه لما تحرك أحدهما حركة الانفصال عن الآخر بقيادة المعز بن باديس

الصنهاجي، كان لتلك الحركة من الرجّة والاضطراب والزعزعة ما يكون لمحاولة الفكاك بين جسمين منساقة جاذبيتهما إلى الائتلاف. وفاضت عن أرض مصر الزحفة الهلالية السلمية تجدد اللحام المنفك بتجديد المدد البدوي الذي هو جرثومة التكون الاجتماعي، فتكوّن المغرب العربي بذلك تكوناً جديداً، وانتعشت فيه روح العروبة بعد الذبول. وكان ما عانته البلاد التونسية من جراء ذلك حقبة من الدهر، هو ما تعانيه الأجسام الحية من أزمات العناصر الملقحة التي تدخل عليها لتجددها. ثم جاء الدور الصليبي، فانتظم القطران صفاً في مكابدة المحنة، ومجابهة الهجمة، وكان تشابه الظروف التي جرى فيها الطغيان واتحاد أشخاص الطاغين مظهراً جليلاً لوحدة ما بين القطرين سياسياً، في الوقت الذي كانت فيه هذه الوحدة تزيد تأَكداً من الجهة الروحانية بنزول الشيخ أبي الحسن الشاذلي بالإسكندرية، واتخاذها مهداً لطريقته التي عمت منها العالم الإسلامي، وتنفست في شاطئها عن مثل الأدب الصوفي الذي بلغ شأوه الأبعد في حِكَم ابن عطاء الله، وشعر ابن الفارض، والبوصيري، وتتوثق الوحدة من الجهة العلمية بمثل صلات محمد بن جابر الواد آشي بالبدر بن جماعة، ورواية شيخ الإسلام ابن حجر عن شيخ الإسلام ابن عرفة، وتخرج السخاوي والمقريزي عن ابن خلدون، وما انضم بُعد من سلاسل لا تحصى في الأخذ والتخرج والرواية والأجدة والتدبيج، حتى صارت تونس من إمداد الأزهر، وهو من مواردها، وسهل انضواء القطرين معاً تحت العلم العثماني لحماية الإسلام في البحر المتوسط صلاتُ الثغور التونسية بثغر الإسكندرية، وعلاقة رجال جامع الزيتونة بالجامع الأزهر وشيوخه على ما بدت في ارتباط اسم أحمد

الشريف باسم البشراوي، والغرياني بالحفني، والبليدي، واسم زيتونة باسم الزرقاني، واسم مرتضى باسم الغرياني، واسم البناني بالصعيدي والصبان، واسم ابن سعيد باسم العطار، والرياحي بالأمير.

حديث من عالم الخلد الأستاذ الأكبر الشيخ الخضر حسين يتحدث إلى صوت الشرق

حديث من عالم الخلد (¬1) الأستاذ الأكبر الشيخ الخضر حسين يتحدث إلى صوت الشرق الشيخ الخضر حسين هو محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر، وهو جزائري الأصل، ولكنه ولد في تونس؛ لأن والده انتقل إليها مهاجراً بسبب دخول فرنسا جهة "بسكرة" بعد حرب دامت سنوات مع أهل الجزائر. وقد ولد سنة (1293 هـ - 1873 م) في بلدة "نفطة" في إقليم "الجريد" بتونس، وحفظ القرآن في البيت وهو صغير، ثم دخل جامع الزيتونة الذي يشبه الأزهر. ونال شهادة مشابهة للشهادة العالمية الأزهرية، وبعد تخرجه أصدر مجلة "السعادة العظمى" التي كانت أول مجلة أدبية علمية أنشئت في المغرب العربي. ثم تولى القضاء في مدينة "بنزرت"، ولم يطل عهده في القضاء؛ لأنه حال بينه وبين الدراسة العلمية الواسعة، ثم اشتغل بالتدريس في جامع الزيتونة، وفي المدرسة الصادقية، وبقي في التدريس خمس سنوات، واشتغل أثناء ذلك ¬

_ (¬1) جريدة "الاستقلال" صدرت في تونس بداية من 30 سبتمبر أيلول 1955 م أسبوعياً، ورأس تحريرها الأستاذ محمد المنصف المنستيري، وهو من رجال الصحافة والكفاح الوطني. من مواليد تونس العاصمة 6 أوت آب 1901 م، وتوفي في 29 جانفي كانون الأول 1971 .. وهذا المقال نشرته جريدة "الاستقلال" نقلاً عن صحيفة "صوت الشرق".

بقضية بلاده، وبالقضايا الإسلامية والعربية؛ مما عرضه للأخطار والأهوال؛ إذ غضب عليه المحتلون، وضيقوا عليه الخناق، ثم أصدروا عليه حكماً بالإعدام، ولكنهم لم يستطيعوا تنفيذه؛ لأنه هاجر بنفسه في سبيل مبادئه وعقائده. فرحل إلى الشام، وإلى الحجاز، وإلى تركيا، وإلى ألمانيا. وفي أثناء الثورة العربية خلال الحرب العالمية الأولى اعتقله جمال باشا التركي الملقب بالسفاح. ويقي في الاعتقال فترة طويلة، ثم أفرج عنه، وكان في هذه المحنة رفيقاً للرئيس شكري القوتلي، وكان شكري إذا لقي الشيخ في مصر خلال السنوات الأخيرة يداعبه قائلاً: "أهلاً بزميلنا في أيام الشدة والبؤس" .. ثم رحل الشيخ إلى مصر سنة 1919 م، ونال الشهادة العالمية من الأزهر، وبذلك تحققت آمال والدته فيه؛ لأنها كانت تحمله وهو صغير، وتغني له بغناء شعبي تقول له: يا ربي الأكبر ... تخلّي لي محمد الأخضر يقرأ في الجامع الأزهر ... ويشتهر في المالكية وعين الشيخ مدرساً في الأزهر، ثم أستاذاً في كلية أصول الدين، واشترك في إنشاء "جمعية الشبان المسلمين"، وأسهم في وجوه كثيرة من النشاط العلمي والأدبي والديني. فكان محرراً لمجلة "نور الإسلام"، ورئيساً لجمعية "الهداية الإسلامية"، وعضواً في "المجمع اللغوي"، وعضواً في جماعة كبار العلماء، ومحرراً لمجلة "لواء الإسلام"، ثم اختير شيخاً للأزهر في عهد الثورة، وظل فترة في هذا المنصب الخطير، ثم استقال، واعتكف في بيته يبحث ويكتب، حتى وافاه الأجل المحتوم في الثاني من فبراير سنة 1958 م. من كان يظن أن هذا الحديث الذي دار بيني وبين الشيخ -رحمه الله-

سيطالعه مطالعوه في عالم الخلد ودنيا البقاء؟ .. {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. في شارع (صفية زغلول) خلف بناء وزارة التربية والتعليم بالقاهرة، وفي جناح ضيق من بيت هادئ من بيوت هذا الشارع القصير، سعيت إلى الشيخ لألقاه، وأتحدث إليه، وأستمع منه، وما كنت أدري أن ركاب الموت ينتظره بعد قليل، وما كنت أتوقع أن يكون هذا اللقاءآخر لقاء لي مع ذلك الشيخ الوقور الهادئ .. دخلت عليه وهو في حجرة مكتبه، وحوله أضابير أوراق، ومجموعة كتب، والصمت يعقد رباطه على المكان، فليس ثمة حركات ولا صوت، فالشيخ قد تزوج مرتين، ولكنه لم يرزق بأولاد .. وشاهدت على وجهه دلائل المرض، ومظاهر الشيخوخة المرهقة، فأردت أن أخرج به من عزلته ووعكته، فسألته: إنك مع علمك وفقهك واشتغالك بالقضايا الإسلامية تقول الشعر، فما هي الدوافع التي دفعتك إلى الشعر؟ .. فأجاب: حينما تراجع ديواني "خواطر الحياة" يسهل عليك أن تتعرف إلى المحرضات التي حرضتني على النظم .. فقد نشأت في إقليم "الجريد" بتونس، وكان للشعر في هذا الإقليم مكانة ومنزلة، وكان الكثيرون من أقاربي يقولون الشعر، وكنت ألمس ما يلاقونه من تكريم وحفاوة عن طريق قولهم الشعر، فتعلقت بأسبابهم من أول النشأة، وحاولت النظم وأنا في الثانية عشرة من عمري، ولما التحقت بجامع الزيتونة، رأيت المنافسة على أشدها بين الطلاب والأساتذة في قرض الشعر. ولكني أصارحك بأن حبي للعلم تغلب على ميلي للشعر، ولعل السبب

في ذلك هو أنني لم أرض عن شعري الذي أقوله، وأتذكر أنني قلت عن الشعر: "أجوده ليس في متناول قريحتي، وغير الأجود تتسامى عنه همتي" .. مع انصرافي إلى العلم والقضايا العامة، لم تنقطع صلتي بالشعر، بل ظللت أقر له بين الفينة والفينة في النواحي الإصلاحية والأخلاقية والاجتماعية والوطنية والدينية .. فقلت للشيخ: هل يستفاد من ذلك أنه لا يمكن الجمع بين التوسع في العلم والعناية بالشعر؟ أو أن هناك تباعداً بين ميدان الشاعر وميدان العلم؟ وهل هناك غضاضة في أن يقول العالم الكبير شعراً؟ .. فأجاب: ما إلى هذا قصدت، ولكنني أصور ما حدث بالنسبة إليّ، وفي الوقت نفسه أقول: إن هناك كثيرين انصرفوا إلى الشعر وحده، وكثيرين انصرفوا إلى العلم وحده، وبجوار هؤلاء وهؤلاء طائفة معدودة استطاعت أن تجمع بين العلم والشعر، فزادها ذلك الجمع مكانة ورفعة، منهم: القاضي عبد الوهاب المالكي البغدادي، ومنذر بن سعيد البلوطي الأندلسي القاضي، ويحيى بن يحيى الليثي الفقيه. ومنهم: أبو الوليد الباجي الفيلسوف، ومنهم: القاضي أحمد بن محمد الأرجاني، فهؤلاء كانت مكانتهم في العلم والدين والفتيا سامقة عالية، وكانوا يقولون الشعر، ولا يرون به بأساً .. فسألته متبسطاً في الحديث: ألم تقولوا شعراً عاطفياً؟ .. فقدم إلي نسخة من الطبعة الأخيرة لديوانه، وقال وهو يبتسم في وقاره المألوف، بعد أن وقع لي بإهدائه على النسخة: تصفح هذا الديوان، ففيه كل ما بقي بين يدي من الشعر .. وقلبت الصفحات فإذا هي الأبيات:

ها هنا مرتعهم، خذ بيدي ... ودع الأينق في الروض طليقه طال بي البين إلى أن أطفأت ... نظرة من ساكني البان حريقهْ يا بدوراً حسنها ابتز النهي ... وهواها مدّ في القلب عروقه عادت الأيام من هجرانكم ... لي خصماً بعد أن كانت صديقهْ من دجى يقضيه جفني أرقاً ... وضحى يلبسه الليل غسوقه وكفي جسمي نحولاً أن تخا ... لوه كالطيف خيالاً لا حقيقةْ لم أضع للودحقاً، إنما ... حان أن يرعى الأخلاّء حقوقهْ * غربة الفضلاء: وسألت الشيخ الأكبر: لقد طال تنقلكم شرقاً وغرباً، ولم يستقر بكم المطاف فترة طويلة من حياتكم، فهل كنتم تحسون أثناء ذلك باضطراب أو قلق أو وحشة؟ .. وأجاب في هدوئه المألوف: إن الذي يؤمن بعقيدة أو مبدأ، لا يحس بغربة مهما تنقل وارتحل، ما دام وفياً لعقيدته، متمكناً من مبدئه، ولقد طال تطوافي في جهات عديدة من أفريقيا وآسيا وأوروبا، ومرت بي فترات كنت أصبح فيها في مكان، وأمسي في مكان غيره، ومرت بي لحظات فيها سجن وقسوة، وعنف واتهام وتهديد، وحرمان ومطاردة، ومع ذلك كله كان للمرء أنيس، أي أنيس من ربه وإيمانه، ولقد كنت سجيناً في الشام، ومع ذلك كنت أرى في النوم أحلاماً أرضى بها وأستبشر، وبعض هذه الأحلام تحقق مفهومها، أو ما يقرب منه. وليس معنى هذا أنني كنت حريصاً على حياة التنقل والاضطراب من

مكان إلى مكان، بل كنت أطمح إلى أن أستقر يوماً من الأيام في دار لا يحتمل الإنسان فيها مذلة أو هواناً، وقد وجدت طلبتي في مصر، فجعلتها داري ومستقري منذ قرابة أربعين عاماً. ولقد صورت ضجري من كثرة أسفاري، واتصال ارتحالي في أبيات ثلاثة نظمتها سنة 1338 هـ وفيها أقول: أنا كأس الكريم والأرض نادٍ ... والمطايا تطوف بي كالسقاة كم كؤوس هوت إلى الأرض صرعى ... بين كفٍّ تديرها واللهاة فاسمحي يا حياة بي لبخيلٍ ... جفن ساقيه طافح بسبات * رسالة المجمع اللغوي: وانتقلت بالشيخ من ميدان هذه الذكريات إلى ميدان اللغة والمجمع اللغوي، فقلت: - إنك عضو في المجمع منذ عهد بعيد، فهل نستطيع أن نقول: إن المجمع أدى رسالته؟ وأجاب الشيخ: أقولها لك صريحة واضحة، لا مواربة فيها ولا مجاملة: إن المجمع اللغوي لم يؤد رسالته، وليس هو من الإهمال لهذه الرسالة والتفريط فيها بالصورة التي يصوره بها بعض الناس في نكتهم ودعابتهم، ولكنه في الوقت نفسه لم يقم بواجبه، وقد يرجع السَّبب في ذلك إلى اختلاف الآراء المتضاربة، وكثرة الاتجاهات المتعاندة، وتحكم الشخصيات أحياناً، مع تشتت في الأذواق والمشارب، مع قلة في المال المخصص له، ولو أن ميزانية المجمع

اتسعت، لاتسع نشاطه وإنتاجه، والواقع الذي لا ريب فيه أن المجمع يحتاج إلى إصلاح شامل، وتغيير جوهري في خطته وطريقته. هذه مجلته -مثلاً- تنقطع وتتباعد مواعيد ظهورها، وهؤلاء أغلب الأعضاء يكادون يقتصرون على العناية بالمصطلحات العلمية وحدها، مع وجود كثير غيرها من الأعمال والواجبات. وهذا معجم القرآن لم يخرج للناس، على الرغم من كثيرة الوعود، وطول العهود، وتكرار التبشير بأنه سيسعى إلى عالم الحياة، وهذا المعجم الكبير الذي تطلعوا إليه منذ أمد طويل لم يحيى النور بعد، ولا ندري متى يتم أو يظهر، ولعل الأحفاد يشهدون ميلاد هذا المعجم .. هنا سألت الشيخ: هل تذكرون بعض البحوث أو الأعمال اللغوية التي نهضتم م في المجتمع اللغوي؟ فأجاب: لقد اشتركت في أعمال كثيرة من نشاط المجمع، وقدمت بحوثاً عدة أذكر منها: بحثي عن "القياس في اللغة العربية" الذي شرحت فيه حقيقة القياس، وفصلت شروطه، ودللت على مواقعه وأحكامه، والقياس باب واسع المجال مترامي الأطراف، له صلة بكل باب من أبواب العربية، ويكاد ذكره يجري عند تحقيق كل مسألة لغوية، ولا أطيل الحديث عن هذا البحث، فقد نشرته في كتاب منذ أكثر من عشرين عاماً، وكذلك أذكر بحثي في الرد على الرأي الذي ارتآه بعض أعضاء المجمع- وهو الدكتور طه حسين- الذي ذهب إلى أن (الضمير) قد يستعمل كاسم الإشارة، فنقضت هذا الرأي. * الأدب في تونس: سألت الشيخ الأكبر عن الحياة الأدبية في تونس، فقال:

- يوجد في تونس أدباء لهم كتاباتهم ومؤلفاتهم. ولكنهم لا يبلغون مبلغ الأدباء في مصر، لا من ناحية العدد، ولا من ناحية الآثار وقيمتها، ولقد أخرجت مصر للناس شاعراً عظيماً نابغة؛ كالمرحوم أحمد شوقي، ولم تكتب الأقدار مثل هذا لتونس، وإن كان يوجد في تونس شعراء متوسطون، وهم -مهما اعتزوا بآثارهم- يرون في مصر الوجهة التي يتجهون إليها مقتدين ومقدرين. ولقد كان في تونس شاعر ينتظره مجد عظيم لو طال به الأجل، وهو المرحوم أبو القاسم الشابي، ولكن الموت عاجله، فرحل عن الدنيا وهو في ريعان شبابه .. والصحافة في تونس محدودة النشاط، وهي متواضعة في مظهرها ومخبرها. ولا عجب، فتونس اليوم دولة ناشئة، ولم يمض عليها عهد بعد تخلصها من ظلمات المحتلين وظلمهم، والمنتظر أن تسير الحياة الأدبية قدماً نحو القوة والاتساع ما دامت تونس تسير في طريق القوة والبناء .. وخرجت من حضرة الشيخ الأكبر، ولا يزال يستولي على تفكيري هذا الهدوء الذي يحيط به، وهذا الاعتكاف في محراب من محاريب البحث العلمي والتأمل العميق -رحمه الله-. عن صوت الشرق (أبو حازم)

القياس في دراسات المحدثين

القياس في دراسات المحدثين الدكتور عبد الصبور شاهين (¬1) ومن دارسي القياس حديثاً: العالم اللغوي المجتهد الشيخ الإمام محمد الخضر حسين (شيخ الأزهر الأسبق)، وقد بدأ يعالج هذه المشكلة منذ عهد بعيد (حوالي عام 1920 م) في مجموعة من المقالات، نشرت في كتاب عام 1934 بعنوان: "القياس في اللغة العربية". وقد حاول أن يحصر من أول الأمر احتمالات القياس، على ما جرت به محاولات السلف، فوجدها أربعة أضراب: أحدهما: حملُ العرب أنفسهم لبعض الكلمات على أخرى، وإعطاؤها حكمها؛ لوجه يجمع بينهما؛ كما يقال: أُعرب الفعل المضارع قياساً على الاسم؛ لمشابهته له في احتماله لمعان لا يتبين المراد منها إلا بالإعراب، وكما يقال: دخلت الفاء خبر الموصول في نحو قولهم: "من يأتيني فله درهم"؛ قياساً للموصول على الشرط؛ لمشابهته إياه في إفادة العموم. ¬

_ (¬1) كاتب ومفكر إسلامي معروف، وهذا المقال جزء من البحث الذي نشره في مجلة "عالم الفكر" عدد أكتوبر ونوفمبر وديسمبر 1970 م الكويت - تحت عنوان: "مشكلات القياس في اللغة العربية"، واخترنا من البحث ما يتعلق بالإمام الإمام محمد الخضر حسين.

وكما يقال: نصبت (لا) النافية للجنس الاسم، ورفعت الخبر قياساً على (أن)؛ لمشابهتها إياها في التوكيد، فإن (لا) لتأكيد النفي، كما تأتي (أن) لتوكيد الإثبات. ثانيها: أن تعمد إلى اسم وضع لمعنى يشتمل على وصف يدور معه الاسم وجوداً وعدماً، فتعدي هذا الاسم إلى معنى آخر تحقق فيه ذلك الوصف، وتجعل هذا المعنى من مدلولات ذلك الاسم لغة. ويضرب لهذا النوع مثلاً: إطلاق اسم (الخمر) -وهو الموضوع للمعتصر من العنب، حين يخامر العقل- على المعتصر من غير العنب إذا تحقق فيه مخامرة العقل أيضاً. وإطلاق اسم (السارق) -وهو الموضوع لمن يأخذ مال غيره من الأحياء خفية من حرز مثله- على (النباش) الذي يأخذ ما على الموتى من كفان. ويقول الشيخ الخضر: "وهذا الضرب من القياس هو الذي ينظر إليه علماء أصول الفقه، عندما يتعرضون لمسألة: هل تثبت اللغة بالقياس؟ ". ثالثها: إلحاق اللفظ بأمثاله في حكم ثبت لها باستقراء كلام العرب، حتى انتظمت منه قاعدة عامة؛ كصيغ التصغير، والنسب، والجمع. وأصل هذا: أن الكلمات الواردة في كلام العرب على حالة خاصة، يستنبط منها علماء العربية قاعدة تخول المتكلم الحق في أن يقيس على تلك الكلمات الواردة ما ينطق به من أمثالها. رابعها: إعطاء الكلمة حكم ما ثبت لغيرها من الكلم المخالفة لها في نوعها، ولكن توجد بينهما مشابهة من بعض الوجوه، كما أجاز الجمهور ترخيم المركب المزجي قياساً على الأسماء المنتهية بتاء التأنيث. وكما أجاز طائفة

حذف الضمير المجرور العائد من الصلة إلى الموصول متى تعين حرف الجر، قياساً على حذف الضمير العائد من جملة الخبر إلى المبتدأ، فتقول: قضيت الليلة التي ولدت في سرور؛ أي: ولدت فيها، جاز لك أن تقول: هذا الكتاب تساوي الورقة درهماً؛ أي: الورقة منه بدرهم. ومن هذا التحديد يتضح لنا عدة أمور: أولها: أن القياس في نظر الشيخ الخضر يجريه العربي القديم، كما يجريه الأصولي والنحوي، ولكنَّ لكل منهما مجالاً. فمجال العربي، وهو صاحب اللسان: هو الضرب الأول، ومجال الأصولي: هو الضرب الثاني، ومجال النحوي: الضربان الأخيران. ثانيها: أن القياس قد يكون في الشكل، وقد يكون في الدلالة، فمن الأول: إلحاق المضارع بالاسم في الإعراب، ودخول الفاء على خبر الموصول قياساً على الشرط، وحذف الضمير العائد من الصلة إلى الموصول متى تعين حرف الجر قياساً على حذف الضمير العائد من جملة الخبر إلى المبتدأ. ومن الثاني: قياس الأصوليين السابق ذكره. ثالثها: أن الهدف من قياس الشكل: طرد قاعدة معينة في مجال تصريف الكلمة، أو تركيب الجملة، والهدف من قياس الدلالة: خلق استعمالات جديدة لكلمات اللغة؛ أي: توسيع الدلالة الضيقة. والواقع أن ما جعله الشيخ الخضر خاصاً بالعرب أنفسهم في الضرب الأول من القياس لا تنهض الأمثلة المسوقة بتفسيره على نحو ما أراد المؤلف؛ لأن من المؤكد أن العربي القديم لم يستشعر هذا التشابه المفترض بين المضارع والاسم؛ ليطرد في الأول قاعدة الإعراب، وإنما ذلك شيء لاحظه النحويون

من تتبعهم لاستعمالات المضارع، ومحاولتهم تعليل خروجه على قاعدة البناء في الأفعال، فألحقوه بالأسماء في العلة، وكذلك قياس فاء خبر الموصول على فاء جواب الشرط. وأيضاً تعليل عمل (لا) التي تنفي الجنس عمل (إنَّ) بأن كلتيهما تفيد التوكيد، مع فارق أن (لا) لتأكيد النفي، و (إنَّ) لتأكيد الإثبات. فقد أثبت القدماء تفرقة بين (لا) و (إنَّ) تُضعف وجه الشبه بينهما عملاً، وذلك أن (لا) غير عاملة في الخبر. بخلاف (إنَّ)، أو أن (لا) ركبت مع الاسم النكرة بعدها، فصارا شيئاً واحداً، وأما (إنَّ)، فإنها لا تركب مع الاسم يعدها. "الإنصاف" (1/ 195). وبذلك يظهر أن هذه الأمثلة القياسية هي من صنع النحاة، لا من وضع العرب أنفسهم. فقد نطق العرب باللغة، دون أن يكون منهم أدنى ملاحظة تقيس ظاهرة نحوية على أخرى. ثم هذا الضرب الذي خصه الأستاذ الخضر بالأصوليين، أليس فحواه توسيع الدلالة في بعض ألفاظ اللغة؛ لتشمل مجموعة من الإطلاقات الجديدة على أساس مجازي؟ ومثل هذا العمل اللغوي يمارسه الأصوليون، وغير الأصوليين متى لوحظت العلاقة المجازية التي تربط بين مفهوم ذي لفظ موضوع، ومفهوم آخر جديد يحتاج إلى لفظ يدل عليه. ومن هذا القبيل: إطلاق ألفاظ: (قطار، وسيارة، وطائرة)، وسائر ما يدل على المفاهيم المستحدثة في اللغة، فقد اكتسبت هذه الألفاظ معانيها الجديدة بوساطة توسيع الدلالة على أساس مجازي، ومن البين أن هذا التوسيع لم يقم به الأصوليون.

على أن الشيخ الخضر لم يقف عند هذين الضربين من القياس، وإنما خص الضربين الأخيرين بدراسة مستفيضة، على أساس أن أولهما يقوم على التشابه الكامل بين المقيس والمقيس عليه، فاستحق المقيس الحكم الذي ثبت للمقيس عليه؛ كتصغير الثلاثي قياساً، والنسب إلى الأسماء، وجمعها جمع تكسير. أو جمعاً سالماً ... إلح. وعلى أساس أن ثانيهما يخص الكلمة التي توجد بينها وبين غيرها مشابهة من بعض الوجوه، وكلا هذين الضربين من باب القياس الشكلي الذي أشرنا إليه من قبل، بيد أن الشيخ قد خص القياس القائم على التماثل باسم: (القياس الأصلي)، واختار للثاني اسم: (قياس التمثيل)؛ للتفرقة بينهما، ثم مضى في تتبع الفروع اللغوية؛ ليثبت وجود هذين النوعين من القياس. ومن الواضح في هذا التقسيم أنه مشتمل على مفهومي القياس، من حيث هو تطبيق قاعدة على أفرادها، ومن حيث هو استنباط جديد على ضوء قديم، وإن جعل القاعدة في كلا الموقفين هي الأساس.

الحركة الأدبية والفكرية في تونس

الحركة الأدبية والفكرية في تونس (¬1) العلامة محمد الفاضل بن عاشور وبقي معارضو الدعوة الإصلاحية متطلعين إلى الوفاء بالحاجة الثانية، وهي تكوين نشرة تناقش في المباحث الدينية على قاعدة التزام المذهب الذي عليه جمهور العلماء في مسائل أصول الدين الاعتقادية، وفروع الفقه العملية، وكان الحرص على محاكاة مصر في وسائل نهضتها، يحسن لأهل العلم إيجاد مجلة علمية بتونس. إذ كان النشر مقصوراً يومئذ على الصحف. حتى انتدب لسد ذلك العوز نابغ من شباب شيوخ الزيتونة، هو الشيخ الإمام محمد الخضر حسين، وكان في شبابه بتونس على ما عرف منه الشرق في كهولته وشيخوخته؛ اعتدالاً، وهدوء طبع، وخلوص نية، وسعة علم، وبراعة قلم، فأصدر في شهر المحرم سنة (1322 هـ -1904 م) مجلة علمية سماها: "السعادة العظمى"، ابتهجت لصدورها جميع الأوساط العلمية والفكرية؛ ثقة بعلم صاحبها وتحقيقه، وصلابة عوده في أمور الدين، مع ما اشتهر من تأييده لحركة المصلحين. فكان ظهور "السعادة" في معمعة تلك الخلافات كطلوع الحكم العادل، ¬

_ (¬1) فقرات تتعلق بمجلة"السعادة العظمى" للإمام محمد الخضر حسين من كتاب "الحركة الأدبية في تونس" للعلامة محمد الفاضل بن عاشور، طبعة سنة 1972 م.

تنزهت به المجادلات عن الفحش، وتطهرت من الهمز واللمز، وتسامت عن التشهير والأذى الشخصي، فاقتبلها المجددون واثقين من أن التحيز والمبالغة والعناد ستزيف كلها على معيار هذه المجلة العلمية الراقية، وتلقفها خصوم التجديد حجة على أن شباب العلماء المتنورين، ليسوا على مذهب صاحب "المناردا وأتباعه، وقنع هؤلاء المحافظون بأن يعتضدوا بالشيخ النجار، ومجلة "السعادة العظمى"، مكتفين بذلك في باب الجدال العلمي، والنقاش النزيه، وإن بقيت لهم وسائلهم الأخرى في باب التشهير والسعاية والنكاية. فقد عارضت هيئة النظارة العلمية بالجامع الأعظم في صدورها، وطالبت الحكومة بتعطيلها، وكان ذلك أصل الاضطهادات التي نالت صاحبها من طرف شيوخ النظارة، ومع ذلك، فقد أحاط بمجلة "السعادة العظمى" القبول الحسن، فقرظتها الجرائد، وانثالت عليها الرسائل والقصائد، في الثناء والتأييد من العلماء والأدباء وذوي الأفكار، وكانت نزعات التقارب تختلف باختلاف ما ينتمي إليه المقرظون من الشقين المتقابلين الواثقين بمجلة السعادة على السواء. فكانت هذه المجلة مركزاً للحركة الفكرية، وقوة توجيه متصلة بجميع أهل الثقافة العربية، يجتمع تحتها شقان متباعدان، في سعيد الاحترام، وحسن الأدب، والتجرد، ولم تدم إلا عاماً ناقصاً، فصدر منها واحد وعشرون عدداً، أثيرت فيها مباحث مهمة حول المسائل الدينية التي كانت يومئذ شغل أفكار العلماء مع مجلة "المنار".

حديث مع المحامي علي الرضا الحسيني المؤلفات الكاملة للعلامة محمد الخضر حسين في طريقها للصدور

حديث مع المحامي علي الرّضا الحسيني (¬1) المؤلفات الكاملة للعلامة محمد الخضر حسين في طريقها للصدور زار تونس هذه الأيام المحامي الأستاذ علي الرّضا الحسيني ابن العلامة الشيخ زين العابدين شقيق الإمام محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر. والأستاذ علي الرضا ينحدر من أصل تونسي، وهو مقيم الآن في دمشق مع أسرته حيث يزاول مهنة المحاماة. وفي بيت الأستاذ الهادي العبيدي الذي حوَّل -في هذه الأيام حيث يقضي فترة النقاهة- غرفة الاستقبال ببيته إلى نادٍ أدبي، يفد عليه رجال الفكر والأدب والفن من تونس، ومن شتى البلاد العربية، التقينا بالمحامي علي الرضا الحسيني الذي اتصل بالأستاذ الهادي العبيدي للاطمئنان عليه، والسؤال عن صحته، وأجرينا معه الحديث التالي: س - ما هي الغاية من زيارتكم تونس؟ ج - إن الإقامة -وللأسف- قصيرة جداً إذا ما قيست بالشوق الذي أكنه لهذا البلد. والأمل الذي أرجو أن يتحقق مستقبلاً هو الإقامة لمدة أشهر؛ ¬

_ (¬1) جريدة "الصباح، التونسية، أوسع الصحف انتشاراً في تونس والمغرب العربي، لقاء في دار الأديب الكبير المرحوم الهادي العبيدي الذي كان يشغل رئاسة التحرير في الجريدة.- العدد (7184) الصادر في 14 شعبان 1392 هـ الموافق 21 سبتمبر 1972 م - تونس.

حيث أتعرف أكثر فأكثر على تونس بمدنها التاريخية، ومصايفها الرائعة، وأعيش مع شعبها الطيب فترة هي من أجمل ما تكون في مرحلة العمر. أما الغاية من هذه الزيارة، فهي البحث العلمي، والتنقيب عن الآثار العظيمة التي تركها العم العلامة محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: للاطلاع والسياحة. وقد تحققت الغاية العلمية؛ حيث كان لي شرف الاجتماع بأعلام تونس من أهل العلم والفضل، ممن عرفوا الشيخ الخضر، وكانوا إخوة صادقين؛ من أمثال: سماحة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور الذي زودني بالتوجيهات القيمة، والآراء السديدة، فجزاء الله خيراً. كما التقيت بعدد من علماء تونس بهذا الاختصاص، ولهم جميعاً الشكر والامتنان. وقد لازمتُ دار الكتب الوطنية (مكتبة العطارين)، وقمت بتصوير بعض الوثائق التي كنت أفتقدها، ولا سيما ما كتب في مجلة "السعادة العظمى" التي كان يصدرها الشيخ الخضر في تونس عام 1903 م، كما جمعت ما كتبه في مجلات: "البدر"، و"العرب"، و"الفجر" التي كانت تصدر في تونس، كما نقلت ما كتبته الصحف والمجلات التونسية عن حياته وآثاره. س - علمنا أنكم قد باشرتم بطبع التراث الإسلامي للإمام الراحل، فهل تحدثون قراء "الصباح" عن هذا التراث، وإلى أين وصلتم في إخراجه؟ ج - منذ عشر سنوات خلت شرعتُ في جمع آثار الشيخ -رحمه الله- ومنها: رسائله المطبوعة على اختلافها، ومنها: مئات المقالات التي نشرها في المجلات الإسلامية والمصحف، وخاصة في المجلة التي كان يصدرها في القاهرة، والمعروفة باسم "الهداية الإسلامية". وكذلك المجلات التي كان قد

ترأس تحريرها مثل مجلة "نور الإسلام"، وهي مجلة الأزهر اليوم، ومجلة "لواء الإسلام". وقد رتبت الأبحاث حسب مواضيعها في كتب طبعتها في دمشق. ومن الكتب التي ثم طبعها: رسائل الإصلاح - محمد رسول الله وخاتم النبيين - بلاغة القرآن - الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان - تونس وجامع الزيتونة - الخيال في الشعر العربي - تراجم الرجال. أما الكتب التي ستطبع -إن شاء الله-، فهي: السعادة العظمى - دراسات في اللغة - هدى ونور- محاضرات إسلامية - الرحلات - القاديانية والبهائية - دراسات في الشريعة الإسلامية - نقض كتاب في "الشعر الجاهلي" لطه حسين - نقض "كتاب الإسلام وأصول الحكم" - خواطر الحياة، وهو شعر فقيدنا الكبير - أسرار التنزيل (¬1). وقد سبق أن طبعت إحدى دور النشر في دمشق كتاب "دراسات في العربية وتاريخها"، وسيعاد طبعها -إن شاء الله- فيما بعد. كما أني قمت بجمع آثار العم الشيخ محمد المكي بن الحسين، ولا سيما لغوياته التي كانت لها شهرة واسعة بين قراء الأدب، وسأطبعها -إن شاء الله- بعد أن يتم ترتيم في مجموعات أدبية (¬2). س - وماذا تحدثنا عن مؤلفات والدكم -أطال الله عمره-؟ إن سيدي الوالد الشيخ زين العابدين -حفظه الله-، منذ أن أقام في ¬

_ (¬1) طبعت كافة هذه المؤلفات وغيرها للإمام، ولله- سبحانه وتعالى- الحمد والشكر. (¬2) طبعت كافة الآثار العلمية للعلامة النحوي محمد المكي بن الحسين.

دمشق، قد احتضنته تلك المدينة العظيمة، وكان له شأن كبير فيها، حيث انصرف إلى التوجه الديني فقط، في حلقات للتعليم والتوجيه تكاد تكون يومية، وقد زود المكتبة العربية بآثار هامة، ما زال يتلقفها القارئ العربي بشوق، ومن مؤلفاته: "المعجم المدرسي" الذي قضى في تحضيره سنوات، و"المعجم في النحو والصرف"، و"دروس الوعظ والإرشاد"، و"الدين والقرآن"، و"المعجم في الكلمات القرآنية"، و"الأربعون الميدانية" في الحديث. وثمة رسائل صغيرة أخرى؛ كمولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورسالة في الدين الإسلامي، ورسالة عن الأحاديث الواردة في رمضان، وغيرها. ولسيدي الوالد شغف كبير بتونس، حيث ولد فيها، وقد بلغ هذا الشغف أنه كثيراً ما يحتفل بأبناء تونس الزائرين لدمشق، والذين يتميزون باللباس الخاص بهم، ويدعوهم إلى الدار دون معرفة سابقة، كل ذلك محبة في ذلك البلد. ولا أعتقد أن هناك مواطناً تونسياً، سواء كان من الرسميين الذين زاروا دمشق ضمن وفود حكومية، أو من غيرهم، لم يجتمع بالوالد، إلا القليل -فيما أظن-، وستكون آثاره قريباً في المكتبات التونسية. والواقع أنه يصعب علي الإفاضة بالحديث عن سيدي الوالد، وأترك هذا لمن عرفه من التونسيين؛ لتكون الصورة أوضح بتفاصيلها ووثائقها. ومن المعروف أن الشيخ محمد الخضر حسين عبقرية إسلامية فذة، قلما يجود بها الزمان، وإن كانت ولادته في "نفطة" من الجنوب التونسي، فإن ميدان نضاله اتسع حتى شمل العالم الإسلامي. وفي مثل هذه العجالة لا يمكن حتى الإيجاز عن حياة عظيم من عظماء

الإسلام في القرن العشرين، وإن آثاره أفضل سبيل لمعرفة هذا العظيم. لقد ولد الشيخ الخضر في بلدة "نفطة" عام 1874 م من أسرة علم وصلاح وتقوى يتصل نسبها بالرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم -. وقد انتقل إلى العاصمة تونس مع والده حيث التحق بالجامع الزيتوني، وحصل على شهادة التطويع، ومنذ مطلع حياته بدأ الكتابة وقرض الشعر، وأصدر مجلة "السعادة العظمى"، وتولى القضاء في مدينة "بنزرت". وقام بالتدريس في جامع الزيتونة، والمدرسة الصادقية. ارتحل مع عائلته إلى الشرق، فأقام مدة في دمشق، وغادرها إلى القاهرة؛ حيث استقر هناك بقية حياته مناضلاً مكافحاً في شتى الميادين السياسية والدينية. وترأس تحرير مجلة "نور الإسلام"، وعين مدرساً في كلية أصول الدين - إحدى الكليات الأزهرية -، ثم أستاذاً في التخصص، وأنشأ جمعية "الهداية الإسلامية"، وأصدر مجلة تحمل نفس الاسم، وعين عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، وعضواً في المجمع اللغوي بالقاهرة، وقدم رسالة "القياس في اللغة العربية" التي نال بها عضوية هيئة كبار العلماء، وفي الميدان السياسي قام بتشكيل عدة جبهات للدفاع عن المغرب العربي، ومن أبرزها: (جبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية) التي كان لها دور كبير في التمهيد لاستقلال المغرب العربي. وقد اختير عام 1952 م إماماً لمشيخة الأزهر، فكان الأزهر في عهده مزدهراً، وتوفي عام 1958 ودفن -بناء على وصية منه- مع صديقه المرحوم العلامة أحمد تيمور باشا في المقبرة التيمورية في القاهرة. وأنهى الأستاذ علي الرّضا الحسيني حديثه معنا بقوله: وإني - في هذا

اللقاء الخاطف- آمل من الباحثين التونسيين دراسة آثار الشيخ دراسة وافية، وتعريفها إلى النشء التونسي، كما آمل موافاة قراء "الصباح" في المستقبل بأحاديث عن حياة الإمام - طيب الله ثراه-.

محمد الخضر حسين أحد زعماء النهضة الإسلامية

محمد الخضر حسين أحد زعماء النهضة الإسلامية أحمد البختري (¬1) يقف قلم الكاتب أمام ما يمليه عليه فكر حائر، لم يدر ما يكتبه عن حياة هذا العصامي والقطب العلمي، الذي تدور رحاه حول هذا العالم الإسلامي دوران الشمس في الأفق بشعاع نورها الوهاج، فيملأ أديم الأرض بأسرار العلم والحكمة الإلهية، ناشراً على زواياها المدلهمة ذلك النور المشرق من سماء الفكر، الذي خصّ الله به الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر النفطي شيخ الجامع الأزهر الشريف. * حياته: زاول الأستاذ تعليمه بـ "نفطة" حيث ولد، فحفظ القرآن الكريم حفظاً جيداً، كما تغذى من مبادئ العلوم الدينية، ثم التحق بالكلية الزيتونية إلى أن صار من أعلامها الأفذاذ، وتصدى للدفاع عن عزة الإسلام. ولكن سلط الحماية إذا ذاك لم يرق لها هذا النشاط منه، ففكرت جهلاً منها إغراءه بإسناد خطة القضاء الشرعي، لعلها تصدّه وتحدّه عن نشاطه المتزايد. ¬

_ (¬1) من كتاب "الجديد في أدب الجريد" للأستاذ أحمد البختري -الشركة التونسية للتوزيع- طبعة سنة 1973 م تونس.

* خطة القضاء ببنزرت: قبل هذه الخطة عام 1324 هـ، وفي نفس الوقت قام بمحاضرة قيمة بعنوان "الحرية في الإسلام" طبعت بمدينة تونس، وبعد أيام من قبوله للقضاء ببنزرت، قدم تسليمه منها، وغادر البلاد التونسية إلى سوريا، ثم إلى مصر. * بمصر: وفي هذه البلاد العربية التي استقبلته استقبال أبنائها، وفتحت له نواديها، تولى بجامعها الأزهر خطة التدريس، وأنشأ "جمعية الهداية الإسلامية"، وتولى رئاستها، وسمّى مجلتها باسمها "الهداية الإسلامية" التي حياها الأستاذ محمد البسطامي بقوله: طلعت في سماء (مصر) لتحيي ... في بني الشرق أنفساً وعقولاً (¬1) وفي 10 محرم الحرام سنة 1352 - هجرية- عاد من زيارته إلى الأقطار الحجازية، فأقيم له حفل تكريم بنادي "جمعية الهداية" المذكورة، شارك فيها عدد كبير من العلماء والأدباء والشعراء المصريين وغيرهم، وقد ألقى الأستاذ علي سعيد أحمد منصور، (بقسم التخصص بالأزهر) قصيداً جاء فيه: عدْ ناصر الدين عَوْدَ النصر والظفر ... يا حجةَ العصر بل يا مرشد البشرِ (¬2) إلى أن يقول فيها: نادي "الهداية" نادى وقت ظعنكمُ ... مَنْ لي بمجلس أنس السيد (الخَضِر) ¬

_ (¬1) ج 9 - م 5 - 1352 هـ عن مجلة "الهداية الإسلامية". (¬2) عن المجلة المذكورة.

ثم ألقى الأستاذ محمد أفندي عجاج هذا القصيد الفريد تقتطف منه ما يلي: صوتُ "الهداية" قد أهاب فأسمعا ... بالله يا قومي أجيبوا مَنْ دعا (¬1) * إسناد مشيخة الأزهر إليه: وفي عهد الثورة الحالية التي حدثت بمصر 1952 م أسندت للأستاذ الخضر مشيخة الجامع الأزهر الشريف، ولكن سن الأستاذ أبى عليه البقاء بها طويلاً، وطلب من مجلس الثورة إعفاءه، وقبل منه ذلك. وكان الأستاذ قبل تقليده ذلك المنصب أنشأ مجلة "الأزهر" تصدى فيها للدفاع عن الأزهر الشريف. * الرحلة والتعارف في الإسلام: ومما كتبه فضيلته في هذا الموضوع، فيقول: أخذت السياسة التونسية تنظر إلى الفيلسوف ابن خلدون بعين جافية، فرمى بنفسه في أحضان مصر، ولقي فيها حفاوة ارتفع فيها إلى مستوى العظماء من رجالها النابتين في معاهدها العلمية. وخشي أبو المكارم هبة الله بن الحسين المصري أن تمسه السلطة المصرية بأذى، فتخلص منها إلى البلاد المغربية، وكان من عاقبه أمره أن تقلد القضاء بمدينة تونس إلى أن توفي بها سنة 586 هـ خمس مئة وست وثمانين. ولم يطمئن المقام بالقاضي عبد الوهاب بن نصر في بغداد، فقدم إلى الديار المصرية، وأدرك فيها من الحظوة ما يستحقه الذي يقول فيه المعري: ¬

_ (¬1) عن المجلة المذكورة.

والمالكيُّ ابنُ نصرٍ زار في سفرٍ ... بلادنا فحمدْنا النأي والسفرا إذا تفقَّه أحيا مالكاً جدلاً ... وينشرُ الملك الضليل إن شعرا ودخل أبو عبد الله المقري المغربي دمشق الشام، فأقبل عليه أهلها باحتفاء، ومنحوه رقة وأنساً، حتى أنشد مشيراً إلى انقسام فؤاده بين دمشق ووطنه: إلى الله أشكو بالمدينة حاجةً ... وبالشام أخرى، كيف يلتقيان؟ تشهد هذه القصص التي ملئت صحف التاريخ بأمثالها: أن العلماء ما كانوا ليستصعبوا فراق أوطانهم، حتى تفقدهم شدة ألفها عن الرحيل إلى حيث تكون سوق المعارف قائمة، وبضاعة الأدب نافقة، أو تشد وثاقهم ليقيموا على هون وغضاضة؛ لأن هممهم إنما كانت تتجه إلى الحياة الاجتماعية الأدبية، فيسهل على (العالم) -ولا سيما أن بلاد الإسلام (وطن واحد) - أن يتحول إلى حيث يكون نظام الاجتماع راقياً، ومجال العمل فسيحاً. * بقصر آل عاشور بتونس: ومن مصر نعود بالقارئ إلى تونس؛ لتحدثه على اجتماع علمي ضم عدداً من علماء تونس، ولم يحضره الأستاذ الخضر، وذلك بقصر الأستاذ الطاهر بن عاشور بالمرسى، فارتجل الأستاذ الطاهر بهذين البيتين، وهما (¬1): ¬

_ (¬1) ذكر لي الكاتب الإسلامي الكبير، والقاضي التونسي الفاضل الأستاذ محمود الباجي -رحمه الله-: أنه حضر من المغرب العالمان الجليلان الشيخ شعيب الدوكالي، والشيخ عبد الحي الكتاني، ونزلا في دار الإمام محمد الطاهر بن عاشور في المرسى، ولما لم يجدا الإمام محمد الخضر حسين، أرسل الإمام الشيخ محمد الطاهر البيتين إلى صديقه الإمام الخضر في جامع الزيتونة بتونس. وروى العجز في البيت الثاني: وفي مجمع البحرين لا يفقد الخضر

تألَّقت الآدابُ كالبدر في السحرْ ... وقد لفظ البحران موجهما الدُّررْ فمالي أرى منطيقها الآن غائباً؟ ... وفي مجمع البحرين يُفتقد (الخَضِرْ)؟! * شعره: ومن شعره هذه القطعة الشعرية الرائعة في الفخر بعنوان: (نخوة)، هذا نصها بحروفها: تبغي الليالي أن تفلَّ حُسامي ... وتصد وجدي بالعُلا وغرامي طفقَتْ تحثُّ خُطا المطية بعدما ... ألقتْ بها أيدي النَّوى بزمام أتخالني أبلى بسلوة خاملٍ؟ ... ما شطَّ عن وطني الأنيس مُقامي العزمُ ما بين الجوانح مرهفٌ ... والمجدُ أنّى سرتُ فهو أمامي والسهمُ يصدرُ راغماً ويُريك منْ ... جلدٍ ترنُّم ظافر بمرام لولا السرى لم ترشف النكباء من ... نفحات ثغر الزهرة البسَّام كم من يدٍ بيضاء طوَّقني بها ... حادي الرّكاب إلى ربوع (الشام) وألذُّها سمرٌ يذكِّرني (البها) ... و (ابن العميد) إلى (أبي تمام) وله أيضاً (الهمام): يرمي الهُمام، وما غير العُلا هدفا ... ولا يباكرُ إلا الروضةَ الأُنُفا والناس شعرٌ إذا ما جئت تنقده ... ألفيتَ سَبْكَ القوافي منه مختلفا كم بين شهمٍ يُداري الصعبَ في شممٍ ... وخاملٍ بات في مهد الهوى دَنِفا وللفضيلة نورٌ لا يكفكف منْ ... شعاعه، جاحدوها حيثما انعطفا (¬1) ¬

_ (¬1) هذه الأبيات الأربعة لم تنشر في ديوان "خواطر الحياة" للإمام. وقد أخذها =

انظرْ إلى السحب في الآفاق تكتمنا ... شمس النهار، وأرخت دونه سدفا فمدَّ قوسُ غمامٍ بينها عنقاً ... وذكَّر الناس فضل الشمس وانصرفا وللحشى نزعاتٌ شد ما صعدت ... إلى الحجى، فأنالت حدَّه رهفا وله أيضاً هذان البيتان، قالهما ابن الحسين عندما كان القطار يلتوي من ربى بلدة (تارار) (1) في فرنسا وبساط مروجها السندسية. فقال: لجَّ القطارُ بنا والنَّارُ تسحبه ... ما بين رائق أشجارٍ وأنهار وإنَّ أعجب ما تدريه في سفرٍ ... قومٌ تُقاد إلى الجنَّات بالنَّارِ (¬1) * وفاته: وقبل وفاة الأستاذ ابن الحسين، تمنى أن لا يموت حتى يرى وطنه حراً مستقلاً، وأدرك ما تمناه، وقد رثاه رجال العلم والأدب من مصر وغيرها، ودفن بالقاهرة في الثالث من رجب الأصب عام 1377 سبعة وسبعين وثلاث مئة وألف هجرية، 1958 ميلادية. ¬

_ = الكاتب من كتاب (الأدب الفرنسي في القرن الرابع عشر" للأستاذ زين العابدين السنوسي. (¬1) لم يذهب الإمام محمد الخضر حسين إلى فرنسا، وهذان البيتان قالهما عندما دخل القطار في بساتين دمشق لأول مرة سنة 1330 هـ. انظر: ديوانه "خواطر الحياة"، وهما: لج القطاربنا والنار تسحبه ... ما بين رائق أشجار وأنهار ومن عجائب ما تدريه من سفر ... قوم يقادون للجنات بالنار

لماذا ذهب الشيخ الخضر إلى ألمانيا

لماذا ذهب الشيخ الخضر إلى ألمانيا محمد صالح الجابري (¬1) في بحث جامعي مستوعب، قدّم لنا الأستاذ محمد مواعدة في أول كتاب له، وفي أول باكورة تقدم للطبع من باكورات رسائل التأهيل للبحث الجامعي التي تنظمها وتشرف عليها الجامعة التونسية وأساتذتها - قدم لنا شخصية تونسية إصلاحية، هي شخصية محمد الخضر حسين. تلكم الشخصية التي تنال الاهتمام لثاني مرة خلال هذا الموسم الأدبي بكتاب أصدره عنها الأستاذ أبو القاسم كرو. ثم بهذه الدراسة الثانية، وإن دل هذا، فإنما يدل على مبلغ العناية التي أصبح أدباؤنا يولونها نحو الجيل المؤسس لحركة البعث والتثقيف والإصلاح. على أننا نأمل أن تتلو هذه الالتفاتات غيرها يقوم بها الشباب نحو جيل رائد قدر له أن يعيش فترات حالكة صعبة مريرة، فرض عليه خلالها الصمت والقهر والكفاح، وحرم من أبسط ما كان يتمنى أن يراه في حياته، وللإبرار بتاريخنا، فإن علينا أن نوفي هؤلاء بعض الوفاء بنشر ما تركوا في ¬

_ (¬1) كاتب تونسي معروف - مجلة "الإذاعة التونسية" العدد 336 من السنة الخامسة عشرة الصادر في 1 ماي 1974 م. وهذا المقال عرض لكتاب الأستاذ محمد مواعدة "محمد الخضر حسين: حياته وآثاره".

مطاوي التاريخ، ونتخذ من أفكارهم - مهما كان مستواها - مقياساً نرى فيه مدى ما شملنا من التطور الذي لهم فيه فضل السبق، وشرف البداية. ولعل الجامعة التونسية يدفعها الشباب من طلابها في هذا الاتجاه، تسهم مساهمة فعالة في تفتيح أعينهم وأذهانهم على تاريخهم وتراثنا؛ لأن من عادات الشباب منابذة الماضي بدعوى أنه ماض، وليس لأي شيء عداه. وفي مضمار إحياء هذه الشخصية الإصلاحية، والتعريف بها، والتذكير بأهم آرائها، نلاحظ أن هناك جيلين اثنين متواكبين متكاملين: جيل أبي القاسم كرو، وجيل تلميذه محمد مواعدة، كلاهما يوفي هذا الماضي حقه، مما يدل على تكامل الجهود، وعلى الإحساس المشترك بعبء الوفاء .. قسّم الأستاذ مواعدة رسالته إلى ثلاثة أقسام تخللتها فصول وأبواب عديدة ومقدمتان، إحداهما: للمؤلف، شرح فيها منهجه أثناء الدراسة، والطريقة التي اتبعها للوصول إلى ما وصل إليه من الاراء، والدوافع التي جعلته يختار هذه الشخصية لبحثه دون غيرها قائلاً بهذا الصدد: "اهتممت بدراسة شخصية الشيخ محمد الخضر حسين؛ لأنه علم بارز من أعلام الإسلام في العصر الحديث، شارك مشاركة فعالة في الحركة الفكرية، سواء في المغرب، أو المشرق العربيين، وارتبط اسمه بأسماء عدد كبير من رجالات الدين، قاموا بدرهم في ميادين مختلفة دينية ولغوية وأدبية وسياسية". يضم القسم الأول من أقسام الكتاب الثلاثة: حياة المؤلف بالبلاد التونسية منذ ولادته بـ "نفطة" إلى حين انتقاله إلى العاصمة. "فلقد تربى محمد الخضر حسين في بيئة يسيطر عليها العلم، وتغمرها الثقافة، ويحيط بها الورع الديني من كل جانب، فحفظ القرآن الكريم على مؤدبه الخاص الشيخ عبد الحفيظ

اللموشي، ودرس بعض العلوم الدينية واللغوية على عدد من العلماء، وخاصة منهم خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز" (ص 25). وبالعاصمة تابع الشيخ الحسين دراسته بجامع الزيتونة على عدد من الشيوخ البارزين، ثم تخرج منها ليؤسس مجلته "السعادة العظمى" التي تعتبر أولى المجلات بتونس، وذلك قبل أن يتقلب في وظائف عديدة في ميدان القضاء. وقد تأثر في هذه الفترة "بعدد من شيوخ العلماء الذين كان حريصاً لا على متابعة دروسهم فقط، بل كذلك على حضور مجالسهم، والاستماع إلى أحاديثهم ومناظراتهم في شتى فنون الأدب واللغة والدين. وأبرز هؤلاء الشيوخ ثلاثة، هم: الشيخ سالم بو حاجب، والشيخ عمر بن الشيخ، والشيخ محمد النجار" (ص 43). وهؤلاء "وإن تشابهوا في القيمة العلمية، فقد اختلفوا في أسلوب التفكير، ومعالجة القضايا العلمية، وخاصة الإسلامية منها، كما اختلفوا في نظرتهم إلى الحركة الإصلاحية التي كانت محل حوار ونقاش وجدال لدى الأوساط الفكرية والثقافية في تونس في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين" (ص 37). ويشمل الباب الثاني حياة الشيخ محمد الخضر حسين بالبلاد السورية التي انتقل إليها أول مرة يزور إخوته الذين استقروا هناك. واتصل هناك بالأوساط العلمية والثقافية. وألقى المحاضرات، وتبادل الإعجاب مع جلة علماء الشرق إثر توقفه بالإسكندرية، ثم القاهرة أولاً قبل أن يصل مدينة دمشق في سنة 1912 م .. "وقضى الشيخ محمد الخضر بدمشق كامل شهر رمضان، زار خلاله أهم المؤسسات الثقافية بالعاصمة السورية، وخاصة الجامع الأموي،

حيث ألقى اثني عشر درساً في الحديث حضرها عدد كبير من طلاب العلم والشيوخ" (ص 62). وعلى إثر عودته من دمشق، وجد قراراً بفصله من خطة التدريس بالمعهد الصادقي ينتظره، فحزّ ذلك في نفسه، وقرر الرحيل إلى الشرق نهائياً. و"منذ المدة الأولى التي استقر فيها بدمشق، وقع انتدابه للتدريس بالمدرسة السلطانية. وهي من أبرز المعاهد الدينية بالبلاد السورية .. وبالإضافة إلى ذلك واصل إلقاء محاضراته العلمية بالجامع الأموي، وكتابة مقالاته في الصحف والمجلات، ويبدو أنه اهتم في هذه الفترة بالمشكلة العربية والتركية، ودعا إلى ضرورة تمتين روابط الإلفة بين العرب والأتراك في ظل الخلافة العثمانية" (ص 69). وفي حمأة الأزمة التي أثارها بطش جمال باشا السفاح بالوطنيين الشاميين، أدخل الشيخ الخضر السجن، ثم لم يلبث أن أفرج عنه لبراءته، وانتدب في خدمة العثمانيين متنقلاً بين الآستانة وألمانيا في محاولة تثوير الوطنيين التونسيين، وتكتيل جهودهم ضد الاستعمار الفرنسي الذي كان يوالي الحلفاء ضد الألمان والأتراك. وبعد نهاية الحرب، وبعد استباحة الاستعمار الفرنسي دمشق، قر قرار الشيخ الخضر بالهجرة إلى مصر التي قضى بها بقية حياته، وفيها أثبت خطوته التي أهلته لأن يكون ضمن أعضاء مجمعها اللغوي، وشيخ جامعها الأزهر في سنة 1952 م. وقد كانت للشيخ الخضر في مصر نشاطات جمة: أبرزَها الأستاذ محمد مواعدة في الباب الثالث والأخير من كتابه .. نشاطات تهتم بوضعية المغاربة،

وبموقفه من الألفة الإسلامية، وتأسيس جمعية "الهداية الإسلامية"، ومجلة "نور الإسلام". ولعل أبرز نشاطاته العلمية والفكرية ما كان يمارسه ضمن هيئة كبار العلماء، والتدريس بالأزهر، وظهور كتابيه وإنقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" (¬1)، و"نقض كتاب في الشعر الجاهلي" لطه حسين. وهما كتابان -على ما لصاحبهما من نظرة خاصة- بوأه مكانة ممتازة في نخبة المثقفين المصريين. ولعل أهم هذه الأقسام وهذه الفصول التي كانت على غاية من الدقة والتفصيل والأناة العلمية القسمُ الثاني من الباب الثالث، وهو القسم الذي شمل حياة الشيخ الخضر الثقافية وآثاره؛ إذ تناول فيه الباحث جملة مؤلفاته في تفصيل ودقة .. تليق بمكانة الكتاب، وبمكانة شخصية الشيخ المصلح، وبمكانة الجامعة التي أهلت بحثه ليكون باكورة ما يطبع من بحوث طلابها. وهو القسم الذي أريد للقارئ أن يقرأه بنفسه؛ لأن تلخيصه يفسد متعة مطالعته. ¬

_ (¬1) لعلي عبد الرازق.

محمد الخضر حسين حياته وآثاره

محمد الخضر حسين حياته وآثاره الحبيب الشاوش (¬1) يعرّف هذا الكتاب بأحد الأعلام المعاصرين، هو: محمد الخضر حسين، وهو من رجال الفكر والأدب التونسيين مولداً ونشأة، ساهم في إخصاب التراث العربي الإسلامي لإنتاج متنوع في الحقلين الديني والأدبي، إلا أنه كان - إلى حد كبير- مغمور الذكر والإنتاج (¬2)، لا سيما وأن ما خلفه من مؤلفات ومقالات عديدة في المجلات والمصحف العربية - التونسية منها والشرقية - كان شتاتاً مهملاً، لا يكاد يعرفه الكثيرون معرفة دقيقة شاملة. ويتضح من مطالعة آثار الرجل أنه كان يغلب على ثقافته وتفكيره واتجاهه الطابع التقليدي، ¬

_ (¬1) حوليات الجامعة التونسية - العدد 11 لعام 1974 م. قدم فيه الكاتب كتاب الأستاذ محمد مواعدة عن الإمام محمد الخضر حسين، وعنوانه "محمد الخضر حسين حياته وآثاره" - الدار التونسية للنشر، سنة 1974 م. (¬2) تعليق: هذا رأي الكاتب وحده، ولا يشاركه فيه أحد في تونس أو العالم الإسلامي، ولو كان مطلعاً على الثقافة الإسلامية، ومكانة الإمام محمد الخضر حسين الرفيعة في المشرق العربي ومغربه، لما سقط من قلمه هذا القول، إلا إذا كان الكلام مقصوداً. ثم أليس هذا القول يناقض فيه الكاتب نفسه بنفسه عندما قال في نهاية البحث: "وختاماً يعتبر هذا البحث مفيداً من حيث تمكينه القارئ الدارس من الاطلاع على جوانب من شخصية هذا العلامة التونسي في العالم الإسلامي!! ".

وهو بذلك ينتمي إلى شق المحافظين من الناحية الدينية، وحتى السياسية؛ كما سيأتي. وظهر هذا الكتاب، مساهماً به صاحبه في إزاحة الغشاوة عن هذا العلامة في حياته ورحلاته وإنتاجه ونشاطه، وهو بحث أنجزه السيد محمد مواعدة تحت إشراف الأستاذ المنجي الشملي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة التونسية، لنيل شهادة الكفاءة في البحث (¬1). ويشتمل الكتاب على ثلاثة أقسام رئيسية (¬2) متبوعة بملحق (¬3)، وقد صُدر بتقديمين: الأول: للأستاذ المنجي الشملي (¬4)، والثاني للسيد محمد مواعدة (¬5)، ونجد في نهايته قائمة المراجع والمصادر، وفهرساً للأعلام. وأول ما يسترعي انتباه القارئ لهذا الكتاب: عناية كل من صاحب البحث والأستاذ المشرف عليه بحب الإلمام بكل جوانب الموضوع على أساس الوضوح والشمول؛ مما يوفر للدارس سعة الانتفاع، ويسر الاستفادة بما جاء فيه، وإن الموضوع لعلى جانب من الطرافة تستهويك دراسته، ذلك أن شخصية محمد الخضر حسين طريفة في حد ذاتها، رغم بعض الشذوذ والتصلب في التفكير والاتجاه، بقدر ما كانت مجهولة أو تكاد، وقد ألمع ¬

_ (¬1) نوقش هذا البحث في الخامس عشر من شهر ديسمبر 1972 م. (¬2) (ص 18 - 230). (¬3) (ص 232 - 342). (¬4) (ص 7 - 9). (¬5) (ص 11 - 13).

الأستاذ الشملي إلى ذلك في تقديمه الكتاب بقوله (¬1): "نذكر جميعاً هذا الرجل، فنكاد لا نتصوره إلا رمزاً غَامضاً، يعرف الواحد من أمره ما لا يعرفه الآخر، هذا يكبره ولا دليل، وذاك يستنقصه ولا حجة، والرجل الرشيد يقتصد في الحكم فيتوقف. أما الآن فقد تجلّت لنا عن حياة الرجل وأفعاله ومواقفه وآثاره صورة إلا تكن واضحة وضوحاً، فهي غير غامضة على كل حال، وإلا تكن مقنعة إقناعاً، فهي سبيل إلى اليقين ... ". وقد خصص السيد محمد مواعدة القسم الأول من بحثه لدراسة حياة الرجل في أطوارٍ لها ثلاثة، موزعاً لدراسته على أبواب وفصول. أما الطور الأول: فيتعلق بحياة محمد الخضر حسين بالبلاد التونسية؛ أي: مرحلة السنوات التي قضاها في تونس منذ ولادته ببلدة "نفطة" إلى تعلّمه ثم تعليمه، وهي (فترة التعليم والتكوين)، وتمتد من سنة 1873 - سنة ولادته (¬2) - إلى سنة 1912، وهي السنة التي غادر فيها البلاد التونسية نهائياً إلى الشرق. وأهم ما يجدر ذكره أن الرجل قضى سنوات طفولته بمسقط رأسه بالجنوب التونسي حتى الثالثة عشرة من عمره، ثم انتقلت عائلته إلى تونس العاصمة (¬3) حيث واصل تعلّمه الابتدائي، وقد كان شرع فيه عندما كان بـ "نفطة"، ثم التحق بجامع الزيتونة (¬4) للمزيد من التعمّق في العلم والتبحر فيه. ¬

_ (¬1) انظر بالخصوص: (ص 6 - 8). (¬2) يوم 26 رجب 1293/ 21 جويلية 1873 م - انظر: (ص 21). (¬3) في أواخر سنة 1306 هـ / 1886 م - انظر: (ص 28). (¬4) سنة 1307 هـ / 1887 م.

ويمضي السيد محمد مواعدة متحدثاً في هذا القسم عن جامع الزيتونة في ذلك العهد، وعن شيوخ محمد الخضر حسين، وتخرجه عنهم، ثم توليه خطة القضاء ببنزرت، والتدريس بجامع الزيتونة إلى تاريخ رحلته إلى الشرق، وهو بداية الطور الثاني من حياة الرجل، وتخص هذه المرحلة الثانية كامل الفترة التي قضاها من حياته في دمشق، وانتقل أثناءها إلى الآستانة وبرلين، وتمتد من سنة 1912 إلى سنة 1920 م، وهي السنة التي غادر فيها سوريا للاستقرار نهائياً بمصر، ويمكن تسميتها بمرحلة التنقل والترحال. وأهم ما يحتفظ به الدارس من هذه المرحلة الثانية من حياة الرجل: أنها امتازت بكثرة التنقل أثناء الحرب العالمية الأولى، وقد قام فيها بمهام خطيرة لم يرد في شأنها ما يشفي الغليل من تفاصيل واضحة، بقدر ما نعرف من ناحية أخرى أن محمد الخضر حسين أمضى في دمشق أعواماً طويلة، ودرّس علوم الدين والعربية في المدرسة السلطانية (¬1)، كما نعلم عن الرجل من حيث اتجاهه السياسي (¬2): أنه كان يثتمي منذ كان بتونس إلى الحزب الدستوري ¬

_ (¬1) بدأ التدريس سنة 1913 م في هذه المدرسة، وهي أشهر مدارس دمشق. انظر: (ص 334). (¬2) لم تكن للإمام الخضر حسين أية صلة مطلقاً بالحزب الدستوري، أو بالشيخ عبد العزيز الثعالبي. وكيف يبرر الكاتب هذا الادعاء، وقد علمنا أن الإمام قد غادر تونس نهائياً عام 1912؛ أي: قبل تأسيس الحزب بثمان سنوات. ثم إن المطّلع على حياة الإمام ومراحل حياته في دمشق والقاهرة يعلم أنه لم يكن هناك صفاء في الصدور، ولا عداوة ظاهرة بين الإمام والشيخ الثعالبي. ونترك التفصيل في هذا الموضوع إلى ميدان آخر، أو لعلنا نصرف النظر عنه خدمة للإسلام، ونطلب الرحمة للشيخين.

القديم الذي أسسه عبد العزيز الثعالبي سنة 1920 م. أما المرحلة الثالثة والأخيرة من حياته، فهي تشمل السنوات التي قضاها في مصر حيث استقر نهائياً، وتمتد من سنة 1920 إلى وفاته سنة 1958 م، وقد سماها صاحب الكتاب بمرحلة (المجد الثقافي)؛ لأنها الفترة التي أظهر فيها قيمته الثقافية، وبرزت فيها مكانته، وتقلد أثناءها مناصب علمية عالية كدت غزارة علمه، وعمق شخصيته، ومن أهم هذه المناصب: إشرافه بمصر على مشيخة جامع الأزهر (¬1). واعتمد السيد مواعدة -كما نلاحظ مما سبق- في هذا التقسيم لحياة الرجل، الإطار التاريخي والجغرافي، متبعاً في ذلك طريقة كل الذين كتبوا عن حياة الخضر حسين، الذي درج هو نفسه على نفس النسق عند حديثه عن أطوار حياته بمناسبة حفل التكريم الذي أقامه له أحد تلامذته الدكتور عبد الوهاب المالكي عند زيارته دمشق سنة 1937 م (¬2). وفيما يتعلق بآثار محمد الخضر حسين، فقد قدمها السيد مواعدة مع التعريف الموجز بمحتواها وقيمتها، ساعياً إلى تحليلها باقتضاب، مبيناً غزارتها وشمولها لميادين كثيرة من المعارف، ولا سيما الدين والأدب واللغة والسياسة، ومن الملاحظ أن هذه الآثار مرتبة في ثلاثة أبواب: أ - الباب الأول: وهو يشمل المحاضرات المنشورة، والمقالات المجموعة في كتب، وأهم المواضيع التي تناولتها: الإصلاح في الإسلام، ¬

_ (¬1) من سنة 1952 إلى سنة 1954 م. (¬2) انظر: (ص 19)، والمرجع التالي: "الهداية الإسلامية" (10 - ج 5 ص 257) الملحق: "حديث عن رحلتي إلى دمشق"، (ص 336).

وبلاغة القرآن، والحرية في الإسلام، ثم مواضيع لغوية وأدبية؛ مثل: حياة اللغة العربية، والخطابة عند العرب، وعلماء الإسلام في الأندلس. ب - الباب الثاني: وهو يشمل ما ألفه الرجل من كتب في اللغة والآداب، ولا سيما كتابيه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" (¬1). و"نقض كتاب في الشعر الجاهلي" (¬2)، ويشمل هذا الباب أيضاً مجموعة من البحوث والرسائل. ج - الباب الثالث: تعرض فيه السيد مواعدة إلى الحديث عن محمد الخضر حسين الشاعر الذي يجمع قسماً من قصائده في ديوان بعنوان "خواطر الحياة"، ولا يزال القسم الآخر موزعاً في المجلات والصحف (ينتظر الجمع والتبويب والنشر). وفيما يتعلق بتبويب هذه الآثار، أشار صاحب البحث إلى أنه لم يعتبر فيه العامل التاريخي، وذلك (لتداخل المقالات الموجودة في هذا الميدان)، بل (اعتمد إطار العمل وشكله)، بقطع النظر عن محتواه حتى (يتجنب إعادة بعض المعاني، وذكر بعض الآثار في مناسبات عديدة) (¬3). وقد عني السيد مواعدة بإبراز عناصر الشخصية الجذابة التي يتميز بها محمد الخضر حسين عناية خاصة، ولخصها في أربعة محاور، وهي: - محمد الخضر حسين العالم في شؤون الدين. ¬

_ (¬1) وهو رد على كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، أحد علماء الأزهر انظر: (ص 163). (¬2) رد على كتاب طه حسين: "في الشعر الجاهلي" الذي صدر سنة 1926 م. (¬3) انظر: (ص 134).

- محمد الخضر حسين الأديب. - محمد الخضر حسين المصلح. - محمد الخضر حسين السياسي. وسعى إلى تحليل كل منها بإيجاز اعتماداً على مراحل حياة الرجل، وما تركه من مؤلفات، وإلى بيان قيمة شخصيته الثقافية، ومكانتها ضمن الحركة الفكرية الإسلامية (¬1). ويتضح من هذه الدراسة أنها شخصية قوية عميقة ساهمت مساهمة ملموسة في الحركة الإصلاحية، وقد علق عليها الأستاذ الشملي بقوله: "هي شخصية قوية لا شك، عنيدة صُلبة آسرة (¬2) ". وفي أواخر الكتاب (ملحق) يشتمل على مجموعة المقالات الوصفية التي ألفها محمد الخضر حسين عن رحلاته إلى البلاد الجزائرية، ويلدان المشرق العربي، ويلدان أورباوية مختلفة، وقد نشرها صاحبها في المجلات والمصحف، إلا أنها بقيت موزعة، لذلك عمد صاحب البحث إلى جمعها، والتعليق عليها، وغرضه من ذلك "تمكين القارئ من الاطلاع على آراء الرجل وأفكاره بالاعتماد على نصوص من تحريره، بالإضافة إلى ما أوردناه في شأنه في هذه الدراسة" (¬3). ولئن كانت هذه الرحلات قد دُونت، أو دوّن جلّها في شكل مقالات محررة بقلم صاحبها، ألم يكن من الأجدر والأجدى أن تُضَمّ إلى مجموعة آثاره، وتُلحق بالقسم الثاني من الكتاب، وهو القسم المخصص لآثار الرجل ¬

_ (¬1) انظر: (ص 206 - 207). (¬2) انظر: التقديم، (ص 9). (¬3) انظر: (ص 232).

على تنوّعها، اللهم إلا أن يكون السيد مواعدة قد عثر عليها، أو دُلّ إليها بعد أن أنجز عمله كاملاً ... فيكون هكذا قد لجأ إلى إضافة هذه المقالات الوصفية الخاصة برحلات الرجل في شكل (ملحق) في آخر البحث، وقد يكون رائده من ذلك حب الإفادة بما ظفر به في آخر المطاف من هذه الآثار. وعلى كل، فيبدو أقرب إلى المنطق أن تُعدّ هذه المقالات من جملة آثار محمد الخضر حسين، وتُحشر ضمنها، وأهم هذه المقالات ثلاث: - "الرحلة الجزائرية" (¬1). - "خلاصة الرحلة الشرقية" (¬2). - "حديث عن رحلتي إلى دمشق" (¬3). والملاحظ أن الكثير من الأعلام المذكورين في هذه الرحلات لم يقع التعريف بهم، على أن صاحب البحث يعترف بذلك لصعوبة وجدها في القيام بهذا العمل، وله فضل التواضع في الاعتراف بذلك إذ يقول (¬4): "وقد اعترضنا صعوبة كبيرة في التعريف ببعض الأعلام المذكورين في هذه الرحلات خاصة في "خلاصة الرحلة الشرقية"، وقد تمكنا من التعريف بالبعض منها، وبقي عدد آخر لم نتمكن من التعريف به". وفيما يتعلق بقائمة المراجع والمصادر -وهي عربية وفرنسية- فقد رتبها السيد مواعدة حسب تواريخ صدورها، وتشتمل المراجع على: ¬

_ (¬1) نشرت في مجلة "السعادة العظمى" (عدد 19 و 20 و 21). (¬2) نشرت في جريدة "الزهرة" (مارس - أفريل سنة 1913 م). (¬3) نشر بمجلة "الهداية الإسلامية". (¬4) (ص 232).

أ - الكتب. ب - المجلات. ج - الجرائد. أما المصادر، فتضمنت كلها ما نشر من مؤلفات محمد الخضر حسين. وأما فهرس الأعلام - وهو مرتب حسب حروف الهجاء -، فلم يشمل الأعلام الموجودة بالحواشي (¬1). هذا، وإن إخراج الكتاب وطبعه على جانب من الأناقة، ما عدا غلطات مطبعية وردت هنا وهناك، ونذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر: - ص 333، س 13: رقم (6) أمام (العلامة السيد محمد بن جعفر الكتاني) عوض رقم (2). - ص 335، س 12: (المحتلون) عوض (المحتفلون). وختاماً يعتبر هذا البحث مفيداً من حيث تمكينه القارئ الدارس من الاطلاع على جوانب من شخصية هذا العلامة التونسي الشهير في العالم الإسلامي، وعلى جوانب هامة من نظرياته وآرائه واتجاهه الإصلاحي، وهو من شأنه أن يفتح أبواباً جديدة على طريق البحث العلمي بخصوص هذه الشخصية؛ لزيادة التعمق في تحديد معالمها لدى المهتمين بالحركة الفكرية في بلادنا والعالم الإسلامي. ¬

_ (¬1) انظر: (ص 349): لم يراع المؤلف في ترتيب الأعلام (الـ) ولا (الكنية) ولا (ابن).

وثيقة تاريخية هامة صادرة عن جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية

وثيقة تاريخية هامة صادرة عن جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية الدكتور محمود عبد المولى (¬1) * محرر الوثيقة: أما محرر الوثيقة الخطيرة باسم: (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية)، فهو - دون ريب - محمد الخضر حسين، باعتبارها تحمل توقيع الشيخ بكل وضوح. فمن هو هذا الرجل؟. لا يتسع مجال هذه المقدمة القصيرة للحديث عن جوانب الشيخ كلها؛ أي: باعتباره علماً بارزاً من أعلام الفكر الإسلامي الحديث، قد ساهم طويلاً مساهمة جادة في الحركات الفكرية والسياسية في تونس والمشرق على السواء؛ حيث ارتبط اسمه بأسماء عدد كبير من رجالات الدين الذين قاموا بدور هام في ميادين مختلفة: دينية ولغوية وأدبية وسياسية، فكتاب محمد ¬

_ (¬1) كاتب تونسي، وأستاذ العلوم الاجتماعية بجامعات تونس والجزائر وطرابلس، وهذه المقتطفات من كتابه "كشكول مسافر" صدر في تونس حزيران 1978 م، وهو كتاب يطرح قضايا تتعلق بالنقد والأدب والاجتماع. وتحدث المؤلف عن وثيقة تاريخية هامة صادرة عن (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية) عنوانها: (تونس 67 عاماً تحت الاحتلال الفرنساوي 1881 - 1948 م) للإمام محمد الخضر حسين، وسبق أن نشرنا هذه الوثيقة في كتابنا "تونس وجامع الزيتونة".

مواعدة عن الشيخ يحيط بهذه الجوانب إحاطة شاملة. غير أن الجانب السياسي-في رأينا- يحتاج إلى دعم علمي بالوثائق، الأمر الذي جعل المؤلف محمد مواعدة يبدي تحفظات، واعترف- بتواضع نادر- بأنه لم يتمكن من تقديم صورة واضحة عن النشاطات السياسية للشيخ المترجم له؛ إذ اكتفى بما تجمع لديه من معلومات، واستخلاص صورة تقريبية راجياً أن تزداد جلاء عند الحصول على وثائق أخرى، هي الآن -حسب زعمه- لدى بعض أصدقاء الشيخ، وخاصة عن نشاطه بالبلاد المصرية. والجدير بالتذكير هنا: أن الشيخ محمد الخضر حسين ولد في بلدة "نفطة" في الجنوب التونسي في (26 رجب 1293 هـ -21 جويلية 1873 م)، وبعد حياته بالبلاد التونسية وبالبلاد السورية قضى -كابن خلدون- بقية عمره في مصر (إلى وفاته عام 1958 م) حيث رقي فيها إلى أعلى المناصب، نخص بالذكر منها: مشيخة الجامع الأزهر. هذا بعد نشاطه الديني، والعلمي، والأدبي، والسياسي، في كل من تونس ودمشق والآستانة (تركيا)، وخاصة بأوربا (برلين وجنيف) أين اتصل بالأخوين باش حانبة (محمد، وعلي)، والشيخ صالح الشريف، وغيرهم من مناضلي المغرب العربي الذين يتفق وإياهم في النظرية والاتجاه السياسي اللذين يتمثلان في تحرير أقطاب المغرب العربي (خاصة) من الاستعمار الفرنسي (المسيحي)، والعمل في ظل الحكومة العثمانية بالآستانة، أو ببرلين من أجل: 1 - (رابطة إسلامية) ستضم -عند قيامها- المسلمين كافة، في نظام سياسي مركزي، وهو نظام الخلافة، كما يتبين لنا ذلك من خلال كتابه "نقض

كتاب الإسلام وأصول الحكم". 2 - تحرير المغرب العربي (أفريقية الشمالية)، ووحدة قضيته ومصيره، كما يتبين لنا ذلك من تأسيسه (جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية)، ومن قراءتنا للوثيقة التي تخلفت عن هذه الجبهة. ولا بد من التذكير أيضاً: أن الشيخ محمد الخضر حسين قد أمضى التقرير الذي وجهته (اللجنة التونسية الجزائرية للدفاع عن مطالب الشعب الجزائري - التونسي) إلى مؤتمر الصلح المنعقد في فرنسا، وأمضى هذا التقرير حسب الترتيب كل من: الشيخ صالح الشريف التونسي، والمترجم له، ومحمد مزيان التلمساني، ومحمد الشيبي التونسي، ومحمد بيزار الجزائري، وحمدان ابن علي الجزائري، ومحمد باش حامبة. ومما يذكر بهذا الصدد: أن مجلة "المصور" قامت بإجراء حديث صحفي مع الشيخ محمد الخضر حسين بعد أسبوع من توليه مشيخة جامع الأزهر، ومما قاله لمبعوثها: "ولعلكم تنظرون إليّ نظرتكم إلى رجل عجوز هرم، ولكن هذه الشيخوخة البادية هي نتيجة الكفاح السياسي، أما القلب والرأس، فما زالا فتيين" (¬1). ¬

_ (¬1) مجلة "المصور" القاهرة. الأسبوع الأخير سبتمبر 1952 م.

علماء تونسيون في دمشق

علماء تونسيون في دمشق (¬1) الدكتور صلاح الدين المنجد وأُنهي هذا البحث بذكر عالمين تونسيين كبيرين، هبطا دمشق، وأفادا أهلها. وهما: الأخوان العلامة الشيخ محمد الخضر حسين، وأخوه الشيخ زين العابدين، وقد ترجمتُ لهما تراجم طويلة في كتابي "أعلام العصر". وقد وُلد الشيخ الخضر في بلدة "نفطة" بالقطر التونسي سنة 1294 هجرية، والتحق وهو في الثانية عشرة من عمره بجامع الزيتونة، فدرس فيه، وتخرج منه سنة 1316 هـ. وأنشأ سنة 1904 م مجلة علمية أدبية كانت أول مجلة من نوعها في المغرب كله، سماها: "السعادة العظمى"، فأغلقتها السلطات الفرنسية، ثم تولى القضاء في مدينة "بنزرت" عام (1905 م / 1323 هـ). ولم يطب له القضاء، فعاد إلى الزيتونة والمدرسة الصادقية مدرّساً. وقبيل الحرب العالمية الأولى حكم عليه الفرنسيون بالإعدام؛ لاشتغاله بالسياسة، وإثارته الخاصة والعامة، فهاجر إلى دمشق مع أسرته، وأخيه. ¬

_ (¬1) بحث تقدم به الدكتور صلاح الدين المنجد في ذكرى مرور ثلاثة عشر قرناً على تأسيس جامع الزيتونة في (25 المحرم - 2 صفر عام 1400 هـ الموافق 15 ديسمبر كانون الأول- 21 عام 1979 م)، تونس. واخترنا من البحث ما يتعلق بالإمام محمد الخضر حسين.

وجلس في الجامع الأموي يلقي دروساً في أصول الفقه، والخلاف، والنحو، والأدب، والحديث النبوي. وكرمه علماء دمشق، وأحبّوه؛ للطفه، ودماثة خلقه، وحلاوة معشره. ثم سافر إلى الآستانة، وتولى التحرير في وزارة الحرب، وعاد منها أوائل سنة 1918 م. وكانت دمشق تفور بفكرة الوطنية، فعاد يدرّس في الأموي. فلم ترُق دروسه لجمال باشا؛ لما كان يبثه في تلاميذه من معاني الوطنية والإصلاح، فاعتقله أشهراً في السجن، وفي سجنه نظم هذه الأبيات اليائسة: غلَّ ذا الحبسُ يدي عن قلمٍ ... كان لا يصحو عن الطرسِ فناما أنا لولا همّةٌ تحدو إلى ... خدمةِ الإسلام آثرتُ الحِماما ليست الدنيا، ومايبسم من ... زهرها إلا جَهاماً وقتاما وتوسط له علماء دمشق، فأفرج جمال باشا عنه، وبقي في دمشق حتى عام 1920 م، وشهد مولد الحكومة العربية الأولى في سورية، وقرّبه الملك فيصل، ورأيت رسالة بخطه وقعّ فيها: محمد الخضر حسين التونسي الدمشقي. فلما دخلت الجيوش الفرنسية دمشق، وقام عهد الانتداب، لجأ إلى مصر، وكان له فيها كفاح جديد وطويل في خدمة الإسلام. وكانت همته شمّاء، فالتحق بالأزهر، وقدّم الامتحان للشهادة العالمية، فنالها، وألّف "جمعية الهداية الإسلامية"، وأصدر لها مجلة باسمها رأس تحريرها، ثم درّس في الأزهر في كليتي الشريعة وأصول الدين، وعُيّن رئيساً لتحرير مجلة "الأزهر" (¬1) ¬

_ (¬1) هي نفسها مجلة "نور الإسلام" قبل تسميتها بمجلة "الأزهر"، ولم يتسلم الإمام =

مدة، كما تولى رئاسة مجلة "نور الإسلام". وانتهى به الأمر أن انتُخب شيخاً للجامع الأزهر عام 1952 م، وكان أول عالم غير مصري الأصل يُنتخب شيخاً للأزهر. وكان له في مصر مواقف باهرة في الدفاع عن العربية والإسلام. فألّف كتاباً في "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق. وكتاباً في "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" لطه حسين، وكتاب "الدعوة إلى الإصلاح"، و"رسائل الإصلاح"، و"دراسات في العربية وتاريخها"، و"الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان"، و "محمد رسول الله وخاتم النبيين"، و"تراجم الرجال"، و"بلاغة القرآن"، وغير ذلك. وانتُخب عضواً في مجمع دمشق، ثم في مجمع القاهرة عند إنشائه سنة 1932 م، وكان -رحمه الله- نمطاً خاصاً في ثقافته الإسلامية والعربية، التي أحاطت بكل شيء، فكان: فقيهاً، أصوليّاً، مفسراً، محدّثاً، أديباً، شاعراً، لغوياً، مصلحاً.- وتوفي بالقاهرة سنة 1958 م، ودفن بالمقبرة التيمورية. أما أخوه الشيخ زين العابدين بن حسين، فقد ولد بتونس سنة 1317 هجرية، فدرس في الزيتونة، وحفظ القرآن الكريم، ونال شهادة (التطوع)، وكان من أساتذته -كما كتب لي بخطه-: الشيخ محمد بن يوسف، وشيخ الإسلام أحمد بيرم، والشيخ الصادق بن القاضي، والشيخ الطاهر بن عاشور، والشيخ بلحسن النجار، والشيخ صالح المالقي -رحمهم الله- وكلهم من ¬

_ = تحرير المجلة بعد التسمية الجديدة.

أعيان علماء تونس، ثم انتقل إلى دمشق مع أخيه الشيخ الخضر. ودرّس اللغة العربية في مدرسة السلطاني العربي، وبقي في دمشق، ولم يغادرها مع أخيه، وعندما أُنشئت الجامعة السورية، التحق بكلية الآداب، ونال شهادة الآداب العليا. ثم درّس في مدارس دمشق الرسمية الابتدائية، ثم الثانوية، ثم دور المعلمين، حتى أُحيل على التقاعد عام 1950 م، بعد أن تخرج على يديه آلاف من التلاميذ الدمشقيين. وكان أستاذي في (مدرسة البحصة) الابتدائية، يعلّمنا النحو والعربية. وكان التلاميذ يحبّونه؛ للطف كان فيه، ودُعابة. وألف مؤلفات مفيدة منها: "المعجم المدرسي"، و"المعجم في النحو والصرف"، وهو جيد، و"المعجم في القرآن" (¬1)، و"الدين والقرآن"، و"الأربعون الميدانية" في الحديث، وغير ذلك. وكانت داره في حي الميدان مجمعَ الأفاضل، وكانت له دروس عامة يلقيها، ويجتمع فيها الكثيرون، ويفيدون منها. وكان في منتهى الذكاء، يخاطب كُلّاً على قدر عقله وفهمه، وكان لطيف المعشر، خفيف الظل، مع صلاح ووقار، وتوفي -رحمه الله- سنة 1977 م، جاءنا خبر وفاته إلى بيروت. أيها السادة! هؤلاء أنموذجات من علماء تونس الذين انطلقوا منها، ومن الزيتونة، فملؤوا دمشق والبلاد الإسلامية الأخرى بعلمهم، وقد تعمّدت ذكرهم؛ لأنهم أسهموا في ازدهار الثقافة الإسلامية في دمشق. ولي -ونحن في مطلع ¬

_ (¬1) "المعجم في الكلمات القرآنية".

هذا القرن الخامس عشر- أملان: الأول: أن يتصدّى زملاؤنا الأساتذة التونسيون الشباب لإتمام هذا الموضوع، والبحث عن الأثر الثقافي التونسي في كل بلد عربي وإسلامي، والثاني: أن ينطلقوا هم أيضاً على خُطا أولئك، ويفيدوا البلاد الإسلامية كلها بعلمهم وثقافتهم. وإنهم لخليقون بذلك -إن شاء الله-.

أعلام العلماء الشيخ الخضر حسين

أعلام العلماء الشيخ الخضر حسين محمد عبد الله السمان (¬1) * العلم والجهاد: قليلون (¬2) الذين يعرفون فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر الأسبق، الذي ولي مشيخة الأزهر عام 1952، واستقال عام 1954 م، ولزم داره حتى وافته منيته في فبراير عام 1958 م. وربما كان لهؤلاء عذر أو بعض العذر؛ فالشيخ مصري الإقامة، تونسي الأصل، ولد -رحمه الله- في بلدة "نفطة" في تونس سنة 1293 هـ، وقد انتقلت أسرته إلى تونس العاصمة، والتحق الشيخ بجامع الزيتونة، وحصل على شهادة العالمية، ولم تشغله الوظيفة عن طلب العلم. وقد تولى قضاء "بنزرت"، وولي التدريس أيضاً بجامع الزيتونة، على أن يسهم بقلمه ولسانه وشبابه في الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي، ويسهم في النهضة العلمية ¬

_ (¬1) كاتب إسلامي معروف - مجلة "أكتوبر" المصرية، العدد 349 الصادر يوم الأحد 3 يوليو تموز 1983 م - القاهرة. (¬2) استعمل الكاتب هذه الكلمة: (القليلون) بلاغة من قلمه؛ لأنه يريد الحث على المزيد من الاهتمام والعناية بمؤلفات الإمام محمد الخضر حسين، ودراسة أفكاره الإصلاحية والعلمية، وبثها في العالم الإسلامي.

والأدبية هناك باعتبار أن النهضة العلمية والأدبية تقف إلى جانب الحركة الوطنية في تحرير الوطن من الاستعمار الأجنبي الدخيل. أصدر في تونس مجلة "السعادة العظمى"، وهي إسلامية سياسية أدبية .. كانت عصا الترحال تلازم الشيخ، رحل إلى تركيا، ثم إلى تونس، ولما اشتدت وطأة الاستعمار الفرنسي، واشتدت في مواجهتها الحركة الوطنية ضد الاستعمار، وأحس الشيخ الشاب أن عيون الاستعمار ترصده، قرر الهجرة إلى دمشق أولاً؛ ليواصل جهاده بقلمه ولسانه، وفي دمشق عين مدرساً في المدرسة (السلطانية) التي درس بها الإمام محمد عبده، ثم رحل من دمشق إلى الآستانة، وسافر إلى ألمانيا مرتين، وله هناك ذكريات سجلها في ديوان. ولم يطب له المقام في دمشق، فقرر الاستقرار بالقاهرة؛ حيث توثقت صلته بأبرز مفكريها؛ أمثال: الشيخ محمد رشيد رضا، والعلامة أحمد تيمور باشا .. الحق أن مصر فيما مضى كانت كعبة القاصدين من المجاهدين السياسيين، والمفكرين الإسلاميين الذين ضاقت عليهم الأرض بوجود الاستعمار، كانوا يجدون في مصر أهلاً، وينزلون سهلاً، قصدها الحكيم الثائر جمال الدين الأفغاني، والحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين، وعبد الكريم الخطابي بطل الريف بالمغرب، والشيخ البشير الإبراهيمي شيخ علماء الجزائر، وغيرهم. وحين حل الشيخ محمد الخضر حسين بالقاهرة التحق بالأزهر، وحصل على العالمية، ورأس تحرير مجلة نور الإسلام "الأزهر" فيما بعد منذ إنشائها عام 1929 م، وكانت في عهده مجلة ذات قيمة علمية وفكرية، يجد فيها الخاصة والعامة بغيتهم، وعين الشيخ أستاذاً متفرغاً في جامعة الأزهر، وأسهم في

تأسيس "جمعية الشبان المسلمين"، ثم أسس "جمعية الهداية الإسلامية"، ومجلتها التي تحمل نفس الاسم، وكان مقرها بميدان لاظوغلي. ومن خلال هذه الجمعية تعرفتُ على الشيخ، وتوثقت صلتي به، وكانت الجمعية تضم خلاصة العلماء والمفكرين، كما كانت مقصد الطلاب المغاربة من ذوي الحاجات المادية والعلمية، وكان الشيخ -رحمه الله- ينفق على هذه الجمعية ومجلتها من ماله الخاص .. واختير الشيخ عضواً في هيئة كبار العلماء لدراسته القيمة عن القياس كمصدر من مصادر التشريع، ثم اختير عضواً في المجمع اللغوي. وعندما أصدر الأستاذ أحمد حمزة -رحمه الله- مجلة "لواء الإسلام" اختار الشيخ الخضر حسين أول رئيس تحرير لها، ولا شك أن هذه المجلة سدت فراغاً في دنيا الفكر الإسلامي. وكان من كتابها المشايخ: أبو زهرة، وعبد الوهاب خلاف، والأستاذ عبد الوهاب حمودة، وغيرهم - رحمهم الله-. ولم يكن الشيخ بمعزل عن التيارات الفكرية المناهضة للإسلام، فكان أول من تصدى للرد على كتاب "الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين، وكتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق .. * الشيخ ومواقف لا تنسى: عين الشيخ شيخاً للأزهر عام 1952 م وعمره يناهز الثمانين، لذلك أشفق عليه من هذا المنصب تلامذته وعارفو قدره على ماضيه المشرق الحافل بأنصع الصفحات، ولكن الشيخ الذي كان يتمثل ببيت الشاعر: إنّ الثمانين وبُلِّغْتها ... قد أحوجَتْ سمعي إلى ترجمانِ كان بين جنبيه نفس أبية: وقلب فتى، وإيمان شجاع، واطمأننتُ حين

علمت من مصادر موثوق بها أن الشيخ لا يعتبر هذا المنصب غاية يصبو إليها. لذلك فمنذ توليه المنصب وهو يحتفظ في جيبه باستقالة محررة، ونسخة منها يحتفظ بها مدير مكتبه، وقد قال له -أي: لمدير مكتبه-: إذا أحسست بضعفي في موقف من المواقف، فقدم استقالتي نيابة عني .. وفي عام 1953 م عزلت فرنسا السلطان محمد الخامس الولي الشرعي للمغرب مستعينة بعملائها الخونة من المواطنين، فجمع الشيخ هيئة كبار العلماء، وأصدرت بياناً اعتبرت فيه هؤلاء المارقين العملاء خارجين على الإسلام، وأرسل البيان إلى الصحف، فلم تنشره، وفي الصباح أرسل البيان مرفقاً به استقالته إلى رئيس الجمهورية، وكان أن نشر البيان، وكان له أثره في الحركة الوطنية في المغرب .. وبعد: فهذا هو الشيخ محمد الخضر حسين، العالم، الزاهد، الجريء، الذي قدم إلى المكتبة العربية والإسلامية ثروة أدبية ولغوية وفقهية.

الأدب التونسي وصداه في الشرق قديما وحديثا

الأدب التونسي وصداه في الشرق قديماً وحديثاً أبو القاسم محمد كرو (¬1) ويأتي بعد الثعالبي مباشرة رجل وديع ومتواضع، ويكاد أن يكون خجولاً خافت الصوت، إذا ما جالسته وتحدثت إليه، ولكنه جبّار في علمه وفي أدبه، رغم سلفيته ونزوعه إلى المحافظة، بحكم انتمائه العائلي، وتكوينه العلمي .. عنيتُ: الشيخ الجليل محمد الخضر حسين (¬2) .. هذا الذي جاهد الاستعمار الفرنسي في تونس، وفي كامل بلادنا المغربية، حتى حكم عليه غيابياً بالإعدام، ومصادرة أملاكه؛ لأنه كان أحد الذين ساهموا في بعث الثورات المسلحة بالجنوب .. وكان هو والشيخان: صالح الشريف (3)، وإسماعيل الصفائحي (¬3) ¬

_ (¬1) كاتب تونسي اهتم بسيرة الإمام محمد الخضر حسين وآثاره، وهذا المقتطف من مقاله المنشور في مجلة "المسار" تحت عنوان: "الأدب التونسي وصداه في الشرق قديماً وحديثاً"، وهي مجلة فصلية يصدرها اتحاد الكتاب التونسيين - العدد الأول من السنة الأولى خريف 1988 م. وله كتاب "محمد الخضر حسين شيخ الأزهر السابق" طبع في تونس 1973 م. (¬2) انظر كتابنا عنه: "محمد الخضر حسين شيخ الأزهر السابق" ط تونس 1973 م. (¬3) لنا عنهما دراسة مخطوطة "أذيعت عام 1981 م " راجع عنهما أيضاً تراجم محفوظ، وكتاب د. محمود عبد المولى عن الجهاد التونسي الليبي (1914 - 1918 م)، وهو بالفرنسية.

القادة الحقيقيين للنضال التونسي في أوروبا، خلال الحرب العالمية الأولى، ولكن بعض المزورين للتاريخ يحاولون سرقة هذا الشرف، وإسناده كاملاً لمن كان دورهم يأتي حتماً في الدرجة الثانية، وذلك بشهادة الوثائق التي بدأ الآن ظهورها في أرشيفات ألمانيا وفرنسا وتركيا (¬1). هذا الخضر حسين الذي استطاع بضلاعته النادرة في الأدب والشعر والبلاغة والعلوم الدينية، أن يتصدى -كما لم يتصد عالم أو أديب غيره- في أكبر معركتين من معارك الأدب والفكر في مصر العشرينات، معركة طه حسين وكتابه "في الشعر الجاهلي" (¬2)، ومعركة علي عبد الرازق وكتابه "الإسلام وأصول الحكم" (¬3)، وما أثاره من قضايا حول الخلافة، وهل هي من الإسلام، وضرورية اليوم للمسلمين أم لا؟. ومن يرد أن يعرف مكانة الرجل، وقيمة كتبه، وردوده العلمية والأدبية على هذين الكتابين، فليعد إلى كتاب "مصادر الشعر الجاهلي" (¬4) للدكتور ناصر الدين الأسد، وإلى الدكتور محمد عمارة فيما كتبه عن قضية الخلافة وبخاصة ما نشره عنها في مجلة الدوحة الخليجية (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: ما كشف عنه باحث ألماني من مكانة كبيرة ودور بارز لصالح الشريف "من خلال وثائق ألمانية" حوليات الجامعة التونسية عدد 24 سنة 1985 م. (¬2) حوكم من أجله طه حسين وأتلفت نسخه، لكننا نحتفظ بنسخة أصلية منه في مكتبنا. (¬3) طبع في ظروف سياسية معقدة عام 1925 م فور إلغاء الخلافة، ونحتفظ بنسخة من طبعته الأولى التي تمت بإشراف مؤلفه، أما طبعات بيروت اللاحقة، فهي تجارية، وفي بعضها تصرف غير علمي. (¬4) صدرت طبعته الأولى عن دار المعارف بالقاهرة عام 1952 والثانية 1962. (¬5) أعداد سنة 1987.

إن ما يعنينا هنا الآن، ليس ذلك فقط، بل حضوره الأدبي الطويل في مصر (40 سنة) بعد حضوره القصير -نسبياً- في دمشق والآستانة، وما تميز به هذا الحضور من إسهام كبير ومتواصل، لا في نهضة مصر الأدبية والعلمية، وفي تطوير أزهرها بالخصوص، وارتقائها إلى أعلى درجات المسؤولية فيه، حتى تولى مشيخته في فجر الثورة الناصرية (52 - 1954)، ليس ذلك فقط، بل وما قام به من نشاط أدبي وصحفي، ومن إشعاع تونسي في شتى الميادين (¬1)، ويكفي دليلاً على ذلك عدد المجلات التي تولى إدارة تحريرها، فضلاً عن مجلاته الخاصة، وأهمها مجلة "الهداية الإسلامية" التي عاشت معه، ومع جمعيتها التي تحمل اسمها، مدى ثلاثين عاماً، وكانت -كما كان هو- صوت تونس الأدبي والوطني والديني والثقافي، في مصر وفي أنحاء العالم العربي، هذا فضلاً عن عشرات الكتب والمحاضرات، وفي طليعتها كتاباه الفائقان "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، و"نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" (¬2)، يضاف إلى ذلك كله مئات المقالات التي كانت -كما كان هو- بحق إشعاعاً للأدب التونسي في معظم أوساط الأدب والثقافة في مصر والشام، وخاصة أوساط الأزهريين. صحيح أن تركيز الشيخ الخضر - من الناحيتين الأدبية والتاريخية - كان على جماعات الزيتونيين، وخاصة منهم شيوخه وأصدقاءه اللامعين؛ كعمر ابن الشيخ، وسالم بو حاجب، والطاهر بن عاشور، وعلي النيفر .. لكن هذا ¬

_ (¬1) للشيخ الخضر نشاط سياسي وطني للدفاع عن تونس والمغرب العربي، راجع ذلك في كتابنا عنه. (¬2) طبع الأول عام 26، والثاني قبله بسنة.

بالنسبة إليه كان أمراً منطقياً بحكم ظروفه وانقطاع صلاته بتونس إلا مع هؤلاء. وصحيح أنه قامت بتونس في مطلع الثلاثينات معارضة لأفكاره الأدبية والدينية المحافظة؛ كموقفه هو من دعوة الحداد إلى تحرير المرأة (¬1)، وموقف الشابي والمهيدي (¬2) والسنوسي (¬3) من آراء الخضر الأدبية. لكن من الصحيح أيضاً أن كتاب الشابي "الخيال الشعري عند العرب" (¬4) كان في عمقه الخفي معارضة لكتاب الشيخ الخضر حسين "الخيال في الشعر العربي" المطبوع لأول مرة في القاهرة عام 1922 م؛ أي: قبل طبع كتاب الشابي بسبع سنوات، وأنا -وإن كنت أعتز بالرجلين العظيمين- فإني أختلف معهما في الكتابين. لقد توسعت كثيراً في الحديث عن الثعالبي، والخضر حسين؛ لأننا نعتقد أن دورهما في المشرق هو الذي لفت أنظار واهتمام المثقفين العرب هناك إلى أن تونس لها تاريخ أدبي وثقافي هام جداً، وأن فيها نهضة حديثة، وأدباً جديراً بأن يعرف ويدرس، ثم لأن إشعاع الرجلين ما زال قائماً يضيء الكتابات والعقول إلى اليوم، خاصة في مصر والعراق وبلاد الشام. ¬

_ (¬1) انظر كتابه: "رسائل الإصلاح" (ج 3 ص 29)، أو كتابه "بلاغة القرآن" (ص 132)، وهو من تنسيق حفيده للأخ. (¬2) عن موقف الشابي راجع: "رسائل الشابي" التي جمعها الحليوي، وقدمنا لها، ونشرناها عام 1966، وعن موقف المهيدي: مجلة "الندوة" عدد خاص بالشابي - أكتوبر 1953. (¬3) راجع: مجلة السنوسي (العالم الأدبي)، وكتابه عن الشابي. (¬4) طبعته الأولى عام 1929.

من تاريخ الصحافة التونسية "السعادة العظمى 1904" ودورها الحضاري

من تاريخ الصحافة التونسية "السعادة العظمى 1904" ودورها الحضاري محمد الشعبوني (¬1) إن صاحب مجلة "السعادة العظمى" هو أحد أعلام هذا العصر، الشيخ محمد الخضر حسين، ولدب "نفطة" سنة 1874، والتحق وهو ابن 12 سنة مع والده إلى تونس العاصمة، ودرس بالمعهد الزيتوني، وأحرز على شهائده العلمية والأدبية، وأصدر مجلة "السعادة العظمى"، ثم تولى القضاء ببنزرت حتى سنة 1905، فتولى التدريس بالزيتونة، وبالصادقية، ثم هاجر إلى دمشق مطارداً من طرف الاستعمار، ثم إلى مصر كلاجئٍ سياسي سنة 1922، واستلم رئاسة تحرير مجلة "نور الإسلام"، وعين مدرساً بكلية أصول الدين، ثم أستاذاً متخصصاً. وأنشأ جمعية "الهداية الإسلامية"، وأصدر مجلة باسمها، وعيّن عضواً بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وعضواً بالمجمع اللغوي بالقاهرة، ونال عضوية مجلس كبار العلماء برسالته "القياس في اللغة العربية"، وأدار تحرير مجلة "لواء الإسلام"، وترأس (جبهة الدفاع عن شمال أفريقيا)، ثم اختير شيخاً للأزهر سنة 1952، وتوفي سنة 1958 بالقاهرة، ودفن بالمقبرة (التيمورية). ¬

_ (¬1) كاتب تونسي معروف - جريدة "الصباح" العدد الصادر في 29/ 8 / 1990 م - تونس.

هذا هو صاحب "السعادة العظمى"، فإذا عن هذه المجلة؟ في وقت لم يكن فيه للمجلة الدينية مكان ببلادنا؟ ظهرت "السعادة العظمى" في 16 محرم 1322 م بقطع من الورق الجيد مقياس 17 - 24، وبعدد 16 صفحة، وقد جاء تحت اسم المجلة ما يلي: "مجلة علمية أدبية إسلامية تصدر غرة كل شهر عربي، وفي سادس عشر منه". ولما ظهرت المجلة، استقبلها أهل العلم والأدب بكل حفاوة وترحاب، وكانت في الوقت نفسه وخزاً للمستعمرين الذين حاربوا ولاحقوا أصحابها، وضايقوا مديرها، حتى تعطل صدورها، ولم يمض عام على ظهورها، وكان آخر عدد ظهر منها يحمل رقم (21) قعدة 1322 هـ، وكان صاحبها يصدرها من منزله نهج (رحبة الغنم) (¬1) بالعاصمة. أما عن محتواها، فهو كما أشار العدد الأول في افتتاحيتها التي استغرقت صفحات كامل العدد ما نقتصر على بعض عناصره: "تفاتح مطالعيها بمقالة تتخذ مظهراً لبعض مطالب تقتضيها المحافظة على حياة مجدنا القديم، ويتلوها باب تعتبره معرضاً لعيون مباحث علمية، ولا تريد إلا انتظامها في ما هو التحقيق، بما يتخللها من الأفكار السامية، ويتلوهما باب ثالث تنشر فيه من الآداب ما يكون مرقاة للتقدم في صناعتي الكتابة والشعر لا يتمتع بها عند المسايرة ثم ترقص كأضغاث أحلام - ونقصّ في هذا الباب من التاريخ أحسن القصص، ويتصل بذلك باب رابع في الأخلاق، ويلي باب آخر للأسئلة والاقتراحات، ثم خاتمة عنوانها مسائل شتى. ومن مقاصد هذه المجلة: التعرض لما تتناوله الألسنة، وتتناقله الأقلام ¬

_ (¬1) المعروف اليوم باسم: (معقل الزعيم).

من الأحاديث الموضوعة. وأورد المؤلف في افتتاحية مجلته اثني عشر استطلاعاً لبيان ما سيدرج تحت كل باب منها، من دراسات ومعارف، ذاكراً أن المجلة مستعدة لقبول ما يرد عليها من الرسائل المنقحة التي تنطبق على المنهج الذي كنا بصدد تسويته، ولا أخاله إلا صراطاً سوياً، ونؤمل من عواطف هؤلاء الفضلاء أن ينظروا إلى ما تنطوي عليه صحائف هذه المجلة كيفما صدرت نظر بحث وانتقاد، وإن عثروا على نوع ما من الخلل، جاهرونا به، ولا نتلقاه إلا بفساحة الصدر، وغاية الارتياح، بل ربما استدللنا على ذلك بنجاح المسعى، ومن انسدت أمامه طرق الإذعان إلى الحق، عميت عليه أنباء التحقيق. يقول الشيخ محمد العربي الكبّادي: (سعادتكم) فينا لقد طلعت شمسا ... فكلٌّ لها أضحى مشوقاً كما أمسى ولله ما خطّت يراعتك التي ... برقَّة ما تبديه تمتلك النفسا مجلة علم لم تجل في ضلالة ... ولكن جراحات الضلال بها تؤسى أما الشيخ محمد الحشايشي، فقد حياها بقوله: تشرفت باستطلاع فكركم الأسمى ... وما ذاك إلا الدرّ ترسمه رسما مجلتكم روض من العلم يانع ... سترقى بفضل الله أغصانه النجما وقد خلصت من كل بدعة زائغٍ ... فحقاً بأن تدعى: (سعادتنا العظمى) ومن لم يشارك في السعادة قاصر ... على نيلها فاسعد ودم جهبذاً قرما وكثير هم العلماء والأدباء الذين استقبلوا ظهور المجلة بقصائدهم؛ كالمشايخ: محمد النخلي، والصادق المحرزي، وإدريس محفوظ، وصالح سويسي، ومحمد شاكر، ومحمد العزيز الشيخ، والأمين بوعلاق، ومحمد

المذكور بن الصادق، والطاهر بو دربالة، والشاذلي خزندار، وغيرهم. مما نشرت قصائدهم بكتاب "السعادة العظمى". يقول محمد الطاهر بودربالة: ذا زهر روض عاطر الأردان ... أعقود درّ في نحور غوانِ أم ذي السعادة للهدى قد أقبلت ... حيّت فأحيت مجمع العرفان عربية شهدت لها أترابها ... وغدت تحليها بحسن بيان أما علّامة العصر، ومفخرة القطر، الشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور، فقد أورد في كتابه لصاحب المجلة ما يشير إلى رأيه فيها: "ما زلت راجياً أن أرى منا ناهضاً يحيى لهاته الأمة فخاراً، ويقول لأهلها: امكثوا إني آنست ناراً، فهذا رجائي قد أسفر عن مجلتكم العظمى، وعسى أن يقارنها من تعضيد المؤازرين ما تحقق به الآمال، وسيكون-إن شاء الله- من اسمها للأمة أصدق قال. لكنك ستجد في صنيعك هذا ألسناً شاجرة، وصدوراً ثائرة، وعيوناً متغامزة؛ كما وجد الناهضون من قبلك، فإن استطعت أن لا تزيدك أراجيفهم إلا معرفةً بكبر نفسك، وتصميماً على غاية فكرك، ولهواً عن قولهم؛ فإنهم حاسدون، ويأساً من نصرتهم، فأولئك هم الخاذلون، ولتكن استعانتك وتوكلك على من كفل الهداية إلى الصراط المستقيم، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم". وهكذا أصبح اسم الشيخ الخضر حسين مقترناً باسم مجلته "السعادة العظمى"، هذه المجلة التي تناولت من المباحث العلمية: (الاعتصام بالشريعة)، و (الأخذ بالقول الراجح)، و (براءة القرآن من الشعر)، و (العمل والبطالة)، و (حياة الأمة)، و (التربية)، و (التقدم بالكتابة)، و (النهضة للرحلة)، و (مدنية

الإسلام والعلوم العصرية)، و (كبر الهمة)، و (التعاون والتعاضد)، و (الديانة والحرية المطلقة)، و (البدعة)، و (الزمان والتربية)، و (الصيام)، و "الأحاديث الموضوعة). وتناولت عن المباحث الأدبية: (تقسيم الكلام بحسب أغراضه)، و (الإبداع في فنون الكلام)، و (طريق الترقي في الكتابة والشعر)، و (الشعر العصري)، و (الكلام الجامع). وحياة بعض الأعلام؛ كأبي بكر بن العربي، وأبي الوليد الباجي، ومنذر بن سعيد، وتحقيق مسائل تاريخية، والرحلة الجزائرية، أما الأسئلة والأجوبة، فقد كانت متنوعة عن اليلة النصف من شعبان)، و (صوت المرأة)، و (الاقتباس من القرآن)، و (الطب النبوي)، و (الاستخارة)، وغيرها. هذه هي مجلة "السعادة العظمى" التي تعد أول مجلة دينية ظهرت بتونس في أوائل هذا القرن. نختم باستعراض حياتها بهذه الأبيات لشيخ شعراء "صفاقس" الأستاذ محمد شاكر يراسل بها صاحب المجلة: هناء لهذا القطر بالمأمل الأسمى ... وبشراه إذ لاحت سعادته العظمى مجلة علم طالما استشرفت لها ... نفوس ذوي الآداب ممن حوى العلما فمدوا أولي الألباب أيدي جدّكم ... عسى أن ترى الإسعاد للقوم قد تمّا

شيخ الجامع الأزهر السابق تونسي الشيخ محمد الخضر حسين

شيخ الجامع الأزهر السابق تونسي الشيخ محمد الخضر حسين حامد الحبيب براهم (¬1) ليس من السهل أن تنسى تونس هذا العالم الكبير، ولابد للشباب التونسي أن يعرف من هو الشيخ محمد الخضر حسين شيخ جامع الأزهر السابق، هذا الرجل الذي آمن بالإسلام ودعوته، وأحب من صدر حياته أن يكون من الذين قال الله سبحانه فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]. إن الاستقامة على طريق الله بعلم وحزم وحكمة ويقين هي الولاية، فإذا تعارضت مصلحة الدين ومصلحة الدنيا أمام الرجل المسلم، فآثر مصلحة الدين، ومضى على ذلك في تصرفاته كلها مدى الحياة، فهو من أولياء الله؛ أي: من أنصاره، والولاية هي النصرة، وقد جرت سنة الله أن يأخذ بايدي أوليائه، وينصرهم ما نصروا دعوته وسنته في الأرض، وهذه المرتبة في متناول يد كل من رامها من شبابنا وكهولنا وشيوخنا، إذا آلى أن يجعل وجهته في مراحل الحياة. وسأتحدث في هذه الجريدة المباركة "جريدة الصباح" إلى إخواني من الشباب التونسي عن حياة هذا الرجل المؤمن بالإسلام. ¬

_ (¬1) كاتب تونسي - جريدة "الصباح" العدد الصادر في 14 سبتمبر أيلول 1990 م - تونس.

ولد شيخنا المرحوم محمد الخضر حسين عام 1293 هـ في مدينة "نفطة" الجمهورية التونسية، وأبوه من أسرة شريفة، أصلها من الجمهورية الجزائرية، وكانت أمه من صالحات النساء، وله فيها قصيدة: (بكاء على قبر) لما بلغه خبر وفاتها سنة 1335 هـ. وكان أبوها الشيخ مصطفى بن عزوز من أهل العلم والفضل، له ترجمة في تاريخ الوزير أحمد بن أبي الضياف، وأبو جده لأمه محمد بن عزوز من الأفاضل أيضاً، وله ترجمة في كتاب "تعريف الخلف برجال السلف" للشيخ الحفناوي بن عروس، وخاله السيد محمد المكي بن عزوز من كبار العلماء الصالحين، وكان موضع الإجلال والاحترام من رجال الدولة العثمانية في العهد الحميدي، وقضى الشطر الأخير من حياته في الآستانة برغبة من السلطان، وله مؤلفات معروفة، ولشيخنا الفقيد قصيدة في تأبينه ووصفه بمناسبة وفاته سنة 1334 هـ أثبتها في (ص 180) من "ديوانه" في طبعته الثانية. وفي سنة 1305 انتقلت أسرتهم من "نفطة" إلى العاصمة التونسية، وكان الفقيد في الثانية عشرة من حياته، وقد تأدب قبل ذلك بأدب الإسلام، وتلقى كتاب الله، ومبادئ العلوم الشرعية والعربية، فلما نزلوا تونس، التحق بجامع الزيتونة الأعظم، وأخذ يتنقل في مراحل التعليم، وكان من أبرز شيوخه: العلامة الكبير المرحوم سالم بو حاجب المولود ببلدة بنبلة، والمتوفى سنة 1339 هـ -رحمه الله-، ولفقيدنا أبيات في وصفه ورثائه هي في "ديوانه" (ص 101). وفي سنة 1321 حصل على شهادة العالمية من جامعة الزيتونة المعمور، وما لبث أن أصدر مجلة "السعادة العظمى"، وأخذ يساهم في النهضة العلمية والأدبية، ويباري رجالها لإحراز قصبات السبق طمعاً في مرضاة الله، وفي

"ديوانه" (ص 73) قصيدة نظمها في هذه الحقبة، انطوت على روح الدعوة التي أنشأ هذه المجلة للقيام بها. وفي سنة 1324 هـ تولى قضاء مدينة "بنزرت" ومنطقتها. وفي مساء 17 ربيع الآخر من تلك السنة ألقى محاضرة عنوانها: (الحرية في الإسلام) في نادي قدماء خريجي المدرسة الصادقية بلغت 64 صفحة، ودلت على نزعته المبكرة إلى الحرية، وفهمه السليم لرسالة الإسلام من هذه الناحية، ولم تطل مدة ولايته القضاء؛ لأن الجمع بينه وبين انطلاقه الفكري في بلد محتل بالاستعمار الملعون كان محاولة للجمع بين الضدين، لذلك رأيناه في سنة 1337 هـ عاد مدرساً في جامع الزيتونة، ولعله فارق القضاء قبل تدريسه في الزيتونة، فتولى التدريس قبل ذلك في المدرسة الصادقية حيث كانت المدرسة الصادقية هي الوحيدة في كامل الوطن التونسي، وفي مساء السبت 11 شوال سنة 1327 هـ ألقى في نادي الجمعية الخلدونية بتونس العاصمة محاضرة عنوانها: (حياة اللغة العربية) تحدث فيها عن أطوار هذه اللغة، وفصاحة مفرداتها، وحكمة تراكيبها، وتعدد أساليبها، وما تفردت به من إعجاز وبدائع التشبيه، وارتقاء مستوى اللغة بارتقاء التمدن العربي، وتحدث عن العامية والعربية الفصحى، وفي "ديوانه" (ص 23) قصيدة نظمها سنة 1328 هـ بعد ولايته القضاء والتدريس يوجه بها أنظار القائمين على جامع الزيتونة إلى ضرورة العناية بتدريس الإنشاء، وتمرين الزيتونيين عليه؛ ليكون للوطن من علماء هذا المعهد الإسلامي كتّاب بارعون، يؤدون مهمة الدعوة، ويقودون الأمة إلى أهدافها. وفي تلك السنة، مرت بتونس بعثة الهلال الأحمر العثماني قاصدة طرابلس الغرب بعد حملة البغي الإيطالي عليها، فنظم قصيدة يدعو فيها إلى معونة

هذه البعثة وإعانتها، وهي في "الديوان" (ص 33). وفي السنة التالية (1329 هـ) وجهت إليه التهمة ببث روح العداء للغرب، ولا سيما سلطة الحماية الفرنسية، فسافر إلى الآستانة متذرعاً بزيارة خاله السيد محمد المكي بن عزوز، ولما ظن أن الزوبعة هدأت، عاد إلى تونس بطريق "نابولي"، ولما استقر به المقام، رأى أنه لن يطيق البقاء في ذلك الجو الخانق، فأزمع الهجرة منه نهائياً، ووقع اختياره على دمشق، ليتخذها وطناً ثانياً له، وقد مر بالقاهرة سنة 1330 هـ، وقد اجتمع بالشيخ طاهر الجزائري، وأحمد تيمور، والسيد رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب الذي كان وقتئذٍ في قلم تحرير "المؤيد". ولما وصل إلى دمشق، كانت الحركة العربية في بدايتها، وكانت الأمة تطالب الحكومة العثمانية بإعطاء اللغة العربية حقها من التعليم في المدارس الرسمية، فعين الشيخ محمد الخضر حسين مدرساً للعربية في المدرسة (السلطانية) بدمشق، وكانت سكة الحجاز الحديدية متصلة فيما بين دمشق والمدينة المنورة، فزار المسجد النبوي سنة 1331 هـ، وله في هذه الزيارة قصيدة في "الديوان" (ص 106). وفي هذه الفترة زار البلاد التونسية، وفي "ديوانه" من ذكريات هذه الزيارة أبيات في (ص 126 و 134). وذهب في هذه المرة إلى الآستانة، ولقي وزير حربيتها أنور باشا، واختير الشيخ محرراً عربياً في وزارة الحربية، وكان في هذه الحقبة قد عرف دخيلة الحال في الدولة، وأصيب بخيبة أمل ما كان يتصوره بعين الخيال، وبين ما رآه بعين الحقيقة، فنظم في سنة 1332 أبيات بعنوان: (بكاء على مجد ضائع) تجدها في "ديوانه" (ص 61)، وفي سنة 1333

أرسله أنور باشا إلى "برلين" بمهمة رسمية، فقضى في ألمانيا تسعة أشهر، اجتهد خلالها في تعلم الألمانية، وفي "ديوانه" قطع كثيرة مما نظمه هناك، ومن ذلك: أنه كان في قطار بضواحي برلين يرافقه مدير الأمور الشرقية بوزارة الخارجية الألمانية، وكان يتحدث مع شاب ألماني باللغة الألمانية، ثم أقبل مدير الأمور الشرقية على الشيخ، وقال له: أليس هكذا يقول ابن خلدون: إن العرب أبعد الناس عن السياسة؟ فنظم الشيخ في هذه الحادثة أبياتاً يقول فيها: عذيري من فتى أزرى بقومي ... وفي الأهواء ما يلد الهذاءَ سلوا التاريخ عن حكم تملت ... رعاياه العدالة والرخاء هو الفاروق لم يدرك مداه ... أمير هزّ في الدنيا لواء وعاد إلى الآستانة، فوجد أن خاله الشيخ المكي بن عزوز قد توفي بها، قبل قدومه بنحو شهرين، فرثاه بما في "الديوان"، ثم ضاقت به العاصمة العثمانية على سعتها، وصرفه عنها وعن عظمتها يومئذٍ ما كان يشعر به من الشوق إلى دمشق، حتى تمكن من الوصول إليها، والاستقرار فيها، غير أنه ما لبث أن ناله شواظ من شرور السفاح الجنكيزي أحمد جمال باشا، الذي لم يسلم فاضل من شره، فاعتقل في رمضان سنة 1334 هـ، وكان في زنزانة واحدة هو والأستاذ سعدي بك الملا الذي تولى رئاسة الوزراء اللبنانية بين الحربين العالميتين، وكان جريرة سعدي بك الملا: أنه كان سكرتيراً لشكري باشا الأيوبي من كبار رجال الجيش العثماني الذين أنجبتهم الشام، أما شكري باشا، فكان تحت التعذيب الأليم الذي يذكِّر الناسَ بديوان التفتيش الكاثوليكي في إسبانيا.

ومن شعر الشيخ محمد الخضر حسين في هذا الاعتقال: جرى سمر يوم اعتقلنا بفندق ... ضحانا به ليل، وسامرنا رَمْسُ فقال رفيقي في شقا الحبس: إن في ... الحضارة أنساً لا يقاس به أُنْسُ فقلت له: فضل البداوة راجحٌ ... وحسبك أن البدو ليس به حَبْسُ وأكبر ظني أنه كان لأنور باشا دخل في إنقاذ الشيخ من قبضة جمال باشا، فما كاد يفرج عنه، ويخرج، حتى أزمع السفر إلى الآستانة، وما كاد القطار يسير به حتى قال، وهي في "ديوانه" (ص 126): أردد أنفاساً كذات الوقود إذ ... رمقتني من البين المشت رواشِقُ وما أنت مثلي يا قطار وإن نأى ... بك السير تغشى بلدة وتفارقُ فما لك تلقى زفرة بعد زفرة ... وشملك إذ تطوي الفلا متناسق؟! ولما بلغ الآستانة، أوفده أنور باشا سنة 1335 للمرة الثانية إلى ألمانيا، فقضى فيها زمناً طويلاً، وعاد إلى الآستانة، ثم إلى دمشق، فتولى التدريس بالمدرسة السلطانية مرة أخرى بقية سنة 1335، وفي هذه المدة شرع في دراسة كتاب "مغني اللبيب" فيعلم العربية لجمال الدين بن هشام (706 - 761) بمحضر جماعة من أذكياء طلاب العلم بدمشق، وكان يرجع في تقرير المسائل المتصل بالسماع والقياس إلى تلك الأصول المقررة والمستنبطة، فاقترح عليه أولو الجد من الطلبة جمع هذه الأصول المتفرقة؛ ليكونوا على بينة منها ساعة المطالعة، فألف مقالات تشرح حقيقة القياس، وتفصل شروطه، وتدل على مواقعه وأحكامه، ومن المقالات تألفت رسالة "القياس في اللغة العربية" التي أعاد عليها نظره بمصر، ونال بها عضوية جماعة كبار العلماء.

وفي سنة 1337 هـ ذهب إلى الآستانة، وكانت الحرب العالمية الأولى في نهاياتها، والحالة في دولة الاتحاد والترقي مؤذنة بالزوال، فتوجه إلى ألمانيا، وقضى هناك سبعة أشهر، وكانت عودته منها هذه المرة إلى دمشق رأساً، وهو يقول "الديوان" (ص 220): سئمت وما سئمت سوى مقامي ... بدارٍ لا يروج بها بياني فازمعت الرحيل وفرط شوقي ... إلى بردى تحكم في عناني هلم حقيبتي لأحطّ رحلي ... فنفحُ زهور جِلَّق في تداني ووافقت عودة الشيخ إلى دمشق دخول الجيش العربي، وولاية فيصل ابن حسين على سوريا، على أمل أن يعود إلى تونس، فيكمل حياته فيها، ولكن الله أراد له الاستقرار والبقاء بمصر. وفي مصر أخذ يشتغل بالكتابة والتحرير والدرس، وفي سنة 1340 هـ ألف رسالته "الخيال في الشعر العربي". وبعدئذٍ كسبته دار الكتب المصرية، فالتحق بقسمها الأدبي عدة سنين، ثم تجنس بالجنسية المصرية، وتقدم للامتحان في الأزهر، فقام على امتحانه لجنة برئاسة العلامة الشيخ عبد المجيد اللبان، وكانت اللجنة كما اكتشفت آفاق علمه، زادت في التعمق بمناقشته، واستخراج كنوز فضله، وأصبح بعدئذ من أكمل أساتذة هذا الصرح العلمي العظيم في عصور الإسلام الطويلة، وإن تلاميذ الشيخ صاروا فحول العلماء، وأطواد التحقيق في الشريعة وعلوم العربية. وفي سنة 1342 هـ أسس "جمعية تعاون جاليات أفريقية الشمالية"، وسن لها قانوناً، وفي سنة 1343 مرض مرضاً شديداً، ردد صداه في شعره "الديوان" (26)، وفي سنة 1344 هـ ظهر كتاب "الإسلام وأصول الحكم".

واصل -رحمه الله- السنين المباركة في حياته بعد ذلك في التدريس بكلية أصول الدين على طريقة العلماء الأقدمين في التحقيق والرجوع بقضايا العلم إلى أصولها، والغوص في أعماقها، ويقضي الليالي في محاضرة جماهير الشباب وأهل الفضل بدار "جمعية الهداية الإسلامية" داعياً إلى تجديد حيوية الإسلام في نفوس أهله، وتقرير حقائقه بأساليب بليغة، كانت موضع الحرمة والتقدير من جميع الطبقات. وعندما أسس المجمع اللغوي، كان من أقدم أعضائه، وله فيه بحوث وقصائد ودفاع عن الفصحى، وتبيان لأسرارها، وعرض لجواهرها. وفي سنة 1370 نال عضوية هيئة كبار العلماء برسالة "القياس في اللغة العربية" التي ألف أصولها وهو في دمشق أيام الحرب العالمية الأولى، وفي يوم الثلاثاء (26 من ذي الحجة 1371 هـ - 16 سبتمبر 1952 م) خرج من مجلس الوزراء أثناء انعقاده ثلاثة من أعضاء ذلك المجلس، فتوجهوا إلى المنزل الذي كان يسكنه الشيخ، وعرضوا عليه مشيخة الجامع الأزهر باسم حكومة الثورة، وجاء الشيخ إلى مشيخة الأزهر، وللأزهر في ذهنه رسالة يتمنى لو اضطلع بها الأزهر؛ ليتم له بها حمل أمانة الإسلام. وكان هذا الاختيار تحقيقاً للأخوة الإسلامية في الدستور الإسلامي، وبرهاناً من الله -عزَّ وجلَّ- على أن من كان مع الله، كان الله معه، وعلى أن من عاش يؤثر الآجلة على العاجلة عند اختلافهما، فإن الله يكافئه بخير مما يطمع فيه الذين يؤثرون العاجلة على الآجلة. ولما أضعفته الشيخوخة عن مواصلة الاضطلاع بحمل هذه الأمانة، عاد إلى منزله يواصل العكوف على الكتب والكتابة والتفكير، حتى لقد نظم ديواناً

كله مقطعات في الحكمة والخواطر التي تحوم حول الحق والخير .. وفي يوم 13 رجب 1377 مساء اختاره الله إليه، وهو لا يزال على عهده الأول من الذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا، فكان جديراً بما وعد الله به أمثاله أن تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، وفي ظهر اليوم التالي صُلي عليه بعد الفريضة في الجامع الأزهر، ومشى في موكب جنازته علماء الأزهر وأعيان الأمة المصرية والمنتسبون إلى العلم، ودفن بجوار صديقه أحمد تيمور باشا بوصية منه -رحم الله الشيخ محمد الخضر حسين التونسي شيخ جامع الأزهر السابق-.

أعلام من تاريخنا الشيخ محمد الخضر حسين

أعلام من تاريخنا الشيخ محمد الخضر حسين عمر بُوشيبة (¬1) في الجنوب التونسي، وفي زوايا العلم؛ حيث الإشعاع الفكري والروحي، وفي واحات النخيل الباسقة، ولد شيخنا الخضر حسين في بلده "نفطة" سنة 1873 هـ من أسرة علم وتقوى يتصل نسبها بالرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم -، ولما بلغ من العمر الثانية عشرة، انتقل مع والده إلى العاصمة؛ حباً لطلب العلم، وانتسب إلى جامع الزيتونة الذي نهل من معينه العلم الكثير، وفي هذا الصرح الحضاري درس، ودرّس العلم، وتولى بعدها القضاء في مدينة "بنزرت"، فكان وقافاً عند كتاب الله، ولم يكتف بهذا، بل راح يخوض غمار الصحافة، فأسس مجلته الخالدة "السعادة العظمى" التي أوقفتها السلطات الفرنسية. لقد كان صوتاً إسلامياً مدوياً في أنحاء المعمورة، يخشع لسامعه العدو والصديق. رحم الله شيخنا، لم يدع درباً ولا طريقاً إلا سلكه في سبيل تحرير تونس الحبيبة من براثن الاستعمار، لقد كان خطيباً مفوهاً يلهب حماسة الجماهير ¬

_ (¬1) كاتب تونسي - مجلة "الفجر" - العدد العاشر الصادر يوم السبت 10 ربيع الأول 1411 هـ - 29 سبتمبر 1990 م - تونس.

من فوق المنابر، فلما شعرت فرنسا بالخطر المحدق عليها، لاحقته، وضيقت عليه السبل، فخرج فراراً بدينه إلى الشرق حاملاً قلماً بليغاً معطاءً لا ينفد خيره، وعقلاً مؤمناً ثاقباً، يتابعه حكم الإعدام الذي أصدرته محكمة العدو. وحط به الترحال في دمشق الفيحاء، فأقام فيها مدة طويلة تولى في مطلعها التدريس، ثم اعتقله جمال باشا فترة من الزمان؛ لاشتغاله بالسياسة، وتحريض الناس للجهاد المقدس، وعلى أثرها سافر إلى الآستانة وألمانيا داعياً؛ لأنه يدرك أنه يمثل خلية من خلايا جسم الدعوة الإسلامية، وأن قوة هذه الخلية وفاعليتها في مدى انسجامها وتفاعلها مع خلايا الجسم الأخرى. هكذا كان ينظر إلى عبء الدعوة الإسلامية. وفي سنة 1920 م وصل إلى مصر بعد أن لاحقته فرنسا طويلاً، فبدأ النضال السياسي إلى جانب الدعوة والإصلاح، كانت داره عبارة عن سفارة تونسية، بل مغاربية، يؤمها الأمراء والمناضلون من أبناء المغرب العربي الكبير، فكان الشيخ يبعث فيهم روح النضال الموحد والمشترك؛ لأن عدوهم واحد، وهدفهم واحد، فأسس (رابطة تعاون جاليات أفريقيا الشمالية)، فعقدت المؤتمرات، وشرحت قضايا المغرب للعالمين العربي والإسلامي، ثم أنشأ (جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية) التي قامت بدور فعال، وكانت إحدى الطعنات التي مزقت صدر الاستعمار، وهو في كل هذا بقي يحن إلى تونس مسقط رأسه، ومنبِت فكره، ونجد ذلك في شعره تحت عنوان: (أنباء تونس). قال عندما زاره أحد الأدباء قادماً من تونس إلى القاهرة: أمحدّثي رُبِّيتَ في الوطن الذي ... رُبِّيتُ تحت سمائه وبلغت رشدا

وجنيتَ زهر ثقافة من روضة (¬1) ... كنتُ اجتنيت بنفسجاً منها ووردا هاتِ الحديث فإنني أصبو إلى ... أنباء تونس من صميم القلب جِدّا وبعد رحلة طويلة من الكدح والجهاد، ناداه ربه إليه، فاستجاب لنداء خالقه، وكان ذلك في رجب سنة 1958 م حيث دفن في المقبرة التيمورية بالقاهرة إلى جانب صديقه أحمد تيمور باشا. استلم رئاسة تحرير مجلة "نور الإسلام" التي يصدرها الأزهر، المعروفة اليوم بمجلة الأزهر، وانضم إلى علماء الأزهر، وعيّن مدرساً للفقه في كلية أصول الدين، ثم أستاذاً في التخصص، وعين أيضاً في المجمع العربي العلمي بدمشق، واختير عضواً في جامعة كبار العلماء بعد أن قدم رسالته العلمية "القياس في اللغة العربية". استلم رئاسة تحرير مجلة "لواء الإسلام"، وقام بتأسيس جمعية (الهداية الإسلامية)، وجمعية (الشبان المسلمين)، ثم تولى سنة 1952 م إماماً لمشيخة الأزهر. * بعض أقواله في فكرة فصل الدين عن الدولة: فصل الدين عن السياسة هدم لمعظم حقائق الدين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين. * مؤلفاته: كثيرة منها: ديوانه في الشعر - خواطر الحياة - أسرار التنزيل - الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان - القاديانية والبهائية. رحم الله شيخنا، ما ترك فناً إلا وكتب فيه. ¬

_ (¬1) يقصد به: (جامع الزيتونة) المعمور بتونس.

أعلام الإعلام في تونس محمد الخضر بن الحسين

أعلام الإعلام في تونس محمد الخضر بن الحسين الدكتور محمد حمدان (¬1) إذا كان تاريخ الصحافة بتونس زاخراً بالدوريات التي صدرت في شكل جرائد، فإن الدوريات التي صدرت في شكل مجلات تعد ضئيلة نسبياً. وإذا كانت الجرائد متصلة بالأحداث الآنية، وبالأخبار السياسية العامة، فإن المجلات تأخذ عادة بعدها الكافي عن الأحداث، لتكون وسائل تفكير نظري، وخلق أدبي، وتعبير عن الرأي. وتواجه المجلات بالتالي أكثر من الجرائد مشاكل في الصدور والاستمرارية؛ نظراً لجمهورها المحدود، ولتكاليف إخراجها المرتفعة. وقد كان لمحمد الخضر بن الحسين الفضل في إصدار أول مجلة تونسية عنوانها "السعادة العظمى"، تبعتها بعد ذلك مجلات أخرى ذات طابع ديني أو أدبي إلى جانب المجلات الرسمية والمختصة. ومحمّد الخضر بن الحسين من مواليد "نفطة" بالجنوب التونسي ¬

_ (¬1) كاتب تونسي معروف، وأستاذ محاضر في معهد الصحافة وعلوم الأخبار بتونس، له كتاب قيم في الإعلام في تونس تحت عنوان "أعلام الإعلام في تونس 1860 - 1956" ط 1991 م، صدر عن مركز التوثيق القومي بتونس. ومن الكتاب المذكور أخذنا هذا البحث.

حوالي 1873 م، ودرس بالمكتب القرآني في مسقط رأسه قبل أن يلتحق بالزيتونة، حيث تحصل على (التطويع)، وبدأ حياته العامة بإصدار مجلة "السعادة العظمى" منذ شهر محرم 1322 هـ (الموافق لشهر أفريل 1904 م)، وهي مجلة علمية أدبية إسلامية ونصف شهرية. وأبرز الخضر بن الحسين من خلال مجلته نزعته الإسلامية الإصلاحية، ودعوته للتمسك بالدين، وبالتضامن الإسلامي لضمان النهضة. وقد انتهجت مجلة "السعادة العظمى" في شكلها ومنهجها ما سلكته مجلة "المنار" المصرية الشهيرة من خيارات. وأحدثت المجلة هزة للفكر الديني التقليدي؛ إذ فتحت ودعت إلى فتح أبواب الاجتهاد، كما فتحت أبواباً للمقالات العلمية العصرية، لم يتعود عليها القارئ، وفتحت أيضاً أبواباً للجدل حول مواضيع دينية ودنيوية حساسة. وفتحت المجلة أعمدتها لبريد القراء. وقد واجهت المجلة معارضة واحتجاج علماء الدين التقليديين الذين حاولوا إخماد صوتها. ولم تتمكن مجلة "السعادة العظمى" من الصدور أكثر من واحد وعشرين مرة؛ إذ توقفت عن الصدور في شهر جانفي 1905 م. بعد أن قامت هيئة النظارة العلمية لجامع الزيتونة بمطالبة الحكومة بتعطيلها. وكان لهذه المجلة تأثير كبير على المسار المهني للخضر بن الحسين في المؤسسة الزيتونية، وعلى الشهرة التي سيتمتع بها لدى جانب معين من الزيتونيين، وعلى الاضطهاد الذي سيمارسه عليه جانب آخر منهم، مما سيدفع به في النهاية إلى ديار الغربة. ومن الناحية الصحفية، يمكن اعتبار "السعادة العظمى" أول مجلة تصدر

في تونس باللغة العربية، وإن سبقتها في الظهور مجلات أخرى باللغة الفرنسية؛ مثل: "المجلة التونسية" منذ سنة 1885، وإن سبقتها كذلك التقاويم السنوية التي صدرت في تونس مطبوعة باللغة العربية منذ 1881. وتعتبر مجلة "السعادة العظمى" امتداداً للكتاب؛ إذ أن صفحات مختلف أعداد المجلة متتابعة يمكن جمعها في كتاب، ولم تصل بعد في شكلها إلى مرحلة متطورة من الإخراج، إذ أنها لا تحتوي على رسوم أو صور، ولا تبرز بإخراج يميزها عن الكتب. وبعد هذه التجربة الإعلامية الرائدة، انصرف محمد الخضر بن الحسين عن المهنة الصحفية، وإن واصل بعد ذلك مساهماته الصحفية، فإنه لم يتفرغ لهذا الميدان؛ فقد دعي الخضر بن الحسين إلى مباشرة القضاء في "بنزرت" سنتي 1905 و 1906، ثم إلى التدريس في الزيتونة، وشقّ طريقه بصعوبة في هذه المؤسسة التعليمية، كما زاول التدريس في (الصادقية). وبدأ الخضر بن الحسين أسفاره للخارج بداية من سنة 1911 بعد تعرضه للمضايقات، واستقال من الزيتونة عام 1912 م؛ ليتجول بين بلدان المشرق والغرب، وليدافع عن القضية التونسية والجزائرية في "برلين" خلال الحرب العالمية الأولى إلى جانب صالح الشريف، ومحمد باش حانبة. واستقر بالشيخ الخضر بن الحسين المطاف بمصر، حيث قرر الإقامة، فتحصل على الجنسية المصرية، وزاول التدريس في جامع الأزهر إلى أن تولى رئاسة مشيخة الجامعات الأزهرية الشهيرة سنة 1952. وفي مصر أيضاً كان للشيخ الخضر بن الحسين نشاط إعلامي؛ إذ تولى رئاسة تحرير المجلة الإسلامية التي تصدرها مشيخة الأزهر بعنوان "نور الإسلام"، كما تولى رئاسة (جمعية الهداية الإسلامية)، وأشرف على إصدار مجلة هذه الجمعية التي تحمل عنوان

"الهداية الإسلامية". واستلم أيضاً رئاسة تحرير مجلة أخرى بعنوان "لواء الإسلام". وهكذا حافظ الشيخ الخضر بن الحسين على وفائه لتوجهاته الإسلامية في الإعلام. كما حافظ على قالب المجلة في إصداراته الإعلامية نظراً لتماشيها مع المواضيع الجدية التي يتطرق إليها. وبالرغم من بعده عن تونس، وحجز أملاكه بها، والحكم عليه بالإعدام غيابياً، فإن علاقات الشيخ الخضر بن الحسين لم تنقطع مع الصحافة التونسية، فقد نشر في جريدة "الزهرة" اليومية في سنة 1913 خلاصة رحلته الشرقية. كما راسل مجلة "الفجر" التي أصدرها الحزب الحر الدستوري التونسي سنة 1920، وقدم في أعمدتها مساهمة حول النظرية السياسية في الإسلام، وراسل الشيخ الخضر بن الحسين كذلك مجلة "البدر" الزيتونية، فتطرق لموضوع الخلافة في الإسلام، ولمسؤوليات العلماء، وساهم أيضاً بمراسلات إلى "مجلة العرب" عام 1923. ويذلك تواصل حضوره على أعمدة الصحافة التونسية من خلال مقالاته. كما تواصل هذا الحضور الإعلامي من خلال ما كان يكتبه عنه بعض الصحفيين الذين تتلمذوا على يديه. وقد كان الطيب بن عيسى صاحب جريدة "الوزير" ضمن التلامذة الأوفياء للشيخ، يتابع أخباره، ويفتخر بارتفاع شأنه في المشرق. أما طلبة "الجريد"، فقد بقي الشيخ الخضر بالنسبة إليهم رمزاً للكفاح والعلم، وأسسوا سنة 1947 جمعية (شباب الخضر بن الحسين النفطي)، وأسسوا نشرة أدبية سنوية لهذه الجمعية عام 1948، ساهم في تحريرها محمد صالح المهيدي، ومصطفى خريف، ومحمد العربي صمادح، وغيرهم. وبقي الشيخ الخضر بن الحسين متواجداً في الصحافة التونسية حتى

توفي في 12 فيفري 1958 بالقاهرة، فخصه الطيب بن عيسى في جريدته "المشير" بسلسلة من المقالات تمجد ذكراه. وإذا برز الشيخ الخضر بن الحسين على الصعيد العلمي والتعليمي والسياسي غير من بروزه على الصعيد الصحفي، وإذا لم ينل من مهنة المتاعب إلا المتاعب، فيكفيه فخراً أنه كان صاحب أول مجلة عربية في تاريخ الصحافة التونسية. وقد قامت الشركة التونسية للتثقيف والترفيه بجمع كامل أعداد مجلته "السعادة العظمى" في مجلد واحد، ونشرها سنة 1987؛ حتى تكون في متناول جميع القراء. * المراجع: - محمد مواعدة: "محمد الخضر حسين: حياته: آثاره 1873 - 1858 م "، الدار التونسية للنشر، تونس 1974 م، 342 ص. - جعفر ماجد: "الصحافة الأدبية في تونس" (بالفرنسية)، الجامعة التونسية 1979 م، (ص 30). - مركز التوثيق القومي: ملف ب - 2 - 81 (الحركة الوطنية). - محمد الفاضل بن عاشور: "أركان النهضة الأدبية بتونس". - الطيب بن عيسى: مقالات عن محمد الخضر بن الحسين في "جريدة الأسبوع" (في 3 و 10 نوفمبر 1952، وفي 8 ديسمبر 1952 م)، وفي مجلة "المشير" (في 17 فيفري و 3 مارس و 14 أفريل و 19 ماي 1958 م).

من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر الشيخ محمد الخضر حسين

من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر الشيخ محمد الخضر حسين الدكتور محمود حمدي زقزوق (¬1) ولد الشيخ محمد الخضر حسين بمدينة "نفطة" في جنوب تونس في 26 رجب 1873 م، وقد التحق بجامع الزيتونة بتونس عام (1307 هـ - 1887 م)، وحصل على شهادة التطويع عام 1898 م، وهي شهادة تمكن حاملها من التطوع لإلقاء دروس في جامع الزيتونة، كما تؤهله للظفر بمناصب علمية أو دينية عديدة، وبخاصة إذا كان صاحبها يتمتع بنبوغ وجد وسعة معرفة. وفي عام 1954 أنشأ أول مجلة عربية أدبية علمية في شمال أفريقيا هي مجلة "السعادة العظمى"، وتولى عام 1905 قضاء بلدة "بنزرت"، ولكنه استقال بعد شهور قليلة، وعاد للتدريس بجامع الزيتونة، ثم بالمدرسة الصادقية، ورحل إلى الشرق عام 1912، وأقام في دمشق، ورحل إلى الآستانة، وبرلين، وفي عام 1920 استقر في مصر، وحصل على الجنسية المصرية عام 1932، وامتدت فترة إقامته في مصر حتى وفاته. وفي مصر ظهرت قيمته العلمية، وبرزت مكانته الثقافية. ¬

_ (¬1) كاتب إسلامي معروف، ووزير الأوقاف المصري - نشر هذا البحث عندما كان يشغل منصب عميد كلية أصول الدين بالقاهرة - جريدة "الأهرام"، العدد الصادر يوم الأحد 4 رمضان (1412 هـ الموافق 8 مارس آذار 1992 م).

وقد أسس عام 1928 مع عدد من علماء الأزهر (جمعية الهداية الإسلامية)، وكان أول رئيس لها، وأصدرت الجمعية مجلة "الهداية الإسلامية" في أكتوبر 1928. وظلت تصدر شهرياً إلى أن توقفت أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد كان الشيخ مع صديقه الحميم تيمور باشا في طليعة المؤسسين لجمعية الشبان المسلمين عام 1928، وعندما أصدر الأزهر مجلة "نور الإسلام" (مجلة الأزهر فيما بعد) عام 1930 أسندت إليه رئاسة تحريرها، وقد ثم اختيار الشيخ عضواً بالمجمع العلمي العربي بدمشق عام 1919، وعضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة في أول تشكيل له عام 1933، وعين عضواً بجماعة كبار العلماء بالأزهر ومشيخة الأزهر عام 1952، واستقال منها عام 1954، ولكنه ظل يمارس نشاطه العلمي حتى آخر لحظة في حياته، وكان آخر مقال نشر له في عدد فبراير 1958 من مجلة "لواء الإسلام"، وهو الشهر الذي توفي فيه. * مؤلفاته: له مؤلفات عديدة، وأبحاث مختلفة، من أهمها: "القياس في اللغة العربية" (1934) - ويهذا البحث نال عضوية جماعة كبار العلماء. "الخيال في الشعر العربي" (1922)، "محمد رسول الله وخاتم النبيين" (1922). "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" (1922)، "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" (1927)، "رسائل الإصلاح" في ثلاثة أجزاء (1939)، "خواطر الحياة"، "بلاغة القرآن" (1971)، "القاديانية والبهائية". وللشيخ بالإضافة إلى ذلك العديد من المقالات والبحوث في موضوعات متنوعة، نذكر منها: الحرية في الإسلام، حياة اللغة العربية، العظمة، الخطابة

عند العرب، علماء الإسلام في الأندلس، ويعد كتاباه في "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، و"نقض كتاب في الشعر الجاهلي" من أبرز الكتب التي كان لها أثرها في ذيوع اسمه في الأوساط العلمية والأدبية. * آراؤه واتجاهاته الفكرية: لقد كان الشيخ صاحب غيرة دينية، ونزعة إصلاحية معتدلة، تجلت في مقالاته وبحوثه ومؤلفاته، وقد اهتم في مقالاته العديدة التي جمعت فيما بعد في كتابه "رسائل الإصلاح" بمجالات الدين والأخلاق والاجتماع. واهتم بصفة خاصة بالميدان الأخلاقي، فركز على الخصال التي يجب أن يتحلى بها الفرد، وبخاصة العالِم، وما يجب أن تتحلى به الأمة حتى تسلم من التفكك والانحلال. وتعرض لموضوع الإسلام والمدنية الحديثة مبيناً أهمية الدين في المجتمعات الحديثة، وضرورة عناية حكوماتها بنشره، وأن تستمد قوانينها من تشريعه الواسع النطاق، وهاجم العلمانية. وقد كان الشيخ من دعاة الرابطة الإسلامية، المدافعين عن الدين، ودعوة المسلمين إلى ضرورة المحافظة عليها، وكان من دعاة الاجتهاد، وقد بين قيمته في الشريعة الإسلامية، مؤكداً على أن الشريعة الغرّاء تساير كل عصر، وتحفظ مصالح كل جيل. ومن منطلق الغير الدينية أيضاً، رأينا الشيخ يرد على الدكتور طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" عام 1926. وقد ردَّ الشيخ الخضر حسين رداً تفصيلياً على كل ما جاء في كتاب الدكتور طه حسين، مؤكداً أنه لا يعارض المؤلف في انتهاج الأسلوب الذي يريد في بحثه، بشرط ألَّا يكون في ذلك مساس بالدين الإسلامي، وانحراف

عن الحقيقة، وبيّن أن منهج الشك ليس جديداً، فقد ذهب إليه الغزالي، وابن خلدون قبل ديكارت. وقد نال كتاب الشيخ الخضر حسين "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" تقدير عدد من علماء الإسلام المعاصرين، والأدباء العرب البارزين في ذلك الوقت؛ لما اشتمل عليه من نقاش موضوعي، ولما قدمه من حجج لغوية وتاريخية.

بين القاسم الشابي ومحمد الخضر حسين

بين القاسم الشابي ومحمد الخضر حسين البشير العريبي (¬1) ظاهرة غريبة -وإن كانت بسيطة- تلاحظ في بعض إنتاج الأديبين التونسيين الكبيرين: أبي القاسم الشابي، ومحمد الخضر بن حسين. وقبل بسط هذه الظاهرة تجدر الإشارة إلى حقائق تبدو ذات ارتباط بها، بل هي كالممهدة لها، والمؤذنة بها، وأخص ما فيها أنها -كلها- قدر مشترك بين الأديبين. أولى تلك الحقائق: أن كلاً من الرجلين أصيل الجنوب الغربي التونسي المعروف باسم: (بلاد الجريد). فالشابي ينتسب إلى "الشابية" من ضواحي "توزر". وابن الحسين ينتسب إلى "نفطة"، وهي من نفس المنطقة "ولاية توزر". وثانية الحقائق: أن كليهما يصدر عن بيت علم وصلاح وتصوف، كما أن كليهما كانت له - بعاً لذلك- اهتمامات بالعلم والفكر، والأدب شعره ونثره: فالشابي جده: (سيدي عرفة الشابي) .. وأبوه كانت له رحلة في طلب ¬

_ (¬1) كاتب تونسي. جريدة "الصباح" الصادرة بتاريخ 21/ 3/ 1995 م، تونس.

العلم؛ حيث تخرج من الجامع الأزهر، وقد ولي بعد عودته إلى البلاد التونسية منصب القضاء الشرعي في مناطق متعددة يعرفها كل من تابع حياة أبي القاسم وتنقلاته. والشابي نفسه درس بجامع الزيتونة الأعظم، وتخرج منه بشهادة (التطويع)، وانتسب إلى (دروس الحقوق الفرنسية) التي كانت شعبة من التعليم العالي، مهدت لقيام (كلية الحقوق). وابن الحسين جدّه (سيدي الحسين) (¬1) الذي كان معروفاً في حياته بالإصلاح، وأنشأ له مريدوه بعد وفاته (زاوية) كانت قائمة الذات قبالة (سيدي عبد الله) على مرتفع كان يقع في الجانب الشرقي لكلية الآداب بتونس اليوم، وقبره في تلك الزاوية كان يزار .. والشيخ الخضر نفسه كان من علماء جامع الزيتونة، وممن تولوا القضاء الشرعي بإحدى مناطق البلاد التونسية "بنزرت". كما التحق بعد ذلك بالمشرق العربي الإسلامي، واستقر -كما هو معلوم - بمصر، وأصبح من كبار علماء الأزهر الشريف، بل وولي مشيخة الجامع الأزهر في مطلع ثورة 23 جويلية 1952 المصرية. وثالثة الحقائق يمكن استخلاصها من ثانيتها، وهي: ميل الرجلين وعائلتيهما إلى توثيق الصلة ببلاد المشرق، والتعامل مع الإخوة الشرقيين كالتعامل مع مواطنيهم التونسيين. فقد ذكرنا أن والد أبي القاسم الشابي درس بمصر، وتخرج من الأزهر. ¬

_ (¬1) الصحيح: والده سيدي الحسين، وجده سيدي علي بن عمر دفين "طولقة" في الجزائر.

ونعرف أن أبا القاسم نفسه كون صلات أدبية قوية بأدباء المشرق، وخاصة مصر، وفي مقدمتهم: (جماعة أبولو) التي كان يتزعمها الشاعر الشهير (أحمد زكي أبو شادي) الذي أصدر أول مجلة شعرية عربية تحمل عنوان (أبولو)، على صفحاتها ظهر شعر الشابي، وكان لها أكبر الفضل في تعريف قراء العربية به على نطاق أوسع من النطاق التونسي الصرف، مما أنشأ لسمعته رصيداً ملحوظاً، وكثر من ذلك، فإن أحمد زكي أبا شادي كان صاحب مجموعات شعرية متعددة، ولعله أول شاعر عربي معاصر يصدر شعره في مجموعات بدل ديوان واحد. ومن تلك المجموعات: ديوان بعنوان "الينبوع" الذي كان صدر مصدراً بمقدمة كتبها أبو القاسم الشابي. ولنتصور أبعاد هذا الموقف، وأي معنى يحمله: زعيم مدرسة شعرية متطورة، يبشر بها عن طريق مجلة ينشئها خصيصاً لذلك، يضع ثقته في شاعرنا التونسي؛ ليتولى تقديمه إلى قرائه في ديوان من أهم دواوينه. ذكرنا -أو أشرنا- إلى أن محمد الخضر بن الحسين قد ارتحل إلى المشرق، ونذكر أنه تنقل بين مختلف أجزائه، وقام في كل منها بنشاط يستحق الذكر، في "الآستانة" "تركيا"، وفي "دمشق" إذ أقام حيث أقام بعض أفراد أسرته، وخصوصاً الشيخ زين العابدين بن الحسين. ثم استقر به المقام -كما سبق- في مصر التي أصبح فيها قطباً من أقطاب العلم والأدب والاجتماع، مما لا يتسع المقام لبسطه، وتسنَّم أعلى المناصب الدينية واللغوية. هذه بعض الحقائق التي ارتأينا بسطها قبل عرض الظاهرة الأدبية التي أومأنا -منذ البداية- إلى أنها تجمع بين أديبينا: الشابي، وابن الحسين، بصفة

توشك أن تكون متعمدة، حتى كأن كلاً منهما يترصد خطا الآخر فيها، سواء في الشعر، أو في النثر، رغم ما بينهما من الفوارق، في التوجه الأدبي، والمنزع الشخصي: فأبو القاسم الشابي كان ممتلئاً شباباً، وميلاً نحو التجديد إلى حد الثورة، وتعاملاً مع حداثي زمانه، وتأثراً بالأدب المهجري والأجنبي. ومحمد الخضر بن الحسين كان شيخاً رصيناً، يتسم بالمحافظة، سواء عندما كان في تونس، أو عندما ارتحل عنها، وكان قوام معارفه: الدين، والأصالة اللغوية. أقول هذا عن الشيخ الخضر، رغم علمي بأنه كان -هو الآخر- يحمل بذور الثورة، ولا مجال هنا للحديث عن أسباب هجرته من تونس، وهي وليدة ثورة عن موقفه في تركيا، وردود الفعل التي ترتبت عليها، أو عن مساهماته في النضال ضد المستعمرين .. ولكن يكفي أن أشير إلى أنه كان معنياً بإشاعة معاني التحرر الصحيح، ولا أدل على ذلك من كتابه الذي أصله محاضرة ألقيت بتونس، ودرس فيها بعناية معنى "الحرية في الإسلام". وأخلُص إلى (الظاهرة) التي دعتني إلى الحديث عن الرجلين، فأقتصر هنا على ذكرها، وأفسح المجال أمام الآخرين ليبحثوا فيها، إن أرادوا، وقد أعود إليها في فرصة، أو فرص أخرى. والظاهرة بسيطة في ذاتها، كما قلت من قبل، ولكنها تنم عن نوع آخر من الاشتراك بين أديبينا، اشتراكاً قد تكون بواعثه نفسية، أو بيئية، أو غير ذلك، رغم الفوارق التي ألمعنا إليها بينهما. وتتجلى تلك الظاهرة من جهة: في إنتاجهما الشعري، وبالخصوص

في عنواني ديوانيهما، ومن جهة أخرى: في أثرين من إنتاجهما النثري. أما في الشعر، فقد تعلق كل منهما بالحياة، ولكن على طريقته، فكان إحساس الشابي بالألم، ومعاناته للمرض، وتوْقه الذي لم يتحقق إلى لون معين من الحب، وشعوره العارم بأن الموت يلاحقه في كل مجال، والفناء يطارده بكل سبيل .. كل ذلك ولَّد فيه ردود فعل إيجابية مرة، وسلبية مرة أخرى، ولكن الإيجابية هي التي تغلبت؛ إذ جعلته يتحدى كل تلك العوامل المؤلمة، ومما عبر عنه أصدق تعبير ببيته الشهير الذي سمي به وبأمثاله: (شاعر الحياة): كالنسر فوق القمة الشماء ... سأعيش رغم الداء والأعداء وانعكس تحديه على ديوانه الذي اتخذ من الحياة جزءاً من عنوانه: "أغاني الحياة". وقد كان لصاحبه ابن الحسين نظرات إلى الحياة، قد تتفق مع نظرات الشابي، وقد تختلف عنها في جوانبها الشخصية والاجتماعية والسياسية .. ولكنها تتفق معها على كل حال في: الإحساس بالظلم والضيم، والتمرد عليهما، والْتماس حياة أفضل في الداخل، وإلا، كان التماسها في الخارج، ويتفق مع الشابي خاصة في انعكاس نظراته تلك على ديوانه، الذي اتخذ الحياة، كصاحبه جزءاً من عنوانه: "خواطر الحياة". وأما في النثر، فقد عالج الأديبان الكبيران -كل بطريقته أيضاً- موضوعاً واحداً، أعتقد أن البون كان فيه شاسعاً بينهما .. وهو موضوع (الشعر العربي)، وما له صلة به من (الخيال) الذي هو في اعتبار العرب القدامى والوسيطين عنصر أساسي لا يسمى الشعر بدونه شعراً.

ومهما كان ما بين الباحثين في هذا الموضوع من الاختلاف عميقاً وجوهريا، فالذي يسترعي الانتباه فيه: اشتراكهما في عنواني كتابيهما إلى حد أنه يكاد يكون عنواناً واحداً. فإذا كانت محاضرة أبي القاسم الشابي الشهيرة تحمل عنوان: "الخيال الشعري عند العرب"، فإن محمد الخضر بن الحسين له كتاب كذلك يحمل عنوان: "الخيال في الشعر العربي". ترى أيكون هذا وسابقه كلاهما من باب الصدفة .. مجرد الصدفة؟ أم هناك تعمل وتعمد؟ فما بواعثه؟ وما مسماه وأبعاده؟ ولئلا نظلم أياً من الرجلين، نتساءل، ونحتفظ بالإجابة: أي الأديبين أسبق إلى إعداد ديوانه، وإلى اختيار ما أزمع أن يطلقه عليه من تسمية؟ أي الرجلين أسبق عناية بالبحث في مدى توفر (الخيال) في الشعر الذي تناقلناه عن العرب أو عدم توفره؟ ثم ما الذي أثبته كل من الرجلين في بحثه؟ وما أدلته على ما وصل إليه من نتائج؟ وإلى أي حد كانا فيما عالجناه من ذلك متفقين، أو مختلفين، أو بين بين؟ الأسئلة التي يمكن أن تثار هنا كثيرة، والإجابات عليها قد تؤلف بحثاً مطولاً، رغم أن منطلقها بسيط -ظاهراً- كما سبق. وعلى كل، فالموضوع يحتاج إلى دراسة جادة للكتابين، وإلى مقارنة واعية، وتحليل ودعم.

أعلام محمد الخضر حسين وخطابه الحداثي

أعلام محمد الخضر حسين وخطابه الحداثي الشاذلي الساكر (¬1) * الرجل العامل: ولد محمد الخضر بن الحسين (اسمه الأصلي: محمد الأخضر) ببلدة "نفطة" يوم (26 رجب 1293 هـ الموافق لـ 21 جويلية 1873 م)، وهو من عائلة مشهورة بالعلم، فجده للأم هو الشيخ مصطفى بن عزوز، وخاله هو الشيخ محمد المكي بن عزوز الذي تلقى عليه مبادئ العلم. قضى الخضر سنوات طفولته الأولى بمسقط رأسه، ثم انتقل إلى تونس في العام 1886 م، أين واصل تعلمه الابتدائي، ثم التحق بجامع الزيتونة (1887 م). وقد تأثر بجملة من العلماء المصلحين، من أبرزهم: سالم بوحاجب، وعمر بن الشيخ، ومحمد النجار. في العام (1322 هـ - شهر أفريل 1904 م) أسس مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة عربية ظهرت في تونس، وبعد انقطاعها عن الصدور، تولى ¬

_ (¬1) كاتب تونسي - جريدة "الحرية" العدد الصادر يوم الخميس 12 جوان - حزيران 1997 - تونس.

خطة القضاء بـ "بنزرت" بتحفيز من الشيخ محمد الطاهر بن عاشور. بقي في خطته هذه بعض الأشهر، ثم استقال منها، وعاد إلى مدينة تونس، وباشر التعليم بجامع الزيتونة، وفي نفس الوقت أشرف على تنظيم مكتبة هذا الجامع، كما درّس في الصادقية وبالجمعية الخلدونية. وكان من بين شيوخ جامع الزيتونة الأوائل الذين تزعموا حركة إصلاح التعليم بتأسيس جمعية (تلامذة جامعة الزيتونة) سنة (1324 هـ - الموافق لسنة 1906 م). ثم زار الشيخ الخضر مصر، أين التقى بعدد من علمائها منهم: الشيخ (رشيد رضا)، ثم تجول في دول عديدة، منها: السعودية، وسوريا، وألبانيا، وبلاد البلقان، والآستانة، ثم استقر بدمشق أين تم انتدابه للتدريس بالمدرسة السلطانية. أدخله جمال باشا السجن بدعوى التآمر، ثم أطلق سراحه بعد خمسة أشهر. بعدها تلقى صاحبنا دعوة من مركز الخلافة العثمانية للعمل منشئاً عربياً بوزارة الحربية، وقبل العرض. ثم تم تكليفه من طرف الباب العالي بمهام سياسية بألمانيا، مكث في هذا البلد نهاية الحرب العالمية الأولى، وقد أتقن في هذه الفترة اللغة الألمانية. بعد مدة وجيزة قضاها في سوريا، انتقل الشيخ إلى مصر، واستقر بالقاهرة بداية من عام 1920 م، وانطلق في التدريس وتحرير المقالات. وبمعية الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر وثلَّةٍ من العلماء أسسوا (جمعية الهداية الإسلامية)، كما ساهم في إصدار مجلة "نور الإسلام", وساهم في بعث (مجمع اللغة العربية) بالقاهرة.

وقدم بحثاً موضوعه "القياس في اللغة"؛ لكي يتمكن من الانتساب لـ (جمعية كبار العلماء)، وهي أعلى هيئة علمية، وتم قبوله بالإجماع. ثم تولى مشيخة الأزهر في سنة 1952 م، وقد زاره وزراء منهم: الشيخ حسن الباقوري وزير الأوقاف الذي بادره بالقول: "لقد وقع الاختيار عليك لتكون شيخ الأزهر، وقد جئت مع زميلي لنبلغك هذا القرار". واصل الشيخ نشاطه الإداري والعلمي بالأزهر إلى العام 1954 م، ثم استقال من هذا المنصب مبرراً ذلك "بأن هذه الخطة حالت دون تلقي العلم وكتابته". تابع نشاطه التربوي والثقافي إلى أن توفي في (13 رجب سنة 1373 هـ - 2 فيفري 1958 م)، وقد نعى العالم الإسلامي هذا الشيخ العامل والعالم، وحضر تشييغ جنازته عدد كبير من علماء المشرق والمغرب، ومن رجالات السياسة. * إنتاجه العلمي والأدبي: 1 - "رسائل الإصلاح" (في ثلاثة أجزاء). وهي ذات بعد تربوي، تعرض فيها إلى الخصال المحمودة التي يجب أن تتحلى بها المجموعة، حتى تسلم من التفكك، مؤكداً على ضرورة قيام العلماء بوظيفتهم؛ "لأن النهضة لن تقوم إلا بهم". 2 - "بلاغة القرآن". 3 - "تونس وجامع الزيتونة". درس فيه عديد الجوانب التاريخية والحضارية والعلمية والأدبية بتونس، كما درس فيه عديد الأعلام من أمثال: ابن خلدون، مستنتجاً أن لتونس أعلاماً

هم في مقدمة العلماء الأدباء في تاريخ الحضارة الإسلامية. 4 - "الحرية في الإسلام". يؤكد فيه على أن الحرية لا تستقيم بدون تربية وتعليم، ولا تتواصل بدون مساواة. 5 - "حياة اللغة العربية". 6 - "العظمة". 7 - "الخطابة عند العرب". 8 - "علماء الإسلام في الأندلس". يذهب فيه إلى أن سبب نهضة العلوم في الأندلس ترجع إلى عناية رجالات الدولة بالعلم، وشعورهم بأهمية العلماء في كل نهضة حضارية. ويذهب إلى أن علماء الأندلس هم في طليعة من حاربوا الآراء الفاسدة والبدع. 9 - "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم". 10 - "نقض كتاب في الشعر الجاهلي". 11 - "الدعوة إلى الإصلاح". 12 - "الخيال في الشعر العربي". أرجع فيه أسباب جودة الخيال الشعري إلى عنصرين: أولهما: "أن يعيش الشاعر في إطار حضاري؛ لكي تكون مخيلته أكثر إبداعاً في إنشاء المعاني وبلورتها". آخرهما: الشعور بالحرية "ومن ذا ينكر أن الخيال الذي يسخره صاحبه

في كل غرض، سيطلق العنان في كل حلبة، يكون أبعد مرمى، وأحكم صنعاً من خيال الشاعر الذي حاصرته السياسة في دائرة، ورسمت له خطة لا يفوتها؟ ". 13 - "القياس في اللغة العربية". 14 - "محمد رسول الله". 15 - "خواطر الحياة" (ديون شعر). 16 - "الرحلات"، وتضم: أ - الرحلة الجزائرية. ب - خلاصة الرحلة الشرقية. ج - (حديث عن رحلتي إلى دمشق). د - الرحلة إلى ألمانيا. 17 - مجلة "السعادة العظمى". كتب فيها بنفسه، كما كتب فيها كل المنتمين إلى حركة الإصلاح والتحديث، ومن بينهم: سالم بو حاجب، ومحمد الطاهر بن عاشور، ومحمد النجار، ومحمد النخلي. وقد طلب المحافظون بتوقيفها عن الصدور، فرفض الوزير بوعتور ذلك قائلاً: "ما تنشره المجلة لا يعارض الشرع ولا القانون". وقد تواصل صدور المجلة إلى شهر جانفي من العام 1905 م، ثم انقطع بعد ذلك وقد بلغت 21 عدداً. * فكرة الحداثي: نظر الخضر حسين في التراث الإسلامي من ناحية، وفي حضارة اليوم

من ناحية ثانية نظرة معتدلة حكَّم فيها عقله، فلم يتعصب تعصباً غير مشروط للتراث رامياً وراء ظهره ما جاءت به الحضارة من إيجابيات، كما أنه لم يهتز لهذه الحضارة وكأنها كلها الخير والتقدم، متناسياً منجزات الحضارة الإسلامية، وما جاءت به من إيجابيات: 1 - لم يناد بالتقوقع على الذات، والتغني بما فات، كما أنه لم يناد بالتحديث المجحف، كان موقفه موقف المعتدل، وقد عبر عنه بقوله: "يقع في وهم من لا يدري ما الإسلام: أن شريعته لا توافق حال العصر الحاضر، ويبني توهمه هذا على أن القوانين إنما تقوم على رعاية المصالح، ومصالح العصور تختلف اختلافاً كثيراً، فالدعوة إلى بقاء أحكامها نافذة هي دعوة إلى خطة غير صالحة، ذلك ما نقصد إلى تنفيذه، وتفصيل القول في دفع شبهته، حتى يثبت بالدليل المرئي رأي العين: أن الشريعة الغراء تساير كل عصر، وتحفظ مصالح كل جيل". دعوة الخضر حسين هي أولاً: دعوة ضد الجمود والتعصب، والاكتفاء بالدوران في حلقة مغلقة، وثانياً: هي دعوة للاهتمام بقضايا العصر، والتفتح على الحضارة، بدون التفريط في مقوماتنا، وشخصيتنا الأساسية التي تميزنا عن غيرنا. يقول: "وإن تعجب، فعجب ما يتخيله بعض من رُبي في مهد الجمود من أن هذا الدين القيم لم يرشد إخوانه إلا إلى العبادات المحضة، وأنه حجاب مسدول بينهم وبين المدنية". هي دعوة إلى التوازن شعارها: (لا إفراط في الحداثة، ولا تفريط في التراث).

وبالتالي لم يكن مناصراً للمحافظة في كل شيء، أو مخالفاً للمصلحين في كل شيء، بل وقف موقفاً توفيقياً، فقد كان يوافق القائلين بالتراث بالتمسك بالثوابت والقيم التي جاء بها الإسلام، وكان يوافق القائلين بالحداثة في فتح باب الاجتهاد، وتوظيفه قصَد تمكين العالم الإسلامي من مسايرة ركب الحضارة والتقدم. وهذا ما كان يفعله عندما كان يدرس الفقه والتفسير وعلم الأصول، لم يكن مجرد ناقل لأقوال الأئمة والعلماء، بل كان يناقش كل نظرياتهم، ويرجح ما يراه أقرب إلى المنطق، وإلى مسايرة العصر. 2 - يرى أن النهضة لن تكون إلا بالتربية والتعليم، وبمكافحة البدع التي هي ضد القيم "وإلى المزاعم الباطلة، وربط قلوب الناس بالاعتقاد الصحيح"، وإلى مسايرة حضارة اليوم، والاستفادة من علومها وتقنياتها، مع الاستغناء عن سلبياتها وسقطاتها. يقول: "نود من صميم قلوينا أن تكون نهضتنا المدنية راسخة البناء، رائعة الطلاء، محمودة العاقبة". وقد أكد على أن سبب انحطاط المسلمين، وتخلفهم عن ركب الحضارة، يكمن في التعليم، "وتهاون العلماء والحكام في التمسك بذلك والأخذ به". كما أكد أن سعادة الأمة الإسلامية لن تتوفر إلا بالتعليم، وأن التوازن الاجتماعي والسياسي لن يحصل إلا به، وأنه يصعب على القادة تركيز هذا التوازن إذا كانت الأمة جاهلة؛ لأنه "يصعب على قادتها متى أرادوا توجيهها نحو الحياة الصالحة أن يجدوها لينة القيادة خفيفة". وأكد أن الأمة لن تنهض بالتعليم العلمي وحده، بل لا بد من توفر التربية، يقول: "سعادة الأمة أن تستنير عقولها، وتسمو أخلاقها، أما استنارة

عقولها، فبإقامة معاهد كافية للتعليم، وأما سمو أخلاقها، فلتستقيم أعمالها، وتنتظم المعاملات بينها". وقد أرجح أسباب جمود المد الحضاري الإسلامي إلى جمود التعليم، ويرجع هذا الأخير إلى جمود علماء الإسلام، وتحجر الأفكار عندهم، وعدم مسايرتهم لروح العصر، "فكان انزواؤهم وزهدهم في الإرشاد العام فرصة لظهور الدعايات المنحرفة عن الطريق المستقيم، وهكذا فإن انحطاط العلماء نتج عنه انحطاط العالم الإسلامي". والتربية التي يريدها وينادي بها هي: تربية ترتكز على القيم الإسلامية، وعلى الأخلاق الفاضلة، والتي لا تجاري (إيمان العجائز)، والتعصب والانغلاق. وهو يعتقد أن التربية الصحيحة هي التي تركز على الحرية "إن الأرض التي اندرست فيها أطلال الحرية، إنما تأوي الضعفاء والسفلة، ولا تنبت العظماء من الرجال". والحرية عنده ترتكز على عاملين أساسيين، وهما: - الشورى، وهو عامل سياسي. - المساواة، وهو عامل اجتماعي واقتصادي. وهو يرغب في تعليم منفتح على العلوم، والتقنية الحديثة التي شيدت حضارة اليوم. وهكذا، فالخضر حسين يرى: أن كل تقدم حضاري يكمن في التعليم، وأن سعادة الأمة لن تتوفر إلا به، ولا يمكن أن ترقى أمة أغلب أبنائها غير متعلمين.

3 - حارب كل مثبطات العقل والعلم، وأخطرها بالنسبة إليه: السلفية؛ سلفية الطرقية التي تصف نفسها بالصوفية، أو هي صوفية حقاً، والتي تعادي التربية ذات المنهج العلمي والعقلي؛ لأن هدفها هو (ترويض مريديها)، والسيطرة على سلوكهم بواسطة الترهات والأوهام لكي تصير منهم كائنات خانعة قانعة خاضعة خائفة متقوقعة على نفسها، تعيش في عالم سحري مشبع (بالخوارق)، و (الكرامات) التي نسجتها (الإسرائيليات) لغايات أيديو لوجدية بحتة، متشبعة بأفكار ونظريات هي أبعد ما تكون عن الدين (ما جعل المسألة خطيرة، وتبعة السكوت عنها غير هينة؛ لأن مثل هذه الطرق تمس الإسلام، وتلصق به وصمة تجعل بينه وبين الجاهلين حجاباً كثيفاً)؛ لأن مثل هذه الطرق تقتل مبادرات العقل، بل تقتل العقل ذاته. 4 - وقد تفطن إلى الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام من صحف ونشريات، وكذلك إلى الدور الذي تلعبه النوادي والجمعيات، وهذا الدور با لإمكان أن يكون سلبياً، لكنه يكون إيجابياً حتماً إذا تحمل مسؤولية هذه الصحف والجمعيات العلماء الذين تتوفر فيهم الشروط التالية: أولاً: أن يكونوا على بيّنة مما يقومون به. ثانياً: أن يتميزوا "باستقامة السيرة؛ لأن الناس لا يقتدون برأي مرشد، ولا تلين قلوبهم لموعظة واعظ، إلا إذا وثقوا بأمانته، وأبصروا حالته الظاهرة مثالاً لما ينصحهم". ثالثاً: قدرتهم على التأثير، وتمكنهم من العلوم الإنسانية؛ مثل: علم النفس، والعلوم الموازية، والرافدة، والممارسة، ويؤكد "إلى ضرورة مراعاة أذواق المخاطبين باللسان أو بالقلم، ودرجاتهم الثقافية، وأحوالهم النفسية".

رابعاً: استعمال الطرق والوسائل التي تتماشى مع "نفسية الأفراد والجماعات، والحالات التي تكون فيها". خامساً: التحلي بالصبر، وتحمل المكاره. 5 - يعتقد أن اللغة هي الركن الأساسي لكل نهضة حضارية، ولكل تفوق مدني، "هذا بالنسبة لكل اللغات، فما بالك باللغة العربية التي كان لها الفضل الكبير في تأسيس الحضارة العربية؟ هذا من ناحية، ثم إن اللغة هي أداة الربط والاتصال بين أفراد المجتمع، وعاملٌ من عوامل وحدته وترابط أجزائه؛ لأنه "متى أهملت الأمة لغتها، وزهدت في تعلمها، انفصمت عرا جامعتها لا محالة". كما شدد على أن اللغة العربية قادرة على مسايرة حضارة اليوم، وقادرة على استيعاب حاجات المدنية الحديثة، ولأن القضية بالنسبة إليه ليست قضية لغة، بل قضية أصحابها، تأخروا، فتأخرت. ونوه بقدرتها على الاقتباس من اللغات الأخرى "تتلقى العربية ما يرد عليها من الألسنة الأخرى، وتقبله بقبول حسن بعد تنقيحه وسبكه في قالب عربي، فلا مانع من أن نقتبس أسماءها الموضوعة لها في اصطلاح مخترعيها عند استحسانها، ونهذبها، ثم نحشرها في زمرة ما هو عربي فصيح". وقد نبه إلى خطر اللهجات الدارجة على اللغة العربية، مع اعتقاده أن (لغة العامة) هي لغة عربية محرفة في حالة مرض "يجدر السعي إلى معالجتها وإصلاحها". 6 - يقول: بضرورة أن يقوم علماء الأمة بدورهم السياسي المتمثل في قولهم كلمة الحق، "ولا ينبغي لأهل العلم أن يغفلوا عن سير أرباب المناصب

والولايات، فمن واجبهم أن يكونوا على بينة من أمرهم، حتى إذا أبصروا عوجاً، نصحوا لهم بأن يستقيموا، أو رأوا حقاً مهملاً، لفتوا أنظارهم، وأعانوا على إقامته". "ومن واجب العلماء أن ينصحوا للأمة فيما يقولون أو يفعلون، ويحتملوا ما ينالهم في سبيل النصيحة من مكروه، وكم من عالم قام في وجه الباطل، فأوذي، فتجلد للأذى! ". * مصادر محمد الخضر حسين: أ - ديوان شعره "خواطر الحياة" الذي افتتحه بتوطئة تعرض فيها إلى أبرز محطات حياته، وإلى أهم مشاغله العلمية والعملية. ب - رحلاته، وهي: 1 - "الرحلة الجزائرية" نشرت بمجلة "السعادة العظمى" (أعداد 19 - 20، و 21). 2 - "خلاصة الرحلة الشرقية"، نشرت بجريدة "الزهرة" مارس وأفريل 1913 م. 3 - "حديث عن رحلتي إلى دمشق" نشرت بالجزء الخامس من المجلد العاشر (جانفي 1938 م) - مجلة "الهداية الإسلامية". هذه الرحلات تلقي أضواء كاشفة على نشاطه التربوي والعلمي والإعلامي، كما تمدنا بمعلومات قيمة عن حياته في الأقطار التي زارها. ج - نتاجه العلمي والأدبي. من محاضرات ورسائل وبحوث وجدال مذهبي، وقد خصصنا القسم الثاني من هذا البحث لمسحها، ولعرض أهم طروحاتها.

عرض مختصر عن حياة الشيخ الخضر بن الحسين

عرض مختصر عن حياة الشيخ الخضر بن الحسين (¬1) محمد بلقاسم خمار رئيس اتحاد الكتاب العرب الجزائريين "طولقة" هذه المدينة الأصيلة في حضارتها، العريقة في تاريخها، الجميلة بظلالها، ومياهها، وثمارها، المتمسكة بإيمانها وقيمها وتقاليدها السامية. طولقة هذه الواحة الوارفة الرائعة كانت ولم تزل موئلاً للعلم، وملتقى للمآثر، وجامعة للإسلام، منبتاً للرجال المتفوقين فكراً وتقى، سلوكاً وأخلاقاً .. وصدق من قال: لا تنبت الأرض الطيبة إلا طيّباً .. وبالفعل فإن من مثل هذه الأرض الطيبة كانت الجزائر تبني تاريخها الثقافي المجيد، وتعلي راية فخرها بين الأمم والشعوب، وتفيض عبقريات، ورسالات، وجهاداً؛ لتغمر أشقاءها وجيرانها إصلاحاً وخيراً، ولتعمر العالم أمناً وحباً وسلاماً. في هذه الأرض المباركة؛ انطلقت منابع العلم والتقى، ومن هذه الأرض المباركة تزودت أجيال وأجيال بكنوز معارفها، وسلاح حصانتها، ورسوخ مبادئها، ومن هذه الأرض المباركة أضاءت شموس نيّرة في أهم العواصم العربية والإسلامية؛ كتونس، والقاهرة، ودمشق، وإسطنبول، ¬

_ (¬1) مجلة "الثقافة" مجلة فكرية تأسست في دمشق عام 1958 م. العدد الصادر في (ربيع الثاني 1418 هـ - آب 1997 م)، دمشق.

وما زالت أشعتهم ساطعة دافئة قوية حتى اليوم. لقد كانت الروابط الوحدوية - التي تجمع بين أبناء المغرب العربي منذ القدم - روابط قوية متينة، جمعتها القرابة والنسب، ولحمتها العقيدة واللغة، وصقلتها التجارب التاريخية، والآلام والآمال المشتركة، وأكدتها الأرض والجوار، فلم يكن هناك فرق بين مراكشي أو جزائري أو تونسي أو ليبي، كلهم في مشاعرهم ومصائرهم سواء، رغم ما طرأ من اختلاف عليهم في أنظمة الحكم التي سادت أقطارهم خاصة منذ احتلال فرنسا للجزائر في بداية العقد الثالث للقرن التاسع عشر. ودعماً لذلك أرى من المهم أن أثبت ما قاله الشيخ عبد الحميد بن باديس، عندما تكلم عن وحدة أبناء المغرب العربي، قال -رحمه الله-: حيثما توجهنا إلى ناحية من نواحي التاريخ، وجدنا هذا المغرب العربي: طرابلس، تونس، الجزائر، مراكش، يرتبط بروابط متينة روحية ومادية، تتجلى في وحدته للعيان، ولسنا نريد هنا أن نتحدث عن التاريخ القديم، وإنما نريد أن نعرض صفحة من التاريخ الحديث الجاري. ويذكر رائد النهضة الجزائرية الإمام ابن باديس كيف أن أبناء المشرق العربي ينسون، أو يتجاهلون أبناء المغرب العربي، مع أننا دائماً نمدهم بخيرة ما عندنا من رجالو السيف والقلم؛ كالأمير عبد القادر الجزائري وأبنائه الشهداء من أجل سورية، وأحفاده؛ مثل: الأمير خالد، ويسترسل في عرض أسماء بعض الأعلام؛ كسليمان باشا الباروني الطرابلسي، والشيخ السنوسي الطرابلسي الجزائري الأصل، والشيخ طاهر الجزائري الأصل، والشيخ عبد العزيز الثعالبي زعيم تونس، الجزائري الأصل، والشيخ الخضر حسين التونسي الأصل، وغيرهم

من أقطاب المعرفة والعلم. من المعلوم أن الكثير من أبناء الجزائر كانوا يتوجهون إلى (القرويين) في المغرب، أو (جامع الزيتونة) في تونس، أو إلى (الجامع الأزهر) في القاهرة؛ لطلب العلم، والاستزادة من المعارف، خاصة بعد أن دبّ الضعف في كتاب الحكم العثماني، واستُعمرت الجزائر من طرف فرنسا، مما أثر في مسيرة نهضتها العلمية التي حوربت بشتى الوسائل والأساليب. ومن المعلوم أيضاً أن الجزائر قد مدّت المغرب والمشرق العربيين بالكثير الكثير من العباقرة والعلماء، أولئك الذين حوصروا في آرائهم وعقائدهم، وحرموا من أداء أماناتهم العلمية، وواجباتهم الإسلامية، ومُسوا في كرامتهم وحرياتهم، فاتجهوا إلى ديارهم الأخرى في المغرب أو المشرق، يدافعون عن الشريعة، ويدعون إلى الإصلاح، وينشرون العلم، ويجاهدون في سبيل الله من أجل وحدة العرب والمسلمين، لا فرق بين قطر أو قطر، ولا بين مسلم ومسلم، إلا بالتقوى والعمل الصالح. ومن بين هؤلاء الجزائريين المهاجرين: الشيخ مصطفى بن عزوز، جدّ الشيخ الخضر لأمه، ثم الشيخ الحسين بن علي بن عمر والد الشيخ الخضر، وقد كان من مريدي الشيخ مصطفى بن عزوز، حيث التحق بالشيخ ابن عزوز إلى بلدة "نفطة" في منطقة الجريد التونسي، وتزوج من ابنته والدة الشيخ الخضر، وقد أسس الشيخ مصطفى بن عزوز البرجي في "نفطة" عندما هاجر إليها مع عدد كبير من أتباعه سنة 1837 م، أسس زاويته المشهورة، المشتملة على عدد كبير من المساكين لإيواء الواردين عليه من كل صقع، وأحدث بها مدرسته الحافلة، وأنشأ بها بيوتاً لسكنى المنقطعين لقراءة القرآن،

وتعلم العلم، وحشد لها العلماء والأعلام من كل جهة؛ ليدرسوا بها فنون العلم على اختلاف مشاربها. ويبدو أن زاوية ابن عزوز في "نفطة" كانت فرعاً من الزوايا الكبرى في "طولقة"، و"البرج"، والتي تنتسب إلى الطريقة الرحمانية .. وكانت زاوية طولقة تعرف عندنا بالزاوية العثمانية، وبزاوية (سيدي علي بن عمر)، وقد ملأت شهرتها آفاق العالم الإسلامي، وذلك لما جمعته من علم وعلماء، وطلاب ومريدين، وكرم وزهد، وتقى، بالإضافة إلى مكتبتها العامرة. وفي هذا الجو العائلي، المفعم بالعبادة، وحب العلم، وبالجلال والهيبة والوفاء، ولد الشيخ الخضر بـ "نفطة" سنة 1873 م، داخل أسرة متمكنة من تعاليم الشريعة الإسلامية، مستنيرة بآدابها، متمسكة بتقاليدها وأعرافها السامية، حيث كان جده لأمه الشيخ مصطفى بن عزوز يشغل مكانة القطب فقهاً وتديناً، ويعتبر شيخاً وزعيماً كبيراً بين أتباعه ومريديه، وكانت والدته بنت الشيخ ابن عزوز على جانب كبير من الثقافة والتعليم وقوة الشخصية، وكان خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز عالماً جليلاً، متبحراً في أصول الشريعة واللغة والآداب، وكان والده الشيخ الحسين بن علي بن عمر فقيهاً تقياً زاهداً، وقد توفي وكان ولده الشيخ الخضر ما زال صغيراً. في هذا الجو العائلي المهيب قضى الشيخ الخضر بن الحسين طفولته الأولى؛ حيث حفظ القرآن الكريم برعاية مؤدبه الخاص الشيخ (اللموشي)، وأخذ مبادئ بعض العلوم الفقهية واللغوية والأدبية على عدد من العلماء في زاوية جدّه، وكان في مقدمتهم الشيخ محمد المكي خال الشيخ الخضر، والذي أحب ابن أخته حباً عميقاً، وتوسّم فيه مستقبلاً زاهراً، فمنحه عناية كبرى،

وأشرف على توجيهه وتعليمه وتثقيفه، وكان الشيخ الخضر يعترف بذلك، ويذكره باعتزاز في أكثر من مناسبة، ومنها قوله: "من أعزها ما تشرفت به من قلم أستاذي الذي شبّت في طوق تعليمه فكرتي، وتغديت بلبان معارفه من أول نشأتي، العلامة الهمام القدوة، خالنا الشيخ سيدي محمد المكي بن عزوز". وفي سنة 1886 م انتقلت عائلة الشيخ الخضر من "نفطة" إلى تونس للإقامة الدائمة، ويبدو أن سبب هذا الانتقال يعود إلى رغبة والدة الشيخ الخضر في أن يواصل أبناؤها تعليمهم في جامع الزيتونة الذي كان محطة أنظار طالبي العلم. وأن يتعمقوا في معارفهم وعلومهم خاصة، منهم: الشيخ الخضر الذي كانت تلوح منه سمات الذكاء والتفوق منذ صغره، والذي بدأ يقول الشعر وهو في الثانية عشرة من عمره، وكانت والدته تتوسم فيه العظمة والنجاح، وتغني له وهو صغير قائلة: يا رب الأكبر ... خلّيلي محمد الأخضر في الجامع الأزهر ... يعود يقزي وأنا حيّة التحق الشيخ الخضر بجامع الزيتونة وهو في الرابعة عشرة من عمره؛ أي: بعد سنة من استقرار عائلته بتونس. وبعد إحدى عشرة سنة من الدرس والجهد والتحصيل في علوم الدين واللغة والأدب، وهي المواد التي كانت متداولة بصفة عامة في جامع الزيتونة لذلك الوقت، وبواسطة علماء بارزين، ومن بينهم: الشيخ المكي بن عزوز، بعد هذه المدة تحصَّل الشيخ الخضر على شهادة (التطويع)، وهي شهادة يستطيع حاملها أن يكون مدرساً في جامع الزيتونة، أو أن ينال مناصب علمية أو

دينية في الوظيف، وقد فضل الشيخ الخضر التفرغ للعلم، واختار أن يكرس حياته للتعليم والتئقيف، والتزود بمختلف المعارف، والتعمق فيها، لذلك انخرط في سلك المدرسين بجامع الزيتونة، وفي الوقت نفسه تابع تحصيله بالمطالعة الجادة، وحضور الدروس الهامة، إلى أن تسامت مكانته، وارتفع شأنه بين أقرانه، وأصبح مضرب المثل في اتساع الباع، وقوة الحجة، وبلاغة المنطق، ورجاحة العقل، وجاذبية الشخصية التي كان يتميز فيها بهدوء الطبع، والتواضع، والتقى، وبالروح الأدبية المرحة. حصل الشيخ الخضر على (التطويع) سنة 1898، وفي سنة 1904، أسس مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة عربية تظهر في تونس، وكان يحرر أغلب مقالاتها، وينشر فيها مختلف المواضيع المتعلقة بالشريعة والأخلاق، واللغة والآداب، والتفسير، والفتوى، والرحلات، إلى غير ذلك من المواضيع الهادفة إلى إصلاح المجتمع، وترقية المسلمين. وقد توقفت هذه المجلة عن الصدور سنة 1905؛ أي: بعد سنة من تأسيسها، وذلك لأسباب مادية، ولموقفها الحيادي بين صراعات العلماء المحافظين والمصلحين في تونس؛ حيث إنها كانت تعبر عن الاتجاه المعتدل لصاحبها، ولم تتورط في الذوبان لصالح فئة ضد أخرى. وعلى أثر توقف مجلة "السعادة العظمى" تولى الشيخ الخضر منصب القضاء ببنزرت، بتأثير صديقه الحميم الشيخ الطاهر بن عاشور، ولكنه استقال بعد شهور من ذلك المنصب، وعاد إلى التدريس في جامع الزيتونة، وكان في طليعة الداعين إلى إصلاح التعليم، ومن أوائل المؤسسين لجمعية (تلاميذ جامع الزيتونة) سنة 1906.

ونشير إلى أن الشيخ الخضر كان قد قام برحلتين إلى الجزائر سنة 1953، وسنة 1904، زار فيها الأهل والأقارب، والتقى خلالها بعدد كبير من العلماء الأجلاء خاصة في "سوق أهراس"، و"عين البيضاء"، و"قسنطينة"، و"باتنة"، والجزائر العاصمة، كما سجل ذلك في كتاباته. وربما يكون الشيخ الخضر قد قام بأكثر من رحلتين إلى الجزائر، خاصة عندما كان صغيراً، ويقيم في منطقة الجريد، ولا تفصله مسافة بعيدة من "طولقة". كما أن رحلاته من مصر إلى سورية كانت أكثر مما سجل وعرف عنها، فقد زار دمشق سنة 1952، وزارها كذلك سنة 1955، وتدخل كل تلك الرحلات في إطار خاص، ألا وهو زيارة الأهل والأقارب، سواء إلى "طولقة" لزيارة الأهل والأقارب، أو إلى "دمشق" لرؤية أخيه الشيخ زين العابدين وعائلته. لقد اشتهر الشيخ الخضر بن الحسين خلال تواجده بتونس، وفي مطلع القرن العشرين، اشتهر بنشاطه الجم في مجالات الإصلاح الديني والاجتماعي، والدعوة إلى يقظة الشباب، وتكتلهم وتشجيعهم على الأخص بمختلف العلوم الحديثة، وممارسة فن الخطابة، والجرأة على قول الحق ومواجهة الصعاب .. اشتهر عنه هذا، إلا أن جانب الخوض في الصراعات السياسية ظل غير واضح إلى حد الآن؛ بسبب ما كان يتصف به الشيخ الخضر من هدوء ووقار، ومن تركيز على الجوانب الدينية الإصلاحية، والبحوث اللغوية والأدبية، غير أن هذا السلوك الظاهري لا ينبغي أن يكون الشيخ الخضر قد قام بأنشطة سياسية كثيرة، ولكن باشكال وصور خفية ومتسترة، نتأكد من ذلك فيما كان يتمتع به من حساسية ووعي ووطنية صادقة .. ومن رفضه عضوية المحكمة التونسية الفرنسية، ومن مشاركته الفعالة للتنديد بالحملة الاستعمارية الإيطالية

ضد ليبيا سنة 1911، ودعوة أبناء المغرب العربي لمساعدة إخوانهم الليبيين، وكذلك من مضايقة السلطات الاستعمارية الفرنسية، ومناوأة أتباعها؛ مما دعاه إلى الخروج من تونس، والهجرة إلى سورية سنة 1912 .. ونتأكد أيضاً من اهتماماته السياسية فيما كان ينشره أو يقوله من نثر وشعر، ومن ذلك ما جاء في قصيدته الداعية إلى نصرة ليبيا حيث يقول فيها: ردّوا على مجدنا الذكر الذي ذهبا ... يكفي مضاجعنا نوم دهى حقبا ولاتعود إلى شعب مجادته ... إلا إذا غامرت همّاته الشهبا وهي قصيدة عظيمة، منشورة في ديوانه: "خواطر الحياة". إذن، فالشيخ الخضر -بالإضافة إلى شخصيته الدينية العلمية الأدبية الغالبة- كان يعيش أحداث وطثه السياسية، وكان يسعى بأسلوبه الخاص إلى ضرورة التحرر من الاستعمارة بمحاربته، والتصدي له. ولعل الدوافع التي أدت لخروج والده وجدّه من "طولقة" إلى "الجريد"، ثم إلى تونس، هي نفس الدوافع التي أدت بهجرة خاله وأستاذه الشيخ محمد المكي بن عزوز إلى تركيا، ثم بهجرة والدته الفاضلة مع إخوته إلى دمشق بسورية سنة 1911، ثم التحاق الشيخ الخضر بهم سنة 1912، وهي دوافع لا تخرج عن مفهوم الابتعاد من مضايقة المستعمر، والبحث عن مناخ تتوفر فيه حرية طلب العلم، وحرية الحركة في ميادينه بكرامة واعتزاز. كان للشيخ الخضر أربعة إخوة، وهم: الشيخ الجنيدي، وهو أكبرهم، وقد توفي في الجزائر، ويأتي بعده الشيخ الخضر، والشيخ العروسي، والشيخ المكي، والشيخ زين العابدين، ولهم ثلاث أخوات هن: ميمونة، وزبيدة، وفاطمة الزهراء، ومن المعروف أن كل أشقائه كانوا من العلماء الرجال الأفاضل،

ولهم مآثر قيمة في مجالات التدريس والتأليف. وعندما هاجرت والدة الشيخ الخضر بأبنائها إلى دمشق، كان في استقبالهم عمنا الشيخ قدور خمار الذي كان قد سبقهم بالهجرة إلى تلك الديار سنة 1909، وكانت تربطه بعائلة الشيخ الحسين بن علي بن عمر علاقة قرابة ونسب، حيث كانت شقيقته متزوجة من أحد أفراد عائلتهم بطولقة، ثم بعد ذلك تزوج عمنا من بنات الشيخ العروسي شقيق الشيخ الخضر. نشير إلى أن الشيخ الخضر عندما التحق بعائلته في دمشق، قد عاد إلى تونس بعد خمسة أشهر تقريباً أمضاها في عدة رحلات إلى سورية ولبنان وتركيا، وقام خلالها باتصالات كثيرة، وأنشطة ثقافية هامة، ولكنه عندما عاد إلى تونس، لم يطب له المقام؛ للمضايقات والتحرشات الاستعمارية التي وجدها، بالإضافة إدى فراغ الجو العائدي الذي أحس به، فعاد إدى سورية بعد شهرين فقط من مكوثه، واستقر بها، بعد أن ترك زوجته التونسية التي رفض أهلها مرافقتها له، وتزوج من دمشق، واستقر بها. وقد لقي الشيخ الخضر في سورية كل تكريم وإجلال، وتولّى التدريس بالمدرسة السلطانية التي درس بها قبله عدد كبير من العلماء، من بينهم: الشيخ الإمام محمد عبده، كما كان يلقي المحاضرات في الجامع الأموي وغيره من الأماكن المشهورة، وكان يلتف حوله عدد كبير من الشخصيات العلمية والسياسية البارزة، وفي طليعتهم أبناء الجالية الجزائرية في سورية، وأبناء وأحفاد الأمير عبد القادر الجزائري، وذلك لطيب معشره، وارتفاع مكانته العلمية والعائلية، ولشهرته الواسعة التي كانت تعم البلاد العربية والإسلامية، خاصة بعد انتشار مؤلفاته، ومجلة "السعادة العظمى"، وكتب: "الدعوة إلى

الإصلاح"، و"الحرية في الإسلام" وغيرهما. كان الشيخ من المؤيدين للخلافة الإسلامية، المؤمنين بوحدة المسلمين تحت راية واحدة، ولكنه خلال تواجده في سورية، وفي بداية الحرب العالمية الأولى، كان لا يخفي ألمه وحسرته أمام مظاهر الضعف والانحلال التي كان يراها تدب في كيان الدولة العثمانية، لذلك عندما قام الوطنيون السوريون خلال الحرب العالمية الأولى سنة 1916 ضد نظام الحكم العثماني، قام القائد التركي السفّاح جمال باشا بارتكاب مجزرته المشهورة في دمشق ضد رجال العلم والسياسة، فاعدمهم شنقاً، واتهم الشيخ الخضر بتعاطفه مع الوطنيين السوريين، وسجنه لمدة ستة أشهر، وكاد أن يعدم. وبعد تبرئته وخروجه من السجن، استدعي من طرف الخلافة العثمانية للعمل في وزارة الحربية التركية ككاتب عربي بالآستانة، يشرف على المراسلات الواردة والصادرة من مركز الخلافة العثمانية إلى البلدان العربية والإسلامية المرتبطة بالدولة العثمانية، ثم أرسله الباب العالي بالآستانة في مهمة سياسية إلى ألمانيا التي كانت تربطها بتركيا علاقة تحالف محورية خلال الحرب العالمية الأولى، ورغم الغموض الذي ما زال لم يتضح تماما حول مهمات الشيخ الخضر في ألمانيا، إلا أنها -في الغالب- تتعلق بموضوع الحرب، ولها صلة بقضية تحرير المغرب العربي، وزعزعة نظام الحكم الفرنسي فيه، ونجد في الوثائق: أن الشيخ الخضر كان قد اتصل في "برلين" بالزعيم التونسي محمد باش حامبه، كما يشارك في إمضاء التقرير الذي أرسلته اللجنة التونسية الجزائرية للدفاع عن المغرب العربي إلى مؤتمر الصلح المنعقد في فرنسا سنة 1917 تحت عنوان: (مطالب الشعب الجزائري التونسي).

وعند سقوط الدولة العثمانية في أيدي الحلفاء، عاد الشيخ الخضر إلى تركيا، ثم إلى سوريا، وكان يعاني من ألمين محزنين: سقوط الخلافة العثمانية، وموت والدته -رحمها الله-. وظل في دمشق يفيض نشاطاً وإبداعاً، يكتب، ويحاضر، ويدرس، ويؤلف الكتب، ويلتقي بأصدقائه في جلسات مسامرة وأدب، وفي سنة 1917 تم تعيينه كعضو عامل في المجمع العلمي العربي بدمشق، وباختصار، فقد كانت السنوات الثمانية التي عاشها في سورية من أسعد مراحل حياته، ومن أزخرها نشاطاً وحركة وإنتاجاً. وتشاء الأقدار أن يظل الاستعمار الفرنسي يتتبع بشبحه الرهيب مسيرة شيخنا؛ حيث احتلت سورية سنة 1920 من طرف فرنسا، وكان دخولها إلى دمشق يحمل كل مخاطر التهديد والوعيد للشيخ الخضر، فما كان منه إلا أن يشد رحال السفر، ويهاجر إلى القاهرة عاصمة مصر. صادف الشيخ الخضر بعض الصعوبات في مصر خلال المرحلة الأولى لإقامته فيها، ولكنه اعتمد على قوة علمه في شق طريقه بنفسه، والتفّ حوله أبناء المغرب العربي المتواجدين آنذاك بالقاهرة، فقام وأسس لهم جمعية (تعاون جاليات شمال إفريقيا)، وكان يدرّس في الجامع الأزهر، وينبري في كتاباته بالرد على المعارضين لمبدأ الخلافة الإسلامية، كما فعل في كتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" رد على كتاب الشيخ علي عبد الرازق، وكذلك فعل مع الدكتور طه حسين في الرد عليه بكتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي". ووقعت بينه وبين الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة "المنار" مشادات كتابية كبيرة، وأصبح الشيخ في مصر قبلة الأنظار، وكانت له المكانة السامية،

حتى لدى الملك فؤاد ملك مصر، واستقبله شخصياً. ثم قام شيخنا مع بعض زملائه بتأسيس (جمعية الهداية الإسلامية) سنة 1928، وهي جمعية لتوحيد كلمة الشباب من أجل خدمة المجتمع والأخلاق، والاتجاه الديني الإسلامي الصحيح، كما قامت هذه الجمعية بإصدار مجلة تحمل اسمها وهي مجلة "الهداية الإسلامية"، وقد ترأس هيئتها الشيخ الخضر نفسه، ثم تأسست بعد ذلك مجلة "نور الإسلام" الأزهرية، وقد أعطيت رئاسة تحريرها للشيخ الخضرة لما كان يمتاز به من عمق التجربة، وسعة الاطلاع، وعظمة المكانة العلمية والاجتماعية في مصر، وكان ذلك سنة 1930. وفي سنة 1933 عيّن الشيخ الخضر بمرسوم ملكي عضواً في المجمع اللغوي مع أول هيئة مؤسسة من مشاهير العلماء في العالم. ورغم زخارة النشاط العلصي والديني والصحفي الذي كان يقوم به الشيخ الخضر يومياً، فإن علاقته بأبناء المغرب العربي ظلت قائمة ومستمرة، وكان يقدم المساعدات والتسهيلات للمناضلين، والطلبة الوافدين إلى مصر، ثم قام أخيراً بتأسيس (جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية) التي لم ينقطع نشاطها حتى قيام مكتب المغرب العربي بالقاهرة. وفي سنة 1950 اجتاز الشيخ الخضر امتحاناً علمياً صعباً، وتفوق فيه تفوقاً باهراً، وأحرز بامتياز على درجة الانتساب إلى (هيئة كبار العلماء)، وهي هيئة لا يصل إليها إلا المتحصلون على أعلى مراتب العلم والثقافة. وفي سنة 1952 اختير العلامة الشيخ الخضر لتولي منصب مشيخة الجامع الأزهر، فامتنع عن ذلك؛ نظراً لحساسية المهمة وخطورتها، وهو منصب لم يتوله غير مصري من قبل، ولكنه قبل به بعد إلحاح أصدقائه، ووفد

الوزراء الذي زاره في منزله، وعرض عليه المهمة. ويعد تسييره لشؤون جامع الأزهر مدة سنتين، قدم استقالته؛ نظراً لكبر سنه، واعتلال صحته، وقد جاوز عمره الثمانين، وقد أمضى في التدريس بالأزهر أكثر من عشرين سنة، وأمضى عمره كله في الكد والجهد، والبحث والتنقيب، والحل والترحال، والكتابة والتأليف، بحيث لم يمض يوم واحد من عمره إلا وكان له فيه إبداع أو شعاع. وفي يوم الأحد 13 رجب 1377 هـ انتقل الشيخ محمد الخضر بن الحسين إلى جوار ربه عن سن يناهز الخامسة والثمانين سنة أمضاها جهاداً في سبيل الإسلام والعلم، فرحمه الله، وطيب ثراه. وقد دفن بالقاهرة في مقبرة آل تيمور بوصية منه إلى جوار صديقه الأستاذ أحمد تيمور باشا الذي كان يكنّ له كل الود والتقدير والوفاء. وبعد: هل تراني قد قدمت صورة واضحة عن حياة الشيخ الخضر بن الحسين .. ؟ لا أعتقد ذلك .. ومهما فعل الكاتب مثلي لا يستطيع أن يلم بجوانب حياة حافلة بالمآثر لأكثر من نصف قرن، ولرجل كرّس كل أيامه للجهاد والاجتهاد في مختلف ميادين البلاغة والأدب، وأصول الشريعة، والذود عن الإسلام وعن الوطن بالكلمة والقلم، وبالحجة والحق، وبالشجاعة والصراحة، وبكل ما أوتي من قوة في الفكر والروح والبدن. وقد ترك -رحمه الله- آثاراً كثيرة مطبوعة، أذكر منها الكتب التالية: "أسرار التنزيل"، "بلاغة القرآن"، "محمد رسول وخاتم النبيين"، "رسائل الإصلاح"، "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان"، "محاضرات إسلامية"،

"القادياثية والبهائية"، "دراسات في الشريعة الإسلامية"، "السعادة العظمى"، "هدى ونور"، "الرحلات"، "الدعوة إلى الإصلاح"، "تراجم الرجال"، "تونس وجامع الزيتونة"، "راسات في العربية وتاريخها"، "دراسات في اللغة"، "الخيال في الشعر العربي"، "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، "خواطر الحياة"، وهو ديوان شعر. كما أن للشيخ مخطوطات، وأشعاراً كثيرة، ما زالت لدى أقاربه أو أصدقائه، أو منشورة هنا وهناك في المجلات والصحف والمراسلات، لم تجمع وتنشر حتى الآن. وأحسن ما اختتم به كلمتي هذه، هو: الدعوة إلى أن يخصص لقاء سنوي للشيخ الخضر بن الحسين، يكون على مستوى دولي عربي إسلامي، يجمع بين من كانوا على صلة به في مختلف أنحاء العالم، أو من لهم اهتمام به، وذلك لإعطائه بعض ما يستحق من الدراسة، والكشف عن شخصيته الفريدة من نوعها، والتي نعتز بها، ونرجو لها المزيد من التعريف والتكريم.

أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث محمد الخضر حسين

أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث محمد الخضر حسين أحمد تيمور باشا (¬1) ولد الشيخ محمد الخضر حسين (¬2) بمدينة "نفطة" بالقطر التونسي في 26 رجب سنة 1293 هـ، واشتغل بالعلم بعد أن حفظ القرآن، فقرأ بعض الكتب الابتدائية ببلده، وفي آخر سنة 1306 هـ رحل مع أبيه وأسرته إلى القاعدة التونسية، فدخل الكلية الزيتونية سنة 1307 هـ، وقرأ على أشهر أساتذتها، وتخرج عليهم في العلوم الدينية واللغوية، ونبغ فيها وفي غيرها. فطُلب لتولي بعض الخطط العلمية قبل إتمام دراسته، لكنه أبى، وواظب على حضور دروس العلماء والأكابر؛ مثل: عمر بن الشيخ، والشيخ محمد النجار، وكانا يدرّسان ¬

_ (¬1) ترجمة الإمام محمد الخضر حسين في كتاب "أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث" للمؤرخ والعلامة المحقق أحمد تيمور باشا. وطبعته لجنة نشر المؤلفات التيمورية - الطبعة الأولى (1387 هـ -1967 م)، والتعليقات في الهامش من وضع اللجنة .... (¬2) كتب الإمام هذه الترجمة في حياة المترجم، وكان صديقه، وأوصى بأن يدفن إلى جواره، وقد أنشأ الشيخ الخضر جمعية "الهداية الإسلامية" ,وأصدر مجلة لها، وعين عضواً بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وعضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ثم اختير شيخاً للأزهر في بداية ثورة 23 يوليو سنة 1952، وتوفي سنة 1958 م.

التفسير، والشيخ سالم بوحاجب، وكان يدرّس "صحيح البخاري". ثم رحل إلى الشرق سنة 1317 هـ ولكنه لم يبلغ طرابلس حتى اضطر إلى الرجوع بعد أن أقام بها أياماً، فلازم جامع الزيتونة، يقيد ويستفيد إلى سنة 1321 هـ فأنشأ فيها مجلة "السعادة العظمى"، ولقي في سبيل بثّ رأيه الإصلاحي ما يلقاه كل من سلك هذا السبيل. وفي سنة 1323 هـ ولّي القضاء بمدينة "بنزرت"، والتدريس والخطابة بجامعها الكبير. ثم استقال ورجع إلى القاعدة التونسية، وتطوع للتدريس بجامع الزيتونة، ثم أحيل إليه تنظم خزائن الكتب بالجامع المذكور. وفي سنة 1325 هـ اشترك في تأسيس جمعية زيتونية، وفي هذه المدة جعل من المدرسين المعينين بالجامع. وفي سنة 1326 هـ جعل مدرساً بالصادقية، وكلف بالخطابة بالخلدونية. ولما قامت الحرب الطرابلسية بين الطليان والعثمانيين، كان من أعظم الدعاة لإعانة الدولة. ونشر بجريدة "الزاهرة" قصيدته التي مطلعها: ردوا على مجدنا الذكر الذي ذهبا ... يكفي مضاجعنا نوم دهى حقبا ثم رحل إلى الجزائر، فزار أمهات مدنها، وألقى بها الدروس المفيدة. ثم عاد إلى تونس، وعاود دروسه في جامع الزيتونة، ونشر المقالات العلمية والأدبية في الصحف. وفي سنة 1330 هـ سافر إلى دمشق ماراً بمصر، ثم سافر إلى القسطنطينية، فدخلها يوم إعلان حرب البلقان، فاختلط بأهلها، وزار مكاتبها، ثم لما عاد إلى تونس في ذي الحجة من هذه السنة، نشر رحلته المفيدة عنها، وعن الحالة الاجتماعية بها ببعض الصحف.

ثم جعل عضواً في اللجنة التي ألفتها حكومة تونس للبحث عن حقائق في تاريخ تونس، ثم ترك ذلك لما عزم على المهاجرة إلى الشرق. فرحل إليه، ونزل مصر، وعرف بعض فضلائها، ثم سافر إلى الشام، ثم للمدينة، ثم للقسطنطينية، ثم عاد إلى دمشق معيناً مدرساً لفغة العربية والفلسفة بالمدرسة السلطانية بها، وبقي كذلك إلى أن اتهمه مدة الحرب العظمى جمال باشا حاكم سورية بكتم حال المتآمرين على الدولة، واعتقله سنة أشهر وأربعة عشر يوماً، ثم حوكم، فبرئ من التهمة، فاطلق سبيله في شهر ربيع الثاني سنة 1325 هـ. ومن شعره في حبسه، وكانوا حالوا بينه وبين أدوات الكتابة: غلّ ذا الحبس يدي عن قلم ... كان لا يصحو عن الطرس فناما هل يذود الغمض عن مقلته ... أو يلاقي بعده الموت الزؤاما أنا لولا همة تحدو إلى ... خدمة الإسلام آثرت الحِماما ليست الدنيا وما يقسم من ... زهرها إلا سراباً أو جهاما ثم استمر في التدريس بالمدرسة بدمشق، إلى أن دعي إلى القسطنطينية سنة 1326 هـ، فجعل منشئاً عربياً بوزارة الحرب، وواعظاً بجامع الفاتح، فبقي كذلك إلى سنة 1327 هـ، ففارق الآستانة، وعاد إلى دمشق، وقال في ذلك: أنا كأس الكريم والأرض نادٍ ... والمطايا تطوف بي كالسقاة ربَّ كأسِ هوت إلى الأرض صدعاً ... بين كفٍّ تديرها واللهاة فاسمحي يا حياةُ بي لبخيلٍ ... جفن ساقيه طافح بالسبات

وعيّن عضواً بالمجمع العلمي العربي بدمشق ومدرساً ببعض المدارس، فلم يباشر شيئاً من ذلك، بل سافر قاصداً مصر، ونزل بها، فولي التصحيح، وعمل الفهارس بدار الكتب المصرية. ومن مؤلفاته: "فقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، و"حياة ابن خلدون"، و"الخيال في الشعر العربي"، و"حياة اللغة العربية"، وغيرها (¬1). ¬

_ (¬1) توفي إلى رحمة الله سنة (1378 هـ الموافق سنة 1958 م)، وصلي على جثمانه بالجامع، وقد احتفل رجال الدين والعلماء ونحوهم بتشييع جنازته، ودفن بجوار جثمان المغفور له العلامة أحمد تيمور باشا بمدافن الأسرة التيمورية بالإمام الشافعي - رضي الله عنه - بناء على وصيته بذلك.

محمد الخضر حسين (1293 - 1377 هـ) (1873 - 1958 م)

محمد الخضر حسين (¬1) (1293 - 1377 هـ) (1873 - 1958 م) محمد محفوظ محمد الخضر (¬2) بن حسين بن علي بن عمر. أصل سلفه من بلدة "طولقة" بالجنوب الجزائري، انتقل والده منها إلى "نفطة" بالجنوب الغربي التونسي في إقليم الجريد، وهي غير بعيدة عن الحدود الجزائرية، حل بها إبان الاحتلال الفرنسي سنة 1843 صحبة صهره الشيخ مصطفى بن عزوز، الضليع من العلوم الشرعية واللغوية والأدبية، الكاتب الشاعر، السياسي، الصحفي. ولد بـ"نفطة" يوم (26 رجب/ 23 جويلية)، وبلدة "نفطة" واحة جميلة حبتها الطبيعة برونق أخّاذ يثير الخيال، وينبه الشاعرية، قال المترجم في ديوانه "خواطر حياة": "نشأت في بلدة من بلاد الجريد بالقطر التونسي، يقال لها: "نفطة"، وكان للأدب المنظوم والمنثور في هذه البلدة نفحات ¬

_ (¬1) ترجمة الإمام محمد الخضر حسين في كتاب "تراجم المؤلفين التونسيين" للمحقق والأديب الأستاذ محمد محفوظ - تونس. طبعة 1982، بيروت. (¬2) اسمه في الأصل: الأخضر، ثم حوره إلى الخضر، ووالده اسمه الحسين، ولما استقر بالمشرق، جرى على عادتهم في حذف كلمة ابن قبل اسم الأب، وحذف حرف التعريف من اسم والده.

تهب في مجالس علمائها، وكان حولي من أقاربي وغيرهم من يقول الشعر، فتذوقت طعم الأدب من أول نشأتي، وحاولت وأنا في سن الثانية عشرة نظم الشعر". وهذه البلدة ذات المناخ الشاعري الملهم، أخرجت شعراء وعلماء على مدار العصور، وفي بعض العصور ازدهرت فيها الحركة العلمية ازدهاراً كبيراً حتى سميت بالكوفة الصغرى. وفي سنة (1306 هـ / 1888) انتقل مع أسرته إلى العاصمة حيث أتم تعليمه الابتدائي؛ أي: حفظ القرآن، ثم التحق بجامع الزيتونة في العام الموالي، أخذ عن أعلامه؛ كسالم بوحاجب، وعمر بن الشيخ، ومحمد النجار، وغيرهم، وتخرج منه محرزاً على شهادة التطويع في سنة (1316/ 1898)، وفي العام الموالي لتخرجه درّس متطوعاً بجامع الزيتونة، بعد أن قام برحلة إلى ليبيا. وكانت عنايته بالأدب واللغة في عهد الطلب بجامع الزيتونة أكثر من غيرهما. وكان ينظم الشعر في بعض المناسبات؛ كتهنئة بعض شيوخه عند إتمام دراسة بعض الكتب، وهو تقليد شائع بجامع الزيتونة في ذلك العهد وما سبقه. قال في مقدمة ديوانه "خواطر الحياة": "انتقلت إلى مدينة تونس، والتحقت بطلاب العلم بجامع الزيتونة، وكان من أساتذة الجامع، ومن هم في الطبقة العالية من طلاب العلم من أولعوا بالأدب والتنافس في صناعة القريض إلى شأو غير قريب، فاقتفيت أثرهم، وكنت أنظم قصائد تهنئة لبعض أساتذتي عند إتمام دراسة بعض الكتب".

وفي سنة (1322 - 1904) أصدر مجلة "السعادة العظمى" وهي أول مجلة صدرت بتونس، صدرت نصف شهرية، واستمرت قرابة العام، وأعدادها 21 عدداً، وكان ظهور هذه المجلة حدثاً فكرياً بارزاً اهتزّ له رجال العالم المحبين للأدب والإصلاح والشباب، وساء المتزمتين ضيقي الأفق، عبّاد القديم؛ فإن هذه المجلة بدت فيها نزعة إلى حرية النقد، ودعوة إلى احترام التفكير، وتأييد لفتح باب الاجتهاد، ففي المقال الافتتاحي الذي قدّم به المجلة يقول: "إن دعوى أن باب الاجتهاد قد أغلق هي دعوى لا تُسمع إلا إذا أيّدها دليل يوازن في قوته الدليل الذي فتح به باب الاجتهاد"، ومثل هذه الدعوى وأمثالها مما روجته مجلته، لم تكن لتلقى القبول والترحيب من وسط الجامدين دعاة التمسك بالقديم، وقامت هيئة النظارة العلمية بجامع الزيتونة (المديرة له) تطالب الحكومة بمنع صدور هذه المجلة، وتدعو إلى معارضتها ومقاومتها، وكانت بذلك مجلبة لكثير مما ناله من الاضطهاد طيلة مقامه بتونس. وكشفت هذه المجلة عن مكانة صاحبها في النثر الفني والعلمي، واتجاهه إلى تجديد أغراض الشعر بصوغ القصائد في المعاني الاجتماعية والفلسفية، والتوجيه إلى مسالك النهضة والتحرر والتجدد. وفي مدة تدريسه بجامع الزيتونة، درس كتاب "المثل السائر" لابن الأثير، كان درساً عظيم الصدى، ازدحم عليه المستفيدون، وحاز به شهرة ومكانة لدى الوسط العلمي، وبتوجيهه واعتنائه تأسست أول منظمة طاليية بتونس تحت إشرافه باسم: (جمعية تلامذة جامع الزيتونة) سنة (1324/ 1907). قال الشيخ محمد الفاضل بن عاشور: "ولذلك بدا الشيخ الخضر يستهدف

لما استهدف له المصلحون العاملون من قبله من آثار المكائد والسعايات والدسائس، فأصبحت كل حركة تبدو من الطلبة محمولة على حسابه، ونظرته أعين المسؤولين شزراً، عندما أعلن طلبة الزيتونة الإضراب عن الدروس سنة (1328/ 1910) باعتبار كونه المسؤول عن ذلك التحرر". وعندما تضايق المتزمتون من علماء الزيتونة ورجال المجلس الشرعي من أفكاره التحررية والإصلاحية، أبعدته الحكومة عن العاصمة، وسمته قاضياً ببنزرت سنة (1323/ 1905)، وباشر التدريس والخطابة بجامعها الكبير، وضايقته السلط الاستعمارية على أثر إلقائه محاضرة بنادي قدماء الصادقية بالعاصمة سنة 1956 بعنوان "الحرية في الإسلام"، فاستقال من خطة القضاء، وعاد للتدريس متطوعاً بجامع الزيتونة، وسمته النظارة العلمية عضواً في اللجنة المكلفة بوضع فهرس للمكتبة الصادقية (العبدلية) إحدى مكتبتي جامع الزيتونة. واجتاز بنجاح مناظرة التدريس من الطبقة الثانية بجامع الزيتونة في سنة (1325/ 1907)، وفي العام الموالي عيّن مدرساً بالمدرسة الصادقية، وفي هذه السنة ألقى دروساً في الآداب والإنشاء في المدرسة الخلدونية. قام بثلاث رحلات إلى الجزائر، المرة الأولى سنة 1903، والثانية في رمضان (1322/ 1904)، والثالثة سنة (1327/ 1909)، فزار عدة مدن جزائرية، وألقى فيها المحاضرات والدروس، وفي سنة (1330/ 1912) شارك في مناظرة التدريس من الطبقة الأولى، فلم ينجح لغرضين؛ لأن لجنة المناظرة آثرت أن تقدم عنيه أحد أبناء البيوت العلمية الأرستقراطية، ولأنه من دعاة التحرر والإصلاح، وهي أمور تنقمها عليه اللجنة (وأعضاؤها من رجال الشريعة)،

وذلك بالرغم مما أبداه من كفاءة وتفوق. وذاق مرارة الظلم والاضطهاد، وشهوة الإيذاء والوقيعة، لا سيما وهو من أنصار الجامعة الإسلامية (الذين يؤمنون بخدمة الملة الإسلامية خدمة لا تضيق بها حدود الأوطان)، وقام برحلة استطلاعية، وسافر العام نفسه إلى إستانبول؛ حيث كان بها خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز، ومرّ بمصر والشام، ودوّن وصفاً اجتماعياً وأدبياً لهذه الرحلة نشرته جريدة "الزهرة". وعاد عن طريق البحر إلى تونس في 2 أكتوبر 1912. وبعد عودته منع من التدريس بالمدرسة الصادقية بحجة غيابه عن افتتاح المعهد بيومين، فقرر الهجرة إلى المشرق في نفس السنة، ومعه إخوته الأربعة، من بينهم: زين العابدين، ومحمد المكي، وزار مصر والشام والحجاز، وألبانيا، وتركيا، ومعظم بلاد البلقان، ثم استقر بدمشق، وعهد إليه بالتدريس في المدرسة السلطانية إلى سنة (1336/ 1917)، وفي مدة إقامته بدمشق كتب المقالات، وألقى المحاضرات، ونشر بعض مؤلفاته. دخل السجن بأمر من القائد التركي أحمد جمال باشا بتهمة علمه بالحركة السرية العربية المعادية للأتراك، ومكث سجيناً ستة أشهر وأربعة عشر يوماً، وخرج منه في 4 ربيع الثاني سنة (1335/ 29 جانفي 1917) بعد محاكمته وثبوت براءته، وبعد ذلك استدعي إلى إستانبول حيث سمي مفتشاً بوزارة الحربية. ثم سافر إلى ألمانيا صحبة وفد من العلماء، من بينهم: الشيخ صالح الشريف التونسي (ت سنة 1338/ 1920) مكلفاً بمهمة من قبل الحكومة التركية، ولبث بها قرابة تسعة أشهر، تعلم أثناءها اللغة الألمانية، وتردد بين

برلين وإستانبول إلى أواخر الحرب العالمية الأولى، حيث أقام ببرلين مرة أخرى قرابة سبعة أشهر، ثم عاد إلى إستانبول التي سقطت بأيدي الحلفاء، فقرر العودة إلى دمشق التي أصبحت عاصمة الأمير فيصل بن الحسين، وما كاد يستقر في دمشق حتى سمي مدرساً في ثلاثة معاهد، وهي: المدرسة العثمانية، والمدرسة العسكرية، والمدرسة السلطانية، وعيّن عضواً عاملاً في إحدى لجان المجمع العلمي العربي بدمشق على أثر جلسته المنعقدة في 30 جويليه 1919. وفي منتصف عام 1920 احتل الجيش الفرنسي دمشق، فبارحها، وصار عضواً مراسلاً للمجمع العلمي، واحتفظ بهذه العضوية إلى آخر أيام حياته، وأصدرت عليه فرنسا حكماً بالإعدام غيابياً أثناء مقامه في ألمانيا، قام بتحريض المغاربة -والتونسيين منهم خاصة- على الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، فكان خروجه من دمشق فراراً من تنفيذ حكم الإعدام عليه، وتوجه إلى مصر التي له فيها أصدقاء عرفهم في دمشق وإستانبول وأوربا، وفي القاهرة سمي مصححاً بدار الكتب المصرية، وهي خطة لا تسند إلا لمن تثبت مقدرته العلمية والأدبية واللغوية، وكتب في الصحف والمجلات، وألقى المحاضرات في الجمعيات، والدروس في المساجد. وفي سنة 1923 أسس جمعية (تعاون جاليات شمال إفريقيا)، وهدفها رفع المستوى الثقافي والاجتماعي لتلك الجاليات، وتولى رئاسة هذه الجمعية. ولما أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتابه "الإسلام وأصول الحكم" لم تحل علاقاته بآل عبد الرازق من قولة الصدق، وبيان وجه الحق، والرد على أحد أفرادهم، ومن الهراء زعمُ بعضهم أنه ألف الكتاب خدمة لأغراض ملك مصر أحمد فؤاد الذي كان يسعى لمبايعته بمنصب الخلافة الإسلامية بعد

إلغائها في تركيا، وكأن علي عبد الرازق يرد عليه من طرف خفي، والحقيقة أن ما تضمنه الكتاب من آراء لا يوافق عليها أي عالم مسلم، فالرد عليه هو بيان لوجه الحق، وتبديد الشبهات، وإرضاء الضمير، لا خدمة لركاب أحمد فؤاد أو غيره من الأشخاص أو المؤسسات. فلم تكد تهدأ العاصفة التي أثارها هذا الكتاب، حتى أصدر الدكتور طه حسين سنة 1926 كتابه في "الشعر الجاهلي" الذي أثار حملة من النقود والردودة لأنه زعم أنه يطبق منهج ديكارت على الشعر الجاهلي، وتطرق إلى إنكار نزول إبراهيم بالحجاز، فهو تكذيب صريح للقرآن؛ مما زاد اشتداد الحملة عليه، وكان من بين الذين تولوا الرد عليه المترجَم له في كتابه "نقض كتاب في: الشعر الجاهلي" ويهذين الكتابين حاز شهرة في الأوساط الأدبية والعلمية، ومنح الجنسية المصرية، واجتاز امتحان شهادة العالمية في الأزهر بتفوق؛ لأن الأزهر لا يعترف بالشهادات الزيتونية، والزيتونة لا تعترف بشهادات الأزهر، وبموجب إحرازه على شهادة العالمية صار من مدرسي الأزهر في معاهده الثانوية، ولما تولى مشيخة الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي سعى إلى تسمية المترجم أستاذاً في كليات الأزهر، وفي عام 1950 طلب قبوله عضواً في هيئة كبار العلماء، ومن شروط القبول تقديم بحث علمي ممتاز، فقدم بحثاً مطولاً عن "القياس في اللغة العربية"، فقبل بالإجماع. وواصل نشاطه في ميدان الدعوة الإسلامية، فأسس جمعية (الهداية الإسلامية) في (13 رجب سنة 1346 هـ / 16 جانفي 1928 م) لخدمة مبادئ الدين الإسلامي وأصوله، وتولى رئاسة هذه الجمعية، وإدارة مجلتها، والتحرير فيها، كما تولى رئاسة تحرير مجلة "نور الاسلام", ومجلة "الأزهر"،

ولما تأسس المجمع اللغوي بالقاهرة بمرسوم من الملك أحمد فؤاد، وصدر عنه مرسوم ثان في العام الموالي في (16 جمادى الثانية 1352 هـ / 16 أكتوبر 1933 م) تم بموجبه تسمية الأعضاء العاملين بالمجمع، وكان من بينهم المترجم له. وفي يوم (الأحد 25 ربيع الثاني سنة 1356 هـ / 4 جويليه 1937 م) سافر إلى دمشق، فأقام بها شهرين، ثم عاد إلى القاهرة يوم الاثنين غرة رجب/ 8 ديسمبر، واتصل فيها بأصدقائه من العلماء والأدباء الذين رحبوا بقدومه، وأقاموا له حفلات التكريم، وألقى محاضرة في قاعة المحاضرات بالمجمع العلمي عنوانها: (أثر الرحلة في الحياة العلمية والأدبية). ولم يترك الاهتمام بقضايا المغرب العربي، فأسس بعد الحرب العالمية الثانية (جبهة الدفاع عن شمال أفريقيا) التي قامت بعدة أعمال لفائدة المغرب العربي، وكان من بين أعضائها: الزعيم الحبيب بورقيبة عند هجرته إلى مصر، ومحيي الدين القليبي عند زيارته الأولى لمصر. وقدم المساعدة اللازمة للمجاهد الأكبر الأستاذ الحبيب بورقيبة عند قدومه إلى مصر في مارس 1946 الذي أوقفته السُّلَط المصرية للتثبت من هويته قبل دخوله القاهرة، وزار الزعيم المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي في السفينة الراسية في ميناء السويس. وعندما قامت الثورة المصرية سمي شيخاً للجامع الأزهر في يوم الأربعاء (27 ذي الحجة سنة 1371 هـ / 7 سبتمبر 1952 م)، وكان قد أحيل على التقاعد منذ سنة 1950، ولما نحي اللواء محمد نجيب عن الحكم، ونفي إلى مكان مجهول في 20 أوت 1953، وكثرت أمراضه الجسمية، وهزلت صحته؛

مما عاقته عن القيام بمسؤولياته بما يرضي ضميره، وولوعه بالمطالعة، كل هذا دعاه إلى الاستقالة من منصب مشيخة الأزهر في (2 جمادى الأولى سنة 1373 هـ / 8 جانفي 1954 م)، وعقب الاستقالة قام برحلة إلى دمشق زار فيها شقيقه الشيخ زين العابدين، ثم عاد إلى القاهرة إلى أن أدركته الوفاة ظهر يوم الأحد (13 رجب 1377 هـ / 12 فيفري 1958 م). وترك وصية خطيّة طلب فيها دفنه بمقبرة آل تيمور حذو صديقه العلامة أحمد تيمور باشا الذي وجد منه المساعدة والعون عند قدومه إلى مصر سنة 1920، كما وجد منه النصح والتقدير خلال بقية السنوات، وقد طلب فخامة رئيس الجمهورية التونسية الرئيس الحبيب بورقيبة من الأستاذ الطيب السحباني سفير تونس بمصر السعي لدى عائلة الفقيد للموافقة على دفنه في أرض الوطن، ولم تقع الموافقة عليه بالإيجاب لوصيته الخطية السالفة الذكر، ومات عن غير عقب، وترك مكتبة نفيسة أهداها إلى زوجته. * مؤلفاته: 1 - "أسرار التنزيل"، وهي تفسير للفاتحة، وسورة البقرة، وبعض آيات من سورة آل عمران، والحج، والأنفال، ويونس. 2 - "بلاغة القرآن"، أشرف على طبعه الأستاذ علي الرضا الحسيني ابن شقيقه زين العابدين، وطبع بالمطبعة التعاونية بدمشق سنة 1979، ص 216، جمعه مما نشر في المجلات. 3 - "تونس وجامع الزيتونة"، أشرف على طبعه حفيده للأخ، المطبعة التعاونية بدمشق 1971، جمعه مما سبق نشره في المجلات أو الرسائل الصغيرة، وله علاقة بتونس، وخاصة تراجم العلماء المشهورين أمثال: ابن

خلدون، وأسد بن الفرات، وعمر بن الشيخ، ومحمود قابادو. 4 - "خواطر الحياة": (ديوان شعر ضخم) ط سنة (1366/ 1946)، وعلق عليه في الطبعة الثانية الشيخ محمد علي النجار الأستاذ بكلية اللغة العربية بالأزهر، نشرته المطبعة السلفية ومكتبتها لصاحبها الأستاذ محب الدين الخطيب أحد أصدقائه سنة (1373/ 1953). 5 - "الخيال في الشعر العربي"، نشره أولاً في شكل مقالات بمجلة "المنار" خلال سنة 1921، ط، بالمطبعة الرحمانية، 41 ص، وط للمرة الثانية بالمطبعة السلفية (1346/ 1928)، -84 ص، ثم أعاد طبعه الأستاذ علي الرضا الحسيني بالمطبعة التعاونية بدمشق 1972، 203 ص، وأضاف إليه: "الخطابة عند العرب"، و"محاضرات في البلاغة والآداب". 6 - "الحرية في الإسلام"، محاضرة ألقاها بنادي جمعية قدماء تلامذة الصادقية مساء يوم السبت 17 ربيع الثاني 1324، وهو يومئذٍ قاض ببنزرت، المطبعة التونسية 1959، 61 ص، وطبعت طبعة ثانية بالأوفيست، تونس 1972. 7 - "رسائل الإصلاح"، جمع فيها جملة كثيرة من بحوثه في الدين، والأخلاق، والتراجم، والتاريخ، واللغة، وقد جعلها أربعة أقسام هي: 1 - الأخلاق والاجتماعيات. 2 - قسم المباحث الدينية في أصول الدين، وأصول الفقه، والأحكام العملية. 3 - قسم السيرة النبوية، وتراجم الرجال، والبحوث التاريخية. 4 - قسم مباحث اللغة والآداب، وقد نشر منه في حياته ثلاثة أجزاء

تدور كلها على القسمين الأولين، ط، الجزء الأول بمطبعة الهداية الإسلامية، القاهرة (1358/ 1938)، ص 44 - 240، وقد أعاد طبع هذا الجزء حفيده للأخ بدمشق 1971 بعد الحذف، وإضافة موضوعات من الجزء الثاني، 240 ص. الجزء الثاني بمطبعة حليم بالقاهرة بلا تاريخ، ص 231، وقد نقل الحفيد موضوع: (أديان العرب قبل الإسلام) إلى كتاب "محمد رسول الله"، كما نقل موضوع: التصوف إلى كتاب "الشريعة الإسلامية". 8 - "الدعوة إلى الإصلاح"، رسالة طبعت على نفقة شقيقه السيد محمد العروسي بن الحسين، بالمطبعة العربية بتونس (1328/ 1910)، 41 ص، وطبعت للمرة الثانية بالمطبعة السلفية (1346/ 1921)، 84 ص بعد أن أدخل عليها تنقيحاً في بعض الفقرات والفصول، وتحويراً في التبويب. 9 - "الشريعة الإسلامية"، فيه معظم الجزء الثالث من "رسائل الإصلاح" في طبعتها الأولى، وأضاف إليها حفيده مقالات نشرت في مجلة "نور الإسلام"، ومجلة "الهداية الإسلامية"، وأشار لها في الحواشي، المطبعة التعاونية بدمشق 1971، 222 ص. 10 - "طائفة القاديانية"، المطبعة السلفية سنة (1351/ 1932)، 40 ص، وطبعت للمرة الثانية ضمن رسائل الإصلاح، ج 3، ص 107 - 125. 11 - "علماء الإسلام في الأندلس"، محاضرة ألقاها في نادي جمعية الشبان المسلمين باسم جمعية الهداية الإسلامية مساء يوم الأربعاء 28 ذي الحجة (1346/ 1927)، وأردفها بخطبة في موضوع: (لماذا نحتفل بذكرى الهجرة النبوية؟) ألقاها في النادي نفسه في غرة محرم 1347، طبعت بالمطبعة السلفية (1357/ 1928)، 40 ص.

12 - "القياس في اللغة العربية"، لما درّس المؤلف كتاب "مغني اللبيب" بالمدرسة السلطانية بدمشق تجمعت لديه كثير من الآراء عن القياس في اللغة العربية قدمها إلى تلاميذه، وناقشها مع بعض أصدقائه من العلماء، وقد اقترح عليه بعضهم، ومنهم: الشيخ محمد بهجة البيطار عضو المجمع العربي بدمشق جمع هذه الآراء في كتاب يساعد قراء العربية على معرفة هذا الموضوع الهام، فكتب بحثاً في القياس في اللغة نشره تباعاً في مجلة "المنار" سنة 1922، ثم نشره في كتاب خاص في 127 ص، وطبع بالمطبعة السلفية (1353/ 1934)، والطبعة الثانية نشرها حفيده ضمن كتاب "دراسات في العربية وتاريخها" (ص 5 - 112)، دمشق 1965، ثم إنه نقحه وجوّده وقدمه إلى هيئة كبار العلماء، فقبلته بالإجماع، وأصبح عضواً فيها سنة 1950، ومما نشره وغلق عليه كتاب "الموافقات" للشاطبي، وعليه تعليقاته، وطبع بالمطبعة السلفية سنة (1341/ 1923) في أربعة أجزاء. 13 - "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، المطبعة السلفية (1344/ 1925)، 44 ص 7 + 242. 14 - "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، المطبعة السلفية (1345/ 1926)، 7 + 364. * المراجع: - "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر" (2/ 193 - 230). - "أركان النهضة الأدبية في تونس" (39 - 43). - "أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث" لأحمد تيمور (القاهرة 1967) (378 - 381).

- "محمد الخضر حسين: حياته، وآثاره" لمحمد مواعدة (تونس 1974). - "شيخ الأزهر الأسبق" دراسة مختارات سلسلة أعلامنا (4) لأبي القاسم محمد كرو، تونس 1973. - "معجم المطبوعات" (1652). - "مجمل تاريخ الأدب التونسي" (333 - 337). - "معجم المؤلفين" (2/ 279 - 280)، وانظر عنه، وعن مجلة "السعادة العظمى":

محمد الخضر حسين (1293 - 1377 هـ) (1876 - 1958 م)

محمد الخضر حسين (¬1) (1293 - 1377 هـ) (1876 - 1958 م) خير الدين الزركلي محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر الحسني التونسي: عالم إسلامي، أديب، باحث، يقول الشعر، من أعضاء المجمعين العربيين بدمشق والقاهرة، وممن تولوا مشيخة الأزهر. ولد في "نفطة" (من بلاد تونس)، وانتقل إلى تونس مع أبيه (سنة 1306) وتخرج بجامع الزيتونة. ودرّس فيه. وأنشأ مجلة "السعادة العظمى" سنة (1321 - 23)، وولي قضاء "بنزرت" (1323)، واستعفى، وعاد إلى التدريس بالزيتونة (سنة 24)، وعمل في لجنة تنظيم المكتبتين: العبدلية، والزيتونة. وزار الجزائر ثلاث مرات، ويقال: أصله منها. ورحل إلى دمشق (سنة 30)، ومنها إلى الآستانة. وعاد إلى تونس (31)، فكان من أعضاء (لجنة التاريخ التونسي)، وانتقل إلى المشرق، فاستقر في دمشق مدرساً في المدرسة السلطانية قبل الحرب العالمية الأولى. وانتدبته الحكومة العثمانية في خلال تلك الحرب للسفر إلى "برلين" مع الشيخ عبد العزيز جاويش وآخرين، فنشر بعد عودته إلى دمشق سلسلة ¬

_ (¬1) ترجمة الإمام محمد الخضر حسين في كتاب الموسوعة "الأعلام" للأستاذ الأديب والشاعر خير الدين الزركلي - طبعة 1990، بيروت.

من أخبار رحلته، في جريدة "المقتبس" الدمشقية. ولما احتل الفرنسيون سورية، انتقل إلى القاهرة (1922)، وعمل مصححًا في دار الكتب خمس سنوات. وتقدم لامتحان (العالمية) الأزهرية، فنال شهادتها. ودرّس في الأزهر. وأنشأ جمعية الهداية الإسلامية، وتولى رئاستها، وتحرير مجلتها. وترأس تحرير مجلة "نور الإسلام" الأزهرية، ومجلة "لواء الإسلام"، ثم كان من (هيئة كبار العلماء)، وعُين شيخاً للأزهر (أواخر 1371)، واستقال (73)، وتوفي بالقاهرة. ودفن بوصية منه في تربة صديقه أحمد تيمور (باشا). وكان هادئ الطبع، وقوراً، خص قسماً كبيراً من وقته لمقاومة الاستعمار، وانتخب رئيساً لجبهة الدفاع عن شمال إفريقية. في مصر. وله تًاليف، منها "حياة اللغة العربية- ط "، و "الخيال في الشعر العربي- ط "، و"مناهج الشرف- ط "، و"طائفة القاديانية- ط "، و"مدارك الشريعة الإسلامية- ط "، و"الحرية في الإسلام- ط "، محاضرة، و"نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم- ط "، و"نقض كتاب في الشعر الجاهلي- ط "، و "خواطر الحياة- ط " ديوان شعره، و"بلاغة القرآن- ط "، و"محمد رسول الله- ط "، و"السعادة العظمى- ط "، و"تونس وجامع الزيتونة-" (¬1). ¬

_ (¬1) من ترجمة له بقلمه وبخطه، عندي. وجريدة "الفتح" 17 ذي القعدة 1350، و"الأهرام" 21/ 9/ 52، ثم 3/ 2/ 58، ومجلة "الحج": (12: 66)، و"معجم المطبوعات"، 1652 ومجلة "المجمع العلمي العربي" (81: 18)، والأزهر في ألف عام (1: 165، 195)، و "مجمع اللغة" (14: 323 و 4: 232 - 33)، و"مذكرات المؤلف".

محمد الخضر حسين شيخ الأزهر (1293 - 1377 هـ) (1873 - 1958 م)

محمد الخضر حسين شيخ الأزهر (¬1) (1293 - 1377 هـ) (1873 - 1958 م) محمد مطيع الحافظ، ونزار أباظة محمد الخضر، أو الأخضر (¬2) بن الحسين الشريف التونسي. ولد ببلدة "نفطة" (¬3) في (26 رجب 1293 هـ، الموافق 21 تموز 1873 م) لأسرة تهتم بالعلم، وتتصف بالفضل، وكان والده وجدّه من كبار العلماء، واشتهر خاله محمد المكي بن عزوز في تونس والجزائر وإستانبول، ويرجع أصل أسرته إلى أسرة العمري من قرية "طولقة"، إحدى واحات الجنوب الجزائري. نشأ في بلدة "نفطة" بجو أسرته العلمي، فحفظ القرآن الكريم، ثم رحل به والده في ربيع الأول من سنة 1306 إلى تونس العاصمة لتلقي العلوم بجامع الزيتونة، وصحب معه إخوته: محمد الجنيدي، ومحمد العروسي، ¬

_ (¬1) ترجمة الإمام محمد الخضر حسين من كتاب "تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر" (الجزء الثالث) للأستاذين: محمد مطيع الحافظ، ونزار أباظة، بدمشق - الطبعة 1991 م دمشق. (¬2) أبدلت الخضر بالأخضر منذ طفولته للاختصار. (¬3) في جنوب تونس، وتسمى عندهم: الكوفة الصغرى.

ومحمد المكي (على اسم خاله)، وزين العابدين. وفي تونس التحق بجامع الزيتونة سنة (1307/ 1887)، والتقى بالطبقة العالية من علمائه، وأشهرهم خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز (ت 1333)، والشيخ عمر بن الشيخ (ت 1329)، والشيخ محمد النجار (ت 1329)، وبه تأثر في الاتجاه المحافظ، والشيخ سالم بو حاجب (ت 1343)، وتأثر به في الاتجاه الإصلاحي. والشيخ مصطفى رضوان، والشيخ إسماعيل الصفايحي. وقد بقيت صلته بشيوخه هؤلاء حتى سفره إلى المشرق. واصل الشيخ دراسته في الزيتونة باهتمام، حتى حصل على شهادة التطويع منه سنة 1316، وكان قبل انتهاء دراسته طُلب للمشاركة في بعض القضايا العلمية، فأبى. ثم حاول القيام برحلة إلى الشرق عن طريق ليبيا، فخرج سنة 1317، لكنه لم يجاوز حدود مدينة طرابلس، فرجع إلى تونس. وبعد سنوات قام بزيارة إلى الجزائر دفعه إليها الصلة بين أصله الجزائري، وميله إلى الرحلة للعلم، فوصلها سنة 1321. ثم قام برحلة إليها ثانية في السنة التالية. وهناك تعرف على عدد كبير من الشيوخ؛ كالشيخ محمد بن شنب، والشيخ عبد القادر المجاوي. وفي هذه المدة أصدر مجلة "السعادة العظمى"، التي توقفت سنة (1323 هـ / 1905 م). تولى إثر ذلك القضاء في "بنزرت" بتأثير من الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وبقي فيه أشهراً قليلة، قدّم بعدها استقالته، ورجع إلى بلده تونس سنة 1324؛ ليباشر التدريس بجامع الزيتونة، إضافة إلى عمله فيه بتنظيم المكتبة.

وفي سنة 1326 عيّن مدرساً بالصادقية، وكلف بالخطابة في جامع الخلدونية. ولما قامت الحرب بين الطليان والدولة العثمانية، كان من أعظم الدعاة للوقوف في وجه العدو، ونشر في جريدته ما يحمّس ضدّ الاحتلال الإيطالي. رغب بالرحلة إلى الشرق، واشتاق إليه إثر انتقال إخوته الثلاثة إلى دمشق، واستقرارهم بها، فرحل سنة 1330 قاصداً بلاد الشام. واستغرقت رحلته أربعة أشهر وستة أيام، زار خلالها جزيرة مالطة، والإسكندرية، ثم القاهرة، واجتمع فيها بكبار العلماء، وألقى درساً في الأزهر، ثم بورسعيد، ويافا، وحيفا، ودخل دمشق أول رمضان سنة (1330/ 31 تموز 1912)، وفيها التقي بإخوته، واستقبله علماء دمشق ووجهاؤها استقبالاً حاراً، وألقى دروساً في الجامع الأموي، وبقي فيها شهر رمضان جممله. وزار خلال ذلك المؤسسات الثقافية، ثم غادرها في 2 شوال، وقصد بيروت، فالتقى فيها ببعض رجالات الفكر؛ كالسيد شفيق المؤيد. ومنها سافر إلى إستانبول، لزيارة خاله وأستاذه الشيخ محمد المكي بن عزّوز. وبقي في تركيا ما يقارب الشهرين، واتصل بكبار علمائها صحبة خاله. ثم غادرها إلى تونس، حيث وجد قراراً بفصله ينتظره هناك لسبب سياسي، لما قام به من أعمال تمسّ النظام الفرنسي الحاكم بتونس، فواصل على الأثر نشاطه العلمي، والتدريس في نادي جمعية قدماء الصادقية، وغيره، ونشر حديثاً ببعض الصحف عن رحلته. بعد ذلك رغب بالهجرة إلى الشام، فودع زوجته سنة (1331/ 1912)، وقد رفض أهلها أن ترافقه، فحزن على فراقها، وأنشد: جارتي منذ ضحوة العمر عذراً ... لأخي خطرة نأى عنه بيتك

قال يوم الوداع وهو يعاني ... سكرة البين: ليتني ما عرفتك قصد أول أمره مصر، فاتصل بعدد من علمائها؛ كالشيخ رشيد رضا، ثم انتقل إلى دمشق، فأقام بها مدة يسيرة، سافر بعدها إلى الحجاز، ثم ألبانيا، والآستانة، ثم رجع إلى دمشق، واستقرّ بها مع إخوته في حيّ الميدان. بدأ دروسه بدمشق بالجامع الأموي، والتدريس بالمدرسة السلطانية، فقدره أهل العلم، وتوثقت الصداقة بينه وبين الشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ جمال الدين القاسمي. وبعد وفاة هذا الأخير قرأ عليه طلابه أمهات الكتب؛ كـ"المستصفى في أصول الفقه" للغزالي، و"بداية المجتهد" في علم الخلاف لابن رشد، و"المغني في النحو" لابن هشام، و"الكامل في الأدب" للمبرد، و"صحيح مسلم"، فكان في ذلك كله إماماً مستقلاً مستدلاً. شارك في الكتابة بالصحف والمجلات، وكان له اهتمام واضح بالمشكلة العربية التركية، ودعا للألفة بين العرب والأتراك في ظل الخلافة العثمانية. وكان جلّ اهتمامه بالعلم والعلماء بدمشق. قال عنها: "نزلت دمشق، وللشعر فيها سوق غير كاسدة، ولكني آثرت أن أصرف القريحة في البحث العلمي، أو في العمل للقضية الإسلامية بقدر ما أستطيع" (¬1). وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، وتولى جمال باشا السفاح حكم سورية، عمل الشيخ مع عدد من المفكرين ضدّ حكمه الجائر، فسجن يوم 15 آب 1916، متهماً بالتستر على المتآمرين، وحوكم، ثم أطلق سراحه، بعد أن بقي في السجن حتى يوم 29 كانون الثاني 1917. وحزّ في نفسه وهو سجين أن يمنع من المطالعة والكتابة، وقال في هذا: ¬

_ (¬1) "خواطر الحياة" (ص 5).

غلّ ذا الحبسُ يدي عن قلم ... كان لا يصحو عن الطرس فناما هل يذود الغمض من مقلته ... أو يلاقي بعده الموت الزؤاما أنا لولا همة تحدو إلى ... خدمة الإسلام آثرت الحِماما ليست الدنيا وما يقسم من ... زهرها إلا سراباً أو جَهاما وعاد بعد سجنه إلى التدريس في المدرسة السلطانية، والجامع الأموي. ثم استدعي للعمل في الآستانة منشئاً عربياً بوزارة الحربية، بسعي من الشيخ حسن ظافر، وعلي باش حامبة الزعيم التونسي؛ ليتولى الإرشاد في جامع الفاتح. ولما استقر في الآستانة، كان خاله قد توفي سنة 1334، فباشر عمله، ثم كلف بمهمة في ألمانيا صحبةَ عدد من العلماء؛ كالشيخ صالح الشريف، وإسماعيل الصفائحي التونسيينِ، وبقي هناك تسعة أشهر على اتصال مع النازحين من ظلم الفرنسيين إلى ألمانيا. وتعلم خلال شهر اللغة الألمانية. ثم رجع إلى الآستانة، فبقي فيها مدة قليلة، عاد بعدئذٍ منها إلى "برلين" سنة 1337، ومكث بها سبعة أشهر حتى انتهت الحرب العالمية، وحين هزمت تركيا، رجع إلى الآستانة، ومنها إلى دمشق، التي دخلتها الجيوش العربية بقيادة الأمير فيصل. وفي دمشق تابع التدريس بالمدرسة السلطانية وغيرها. وعندما تأسس المجمع العربي سنة 1919، وعقد جلسته الأولى في 30 تموز من هذه السنة، وقع تعيينه عضو شرف (¬1). ¬

_ (¬1) "تاريخ المجمع العلمي العربي" (ص 10).

وبعد معركة ميسلون سنة (1339/ 1920) رحل إلى مصر هروباً من الحكم الفرنسي، الذي لاحقه خفية في تونس، ثم حكم عليه بالإعدام غيابيًا؛ لاتهامه إياه بالمشاركة بتحريض المغاربة في ألمانيا وتركيا ضدّ السلطة الفرنسية في شمال إفريقية، فأحزن سفره أصدقاءه ومحبيه في الشام، ومنهم: الأستاذ الشاعر خليل مردم، الذي وجه إليه -فيما يقول بعد- رسالة رقيقة تدل على مكانته عند الشاميين، وصداقته لهم، وفيها قوله: إنّ خير ما أثبته في سجل حياتي، وأشكر الله عليه: معرفتي للأستاذ الجليل السيد محمد الخضر التونسي، وإخوانه الفضلاء، وصحبتي لهم. وقد صحبت الأستاذ عدة سنين، رأيته فيها الإنسان الكامل، الذي لا تغيره الأحداث والطوارئ، فما زلت أغبط نفسي على ظفرها بهذا الكنز الثمين، حتى فاجأني خبر رحلته عن هذه الديار، فتراءت لي حقيقة المثل: "بقدر سرور التواصل تكون حسرة التفاضل". وأتبع الشاعر رسالته بقصيدة سماها: الرتيمة (¬1)، ومطلعها: طيفٌ للمياء ما ينفك يبعث لي ... في آخر الليل إن هوّمت أشجانا يغري الدموع بأجفان مسهَّدَةٍ ... من حيث يوري على الأحشاء نيرانا فلو تراني وأمر الليل مجتمع ... مشتت الرأي إثر الطيف حيرانا حسبتني مطفلاً قد ضلّ واحدُها ... عنها فطبقت الآفاق تحنانا إلى أن قال: كاد أقضي جَوًى والدار جامعة ... فكيف حالي إذا وقت النوى حانا؟! ¬

_ (¬1) الرتيمة: خيط يعقد في الإصبع للتذكير. "المعجم الوسيط".

فأجابه الشيخ بقصيدة عنوانها: (الصداقة هي الرتيمة)، ومطلعها: ما النجم تجري به الأفلاك غَسَقٍ ... كالدر تقذفه الأقلام في نَسَقِ ومنها قوله: هي الرتيمة فيما قال مبدعها ... وهل يغيب السنا عن طلعة الفلق إني على ثقة من أنّ ذكرك لا ... ينفك مرتسماً في النفس كالُخُلق وكيف أنسى (خليلًا) قد تضوَّع في ... حشاشتي ودُّه كالعنبر العَبِقِ ولم ينس الشيخ بقية أصدقائه العلماء في دمشق، كما أنه لم ينس ما وجده في دمشق من تقدير واحترام، جعلاه يذكر تلك المرحلة من حياته في كل مناسبة، ويميزها عن بقية مراحل حياته. ويصف رحلته إلى الشام. فيقول: "هذه الأوطان الثلاثة: (تونس، وسورية، ومصر) التي قضيت بها عمراً غير قصير، وإذا كان فضل العلماء والمحققين، والأدباء المستقيمين، والرؤساء الراشدين قد غطى في تونس ومصر على ما أشرت إليه من مناوأة بعض الغافلين أو الجاحدين حتى أنسى، ولم تبلغ أن يكون لها في حياتي الأدبية أثر، فإن الأعوام التي قضيتها بين أهل دمشق، لم أشعر فيها -على ما أذكر- إلا برقة العطف، وحسن اللقاء أينما كنت، فإذا حننت إلى دمشق، فإنما أحن إلى الخلق الكريم، والأدب الأخاذ بالألباب، وقد شهد لها بهذه المزايا كثير من نزلائها العلماء والأدباء من قبلي". ولما استقر في القاهرة بعيداً عن أهله وأقاربه وأصدقائه ومحبيه، تقدم إلى امتحان العالمية الأزهرية، فنال شهادتها، واتصل ببعض المصريين الذين عرفهم في زياراته السابقة لمصر، وتعرف إلى العلامة أحمد تيمور، وقدّر

مكانته وقيمته العلمية، وساعده هذا الأخير على الاستقرار، وكان بينهما محبة وود. عمل الشيخ مصححاً بدار الكتب المصرية، واشتغل بالفهارس، إضافة إلى الدروس والمحاضرات التي كان يلقيها في المساجد، والبحوث والمقالات التي يكتبها في الصحف والمجلات. أسس محمد الخضر في مصر (جمعية تعاون جاليات إفريقية الشمالية) (1343/ 1924)، ضمت أعضاء من تونس والجزائر والمغرب وليبيا. وكانت مهمتها رفع مستوى هذه الجاليات ثقافياً واجتماعياً. كما أسس (جمعية الهداية الإسلامية) سنة (1346/ 1927). وكان من أعضائها الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر، والشيخ عبد الحليم النجار. وكانت تهدف إلى تمتين الصلات بين الشعوب الإسلامية، والتعريف بحقائق الإسلام، ورفع شأن اللغة العربية، عن طريق إلقاء المحاضرات، وإصدار المجلة المعروفة باسم هذه الجمعية. وقد استمرت هذه المجلة حتى الحرب العالمية الثانية. وظهر تقدير علماء مصر للخضر حسين عندما وقع الاختيار عليه ليقوم بالتدريس في قسم التخصيص بالجامع الأزهر سنة (1346 هـ / 1927 م). وعندما أسندت مشيخة الأزهر إلى الشيخ محمد الأحمدي الظواهري (ت 1944)، اهتم بمشروع مجلة دينية، فصدرت مجلة "نور الإسلام " التي تمثل الجامع الأزهر، وتولى إدارتها عبد العزيز محمد، ورئاسة تحريرها محمد الخضر حسين. إضافة إلى الإشراف العلمي عليها. وهو الذي كتب افتتاحية العدد الأول الذي صدر في المحرم من سنة 1349 هـ. ثم ترأس الشيخ تحرير مجلة "لواء الاسلام"، وكان من هيئة كبار العلماء.

وعندما أنشئ مجمع فؤاد الأول في القاهرة مشة (1351/ 1932)، كان محمد الخضر من بين الأعضاء الأوائل، الذين صدر مرسوم بتعيينهم سنة (1352/ 1933)، وكان له نشاطه البارز في أعمال المجمع العلمية. طان خلال حياته في مصر يتلهف إلى زيارة دمشق، ويحنّ إليها في كل مناسبة، وهو القائل عنها: أحنّ إلى لياليها كصبٍّ ... يحنّ إلى ليالي الرقمتينِ ومطمح همتي في أن أراها ... تسامي في علاها الفرقدينِ واستجابة لهذا الشوق، وتلبية لرغبة أسرته، سافر إلى دمشق في 25 ربيع الثاني سنة (1356/ 1937)، وأقام بها شهرين، وكتب في مجلة "الهداية الإسلامي" حديثاً عن هذه الرحلة، تكلم فيه عن اجتماعه بالعلماء الشاميين، واستقبالهم له في عدد من حفلات التكريم، التي كانت تقام له (¬1). وألقى بدمشق في بهو المجمع العلمي العربي محاضرة عنوانها: (أثر الرحلة في الحياة العلمية والأدبية) (¬2)، ختمها بقصيدة مطلعها (¬3): زارها بعد نوى طال مداها ... فشفى قلباً مجداً في هواها ومنها قوله: راحَ نشوانَ ولا راح سوى ... أن رأى الشام وحيّاه شذاها نظرة في ساحها تُذْكره ... كيف كان العيش يحلو في رباها ¬

_ (¬1) العددان 5، 6 من المجلد العاشر. (¬2) مجلة "مجمع اللغة العربية" (15/ 285). (¬3) ديوان "خواطر الحياة".

ما شكا فيها اغتراباً وإذا ... حدثته النفس بالشكوى نهاها ثم يقول: فهنا قامت نوادي فتية ... تبلغ النفسُ بلقياهم مناها أدب يزهو كزهر عطرٍ ... أرشفته السحبُ من خمر نداها ملؤوا جلق أنساً فأرى ... ليلها طلقَ المحيا كضحاها شدّ ما لاقوا خطوباً فانتضوا ... مرهفاتِ العزم طعناً في لَهاها وعقّب على المحاضرة الشيخ محمد بهجة البيطار، عضو المجمع، فألقى كلمة تحدث فيها عن الشيخ محمد الخضر، وأثنى عليه. وزار محمد الخضر دمشق مرة أخرى سنة (1363/ 1943)، فاحتفى به أهلها، وعند وداعه أقاموا له حفلًا ضمّ رجالات النهضة الإصلاحية، وألقى هو قصيدة مطلعها: ولدتك تبغي في الحياة أنيساً ... يرعى عقولاً أو يقود خميسا ولربَّ أمٍّ أملت في طفلها ... همم الملوك فقام يحدو العيسا وعند مغادرته دمشق، وجّه رسالة إلى علمائها وأدبائها، شكر لهم فيها بقوله: "ما أبهج أياماً قضيتها في ربوع دمشق. وما بهجة الأيام إلا أن تلقى وجوهاً باسمة، وأنظارًا سامية، ومعارف زاهرة، وآداباً زاهرة، وغيرة على الكرامة ملتهبة". فكان حنينه إلى دمشق لا ينقضي، ولا يزال ينشد شعره يتغنى بها دوماً، ومن ذلك قوله يخاطب شقيقه الشيخ زين العابدين، وقد دعاه لزيارة دمشق والتمتع بربيعها:

دعوتَ إلى دمشق وفي فؤادي ... لها شوق أحر من الهجير تقول: حنا الربيع على رباها ... وحاك طنافسَ الزهر النضير وهب نسيمها الفياح يُهدي ... إلى أرجائها أزكى عبير هلم نُعد بها عهداً مليئاً ... بما نهواه من عيش غرير أثرت بمهجتي ذكرى ليالٍ ... قضيناها بدمر في حبور وكان الشيخ محمد الخضر متفتحاً للقاء الشخصيات المهمة، يزورها، ويأنس بها، ويودها. وقد زار الأمير محمد عبد الكريم الخطابي (¬1) عندما رست باخرته بميناء السويس في منتصف ليلة السبت 11 رجب (1366/ 1946)، وقال بعد عودته من زيارته: قلت للشرق وقد قام على ... قدم يعرض أرباب المزايا أرني طلعة شهم ينتضي ... سيفه العضب ولا يخشى المنايا ¬

_ (¬1) زعيم ثورة الريف بالمغرب ضد الاحتلال الإسباني، وقدر جيشه بمئة ألف، وأنشأ جمهورية الريف. وخاف الفرنسيون امتداد الثورة إلى داخل المغرب، فحالفوا الإسبان، وأطبقت عليه الدولتان، فاستسلم مضطراً إلى الفرنسيين في 12 ذي القعدة (1344/ 1925) بعد أن وعدوه بإطلاق سراحه، ولكنهم غدروا به، فنفوه مع أخ له وبعض أقربائهما إلى جزيرة "رينيون" في بحر الهند شرق إفريقية؛ حيث مكثوا عشرين عاماً، ثم صدر الأمر بنقلهم إلى فرنسا سنة (1366/ 1946)، فلما بلغوا السويس، كان شباب المغاربة قد هيؤوا لهم أسباب النزول من الباخرة، فنزلوا واستقروا في القاهرة، وبها توفي الخطابي بالسكتة القلبية سنة (1382/ 1926). "الأعلام" (6/ 216).

أرنيها إنني من أمة ... تركب الهول ولا ترضى الدنايا فأراني بطل الريف الذي ... دحر الأعداء فارتدوا خزايا غضبة حرّاء هزّته لأن ... يقنذ المغرب من أيدي الرزايا شبّ حرباً لو شددنا أزرها ... لأصابت كل باغ بشظايا وبعد قيام الثورة في مصر سنة (1372/ 1952) وقع الاختيار على الشيخ محمد الخضر ليكون شيخاً للأزهر (¬1)، ولم يُقبل منه اعتذاره بسبب كبر سنه، إذ أشرف على الثمانين، وكان أُحيل على التقاعد سنة (1370/ 1950). وبعد أن درّس في الأزهر عشرين سنة، وأقنعه وزير الأوقاف بالقبول، فتولى المشيخة حتى شهر جمادى الأولى من عام (1373/ 1954)، فقرر الاستقالة من المشيخة؛ لهزاله، وتأخر صحته. عكف بعدئذٍ على كتبه في منزله، وبقي يتابع أعماله العلمية مع أعماله في مجمع اللغة العربية، واجتماعاته في جميعية كبار العلماء، وكتاباته في المجلات، ومجالساته العلمية مع أصدقائه ومحبيه. وبقي على هذه الحال حتى وافاه الأجل. ترك محمد الخضر مؤلفات عديد: كتباً، وشعراً، ورسائل، ومحاضرات: أ - المقالات: - "السعادة العظمى" (مجلة صدر عددها الأول في نيسان 1904 بتونس، وأغلب مقالاتها من تحريره، واستمرت حتى كانون الثاني 1905). ¬

_ (¬1) كانت والدته في حال صغره عند ملاطفتها له تردد الدعاء له بقولها باللهجة الشعبية: "لَخْضَر يا لَخْضَر، تكبر وتُوَلّى شيخ لَزْهَرْ".

- "رسائل الإصلاح" (مقالات في الأخلاق والاجتماع والدين) (¬1). - "بلاغة القرآن" (¬2). - "تونس وجامع الزيتونة" (¬3). ب - المحاضرات: - "الحرية في الإسلام" (¬4). - "حياة اللغة العربية" (¬5). - "العظمة النبوية" (¬6). - "الخطابة عند العرب" (¬7). - "علماء الإسلام في الأندلس" (¬8). ج - الكتب: - "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" (رد على الشيخ عبد الرازق في أسلوب الحكم في الإسلام) (¬9). ¬

_ (¬1) طبعت في حياته، ثم أعيد طبعها بدمشق 1971 م. (¬2) ط دمشق 1971 م. (¬3) ط دمشق 1971 م. (¬4) ألقاها في تونس سنة 1906، وطبعت سنة 1909. (¬5) ألقاها في تونس سنة 1909، وطبعت في السنة نفسها. (¬6) ألقاها في القاهرة سنة 1928، وطبعت في السنة نفسها. (¬7) ألقاها في القاهرة سنة 1928، وطبعت في السنة نفسها. (¬8) ألقاها في القاهرة سنة 1928، وطبعت في سنة 1929. (¬9) ط 1926 م.

- "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" (رد على الدكتور طه حسين) (¬1). - "دراسات في العربية وتاريخها" (¬2). - "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان" (¬3). - "مناهج الشرف". - "طائفة القاديانية". - "مدارك الشريعة الإسلامية". د - الرسائل والبحوث: - "الدعوة إلى الإصلاح" (محاضرات في إصلاح المجتمع). - "الخيال في الشعر العربي". - "القياس في اللغة العربية". - "محمد رسول الله وخاتم النبيين". وبدأ محمد الخضر بنظم الشعر وله اثنتا عشرة سنة. ثم نضج شعره. وله ديوان سماه: "خواطر الحياة"، تناول فيه أغراضاً شعرية متنوعة، أهمها: الإخوانيات، والرثاء، والوصف، والوجدانيات، والإسلاميات، إضافة إلى ما أهمه من قضايا وطنه الكبير. ومن ذلك قوله بمناسبة احتلال الإيطاليين لليبيا: ردوا إلى مجدنا الذكر الذي ذهبا ... يكفي مضاجعنا نوم دهى حقبا ¬

_ (¬1) ط 1927 م. (¬2) ط 1961 دمشق. (¬3) ط 1971 دمشق.

ولا تعود إلى شعب مجادته ... إلا إذا غامرت هماته الشهبا حياكم الله قومي إنّ خيلكم ... قد ضمّرت والسباق اليوم قد وجبا وقال في رثاء أمه التي توفيت سنة (1335/ 1916): قطّب الدهر فأبديتِ ابتساما ... وانتضى الخطب فما قلت سلاما لست أدري أن في كفيك يا ... دهر رزءاً يملأ العين ظلاما لست أدري أنك القاذف في ... مهجتي ناراً ومُذْكيها ضِراما فإذا العين ترى عن كثب ... كيف تلقى نفسي الأخرى حِماما يا سقاةَ التراب ماءً هاكُم ... عبراتي إنّ في الجفن جماما أفلا يبكي الفتى نازحة ... سهرت من أجله الليل وناما؟! (بنت عزوز) لقد لقنتنا ... خشية الله وأن نرعى الذماما ودرينا منك ألا نشتري ... بمعالينا من الدنيا حُطاما ودرينا كيف لا نعنو وإن ... حارب الحق وإن سل الحساما كنتِ نوراً في حمانا مثلما ... مجتلى البدر إذا البدر تسامى كان لي منك إذا أشكو النوى ... كتب تحمل عطفاً وسلاماً فادخلي في سلف قمتِ على ... هديه الحق وأحسنتِ القياما واسعدي نزلاً إلى الملقى إلى ... يوم لا نخشى على الأنس انصراما وقال عندما دخل القطار في بساتين دمشق لأول مرة سنة 1330 هـ: لج القطار بنا والنار تسحبه ... ما بين رائق أشجار وأنهار ومن عجائب ما تدريه في سَفَر ... قوم يقادون للجنات بالنار ومن جميل شعره قوله:

أنشدتنا شعر لهفان على ... وصل ليلى وليالي الرقمتين قلت خلّي ذكر من قال ولم ... يبرز المعنى: رأت بدراً بعيني واذكري يوم تلاقينا على ... ربوة والماء صافٍ كاللجين غادة ترنو إلى ورد الربا ... وفتى يلحظ ورد الوجنتين وهذه الأبيات تشير إلى قول الشاعر المشهور: رأت قمر السماء فأذكرتني ... ليالي وصلها بالرقمتين وقال: رأت إذ كنت تخطبها غراماً ... ومن بعد البناء رأت نشوزا أكانت يوم خطبتها فتاة ... وصارت إذ بنيتَ بها عجوزا؟! هي العقبى لمن ركبت هواها ... وكم أخزى الهوى عرضاً عزيزا ولو نشدت أخا خلق مجيدٍ ... بنت حرزاً لعصمتها حريزا وقال يخاطب صلاح الدين الأيوبي لو لم تبلّغك الحياة مناكا ... لكفاك أنك قد قهرت عداكا لك سيرة كادت تمثل للنهى ... بشراً ينافس في العلا أملاكا ومفاخر يوم استغاث الشرق من ... خطر ألم ولم يُجره سواكا أيتاح للشرق المعذب ذائد ... يرمى ويبلغ في النضال مداكا؟ وقال في حب الوطن: وطني علمتني الحب الذي ... يدع القلب لدى البين عليلا لا تلمني إن نأى بي قدر ... وغدا الشرق من الغرب بديلا

عزمة قد أبرمتها همة ... وجدت للمجد في الظعن سبيلاً أنا لا أنسى على طول النوى ... وطناً طاب مبيتاً ومقيلا في يميني قلم لا ينثني ... عن كفاح ويرى الصبر جميلا هو ذا طاعنْ به خصمك من ... قبل أن تخترط السيف الصقيلا وعندما زار مصنع الزجاج بدمشق قال: إن هذا الزجاج يُصنع كأساً ... ليبيت الحليم منا سفيها ويصوغ الدواة من بعد كأسٍ ... ليصيرالجهول حبراً نبيها فهو كالفيلسوف ينفث غياً ... ثم يأتي بما يروق الفقيها كان الشيخ محمد الخضر رجل علم وشريعة، متمكناً في علومه، الأمر الذي أهّله لمشيخة الأزهر، معتدلاً في أموره، غير متعصب في دينه، ولا مجدد التجديد الذي يحمّل الشريعة فوق ما تتحمل، فقد كان يتمسك بالقرآن الكريم، والسنّة المطهرة، ويعتمد عليهما الاعتماد المطلق، ويقول في هذا المجال: "يقع في وهم من لا يدري ما الإسلام: أن شريعته لا توافق حال العصر الحاضر، ويبني توهمه هذا على أن القوانين إنما تقوم على رعاية المصالح، ومصالح العصور تختلف اختلافاً كثيراً. فالدعوة إلى بقاء أحكامها نافذة، هي في نظره دعوة إلى خطة غير صالحة، ذلك ما نقصد إلى تفنيده، وتفصيل القول في دفع شبهته، حتى يثبت بالدليل المرئي رأي العين: أن الشريعة الغراء تساير كل عصر، وتحفظ مصالح كل جيل". وكان الشيخ محمد الخضر لغوياً، مصلحاً، دؤوباً على العلم والعمل، هادئ الطبع، وقوراً، خصص قسماً كبيراً من وقته لمقاومته الاحتلال.

توفي بالقاهرة في 13 رجب 1377 هـ وفق 2 شباط (فبراير) 1958 م. وحضر تشييع جنازته كبار رجال الدولة، وعدد من علماء الشرق، ودفن في المقبرة التيمورية بوصية منه، حذو صديقه العلامة أحمد تيمور. * المراجع: - "الأعلام" (6/ 114)، خير الدين الزركلي. - "أعلام الإسلام" (269)، محمد سعيد الطناوي. - "أعلام الفكر الإسلامي" (378 - 381)، أحمد تيمور. - "تاريخ المجمع العلمي العربي" أحمد الفتيح. - مجلة "مجمع اللغة العربية" (5/ 50، 396، 569 - 6/ 577 - 7/ 2، 475 - 8/ 410 - 9/ 9 - 33/ 336 - 338 - 15/ 285). - "مجمع اللغة العربية في ثلاثين عاماً"، مهدي علّام. - "محاضرات المجمع العلمي العربي". - "محمد الخضر حسين" (سلسلة أعلامنا)، أبو القاسم محمد كرو. - "محمد الخضر حسين: حياته وآثاره"، محمد مواعدة. - "معجم المؤلفين" (9/ 279 - 13/ 418)، محمد رضا كحالة. - "المعجم الوجيز للمستجيز". - "ملف الشيخ محمد الخضر حسين في المجمع العلمي العربي بدمشق". - "يوم ميسلون"، ساطع الحصري.

مشاهير القرن العشرين محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر وأحد زعماء النهضة الإسلامية

مشاهير القرن العشرين محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر وأحد زعماء النهضة الإسلامية (¬1) محمد بوذينة "نفطة" تونس 23 جويلية 1873 - القاهرة 12 فيفري 1958. نشأ بـ"نفطة"، ثم التحق بجامع الزيتونة، وتفقه إلى أن صار من العلماء الأفذاذ. أسس أول مجلة صدرت بتونس وهي مجلة "السعادة العظمى" (1904)، وتولى منصب قاض شرعي بـ"بنزرت" (1905)؛ كما تولى الخطابة والتدريس بجامعها الكبير. وفي سنة 1906 تقدم بأول محاضرة علنية قامت في تونس عن الحرية، وهي المحاضرة التي ألقاها في نادي قدماء الصادقية بعنوان: (الحرية في الإسلام)، وهي من الأعمال الأولى الدالة على شجاعته ووطنيته وحبه لبلاده. وفي نفس السنة قدم استقالته من منصب القضاء، وعاد إلى العاصمة ليلقي دروسه العلمية تطوعاً في جامع الزيتونة. وفي 1907 شارك في مناظرة التدريس بالجامع الأعظم، وعين أستاذاً بالمدرسة الصادقية. وانتدبته الجمعية ¬

_ (¬1) ترجمة الإمام محمد الخضر حسين في كتاب "مشاهير القرن العشرين" للأديب والشاعر والمحقق الأستاذ محمد بوذينة - تونس. طبعة عام 1994.

الخلدونية ليلقي دروس الآداب والإنشاء على طلابها. وفي سنة 1912 شارك في مناظرة التدريس من الطبقة الأولى بجامع الزيتونة، وحرم من النجاح باطلاً وعدواناً، فحز في نفسه أن تكون سياسة الظلم والمحاباة مسيطرة على الحياة العلمية بتونس. وبدأ منذ هذه الحادثة يفكر في الهجرة نهائياً إلى الشرق. في سنة 1915 رحل إلى المشرق، واستقر بدمشق، وعين أستاذاً في المدرسة السلطانية؛ حيث مكث إلى سنة 1917، وتحول إلى تركيا وألمانيا، ثم عاد إلى دمشق. وفي سنة 1921 أصدرت السلطات الاستعمارية حكم الإعدام غيابياً على الشيخ محمد الخضر حسين إثر قيامه في ألمانيا بتحريض المغارية والتونسيين على الثورة ضد المستعمر. وفي سنة 1922 انتقل إلى مصر لاجئاً سياسياً، وتولى بجامعها الأزهر خطة التدريس، وأسس (رابطة تعاون جاليات إفريقيا الشمالية)؛ كما أسس (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية) التي قامت بدور فعال في توجيه نضال أبناء المغرب العربي. وأسس (1928) جمعية الهداية الإسلامية، وتولى رئاستها، وإدارة مجلتها، والتحرير فيها. كما تولى رئاسة تحرير كثير من المجلات الدينية التي أصدرها الأزهر؛ مثل: مجلة "نور الإسلام"، ومجلة "لواء الإسلام". وفي سنة 1952 أسندت إليه مشيخة الجامع الأزهر، وكان قبل تقليده ذلك المنصب أنشأ مجلة "الأزهر" تصدى فيها للدفاع عن الأزهر الشريف. * أشهر كتبه: "حياة اللغة العربية" تونس 1909، "الحرية في الإسلام" تونس 1909، "الدعوة إلى الإصلاح" تونس 1910، والقاهرة 1921، "الخيال في الشعر

العربي" القاهرة 1922، "الخطابة عند العرب" القاهرة 1927، "العظمة" القاهرة 1927، "علماء الإسلام في الأندلس" القاهرة 1928، "القياس في اللغة العربية" القاهرة 1934، "رسائل الإصلاح" في أجزاء، القاهرة 1938، "محمد رسول الله وخاتم النبيين" القاهرة 1938، "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان" القاهرة 1939، "بلاغة القرآن" القاهرة 1944، "أسرار التنزيل" القاهرة 1944، وديوان شعره "خواطر الحياة" القاهرة 1946. كان الشيخ الخضر يتمنى أن لا يموت حتى يرى وطنه حراً مستقلاً، وأدرك ما تمناه؛ حيث توفي سنة 1958، ودفن في المقبرة التيمورية بالقاهرة.

محمد الخضر بن حسين مولده سنة 1293 (1876 هـ) وفاته 1378 (1958 م)

محمد الخضر بن حسين (¬1) مولده سنة 1293 (1876 هـ) وفاته 1378 (1958 م) حسن حسني عبد الوهاب نشأ في مدينة "نفطة" من بلاد الجريد التونسي في وسط ديني وعلمي، وانتقل والده إلى العاصمة، والتحق هو بجامع الزيتونة؛ حيث درس العلوم الإسلامية واللغوية، وتخرج بشهادة ذلك المعهد المبارك - سنة 1316 (1898)، وأسس مجلة "السعادة العظمى" في مختلف المسائل الدينية والأدبية. ثم إنه عيّن لمجلس القضاء الشرعي بمدينة "بنزرت"، وألقى عدة محاضرات اجتماعية مفيدة، وتولّى التدريس بالزيتونة، وفي عام 1330 (1912) انتقلت عائلته إلى سكنى الشام، واتخذت مدينة دمشق مقراً ومسكناً، فعيّن مدرساً للغة والفلسفة الإسلامية، وفي أثناء الحرب العالمية الأولى اتهمته السلطات التركية بالمؤامرة ضد أمن الدولة، وفي محاكمته ظهرت براءته، وأُطلق سبيله (1335 - 1917)، فمن شعره وهو في السجن يشتكي منعه من تدوين خواطره: ¬

_ (¬1) ترجمة الإمام محمد الخضر حسين في كتاب "مجمل تاريخ الأدب التونسي - من فجر الفتح العربي لإفريقية إلى العصر الحاضر" للأستاذ حسن حسني عبد الوهاب - تونس. طبعة عام 1968 تونس.

غَلّ ذا الحبس يدي عن قلم ... كان لا يصحو عن الطرس فنامَا هل يذود الغمض عن مُقلته ... أو يلاقي بعده الموت الزؤاما أنا لولا همّة تحدو إلى ... خدمة الإسلام آثرت الحِماما ليستِ الدنيا وما يقسم من ... زهرها إلا سراباً أو جَهاما (¬1) وعاد بعد حين إلى دمشق، ومنها تحوّل إلى مصر، وتقلب في عدة وظائف علمية، منها: تدريس البلاغة بالأزهر - عام 1347 (1928)، واشتغل بجمعية (الهداية الإسلامية)، وكان رئيس تحرير مجلتها. ولم يزل الشيخ -رحمه الله- يتداول أعلى المراتب إلى أن تقلد في العهد الجمهوري وظيفة (مشيخة الجامع الأزهر)، وهي بمثابة مشيخة الإسلام في البلاد الأخرى. وقد حصلت له بمصر شهرة واسعة، وإجلال كبير من أصدقائه وتلاميذه الوفيرين. وكان -رحمه الله- في كتاباته العلمية والأدبية غزير المادة، متين اللفظ، تغلب عليه الآراء الحكمية، والوصف الدقيق. فمن شعره في معنى الحياة: إن الحياة هي الأيام زاهرة ... ولا أرى الموت غير العيش في نكد ولا يطيب الفتى عيشاً إذا نسجت ... في أرضه مزنة والناس في جَرَدِ فإنما الشعب أفراد مؤلفة ... في هيئة الفرد ذو قلب وذو جَسَدِ أما الفؤاد فأرباب السياسة إن ... هُمُ بخير فباقي الجسم في رَشَدِ ¬

_ (¬1) الجهام: سحاب لا ماء فيه، ويقال: جاءنى من هذا الأمر بجهام؛ أي: بما لا خير فيه.

وإن زكت أمة لانت قلادتُها ... بكفّ قائدها في السهل والسَّنَدِ والعزّ في الدولة العظمى إذا بُنِيَتْ ... على أساس من الأحكام مطّردِ تحمي حقوق بني الإنسان قاطبةً ... لا يعتلي أحد منهم على أحدِ وله قصيد رائع في حيوية اللغة العربية، مطلعه: بصري يسبح في وادي النظرْ ... يتقصّى أثراً بعد أثرْ وسبيل الرشد ممهود لَمن ... يتجافى الغمض ما اسطاع السهر إنما الكون سجلٌّ رُسمتْ ... فيه للأفكار آيٌ وعِبَر ومنها: لُغَة أودع في أصدافها ... من قوانين الهدى أبهى دُرَرْ لُغة نهصر من أغصانها ... زهر آداب وأخلاق غُرَر ضاق طوْق الحصر عن بسطتها ... ولآلي البحر ليستْ تنحصر فاض من نهر مبانيها على ... فُصَحاء العُرب سيْلٌ منهمر فسرت روح بيان في اللهى ... كخصيب الأرض يحييه المطر وابنها المنطيق إن زُجَّ به ... في مجال القول جَلَّى وبهر يسبك المعنى متى شاء على ... صيغ، شأن الغني المقتدر ثم لا يعوزه السيرُ على ... وضعها في كل معنى مبتكر فاسأل التاريخ يُنبيك بما ... أنجبت أرض قريْش ومُضر من خطيب مصقع أو شاعر ... مفلقٍ يسحب أذيال الفَخَر ضربت في كل شرب ينتحي ... من فنون الحسن بالسهم الأغر

أرشفت من شنب الرقّة ما ... يذهل السامع عن نَغم الوَتَر ومنها: والكلام الجزل وضعاً واقع ... موقع السيف إذا السيف خطر ضلَّ قوم سلكوا في حفظها ... سبباً أوهَن من حبل القصر واحتست في نُطق بعضٍ أحرفًا ... من لُغَى أخرى فأضناها الخدر بعض مَن لم يفقهوا أسرارها ... قذفوها بموات مستمر نفروا عنها لِواذاً وإذا ... جفّ طبع المرء لم تُغِن النُّذُر هكذا في نظر الأعشى استوى ... زهرُ روض وهشيم المحتظر لغة قد عضد الدين لها ... ذمّة يكلؤها كل البشر أوَلَمْ تنسج على منوالها ... كلم التنزيل في أرقى سُوَر؟ يا لَقومي لِوفاء إنَّ مَنْ ... نكث العهد أتى إحدى الكُبَرْ فأقيموا الوجه في إحيائها ... وتلافوا عِقد ما كان انتثر وله يرثي والدته: قطّب الدهر فأبديت ابتساما ... وانتضى الخطب فما قلت سلاما لستُ أدري أن في الأرزاء ما ... يرسل الدمع على الخدّ سجاما لست أدري أن في كفّك - يا ... دهر - رُزْءاً يملأ الأفق ظلاما لست أدري أنك القاذف في ... مهجتي ناراً ومُذكيها ضراما فإذا العين ترى شاخصة ... كيف تلقى ربّة العزّ الحِماما كيف توريها أكف في الثرى ... كيف تحثو فوقها الترب رُكاما

أودعوها قعر لحدٍ ضربوا ... فوقه من لازب الطين خِتاما يا سُقاة الطين بالماء خذوا ... عبَراتي إن في الجفن جماما وضعوا إن شئتم من حدقي ... بل من القلب على القبر سِناما ومنها: إن جفتْ بالعتب أمٌّ فهي قد ... ضربتْ من خلق الحِلم لِثَاما أفلا يبكي الفتى نازحةً ... سهرت من أجله الليل وناما وانثنت ترشفه من أدب ... مُذْ لها من لَبَن الثدي فِطاما كنتِ نوراً في حمانا مثلما ... نجتلي البدر إذا البدر تسامى كنتِ لي دوحةَ أُنس أينما ... سرت أهدت نفحَ وردٍ وخُزامى كان لي من قلبك الطاهر في ... كل يوم دعوة لا تترامى كان لي منك إذا أشكو النوى ... كُتُبٌ تحمل عطفاً وسلاما لهفَ قلبي بات لا يرجو لقا ... ءَكِ إلا أن يرى الطيف مناما وهي طويلة تقتصر على ما أوردنا من عيونها.

جمعية قدماء الصادقية تحيي ذكرى الشيخ محمد الخضر حسين العالم والمناضل

جمعية قدماء الصادقية تحيي ذكرى الشيخ محمد الخضر حسين العالم والمناضل محمد بن رجب (¬1) جانب كبير من الشباب التونسي، ويعض أهل الثقافة لا يعرفون أن الشيخ محمد الخضر حسين، من مواليد "نفطة" عام 1873 تولى مشيخة الجامع الأزهر عام 1952؛ أي: بعد أشهر قليلة من قيام الثورة المصرية التي قادها الضباط الأحرار. وقد أمضى على وثيقة تعيينه في هذا المنصب العلمي الرفيع الرئيس محمد نجيب بنفسه، فقد كان يعرفه، ويكنّ له المحبة الخالصة، واستقبله في القصر الرئاسي أكثر من مرة قبل أن يقدم استقالته من الأزهر عام 1954. وكان يومها قد تجاوز الثمانين، ولم يعد قادراً على تحمل أعباء العمادة العلمية. هذا الرجل الذي أصبح أحد زعماء النهضة العربية والإسلامية منذ العشرينات، خرج من تونس بحرقة في القلب بعد أن أثبت جدارته، وأكد حضوره العلمي، فجلب له الأعداء والمتآمرين عوض أن يجلب إليه المساندين والمؤيدين. ¬

_ (¬1) كاتب وصحفي تونسي معروف - جريدة "الصباح" التونسية، العدد الصادر في (10 رمضان 1418 هـ 9 كانون الثاني جانفي 1998 م).

ولكنه رجل علم من خيرة ما أنجبت تونس، ولأنه درَّس في المعهد الصادقي في السنوات الأولى من هذا القرن الذي يستعد للرحيل، ولأنه ألقى أولى محاضراته الثقافية بهدف تحريك الهمم على منبر جمعية قدماء الصادقية، فإن هذه الجمعية التي ما زالت نشيطة، بل هي اليوم من أنشط الجمعيات الثقافية في تونس، مقرّة العزم على إقامة الذكرى الأربعين لوفاته. وسيكون الموعد يوم الجمعة القادم 15 جانفي، وسيتولى الأستاذ محمود شمام الحديث عن الراحل محمد الخضر حسين لإبراز خصاله وفكره ونضالاته، كما يقوم الأستاذ البشير العريبي بالحديث عن شاعرية شيخ الأزهر من خلال شعره الغزير الذي كتبه في تونس أو في مصر، والذي صدر في ديوان عنوانه "خواطر الحياة" عام 1946. ستكون سهرة ثقافية طيبة فيها الذكر الحسن، وفيها اعتراف بما قدمه محمد الخضر للغة العربية طيلة 65 سنة، كانت زاهرة بالعطاء العلمي من خلال التدريس والمحاضرات، فضلاً عن مؤلفاته الكثيرة. وللإفادة نشير إلى بعض جوانب من حياة المحتفى بذكراه، مستعينين بكتاب "مشاهير التونسيين" للأستاذ محمد بوذينة، الذي عاد هو أيضاً في ترجمته لمحمد الخضر حسين إلى بعض المراجع، في مقدمتها كتاب لأبي القاسم محمد كرو عنوانه "أركان النهضة الأدبية في تونس". شيخ الأزهر إذاً هو من مواليد "نفطة" بالجنوب الغربي التونسي يوم 23 يوليو جويليه 1873. وهناك تعلم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بجامع الزيتونة، وواصل دروسه إلى أن أصبح فقيهاً في الدين الإسلامي، ومختصاً في اللغة العربية وآدابها.

وفي سنة 1904 دخل إلى الساحة الفكرية من الباب الواسع؛ إذ أسس مجلة اختار لها اسم "السعادة العظمى"، كان لها الأثر الطيب على طلبة العلم وأهل المعرفة. وبعد سنة واحدة تولى منصب القضاء في "بنزرت"، وباشر التدريس بجامعها الكبيرة حيث كان الخطيب الأول. وفي عام 1906 ألقى محاضرة على منبر نادي قدماء الصادقية بعنوان: (الحرية في الإسلام)، وهي المحاضرة العلنية الأولى في تونس عن الحرية لاستنهاض الفكر، وتحريك السواكن ضد المستعمر الفرنسي، وقد سجل بهذه المحاضرة أنه لن يكون من الصامتين، بل هو رجل وطني غيور، يحب بلاده، وهو على استعداد للتضحية. ولأنه أحس بأن الساحة الفكرية والنضال الوطني يستدعي بقاءه في العاصمة، فإنه استقال من منصب القضاء ببنزرت، وانتمى إلى جامع الزيتونة لإلقاء دروس علمية متطوعاً. وانتدبه المعهد الصادقي أستاذاً لتلاميذه عام 1957، كما انتدبته الجمعية الخلدونية لإلقاء دروس الآداب والإنشاء على طلابها. وفي سنة 1912 شارك في مناظرة التدريس من الطبقة الأولى بجامع الزيتونة، فحرم من النجاح باطلاً حسب تأكيدات الكثير من العارفين بتلك الفترة، وبعضِ معاصريه. ولقد فهم محمد الخضر حسين أن عملية محاربته ليست بسيطة، فحزّ ذلك في نفسه، واستفحل الإحساس بالقهر في أعماقه، فظلمُ الأقربين أشد على النفس من ظلم الآخرين، وخوفاً على مستقبله، هاجر إلى المشرق العربي،

وحط رحاله في البداية بدمشق عام 1915، حيث عُيّن أستاذاً في المدرسة السلطانية، فاشتغل بها سنتين، ثم تحول إلى تركيا وألمانيا، ثم عاد إلى دمشق عام 1920. وفي تركيا وألمانيا كان يدعو إلى الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، ولذلك فإن السلطات الاستعمارية أصدرت عليه حكم الإعدام عام 1921، فهرب إلى مصر لاجئاً سياسياً باعتبار أن فرنسا كانت تستعمر سورية أيضاً، واختياره لمصر يعود إلى أنها كانت تحت الهيمنة البريطانية. وفي مصر انتمى إلى جامع الأزهر، وبدأ التدريس به عام 1922، فلمع في الوسط العلمي والطلابي، وأسس رابطة تعاون جاليات أفريقية الشمالية، كما أسس جبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية، التي قامت بدور فعال في توجيه نضال أبناء المغرب العربي. وهذه التعليمات التأسيسية للجمعيات المغاربية تؤكد أن الرجل لم ينسَ تونس، فلم يخرج غاضباً عنها، إنما خرج غاضباً من فئة كانت تتحكم في التعيينات للطبقة الأولى بجامع الزيتونة، فلقد عمل ما في وسعه لخدمة النضال التونسي، وخدمة النضال المغاربي بصفة عامة. ففي النصف الثاني من العشرينات إذاً لمع اسمه، وتعرف عليه جُلّ أهل المعرفة. وبدأت كتابته تكتسح البلاد العربية والإسلامية، فقد أسس عام 1928 جمعية (الهداية الإسلامية) التي كانت تصدر مجلة تولى هو بنفسه رئاسة تحريرها، كما تولى رئاسة تحرير مجلات عديدة أخرى، آخرها مجلة "الأزهر" التي خصصها للدفاع عن جامع الأزهر .. وهذا الدفاع جعل منه رمزاً من رموز الجامع، ورمزًا من رموز المدافعين عن الإسلام بعيداً عن التعصب

ودعاة الظلام والركون إلى الكهوف. ولذلك استحق أن يكون إمام الأزهر، وعميده، وشيخه الأكبر عام 1952. وقد توفي الراحل يوم 12 فيفري 1958، ودفن في المقبرة التيمورية بالقاهرة. وقد ذكر محمد بوذينة أن محمد الخضر حسين كان يتمنى أن لا يموت إلا بعد أن تنعم تونس باستقلالها، وحقق الله أمنيته، إذ عاش سنتين في عهد الاستقلال، لكنه لم ينعم بالعودة. وفي كلمة: كان الرجل مناضلاً ضد الاستعمار، وله رؤية شمولية للأمة العربية، ويؤمن بالمغرب العربي، ووطني صادق في دفاعه عن تونس وعن استقلالها. وللعلم: فقد أصدر ثلاثة مؤلفات في تونس من سنة 1909 إلى سنة 1910، وهي على التوالي: "حياة اللغة العربية"، و"الحرية في الإسلام"، و"الدعوة إلى الإصلاح"، وهذا الكتاب الأخير أعاد نشره في القاهرة عام 1921، وفي عام 1922 أصدر كتاب "الخيال في الشعر العربي"، ثم عام 1927 صدر له كتاب "الخطابة عند العرب"، وفي نفس السنة كتاب "العظمة"، وبعد سنة كان كتابه "علماء الإسلام في الأندلس". وفي سنة 1934 صدر كتابه الذي يحمل عنوان "القياس في اللغة العربية"، يليه كتاب "رسائل الإصلاح" في ثلاثة أجزاء عام 1938. وله كتب أخرى دينية، كلها تدعو للإصلاح من الوجهة السلفية، ولكنه كان يدعو أيضاً إلى الأخذ بالعلم والمعرفة، واستعمال العقل، كما أنه لم يكن حداثياً حسب رؤية طه حسين وبعض العائدين من الجامعة الفرنسية والإنكليزية، بل قاوم التجديد، وكتب ضد طه حسين من رؤية التجديد الديني، وإن كان

يرغب في النهضة بالمجتمع من خلال محاربة الجمود والرفع من مستوى المرأة. وفي الأخير: أريد أن أشير إلى أني قبل كتابة هذه الأسطر اتصلت بالأستاذ حمادي الساحلي، فحدثني عن الخضر حسين، وأبرز أهم الجوانب في شخصيته الدينية والنضالية، والإصلاحية السلفية، وذكر لي أن عدداً كبيراً من كبار الشخصيات التونسية درس على يديه في الصادقية، والخلدونية، فضلاً عن الزيتونة لما كان متطوعاً بالجامع، ومن بين تلاميذه المشاهير: الدكتور محمود الماطري، ومحمد بن الحسين الصحفي الذي كان تأثيره كبيراً على الساحة الثقافية والإعلامية التونسية لسنوات عديدة.

فهارس مؤلفات الإمام محمد الخضر حسين

فهارس مؤلفات الإمام محمد الخضر حسين (¬1) * أسرار التنزيل: تفسير سورة الفاتحة - تفسير آيات: من سورة البقرة، من سورة آل عمران، من سورة الأنفال، من سورة يونس، من سورة الحج، من سورة ص. * بلاغة القرآن: بلاغة القرآن - نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية - رأي في تفسير القرآن - أمثال القرآن الكريم - المحكم والمتشابه في القرآن - اليمين في القرآن والحديث - الرقية والاقتباس والاستخارة والقرآن - إعجاز القرآن وبلاغته - ترجمة القرآن - حقيقة ضمير الغائب في القرآن - القرآن لا يقول إلا حقاً - الفن القصصي في القرآن - تحريف آيات الحدود عن مواضعها - كتاب يهذي في تأويل القرآن المجيد - كتاب يلحد في آيات الله - قصة أيوب عليه السلام ونقض آراء حديثة في تفسيرها. ¬

_ (¬1) تسهيلاً للبحث العلمي والباحث نثبت فهارس الكتب المطبوعة للإمام محمد الخضر حسين. باستئناء ديوان شعره "خواطر الحياة"، والكتب التي حققها وعلق عليها - رضوان الله عليه -.

* محمد رسول الله وخاتم النبيين: أديان العرب قبل الإسلام - محمد رسول الله وخاتم النبيين (¬1) - صبر محمد عليه السلام ومتانة عزمه - الهجرة النبوية - رفقه وحكمته البالغة في السياسة - نظرة في دلائل النبوة - عظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهدايته - شجاعته - صلى الله عليه وسلم - منقذ العالم من الظلمات - آداب الدعوة وحكمة أساليبها - رجاحة عقله - صلى الله عليه وسلم - وحكمة رأيه - هجرة الصحابة إلى الحبشة وأثرها في ظهور الإسلام - إبادته - صلى الله عليه وسلم - للأصنام - حياة الدعوة الإسلامية بجزيرة العرب - قضاء البعثة المحمدية على المزاعم الباطلة - البلاغة النبوية - الاحتفال بذكرى الهجرة النبوية - لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة - الهجرة مبدأ التاريخ العام في الإسلام - المعجزات الكونية - من آداب خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة بركة - العظمة - الهجرة وشخصيات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ملاحظات على مقال مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - تحية المقام النبوي ومناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكرى المولد - ذكرى المولد النبوي - مشاهداتي في الحجاز. * تراجم الرجال: نظرة في ناحية من خلافة عثمان - موسى بن نصير - علي زين العابدين - محمد الباقر وزيد - نظرة في حياة عمر بن عبد العزيز - نظرة في حياة الإمام مالك بن أنس - صقر قريش وكيف تأسست الدولة الأموية بالأندلس - أبو داود وكتابة "السنن" - صفحة من حياة أبي الحسن الأشعري - القاضي أبو الحسن الجرجاني - حجة الإسلام الغزالي - أبو بكر بن العربي - أحمد تيمور باشا. ¬

_ (¬1) بحث مطبوع في رسائل مستقلة.

* الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان: الاجتهاد في أحكام الشريعة - بناء الشريعة على حفظ المصالح ودرء المفاسد - الأصول النظرية الشرعية - القياس - الاستصحاب - مراعاة العرف - سد الذرائع - المصالح المرسلة - الاستحسان - مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها (¬1) - النسخ في الشريعة الإسلامية - "صحيح البخاري" وأثره في حفظ الشريعة - السنة والبدعة - الرؤيا ليست طريقاً للأحكام الشرعية - وجوب العمل بالحديث الشريف - أسباب وضع الحديث - الحديث المتواتر وحكم ما رواه الإمامان البخاري ومسلم - اجتهاد ابن القاسم - ليلة النصف من شعبان - نظرة في أحاديث المهدي - لا عدوى ولا طيرة - باب في حديث السحر - السنن والحكم النبوية - شرح مسألة الاقتداء بالمذهب المخالف - صنع الصور واقتناؤها - مكافحة الجشع والغش في المعاملات المالية - التصوف - تعدد الزوجات - الأخذ بالديْن - الفتاوى والأحكام. * دراسات في الشريعة الإسلامية: الله موجود - الأحكام العادلة - كيف تستنبط القواعد من الكتاب والسنّة - الحديث الصحيح حجة في الدّين - الشهادة وأثرها في إقامة الحقوق - الذرائع: سدها، وفتحها - مراعاة العرف - حكمة الإسلام في العزائم والرخص - موقف الإسلام من الرؤيا وتأويلها - الكبيرة والصغيرة - الذوق وفي أي حال يعتد به - النذر - المتعة - استحضار الأرواح - حكم الإسلام فيمن بلغته الدعوة - العدوي والطيرة - الزكاة وأثرها في نهوض الأمة - الغيبة وأثرها في النفوس ¬

_ (¬1) بحث مطبوع في رسالة مستقلة.

- حقوق الزوجية - صلاة الجماعة وأثرها في اتحاد الأمة - الدعوة القائمة على حق - فساحة الصدر ونزاهة اللسان عن المكروه - مكافحة المظالم موجبة للسلام - ما يلاقيه العلماء من المكاره - ما يلاقيه العلماء من سماحة أهل العلم - ما يلاقيه العلماء من سماحة الأمراء - المال المباح في الإسلام - الطلاق في الإسلام - تعدد الزوجات في الإسلام - النظافة في الإسلام - العلوم في دائرة الإيمان - الرفق بالضعفاء - الأدباء العلماء - زينة الإنسان حسن السمت - المنافقون في عهد النبوة والملاحدة بعده - تحقيق مذهب مالك في رفع اليدين عند الركوع والرفع منه - تحقيق مذهب مالك في إشارة المصلي في التشهد بأصبعه. * رسائل الإصلاح: المروءة ومظاهرها الصادقة - الإلحاد: أسبابه، طبائعه، مفاسده - في مفاسد البغاء - كلمة في المسكرات - الشجاعة - المساواة في الإسلام - إباعة الضيم وأثرها في سيادة الأمم - عظم الهمة- الإسلام والمدنية الحديثة - صدق اللهجة - فضيلة الأخلاص - الأمانة في العلم - القضاء العادل في الإسلام - الإنصاف الأدبي - العلماء والإصلاح - المدنية الفاضلة في الإسلام - أصول سعادة الأمة - صدق العزيمة أو قوة الإرادة - الغيرة على الحقائق والمصالح - الشجاعة وأثرها في عظمة الأمم - كبر الهمة في العلم - الدهاء والاستقامة - الانحراف عن الدين - ضلالة فصل الدين عن السياسة - سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين - العزة والتواضع - المداراة والمداهنة - الرفق بالحيوان - محكاة المسلمين للأجانب - الاجتماع والعزلة - علة إعراض الشبان عن الزواج - النبوغ في العلوم والفنون - متى تكون الصراحة فضيلة.

* محاضرات إسلامية: الحرية في الإسلام (¬1) - علماء الإسلام في الأندلس (¬2) - السعادة عند بعض علماء الإسلام (¬3) - التصوف في القديم والحديث - الدهاء في السياسة - الزينة والرفاهية في نظر الإسلام - هجرة الصحابة إلى الحبشة وأثرها في ظهور الإسلام - الصداقة- مضار الإسراف - تعاون العقل والعاطفة على الخير - حقوق الفقراء على الأغنياء في الإسلام - السمو الخلقي في الإسلام - المعتزلة وأهل السنة - اختلاط الجنسين في نظر الإسلام - نقد آراء للأستاذ فريد وجدي. * تونس وجامع الزيتونة: فقهاء تونس - شعراء تونس - الحالة العلمية بجامع الزيتونة- الدولة الحسينية في تونس - الشعر التونسي في القرن الخامس - حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية (¬4) - حياة أسد بن الفرات (¬5) - كتاب الأدب التونسي في القرن الرابع عشر - نظرة في أدب الشيخ محمود قبادو التونسي - نظرة في حياة وزير تونسي - محمد ماضور من علماء تونس وأدبائها - محمد النجار - أحمد أبو خريص - محمد بيرم الثاني - محمد الخضار - محمد النيفر - محمد الطاهر بن عاشور - عمر بن الشيخ - أحمد كريم - محمد بن ¬

_ (¬1) أبحاث مطبوعة في رسائل مستقلة. (¬2) أبحاث مطبوعة في رسائل مستقلة (¬3) أبحاث مطبوعة في رسائل مستقلة. (¬4) أبحاث مطبوعة في رسائل مستقلة. (¬5) أبحاث مطبوعة في رسائل مستقلة.

الخوجة - أحمد الورتاني - الطاهر بن عاشور - علي الدرويش - صالح الشريف - تونس (¬1). * الرحلات: الرحلة والتعارف في الإسلام - أثر الرحلة في الحياة العلمية والأدبية - النهضة للرحلة - الرحلة الجزائرية - خلاصة الرحلة الشرقية (¬2) - حديث عن رحلتي إلى دمشق - رحلتي إلى سورية ولبنان. * أحاديث في رحاب الأزهر: من الأستاذ الأكبر إلى أبنائه الطلبة - شيخ الأزهر يعترض على القبعة - لا قيمة للعلم ما لم يلازمه الفضائل الخلقية - سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين - الميسر وورق اليانصيب - أكمل رسالات الله - موقف الإسلام من الشيوعية والرأسمالية - بيان إلى العالم الإسلامي عن قضايا المغرب - هل للمرأة أن تباشر الوظائف العامة - الرفق بالحيوان في الشريعة الإسلامية - خير نظام للحكم - قضية فلسطين وإخلال ألمانيا الغربية بحيادها في اتفاقية التعويضات لإسرائيل - الدعوة إلى عقد المؤتمر الإسلامي في القاهرة - جيل يؤمن بالأخلاق - لماذا صار المسلمون هدفًا للمستعمرين؟ - التقليد والمحاكاة في نهضتنا الحاضرة - الأزهريون والتدريبات العسكرية - الإسلام لا يقر المحسوبية - الجهاد أعلى مراتب العبادة في الإسلام - الاستعمار يقرب من نهايته - العلم بين الأساتذة والطلاب - الحج المبرور - جددوا أنفسكم في هذا العيد - موقف الإسلام من حوادث مراكش ومعاهدة ليبيا - إشاعات السوء ¬

_ (¬1) أبحاث مطبوعة في رسائل مستقلة. (¬2) أبحاث مطبوعة في رسائل مستقلة.

وموقف الإسلام منها - لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام - الدعوة لتحديد النسل هدم لكيان الأمة - رأي الإسلام في شروط التوظيف- مولد رسول ومولد رسالة - ليس للمرأة شرعاً أن تمارس السياسة - طغيان الاستعمار وخطر الشيوعية - المعاهدات في الدول الإسلامية - أعجبتني هذه الكتب - كفانا قوتاً من الكلام - واجب الشباب إزاء التوسع الصناعي والزراعي - الاحتكار والربح الفاحش حرام كالربا - هدية العلماء لفاروق كانت غصباً - فقدان الحياء بين النساء هو السبب في أزمة الزواج - النفاق والملق والمداراة أمام الحكام وذوي السلطان. * الدعوة إلى الإصلاح: الدعوة إلى الإصلاح (¬1) - أثر الدين في إصلاح الاجتماع - أثر أدب اللغة في نجاح الدعوة إلى الإصلاح - حرية الدعوة دليل على رقي الأمة وعظمة الدولة - أصول الإصلاح الاجتماعي - من هو الواعظ بحق - الإسلام والعلم - التربية الدينية والشباب - التعليم الديني في مدارس الحكومة - العلماء وأولو الأمر - تعاون الدولة والأمة على انتظام الأمن - من هو الشاب المسلم - إلى شباب محمد - صلى الله عليه وسلم - مقاصد الإسلام في إصلاح العالم - نهوض الشباب بعظائم الأمور - جيل يؤمن بالأخلاق - مثل أعلى لشجاعة العلماء واستهانتهم بالموت في سبيل الحق - شجاعة العلماء وانصاف الأمراء - محاربو الأديان ونموذج من سلاحهم - العلماء وحياتهم الاجتماعية - العناية بالتعليم الديني - مناهج الشرف (¬2). ¬

_ (¬1) أبحاث مطبوعة في رسائل مستقلة. (¬2) أبحاث مطبوعة في رسائل مستقلة.

* القاديانية والبهائية: طائفة القاديانية: غلام أحمد، أصله، وولادته، ونشأته - ادعاء غلام أحمد الوحي والنبوة والرسالة - زعمه أن له آيات على صدقه - غروره وتفضيله نفسه على رسل الله الأكرمين - تكفيره لمن لا يؤمنون برسالته - القاديانية فرقتان - وجوب مقاومتهم، والتحذير من دعايتهم. تفنيد مذهب القاديانية: خيبة مدعي النبوة كذباً - انقطاع النبوة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفع شبهة يتشبث بها القاديانية - نقض شبه القاديانية - البابية أو البهائية. * الهداية الإسلامية: آداب الحرب في الإسلام (¬1) - الروح العسكرية في الإسلام - الطيب في نظر الإسلام - حقوق الزوجية في الإسلام - القضاء العادل - مكانة القضاء - صفات القاضي في الإسلام - شريك قاضي الكوفة وموسى بن عيسى أميرها - كل الجيش أسلفه؟ - السياسة الرشيدة في الإسلام - الدين والفلسفة والمعجزات - حقوق الجار - السخاء وأثره في سيادة الأمة - الحلم وأثره في سعادة الحياة الفردية والاجتماعية - حالة الأمة في هذا العصر - اليد العليا خير من اليد السفلى - خير نظام للحكم - سعيد بن جبير والحجاج - استعمال الألفاظ في غير مواضعها ومضاره الاجتماعية - فضل شهر رمضان - بحث موجز في أشهر الفرق الإسلامية - إصلاح المعاهد الدينية والدكتور طه حسين - الأدوية المفردة بين دسقوريدس وابن البيطار - كلمات وخواطر وآراء. ¬

_ (¬1) بحث مطبوع في رسالة مستقلة.

* هدى ونور: الإسلام والفلسفة - الحكمة وأثرها في النفوس - الحكمة العربية - التعاون في الإسلام - مكانة الأزهر وأثره في حفظ الدين ورقي الشرق - خواطر - الشورى في الإسلام - طرق الصوفية والإصلاح - رسائل إخوان الصفا - العمل للكمال - الجمعيات الإصلاحية - الخلافة الإسلامية - العرب والسياسة - أسباب سقوط الأندلس - الجزائر واستبداد فرنسا - الظهير البربري - طريق الشباب - للحقيقة والتاريخ - الشعور السياسي في الإسلام - العاطفة والتسامح في الإسلام - لهجة بلاد الجزائر - الدعوة الشاملة الخالدة - التراويح. * دراسات في العربية وتاريخها: القياس في اللغة العربية (¬1) - حياة اللغة العربية (¬2) - الاستشهاد بالحديث في اللغة - موضوع علم النحو - التضمين - تيسير وضع مصطلحات الألوان - طرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية - حول تبسيط قواعد النحو والصرف والرد عليها - الإمتاع بما يتوقف تأنيثه على السماع. * دراسات في اللغة: المجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية - من وُثق من علماء اللغة، ومن طُعن فيه - اللهجات العربية في هذا العصر - نيابة بعض الحروف عن بعض - الأمثال في اللغة العربية - وصف جمع غير العاقل بصيغة فعلاء - اسم المصدر في المعاجم - شرح قرارات المجمع والاحتجاج لها - نقد اقتراح ببعض الإصلاح في متن اللغة - نقد إعرابين جديدين في صيغة التحذير - ¬

_ (¬1) أبحاث مطبوعة في رسائل مستقلة. (¬2) أبحاث مطبوعة في رسائل مستقلة.

ملاحظات على البحث المقدم لمجمع اللغة العربية عن موقف اللغة العامية من اللغة العربية الفصحى- الألفاظ المؤنثة من طريق السماع. * الخيال في الشعر العربي ودراسات أدبية: الخيال في الشعر العربي (¬1) - الشعر البديع في نظر الأدباء - أثر الشعر في الترويح عن النفس وإثارة العواطف الشريفة - نموذج من نقد الشعر - الشعر المصري في عهد الدولة الأيوبية - نظرة في شعر حسان بن ثابت - الخطابة عند العرب (¬2) - نشأة علم البلاغة - الشعر حقيقته ووسائل البراعة فيه - قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية - البراعة في الشعر. * نقض كتاب في "الشعر الجاهلي": تمهيد: منهج البحث - مرآة الحياة الجاهلية في القرآن لا في الشعر الجاهلي - الشعر الجاهلي واللغة - الشعر الجاهلي واللهجات - أسباب انتحال الشعر: ليس الانتحال مقصوراً على العرب - السياسة وانتحال الشعر - الرواة وانتحال الشعر - القصص وانتحال الشعر - الشعوبية وانتحال الشعر - الرواة وانتحال الشعر - الشعر والشعراء: قصص وتاريخ - امرؤ القيس - علقمة - عمرو ابن قميئة - مهلهل - جليلة - عمرو بن كلثوم - الحارث بن حلزة - طرفة بن العبد - المتلمس - نتيجة البحث. * نقض كتاب "الإسلام وأصول الحكم": الخلافة والإسلام: الخلافة وطبيعتها - في حكم الخلافة - في الخلافة ¬

_ (¬1) أبحاث مطبوعة برسائل مستقلة. (¬2) أبحاث مطبوعة في رسائل مستقلة.

من الوجهة الاجتماعية - الحكومة والإسلام: نظام الحكم في عصر النبوة - الرسالة والحكم - رسالة لا حكم، ودين لا دولة. الخلافة والحكومة في التاريخ: - الوحدة الدينية والعربية - الدولة العربية - الخلافة الإسلامية. * مجلة "السعادة العظمى" (¬1): مقدمة المجلة: الاستطلاعات - الاعتصام بالشريعة - الأخذ بالقول الراجح - براءة القرآن من الشعر - تقسيم الكلام بحسب أغراضه - العربية الخالصة - البدعة - التمدن - مهيئات الإبداع - التأكيد - فلسفة شعرية اقتصادية - تحقيق مسألة تاريخية - الحياء - العمل والبطالة - الفصيح من الكلام - حياة الأمة - المولد النبوي - التربية - التقدم بالكتابة - النهضة للرحلة - طرق الترقي في الكتابة - فضل ليلة النصف من شعبان - الشعر العصري - الأحاديث الموضوعة - مدنية الإسلام والعلوم العصرية - الكلام الجامع - الأحاديث الموضوعة - رأي الشرع في الصحافة - مدنية الإسلام والخطابة - كبر الهمة - التعاون والتعاضد - الديانة والحرية المطلقة - منذر بن سعيد - الصيام - الرحلة الجزائرية - الزمان والتربية. * نظرات في الإسلام وأصول الحكم: بحث في الاحتجاج بالإجماع - المسلمون والسياسة - كلمات سياسية لبعض علماء الإسلام - الإسلام والفلسفة - بحث في مبايعة الخلفاء الراشدين، وأنها كانت اختيارية - بحث في قوة الإرادة - بحث في الخلافة والملك والقوة والعصبية - ملوك الإسلام وحرية العلم - القرآن والخلافة - السنة والخلافة - ¬

_ (¬1) أخذنا من المجلة عناوين الأبحاث التي كتبها الإمام محمد الخضر حسين. علماً أن هذه الأبحاث طبعت في كتاب مستقل تحت عنوان "السعادة العظمى".

الإجماع والخلافة - شكل حكومة الخلافة - وجه الحاجة إلى الخلافة - آثارها الصالحة - العرب والسياسة الشرعية - القضايا التي ترفع إلى الحكام نوعان - القضاء في عهد النبوة موكول إلى الأمراء - نبذة من مبادئ القضاء في الإسلام وآدابه - المالية في عهد النبوة - لماذا لم يكن في عهد النبوة إدارة بوليس؟ - الملك - الرسول عليه السلام ذو رياسة سياسية - الجهاد النبوي - الجزية - المخالفون أنلا ثلاثة - سر الجهاد في الإسلام - من مقاصد الإسلام أن تكون لأهله دولة - وجه قيام التشريع على أصول عامة - مكانة الصحابة في العلم والفهم - معنى كون الدين سهلاً بسيطاً - الاعتقاد بحكمة الأمر لا يكفي للعمل به - الشريعة فصلت بعض الأحكام، ودلت على سائرها بأصول يراعى في تطبيقها حال الزمان والمكان - الاجتهاد في الشريعة وشرائطه - سياسة الشعوب وقضاؤها في العهد النبوي - درة عمر بن الخطاب وإدارة البوليس - التشريع الإسلامي والزراعة والتجارة والصنائع - التشريع الإسلامي والأصول السياسية والقوانين - أحكام الشريعة معللة بالمصالح الدنيوية والأخروية، والمصلحة الدنيوية منها هي ما يبحث عنه أصحاب القوانين الوضعية - لماذا لم يسم النبي - صلى الله عليه وسلم - من يخلفه - تحقيق أنه عليه السلام جاء للمسلمين بشرع يرجعون إليه في الحكومة بعده - حكومة أبي بكر وسائر الخلفاء الراشدين دينية - أسباب سيادة الإسلام لعهد الخلفاء الراشدين - بيعة أبي بكر اختيارية إجماعية - كلمة في سيرة أبي بكر - هل يقال: خليفة الله؟ - حكم المرتدين في الإسلام - حكم مانعي الزكاة - سبب حروب أهل الردة ومانعي الزكاة - واقعة قتل مالك بن نويرة - حكمة رأي أبي بكر في تلك الحروب - لا حرية للشعوب الإسلامية إلا أن تساس على مقتضى شريعتها - ضلالة فصل الدين

عن السياسة - خير نظام للحكم - العرب والسياسة - الخلافة الإسلامية - السياسة الرشيدة في الإسلام - الدهاء في السياسة - الشعور السياسي في الإسلام.

من رسائل الوفاء

من رسائل الوفاء إن اهتمام السادة العلماء الأفاضل، والأدباء والباحثين وطلاب العلم بآثار الإمام محمد الخضر حسين بلغ درجة عالية من حسن القبول، والاستبشار بصدورها ونشرها، ولقيت ترحيباً بالغاً من المؤسسات العلمية والجامعات في أنحاء العالم الإسلامي. تحت يدي عشرات الرسائل التي أثلجت صدري، ومسحت عن جبيني التعب والجهد، وأنعشت القلب بطيب شذاها وبديع سناها، وكأن دماً نقياً جديداً سرى في الأعراق، ووجدت أن العمل الذي قمت به طيلة ثلاثين عاماً أتى كله ثمراً يانعاً في الحياة الدنيا، ودعاؤنا أن يتقبله الله - جل جلاله -، ويكون في مقدمة صحيفة الحساب يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. تستحق تلك الرسائل المعبرة عن الوفاء للإمام، أن تعرض على صفحات الكتاب، وهي قطع من الأدب الرفيع، تتلمس الصدق في كلماتها، وتستنشق عبير المحبة من خلف حروفها، ولكنها على كثرتها، فإني أنشر بعضاً منها. أما الرسائل الأخرى فإلى ميدان آخر -إن شاء الله-. علي الرّضا الحسيني

الجمهورية التونسية - رئاسة الجمهورية الكتابة الخاصة (عدد - 4541)

الجمهورية التونسية - رئاسة الجمهورية الكتابة الخاصة (عدد - 4541) تونس في 14 سبتمبر 1972 - دمشق الحمد لله وحده. حضرة الفاضل المحترم المحامي الأستاذ علي الرضا التونسي. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وافت فخامة رئيس الجمهورية التونسية السيد الحبيب بورقيبة هديتكم الكريمة المتمثلة في مجموعة من التآليف القيمة للعلامة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين، التي توليتم الإشراف على طبعها ونشرها. وإنه ليطيب لي أن أتقدم لكم بخالص تشكرات سيادته وتقديره الكبير لعنايتكم بآثار فقيد الأمة الإسلامية الشيخ محمد الخضر حسين، ونشرها للناس، وفاء لهذا العالم الجليل، وخدمة للحركة الإصلاحية التي كان الشيخ من ألمع قادتها ومؤسسيها. وإني أرجو في الختام التفضل بقبول فائق الاحترام والتقدير. وفي حفظ الله دمتم. والسلام. رئيس الكتابة الخاصة علّالة العويتي (توقيع)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الصديق العزيز الأستاذ علي الرضا الحسيني المحترم. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. وبعد: فآمل أن تكون سعادتكم في أوفر صحة، وأتم رفاهية، وكذلك جميع أفراد العائلة العريقة ذات المكانة الرفيعة، والمنزلة العالية. عزيزي! منذ فترة انقطعت رسائل الاتصال بيننا؛ لظروف تتصل بمشاغل الحياة، والبحث العلمي والأدبي، وكل هذا لن ينسينا عظيم كرمكم، وجميل تعاونكم في إنجاز رسالتنا العلمية للدكتوراه عن الأديب الإسلامي الكبير (محمد الخضر حسين وأثره في النهضة الأدبية الحديثة)، والرسالة -والحمد لله- قد أنجزت. وسوف أرسل لسعادتكم نسخة منها؛ لتلمسوا بأنفسكم مدى الجهد الذي بذلته في إعطاء رائدنا ما يستحقه من التكريم الذي نشرف به جميعاً. علماً بأن الرسالة تقع في حوالي 400 صفحة عدا ذيل بالمصادر والمراجع (¬1). أحمد يوسف محمد خليفة جمهورية مصر العربية - قنا كلية الآداب - قسم اللغة العربية تحريراً في 3/ 12/ 1400 هـ ¬

_ (¬1) هذا النص مختصر من الرسالة المطولة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى فضيلة الأستاذ المحامي الكبير السيد علي الرضا الحسيني. حفظه الله تعالى ورعاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فأتقدم إليكم بخالص الشكر والتقدير على جهودكم الطيبة المباركة بنشر الكتب المفيدة، التي يستفيد منها كل طالب علم وفقه الله لاقتنائها. ومن أهمها: مؤلفات الإمام الأكبر محمد الخضر حسين شيخ أهل عصره -رحمه الله تعالى-. وقد اقتنيت كثيراً من تحقيقاتكم ومنشوراتكم، وإني أطلب منكم، وألتمس من فضيلتكم أن تدلوني على كتاب "عمدة الأثبات - في الاتصال بالفهارس والأثبات) لخال والدكم المحدّث محمد المكي بن عزوز، وإن كان لديكم نسخة، فأرجو إرسال صورة عنها، وذلك لحاجتي الماسة لها. كما أنه يوجد ترجمة جميلة للسيد محمد المكي في كتاب "فهرس الفهارس" لتلميذه السيد عبد الحي الكتاني، فلو نشرتموها في مقدمة أحد كتبه، لكان حسَناً، كما فعلتم في الكتاب المسمى "رسائل ابن عزوز". والسلام عليكم ورحمة الله. محبكم محمد عبد الله الرشيد (¬1) الرياض - المملكة العربية السعودية الثلاثاء 4/ 5/ 1414 هـ 11451 - ص. ب 2187 ¬

_ (¬1) باحث إسلامي، ومن أهل العلم العاملين في ميدان الثقافة، ومن المهتمين بالكتب الإسلامية ونشرها.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فضيلة الأستاذ المكرم علي الرضا الحسيني المحامي - وفقه الله لكل خير. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد (¬1): فقبل الشروع في المقصود، أتوجه إلى الله العلي العظيم أن يديم لك سوابغ نعمه، ويبلغك رضاه، ويلبسك لباس التقوى، ويزينك بزينة الأيمان، وبمتعك ببهجة الحياة. سعادة المحامي! وصلت الكتب التي بعثتم بها إلينا، وصلكم الله بطاعته، فلقد تكرمتم علينا بأمر منيع الطلب، صعب المرام، بعيد المنال، كانت الحاجة تلفجنا إليها دائمأ، حتى زالت تلك اللفجة، فبوصول الكتب سدت شفاف المطامع، وملئت أجواد الاَمال. كنا من قبل نرنو إلى كتب العلامة الشيخ محمد الخضر بالأبصار، ونتعلق لها بالآمال، ونتطاول لها بالأعناق، ونسمو إليها بالأنظار، ونشهوا إليها بالنفوس، ونشرئب إليها بالقلوب، حتى وصلت إلينا من طيب الثناء، ¬

_ (¬1) خطاب كريم سعدت به من علماء أفاضل، وهم السادة: الأستاذ عبد الله بن عبد الرحمن الشثري، والأستاذ جديم محمد الجديم، والأستاذ رياض محمد المسيميري من جامعة محمد بن سعود الإسلامية - كلية أصول الدين - قسم المَرآن وعلومه - الرياض. رسالة تدل على مكارم أخلاقهم، وسمو فصاحتهم ويلاغتهم، وصفاء محبتهم للإمام محمد الخضر حسين، جزاهم الله خير ما يجازي به العلماء العاملين، وأحمد الله تعالى لهم ولي على نعمة الإسلام.

وجميل الذكر، وجم الفضائل، وكريم المعدن، وسليل الوفاء، وأليف المودة، وقريب الخلة. أيها الأستاذ الفاضل! نستأذنكم على استحياء في عتاب رقيق، حيث إنكم لم تشبعوا رغبتنا، ولم ترووا ظمأنا بتكميل مؤلفات العلامة الشيخ محمد الخضر حسين، ولعل لكم عذراً في ذلك. ونرجوا في المستقبل القريب أن تحققوا لنا ذلك. والله نسأل أن يضاعف لك الإحسان، ويمتعك بصحبة النعمة ولباس العافية، ويصلح لك أحوالك، ويحقق لك آمالك، زادك الله توفيقاً وتسديداً، ووفقك للأعمال الصالحة، وزادك الله من فضله، ولا أخلاك من إحسانه. كما نسأله تعالى أن يصل الحبل، ويجمع الشمل، ويرزقنا اللقاء، إنه قريب يسمع ويجيب. وفقك الله للحق تؤيد سواعده، وللصدق تشيّد قواعده، وللعمل تعلي معالمه. وختاماً: فإن ما وصلنا جهد مشكور لكم، ونحن على أتم الاستعداد لتقديم ما نستطيعه من خدمة لكم في أي وقت وآن. وتقبلوا تحياتنا. وكتب عبد الله بن عبد الرحمن الشثري جديع محمد جديع رياض محمد المسيميري جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلية أصول الدين - قسم القرآن وعلومه حرر في فجر الثلاثاء 27/ 10/ 1415 هـ - الرياض

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سعادة الأخ المحامي الأستاذ علي الرضا الحسيني الموقر -حفظه الله-! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تحية طيبة مباركة وبعد (¬1): فكم كنت مستشرفاً لآثار سماحة شيخ شيوخنا عمكم العظيم -طيب الله ثراه-، ومتمنياً دراسة مصنفاته، والإفادة من بحار علمه وفضله. وكنت أرى الكتاب تلو الكتاب في الأسواق، أو في أيدي الأصحاب، فأشتد لاقتنائه شراء أو استيهاباً أو عارية، لأني أعلم قيمتها الرفيعة، ومزاياها المنيفة، حتى جاء يوم علمت فيه بتشريفكم إلى مبنى الجامعة، جامعة العلوم الإسلامية والعربية - على غير موعد - فكان من سوء حظي أني لم أشرف برؤياكم، ثم قدمتم إلى مكتبة الجامعة من آثار صاحب السماحة عمكم الكريم الإمام، ما تقر به عيون الباحثين -إن شاء الله- في الجامعة والمعاهد التابعة. ولقد توج ذلك كله تشريفكم ثانية متفضلين بإهداء أخيكم كاتب هذه السطور خادم العلم وأهله، ما تيسر الاَن من هذه الآثار العلمية الجليلة، والأسفار النفيسة، فطوقتم بذلك عنقي، وكنت بها حفيّاً، ودعوت الله لكم ¬

_ (¬1) نفحة من نفحات الإيمان خطتها يراع العالم الفاضل الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور، وهو الغني عن التعريف، كان الله معه في عمله الإسلامي، ورحم الله أباه العلامة الشيخ محمد صالح الفرفور الذي بث في صدور أبنائه عظمة الإسلام، فكانوا على سيرة أبيهم.

ببركة العمر، ويركة الوقت، وبركة الرزق، حتى تنشروا كل آثار الإمام - رضي الله عنه - الذي كان والدنا يحدثنا عنه بإكبار وإعجاب، ما بعدهما إكبار وإعجاب. هذا، وإن مكتبتي المتواضعة قد اكتملت بهذه الأعلاق النفيسة النادرة، كما أن مكتبة الجامعة قد شرفت باحتوائها هذه الآثار الكريمة الزاهرة. ولعل ما فاتنا اليوم من آثار الإمام العم والوالد الجليل -طيب الله ثراهما- مما نفد، يستدرك بهمتكم -حفظكم الله-، فأنتم -بلا ريب- غصن هذه الدوحة الباسقة، وخير خلف طاهر لخير سلف زاهر، ولعلكم بعلي همتكم القعساء تجددون مجد الآباء وكنوز الأجداد -إن شاء الله-: وهل ينبت الخطيَّ إلا وَشيجُه ... وتطلع إلا في منابتها النَّخلُ أما بعد: فإني في هذه العجالة لأسجلُ شكري العظيم لهذا الجهد المشكور العظيم، ولا يفوتني أن أنوّه بأن كثيراً من هذه المؤلفات القيمة الخالدة كان من مناهج الجامعة والمعاهد التابعة قبل هذا التواصل الكريم؛ لما وقر في نفوسنا من عذوبة هذه الينابيع وأصالتها وطيبها. فكيف بعد هذا التواصل الذي بدأتم به مشكورين، يوم كنتُ فيه من قبل من المقصرين. وما ذلك عن قلى، بل عن زحمة أعمال تقدرونها، وسيادتكم خير من يعذر. لهذا كله، فإن أكثر هذه الموضوعات، ستكون -إن شاء الله- من المقررات والمناهج التي يطالب بها الطلبة والباحثون. ويعضها مراجع ومصادر للبحث العلمي، ولا سيما في قسم الدراسات العليا للماجستير والدكتوراه -إن شاء الله-.

شكر الله لكم جهدكم المبرور، وسدد خطاكم، وتقبل منكم، ورحم الله الأشياخ العظماء، وجعل فيكم وفي إخوتكم الخلف الصالح. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أخوكم الدكتور عبد اللطبف الفرفور رئيس المجمع والجامعة دمشق 26/ 4/ 1417 هـ 9/ 9/ 1996 م

النشرة الأدبية الأولى لجمعية شباب الخضر بن الحسين النفطي

النشرة الأدبية الأولى لجمعية شَباب الخضرِ بن الحُسينِ النفطِيّ أرض الجريد دنيا من السحر والجمال، والإبداع في الطبيعة، وواحة من واحات الخلد، تاريخها مجد عريق بالأنفة والكبرياء، وعرفت باسم: (الكوفة الصغرى)؛ لما اشتهرت به من ثقافة، وما عرف في أبنائها من عقول نيرة، وقلوب مؤمنة. وقد جمعت بين الجمالين: جمال الطبيعة، وجمال مكارم الأخلاق العربية الأصيلة؛ من كرم، وصدق، وبطولات. ومدينة "نفطة" من أرض الجريد في الجنوب التونسي، مولد الإمام محمد الخضر حسين، وفيها نشأته الأولى، وقد أحبه أهلها، وفاخروا وتباهوا فيه، ولم يتركوا مناسبة إلا عبّروا بها عن اعتزازهم بابن مدينتهم الذي انتقل منها عالماً مجاهداً حتى وصل إلى إمامة مشيخة الجامع الأزهر. من مظاهر التكريم والاعتزاز: قيام جمعية أدبية راقية في مدينة تونس تحمل اسم (جمعية شباب الخضر بن الحسين النفطي)، وإصدار نشرة باسمها (النشرة الأدبية لجمعية شباب الخضر بن الحسين النفطي). وبثت لها الدعايات في الصحافة التونسية (¬1). ونشرت صحيفة "الأسبوع" التونسية في عددها الصادر ¬

_ (¬1) نجد مثلاً في صحيفة "لسان العرب" العدد (80) من السنة الثانية الصادر (يوم الأربعاء 11 جمادى الثانية 1367 هـ - 21 إبريل نيسان 1948 م) إعلاناً ضمن إطار بالخط الكبير (انتظروا ... نشرية ... جمعية شباب الخضر بن الحسين النفطي).

يوم الأحد 25 أفريل نيسان 1948 صورة للإمام في صدر صفحتها الأولى قائلة: "زينا صدر جريدتنا بصورة العلامة العبقري، والمصلح الكبير الشيخ محمد الخضر حسين؛ تنويهاً بالمجهود الذي يقوم به لفائدة قضية المغرب العربي ببلاد الكنانة، مع إفادة القراء بأن جمعية شباب الخضر حسين التي مقرها الحاضرة، وتعمل لفائدة المزاولين للتعليم بالكلية الزيتونية، قد عزمت على إصدار نشرة باسمها تحتوي على مباحثات علمية وأدبية نظماً وشعراً، هي الآن تحت الطبع، فنلفت إليها الأنظار". وصدرت النشرة الأولى، وطبعت بمطبعة الشريف - تونس 15 نهج المبزع، في 16 صفحة. وقد أثبتناها في الكتاب كاملة، وعلى الشكل الذي صدرت فيه، دون أي تعديل؛ خدمة للتراث. ولعل تأسيس الجمعية باسم الإمام، ثم صدور نشرة أدبية عنه باسمه، قد أثار حفيظة من لا يريد الخير لتونس، وهو في مركز المسؤول في الدولة، ويكره أن يعتز التونسيون بالعظماء من رجالهم؛ لأنه يريد تاريخ تونس خالياً فارغاً من العباقرة الأفذاذ، فعمد إلى تعطيلها وإلغائها. وقد اطلعت على مقال في صحيفة "أفريقيا الشمالية" الصادرة بتونس - العدد رقم 24 (يوم الثلاثاء 5 رمضان 1369 هـ - 20 جوان حزيران 1950 م) بقلم (ابن "نفطة" المطلع) تحت عنوان: (كيف وقع طعن "نفطة" من بعض أناس يدعون الوطنية)، وهو بحث طويل نقتطف منه ما يلي: "قبل كل شيء نلفت أنظار المعتدين على كرامة مدينة "نفطة" وعظمائها وأهاليها بصفة عامة، بأن هذه المدينة مدينة عريقة في المجد، وكانت في القديم تسمى: (الكوفة الصغرى)؛ كناية عن انتشار العلم بها، كثرة علمائها ومفكريها.

ولقد أنجبت عدة عظماء في عدة ميادين، أنجبت ذلك البطل الخطير طارق بن زياد فاتح الأندلس، كما أنجبت ذلك المصلح الجريء أبا علي السني، والعالم الإمام ابن خلف، والعالم الأصولي محمد بن إبراهيم، والعالم العظيم محمد المكي، والفيلسوف الديني الزعيم الشافعي الشريف، كما أنجبت غيرهم ممن لهم مقام ممتاز، وهم كثيرون. هذا من حيث الماضي، أما في عصرنا الحاضر، فقد أنجبت مدينة "نفطة" العالم العلامة الشيخ الخضر بن الحسين نزيل الديار المصرية، وشهرته تغني عن التعريف، وأنجبت أخاه العالم اللغوي المعروف الشيخ زين العابدين ابن الحسين نزيل الديار الشامية. والأستاذ محمد الصالح المهيدي، والشاعر العبقري الأستاذ مصطفى خريف، وغيرهم من العظماء المعاصرين. هذا والشيء الذي يعنينا في هذه العجالة، هو بيان الاعتداءات التي وقعت على "نفطة"، واهتزلها سكانها، والتي مصدرها بعض من ينتسبون للوطنية، ويدعون أنهم يخدمون بلادهم، والحال أنهم على العكس من ذلك يخدمون ضدها، وبا ليتهم يشعرون. وإلى القارئ الكريم جانباً من الاعتداءات التي طعنت "نفطة" في الصميمم. أولاً: لما ظهر لتلامذة ("نفطة" الزيتونيين) بأن يؤسسوا جمعية تجمع شملهم، وتساعد فقيرهم، اتفقوا على تسميتها (بجمعية شباب الخضر بن الحسين النفطي) وبعد أن شكلوا هيئتها، ونشروها على ألسنة الجرائد، وقع إعلام مسيّريها من بعض الأنانيين السياسيين، بأن يتراجعوا في هذه التسمية، ويسموها باسم آخر؛ لأن الخضر بن الحسين -على زعمهم- لا يستحق هذا

الالتفات، وما إن سمع التلاميذ بهذا الاقتراح الخبيث، حتى قاموا بضجة ضد هذا التدخل الذي لا حق لهؤلاء المتطفلين فيه، وتبين لتلامذة "نفطة" الأباة من ذلك الوقت، كيف أن الوطنية أصبحت ألعوبة عند هذا البعض الذي صار لا يفكر في الاستعمار وكيف يقاومه، وإنما يفكر في الانتقام من عظمائنا، ويسعى في محو أسمائهم من عالم الوجود، فيا لها من أنانية لا تشرف صاحبها، بل وتبعده عن الوطنية الحقة، وتجعله في الحضيض". أحببت "نفطة" من الوجدان، وشددت إليها الرحال في كل عام زرت فيه تونس، وبواحتها الرائعة، وتحت ظلال نخيلها اليانع قلت الشعر الذي يمثل صفاء المحبة لها. ومنه (¬1): ضممتِ بصدرِكِ كلَّ الجمال ... وغيرُكِ ضمَّ الأسى والحجر ربيعُك كلُّ فصول السنين ... ويسكن فوق سماك القمر و (دِقْلةُ نورٍ) غذاء الحياة ... ونخلك أحلى صنوف الثمر ومما قلته فيها أيضاً (¬2): قالت: أراك بذكر "نفطة" هائماً ... ماذا بها؟ حتى رماك هواها إن كان واحتها سبتك بنظرة ... فهناك واحات الجمال سواها فأجبتها: لو تعرفين محبتي ... لترابها وهوائها وسماها ¬

_ (¬1) ديواني "قلب شاعر"، وقدمت الأبيات بقولي: "نفطة: واحة النخيل في جنوب تونس - إني أراها قطعة من الجنة". (¬2) ديواني "بثينة"، وذكرت في المقدمة: "أحببت نفطة مدينة النخيل في الجنوب التونسي، مثوى الجد مصطفى بن عزوز، ومولد العم الإمام محمد الخضر حسين".

يكفي جمالاً مع جلالٍ أنّها ... ضمّت ولياً صالحاً بثراها من طيب ساكنها المطهّر (مصطفى) ... من آل عزوزٍ تطيب رباها يا روضةً ولد (الإمام) برَحْبها ... فسما بها التاريخ نحو علاها أضحت مزار القاصدين تبركاً ... والباحثين بعلمها وسناها شُهرَت بفضل (الخضر) حتى أصبحت ... أم المدائن لا يُزار سواها وقلت فيها (¬1): إيه يا "نفطة" الحبيبة مهلاً ... أنا من جاب في الهوى الآفاقا لا عُجاباً أني عشقتك أرضاً ... وسماء وواحة ورواقا لا أبالي ما قال زيدٌ وعَمْرٌ ... لم يكنّا إليك مثلي اشتياقا أيها المدّعون حبَّ الثريا ... لم تكونوا فيما أرى عشّاقا إنما الحب حبّ "نفطة" يروي ... للشفاه العطاش كاساً دهاقا وفي الجدّ لأم الوالد سيدي مصطفى بن عزّوز قلت (¬2): مرقد الطهرفي أجلّ الرموس ... ضاء كالشمس من علاء الشموس هو وجه الخيرات وهو منارٌ ... وملاذ من هول ليل عبوس أقبلت نحوه المكارم تسعى ... بابتهال وحانيات الرؤوس ¬

_ (¬1) ديواني "تونسيات"، وقلت في المقدمه: "بلدة نفطة في الجريد بالجنوب التونسي، واحة جميلة، بل أجمل الواحات، وإليها يعود أصل العائلة في تونس". (¬2) ديواني "تونسيات" - أبيات قيلت بعد زيارتي للزاوية العزوزية في مدينة "نفطة" بالجنوب التونسي.

يتناهى إليه كل فخارٍ ... ولذاك المقام شوق النفوس سائلوا "نفطه"الحبيبة عنه ... هو بالفضل مثل غيث نفيس يا (ابن عزوز) هل قبلت سلاماً ... عن حفيد أتى بقلب أنيس وفي "نفطة" قلت (¬1): وما كلّ الحسان كحسن ليلى ... ولا جنّات "نفطة" كالجنان بلادٌ رصَّع الخلّاق فيها ... مناظر من زبرجد في جمان ولا تهوى العيان سوى رؤاها ... ومرآها ببالي كلَّ آنِ فراديس يحيط بها نخيلٌ ... مباهج في الزمان وفي المكان و (دقلتها) هو العسل المصفى ... ونخلتها عروس في المغاني سلوا عنها ليالي باسمات ... سلوا عنها عبير الأقحوان إذا مرَّ النسيم على رباها ... يقبّل خدَّها قبلات عاني إليها حجَّ عشاق الأماني ... ونادوا: يا لساحرة الزمان وبعد: هل أوفيت "نفطة" حقها في شعري؟؟. علي الرّضا الحسيني ¬

_ (¬1) ديواني "تونسيات".

النشرة الأدبية الأولى لجمعية شَباب الخضرِ بن الحُسينِ النفطِيّ

كلمة الافتتاح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كلمة الافتتاح في العام الماضي فكرت نخبة من شبان "نفطة" العاملين، في إنشاء جمعية تكون رابطة متينة بينهم، ووازعاً يدفعهم إلى الأعمال الجدية المثمرة متعاونين في مضمار العلم والأدب. فأنشأت هذه الجمعية التي اختارت لها اسم: (جمعية شباب الخضر بن حسين النفطي)، ذلك الرجل الذي يحق لتونس أن تفتخر به، ويحق للشبان أن يقتدوا به في جهاده العظيم في سبيل العلم والثقافة، والدفاع عن وطنه الذي ما هجره إلا لإعلاء شأنه، والكفاح في سبيل العروبة والإسلام. فكان لتأسيسها الوقع الحسن في نفوس مواطنينا الأعزاء، ولاقت منهم التشجيع والتأييد مادياً وأدبياً؛ مما جعلها تدأب في طريق العمل بنشاط، وأتت بنتائج حسنة، أهمها: إعانة المعوزين من تلامذة "نفطة" بقسط من المال غرّة كل شهر، وبلغ عدد المعانين 15 فرداً. وفي شهر فيفري المنصرم، أرادت تجديد هيئتها، فوقع ذلك بالانتخاب العام السري، فانتقلت بذلك إلى أيدي شبّان عاملين مخلصين، تصدّوا للعمل النافع بنشاط، وأودع فيهم إخوانهم ثقتهم بهم، يشعرون بهذا الواجب الملقى على عواتقهم، الذي إن قاموا به أحسن قيام، كان لهم الشكر، والثواب من الله، وأعدت الهيئة الجديدة قانوناً داخلياً فيما ستقوم به من أعمال -إن شاء الله-،

كما قسمت أعمالها إلى لجان مختلفة، كل واحدة تقوم بمهمتها. على أن هذه الهيئة الجديدة، تتكل على الله في أعمالها أولاً، وعلى أبناء "نفطة" الذين نرجو منهم التأييد، والملاحظات الحسنة في سيرها، والنقد النزيه. ولا تشك في أنهم سيقابلون هذه النشرية المتواضعة التي تعد (زهرة أولى) بالتشجيع، حتى تستطيع أن تخرجها مرة أخرى في نطاق أوسع، وعلى الله الاتكال. الرئيس الطيب بن عبد الملك

نبذة من تاريخ "نفطة"

نبذة من تاريخ "نفطة" - قسطلية - كتهوار - أقارسل نبت - زعفران وحمزة - فورشانة - فطناسة ودرجين - "نفطة". اتفق المؤرخون العرب، وفي طليعتهم ابن الشبّاط التوزري (ترجمة م. أفلوري): بأن مؤسس مدينة "نفطة" كان قسطل بن نوح - عليه السلام - بعد الطوفان، وإنما عرفت باسم مؤسسها. واعترف المؤرخون الغربيون بوجود علاقات سياسية واقتصادية في تلك العصور السحيقة بين أهل "نفطة" وإخوانهم الساميين أصحاب أعالي وادي النيل، ودلتا مصر، والصحراء الغربية، ومجانسة في اللغة والعادات (راجع: مجموع "مجلة قرطاجنة التونسية" سنة 1890: الهجرة المصرية، وعام 1895 و 1899: هجرة الرعاة). ثم قالوا: اختفت القسطلية بعد ثلاثة قرون من تأسيسها، وظهرت شمالها (في مكان زاوية الشيخ أحمد بن الحاج المصري سيدي حمد الآن الذي هاجر إلى "نفطة" سنة 815 هجرية) مدينة "كتهوار"، وأصحابها من النفتوهيم من أبناء كاسلوجين ابن مصراتم بن سام بن نوح - عليه السلام -، ومصراتم وكوش أخوان، والنفتوهيم أول شعب آمن بالشمس وقدسها، واتخذ لها معابد ومحاريب في التاريخ، وأول شعب عرف باسمها. وكتب العلامة (دي أكلام) رسالة قيمة نشرها المؤتمر الجغرافي العالمي

سنة 1889 في أصول عبادات الوثنيين، حاول فيها إثبات اقتداء وتقليد الرومان للساميين، وأخذهم عبادة آلهة الأنهار والعيون عندهم، وتحريفهم اسم نفتوهيم السامي إله الشمس الأعظم والقوة والجمال ورمز الوجود والخير، ورب النيل الأكبر إلى نبتوم إله المياه. وكان تأسيس "كتهوار"سنة 2300 قبل الميلاد، أسسها النفتوهيم الفارين من مصر لجوار إخوانهم بمدينة "القسطلية" اتقاء غزوة وسلطان الرعاة (الهيكسوس)، وأسسوا بلداناَ بأسماء مدائنهم المفقودة للذكرى والعبرة. و"كتهوار" من أشهر مدنهم التاريخية، وترجمها (دي أكلام) من اللغة المصرية (كتر): المبعدون، (هوار): مدينة هوار: المبعدون من مدينة هوار. و"نفطة" ماخوذة من فتاه: ظرف مكاني معناه: معبد، أو دار، وحرف علة أيضاً من الكلمة المصرية: ها ... كا .. فا .. ، فتكون "نفطة": دار، أو معبد الشمس. وقربت (¬1) "كتهوار" بعد خمسة قرون من تأسيسها، وظهرت في مكانها مدينة "أقارسل نبت"، وهي التي أدركت الفتح الروماني، وذكرها (ابتولومي) سنة 141، و (ينجور) 393 ميلادية بحروف كبيرة، مما يدل على مكانتها، وهي التي ولد بها الفيلسوف الديني الايتوس) القبطي الشهيد الذي قتله الوندال، وكتب حياته ودرسها كل من (فيكتوردي فيت)، و (فيكتور دي تونان) في رسالتين، وإلى اليوم تحيي الكنيسة الكاثوليكية ذكره، واكتشف مكانها وضبطه الرحالة (دفوري) سنة 1861، وترجمها العلامة (تيسو) في الجزء الثاني من كتابه "جغرافية أفريقيا الشمالية" من اللغة المصرية القديمة إلى أقار ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الكلمة: (خربت).

سل - نبت. أقار ... لأبناء .. ر .. بين. س ... من. ر ... ل .. نفت .. نفتاه، ومعناه: الأشراف من بين أبناء النفتاه. وهي التي صالح أهلها عقبة ابن نافع سنة 65، وقاوموا حسان بن النعمان، فخربها عقاباً، وهي التي ولد بها طارق بن زياد البربري مولى موسى بن نصير فاتح الأندلس، كما حقق المؤرخ (دي أكلام) عن كلامه عن أشهر أخبار وحوادث مدينة "نفطة" في التاريخ. وبعد تخريبها، ظهرت بالقرب منها مدن "زعفران وحمزة" سنة 70 هجرية، وخربت "زعفران" سنة 122 هجرية من عبد الله بن صفوان الكلبي بعد انتصاره على ثورة البربر الكبرى، ومشاركة أهلها للهوارة. ثم ظهرت مدينة "فورشانة" غربي الواحة في مكان بساتين بلاق البهوب وابن عياش. وابن نور اليوم قرب زاوية أبي الحسن إسماعيل المعروف بسيدي حسن عياد، وهو حديث عهد عمر في أول القرن التاسع، وهي التي ولد بها ابن الزقاق صاحب "الافتراق الخامس في مذهب الوهبية" في قنطارة إحدى أرباضها، كما ذكر أبو زكرياء في "تاريخه"بترجمة المستشرق (أميل ماسكراي)، وهي التي عرفت بالكوفة الصغرى في الشرق العربي، وخرّب فلفول بن خزرون صاحب طرابلس مدينة (فورشانة) سنة 387. وظهرت مدينتا (فطناسة ودرجين)، الأولى في الواحة، وهي التي نزل بها أبو علي الحسن بن إبراهيم (سيدي أبو علي) سنة 562، وكانت بين أهل المدينتين إحن وخلافات مذهبية، انتهت بقتل الشيخ أبي علي من يد إبراهيم النخيلي الدرجيني، وخراب "درجين " بواسطة حملة من أهل القيروان ونفزاوة بقيادة الشيخ يوسف الدهماني (المدفون قرب فسقية الأغالبة بالقيروان؛ كما

أثبت .. في كتابه دليل الرحالة في القيروان وسبيطلة والجريد) وفرار أهلها لواحة "ورقلقه "سنة 684، وخرب فطناسة الأمير أبو العباس بن أبي يحيى أبي بكر الحفصي سنة 735 انتقاماً من دويلة بني الخلف. ثم أسس أهل فطناسة مدينة عرفت بـ "نفطة" في مكان البلد الحالية الآن سنة 633، خربها أبو محمد الحسن بن المسعود بن المولى أبي عمر الحفصي؛ لثورة أهلها، وامتناعهم من دفع الأتاوات؛ لمحالفته الإسبان سنة 1534، ثم ظهرت مدينة "نفطقه"العامرة الموجودة من أرياض عشروات المدينة الأخيرة سنة 535 - 40 هـ. وفي إمكان الباحث والمؤرخ كتابة مجلد ضخم به أحاديث مجد وتضحية وفخار لكل مدينة من المدائن المختلفة، تحت اسم وحيوية وخلود اسم "نفطة" والنفتوهيم بين القرون.

والذكر للإنسان

والذكر للإنسان بقلم الأستاذ الجليل محمد الصالح المهيدي إنها لسنة حسنة هاته التي شرعها الشبيبة النفطية، وهي اختيار الاسم الذي وضعته عَلماً على جمعيتها؛ اعترافاً بما لشخصية المسلم الصادق، والعلم الفرد، الكامل الإيمان: محمد الخضر حسين من الخدمات والمزايا التي قام بها في حياته الحافلة بجلائل الأعمال لفائدة العروبة والإسلام. الخضر حسين الذي جاهد الباطل والمحسوبية، وكافح الجهل والأنانية، وتصدى لرد الباطل ودحضه أينما حل وارتحل، فكان موفقاً في عمله إلى أبعد حد. ومن أجدرُ بتخليد ذكرى اسمه، وهو حي يرزق، من رجل هاجر وطنه في سبيل الله، يوم كانت عوامل الطغيان والظلم تتوافر في هذا الوطن، فانتقل إلى المشرق، وطاف في أرجائه باحثاً عن وكر جديد، عششت فيه الحرية، إلى أن ألفى ذلك في بلاد الكنانة، فاستقر فيها كوكباً نيراً، يضيء أرجاء العالم الإسلامي شرقيه وغربيه، عربيه وعجميه. فأرشد بـ"نور الإسلام " السارين في ظلمات الجهال. وأنار بـ "الهداية الإسلامية" دجنة الغاوين المتمردين عن سبل الحق والرشاد، وحمل "لواء

الإسلام " بيد قوية، وساعد متين إلى عنان السماء، فأفاد المسلمين والمؤمنين. ولقد أصابت الشبيبة النفطية المرمى والمحز، فسجلت ذكرى حي يرزق؛ ليكون ذلك أدعى لشحذ القريحة، وحفز الهمة، وراحة الضمير، وذلك أدعى لنُجح العمل، نظير ما هو متوافر لدى الأمم الحية الناهضة التي تقدر أعمال بنيها البررة، فتخلد أسماءهم وذكرياتهم بما تقيمه من معالمهم ومنشآت. وأين هذا مما اعتادته بعض الأوساط التونسية، التي لا تقدر العاملين من أبنائها متى كانوا بقيد الحياة، ولا تساعدهم على سلوك العمل الذي يرتضونه لفائدة وطنهم، حتى إذا ما أدركوا الموت، حزنوا وتحسروا، وإن وجد من أصدقائهم أوفياء، قاموا بمآتم الذكريات يحيونها، ثم يندمون على ما فرطوا في جانب النبغاء، ولات حين مندم!. وإذا كانت الشبيبة قد خطر لها هذا الخاطر، أو لم يخطر حين فكرت في إنشاء جمعيتها الفتية، فإن المرجو منها، والمؤمل أن تكون عند حسن الظن بها، وأن تجعل من ذلك العالم العامل الجليل قدوة في مستقبل عملها؛ لتضيف إلى فخرها فخراً، ومجدها أمجاداً. محمد الصالح المهيدي

من حياة الشيخ الخضر بن الحسين

من حياة الشيخ الخضر بن الحسين ولد الشيخ الخضر في "نفطة الجريد" يوم 26 رجب سنة 1293، ونشأ فيها، وترعرع في وسط علمي إلى أن انتقل والده إلى العاصمة التونسية سنة 1306؛ حيث أتم تعليمه الابتدائي، والتحق بالزيتونة، وتخرج منها بشهادة التطويع سنة 1316، ومن أكابر أساتذته: الشيخ عمر بن الشيخ، والأستاذ محمد النجار، والشيخ سالم بوحاجب. وفي سنة 1317 عزم على الرحلة إلى المشرق، ليدرس حالته العلمية والاجتماعية، إلا أنه لم يتم رحلته، إذ اضطر للرجوع من طرابلس الغرب، وبقي بالزيتونة يفيد ويسفيد. وفي سنة 1321 أنشأ مجلة "السعادة العظمى"، فكانت من أحسن المجلات في ذلك العصر، تتبارى فيها أقلام الكتاب الزيتونيين في مختلف المسائل الدينية والأدبية، وقد لاقى في سبيلها ما يلاقيه كل مصلح من (المحافظين). وفي سنة 1323 تقلد منصب القضاء ببنزرت، كما عهد له بالخطابة والتدريس في جامعها الكبير، ولم يكن التوظف بالمقيد له عن القيام بواجباته الاجتماعية، من ذلك محاضرته (الحرية في الإسلام) التي ألقاها بنادي (جمعية قدماء الصادقية)، وكان لها تأثير كبير، ونشرت، فنقلتها الصحف، ولما أحس أن الحكومة تحاول أن تطفئ منه ذلك النور المشع، وتقتل روحه المتأججة؛

ليكون على ما عودت به سائر موظفيها من السكون والاستسلام في ظل مرتب، أبى عليه حزمه أن يكون ذلك المستضعف المغبون، فقدم تسليمه من وظيفته، ورحل للعاصمة متطوعاً بالقاء دروس بالكلية الزيتونية، وعندها عينته نظارة الجامع لتنظيم خزائن الكتب. وفي سنة 1325 تولى وظيفة التدريس بالجامع بصفة رسمية، وفي سنة 1326 عين مدرساً بالصادقية، وانتخبته الخلدونية لإلقاء محاضرات في الإنشاء، فقام بهاته الوظائف أحسن قيام، وكان لا يفتر عن إتحاف الشعب ببنات أفكاره؛ كمحاضراته: (حياة اللغة العربية). ولما قامت الحرب الطرابلسية، كان من أعظم الدعاة لإعانة المجاهدين في سبيل استقلالهم، وقام برحلة إلى الجزائر، زار فيها كر مدنها، وكان يلقي المحاضرات أينما حل، ويلاقي التعظيم والتبجيل. وفي سنة 1330 انتقلت عائلته إلى الشام، ونزلت دمشق، فالتحق بها ماراً بمصر، ثم سافر إلى الاَستانة، ودرس حالتها العلمية والاجتماعية، ورجع إلى تونس 1330 في ذي الحجة، ونشر رحلته على بعض الجرائد التونسية، ورجع لما كان عليه، وأول محاضرة ألقاها بعد رجوعه: (مدارك الشريعة الإسلامية)، وعينته الحكومة التونسية في لجنة تبحث عن التاريخ التونسي، إلا أنه في شعبان من هذه السنة، عزم على مفارقة مسقط رأسه بتاتاً، والهجرة إلى الشرق. سافر إلى الشرق بعد أن ودع أصدقاءه في الجزائر، حيث ركب من "عنابة"، فلما نزل بمصر، تعرف بكثير من دعاة الرابطة العربية، مثل: رفيق بك العظيم صاحب "أشهر مشاهير الإسلام"، والشيخ رشيد رضا صاحب

"المنار"، ثم سافر إلى الشام، فقوبل من طرف عظمائه بالترحاب، ونوّهت الجرائد هناك بمسامراته. وعزم على زيارة الإمبراطورية العثمانية، فنزل جنوباً حتى المدينة المنورة، وصعد شمالاً حتى الآستانة، ومن هناك تعين مدرساً للغة العربية والفلسفة بالمدرسة (السلطانية) بدمشق، وكان مثابراً على إلقاء المسامرات، ونشر المقالات الإصلاحية في الجرائد، واهتم بوجه خاص بالمشكلة العربية التركية، محاولاً تجديد روابط الألفة بين السلطنة العظمى، والأغلبية من رعاياها. ولما أعلنت الحرب العالمية الأولى، وتولى جمال باشا حكم المقاطعة السورية، كاد أن يكون أحد ضحايا الصرامة التي استعملها القائد مع كل من ينتمي إلى النهضة العربية؛ حيث ألقى عليه القبض بدعوى اطلاعه على حركة المتآمرين دون أن يحاول تنبيه السلطة من الأخطار، فاعتقله ستة أشهر وأربعة عشر يوماً، وظهرت براءته لما قدم للمحاكمة، فأطلق سبيله في ربيع الثاني سنة 1335، ورجع إلى التدريس بالمدرسة العثمانية، ثم نظم مسامرات علمية ودينية عالية لبعض طلبته المنتهين. واستمر على ذلك إلى أن استدعاه المركز سنة 1336 منشئاً حربياً بالوزارة، كما عينته المشيخة الإسلامية واعظاً بجامع (الفاتح)، فبقي في وظائفه إلى سنة 1337 التي فيها ارتباكات الآستانة، فرجع إلى دمشق، وما كاد يصلها، حتى عين عضواً بالمجمع العلمي العربي، ومدرساً بالمدرسة العثمانية، والمدرسة السلطانية، إلا أنه عزم على الذهاب إلى مصر محورِ النهضة العربية، فلم يباشر وظائفه تلك، فقصدها، وهناك في بلاد النيل ولي التصحيح بدار الكتب

العربية، ثم صرح له جلالة ملك مصر في دخول الشهادة العالمية التي ما كاد يحرز عليها، حتى انتدب للتدريس بقسم التخصيص. وفي سنة 1347 أضيف لدرس البلاغة الذي كان يلقيه لطالبي التخصص درسان آخران، أحدهما: في الوعظ والإرشاد، والثاني: في التاريخ. ومع ذلك لا ينقطع عن إلقاء المسامرات العلمية، والاجتماعات المؤيدة بروح الدين. وعمل في كثير من الجمعيات مثل: جمعية (الشبان المسلمين)، وأسس (الهداية الإسلامية)، كما تولى رئاسة تحرير كثير من المجلات والصحف؛ مثل: مجلة "الهداية الإسلامي"، والمجلة الكبرى "لواء الإسلام"، و"نور الإسلام". ونشر عدة كتب قيمة في العلم والأدب مثل: كتاب "نقض الشعر الجاهلي"، و"حياة اللغة العربية"، وديوانه الشعري. وهو الآن رئيس (جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا)، وركن من أركان النهضة العربية الحديثة في الشرق العربي الذين تفتخر بهم العروبة والإسلام. هكذا كانت حياة الشيخ جهاداً وكفاحاً مستمراً في سبيل إعلاء كلمة الإسلام والوطن العربي، -أطالها الله-.

28 - الإمام محمد الخضر حسين بأقلام نخبة من أهل الفكر

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (28) «الإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين بِأقْلاَمِ نُخْبَةٍ مِنْ أهْلِ الفِكْرِ» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

الإمام محمّد الخضر حسين هذا الإمام (محمَّدُ الخِضْرُ) الذي ... هزَّ السيوفَ وسدَّد الأقلاما فهو الفتى والكهلُ والشيخُ فسلْ ... عنه المنابرَ واسألِ الأياما في كلِّ ميدانٍ أتاه مجلِّياً ... رفعَ الأذانَ وحطَّم الأصناما ابن (الحسينِ) وابنُ سيدةِ النسا ... مَنْ أرضعتْه لبانَها إسلاما نسبٌ إلى شرف النبوة ينتمي ... أكرمْ به نسباً زكا إلهاما دع أصله وصفاتِه وانظرْ إلى ... أمجاده تروي لك الإقداما علي الرّضا الحسيني

مقدمة الكتاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الكتاب اطلعت من خلال الأعمال التي قمت بها منذ أكثر من عشرين عاماً، والتي تهدف إلى جمع وضبط وتحقيق آثار الإمام محمد الخضر حسين -رضوان الله عليه- على مجموعة قيمة من المقالات والدراسات والكتب التي تناولت سيرته من جميع نواحيها: الذاتية، والعلمية، في الصحف اليومية، والمجلات الأسبوعية والشهرية، أو المطبوعات المستقلة برسالة أو كتاب، موجزة في البعض، ومفصلة في البعض الآخر. وبعد أن أكرمنا الله -جل جلاله- بفضله وعونه، وتم جمع كل الآثار الفكرية للإمام، وطبعت ونشرت في كتب ورسائل تزيد عن ثلاثين مطبوعة، فقد اتجهت إلى بحوث السيرة، وانتقيت منها عدداً تكون طوع الغرض الذي أرمي إليه، وأهدف من مرماه غاية نبيلة تتجلى في التسهيل على الباحث والدارس وطالب العلم في معرفة حياة وآثار الإمام، ووضعت بين يديه مختارات تكون له العضد والسند في اختصار الوقت وبذل الجهد. عشرات الأقلام أفاضت في سيرة الإمام، منها: قلم الكاتب، وقلم العالم، وقلم الأديب، والمحقق، والصحفي، وطالب العلم، ورسائل جامعية عدة من مختلف الأقطار، وبإشراف أساتذة الجامعات -وأغلب أولئك الأساتيذ ممن أخذوا العلم عنه، أو تلاقت أفكارهم مع فكره المنير الحكيم- كُتبت ونشُرت بين الناس.

وهذا الكتاب "الإمام محمد الخضر حسين بأقلام نخبة من أهل الفكر" هو واحد من تلك الصحف المشرقة. انتخبت محتوى الكتاب، وقدمته عقداً يزين تاريخ الأعلام ممن صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ونخبت من الأقلام نخبة تناولت سيرة الإمام في مقال أو رسالة، وراعيت في الانتقاء: أ - انفراد البحث المنتقى بموضوع لم يتطرق إليه الآخر. ب - اختيار الكتّاب من أقطار عدة: من تونس، ودمشق، والقاهرة، والجزائر. جـ - التسلسل التاريخي في نشر البحث وصدوره. د - الإشارة إلى المرجع والمصدر لكل بحث في الهامش من صفحته الأولى. يلاحظ القارئ التشابه والتكرار بين كل الدراسات من جهة السيرة الذاتية للإمام؛ كالولادة، وتواريخ التعلم والتعليم، والتنقل والمهام والأعمال التي قام بها، منذ قدومه المبارك إلى الحياة الدنيا في مدينة "نفطة" في الجنوب التونسي، إلى يوم انتقاله -رضوان الله عليه- إلى رحاب الله في "القاهرة". ولكن القارئ سيجد بشيء من الروية والتدقيق أن كل بحث له ميزة عن الآخر، وأن الميزات كلها تعطي الصورة الأوضح لحياة الإمام ونتاجه العلمي. ومن تمام الفائدة المتوخاة في هذه المقدمة: أن نوجز بالتعليق على المنتخبات للتعريف بها. * "محمد الخضر بن الحسين": أول ترجمة عن حياة الإمام طلعت على الناس، تلك التي نشرت في

مجلة "البدر" التونسية للكاتب والأديب والصحفي التونسي زين العابدين السنوسي. وقد قدم الترجمة بقوله: "يظهر أن تونس لا زالت قاصرة عن كفالة عظمائها والنابغين من أبنائها، أو أن بها مرضاً -ونظنه سياسياً أكثر منه اجتماعياً- يجعلها غير المناخ الصالح لهؤلاء، فلا يكاد يشب أحدهم ويظهر، حتى يسلم وجهه شطر الشرق حيث النسيم يهب حراً مباحاً، فيجد مجال العمل والنبوغ مفتحاً بين يديه، ليس عليه إلا أن يكون عربياً مخلصاً عاملاً لأجل العرب ونفع العموم، فتستفيد منه حكومات هاتيك البلاد وشعوبها، بينما نحن نندب ثكل تونسنا، ونصمها بالعقم، منذ أنجبت أمثال الشيخ إبراهيم الرياحي، والمشير أحمد باي، والمصلح الخطير خير الدين، وأمثال هؤلاء النبغاء التونسيين الذين خلدوا لنا تاريخاً ماجداً. واليوم وقد عثرنا على مذكرات مهمة عن حياة أحد أولئك النابغين التونسيين في هذا العصر الذين اضطرهم نبوغهم إلى تحمل آلام الاغتراب -ألا وهو الأستاذ الشيخ الخضر بن الحسين- فرأينا أن نثبتها فيما يلي خدمة للتاريخ". وبعد المقدمة، أورد الكاتب ترجمة الإمام منذ الولادة، وحتى دخوله القاهرة. هذه الترجمة بنصها الكامل مع تحوير بسيط في بعض الكلمات حذفاً أو زيادة أو تنقيحاً. صدرت ضمن كتاب "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر" للأستاذ السنوسي، وقد اعتمدنا النص الوارد في الكتاب. ومما أراه من مميزات هذه الترجمة: أنها الأولى في بابها، والأساس

الأقوى التي قامت عليه التراجم اللاحقة. وأخذ أكثر الباحثين عنها، فهي من المراجع الهامة التي يعتد بها. * "الاحتفال بعودة الإمام من سورية": أقامت جمعية "الهداية الإسلامية" التي كان يرأسها الإمام محمد الخضر حسين في القاهرة حفلًا إسلامياً بمناسبة عودته من زيارة إلى دمشق عام (1356 هـ 1937 م)، وكانت كلمة الأستاذ محمود حافظ أحد أعضاء الجمعية في ذاك المنتدى الفكري من أهم الكلمات التي تحدثت عن حياة الإمام. * "شيخ الأزهر محكوم عليه بالإعدام": عنوان مثير، يخطف الأبصار، فتتهافت الأيدي لالتقاف المجلة، وقراءة التحقيق بمزيد من الرغبة والفضول. وهو أسلوب رجال الصحافة في انتخاب العناوين التي تملأ الآذان طنيناً ورنيناً. وقلم الأستاذ الصحفي أحمد لطفي حسونة من الأقلام المهتمة بالقضايا الإِسلامية، فقد صحب الإمام في مرحلة مشيخة الأزهر، ونقل أخباره وأعماله. وهذا البحث في حياة الإمام، بل التحقيق الصحفي لصحة التسمية، لا يعرف كاتبه تفاصيل سيرته، وإنما كان يتردد على مشيخة الأزهر ليلتقط عن النشاط الإِسلامي خبراً للصحيفة، أو يتبعه إلى المسجد ليصلي وراء الإمام، فأخذ منه معلومات صاغها في هذا التحقيقال في يمكن الاعتماد عليه، والوثوق به؛ لصدوره عن الإمام بالذات. يقول الأستاذ حسونة: "ويروي الأستاذ الأكبر قصة إفلاته من أيدي الفرنسيين، فيقول،. .". . . "ويقول الشيخ في تواضع وطيبة. . . "، وهذا بحث له ميزته؛ لأن جلّه من حديث الإمام.

ولا بد من الإشارة إلى سهو وقع فيه الأستاذ حسونة عندما قال: "ولم يرزقه الله أولاداً. . . "، والصحيح أن له ابنة من زوجته الأولى في تونس. * "معلوماتي الخاصة عن شيخي علامة العصر - الأستاذ محمد الخضر بن الحسين": كتب شيخ الصحافة التونسية الأستاذ الطيب بن عيسى حلقات في ترجمة الإمام، ضمنها معلوماته الخاصة عن شيخه علامة العصر كما أشار إلى ذلك في العنوان. نشرت في صحيفة "الأسبوع" التونسية، وهي ترجمة وافية وجامعة. وقد أعاد الكاتب نشرها بالنص الكامل في صحيفة "المشير" التونسية عنود انتقال الإمام إلى الرفيق الأعلى تحت عنوان "في ذمة الله -العلامة محمد الخضر بن الحسين- بقلم تلميذه الطيب بن عيسى". وليس في الطبعة المكررة سوى زيادة في المقدمة التي قال فيها الكاتب: "نعت قاهرة مصر الأستاذ الكبير، والعالم المديني الشهير، شيخي محمد الخضر بن الحسين، فكان للخبر وقع عظيم لدى الأوساط العلمية الراقية؛ لما له من المكانة في قلوب عارفي فضله وعلمه، لا سيما تلاميذه بتونس وسورية ومصر، ولمعلوماتي الخاصة عن تاريخ حياة هذا الرجل العظيم الذي لعب أدواراً سامية في عصره المحفوف بالمشاكل الدينية والسياسية، فسأنشر نبذاً تاريخية عن حياته العامرة بالأعمال الجسام تباعاً، وابتداءً من هذا العدد؛ إذ خسارتنا في فقده لا تعوض". وقد اخترنا النص المدون في صحيفة "الأسبوع"، وهي الأسبق تاريخاً. * "شيخ الأزهر السابق السيد محمد الخضر حسين": يقول الأستاذ محب الدين الخطيب في مطلع البحث: "وسأتحدث في

هذه الصفحات إلى إخواني من شباب المسلمين وكهولهم وشيوخهم عن مراحل حياة هذا الرجل المؤمن بالإِسلام، كما راقبتها فيه، أو علمتها منه، من سشة 1330 إلى أن اختاره الله إليه". وخير الأنباء ما يأتيك بها خبير صادق، والأستاذ الخطيب قضى برفقة الإمام ما يقارب من سبعة وثلاثين عاماً، فهو من الرجال القلائل الذين صحبوه هذه الفترة الطويلة، وأخلصوا له الود، واستمعوا إلى أحاديثه المطولة. ويمكن أن نعتبر التواريخ والوقائع التي أوردها الأستاذ الخطيب عن حياة الإمام هي الأصدق والأقرب إلى الحقيقة؛ لأنه كما يقول: "راقبتها فيه، أو علمتها منه". * "المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين": أقام مجمع اللغة العربية بالقاهرة حفل تأبين الإمام، وقد ألقى فضيلة الشيخ محمد علي النجار الأستاذ في كلية اللغة العربية بالأزهر كلمة تناول فيها حياته، وأعماله الجليلة، وآثاره الخالدة، وألقيت في جلسة المجلس العلنية في 31/ 3/ 1958 الدورة الرابعة والعشرون. * "الشيخ الخضر": للأستاذ أحمد حمزة الوزير السابق، وصاحب مجلة "لواء الإِسلام" الصادرة في القاهرة اعتقاد كبير بالإمام وصلاحه، وعلمه وتقواه. لذا نراه يقول في كلمته: "ومذ اتجهنا إلى إنشاء مجلة "لواء الإِسلام" نتقدم بها محتسبين النية خدمة لهذا الدين الحنيف، وبياناً لحقائقه، لم نجد علماً يحمل اللواء سوى الشيخ الخضر حسين". والأستاذ حمزة عندما يتحدث عن الإمام، فهو حديث عارف به، مرافق

له في رحلته وجهاده في "لواء الإِسلام" لنصرة الإِسلام. * "تونس تفقد عبقرياً من أبنائها بمصر": مقالة للأديب والصحفي الأستاذ علي الجندوبي في جريدة "النداء" التونسية، والمقال على إيجازه، فهو عرض سريع ومكثف لحياة الإمام وأعماله. * "محمد الخضر حسين - شيخ الأزهر السابق": الأديب والكاتب التونسي الأستاذ أبو القاسم محمد كرّو، كان السّبَّاق في وضع دراسة مستفيضة عن الإمام أصدرها في كتاب مستقل. وهو من المهتمين بأعلام تونس، وله فيهم دراسات قيمة. وهذا البحث تقدم نشره على خمس حلقات في الملحق الثقافي لجريدة "العمل"، التونسية ثم أعاد نشره في سلسلة "أعلامنا". بذل الأستاذ (كرو) جهداً في إعطاء ترجمة مسلسلة التاريخ، منسقة العرض، بديعة الأسلوب لحياة وأعمال الإمام محمد الخضر حسين، وكأني أحس من خلال قراءة الترجمة أن أديب تونس يوفي واجباً وطنياً ودينياً بذمته، ويحاول أن يزيح من سماء تونس غيوماً داكنة، نشرها جاهل ومغرور وأحمق فترة طويلة من الزمن، فأطبقت بكلكلها على تاريخ البلد والثقافة، فتصدى الأستاذ (كرو) للعاصفة الهوجاء، فأزاح عن تونس حجب الظلام، وأبان أنه في تونس "رجال أفذاذ في شتى ميادين الكفاح والنضال، وفي جميع نواحي الحياة الفكرية والأدبية والاجتماعية. فمنذ فجر يقظتها، وهي تلد الأفذاذ والعباقرة، كما تلد الأبطال والنبغاء في كل الميادين". ثم يصفع أديب تونس ذاك الجاهل والمغرور والأحمق صفعته، فيقول:

"وها أنا أختار واحداً من أولئك الأفذاذ النبغاء، الذين أنجبتهم هذه التربة الولود، رجل جمع إلى الذكاء والجد والحصافة والنبوغ، صفاتِ الشهامة والبطولة والإخلاص الوطني". وقد حييته بأبيات من ديواني "تونسيات" إثر إهدائه كتابه "محمد الخضر حسين شيخ الأزهر السابق"، فقلت: يا (أبا القاسم) يا أوفى أخٍ ... فاض آداباً وأرسى الخُلقا لك كفٌّ أبدعت في قلمٍ ... سطَّر الفصحى وأحيا الرمقا قد أضاء الدرب من إشعاعه ... فإذا الإشعاع طال الأفقا خفقت ألوية الفكر له ... فغدت تونس تحكي المشرقا * محمد الخضر حسين -عالم فذ، ومجاهد من الرعيل الأول": من كتاب "من الفكر والقلب" للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي اخترنا هذا المقال. وفضيلة الدكتور البوطي أحدُ الذين تلقوا العلم عن الإمام في الأزهر، وهو في مقاله هذا يضرب المثل السامي على وفاء المتعلم للمعلم، ويؤكد على رابطة الشرف والطهارة بين التلميذ وأستاذه. إن زيارة الدكتور البوطي للإمام في داره في أيامه الأخيرة، صفة من صفات العالم الفاضل الذي يذكر أهل الفضل، ولا ينسى أساتيذه الذين كانوا هداة طريقه، ومنارات حياته. وعندما قرأت ما كتبه في آخر المقال: "ولا أزال أذكر يوم عدته في السنة الماضية في بيته في القاهرة، رأيته جالساً على مقعد إلى جانب مكتبه، وقد ذوى

منه الشكل، وذابت معظم ملامح وجهه، وامتزجت - من الضعف - الكلمات بعضها في بعض على شفتيه، ورأيت -رغم هذا- قلماً يرتجف في يده. . . ". عندما قرأت هذه الكلمات، قلت: إن العلماء الأبرار يلاقون ربهم بذكر الله، وأقلام الحق قائمة في أيديهم. * "محمد الخضر حسين - عالم مجاهد": نشرت مجلة "الأزهر" في القاهرة بحثاً قيماً للكاتب الإِسلامي الدكتور محمد رجب بيومي. وقد عالج فيه الباحث أموراً شتى من حياة الإمام، وخص كتابيه: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، و"نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم" بعرض جيد، يستحق أن يحفظ في الكتاب. ولهذه الميزة في البحث ضممناه إلى المجموعة المختارة. ولا بد من الإشارة إلى السهو الوارد في المقال عن مكان مولد الإمام، فقد ذكر الكاتب أنه ولد بقرية من قرى الجزائر، والصحيح أنه ولد في "نفطة" بالقطر التونسي. * "محمد الخضر حسين ذلك الجندي المجهول": بحث له أهميته؛ نظراً للرابطة المتينة بين الإمام، والكاتب الشيخ عبد القادر سلامة. وعندما يتحدث التلميذ عن أستاذه بوقار واحترام، مع طول العهد، وبُعد الدار والمزار، فإن حديثه ينبع من فكر وقلب مؤمنين، فكر أحاط بالمعرفة، وتلقى العلم الصافي من معلم صافي السريرة. وقلب غمره الإيمان الممزوج بحب الشيخ لشيوخه. ولعل أهم ميزة اختص بها البحث: تناوله لأخلاق الإمام التي لمسها

منه بنفسه "كان خلقه قبساً من شمائل النبوة، ومشكاة من هدي القرآن"، والتي تتجلى في: - محبته لتونس الوطن الأم، وزيارته وحفاوته لكل تونسي يمر بالقاهرة، فيسأل عن أحوال تونس صغيرها وكبيرها. - حفاظه على المودة والإخاء، وجمع العاملين لتحرير المغرب. - مجلسه مجلس علم وحلم ودين ووقار. - اهتمامه بشؤون جميع المسلمين، وسعيه لجمعهم على العمل لطاعة الله وطاعة رسوله. ومن أجمل ما جاء في المقال: كلمات معبرة صادقة للشيخ سلامة إذ يقول: "وقد ترى أن النوابغ في المغرب، تشرق من المغرب، وتغرب بالمشرق". * "مع العلامة محمد الخضر حسين في جهاده": الأستاذ سعدي أبو حبيب جمع في قلمه خصائص لا تجدها إلا عند النادر من أصحاب الأقلام. قلمه لا يكتب إلا ما يؤمن به حقاً، وإن الكلمات التي يخطها جديرة أن تسطر على الكاغد. فهو قلم مؤمن صادق. وقلمه طيِّع في يد أديب، يجعل قراءة البحث المكتوب متعة أدبية للقارئ. وقلمه قلم باحث يكتب عن روية وتمحيص، ويضع الكلمة في موضعها اللائق، ويعرض الأفكار عقداً مترابطاً. وقلم المؤمن الصادق، وقلم الأديب البارع، وقلم الباحث المحقق،

كلها التقت في قلمه لتصوغ هذا البحث الممتع. * "محمد الخضر حسين - تونس 67 عاماً الاحتلال الفرنساوي": من سلسلة الكتاب الشهري لصحيفة "الحرية" بتونس: الكتاب الرابع تقديم وتحقيق الأستاذ كمال العريف. والمحققُ من الصحفيين والأدباء أصحاب الهمم السامية، والغيورين على تاريخ تونس، وقد أخذنا مقدمة الكتاب؛ لما تحويه من معلومات هامة. * "أعلام الجزائر - الشيخ الإمام محمد الخضر حسين": الأستاذ محمد الأخضر عبد القادر السائحي من الأدباء والصحفيين الجزائريين، أتى في جزء من دراسته على تلخيص لكتاب الأستاذ محمد مواعدة "محمد الخضر حسين- حياته وآثاره". أوردتُ المقالات والبحوث دون أي تعليق، رغم أن في بعضها من الفقرات ما يحتاج إلى رد، وإذا شئنا تهذيب اللفظ، فنقول: إن هناك أفكاراً وآراء تحتاج إلى مناقشة، وهي بالشكل المرسومة فيه، إذا عبرت عن نظرات أصحابها، فلا يعني هذا رضاءنا عنها، ولكل مجتهد نصيب فيما اجتهد به. لذا ندع التعليقات والإيضاحات إلى كتاب آخر -إن شاء الله تعالى-. وكنت قد خطَّطت أن أجمع كل ما قيل في الإمام محمد الخضر حسين -رضوان الله عليه- على أقلام العلماء والأدباء، ورجال الصحافة والسياسة، فوجدت أن الطريق سيطول، وأن هذه المرحلة في هذا الكتاب كافية الآن. وعسى أن نحقق الأمل مع الأيام القادمة. إن الإمام محمد الخضر حسين لم يكن تونسياً أو جزائرياً، أو سورياً

أو مصرياً، إن المكان لا يعني شيئاً بالنسبة له، فقد كان فوق النظريات الإقليمية، والدعوات الفاسدة. كان مسلماً حقاً، ومؤمنًا حقاً، وعالم الإِسلام هو عالمه الذي عاش فيه ومن أجله. وأروي في خاتمة المقدمة أبياتاً من شعر الإمام في ديوانه "خواطر الحية" يقول فيها: تسائلني هل في صحابك شاعر؟ ... إذا متُّ قال الشعر وهو حزين فقلت لها: لا همَّ لي بعد موتتي ... سوى أن أرى أخراي كيف تكون وإن أحظ بالرحمى فمالي من هوى ... سواها وأهواء النفوس شجون وإن شئت تأبيني فدعوة ساجد ... لها بين أحناء الضلوع حنين وما كتابنا هذا كيل مديح للإمام، والمديح والاطراء لا يقدم أو يؤخر عند ربه، ومرمانا أن ينهج سيرته مجاهد مؤمن، فيدعو للإمام في سجوده دعوة صالحة. فيكون هذا الكتاب دعوة ساجد لله يبثها من حنين يملأ أحناء الضلوع أن يجعله مع الصديقين والشهداء والأبرار والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. والحمد لله رب العالمين علي الرّضا الحسيني ربيع الأول 1413 هـ / أيلول 1922 م

محمد الخضر بن الحسين

محمد الخضر بن الحسين بقلم زين العابدين السنوسي (¬1) "الأديب والصحفي والمؤرخ التونسي، ولد بسيدي بوسعيد من ضاحية تونس الشمالية عام 1318 هـ - 1901 م. وتوفي عام 1385 هـ - 1965 م. مؤلفاته عديدة أهمها: الأدب التونسي في القرن الرابع عشر". * نشأته: ولد مترجمنا يوم 26 رجب 1293 هـ، بمدينة "نفطة" عاصمة الجريد التونسي، فنشأ في ظلال النخيل، وزقزقة (البوحبيبي) ذلك العصفور المتحبب الظريف، والمؤانس اللطيف، يرتل صلواته كل صباح على النوافذ وفوق الستائر، وقد يأنس فيقتحم سجف الفراش؛ حيث يقف على الوسائد نفسها، يقلب وجهه في النائمين، ويحييهم بأغنيته الرقيقة المبهجة، فيملي على الصغير من سيرة آبائه الثقات البررة ما يعلمه الصدق والدعة والأنس. نشأ هناك على سلامة الطوية والصدق، وترعرع على مبادئ الورع، وفي وسط علمي، إلى أن انتقل والده إلى العاصمة التونسية سنة 1306؛ حيث أتم تعليمه الابتدائي، والتحق في العام الموالي بالكلية الزيتونية، يدرس الدين ¬

_ (¬1) كتاب "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر".

واللغة إلى أن تخرج سنة 1316 بشهادة المعهد (التطوع) على أنه لم ينقطع عن حضور حلقات أكابر الأساتذة، مثل: الشيخ عمر بن الشيخ، والأستاذ محمد النجار، اللذين كانا يقرآن التفسير، والشيخ سالم بوحاجب في درسه "صحيح البخاري". * قبل مهاجرته: إلا أنه لم يكد يستقر على حاله هذا، ويرى تشابه يومه بأمسه، حتى عاف تلك الحياة المتماثلة، فعزم على الرحلة إلى الشرق؛ ليدرس حالته العلمية، ويعرف أحواله الاجتماعية. فسافر سنة 1317، إلا أنه لم يتم رحلته هاته، إذ اضطر للرجوع من طرابلس الغرب بعد أن أقام بها أياماً. وهكذا رجع الأستاذ للمعهد الزيتوني الذي تخرج منه، يفيد ويستفيد إلى سنة 1321، حيث أنشأ مجلة "السعادة العظمى"، فكانت من أحسن مجلات عصرها العلمية، والمسرح الحر الذي تبارت فيه أقلام الكتاب الزيتونيين في مختلف المسائل الدينية والأدبية. وقد لقي صاحب هاته المجلة الإصلاحية ما يلاقيه كل مصلح من المحافظين، حتى قال له الشيخ سالم بوحاجب في أحد الأيام: "لا يهمك ما تلاقيه في سبيل ما أنت آخذ به، ولتكن لك بنبيك أسوة، إذ قال له ورقة بن نوفل: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي". وفي سنة 1323 تقلد منصب القضاء بمدينة "بنزرت"، كما عهد له بالخطابة والتدريس بجامعها الكبير. على أن التوظف لم يكن بالمقيد له عن القيام بواجباته الاجتماعية -خلاف متوظفي الحكومة التونسية في العهد الأخير-، فلقد تعود الشعب أن لا يرى من المتوظف إلا مظاهر حكومية بحتة، بما يستعمله

الرؤساء من الضغط على المتوظف التونسي، فكل حركة يأتيها يرعد لها الرؤساء، حتى المشاركة في الجمعيات الأدبية، ولا غرو، فإن الجمعيات الأدبية إنما تقصد تعضيد اللغة العربية لا الفرنسية، الأمر الذي يعتقد أولئك الرؤساء أنهم لم يأتوا من وراء البحار لتأييده. نذكر من ذلك محاضرته "الحرية في الإِسلام" التي ألقاها بنادي (جمعية قدماء الصادقية)، فلقد كان لها تأثير كبير، وحضرها الطبقة العالمة والمفكرة، وحتى بعض المستعربين من الأجانب، ونُشرت فتناقلتها الصحف. هذا، ولما كان الرجل حراً بطبيعته، وقد أحس بأن الحكومة -إذاك- تحاول أن تطفئ منه ذلك النور المشع، وتقتل روحاً نشيطة لا زالت متأججة بين جنبيه، ليكون على ما عودت به سائر موظفيها من السكون والاستسلام في ظل مرتب يأتي بانتظام، ويذهب بمثله. لما أحس بذلك، أبى عليه حزمه أن يكون ذلك المستضعف المغبون، فقدم تسليمه، وأكده بإرادة قوية، حتى لما رأت عزمه، قبلته منه، فرجع للعاصمة متطوعاً بإلقاء دروسه المعتادة في الكلية الزيتونية، وعندها عينته نظارة الجامع لتنظيم خزائن الكتب. وفي سنة 1325 شارك مشاركة عملية في تأسيس جمعية زيتونية، وفي مدتها تولى وظيفة التدريس بالكلية بصفة رسمية، وفي سنة 1326 عين مدرساً بثانوية الصادقية، وانتخبته هيئة إدارة الخلدونية لإلقاء محاضرات في الإنشاء على تلامذتها، فقام بهاته الوظائف أحسن قيام، وكان لا يفتر عن إتحاف الشعب ببنات أفكاره بين الفترة والأخرى، كمحاضرته "حياة اللغة العربية". ولما قامت الحرب الطرابلسية الإيطالية، كان من أعظم الدعاة لإعانة

المجاهدين في سبيل استقلالهم، والهلال الأحمر نفوذاً، وقد نشر بجريدة "الزهرة" الغراء قصيدته الشهيرة التي مطلعها: ردوا على مجدنا الذكر الذي ذهبا ... يكفي مضاجعنا نوم دها حقبا ثم رحل إلى بلاد الجزائر، فزار قواعدها وأكثر مدنها، وكان يلقي المحاضرات العلمية أينما ارتحل ليلاً ونهاراً، وكان يلاقي التعظيم والتبجيل أينما حل، ثم رجع لتونس مستمراً على إلقاء دروسه في الكلية الزيتونية، والنشر في الجرائد من علميات وأدبيات. وفي سنة 1330 انتقلت عائلته إلى الشام، ونزلت دمشق، فالتحق بهم صاحب الترجمة ماراً بمصر، ثم سافر إلى الآستانة، فدخلها يوم إعلان حرب البلقان، فزار أهم مكاتبها، واختلط بأهلها، فدرس من حالتهم الاجتماعية والعمومية ما مكنه من نشر رحلة مفيدة على صفحات بعض الجرائد التونسية بمجرد رجوعه، وذلك في ذي الحجة سنة 1330؛ حيث رجع لما كان عليه. وأول محاضرة اجتماعية ألقاها بعد رجوعه كانت في "مدارك الشريعة الإِسلامية وسياستها". وقد شاءت الحكومة التونسية أن تتعرف بعض الحقائق عن تاريخ تونس، فعينته في اللجنة المكلفة بذلك، فعمل فيها، إلا أنه في شعبان من هذه السنة عزم بتاتاً على مفارقة مسقط رأسه، والمهاجرة إلى حيث يهب النسيم من الشرق وإلى الشرق حراً. * في المهجر: سافر الأستاذ التونسي إلى الشرق، بعد أن ودّع أصدقاءه في الجزائر، حيث ركب من مدينة عنابة، فلما نزل مصر، تعرف بكثير من دعاة الرابطة العربية مثل: رفيق بك العظم صاحب "أشهر مشاهير الإِسلام"، والشيخ رشيد

رضا صاحب "مجلة المنار". ثم سافر الأستاذ إلى الشام، فقابله عظماؤها بالترحاب، ونوهت الجرائد العربية هناك بمسامراته العلمية والأخلاقية. إلا أنه لم يقر له قرار حتى عزم على زيارة الإمبراطورية العثمانية، فنزل جنوباً حتى المدينة المنورة، ثم صعد شمالاً حتى الآستانة، فزار منها ما لم يزره في سياحته الأولى، ومن هناك تعين مدرسا للغة العربية والفلسفة بالمدرسة السلطانية بمدينة دمشق، فقام بوظيفته أحسن قيام، وكان مثابرًا على إلقاء المسامرات العلمية في المساجد الكبرى، ونشر المقالات الإصلاحية في الجرائد السيارة، وقد اهتم بوجه خاص بالمشكلة العربية التركية، محاولاً تجديد روابط الألفة، مهما أحس بتوترها بين مركز السلطنة، والأغلبية العظمى من رعاياها. فلما أعلنت الحرب العالمية، وتولى جمال باشا حكم المقاطعة السورية، كاد أن يكون الأستاذ أحد ضحايا الصرامة التي استعملها القائد مع كل من ينتمي إلى النهضة العربية؛ حيث ألقي عليه القبض بدعوى اطلاعه على حركة المتآمرين، دون أن يحاول تنبيه السلطة لما يدبر لها من الأخطار، فاعتقلته ستة أشهر وأربعة عشر يوماً، ثم قدمته للمحاكمة، فظهرت براءته، فاعتذرت له، وأطلقت سبيله يوم الأربعاء من شهر ربيع الثاني 1335. فمن شعره في حبسه يوم حيل بينه وبين أدوات الكتابة: غلّ ذا الحبس يدي عن قلمٍ ... كان لا يصحو عن الطرس فناما هل يذوذ الغمض عن مقلته ... أو يلاقي بعده الموتَ الزؤاما أنا لولا همةٌ تحدو إلى ... خدمة الإِسلام آثرتُ الحِماما ليست الدنيا وما يُقسم من ... زهرها إلا سراباً أو جَهاما

وقال في محاورة بعض الأدباء الذين كانت المجالس العسكرية تلقي عليهم القبض بين الفترة والأخرى مدة الحرب وولاية جمال باشا الحكم في القطر السوري: رأى صاحبي في الحبس أن الحياة في الـ ... ـحضارة أرقى ما يتم به الأنسُ فقلت له: فضلُ البداوة راجحٌ ... ويكفيك أن البدو ليس به حبسُ قلت: إن الأستاذ أطلق سراحه سنة 1335، فرجع إلى التدريس بالمدرسة العثمانية، ثم نظم مسامرات علمية ودينية عالية، يلقيها على بعض طلبته المنتهين، واستمر على ذلك إلى أن استدعاه المركز سنة 1336 منشئاً عربياً بالوزارة الحربية، فلعب دوراً مهماً في ترويج سياسة الحكومة، كما عينته المشيخة الإِسلامية واعظاً بجامع الفاتح، فبقي في وظائفه إلى سنة 1337 التي جاءت فيها ارتباكات الآستانة، فبارحها الأستاذ عائداً إلى دمشق. فمن أدبياته في الموضوع قوله: أنا كأس الكريم والأرض نادٍ ... والمطايا تطوف بي كالسقاة ربَّ كأس هوت إلى الأرض صدعاً ... بين كف تديرها واللهاة فاسمحي يا حياة بي لبخيل ... جفنُ ساقيه طافحٌ بالسبات وقال كأني دينار ودمشق راحة ... تعودت الإنفاقَ طول حياتها فكم سمحت بي للنوى عقبَ النوى ... ولم أقض حق الإنس بين سراتها وما كاد يصل دمشق عاصمة الأمويين، حتى عين عضواً بالمجمع العلمي العربي، ومدرساً بكل من المدرسة العثمانية والمدرسة العسكرية والمدرسة

السلطانية، إلا أنه عزم على الذهاب إلى محور النهضة العربية اليوم، فلم يباشر وظائفه تلك، وقصد مصر بلاد الفراعنة، حيث يعرف الشعب قيمة الحرية والاستقلال، ومكانة اللغة من تكوّن الشعب ومستقبله. وهناك في بلاد النيل، ولي التصحيح بدار الكتب المصرية، ثم صرح له جلالة ملك مصر في دخول شهادة العالمية، التي ما كاد يحرزها حتى انتدب للتدريس بقسم التخصص. ثم في سنة 1347 هـ أضيف لدرس البلاغة الذي كان يلقيه لطالبي التخصص درسان آخران، أحدهما في الوعظ والإرشاد، والثاني في التاريخ، وهو مع ذلك لا ينقطع عن إلقاء المسامرات العلمية والاجتماعية المؤيدة بروح الدين، ومع ذلك فهو العضو النشيط في جمعيتي (الشبان المسلمين) و (الهداية الإِسلامية)، ولهاته الأخيرة مجلة يتولى رئاسة تحريرها. * أدبه: يذهب الأستاذ في أدبه مذهب الحقيقة والواقع، فأدبه غني بالحكمة، وغني بالوصف الدقيق، والبعيدِ عن كل شعوذة وكل خيال. ولا غرو، فإن كثرة تنقلات الأستاذ، ووفرة محصوله العقلي، وسعة معلوماته واختباراته، لكفيلة بأن تغريه بذلك المذهب الذي لا تغويه عن العظة والفائدة غاوية، وهو على بينة من حقيقتها تلك، فيصفها: أقول فلا أرتاد غير خصيب ... وأنظم لكن لا أطيل نسيبي أجدّ وإن رام النديم دعابة ... فلم ترَ غيرَ الجد عينُ رقيبي * ديباجته: ومع أن تعلم الأستاذ كان زيتونياً بحتاً (نسبة لجامع الزيتونة)، ومع أن

نشأته كانت بين طبقة تحصر العلم بين شدقي الفقه ومحسنات البديع الذي كان في نظرهم الأدب كله، فقد منع الأستاذ بأدبه من تقعراتهم، وأسلس بيانه سائغاً سهلاً.

الاحتفال بعودة الإمام محمد الخضر حسين من سورية

الاحتفال بعودة الإمام محمد الخضر حسين من سورية (¬1) بقلم محمود حافظ "أقامت جمعية "الهداية الإِسلامية" بالقاهرة حفلة تكريم للإمام بمناسبة عودته من سورية، وذلك مساء الجمعة 16 شعبان 1356 الموافق 22 أكتوبر تشرين الأول 1937. وتحدث عدد كبير من العلماء والأدباء عن فضله وعلمه وجهاده. وقد ألقى فضيلة الأستاذ محمود حافظ أحد أعضاء الجمعية كلمة في المناسبة". سادتي! لئن حق علينا أن نكرم بعض الرجال، فأَولى هؤلاء بالتكريم هم العاملون المخلصون الذين يكرسون حياتهم في خدمة العلم والدين وإعلاء شأنه، ويبذلون الثمين والغالي في تثبيت قوائمه، وتدعيم أركانه. وما المحتفل به في هذه الليلة إلا أحد هؤلاء الرجال الأبطال، الذين كان لهم من ماضيه المجيد، وله من حاضره السعيد، خير شاهد على تضحيته وجهاده، وأنصع دليل على خدماته الجليلة في شتى النواحي، ومختلف الميادين. نشأ المحتفى به في تونس، ودأب على الدرس والبحث والاستقصاء ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الأول من المجلد العاشر.

حتى أحرز شهادة العالمية، وأقبل على التدريس في جامع الزيتونة متطوعاً، وأصدر مجلة "السعادة العظمى"، وكانت حافلة بالفوائد ومباحث الإصلاح، إلى أن رأت الحكومة في ذلك الوقت الانتفاع بمواهبه في القضاء، فعين قاضياً شرعياً في مدينة "بنزرت"، ولما كان فضيلته من ذوي النفوس التي تريد الدأب على البحث وطلب المزيد من العلم، لم يرض أن يحصر نفسه في ذلك المحيط الضيق، والدائرة المحدودة، فاستقال من منصب القضاء طائعاً مختاراً، وعاد إلى الحاضرة، فعين أستاذاً في جامع الزيتونة، ومدرساً بالمدرسة الصادقية، وهي لأكبر مدرسة للحكومة في تلك البلاد، وانتخبته الحكومة عضواً في لجنة تنظيم كتب المكتبة الصادقية، والمكتبة الزيتونية، وعضواً بلجنة وضع التاريخ التونسي العام، وعضواً بمجلس النظر في شؤون المدارس، وأصبح التونسيون مجمعين على الاعتراف بفضله وخدماته، ويحملون له أطيب الذكريات. وألقى في (نادي جمعية قدماء الصادقية)، و (المدرسة الخلدونية) محاضرات طبع منها: "الحرية في الإِسلام"، و"حياة اللغة العربية"، و"مدارك الشريعة الإِسلامية وسياستها"، وطبعت له في تونس رسالة "الدعوة إلى الإصلاح". ثم شدّ رحاله إلى بلاد الشام، فاستقبلت فيه عالماً جليلاً، وباحثاً مدققاً، رأت أن تنتفع بعلمه وعرفانه، فعين أستاذاً لآداب اللغة العربية بالمدرسة السلطانية بدمشق. انظر ماذا يقول أحد أعضاء المجمع العلمي في دمشق (¬1) عن فضيلة المحتفى به: ¬

_ (¬1) هو فضيلة علامة الشام الشيخ محمد بهجة البيطار -رحمه الله تعالى-.

"أستاذنا الجليل الشيخ محمد الخضر حسين، علم من أعلام الإِسلام، هاجر إلى دمشق في عهد علامتي الشام: الشيخ البيطار، والشيخ القاسمي، فاغتبطا بلقائه، واغتبط بلقائهما، وكنا نلقاه ونزوره معهما، فأحكمت بيننا روابط الصحبة والألفة والود من ذلك العهد، ولما توفي شيخنا القاسمي سنة 1332 هـ، لم نجد نحن -معشر تلاميذه- من نقرأ عليه أحبَّ إلينا ولا آثرَ عندنا من الأستاذ الخضر؛ لما هو متصف به من الرسوخ في العلم، والتواضع في الخلق، والبر بالإخوان- إلى أن قال: وأخذنا في ذلك الحين نقتطف ثمار العلوم والآداب من تلكم الروضة الأُنُف، ونرتشف كؤوس الأخلاق من سلسبيل الهدى والتقوى، ولم يكن طلاب المدارس العالية في دمشق بأقل رغبة في دروسه، وإجلالًا لمقامه، وإعجابًا بأخلاقه من إخوانهم طلاب العلوم الشرعية، بل كانوا كلهم مغتبطين في هذه المحبة والصحبة، مجتمعين حول هذا البدر المنير". واستمر كذلك في بلاد الشام يخدم الدين وأبناءه، وينشر العلم ولواءه، حتى إذا نشبت الحرب العالمية العظمى سنة 1914، ودارت رحاها، اتصل بالمرحوم أنور باشا وزير الحربية، ورحل إلى ألمانيا، وقضى بها نحو تسعة أشهر، تعلم في خلالها اللغة الألمانية، وانتهز هذه الفرصة، فدرس الشيء الكثير عن حالة المجتمع في "برلين" في ذلك الوقت، وعن عادات الناس وأخلاقهم هناك، وعنّ له في تلك الآونة أن يدرس علوم الكيمياء والطبيعة، فدأب على درسها بالألمانية على يد البرفسور (هاردر) أحد العلماء الألمان المستشرقين. ثم عاد إلى دمشق، حتى إذا قاربت الحرب أن تضع أوزارها، نزح إلى

إسطنبول، وعين محرراً بالقلم العربي في إدارة الأمور الشرقية، واستمر ينشر العلم ويرفع راياته، إلى أن قارب عقد الهدنة، فاضطر إلى الرحيل إلى ألمانيا مرة أخرى، فمكث بها نحو سبعة أشهر، عاد خلالها إلى درس الحالة الاجتماعية الألمانية، ولما انتهت الحرب، وانقشعت سحبها المظلمة، انتقل فضيلته إلى إسطنبول، وعاد إلى الشام في عهد الدولة العربية، وعين مدرساً للعلوم الدينية بالمدرسة التجهيزية، وقبل أن يباشر وظيفته انقلبت الحالة السياسية العامة في ذي القعدة سنة 1338 هـ، فنزح إلى مصر التي شاء الله أن تضم بين جنبيها عَلَماً من أعلام الدين، وقُطباً من أقطابه العاملين، فاستطاب العيش تحت سمائها، واستمرأ الحياة بين ظَهْرانَي أهلها، ولمَّا يمض عام على وصوله حتى عُيِّن مُصحِّحاً بدار الكتب المصرية، فلم تشغله وظيفته عن الاطلاع، ومواصلة البحث والتحقيق. حتى أقبل عام 1344 هـ فظهر كتاب "الإِسلام وأصول الحكم"، فعكف فضيلة الأستاذ الخضر على تأليف كتابه المشهور الذي يرد فيه على كتاب "الإِسلام وأصول الحكم"، ويقوض كل ما جاء فيه من دعاوى باطلة، ويَدْحَض كل شُبهه بسَعَة علمه، وقوة حجته، وما هي إلا أشهر حتى ظهر الكتاب، وتلقاه رجال العلم على اختلاف طبقاتهم بالاستحسان، أحق فيه الحق، وأزهَق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً. وما أقبل ربيع سنة 1345 هـ حتى ظهر كتاب "في الشعر الجاهلي"، فاستقبله الناس بعاصفة هائلة من السخط والإنكار على هذه الطائفة التي جعلت نُصْب عينيها -في ذلك الوقت- النَّيْل من هداية الإِسلام، والغضَّ من رجال جاهدوا في سبيله بحجة وعزم وإقدام. فانبرى لهم فضيلة الأستاذ، وألف كتابه

الغنيَّ عن التعريف، نقضَ فيه كلَّ ما حوى كتاب "في الشعر الجاهلي"، وحلله تحليلاً علمياً نزيهاً، ردَّ فيه ما انتحله إلى أهله، وعاد به إلى أصله، وأبان عن مواطن ضعفه، ودحض أباطيلَه بالأدلة الواضحة. وفي أثر ذلك باشر فضيلته التدريس بالأزهر الشريف. وما حل رجب سنة 1346 هـ حتى لمس طلاب العلم بالجامعة الأزهرية والمعاهد الدينية: أن مصر فقيرة في جمعياتها الإِسلامية: لم يكن في ذلك الوقت سوى (جمعية مكارم الأخلاق) و (جمعية الشبان المسلمين)، وأنَّ تأخر المسلمين في أغلب شؤونهم الحيوية، ونزولَهم من مكان عزتهم، إلى ما هم عليه اليوم من ضعف وانحلال، وتفكك في الوحدة، لا علة له سوى نكث أيديهم من تعاليم دينهم الحنيف، وانصرافهم عن هدايته السامية، فدعوا إلى تأليف جمعية تضع نُصْبَ عينيها بيان حقائق الإِسلام، وبث آدابه العالية، وتمد نظرها إلى أحوال الاجتماع، ومقتضيات المدنية؛ لتعرف مواقع الصلاح والفساد، وليمكنها أن تساهم في نهضة الأمة الأدبية والاجتماعية، كما تعمل على رقي اللغة العربية، وإحياء آدابها، وقد وجدوا في ذلك الوقت من إقبال إخوانهم ما شد عزمهم، فألّفوا جمعية (الهداية الإِسلامية) وانتخب الأعضاء فضيلة الأستاذ السيد محمد الخضر حسين رئيساً لها. وسارت الجمعية على بركة الله بقدم ثابتة، ونفس مطمئنة، نحو الرقي والتقدم، ولا يفوتني أن أذكر الجهود الجبارة التي كان يبذلها سعادة المغفور له أحمد تيمور باشا في تدعيم أركانها، وتثبيت قوائمها، فقد نالت الجمعية من عطفه وعنايته ما يجعلها حتى اليوم تُشيد بذكره وفضله. وستظل أعماله الجيدة، وخدماته الجليلة ماثلة في العقول والأذهان، لا يمحوها مر السنين، ولا كرُّ الأعوام -طيب الله ثراه، وجعل الجنة مثواه-.

بدأت الجمعية في تحقيق رسالتها، يشد أَزْرها فضيلُة رئيسها، ويغذيها بعلمه واطلاعه، يتعهدها كما يتعهد الزارع الحَبَّ بالسقي والإرواء، حتى نمت وترعرعت، وشبّت وزكت، بين عناية الله ورعايته، وتدلَّت أُولى قُطوفها، فأصدرت مجلتها الشهرية في جمادى الأولى سنة 1347 هـ حافلة بشتى الموضوعات الدينية والأخلاقية، والعلمية والأدبية، يقوم برئاسة تحريرها فضيلة رئيس الجمعية، فازدادت المجلة رَواجاً في داخل القطر وخارجه، ولما رأت وزارة المعارف أنها خيرُ عون لطلاب العلم، قررت الاشتراكَ فيها لمدارسها. ودَأَبت الجمعية في العمل على تحقيق رسالتها، فأخذ رجالها ينشرون نور العلم والعرفان. بجانب رئيسها الذي يضحي بوقته الغالي وراحته في سبيل النهوض بالجمعية، ورفع مستواها، فأخذت تقوم بالمحاضرات والمناظرات المختلفة بوساطة نُخبة من العلماء ومشاهير المحاضرين، أذكر منهم: سعادة جاد المولى، والدكتور عبد العزيز نظمي بك، كما حاضرها في السنين الماضية المغفور له فضيلة الشيخ بخيت، والشيخ يوسف الدجوي، وسعادة زكي باشا، وغيرهم كثيرون. وسارت الجمعية قُدُماً، وانتقلت من حَسن إلى أحسن، حتى أصبحت -بحمد الله- في مقدمة الجمعيات الإِسلامية التي ذاعت دعوتها، وعُرف جهادها في مصر والأقطار الشقيقة بفضل رئيسها المخلص، ورجالها الأبرار. وجعلت الجمعية نُصب عينيها غرضاً سامياً، وهو السعيُ لتعارف الشعوب الإِسلامية، وتأكيد رابطة الإخاء والائتلاف بينها، فكلما وفد إلى مصر عالم، أو كبير من كبراء المسلمين، سارعت الجمعية إلى إقامة الحفلات ترحيبًا وتكريمًا، فيتم بذلك التعارف والائتلاف، وتتبادل الأفكار والمنافع،

كما حدث في العام الماضي، يوم كرمت الجمعية الزعيمَ الأندونيسي الدكتور سوتومو، وزعيم المسلمين في الصين الشيخ عبد الرحيم ماسونتين، كما حرصت الجمعية على تكريم البعثات العلمية المختلفة الموقَّرة من شتى الأقطار الإسلامية. وكلما حانت المناسبة، وسنحت الفرصة، شاطرت الجمعية الشعوب الشقيقة -كفلسطين وغيرها- مِحْنتها، وظروفها العصيبة، باحتجاجاتها الصارخة لدى أولي الأمر حتى يُنصَف المظلوم، ويعود الحق إلى نصابه. ولا ننسى للجمعية جهادها العنيف، وحملاتها المتواصلة، يوم حاولت شِرْذمة فاسقة من المبشرين المضلِّلين أن تحيك الشِّباك للدين، وتنصب الشراك للإسلام والمسلمين {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب: 25]. وأختم كلمتي بأن الجمعية بفضل رئيسها ورجالها العاملين، مع ما قامت به من جهود في سبيل تحقيق رسالتها وأغراضها، وبفضل ما تجده من مؤازرة أعضائها وأصدقائها أمثال: سعادة عبد العزيز محمد باشا وزير الأوقاف السابق، الذي يعطف على الجمعية كثيراً، ويغمرها بخيره ومعونته، بفضل هؤلاء جميعاً أصبح الأمل بمستقبل زاهر، وحياةٍ أحفلَ من ذي قبل بجلائل الأعمال، يمر طيفه بالجمعية، ويجول بخاطرها، وهي جِدُّ موقنة -بإذن الله- أن سيتحقق رجاؤها وأملها، فتعمل على تنفيذ مشاريع جديدة أخرى؛ كإنشاء مدارس لتعليم الفقراء، وإصدار مجلة أسبوعية. أسأل الله أن يوفقنا إلى ما فيه الخير والفلاح. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

شيخ الأزهر محكوم عليه بالإعدام

شيخ الأزهر محكوم عليه بالإعدام (¬1) بقلم أحمد لطفي حسونة "صحفي وأديب، وأحد كبار المحررين في مجلة "آخر ساعة المصرية". كان أصحابُ الفضيلة كبارُ رجال الأزهر يلعبون -طَوال الأسبوعين الماضيين- لعبة الكراسي الموسيقية حول كرسي شيخ الجامع الأزهر. كانوا يتنافسون على ضجيج الحوادث حولَ الجلوس على الكرسي المرموق، وكان كلٌّ منهم يتحيَّن الفرصة للتربعُّ على المقعد الكبير دون الآخرين، إلى أن هبط من السماء عالِمٌ لم يكن في المباراة، بل ولم يكن من المتفرِّجين، ولا ممن يعلمون قليلاً أو كثيراً عن هذا السباق. وجلس الأستاذ محمد الخضر حسين على كرسي المشيخة دون أن يدور حوله، أو ينافس غيره، أو يسعى ليقف بين صفوف المتسابقين. وأصبح الصبح على مفاجأة كبرى لم تخطر لأصحاب الفضيلة ببال، فقد غدا الرجل المتواضع الذي يقف على أبواب الثمانين، المتوسطُ القامة، الخفيضُ الصوت، بحيث لا يكاد يُسمع وهو يتكلم، غدا الأستاذ الأكبر شيخ ¬

_ (¬1) مجلة "آخر ساعة" المصرية - العدد 936 - تاريخ 1/ 10/ 1952 م.

الجامع الأزهر، وإمام المسلمين في العالم أجمع. * قصة طويلة: وقصة الأستاذ الأكبر طويلة شاقة، مليئة بالمفاجآت، وهو من بيت علم ودين، فوالده الأستاذ الحسينُ بن علي، من الجزائر، وكان متصوفاً لا يعرف إلا العبادة، وشيخاً للطريقة الخلوتية، وله جامع باسمه في بلدة "نفطة" آخر بلاد تونس من جهة الجزائر، وهي البلدة التي ولد فيها الأستاذ الأكبر. * أول ليلة له في مصر: ويروي الأستاذ الأكبر قصة إفلاته من أيدي الفرنسيين، فيقول: إنه غادر دمشق بعد أن احتلها الفرنسيون بعشرة أيام، وكانت الأداة الإدارية ما تزال في يد الإِنجليز، فتمكن من الحصول على جواز خروج من دمشق، ورحل بطريق البر إلى القاهرة، وقضى أول ليلة فيها في "لوكاندة دار السلام" قريباً من مسجد سيدنا الحسين، وبات ليلته حتى الصباح. وأشرق الصبح على اللاجئ الغريب، فأخذ يفكر أين يذهب؟ وهو لا يعرف مكاناً يذهب إليه في القاهرة، ومن يقابل؟ وهو لا يعرف شخصاً واحد بين ملايين المصريين، وماذا يعمل؟ وهو لا يرى طريقاً واحداً يسلكه للحصول على عمل في مصر. * إلى الرواق: وهبطت الفكرة مع وحي لا يدري مصدره، وَحْيٍ يحثُّه على الذهاب إلى أحد الأروقة في الأزهر الشريف. ودخل الرواق، فلم يعرف أحداً، ثم اتجه إلى رواق المغاربة حيث لم يهتد إلى وجه يعرفه، ولكن المغاربة اشتبه عليهم أمره، ثم عرفوه، ورحبوا به، وزاملوه، وأكرموه.

* مسكن جديد: ويقول الشيخ في تواضع وطِيبة: ثم بحثت عن مأوًى آوي إليه، حتى اهتديت إلى حُجرة في الربع قريبة من الجامع الأزهر، إيجارها الشهري 25 قرشاً، فاستأجرتها، وأقمت فيها، وظللت أتردَّد بين مسكني والرواق، وأقطع وقتي في القراءة والتأليف، وأُنفق من الدراهم التي أتيت بها إلى مصر. * صحفي منذ نشأته: وقد ولد الأستاذ الأكبر في سنة 1293 هـ بـ"نفطة"، وانتقل منها، وعمره إحدى عشرة سنة إلى تونس؛ حيث التحق بجامعة الزيتونة، ونال العالمية، وجذبته الصحافة، فأنشأ في تونس مجلة "السعادة"، وتفرغ لتحريرها وخدمتها إلى أن تولى القضاء في مدينة "بنزرت"، ثم عاد إلى جامعة الزيتونة مدرِّساً بها، وكان يقوم بتدريس النحو والفقه، والأصول والبلاغة، وكان في الوقت نفسه مدرساً بالمدرسة "الصادقية"، وهي المدرسة الوحيدة في تونس. وقد تزوج الأستاذ الأكبر في هذه المرحلة من حياته خمس مرات، وكان الموتُ أو الطلاق يفرق بينه وبين زوجاته، وظل عزباً إلى ما بعد هجرته إلى مصر، حيث بنى بزوجته السادسة التي تقيم معه الآن، وهي من عائلة مدكور، ولم يرزقه الله أولاداً من زوجاته الست. * هجرة إلى الشام: وفي سنة 1331 هـ، وعمره 38 عاماً انتقل مع والدته وإخوته إلى الشام، وكانت بلاد الشام في هذا الحين دولة واحدة تضم سورية ولبنان وفلسطين. ومنذ ذلك التاريخ -أي منذ قرابة أربعين عاماً- لم يعد إلى تونس، وكانت

هجرته لخدمة الإِسلام، ولضيقه بالحياة في موطنه؛ نظراً لفظائع الفرنسيين، وسلوكهم المُعْوَجّ، ورغبةً منه أن يعيش في كَنَف دولة إسلامية. وتولى التدريس في المدرسة العربية السلطانية في دمشق، ثم أرسلته الحكومة إلى ألمانيا لحثِّ أسرى الحرب من التونسيين والجزائريين والمراكشيين على الانضمام للجيش التركي ضد فرنسا، واستمرت رحلته في ألمانيا تسعة شهور، عاد بعدها إلى سورية، ثم الآستانة؛ حيث تولى التحرير بالقلم العربي في وزارة الحربية التركية سنة 1917 م. * يعود مع الصلح: وفي سنة 1918 م، في أثناء الهدنة، سافر الأستاذ الأكبر إلى ألمانيا مرة ثانية للدعاية لاستقلال البلاد العربية، وكان ممن سافروا معه على نفس الباخرة للغرض ذاته: المرحوم عبد العزيز جاويش، والدكتور عبد الحميد سعيد، واللواء يوسف مصطفى، وكان يوم وصولهم إلى ألمانيا هو يوم عقد معاهدة الصلح، فمكثوا فيها سبعة شهور، عاد بعدها الأستاذ الأكبر إلى تركيا؛ حيث اشتغل بالتدريس في المدرسة السلطانية، ثم سافر إلى دمشق، وكانت تحت الاحتلال الإِنجليزي، وظل فيها إلى أن نزل الإِنجليز عن احتلالها للفرنسيين. * حكم الإعدام يتعقبه: وشيخ الأزهر الحالي محكوم عليه بالإعدام، حكماً لم يصدر عنه عفو حتى الآن، ولولا هذا الحكم، ما كان لفضيلته نصيب في الجلوس على كرسي مشيخة الأزهر. فقد أصدرت السلطات الفرنسية سنة 1916 م حكماً يقضي بإعدام الشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ صالح الشريف من تونس؛ لاتهامهما بالتعاون

مع الدولة التركية ضد فرنسا. وقد ظل هذا الحكم يطارد الرجل المجاهد، ويحول بينه وبين العودة إلى تونس، أو الإقامة في بلد يحتله الفرنسيون، ومن ثَمَّ هاجر الشيخ سنة 1919 م إلى مصر لاجئاً سياسياً بمجرد عودة الفرنسيين إلى احتلال دمشق. * البحث عن عمل: وظل الأستاذ الأكبر على هذه الحال قرابة السنتين، وهو ينفق من القليل الذي ادخره، ويجهد النفسَ في البحث عن مصدر من مصادر الرزق. فاتجه التفكير إلى الحصول على الشهادة العالمية، وقدم طلباً إلى شيخ الجامع الأزهر الشيخ أبي الفضل؛ ليسمح له بدخول امتحان الشهادة العالمية الأزهرية، غير أن نفراً من العلماء وقفوا في وجهه، وقالوا عنه: إنه طريد سياسات مختلفة: ألمانية وتركية وعربية وفرنسية، فرفض طلبه، ولما تولى جعفر والي وزارة المعارف، وكان يعرف الشيخ محمد الخضر حسين عن قرب، عينه في دار الكتب بمرتب شهري قدره تسعة جنيهات، وكان مدير دار الكتب في ذلك الوقت أحمد صادق بك. * بحر لا ساحل له: وفي سنة 1922 م، شاء القدر أن يفتح أبوابه للاجئ الوحيد؛ ليدخره في جعبته، ويحمله بعد ثلاثين عاماً إلى كرسي المشيخة. وشاء القدر أن يهيئ الفرصة أمامه، فيتعرف على المرحوم أحمد تيمور باشا، الذي كان حينئذ صديقاً للسراي، ومقرباً من المغفور له محمد توفيق نسيم باشا، واستعمل أحمد تيمور نفوذه القوي ليهيئ للشيخ فرصة الامتحان، وهي كل ما كان يطلبه.

وتم للشيخ ما أراد، ووافق الأزهرُ على أن يتقدم الشيخ محمد الخضر لامتحان العالمية، وتشكلت لجنة من قُساة الممتحِنين، ليؤدي امتحانه أمامها، وبهر الرجلُ الممتحنين بغزارة علمه، وفاض عليهم بما وهبه الله من معرفة. ونال الشيخ شهادة العالمية من الأزهر، ونص في القرار على أن اللجنة "امتحنت الشيخ محمد الخضر، فوجدته بحراً لا ساحل له. . . ". ثم عُين مدرساً بتخصص كلية أصول الدين، ورئيساً لتحرير مجلة "نور الإِسلام" "وهي مجلة الأزهر الآن"، وظل يلقن دروس الدين والسياسة الشرعية في كليات الأزهر إلى أن أُحيل إلى المعاش. * عضو في جماعة كبار العلماء: وكانت الخطوة الباقية: أن يدخل الشيخ عضواً في جماعة كبار العلماء، وفي سبيل ذلك قدم رسالة موضوعها: "القياس في اللغة العربية"، حوت بحثاً لم يطرقه أحد من علماء الأزهر من قبل، وفي 29 أبريل من سنة 1951 م صدر أمر ملكي رقم 22 لسنة 1951 م بتعيين الشيخ محمد الخضر حسين عضواً في جماعة كبار العلماء. وكانت هذه العضوية هي سبيله إلى عرض اسمه على مجلس الوزراء، عندما أراد المجلس اختيار شيخ الأزهر من بين كبار العلماء. * هل انتهى الصراع: ويتساءلون في الأزهر اليوم: هل انتهى الصراع الذي عاش في الأزهر سنين وسنين، واتخذ أشكالاً ومظاهر ما كان يجوز أن يكون مصدرُها الأزهرَ الشريف، وعلماءه الأجلاء؟ إن الشيخ الجديد لا يعرف كيف يحب، ولا يعرف كيف يكره، والشيخ

الجديد ليس له في مصر أقرباء ولا محاسيب، والشيخ الجديد ليس من بَحْري ولا من قِبْلي، والشيخ الجديد ليس طرفاً في المنافسة والسباق حول الكرسي الكبير، والشيخ الجديد لم يفكر في المنصب العالي الخطير، ولم يحلم به. ولكن هل يَسْلَم من مناورات الذين سَعَوا للجلوس فوق الكرسي، فوجدوا أنفسهم فجأة يفترشون الأرض؟ نتمنى أن يسلم من هذه المناورات، فحياة الرجل كفاح طويل، وقصة كلها مفاجآت، والرجل مؤمن بالله، نقي القلب، طاهر السريرة، شريف القصد.

معلوماتي الخاصة عن شيخي علامة العصر الحاضر الأستاذ محمد الخضر بن الحسين شيخ الجامعات الأزهرية

معلوماتي الخاصة عن شيخي علامة العصر الحاضر الأستاذ محمد الخضر بن الحسين شيخ الجامعات الأزهرية (¬1) بقلم الطيب بن عيسى "شيخ الصحفيين التونسيين في عصره. ولد بتونس العاصمة (1324 هـ - 1906 م)، تلقى علومه بجامع الزيتونة، أصدر صحيفتين: "المشير"، و"الوزير". من مؤلفاته: "المغرب الأقصى بين عهدين" - "ذكريات سجين" - "مشاهير المهاجرين" - "خواطر الحاج". توفي (1385 هـ - 1965 م) ". * مولده وأسرته: ولد المترجَم له بمدينة "نفطة" من (بلاد الجريد) الواقعة في أقصى الجنوب الغربي التونسي، وهي آخر نقطة بالحدود التونسية، وتبعد "نفطة" عن العاصمة التونسية 475 ك م. ولد في 26 رجب سنة 1293 هجرية، وهو محمد الخضر بن الحسين ابن علي بن عمر الشريف، فأسرتُه إذن ترجع إلى بيت العمري بـ"طولقة" بيت العلم والمجد والشرف. ¬

_ (¬1) صحيفة "الأسبوع" التونسية - العدد 308 الصادر في 30 نوفمبر - تشرين الثاني وما بعده.

و"طولقة" تبعد عن مدينة "بِسَكْرَة" عاصمةِ الجنوب لمقاطعة "قُسَنْطينة" من القطر الجزائري بنحو 42 ك م. وبطولقة مركز دائرة الزيبان. ووالد المترجَم له كان رحل منذ قرن من طولقة إلى نفطة التي استقر بها نهائيًا، وتزوج بأخت المرحوم الشيخ محمد المكي بن عزوز هناك، وللشيخ الخضر إخوة، وهم: الشيخ الجنيد، والشيخ محمد العروسي، (المتوفَّيان) والشيخ محمد المكي، المستقر بالعاصمة، والأخير من كبار الأدباء واللغويين المشاهير. والشيخ زين العابدين، نزيلُ العاصمة الأموية "دمشق الشام"، وجميعهم ولدوا بـ "نفطة". * تعليمه بنفطة: قرأ المترجَم له القرآن، وحفظه بنفطة على مؤدبه الخاص المرحوم الشيخ عبد الحفيظ اللموشي، كما تلقى مبادئ العلوم العربية على علماء نفطة، ومنهم: خاله المرحوم الشيخ محمد المكي بن عزوز العالِمُ المصلح الشهير دَفينُ إستانبول عاصمةِ الخلافة الإِسلامية وقتئذٍ، المعدودُ من أقدم التونسيين المستقرين بالآستانة قبل الشيخ إسماعيل الصفايحي، والشيخ صالح الشريف، والشيخ عمر بيراز، والسيدين علي، ومحمد باش حانبة (الأخوين)، وجميعهم من رجال الوطنية الصادقة، والإخلاص المتين. * تعليمه بتونس: ولما استقر والد المترجَم له بالعاصمة نهائياً سنة 1307 هـ زاول العلوم العربية الثانوية والعليا بجامع الزيتونة الأعظم.

* شيوخه: قرأ على شيوخ أعلام، منهم: المرحومان، الشيخ سالم بوحاجب، والشيخ عمر بن الشيخ، والشيخ محمد النجار، والشيخ مصطفى رضوان، والشيخ عبد العزيز الوزير. * تطويعه ثم تدريسه: حصل على شهادة التطويع عام 1314 هـ ثم في عام 1324 هـ نجح في مناظرة التدريس المالكية من الرتبة الثانية. * توليه القضاء بـ"بنزرت": وقبل مناظرة التدريس بمدة، أُسندت إليه خطة القضاء الشرعية بمدينة "بنزرت"، فباشرها بضعة شهور، ثم ألح على الحكومة حتى تقبل استعفاءه من هذه الوظيفة خوفاً من الله، فقبلت طلبه، وأنجاه الله من تحمل المسؤوليات الكبرى. * تلامذته بتونس: وقد تعلم عليه طلاب كثيرون بجامع الزيتونة، وبالمدرسة الصادقية، ومن تلاميذه: صاحب جريدتي "المشير والوزير" كاتبُ هذا المقال، الذي قرأ عليه "السعد" و"المحلى" و"التهذيب"، وكانت شهادة الشيخ في دفتر تلميذه عدد 5187 مؤرخة بربيع الثاني سنة 1326 هـ. * من آثاره بتونس: كان أصدر مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة صدرت بتونس، وكانت دينية وأدبية، وقام بمحاضرات ومسامرات بقاعة (الجمعية الخلدونية)، أو بنادي (جمعية قدماء الصادقية)، ثم طبعت مسامرته بتونس، ووزعت.

* إقامته بدمشق الشام: وفي سنة 1333 هـ رحل إلى الشام، والتحق بأخويه الشيخين: محمد المكي، وزين العابدين، اللذينِ سبقاه للرحيل قبل سنة، فاستقر بدمشق بضعة أعوام، كان أثنائها يتردد على إستانبول، والمدينة المنورة، والقدس، وفي الأعوام الأخيرة أدى فريضة الحج. * تدريسه بدمشق: تخرج عليه تلاميذ كثيرون بسورية، سواء بالجامع الأموي، أو المدارس الأخرى الرسمية. * حظوته لدى فيصل الهاشمي: كان محظوظاً من طرف المرحوم الملك فيصل الأول بن حسين بن علي الهاشمي، صاحب سورية في ذلك العهد، وعاهل العراق فيما بعد. * أسفاره إلى أوربا: وفي أثناء استقراره بدمشق قام برحلات إلى عواصم كبرى من الأقطار الأوروبية؛ كألمانيا، وإيطاليا، وسويسرة، وغيرها. * استقراره بمصر: وبعد خروج الملك فيصل من دمشق عاصمةِ ملكه، وإعلانِ الانتداب الفرنسي على سورية، خرج المترجم له من دمشق، واستقر نهائياً بمصر إلى اليوم، وكان ذلك سنة 1337 هـ. * مهمته العلمية بمصر: كان مدة إقامته بالقاهرة المعزيَّة في أول أمره يطبع كتبه العلمية الكثيرة، ويلقي دروساً خاصة على بعض الطلاب بالأزهر، أو بالمعاهد العلمية الأخرى،

ثم انخرط في سلك أساتذة الأزهر بعد اجتيازه للمناظرة بصفة رسمية؛ حيث نجح نجاحاً باهراً. * مجلة "نور الإِسلام": ولما قررت مشيخة الأزهر إصدار مجلة إسلامية، أسندت مهمة الإشراف عليها إلى لياقة الشيخ الخضر، فكان رئيس تحريرها. * مجلة "الهداية الإسلامية": كما أصدر المترجَم له مجلة "الهداية الإِسلامية"، وكان رئيساً لتحريرها، والمشرفَ على إدارتها، فكانت من أرقى المجلات الدينية، ومساندةً لمجلة "المنار" التي كان يرأس تحريرها العلامة المصلح المرحوم الشيخ رشيد رضا الحسيني تلميذُه العلامة المرحوم الشيخ محمد عبد المصري، ومجلة "الهداية الإِسلامية" لسان حال (جمعية الهداية الإِسلامية) التي يرأسها الشيخ الخضر -بارك الله في أنفاسه-. * ذكرياتي عن الشيخ بمصر: في عام 1343 هـ قمت برحلة إلى مصر، وما وصلت إلى القاهرة حتى اتصلت بفضيلة شيخي الخضر، وتقابلت معه مرات، وكان وقتئذٍ مصححاً بالمكتبة العامة المصرية (الكتب خانة) للتآليف التي تطبع على نفقة المكتبة، وهذه المهمة العلمية ليست بسيطة كما يُظَن من أنها مجردُ مقابلة الأصل بالمطبوع -حسب التعارف بين المؤلفين والمحررين للمجلات والصحف-، بل هي أعلى من ذلك وأدق وأصعب بكثير؛ لما يأتي بيانه: * مقدرته العلمية: إن التصانيف الخَطِّية المرادَ طبعُها -خصوصاً العتيقة منها- لابد أن يوجد

بها نقص في كلمات أو جمل، وأحياناً صفحات كاملة، وذلك لقدم العهد، وتلاشي البعض من أوراقها، إما أكلها الفأر، أو ثقبها السوس ثقباً، أو وسخت بالحبر، أو غير ذلك من عوامل الفساد، وبناء عليه، فمأمورية الأستاذ الخضر النابغة هي تكميل ما نقص من الأصل، مع مراعاة أساليب ذلك التأليف من تبويب وتقسيم وتفصيل، ومع مراعاة درجة المؤلف -أيضاً- من حيث الإنشاء والتعابير، سواء في النثر أو الشعر. وطبعاً إن التآليف المعروضة للطبع مختلفة الفنون والعلوم، ويحتاج المصحح إلى اطلاع واسع، وإلمام تام بجميع العلوم العربية؛ كي يمكنه أن يكمل النقص في النحو أو الصرف، أو التوحيد أو المنطق، أو الحساب أو التاريخ، أو الهندسة أو الجغرافية، أو الطبيعة أو الكيميا، أو علوم البلاغة، إلى غير ذلك من المباحث الدينية أو الأدبية أو الرياضية. فالتصحيحُ أو التكميل الذي من هذا النوع هو فني، ويحتاج إلى نبوغ وتخصص في جميع العلوم دون استثناء. فمن هذه الناحية يكون الأستاذ الخضر نابغة عصره، ولولا أنه عَلَّمَ تلامذةً أصبحوا اليوم أخصائيين في التصحيح الفني، لصعب على إدارة المكتبة العامة الإتيانُ بعالم متفنن يقوم مقامه عند تخلِّيه عن مهمة التصحيح، وتفرّغه للتدريس بالأزهر في المعهد الأخير، ثم الارتقاء إلى أعلى المناصب العلمية. * أخلاقه وصلاحه: كان شيخي معروفاً في تونس، وفي البلاد الشرقية بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، وحسن المعاشرة، ولم يعرف عنه الحمقُ والشراسة وضيق

الصدر، وغيرُها من الأوصاف، وهو ممن سلم الناس من يده ولسانه، وله أسلوب في الانتقاد لطيف؛ إذ مداره الإقناع بالبرهان القطعي على صواب رأيه، دون جدال بعنف، أو تصلب بحمق، مع تحاشي المبالغة في التنديد اللاذع، مقتدياً بنبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يمزح ولا يقول إلا حقاً. هذا من جهة أخلاقه وطباعه، ومن جهة صحة إيمانه، وشدة شكيمته في الذود عن حياض دينه، فقد كان لا تغره في الحق لومة لائم، ويعد من أولياء الله الصالحين، لتقواه في السر والإعلان، وعليه، فهو داخل في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63]. فالشيخ عالم عامل بعلمه. * لغته العربية: إن لغة الشيخ الخضر هي العربية الصرفة، سواء في دروسه، أو محادثته العامة أو الخاصة، لسليقته المفطور عليها منذ أن تعلم العربية، بل كان يتحاشى استعمال اللغة العامية الدارجة بقدر الإمكان، وقد عرفتُ تعوده بذلك منذ أن كان مدرساً بجامع الزيتونة الأعظم. * منهجه الإصلاحي: إن هذا العلامة الديني يدعو إلى الإصلاح من الناحية الدينية بجميع الوجوه؛ اجتماعياً واقتصادياً، ولربما يحارب النعرة الوطنية البحتة التي جعلت المصريين ينقلون رفات المرحوم سعد زغلول الزعيم الأكبر من قبره الأول الإِسلامي لوضعه في قبره الثاني المماثل لقبور الفراعنةُ في شكله، والفراعنة جدود أقباط مصر المسيحيين.

* تصانيفه العلمية: لصاحب الفضيلة شيخي الخضر تآليفُ عديدة، منها ما طبع بتونس، كمجلة "السعادة العظمى" التي أصدر منها عدة أجزاء، و"رسالة الدعوة إلى الإصلاح" عندما كان مدرساً بجامع الزيتونة، وبالمدرسة الصادقية، و"حياة اللغة العربية"، وهي المسامرة التي ألقاها بقاعة مكتبة الخلدونية عندما كان مدرساً بالمعهدين المذكورين -أيضاً-. ومنها ما طبع بمصر؛ ككتاب "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم" الذي يرد فيه على الأستاذ الشيخ عبد الرازق مؤلف كتاب "الإِسلام وأصول الحكم"، وهو حينئذ من علماء الأزهر. وكتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" يرد فيه على كتاب "في الشعر الجاهلي" تأليف طه حسين، وكان الأستاذ الخضر وقتئذٍ من علماء الأزهر، وكتاب "محمد رسول الله وخاتم النبيين" الذي ألفه بعد ما أصبح عضواً باللجنة العليمة لهيئة كبار العلماء المؤلفة لحماية الدين، والدعوةِ إلى سبيل الله. هذه الكتب قرأتها، وما أزال أملكها، ما عدا "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم" حيث لم أتصل به، ولم أطالعه. ومن المحقَّق: أن لفضيلة الأستاذ الخضر تآليفَ أخرى لم أتصل بها، قد يمكن أنها طبعت في سورية عندما كان شيخي مدرساً بالجامع الأموي في دمشق، وبالمدرسة السلطانية، أو في مصر في أثناء المدة الطويلة التي أقامها هناك. * دخوله في الجنسية المصرية: ولما كانت قوانين مصر مانعةً من مباشرة غير المصريين للوظائف بأنواعها

بين شرعية وعادية، فقد انخرط في سلك المتجنسين بالجنسية المصرية منذ عهد بعيد. * توليته مشيخة الأزهر: إن انخراط شيخي في سلك العضوية باللجنة العلمية لهيئة كبار العلماء قد رشحته لأن يتبوأ مقعده من رئاسة مشيخة الجامعات الأزهرية عن كفاءة ولياقة وخبرة تامة غير محدودة. ولهذا السبب فقد عينته حكومة مصر الحديثة شيخاً للجامعات الأزهرية. وكان إسناد المشيخة إليه عندما عرضت عليه الخطة بوساطة ثلاثة وزراء قصدوا محلَّه لهذا الغرض حتى لا يردَّ لهم طلباً. * صدى توليته المشيخة: كان لتوليته هذه الخطة المعتبرة صدى كبير بالعالم الإِسلامي؛ لأن شخصيته معروفة، ولا سيما بتونس والجزائر وسورية ومصر؛ حيث يَعرفه تلاميذه الكثيرون، مع سمعة واسعة. وقد اهتزت كافة الأوساط التونسية سروراً للفخر الذي ناله جامع الزيتونة الأعظم؛ إذ أنجب مثلَ هذا العالم الكبير الذي أصبح على رأس العلماء الأعلام بالعالم أجمع؛ لأنه يترأس الأزهر الذي يمثل أعظم كلية دينية بالعالم الإِسلامي. وقد هنأته المنظمات الزيتونية، وهنأته تونس الفخورة بابنها البار، وكان على رأس المهنئين: عاهل المملكة التونسية ملكُنا المحبوب سيدنا ومولانا محمد الأمين الأول -أيده الله، وأطال عمره-. أما كاتب هذا الفصل، فكواحد من أبنائه البارين، وتلامذته المخلصين،

فأهنئه من صميم فؤادي، أصالةً عن نفسي، ونيابة عن إخوانه، داعياً الله أن يعينه على ما أولاه، وأن يجري الخير على يديه، وأن يمد في أنفاسه، حتى ينتفع المسلمون بمواهبه الفطرية والكسبية، كما انتفع إخوانهم من قبلهم بعلمه الغزير.

شيخ الأزهر السابق السيد محمد الخضر حسين

شيخ الأزهر السابق السيد محمد الخضر حسين (¬1) (1293 - 13 رجب 1377 هـ) بقلم محب الدين الخطيب "الكاتب والصحفي والمجاهد. ولد بدمشق (1303 هـ - 1886 م) وتوفي بالقاهرة (1389 هـ 1969 م). أصدر: مجلة "الزهراء"، و"الفتح" له مؤلفات، منها: "الحديقة" - "اتجاه الموجات البشرية في جزيرة العرب" - "الدولة والجماعة" - "الزهراء". هذا رجل آمن بالإِسلام ودعوته، وأحبَّ من صدرِ حياته أن يكون من الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]. إن الاستقامة على طريق الله بعلم وحزم، وحكمة ويقين، هي الولاية، فإذا تعارضت مصلحة الدين ومصلحة الدنيا أمام الرجل المسلم، فآثر مصلحة الدين على مصلحة الدنيا، ومضى على ذلك في تصرفاته كلها مدى الحياة، فهو من أولياء الله؛ أي: من أنصاره. والولاية هي النصرة، وقد جرت سنة الله أن يأخذ بأيدي أوليائه، وينصرهم ما نصروا دعوته وسنته في الأرض، وهذه المرتبة في متناول يد كل من رامها من شبابنا وكهولنا وشيوخنا، إذا آلى أن ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" القاهرة - الجزء الثامن من المجلد التاسع والعشرين.

يجعلها وِجْهَته في مراحل الحياة. وسأتحدث في هذه الصفحات إلى إخواني من شباب المسلمين وكهولهم وشيوخهم عن مراحل حياة هذا الرجل المؤمن بالإِسلام؛ كما راقبتها فيه، أو علمتها منه من سنة 1330 هـ إلى أن اختاره الله إليه. ولد السيد محمد الخضر حسين عام 1293 في بلدة "نفطة" من بلاد الجريد في الوطن التونسي. وأبوه من أسرة شريفة أصلها من الجزائر، وقد حدثني قبل ولايته مشيخة الأزهر عن ظهير من أحد ملوك المغرب الأدارسة إلى جد من جدود الشيخ يتعلق بنسبهم. وأرجو ممن صارت إليهم أوراقه أن يُعْنَوا بما فيها من أمثال ذلك؛ ليستعان بها في تدوين سيرته، وإرسال شعاع من نور على الأزمان التي عاشها في مراحل حياته. وكانت أمه من صالحات النساء، وله فيها قصيدة "بكاء على قبر" لما بلغه خبر وفاتها سنة 1335 م. وكان أبوها الشيخ مصطفى بن عزوز، من أهل العلم والفضل، له ترجمة في "تاريخ الوزير أحمد بن أبي الضياف"، وأبو جده لأمه محمد بن عزوز، من الأفاضل -أيضاً- وله ترجمة في كتاب "تعريف الخلف برجال السلف" للشيخ الحفناوي بن عروس. وخاله السيد محمد المكي بن عزوز، من كبار العلماء الصالحين، وكان موضع الإجلال والاحترام من رجال الدولة العثمانية في العهد الحميدي، وقضى الشطر الأخير من حياته في الآستانة برغبة من السلطان، وله مؤلفات معروفة. ولفقيدنا قصيدة في تأبينه ووصفه لمناسبة وفاته سنة 1334 م أثبتها في (ص 180) من "ديوانه" في طبعته الثانية. وفي سنة 1305 هـ انتقلت أسرتهم من "نفطة" إلى العاصمة التونسية،

وكان فقيدنا في الثانية عشرة من حياته، وقد تأدب قبل ذلك بأدب الإِسلام، وتلقى كتاب الله، ومبادئ العلوم الشرعية والعربية. فلما نزلوا تونس، التحق بجامعها الأعظم "جامع الزيتونة"؛ وأخذ يتنقل في مراحل التعليم، وكان من أبرز شيوخه: العلامة الكبير الشيخ سالم بو حاجب، المتوفى سنة 1339 هـ -رحمه الله-. ولفقيدنا أبيات في وصفه ورثائه هي في "ديوانه" (ص 101). وحوالي سنة 1321 هـ حصل على شهادة العالمية من جامع الزيتونة، وما لبث أن أصدر مجلة "السعادة العظمى"، وأخذ يساهم في النهضة العلمية والأدبية، ويباري رجالها لإحراز قصبات السبق طمعاً في مرضاة الله. وفي "ديوانه" (ص 73) قصيدة نظمها في هذه الحقبة انطوت على روح الدعوة التي أنشأ هذه المجلة للقيام بها. وفي سنة 1324 هـ تولى قضاء "بنزرت" ومنطقتها. وفي مساء 17 ربيع الآخر من تلك السنة ألقى محاضرة عنوانها: "الحرية في الإِسلام" في نادي (قدماء خريجي المدرسة الصادقية) بلغت 64 صفحة، ودلت على نزعته المبكرة إلى الحرية، وفهمه السليم لرسالة الإِسلام من هذه الناحية. ولم تطل مدة ولايته القضاء, لأن الجمع بينه وبين انطلاقه الفكري في بلد محتل بالاستعمار الملعون كان محاولة للجمع بين الضدين، لذلك رأيناه في سنة 1373 هـ عاد مدرساً في جامع الزيتونة، ولعله فارق القضاء قبل تدريسه في الزيتونة، فتولى التدريس قبل ذلك في المدرسة الصادقية، وكانت المدرسة الثانوية الوحيدة في الوطن التونسي كله. وفي مساء السبت 11 شوال 1327 هـ ألقى في نادي (الجمعية الخلدونية)

بتونس محاضرة عنوانها: "حياة اللغة العربية"، تحدث فيها عن أطوار هذه اللغة، وفصاحة مفرداتها، وحكمة تراكيبها، وتعدد أساليبها، وما تفردت به من إعجاز الإيجاز، وبدائع التشبيه، وارتقاء مستوى اللغة بارتقاء التمدن العربي. وتحدث عن العامية والعربية والفصحى. وفي "ديوانه" (ص 23) قصيدة نظمها سنة 1328 هـ بعد ولايته القضاء والتدريس، يوجه بها أنظار القائمين على جامع الزيتونة إلى ضرورة العناية بتدريس الإنشاء، وتمرين الزيتونيين عليه؛ ليكون للوطن من علماء هذا المعهد الإِسلامي كتّاب بارعون، يؤدون مهمة الدعوة، ويقودون الأمة إلى أهدافها. وفي تلك السنة مرت بتونس بعثة الهلال الأحمر العثماني قاصدة طرابلس الغرب بعد حملة البغي الإيطالي عليها، فنظم قصيدة يدعو فيها إلى معونة هذه البعثة وإعانتها، وهي في "الديوان" (ص 33). وفي السنة التالية (1329 هـ) وجهت إليه التهمة ببث روح العداء للغرب، ولا سيما سلطة الحماية الفرنسية، فسافر إلى الآستانة متذرعاً بزيارة خاله السيد محمد المكي بن عزوز، ولما ظن أن الزوبعة هدأت، عاد إلى تونس بطريق نابولي. انظر: "ديوانه" (ص 115 و 164)، ولما استقر به المقام، رأى أنه لن يطيق البقاء في ذلك الجو الخانق، فأزمع الهجرة منه نهائيًا، ووقع اختياره على دمشق ليتخذها وطناً ثانياً له، وقد مر بنا في مصر هذه المرة (سنة 1330 هـ)، وسعدت بالتعرف به، واجتمع عندي بشيخنا الشيخ طاهر الجزائري، وأحمد تيمور باشا، والسيد رشيد رضا، وأضرابهم، وكثت وقتئذ أعمل في قلم تحرير "المؤيد". ولما وصل إلى دمشق، كانت الحركة العربية في بدايتها، وكانت الأمة

تطالب الحكومة العثمانية بإعطاء اللغة العربية حقها من التعليم في المدارس الرسمية، فعين السيد محمد الخضر حسين مدرساً للغة العربية في المدرسة السلطانية بدمشق، وكانت سكة الحجاز الحديدية متصلة فيما بين دمشق والمدينة المنورة، فزار المسجد النبوي سنة 1331 هـ. وله في هذه الزيارة قصيدة في "الديوان" (ص 106). وفي هذه الفترة زار تونس، وفي "ديوانه" من ذكريات هذه الزيارة أبيات في (ص 126 و 134). وذهب في هذه المدة إلى الآستانة، ولقي وزير حربيتها أنور باشا، واختير الشيخ محرراً عربياً في وزارة الحربية. كان في هذه الحقبة قد عرف دخيلة الحال في الدولة، وأصيب بخيبة أمل بين ما كان يتصوره بعين الخيال، وبين ما رآه بعين الحقيقة، فنظم في سنة 1332 هـ أبياتاً بعنوان: "بكاء على مسجد ضائع" تجدها في "ديوانه" (ص 61) ومنها: أَدْمَى فُؤادي أَنْ أَرَى الـ ... أقلامَ تَرْسُفُ في قُيودِ فَهَجَرْتُ قوماً كنتُ في ... أنظارِهم بيتَ القَصيدِ وَحَسِبْتُ هذا الشرقَ لم ... يبرحْ على عهدِ الرشيدِ فإذا المجالُ كأنه ... من ضِيقه خُلُقُ الوليدِ وفي سنة 1333 هـ أرسله أنور باشا إلى "برلين" بمهمة رسمية، فقضى في ألمانيا تسعة أشهر، اجتهد في خلالها أن يتعلم الألمانية، وفي "ديوانه" قطع كثيرة مما نظمه هناك. ومن ذلك: أنه كان في قطار بضواحي برلين يرافقه مدير الأمور الشرقية

بوزارة الخارجية الألمانية، وكان يتحدث مع شاب ألماني باللغة الألمانية، ثم أقبل مدير الأمور الشرقية على الشيخ: وقال له: أليس هكذا يقول ابن خلدون: إن العرب أبعدُ الناس عن السياسة؛ فنظم الشيخ في هذه الحادثة أبياتاً يقول فيها: عَذِيريْ منْ فَتًى أَزْرَى بقَومي ... وفي الأهواءِ ما يَلِدُ الهُذاءَ سلوا التاريخَ عن حُكْم تَمَلَّتْ ... رَعاياهُ العدالةَ والرَّخاءَ هو الفاروقُ لم يُدْرِكْ مَداه ... أميرٌ هَزَّ في الدُّنيا لِواءَ وأدركه عيدُ الفطر في "برلين"، فقال: يَوْمَ عيدٍ وما تَفتّقَ كِمٌّ ... عن أَنيسٍ ولا كَسَمِّ الخياطِ أينَ جيرانُنا وأينَ المُصَلَّى ... وخَطيبٌ يَهدي لخيرِ صِراطِ لو تقاضيتُ في اغترابيَ أَمْراً ... نهضَتْ همَّتي له ونَشاطي لأَدَرْتُ العِنانَ نحوَ دمشقٍ ... وحَمِدْتُ السُّرى على الأشواطِ وعاد إلى الآستانة، فوجد أن خاله المكي قد توفي بها قبل قدومه بنحو شهرين، فرثاه بما في "الديوان" (ص 180)؛ ثم ضاقت به العاصمة العثمانية على سعتها، وصرفه عنها وعن عظمتها يومئذ ما كان يشعر به من الشوق إلى دمشق، حتى تمكن من الوصول إليها، والاستقرار فيها. غير أنه ما لبث أن ناله شُواظ من شرور السفاح الجنكيزي أحمد جمال باشا، الذي لم يسلَم فاضلٌ من شره، فاعتقل في رمضان سنة 1334 هـ وكان في زنزانة واحدة هو والأستاذ سعدي بك الملا، الذي تولى رئاسة الوزراء اللبنانية بين الحربين العالميتين، وكانت جريرة سعدي بك الملا: أنه كان سكرتيراً لشكري باشا

الأيوبي، من كبار رجال الجيش العثماني الذين أنجبتهم الشام، أما شكري باشا، فكان تحت التعذيب الأليم الذي يذكر الناس بديوان التفتيش الكاثوليكي في إسبانيا، ومن شعر السيد محمد الخضر حسين في هذا الاعتقال: جَرَى سَمَرٌ يومَ اعتُقِلْنا بفُندقٍ ... ضُحانا به ليلٌ، وسامِرُنا رَمْسُ فقالَ رَفيقي في شَقَا الحَبْسِ: إِنَّ في الـ ... ـحَضارَةِ أُنْساً لا يُقاسُ به أُنْسُ فقلتُ لهُ: فَضْلُ البَداوةِ راجِحٌ ... وَحَسْبُكَ أنَّ البدَو ليسَ بهِ حَبْسُ وأكبرُ ظني أنه كان لأنور باشا دخل في إنقاذ شيخنا من قبضة جمال باشا، فما كاد يفرج عنه، ويخرج، حتى أزمع السفر إلى الآستانة، وما كاد القطار يسير به حتى قال، وهي في "الديوان" (ص 126): أُرَدِّدُ أَنفاساً كذاتِ الوقودِ إذْ ... رَمَتْني من البَيْنِ المُشِتِّ رواشِقُ وما أنتَ مثلي يا قطارُ وإن نَأَى ... بِكَ السيرُ تغشى بلدةً وتُفارقُ فما لكَ تُلْقي زَفْرَةً بعدَ زفرةٍ ... وشملُكَ إذْ تَطْوي الفَلا متناسِقُ ولما بلغ الآستانة، أوفده أنور باشا سنة 1335 هـ للمرة الثانية إلى ألمانيا، فقضى فيها زمناً طويلاً، وعاد إلى الآستانة، ثم إلى دمشق، فتولى التدريس بالمدرسة السلطانية مرة أخرى بقية سنة 1335 هـ ثم في سنة 1336، وفي هذه المدة شرع في دراسة كتاب "مغني اللبيب" في علم العربية لجمال الدين بن هشام (706 - 761 هـ) بمحضر جماعة من أذكياء طلاب العلم بدمشق، وكان يرجع في تقرير المسائل المتصلة بالسماع والقياس إلى تلك الأصول المقررة والمستنبطة، فاقترح عليه أولو الجِدِّ من الطلبة جمعَ هذه الأصول المتفرقة؛ ليكونوا على بَيِّنة منها ساعة المطالعة، فألف مقالات

تشرح حقيقة القياس، وتفصل شروطه، وتدل على مواقعه وأحكامه، ومن هذه المقالات تألفت رسالة "القياس في اللغة العربية" التي أعاد عليها نظره بمصر، ونال بها عضوية جماعة كبار العلماء وقمنا بطبعيها سنة 1353 هـ. وفي سنة 1337 هـ ذهب إلى الآستانة، وكانت الحرب العالمية الأولى في نهايتها، والحالة في دولة الاتحاد والترقي مؤذِنَة بالزوال، فتوجه إلى ألمانيا، وقضى هناك سبعة أشهر؛ وكانت عودته منها في هذه المرة إلى دمشق رأساً. وهو يقول "الديوان" (ص 200): سئمتُ، وما سئمتُ سوى مُقامي ... بدارٍ لا يَروجُ بها بَياني فأزمعتُ الرحيلَ، وفَرْطُ شوقي ... إلى بَرَدى تَحَكَّمَ في عِناني هَلُمَّ حَقيبتي لأَحُطَّ رَحلي ... فَنَفْح زهورِ جِلَّقَ في تَداني ووافقت عودةُ الشيخ إلى دمشق دخولَ الجيش العربي، وولاية فيصل ابن الحسين على سورية، وفيها اجتمعتُ بالشيخ مرة أخرى بعد عودتي من الحجاز لأتولى الجريدة الرسمية للحكومة السورية، وكنت أقوم بتأسيس المعهد العلمي، وأدير اللجنة الوطنية العليا مع المجاهد الكبير العلامة الشيخ كامل القصاب -رحمه الله- فكنت ألقى الشيخ الفقيد مراراً، ومن شعره يومئذ متضجراً من كثره أسفاره السابقة، ومتمنياً الاستقرار في دمشق المدينةِ التي أحبها، والأبيات في "الديوان" (ص 41): أَنا كأسُ الكريم والأرضُ نادٍ ... والمَطايا تطوفُ بي كالسُّقاةِ كَمْ كؤوسٍ هَوَتْ إلى الأرض صَرْعى ... بَيْنَ كفٍّ تُديرُها واللَّهاةِ فاسْمَحي يا حياةُ بي لبخيلٍ ... جفنُ ساقيهِ طافِحٌ بِسُباتِ

وأراد الله أن يقع الاحتلال الفرنسي، فعدت أنا إلى مصر على الإبل بزي أعرابي، وبقي الشيخ في دمشق على أمل أن يعود إلى تونس فيكمل حياته فيها، ولكن الله أراد له اللحاقَ بنا إلى مصر في العام التالي (1339 هـ). وله في ذلك موشحة لطيفة في "الديوان" (ص 245). وقال عند سفره من دمشق "الديوان" (ص 160): كَأَنِّيَ دينارٌ وجِلَّقُ راحَةٌ ... تُنافِسُ في الإنفاقِ راحَةَ حاتمِ فكَمْ سَمَحَتْ لي بالرحيلِ، وليتني ... ضربتُ بها الأوتادَ ضربةَ لازمِ وفي مصر أخذ يشتغل بالكتابة والتحرير والدرس. وفي سنة 1340 هـ ألف رسالته "الخيال في الشعر العربي". وبعدئذ كسبته دار الكتب المصرية، فالتحق بقسمها الأدبي عدة سنين، ثم تجنس بالجنسية المصرية، وتقدم للامتحان في الأزهر، فقام على امتحانه لجنة برئاسة العلامة الشيخ عبد المجيد اللبان، وكانت اللجنة كلما اكتشفت آفاق علمه، زادت في التعمق بمناقشته، واستخراج كنوز فضله، وأصبح بعدئذٍ من أكمل أساتذة هذا الصرح العلمي العظيم في عصور الإِسلام الطويلة، وإن تلاميذ الشيخ صاروا فحول العلماء، وأطواد التحقيق في الشريعة وعلوم العربية. وإن كثيرين منهم كانوا يرغبون في القيام بواجب الكتابة عن فضله وأياديه الكريمة في التحقيق وتخريج الرجال، فلما علموا أني ساكتب عنه، تخلوا لي -حفظهم الله- عن هذه المهمة؛ لما يعلمونه من طول خلطتي به، وقديم صداقتنا التي أعتز بها، وطالما أفدت منها. وفي سنة 1342 هـ أسس (جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية)، وسَنَّ لها قانوناً قمت أنا بطبعه.

وفي سنة 1343 هـ مرض مرضاً شديداً ردد صداه في شعره "الديوان" (26)، ومنه: أَطَلَّ عليّ الموتُ من خَلَل الفنا ... فآنستُ وجَه الموتِ غيرَ كئيبِ ولو جَسَّ أحشائي لَخِلْتُ بَنانَهُ ... وإنْ هالَ أقواماً بنانَ طَبيبِ فلا كانَ من عيشٍ أرى فيه أُمَّتي ... تُساس بِكَفَّيْ غاشمٍ وغريبِ وفي سنة 1344 هـ ظهر كتاب "الإِسلام وأصول الحكم"، وكان السيد محمد الخضر صديقاً حميما لآل عبد الرازق ويزورهم، ويسر بلقائهم، فلما كاد الكتاب ينتهي طبعه، وكان لا يعرف مذهب مؤلفه فيه، طلبوا منه أن يمدهم بعناوين كبار العالم العربي والإِسلامي؛ ليهدوا الكتاب إليهم، فطلب الشيخ هذه العناوين مني، وكتبت له بها قائمة طويلة، ثم صدر الكتاب، وأهدوا نسخة منه إلى الشيخ، ونسخة أخرى لمجلة "الزهراء" التي كنت أصدرها، فراعنا من الكتاب أنه ينكر كونَ الإِسلام دينَ حكم، فانتقدته أنا في مجلة "الزهراء"، وكتب الشيخ علي مقالة افتتاحية في جريدة "السياسة" يجيب بها على نقدي، وتفرغ فقيدُنا لنقد الكتاب فقرةً فقرة، وفي أقرب وقت صدر كتاب "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم"، وفي شهر واحد نفدت طبعته؛ لشدة الإقبال عليها. وفي السنة الثانية (1345 هـ) افتضحت رسالة "في الشعر الجاهلي"، فعكف الشيخ على نقض كل ما فيها من باطل، وصدر كتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، وبقيت بقية من آخر أقلام استعملها في تأليفه، فأهداها إلى خزانة العلامة أحمد تيمور باشا.

وكتب -أيضاً- في بطاقة ربطها ببقية القلم، وهي في "الديوان" (ص 81)، وهي: سَفَكَتْ دمي في الطِّرسِ أَنْمُلُ كاتب ... وطَوَتْني المبراةُ إلا ما تَرَى ناضَلْتُ عن حَقٍّ يحاول ذو هَوًى ... تصويرَه للناسِ شيئاً مُنْكَرا لا تَضْرِبوا وجهَ الثَّرى ببقيةٍ ... مني كما تُرمى النواةُ وتُزْدَرَى فخزانةُ الأستاذِ تيمورَ ازدَهَتْ ... بِحُلًى من العرفان تَبْهَرُ مَنْظَرا فأنا الشهيدُ وتلكَ جنّاتُ الهُدى ... لا أبتغي بسِوَى ذُراها مَظْهَرا وفي سنة 1346 هـ أسسنا المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين، وكان الفقيد مع تيمور باشا -رحمهما الله- ركنين ركينين في تأسيسه، وقد عُبِّئَت لذلك يومئذ كل الشخصيات المناصرة للإسلام من شباب وكهول، فكان تأسيس تلك الجمعية نقطةَ تحولٍ بين تيار العداء للإسلام باسم التجديد، وبين قيام كيان مرموق للإسلام في وادي النيل. ولما تم النجاح في هذا العمل الحميد، تفرغ فقيدنا لتأسيس (جمعية الهداية الإِسلامية)، فضمت أهل الغيرة والنشاط من شباب الأزهر وشيوخه، ومن نَهَجَ منهجَهم من المثقفين ثقافة مدنية. وكما صدرت لجمعية الشبان مجلة، صدرت لجمعية الهداية مجلة. وكما قامت لجمعية الشبان فروع في الأقطار، قامت للهداية فروع مثلها. وفي محرم سنة 1349 هـ صدرت مجلتنا هذه "الأزهر"، وكان عنوانها يومئذ: "نور الإِسلام"، فتولى فقيدُنا رئاسة تحريرها من جزئها الأول إلى ربيع الآخر سنة 1352 هـ، وفي سنة 1350 هـ عاوده مرض مزعج أثار فيه خواطر شعرية تراها في (ص 42) من "ديوانه".

وواصل -رحمه الله- السنين المباركة في حياته بعد ذلك في التدريس بكلية أصول الدين على طريقة العلماء الأقدمين في التحقيق، والرجوع بقضايا العلم إلى أصولها، والغوص في أعماقها. ويقضي الليالي في محاضرة جماهير الشباب وأهل الفضل بدار جمعية (الهداية الإِسلامية) داعياً إلى تجديد حيوية الإِسلام في نفوس أهله، وتقرير حقائقه بأساليب بليغة كانت موضع الحرمة والتقدير من جميع الطبقات، وقد نشر بعضها مستقلاً، أو على صفحات مجلة "الهداية الإسلامية"، ثم جمع الكثير منه في كتابه "رسائل الإصلاح" الذي طبع في ثلاثة أجزاء. وعندما أسس المجمع اللغوي، كان من أقدم أعضائه، وله فيه بحوث وقصائد ودفاع عن الفصحى، وتبيان لأسرارها، وعرض لجواهرها. وما زال مستمراً في التأليف والخطابة والوعظ في "الهداية الإِسلامية"، والتدريس في الحلقات العليا بالأزهر. وفي سنة 1366 صدرت مجلة "لواء الإِسلام"، وعهد إليه برياسة تحريرها، وظل يواصلها ببحوثه إلى آخر حياته المباركة. وفي سنة 1370 نال عضوية هيئة كبار العلماء برسالة "القياس في اللغة العربية" التي ألف أصلها وهو في دمشق أيام الحرب العالمية الأولى. وفي يوم الثلاثاء (26 من ذي الحجة 1371 هـ - 16 سبتمبر 1952 م) خرج من مجلس الوزراء أثناء انعقاده ثلاثة من أعضاء ذلك المجلس، فتوجهوا إلى المنزل الذي كان يسكنه الشيخ في شارع خيرت، وعرضوا عليه مشيخة الأزهر باسم حكومة الثورة، وجاء الشيخ إلى مشيخة الأزهر، وللأزهر في ذهنه رسالة يتمنى لو اضطلع بها الأزهر؛ ليتم له بها حمل أمانة الإِسلام.

وكان هذا الاختيار تحقيقاً للأخوة الإِسلامية في الدستور الإِسلامي، وبرهاناً من الله -عَزَّ وَجَلَّ- على أن من كان مع الله، كان الله معه، وعلى أن من عاش يؤثر الآجلة على العجلة عند اختلافهما، فإن الله يكافئه بخير مما يطمع فيه الذين يؤثرون العاجلة على الآجلة. ولما أضعفته الشيخوخة عن مواصلة الاضطلاع يحمل هذه الأمانة، عاد إلى منزله يواصل العكوف على الكتب والكتابة والتفكير، حتى لقد نظم ديواناً آخر كله مقطعات في الحكمة والخواطر التي تحوم حول الحق والخير. وفي يوم 13 رجب مساء اختاره الله إليه، وهو لا يزال على عهده الأول من {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]، فكان جديرًا بما وعد الله به أمثاله أن {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]. وفي ظهر اليوم التالي صُلي عليه بعد الفريضة في الجامع الأزهر، ومشى في موكب جنازته علماء الأزهر، وأعيان الأمة، والمنتسبون إلى العلم، حتى بلغ النعش باب الخلق والموكب متصل فيما بينه وبين الأزهر، ودفن بجوار صديقه أحمد تيمور باشا بوصية منه، رحمهما الله وصالحي المسلمين، وتغمدهم برحمته.

المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين

المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين بقلم محمد علي النجار "كلمة ألقاها الكاتب الإِسلامي الأستاذ محمد علي النجار في حفل تأبين الإمام محمد الخضر حسين، في جلسة مجمع اللغة العربية بالقاهرة بتاريخ 13/ 3/ 1958 الدورة الرابعة والعشرون" (¬1). كتب عليّ أن أؤبن أستاذي الأكبر والإمام الأجل الشيخ محمد الخضر حسين، فيتجدد عندي من الأسى والحسرة ما تجرعته عند نزول شَعُوب به، وجواره لربه. وكأنما هذا بديل بما تمتعت به في مجالسته، والاستماع إلى حديثه العذب ورأيه السديد وعلمه الغزير، والحظو بأدبه الجم، ومناقبة الغر. وأذكر هنا فصلاً للأستاذ خليل مردم، من كتاب له إلى فقيدنا حين كان في دمشق، وأزمع مفارقتها: "إن من خير ما أثبته في سجل حياتي، وأشكر الله عليه: معرفتي إلى الأستاذ الجليل السيد محمد الخضر التونسي، وإخوته الفضلاء، وصحبتي لهم. فقد صحبت الأستاذ عدة سنين، رأيته فيها الإنسان الكامل الذي لا تغيره الأحداث والطوارئ. فما زلت أغبط نفسي على ظفرها بهذا الكنز الثمين حتى فاجأني خبر رحلته عن هذه الديار. فتراءت لي حقيقة المثل: "بقدر التواصل تكون حسرة التفاصل". ¬

_ (¬1) مجلة "مجمع اللغة العربية" القاهرة - الجزء الرابع عشر.

والأستاذ خليل مردم يتوجع لمفارقة في الحياة يرجى بعدها اللقاء. فكيف تكون فجيعتنا فيه وهذا فراق لا لقاء بعده، إلا في يوم التلاق. وما أحرانا أن نتمثل بقول الشاعر يتوجع لفراق أخيه: وكنت أرى كالموت من بين ليلة ... فكيف ببينٍ كان ميعاده الحشر وهوَّن وجدي أنني سوف أغتدي ... على إثره يوماً وإن نفس العمر أجل، كتب عليَّ هذا الموقف المحزن لأذكر حياة الأستاذ السيد الخضر الحافلة بالفضل والجهاد، وإعلاء كلمة الإِسلام والعروبة، والحفاظ على المجد الطارف والتليد، عملاً بسنة مجمع اللغة العربية المحمودة في تأبين من يرحل من أعضائه. وكان الشيخ - رضي الله عنه - يؤثر أن يُدعى له بعد موته، فذلك أحبُّ إليه من التأبين، وهو يقول: تسائلني هل في صحابكَ شاعر ... إذا متَّ قال الشعرَ وهو حزين فقلت لها: لا همّ لي بعد موتتي ... سوى أن أرى أخراي كيف تكون وما الشعر بالمغني فتيلاً عن امرئ ... يلاقي جزاء والجزاء مهين وإن أحظ بالرحمى فمالي من هوى ... سواها وأهواءُ النفوس شجون فخلّي فعولن فاعلاتٌ تُقال في ... أناس لهم فوق التراب شؤون وإن شئتِ تأبيني فدعوةُ ساجد ... له بين أحناء الضلوع حنين وبلى، والله! كان للشيخ فوق التراب شؤون وشؤون، فهو حقيق أن يرثيه الشعراء والكتاب، وأن تفيض عليه الشؤون. وإن شؤونه لتفتح عليهم أبواب الكلام، وتحوك لهم جياد القصيد. ألم يكن علماً من أعلام الإِسلام والعربية ذاع أمره وطاب ثناه؟ ألم

يكن داعياً من دعاة الخير والهدى الحميد؟ ألم يكن المثل الأعلى في الخلق وطيب النحيزة؟ وقد تفضل الأستاذ الجليل محمد شفيق غربال، فأعطاني كتاباً لمستشرق كندي وصفه في تاريخ الإِسلام في العصر الحديث، تحدث في فصل منه عن مقالاته في مجلة "نور الإِسلام" -وهي مجلة الأزهر لأول نشأتها-، وعمق النظر فيها، وأثنى عليه أطيب الثناء، وهو يصفه أنه مثالي. ومن كلامه: "أما أنه رجل مثالي، فهذا ما يتبادر من كتابته. وهو مثالي من الوجهة النفسية والأخلاقية على حد سواء". ومن كلامه أيضاً في هذا المعنى: "ومثله في المشاركة الفعلية، وجهاده في إصلاح المجتمع، ومثله في الدماثة الشخصية -حتى مع أعدائه-، ولكن مع التحرر من معرة الملق والمداهنة، ومن نقيصة التظاهر والرياء، ومثله في الكمال العقلي الدقيق، واحترام النفس، والاعتدال، والبعد عن النقائص -مثل: الكبر والمهانة- هذه المثل وغيره يصورها الخضر بصورة واضحة خاصة به لرسم طابعها الخلقي". أجل، ألم يبلغ أقصى ما يبلغه أمثاله، فكان شيخاً للجامع الأزهر، وإنما أتاه بهذا المنصب: العلم، والحلم، والحسب، والفضل الغزير، فحفظ للمنصب رونقه وجلاله؟! والذي يتناول حياة الشيخ ينتشر عليه مجال القول، ولا يدري أي وجه يأخذ، فكل أمره بارع، وكل شأنه سامق. وهمّي في هذا المقام أن أذكر موجزاً بسيرته، وسيتناولها الناس بالبسط والتفصيل في مقاوم أخرى. * نشأة الشيخ: ولد الشيخ في "نفطة" من أعمال تونس، ويقول فيها ياقوت: "مدينة بأفريقية من أعمال الزاب الكبير. وأهلها شراة أباضية، وهبية متمردون".

وإفريقية هي إقليم تونس، وكأنما توارث أهل "نفطة" خلق الشراة -وهو العزة والأنفة من الجور-، فنشأ الشيخ على هذا الخلق، وحالفه طول دهره. وكان مولد الشيخ في سنة 1294 هـ (يوافق 1877 م) من أسرة كريمة. ونرى في شعره الحديث عن والدته إذ يرثيها في سنة 1335 هـ (1916 - 1917 م)، وهي من بيت عريق في العلم والفضل: بيت عزوز، ويقول فيها: بنت عزوز لقد لقنتنا ... خشية الله وأن نرعى الذماما كنت نوراً في حمانا مثل ما ... نجتلي البدر إذا البدر تسامى أفلم تُحْييه بالقرآن في ... رقة الخاشع ما عشتِ لزاما كنتِ لي روضةَ أنسٍ أينما ... سرت أهدت نفحَ وردٍ وخزامى ويذكر الشيخ كثيراً خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز، وكان مدرس الحديث في دار الفنون بالآستانة. ورثاه الشيخ إذ مات في هذه المدينة في سنة 1334 هـ، ويقول فيه: رب شمس طلعت في مغرب ... وتوارى في ثرى الشرق سناها هاهنا شمس علوم غربت ... بعد أن أبلت بترشيش ضحاها وترشيش: اسم قديم لتونس. وقد حفظ القرآن، وشدا شيئاً من الأدب في بلدته. ونراه يقول في هذه الحقبة من حياته: "نشأت في بلدة من بلاد الجريد بالقطر التونسي يقال لها "نفطة"، وكان للأدب المنظوم والمنثور في هذه البلدة نفحات تهب في مجالس علمائها. وكان حولي من أقاربي وغيرهم من يقول الشعر، فتذوقت طعم الأدب من أول نشأتي، وحاولت -وأنا في سن الثانية عشرة- نظمَ الشعر. وفي هذا

العهد انتقلت أسرتي إلى مدينة تونس، والتحقت بطلاب العلم بجامع الزيتونة". ويؤرخ الشيخ دخوله جامع الزيتونة بسنة 1307 هـ؛ أي: سنة 1899 م. ويذكر الشيخ أنه تلقى العلم عن جلة الشيوخ، وذكر منهم: الشيخ سالماً أبا حاجب، والشيخ عمر بن الشيخ، والشيخ رضوان. . . وهو لا ينسى عهد طلبه العلم، ولا يفتأ يذكر شيوخه، ويرثي من مات منهم. ونراه يكثر الحنين إلى منازه تونس، ومعاهد صباه وشبابه. فهو يقول في كلمة بعث بها رداً على تحية له من تونس: بعيشك حدثني عن المعهد الذي ... قضيت به عهد الشبيبة رائدا حظيت بأشياخ ملأت الفؤاد من ... تجلتهم لما خبرت الأماجدا بيان أديب يقلب الليل ضحوة ... وفكرة نحرير تصيد الأوابدا فلم يُرني أدرى وأنبلَ منهم ... رحيلٌ طوى بي أبحراً وفدافدا كان الشيخ يحن إلى تونس ومغانيها، ولكنه كان لا يرى العودة إليها إلا بعد تطهيرها من قذى الفرنسيين، ونراه يقول: فأين ليالينا وأسمارها التي ... تُبل بها عند الظماء كُبودُ ليال قضيناها بتونس ليتها ... تعود وجيشُ الغاضبين طريدُ وكان الشيخ أبو حاجب أحب الشيوخ إلى أستاذنا، فكان يكثر ذكره والحديث عنه. فلقد عرف الشيخ قدر تلميذه، وتوسم فيه النجابة ونباهة الشأن. يقول الشيخ الخضر: "وكان شيخنا سالم أبو حاجب يحب من الطلبة البحث، ويلاقي السؤال المهم بابتهاج، ويدعو للطالب بالفتح. كنت يوماً في درسه "الجامع" للبخاري، وقرر الشيخ الفرق بين صبر على كذا، وصبر

عن كذا، فقال: صبرت عن المعصية؛ أي: تركتها، فقلت له: قد ترك الشاعر هذا الفرق إذ قال: والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم فمقتضى هذا الفرق أن يقول: إلا عنك فإنه مذموم. فاغرورقت عيناه، وظهر على وجهه ابتهاج، ودعا لي بخير. ولم يسعه إلا أن يقول: إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض. فالشاعر استعمل (على) موضع (عن) كما قال الآخر: إذا رضيت عليَّ بنو قشير ... لعمرُ الله أعجبني رضاها فإن رضي يتعدى -بحسب الأصل- بـ "عن" كما قال الله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]. ويقول أيضاً في شيخه هذا: "وممن لقيت من الأدباء العلماء: شيخنا الشيخ سالم أبو حاجب، فكان يقول الشعر مع كونه يغوص على المسائل العلمية بفكر ثاقب. سافر مع الوزير خير الدين التونسي إلى الآستانة، وخاطب السلطان بقصيدة، فأمر السلطان بإعطائه وسامًا، وقال له المكلف بإعطاء الأوسمة: هذا وسام براتب، فأبى قبوله، وقال: إن من العيب عندنا أن يحمل العالم وساماً، فلما عاد إلى تونس، قال له ملك تونس: لو قبلتَ الوسام، لغضبتُ؛ لأني كنت عرضتُ عليك مثل هذا، فأبيتَ". ولقد تأثر الشيخ الخضر بشيخه في سمو النفس وظلفها عما لا يجمل بالكريم، وذلك أخص أخلاقه -عليه رحمة الله-، كان يحتذي من القدماء في هذا المعنى القاضي الجرجاني، وتراه يقول: "ومن خير الأدباء العلماء: القاضي عبد العزيز الجرجاني صاحب كتاب "الوساطة بين المتنبي وخصومه".

وحسبك في وصفه، والكشف عن أدبه أبياته التي يقول فيها: يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما يقولون هذا مورد قلت قد أرى ... ولكنّ نفس الحر تحتمل الظما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما وأذكر هنا: أن التاج السبكي أورد أبيات الجرجاني في "معيد النعم" (70)، وقال عقبها: "فلقد صدق هذا القائل. لو عظموا العلم، لعظمهم. وأنا أقرأ قوله: لعَظما -بفتح العين-؛ فإن العلم إذا عُظِّم، يُعَظِّم، وهو في نفسه عظيم. ولهذا أقول: ولكن أهانوه، فهانوا. ولكن الرواية: فهان، ولعُظم -بضم العين-. والأحسن ما أشرت إليه". * حياة الشيخ في تونس بعد تخرجه: تخرج الشيخ في جامع الزيتونة في سنة (1316 هـ - 1898 م)، وهو فقيه كاتب شاعر أديب يستشعر المرارة من سوء الحال في بلده، وبسطة يد الفرنسيين فيه، ويتحرق إلى إعادة مسجد الإِسلام. ورأى أن خير ما ينفق فيه جهده: تنبيه الأفكار، وبعث اليقظة في نفوس الناس، وأن من أقوم السبل في ذلك: الصحافة الواعية الرزان. فأنشأ مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة ظهرت في المغرب، وأخاله كان فيها جسوراً، ينقد ما يراه في قومه من استسلام للأجنبي، ويرسم ما يرى من إصلاح في شتى النواحي، وينشر فيها نفثات الأفكار، ودرر الأخبار. ونراه يقول في شأن هذه المجلة: "وقد كنت -بعد أن نلت درجة العالمية من جامعة الزيتونة- أنشأت مجلة علمية أدبية، وهي أول مجلة أنشئت بالمغرب، فأنكر علي بعض الشيوخ، وظن

أنها تفتح باب الاجتهاد؛ لأني قلت في أول عدد منها؛ "ودعوى أن باب الاجتهاد مغلق لا تُسمع إلا مع دليل يبطل الدليل الذي انفتح به أولاً". وشجعني على إنشائها شيخنا أبو حاجب، وقال لي في باب الشفاء من جامع الزيتونة: أقول لك ما قاله ورقة بن نوفل: "ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي". وكان شجعني عليها كذلك الوزير محمد بوعتُّور. وشكا إليه بعض الشيوخ مما نشر في المجلة مما يتعلق بالخطابة، فأجابه الوزير -وكان من العلماء الأجلة، ورأيت له نسخة من "المفتاح" للسكاكي بخط يده الجميل-: إن ما تنشره المجلة لا يعارض الشرع ولا القانون". ونراه فيها يبكي مسجد المسلمين الضائع، ويستنهض الهمم للصناعة والعلوم المادية، فيقول: أبناء هذا العصر هل من نهضة ... تشفي غليلاً حره يتصعد هذه الصنائع ذللت أدواتها ... وسبيلها للعالمين ممهد إن المعارف والصنائع عُدَّة ... بابُ الترقي من سواها موصد وكان ينشر فيها شعره الحماسي أمير شعراء تونس السيد الشاذلي خازندار. وله يقول الشيخ الخضر: ما زلت أذكر ما خطت يمينك في ... سفر السعادة من آدابك الغرر وأنفع الشعر ما هاج الحماسة في ... شعب يقاسي اضطهاد الجائر الأشر ولقد وضحت خطة الشيخ في حياته: إصلاح اجتماعي وديني، وإيقاظ النفوس لاستعادة مسجد الإِسلام، ونفض غبار الذل والاستكانة للأوربيين. وكان يسميهم تهكماً: المعمرين، وإنما هم المخربون، ودعوة للوحدة بين المسلمين، ونبذ للقوميات الوطنية التي فرقت المسلمين قِدَداً، وبددتهم عباديد

يتقسمهم المستعمرون الأجانب. ويقول في هذا: نادوا بها قومية خرقاء أو ... وطنية لا حبذا ذاك النداء وإذا ذكرت الدين قالوا خلِّنا ... من ذكره وعلى أُخوته العفاء وتجلت مكانته، وعلا كعبه في هذه الحقبة، فولي القضاء في "بنزرت" في سنة 1905، ولكن لم ترقه حياة القضاء، إذ تحول دون ما يريد من الدعوة للجهاد، ومناهضة المستعمر. فترك هذا المنصب، وولي التدريس في جامع الزيتونة؛ حيث تخرج عليه الجلة الفضلاء. وكان مما درّسه إذ ذاك كتاب: "المثل السائر". * هجرة الشيخ من تونس: لبث الشيخ في تونس يحمل علَم الجهاد والإصلاح والاتجاه بالنقد على عسف الفرنسيين. ويقول في بعض حديثه: من يسمونهم بالمعمرين، فلهم في المظالم قصص تملأ أسفارًا، فلا أدري ما أذكر منها وما أدع، وخاطبتني المحكمة الفرنسية سنة 1325 هـ بإشارة من شيخ المدينة أن أكون عضواً في المحكمة لأحضر حكمها بين الوطني والفرنسي، فامتنعت من هذه العضوية، ولم أرض أن يصدر الحكم الجائر بحضوري. وقد حدثت في هذه المدة في تونس ثورات وطنية، قمعت بالغلظة من الفرنسيين، والتنكيل بمن يهيِّج الناس عليهم، فأزمع الشيخ الرحيل من بلده المحبوب الذي عفَّى على محاسنه القومُ الظالمون، واتجه نحو الشرق عسى أن ييسر له في سبيل دعوته ما يجعلها مثمرة مجدية. واستوطن دمشق إذ كانت لا تزال تحت سلطان العثمانيين لم يحتلها الأجنبي. وكان فضله قد سبقه إليها، فنصب للتدريس بالمدرسة السلطانية،

حيث درّس الإمام الشيخ محمد عبده، وكان ذلك سنة 1912. ولقد أظلته الحرب العظمى وهو في دمشق. وكان جمال باشا سفاح الشام يناهض كل دعوة عربية، فوشي إليه بالشيخ، فاعتقله. ويقول الشيخ في اعتقاله: جرى سمر يوم اعتقلنا بفندق ... ضُحانا به ليل وسامره رمس فقال رفيقي في شقا الحبس إن في الـ ... ـحضارة أنساً لا يقاس به أنس فقلت له: فضل البداوة راجح ... وحسبك أن البدو ليس به حبس ورحل بعد هذا إلى الآستانة، حيث أسند إليه التحرير بالقسم العربي بوزارة الحربية، ويقول في هذا: "ولما وليت التحرير بالقلم العربي في وزارة الحربية بالآستانة، قدموا إلي ورقة لأكتب فيها شخصيتي، وما أميل إليه من العلوم أكثر من غيره، وجهة تخصصي العلمي. فكتب أني مختص بعلوم البلاغة وأصول الفقه الإِسلامي. وكان بجانبي أحد علماء "شنقيط"، فقال لي: لم زدت وصف (الإِسلامي)؟ فلم يسعني إلا أن قلت له: كتبتها لزيادة الإيضاح. وقد سمعت من يسمي القوانين الوضعية: فقهًا، فيضعون بالطبيعة للقوانين الوضعية أصولاً، فتكون كلمة (الإِسلامي) للاحتراز عن غيره". وقد سافر إلى ألمانيا مرتين. وكانت المرة الأخيرة حين احتل الحلفاء الآستانة، فرحل زعماء الحركة الإِسلامية؛ كالشيخ عبد العزيز جاويش، والدكتور عبد الحميد سعيد، والدكتور أحمد فؤاد -رحمة الله ورضوانه عليهم-، وقد عادوا -كما يقول هو- في الباخرة التي حملت العثمانيين من "همبرغ" إلى الآستانة، وكان ذلك سنة 1918 م. وهو يتحدث عن ألمانيا في ذكريات كثيرة، يقول في جزء فبراير من

"لواء الإِسلام " 1957: "وأذكر أني حين كنت في ألمانيا لم آكل من لحوم حيوانهم؛ لأني عرفت أنهم لا يذبحون الحيوان بالطريق الشرعي، إنما يقتلونه بالضرب على رأسه، أو بالخنق. وأخذت في ذلك بقوله تعالى عند تعداد المحرم من الحيوان: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3]، وهو ينطبق على ما كانوا يفعلون". ويقول في "رسائل الإصلاح" (1/ 66): "أقمت في عاصمة ألمانيا وبعض مدنها وقراها زمناً غير قصير، فلم أر قط سائلًا سليم البنية، بل لم أر في تلك الديار متكففًا غير نفر قليل يتكفف، إذ لا يعدم سليم البدن أن يجد هناك عملاً حيوياً إذا شاء. والتعليم هناك -وهو إلزامي- يقبح لصاحبه أن يقف موقف الاستجداء". ويقول في جزء نوفمبر سنة 1955 من "لواء الإِسلام": "وأذكر أني حين كنت في ألمانيا في أيام الحرب الأولى حضرت حديثاً يدور بين مدير الاستخبارات الألمانية وسكرتيره أثناء سفرنا إلى قرية "ويزندرف"، سألني المدير في نهايته، فقال: أليس كذلك يقرر ابن خلدون؟ قلت: وماذا يقرر؟ قال: إن العرب لا يصلحون للملك، ولا يحسنون حكماً للأمم. قلت: إنما خص ذلك بعهد الجاهلية. وقرر أنهم في الإِسلام أحسنوا السياسة، وقاموا بأعباء الملك خير قيام. وقد بين ذلك غاية البيان في فصل عقده في "مقدمته" ذكر فيه أن العرب أبعدُ الأمم عن سياسة الملك، فقال: "فبعدت طبائع العرب لذلك كله عن سياسة الملك. وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طبائعهم، وتبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم، وتحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض. واعتبر ذلك بدولتهم في الملة،

لما شيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهراً وباطناً، وتتابع فيها الخلفاء، عظم حينئذ ملكهم، وقوي سلطانهم". وقد نظم في هذه الواقعة قطعة في ديوانه عنوانها: (العرب والسياسة). وفي ديوانه قطعة دالية نظمها في ألمانيا حين زاره محمد بك فريد، وإسماعيل بك الأيوبي. وقد ذكرت أنه عاد إلى دمشق في سنة 1918. وفي هذه المرّة وجد في الشام الحكومة العربية في عهد الملك فيصل الأول، وعهد إليه التدريس في المدرسة السلطانية كما كان أولاً. ولكن ما لبث أن بسطت فرنسا سلطانها على البلاد، فترك الشيخ دمشق إلى القاهرة؛ حيث استقر بها، وتأثل مجده، وانتشر علمه وفضله. وكان رحيله إلى مصر في سنة 1338 هـ (1919 م). أقام الشيخ بمصر، وأحس الغربة في مبدأ أمره، ورضي بها، وآثرها على الرجوع إلى وطنه الذي لا يزال تحت حكم الأجنبي. ويقول في ذلك: رضيت عن اغترابي إذ لحاني ... فتى لا ينظر الدنيا بعيني يقول: تقيم في مصر وحيداً ... وفقدُ الأنس إحدى الموتتين ألا تحدو المطية نحو أرض ... تعيد إليك أنسَ الأسرتين وعيشاً ناعماً يدع البقايا ... من الأعمار بِيضاً كاللجين وقوم أمحضوك النصح أمسوا ... كواكب في سماء المغربين فقلت له: أيحلو لي إياب ... وتلك الأرض طافحة بغين وما غين البلاد سوى اعتساف ... يدنسها به خرق اليدين فعيش رافه فيها يساوي ... إذا أنا سمته خُفَّي حُنين

أحن إلى لياليها كصبٍّ ... يحن إلى ليالي الرقمتين ومطمح همتي في أن أراها ... تساوي في علاها الفرقدين وقد عرفت مصر قدر الشيخ، وكثر أصدقاؤه ومريدوه. وكان من آثرهم وأجلهم: أحمد تيمور باشا -رحمه الله-. فقد آزر الشيخ، وكان له خير رفيق ومعين. ويقول الشيخ حين استأثر الله بصديقه الوفي: تقاسم قلبي صاحبان وددت لو ... تمتلَّهما عيناي طول حياتي وعللت نفسي بالمنى فإذا النوى ... تعل الحشى طعناً بغير قناة فأحمد في مصر قضى ومحمد ... بتونس لا تحظى به لحظاتي ويريد بمحمد: الشيخ الطاهر بن عاشور -مد الله في حياته-. وقد قام الشيخ بأعمال جليلة، فاشترك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، وأسس جمعية الهداية الإِسلامية، وأصدر مجلتها، وظلت سفر الهداية وعلم رشاد. وقول تحرير مجلة "نور الإِسلام" (وهي مجلة الأزهر) لأول عهدها. وكذلك ولي تحرير "لواء الإِسلام" فيما بعد حيناً من الدهر، ووضع الخطة القويمة لها، ونهج لها السنة الواضحة. ولقد ضمه الأزهر إلى علمائه، وكان أستاذاً في كلياته، واختير عضواً في جماعة كبار العلماء. وكان أن وقع عليه الاختيار لمنصب مشيخة الأزهر في سنة 1952 لأول عهد حكومة الثورة المبجلة. واختير عضواً في مجمع اللغة العربية لأول نشأته، فكان من الذين رفعوا سمكه، ومكنوا له. واشترك في وضع الخطط التي يسير عليها المجمع، وإصدار القرارات التي يسير في هداها. ومن هذه القرارات: قرار تكملة المادة

اللغوية، وغيرها، ومجلة المجمع ومحاضره تشهد بفضله وتبريزه. وله عدة قصائد في افتتاح دورات المجمع. وكان في آخر حياته يحرص على حضور حفلات المجمع على الرغم من سوء صحته، وإن علته كثيرة نالت منه. وأحب الشيخ مصر، وأعجبه نهضتها وقوة جيشها. وكان يتمنى لو يتاح مثل هذا للمغرب، وهو يقول في استعراض الجيش المصري في سنة 1949: دمعة كالثلج برداً مَجَّها ... في المآقي فرطُ بشرٍ وارتياح إذ شهدنا عرض جيش من بني ... مصر في أسنى عتاد وسلاح وتلتها دمعة صور لي ... حرها أنفاس مكسور الجناح إذ ذكرت المغرب الغارق في ... لجج سود من العسف الصراح نهضت مصر إلى المجد وما ... نهضت إلا بعزم وكفاح أترى المغرب يوماً ناهضاً ... للعلا بين سيوف ورماح وكان الشيخ يجهد دهره في تحرير المغرب، فكان رئيس جبهة شمال أفريقية، وكانت هذه الجبهة تضم علية الأحرار الذين يسعون إلى نجاء المغرب من حكم فرنسا الجائر. وقد يكون من ثمار هذه الجبهة: ثورة الجزائر، ونهضة تونس ومراكش. وعني بمسألة فلسطين، فأنشأ قصيدة يذكر فيها وعد بلفور، يقول: ما وعد بلفورسوى الزبد الذي ... يطفو ويذهب في الفضاء جُفاءَ أفبعد فتح ابن الوليد وصحبه ... للقدس وعدٌ يستحق وفاء أننام عن إسعافهم والدين قد ... عقد ائتلافاً بيننا وإخاء لا تنجدوهم بالتحسر وحده ... إن التحسر لا يزيل عناء

وكان يدعو -كما قلت- إلى وحدة العرب والمسلمين. وكأنما بلغت نفسه بعض أمنيته بوحدة مصر وسورية، فمات عقب إعلانها قرير العين. وكان الشيخ رقيق القلب، يحفظ عهد الصديق، وفياً للعشير. ماتت زوجه عقب توليه منصب مشيخة الأزهر، فرثاها بقصيدة أسى ورقّة، يقول فيها: أعاذل غضّ الطرف عن جفني البكي ... لخطب رمى الأكباد مني بأشواك ولي جارة أولى بها سقم إلى ... نوى دون منآها المحيط بأفلاك أيا جارتا عهد اللقاء قد انقضى ... وصمتك إذ أدعوك آخر ملقاك أجارة هذا طائر الموت جاثم ... ليذهب من زهر الحياة بمجناك وكيف يروم الصحب مني تصبراً ... ومركبة حدباء أرست بميناك وكنت ألاقي كلما جئت مؤنساً ... فمالي ألاقي اليوم صيحة منعاك حنانيك هل ساءتك مني خليقة ... فأنكرتِ دنيانا وآثرتِ أخراك وكنت أعزي النفس من قبل أنني ... أموت قرير المقلتين بمحياك ولم أدر ما طعم المنون فذقته ... مساء لفظتِ الروح والعينُ ترعاك هوى بك بَيْنٌ لست أرجو وراءه ... زمانا يجود الدهر فيه بمرآك فهيهات أن أنساك ما عشت والأسى ... يموج بقلبي ما جرت فيه ذكراك وهيهات لا أنسى مواطن كنت لي ... مسلية لا أنس إلا بمغناك ولولاك لم أقض اليراعة حقها ... كأن نسيج الفكر حيك بيمناك وأنت التي حببت لي العيش بعدما ... سئمت فطيب العيش بعض مزاياك

وإن سامني يوم شكاة تدفقت ... دموعك عن جفن يخال هو الشاكي يجافي الكرى عيني إذا مسَّكِ الضنى ... ويرتاح ما بين الحنايا لمنجاك تمر بنا الأيام موصولة المنى ... فما ضرنا ألا نكون كأملاك أجارة لو شاهدت كيف وقفت في ... مزارك لكن ما ظفرت بنجواك إذاً لرأيت الحزن يصلى بناره ... حشًى وكأن الحزن شد بأسلاك وعدت إلى البيت الكئيب كأنني ... خلقت فريداً لست أعرف إلّاك أغص بشجو كلما مر موضع ... حللت به والنفس مرآة سيماك وجملة القول: أن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره إلا في الندرى؛ فقد كان عالماً ضليعاً، وكان مع ذلك عالماً بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشد عنه مقاصد الناس ومعاقد شؤونهم، حفيظا على العربية والدين، يرد ما يوجه إليهما، وما يصدر من الأفكار منابذاً لهما، قوي الحجة، حسن الجدال. وكان عفَّ اللسان والقلم، لا يتناول المنقود بما يخزيه وما يثلم عرضه، وكان يكره ذلك لمجادله وخصمه. وهو يقول في بعض كلامه: "ووقع بيني وبين بعض العلماء نزاع في مسألة، فلم يقتصر على ما يراه صحة لرأيه، بل زاد على ذلك كلاماً لا يتعلق بالبحث، فأجبته بذكر الحقيقة والتاريخ، وقلت له: ما زاد على ذلك، فغير أهل العلم أقدر عليه من أهل العلم". وإن مجال القول في الشيخ ذو سعة، ونواحي فضله تحتاج إلى كتب وكتب. وأحسب أن فيما ذكرت ما يجلي بعض هذه النواحي. وأختم هذا الحديث بالدعاء إلى الله أن يجزل ثوابه، وأن يجعله مع الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

الشيخ الخضر

الشيخ الخضر بقلم أحمد حمزة "صاحب مجلة "لواء الإِسلام" بالقاهرة، ووزير سابق، ومن العاملين الصادقين في خدمة الإِسلام بالمال والجهد" (¬1). إن الله لا ينزع العلم من صدور العلماء انتزاعاً، ولكن ينزعه بقبض العلماء إليه. ولقد قبض إليه سبحانه في شهر رجب الحرام عالماً يذكره الشرق والغرب، وتذكره المحافل والندوات، تعددت جهات نشاطه، وتنوعت أساليب خدمته للإسلام، فهو المجاهد الذي يجاهد أعداء الإِسلام في تونس، ويقود الثورات عليهم، حتى يحكم عليه بالإعدام، فلا يضعف ذلك من عزيمته، ولا يوهن من شكيمته، بل يستمر متنقلاً في الآفاق، داعياً للإسلام، مدافعاً عنه، يتنقل بين البلاد الأوربية ضاربًا في الأرض، حتى إذا ألقى به الرحيل في أرض فلسطين، اشترك في إنشاء مدرسة (الدعوة والإرشاد)، وكان يتولى التدريس فيها، وتخرج على يديه تلاميذ كثيرون انبثوا في البلاد العربية دعاة مجاهدين. ولما احتلت فرنسا بلاد سوريا التي اتخذها مقاماً، طاردته في ضمن ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإِسلام" - العدد 12 من السنة الحادية عشرة.

من طاردت من الأحرار، وهو كالسيف المسلول لا يضعف ولا يهن، فهاجر إلى مصر، وفي مصر عكف على العلم الذي كان ذخيرته وعدته دائماً، ولم ينس جهاده في سبيل الإِسلام، فأخذ يؤسس الجمعيات الدينية، ويعضدها بقلمه ولسانه، وأنشأ جمعية الهداية الإِسلامية، وكان يمدها بما يفيض ماله القليل. ووقف قلمه على من يهاجمون الحقائق الإِسلامية، وله كتاب أفرده في الرد على من هاجموا نظام الحكم في الإِسلام. وقد امتاز بقوة الحجة، وإحكام الجدل العفيف النزيه. ولما أنشئت الكليات الأزهرية، كان ممن أقاموا دعائم التدريس في كلية أصول الدين، وتلاميذه من الوعاظ وغيرهم يذكرون فضله عليهم، وعمق تفكيره، ويعتبرون ما كتبه حجة يرجعون إليها. ومنذ اتجهنا إلى إنشاء مجلة "لواء الإِسلام" نتقدم بها محتسبين النية خدمة لهذا الدين الحنيف، وبياناً لحقائقه، لم نجد علماً يحمل اللواء سوى الشيخ الخضر حسين، فأرسى قواعد التحرير فيها، وتعهدها بتوجيهه وقلمه وقلبه المنير، ونيته وإخلاصه - رضي الله عنه -، فسارت قدماً إلى الإمام، تحمل رسالتها، وتتجه إلى غايتها، ومن ورائها (الخضر)، ونخبة مؤلفة من العلماء المخلصين المؤمنين. ولم ينقطع عن رياسة التحرير إلا عندما شغل بمنصب شيخ الأزهر، وفي هذا المنصب أعاد إليه كرامته، وأكّد عزته، ولا يزال الأزهريون يذكرون له مواقف الشمم والإباء، وما زالت كلماته التي قالها، والتي استهل بها عهده فيه تدوِّي في آذانهم، يرددونها، ويعترفون له بتحقيقها، فقد قال - رضي الله عنه -: "ولّيت

الأزهر موفوراً عزيزاً، فإن لم يزد في عهدي، فلن ينقص منه شيء". ثم ترك الأزهر، وعكف على العلم والكتابة مرة أخرى في "لواء الإِسلام". واستمرت المجلة تشرق بمقالاته، وتضيء بإخلاصه حتى قبضه الله إليه. فرضي الله عنه في الصديقين والصالحين والأبرار المجاهدين.

تونس تفقد عبقريا من أبنائها بمصر

تونس تفقد عبقرياً من أبنائها بمصر بقلم علي الجندوبي "كاتب وصحفي له نشاط واسع في التحقيقات، ولد في تونس عام 1909 م، وتوفي بها عام 1966" (¬1). مساء يوم الأحد 4 فيفري 1957 وصلت الأنباء بنعي فضيلة العلامة الهمام، والعالم العامل المبرز في علم التفسير وأصول الدين، المرحوم الشيخ الخضر بن الحسين، أحد نوابغ تونس، والذي زان وجه بلاده في كل من ميدان العلم والسياسة والأدب. قضى نحبه عن سن عالية تبلغ (86) سنة قضاها في العمل المتواصل، لا لفائدة تونس فقط، بل لفائدة العروبة والإِسلام. وهو فذ من أفذاذ الجامعة الزيتونية، وأحد أقطاب حركتها، فارق تونس منذ نصف قرن متجهاً نحو مصر، بعد أن غبن في حقه من جراء الحيف والظلم، وبعد أن شارك في سلسلة من المناظرات في العهد الماضي عهد المحسوبية والمحاباة. والتجأ إلى الشرق عام 1912، وعلى أثر هجرته، أصدرت عليه المحكمة ¬

_ (¬1) صحيفة "النداء" التونسية، العدد العاشر الصادر بتاريخ (21 رجب 1377 الموافق 10 فيفري شباط 1958).

العسكرية حكمها بالإعدام، والاستيلاء على مكاسبه بدعوى التعاون مع العدو، فلم تجد عند الشيخ إلا بعض كتب، وعمل مع رفقائه في الهجرة كل من العلامة الشيخ إسماعيل الصفايحي، وصالح الشريف في إسطنبول، واستقر في مصر بالقاهرة المعزية، وهناك اعترف له بمكانته العلمية وقدر نبوغه، ودرج في سلم العلم والتدريس، وزاول تدريس التفسير للقرآن الكريم، وأصول الدين، حتى أصبح بحق ضمن هيئة كبار علماء مصر، واحد رجال مجتمعها الأفذاذ، وهو الذي عمل لبلاده في الحقل الوطني من الرعيل الأول. وهو مثل: جمال الدين الأفعاني، ورشيد رضا، ومحمد عبده، وشكيب أرسلان، وعبد العزيز الثعالبي، ورفيقه وزميله العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور. وكان ركناً من أركان الصحافة، فقد أسس بتونس مجلة "السعادة العظمى"، وكان داهية من أبرز الأفذاذ الذين دعوا إلى الوحدة العربية الإِسلامية في عدة مناسبات، وفي عدة هيئات. ورغم عمله العلمي لفائدة مصر والأزهر، فقد كان دائماً يحن لبلاده، ويعلن زورته لتونس، له بها أهل وأقارب، وأخ هو الشيخ المكي بن الحسين، أحد رجالات الأدب والانقطاع إلى العلم، كما له أخ ثانٍ هو العلامة المبرز هو مثله في أعماله العلمية، وهو الأستاذ زين العابدين بن الحسين، مكون جيل كامل، وكان أكبر موجه ونبراس العلم في مدينة دمشق الشقيقة التي استقر بها نصف قرن أيضاً، وعمل بها للعلم وأهله -أطال الله عمره-. ورجلنا هو الذي وقع عليه الاختيار في مبدأ الانقلاب المصري، والقضاء

على الملكية، فاختاره قائد الثورة إذ ذاك محمد نجيب للإشراف على إدارة الأزهر الشريف بفروعه، وقضى بهذه الخطة ردحاً من الزمن أبهر فيها مصر بما فيها من أهل العلم، وأحسن الإدارة والتوجيه المثمر. وفارقها بمحض اختياره مكتفياً بصفته من كبار العلماء والمجمع اللغوي المصري، ومثله المجمع العلمي بدمشق، وهو الرجل الذي عرف مصر وأحبها، واختار أن يستوطنها ويعمل فيها ولها طول حياته، فهو رجل منقطع للعلم والعمل المتواصل، ولم يمنعه سنه العالي من الاستمرار في الإنتاج في ميدان الصحافة أيضاً والأدب. وقد كان راحلنا شاعراً ممتازاً في أطوار حياته المزدانة بالمفاخر والأعمال الجليلة، التي تشرف لا تونس فقط، بل العروبة والإِسلام. هذا زيادة على توجيهاته للجالية التونسية المستقرة بمصر في الحقل التجاري، فهو أول سفير علمي سياسي اقتصادي لتونس بمصر في عهد منحتها هذه البلد التي كانت ولا زالت ملجأ لرجال الفكر من عهد عبد الرحمن بن خلدون، الذي يماثله في الاضطهاد والعقوق به، وأما اليوم، فإن تونس التي أصبح لها سفارة تونسية على رأسها الأستاذ الطيب السحباني، وثلة من رجال الفكر والأدب والعلم. وآثار راحلنا تحت كل ورقة من المجلات الراقية العلمية، وعلى الأخص منها الدينية، المتمثل فيها أصول الدين، والمقاصد العليا التي أتى بها القرآن الكريم، والحديث الشريف، والسير على هدي السلف الصالح ممن وضّحوا الحقائق للبشر في هذه الأرض. وبموته اليوم خسرت لا تونس فقط، بل العالم العربي، وأوساط الفكر

العلمي الذي كان الفقيد من رجاله الممتازين، وقد ترك مؤلفات ذات قيمة في الميدان العلمي والثقافي، أمثال: "ديوانه الشعري". وقد علمنا أن هيئة المعهد الخلدوني فكرت في إقامة مهرجان لهذا العبقري المجاهد، والوطني الذي كافح الاستعمار بطريق العلم والسياسة معاً كلما دعت الحاجة لهذا، وفي أي ظرف من ظروف الحركة الوطنية، ولفائدة تونس ورجالها إلى آخر نفس من حياته. العزاء للجامعة الزيتونية، ولبلد الجريد منبع النبوغ والعلم، وعزاء لآله وذويه وأشقائه، وزميله الشيخ الطاهر بن عاشور الذي يعتبره الفقيد أخاً له من عهد الدراسة، ولابنه الروحي الأستاذ الفاضل بن عاشور، ومحبيه، ولتونس طول البقاء.

محمد الخضر حسين شيخ الأزهر السابق

محمد الخضر حسين شيخ الأزهر السابق دراسة - مختارات بقلم أبو القاسم محمد كرو "كاتب وأديب تونسي، له نشاط ثقافي واسع، وصلات وثيقة مع رجال الفكر. رئيس اللجنة الثقافية في تونس. يكتب في عدة صحف ومجلات أدبية داخل تونس وخارجها، من مؤلفاته: دراسات في الأدب والنقد - أبو القاسم الشابي حياته وآثاره - من أعلام تونس في الثلث الأول من القرن العشرين" (¬1). * مقدمة: لم تكن يقظة تونس في القرن التاسع عشر، ولا نهضتها المتواصلة صعوداً وعرضاً منذ مطلع القرن الماضي إلى اليوم، لم تكن هذه النهضة، ولا تلك اليقظة، نتيجة انتفاضة طارئة أو مفاجئة، بل كانت نتاج تطور طبيعي تعاقب أجيالاً، وثمار بذور تولت أيد كثيرة مخلصة بذرها في تربة الوطن ونفوس أبنائه، ثم سهرت على رعايتها وحمايتها، وتبليغ أمانتها لمن يأتي بعدها جيلاً بعد جيل. وليس من شك في أنه لن تكون لأي شعب وثبة أو يقظة أو نهضة ما لم يحمل أعباءها رجال وهبوا من الذكاء والعلم والإخلاص ما يؤهلهم لذلك. ¬

_ (¬1) سلسلة كتب "أعلامنا" الطبعة الأولى 10/ 10/ 1973 - تونس.

وإن تونس المعتزة اليوم بما حققته من انتصارات، وما بلغت إليه من تقدم، لتعتز أيضاً بأن لها في ماضيها البعيد والقريب، بل وفي حاضرها الماثل، رجالاً أفذاذاً في شتى ميادين الكفاح والنضال، وفي جميع نواحي الحياة الفكرية والأدبية والاجتماعية. فمنذ فجر يقظتها، وهي تلد الأفذاذ والعباقرة، كما تلد الأبطال والنبغاء في كل الميادين. وها أنا أختار رجلاً واحداً من أولئك الأفذاذ النبغاء، الذين أنجبتهم هذه التربة الولود، رجل جمع إلى الذكاء والجد والحصافة والنبوغ، صفاتِ الشهامة والبطولة والإخلاص الوطني. هذا الرجل هو الشيخ الإمام المرحوم محمد الخضر حسين، الذي سأكتفي بتقديمه في إطار تاريخي وتحليلي عام، قصدَ التعريف به، والترجمة له. وسيرى القارئ أن حياة الشيخ ونضاله وتراثه الديني والأدبي واللغوي تحتاج كلها إلى مجلدات. ولئن كان العمل الشامل المفصل هو من واجبات المتفرغين للبحث، أو الراغبين في التخصص، فإن في هذا العمل المحدود -والمحدد لمعالم شخصية الشيخ محمد الخضر، وحياته الغنية جميعاً بالإنتاج والنضال- ما يمهد لمثل هؤلاء الدارسين سبل البحث والتوسع والاستقصاء. وبالفعل فقد كان لقسم كبير من هذه الدراسة أثر عند كثيرين ممن اطلع عليه حين نشره، حلقاتٍ، بجريدة العمل التونسية سنة 1969. وهذا القسم المنشور، قد حافظنا عليه كما نشر تقريباً، إلا ما اقتضته

المراجعة من إضافة تصحيحات، وتحديد المراجع والمنابع الأصلية للمعلومات؛ تسهيلاً للباحثين أن يعودوا -إن أرادوا- إلى تلك الأصول. لكن ما سبق نشره كان خاصاً بجوانب حياته الزمنية والمكانية، ونضاله الديني والوطني بصفة عامة، وعلى ذلك رأينا أن نضيف إليه فصولاً أخرى جديدة تتعلّق بآثاره الفكرية والدينية واللغوية، ويعض جوانب من حياته الأدبية والصحفية والوطنية. كما ألحقنا بالدراسة قسماً ثانياً اخترنا فيه "نماذج أدبية ولغوية ودينية ووطنية" تمثل أهم الموضوعات التي كانت غالبة وبارزة في إنتاجه: كتباً وبحوثاً، ومقالات وقصائد. ولما كانت غايتنا الأولى من هذا البحث (حين كتب القسم الأول منه، وألقي كمحاضرة في مسقط رأسه "نفطة" -سبتمبر 1967 - ثم في العاصمة فيفري 1968) هي أن يكون إحياء لذكراه، وتمجيداً لنضاله، وتحية له، ورمز تقدير وعرفان لما أسداه لأمته وتراثها من جليل الأعمال وفائق المؤلفات، فإن غايتنا منه اليوم هي تأكيد تلك المعاني وتعميقها بمناسبة مرور مئة عام هجري على ميلاده، وخمس عشرة سنة على وفاته. آملاً أن يكون هذا العمل الأول نحوه بمثابة الارتياد والتمهيد للاحتفال القادم بالذكرى المئوية الشمسية لميلاده، التي ستحل بيننا بعد ثلاث سنوات فقط؛ أي: في شهر جويلية 1976. إن الوفاء لأفذاذ أمتنا وأعلامها وأبطالها وشهدائها هو أول ما يجب علينا جميعاً نحوهم.

وهو أقل من القليل نحو الشيخ محمد الخضر حسين لما تركه من تراث، وما قام به من جهاد، وما له من مكانة باسقة في تاريخنا القومي والفكري، وفي العالم الإِسلامي على السواء. أبو القاسم محمد كرو تونس 1393 هـ - 1973 م

حياته وأعماله

حياته وأعماله (1293 - 1377 هـ , 1876 - 1958 م) * أسرته: ينحدر (¬1) الشيخ محمد الخضر حسين من أسرة عريقة في العلم والدين والشرف؛ إذ ينتمي جميعها إلى التصوف والدين والعلم، كما تنتمي إلى النسب النبوي الشريف، ومن أجل هذا كان لشيوخها -في عصرهم- مكانة مرموقة بين معاصريهم. ويعود أصل الأسرة إلى جنوب الجزائر، وإلى بلدة (طولقة) بالذات، وهي تبعد زهاء الأربعين كيلومتراً عن مدينة "بسكرة" الواقعة في جنوب القطر الجزائري، وهي تابعة اليوم لولاية "قسنطينة". يقول أحد تلاميذه: "هو محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر الشريف، وأسرته ترجع ¬

_ (¬1) هذا البحث مكرر حرفياً في كتاب "تونسيون في تاريخ الحضارات" للأستاذ الباحث والمحقق والشاعر محمد بوذينة - منشورات محمد بوذينة - الحمامات تونس - الطبعة الأولى/ أكتوبر 1998 م. والثابت أن الأستاذ محمد بوذينة نقله عن الأستاذ محمد كرو. ونشر الأستاذ محمد بوذينة هذه الترجمة للإمام محمد الخضر حسين ضمن "سلسلة مشاهير" تحت رقم 135.

إلى بيت العمري (بطولقة) بيت العلم والمجد والشرف". "وطولقة مركز دائرة الزيبان الأكبر، والزبيان الأصغر مركزه سيدي عقبة، على بعد 18 كم من بسكرة". "ووالد المترجَم له كان رحل منذ قرن (¬1) من طولقة إلى نفطة صحبة مصطفى بن عزوز، إذ كان متزوجاً بابنته، شقيقةِ العلامة الشيخ المكي بن عزوز. . . " (¬2). وعلى هذا. . يكون الشيخ الخضر جزائري الأصل عن طريق أبيه وأمه معاً. ويبدو أن الأسرة هاجرت من جنوب الجزائر إلى بلاد الجريد، واستقرت ببلدة "نفطة" إِثر الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830، وكان بين أفرادها الشيخ الحسين والد المترجم له، ولعل هجرتها كانت في منتصف القرن الماضي، بعد أن أخذ الغزو الفرنسي يكتسح مناطق الجنوب الجزائري. ولد الشيخ محمد الأخضر (¬3) بن الحسين في بلدة "نفطة" (¬4) الجميلة في منطقة الواحات -الجريد - بالجنوب الغربي التونسي، يوم (26 رجب ¬

_ (¬1) كتب هذا سنة 1958، فيكون تاريخ الرحيل حوالي منتصف القرن الماضي. (¬2) الطيب بن عيسى: جريدة - المشير - عدد 17 - 2 - 1958. (¬3) هكذا كان ينعت في طفولته وشبابه. وهناك نادرة تروى عن سبب إبداله الأخضر بالخضر، وهو إبدال اقترحه عليه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، رفيق دراسته وتدريسه في الزيتونة، وصديقه مدة الحياة. (¬4) ثاني مدينة في بلاد الجريد بعد عاصمتها توزر.

عام 1293 هجرياً، الموافق ليوم 26 جويلية يوليو سنة 1876 ميلادية). وكانت وفاته في القاهرة يوم (12 رجب أيضاً عام 1377 هجرياً، الموافق للثاني من فيفري سنة 1958 ميلادية). وبذلك يكون الشيخ الخضر قد عاش أربعة وثمانين عاماً قمرياً، أو اثنتين وثمانين سنة شمسية. وبين ميلاده ووفاته، وخلال هذه العقود الثمانية من حياته، اتسعت آفاقه، وامتلأت صحائفه بجلائل الأعمال، وبالأمجاد العلمية والوطنية والدينية العريضة. * في العاصمة: ففي عام (1306 هـ / 1888) انتقل الطفل محمد الأخضر الذي نُعت فيما بعد بالخضر، وهو في الثالثة عشرة من عمره، مع والده وأسرته إلى العاصمة حيث أتم تعلمه الابتدائي، وحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بجامع الزيتونة في العام الموالي (1307/ 1889)، فواصل فيه تعلمه إلى أعلى مراحل تعليمه؛ أي: إلى شهادة التطويع، وكانت معظم العلوم المقررة يومئذ دينية ولغوية. ولكنه تتلمذ على عدد من الشيوخ البارزين الذين كان لهم في نفسه أثر محمود ظل يذكره بالثناء والتقدير إلى آخر حياته. ولعل أهم هؤلاء الشيوخ: سالم بو حاجب (ت 1923) (¬1)، وعمر بن الشيخ (ت 1911) (¬2) ومحمد النجار (ت 1913) (¬3)، وقد درس التفسير على الأخيرين، ودرس ¬

_ (¬1) انظر عنه: كتاب "أركان النهضة الأدبية بتونس" (ص 16 - 20). (¬2) انظر عنه: مجلة "الثريا" (س 1 ع 1 ص 3 - 5) (1 - 12 - 1943). (¬3) انظر ترجمته بقلم الشيخ الخضر: مجلة "الهداية الإسلامية" (3 ج 1 ص 53 - 55)، أو في كتابه "تونس وجامع الزيتونة" (ص 97).

"صحيح البخاري" على الشيخ سالم بو حاجب الذي اشتهر بميوله الإصلاحية، وبكثرة المتتلمذين عليه، وشدة تأثيره الإصلاحي فيهم؛ مما ساعد على ظهور عدد كبير من رجال الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي في عهده، والعهود الموالية إلى عصرنا الحاضر. . ولا شك في أن مترجمنا الشيخ محمد الخضر كان من أنبغ تلاميذه، وأكثرهم تأثراً به، وعملاً بتعاليمه ومذهبه في الإصلاح. وفي عام (1316/ 1898) نال شهادة التطويع، وهي شهادة سميت بهذا الاسم؛ لأنها تتيح لحاملها أن يتطوع بإلقاء الدروس في الزيتونة نفسها. وكان هذا التطويع أمراً شائعاً في عصره، بل كان مرقاة للظفر بالمناصب العلمية والدينية، كما كان ميداناً للخبرة والتدريب العلمي على مهنة التعليم. * رحلة قصيرة: ويظهر أن الشيخ كان محباً للأسفار، وطموحاً إلى الشرق منذ البداية، وهي سنّة كانت الحياة العلمية بتونس تجري عليها منذ القدم. فقد حاول الشيخ في هذا الوقت السفر إلى الشرق عن طريق ليبيا، ولكنه لم يتجاوز مدينة "طرابلس"، ثم عاد ليتطوع في العام الموالي لتخرجه بالتدريس بين سواري الجامع الأعظم. ورغم هذا التطوع كان مطية للشهرة، واكتساب الخبرة العلمية للمتخرجين الجدد، لا سيما للأذكياء والمتفوقين، فإن الشيخ الخضر لم ينل من تطوعه ذاك ما كان يرجوه منه من اهتمام ذوي الشأن به، خاصة مشيخة الجامع التي كانت مكونة من نظار عديدين، ولكنهم جميعاً منحدرون من عائلات تقليدية برجوازية احتكرت العلم الرسمي، كما احتكرت جميع المناصب العليا في

الإفتاء والقضاء والتدريس، ولم يكن أي متخرج زيتوني من أبناء (الآفاق) (¬1) يستطيع أن يشق طريقه بسهولة، ولا أن يفوز بأي منصب يتقدم إليه أحد أبنائهم. غير أن الشيخ الذي لم ينل لدى هؤلاء من الاعتبار والمكانة ما هو جدير بهما، فقد نال شهرة كبيرة وتقديراً عالياً لدى طلاب الزيتونة، وفي الأوساط العلمية والأدبية خارج الجامع، مما حمل الشيخ على الدخول في الحياة العامة بشكل بارز، وبأسلوب جديد. * السعادة العظمى: فقد أسس أول مجلة صدرت بتونس عام 1904 هي مجلة "السعادة العظمى" التي أصدرها نصف شهرية، وتتابعت أعدادها إلى رقم واحد وعشرين، أي: قرابة العام. ويبدو أنه تخلى عنها ليتولى منصب قاض شرعي ببنزرت عام 1905، كما تولى الخطابة والتدريس بجامعها الكبير. * دفاع عن الحرية: "على أن هذه الوظائف لم تكن لتقيده عن القيام بواجباته الاجتماعية والإصلاحية، والمجاهرة بالدعوة إلى الإصلاح الديني والوطني. وذلك منه خلاف ما كان شائعاً -يومئذ- بين الموظفين في دوائر حكومة الحماية؛ إذ تعود الشعب أن لا يرى منهم إلا ما يرضى السلط العليا، لهذا كانت أقل حركة يقوم بها الموظف خارج الإدارة -ولو كانت مشاركة في نشاط ثقافي ¬

_ (¬1) أي: المدن والقرى بداخل القطر.

أو جمعيات أدبية -فإن الرؤساء-أي: ممثلي الاستعمار - ينزعجون منها، ويتوعدون الموظف بأوخم العواقب، ولا غرو، فإن الجمعيات الأدبية إنما تهدف إلى معاضدة اللغة العربية، لا الفرنسية، الأمر الذي يعتقد أولئك الرؤساء -الأجانب- أنهم لم يأتوا من وراء البحر لتأييده" (¬1). ولكن الشيخ الخضر ليس من هؤلاء الموظفين الخانعين الذين يجد لديهم المستعمر كل طاعة وعون وخضوع. لذا نراه يتقدم بأول محاضرة علنية قامت في تونس عن الحرية، وهي المحاضرة التي ألقاها الشيخ الخضر في نادي قدماء الصادقية عام 1906 بعنوان "الحرية في الإسلام"، والتي طبعت بعدُ بكتاب مستقل. وهي من الأعمال الأولى الدالة على شجاعته ووطنيته وحبه لبلاده. "ولما كان الرجل حراً بطبيعته، فقد أحس بأن الحكومة -الاستعمارية إذ ذاك- تحاول أن تطفئ منه ذلك النور المشع، وتقتل روحاً نشيطة لا زالت متأججة بين جنبيه؛ ليكون على ما عودت به سائر موظفيها من السكون والاستسلام في ظل مرتب يأتي بانتظام. لما أحس بذلك أبى أن يكون ذلك المستضعف المغبون، فقدم استقالته، وأصر على قبولها" (¬2)، فقبلت منه. وبذلك تحرر من أعباء الوظائف التي للاستعمار يد وسلطان عليها. ومن ثم عاد للعاصمة ليلقي دروسه العلمية تطوعاً في جامع الزيتونة. وهنا بدأت إدارة الجامع تهتم به، فكلفته -ضمن لجنة- بوضع فهارس لمكتبات جامع ¬

_ (¬1) عن مجلة "العرب" (م 3 ج 1 ص 28 - 29) بتصرف زهيد. (¬2) المرجع نفسه بتصرف بسيط.

الزيتونة (¬1)، ثم شارك في مناظرة للتدريس من الطبقة الثانية، ففاز بها في عام (1325/ 1907)، ثم عين أستاذاً في العام الموالي بالمدرسة الصادقية. وبين توليه لهذين المنصبين عرضت عليه سلطات القضاء الاستعماري أن يكون عضواً في المحكمة المختلطة التي كانت تختص بالقضايا التي يكون فيها أحد الطرفين أجنبياً، فرفض الشيخ أن يكون قاضياً أو مستشاراً في محاكم تعيش في ظل الاستعمار، ولخدمة أغراضه ومصالحه، وهو موقف مشرف آخر من مواقفه المجيدة الكثيرة. * في الخلدونية: وفي هذا العام انتدبته الجمعية الخلدونية ليلقي دروس الآداب والإنشاء على طلابها، وكان إلى جانب هذه المهام التدريسية الثلاث: في الزيتونية، والصادقية، والخلدونية -وهي أعلى معاهد تونس يومئذ، وكلها لم تكن معاهد للعلم فقط، بل كان خريجوها هم أقطاب الحركات الوطنية والاجتماعية والدينية والفكرية، لا في تونس وحدها، بل في المغرب العربي كله- إلى جانب مهامه التدريسية تلك، كان يواصل إلقاء المحاضرات، ونظم القصائد، وكتابة المقالات في مختلف شؤون الحياة التونسية. فمن محاضراته على منبر الخلدونية وقدماء الصادقية محاضرة عن "حياة اللغة العربية"، وأخرى عن "حياة ابن خلدون"، وثالثة عن "الدعوة إلى الإصلاح". * داعية للإصلاح: وخلال هذه الفترة كان يحث الطلاب على المطالبة بإصلاح التعليم ¬

_ (¬1) طبع من هذه الفهارس أربع مجلدات، شملت المخطوط والمطبوع.

الزيتوني، وعلى تنظيم صفوفهم في جمعية طالبية، وقد تكللت دعوته بالنجاح؛ إذ أسس الطلبة الزيتونيون أول منظمة طالبية في تونس عام 1907، وشرع الطلبة يطالبون يالإصلاح بإيعازه وتوجيهه الخفي لهم، حتى تطور الأمر إلى إعلان أول إضراب عن التعليم قام به الطلاب بتونس، وهو الإضراب الذي أعلنه طلاب الزيتونة يوم 16 أفريل عام 1910، وكان عددهم يومئذ زهاء السبع مئة طالب (¬1). وقد فطن الاستعمار إلى أن المحرك الحقيقي للطلاب إنما هو داعية الإصلاح الشيخ محمد الخضر حسين؛ مما جعل سلط الاحتلال تنظر إليه بريبة، وتعتقد فيه -رغم ما يظهر عليه من هدوء واعتدال- خطراً جسيماً يهيئ للاستعمار أجيالاً من الثائرين والمشاغبين. * عصر الشيخ: وكانت تونس في هذا العهد (¬2) تعج بالحركة والنشاط في ميدان الإحياء والبعث، وفي ميدان الكفاح الوطني، فقد كان حزب (تونس الفتاة) بزعامة المرحوم علي باش حانبة، ينبه الشعب من غفوته، ويحاول تنظيم صفوفه للقيام برد الفعل بعد صدمة الاحتلال العنيفة. كما كانت الحركة الفكرية تعج بالمناقشات والدعوات للنهوض والبناء من جديد، وكان الصراع شديداً بين دعاة التطور، وبين المحافظين، ولكن العلاقات بين قادة الكفاح الوطني وبين رجال الفكر والأصلاح كانت قوية متماسكة، رغم الاختلافات الجزئية بينهما في منابع الثقافة، أو في أهداف الإصلاح وعمقه ومداه. ¬

_ (¬1) "أركان النهضة الأدبية" (ص 42)، وانظر تفصيلاً أكثر عن حركة الطلاب في "الحركة الأدبية والفكرية بتونس" (ص 96 - 99). (¬2) انظر عن هذه المرحلة: "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي"، و"هذه تونس".

يؤكد لنا المعاني موقف الأستاذ علي باشا حانبة من ذلك الإضراب الذي أعلنه الزيتونيون، حين حضر إلى جامع الزيتونة، وخطب فيهم معلناً تأييده التام، وممجداً لحركتهم، ومفاخراً بأنه يعتبر نفسه زيتونياً مثلهم؛ إذ كان قد تردد على دروس الجامع مدة عامين، كما أعلن فتح أعمدة جريدته "التونسي" لنشر كل ما يهم قضيتهم (¬1). ويظهر أن السلط الاستعمارية بدأت منذ إضراب الطلاب تراقب الشيخ الخضر (¬2)، وتحاول انتهاز أي فرصة لإزعاجه، ولكنه -بما عرف عنه من هدوء في الطبع، وميل إلى قلة الكلام، واعتدال في الرأي- لم يتح للاستعمار أو للرجعية المتعاونة معه أي فرصة لذلك، غير أن الظروف المعاكسة أتاحت للاستعمار هذه الفرصة، كما ساندته فيها العقلية البرجوازية المسيطرة على الحياة في جامع الزيتونة يومئذ. * الجهاد الليبي: أعلنت إيطاليا الحرب على ليبيا المحكومة من طرف الأتراك العثمانيين، ومعظم البلاد العربية الأخرى، وكانت الحركات الوطنية والدينية في جميع البلاد العربية ذات صلة أو نزعة تميل للخلافة؛ إذ تراها الجامعة الوحيدة التي تجمع بين المسلمين، والتي يمكن أن تشد أزرهم في كفاحهم ضد الحكم والاحتلال الأجنبي. وكانت تونس في هذا العهد قد شعرت بواجبها نحو جارتها الشقيقة ليبيا، فهبت لمساندة المجاهدين الطربلسيين بالقول والعمل وبالمتطوعين، ¬

_ (¬1) "الحركة الأدبية" (ص 98). (¬2) انظر كتب: "معركة الجلاز"، "هذه تونس"، "الحركات الاستقلالية".

فتأسست لجان الهلال الأحمر لجمع التبرعات للمجاهدين، ومدهم بالمساعدات الطبية والمدنية؛ كما كانت الحركة الوطنية تساعدهم بالرجال والمال والسلاح. وكانت الصحافة الحرة والوطنية تؤيد الكفاح المسلح الذي يخوضه أهل ليبيا دفاعاً عن وطنهم. ورغم أن الشيخ الخضر لم يكن منخرطاً في أي تشكيل حزبي، فإنه بنزعته الإسلامية وما يجيش في نفسه من حب للحرية وتعلق بها، هبَّ -هو الآخر- يساندهم بشتى الطرق، ومن ذلك قصيدته المطولة التي نشرها بصحف تونس، والتي حث فيها المواطنين على مساندة الجهاد الليبي، بل ودعاهم هم بدورهم إلى القيام بعمل مماثل في بلادهم، ومطلع هذه القصيدة كافٍ وحده للدلالة على هذه الأفكار؛ إذ يقول فيه: ردوا على مجدنا الذكر الذي ذهبا ... يكفي مضاجعنا نومٌ دها حقبا وكان ما كان بعد هذا من نفي زعيم الحركة الوطنية يومئذ المرحوم علي باش حانبة إلى الخارج عقب الاشتبكات الدموية التي قامت بين المواطنين وبين الجالية الإيطالية، وبينهم وبين سلط الاستعمار، إثر الحوادث المعروفة بحوادث الترمواي، وبمعركة الجلاز (¬1). وكان واضحاً -بعد هذا كله- أن الخضر حسين لم يعد ينظر إليه بعين الرضا (¬2)، ولكن الاستعمار لم يجد أي حجة -مهما كانت واهية- للقيام بأي ¬

_ (¬1) انظر كتب: "معركة الجلاز"، "هذه تونس"، "الحركات الاستقلالية". (¬2) "أركان النهضة. . ." (ص 52).

عمل ضده. غير أن الشيخ الخضر لم يعد يطيق الحياة في تونس، بعد أن أعلنت الأحكام العرفية فيها، وعطلت الصحافة الوطنية دفعة واحدة، وبعد أن نفي أو سجن معظم القادة والمفكرين الوطنيين (¬1). بعد كل هذا وجد الشيخ الخضر نفسه يعيش في جو مكبوت ومكفهر، ومحبوك بالمؤامرات والأحابيل الاستعمارية، فحاول تغيير الجو على نفسه، والتنفس خارج حدود الوطن، فقام بعدة سفرات متوالية إلى الخارج، كانت أولاها إلى الجزائر عام (1327/ 1909). * في الجزائر: وفي الجزائر لقي من أهلها وعلمائها ترحيباً، وصدى لنزعته الدينية الإسلامية، فطاف بعدد من المدن الجزائرية، وألقى فيها العديد من المحاضرات والدروس الدينية. ثم عاد إلى تونس، فكانت هذه الرحلة بداية جديدة لحياة جديدة شرع الشيخ الخضر في بنائها لنفسه، ولأفكاره وميوله الإصلاحية (¬2). ولم يلبث بعد عودته إلا قليلاً حتى شرع يعد نفسه للقيام برحلة طويلة، عبر البلاد العربية والإسلامية التي تعيش تحت ظل الخلافة العثمانية. * انجذاب للآستانة: وكان معظم مفكري تونس ورجال الحركات الوطنية والدينية فيها يومئذ، يشعرون برابطة قوية، وبانجذاب كبير نحو عاصمة الخلافة، والبلدان التابعة لها، ويرون فيها كلها مراكز إشعاع خاص للدين والفكر والثقافة، بل ¬

_ (¬1) "الحركات الاستقلالية ... " (ص 42). (¬2) "أركان النهضة الأدبية" (ص 42).

وللحرية أيضاً، ويظهر أن النزعة الاستقلالية والانفصالية عن الخلافة التي كانت قد بدأت تنتشر بين كثير من الحركات والزعماء في الشرق لم تجد لها صدى في تونس يومئذ؛ إذ كان جميع الزعماء والعلماء الذين ينفون من تونس، أو يهاجرون منها، يقصدون رأساً عاصمة الخلافة. وهو أمر يسهل تفسيره وتبريره في تلك الظروف. * المكي بن عزوز: ولكن الشيخ الخضر كان يجذبه لبلاد الشرق ولعاصمة الخلافة بالذات حافز آخر، بالإضافة إلى ما كان يجذب غيره، وهو الجاذب العائلي والنفسي، فقد كان خاله العلامة الشيخ المكي بن عزوز قد سبقه إلى الهجرة إلى المشرق في ظروف مماثلة تقريباً (¬1)، واستقر في الآستانة عاصمة الخلافة بالذات، ونال فيها حظوة ومكانة مرموقة، كما نشر فيها العديد من كتبه ورسائله العلمية (¬2)، فكان هذا الحافز العائلي محركاً آخر خاصاً بالشيخ الخضر. أما العنصر النفسي، فهو تشوقه الدائم إلى الشرق، ورغبته في أن يرى مهبط الوحي، وأماكن الإسلام الأولى، خاصة وأن نهضة الشرق في ميدان العلوم والآداب والصحافة، كانت متقدمة أشواطاً عن مثيلاتها في المغرب العربي؛ لأسباب تاريخية واستعمارية معروفة. وزاده شوقاً إلى الرحلة: إقدام مواطن آخر من أهل الجريد على الهجرة ¬

_ (¬1) انظر عنه: "الحركات الاستقلالية" (ص 47 - 48)، و"معجم المؤلفين" (ج 12 ص 49، وج 13 ص 4). (¬2) أحصينا من هذه الكتب والرسائل زهاء السبعين عنواناً، بين مطبوع ومخطوط، وننوي أن نكتب عنها وعن صاحبها بحثاً مستقلاً.

في تلك الظروف بالذات، بعد أن كافح كفاح الأحرار والأبطال في ميدان الصحافة والدفاع عن حقوق الشعب. وهذا الرائد البطل هو الصحفي المغامر الشيخ الهاشمي ابن المكي صاحب جريدة "أبو قشة"، الذي ناله من اضطهاد الاستعمار لحريته ولصحفه وكلماته الشيء الكثير، حتى اضطر عام 1909 إلى الهجرة إلى الشرق الأقصى بعد الاستقرار بعض الوقت بطرابلس حيث أعاد إصدار صحيفة "أبو قشة" المعطلة بتونس (¬1). * الحدث الحاسم: كل هذه العوامل حركت في الشيخ نوازع السفر. ولكن عاملاً آخر حاسماً حدث في عام (1330/ 1912) حين شارك الشيخ الخضر في مناظرة للتدريس من الطبقة الأولى بجامع الزيتونة، وكان هو في الطبقة الثانية، فحرم من النجاح باطلاً وعدواناً، وهو النجاح الذي كان يستحقه "بما أبدى من الكفاءة والتفوق" (¬2)؛ إذ أن لجنة المناظرة، وهي مكونة من شيوخ تقليديين، قدمت عليه أحد أبنائها، رغم تفوق الشيخ الخضر عليه علماً وأدباً، ومقدرة في إلقاء درس المناظرة بالذات، فحز في نفسه أن تكون سياسة الظلم والمحاباة مسيطرة على الحياة العلمية بتونس، وعلى علماء الزيتونة الكبار بالذات. ويظهر لي: أن الشيخ الخضر بدأ منذ هذه الحادثة يفكر جدياً في الهجرة نهائياً إلى الشرق، ولكنه فضل القيام برحلة استطلاعية لمعرفة الأحوال هناك. ¬

_ (¬1) توفي بأندونيسيا سنة 1942. انظر عن حياته ونضاله كتاب "كفاح صحفي" للأستاذ علي مصطفى المصراتي. (¬2) "أركان النهضة الأدبية" (ص 42).

فسافر في هذا العام نفسه إلى الآستانة ماراً بمصر والشام، وقد دون لنا الشيخ الخضر وصفاً أدبياً واجتماعياً لهذه الرحلة نشره تباعاً في جريدة "الزهرة" (¬1)، وعقب عودته في 2/ 10/ 1912 (¬2) منع من التدريس بالمدرسة الصادقية لأسباب واهية للغاية (¬3)، فأدرك الشيخ أن الاستعمار والرجعية قد تحالفا ضده. وأن الأمور قد تتطور إلى ما هو أسوأ، فقرر الهجرة نهائياً إلى الشرق، فهاجر في نفس السنة (¬4)، وكان معة إخوته الأربعة، وبينهم أخواه العالمان: الشيخ المكي ابن الحسين (¬5)، وأخوه الشيخ زين العابدين الذي بقي مستقراً إلى الآن في دمشق (¬6). ¬

_ (¬1) "المرجع السابق" (ص 42). (¬2) في "الأدب التونسي" (ج 2 ص 197) أنه عاد إلى تونس في (ذي الحجة 1330 نوفمبر 1912) بينما أكد لي شخصياً المرحوم محمد الصالح المهيدي بأنه عاد بحراً في اليوم الثاني من كتوبر 1912. وقد أكد العودة بحراً محب الدين الخطيب مجلة "الأزهر" (29 ص 738)، و"الديوان" (ص 115 و 164). (¬3) أكد المهيدي أيضاً أن فصله من التدريس بالصادقية كان بحجة غيابه عن افتتاح المعهد بيومين؟! (¬4) أي: سنة 1912 التي يتفق أولها مع أواخر سنة 1330، ويتفق آخرها مع أوائل سنة 1331 الهجرية، وقد ظن بعضر مترجميه أنه هاجر سنة 1330، ثم عاد زائراً لتونس في 1331. وقد يكون هذا الظن مبنياً على أن أسرته (والدته وإخوته) قد هاجروا فعلاً سنة 1330 هـ. (¬5) عاد إلى تونس بعد سنوات، واستقر بها إلى وفاته سنة 1963، وهو شاعر، واشتهر أكثر بتنقيباته وأبحاثه اللغوية. انظر عنه: "الأدب التونسي" (ج 1 ص 193 - 201). (¬6) له عدة كتب ورسائل مدرسية ودينية مطبوعة.

وإلى هنا تكون المرحلة الأولى من حياة الشيخ الخضر قد انتهت، وهي مرحلة استغرقت نصف حياته تقريباً. * المرحلة الثانية بين التنقل والاكتشاف: وبسفره إلى المشرق بدأت أيضاً المرحلة الثانية، التي أسميها: بمرحلة التنقل والاكتشاف. حيث إن الشيخ الخضر قد زار في هذه المرحلة الجزائر ومصر والشام والحجاز والآستانة وألبانيا، ومعظم بلاد البلقان التي كانت خاضعة للحكم العثماني، ثم استقر بدمشق مع عائلته. وكانت سورية يومئذ تحت الحكم العثماني. وقد عين الشيخ الخضر -عقب استقراره بدمشق- أستاذاً في المدرسة السلطانية بها حيث مكث إلى عام (1336/ 1917). وكان خلال إقامته بدمشق مثابراً على نفس النشاط العلمي والإصلاحي الذي كان يقوم به في تونس، فكان يكتب المقالات، ويلقي المحاضرات والدروس الدينية والأدبية واللغوية (¬1)، ويدعو إلى التضامن العربي التركي في ظل الخلافة الإسلامية. وهو في ذلك يدعو عن عقيدة قوية صادقة، أساسها ثقافته الدينية من ناحية، وإحساسه الخاص من ناحية أخرى، والبيئة الفكرية والسياسية التي نشأ وترعرع فيها بتونس من ناحية ثالثة. * في السجن: ورغم ما كان عليه دائماً من اعتدال في كل شيء، فإن السفاح المعروف باسم جمال باشا الحكم التركي لبلاد الشام، والذي كان يحمل أفكاراً عنصرية معادية لكل جنس غير الجنس الطوراني، قد زج بشيخنا في السجن، إثر حركة ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" (مجلد 29 ص 740).

القمع الواسعة التي قام بها هذا السفاح في سوريا ولبنان، والتي أعدم فيها عدداً كبيراً من رجال الوطنية والفكر في كلا البلدين (¬1)، وكانت التهمة الموجهة للشيخ الخضر هي: أنه كان على علم بالحركة السرية المعادية للأتراك، والتي كان الأحرار من زعماء سوريا ولبنان ينظمونها ضد الاحتلال والحكم التركي لبلادهم. وقد مكث الشيخ الخضر في السجن مدة ستة أشهر وأربعة عشر يوماً، "وكان في زنزانة واحدة هو والأستاذ سعدي بك الملا، الذي تولى رئاسة الحكومة اللبنانية بين الحربين العالميتين" (¬2)، ثم قدم للمحاكمة، فثبتت براءته، وأطلق سراحه. ولم يكن الشيخ الخضر في سجنه يشعر بأي خوف على حياته، فهو يعتقد من ناحية أنه بريء، ومن أخرى هو يعلم أنه إن قتل كغيره من العلماء العرب، فإنه سيموت شهيداً في سبيل الإسلام، ولم يكن يؤلمه شيء في السجن سوى أنه لا يجد قلماً ولا ورقاً ليسجل خواطره، ويكتب أفكاره وأشعاره، وفي هذا وذاك يقول الشيخ الخضر: غلّ ذا الحبس يدي عن قلمٍ ... كان لا يصحو عن الطرس، فناما هل يذوذ الغمض عن مقلته ... أو يلاقي بعده الموت الزؤاما أنا لولا همةٌ تحدو إلى ... خدمة الإسلام آثرت الحِماما ليست الدنيا وما يقسم من ... زهرها إلا سراباً أو جَهاما وكان خروج الشيخ الخضر من السجن في الرابع من ربيع الثاني عام ¬

_ (¬1) راجع عن ذلك: "البلاد العربية والدولة العثمانية" لساطع الحصري. (¬2) مجلة "الأزهر" (مجلد 29 ص 740).

(1235 هـ، 29 جانفي - يناير - 1917 م)، فعاد إلى عمله السابق، ويظهر أن الآستانة قد علمت بحادثته هذه، فعطفت عليه، واستدعته إليها؛ حيث ألحق منشئاً عربياً بوزارة الحربية. وقد يكون هذا التعيين جرى نتيجة سعي منه للخروج من جحيم دمشق، وحكم جمال باشا السفاح، كما يحتمل جداً أن يكون الزعيم علي باش حانبة ورفاقه بالآستانة هم الذين سعوا في هذا التعيين؛ ليكون الشيخ الخضر قوة تعاضدهم في العمل من أجل تحرير المغرب العربي؛ حيث كان علي باش حانبة وأخوه محمد (¬1)، والشيخان صالح الشريف (¬2)، وإسماعيل الصفائحي (¬3)، وغيرهم يعملون في الآستانة وفي أوروبا على إعداد حملات تحريرية مسلحة ضد الاحتلال الإيطالي والفرنسي في المغرب العربي، وكانوا يتحركون بكثرة بين العواصم، ولهم اتصالاتهم السرية المنظمة، وأنصارهم الكثيرون في تونس وليبيا والجزائر. وقد نجحوا فعلاً في تنظيم حركات ثورية مسلحة بالجزائر وتونس وليبيا (¬4). * رحلات إلى ألمانيا: وما كاد الشيخ الخضر بن الحسين يستقر بالآستانة في منصبه الجديد بوزارة الحربية، حتى كلف بمهمة في ألمانيا التي كانت في حالة حرب مع فرنسا. وكان أبناء الشمال الأفريقي -خاصة من الجزائر وتونس، المجندين ¬

_ (¬1) انظر عن جهادهما معاً: "الحركات الاستقلالية"، و"هذه تونس". (¬2) توفي سنة 1920 - انظر عنه: مجلة "البدر" (م 2 ج 2 ص 100 - 102). (¬3) توفي سنة 1918 - انظر: ترجمته في مجلة "البدر" (م 2 ج 1 ص 26 - 33 - وج 8 - 9 ص 498 - 499). (¬4) "هذه تونس" (ص 84)، و"الحركات الاستقلالية" (ص 53).

في الجيش الفرنسي، وفي واجهات القتال بالخصوص - يزيدون عن المئتي ألف. وكان هدف علي باش حانبة ورفاقه هو بث الدعاية في صفوف المغاربة داخل الجيش الفرنسي، وبين أسراهم في ألمانيا؛ لحملهم على القتال ضد فرنسا، وليس معها؛ لأن مصلحة بلادهم في هذا الموقف. كما كانت ترمي هذه الحملة إلى إقناع الجنود المغاربة -والأسرى منهم بالخصوص- بالتطوع في الحركات الجهادية التي كان يقودها علي باش حانبة ورفاقه، والتي كانت الدولة العثمانية تساندها معنوياً ومادياً، وقد حل الشيخ الخضر في ألمانيا مع بعثته من العلماء المسلمين بينهم الشيخ التونسي صالح الشريف، ومكث في ألمانيا زهاء تسعة شهور تعلم في أثنائها اللغة الألمانية، وقام بمهمته أحسن قيام، ثم تردد بين الآستانة و "برلين" إلى أواخر الحرب العالمية الأولى حيث أقام مرة أخرى زهاء السبعة أشهر (¬1). * محمد باش حانبة: وأثناء إقامته ببرلين توثقت الصلة بينه وبين عدد من رجالات تونس، وزعماء العرب المنضوبن تحت راية الخلافة العثمانية. نذكر منهم بالخصوص: الزعيم محمد باش حانبة شقيق علي باش حانبة؛ فقد كان محمد يمثل الحركة الوطنية التونسية والمغربية عموماً في أوروبا، كما أسس أول مجلة مغربية في أوروبا تدافع عن حقوق المغرب، وعن حريته واستقلاله. وكان المحامي محمد باش حانبة قد أسس في برلين لجنة لتحرير المغرب ¬

_ (¬1) "الحركات الاستقلالية" (ص 53 - 54)، ومجلة "الأزهر" (مجلد 29 ص 740 - 741).

العربي سميت باسم: (اللجنة التونسية الجزائرية)؛ إذ لم يكن في "برلين" يومئذ من يمثل المغرب وليبيا، وإن كانت اللجنة تعمل لتحرير المغرب العربي كله. ومحمد هذا وأخوه علي هما أول من فكر ودعا وعمل بالفعل على توحيد المغرب العربي، وتحريره جماعياً من الاستعمار. وكان محمد باش حانبة قد أسس مجلة "المغرب"، وأصدرها أسبوعية في "جنيف". ومحررة باللغة الفرنسية للتعريف بقضايا المغرب العربي إلى الرأي العام الأوروبي. وقد عاشت هذه المجلة مدة عامين، فلما انتهت الحرب عام 1918، انقطع المدد العثماني عنها، فتوقفت عن الصدور، وإذ ذاك استقر محمد نهائياً في "برلين"، وظل يكافح بوسائله الخاصة؛ إذ كانت الدولة العثمانية قد استسلمت للحلفاء. وكان أخوه علي قد توفي قبل احتلال الحلفاء للآستانة بأسبوع واحد، فشيع إلى مقره الأخير في موكب رسمي كبير (¬1). * ضريح محمد باش حانبة: وبقي محمد في "برلين" إلى عام 1920 حيث مات هو الآخر غريباً عن أرض الوطن الذي عاش له، ومات في سبيله. وقبر محمد معروف جداً في "برلين" لكل من يزور الجناح الإسلامي من مقبرة "تمبلهوف" حيث دفن الفقيد، وحيث شيد قبره كلٌّ من طلعت باشا الصدر الأعظم العثماني، وإسماعيل بك لبيب الوطني المصري الشهير (¬2). ¬

_ (¬1) "الحركات. . ." (ص 54)، و"مشاهير المهاجرين التونسيين" -خط- (ص 22). (¬2) "الحركات الاستقلالية" (ص 55)، و"هذه تونس" (ص 85)، و"مشاهير المهاجرين" (ص 25)، ومجلة "الشعب" سنة 5 عدد 103 (16 - 4 - 1968).

* العودة إلى دمشق: أما شيخنا الخضر، فإنه ما كاد يعوذ إلى الآستانة حتى استسلمت الحكومة العثمانية إلى الغزاة المحتلين الذين اقتسموا عاصمتها كما اقتسموا إمبراطوريتها. فلم يجد بداً من النزوح عنها، والعودة إلى دمشق حيث كانت سوريا قد تحررت من الحكم العثماني، وأصبحت فيها حكومة عربية تحت حكم الأمير فيصل بن الحسين. وقد أحس الشيخ الخضر وهو في طريقه إلى دمشق بمرارة الفراق للوطن، وبمحن الاغتراب عنه، وكثرة تنقلاته، وقلة استقراره، فوصف حاله في هذه الفترة بقوله: أنا كأس الكريم والأرض نادٍ ... والمطايا تطوف بي كالسقاة ربَّ كأس هوت إلى الأرض صدعاً ... بين كفٍّ يديرها واللهاة فاسمحي يا حياة بي لبخيلٍ ... جفنُ ساقيه طافحٌ بالسبات ما كاد الشيخ الخضر يستقر في دمشق عقب الحرب العالمية الأولى عائداً من الآستانة، حتى عين مدرساً في ثلاثة معاهد دفعة واحدة، وهي: المدرسة العثمانية، والمدرسة العسكرية، والمدرسة السلطانية التي كان بها قبيل سفره الأخير إلى الآستانة (¬1). * في المجمع العلمي العربي: وفي منتصف 1919 م تأسس بدمشق المجمع العلمي العربي، وانعقدت جلسته الأولى يوم 30 جويلية من العام نفسه، وفي هذا الجلسة تم تعيين ¬

_ (¬1) "الأدب التونسي" (ج 2 ص 201 - 202)، ومجلة "الأزهر" (م 29 ص 741).

الشيخ محمد الخضر عضواً عاملاً في إحدى لجان المجمع، وقد مارس هذه العضوية طيلة إقامته بدمشق، ثم أصبح عضواً مراسلاً للمجمع، بعد اضطراره إلى النزوح عن دمشق عقب احتلال الجيش الفرنسي لها في منتصف عام 1920 م، وقد احتفظ بعضويته هذه إلى آخر أيام حياته (¬1). * حكم بالإعدام: ورغم حبه الخاص لدمشق، وتعلقه الشديد بها، وحنينه الدائم إليها، فإن الاستعمار الفرنسي الذي كان قد حارب آماله الوطنية والإصلاحية بتونس، والذي أصدر على الشيخ محمد الخضر حسين حكم الإعدام (¬2) غيابياً أثناء قيامه في ألمانيا بتحريض المغاربة -والتونسيين منهم خاصة- على الثورة ضد المستعمر، هذا المستعمر نفسه، قد أصبح سيداً وحاكماً لدمشق ولسوريا كلها عقب انتصاره على الجيش العربي في موقعة ميسلون الشهيرة حول مشارف دمشق يوم 24 جويلية 1920 (¬3). * هجرة جديدة: وهكذا لم يكن أمام الشيخ الخضر إلا أن يترك دمشق، وأن يفر من الطغاة المستعمرين حتى لا ينفذوا فيه حكم الإعدام، ويشفوا غليلهم منه (¬4). ¬

_ (¬1) راجع عن علاقته به، وعضويته فيه: كتاب "تاريخ المجمع العلمي العربي" لأحمد الفتيح. (¬2) جريدة "الدعوة"، في استجواب أجرته مع الشيخ إثر توليه مشيخة الأزهر، عدد 30 صفر 1372 هـ. (¬3) انظر عن هذه المعارك ونتائجها: كتاب "يوم ميسلون" لساطع الحصري. (¬4) لم نجد حتى الآن أي وثيقة تثبت صدور هذا الحكم عليه، ومكان صدوره، والنص =

بارحها وهو يردد أسفه وحنينه قائلاً: كأني دينار ودمشق راحة ... تعودت الإنفاق طولَ حياتها فكم سمحت بي للنوى عقب النوى ... ولم أقض حق الأنس بين سراتها فارق دمشق، وفارق أهله فيها. . وانطلق إلى مصر أمله الأخير، وهدفه القديم، وبذلك بدأت المرحلة الثالثة والأخيرة من حياته. * المرحلة الثالثة: وفي مصر بدأ حياته من جديد معتمداً على أصدقائه من الوطنيين المصريين الذين تعرف عليهم في دمشق والآستانة وفي أوروبا (¬1)، ومعتمداً بوجه خاص على مواهبه وكفاءاته الأدبية والعلمية والدينية العالية. وليس غريباً أن يظل في مصر مغموراً بعض الوقت، ريثما يتعرف إلى أحوالها ورجالاتها، ويدرك أهلُ الشأن فيها مكانته وقيمته. ومن هنا كان عليه أن يجد لنفسه عملاً -مهما كان-؛ ليضمن سد حاجاته الضرورية، حتى لا يكون عالة على أحد، وهو من نعرف: شهامة نفس، وعفة لسان وقلب ويد. وكان العلامة البحاثة أحمد تيمور (¬2) أول من قدر في شيخنا علمه وأدبه، ¬

_ = الوحيد الصريح في ذلك هو تصريح للشيخ أدلى به لجريد "الدعوة"، ونشرته في عدد 30 صفر 1372 هـ. (¬1) من هؤلاء محب الدين الخطيب الذي هاجر إلى مصر من دمشق. وعن هجرتهما انظر: مجلة "الأزهر" (م 29 ص 741)، وقد انفرد الخطيب بذكر أن الخضر فكر في العودة لتونس، ثم قرر الهجرة إلى مصر؟! (¬2) راجع ما كتبه تيمور عن الخضر في كتاب "أعلام الفكر الإسلامي"، وما كتبه =

فأمده بكل رعاية وعناية ومساعدة. وقد ظلت العلاقة وثيقة بينهما إلى آخر أيام تيمور الكبير عام 1930، ويقيت بعد ذلك بين شيخنا وبين عائلة تيمور، ويكفي دليلاً على ذلك: أن الشيخ محمد الخضر حسين لما توفي في القاهرة مطلع عام 1958 وقع دفنه في تربة آل تيمور بوصية منه، وباتفاق سابق مع أسرة تيمور. * بداية متواضعة: قلت: إن الشيخ الخضر بدأ حياته في القاهرة معتمداً على نفسه، فاشتغل مصححاً بدار الكتب المصرية، وهي وظيفة صغيرة العنوان، ولكنها كبيرة الدلالة؛ إذ لا يكلف بها إلا من ثبتت مقدرته العلمية، وكفاءته الأدبية واللغوية. ومع ذلك، فإن الشيخ الخضر لم يكن يرضي طموحه، ولا يساوي علمه هذا المنصب رغم دلالته الكبيرة، لهذا نشط في ميادين أخرى، منها: الكتابة في المجلات، والمحاضرة في الجمعيات، والدروس في المساجد. ولم يكن في كل ذلك إلا مجاهداً في سبيل العلم والإسلام والوطن. وقد وجه اهتمامه منذ البداية إلى تنظيم شؤون الجالية المغربية في مصر، فأسس عام 1923 (جمعية تعاون جاليات شمال أفريقيا)، وكان يرأس هذه الجمعية بنفسه، وهدفها رفع مستوى تلك الجاليات من الناحيتين الثقافية والاجتماعية. ¬

_ = الخضر عن تيمور في "الهداية الإسلامية"، وفي "ديوان"، وعن الشخصيات المصرية التي تعرف عليها الخضر بأوروبا والآستانة "حاضر العالم الإسلامي" (ط 3 ج 4 ص 378).

* فرصة العمر: وفي عام 1925 م صدر في مصر كتاب أثار فيها وفي العالم العربي ضجة كبرى هو كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، وكان هدف هذا الكتاب إبعاد منصب الخلافة عن الملك فؤاد ملك مصر يومئذ، فقد ألغى مصطفى كمال -محرر تركيا وبانيها الجديد- الخلافة العثمانية، وطرد السلطان التركي الذي كان خليفة للمسلمين، فبدأ أذناب الملك فؤاد يروجون فكرة انتخابه خليفة، وكان قصدهم من هذا: الحصول على زعامته للعالم الإسلامي، وما في هذه الزعامة من مكاسب أدبية ومادية وسياسية. وكان الأحرار من المصريين بالمرصاد من هذه المحاولة، فتولى علي عبد الرازق إصدار كتاب في بيان أن الخلافة ليست ضرورية لقيام حكومات إسلامية حديثة، وأنها أصلاً ليست من الدين في شيء. وكان من الواضح أن كتابه لن يرضى عنه أنصار الملك فؤاد، وبالأحرى: الملك نفسه، كما لن يرضى عنه معظم شيوخ الأزهر ورجال الدين في مصر؛ لأسباب دينية وفكرية معروفة. وهكذا تصدى للرد عليه كثير من رجال الدين، وشيوخ الأزهر في مصر، بل وفي غيرها من البلاد العربية (¬1). وكالعادة فإن تهمه الإلحاد كانت أولى التهم الموجهة لعلي عبد الرازق. وهنا وجد الشيخ الخضر فرصته المنتظرة، فتصدى للرد عليه، بكتاب ¬

_ (¬1) من هذه الردود: رد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

سماه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" (¬1). وقد بادرت هيئة كبار العلماء الأزهريين إلى طرد الشيخ علي عبد الرازق من صفوفها، كما حوكم الكتاب، وصودر من الأسواق. * ضد طه حسين: وما كادت الضجة حول هذا الكتاب تهدأ بعض الشيء، حتى ظهر في مصر كتاب آخر، أثار أيضاً ضجة أشد من الكتاب الأول، وقد وضعه أيضاً شيخ أزهري سابق، استطاع -رغم فقده لبصره- أن يشق طريقه نحو ثقافة عصرية أوروبية جديدة، وأن ينال في خلال خمس سنوات شهادة الدكتوراه في الآداب مرتين، وأعني به: الدكتور طه حسين، الذي أصدر عام 1926 كتاب "في الشعر الجاهلي". وقد تصدى له كثير من الأدباء ورجال الدين بالرد أو التكفير، وكان من بين الرادين: شيخنا محمد الخضر حسين الذي نقض كتاب طه حسين بكتاب يساويه حجماً وصفحات وتبويباً (¬2)، وسماه: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" الذي أعيد نشره مراراً بعد تعديله تحت اسم: "في الأدب الجاهلي". وكلا الكتابين قفزا بالشيخ الخضر إلى الصف الأول بين أدباء مصر وعلمائها، فأخذت شهرته تنتشر، ومكانته ترتفع بسرعة كبيرة. وكان من الواضح أن رده على كتاب الخلافة، أدى إليه خدمة كبيرة ¬

_ (¬1) أهدى الشيخ الخضر لصديقه أحمد تيمور القلم الذي كتب به الكتاب مع أبيات ضمنها نضاله عن الحق، مستعيناً في ذلك بخزانة تيمور: "الديوان" (ص 81). (¬2) وللشيخ الخضر ردود عليهما في موضوعات أخرى.

في القصر الملكي؛ مما جعله يتقلد المناصب، ويحظى بتقدير ذوي الشأن بصفة ظاهرة، كما منح الجنسية المصرية (¬1)، التي هي مفتاح الدخول إلى سلك الوظائف العمومية. * تفسير مواقفه: وفي الواقع، فإن الشيخ الخضر لم يكن مدفوعاً للرد على علي عبد الرازق وطه حسين بدوافع شخصية بقدر ما كان مدفوعاً بعقائده الدينية والأدبية؛ فقد رأيناه من قبل نشأ في بيئة علمية واجتماعية وسياسية تؤمن بالخلافة كرابطة للمسلمين، وكمبدأ من مبادئ الإسلام في الحكم؛ كما رأيناه بعد هجرته من تونس يكون في خدمة هذه الخلافة، رغم ما كان يعتريها من الفساد في الحكم، والانحراف عن الدين؛ كما ذكر ذلك الشيخ نفسه في بعض قصائده (¬2). وعلى ذلك، فإنه لا يمكن أن نصف ردوده على طه حسين، وعلى علي عبد الرازق إلا بأنها ردود عقائدية. والحق أن الشيخ الخضر كان في ردوده عليهما أكثر اعتدالاً، وأقرب إلى المنهج العلمي من أي كاتب آخر تصدى للرد عليهما. وإذا كان قد استفاد من عمله هذا فوائد خاصة، فإنه لم ينل شيئاً أكثر من علمه، أو فوق ما يستحق. ¬

_ (¬1) لم نعثر حتى الآن على التاريخ الرسمي لحصوله عليها. لكن صاحب مجلة "العالم الأدبي" نشر خبراً عنها في عدد (5/ 9/ 1932) يفيد حصوله عليها في نفس السنة. ويبدو لي أنه حصل عليها قبل هذا التاريخ بسنوات. (¬2) "الديوان" (ص 61).

* مدرساً بالأزهر: وفي عام 1928 تولى مشيخة الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي، فسعى إلى قبول الشيخ الخضر أستاذاً في كليات الأزهر، وكان الشيخ الخضر قد اجتاز امتحان شهادة العالمية بتفوق، ومنح الجنسية المصرية، وأصبح بذلك أحد شيوخ الأزهر، ومن علمائه البارزين، وكان قبل هذا التعيين مدرساً في معاهد الأزهر الثانوية. وقد تقدم الشيخ محمد الخضر حسين -فيما بعد، وعلى التحديد 1950 - إلى هيئة كبار العلماء طالباً قبوله عضواً بينهم، وكانت العضوية لا تكون إلا بشروط، منها: شهادة العالمية، وتقديم بحث علمي ممتاز، فقدم الشيخ الخضر بحثاً مطولاً عن القياس في اللغة (¬1)، فقبل بالإجماع، وأصبح من كبار علماء الأزهر، ابتداء من عام (1370 هـ / 1950 م). * العالم المناضل: لم يخلد الشيخ الخضر إلى الراحة والاستمتاع بالحياة الخاصة، كما كان شأن معظم علماء الأزهر في القاهرة، والزيتونة بتونس، بل كان جم النشاط، كثير العمل في المجالات الأدبية والاجتماعية والدينية، بل وحتى السياسة. ففي عام 1928 أسس جمعية (الهداية الإسلامية)، وتولى رئاستها، وإدارة مجلتها، والتحرير فيها، كما تولى رئاسة تحرير كثير من المجلات الدينية التي أصدرها الأزهر، مثل مجلة "نور الإسلام"، ومجلة "لواء الإسلام". ¬

_ (¬1) أصل البحث وضعه في دمشق أثناء فترة إقامته وتدريسه بها، ثم نقحه وطبعه بمصر (1353/ 1943)، ثم جدده، وتقدم به إلى الهيئة. . . راجع مجلة "الأزهر" (م 29 ص 744).

كما كان من مؤسسي (جمعية الشبان المسلمين)، وهي جمعية تهتم بإصلاح أخلاق الشبان وتهذيبهم وتكوينهم دينياً وبدنياً وثقافياً. * في المجمع اللغوي: وفي ديسمبر عام 1932 تأسس في القاهرة (مجمع اللغة العربية) بمرسوم من الملك فؤاد. ثم صدر مرسوم ثان في أكتوبر من العام الموالي بتعيين أعضاء المجمع المصريين وغير المصريين (¬1)، فكان الشيخ محمد الخضر حسين أحد هؤلاء الأعضاء، كما كان من بينهم العلامة التونسي حسن حسني عبد الوهاب (¬2). وكان الشيخ الخضر يوم صدور هذا المرسوم أستاذاً في قسم التخصص بكلية أصول الدين في الجامعة الأزهرية. * حب جارف للوطن: عقب الحرب العالمية الثانية أسس (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية)، وكان غرضه منها: التعريف بقضايا المغرب العربي، وجمع شمل أبنائه المهاجرين في مصر، وجعلهم في خدمة بلادهم، مهما كانت ظروفهم وأعمالهم، وبذلك ترى أنه لم ينس وطنه الأول قط، رغم حصوله على الجنسية المصرية، وزواجه بامرأة مصرية، وإقامته الطويلة في الشرق، وفي مصر بوجه خاص. ¬

_ (¬1) انظر: مجلة "مجمع اللغة العربية" (المجلد الأول ص 12)، وكتاب "المجمعيون" (ج 1 ص 17، 19، 23). (¬2) انظر عن الأعضاء التونسيين في المجمع: الملحق الثقافي لجريدة "العمل" (عدد 24/ 3/ 1972، و 31/ 3/ 1972).

وليس أدل على ذلك من الأعمال الكثيرة التي قام بها لفائدة قضايا المغرب العربي، ومساندة أبنائه ورجالاته المهاجرين والزائرين. وها هو يقول لأحد زائريه من أدباء تونس: أمحدثي رُبيتَ في الوطن الذي ... ربيتُ تحت سمائه وبلغت رشدا وجنيتَ زهر ثقافة من روضة ... كنتُ اجتنيتُ بنفسجاً منها ووردا هات الحديث فإنني أصبو إلى ... أنباء تونس من صميم القلب جِدّا وله في حب وطنه، والدفاع عن تونس، بل المغرب العربي كله قصائد كثيرة، تعد من عيون شعره. من ذلك قصيدة بعنوان: (حب الوطن) يقول فيها: وطني علمتني الحب الذي ... يدع القلب لدى البين عليلا لا تلمني إن نأى بي قدر ... وغدا الشرق من الغرب بديلا عزمة قد أبرمتها همة ... وجدت للمجد في الظعن سبيلا أنا لا أنسى على طول المدى ... وطناً طاب مبيتاً ومقيلا في يميني قلم لا ينثني ... عن كفاح، ويرى الصبر جميلا هو ذا طاعنْ به خصمك من ... قبل أن تخترط السيف الصقيلا * دفاع عن المغرب العربي: وقد ظل دائماً يدافع عن المغرب العربي، ويشيد برجال العلم والكفاح من أبنائه، بل ويفاخر الشرق بهم أحياناً، كما كان يحمل الشرق مسؤولية عدم مناصرته العملية للحركات التحريرية في أقطار المغرب العربي مما يؤدي ببعضها إلى الفشل. وها هو يذكر كل ذلك عقب زيارته للأمير عبد الكريم الخطابي على

ظهر الباخرة التي كانت ستقله من منفاه في أفريقيا إلى منفاه الجديد في فرنسا، وحين رست هذه الباخرة بميناء السويس عام 1947، كان الشيخ الخضر من بين الشخصيات التي زارت الأمير، وأقنعته بطلب اللجوء إلى مصر، والفرار من الأسر. ها هو يصف بطولة الأمير عبد الكريم، باعتبارها مثلاً من بطولات المغرب العربي، ويحمل الشرق عدم مؤازرته له أيام كفاحه: قلت للشرق وقد قام على ... قدم يعرض أرباب المزايا أرني طلعة شهم ينتضي ... سيفه العضب ولا يخشى المنايا فأراني بطل الريف الذي ... دحر الأعداء فارتدوا خزايا غضبة حراء هزته لأن ... ينقذ المغرب من أيدي الرزايا شب حرباً لو شددنا أزرها ... لأصابت كل باغ بشظايا وبالإضافة إلى قصائده، وجمعياته، وأعماله الأخرى، كانت مجلة "الهداية الإسلامية" مجلة مغربية واضحة الدلالة؛ في كتابتها، وأبحاثها، ودفاعها عن مختلف المواقف الوطنية والإسلامية والعربية (¬1). وقل مثل هذا عن مجلاته الأخرى، وقد شبهه بعض الكتاب المعاصرين بابن خلدون في هجرته إلى مصر، وفي نزعته المغربية، قال: "لاشك أن محمد الخضر حسين كان علَماً من أعلام الفكر المغربي الإسلامي مكافحاً وطنياً، ومغترباً في سبيل الحفاظ على حرية الكلمة. وأقام -كابن خلدون- بقية عمره في مصر، ورقي فيها إلى أعلى المناصب، وعمل ¬

_ (¬1) "الفكر والثقافة المعاصرة" (ص 176).

في ميدان الإصلاح الإسلامي، واللغوي، وعمل في التدريس والصحافة والكفاح الوطني. ولقد أتيح له أن يقاوم حركات التغريب بدعوته إلى إنشاء جمعية (الشبان المسلمين). وكانت مجلته وقلمه من ألسنة الدفاع عن المغرب العربي وقضاياه، ورسولاً قوياً يستصرخ المشارقة حين يكشف لهم عن مؤامرات الاستعمار، ويدعوهم إلى مقاومة التغريب والتجنيس والفرنسة. فهو منذ أقام في مصر بعد الحرب العالمية الأولى يحمل هذه الرسالة، ويعمل في كل هذه الميادين: الإسلام، واللغة، والكفاح السياسي" (¬1). "وكان محمد الخضر حسين مستنيراً، متفتح الذهن، يدعو إلى الإصلاح على أساس قاعدة علمية واضحة، فهو يؤمن بفكر لا يتعصب لقديم، ولا يفتتن بجديد، يعتمد الرأي حيث يثبته الدليل، ويثق بالرواية بعد أن يسلمها النقد إلى صدق الغاية" (¬2). * قمة مجده شيخ للأزهر: هذا هو الشيخ محمد الخضر حسين، الذي بلغ في شهر سبتمبر عام 1952 قمة مجده الديني والعلمي حين أصبح شيخاً للأزهر، فكان أول عالم غير مصري يتولى هذا المنصب منذ قرون عديدة خلت (¬3). وكان اختياره لهذا المنصب من طرف اللواء محمد نجيب، ومجلس وزرائه، وقد زاره ¬

_ (¬1) "المرجع نفسه" (ص 173 - 174). (¬2) "المرجع نفسه" (ص 174). (¬3) عن مشيخة الأزهر، وأسماء شيوخه، انظر: كتاب "مساجد ومعاهد" سلسة الشعب - (ج 1 ص 66 - 67).

في بيته ثلاثة وزراء، وأعلموه بهذا القرار (¬1). وكان الشيخ الخضر حسين حين تولى هذا المنصب قد شارف الثمانين من عمره، ورغم تقدمه في السن، فقد تحمل أعباء هذه المسؤولية الثقيلة بصبر وحلم اشتهر بهما منذ صباه، كما أهّله لذلك علمه الواسع، وماضيه المجيد في الكفاح الوطني والعلمي والإسلامي والأدبي والاجتماعي، وخاصة نزاهته وعفته، وشخصيته الرصينة المهيبة. * دسائس ومنافسات: ومنصب شيخ الأزهر تحيط به دائماً الدسائس والمناورات، والحسد والمنافسة. والشيخ الخضر كان يعرف ذلك كله. ولم يكن -حين قبل أعباء المنصب - ينوي أن يستمر فيه طويلاً، فلا سنّه تسمح له بذلك، ولا مغربيته أيضاً؟! ولكنه أراد أن يحقق أسمى هدف لعالم ديني، جاهد ستين عاماً في سبيل العلم والدين والوطن، وقد حققه. ولما شعر بأن المنافسة المصرية قد بدأت تتحرك بين شيوخ الأزهر، لم يكترث بذلك -لاعتماده على مناصرة حكومة اللواء نجيب له- رغم اللمز والغمز اللذين قامت بهما صحف معينة في القاهرة (¬2). * استقالته، وفاته: ولكن لما أُبعد اللواء محمد نجيب عن الحكم، ونفُي إلى مكان مجهول يوم 20 أوت 1953، شعر الشيخ الخضر بأن عليه أن يتنحى باختياره قبل أن ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر"، م 29 (عدد 20/ 2/ 1958) (ص 744). (¬2) منها مجلة "روز اليوسف"، ومجلة "الجيل الجديد".

يحدث شيء آخر. فاستقال من منصبه في جانفي -يناير- 1954 م بحجة مرضه، وحاجته إلى العلاج والاستجمام. وقام فعلاً بزيارة شقيقه الشيخ زين العابدين المقيم في دمشق، ثم عاد إلى مصر؛ حيث أقام إلى أن توفي في شهر رجب وشهر فيفري (1377 هـ / 1958 م)، ودفن في تربة آل تيمور. . . كما أسلفت القول. وبهذا نكون قد أحطنا بعناصر حياته المدنية والعلمية والوطنية في جميع مراحلها، وفي مختلف ظروفها.

جوانب من شخصيته

جوانب من شخصيته . . . الشاعر. . . المؤلف. . .الصحفي *. . . الشاعر: من أهم جوانب شخصية الشيخ محمد الخضر حسين: شاعريته، وقد مرت بنا خلال الصفحات الماضية نتف من شعره، تدل -بعض الشيء- على مستوى هذه الشاعرية، وعلى الاهتمامات المختلفة والأغراض المتعددة التي عالجها في شعره. والواقع أن الخضر حسين ابتدأ حياته الأدبية شاعراً قبل أن يبدأها ناثراً، فنحن نجد آثاره الشعرية الأولى أكثر اهتماماً بالحياة العامة، وأطرف أسلوباً، وأميل إلى التجديد والمطالبة بالإصلاح من نثره. ولكنه سرعان ما انقلب إلى النثر، فعبر عن جميع قضايا الحياة والمجتمع والفكر، تاركاً للشعر بعض المناسبات الخاصة، والجوانب الأكثر التصاقاً بالعاطفة والوجدان والإخوانيات. ورغم ذلك، فقد ترك الشيخ محمد الخضر حسين مجموعتين كبيرتين من شعره، تكون كل منهما ديواناً كاملاً. وقد طبعت المجموعة الأولى تحت عنوان "خواطر الحياة"، عام (1366 هـ -1947 م). وأعيد طبعها ثانية عام (1373 هـ - 1953 م)، وشرح هذه الطبعة الشيخ

محمد علي النجار، المدرس بكلية اللغة العربية من جامعة الأزهر، وكان الشيخ الخضر -يومئذ- يتولى مشيختها. أما المجموعة الثانية، فما زالت مخطوطة، وإن كان كثير منها منشوراً في الصحف، ويقال: إنها أعدت للطبع، ولكن وفاته حالت دون ذلك، فعسى أن ترى النور مع بقية مؤلفاته الأخرى غير المطبوعة، وأن يتولى ذلك بعض تلاميذه أو أصدقائه، وما أكثرهم في جميع الأقطار (¬1)!. * خواطر الحياة: يقع ديوانه في (207 صفحة) من الحجم المتوسط، ويحتوي على زهاء مئة وثمانين قصيدة ومقطوعة، وهو قصير النفَس في معظم شعره؛ إذ أن كثره مقطوعات لا تتجاوز الأبيات الخمس إلا نادراً .. على أن هناك قصائد مطولة تصل إلى أربعين بيتاً. ونادراً ما تصل إلى ثمانين أو مئة، كما في موشحه (صقر قريش). وتدور أغراض شعره بين الوطنيات، والإسلاميات، والرثاء، والوصف، والدعوة إلى النهوض والتحرر من ربقة الجهل والتخلف والحكم الأجنبي، مع عدد من قصائد الوجدان، ثم الإخوانيات. وإذا نحن أخرجنا الإخوانيات من باب المديح، على اعتبار أنها عواطف مودة وأخوة صادقة، وليست من باب التملق أو الارتزاق بأي حال من الأحوال، فإن شعر الخضر حسين يكون قد خلا من المديح، كما هو ¬

_ (¬1) ذكر محب الدين الخطيب أن للشيخ ديواناً آخر (في الحكمة والخواطر التي تحوم حول الحق والخير)، وضعه بعد استقالته من مشيخة الأزهر، انظر: مجلة "الأزهر" (م 29 ص 744).

خالٍ من الهجاء، ومن جميع الأغراض التافهة الأخرى، وهذا في حد ذاته ينم عن خلق رفيع، واتجاه نظيف، وكلاهما ليسا بدعاً في أخلاق الرجل، فهو من عرفنا تمسكاً بأخلاق الإسلام، وحرصاً على الاستقامة التامة في حياته وعلاقاته مع الناس. * المرأة في شعره: يكاد شعر الخضر حسين يخلو تماماً من الحديث عن المرأة، وهو خالٍ تماماً من الغزل. ولا شك أن اجتنابه الغزل واضح الأسباب، من حيث منزلة الرجل الدينية، وطبيعته الجدية الصارمة، وحرصه البالغر -إلى حد التزمت- على نظافة حياته، قولاً وعملاً من هذه الشبهات. كل ذلك يفسر خلو شعره من الغزل، ولكن ذلك لم يمنعه من الحديث عن المرأة بما يشبه الغزل. أقول: يشبه الغزل؛ لأنه لم يتغزل فعلاً، وإنما عالج موضوعاً عالجه غيره من الشعراء القدامى، فهو ليس من نوع المعارضات الشعرية، وإنما تضمين لمعنى اشتهر به شاعر قديم، أو محاكاة ومجاراة لقول مأثور في التشبب بالمرأة. فمن ذلك محاكاته لقول عنترة المشهور: ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المبتسم يقول الخضر حسين: ولقد ذكرتك في الدجى والجند قد ... ضربوا على دار القضاء نطاقا وقضاة حرب أرهفوا أسماعهم ... وصدورهم تغلي عليّ حناقا

والمدعي يغري القضاة بمصرعي ... ويرى معاناتي الدفاع سياقا أتروع أهوال المنون متيماً ... جَرَّعْتِهِ بعد الوصالِ فراقا؟! وقضاة حرب المتحدث عنهم: قضاة المحكمة العسكرية التي حوكم فيها عام 1916 بدمشق في عهد حاكمها العثماني جمال باشا السفاح. ومن هذا القبيل أيضاً: نظمه بيتين في الغزل الشعبي التونسي، يقول الخضر: خطرت فلاح جبينها ... والناس غرقي في سبات غرّ الإمام فخاله ... فجراً وأحرم بالصلاة! أخذه من غزل بدوي تونسي قديم: جات ظاهرة، نادوا عليها وَلي ... وأبرق خدها، قام الإمام يصلي ولست في حاجة إلى القول بأن البيت الشعبي الدارج أجمل وأبلغ من اجتهاد الشيخ الخضر في "تفصيحه". على أن شاعرنا يذكر المرأة في غير باب الغزل والنسيب، مرات قليلة، في مناسبات حزينة أليمة، أولاها: فراقه لزوجته التونسية اضطراراً، حين اعتزم الهجرة إلى الشرق عام 1912، ووافقت هي على الذهاب معه، ولكن أهلها عز عليهم فراق ابنتهم؛ إذ من يدري؛ لعلها لا تعود أبداً (¬1). والطريف أن كلاً منهما ظل يذكر صاحبه بالاحترام والمحبة والثناء، رغم أن كلاً منهما قد تزوج من جديد. يقول الشيخ الخضر متحسراً على فراق شريكة حياته بالحياة: ¬

_ (¬1) ترك معها الشيخ ابنته الوحيدة منها، ولم ينجب غيرها من كل زوجاته فيما نعلمه.

جارتي، منذ ضحوة العمر عذراً ... لأخي خطرة نأى عنه بيتك قال يوم الوداع وهو يعاني ... سكرة البين: ليتني ما عرفتك! وهذا معنى جميل بلا ريب، ويدل على مكارم الرجل، ووفائه وألمه في وقت واحد. * رثاء زوجته: وبهذه المناسبة نذكر أن الشيخ الخضر قد تزوج في الشرق ثلاث مرات -حسبما نعلم- ولكنه لم ينجب منهن أولاداً. إحداها: في دمشق أثناء إقامته بها، في سنوات (1912 - 1920)، والثانية: في مصر، من عائلة النجمة القاطنة بمنطقة الهرم. وقد توفيت زوجته هذه بعد عِشرة دامت زهاء ثلاثين عاماً، فرثاها بقصيدة، يقول فيها: أعاذل غض الطرف عن جفني الباكي ... فخطب رمى الأكباد مني بأشواك ولي جارة أودى بها سقم إلى ... نوى دون منآها المحيط بأفلاك أجارة هذا طائر الموت حائم ... ليذهب من زهر الحياة بمجناك حنانيك هل ساءتك مني خليقة ... فأنكرت دنيانا وآثرت أخراك؟! وكنت أعزي النفس من قبل أنني ... أموت قرير المقلتين بمحياك ولم أدر ما طعم المنون فذقته ... مساء لفظتِ الروح والعينُ ترعاك فهيهات أن أنساك ما عشت والأسى ... يموج بقلبي ما جرت فيه ذكراك * زوجة جديدة: كانت وفاة السالفة عام 1953، وهو شيخ للأزهر، فاضطر إلى الزواج من قريبة لها صغيرة السن؛ مما جعل الصحافة المصرية تلمزه بذلك، وتتخذ

من هذا الزواج غير المتناسب عمراً مغمزاً لمآرب أخرى. وقد حقق لي -شخصياً- صديقه الوفي العلامة الشيخ محب الدين الخطيب بأن الشيخ الخضر كان "لا يحب أن يكون أعزب"، وليس من شك -عندي- في أن الشيخ الخضر قد اضطر للزواج، ومن قريبة زوجته بالذات، للأسباب التالية: 1 - ما ذكره الشيخ الخطيب من أنه لا يحب أن يكون أعزب. 2 - لكبر سنه، وحاجته إلى شريكة حياة ترعاه، وتحدب عليه، وتقوم بشؤونه في ساعة المرض أو الشدة. 3 - أنه لم ينجب أولاداً، وليس له أي قريب أو قريبة في مصر، مما يخفف عنه مشاعر الوحدة والوحشة والانفراد في شيخوخته. 4 - وأنه -في رأيي- إنما تزوج قريبة زوجته؛ لأنها كانت مطلعة على حياته العائلية، فهي بمثابة القريبة، كما وأن أهل الزوجة سهّلوا ذلك له، وشجعوا عليه؛ حرصاً منهم على صيانة حياة الشيخ، وتوفير الراحة والهناء النفسي له، وهم أقرب الناس إليه، وألصقهم به، وأكثرهم إدراكاً لمتاعبه ومشاغله وظروفه. وعلى هذا، فلم تكن زوجته الجديدة زوجه بالمعنى الحسي، بل كانت ممرضة، وراعية لحياة الشيخ في تلك المرحلة الخاصة من شيخوخته. وهكذا يمكن القول -باختصار- بأن الشيخ الخضر لم يوافق على الزواج إلا بسبب وحدته وغربته وشيخوخته، تلك الشيخوخة التي تحتاج لمن يرعاها، ويحنو عليها، وليس كالزوجة الوفية البارة راعياً وحانياً.

* رثاء والدته: في سنة (1335 هـ - 1916 م) فقد الشيخ والدته، فرثاها بقصيدة يقول فيها: قطّب الدهر فأبديت ابتساما ... وانتضى الخطب فما قلت سلاما لست أدري أن في كفيك يا ... دهر رزءاً يملاً العين ظلاما لست أدري أنك القاذف في ... مهجتي ناراً ومذكيها ضِراما فإذا العين ترى عن كثب ... كيف تلقى نفسي الأخرى حِماما يا سقاة الترب ماء هاكم ... عبراتي إن في الجفن جماما أفلا يبكي الفتى نازحة ... سهرت من أجله الليل وناما "بنت عزوز" لقد لقنتنا ... خشية الله وأن نرعى الذماما ودرينا منك أن لا نشتري ... بمعالينا من الدنيا حطاما ودرينا منك أن الله لا ... يخذل العبد إذا العبد استقاما ودرينا كيف لا نعنو لمن ... حارب الحق، وان سل الحساما كنت نوراً في حمانا مثلما ... نجتلي البدر إذا البدر تسامى كان لي منك إذا أشكو النوى ... كتب تحمل عطفاً وسلاما فادخلي في سلف قمتِ على ... هديه الحق وأحسنت القياما واسعدي نزلاً إلى الملقى إلى ... يوم لا نخشى على الأنس انصراما من هذه الأبيات، ومن كامل القصيدة نحسّ بصدق العاطفة، وحرارة الإحساس، ودفق الشاعرية، وصفاء التعبير. وهي خصائص لم نجدها واضحة في رثاء زوجته، وهذا دليل على بره بالأمومة، وعلى تباين الظروف التي فقد

فيها أمه أولاً، وهو في كهولته، وزوجته ثانياً، وهو في شيخوخته، وربما كان الحرج الديني هو الحاجب لعواطفه نحو زوجته، بينما كان الواجب الديني هو المحرك لعواطفه -فوق دوافعه الإنسانية- للبر بوالدته. *. . . المؤلف: مؤلفات الشيخ محمد الخضر حسين كثيرة العدد، غزيرة المادة، متنوعة الموضوعات. ولئن كان معظمها بحوثاً ومحاضرات دينية وإسلامية، فإن بحوثه ومحاضراته في اللغة والأدب والنقد، وبعض جوانب التاريخ العامة كثيرة هي الأخرى. ولعل أبرز مجال ظهرت فيه شخصيته هو مجال النقد المدعم بالنصوص والحجج الأدبية والتاريخية واللغوية. ومن أبرز أعماله في هذا الميدان كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، وكتابه "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" لطه حسين، فكلاهما كان سبب شهرته في مصر، واقتعاده مكاناً سامياً بين أقرانه من شيوخ الأدب ورجاله في القاهرة. وتأتي بعد ذلك بحوثه اللغوية التي كان فيها مرجعاً وأستاذاً لا يجارى. وقد أعانته على النجاح في هذا المجال حافظته القوية جداً، وعنايته بالمراجعة والمقارنة. . مما جعله باحثاً مقتدراً بين زملائه، وأعطى لآرائه قيمة خاصة لدى المعنيين بالدراسات اللغوية (¬1). ¬

_ (¬1) انظر بوجه خاص: مجلة "الفكر" الكويتية، (مجلد 1 ع 3) (أكتوير - ديسمبر 1970) (ص 194 - 196).

وفي مجال البحث الأدبي القائم على التحليل والمقارنة، كان له فضل السبق إلى بحث موضوع طريف ومبتكر .. هو موضوع "الخيال في الشعر العربي"، فلست أعلم أن أحداً قبله عالج هذا الموضوع، وخاصة بشكل كتاب كامل ومستقل. وحتى صاحبنا الشهير (أبو القاسم الشابي) في كتابه: "الخيال الشعري عند العرب" كان متأخراً عنه، مترسماً خطاه، وإن لم يقلده، أو يجاريه في شيء مما ذهب إليه. أما موضوعاته الدينية والإسلامية بوجه عام، فإنه كان يعتمد فيها مذهب السلف، وتمجيد أعمالهم، والتنويه بخصالهم، واعتبارهم المنار الذي لا يستنار إلا به. لذلك تراه يكاد لا يخرج عما ذهبوا إليه، أو اجتهدوا فيه. وهذا لا يعني أن الرجل كان جامداً، أو محافظً، أو متعصباً لكل قديم .. وإنما كان يميل إلى الاعتماد على السلف، والاهتداء بهم وبآرائهم قبل غيرهم. لكنه كان -مع ذلك- يمتاز عن كثير من أمثاله الشيوخ بالتفتح والتبصر لفهم آراء غيره، ومناقشتها بهدوء -عُرف به- والرد عليها -عند اللزوم- بالحجة والنص، وإعمال الرأي. وفي هذا الصدد يقول أحد مترجميه: "كان محمد الخضر حسين مستنيراً، متفتح الذهن، يدعو للإصلاح على أساس قاعدة علمية واضحة (¬1). وهو يؤمن بفكر لا يتعصب لقديم، ولا يفتتن بجديد. يعتمد الرأي حيث يثبته الدليل، ويثق بالرواية بعد أن ¬

_ (¬1) هي القاعدة السلفية.

يسلمها النقد إلى صدق الغاية" (¬1). وأشهد أن الرجل، كباحث وناقد، كان رجلاً عفيف القول، نظيف اللسان، معتدل اللهجة. ولا تستطيع أن تقدر فيه هذه الخصال حق قدرها إلا إذا قرأت ردوده على طه حسين، وعلي عبد الرازق، وقرأت أيضاً ردود غيره عليهما. والواقع أن جوانب فكره ومؤلفاته خصبة ومتعددة، ولا تستطيع هذه العجالة أن تعطيه حقه، وتوضح معالم شخصيته. وإلى أن نفعل ذلك في طبعة قادمة، نكتفي هنا بعرض مدقق لجميع ما وصلنا وتعرفنا عليه من بحوثه ومؤلفاته المطبوعة. ملاحظاً قبل ذلك ما يلي: أولاً: أنه بدأ يحاضر ويكتب في الصحافة منذ سنة 1904، واستمر إلى سنة 1958، فالمدة تستغرق 54 سنة على الأقل؛ أي: أكثر من نصف قرن. يضاف إلى ذلك أنه كان غزير الكتابة، كثير البحث، دائب النشاط، وهو أمر نادر جداً بين أقرانه ومعاصريه من الشيوخ (¬2). ثانياً: أن معظم إنتاجه من بحوث ومحاضرات ما زال متناثراً في المجلات والصحف التي نشر فيها. ورغم الجهد الطيب الذي قام به حفيده للأخ الأستاذ علي الرضا الحسيني المحامي بدمشق، فإن ما لم يجمع من آثاره أكثر مما جمع. ولعل عناية حفيده تتواصل حتى تشمل ما بقي. ثالثاً: القائمة التي سنذكرها تشمل كل ما وصل إليه علمنا من كتب ¬

_ (¬1) أنور الجندي: "الفكر والثقافة المعاصرة في الشمال الأفريقي" (ص 174). (¬2) يماثله في هذا الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

ورسائل مطبوعة، مرتبة بحسب تاريخ طبعها للمرة الأولى، مع ذكر الطبعات الموالية إن كانت. رابعاً: إن الطبعات التي أشرف عليها حفيده للأخ -التي تمت كلها بعد وفاة الشيخ- لم يكن معظمها على النسق الذي وضعه مؤلفها. فقد تصرف الناشر في بعض العناوين، وفي المحتوى، وعمد إلى تكديس كتب على كتب، أو جمع مقالات ومحاضرات إلى كتاب سبق طبعه مستقلاً. وقد نتج عن هذا عسر هضم لدى الباحئين. وكنا نفضل لو سلك حفيده مسلكاً آخر يقوم على ما يلي: أ - نشر كتبه القديمة كما هي في طبعاتها الأولى. ب - جمع المحاضرات والبحوث الصغيرة -ما طبع منها وما لم يطبع- في كتاب متعدد الأجزاء، كما فعل المؤلف نفسه في كتابه "رسائل الإصلاح"، وكما فعل الناشر -مشكوراً- في كتاب "دراسات في العربية وتاريخها" (¬1). ج - جمع المقالات في كتاب مستقل متعدد الحلقات، تخصص كل حلقة بموضوع عام .. ديني، أدبي، اجتماعي، وطني. مع الإشارة دائماً إلى مكان النشر الأول، وتاريخه، وملابساته إن وجدت. خامساً: وعلى ذلك، فإننا سنذكر أولاً: الكتب التي طبعت بالنسق الأول؛ أي: في حياة المؤلف، وثانياً: الكتب التي ذكرها الباحثون، أو ورد ذكرها في المراجع، أو أعلن عنها في غلاف كتبه المطبوعة، ولكننا لم ¬

_ (¬1) رأينا الطبعة الثانية منه، مؤرخة بسنة 1960، ولسنا نعلم هل توجد طبعة أولى قبلها، أم أن الناشر اعتبر جميع ما طبع مفرقاً طبعة أولى!.

نرها، ثالثاً: الكتب التي تولى حفيده للأخ نشرها، على الصورة والعناوين التي نشرها بها. أولاً - كتب النسق الأول: 1 - حياة اللغة العربية: محاضرة ألقاها بنادي الجمعية الخلدونية مساء يوم السبت (11 شوال 1327، وفي 23 كتوبر 1909) - طبعة أولى بالمطبعة التونسية، 1909، ص (60). 2 - الحرية في الإسلام: محاضرة ألقاها بنادي جمعية قدماء تلامذة الصادقية مساء يوم السبت (17 ربيع الثاني 1324)، وهو يومئذ القاضي بمدينة "بنزرت". - طبعة أولى بالمطبعة التونسية 1909، ص (64). - طبعة ثانية بالأوفست تونس 1972، ص (64). 3 - الدعوة إلى الإصلاح: رسالة طبعت بتونس على نفقة السيد العروسي بن الحسين. - طبعة أولى بالمطبعة العربية بتونس 1909، ص (41). - طبعة ثانية بالمطبعة السلفية القاهرة (1346/ 1921)، ص (84). 4 - الخيال في الشعر العربي: - طبعة أولى بنفقة عناية المكتبة العربية في دمشق، طبع المطبعة الرحمانية بمصر 1922، ص (91). - طبعة ثانية بإشراف حفيده، مضافاً إليها بحوث أدبية أخرى. دمشق 1972 من (ص 5 - 72).

5 - نقض كتاب "الإسلام وأصول الحكم": الأصل للشيخ علي عبد الرازق. - المطبعة الأولى بالمطبعة السلفية في القاهرة (1344/ 1925)، ص (4 - 252). 6 - نقض كتاب "في الشعر الجاهلي": والأصل للدكتور طه حسين. - الطبعة الأولى بالمطبعة السلفية في القاهرة (1345/ 1926)، ص (7 - 364). 7 - الخطابة عند العرب: محاضرة ألقاها في نادي (جمعية الشبان المسلمين) مساء الأربعاء 5 ذي الحجة 1346. - الطبعة الأولى بالمطبعة السلفية بالقاهرة (1346/ 1927)، ص (28). - الطبعة الثانية، نشرها حفيده مضافة إلى كتاب "الخيال في الشعر العربي" ص (146 - 164) طبع دمشق 1972. 8 - العظمة:. محاضرة ألقاها في دار (جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية) يوم الجمعة 26 ربيع الثاني (1346/ 1927). وقد تضمنت الرد على مقالة علي عبد الرازق التي كان نشرها في جريدة "السياسة" يوم 12 ربيع الأول بمناسبة ذكرى المولد الشريف. - الطبعة الأولى بالمطبعة السلفية بالقاهرة (1346/ 1927)، ص (28). - الطبعة الثانية نشرها حفيده مضافة لكتاب "محمد رسول الله وخاتم

النبيين"؛ لعلاقتها به. ص (140 - 154) طبع دمشق 1971. 9 - علماء الإسلام في الأندلس: محاضرة ألقاها في نادي (جمعية الشبان المسلمين) باسم (جمعية الهداية الإسلامية) مساء الأربعاء 18 ذي الحجة (1346/ 1927). - المطبعة السلفية بالقاهرة (1347/ 1928)، ص (32). 10 - ثلاث محاضرات: ألقاها في نادي (جمعية الشبان المسلمين). 1 - السعادة عند بعض علماء الإسلام، ص (4 - 14). 2 - محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومتانة عزمه، ص (15 - 23). 3 - حياة أسد بن الفرات، ص (25 - 43). - الطبعة الأولى بالمطبعة السلفية بالقاهرة (1347/ 1928)، ص (43). - الطبعة الثانية أعادها الحفيد للمحاضرة الثانية فقط في كتاب "محمد رسول الله"، ص (74 - 78)، وللمحاضرة الثالثة في كتاب "تونس وجامع الزيتونة"، ص (70 - 81) طبع دمشق 1971. 11 - طائفة القاديانية: - الطبعة الأولى بالمطبعة السلفية في القاهرة (1351/ 1932). - الطبعة الثانية ضمن "رسائل الإصلاح" الآتي ذكره (ج 3 ص 107 - 125). 12 - حياة ابن خلدون، ومثل من فلسفته الاجتماعية: - محاضرة ألقاها بتونس قبيل هجرته، وأعادها بالقاهرة في (جمعية

تعاون جاليات أفريقيا الشمالية) مساء يوم الجمعة 5 صفر (1343/ 1924)، وطبعت في نفس السنة بالمطبعة السلفية، ص (48)، وأعاد نشرها حفيده في كتاب "تونس وجامع الزيتونة"، ص (44 - 96) طبع دمشق 1971. 13 - القياس في اللغة العربية: - الطبعة الأولى بالمطبعة السلفية بالقاهرة (1353/ 1934)، ص (117). - الطبعة الثانية نشرها حفيده ضمن كتاب "دراسات في العربية وتاريخها"، ص (5 - 112) طبع دمشق 1960. 14 - رسائل الإصلاح: كتاب متعدد الأجزاء جمع فيه جملة كبيرة من بحوثه ودراساته في الدين والأخلاق وغيرهما. وقد جعله أربعة أقسام هي: 1 - قسم الأخلاق والاجتماعيات. 2 - قسم المباحث الدينية من أصول الدين وأصول الفقه والأحكام العلمية. 3 - قسم السيرة النبوية، وتراجم الرجال والبحوث التاريخية. 4 - قسم مباحث اللغة والآداب (¬1). وقد نشر منه في حياته ثلالة أجزاء تدور كلها في القسمين الأول والثاني. - الجزء الأول، مطبعة الهداية الإسلامية بالقاهرة (1358/ 1938)، ص (4 - 240)، وقد أعاد الحفيد طبع هذا الجزء بعد أن حذف وأضاف له موضوعات من الجزء الثاني، وأبقى على عنوانه كما هو. طبع دمشق 1971، ص (240). ¬

_ (¬1) مقدمة الجزء الأول.

- الجزء الثاني، مطبعة حليم بالقاهرة، بلا تاريخ، ص (231). وقد نقل منه الحفيد موضوع "أديان العرب قبل الإسلام" إلى كتاب "محمد رسول الله"، وموضوعات أخرى إلى الجزء الوحيد الذي نشره باسم "رسائل الإصلاح"، كما نقل موضوع التصوف إلى كتاب "الشريعة الإسلامية" ص (174 - 190). - الجزء الثالث، نشرته مكتبة القدسي بالقاهرة (1358/ 1939)، ص (161). وقد أعاد الحفيد بعض موضوعاته في كتاب سماه "الشريعة الإسلامية" ص (5 - 51)، و (92 - 111). 15 - خواطر الحياة: ديوان شعر ضم مجموعة كبيرة من قصائده ومقطوعاته. - الطبعة الأولى بالمطبعة السلفية بالقاهرة (1366/ 1946). - الطبعة الثانية، عليها تعليقات بقلم الشيخ محمد علي النجار. المطبعة السلفية (1373/ 1953)، ص (207). 15 م - تونس تحت الاحتلال: رسالة كتبها ونشرها سنة 1948 بمناسبة مرور 67 سنة من فرض الحماية والاحتلال الفرنسي على تونس، وأصدرتها (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية) التي كان يرأسها. وكان الأمير عبد الكريم الخطابي رئيساً شرفياً لها. وعنوان الرسالة الكامل هو "تونس - 67 عاماً تحت الاحتلال الفرنساوي 1881 - 1948"، وهي بمثابة تقرير عام عن سياسة فرنسا الاستعمارية بتونس في جميع الميادين السياسية والدستورية والاقتصادية والثقافية وغيرها.

- الطبعة الأولى: القاهرة 1948، ص (34)، وقد ختم الرسالة بقوله: "ما زالت الحركات السياسية الوطنية في تونس تنهض مرة بعد أخرى، وترفع صوت الأمة عالياً بمطالبها المشروعة من أعلى المنابر، وتعقد المظاهرات لذلك، وتضرب البلاد عن الأعمال في كل مناسبة، وتقدم احتجاجات ضد كل تشريم أو تصرف يتصادم مع أهدافها الوطنية في الاستقلال التام، ولهم في جهادهم مواقف حفظها لهم التاريخ، وكم تعرضوا في هذا الجهاد لمصادمة الاستعمار لهم بالحديد والنار، وابتلوا بالاعتقال والسجن والإبعاد إلى أطراف القطر وخارجه، ونكبوا في أموالهم بالتغريم، وكانوا يحتملون ذلك الأذى، ويقابلونه بالتجلد والتصميم على العمل لخير وطنهم وحريته، حتى انتهت الأمة في هذا الدور الأخير إلى توحيد كفاحها وهدفها منه في المؤتمر الوطني العام الذي انعقد في 27 رمضان سنة 1365 هجرية، ونحن نختم هذه المذكرة بنشر مقررات ذلك المؤتمر فيها إثباتاً لتاريخ توحيد العمل والاتجاه". وبعد أن أورد مقررات المؤتمر المذكور، والتي تضمنت إعلان إفلاس سياسة الحماية، وضرورة اتحاد الشعب لتحقيق الاستقلال، ختم الرسالة بقوله (ص 34): "هذا هو الهدف الذي أضحت الأمة التونسية تعمل لتحقيقه، معرضة عن كل سياسة لا تتفق معه، أو تناقضه. . .". ثانياً - كتب ذكرتها المراجع: 16 - تعليقات على كتاب "الموافقات": طبعت بهامش كتاب "الموافقات"، وهو كتاب "في أصول الأحكام، تأليف الإمام أبي إسحاق اللخمي الشاطبي المتوفى سنة (790/ 1388)،

وعليه تعليقات للشيخ محمد الخضر بن الحسين التونسي، والكتاب يقع في أربعة أجزاء في مجلدين، المطبعة السلفية سنة (1341/ 1923) (¬1). 17 - مدارك الشريعة الإسلامية: ذكره سركيس في "معجمه" (ص 1652) قائلاً: "مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها، دمشق 1330"، ولم يذكر عدد الصفحات. ولكن حفيده أعاد نشرها في كتاب "الشريعة الإسلامية" (ص (55 - 77)، وذكر في تعليق ص 55: إنها محاضرة ألقاها المؤلف بنادي جمعية قدماء الصادقية بتونس يوم السبت 18 جمادى الثانية 1331، وطبعت في رسالة. وعلى هذا تكون آخر عمل علمي قام به في تونس قبيل رحيله عنها نهائياً. ويكون تاريخ الطبع كما ذكره سركيس فيه خطأ. وقد سبق له نشرها تباعاَ في مجلة "البدر" -المجلد الثاني ج 8 - 10 (1340/ 1924). 18 - مناهج الشرف: - قال سركيس في (ص 1652): "وهو في الأخلاق -مط الترقي- دمشق 1331". ولعل هذا التاريخ هو تاريخ الانتهاء من الكتابة لا الطبع، لوجود عبارة على الكتاب تقول: "للسيد محمد الخضر التونسي أستاذ آداب اللغة العربية والفلسفة الإسلامية بالمدرسة السلطانية. . تم تحريره في جمادى الثانية 1331"، وهو الصحيح؛ إذ أنه كان في هذا التاريخ بتونس، ولم يستقر بعد في دمشق، ولا تولى فيها التدريس. ¬

_ (¬1) فهرست المكتبة اللزامية ببنزرت (ص 77)، باب: أصول الفقه رقم 7.

19 - الإمتاع فيما يتوقف تأنيثه على السماع: - ذكره محب الدين الخطيب في غلاف عدد من كتب الشيخ الخضر التي تولى نشرها. - ونشره حفيده في كتاب "دراسات في اللغة العربية وتاريخها" الآتي ذكره، ص (259 - 277). 25 - آداب الحرب في الإسلام: - ذكره كحالة في "معجم المؤلفين" (ج 9 ص 820). 21 - محمد رسول الله وخاتم النبيين: ذكره كحالة بعنوان "السيرة النبوية". وذكرت طبعه بالعنوان الأول عائدة إبراهيم نصير في: "الكتب العربية التي نشرت في مصر بين عامي 1926 - 1940" (ص 83 رقم 2/ 1213). - طبعة أولى - إدارة الأزهر - القاهرة 1933، ص (47). - الطبعة الثانية، نشرها حفيده سنة 1916، كما أشار إلى ذلك في تعليق (ص 38) من الطبعة الثالثة. - الطبعة الثالثة، نشرها حفيده مضافاً إليها محاضرات وبحوث أخرى. طبع دمشق 1917 ص (38 - 73). 22 - هدى ونور: ذكره ناشرو كتبه على غلافها، وخاصة حفيده في سرده لمؤلفات الشيخ. 23 - تراجم الرجال: ذكره بعض مترجميه، وكذلك حفيده.

24 - أسرار التنزيل: ذكره حفيده بما يفيد أنه "تفسير للفاتحة، وسورة البقرة، وبعض آيات من سور: آل عمران، الحج، الأنفال، يونس، ص) (¬1)، ويبدو أن الحفيد جمعه من المجلات، واختار له العنوان. 25 - دراسات في اللغة: ذكره حفيده أيضاً (¬2). 26 - محاضرات إسلامية: ذكره حفيده، ولعله ينوي جمع محاضراته الإسلامية في كتاب (¬3). 27 - دراسات في الشريعة الإسلامية: ذكره حفيده، ولعله ينوي جمعه مما نشره في المجلات (¬4). 28 - السعادة العظمى في الإسلام: ذكره حفيده، ولعله يقصد به مجلته "السعادة العظمى"، وكان يذكرها دائماً بهذا الاسم، ولكنه أضاف مؤخراً: "في الإسلام" (¬5). ¬

_ (¬1) "الخيال في الشعر العربي" -طبعه الحفيد- (ص 207)، ولم يشر إلى أنه مطبوع أم لا. (¬2) "المرجع نفسه" (ص 204). (¬3) "المرجع نفس" (ص 204). (¬4) "المرجع نفسه" (ص 204). (¬5) نفس المرجع والصفحة.

29 - تراجم الرجال والبحوث التاربخية: ذكره حفيده (¬1)، ولعله يكمل به ما بقي من رسائل في طبعتها الأولى كما أشار إلى ذلك مؤلفها (راجع رقم 14). ثالثاً- كتب نشرها حفيده: 30 - دراسات في العربية وتاريخها: جمع فيه طائفة من رسائله وبحوثه المطبوعة في المجلات أو رسائل مستقلة، وضم بالخصوص: أ - القياس في اللغة العربية ص (5 - 111). (راجع رقم 13). ب - حياة اللغة العربية، ص (112 - 165). (راجع رقم 1). ج - الاستشهاد بالحديث في اللغة، ص (166 - 180)، وكان المؤلف قد ألقاه في مجمع اللغة، ونشره في المجلد الثالث من مجلة المجمع، ونشره المشرف على جمع "رسائل الإصلاح" (ج 2 ص 158 - 176). د - الإمتاع بما يتوقف تأنيثه على السماع، ص (259 - 277). (راجع رقم 19). هـ - موضوعات أخرى نقلها من مصادر غفل عن ذكر معظمها: - طبعة ثانية (¬2)، مطابع دار المنار بدمشق 1960 - ص (282)، وهذا الكتاب أحسن عمل قام به الحفيد من حيث التنظيم والإشارة إلى المصدر. . . إلخ. ¬

_ (¬1) نفس المرجع والصفحة. (¬2) راجع التعليق رقم 67.

31 - بلاغة القرآن: جمعه مما نشر في المجلات، وأشار إلى المرجع في بعض دون بعض. - المطبعة التعاونية بدمشق 1971، ص (216)، والكتاب بلا فهرست. 32 - تونس وجامع الزيتونة: جمعه مما سبق نشره في المجلات، أو الرسائل الصغيرة، وله علاقة بتونس، وخاصة تراجم عدد من العلماء والمشهورين أمثال: ابن خلدون، وأسد بن الفرات، ومحمود قبادو، وعمر بن الشيخ. - المطبعة التعاونية بدمشق 1971، ص (146). وهذا الكتاب عمل جيد، وإن أهمل ذكر مراجع تراجم العلماء، مع أنها منثورة في مجلة "الهداية الإسلامية". 33 - الشريعة الإسلامية: يمثل هذا الكتاب معظم الجزء الثالث من "رسائل الإصلاح" في طبعتها الأولى. (راجع رقم 14)، وقد أضاف له جملة مقالات وأبحاث نقلها من مجلات "نور الإسلام"، و"الهداية الإسلامية". وأشار لها في الحواشي. - المطبعة التعاونية بدمشق 1971، ص (222). 34 - محمد رسول الله وخاتم النبيين: جمع فيه عدة رسائل، خاصة المرقمة (8 و 10 و 14 و 20). أما بحث "أديان العرب" الذي استهل به الكتاب (ص 7 - 37)، فمنقول من "رسائل الإصلاح" (ج 2 ص 57 - 97)، وأضاف للجميع مجموعة مناسبة من المقالات الأخرى. - مطبعة العلم بدمشق 1971 ص (240).

35 - رسائل الإصلاح: في جزء واحد، ضم معظم الجزء الأول، وبعض الثاني من الطبعة الأولى (راجع رقم 14). - المطبعة التعاونية بدمشق 1971 ص (240). 36 - الخيال في الشعر العربي: جمع فيه كتاب "الخيال"، ومحاضرة: الخطابة عند العرب، ومحاضرات في البلاغة والآداب. - المطبعة التعاونية بدمشق، ط 2 - 1972، ص (203). *. . . الصحفي: لم يشتغل الشيخ الخضر حسين بالصحافة كمهنة يرتزق منها، ولا انقطع لها كما ينقطع الصحفي المحترف. ولكنه مارسها كرسالة ومنبر للتعبير عن مذهبه في الإصلاح، وآرائه في الدين والحياة والفكر. وطول ممارسته لها، وتحمله أعباء مسؤوليات كثيرة فيها، منذ فجر شبابه إلى آخر لحظة من حياته، وجب اعتباره صحفياً مناضلاً، ورائداً من رواد الصحافة العربية، وواحداً من بُناتها الأولين. فبالإضافة إلى ما كتبه ونشره من مئات المقالات والفصول والأبحاث في مختلف الجرائد والمجلات بتونس ودمشق ومصر. وأسس عدداً من المجلات، وساهم في تحرير كثير غيرها، وكان بذلك مؤسساً للصحافة، وصاحب امتياز، ومحرراً، ورئيس تحرير. وفيما يلي أهم المجلات والجرائد التي عمل بها، أو تولى تحريرها، أو ساهم بالكتابة فيها:

1 - مجلة "السعادة العظمى": سبق أن قلت: إنه أسس في سنة 1904 مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة تأسست وصدرت في تونس (¬1)، وقد جعلها نصف شهرية، وذات اتجاهين: ديني، وأدبي. ولئن لم يصدر منها سوى 21 عدداً، فإن مجموعتها تعتبر مصدراً هاماً لتاريخ الصحافة العربية، وطليعة رائدة للإصلاح وبذوره الأولى بتونس. ساهمت "السعادة العظمى" -برغم عمرها لقصير- بدور فعال في الحياة التونسية، وكان لها أثر محمود -إثر مطلع القرن- على الحركات الفكرية والدينية والاجتماعية. ورغم نزولها إلى الاعتدال -كشأن صاحبها دائماً- فقد جوبهت بمعارضة عنيفة من طرف شق الجامدين والمحافظين من شيوخ الزيتونة وأمثالهم في الحياة العامة يومئذ. ولكن عدداً غير قليل من كبار العلماء، وأعيان البلاد والمثقفين، وقفوا إلى جانبها بقوتهم المادية والاجتماعية والأدبية. ومن أبرز هؤلاء: الوزبر الأول الشيخ محمد العزيز بوعتور، والشيخ سالم بوحاجب، وحسن حسني عبد الوهاب، ومحمد الطاهر بن عاشور، ومحمد النخلي (¬2). ولعل أهم ما عنيت به المجلة: تأييدها للإصلاح، ودعوتها لتغيير مناهج ¬

_ (¬1) فيليب دي طرازي: "تاريخ الصحافة العربية" (ج 4 ص 348)، و"أركان النهضة" (ص 40)، ومجلة "لواء الإسلام" (س 11 ع 11 ص 675). (¬2) انظر حديثه عن بعض هؤلاء وتشجيعهم له: مجلة "لواء الإسلام" (س 11 ع 11 ص 675) (فيفري -فبراير- 1958).

التعليم الزيتوني، ومطالبتها بإدخال تدريس الأدب واللغة فيه، ونشرها لأولى محاولات التجديد في الشعر، ودفاعها عن اللغة العربية. وإذا سلّمنا بما يقوله الشيخ محمد الفاضل بن عاشور عنها (¬1)، فإنها كانت لسان جماعة من الشيوخ والعلماء الميالين إلى الاعتدال في تحقيق الإصلاح وبناء النهضة. 2 - مجلة "الشبان المسلمين": صدرت سنة 1929 شهرية إسلامية أخلاقية، وكان الشيخ الخضر من أبرز مؤسسيها وكتابها. وهي ناطقة باسم (جمعية الشبان المسلمين) التي كان له يد كبرى في تكوينها في نفس السنة. ورغم إصداره شخصياً مجلة "الهداية الإسلامية"، فإنه لم ينقطع عن الكتابة فيها، والمحاضرة في نادي الجمعية، والمساهمة في نشاطاتها الأخرى. 3 - مجلة "الهداية الإسلامية": مجلة إسلامية شهرية، أسسها الشيخ الخضر في القاهرة بعد استقراره بها، وظهور شأنه وصيته فيها. وكانت المجلة لسان (جمعية الهداية الإسلامية) التي دعا الشيخ إلى تأسيسها سنة (1346/ 1928)، وتولى رئاستها إلى آخر يوم من حياته (¬2). ¬

_ (¬1) "الحركة الأدبية" (ص 62)، وعن علاقتها بالمنار: (ص 64). (¬2) انظر: نشرة صغيرة عن تأسيس الجمعية ونظامها الأساسي ومؤسسيها الأولين. والعدد الأول من مجلة "الهداية الإسلامية" الصادر في (جمادى الثانية 1347 نوفمبر 1928).

وهذه المجلة هي أكبر عمل صحفي قام به؛ لطول حياتها، وتواصل ظهورها، ولإشرافه على تحريرها، واتخاذه لها منبراً وصوتاً ينادي بالإصلاح والدفاع عن الإسلام والمسلمين. وإلى جانب ذلك، كانت لسان المغرب العربي في مصر والشرق العربي، مدة ثلاثين سنة، حتى اعتبرت -بحق- مجلة مغربية تصدر في القاهرة؛ لما كانت تختص به من اهتمام كبير بقضايا المغرب العربي وتاريخه وثقافته وأدبه، وكفاحه التحريري ضد الاستعمار والفرنسة. وعن هذا الدور المغربي بالذات يقول كاتب مصري معاصر: "كانت مجلة "الهداية الإسلامية" مجلة مغربية واضحة الدلالة، في كتابتها وأبحاثها، ودفاعها عن مختلف المواقف الوطنية والإسلامية والعربية" (¬1). 4 - مجلة "نور الإسلام": مجلة شهرية إسلامية ذات مستوى رفيع في تحريرها وموضوعاتها، وقد أصدرتها مشيخة الأزهر، وعهدت برئاسة تحريرها إلى الشيخ الخضر، واستمر صدورها من سنة (1349 إلى 1353 هـ) - (1930 - 1934)، وفي أثناء سنتها الخامسة أبدلتها المشيخة بمجلة جديدة هي: 5 - مجلة "الأزهر": وهكذا حلت مجلة "الأزهر" محل "نور الإسلام"، وعهد إلى الشيخ الخضر برئاسة تحريرها، كاستمرار لعمله في المحلة السابقة، ولكنه تخلى عن هذه المسؤولية بعد سنوات قليلة، وإن لم ينقطع عن الكتابة فيها، وعن إصدار مجلته "الهداية الإسلامية". ¬

_ (¬1) أنور الجندي: "الفكر والثقافة" (ص 176).

6 - مجلة "لواء الإسلام": في سنة 1945 - أصدر صديقه الشيخ العلامة أحمد حمزة مجلة "لواء الإسلام" شهرية دينية ثقافية اجتماعية، وطلب من الشيخ الخضر أن يتولى رئاسة تحريرها، فقبل هذه المسؤولية، واستمر في ذلك إلى أن تولى مشيخة الأزهر سبتمبر 1952، وعندها تخلى عن التحرير، واقتصر على الكتابة فيها، وظل كذلك إلى عدد شهر فيفري (فبراير) 1958، وهو الشهر الذي توفي فيه (¬1). وعن دوره في هذه المجلة يقول مؤسسها: "ومنذ اتجهنا إلى إنشاء مجلة "لواء الإسلام" نتقدم بها محتسبين النية خدمة لهذا الدين الحنيف، وبياناً لحقائقه، لم نجد علماً يحمل اللواء سوى الشيخ الخضر حسين، فأرسى قواعد التحرير فيها، وتعهدها بتوجيهه وقلمه وقلبه المشرق المنير، ونيته وإخلاصه - صلى الله عليه وسلم -، فسارت قدماً إلى الأمام تحمل رسالتها، وتتجه إلى غايتها، ومن ورائها (الخضر) ونخبة مؤلفة من العلماء المخلصين المؤمنين". "ولم ينقطع عن رئاسة التحرير إلا عندما شغل منصب شيخ الأزهر. وفي هذا المنصب أعاد إليه كرامته، وأكد عزته، ولا يزال الأزهريون يذكرون له مواقف الشمم والإباء، وما زالت كلماته التي قالها، والتي استهل بها عهده فيه، تدوي في آذانهم، يرددونها، ويعترفون له بتحققها. . فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "وليت أمر الأزهر، فإن لم يزد في عهدي، فلن ينقص منه شيء". ثم ترك ¬

_ (¬1) كان آخر مقال له بعنوان (فساحة الصدر ونزاهة اللسان عن المكروه) نشرته "لواء الإسلام" (س 11 ص 673 - 675).

الأزهر موفوراً عزيزاً، وعكف على العلم والكتابة مرة أخرى في "لواء الإسلام"، واستمرت المجلة تشرق بمقالاته، وتضيء بإخلاصه حتى قبضه الله إليه" (¬1). 7 - مجلة "الفتح": صحيفة أسبوعية إسلامية أسسها وأصدرها سنة 1926 صديقه الكبير الشيخ محب الدين الخطيب، وهو سوري مهاجر مثله إلى القاهرة. وكان قد سبقه إليها بنحو السنة، وهو كالشيخ الخضر من رعيل الكفاح الإسلامي الأول في بلاد الشام، وفي دمشق كان تعرفه به. فلما استقر كلاهما بمصر، ربطت بينهما رابطة الهجرة، فضلاً عما كان بينهما من روابط العلم والمودة والنضال المشترك عن الإسلام والمسلمين. وللشيخ محب الدين دور هام في حياة الشيخ الخضر .. فهو الذي ربط الصلة بينه وبين عدد كبير من العلماء والشخصيات المصرية والعربية ذات النزعة الإسلامية. وهو أيضاً الذي شجعه -منذ البداية- على نشر مؤلفاته، وطبعها في المطبعة السلفية التي أسسه 11 لشيخ محب الدين الخطيب (¬2). فلما أصدر مجلته "الفتح"، ساهم الشيخ الخضر في تحريرها، والكتابة فيها بما يلائم اتجاهاته الدينية، ويساعد صديقه على النجاح في مهمته الإسلامية. ¬

_ (¬1) "لواء الإسلام" (عدد مارس 1958، مجلد 11 ع 12 ص 743 - 744). (¬2) راجع بحثاً جيداً عن حياة الخضر كتبه الشيخ محب الدين في مجلة "الأزهر": مجلد 29 ص 736 - 744 (20/ 2/ 1958)، وانظر ما كتبه محب الدين عن الخضر في مذكراته المنشورة في مجلة "الثقافة" الجزائرية عام 72 - 1973.

ولمجلة "الفتح" دور هام جداً في الدفاع عن قضايا المغرب العربي، وخاصة يوم تعرض إلى محنة التجنيس (¬1). * مجلات وصحف أخرى: لا نستطيع أن نعرف بالتحديد جميع المجلات والجرائد الأخرى التي نشر فيها الشيخ الخضر قصائده ومقالاته وبحوثه. ولبس ثمة شك في أنها كثيرة جداً، سواء منها الصادرة في مصر، أو تونس، أو في غيرها من البلاد، ومع ذلك نذكر هنا أسماء ما عرفناه منها؛ لتكون عوناً للباحثين الراغبين في الإحاطة والتوسع ومتابعة جميع آثاره المنشورة. 8 - مجلة "مجمع اللغة العربية": وهي حولية يصدرها المجمع في القاهرة متضمنة بحوث أعضائه، وقرارات المجمع، وقد صدر عددها الأول سنة 1935 محتوياً جملة أعمال الدورة الأولى المنعقدة في سنة 1934، وهي السنة التي تأسس فيها المجمع، واختير الشيخ الخضر ليكون من بين أعضائه الأولين. وفي العدد الأول نجد للشيخ بحثاً بعنوان: "المجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية" ص (291 - 302) (¬2). ولا يخلو عدد واحد من هذه المجلة -صدر في حياته- من بحث له، أو قصيدة، أو هما معاً. ¬

_ (¬1) من ذلك نشرها سلسلة من المقالات جمعتها بعد ذلك في كتاب بعنوان "ظاهرة مريبة ... ". (¬2) لم ينشر هذا البحث في كتاب "دراسات في العربية وتاريخها".

9 - مجلة "المجمع العلمي العريي": وهي مجلة مجمع دمشق الذي كان الشيخ الخضر من أعضائه الأولين عند تأسيسه في سنة 1919 (¬1)، ولما هاجر إلى مصر، واستقر بها، انتخب عضواً مراسلاً (¬2). ومن يتابع فهارس المجلة يجد كثيراً من أخباره وبحوثه ومحاضراته مبثوثاً في أعدادها (¬3). 10 - مجلة "البدر": وهي شهرية أدبية علمية، أصدرتها جماعة من (جمعية الجامعة الزيتونية) للتعبير عن مقاصدها، وللمساهمة بها في النهضة الثقافية التونسية. وكان صدورها بين عامي (1912 - 1922). ومقالات الشيخ بها كثيرة، كما نشر فيها آخر محاضرة له بتونس بعنوان "مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها". وقد اخترنا نماذج من مقالاته فيها في قسم: المختارات. 11 - المجلة الزيتونية: وهي مجلة شهرية إسلامية تونسية أصدرتها نخبة من شيوخ الزيتونة ابتداء من سنة 1941. 12 - جريدة الزهرة: يومية سياسية جامعة، أسسها المرحوم السيد عبد الرحمن الصنادلي (¬4) ¬

_ (¬1) راجع عن ذلك: "تاريخ المجمع العلمي العربي" لأحمد الفتيح. (¬2) مجلة "المجمع العلمي العربي": مجلد 6 ج 12 (ص 556 - 557) ديسمبر 1926. (¬3) انظر تفصيل ما نشره في فهارس المجلة التي وضعها الأستاذ عمر رضا كحالة. (¬4) م. ص. المهيدي: "تاريخ الصحافة العربية" (ص 7).

سنة 1889، وهي رابع صحيفة عربية صدرت بتونس. وقد عمرت طويلاً، وعاشت بعد وفاة مؤسسها سنة 1935 بإدارة ابنه، وانقطعت عن الصدور عقب الاستقلال بمدة قصيرة. 13 - الزهراء: مجلة علمية أدبية اجتماعية، منشئها محب الدين الخطيب، ودام صدورها شهرياً مدة خمس سنوات من (1343/ 1924 إلى 1347/ 1929). * المراجع: أولاً- المخطوطة: 1 - مشاهير المهاجرين التونسيين: (الطيب بن عيسى). 2 - مجموعة خاصة من الرسائل والوثائق. ثانياً- الكتب المطبوعة: 1 - الأدب التونسي: زين العابدين السنوسي. جزآن -مطبعة العرب- تونس (1927 - 1928). 2 - أركان النهضة الأدبية بتونس: محمد الفاضل بن عاشور، ط 1 تونس (1381/ 1961). 3 - أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث: أحمد تيمور، ط 1، القاهرة 1967. 4 - البرنس في باريس: محمد المقداد الورتاني، الطبعة الأولى - تونس 1914.

5 - البلاد العربية والدولة العثمانية: ساطع الحصري - القاهرة 1957. 6 - تاريخ الصحافة العربية: الفكونت فيليب طرازي. طبعة مصورة للطبعة الأولى - بيروت (1913 - 1927). 7 - تاريخ الصحافة العربية وتطورها بالبلاد التونسية: محمد الصالح المهيري - تونس 1965. 8 - تاريخ المجمع العلمي العربي: أحمد الفتيح - دمشق 1956. 9 - التوفيقات الإلهامية: اللواء محمد مختار باشا، طبعة أولى - بولاق (1311/ 1893). 10 - حاضر العالم الإسلامي: تعليق شكيب أرسلان، الطبعة الثالثة - بيروت 1971. 11 - الحركات الاستقلالية في المغرب العربي: علال الفاسي - القاهرة 1948. 12 - الحركة الأدبية والفكرية بتونس: محمد الفاضل بن عاشور، القاهرة -الطبعة الأولى- 1956. 13 - الفكر والثقافة المعاصرة في الشمال الإفريقي: أنور الجندي - القاهرة 1965. 14 - كفاح صحفي: علي مصطفى المصراتي:

طبعة أولى - بيروت 1916. 15 - المجمع العلمي العربي في خمسين عاماً: عدنان الخطيب، دمشق 1969. 16 - مجمع اللغة العربية في ثلاثين عاماً: المجلد الأول بقلم الدكتور إبراهيم مدكور، القاهرة 1964. 17 - محاضرات المجمع العلمي العربي - دمشق 1954. 18 - مساجد ومعاهد: سلسلة كتاب الشعب، رقم 75، الجزء الأول - القاهرة 1960. 19 - معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة - الأجزاء 9 و 10 و 12 و 13 - دمشق 1960 - 1961. 20 - معركة الجلاز: محمد المرزوقي، والجيلاني بن الحاج يحيى -طبعة أولى- تونس 1961. 21 - الموسوعة العربية الميسرة: بإشراف محمد شفيق غربال - القاهرة 1965. 22 - هذه تونس: الدكتور الحبيب ثامر - القاهرة 1948. 23 - يوم ميسلون: ساطع الحصري -طبعة جديدة- بيروت (؟). ثالثاً - فهارس الكتب والدوريات: 1 - فهرس 3200 مجلة وجريدة عربية: وضعه عبد الغني أحمد بيوض ومن معه -المكتبة الوطنية- باريس 1969.

2 - فهرس الدوريات العربية في دار الكتب المصرية: جزآن -دار الكتب- القاهرة 1961. 3 - الكتب العربية التي نشرت بين 1926 و 1940: عائدة إبراهيم نصر، الجامعة الأمريكية - القاهرة 1969. 4 - فهرس مجلة المجمع العلمي العربي: دمشق - 1956 - 1971. 5 - معجم المطبوعات العربية والمعربة: يوسف إليان سركيس - القاهرة 1928. 6 - فهرس المكتبة اللزامية: وهي مكتبة خاصة ببنزرت (تونسى)، وضعه الشيخ أحمد حفصة الغمراسني -مطبعة النهضة- تونس 1350 - 1931. رابعاً - المجلات والجرائد: 1 - الأزهر: مجلة - القاهرة - المجلد 29 (1958). 2 - البدر: مجلة - تونس - المجلد الثاني 1921 - 1922. 3 - الثريا: مجلة - تونس - المجلد الثالث 43 - 1944. 4 - الدعوة: جريدة - القاهرة -1372/ 1952. 5 - روز اليوسف: مجلة - القاهرة - 1952 - 1953. 6 - السعادة العظمى: مجلة - تونس - 1904. 7 - الشعب: مجلة - تونس - 1968. 8 - العالم الأدبي: مجلة - تونس - 1932.

9 - عالم الفكر: مجلة - الكويت مجلد 1970. 10 - العرب: مجلة - تونس - المجلد الثالث 1923. 11 - العمل: جريدة -الملحق الثقافي- تونس 1969 - 1972. 12 - لواء الإسلام: مجلة - القاهرة - 1945 - 1958. 13 - المجمع العلمي العربي: مجلة - دمشق (كل السنوات، والفهارس). 14 - مجمع اللغة العربية: مجلة - القاهرة - 1935 - 1958. 15 - المشير: جريدة - تونس - سنة 1958. 16 - نور الإسلام: مجلة - القاهرة -1930 - 1934. 17 - الهداية الإسلامية: القاهرة - كل السنوات. * ملاحظة هامة: جميع مؤلفات الشيخ محمد الخضر حسين التي وردت في متن الكتاب أو هوامشه كانت لنا عوناً ومصدراً أساسياً في كتابته.

محمد الخضر حسين عالم فذ ومجاهد من الرعيل الأول

محمد الخضر حسين عالم فذ ومجاهد من الرعيل الأول بقلم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي (¬1) "ولد في مدينة "بوطان" بتركيا عام (1348 هـ - 1929 م)، وطلب العلم في صباه بدمشق، ثم درس في الأزهر، وعمل أستاذاً رئيس قسم في كلية الشريعة بجامعة دمشق. له مؤلفات غزيرة: من الفكر والقلب - من روائع القرآن - مسألة تحديد النسل وقاية وعلاجاً - اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية - تجربة التربية الإسلامية في ميزان البحث - قضايا فقهية معاصرة - مدخل إلى فهم الجذور - وغيرها". منذ أيام نعي إلى العالم الإسلامي في معظم أقطاره، وفاةُ أحد أعلامه الخالدين، هو فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين المغربي التونسي. ومن الطبيعي أن يحدث صدى هذا النبأ المؤسف هزة قوية بين الأوساط، وأسى عميقاً في النفوس، وفراغاً بيناً في عالمنا الإسلامي الشاسع، فلقد كان الشيخ الجليل من أولئك القلة الذين لا يجود بهم الدهر إلا نادراً. كان كأنما يستشعر دائماً أنه لم يخلق لنفسه، وإنما للإسلام. والروح التي تخفق بين جنبيه لم يكن يشعر أنها شيء آخر غير روح الإسلام التي يجب ¬

_ (¬1) كتاب "من الفكر والقلب" الطبعة الأولى عام (1389 هـ -1969 م ".

أن تظل خفاقة في عالمه الذي يعيش فيه. ولذا، فقد كان يلتمس في الدعوة إلى الحق والثورة على الباطل، وإنارة سبل الإسلام، غذاء حياته، وراحة نفسه، تماماً كأي شخص يبحث عن هذه الراحة في لقمة الطعام، وجرعة الشراب، وأسباب الدنيا. . ويبدو أنه -رحمه الله- لم يكن ليشفي غلة نفسه أن يخدم الإسلام من الطريق التي يسلكها معظم أمثاله من الشيوخ والعلماء فقط، فشق أمامه كل طرق الفكر والفنون، وجندها كتلة واحدة مجتمعة لخدمة الإسلام والعالم الإسلامي. فلقد خدم الإسلام أديباً لامعاً، وجاهد في سبيله كاتباً مبدعاً، وتصدى لنصرته عالما من أفذاذ علماء التشريع وأصوله، وكان أروع قرين له في كل ذلك إخلاصه القوي الغريب. لقد تناوبته مراحل مختلفة متتالية من صور الحياة، وهو عند كل مرحلة منها لا يلقي عصاه إلا ليتخذ منها ميداناً للجهاد الدائب في إخلاص راسخ لا يميله عنه شيء من زعازع الحياة ورياحها. ابتدأت أولى مراحل جهاده على صفحات مجلة "الأزهر"، وكانت تلك المجلة إذ ذاك صوتاً إسلامياً مدوياً في شتى أطراف العالم، يخشع له العدو والصديق، ويهتز بتأثيره القاصي والداني، وكانت روح تلك المجلة متمثلة في شخصين عظيمين، لا يذكر أحدهما إلا وذكر معه الآخر، هما: الشيخ يوسف الدجوي، والشيخ محمد الخضر حسين. والذي استعرض شيئاً من كتابات هذين العظيمين في تلك المجلة يستطيع أن يتخيلهما في وقفتهما المناضلة المكافحة عن حوزة الإسلام وقدسيته ضد قوى كثيرة متألبة تهدف إلى خدشه والنيل منه.

وكانت المرحلة الثانية من حياته الدائبة المجاهدة هي تدريسه في كلية الشريعة بالأزهر. كان -رحمه الله- يحاول جاهداً أن يدخل إلى قلوب طلابه مع العلم روحه، وكان يجاهد أن يلصق الوسائل بالغايات؛ لكيلا يقف الأزهريون بعد تخرجهم في نهاية الوسائل ودون الغايات وإذا بهم أعضاء أشلاء، لها صورة الثمرة أمام الأبصار، وليس لها حقيقتها وطعمها. وكان يأبى أن يوقع على الساعة التي يدرسها إذا امتلأت من أول دقيقة فيها إلى آخر لحظة بالتعليم والإفادة. ومعنى ذلك: أن الساعات التي كانت تذهب ببعضها فوضى الطلاب بسبب بعض الشؤون العامة أو الخاصة لم يكن يرضى أن يأخذ عليها أي أجر. ثم أقلته الدولة بعد ذلك إلى منصب مشيخة الأزهر، فضرب أكبر مثل للتاريخ بالإخلاص والتفاني في العمل لمصلحة الأزهر والإسلام. وراح يضع المشاريع الإصلاحية لنهضته وتقوية دعائمه. . ولما لم يمكن لكل ما أراد أن يطبق، أبى إلا الاستقالة عن منصبه، معتذراً بأنه ليس من الوفاء للحق أن يملأ منصباً دون أن يملك أن يعطيه حقه. ولكنه لم ينزل ليستريح، ولم يترك مشيخة الأزهر ليخلد إلى السكون، بل ظل واقفاً نفسه لخدمة الإسلام، والدفاع عنه في كل ما يمكنه من مجال. عمل رئيساً للتحرير في مجلة "لواء الإسلام"، ولما تملكته الشيخوخة، ودبّ إلى أطرافه الضعف، ولم يعد يستطيع الدوام في مركز المجلة، استأذن من مؤسسها أن يتولى الكتابة لها، والإشراف على موادها في مكتبه في البيت، ولم يرض أن يأخذ بعدئذ لقاء عمله أي شيء، كان يرى أن رئيس التحرير

ليس له أن يقعد في بيته، ثم يأخذ فوق ذلك أجراً. وظلّ مثابراً على الكتابة، وظل ماضياً في طريقه إلى الدعوة والجهاد الفكري، رغم ما آل إليه جسمه من الضعف، والحاجة إلى الراحة والسكون، ولكنه -كما قلت- لم يكن يفرق بين ألم روحه التي في جسمه، وألم الروح الإسلامية في هذه الأرض. لقد كان عليه لكي يستريح أن يرى المجتمع الإسلامي من حوله سعيداً هادئاً مستقيماً. ولا أزال أذكر يوم عُدته في السنة الماضية في بيته في القاهرة، رأيته جالساً على مقعد إلى جانب مكتبه، وقد ذوى منه الشكل، وذابت معظم ملامح وجهه، وامتزجت -من الضعف- الكلمات بعضها في بعض على شفتيه، ورأيت -رغم هذا - قلماً يرتجف في يده، وأوراقاً مبعثرة على (طربيزة) بين يديه. ولقد سألته -إذ ذاك- عن هذه الأوراق، فأجاب بصوت خافت، وكأنه يتجاهل العجز المتشبث به: بأنه مقال يكتبه للواء الإسلام. فقلت: ولكن ألا تشعرون أن هذا يتعبكم، وأنكم بحاجة إلى شيء من الراحة في هذه الفترة؟ فأجاب -رحمه الله- بلهجة متواضعة لا أزال أذكرها: - قلما أشعر بالراحة ساكناً بلا عمل. . لا أحسب أن مثل هذا الإنسان يبعثه الله في العالم إلا عبرة للكسالى الخاملين الذين تلويهم النسمات، ويقعدهم التثاؤب؛ كي يؤوبوا إلى رشدهم، وتنخسهم مشاعر الخجل والحياء إن كانت فيهم مشاعر. .

رحمه الله. . كان أهم ما يشتاق إليه في عالمنا هذا هو أن تعود إليه وحدته الإسلامية ليلتقي بقوته الجبارة التي رُكنت منذ دهر طويل في مخزن التاريخ. وإني لأرجو أن يحقق الله عزاءنا فيه، وأن يأذن لهذا العالم أن يهب إلى وحدته ليستردها، وإلى قوته ليستعيدها.

محمد الخضر حسين عالم مجاهد

محمد الخضر حسين عالم مجاهد بقلم الدكتور محمد رجب البيومي "كاتب وباحث في العلوم الإسلامية، له دراسات قيمة في مجلة "الأزهر"، وفي العديد من المنشورات المتخصصة في العالم الإسلامي. وأستاذ في كليات الجامع الأزهر" (¬1). يحلو لكثير من النقاد أن يصنفوا المؤلفين طبقتين: طبقة العلماء، وهم أرباب البحوث العلمية في الفقه والتشريع والعلوم اللسانية؛ من نحو وبلاغة وتصريف، وطبقة الأدباء، وهم أصحاب الآثار الفنية؛ من نثر بارع الصوغ، صادق العاطفة، وشعر رائع المعنى دقيق التصوير، فإذا نظم العالم شعراً، أو ألف الأديب مصنفاً علمياً، فقد سلك مسلك التكلف والافتعال، وربما فى عم هذا التقسيم لديهم ما يشاهدونه كثيراً من ركاكة أشعار العلماء، وضحالة إنتاج الأدباء، وهذا حق في أكثر أحواله، ولكنه لا يمنع أن يوجد من الموهوبين من يبرز في الناحيتين على نحو يدهش ويروع!. أذكر أني كنت أقرأ كتاب "الوساطة بين المتنبي وخصومه" للقاضي الشهير علي بن عبد العزيز الجرجاني، فأجد الرائع المبدع من التحليل الأدبي والصوغ البياني، مع الاستشفاف الملهم لأسرار الروح ونوازع الوجدان، ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر" القاهرة - الجزء الأول - السنة الثانية والأربعون.

ثم أنتقل إلى ما رواه الثعالبي من شعره، فأجد المطرب المرقص مما يملك الوجدان، دقةَ إحساس، ولطافة منزع! والرجل بعدُ قاض فقيه يؤلف في الفقه والتشريع، ويحذق أساليب الاستنباط والقياس وقواعد الأصول ذات المنحى العويص!! وتفوقه في الناحيتين المختلفتين دليل ملموس على أن العلم لا يمنع الأدب؛ فقد يوجد في ذوي المواهب من يطير بجناحين متعادلين، فيحرز قصب السبق في مضماري العلم والأدب دون نزاع، ولقد كان السيد محمد الخضر حسين أحد هؤلاء دون جدال!! فالرجل قاض فقيه يكتب في الأصول والتشريع والتاريخ كتابة المتعمق الدقيق، وقد كان يدرّس لطلاب كلية أصول الدين أبواباً من السياسة الشرعية، ويغوص فيها مغاص الأصولي الجدلي المتكلم النظار، ثم هو صاحب رسائل أدبية، ومقالات تحليلية، وديوان شعري يجعله في طليعة أرباب الفن الرفيع، ولا ندري كيف تأتى له ذلك، ومنشؤه التعليمي بجامع الزيتونة في تونس إن استطاع أن يلهمه بصر العالم، فلن يستطيع أن يورثه ذوق الأديب دون جهد جهيد! ولد الأستاذ بقرية من قرى الجزائر على حدود القطر التونسي، في أسرة تعتز بعراقة النسب، وتفخر بمن أنجبت من العلماء والأدباء، وحين بلغ الثانية عشرة من عمره التحق بجامع الزيتونة طالباً. وأكب على التحصيل والتلقي حتى نال الشهادة العالمية عن جدارة، وتهيأ للإفادة العلمية كاتباً ومدرساً وقاضياً. وتسألني عن طريقة التدريس بجامع الزيتونة إذ ذاك، فلا أجد أحسن مما قاله الأستاذ أحمد أمين، في كتابه "زعماء الإصلاح" (ص 148): "وعلى رأس هذه الكتاتيب: جامع الزيتونة، وهو صورة مصغرة من

الأزهر في ذلك العهد، تقرأ فيه علوم الدين؛ من تفسير وحديث وفقه وعقائد، وعلوم اللغة؛ من نحو وصرف وبيان ومعان، في كتب مقررة لها متون وشروح وحواش، ويقضى الوقت في تفهم تعبيراتهم، وإيراد الاعتراضات والإجابة عنها، فالعلم شكل علم لا علم، والنتاج جدل لا حقائق، والناجح في الامتحان الذي يستحق أن يكون عالماً: أقدرهم على الجدل، وحفظ المصطلحات الشكلية، أما الجميع، فسواء في عدم التحصيل إذا مسوا الحياة الخارجية، فالمناقشة في أن شرب الدخان حلال أو حرام، والغيبة أشد حرمة أم سماع الآلات الموسيقية، وخيال الظل تجوز رؤيته أو لا تجوز". ويقص الأستاذ محمد الخضر حسين نفسُه طريقة أحد أساتذته في التدريس، فيقول عن شيخه عمر بن الشيخ، نقلاً من مجلة "الهداية الإسلامية" جمادى الآخرة 1355 هـ: "أما أسلوب الأستاذ في التعليم، فمن أنفع الطرق، كان يقرر عبارة المتن، ويبسطها حتى يتضح المراد منها، ثم يأخذ في سرد عبارات الشرح، وما تمس الحاجة إليه من الحواشي والكتب التي بحثت في الموضوع، لا سيما الكتب التي استمد منها شارح الكتاب، ويتبعها بالبيان جملة جملة، ولا يغادر عويصة أو عقدة إلا فتح مغلقها، وأوضح مجملها، بحيث يتعلم الطالب من دروسه كيف تلتقط الجواهر للمعاني من أفواه المؤلفين، زيادة عما يستفيده من العلم"، ثم يقول عنه: "تلقيت عن الأستاذ -رحمه الله- دروساً من "تفسير البيضاوي"، ودروساً من "شرح التاودي على العاصمية"، ودروساً من "شرح الشيخ عبد الباقي على المختصر الخليلي "، وكنت بعد أن استقال من منصبي الفتوى ونظارة الجامع أزوره كثيراً؛ حرصاً على الاستفادة من علمه".

هذه الطريقة في الشرح والتلقين هي نفسها الطريقة الأزهرية القديمة التي نادى محمد عبده بوجوب إصلاجها، ودعا إلى نمط آخر من الدراسة يهتم باللباب دون القشور، وأرجح أن بعض أساتذة الزيتونة لم يكونوا من هذا الطراز؛ لأن الشيخ الخضر في غضون مقالاته الكثيرة يتحدث عن أستاذه سالم أبو حاجب، فيرينا نمطاً من العلماء الأفذاذ يهتمون بالحقائق الخالصة، ويعملون على إحياء الوعي المجدد الناهض، فهو -مثلاً- في دروسه كان يستشهد على كل كلمة لغوية ببيت من الشعر مما ينبئ بكثرة محفوظة الأدبي. وزملاؤه إذ ذاك كانوا لا ينظرون إلى دواوين الشعر العربي نظرة تأمل واستيعاب، وأكاد أجزم أن وجود هذا الأستاذ في حياة الخضر العلمية كان ذا أثر بعيد في اتجاهه الفكري، فهو الذي حدا إلى البعد عن دائرة الحواشي والمتون والتقريرات، وهيأه لأن يرد التراث العلمي من أصفى موارده في أمهات الكتب للشافعي، وابن حزم، والغزالي، والفخر، والشاطبي، وأمثال هؤلاء من أفذاذ العلماء! ولا تجد تعليلاً لنبوغ الخضر في حداثته، وتفوقه عن أقرانه غير صفاء مورده، ودسامة غذائه الفكري، على حين يظل بعض الزملاء في مصر وتونس مولعين بكتب المماحكات، وحواشي المتون. تخرج الأستاذ في الزيتونة صحيحَ العلم، واسع الأفق، فصيح العبارة، وراعه أن يرى الاحتلال الفرنسي يأخذ بمقبضه الحديدي على أعناق المسلمين في أصقاع المغرب بشتى نواحيه التونسية والجزائرية والمراكشية! فطفق يدعو إلى اليقظة والتحرر، وأنشأ مجلة "السعادة العظمى" لتوضح للقارئين مأساتهم

الدامية، وتكشف تخلفهم الحضاري والعلمي، وبُعدهم عن تعاليم الإسلام في مجتمع يقول الأستاذ أحمد أمين في وصفه (ص 149): "جزء كبير من السكان بدو لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادتين، ولا يصل إليهم شيء من علم إلا في بعض أماكن أنشأ فيها الصوفية زوايا تعلم الناس شيئاً من الدين، وللجاليات الأجنبية من فرنسية وايطالية وانجليزية مدارس تعلم أبناءها، وقليلاَّ من أبناء البلاد اللغات والجغرافيا والتاريخ والحساب والجبر والهندسة، فتخرج من هم أقدر على فهم الحياة، فإذا انغمسوا فيها، تحولت مالية البلاد إلى أيديهم، أما إدارة البلاد، ففوضى، الحاكم حاكم بأمره، وأحب الناس إليه من يجمع له المال من حله وحرامه، ولا ضبط في دخل ولا خرج، والعدل والظلم متروكان للمصادفات، فإن تولى بعض الأمور عادل، عدل، وكان العدل موقوتاً بحياته -وقلما يكون-، ونظام القضاء والجيش والإدارة والضرائب وجباية المال وانفاقه على النمط العتيق البالي، وكثير من الأمور تنفذ بالأوامر الشفوية، لا مرجع لها، ولا يمكن الحساب عليها". هذه حال تونس، وهي مشابهة لأكثر أحوال الممالك الإسلامية في أواخر القرن الماضي، وأوائل هذا القرن، ولو كان الأستاذ الخضر ممن يفكرون في ذواتهم الخاصة، لقنع بما أسند إليه من وظائف القضايا بالمحكم، والتدريس والخطابة بالزيتونة وغيرها من المدارس، وهي وظائف تضمن العيش الرغيد، وتوفر صعاب الرزق، بل إنها كانت -عند بعض الوصوليين- مدعاة التقرب إلى المحتلين؛ إذ يصيرون لعبة هينة في أيديهم، يصدرون عن آرائهم، ويمهدون لتمكين سيطرتهم بما يلفقون من تقريب وتمهيد!

ولكن الرجل حي الضمير، شديد الحساسية؛ فقد رأى الأجنبيَّ يحاول أن يطمس نور الشريعة عن عيون تهيم بالإسلام، كما يبذل قوته الحاشدة لتشويه اللغة العربية، والحكم عليها بالجمود والتقهقر؛ لينصرف الناس عن قرآنهم المجيد، وأحاديث نبيهم الكريم، ثم تنقطع صلاتهم بأصحاب الذخائر العلمية الرائعة من ورثة الأنبياء وهداة المصلحين. لذلك أنشأ صحيفة "السعادة العظمى" على نمط "العروة الوثقى"؛ لتنشر محاسن الإسلام، وتفضح أساليب الاستعمار، وكانت خطة السيد -منذ حمل لواء الدعوة في صباه إلى أن لقي الله في شيخوخته- واضحة مفهومة، فهو يعتقد أن فساد الأمم الإسلامية يرجع -في أصح أسبابه- إلى انصراف المسلمين عن هدي الشريعة الإسلامية، ويرى أن السيطرة الأوروبية لم تملك زمام الأمور في الشرق إلا حين اعتصمت بالعلم، واستضاءت بالعقل، وأن الشلل العقلي لم تتمهد وسائله المؤسفة وأسبابه القاتلة في ربوع الحنيفية إلا حين استطاع الدخلاء أن يلبسوا الحق بالباطل، فيصموا الإسلام بما هو براء منه من الجمود والتزمت والاستسلام، والأخذ بالخرافات والبدع والغيبيات المزعومة، مما لم يأت به وحي سماوي، أو هدي محمدي! ولذلك كانت مهمة "السعادة العظمى" شاقة خطيرة؛ إذ أخذت تحارب القوة والمال والنفوذ بعزم وأثق، وجهد صابر أمين! والرائع حقاً أن الأستاذ - رضي الله عنه - قد ثبت على معتقده ثبات الأبطال في كل مكلان رحل إليه، فهو في تركيا ودمشق، وألمانيا والقاهرة، شاباً وكهلاً وشيخاً، هو في تونس يافعاً غضّاً يناهض الباطل بالحق، ويحارب الكفر بالإيمان! ومن يطالع روائع قلمه، وبخاصة كتاب "رسائل الإصلاح" بأجزائه الثلاثة، يدرك يقينه الثابت بماضي

الأمة الإسلامية، فهو في كل مقال يخطه، أو محاضرة يلقيها يلتمس الأدلة اليقينية على مجد السلف، وعزّ الأجداد، وكان ذلك أمراً لابد له أمام مزاعم الاستعمار وأذنابه، ممن يرون في الشرق كل تأخر، وفي الغرب كل تقدم وازدهار، ويمكننا أن نستعير بعض ما كتبه السيد في مقدمة كتابه "نقض الشعر الجاهلي"؛ ليرى القارئ إجمال دعوة الرجل موجزاً بقلمه البليغ، قال الأستاذ: "نهضت الأمم الشرقية فيما سلف نهضة اجتماعية ابتدأت بطلوع كوكب الإسلام، واستوثقت حين سارت هدايته سيرها الحثيث، وفتحت عيون هذه الأمم في طريقة الحياة المثلى، سادت هذه النهضة، وكان لها الأثر الأعلى في الأفكار والهمم والآداب، ومن فروعها نهضة أدبية لغوية، جعلت تأخذ مظاهرها العلمية لعهد بني أمية، واستوت على سوقها في أيام بني العباس. تمتع الشرق بنهضتيه الاجتماعية والأدبية حقباً، ثم وقف التعليم عند غاية، وأخذ شأناً غير الشأن الذي تسمو به المدارك، وتنمو نتائج العقول، فإذا غفوة تدب إلى جفون هذه الأمم، ولم تكد تستفيق منها إلا ويد أجنبية تقبض على زمامها. التفت الشرق إلى ما كان في يده من حكمة، وإلى ما شاد من مجد، وإلى من شب في مهده من أعاظم الرجال، أخذ ينظر إلى ماضيه؛ ليميز أبناؤه بين ما هو من تراث آبائهم، وبين ما يقتبسونه من الغرب، ويشعروا بما كان لهم من مجد شامخ، فتأخذهم العزة إلى أن يضموا إلى التالد طريفاً، وليذكروا أنهم ذرية أولئك السراة، فلا يرضوا أن يكونوا للمستبدين عبيداً". هذا هو المجال الذي انطلق فيه يراع الأستاذ طيلة حياته: مجال التذكير

بالأمجاد عن دراسة وتنقيب، وكشف الخدل عن بهارج الغرب في استشفاف ونفاذ، ووضع العلاج لأدواء الشرق في بصر وتشخيص!! وقد ألح في ذلك إلحاحاً جعل فريقاً من المؤرخين يفهمون رسالته الإصلاحية على غير وجهها الصحيح. فالأستاذ (ولفريد كانتويل سميث) أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة (مونتريال) يضع كتاباً عن الإسلام في التاريخ الحديث، يتعرض فيه إلى مجلة "الأزهر"، موازناً بين رئيسي تحريرها السابقين: محمد الخضر حسين، ومحمد فريد وجدي، فيجعل الأول ممثلاً للمدرسة السلفية فقط، والثاني مجدداً عصرياً تسير طريقته في التجديد على قواعد المعرفة الحديثة، وهذا شطط بالغ تنبه إليه الأستاذ حين تعرض لنقد الكتاب، فقال نقلاً عن مجلة "الأزهر" رجب 1381 هـ: "ويقول صاحب الكتاب في مقابلته بين الشيخ الخضر، ومنهج الأستاذ وجدي: إن أولهما يعتبر الإسلام وحياً تاماً قد تنزل على صورته الكاملة منذ عصر الرسالة المحمدية، فلا إضافة إليه، ولا زيادة عليه، ولا تحوير فيه، وإنما الإيمان بالإسلام هو الذي يحتمل القوة والضعف، كما يحتمل زيادة المعرفة، أو النقص فيها، أو يحتمل المراجعة من عصر إلى عصر لتفقد الآثار العصرية فيه، وليس الأستاذ الخضر -كما يرى المؤلف- من أنصار الحنين إلى الماضي، بل هو من أنصار الدعوة التي لا زمان لها؛ لأنها صالحة لكل زمان، ومهما تتجدد مذاهب المعرفة، فالمسلم يسلم أمره إلى إرادة الله كما هدته معارفه إلى فهم تلك الإرادة الإلهية بالدرس والإلهام، وقد تساوى في نظر الشيخ الخضر كلا الطرفين من المسلمين في الحاجة إلى التصحيح والإصلاح، وهما -على تعبير المؤلف- طرف اليسار من المتعلمين الذين

جاوزوا حدود الإسلام، وطرف اليمين من الجامدين وأتباع الطرق الصوفية الذين ضيقوا حدوده عليهم، وان لم يجاوزوه". ولم يسكت المستعمرون عن صاحب السعادة، وقد أقضّ مضاجعهم بما ينادي به من استقلال واصلاح، فآذوه وناوؤوه، وحكموا عليه بالإعدام، حتى اضطر إلى الفرار إلى الآستانة واهماً أن مجال الإصلاح بها أوسع وأرحب، ولكنه فوجئ بانهيار آماله حين وجد عاصمة الخلافة الإسلامية مسرحاً للدسائس المغرضة، والمؤامرات الرخيصة، وأن من يجعلون أنفسهم رجال الدين هناك لا يدعون إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة، بل لا يتناهون عن كل منكر يفعلونه، فهم يحيكون المكائد بالليل، ويفسرون المنامات، ويقرؤون الكف بالنهار، على أنهم يضيقون بكل عالم مصلح يصدع بالحق، وينادي باليقظة والاستبصار، فهاجر الرحالة الصابر إلى دمشق، وحرص على البقاء بها مدرساً للغة العربية في المدرسة السلطانية، ولكن مبادئه تهتف به أن يسهم بنصيبه في البعث الإسلامي، فيكتب ويخطب ويدعو، ثم يسافر إلى ألمانيا، فيلتقي بالأحرار من أنصار الفكرة الإسلامية أمثال: محمد فريد، وعبد العزيز جاويش، وعبد الحميد سعيد، ويعملون جميعاً على استقلال الدول الإسلامية أمداً طويلاً في وطأة الحرب العالمية الأولى، وبين طلقات المدافع وأزيز الطائرات في مسرح جهنمي تشيب له الرؤوس؟ ثم يعود إلى دمشق ثانية، فيواصل التدريس بالدار السلطانية، ويقرأ كتاب "مغني اللبيب"؛ ليكون -فيما بعد - أساساً لمؤلف نحوي بلاغي شامل. حتى إذا ختمت الحرب، وأسرعت فرنسا باحتلال الشام، رأى نفسه

مضطراً إلى الهجرة بنفسه فراراً من هؤلاء الذين حكموا عليه بالإعدام في تونس يسابقه جهاده، ورائعه ونضاله، فيمم وجهه شطر الديار المصرية، ليصبح له فيها شأن جديد. . حضر السيد محمد الخضر حسين إلى مصر في وقت عصيب من تاريخها الفكري، وكانت الحاجة ماسة إلى كل رجل مثقف من رجال الدين قد فهم الشريعة فهماً صحيحا، يستند إلى الأصول من القواعد والأمهات من المراجع، مع مطاوعة سهلة للبيان النير المشرق، يوضح به للقراء ما التبس عليهم من أوجه الخلاف بين دعاة الإلحاد وأنصار الفكرة الإسلامية، هؤلاء الذين وُصفوا -فيما بعد- بأنصار القديم، ووصف خصوصهم بأنصار الجديد، كما حلا للدكتور طه حسين أن يسهب في ذلك ويزيد! نعم، كان المخلصون من حماة الفكرة الإسلامية في غير الدوائر الدينية الرسمية كثيرين، ولكن وجود أمثال العالم المحقق الأديب المبين محمد الخضر حسين أمر ضروري، يحتم أن يقوم أحد أصحاب العمائم المستنيرة بالجهر بكلمة الإسلام فيما ران من شكوك، وما أذاعه أذناب الاستشراق من مفتريات! وقد ملئ كتاب "الشعر الجاهلي"، و"الإسلام وأصول الحكم" بأقسى عبارات التهكم بالمعممين! فحق لأحدهم أن يقول فيجيد! كانت سيطرة الثقافة الاستعمارية بعد الحرب العالمية الأولى مدعاة إلى إغراء براق بأوربا، وازدراء ناقم لأمجاد الشرق في رأيي من جهلوا الحق فضلوا عن سبيله، ومن عرفوا الحق مستبصرين، ولكنهم مالؤوا الباطل ليصلوا إلى الشهرة والجاه والزعامة الفكرية من سفاح دنيء لا يعرف معنى الشرف

في القول أو الفعل، وإن تستر بخداع زائف من التصايح بالحرية الفكرية، والمنهج العلمي، ويشهد الله أن لا حرية ولا منهج، ولكن الهوى يهمي وبصم!. ما كاد الأستاذ الخضر ينزل حي الحسيين بمصر غريباً لا يعرف أحداً من الناس، ومهاجراً في سبيل الله بقلمه المجاهد الشجاع، حتى وفق لعمل بدار الكتب بأجر زهيد لا يتفق ومنزلته الكبيرة، ولكنه كان -بتوفيق الله- صلة حميدة إلى اشتهاره الأدبي، ونبوعه العلمي، ثم إلى اتصاله بأشباهه من الغُير على مقدسات الإسلام من أعلام المفكرين؛ كأحمد تيمور، ومحب الدين الخطيب، وعبد الحميد سعيد، وعبد الوهاب النجار، ومحمد رشيد رضا، ثم شاءت الأقدار أن تفتضح معركة الشعر الجاهلي، وأن يكون الأستاذ بطلاً معلماً من أبطال المعركة، يصيح بالحق، ويندد بالضلال. لقد ظهر كتاب "الشعر الجاهلي" ينادي باحتقار كل قديم دونه في صحف الأدب والشك فيه، ويزعم أن جل ما قيل منسوباً إلى شعراء الجاهلية اختلاق زائف بغيض، وهذه الآراء مهما صادمت البداءة الواضحة، لا تحدث ضجة بين الناس يسعى إليها الدكتور طه حسين باذلاً جهده الجهيد، فلا بد إذن من الهجوم على المقدسات الدينية هجموماً لا هوادة فيه، فليتعرض الكاتب إلى القرآن المجيد، وليزعم أن حديثه عن إبراهيم وإسماعيل لا يكفي لإثبات وجودهما في التاريخ! إذ أن رواية ذلك وتسجيله لا يكفيان لإثباته دون بحث عن العوامل القريبة والبعيدة في الرواية والتدوين! ونحن لا نريد أن نفيض في دعوى الانتحال الشعري؛ لأنها لب الكتاب

وفحواه، وهي دراسة أدبية يتبين وجه الحق في بطلانها من أيسر طريق، ولكننا نلخص ما تورط فيه الكاتب ملحاً ليهاجم الإسلام هجوماً يرضي أساتذته من قساوسة المستشرقين، ويجعل الرجل صاحب دعوة جديدة في الفكر الإسلامي الحديث. فالدكتور طه يعلن أن محمداً قد استغل المقدسات بمكة، وفي مقدمتها البيت الحرام الذي بناه إبراهيم؛ كيلا يفقد قوته الروحية مع صراع الشرك، فالمسألة مسألة استغلال للسيطرة فحسب، لا أن بيتاً لله بناه إبراهيم على وجه التحقيق. والدكتور يعلن أن القرآن لم يكن جديداً على العرب، إذ أن عقائده الجديدة كانت معروفة في شبه الجزيرة بدليل عجيب يرتضيه طه وحده، وهو قبول من قبل الدين، ومعارضة من عارض؛ إذ لو لم يكن مألوفاً، ما حفل به أحد. والدكتور طه يعلن أن دعوة الإسلام دعوة محلية، في جماعة خاصة، وفي حياة خاصة، فهي ليست دعوة عامة للبشرية كما ينطق بذلك القرآن الصريح. ومنطق هذا كله كما يقول الأستاذ الدكتور البهي -في كتابه "الفكر الإسلامي الحديث" (ص 19): إن القرآن ليس وحياً لرسالة الله!! وإذا كان المؤلف النابغة قد أثبت اقتراب هذه الأفكار من كتاب "المذهب المحمدي" للمستشرق الإنجليزي (جب)، فإن الأستاذ الخضر قد استطاع أن يجد الأصل الاستشراقي الذي سطا عليه الدكتور سطواً فاحشاً فيما كتبه الدكتور (مرغليوث) في مجلة "الجامعة الآسيوية الملكية" سنة 1916، وفي كتاب

"محمد" المطبوع سنة 1905، وقارئ الرد المفحم الذي كتبه الأستاذ يرى عجباً حين يجد الدكتور يضطر للشك في المتواتر من أخبار القرآن بحكم منهج (ديكارت)، ثم يقبل كل رواية مريضة واهية يذكرها كتاب "الأغاني" كحق مسلَّم يستند إليه في قضية الانتحال، حتى اضطر القارئ إلى الاعتقاد بأن المنهج الديكارتي لا يصلح فقط إلا حين يجابه الحقائق لا الأراجيف. وإذا كان فريق من الأساتذة الأعلام؛ كالأستاذ الرافعي، والدكتور الغمراوي، ومحمد لطفي جمعه، ومحمد فريد وجدي، قد مزقوا كتاب الدكتور تمزيقاً علمياً بما فضحوه من السرقة والتدليس ومجافاة الحق، فإن الأستاذ الخضر قد زاد عليهم جميعاً بشيء تفرد به، وهو غوصه على النصوص العربية من أمهات كتبنا العلمية التي جهلها الدكتور، فظن أفكاره في الشك والانتحال والاستشهاد بالقرآن ستكون جديدة على القارئ العربي! وأكثرها مدون بنزاهة في الكتب الأمينة التي حرفها الاستشراق عن قصد، ثم سطا عليها طه بعد التحريف، فثرثر وأطال. فطه مثلاً يقول في (ص 9): "وينتهي بنا البحث إلى نتيجة غريبة، وهي أنه لا ينبغي أن يستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن وتأويل الحديث، وإنما يستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتاويله". والأستاذ الخضر يقول -مثلاً- في الرد على ذلك (ص 22): "لم تكن هذه النتيجة غريبة إلا عند من يتناول البحث خطفاً، ولا يمشي فيه على روية وأناة، وقد أنكر بعض أهل العلم فيما سلف على من يتوقف من النحويين في تقرير ألفاظ القرآن على شاهد عربي، ومن هؤلاء: فخر الدين الرازي؛ حيث يقول في "تفسيره الكبير": "إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول عن قائل مجهول، فجواز إثباتها بالقرآن

العظيم كان أولى، وكثيراً ما أرى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريرها ببيت مجهول، فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم؛ فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وقفه دليلاً على صحته، فلأن يجعلوا ورود القرآن دليلاً على صحته أولى". وأنكر أبو محمد بن حزم على من لا يمضي في الاحتجاج بظاهر القرآن، فقال في كتاب "الفصل": "ولا عجب أعجب ممن إن وجد لامرئ القيس، أو لزهير، أو لجرير، أو الطرماح، أو لأعرابي أسدي أو تميمي، أو من سائر أبناء العرب لفظاً في شعر أو نثر، جعله في اللغة، وقطع به، ولم يعترض فيه، ثم إذا وجد الله تعالى خالقِ اللغات وأهلها كلاماً، لم يلتفت إليه، ولا جعله حجة، وجعل يصرفه عن وجهه". وهكذا نرى في الكتاب عشرات النصوص القوية التي تسلك مسلكاً جديداً في الفهم، ولو كانت هذه مزية الكتاب وحده، لكفته فخراً، فكيف إذا لم يدع شبهة تحوم إلا بددها برأيه ونقله وعقله في بصر وتمكين؟!. وكأن المصادفات العلمية الفذة قد هيأت للرجل أن يجول الجولة الثانية بمصر، حين صدر كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعالم من علماء الأزهر، قد امتلأ يقيناً بأقوال الاستشراق، فجعلها المنبع الأول لفهم الحكم في الإسلام على نحو يقرب من تعاليم المسيحية وحدها، إذ أن المعروف المتفق عليه أن المسيحية دين لا دولة، ولكن الإسلام شيء، والمسيحية شيء آخر، فالإسلام دين ودولة، والرسول حاكم ومبلغ معاً، ونصوص القرآن مليئة بما يجعل هذه الحقيقة في مرتبة البدهيات! ولكن الأستاذ علي عبد الرازق، يجهر بدعواه، واهماً أنه وحده صاحب

القول الفصل! وقد تطرق إلى الرد عليه في الصحف اليومية من لا يقف معه في مستوى واحد، كما وجد من تساند الإلحاديين وتكالبهم على تأييده بما يملكون من صحف وأندية وأقلام ما يخلع على كلامه بعض الوجاهة لدى الضعفاء، ولكن السيد محمد الخضر -نضر الله وجهه- يتصدى لهذا الإفك الصريح، فيأتي على بنيانه من القواعد، وكان مجاله النقدي هذه المرة في قمة من القوة والتمكن والإفحام؛ لأن الجدال ليس في الرواية والقصص والانتحال كما في أكثر فصول "الشعر الجاهلي"، ولكنه يدور حول قواعد أصولية عميقة في الفقه والحكم والتشريع، ويجد من تاريخ الإسلام الحافل برجاله وحوادثه ومؤلفاته ما يعين على جلاء الشك، ورد الزيغ، لذلك كان مؤلَّف الخضر حجة قوية تقود المنصفين إلى مراشد اليقين، وقد ظل الأستاذ علي عبد الرازق ضائقاً به حتى بعد ربع قرن من صدوره، وانتهاء المعركة على نحو يرضي المخلصين، فقد قرأت بالسنة الثامنة -على ما أذكر- من مجلة "لواء الإسلام" كلمة للأستاذ علي عبد الرازق تنبئ عن غضبه الموقد على الأستاذ، وتعيب طريقته في نقد الكتاب، ومجمل العيب في رأيي الأستاذ عبد الرازق أن الأستاذ الخضر ينقل كل نص من نصوص الكتاب على حدة، ثم يفنده بالرأي والدليل، وذلك أدعى إلى تمزيق الفصل الواحد وتشتيته. ونحن نقول للأستاذ عبد الرازق: إنه قد ظلم الحق فيما قال؛ لأن هذه النصوص تأتي متوالية متعاقبة، وقارئ النقد يستطيع أن يجمعها بسهولة لتكون كل ما جاء بالفصل الواحد من الكتاب، وهي بعد خير وأقوم من مسلك ناقد يلخص الموضوع من عنده، ثم يعقب عليه، إذ ربما فات من التلخيص شيء هام لا يعرفه القارئ المحايد، ولا ندري كيف يحافظ الخضر على نصوص الكتاب

جميعها، فلا يسقط منها شيئاً ذا بال، ثم يكون ذلك مطعناً يوجه إليه من ناقد نبيه؟! إن الغيظ وحده لم يستطع أن يخمد في نفس المنقود على تطاول الأيام به حتى وجد المنفذ على صفحات "لواء الإسلام"! ولو كان نقد الأستاذ عبد الرازق للأستاذ الخضر علمياً نزيهاً، ما تعرض لأمور شخصية لا تتصل بالبحث في شيء، ولكنه تخيل الموهوم، ثم خاله حقيقة، فتيقنه! على طريقة بعض الناس. لقد كان تمكن الخضر في الدفاع مدعاة التقدير من ذوي الأحلام، فتقدم لامتحان العالمية بالأزهر، وكان الشيخ عبد المجيد اللبان رئيس اللجنة مع نخبة من زملائه المختارين، فأبدى الشيخ من الرسوخ والتمكن ما أدهش، حتى إن الشيخ اللبان صاح بملء فيه: "هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حجاج؟! ". ونال الشهادة العالمية الأزهرية، وبها صار أستاذاً في الأزهر، فمدرساً بكلية أصول الدين، بل كانت طريقه فيما بعد إلى مشيخة الأزهر ذات القدر الخطير! وقد اتجه الأستاذ إلى تأسيس الجماعات الدينية، فكان أحد مؤسسي جمعية الشبان المسلمين، وقد وضع لائحتها الأولى مع صديقه محب الدين الخطيب، وقامت هذه الجمعية برسالتها المخلصة في هداية الشباب الإسلامي، ومحاربة الإلحاد العلمي، والنزق الخلقي، واستطاعت أن تصد هجوم الحضارة الملحدة المادية بما تقوم به من ندوات ومحاضرات، وما تنشره من صحف ومؤلفات. وكأني بالخضر وقد شاء أن ينشئ جماعة الهداية الإسلامية؛ لتساند أختها في الدعوة إلى الله، وقد كان نشاطها علمياً أكثر منه اجتماعياً؛ إذ أن

محاضراتها المتتابعة قد وجهت الأذهان إلى كنوز الثقافة الإسلامية، كما أن مجلتها الشهرية كانت تحمل الروائع من التفسير والتشريع واللغة والتاريخ. وإذا عرفنا أن مجلة "الأزهر"، ومجلة "لواء الإسلام" قد ظلتا سنوات عديدة تصدر عن رأيي الشيخ وتوجيهه، أدركنا جهاده الشاق في مضمار الصحافة العلمية الراقية، وعرفنا مصادر متنوعة تجمع إنتاجه الدسم الفياض، هذا ولم يفت الأستاذ أن يحارب على صفحات هذه المجلات جميعها ما يند من الأقوال المتطرفة في الأدب واللغة والدين، حتى اختلف في الرأي مع أناس مخلصين لا ترقى إليهم الشبهة في علم أو خلق أو دين، ولكن العلم الأصيل شيء غير الإخلاص والخلق، فقد يكون المخلص الغيور متسرعاً ينظر إلى زاوية واحدة، فلا بد أن يناقشه إنسان مطمئن ثاقب النظر منفرج الزوايا واسع الاطلاع كالأستاذ الخضر، والنقاش بعدُ سديد مفيد. هذا وقد اختير الرجل عضواً بالمجمع اللغوي بمصر، فأبدى من الآراء السديدة في الإصلاح اللغوي ما تشهد به مجلة المجمع، ومحاضر جلساته، وهو أول من أعلن بالمجمع صحة الاحتجاج بالحديث النبوي، وأحد من اشتركوا في معارك النقاش اللغوي حول الوضع الاصطلاحي، وحق المحدثين في وضع الكلمات، هذا غير ما خاضه من بحوث تتعلق بالاشتقاق، والتعريب، والفصيح، والدخيل، وجموع التكسير قياسية وسماعية، مما يشهد بالتخصص الماهر الفاحص في فنون اللغة والبيان، على أنه تقدم إلى هيئة كبار العلماء برسالة في القياس، يقول المغفور له الأستاذ محب الدين الخطيب عنها بمجلة "الأزهر" شعبان سنة 1377 هـ: "وفي أثناء إقامته بدمشق شرع في دراسة كتاب "مغني اللبيب" في علم

العربية لجمال الدين بن هشام، بمحضر جماعة من أذكياء طلاب العلم بدمشق، وكان يرجع في تقرير المسائل المتصلة بالسماع والقياس إلى تلك الأصول المقررة والمستنبطة، فاقترح عليه أولو الجد من الطلبة جمع هذه الأصول المتفرقة؛ ليكونوا على بينة منها ساعة المطالعة، فألف مقالات تشرح القياس، وتفصل شروطه، وتدل على مواقعه وأحكامه، ومن هذه المقالات تألفت رسالة "القياس في اللغة العربية" التي أعاد عليها النظر بمصر". وهي -كما رأيتها- تجمع الأصول العالية في أحكام القياس والسماع، وتضم فصولاً عن شروط القياس وأقسامه، وقياس التمثيل، والقياس الأصلي، مع إيضاح الأمور المشتركة بينهما، هذا إلى أبواب في فضل اللغة العربية، ومسايرتها للعلوم المدنية، وحاجتها إلى المجتمع، وحاجة المجتمع إليها، وتأثيرها في التفكير، وتأير التفكير فيها! وغير ذلك كثير! فإذا أضفنا إلى رسالته عن القياس رسالته الأدبية في الخيال العربي، عرفنا جهد هذا الأديب، كما عرفنا من قبل مقام ذلك الفقيه! أما مشيخته الكبرى للأزهر، فقد كانت دليلاً على أن الله لا يتخلى عن رجاله المناضلين، إذ يأبى عدله الرحيم أن يترك هذه الجهود المضينة في الدين واللغة والأدب تضيع بدداً دون تقدير مادي ملموس، فرأى الأزهر لعهده حلقة ذهبية من حلقات الكمال والجلال والوقار، وطفق الزائرون من كتاب وعلماء وصحافيين يتقاطرون على مكتبه، وكلهم يسأل عن أمور هامة في الإصلاح الديني، والتشريع الإسلامي، والتقدم الحضاري، فيجد الإجابة الرصينة السديدة يفوح بها شيخ الإسلام الدارس المستنير، ولكن أعباء السنين تتراكم على كاهله الضعيف، فيترك المشيخة معتكفاً محتسباً حتى يلبي نداء

ربه في 13 رجب سنة 1377 هـ , وهو التاريخ الهجري الذي كان - رضي الله عنه - يحرص على تدوينه في كل مكاتبة أو رسالة، ونحن نسجل به رحيله الطاهر إلى ساحة الرحمة والرضوان في جنة عرضها السماوات والأرض.

محمد الخضر حسين ذلك الجندي المجهول

محمد الخضر حسين ذلك الجندي المجهول بقلم عبد القادر سلامة "الأستاذ عبد القادر بن عمر سلامة، عالم، فاضل، حافظ لكتاب الله. ولد عام (1325 هـ - 1908 م) في "قصبة المديوني" التابعة لولاية "المنستير" في تونس. تلقى علومه في جامع الزيتونة، وحصل على شهادة التطويع عام (1345 هـ - 1928 م)، وعمل في التجارة طيلة حياته مع المواظبة على المطالعة، والدعوة إلى الله بالحسنى. أصدر مجلة "المعرفة" في تونس عام 1960 م، وهي إسلامية شهرية" (¬1). تسائلني: هل في صحابك شاعر ... إذا متَّ قال الشعر وهو حزين؟! فقلت لها لا هم لي بعد موتتي ... سوى أن أرى أخراي كيف تكون وإن شئت تأبيني فدعوة ساجد ... له بين أحناء الضلوع حنين!! (من ديوان "خواطر الحياة" طبعة ثانية، ص 177) كان -رحمه الله- علماً من أعلام الإسلام، وكان تعريفاً وتشريفاً للتونسيين وجامع الزيتونة، ومفخرة للمغرب الإسلامي كله، كان خلقه قبساً من شمائل النبوة، ومشكاة من هدي القرآن. ¬

_ (¬1) بحث منشور في مجلة "المعرفة" التونسية، العدد السادس من السنة الخامسة.

عرفته، وعجبت منه وهو يخف لزيارة كل تونسي يقدم القاهرة في طريق الحج، أو لأمر خاص، فيسأل عن أحوال تونس صغيرها وكبيرها: هات الحديث فإنني أصبو إلى ... أنباء تونس من صميم القلب جدا "خواطر 72" كان يحب تونس وأهلها حباً جماً، وحب الوطن من الإيمان: بلادي وإن جارت عليّ عزيزة ... وأهلي وإن شَحُّوا عليّ كرام كان نعم المشير والوزير، شديد الحفاظ على المودة والإخاء، واصل كل من وصل مصر من علماء تونس وقادة حركة تحريرها، وجمع العاملين لتحرير المغرب، واتصل بمن يزور القاهرة من أكابر وعظماء العالم الإسلامي. كان لا يجاهر بالسوء، ولكن سرعان ما يسل ثيابه من كل عمل أو زعيم يتبين له أنه داع لضلالة، أو مسرف على نفسه، أو عدو لله. كان شديد الاستمساك بمذاهب أهل السنة والجماعة، لا يجامل في انحراف، ولا يماري في خلاف، ولا يطعن مخالفاً من خلاف، مجلسه مجلس علم وحلم، ودين ووقار، سمته سمة الصالحين. يغضي حياءً ويغضى من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم ذو همة عالية، وطموح كبير، وأمل واسع، يجاهد لإعلاء كلمة الله، وقد حفظت منه هذه الآية وكأني لم أقرأها في كتاب الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. يهتم بشؤون جميع المسلمين، ويسعى لجمعهم على العمل لطاعة الله وطاعة رسوله، متحركاً لا يسكن، ولا يشكو رهقاً ولا ضنى ولا غربة.

إن الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله- لم يعتمد في خدمة قضيته الكبرى قضية الإسلام والمسلمين على الطبقة العامة، قاعدة الشعوب، كما يحلو لهم أن يقولوا، بل أوكل ذلك إلى كفاءة أعضاء الجمعية، ومجلس إدارتها، وكثرهم علماء من الأزهر، يتناوبون الخطابة والوعظ والدروس على المنابر، وعقب الجمعة في الجوامع، وفي مراكز فروع الجمعية بمصر والعراق وسوريا، أما جمعية الهداية الإسلامية، والتي أنشأ لها مجلة باسمها ترأس الشيخ إدارتها ورئاسة تحريرها أكثر من ربع قرن، فقد رزقه الله بسطة في العمر والعلم أحسب أنه عمل فيهما بما يرضي الله، وبما لا يلحقه في ذلك غيره. الغرض من تأسيس جمعية الهداية الإسلامية ومجلتها (1346 - 1928): القيام بما يرشد إليه الدين الحنيف من علم نافع، وأدب رفيع، وخلق كريم، وتعتمد في تحقيق هذا الغرض على الوسائل الآتية: 1 - السعي لتعارف الشعوب الإسلامية، وتوثيق الرابطة بينها، ورفع التجافي بين الفرق الإسلامية، والتعاون مع كل جمعية تسعى لهذه الغاية. 2 - نشر حقائق الإسلام بأسلوب يلائم روح العصر. 3 - مقاومة الإلحاد والدعايات غير الإسلامية في الأوطان الإسلامية بالطرق العلمية. 4 - الجهافى في إصلاح شأن اللغة العربية وإحياء آدابها. وقد كان همّ الشيخ وسعيه منصباً على توجيه وتثقيف المثقفين والواعين من الأمة، وتجميعهم، وهم قليل جداً في ذلك العهد السحيق في أول هذين القرنين، وابتدأ عمله المبارك بتونس، ثم بسوريا، ثم بتركيا في الحرب العالمية

الكبرى الأولى، وسوريا ثم بمصر بين الحربين العالميتين، ثم بعد الحرب الثانية إلى أن توفاه الله بالقاهرة (1378 - 1958). سيذكرني قومي إذا جد جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر كنا ونحن صغار يحدثنا شيوخنا عن فضائله ومآثره، ويقولون: هو رجل سبق زمانه، وكانوا يصفونه بالعلم الغزير، والجواب الحاضر، والنكتة اللطيفة، والملاحظة الدقيقة، مع الجسارة في الدعوة إلى الإصلاح، ورفع هذه الأمة من كبوتها، فكان يدرس ويحاضر، وينشئ القصائد، وجرى أترابه ومن بعده على ذلك؛ كزميله الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور، وأصدر مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة عربية في المغرب، وإن ذلك التحرك والنشاط لخدمة الإسلام والعربية في ذلك العهد السحيق ليعد بحق من العجائب والنوادر، وكلما زاد إعجاب الناس بأعماله، وإكبارهم له، وتأثرهم به، كلما زاد حنق المستعمرين عليه، وغضبهم منه، فضاقوا به ذرعاً، وضاق بهم، وهاجر إلى معقل آمال المسلمين في ذلك العهد دار الخلافة الإسلامية إسطنبول، وقد سبقه إليها وإلى الشرق علماء وفضلاء كثيرون، منهم: العلامة الرحالة محمد بيرم الخامس، صاحب "صفوة الاعتبار"، والشيخ صالح الشريف، وخال الشيخ العلامة محمد المكي بن عزوز، المتوفى بإسطنبول سنة 1334، وقد رثاه الشيخ بقصيدة في ديوان "خواطر الحياة" (ص 180). وقد ترى أن النوابغ في المغرب تشرق من المغرب، وتغرب بالمشرق. وأقام وأهله وإخوته بدمشق، وكان لهم فيها مآثر محمودة لا تزال جاربة إلى الآن، وقد كانت سورية بعد الحرب الأولى عند قسمة تركة الرجل المريض من نصيب فرنسا، فلجأ الشيخ إلى مصر، وقد كانت مصر ملجأ

الأحرار، وقلب الإسلام الحنون، إليها يلجأ المستجيرون والعاملون لعز الإسلام وتحرير الأوطان: فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما سر يوماً بالإياب المسافر هناك، وقد سبقه صيته العلمي والحركي، أحاط به خبرة من علماء الجامع الأزهر وأهل الفضل ولا يعرف الفضل إلا ذووه، فانتضى قلمه المتبحر في العلوم الإسلامية، ليظهر ويحبط كيد المستشرقين والمعجبين بهم في محاولاتهم الإجهاز على المسلمين في عقائدهم وثقافتهم، بعد أن أجهزوا عليهم عسكرياً، واحتلوا أرضهم، واقتسموها بين الأقوياء منهم، فصمد إليهم الشيخ للرد على شبهاتهم واتهاماتهم، ونقض غَزْلهم أنكاثاً بما كان ينشره من المقالات والمحاضرات، وألف كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، و"نقض كتاب الشعر الجاهلي" لطه حسين، وفي كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" كشف زيغ المذاهب الهدامة؛ كالبهائية، والقاديانية، ووجدت فيه الجماعة الإسلامية بمصر نعم المعين على نوائب الحق، فوقروه، وعزرّوه، أمثال: المرحوم أحمد تيمور باشا، والشيخ علي محفوظ، واقتدى به وغبطه كثير من علماء الأزهر، فأسسوا هم بدورهم المجلات والجمعيات؛ كجمعية مكارم الأخلاق، ومجلتها، وكان بينهم نشاط محمود، وتنافس وتسابق إلى الوعظ والإرشاد والتعليم والدعوة إلى الله وإلى محاسن الأخلاق. نزلتُ القاهرة سنة (1931 - 1348)، وزرت الشيخ في دار جمعية الهداية الإسلامية، ومجلتها بهذا الاسم، وسألني الشيخ المشوق لمعرفة أخبار تونس عما جد في مشروع التجنيس، وهو المشروع الذي فتح للتونسيين الحصول

على الجنسية الفرنسية، فيكون للمتجنس الوعد بالمساواة مع الفرنسيين الممتازين بزيادة الثلث على مرتباتهم، والدخول إن أمكن للوظيف العمومي، والقروض لإحياء الأرض الدولية التي توزع على الفرنسيين، ونقل قضايا الخصام إلى المحكمة الفرنسية في الأحوال الشخصية وغيرها، إلى آخر ما هنالك من الامتيازات للمستعمرين الذين يريدون إذابة الجنسية التونسية والملة الإسلامية، وكان قد أشيع بتونس أن شيوخ المجلس الشرعي قد أفتوا بجواز التجنيس وبقاء المتجنس على إسلامه، وسارت في الشعب فورة استنكار وغضب، وقصصتُ الإشاعة كما هي للشيخ، فاستفهمني عن هذه النقطة بالذات، فقلت له: إنها شائعة في البلاد، فظهر في نبرات السؤال الألم لهذا الاتهام، والإنكار له، فعلمت أني أخطأت في قول الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. وإنا كنا ولا زلنا نشيع في الناس ما يوحى به إلينا من تحطيم المخالف في الرأي بكل الوسائل، وكان الواجب على المسلم أن يرفض ما يرمى به أخوه من السوء، وأن يحفظ لسانه من قول الزور {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]. واستشرت الشيخ في أمر مرة، فقال بصراحة المؤمن: لا أستطيع ذلك، فكان الرد جميلاً، لا يعد فيخلف، واستشرت مرة أخرى آخر، فوعد وأخلف، ووصل الحديث مرة إلى التعليم في الأزهر والزيتونة، فقلت له: ما تركته ورائي بجامع الزيتونة أحسن مما وجدته هنا بالأزهر، فصادق على قولي، وقال: هو كذلك. وحضرت محاورة بينه وبين عضده في الجمعية المرحوم علي محفوظ

في دقاقة الأعناق، وهي العشر سنين التي بين الستين والسبعين، وقد وصلها، وكل عشر سنين من العمر لها اسم خاص، وقد رأيت له في ذلك أبياتاً في ديوانه "خواطر الحياة" (ص 182) طبعة ثانية منها: قضيت ستين عاماً في الحياة وهل ... قضيت يومين منها في رضا الله؟ فلا يغرنك أقلام وألسنة ... تقول إنك ذو علم وذو جاه وما أبرئ نفسي والهوى يقظ ... بين الجوانح وهو الآمر الناهي وكان يأمر باستدعائي لحضور المآدب التي يحضرها ويقيمها للمشايخ التونسيين المنتسبين للجامع الأزهر في بيت صديقنا الحاج محمد أبو شعالة، وممن حضرها من الأحياء الذين أذكرهم: الأستاذ عبد السلام خليف، وابن عمه الشيخ البشير، وحدّث على ما كان يحدث في تلك المجالس من تعارف وود، وعلم وسياسة، وأدب وفكاهة، وقد كنت أتصل بالشيخ عبد العزيز الثعالبي، وعرفت اتجاه الشيخين والبعد ما بينهما، وكذلك ما يفصل بين الشيخ والشيخ رشيد رضا، وسبب انفصال الشيخ عن جمعية الشبان المسلمين بعد أن كان من أعضاء إدارتها، ومن المؤسسين لها، حتى آل أمرها إلى الانضواء تحت مظلة الناصرية أخيراً. كانت لي مع الشيخ -رحمه الله- مراسلات، وكان لي مع أخيه الشيخ محمد المكي بن الحسين لقاءات، وكان آخر لقاء لي مع الشيخ الخضر حسين مرتين سنة (1375 - 1955): مرة بالقاهرة، ومرة بدمشق في دار أخيه الأستاذ زين العابدين، وكانت بحضرة ابن أخيه المحامي الآن الأستاذ علي الرضا الذي كان له الفضل الأكبر في جمع ونشر تراث عمه في كتب قيمة أثرت المكتبة الإسلامية، وعرّفت الناشئة ببعض مآثر ومفاخر هذه العائلة النبيلة،

ولولاه لضاع هذا التراث العظيم الذي لا زال مغموراً، ولم يكشف عن محاسنه بالدراسات والمناقشات الجامعية، ولم يدرس، ولم ينتفع به، فعسى الله أن يهيئ لهذا العالم المسلم المخلص من يكتب عنه، ويعرف به، وينشر كتبه وشعره وعلمه بين الشباب المسلم الناهض الذي كان عمل الفقيد العظيم من أجله، وأختم هذه الكلمة بفقرات من كلامه تيمناً وذكرى. ختم كلمته في حفلة تأبين الدكتور ستومو الأندونيسي: حقاً إن أرضنا لا تنبت من المجاهدين إلا قليلاً، ولا يغرنا كثرة أسماء الزعماء؛ فإن فيهم المرائي والجبان، وصاحب الذمة التي تباع بثمن بخس، ومن هؤلاء من ترونه ينوح على الإسلام علانية، ويقتل دموعه، ولكن بأنامل تبيت تطعن في مقاتله خفية، ولا عجب أن تروا الأنامل الملطخة بدم الجريح مبتلة بدموع البكاء عليها؛ فإن الذي يستطيع أن يلاقي الناس بوجهين، ويحدثهم بلسانين، يستطيع أن يتخذ دموعاً ليست من نوع الدموع التي تبعثها حرارة الإيمان على الحق. في الزعماء ناصح للأمة يجاهد لسلامتها ورفعة شأنها، وفي الزعماء مخادع للأمة يتخذ زعامتها حبالة يصطاد بها مطمعاً لذيذاً، أو ملبساً أنيقاً، بل يتخذ زعامتها معولاً يهدم به الباقي من صرح سيادتها، وفلاح الأمة في ممايزتها بين المخلص الأمين، والمداهن الأثيم، ولا تطمح الأمة أن تسير سيرة رشيدة، أو ترقى في عزة راسخة إلا أن يكون في صدر سائسها إيمان بخالقها، وغيرة على حكمة شريعتها الإسلامية. وقاوم الإلحاد وجمعيات التبشير ومدارسها، ونبه إلى أخطارها، ودعا إلى مقاطعتها:

إن المبشرين لم يأخذوا أبناء المسلمين وبناتهم بالقوة من بيوت آبائهم، وإنما الذي قذف بهؤلاء البنات والأبناء إلى هذه المدارس هم آباؤهم وولاة أمورهم، فجنوا بذلك على الوطن، وعلى الدين، وعلى رجال المستقبل وأمهات المستقبل أعظم جناية. ومن ذلك ما كتب به لوزير المعارف على طه حسين الذي يسميه: عدو الله: "عرف الناس منذ سنين أن الدكتور طه حسين يعمل لهدم العقائد الإسلامية، وإفساد الأخلاق الكريمة، فكانوا يأسفون أشد الأسف على طائفة من شبابنا، يدخلون الجامعة ليتغذوا بالعلوم الصافية، والتربية الصحيحة، فيقعدون بين يدي هذا الرجل الذي يعمد إلى تلك الفطر السليمة، فينفخ فيها زيغاً، ويثير فيها أهواء. . . إلخ".

مع العلامة محمد الخضر حسين في جهاده

مع العلامة محمد الخضر حسين في جهاده بقلم سعدي أبو جيب "ولد في مدينة دمشق عام (1351 هـ - 1932 م)، وحصل على الإجازة في الحقوق، وعمل في القضاء والمحاماة. مؤلفاته: موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي - الوجيز من المبادئ السياسية في الإسلام -الماسونية - المعوق والمجتمع في الشريعة الإسلامية - القاموس الفقهي - التأمين بين الحظر والإباحة - مروان بن محمد وأسباب سقوط الدولة الأموية- دراسة في منهاج الإسلام السياسي- سحنون" (¬1). من علماء أمتي من سفح على القرطاس عمره، وعاش في كهف العلم، حتى غدت الكلمة لا تخرج منه إلا على محفة من الكتب، في موكب من الأعلام .. ومنهم من أتاه الله بسطة في القلب والفكر، فعاش مع العلم، وعاش حياة الأمة، ومتاعبها، وآلامها .. حتى غدت لا تبرح ضميره، ولا تفارق فكره .. فهو يقلب طرفه في سماء المجد، والسؤدد، والصلاح، يبحث عن أقصر سبيل يوصل أمته إلى كل ذلك. ¬

_ (¬1) مجلة "حضارة الإسلام" بدمشق - العدد الرابع - السنة 18 (جمادى الآخرة 1397 - حزيران 1977).

هؤلاء هم صفوة الصفوة من أهل العلم، بل هم العلماء الحق في قول علامتنا الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين - عليه رحمة الله ورضوانه-. . .: (من وظيفة العالم مراقبة سير الأمة، حتى إذا اعترضها خلل، أرشد إلى إصلاحه، أو ضلت عن حق، قادها إلى مكانه. ومن تصدى لتقويم الخاطئين، ورد جماح المبطلين، يلاقي بالطبيعة أذى، ويجد في طريقه عقبات لا يقتحمها إلا ذو عزم ثابت، وإقدام لا يتزلزل. وكم من عالم يفوقه أقرانه علماً وألمعية، ولكن ينهض لإحياء سنة، أو إماتة باطل، ويلاقي في جهاده شدائد، فيجتازها بنفس مطمئنة، ولا يلبث أن يرجح وزنه، ويبعد في حلبة السباق شأوه. ولو كشف لنا الغطاء عن حياة العلماء الذين أوذوا في سبيل الدعوة إلى الخير، ولم ينحرفوا عن خطتهم فتيلاً، لرأينا كيف ارتفعت منزلتهم، وتجلى وقارهم، حتى في عين من كان يسومهم سوء الأذية، أو يشفي غليل صدره أن يصرعوا في مصارع الاضطهاد. الرجال الذين أحرزوا هذه المزايا، واستحقوا لقب العالم المصلح ليسوا بكثير. فلو قلبت نظرك في السنين الماضية، وصعدت به إلى عهد قريب، رأيت المعاهد العلمية إنما تبعث في العصر الواحد الرجل أو الرجلين. . ." (¬1). هل ترى إمامنا الأكبر من هذه النخبة المختارة التي قلما يجود بمثلها الزمان؟ سنسير معه في درب الحياة خطوة خطوة؛ علّنا نهتدي إلى الجواب .. ¬

_ (¬1) "الدعوة إلى الإصلاح" (ص 146).

* مولده ونشأته: أدرك علامتنا النور في يوم خير من سنة (1293 - 1873) في بلدة "نفطة"، واحة النخيل في جنوب تونس، البلدة التي أنبتت عدداً مباركاً من العلماء، حتى وصفوها بالكوفة الصغرى. . . ولقد رضع علومه الأولى من بيته، من فكر أمه السيدة حليمة السعدية بنت العلامة الكبير مصطفى بن عزوز -رحمة الله عليه- التي قامت بتدريسه، مع إخوته العلوم الدينية واللغوية، حتى إنه أخذ عنها كتاب الكفراوي في النحو، وكتاب السفطي في الفقه المالكي. . . هكذا الأم، وإلا فلا. . .! وحين أشرف هذا الألمعي على المراهقة انتقلت أسرته إلى مدينة تونس العاصمة، واستقرت بها ... * في الزيتونة: وفي جامعة تونس العتيدة: الزيتونة، الدوحة المباركة بالعلم وأهله، التي لا ينضب نورها الدافق من الإسلام، ترعرع علامتنا الكبير، وزكا فكراً وأدباً، حتى حاز الشهادة العالمية في العلوم الدينية والعربية. ولما أصبح في واحة العلم نخلة باسقة، ضمته الزيتونة أستاذاً ومربياً. وفي أيلول من عام 1912 غادر تونس وزيتونتها، وفي نفسه حرقة، وفي ضميره ثورة، وفي العين عبرة. . . * الرحيل: لماذا يرحل هذا الطود الشامخ من العلم؟ أملَّه الأهل والأحبة؟ أم ملّ هو من الأهل والأحبة. . .؟

لا. . . كل هذا لم يكن. . . لقد لوثت أقدام الغزاة الفرنجية التراب التونسي العبق في يوم حزن من عام 1881، كما فعلوا قبل خمسة عقود من السنين في القطر الجزائري الحبيب. هب عالمنا الكبير للجهاد، لا بالسلاح، ولا بالدم، فالاستعمار قد أناخ بكلكله السمج على بلاده الجريحة، وإنما بالقلم والفكر يبعث الروح، والأمل المتشوف إلى فجر مشرق لابد أن يأتي بعد الليل المدلهم. . ولذلك فقد أصدر مجلة "السعادة العظمى"، وأسس بنيانها على العلم، والعقل، وجعل رسالتها الدعوة إلى الدين الحنيف؛ بتفسير آيات التنزيل العزيز، وشرح الحديث الشريف، وترسيخ العقيدة الصحيحة لرد كيد الضالين المضلين، وإرساء قواعد التشريع العظيم في الحياة بكل أبعادها، ونشر الأخلاق والفضيلة، كل ذلك بلسان عربي مبين (¬1). كانت هذه المجلة صرخة عنيفة في ضمير الأمة كي تنهض من كبوتها، وتدرك التخلف الذي أدى بها إلى أن تقع مهيضة العزة تحت الاحتلال. وكانت وخزة مُرَّة في جنب العدو المستعمر تنخر في حياته، ولا بد أن تأتي عليه .. وزاد في أثر هذه المجلة الغراء: أن بيت صاحبها غدا دار ثورة للفكر ¬

_ (¬1) مقدمة العدد الأول من المجلة الذي صدر في 16 محرم 1322 هـ. تحدد رسالة المجلة ومنهجها. وعندي أن هذه المجلة، ومجلة "العروة الوثقى" التي أصدرها في باريس جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده قد أحدثتا ثورة فكرية -على قصر حياتهما- لم تعرفها الصحافة العربية.

والأدب، والثقافة والوعي الاجتماعي. لكل هذا وذاك عمد المحتل الغاشم إلى المجلة، فأغلقها بعد أقل من عام من صدورها، وكان العدد الأخير يحمل الرقم الحادي والعشرين، وقد صدر قي ذي القعدة 1322 هـ .. فهل يسكن الثائر المجاهد، ويستكين؟ ... ها هو ذا بعد سنتين من وأد المجلة يقف بشمم وإباء في عام 1324 يلقي محاضرة في تونس بدعوة من جمعية (قدماء تلامذة الصادقية) بعنوان: "الحرية في الإسلام" (¬1) قبض فيها قبضة من أثر الدين الخالد، ونثرها على الحاضرين، بل على مجتمعه بأسره، جواهر تصف الحرية ومعناها، والمشورة ومبناها، والمساواة بين السيد والمسود، والأمير والمأمور، وتحدث عن حرمة الدماء والأعراض والأموال .. في مستهل كلمته حمل على المستعمر، ووصف الأمم التي تبيح لنفسها استعباد الأمم الأخرى، فقال: "الأمم المتوحشة يستهوي بها الاستئثار بالمنافع والنفيس من الفوائد أن ينسل أولو القوة منها نحو أموال الذين استضعفوا، ويصولوا عليها صيال الوحوش الضارية، ثم ينصرفوا بها إلى مساكنهم غير متحرجين من أوزارها، كأنما انصرفوا بتراث آبائهم وأمهاتهم، أو خصهم الله بما خلق في الأرض جميعاً". وأخيراً طفح الحقد من قلب المستعمر، وكل إناء بالذي فيه ينضح، فأحكم التضييق على علامتنا الكبير حتى حمله على الرحيل عن الوطن، وأهداه ¬

_ (¬1) "محاضرات إسلامية".

بعد حين وسام العز الرفيع: حكم الإعدام، الذي يزين عنق المجاهدين. أعلمتم إذن سبب الرحيل .. ؟ فإلى أين سيتجه يا ترى ... ؟ * في دمشق: إنه في دمشق، عاصمة المجد العربي الخالد، لا يعرف أحداً، ولا يعرفه أحد .. ولكن هل تخفى الشمس؟ وفي عصامية عجيبة انطلق وراء رزقه، ورزق عياله، يعمل في مدارسها، حتى اندفعت إليه نخبة مختارة من كرام أبناء هذه المدينة العتيدة، تنهل من نمير علمه العذب، ومن شخصيته الفذة، ومنهم: أستاذي الكبير علامة الشام محمد بهجة البيطار - عليه رحمة الله ورضوانه - .. ومن حديث شيخي وقعت في نفسي الهمة الشماء، والعصامية الأبية التي كان يتحلى بها الشيخ الكبير .. ومرت الأيام .. حتى كان يوم نحس من عام 1920 حين دخل الفرنسيون دمشق على جماجم أبطالنا في ميسلون، إنهم نفس الغزاة، حملة رائحة الاستعمار والاستعباد التي تلوث جو الكون، الذين احتلوا المغرب العربي وشطراً من أرض الشام .. فإلى أين يذهب العلامة المجاهد ... ؟ إلى أين ... ؟ * في مصر: إلى القاهرة يمم وجهه، وذلك في عام 1922، كما فعل العديد من

كرام رجال الوطن السوري. وهنا ندخل في طور جديد، وسعيد في حياة الجهاد التي عاشها علامتنا الجليل ... في دنيا العلم أحرز قصب السبق، ها هو في الأزهر الشريف يدرّس الفقه في كلية أصول الدين، ثم يقدم رسالة علمية رائعة "القياس في اللغة العربية" ينال بها عضوية هيئة كبار العلماء. وفي عام 1952 م تم اختياره شيخاً للأزهر، ولقي وجه ربه سنة 9581 م. أما في دنيا الجهاد، التي عنها نتحدث، فهل خبت جذوته في نفسه الكبيرة، وفي القاهرة ما فيها من علوم وعلماء، ومن دراسات وأبحاث، ولا سيما بعد أن أصبح عضواً في "المجمع اللغوي فيها، وفي المجمع العربي بدمشق؟ لا .. لن يكل السيف المشرع تحت راية الجهاد الحق حتى تتحرر بلاده، أو يهلك دون ذلك. هو في القاهرة، وقلبه يحمل وطنه، وما يعاني .. أتريد أن تلمس وهج حب تونس في هذا الفؤاد العامر؟ ... ترنم معي إذن بهذه الأبيات التي انتقيتها لك من شعره (¬1): وطني علمتني الحب الذي ... يدع القلب لدى البين عليلا لا تلمني إن نأى بي قدر ... وغدا الشرق من الغرب بديلا عزمة قد أبرمتها همة ... وجدت للمجد في الظعن سبيلا ¬

_ (¬1) ديوان "خواطر الحياة".

أنا لا أنسى على طول النوى ... وطناً طاب مبيتاً ومقيلا بل هو يعجب من شعراء عكفوا على اللهو والمجون، ووطنهم يعاني ما يعاني: وأنفع الشعر ما هاج الحماسة في ... شعب يقاسي اضطهاد الجائر الأشر من ذا يقيم على أرض يظللها ... ضيمٌ، ويحسن وصف الدلِّ والحور وتعاوده ذكريات صباه في تونس، فيجد شيئاً من حلوها، إلا أنه ينقلب علقماً في نفسه حين يرتد إليه طرفه مشمئزاً من صورة جيش الاحتلال، فيقول: ليال قضيناها بتونس ليتها ... تعود وجيش الغاصبين طريد نعم .. لقد عاد لتونس أريج الحرية، بفضل الله سبحانه؛ لأنه أقدرك يا سيدي العلامة على النضال الذي كنت تغذي به رجال السياسة والعلم والأدب، حين كانوا يتوافدون إلى دارك العامرة، وإلى رابطة (تعاون جاليات أفريقيا الشمالية) التي أسست، والتي قامت بعقد المؤتمرات والندوات لشرح قضية المغرب العربي للعرب، وللمسلمين، وللعالم (¬1)، وإلى (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية) التي لعبت دوراً رائعاً في وحده النضال عند شباب المغرب العربي الأحرار. كيف ينسى تونس الخضراء، وهو الذي ألقى المحاضرات، وكتب الدراسات المستفيضة عن الحالة العلمية في ذلك الوطن، وقدم بأدب وفخر ¬

_ (¬1) رفع علامتنا الكبير مذكرة إلى دول العالم شرح فيها مساوئ الاحتلال الفرنسي، وقد نشرت في كتاب: "تونس وجامع الزيتونة" (ص 128).

واعتزاز للمجتمع المصري أعلاماً من تونس لم يكن لاسمهم ولسيرتهم من ذكر في مصر (¬1)، فأي تعبير عن حب الوطن، والوفاء له، أصدق من ذلك؟. هو في القاهرة بين إخوته العرب، فعليه إذن أن يؤدي شرف الأمانة الذي يحمل، وأن يقدم لهم كل ما يمليه عليه ضميره من واجب النصح، والعمل البناء الهادف .. ولذلك كان المعلم الأمين، وكان المرشد الصالح، والمربي الصدوق .. وجد في مدارس الدولة تقصيراً في التعليم المديني، فوجه المذكرات للسلطة لإصلاح ذلك (¬2). وسمع بانحراف بعض أساتذة الجامعة عن أصالة الفكر العربي، فحذر من ذلك وزارة المعارف، ونبه على الخطر الذي ينزل بالأمة بسبب التهاون، والتغاضي عن ذلك .. وصدق؛ لأن النار من مستصغر الشرر. هو في القاهرة، وما يشغله حب وطنه، ولا خدمة المجتمع الذي يعيش فيه عن خدمة دينه وشريعته. ولذلك فقد اشترك في تأسيس (جمعية الشبان المسلمين) التي كانت في طليعة الجمعيات الهادفة إلى تربية الشباب المسلم تربية صالحة قويمة. ومن فكره البنّاء ولدت (جمعية الهداية الإسلامية)، وكان هدفها: "أن تعرض حقائق الدين الحنيف، وحكمة تشريعه في صورتها الخالصة النقية، وأن تبحث في تاريخ رجال الإسلام من العرب وغير العرب، وأن تنبه على ¬

_ (¬1) "تونس وجامع الزيتونة". (¬2) "الدعوة إلى الإصلاح" (ص 148، 159).

ما كان لهم من عبقرية في العلم، أو فضل في البيان، أو شرف في الأخلاق، أو رشد في السياسة .. " .. وأن تعمل على رفع التجافي بين الفرق الإِسلامية، ولعلها تستطيع بتأييد الله وبوسيلة مجلتها (¬1) الضاربة في الشرق يميناً وشمالاً أن تضع مكان التجافي إلفة وسلاماً، وإذ عز على زعماء هذه الفرق الوصول إلى تقليل مواقع الاختلاف في الآراء، فلا يعز عليهم أن يخففوا وقعه في القلوب، ويكفوه عن أن يشيع فيها فاحشة التقاطع والقصد إلى الأذى ... وحين طلع على العرب طه حسين بآراء في الشعر الجاهلي، استقاها من مدرسة الاستشراق، من (مرجليوث، وسانتيلانا) على وجه الخصوص، وفيها ما فيها من نيل يمس الإسلام في كتابه الكريم، هبّ علامتنا الكبير للرد على ذلك بعنف، وصدق لهجة (¬2)، وكذلك فعل أديب العروبة والإسلام مصطفى صادق الرافعي في كتابه الرائع "تحت راية القرآن"، وأكرمْ بها من راية! .. وحين طلع علي عبد الرازق على العرب بكتاب "الإسلام وأصول الحكم"، وفيه يجعل ديننا -الذي اختاره الله سبحانه ليكون نوراً للبشرية في مسيرة حياتها- مجردَ عبادات وأذكار فحسب، نهد أستاذنا الكبير -وهو فارس هذا الميدان- للرد على ذلك، وإظهار ما في هذا الدين الخالد من نظام شامل لشؤون الحياة في السياسة وأصول الحكم، وفي الفقه والمعاملات، وفي تنظيم أمور المجتمع على أقوم نظام، وأعدل تشريع (¬3). ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية". (¬2) "نقض كتاب في الشعر الجاهلي". (¬3) "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم".

وبعد: إنها سيرة مجاهد لتحرير الوطن من العبودية، ولتحرير فكر الأمة من الجهل والتخلف، ولإعمار ضميرها بالعقيدة "الصحيحة" والخلق القويم، والرجولة، والشهامة، ولجعل لسانها عربياً مبيناً لا عوج فيه، ولا أمتاً .. إنها مسيرة عالم عاش في ضمير أمته، وعاشت أمته في ضميره .. أليس كذلك؟

محمد الخضر حسين

محمد الخضر حسين (تونس 67 عاماً تحت الاحتلال الفرنساوي) تقديم وتحقيق كمال التعريف "كمال بن الحبيب التعريف، باحث، صحفي، ورئيس سابق لجمعية الصحفيين التونسيين، ولد عام 1924 في "أكودة" بالجمهورية التونسية، وتخرج من كلية الحقوق، وتقلد عدة مناصب إعلامية. له مؤلفات وبحوث عديدة في التاريخ والأدب والسياسة" (¬1). * كلمة الناشر: نعيد - في العدد الرابع من "كتاب الحرية" الذي بين يدي القارئ- نشر كتاب كان الشيخ محمد الخضر حسين أصدره في القاهرة ضمن نشاط (جبهة الدّفاع عن شمال إفريقيا) التي كان مؤسسها ومحور حركتها. وقد استهدف من هذا الكتاب الذي عنوانه: "تونس 67 عاماً تحت الاحتلال الفرنساوي" التعريف بتونس ضحية الاستعمار الفرنسي لدى إخواننا في المشرق العربي، مثلما فعل الدكتور الحبيب ثامر، من خلال مؤلفه "هذه تونس" في الفترة نفسها. ونحن نقصد من إعادة نشر هذا الكتاب بتونس - بعد أن ظهر للوجود في القاهرة قبل نحو ¬

_ (¬1) العدد الرابع من سلسلة "كتاب الحرية" المصادر عن جريدة "الحرية" بتونس.

أربعين عاماً - إلى غايتين: أولاهما: أن نرفع عنه تراب النسيان، حتى يتيسّر تداوله، ويُعتمد في كتابة تاريخ تونس المعاصر على الوجه الصحيح. وثانيتهما: أن نُحيي ذكرى صاحبه الشيخ محمد الخضر حسين الذي عُرف كعالم وشيخ للأزهر، وأن نبرز جهاده في سبيل تونس والمغرب العربي، ذلك الجهاد الذي أدى به إلى الخروج من وطنه، والانخراط في صفوف العاملين تحت لواء الدولة العُثمانية، لتحرير الشعوب الإسلامية من الاستعمار الغربي، وتحمّل ما أُضير به من مُصادرة الفرنسيين لأملاكه في تونس، ومطاردتهم إياه في سوريا بعد أن احتلتها جيوشهم. وأملنا أن يَتخذ الشيخ محمد الخضر حسين -الذي نشر ابن أخيه الأستاذ علي الرّضا الحسيني في السنوات الأخيرة كل مؤلفاته، باستثناء الكتاب موضوع حديثنا، والذي خصّ الأستاذ محمد مواعدة سيرته بأطروحه لا بأس بها- مكانه في سجل المجاهدين من أجل حرية تونس والمغرب العربي والأمة العربية قاطبة، ومن أجل نهضة شعوبها. وأملنا أيضاً أن نواصل -في سلسلتنا هذه- جمع التراث الفكري والنضالي لغيره من المجاهدين أمثال: الدكتور سليمان بن سليمان، والطاهر صفر، والشيخ محيي الدين القليبي، ويوسف الرويسي، وسواهم؛ حتى ننقذ ذلك التراث الزاخر من البلى، ونثري بيبليوغرافيا النضال والتاريخ الوطنيين بالمراجع الأساسية التي لا يمكن كتابة التاريخ الصحيح من دون الرجوع إليها. "الحرية"

* حياته: ولد الشيخ محمد الأخضر بن الشيخ الحسين بن الشيخ علي بن عمر الشريف في "نفطة" من بلاد الجريد بالجنوب الغربي لتونس في (26 جويليه 1867 الموافق لـ 26 رجب 1293). وقد أبدل اسمه -فيما بعد- إلى محمد الخضر حسين بناء على اقتراح الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، رفيقه في الدراسة بالزيتونة، والتدريس بها، وصديقه مدى الحياة. وهو من أسرة علم تنتسب إلى الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم -، وكانت تُلقب بالعمريّ، وتقطن بقرية "طُولقة"، وهي واحة بجنوب الجزائر، تبعد نحو أربعين كيلو متراً عن مدينة "بسكرة"، وقد هاجر والده وجده في متتصف القرن الماضي -على الأرجح- إلى "نفطة". أما أمه، فهي حليمة السعدية، بنت الشيخ مصطفى بن عزوز، الذي رافق أبا المترجم له وجدّه في هجرتهما، ولدت بتونس سنة 1270 هـ، وتوفيت بدمشق في رمضان سنة 1335 (1917 م)، وخاله العلامة محمد المكي بن مصطفى بن محمد بن عزوز البُرجي النفطي الحَسَني الإدريسي، ولد بنفطة في 15 رمضان 1270 (1854)، وتعلم بتونس، وولي الإفتاء بنفطة، ثم قضاءها. وعاد إلى تونس، ثم رحل إلى الآستانة، فتولى تدريس الحديث في دار الفنون، ومدرسة الواعظين، ونال حظوة عالية في عاصمة الدولة العثمانية، وتوفي بها في 2 صفر 1344 (1915). وله مؤلفات عديدة في مختلف العلوم الشرعية والدنيوية. درس محمد الخضر حسين في المكتب القرآني بمسقط رأسه على الشيخين: عبد الحفيظ اللموشي، ومحمد المكي بن عزوز. ولما بلغ

الثالثة عشرة، انتقلت عائلته إلى تونس (أواخر 1306 - 1888)، فأتم تعلمه الابتدائي وحفظ القرآن الكريم. التحق بجامع الزيتونة (1307 - 1889)، وحصل على شهادة التطويع (1316 - 1898) من أساتذته الشيوخ: سالم بوحاجب في "صحيح البخاري"، وعمر بن الشيخ، ومحمد النجّار (في التفسير). درّس متطوعاً في العام الموالي لتخرجه، وواصل التعلّم. يقول ابن أخيه علي الرّضا الحسيني: إنه حصل كذلك على الشهادة العالمية في العلوم الدينية والعربية، ولكن هذه الشهادة لم تُحدَث إلا في أوائل سنة 1933. وأرفع شهادة كان يُسَلّمها جامع الزيتونة -حتى ذلك العهد - هي (التطويع). رحل إلى طرابلس الغرب (1317 - 1899)، وزار الجزائر مرة أولى (1312 - 1899)، ثم ثانية (من 5 إلى 15 رمضان 1322، من 12 إلى 23 نوفمبر 1904). أصدر مجلة "السعادة العظمى" في (16 محرم 1322 - أفريل 1904)، وهي "مجلة علمية أدبية إسلامية نصف شهرية"، وكانت أول مجلة تصدر بتونس باللغة العربية، وقد أبرز منها واحداً وعشرين عدداً، ثم أوقفها في ذي القعدة (1322 - 1905)، بعد أن طالبت هيئة النظّارة العلمية بجامع الزيتونة الحكومة بتعطيلها. تولى القضاء الشرعي في مدينة "بنزرت"، كما تولى الخطابة والتدريس بجامعها الكبير، بضعة شهور (1905 - 1956)، ولكن القضاء لم يرقْه؛ إذ حال بينه وبين الدعوة إلى الإصلاح، فاستقال، وعاد إلى تونس حيث كلف بالإشراف على تنظيم المكتبة بجامع الزيتونة (1906)، ودرّس متطوعاً في

جامع الزيتونة، وألقى في نادي قدماء الصادقية سنة 1906 محاضرة عنوانها: "الحرية في الإسلام". عين مدرساً مالكياً للعلوم الدينية والعربية من الطبقة الثانية بالجامع المذكور، بواسطة مناظرة (23 جمادى الثانية 1325 - 3 أوت 1907). وفي العام الموالي عُين أيضاً أستاذاً بالمدرسة الصادقية. وفي الأثناء رفض عرضاً بأن يكون عضواً بالمحكمة المختلطة. درّس كذلك الأدب والإنشاء العربيين في الجمعية الخلدونية (1908)، وحاضر وسامر فيها وفي نادي جمعية قدماء الصادقية. وكانت المواضيع التي تناولها في محاضراته ومسامراته أدبية ولغوية، ومن تلك المحاضرات: "حياة اللغة العربية" ألقاها سنة (1327 - 1909) في الخلدونية، ونشرها بتونس في العام نفسه، و"حياة ابن خلدون"، و"الدعوة إلى الإصلاح". انتخب نائب رئيس الجمعية الخلدونية سنة 1910. وفي خلال ذلك أخذ يكتب المقالات في مختلف شؤون البلاد إلى جانب قرض الشعر. لاقى بجامع الزيتونة تهوينًا من شأنه سدّ في وجهه باب التدرج في المناصب العلمية؛ إذ فشل في مناظرة التدريس من الطبقة الأولى (1330 - 1912)، فحزّ في نفسه أن يُحرم من النجاح بسبب المحاباة المسيطرة على الحياة العلمية في البلاد، وضاق بالقمع الذي سُلِّط على البلاد بعد حوادث الجلاز والترام، فتاقت نفسه إلى الهجرة، استقال من التدريس، ورحل إلى الشرق يوم الخميس (4 شعبان 1330 - 18 جويلية 1912)، فزار مالطة، والإسكندرية، والقاهرة؛ حيث التقى بالشيخ محمد رشيد رضا، وبورسعيد ويافا وحيفا ودمشق. استقر مدة قصيرة مع إخوته الذين سبقوه إلى الشام قبل

عام، الشيوخ: محمد المكي، وزين العابدين، ومحمد العروسي، بحيّ الميدان. ألقى اثني عشر درساً في الحديث بالجامع الأموي. ثم قصد بيروت والآستانة لزيارة خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز. وعاد إلى تونس يوم الاثنين (16 ذي الحجة 1330 - 24 نوفمبر 1912)، فوجد إدارة المدرسة الصادقية قد فصلته عن التدريس الذي مارسه بها منذ سنة 1957، متعللة بغيابه. صوّر رحلته في مقالات نشرتها تباعاً جريدة "الزهرة"، وألقى دروساً بجامع الزيتونة، ومحاضرة عنوانها: "مدارك الشريعة الإسلام" بنادي جمعية قدماء الصادقية. ثم عزم على الرجوع إلى دمشق، فودّع زوجته، وغادر تونس (1331/ ديسمبر 1912)، منتقلاً إلى الجزائر، فمصر، فدمشق. ثم قصد -عبر القدس- الحجاز؛ حيث حجّ، ثم زار ألبانيا، ومعظم بلاد البلقان، والآستانة، ومنها قفل إلى دمشق. وهناك استقرّ مع عائلته: والدته، وإخوته الأربعة الذين سبقوه إلى هناك عام 1330 هـ، ودرّس العلوم الدينية والأدبية واللغوية في الجامع الأموي والمدارس الحكومية الثانوية والعليا، لا سيما مدرسة السلطانية العثمانية للدّراسات العربية، وكتب في الصحف والمجلات، مؤيداً الخلافة العثمانية، وداعياً إلى توثيق عرا الألفة بين العرب والترك، وألقى المحاضرات، ونشر الكتب والرسائل المدرسية والدينية، كما نشر في جريدة "الزهرة" اليومية التونسية "خلاصة الرحلة الشرقية" من (25 مارس إلى 7 أفريل، ومن 18 إلى 27 أفريل 1913). اتهم بالضّلوع مع أحرار العرب في مؤامرة ضد الدولة العثمانية، أيام

أحمد جمال باشا السفاح (¬1)، وسجن في فندق مع سعدي بك الملا سكرتير شكري الأيوبي، ستة أشهر وأربعة عشر يوماً، من (15 أوت 1916/ 1334 هـ حتى 29 جانفي 1917/ 4 ربيع الثاني 1335)، وحوكم أمام مجلس عسكري، وطلب المدّعي إعدامه، ولكن المجلس برَّأ ساحته، وأخرج عنه، فعاد إلى سالف نشاطه، ثم رحل إلى الآستانة حيث عمل منشئاً عربياً في ديوان وزارة الحربية، ومدّرساً أيضاً. كلفه الباب العالي (1336 - 1917) مع الشيخين التونسيين: صالح الشريف، وإسماعيل الصفايحي، وغيرهما من العلماء المسلمين بالسفر إلى ألمانيا للاتصال بالجنود المغاربة في جيوش الحلفاء الذين أسرهم الألمان، ومحاولة كسبهم إلى جانب الدولة العثمانية، فأسهم في نشاط (اللجنة التونسية الجزائرية)، وكتب في الصحف، وألقى المحاضرات على هؤلاء الجنود. وبقي هناك زهاء تسعة أشهر، تعلم في أثنائها اللغة الألمانية. وزار سويسرا وإيطاليا. عاد إلى الآستانة ودمشق، ثم رجع إلى "برلين"، وأقام بها نحو سبعة شهور، حتى سقطت الآستانة، (1337 - 1918)، فعاد إلى دمشق- حيث قام الحكم العربي بزعامة الأمير (ثم الملك) فيصل بن الحسين- على متن باخرة مع عدب من زعماء الحركة الإسلامية، عبر الآستانة، "همبورغ". وفي تلك الأثناء حَجَزت السلطات الفرنسية في تونس أملاكه بتهمة المشاركة في تحريض المغاربة بألمانيا وتركيا على محاربة فرنسا. وتوفيت والدته وهو في ألمانيا (1335 - 1917). ¬

_ (¬1) انظر عنه: "الحركات الاستقلالية ... " (ص 47 - 48)، و "معجم المؤلفين" (ج 12 ص 49، وج 13 ص 4).

وفي دمشق استأنف الشيخ محمد الخضر حسين التدريس بالمدرسة السلطانية، كما درس في المدرسة العسكرية، واستأنف المحاضرة بالجامع الأموي، كما حاضر في جامع باب المصلّى. وكان مقرّباً من الملك فيصل. اختير عضواً عاملاً في إحدى لجان المجمع العلمي العربي المؤسس بدمشق في أواسط سنة 1919، وأصبح عضواً مراسلاً لما ترك سوريا، وإلى آخر أيام حياته. غادر دمشق بعد معركة ميسلون في (24 جويلية 1920) هرباً من ملاحقة سلطات الانتداب الفرنسي المفروض على سوريا إياه، ونزل لاجئاً سياسياً بمصر، والتقى بكبار رجالها وعلمائها. ثم قرر الإقامة بها، وحصل فيما بعد على جنسيتها، ودخل فحص الشهادة العالية الأزهرية، فاستحقها. عينته وزارة المعارف مُصَحّحاً بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، وقبل تولي تصحيح المخطوطات بالمكتبة العلمية المصرية في القاهرة (1343 - 1924). وحاضر في الجمعيات، وألقى دروساً دينية خاصة بالأزهر ومساجد ومعاهد أخرى، وكتب في الصحف والمجلات، وراسل مجلة "الفجر" التونسية الدستورية في موضوع: النظرية السياسية في الإسلام، كما راسل مجلة "الفجر" التونسية في موضوع: الخلافة في الإسلام، ومسؤوليات العلماء (1921 - 1922)، وأسهم في تحرير مجلة "العرب" التونسية سنة 1923. ما إن استقر الشيخ محمد الخضر حسين في مصر حتى بادر في جوان 1924 إلى إنشاء (جمعية تعاون جاليات شمال إفريقية الشمالية). وقد تألفت هيئتها الأولى من: الشيخ محمد الخضر حسين (تونسي) رئيساً، وطاهر محمد التونسي (تونسي)، ومحمد عبد الوهاب المحامي (مغربي)، والدكتور الطبيب

عبد العزيز قاسم (مغربي)، ومحمد الرزقي (جزائري)، والدكتور محمد عبد السلام العيادي (جزائري)، ومحمد التهامي نصر (ليبي)، وعبد الله الكافي (ليبي) أعضاء، وكان مقرّها عيادة الدكتور قاسم بالسبع قاعات البحرية بالسكك الحديدية في القاهرة. شارك في المعركة السياسية الدينية إثر صدور كتاب الشيخ علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" (1925)، فألف "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، فنال به حُظْوَةً لدى الملك فؤاد الأول، الذي اقتبله في سراي قصر التين بالإسكندرية في 1 أوت 1926. ثم ألف "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" للرد على كتاب "في الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين (1926)، فنال به حُظْوَةً لدى شيوخ الأزهر. حصل على الجنسية المصرية، وعُين مدرّساً في معاهد الأزهر الثانوية. عيّن سنة 1927 مدرّساً مؤقتاً في قسم التخصص بالجامع الأزهر، ثم أصبح سنة 1928 مدرساً رسمياً بعد أن اجتاز امتحان شهادة العالمية بتفوق. أسِّس سنة (1346 - 1928) جمعية "الهداية الإسلامية"، ورأسها إلى وفاته. وفي (جمادى الثانية 1347/ نوفمبر 1928) أصدر مجلة تحمل الاسم نفسه "الهداية الإسلامية"، وتولى إدارتها ورئاسة تحريرها. واشترك سنة 1929 في تأسيس (جمعية الشبان المسلمين)، ومجلتها التي حملت الاسم نفسه. تولى رئاسة تحرير مجلة "نور الإسلام" التي أصدرها الأزهر (1349 - 1939) باشراف محمد الأحمدي الظواهري، والتي دُعيت بعد ذلك (1353 - 1934): مجلة "الأزهر". تخلى عن هذه المسؤولية بعد سنوات قليلة، ولكنه ظل يكتب فيها.

انضم إلى علماء الأزهر، وعيّن سنة 1932 مدرساً للفقه (علم السياسة الشرعية) في كلية أصول الدين، ثم أستاذاً في قسم التخصص. عيّن في أكتوبر 1933 عضواً في مجمع اللغة العربية الذي أُنشئ في القاهرة في ديسمبر 1932. أحيل على المعاش سنة 1950. اختير، سنة (1370/ 1950) عضواً في هيئة كبار العلماء بالأزهر، بعد أن قدّم رسالته العلمية "القياس في اللغة العربية"، وهي في الأصل بحث وضعه بدمشق في أثناء فترة إقامته وتدريسه بها، ثم نقحه وطبعه بالقاهرة (1353/ 1934)، ثم جَدَّده وتقّدم به إلى الهيئة، فقُبل بالإجماع. تسلّم رئاسة تحرير مجلة "لواء الإسلام" التي أصدرها سنة 1945 الشيخ أحمد حمزة، وتركها لما تولى مشيخة الأزهر، ولكن واصل الكتابة فيها حتى وفاته. وفي فيفري 1944 (1 ربيع الأول 1364) أسس الشيخ محمد الخضر حسين، مع جمع من المغاربة (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية)، وتولى رئاستها، ينوبه الأمير مختار الجزائري، والدكتور محمد عبد السلام العيادي، والشيخ السعدي عمار، واختير الشيخ الفُضيل الورتلاني سكرتيراً لها. وقد انضم إليها عدد من المناضلين المغاربة اللاجئين إلى مصر من الحزب الحرّ الدستوري التونسي الجديد، وحزب الشعب الجزائري، وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومن هؤلاء: الحبيب بورقيبة (1945)، ومحمد محيي الدين القليبي عند زيارته الأولى لمصر. وقد انسلخ بورقيبة عنها بعد ذلك. وقامت الجبهة بنشاط دعائي طيِّب لقضايا الأقطار المغربية. وقد أُسندت

رئاستها الشرفية إلى الأمير محمد عبد الكريم الخطّابي، عند التجائه إلى مصر. أُجريت على الشيخ محمد الخضر سنة 1365 عمليةٌ جراحية - في أعلى القفا بمستشفى الروضة في القاهرة. عُين شيخاً للجامع الأزهر في 16 ديسمبر 1652. استقال في (2 جمادى الأولى 1373 - 8 جانفي 1954) متعللاً بمرضه وحاجته إلى العلاج والاستجمام. توفي ظهر الأحد (12 رجب 1377 - 2 فيفري 1958)، ودفن في مقبرة آل تيمور بالقاهرة، إلى جانب صديقه أحمد تيمور باشا. إخوته الشيوخ: محمد الجُنيدي، ومحمد العروسي، ومحمد المكي (الذي عاد، بعد سنوات، من دمشق إلى تونس، وتوفي بها سنة 1963)، وزين العابدين الذي بقي مستقراً في دمشق. تزوج تونسية بقيت في تونس هي وابنته الوحيدة منها لما هاجر سنة 1912، ثم تزوجت غيره، ثم تزوج سورية، فمصرية (1920)، هي زينب رحيم، وقيل: من عائلة النجمة القاطنة بمنطقة الهرم، وتوفيت بالقاهرة سنة (1372/ 1953)، ثم رابعة قريبة لها صغيرة السنّ. بدأ محاولة نظم الشعر وهو تلميذ في الزيتونة، عمره اثنتا عشرة سنة. وصادق منذ تلمذته بالزيتونة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور الذي كان يزوره -بعد ذلك- في مصر. وفي مصر صادق أحمد تيمور باشا. وكان الطيب بن عيسى، صاحب جريدة "الوزير" التونسية من تلامذته بالزيتونة، وقد ظل يتابع أخباره في مهاجره، وينوّه بعلو مكانته في المشرق. وفي سنة 1947 أسس بعض تلامذة الزيتونة أصيلي الجريد جمعية

(شباب الخضر بن الحسيني النفطي)، وجعلوا لها في العام الموالي نشرية أدبية سنوية ساهم في تحريرها: محمد الصالح المهيدي، ومصطفى خريف، ومحمد العربي صمادح، وغيرهم. كتب إلى جانب الدوريات التي سبق ذكرها في مجلة "الزهراء" الشهرية التي أنشأها في القاهرة محب الدين الخطيب (عاشت من 1343/ 1924 إلى 1347/ 1929)، ومجلة "الفتح" التي أنشأها الخطيب أيضاً في القاهرة (1926)، ومجلة "مجمع اللغة العربية" المؤسسة سنة 1953 إلى وفاته، ومجلة "المجمع العلمي العربي" بدمشق، وجريدة "الأهرام" (1365). * مؤلفاته: ترك الشيخ محمد الخضر تراثاً علمياً غزيراً من الدراسات الإِسلامية واللغوية والأدبية والتاريخية، طبع بعضه في حياته، وبقي أكثره متفرقاً في الصحف والمجلات، ثم نشر ابن أخيه علي الرضا بن زين العابدين بن الحسين الحسيني مؤلفاته بعد وفاته متصرفاً في بعض محتوياتها وعناوينها على النحو التالي: 1 - بلاغة القرآن: بلاغة القرآن - نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية - رأي في تفسير القرآن - أمثال القرآن الكريم - المحكم والمتشابه في القرآن - اليمين في القرآن والحديث - الرقية والاقتباس والاستخارة والقرآن - إعجاز القرآن وبلاغته - ترجمة القرآن - حقيقة ضمير الغائب في القرآن - القرآن لا يقول إلا حقاً- الفن القصصي في القرآن- تحريف آيات الحدود عن مواضعها -كتاب يهذى في تأويل القرآن الكريم -كتاب يلحد في آيات الله- قصة أيوب عليه السلام.

2 - الشريعة الإِسلامية صالحة لكل زمان ومكان: الاجتهاد في أحكام الشريعة - بناء الشريعة على حفظ المصالح ودرء المفاسد - الأصول النظرية الشرعية - القياس - الاستصحاب - مراعاة العرف - سد الذرائع - المصالح المرسلة - مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها - النسخ في الشريعة الإسلامية - صحيح البخاري وأثره في حفظ الشريعة - السنة والبدعة - الرؤيا ليست طريقاً للأحكام الشرعية - وجوب العمل بالحديث الشريف- أسباب وضع الحديث - الحديث المتواتر وحكم ما رواه الإمامان البخاري ومسلم - اجتهاد ابن القاسم - ليلة النصف من شعبان - نظرة في أحاديث المهدي - لا عدوى ولا طيرة- باب في حديث السحر - السنن والحكم النبوية - شرح مسألة الاقتداء بالمذهب المخالف - صنع الصور واقتناؤها - مكافحة الجشع والغش في المعاملات المالية - التصوف - تعدد الزوجات - الأخذ بالدين - الفتاوى والأحكام. 3 - محمد رسول الله وخاتم النبيين: أديان العرب قبل الإسلام - محمد رسول الله وخاتم النبيين - رفقه وحكمته البالغة بالسياسة - سيرته في الخليقة - صبر محمد عليه السلام ومتانة عزمه - البلاغة النبوية- شجاعته - عليه الصلاة والسلام - رجاحة عقله وحكمة رأيه - من آداب خطب النبي- الهجرة النبوية - إبادته - عليه الصلاة والسلام - للأصنام - نظرة في دلائل النبوة - آداب الدعوة وحكمة أساليبها - حياة الدعوة الإِسلامية في جزيرة العرب - قضاء البعثة المحمدية على المزاعم الباطلة - العظمة - المعجزات الكونية - لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة - الهجرة وشخصيات الرسول.

4 - رسائل الإصلاح: المروءة ومظاهرها الصادقة - الإلحاد: أسبابه، طبائعه، مفاسده - في مفاسد البغاء - كلمة في المسكرات - الشجاعة - المساواة في الإِسلام - إباءة الضيم وأثرها في سيادة الأمم - عظم الهمة - الإسلام والمدنية الحديثة- صدق اللهجة- فضيلة الإخلاص- الأمانة في العلم - القضاء العادل في الإسلام - الإنصاف الأدبي - العلماء والإصلاح - المدينة الفاضلة في الإِسلام - أصول سعادة الأمة - صدق العزيمة أو قوة الإرادة - المغيرة على الحقائق والمصالح - الشجاعة وأثرها في عظمة الأمم - كبر الهمة في العلم - الدهاء والاستقامة - الانحراف عن الدين - ضلالة فصل الدين عن السياسة - سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين- العزة والتواضع - المداراة والمداهنة - الرفق بالحيوان - محاكاة المسلمين للأجانب - الاجتماع والعزلة - علة إعراض الشبان عن الزواج - النبوغ في العلوم والفنون - متى تكون الصراحة فضيلة. 5 - تونس وجامع الزيتونة: فقهاء تونس - شعراء تونس - الحالة العلمية بجامع الزيتونة - الدولة الحسينية في تونس - الشعر التونسي في القرن الخامس - حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية - أسد بن الفرات - نظرة في أدب الشيخ محمود قبادو التونسي - نظرة في حياة وزير تونسي - محمد ماضور من علماء تونس وأدبائها - محمد النجار - أحمد أبو خريص - محمد بيرم الثاني - محمد الخضار - محمد النيفر - محمد الطاهر بن عاشور - عمر بن الشيخ - أحمد كريم - محمد بن الخوجة - أحمد الورتاني - الطاهر بن عاشور - علي الدرويش- تونس.

6 - دراسات في العربية وتاريخها: القياس في اللغة العربية - حياة اللغة العربية - الاستشهاد بالحديث في اللغة - موضوع علم النحو - التضمين- تيسير وضع مصطلحات الألوان - طرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية - حول تبسيط قواعد النحو والصرف والرد عليها - الإمتاع بما يتوقف تأنيثه على السماع. 7 - الخيال في الشعر العربي: الخيال في الشعر العربي- الشعر البديع في نظر الأدباء - أثر الشعر في الترويح عن النفس وإثارة العواطف الشريفة - نموذج من نقد الشعر- الشعر المصري في عهد الدولة الأيوبية - نظرة في شعر حسان بن ثابت - الخطابة عند العرب - نشأة علم البلاغة. 8 - نقض كتاب "الإسلام وأصول الحكم": الخلافة والإسلام: الخلافة وطبيعتها - في حكم الخلافة - في الخلافة من الوجهة الاجتماعية - الحكومة والإسلام: نظام الحكم في عصر النبوة - الرسالة والحكم - الحكم والدين والدولة - الخلافة والحكومة في التاريخ - الوحدة الدينية والعربية - الدولة العربية - الخلافة الإسلامية. 9 - دراسات في اللغة: المجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية - من وُثق من علماء اللغة ومن طُعن فيه - اللهجات العربية في هذا العصر - نيابة بعض الحروف عن بعض - الأمثال في اللغة العربية - وصف جمع غير العاقل بصيغة فعلاء - اسم المصدر في المعاجم، شرح قرارات "المجمع" والاحتجاج لها -نقد اقتراح ببعض الإصلاح في متن اللغة - نقد إعرابين جديدين في صيغة التحذير -

ملاحظات على البحث المقدم لمجمع اللغة العربية عن موقف اللغة العامية من اللغة العربية الفصحى - الألفاظ المؤنثة عن طريق السماع. 10 - دراسات في الشريعة الإِسلامية: الله موجود - الأحكام العادلة - كيف تُستنبط القواعد من الكتاب والسنة - الحديث الصحيح حجة في الدين - الشهادة وأثرها في إقامة الحدود - الذرائع سدّها وفتحها - مراعاة العرف - حكمة الإسلام في العزائم والرخص - موقف الإِسلام من الرؤيا وتأويلها - الكبيرة والصغيرة - الذوق وفي أي حال يُعتد به - النذر - المتعة - استحضار الأرواح - حكم الإسلام فيمن بلغته الدعوة - رسائل إخوان الصفا - العدوى والطيرة - الزكاة وأثرها في نهوض الأمة - الغيبة وأثرها في النفوس - صلاة الجماعة وأثرها في اتحاد الأمة - الدعوة القائمة على الحق - فساحة الصدر ونزاهة اللسان عن المكروه - مكافحة المظالم موجبة للسلام - ما يلاقيه العلماء من المكاره - ما يلاقيه العلماء من سماحة أهل العلم - ما يلاقيه العلماء من سماحة الأمراء - المال المباح في الإسلام - حقوق الزوجين - الطلاق في الإِسلام - تعدد الزوجات في الإسلام - النظافة في الإسلام - العلوم في دائرة الإيمان- الرفق بالضعفاء - الأدباء العلماء - زينة الإنسان حسن السمت- المنافقون في عهد النبوة والملاحدة بعده - ملاحظات على مقال مولد النبي. 11 - الرحلات: أثر الرحلة في الحياة العلمية والأدبية - النهضة للرحلة - الرحلة الجزائرية - خلاصة الرحلة الشرقية - حديث عن رحلتي إلى دمشق - رحلتي إلى سورية ولبنان.

12 - تراجم الرجال: نظرة في ناحية في خلافة عثمان - موسى بن نصير- علي زين العابدين - محمد الباقر وزيد - نظرة في حياة عمر بن عبد العزيز - نظرة في حياة الإمام مالك بن أنس - صقر قريش وكيف تأسست الدولة الأموية - أبو داود وكتابه "السنن" - صفحة من حياة أي الحسن الأشعري - القاضي أبو الحسن الجرجاني - حجة الإسلام الغزالي - أبو بكر بن العربي - أحمد تيمور باشا. 13 - السعادة العظمى: التقاريظ - الاعتصام بالشريعة - الأخذ بالقول الراجح - براءة القرآن من الشعر - العمل والبطالة - حياة الأمة - التربية - التقدم بالكتابة - مدنية الإسلام والعلوم العصرية - مدنية الإسلام والخطابة- كبر الهمة - التعاون والتعاضد - الديانة والتعاضد - الديانة والحرية المطلقة - البدعة - الزمان والتربية - الصيام - الأحاديث الموضوعة- تقسيم الكلام بحسب أغراضه - الإبداع في فنون الكلام - الفصيح من الكلام - طرق الترقي في الكتابة- الشعر العصري- الكلام الجامع - الأخلاق - أبو بكر بن العربي- أبو الوليد الباجي- منذر بن سعيد - تحقيق مسألة تاريخية - الرحلة الجزائرية - الأسئلة والأجوبة. 14 - أسرار التنزيل: تفسير الفاتحة - تفسير آيتين من سورة البقرة - تفسر آية من سورة آل عمران - تفسير آيات من سورة الحج - تفسير آيات الصيام - ثلاث آيات من سورة الأنفال - أربع آيات من سورة يونس - خمس آيات من سورة ص.

15 - الدعوة إلى الإصلاح: الدعوة إلى الإصلاح - أثر الدين في إصلاح المجتمع - أثر أدب اللغة في نجاح الدعوة إلى الإصلاح - حرية الدعوة دليل على رقي الأمة وعظمة الدولة - أصول الإصلاح الاجتماعي - من هو الواعظ بحق - الإسلام والعلم - التربية الدينية والشباب - التعليم الديني في مدارس الحكومة - العلماء وأولو الأمر - تعاون الدولة والأمة على انتظام الأمن - من هو الشاب المسلم - إلى شباب محمد - صلى الله عليه وسلم - مقاصد الإسلام في إصلاح العلم - نهوض الشباب بعظائم الأمور - جيل يؤمن بالأخلاق - مثل أعلى لشجاعة العلماء واستهانتهم بالموت في سبيل الحق - شجاعة العلماء وإنصاف الأمراء - محاربو الأديان ونموذج من سلاحهم - العلماء وحياتهم الاجتماعية - العناية بالتعليم المديني - مناهج الشرف. 16 - نقض كتاب "في الشعر الجاهلي": تمهيد: منهج البحث - مرآة الحياة الجاهلية في القرآن لا في الشعر الجاهلي - الشعر الجاهلي واللغة - الشعر الجاهلي واللهجات - أسباب انتحال الشعر: ليس الانتحال مقصوراً على العرب - السياسة وانتحال الشعر - الدين وانتحال الشعر - القصص وانتحال الشعر - الشعوبية وانتحال الشعر - الرواة وانتحال الشعر- الشعر والشعراء: قصص وتاريخ - امرؤ القيس - عبيد - علقمة- عمرو بن قميئة - مهلهل - جليلة - عمرو بن كلثوم - الحارث بن حلزة - طرفة بن العبد - المتلبس - نتيجة البحث. 17 - هدى ونور: الإسلام والفلسفة - الحكمة وأثرها في النفوس - الحكمة العربية - التعاون

في الإسلام - مكانة الأزهر وأثره في حفظ الدين ورقي الشرق - خواطر- الشورى في الإسلام - طرق الصوفية والإصلاح - رسائل إخوان الصفا - الحلة والتعارضي الإسلام - العمل للكمال - تعدد الزوجات في الإسلام - الجمعيات الإصلاحية- الخلافة الإسلامية - العرب والسياسة - أسباب سقوط الأندلس - الجزائر واستبداد فرنسا - الظهير البربري - طريق الشباب - للحقيقة والتاريخ - الأستاذ صالح الشريف - قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية. 18 - محاضرات إسلامية: الحرية في الإسلام - علماء الأندلس في الإسلام - السعادة عند بعض علماء الإسلام - التصوف في القديم والحديث - الدهاء في السياسة- الزينة والرفاهية في نظر الإسلام - هجرة الصحابة إلى الحبشة وأثرها في ظهور الإِسلام - الصداقة - مضار الإسراف - تعاون العقل والعاطفة على الخير- حقوق الفقراء على الأغنياء في الإِسلام - السمو الخلقي في الإسلام - المعتزلة وأهل السنة - اختلاط الجنسين في نظر الإسلام - نقد آراء للأستاذ فريد وجدي. 19 - القاديانية والبهائية: طائفة القاديانية: غلام أحمد - أصله وولادته ونشأته - ادعاء غلام أحمد الوحي والنبوة والرسالة - زعمه أن له آيات على صدقه - غروره وتفضيله نفسه على رسل الله الأكرمين - تكفيره لمن لا يؤمنون برسالته - القاديانية فرقتان- وجوب مقاومتهم والتحذير من دعايتهم - تفنيد مذهب القاديانية - خيبة مدعي النبوة كذباً - انقطاع النبوة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفع شبهة يتشبث بها

القاديانية - نقض شبهة القاديانية - البابية أو البهائية. 20 - الهداية الإسلامية: آداب الحرب في الإسلام - الروح العسكرية في الإسلام - الطب في نظر الإسلام - حقوق الزوجية في الإسلام - القضاء العادل - مكانة القضاء - صفات القاضي في الإِسلام - شريك قاضي الكوفة وموسى بن عيسى أميرها - أكُلُّ الجيش أسلفه؟ - السياسة الرشيدة في الإِسلام - الدين والفلسفة والمعجزات - حقوق الجار - السخاء وأثره في سيادة الأمة - الحلم وأثره في الحياة الفردية والاجتماعية - حالة الأمة في هذا العصر - اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى - خير نظام للحكم - سعيد بن جبير والحجاج - استعمال الألفاظ في غير مواضعها ومضاره الاجتماعية - فضل شهر رمضان - بحث موجز في أشهر الفرق الإسلامية - إصلاح المعاهد الدينية والدكتور طه حسين - الأدوية بين دسقوريدس وابن البيطار - كلمات وخواطر وآراء. 21 - تونس 67 عاماً تحت الاحتلال الفرنساوي (1881 - 1984): مذكرة كما أسماها المؤلف أصدرتها (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية) التي كان يرأسها، وكان الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي رئيسها الشرفي. 22 - خواطر الحياة. 23 - تعليقات على كتاب "الموافقات". * آثار أخرى: 24 - لماذا نحتفل بذكرى الهجرة النبوية؟ 25 - الرحلة الألمانية. 26 - نظرات في الإسلام وأصول الحكم.

* المصادر: - أحمد تيمور باشا: "أعلام الفكر الإِسلامي في العصر الحديث" - الطبعة الأولى - القاهرة 1967. - محمد الفاضل بن عاشور: "أركان النهضة الأدبية بتونس" - الطبعة الأولى - تونس (1961/ 1381). - عبد الوهاب سكر: "أعلام الإسلام"- نشر وتوزيع المكتبة العربية بحلب. - زين العابدين السنوسي: "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر" - جزآن - الطبعة الأولى - مطبعة العرب - تونس - (1927 - 1928). - أبو القاسم محمد كرو: "محمد الخضر الحسين، شيخ الأزهر الأسبق - دراسة - مختارات" - سلسلة أعلامنا (4) - الطبعة الأولى- 10/ 10/ 1973 - دار المغرب العربي - تونس. - جعفر ماجد: "الصحافة الأدبية في تونس" - الجامعة التونسية - 1979 (بالفرنسية) - (ص 30). - محمد مواعدة: "محمد الخضر حسين: حياته - آثاره" (1873 - 1958) - الدار التونسية للنشر - تونس 1974 - (342 ص).

* التقاويم: - أحمد توفيق المدني: "تقويم المنصور"، الكتاب الأول، المطبعة العربية - تونس - 1922. * المقالات: - الإذاعة (مجلة - تونس): عدد 1 - 5 - 1974. - الأزهر (مجلة - القاهرة): الشيخ محب الدين الخطيب - المجلد 29 - 25/ 2/ 1952 - (ص 736 - 744). - الأسبوع (جريدة - تونس): الطيب بن عيسى (من تلامذة الشيخ محمد الخضر وصاحب جريدة الوزير) - أعداد 3 و 10 نوفمبر و 8 ديسمبر 1952. - الثريا (مجلة - تونس): المجلد 3 - 1943 - 1944. - الثقافة (مجلة - الجزائر): الشيخ محب الدين الخطيب - مذكرات- عاما 1972 أو 1973. - الدعوة (جريدة - القاهرة): استجواب للشيخ محمد الخضر- عدد 30 صفر 1372 - 1952. - الشعب (جريدة - تونس): عام 1968.

- العالم الأدبي (مجلة - تونس): عدد 9/ 5/ 1932 - عدد 5/ 27/ 1932 (ص 152). - عالم الفكر (مجلة - الكويت): المجلد 1 عدد 3 - أكتوبر/ ديسمبر 1970 - (ص 194 - 196). - لواء الإسلام (مجلة - القاهرة): الشيخ أحمد حمزة - المجلد 11 - العدد 12 مارس 1958 - (ص 743/ 744) - المجلد 11 العدد 11 - فيفري 1958 - (ص 675). - مجلة مجمع اللغة العربية (دمشق): المجلد الأول - (ص 12). - المشير (جريدة - تونس): الطيب بن عيسى - أعداد 17 فيفري، و 3 مارس، و 14 أفريل، و 19 ماي، و 6 أوت 1958. * ملفات: - مركز التوثيق القومي: ملف ب 2 - 81. - الأرشيف العام للحكومة التونسية.

الشيخ الإمام محمد الخضر حسين

الشيخ الإمام محمد الخضر حسين (1393/ 1377 - 1973/ 1958) بقلم محمد الأخضر عبد القادر السائحي (¬1) إن الشيخ محمد الخضر حسين يعتبر من المصلحين المجددين في القرن الرابع عشر للهجرة، وإن أهم ما يمتاز به هو أنه طبّق بصدقٍ شعاره: ولولا ارتياحي للنضال عن الهدى ... لفتشت عن واد أعيش به وحدي فمن يكون؟ ومن اهتم به؟ وما هي آثاره؟ أما من يكون؟ فهو العبقري، المصلح، الإمام، المجدد، الكاتب، المناضل، المحارب للجهل والتعصب والإلحاد والدجل والخنا والسفاح. هو المغربي الذي نال شرف الجلوس على قمة الهرم العلمي في مصر، فكرس الحقيقة الخالدة: "من جد وجد"، وبرهن على مدى الترابط الوثيق بين الشعوب العربية، ¬

_ (¬1) صحيفة "الشعب" الجزائرية - العدد 7854 (جمادى الثانية 1409 - جانفي كانون الثاني 1989).

وأوجب على العلماء والأدباء والمفكرين أن يكونوا الجسور الصحيحة التي تتجاوز بها الشعوب خنادق النظم، وأودية الحكام، ومستنقعات الجهل والدكتاتورية والرجعية. وزاد من مكانة مصر رفعةً وشأناً؛ إذ برهنت على أنها أم العروبة، فعلاً تخرج بأبنائها النجباء، وتفتح لهم صدرها كريمًا واسعاً حنونًا، بغض النظر عن الجهة التي نبتوا فيها. انظروا معي في هذا المقطع من قصيدة رائعة لأمير شعراء الجزائر الشيخ محمد العيد آل خليفة -رحمه الله-، بعنوان: (تهنئة الأزهر بشيخه الجديد) قالها سنة 1952 حينما أسندت رئاسة مشيخة الأزهر إلى الشيخ الإِمام محمد الخضر حسين -رحمه الله-: وحبا الأزهر الشريف رئيساً ... عبقرياً، ومصلحاً مسماحا وإمامًا مجدداً مغربياً ... رفع المغرب المهيض جناحا هنئ الأزهر الشريف بشيخٍ ... طاب أنساً به وزاد إنشراحا رأسَ الأزهرَ الشريف فخلنا ... سادنَ البيت أوتي المفتاحا وجلا الحق "بالهداية" حيناً ... فنفى عنه غيمه وأزاحا حارب الجهل والتعصب والإلحاد ... والدجل والخنا والسفاحا بيراع يفري المشاكل عضباً ... وحِجى يكشف الدُّجى لمَّاحا حاز آلُ الحسين (بالخضر) الحر ... مدى فخرهم وفازوا قداحا أورث الله منه "طولقة" العرق ... وأورى "بنفطة" المصباحا "تونس" تقبل التهاني نشوى ... وتهادي "الجزائر" الأفراحا

إنّ كلتا الأختين من خمرة البشرى ... تعاطت على الصفا أقداحا قد طوى سبعة وسبعين عاماً ... ناشراً نور علمه وضّاحا فالشيخ الخضر هو أحد الأئمة الذين نافحوا وجاهدوا عن الإسلام بالقلم والكلمة أكثر من نصف القرن الرابع عشر للهجرة، وطيلة النصف الأول من القرن العشرين، فهو صاحب مجلة "السعادة العظمى" التي صدر العدد الأول منها بتاريخ (16 محرم 1322 هـ سنة 1904) بتونس، وواصلت صدروها نصف شهرية إلى العدد 21؛ أي: قرابة عام. وهو عضو (المجمع العلمي العربي) بدمشق منذ سنة 1919، ومن أول أعضاء (مجمع اللغة العربية) بالقاهرة منذ تأسيسه سنة 1933، وصاحب مجلة "الهداية الإسلامية" التي أصدرتها بالقاهرة سنة (1347 هـ / 1929 م) جمعية (الهداية الإسلامية) لتكون الناطقة باسمها، ورئيس تحرير مجلة "نور الإسلام" (1349/ 1353 هـ الموافق لسنة 1930/ 1934 م) التي تحولت - فيما بعد - إلى مجلة "الأزهر"، ورئيس تحرير مجلة "لواء الإِسلام" 1954. وبكلمة مختصرة: إنه أول من تصدى للشيخ علي عبد الرازق صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم" بكتاب نقض فيه دعاويه سنة 1925. كما تصدى سنة 1926 للرد على الدكتور طه حسين بكتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، وهو الذي نقد اقتراح الأستاذ أحمد أمين الذي قدمه للمجتمع اللغوي بالقاهرة مطالباً (ببعض الإصلاح في متن اللغة)، ووقف كذلك في وجه الأستاذ فريد أبي حديد في مسألة (موقف اللغة العامية من اللغة العربية الفصحى).

هذه بعض المجالات التي جال فيها الشيخ محمد الخضر حسين وقال، سنزيدها تفصيلاً وتوضيحاً بعد أن نعرف أين نشأ؟ وأين نبت؟ وكيف تكون؟ يعود منشؤه إلى أسرة (العمري) بالزيبان، تلك الأسرة العريقة في العلم والدين والشرف، ينتمي أبناؤها إلى التصوف، كما ينتمون إلى النسب النبوي الشريف، وهو ما أعطى لشيوخها في عصرهم مكانة مرموقة بين معاصريهم، خاصة في موطنهم الأصلي مدينة "طولقة" أحد المراكز الثقافية الهامة في الناحية منذ قرون. في أواخر القرن الثالث عشر للهجرة (منتصف القرن التاسع عشر للميلاد) رحل السيد الحسين بن علي بن عمر الشريف عن مدينة "طولقة" بأسرته صحبة صهره الشيخ مصطفى بن عزوز جد محمد الخضر للأم، ووالد العلامة الشيخ المكي بن عزوز، وذلك بعد اكتساح قوات الاستعمار الفرنسي للمنطقة متجهين إلى مدينة "نفطة" حيث استقر بهم المقام في هذه الواحة الجميلة من واحات الجنوب الغربي التونسي. في "نفطة" كان ميلاد محمد الخضر بن الحسين يوم (26 رجب 1293 هـ الموافق ليوم 21 جويلية سنة 1873 م)، فهو جزائري قح، سواء من طريق أبيه، أو من طريق أمه. ثم انتقلت أسرة الحسين مرة أخرى إلى تونس العاصمة، عام (1306 هـ / 1888 م) , وسن محمد الخضر حينئذ ثلاث عشرة سنة، فأتم تعليمه الابتدائي، وحفظ القرآن الكريم، والتحق بجامع الزيتونة في العام الدراسي (1307 هـ / 1889 م)، فواصل العلوم المقررة يومئذ علوماً دينية ولغوية، ولكنه تتلمذ على عدد من الشيوخ البارزين الذين كان لهم في نفسه

أثر محمود يذكرهم بالثناء والتقدير إلى آخر حياته، ولعل أهم هؤلاء الشيوخ هم: سالم بوحاجب (ت: 1923) وعمر بن الشيخ (ت: 1191) ومحمد النجار (ت: 1913)، وفي عام (1316 هـ / 1899 م) نال شهادة التطويع، وهي شهادة سميت بهذا الاسم؛ لأنها تتيح لحاملها أن يتطوع بالقاء الدروس في الزيتونة نفسها. أصدر مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة ظهرت في المغرب العربي، وأغلقتها سلطات الاستعمار الفرنسي، ثم تولى القضاء في مدينة "بنزرت" عام 1906 م، ولم يرقه ميدان القضاء؛ إذ حال بينه وبين الدعوة للإصلاح والجهاد، فتركه إلى التدريس في جامع الزيتونة أستاذاً للعلوم الدينية والعربية. كما تولى التدريس في مدرسة (الصادقية) بتونس. حكم عليه بالإعدام لاشتغاله بالسياسة، ودعوته إلى النضال والتحرر، فهاجر إلى دمشق، وأقام بها مدة تولى في مطلعها التدريس في (المدرسة السلطانية)، واعتقله جمال باشا فترة من الزمن رحل بعدها إلى "الآستانة" وإلى ألمانيا. ثم عاد إلى دمشق، فلاحقته سلطات الاحتلال الفرنسي، فرحل إلى مصر لاجئاً سياسياً عام 1920، والتقى بكبار علمائها ورجالها، وآثره أحمد تيمور باشا -رحمه الله- بصداقته. قام بتأسيس (جمعية الهداية الإسلامية)، وأصدر مجلة تحمل نفس الاسم، واشترك في تأسيس (جمعية الشبان المسلمين)، وانضم إلى علماء الأزهر مدرساً للفقه في كلية أصول الدين، ثم أستاذاً في التخصص، واختير عضواً في جامعة كبار العلماء بعد أن قدم رسالته العلمية "القياس في اللغة العربية".

ترأس جمعية (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية)، ثم عين - بعد قيام الثورة المصرية سنة 1952 - إماماً لمشيخة الأزهر. توفي يوم (12 رجب عام 1377 هـ الموافق للثاني من فيفري سنة 1958 ميلادية)، ودفن بوصية منه في المقبرة التيمورية القاهرية إلى جانب صديقه أحمد تيمور باشا -رحمهما الله-. أما من اهتم به، فلست أدري هل أستطيع حصرهم؟ ولكني سأذكر ما استطعت منهم على سبيل المثل لا الحصر كما يقولون: 1 - الأستاذ محمد علي النجار الذي علق على ديوانه "خواطر الحياة" في طبعته الثانية سنة (1373 هـ / 1953 م). 2 - الأستاذ أنور الجندي الذي خصه بترجمة في كتابه "الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا"، الصادر عن الدار القومية للطباعة والنشر بالقاهرة سنة 1385 هـ من صفحة (173 حتى 176). 3 - الأستاذ أبو القاسم محمد كرو في الكتاب الرابع من سلسلة "أعلامنا" الصادر عن دار المغرب العربي بتونس سنة 1975 بعنوان: "محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر الأسبق"، دراسات ومختارات صدرها ببيت من شعر الشيخ الخضر يقول: ولولا ارتياحي للنضال عن الهدى ... لفتشت عن وادٍ أعيش به وحدي يحتوي هذا الكتاب على 110 صفحة رتبه صاحبه على مقدمة وقسمين: الأول: خصصه لحياته وأعماله، والثاني: قدم فيه نصوصاً مختارة. 4 - الأستاذ محمد مواعدة الذي أعد بحثاً هاماً يعتبر لحد الآن أوفى البحوث عن شخصية الإمام محمد الخضر حسين في كتابه "محمد الخضر

حسين، حياته وآثاره" صدر عن الدار التونسية للنشر سنة 1974. يحتوي هذا الكتاب على 363 صفحة، تقديم للأستاذ المنجي الشملي بصفته المشرف على هذا البحث في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة التونسية، ومقدمة، وثلاثة أقسام. في القسم الأول: 1 - حياته بالبلاد التونسية. 2 - حياته بالبلاد السورية. 3 - حياته في مصر. وفي القسم الثاني الخاص بآثاره ثلاثة أبواب أيضاً هي: 1 - مقالاته ومحاضراته. 2 - مؤلفاته. 3 - شعره. وفي القسم الثالث تحدث عن شخصيته الثقافية: الرجل: العالم - الأديب - اللغوي - المصلح - السياسي. وخاتمة، ثم ملحق، أورد فيه بعد التمهيد النصوص التالية: الرحلة الجزائرية - خلاصة الرحلة الشرقية - حديث عن رحلتي إلى دمشق. ونظراً لأهمية هذا العمل، فإني سأقتبس كثيراً من فقراته، خاصة في التمهيد لكل قسم، مستسمحاً من المؤلف أولاً، ومنك أيها القارئ الكريم: يقول الأستاذ محمد مواعدة في تمهيد القسم الأول: "إن حياة الشيخ محمد الخضر حسين هي حياة رجل كرسها صاحبها في طلب العلم والتعمق فيه أولاً، ثم في تعليمه ونشره والسعي لرفع راية

الإسلام وتوحيد كلمة المسلمين ثانياً. فلم تكن حياة رجل عادي متشابهة في أيامها وسنواتها، بل كانت مليئة بالأحداث اللينة أحياناً، والصعبة أحياناً أخرى، ذلك لأن صاحبنا كان كثير التنقل، محباً للترحال والتعرف، واسع الطموح، زد على ذلك: ما صادفه من أحداث وظروف وطنية وعالمية لم تمر عليه كما مرت على كثير من الناس، ولم يتقبلها كما تقبلها كثير غيره، بل حاول أن يعيش ويتفاعل معها، ويساهم في تكييفها بقسط هو قسط العالم الذي يعتمد أسلوب التوجيه والإشارة والتنبيه حيناً، أو هو قسط الرجل السياسي الذي يعتمد أسلوب الحركة والعمل حيناً آخر. وقد حاولت التعرف على أهم عناصر حياة الشيخ محمد الخضر حسين، وما مرت بها من مراحل مختلفة، والتوصل إلى أهم جوانبها، حتى نفهم شخصيته الثقافية، وما قامت به من أعمال لفائدة الدين والأدب والسياسة. ويمكن تقسيم حياة الشيخ محمد الخضر حسين إلى ثلاثة مراحل: 1 - المرحلة الأولى: حياته بالبلاد التونسية: وتخص هذه المرحلة سنوات حياته التي قضاها في تونس منذ ولادته وطفولته إلى تعلمه، وهي فترة يمكن تسميتها بفترة (التعلم والتكوين)، وتمتد من سنة 1873 م سنة ولادته إلى سنة 1912، وهي السنة التي غادر فيها البلاد التونسية نهائياً إلى المشرق. 2 - المرحلة الثانية: حياته بالبلاد السورية: وتخص هذه المرحلة كامل الفترة التي قضاها من حياته بدمشق، وانتقل أثناءها إلى الآستانة و"برلين"، وتمتد من سنة 1912 إلى 1920، وهي السنة

التي غادر فيها سورية للاستقرار في البلاد المصرية. ويمكن أن تسمى هذه المرحلة بمرحلة (التنقل والترحال). 3 - المرحلة الثالثة: حياته بالبلاد المصرية: وتشمل سنوات حياته التي قضاها في مصر، واستقر بها نهائياً، وتمتد من سنة 1920 إلى وفاته سنة 1958. ويمكن أن تسمى بمرحلة (المجد الثقافي)؛ لأنها الفترة التي أظهر فيها قيمته الثقافية، وبرزت فيها مكانته، وتقلد أثناءها مناصب علمية عالية، أكدت غزارة علمه، وعمق شخصيته. وتجدر الإشارة إلى أن هذا التقسيم الذي اعتمد الإطار التاريخي والجغرافي، قد اتبعه كل الذين كتبوا عن حياة الشيخ محمد الخضر حسين، (وخاصة منهم: الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، والأستاذ أبو القاسم محمد كرو). كما درج عليه هو نفسه عند حديثه عن أطوار حياته بمناسبة حفل التكريم الذي أقامه له أحد تلاميذه الدكتور عبد الوهاب المالكي عند زيارته دمشق سنة 1937، ويعتبر هذا التقسيم عملاً تنظيميًا يساعدنا فقط على فهم مراحل حياة الرجل وتدرجها. ذلك لأن حياة الإنسان حلقات متواصلة ومتداخلة في نفس الوقت من الصعب تقسيمها ومعرفة حدود كل مرحلة من مراحلها المتعاقبة. ثم يقول الأستاذ محمد مواعدة في تمهيد القسم الثاني: "قضى الشيخ محمد الخضر حسين حياته في التعلم والتثقف أولاً، ثم في التعليم وتوجيه المجتمع الإِسلامي ثانياً، متخذاً في ذلك كتابة المقالة، والقاء المحاضرة طريقة للتبليغ، فأشرف على تحرير مجلات عديدة هي: "السعادة العظمى"، و"الهداية الإسلامية"، و"نور الإسلام"، و"لواء

الإسلام" وكان يكتب البحوث والمقالات العلمية والأدبية، كما كان يكتب أيضاً في عدد من المجلات الأخرى مثل: "المنار" ومجلتي "البدر" و"الفجر" التونسيتين، ومجلة "الفتح" التي كان يشرف عليها صديقه الشيخ محب الدين الخطيب، صاحب المطبعة السلفية بالقاهرة. وقد كان الرجل كثير القراءة والمطالعة، كما كان كثير الكتابة، مسألة صحفي مصري بعد أن أصبح شيخاً للأزهر (مجلة المصور عدد الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر سنة 1952): هل تهوى الكتابة؟ فأجابه: وهل هناك من يجيد القراءة ولا يكتب؟! ويكفي أن نذكر أن آخر مقال صدر له بمجلة "لواء الإسلام" كان في عدد فيفري سنة 1958، وهو الشهر الذي وافته فيه المنية. ولذلك تتمثل أغلب آثاره في المحاضرات المنشورة، والمقالات والبحوث التي صدرت في مجلات مختلفة، ويبدو أنه كان يقوم بذلك عن قصد؛ لأن الغرض الذي كان يهدف إليه من الكتابة هو توضيح تعاليم الدين الإسلامي. وتوجيه المسلمين وإرشادهم، والدفاع عن الإسلام لحمايته من تهم الملحدين والزنادقة. ويقضي ذلك اتباع الوسائل الكثيرة الانتشار حتى تعم الفائدة عدداً كبيراً من القراء، ولا أجدى من استعمال المجلات والصحف لتحقيق هذا الغرض. وهذا ما جعل الرجل لا يؤلف الكتب إلا عند نقض كتابي "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، و"في الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين، مع ملاحظة أن أسلوب هذا الرد لا يختلف كثيراً عن أسلوب البحث القصير أو المقالة. وكان الشيخ محمد الخضر - بالإضافة إلى ذلك - شاعراً، وقد جمع

قسمًا من قصائده في ديوان "خواطر الحياة"، أما القسم الآخر، فلم يزل موزعاً في المجلات والصحف ينتظر الجمع والتبويب والنشر. ويتبين مما تقدم: أن بحث آثار هذا العلامة، وتبويبها، وتحليلها العلمي الدقيق يتطلب دراسة مستقلة؛ نظراً لكثرة هذه الآثار وتشعبها، وتعدد مواضيعها. لكن ذلك لا يمنعنا من تقديم أهمها في هذا القسم من الدراسة والتعريف الموجز بمحتواها وقيمتها؛ حتى نستخلص أبرز أفكار الرجل ونظرياته في القسم الثالث من البحث، ويمكن تبويب هذه الآثار إلى ثلاثة أنواع: 1 - الباب الأول: ويحوي المحاضرات المنشورة والمقالات المجموعة في كتب. 2 - الباب الثاني: ويشمل ما ألفه الرجل من كتب في اللغة والأدب، وخاصة كتابيه في "النقض". 3 - الباب الثالث: ويخص آثاره الشعرية. كما يقول الأستاذ محمد مواعدة في تمهيده للقسم الثالث بشخصيته الثقافة: "تعرضنا في القسم الأول من هذا البحث إلى حياة الشيخ محمد الخضر حسين، والأطوار التي مر بها، والظروف التي أحاطت بتربيته وتكوينه، ثم بنشاطه العلمي والسياسي، سواء بالبلاد التونسية، أو بالمشرق العربي، وتبين لنا من خلال ذلك أن الرجل محب للمعرفة، طالب لها، ومهتم بإصلاح المجتمع الإسلامي، ساع إليه في كل المناسبات والأحوال. ثم تحدثنا في القسم الثاني عن آثاره، فحللناها بإيجاز، وعرفنا بأبرز محتوياتها، فتبين لنا من ذلك غزارة علم الرجل، وسعة معارفه، وسمو ثقافته

في ميادين الدين والأدب واللغة والسياسة، وحدَّه مواقفه في الدفاع عن الإسلام، ونقض ما يوجه إليه وإلى رجاله من (تهم) و (أباطيل)، أو ما يمس -في رأيه- القرآن الكريم والحديث الشريف من تحريف وسوء تأويل، أو مبالغة في الشرح والتفسير. أهم ما يمكن استنتاجه من التعرف عن مراحل حياة الشيخ وآثاره: أن هناك انسجامًا وترابطًا متينًا بينهما، فكانت مؤلفاته النثرية والشعرية صورة صادقة لما كان يؤمن به من أفكار، ويعتقده من آراء في حياته. وهذا ما يجعل الرجل شخصية ثقافية متميزة لها عناصرها الأصيلة، ومضمونها الجلي، ومركباتها البارزة. وأهم هذه العناصر هي في نظرنا: - محمد الخضر حسين العالم في شؤون الدين. - محمد الخضر حسين الأديب. - محمد الخضر حسين المصلح. - محمد الخضر حسين السياسي. أما عن الملحق، فإنه يمهد له بما يلي: "اهتم الشيخ محمد الخضر حسين بميدان الرحلات منذ شبابه؛ كما بينا ذلك في القسم الأول من هذا البحث، وقد كان هذا الاهتمام ناتجاً عن شعوره بفائدة الرحلات، سواء بالنسبة إلى القائم بها من حيث تكوين شخصيته الثقافية والعلمية، وتوسيع مداركه وخبراته، أو بالنسبة إلى المجتمع الإسلامي من حيث النشاط الذي يقوم به الرحالة في المناطق التي يزورها به. لقاء المسامرات العلمية، والخطب التوجيهية، والمحاورات الأدبية. وقد قام هذا الرجل بعدة رحلات في حياته، زار خلالها البلاد الجزائرية،

وبلدان المشرق العربي، وبلدان أوربية مختلفة. ثم كتب مقالات وصفية عن بعض هذه الرحلات نشرها في المجلات والصحف. وقد بقيت هذه الرحلات موزعة مما يحمل الباحث جهداً كبيراً عند الرجوع إليها لدراساتها، أو الاستفادة بمحتواها. ولذلك قمنا بجمعها، والتعليق عليها حتى نساهم في تقريبها من المثقفين عامة، والدارسين خاصة. كما نمكن القارئ من الاطلاع على آراء الرجل وأفكاره بالاعتماد على نصوص من تحريره، بالإضافة إلى ما أوردناه في شأنه في هذه الدراسة. وتجدر الإشارة إلى أن الشيخ محمد الخضر حسين قد كتب مقالاً وصفياً عن رحلته إلى ألمانيا صدر بجريدة "البلاغ" البيروتية سنة 1918، وقد حاولنا الحصول على هذا النص لنشره في هذا الملحق، إلا أننا لم نتمكن من ذلك. أما النصوص التي قمنا بجمعها والتعليق عليها، فهي: 1 - "الرحلة الجزائرية" التي نشرت في مجلة "السعادة العظمى" عدد 19 وعدد 20 و 21. 2 - "خلاصه الرحلة الشرقية" التي نشرت في جريدة "الزهرة" (مارس - أفريل سنة 1913). 3 - "حديث عن رحلتي إلى دمشق" الذي نشره بمجلة "الهداية الإسلامية". وقد اعترضتنا صعوبة كبيرة في التعريف ببعض الأعلام المذكورين في هذه الرحلات، وخاصة في "خلاصه الرحلة الشرقية"، وقد تمكنا من التعريف بالبعض منها، وبقي عدد آخر لم نتمكن من التعرف به".

29 - ملتقى الإمام محمد الخضر حسين في الجزائر

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (29) «مُلتَقَى الإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين في الجَزَائر» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة تزينت مدينة "بسكرة" عاصمة الزيبان في الجنوب الجزائري، وأسفرت عن وجهها الثقافي والإبداعي والمِضْياف خلالَ عيدها الفكري الرائع أيام 25 - 26 - 27 ديسمبر كانون الأول من عام 2007 م، واكتست أبهى حُللها وأجملَها عندما نظمت (الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية) ملتقىً ثقافياً تحت عنوان: (ملتقى الإمام العلامة محمد الخضر حسين الطولقي الجزائري). أعلنت ولاية "بسكرة" طَوال أيام العيد الثقافي الذي عاشته عن فرحها وسعادتها بهذا الحدث الهام، وامتلأت شوارعها بصور الشيخ الإمام، وانتشرت اللافتات التي غصّت بها أفحاء الولاية؛ لتعبر عن مكانته العلمية، والاعتزاز بانتمائه إلى مدينة "طولقة" التابعة لولاية "بسكرة"، وسطرت بالمداد الملون الزاهي على لوائحَ ضخمةٍ من القماش المتعدد الأشكال آيات الترحيب والمباهاة، وبعض المنتخب من أقواله؛ كما قام الرسامون ببذل جهد كبير في رسوم الإمام الزيتية المعلقة في أنحاء الولاية. وأمَّ المدينةَ من كافة إنحاء القطر الجزائري النخبةُ من رجال الفكر والتعليم الجامعي، ورجال الصحافة، وشاركت مؤسسات التلفزة والإذاعة، ووسائل الإعلام الأخرى في هذا الإطار الذي أحاط شخصيةَ هذا الإمام الجليل

بهالة من النور والطهارة والقدسية والاحترام. وهو -في واقع الحال- يستحق كل هذا، وأَكثرَ منه، وبما يليق ويتماشى مع رحلة حياته الإيمانية التي امتزج بها جهاد القلم مع جهاد النفس، وتنوعت فيها المواهب المتعددة التي اصطفاها الله -جلَّ جلاله- لهذا الإمام. أليس هو: العالم، والمناضل، والمفكر الإسلامي، والمفسر، والمحدِّث، والخطيب، والداعية، واللغوي، والقاضي النزيه، والمصلح، والشاعر، والرحالة، والصحفي، وإمام مشيخة الأزهر؟ صفات وضعها الله فيه، فأحسن الإمامُ لها، وأخلص. أتقنت (الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية) إظهارَ هذا الملتقى بوجه مشرق ومشرّف، وهيات له أسباب النجاح، فأعطى ثماره، وبذلَت الجهد المضني؛ ليكون صورة صادقة عن حياة الإمام. هذه الجمعية الخلدونية، ويرعاية رئيسها الأستاذ الأديب فوزي مصمودي، وإخوانه من الأعضاء المنتخبين العاملين بإخلاص ودأب لدينهم ووطنهم، وهي تنشط في ميدانها نشاطًا لم نلحظه في جامعة أو جامعات، أو مؤسسات ثقافية أخرى إذا قيست بإمكانياتها. وهي بعملها المجيد المبدع هذا لها التحية والتقدير، وإن أجرها الأوفى والأسمى عند الله -سبحانه وتعالى-، ولا يستطيع العبد أن يوفي حقَّ المحسن بالقلم واللسان. أما عن كرم الضيافة، وحسن الوفادة، والاستقبال الصادق مع الوجوه الباسمة، فلا يمكن التعبير عنها بالكلمة. والمَشاهِد التي صورها الملتقى لا يمكن أن يرسمها حرف على الورق، فهي في الذهن منقوشة، وفي القلب محفوظة، وأُكرر: إن اللسان والقلم يعجزان عن بثّ عبارات الشكر والامتنان.

بادر العديد من كبار أساتذة الجامعات الجزائرية -وما أشرفَ وأجلَّ أولئك الأساتذة بعد أن عرفتهم عن قرب- إلى الملتقى بمحاضراتهم القيمة التي دلت على سَعَة في المعرفة، ودقة في التحقيق، ورغبة صادقة في بيان سيرة الإمام الخضر، والتعريف بآثاره. - شارك من تونس: الأستاذ الفاضل، والمحبّ الوفي محمد مواعدة، الذي كان له الفضل الأسبق والأهم في إصدار أول كتاب ترجم وحقق في حياة الإمام وآثاره "محمد الخضر حسين حياته وآثاره". - وشارك من مصر: أحد المدرسين في الجامع الأزهر الدكتور مجاهد توفيق الجندي. - ومن دمشق: حضر وحاضر علي الرضا الحسيني ابن أخي الإمام محمد الخضر حسين. وفي هذا الملتقى الذي تمَّ تحت إشراف وزارة الثقافة الجزائرية، واهتمام وعناية والي ولاية "بسكرة" الأستاذ ساعد أقوجيل، الذي رافق الملتقى من ألفه إلى يائه، وأبدى من المؤانسة وحسن الاستقبال والحضور المستمر طوال أعمال الملتقى ما لم نشاهده عند كثير من رجال السلطة. أشرف على رئاسة الجلسة الافتتاحية: المؤرخ الجزائري الدكتور محمد عربي الزبيري، وكانت إدارة الجلسات موضع إعجاب وإكبار الحضور؛ لما تميز به الدكتور الزبيري من محبة رجال الفكر والثقافة له، واحترامهم، مع روح الدعابة الأدبية التي عُرفت عنه ضمن حدود الإدارة المنضبطة للجلسات. وحفظاً على ما تضمنه الملتقى من محاضرات وتعليقات ذات مستوى علمي وتاريخي رفيع، وما أنجز على هامش الملتقى من ندوات ومحاورات

في الإذاعة الجزائرية بمدينة "بسكرة"، وما نشره بعض السادة الكتّاب من المقالات في الصحافة، كان من المفيد للباحث أن تجمع هذه الأعمال في كتاب يحتوي بين دفتيه كل محاضرات الملتقى، وما رافقه من نشاط إذاعي وصحفي. وجرت أعمال الملتقى حسب البرنامج المخصص لها: أ - اليوم الأول للملتقى الثلاثاء في 25 ديسمبر كانون الأول 2007 م: - الافتتاح بالنشيد الوطني الجزائري. - كلمة السيد والي ولاية بسكرة. - كلمة فضيلة الأستاذ عبد القادر عثماني شيخ (زاوية علي بن عمر) في مدينة "طولقة". - كلمة فضيلة العلامة الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. - كلمة رئيس الجمعية بتكريم الباحث علي الرضا الحسيني. - كلمة الأستاذ الأخضر رحموني، وتضمنت: التعريف بالباحث علي الرضا الحسيني. - الاحتفال بتكريم الباحث علي الرضا الحسيني. - تحية شعرية لولاية "بسكرة" للباحث علي الرضا الحسيني. - كلمة موجزة للدكتور مجاهد توفيق الجندي من علماء الأزهر. ب - اليوم الثاني للملتقى الأربعاء في 26 ديسمبر كانون الأول 2007 م: - محاضرة الباحث علي الرضا الحسيني - من دمشق.

- محاضرة الدكتور كمال عجالي- أستاذ في جامعة "باتنة". - محاضرة للأستاذ محمد مواعدة - خبير لدى المنظمة العربية للتربية والثقافة - جامعة الدول العربية - من تونس. - محاضرة الدكتور مجاهد توفيق الجندي - من علماء الجامع الأزهر - من القاهرة. جـ - اليوم الثالث للملتقى الخميس في 27 ديسمبر كانون الأول 2007 م: - محاضرة الدكتور عمار الطالبي - أستاذ بجامعة الجزائر. - محاضرة الدكتور نجيب بن خيرة - أستاذ بجامعة الأمير عبد القادر - قسنطينة. - محاضرة الأستاذ محمد الهادي الحسني - أستاذ بجامعة الجزائر. - محاضرة الدكتور مولود عويمر - أستاذ بجامعة الجزائر. د - اليوم الرابع للملتقى الجمعة في 28 ديسمبر كانون الأول 2007 م: خصص هذا اليوم للقيام بجولة في ولاية "بسكرة": زيارة مقام الشيخ عبد الرحمن الأخضري، مقام الشيخ محمد بن عزوز في "برج ابن عزوز"، مقام الشيخ علي بن عمر في مدينة "طولقة" .. وأداء صلاة الجمعة في الزاوية. وأقام الشيخ عبد القادر عثماني شيخُ الزاوية حفل غداء لأكلة جزائرية شعبية مشهورة (الشكشوكة) في داره العامرة. وانتهت أعمال الملتقى، وودّع المشاركون بعضهم البعض بحرارة وشوق، وانصرف كل منهم إلى وجهته. والحمد لله.

* على هامش الملتقى: - ندوة في الإذاعة الجزائرية بمدينة "بسكرة"، شارك فيها الأساتذة: مجاهد توفيق الجندي، علي الرضا الحسيني، كمال عجّالي مساء 26/ 12 / 2007 م. - ندوة في الإذاعة الجزائرية بمدينة "بسكرة" شارك فيها الأساتذة: عمار الطالبي، محمد الهادي الحسني، نجيب بن خيرة، محمد مواعدة، مولود عويمر، مساء 27/ 12/ 2007 م. - برنامج (أعلام من الزيبان) للأستاذ عبد الحليم صيد - في الإذاعة الجزائرية ببسكرة مع علي الرضا الحسيني. - بعض عناوين الصحف الجزائرية حول الملتقى. - مقالة (ملتقى الإمام محمد الخضر حسين) للأستاذ محمد الهادي الحسني. - مقالة في ذكرى الخمسين لوفاة العلامة التونسي محمد الخضر حسين شيخ الأزهر السابق) للأستاذ محمد مواعدة. - مقالة (بسكرة عاصمة الثقافة باحتفالها بالإمام محمد الخضر حسين، إمام العالم الإسلامي وأستاذ الشيخ ابن باديس) للدكتور عمار الطالبي. - مقالة (ربيع في الشتاء) للأستاذ محمد الهادي الحسني. - مقالة (تذكرة - ملتقى الإمام العلامة محمد الخضر حسين) للدكتور محمد أيمن سمينة. إننا نسجل بأحرف من النور، وبكلمات من الذهب في سجل (الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية) مبادرتَها الوطنية الصادقة، وإخلاصَها لعظماء الأمة، ودعوتَها إلى تنظيم ملتقى خاص بالإمام العلامة محمد الخضر

حسين، وتقديمه بشكل رائع. وشكراً مجدداً لرئيسها الأستاذ فوزي مصمودي وإخوانه من أعضاء الجمعية الماجدة، ووفّق الله خطاهم في البحث والدراسة التي يعدونها للمستقبل -إن شاء الله- وهنيئاً للجزائر بهذه الجمعية، وهذه المؤسسة الجليلة القدر، العالية الهمة، الرفيعة المستوى. وقد لمست من أساتذة الجامعة، والمثقفين الذين اجتمعت بهم خلال الملتقى رغبةً شديدة ومُلِحَّة لتوفير الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين في المكتبات الجزائرية؛ لاقتنائها من الراغبين في الاطلاع والدراسة. وبرغم أني طبعتُ كل آثار الإمام، فالبشرى لهم أن الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين، قد باشرت إحدى دور النشر الهامة والكبرى في دمشق (دار النوادر) لصاحبها العالم الفاضل الشيخ نور الدين طالب بإعادة طبع كامل التراث في حلّة فاخرة، وسيطرح -إن شاء الله- في الأسواق للتداول. والحمد لله على ما هدى، والحمد لله على نعمة الإسلام. علي الرّضا الحسيني

حفل افتتاح الملتقى

حفل افتتاح الملتقى كلمة افتتاح الملتقى لوالي ولاية "بسكرة" الأستاذ ساعد أقوجيل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. السيد رئيس المجلس الشعبي الولائي - السادة أعضاء البرلمان بغرفتيه - السادة الإطارات المنتخبون والمحليون - السادة الأساتذة الأجلاء - السادة أعضاء الأسرة الإعلامية - ضيوفنا الكرام - أيها السيدات الفضليات -أيها السادة الأفاضل! السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. أود في البداية أن أرحب باسمي الشخصي، وباسم كافة سكان ولاية بسكرة ومواطنيها بالسادة الضيوف المشاركين في هذا الملتقى، وفي مقدمتهم: الأساتذة المحاضرون من داخل الوطن، وأخص بالذكر: الأساتذةَ المحاضرين من الدول العربية الشقيقة: تونس، مصر، سورية. متوجهاً لكل من حضر معنا اليوم بأصدق عبارات الشكر والتقدير على أن شرفوا عاصمة الزيبان بهذه الزيارة، والتي جاءت ونحن نعيش أجواء مناسبة عيد الأضحى المبارك، وأغتنم المناسبة لأتقدم من الجميع بأخلص التهاني، وأصدق التمنيات بمناسبة سنة 2008 م، راجياً المولى العلي القدير لكم

ولذويكم دوام الصحة والعافية، ولوطننا المزيد من الرقي والازدهار في كنف السلم والاستقرار. أيتها السيدات، أيها السادة! ها نحن أولاء نلتقي اليوم بمناسبة الطبعة السادسة من التظاهرة التي دأبت على تنظيمها الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية، والتي خُصصت لعَلَم من أعلامنا الأفاضل، وأحد أبناء عاصمة الزيبان البررة، ومنارة من منارات علمائها الطيبين، الذين انطلقوا من ديارهم سائرين على درب طلب العلم؛ لإنارة وتبديد ظلمات الجهل: فضيلةِ الإمام شيخ الأزهر الشريف العلامة محمد الخضر حسين- رحمه الله، وتغمد ثراه-. وبالمناسبة: أتقدم بالشكر الجزيل للأستاذ فوزي مصمودي - ومن خلاله كافة طاقم الجمعية الخلدونية - على المجهودات والمساعي التي تبذل من سنة لأخرى في سبيل ترسيخ الذاكرة التاريخية في أذهان أبنائنا، ونفض الغبار عن شخصيات خُلدت أسماؤها عبر التاريخ بأحرف من ذهب. أيها الحضور الكرام! إن الحديث عن سيرة الرجال العظام هي أقل ما يمكن تقديمه تقديراً وعرفاناً بما بذلوه خدمة لدينهم ووطنهم، ورفعة وسموّاً بأسمائهم، فإذا كانت مشيخة الأزهر مرتبة ليست بالهيّنة ولا اليسيرة، فإن شرف نَيْلها من طرف العلامة محمد الخضر حسين الطولقي، هي شرف للجزائر الوطن، ولبسكرة الأصل والمنبت على حد سواء. وفي ذلك شرف مضاعف له ولنا، وما ذلك إلا دليلٌ على مكانته العلمية والدينية. وفي مقام آخر: فإن الإمام كان صورة لوحدة الأمة التي أراد الله أن تكون

موحدة؛ إذ حمل عِلْم الجزائر بطولقة، ونال عِلْم الزيتونة بتونس، فاستحق مشيخة الأزهر بمصر. أيتها السيدات، أيها السادة! لا يسعني -في الأخير- إلا أن أرحب من جديد بالسادة الضيوف، وأشكر الجمعية مرة ثانية على هذه المبادرة، متمنياً لأشغال ملتقانا هذا كل التوفيق والنجاح، وللجميع الإقامة الطيبة. شكراً على كرم إصغائكم، وحسنِ انتباهكم، وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير والسلام. تحيا الجزائر. المجد والخلود للشهداء الأبرار، وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر. شكراً لكم.

كلمة رئيس الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية الأستاذ فوزي مصمودي

حفل افتتاح الملتقى كلمة رئيس الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية الأستاذ فوزي مصمودي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أيها الجمع الكريم! السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. السيد والي ولاية بسكرة. السيد رئيس المجلس الشعبي الولائي. السيد رئيس المجلس البلدي ببسكرة. السادة المنتخبون في المجلس الشعبي الوطني والولائي والبلدي. فضيلة الشيخ عبد القادر عثماني -حفظه الله-. السيد الدكتور محمد عربي الزبيري رئيس الجلسة. السادة المحاضرون، والضيوف الذين لبّوا دعوتنا، وقدموا من مصر الكنانة، وسورية الشام، وتونس الخضراء، ومن كل فج عميق من جزائرنا الحبيبة بلدِ المليون ونصف المليون شهيد. نقول لكم: حللتم أهلاً، ووطئتم سهلاً، في عاصمة الزيبان ولاية "بسكرة" مرقد الصحابة والتابعين، وعلى رأسهم: فاتحُ بلاد المغرب البطل عقبة بن نافع الفهري.

أهلاً بكم في بلدة العلم والعلماء، والمناضلين والشهداء، بلدة أحمد ابن نصر الداودي، أولِ شارح لـ"صحيح البخاري" في العالم الإسلامي، والمحدّثة أم الحياء البسكرية، والعلامة عبد الرحمن الأخضري، وسيدي خالد بن سنان العبسي، والشاعر محمد العيد آل خليفة، والصحفي القدير محمد سعيد الزاهري، والكاتب محمد الهادي السنوسي الزاهري، والمصلح الطيب العقبي، والشيخ عبد اللطيف سلطاني، والشيخ محمد بن عابد الجلّالي، والشاعر عاشور الخنقي، والأبطال: محمد العربي بن المهيدي، ومحمد شعباني، ومحمد خيضر، وزيان عاشور، وسي الحواس، وغيرهم من أبطال الجزائر، ووصولاً إلى العلامة الشيخ محمد الخضر حسين العثماني، الطولقي، البسكري، الجزائري. أيها السادة الأفاضل! ها هي ذي الجمعية الخلدونية في موعدها السنوي، وتقليدها القارّ: (ملتقى بسكرة عبر التاريخ)، الذي اخترناه في الملتقى الماضي، الذي خصصناه للفاتح عقبة بن نافع الفهري، أن لِكون محور هذه الطبعة خاصاً بالعلامة محمد الخضر حسين شيخِ الأزهر سابقاً، وصاحب التآليف الكثيرة، ومنشئ أول مجلة في تونس هي "السعادة العظمى" عام 1904 م، ورئيس تحرير مجلات: "الهداية الإسلامية"، و"نور الإسلام"، و"لواء الإسلام" بمصر، وممثل الدولة العثمانية بألمانيا، ورئيس لجنة تحرير بلاد المغرب وشمال إفريقية من الاحتلال، وأول عالم من خارج مصر يتبوأ منصب شيخ الأزهر الشريف، اخترناه ليكون المحور الرئيس في هذا الملتقى؛ ليتناوله نخبة من المؤرخين والباحثين: عالماً، ومصلحاً، وأديباً، وشاعراً، ولغوياً، وسياسياً، ومؤرخاً، وصحفياً،

وشيخًا للأزهر، فهو علامة موسوعي بكل جدارة واستحقاق. واسمحوا لي -سادتي- أن أتذكر فارساً من فوارس الجزائر، كان دائماً حاضراً معنا هنا في "بسكرة" في ملتقياتنا الماضية، ولكنه لحق بربه منذ أسابيع معدودة، ألا وهو المؤرخ الجزائري الدكتور يحيى بوعزيز -رحمة الله عليه- فتحية له. وقد قامت الخلدونية بتكريمه في الملتقى الثاني الخاص بالمقاومة الشعبية بمنطقة الزيبان، رفقة رفيقه الأستاذ والباحث والمحامي سليمان صيد -رحمة الله عليه- كذلك. ولا يفوتني -في الأخير- أن أشكر كلَّ من أسهم معنا من قريب أو من بعيد، ووقف إلى جانبنا في مواصلة تنظيم هذا الملتقى، وأخص بالذكر: معالي السيدة وزيرة الثقافة، ووزارة الشؤون الدينية والأوقاف، والسيد والي ولاية "بسكرة" الذي ما بخل علينا بشيء، وظل متابعاً ومشرفاً على هذا الملتقى. و-أيضاً-: بنك البركة، وبلدية بسكرة، ومديرية الثقافة، والمجلس الإسلامي الأعلى، والزاوية العثمانية بطولقة. وكذلك: المكتبة الوطنية بالحامة، والغرفة الجهوية للصناعات التقليدية والخزف، ومؤسسة التلفزة الوطنية، وإذاعة بسكرة الجهوية التي تنقل هذا الحفل على المباشر، فلها جزيل الشكر -أيضاً- وجريدتي: "الشروق" و"صوت الأحرار"، وكل الصحف الوطنية التي أسهمت وتفاعلت مع هذا الحدث. و-أيضاً-: الوكالة العقارية، ومؤسسة عموري ومناني. كما أتقدم بالشكر الجزيل إلى حضرة المؤرخ الدكتور محمد عربي الزبيري الذي كان معنا منذ البداية، وقد ذلل لنا الكثير من الصعاب؛ كما

ننوه بمجهودات ضابط جيش التحرير الوطني المجاهد ابن عاشور محمد، فتحية لهما. كما نرجو من الهيئات المعنية مستقبلاً اعتماد هذا الملتقى بصفة رسمية، وتخصيص الغلاف المالي، وخاصة وزارة الثقافة؛ لتمكيننا من مواصلة تنظيمه بصفة سنوية ومنتظمة مع طبع أعماله. وبالمناسبة: فقد قمنا بطبع كتاب الشيخ أحمد خمّار "تحفة الخليل في نبذة من تاريخ بسكرة النخيل"، وقد طبع برعاية وتدعيم السيد والي ولاية "بسكرة"، كما وعد هو شخصياً السيد المرحوم أحمد خمّار، و-أيضاً- أذكركم أن هناك معرضاً لمخطوطات أعلام الزيبان، و-أيضاً- هناك معرض علماء الزيبان، ومعرض لمؤلفات العلامة محمد الخضر حسين بدار الثقافة (أحمد رضا حوحو). مرة أخرى أشكر الجميع، ووفقنا الله لما فيه خير العباد والبلاد. تحيا الجزائر، والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

كلمة الشيخ عبد القادر عثماني شيخ زاوية (علي بن عمر)

حفل افتتاح الملتقى كلمة الشيخ عبد القادر عثماني شيخ زاوية (علي بن عمر) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ السلام عليكم أيها الجمع الكريم المبارك. في هذا اليوم المبارك، نلتقي فيه على ذكرى أمجادنا وعلمائنا، والذكرى -كما قال تعالى-: {تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، وإحياء الذكريات هو إحياء للقلوب، وإحياء للقيم، صاحياء لمجد الوطن ولأمجاده، وإحياء للعلم الذي هو بضاعتكم -أيها الشيوخ- وهو شعاركم وزادكم وزينتكم. نلتقي في هذا اليوم المبارك برعاية وعناية السيد والي الولاية، والسيد رئيس المجلس الشعبي الولائي، اللذين يوليان مثل هذه الملتقيات كل عناية واهتمام، وإعانة ورعاية، فجزاهما الله خيراً. وأشكر الجمعية الخلدونية التي نظمت هذا الملتقى، وعلى رأسها رئيسها الأستاذ فوزي مصمودي، وجماعته العاملة الناشطة؛ فقد قام بتنظيم هذا الملتقى بعزيمة صادقة، وصمود قوي. نسأل الله له ولجمعنا هذا دوام التوفيق والنجاح في كل حال وعمل. والسلام عليكم ورحمة الله.

كلمة الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

حفل افتتاح الملتقى كلمة الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (¬1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. السيد والي ولاية بسكرة -السيد رئيس المجلس الشعبي الولائي- حضرات السادة المنتخبين- أيها الإخوة الباحثون العاملون في هذا الميدان، ميدان تاريخ عظمائنا وأمجادنا! إنه ليسعدني أشد السعادة أن أحضر هذا الملتقى الذي يبحث في تاريخ الإمام محمد الخضر حسين، الذي جمع بين جوانب كثيرة في شخصه الواحد، فهو رجل قرآني، مؤرخ، صحفي، مفسّر، لغوي، جمع هذه الجوانب كلها، ودعا إلى الوحدة الإسلامية، وناضل في ذلك المجرى النهضوي التاريخي من جمال الدين الأفغاني إلى محمد عبده، إلى غيرهما من المصلحين الذين وهبوا حياتهم وعقولهم وأبدانهم -أيضاً- في سبيل النهضة الإسلامية، والنهضة العربية، والتحرر. وهو رجل سياسي، ورجل مصلح، جمع هذه الجوانب الغنية كلها، فهو نور، انطلقت نشأته من هذا الشمال الإفريقي إلى الشام، إلى مصر، وأشع ¬

_ (¬1) ألقاها نيابة عنه الدكتور عمار الطالبي نائب رئيس الجمعية.

على هذه المواطن كلها العلمَ والمعرفة، والصدق والكفاح؛ من أجل تحرر هذه الشعوب من رِبْقَة الاستعمار، فقد حُكم عليه بالإعدام، وسجن، ولكنه لم تلن له قناة، ولم يسترح له بال إلى أن أصبح شيخاً لأكبر جامعة إسلامية تاريخية في أرض الكنانة مصر. وفي هذه المواقف السياسية كلها -بما فيها هذا المنصب- الذي لم يكن ليرغب فيه، ولم يكن يطمح إليه، بل جاءت السلطة الثورية في مصر، ورغبت منه أن يتولى هذا المنصب؛ لما يعرفون عنه من صدق وإخلاص، وثبات وجهاد، ولكنه -أيضاً- لم يرض عن هذا المنصب، واستقال منه؛ لأنه لم يرض عن أشياء كان يرجو أن لا تكون كذلك. كما أنه تولى القضاء في "بنزرت" سنة وأربعة أشهر، ولكنه -أيضاً- رأى أن هذا المنصب لا يليق به، فاستقال منه، وحنَّ إلى موطنه الأصلي العلمي، وهو الزيتونة، التي أخذ يدرِّس بها. وأخذ يقوم بحركته الإصلاحية السياسية في البلاد التونسية؛ بإلقاء محاضرات، وإنشاء صحافة ومجلات، وكان يشارك في هذا النشاط الحي القوي في البلاد التونسية التي سبقت البلاد الأخرى في هذا الميدان، ونحن في الجزائر كنا نطبع الكتب في تونس، وأغلب المؤلفين في الجزائر يذهبون إلى تونس لطبع مؤلفاتهم، فكانت تونس، وكان جامع الزيتونة موئلاً للدارسين والباحثين، والطلبة الذين يهبون أنفسهم للدرس، لا من أجل تولي منصب؛ لأنهم إذا رجعوا للجزائر، فلا منصب لهم، ولا حظ لهم، وإنما يكافحون من أجل العربية، ومن أجل الإسلام؛ ليحافظوا على هذا التراث الذي أخذت السلطة الفرنسية -في ذلك الوقت- تطمس معالم هذا الدين، ومعالم هذه الثقافة، وأخذت العربية تندرس في هذه البلاد،

وأصبح الناس في ظلام حالك، لولا هذه النهضة التي قام بها هؤلاء، وأشعت أيضاً على الزيبان، فكان الطلبة في هذه المناطق: الزيبان الشرقية، والغربية يطالعون "العروة الوثقى" سراً، يتداولونها بينهم، ويتابعون هذه النهضة التي يقوم بها كبار المصلحين في المشرق الإسلامي، وفي مغربه، فكان هناك أنصار حركة محمد عبده في الزيبان، وكذلك في العاصمة الشيخ عبد الحليم بن سمّاية، ومحمد مضرَّبة، ومن إليهم. وكذلك هنا في هذه المنطقة ابن ناجي وغيره، كانوا يتابعون هذه الحركة، ويتدارسون أمرهم في هذه البلاد، فنهضت نهضة جديدة في الجزائر، وعلى رأسها الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- وأصحابه. وإني هنا أعتذر لكم عن عدم حضور فضيلة الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الذي كلفني أن أعتذر لكم باسمه، وأن أنوبه في هذه الكلمة، التي أرجو أن تكون نافعة لشبابنا هذا: أن يتوجه إلى دراسة هذه الأمجاد -كما تفضل الشيخ عبد القادر- التي غفلنا عنها، وشبابنا لا يُعنى كثيراً بدراسة العظماء من رجالنا؛ فإن الأمة إذا نسيت رجالها وأبطالها وأمجادها، فقد نسيت تاريخها، ونسيت جذورها، فهذه الأعلام التي ناضلت من أجل حياتنا اليوم حياةِ الحرية التي نعيش فيها باستقلال وطننا، هذا كله بفضل هؤلاء، فلا بدّ أن نسجل حياتهم في قلوبنا قبل أن تُسجل في طروسنا وصحائفنا الورقية أو غير الورقية، فالشباب اليوم مدعو لأن يسلك هذا المسلك، وأن يدرس تراثه وأمجاده، وأن لا يكون عنها من الغافلين. وكذلك في هذا الجنوب الصحراوي، أنتم تعلمون الشيخ الطيب العقبي كيف بدأ في إنشاء جريدة "صدى الصحراء" في هذه المنطقة، ثم انتقل بعد

ذلك إلى الجزائر، وغيَّرها تغييراً، حوَّل أولئك المجرمين في العاصمة إلى أناس مصلحين، وغيَّر وجه الجزائر العاصمة من حيث العادات الاجتماعية والأمن الاجتماعي. وكذلك -كما لا يخفاكم- إخواننا الإباضيون: إن الشيخ بيوض، وقبله الشيخ اطفيش، وغير هؤلاء الأعلام. إخواننا الإباضية قاموا بنهضة، وحافظوا على اللغة العربية، وعلى الإسلام، ولم يكونوا من دعاة العرقية، ولا البربرية، وما إلى ذلك من نزعات ربما يدعو إليها بعض الناس، إنما حافظوا على هذه الثقافة التي عجنت العرب والبربر في بوتقة واحدة، فأصبحنا لا نستطيع أن نفرق أن هذا بربري أو عربي؛ لأن الدماء امتزجت، وامتزج التاريخ بهذه الأرض الطيبة، وتنازل الناس عن مصالحهم الشخصية. فنسال الله -سبحانه وتعالى- أن يتغمد برحمته شيخنا وإمامنا الشيخ محمد الخضر حسين، وأن يجزيه أحسن الجزاء؛ لما قدم لهذا الوطن، ولأوطان الإسلام كلها من خدمات، ومن علم وجهاد. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

كلمة رئيس الجمعية بتكريم الباحث علي الرضا الحسيني

حفل افتتاح الملتقى كلمة رئيس الجمعية بتكريم الباحث علي الرضا الحسيني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في هذا الملتقى -الذي خُصص لحياة ومسيرة العلامة الموسوعي محمد الخضر حسين الطولقي الجزائري- يسعد الجمعية الخلدونية أن تكرم واحداً من الذين أبلَوْا عناية فائقة وكبرى لجمع أعماله وأبحاثه ودراساته. هذا الشخص البحاثة قام بجمع جميع أعماله، وقام بطبعها في أكثر من أربعين أو خمسين كتاباً، وهي موجودة في المعرض هنا، الأعمال الكاملة للعلامة محمد الخضر حسين، ومحمد المكي بن عزوز البرجي من برج ابن عزوز، و -أيضاً- قام بجمع أعمال والده الشيخ زين العابدين، ألا وهو الأستاذ البحاثة علي الرضا الحسيني ابن أخي الشيخ محمد الخضر حسين. فليتفضل مشكوراً. ولكن هناك كلمة حول إنجازات هذا الباحث، يقدمها الأستاذ الأخضر رحموني عضو هيئة تحرير المجلة الخلدونية واللجنة العلمية، فليتفضل مشكوراً، ثم نعرض -إن شاء الله- على التكريم.

كلمة تكريم الباحث علي الرضا الحسيني للأستاذ الأخضر رحموني

حفل افتتاح الملتقى كلمة تكريم الباحث علي الرضا الحسيني للأستاذ الأخضر رحموني أيها الجمع الكريم! إن اجتماعنا في هذا الحفل البهيج الذي تُزيِّن صفوفه نخبةٌ من رجال العلم والثقافة، والجهاد والسياسة، والتي تستحق منا كل الشكر والعرفان، تسعى من خلاله الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية إلى تكريم الأستاذ الباحث علي الرضا الحسيني كعربون وفاء، واعتراف بفضائل الأستاذ في إحياء التراث المغاربي، وخاصة إعادة بعث لأعمال العلامة محمد الخضر حسين إلى النور. وبرغم مشقة السفر، والابتعاد عن الأهل والخلّان في سورية الشقيقة، فقد أبي إلا أن يكون حاضراً بيننا اليوم، ولبى إيجابياً دعوة الجمعية الخلدونية عندما علم أن ولاية "بسكرة"، ومن خلالها الجزائر ستحتفي بالعلامة محمد الخضر حسين، وقد خُصص له ملتقىً وطني يحمل اسمه. وليس هذا بالغريب عن رجل هو من ورثة الأنبياء؛ لأننا نكرم في شخصه صفة العالم الذي كرمه الله، وأوجب تكريمه وطاعته. إن الأمة العظيمة هي التي تقدر أبناءها الذين بذلوا من أجلها الغالي، من أجل عزتها وكرامتها وحريتها، والتعريف برجالاتها، وتخليد مآثرهم، والأمة الهلوك هي التي تقلل من شأن من عظَّم شأنها، ورفع راية مجدها عالياً،

وحافظ على مقومات شخصيتها. فبورك في كل من سعى إلى هذا التكريم، وخاصة أن الأستاذ علي الرضا الحسيني يستحق منا جميعاً كل التقدير والإجلال؛ فقد قضى سبعاً وثلاثين سنة في البحث والجمع والتحقيق، وطبع تراث عمه الإمام محمد الخضر حسين؛ حيث نشر أعماله الكاملة، ومنها: روائع مجلة "الهداية الإسلامية" التي عاش معها، وراجعها مدة خمسة وعشرين عاماً لقطف ثمارها. وكذا الأعمال الكاملة لوالده العلامة زين العابدين بن الحسين، وعمه اللغوي محمد المكي ابن الحسين، وخال والده النابغة محمد المكي بن عزّوز، والآخرين من السادة الفضلاء أهل التقوى والصلاح. فقد نشر الأستاذ علي الرضا الحسيني أكثر من ستين كتاباً بين تحقيق وبحث، وإنتاج وإبداع شعري؛ تقديراً لجهود هؤلاء المصابيح الأعلام، وإثراء للخزانة العربية. والغاية من هذا الجهد الكبير، لا يهدف منه الترويج لاسم العائلة، بل تقريب أعمال هذه النجوم الساطعة إلى القارئ، والتسهيل على الدارس، وحفظ الآثار في كتاب، بدلاً من ضياعها متناثرة في الصحف والمجلات الدورية. وكيف لا؟! والأستاذ علي الرضا الحسيني من أسرة خَدمت، وعُرفت بخدمة العلم ونشره، وبالزهد والتقوى، وينسب فرعها إلى الدوحة النبوية الشريفة، فجَدُّ والده من جانب الأب هو الشيخ علي بن عمر مؤسس زاوية (طولقة) العريقة، والتي تُعد من القلاع العلمية في الجزائر، التي حافظت على لغة القرآن الكريم منذ تأسيسها؛ عن طريق نشر العلم الصحيح، والتربية، ومساعدة الفقراء والمساكين، وتعليمهم بالمجان، ولا تزال تواصل رسالتها الاجتماعية إلى يوم الناس هذا تحت إشراف فضيلة الشيخ عبد القادر عثماني -حفظه الله-.

وجَدّ والده من جانب الأم هو الشيخ مصطفى بن عزوز، الذي رفض الاحتلال الفرنسي للجزائر، وأرشده شيخه علي بن عمر بالذهاب إلى تونس، وفعلًا هاجر إلى بلدة "نفطة" بالجريد، وأسس بها زاوية رحمانية كبرى، تحولت بمرور الزمن إلى ملجأ وملاذ لكل الفارين من الاستعمار الفرنسي، والمهاجرين الجزائريين طوال القرن التاسع عشر والعشرين. وقد أفرد الأستاذ علي الرضا الحسيني لكل من زاوية "طولقة"، وزاوية "نفطة" كتاباً قيماً. ووالده هو العلامة زين العابدين بن الحسين الذي ولد في تونس، وآثر مع كامل أسرته الفرار من الاستعمار الفرنسي، وكانت وجهتهم مدينة دمشق، عندما بدأت السلطات الفرنسية في ملاحقة أخيه الإمام محمد الخضر حسين، وحكمت عليه بالإعدام؛ لاشتغاله بالنضال الوطني، ودعوته المبكرة إلى تحرير أقطار المغرب العربي واستقلالها. فاحتضنت سورية هذه العائلة، كما احتضنت عائلات جزائرية أخرى لعبت دوراً عظيماً ومؤثراً في التاريخ الحديث لسورية، وقاومت الاستعمار، وحررت الشعوب، وحافظت على الإسلام والعروبة في وجه الأعداء، وما الشيخ طاهر الجزائري إلا نموذج. وفي سورية عمل الأستاذ زين العابدين في حقل التربية أربعين عاماً مدرساً للعلوم الإسلامية واللغوية في مختلف المدارس الرسمية، وكان يلقي الدروس الأسبوعية باستمرار طوال أيام حياته في مساجد دمشق، لا سيما في الجامع الأموي.

وفي دمشق ولد الأستاذ علي الرضا الحسيني في 17 نوفمبر 1932 م، وبها تلقى تعليمه. أما عمّ المحتفى به، فهو العلامة اللغوي محمد المكي بن الحسين، الذي عَدّه بعض الدارسين بأنه جاحظ عصره، وكتبُه العديدة تؤكد تضلعه في اللغة، وتعمقه في الدراسة، وقدرة فائقة على الإحاطة بالموضوع، وتتبع تفاصيله. أما عمّه الآخر، فهو شخصية هذا الملتقى الذي ستذكر فعالياته مجموعة من الأساتذة الجامعيين، نتعرف من خلالهم على محطات مهمة في حياته، ومسيرته العلمية والنضالية. وأكتفي هنا بتهنئة الجزائر التي رفَعَتْها إليه عند تقلده مشيخة الأزهر الشريف، وهي قصيدة بتوقيع أمير شعراء الجزائر الشيخ محمد العيد آل خليفة، نشرها في جريدة "البصائر" العدد 208 الصادر سنة 52، ومن قوله: هَنِّئِ الأزهرَ الشَّريفَ بشيخٍ ... طابَ أُنْساً به وزادَ انْشِراحا حازَ آلُ الحسينِ بالخِضْرِ الحرِّ ... مَدَى فَخْرهِمْ وفازوا قِداحا أورثَ الله منه طولقة العِرْ ... قَ وَأَوْرَى بِنفْطَةَ المِصْباحا تونسٌ تقبلُ التّهاني نَشْوَى ... وتُهادي الجزائرَ الأفراحا وخالُ والد الأستاذ علي الرضا الحسيني هو العلامة محمد المكّي بن عزّوز، أحدُ العلماء الكبار الذين طرقوا أبواب العلوم الشرعية واللغوية والأدبية، ولروحه الوطنية دعا الجزائريين إلى مقاطعة فرنسا اقتصادياً؛ مما دعا سلطات الاحتلال الفرنسي إلى مطاردته، فرحل إلى إستنبول؛ حيث عينه السلطان عبد الحميد مدرِّساً للحديث والتفسير في (دار الفنون)، وتوفي في

"الآستانة" تاركاً وراءه مجموعة من الكتب القيمة والرسائل. أفلا يحق للأستاذ علي الرضا الحسيني سليلِ هذه العائلة المباركة، أن يفتخر بنسبه، والانتماء إلى هذه الكوكبة من العلماء الذين أضاؤوا بأعمالهم طريق الهدى: ذاكَ عَمِّي (الخِضْرُ) و (الزَّيْنُ) أَبي ... والنَّدى (المكِّيُّ) بَحْرُ الأدبِ وجُدودي سِيَرٌ مَنْقوشةٌ ... في ذُرا المَجْدِ بماءِ الذَّهبِ وخَؤول يُنْسَبُ العزُّ لهم ... إنْ تَسَلْ أهلَ التُّقى والنَّسَبِ لِمَ لا أَمْضي على مِنْهاجِهمْ ... ورِضا الله قُصارى مَطْلبي وبرغم أن الأستاذ علي الرضا الحسيني مسكون بهاجس البحث، فإنه يمازج هذه الهواية المفضلة، مع مهنة المحاماة التي بدأ في ممارستها منذ 26 كتوبر 1965 م، وما زال حتى اليوم، إضافة إلى حبّه للأدب والشعر، فهو الشاعر الذي عانق في قصائده وجدانَ الفرد المسلم الذي ينبض قلبه بالاعتزاز والشعور العميق بالانتماء إلى هذه الأمة الماجدة، فعبَّر عن هموم الضعفاء في عصر العولمة، وانحطاطِ قيم حضارة الغرب. فجاء شعره أصيلاً في منطلقاته، غنياً في مضمونه، حيّاً متدفقاً بالعاطفة النبيلة الصادقة، متوهجاً بالثقة المطلقة بأن القصيدة وحدها التي تقودنا إلى المجد والسؤدد، خاصة في قصائده التي رفعها إلى أبنائه وأحفاده ووطنه الكبير. وكان لفلسطين النصيبُ الأوفر من قصائده. وقد أصدر من الدواوين الشعرية: "بثينة"، "زين"، "قلب شاعر"، "أنا شيد الطفولة"، "ورد وأشواك"، وغيرها.

ومن قصائده في الشوق إلى الوطن: وَطني نشَرْتُ على رباكَ حَياتي ... وغَرَزْتُ في قَلْبِ العِدا راياتي لا نَجْمَ يَعْلو فوقَ نجمِكَ عِزَّةً ... أوْ مَنْعَةً وعَراقةَ الهاماتِ وَطني أحِنُ له حُنوَّ أُمومةٍ ... وأُبوَّةٍ وصَبابِة النَّفَحاتِ فيكَ الحَلاوةُ والمَرارةُ تُشْتَهى ... والخيْرُ فيكَ بأطيبِ الثَّمَراتِ إنْ غِبْتُ عنكَ أَهيمُ طِفْلاً شارداً ... في غُرْبَتي وَترحُّلي وشَتاتي قَلَمي وشِعْري والفُؤادُ وخَاطرِي ... لكَ تَنْتمي بالحبِّ والصَّبَوات وعندما نتذكر تونس، يقتضي الواجب أن نشير إلى أن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، قد وشَّح صدرَ الأستاذ علي الرضا الحسيني بوسام الاستحقاق الثقافي؛ تقديراً للخدمات الثقافية التي قدمها لتونس، وخاصة اهتمامه الكبير بآثار عائلة الحسين. وإذا كان أستاذنا قد أهدى تونس ديوانه الموسوم "تونسيات"، فقد خصَّ ملحمةَ القرن العشرين الثورةَ الجزائرية الكبرى برواية تحمل عنوان: "الطريق إلى القمة"، تدور أحداثها حول ثورة أول نوفمبر. ومن الأعمال نتمنى أن تكلل أعماله الشعرية بديوان جديد يختار له من العناوين: "جزائريات". شكراً أستاذنا، ونتمنى لكم موفور الصحة والعافية لمواصلة المشوار الأدي والفكري، والمرابضة في خندق الكلمة المضيئة كدليل اعتراف للسلف، والإشارة إلى حمل المشعل الذي أناره علماؤنا في الماضي، فصنعوا به أقوى أمة لا تعرف الخلاف ولا الهوان في ظل الأخوة والوحدة، وشكراً للجميع. والسلام عليكم.

التكريم

حفل افتتاح الملتقى التكريم افتتح الأستاذ فوزي مصمودي رئيس الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية التكريمَ قائلاً: ومباشرة نشرع في تقديم بعض الهدايا لهذا البَحَّاثة الذي إن صح التعبير؛ اعترافاً بعلمه وثقافته وبكتبه، وما أخرجه لنا من نفائس ودرر خاصة بعائلته والعائلة الحسينية. وليتفضل السيد المكرَّم علي الرضا الحسيني. ونتشرف بالسيد والي ولاية "بسكرة" ليقدم له هاته الهدايا، وهي: - لوحة آيات قرآنية مذهبة. - (برنس) (¬1) أصلي من وبر الجمل من ولاية "بسكرة". - شهادة شرفية باسمكم جميعاً، وباسم جميع سكان عاصمة الزيبان "بسكرة" بدون استئناء، نقدمها لأستاذنا البحاثة علي الرضا الحسيني. - وسام منقوش على النحاس. ¬

_ (¬1) (البرنس): كل ثوب رأسه منه، ملتزق به .. وهو لباس تقليدي مشهور، وخاصة في المغرب العربي، والجمع (برانس).

تحية شعرية لعلي الرضا الحسيني بعد التكريم

حفل افتتاح الملتقى تحية شعرية لعلي الرضا الحسيني بعد التكريم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الحفل الكريم! والله! إني عاجز عن شكر هذه الولاية العظيمة المجاهدة المباركة. وقد أوحت لي عند مجيئي بالطائرة إلى هنا بعد ظهر اليوم أبيات، فلتتقبل مني هذه الولاية الكريمة هذه الأبيات البسيطة: تحية إلى بسكرة لسانُ الوَفا نادى بصَوتٍ مُجَلْجلِ ... بِسِكْرَةُ ميلادي وأَهْلي ومَنْزلي على بابِها يلقاكَ وَجْهُ بُطولةٍ ... وفي ساحِها آياتُ نَصْرٍ مُحَجَّلِ إذا نطقَتْ أحجارُها أوْقدَتْ لَظًى ... وكمْ جَحْفَلٍ أفْنَتْه في إِثْرِ جَحْفلِ وفي ثَوْرةِ التَحريرِ هبَّتْ طَليعةً ... تذيقُ العِدا قَهْراً بأَكْؤُسِ حَنْظلِ وفي السِّلم دارٌ لِلضيافَةِ والنَّدى ... تعانِقُ روّادَ التُّراثِ بمَحْفِلِ وحَقّاً غَدَتْ للفِكْر مَرْقًى ومُلْتقًى ... ومنبرَ إلهامٍ لأِعْذَبِ مَنْهَلِ بِسِكْرَةُ يا أُمَّ الكِرامِ تَحيَّةً ... وقُبْلةَ شُكْرٍ في جَبيِنكِ مِنْ (علي)

محاضرات الملتقى

محاضرات الملتقى ومضات من حياة العلامة محمد الخضر حسين الأستاذ علي الرضا الحسيني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحبه الغرّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها الحفل الكريم! ماذا أُحاضِرُ بينكم أو أَخْطُبُ ... في مُلْتقَى الأَفذاذِ أَمْرٌ يصعُبُ ومُحَمَّدُ الخِضْرُ الحُسَينُ شعارُهُ ... ذاكَ الإمامُ المَغْرِبيُّ الكَوْكَبُ عُذْرًا فقد يكبو الجوادُ بفارسٍ ... إِنَّ الحروفَ مِنْ المهَابةِ تَهْرُبُ يقف المرء أمام بحر لا ساحل له، ويتساءلُ مع فكره وقلمه من أين يسبرُ غوْرَه، ويغوص في أعماقه، ويستطلعُ مكنوناتِه؟؟ هل يُقدِّمُ الإمامَ محمدَ الخضر حسين مفكراً مغربياً إسلامياً؟ أَمْ مفسّراً؟ أم محدّثاً؟ أو وطنياً مكافحاً؟ أم داعية؟ أم خطيباً؟ أم محاضراً؟ أم قاضياً؟ أم مصلحاً؟ أم لغوياً؟ أم أديباً شاعراً؟ أم رحّالة؟ أم صحفياً؟ أم إماماً للأزهر؟

كل هذه الصفات كان من عمادها، وانتمى إليها، وعَمِل لها بإخلاص، فقد أودع الله -سبحانه وتعالى- فيه من المواهب المتعددة التي قلّما نجدها في عَلَم من أعلام الإسلام. في كلِّ أَصْقاعِ البلادِ مآثِرٌ ... تُنْبيكَ أنَّهُ شَمْسُها لا تَغْرُبُ أمضيتُ ما يزيد عن أربعين عاماً بين آثاره وآخرين من أعلام الأسرة وغيرهم بحثاً ونشراً. وإذ ألتفتُ اليومَ إلى الماضي وما فعلتُ، أجدني مقصَّراً فيما أنجزتُ، وفي كُلِّ حالٍ ومآل، أحمد الله -سبحانه وتعالى- على نعمائه، بما استطعتُ أن أُثري المكتبة الدينية الإسلامية بهذا التراث القيَّمِ. هذه وَمَضات من حياة الإمام تلمعُ كلمح البصر، وتظهرُ للعيان: في مدينة "طولقة" الطاهرة، وشقيقتها "البرج" المباركة، تفتحت عائلتان شريفتان، وتصاهرتا، وتفرعتا إلى شجرتين باسقتين، امتدت فروعهما في العالم الإسلامي، وضُرِبَتْ جذورُهما في أعماقِ التُّراب الجزائري المقدَّس، فأينعتا ثماراً طيّبة، منها: الإمام محمد الخضر حسين -رضوان الله عليه-. أبوهُ التّقي الزاهد الحسينُ ابن الولي الصالح علي بن عمر، وأمه السيدةُ الفاضلة حليمة السعدية بنتُ الولي الصالح مصطفى بن عزّوز ابن الولي الصالح محمد بن عروز. الجَدُّ والأبوانِ مَنْبَتُ "طولْقَةٍ" ... فترابُها مِسْكٌ شَميمٌ طَيِّبُ مَن كانَ في تُرْبِ الجزائرِ جَذْرُهُ ... فإلى المعالي والمفاخرِ يُنسَبُ

وهنيئاً للإمام بأصوله الجزائرية. * الانتقال إلى تونس: انتقل الشيخ مصطفى بن عزّوز من "طولقة" إلى مدينة "نفطة" في الجنوب التونسي سنة 1257 هـ - 1837 م لتأسيس زاوية علمية فيها، بناء على توجيه شيخه علي بن عمر، وتزوج الشيخ الحسين بابنة شيخه السيدةِ حليمةَ السعدية. وقامت الزاوية بتعليم القرآن والعلوم الشرعية، وأعمال الجهاد ضد المستعمر، كما تشهد بذلك الوثائق التاريخية. ولد الإمام في مدينة "نفطة" في 29 من رجب 1293 هـ، وعرفت بالكوفة الصغرى، لما اشتهر بها من العلماء والفقهاء، واكتسب شرفَ الانتساب إلى الدوحة النبوية الطاهرة من الجهتين: أبيه، وأمه: نالَ الوصولَ بآلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ ... شَرَفاً فما لي في صِفاتهِ أُطنِبُ بدأ في تعلّم القرآن وحِفْظِه في الخامسة من عمره، وتلقى العلوم الشرعية على أيدي كبار الشيوخ، وساهمت والدته في تربيته، كما يروي عن محفوظاتها في المعارف الإسلامية. في دَوْحَةِ التّقوى وفي أَظْلالِها ... يُسْقى منَ العِلْم الرّفيعِ وَيشْرَبُ انتقلت العائلة إلى مدينة تونس، ودخل الإمام الجامع الأعظم جامعَ الزيتونة في 4 من شهر رجب 1307 هـ، وحصل على شهادة التطويع يوم الأحد 14 صفر عام 1316 هـ، وأخذ عن كبار شيوخه؛ كالشيخ سالم بو حاجب، وعمر بن الشيخ، وأحمد بو خريص، وخالهِ الشيخ محمد المكي بن عزوز، والشيخ محمد بن يوسف، والطيب النيفر.

يا قلعةَ الإسلامِ يا زيتونةً ... وبِحِضْنِها شَمَخَ الإمامُ الأَنجبُ وفي سنة 1325 هـ تولى وظيفة التدريس فيه، وفي نفس العام عُيّنَ مدرساً في الصادقية لدرس الإنشاء. وعُيِّنَ عضواً في لجنة لتأليف كتابٍ شامل لتاريخ المملكة التونسية. وأجازه خاله العلامة محمد المكي بن عزوز بِخَطّه في دفتر التلامذة الخاص بالإمام، قال فيها: "وممن تأهل لها -أي: الإجازة- وكان أحق بها وأهلَها: ابننا الألمعيُّ الماجد، ذو الخلال الفاخرة والمحامد، الدرّاكةُ الشيخ أبو عبد الله سيدي محمد الخِضْر ابن الناسك الأوّاه، العارف بالله، الأستاذ الشيخ سيدي الحسين، الشريف العلوي العزّوزي، سارَ على الدَّربِ فَوصَلْ، ودَأب بحزم فأصبح والمقصودُ لديه حَصل، جانَبَ الكسَلَ، فاشْتار العَسَلْ، جافى الرّاحة، فملأ الرّاحة، بشهادة جهابذة الجامعِ، وحذّاقِ كِرامِ المجامع". تقلّد الإمام منصب القضاء في مدينة "بنزرت"، والخطابة والتدريس في الجامع الكبير في ربيع الثاني 1323 هـ، وأقام له الإمام محمد الطاهر بن عاشور في داره بالمرسى حفلاً مساء يوم 15 رييع الثاني، وألقى كلمة تدلُّ على سُموٍّ وصفاء الصداقة والأُخوةِ بينهما - رضي الله عنهما -، واستمر سنة وسبعة أشهر، وكان مِثالاً للقاضي النّزيهِ العادلِ: زانَ القضاءَ عَدالةً ونزَاهةً ... والعَدْلُ في كَفَّيهِ نَبْعٌ صَيِّبُ ولما أحسَّ أن عمله في القضاء هو أقلّ مما تسعى إليه هِمَّتُه، استقالَ، وعادَ للتَّدريس في جامع الزيتونة. وألقى محاضرته الشهيرة: (الحرية في الإسلام) يوم السبت في 17 ربيع

الثاني 1324 هـ، وهو القاضي بمدينة "بنزرت"، وهذه المحاضرة هي المجابهة الأولى بينه وبين المحتل الفرنسي. والحديث عن الحرية، والدعوة لها جهاراً - في أرض يتسلّط على رقاب أبنائها سيفُ الاستعمار الرهيب، وفي ظلِّ حكومة تَعَفَّر جبينُها تحت أقدام الغزاة إرضاءً لشهواته- لا يقل جرأة وأثراً عن مجابهة المحتلّ في ساحات القتال، ومقاومته بالحديد والنار. هذه المحاضرة دلّت على نزعته المبكرة إلى الحرية، وفهمه السليم لرسالة الإسلام؛ لذا نجد أن الإمام بعدها أصبح مطلوباً من المتسلّط المحتل، ومراقباً من عيونه وأعوانه. * الهجرة إلى الشام: هاجرت العائلة المكوَّنة من ثلاثة وثلاثين فرداً -بين شيوخ ونساء وأطفال- إلى دمشق؛ للاستقرار فيها، تتقدم الطليعةَ المهاجرةَ: السيدةُ حليمة السعدية بنتُ الشيخ مصطفى بن عزّوز والدةُ الإمام، وذلك عام 1913 م. وسبب الهجرة -حسب ما توصلت إليه-: أولاً: رغبة الإمام في الانتقال إلى الشرق، بعد أن ضاق عليه الخناق في تونس، وملاحقة السلطات الاستعمارية له، وحيث مجالُ عمله الإسلامي أوسعُ نطاقاً، وأفسح ميداناً، وسبب آخر هو: نظرة المغاربة إلى بلاد الشام، ويدعونها: (الشام الشريف). * إخوة الإمام: إخوة الإمام، وهم من الرجال: الشيخ محمد الجنيدي، وعاد إلى تونس، ثم الجزائر، وهو دفين مدينة "طولقة".

والشيخ محمد العروسي، وتوفي بدمشق، وابنته متزوجة من المرحوم قدور خمّار من بسكرة، ومقيمة حتى اليوم في الجزائر، وقد قاربت المئة عام -حفظها الله-. والعلّامة اللغوي المعروف محمد المكي بن الحسين، عاد إلى تونس، ودفن فيها. وسيدي الوالد زين العابدين بن الحسين، ودفن في دمشق، وكان عالماً ومؤلفًا، ولا أدلّ على شهرته ومكانته: أن وزارة التربية أطلقت اسمه على أكبر ثانوية في حي الميدان، ووزارة الأوقاف على مسجد حديث وكبير في حي الميدان -أيضاً- حيث سكناه. وهناك الشقيقات: زبيدة، وميمونة، وفاطمة الزهراء، ودُفِنَّ في دمشق. * الرحلات: قام الإمام برحلات علمية باعتبارها وسيلةً لترقية العلوم والآداب، وتهذيب النفوس، وإصلاح حال الاجتماع، وكتبَ عن الرحلات وأثرها في الحياة العلمية والأدبية: رَحّالةٌ كالبَدْرِ طافَ على الدُّنا ... بضيائهِ لا يَخْتفي أو يُحْجَبُ له: "الرحلة الجزائرية" نشرها في العددين الأول والثاني من مجلة "السعادة العظمى" سنة (1321 هـ - 1903 م)، وعاد لزيارتها 1322 هـ - 1904 م. وله: "خلاصة الرحلة الشرقية" سنة (1320 هـ - 1912 م) زار خلالها مالطة، والإسكندرية، والقاهر، ويافا، وحيفا، ودمشق، وييروت، وإستانبول، وعاد إلى تونس، ودامت قرابة خمسة أشهر. وفي عام 1913 م عاد والتحق

بالعائلة في دمشق؛ حيث المقر الثاني له بعد تونس، وزار سويسرا، وإيطاليا لأغراض سياسية. وهناك رحلته من دمشق إلى القاهرة، وهي المقر الثالث والأخير للإمام عام (1339 هـ -1920 م)، وهناك سطع نجمه، ويرز علمه، وفي كل المدن التي زارها في رحلاته المتعددة كان يلقي الدروس الدينية في مساجدها، والمحاضرات في نواديها في مختلف الفنون. * في معتقل جمال السفاح بدمشق: والسِّجْن للأحرارِ خيرُ شهادةٍ ... تُهدَى لأِمْثالِ الإمامِ وتُكْتَبُ من صفحات الجهاد الإسلامي التي نقرؤها في سجل حياة الإمام محمد الخضر حسين: اعتقاله في شهر رمضان (1334 هـ - 15 آب 1916 م)، وحتى 29 كانون الثاني 1917 م وجرت محاكمته أمام المجلس العرفي العسكري. وطلب المدعي العام من هيئة المحكمة إنزال عقوبة الإعدام بالإمام؛ بحجة أنه حضر مجلساً خاض فيه أحد المحامين في سياسة الدولة، وسعى إلى تأسيس جمعية تدعو إلى الانفصال عن الدولة العثمانية، والخروج عنها. ثم إن إدارة البوليس رأته مسؤولاً عن عدم إبلاغ الحكومة في حينه. ودام الاعتقال ستة أشهر، وأربعة عشر يوماً في (خان مردم بك) بدمشق، وهو مكان مخصّص لاعتقال رجال السياسة في عهد جمال باشا. ومن رفاقه في السجن: الرئيس شكري القوتلي، الذي شغل منصب رئيس الجمهورية السورية، وفارس الخوري رئيس وزرائها، وسعدي بك الملا الذي أصبح رئيساً للوزارة في لبنان. وحكم المجلس العرفي بالبراءة، وقرر المجلس طلب المكافاة للإمام

على ما أصابه، ولكن الإمام يقول: "لم أتشبث بهذا القرار، وقنعت بما ظهر للدولة والأمة من طهارة ذمتي، وعدم تسرُّعي إلى النفخ في لهب الفتنة على غير هدى". ومن شعره في السجن: جَرى سَمَرٌ يَوم اعْتُقِلْنا بفندُقٍ ... ضُحانا به لَيلٌ وسامِرُنا رَمْسُ فقالَ رفيقي في شَقا الحَبْس إنّ في الـ ... ـحضارَةِ أُنساً لا يُقاسُ به أُنْسُ فَقُلتُ له فَضلُ البداوةِ راجِحٌ ... وحَسبُكَ أنّ البدوَ لَيسَ بهِ حَبسُ ومن شعره في السجن -أيضاً-: غَلَّ ذا الحبسُ يَدي عَنْ قَلَمٍ ... كانَ لا يَصْحُو عَن الطِّرسِ فَناما أنا لوْلا هِمَّةٌ تحدو إلى ... خِدْمةِ الإسلام آثرْتُ الحِماما * جهاد الأمام في برلين: سلْ عنهُ "برلينَ" التّي عَجِبتْ لَهُ ... والشَّيْخُ في لَهبٍ يَجيءُ ويذْهَبُ تحت دويِّ القاذفات والمدمرات، وفي الأَتُّون المشتعل لهباً وسعيراً, في ذلك الجوّ المرعب الرهيب، وقف الرجل المؤمن الصابر، يدعو الجنود المغاربة الذين وقعوا أسرى الألمان إلى الثورة ضد فرنسا. زجَّ الاستعمار الفرنسي مئات الآلاف من أبناء شمال إفريقيا في حرب لا تعنيهم، وساقهم إلى مذابح الحرب، ودفع بهم إلى الخطوط الأولى من المعارك التي يخوضها مع ألمانيا، ووقع في الأسر عدد كبير من الجزائريين والتونسيين خاصة، فكان الإمام يتصل بهم ويؤانسهم، ويحرّضهم على القتال ضد فرنسا، وليس معها؛ لأن بلادهم تحتاج إليهم في هذا الموقف.

أقام في ألمانيا تسعة أشهر في عام 1917 م، ومرة ثانية مدة سبعة أشهر عام 1918 م مع رفقة من المجاهدين المغارية. شارك في نشاط (اللجنة التونسية الجزائرية) لتحرير بلاد المغرب، والدفاع عن قضاياها، وكتب المقالات في الصحف، وألقى المحاضرات. تعلّم اللغة الألمانية وأجادها، ودرس المجتمع الألماني، وعاداتِ الأمة وأخلاقَها، كما درس علوم الكيمياء والطبيعة على يد البروفسور الألماني (هاردر) أحدِ العلماء الألمان المستشرقين، وكتب: "مشاهد برلين". وأصدرت السلطات الفرنسية حكماً عليه بالإعدام غيابياً، لتحريض المغاربة على الثورة ضد المستعمر، كما صدر الأمر المؤرخ في 15 جوان 1917 م، والذي تضمن: "حُجزت بقصد بيعها أملاكُ الأخضر بن الحسين المدرس السابق في الجامع الأعظم الذي ثبت عصيانه"، ونشر الأمر في "الرائد التونسي" النسخة الفرنسية الصادرة في 20/ 6/ 1917 م. * في الميدان الصحفي: أصدر في تونس مجلة "السعادة العظمى" مجلة علمية أدبية إسلامية تصدر في غرّة كل شهر، وفي سادس عشرة. صدر العدد الأول في 16 محرم 1322 هـ حتى العدد 21 الصادر في غرّة ذي القعدة 1322 هـ، وللمجلة تاريخ حافل في ميدان الإصلاح. - وفي القاهرة أصدر مجلة "الهداية الإسلامية" عن "جمعية الهداية الإسلامية" التي يرأسها، وصدر العدد الأول في جمادى الثانية 1347 هـ على مدى ثلاثة وعشرين مجلداً. - ترأس تحرير مجلة "نور الإسلام" مجلة جامع الأزهر، وشعارها:

المجلة الدينية العلمية الأخلاقية التاريخية الحكمية. وهي المعروفة اليوم باسم مجلة "الأزهر"، وصدر العدد الأول في شهر (محرم 1349 هـ - جوان 1930 م)، واستمر في تحريرها حتى عام 1935 م. - ترأس تحرير مجلة "لواء الإسلام"، وصدر العدد الأول في أول رمضان (1366 هـ الموافق 19 يوليو 1947 م)، وحتى عام 1953 م، وانقطع عنها؛ لارتقائه مشيخة الأزهر. وكتب في العديد من الصحف والمجلات في العالمين العربي والإسلامي. وكَسا الصَّحافةَ وجْهَها (بسعادةٍ ... عُظمى) ففازَ معَ السِّباقِ المغربُ * الإمام اللغوي: من العلوم التي برع فيها الإمام محمد الخضر حسين، وصال فيها، وجال في ميادينها الواسعة: علومُ اللغة العربية وآدابها. أَحبَّ اللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن، وخدمها خدمة المؤمن الصادق. ومن أوائل المحاضرات اللغوية التي تحدثت عنها الأندية الأدبية: مسامرتُه حول "حياة اللغة العربية" التي ألقاها في الجمعية الصادقية بتونس في جمهور غفير من الأدباء، وأساتيذ اللغة العربية سنة 1327 هـ. وفي دمشق كان عضواً في (المجمع العلمي العربي) الذي عقد جلسته الأولى في 7/ 30/ 1919 م، وعيِّن الأمام عضواً عاملاً فيه طوال الفترة التي قضاها في سورية، ثم أصبح مراسلًا للمجمع عند انتقاله للسكنى نهائياً في القاهرة. والمَجْمَعانِ بمصرَ أو في جِلَّقٍ ... دارانِ فُصحى وهو بينَهُما الأبُ

والإمام من الأعضاء المؤسسين في (مجمع فؤاد الأول للغة العربية) بالقاهرة، والذي عرف فيما بعد بمجمع اللغة العربية، تأسس بمرسوم أصدره الملك فؤاد في (14 شعبان 1351 هـ - 13 كانون الأول 1932 م)، وصدر مرسوم بتعيين الإمام عضواً عاملاً فيه في 16 جمادى الثانية (1352 هـ - 6 تشرين الأول 1933 م)، وساهم الإمام بكل جهد في أعمال المجمع حتى آخر حياته المباركة، وترأس لجنة اللهجات، وشارك في لجان الآداب والفنون: "المعجم الوسيط"، "الأعلام الجغرافية"، "دراسة معجم المستشرق فيشر" المتعلق بالألفاظ القرآنية، وله العديد من البحوث المنشورة في مجلة "المجمع". وأصدرتُ له كتابين: "دراسات في العربية وتاريخها"، و"دراسات في اللغة". ولا بدَّ هنا من الإشارة إلى بحثه اللغوي القيِّم "القياس في اللغة العربية" الذي نال بموجبه عضوية هيئة كبار العلماء بالقاهرة. * معاركه الفكرية: قَلَمُ الإمامِ هِدايةٌ ومَعارِكٌ ... وعلى الغِوايةِ مِثْلُ نارٍ تُسْكَبُ خاض الإمام معارك الفكر مع عدد من أصحاب الأقلام المعروفة: - وفي المقدمة: طه حسين، الذي ردَّ عليه في كتابه "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، وردّ على بحثه "حقيقة ضمير الغائب في القرآن". - وردَّ على علي عبد الرازق في كتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، وعلى مقالاته "العظمة"، وعلى "ملاحظات على مقال مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -". - وردَّ على الشيخ محمود شلتوت حول "الهجرة وشخصيات الرسول".

- وردَّ على محمد خلف الله في مقاله "الفن القصصي في القرآن". - وردَّ على محمد أبو زيد الدمنهوري في كتابه "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن"، وعنوان بحث الإمام "كتاب يهذي في تأويل القرآن المجيد". - وله ردٌّ تحت عنوان: "كتاب يلحد في آيات الله" ردَّ فيه على كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" تأليف الطاهر حداد من تونس. - وردُّه "تحريف آيات الحدود عن مواضعها" على مقال عبد المتعال الصعيدي. - و"نقد اقتراح ببعض الإصلاح في متن اللغة" ردَّ به على أحمد أمين. - و"ملاحظات على البحث المقدم عن موقف اللغة العامية من اللغة العربية الفصحى، ردَّ على الأستاذ فريد أبو حديد. وله نقد آخر لآرائه. - و"حول تبسيط قواعد النحو والصرف والرد عليها" رد على اللجنة المؤلفة من طه: حسين، وأحمد أمين، وعلي الجارم، ومحمد أبي بكر إبراهيم في (مجمع اللغة العربية بالقاهرة). وله ردود أخرى على الشيخ رشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، وغيرهم. * جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية: أسس الإمام (جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية) سنة (1342 هـ، جوان 1924 م)، وسنَّ قانوناً لها، ويقول عنها: "تأسست هذه الجمعية لتنهض بجاليات إفريقيا الشمالية، حتى يسيروا مع إخوانهم المصريين جنباً إلى جنب، يسايرونهم في أفكارهم، في آدابهم، في معارفهم، في كل شأن من شؤون حياتهم الاجتماعية".

وقد ساهمت الجمعية في نشاط ثقافي، وشكلت لجنة تنشر آداب إفريقيا الشمالية، وكانت برئاسة الإمام، ومن أعضائها الجزائريين: الدكتور محمد عبد السلام العيادي، ومحمد الرزقي. * جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية: من الصفحات المشرقة والمشرّفة في سيرة الإمام: دعوته لتنظيم جاليات المغرب العيلي المقيمة في القاهرة في جبهة واحدة متراصة، غايتها: الدفاع عن شعوب شمال إفريقيا: تونس، والجزائر، والمغرب، وليبيا. نظر الإمام إلى حال دول شمال إفريقيا، وما آلت إليه الأمور على يد المستعمر من محاربة شرسة عنيفة للغة القرآن، ونشر ويلات الجهل والفقر، و (فَرْنسَة) المعاهد العلمية، والمؤسسات الحكومية، ونقل البلاد إلى الجنسية الفرنسية من عروبتها وإسلامها، وتحويل المساجد إلى ثكنات عسكرية. وكسرت فرنسا الأقلام الحرة، وكممّت الأفواه، ولم تعد الأذن تسمع إلا قرقعة السلاح، والدعوات إلى اعتناق الأفكار الأجنبية الخبيثة، وفي اعتقادهم أن هذا الأسلوب يقود المغرب إلى أن يصبح قطعة من فرنسا، ولم يعلموا أن القرآن حافظ للغة، وأن الإسلام سيبقى إلى اليوم المشهود. نظر إلى هذا كله، فلم يطق صبراً، وخفقت الروح بين جنبيه، والإمام من أكثر الناس شعوراً بإرهاب فرنسا التي لاحقته من تونس إلى دمشق، وإستنبول وبرلين، ثم إلى دمشق والقاهرة، وحكمت عليه بالإعدام، وأمرت بمصادرة أمواله في تونس. لبت الجاليات المغربية دعوته المباركة، والتفَّت حوله في مشهد رائع، واتخذت مقراً لها دار "جمعية الهداية الإسلامية"، ولم تتخذ لنفسها مكتباً مستقلاً

في البناء؛ حفظاً على مال الجبهة، وفي بناء الجمعية متسعٌ لكل عمل إسلامي ووطني. عقدت الجبهة اجتماعها الأول في شهر ذي الحجة 1363 هـ، وتم انتخاب الإمام رئيساً، ومثّل الجزائرَ فيها المناضلُ الكبير الفضيل الورتلاني، والأمير مختار الجزائري. قامت الجبهة برسالتها خير قيام، وقامت بأقصى جهد للتعريف بقضايا المغرب، وعقدت المؤتمرات واللقاءات مع المسؤولين العرب والأجانب، وشرحت ما تتعرض له شعوب المغرب، وعملت على مساندة المقاومة بالقوتين المادية والمعنوية. وانضم إلى الجبهة أكثر اللاجئين السياسيين المقيمين في مصر، ونخبة من المناضلين المغارية، ومن جمعيات العلماء المسلمين الجزائريين، وحزب الشعب الجزائري. وأطلق عليه أحد الباحثين اسم: (ابن خلدون العصر)؛ لأن في سيرة الرجلين تشابها كبيراً في مراحل حياتهما وإنتاجهما العلمي. * عضويته في جماعة كبار العلماء: تقدم الإمام برسالته "القياس في اللغة العربية" لعضوية جماعة كبار العلماء، وتشكلت لجنة من قساة الممتحنين، وكان العالم الفاضل الشيخُ عبدُ المجيد اللبّان رئيساً للجنة، فأبدى الشيخ من الرسوخ والتمكُّن ما أدهش، ويهرهم بغزارة علمه، وفاض عليهم بما وهبه الله من معارف؛ حتى إن الشيخ اللبّان صاح إعجاباً قائلاً: هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج؟! ونص القرار على أن اللجنة امتحنت الشيخ محمد الخضر، فوجدته بحراً لا ساحل له.

وفي 29 أبريل من سنة 1951 م صدر أمر ملكي برقم 22 بتعيين الشيخ محمد الخضر حسين عضواً في جماعة كبار العلماء، وكانت هذه العضوية سبيله إلى عرض اسمه على مجلس الوزراء، عندما أراد المجلس اختيار شيخ الأزهر من كبار العلماء. * الإمام في مشيخة الأزهر: كان موسوعة علمية، يضرِب في جميع العلوم بسهم وافر، وقد جاهد في سبيل الله بقلمه ولسانه ونفسه. جاءته مشيخة الأزهر تسعى إليه بنفسها، دون أن يطلب هذا المركز يوماً، فهو أزهد الناس بالمناصب والألقاب. وافته مشيخة الأزهر اعترافاً بفضله العميم، وعلمه الغزير، وسيرته النقية التي غدت مضرب الأمثال في التقوى والنضال والدعوة. لم تكن لديه في القاهرة عشيرة تكون له سنداً، ولا حرب يدفع عنه، ولا أخ يشد أزره، ولا ولد يرفع عن كاهله عبء الحياة. ولكن الله -سبحانه وتعالى- كان معه، ومن كان الله معه، فقد بلغ أقصى مراتب السؤدد، ولأمثاله تعقد ألوية الدعوة والإصلاح، ولأمثاله تعقد القيادات الإسلامية. ويروي الشيخ: أنَّ أمه حينما ولدته، وكَبُرَ، قالت له: إنها كانت تربِّت عليه وهو صغير، وتقول له: إن شاء الله يا أخْضَرْ، تكبر وتروح الأزهرْ. واستجابت السماء لدعوة الأم الطاهرة، وإذا بأصيل "طولقة"، ووليد "نفطة" يجوب العالم داعية للإسلام، وتنتهي به رحلة الإيمان إلى أن يصبح

إماماً وشيخاً في الجامع الأزهر. وهكذا يكرِّم الله أولياءه الصالحين في الدنيا قبل ثواب الآخرة. الأزْهَرُ المَعْمورُ سُرَّ بِشيخِهِ ... لَمَّا اعتلاهُ من التُّقاةِ مُجرِّبُ وفي مشيخة الأزهر قال: "إن كانت جنّة، فقد دخلتها، وإن كانت ناراً، فقد خرجت منها". بعد اختيار الإمام شيخاً للأزهر، زاره الرئيس محمد نجيب في مكتبه بالأزهر للتهنئة، وبعد أيام على هذه الزيارة، أتاه السيد حسين الشافعي عضوُ قيادة الثورة، وأخبره أن الرئيس محمد نجيب يطلبه لأمر ما، فغضب الإمام -وقلّما يغضب -، وأخرج ورقة من درج مكتبه، وكتب عليها استقالته، وقال للشافعي: "قل لسيادة الرئيس: إن شيخ الأزهر لا ينتقل إلى الحاكم". هنأه الشاعر الجزائري الكبير محمد العيد بقصيدة طويلة ومطلعها: بارقٌ مِنْ بوارِق الرُّشْدِ لاحا ... جَرَّ للشَّرْقِ غِبْطَةً وفَلاحا وفيها يقول: وحَبا الأزْهَرَ الشريفَ رئيساً ... عَبقرياً ومُصْلِحاً مِسْماحاً وإماماً محدِّثاً مَغْرِبيّاً ... رفعَ المغرِبَ المهيضَ جَناحا واستقال من المشيخة في (2 جمادى الأولى 1373 هـ - 8 جانفي 1954 م)، وتفرَّغ للعلم والكتابة. * آثاره العلمية: حدِّثْ عن نبع لا ينضُب، وفكر لا يتعَب، وقلم أوقفه صاحبه لخدمة

الإسلام، وآثارُه العلمية كلها طُبعت بحمد الله وعونه، وهي تزيد عن ثلاثين كتاباً. آثارهُ تَروي لنا في طَيِّهَا ... أَنَّ الإمامَ الخِضرَ عَصْرٌ مُذْهَبُ * مشاهد من حياته الخاصة: أخْلاقهُ القرآنُ ترسُمُ سيْرَه ... ومكارمُ الأَخلاقِ منه تَصَبَّبُ فإذا مَشَى فالأرضُ لا تَدْري بهِ ... وخُطاهُ تَمضْي هِينَةً لا تَضْرِبُ أمّا على قِمَمِ المنَابرِ فارْتَقِبْ ... أَسدًا يُزمْجِرُ في العَرينِ وُيرْعِبُ - الكتابُ رفيقه وجليسه، يضعه إلى جانبه إذا خاض في حديث، ويمسك به للمطالعة إذا خلا بنفسه. - كان مهداءً لكتبه، يقدمها إلى كل زائر، ويبعث بها إلى معارفه من الشيوخ والعلماء في المعاهد الدينية، ولم يستفد مالاً من عائداتها، لقد وجدْتُ كتبه المهداة في كل بلد عربي زرته. - لم يكن يتقاضى من (جمعية الهداية الإسلامية) بصفته رئيساً لها، أو من مجلة "الهداية الإسلامية" بصفته رئيساً لتحريرها، ولا عن محاضراته في الجمعية أيَّ أجر - وهذا مبلغ علمي. - كان مشّاءً يحب السير على قدميه، فينتقل من سكناه في حي السيدة زينب إلى دار الجمعية في شارع مجلس النواب بالقاهرة ماشياً. - سكناه بسيطة، يتجلى فيها زهدُ الإمام وورعه، شقة بالكراء من غرفتين، وفسحة بينهما، وفرش متواضع، لذا نراه يستقبل كبار زوّارِه في دار (جمعية الهداية) لا لسبب إلا لضيق داره.

- وذكرت لي زوجته: أن الحبيب بورقيبة عندما لجأ إلى تونس، نام ليلته الأولى في مطبخ دار الشيخ، حتى هيأ له غرفة في اليوم التالي لدى إحدى الجمعيات. - فُطوره قطعة من الخبز، وكوب من الحليب، ووجباته لا تتعدى لقيمات من لون واحد من الطعام. - يغتسل بالماء البارد طوال السنة، وهي عادة اتخذها منذ أن كان في "برلين". - راتبه الضئيل لم يتجاوز ثلانين جنيهاً، يقتطع نصفه لمعاشه، والنصف الآخر يرسله مجزّأً إلى أقاربه في دمشق وتونس مساعدة لهم. - لم يقتن سيارة في حياته، ولم يمتلك عقاراً، وعند وفاته لم يترك إلا مكتبته التي أهداها إلى دار الكتب المصرية، وآثاره العلمية التي ينتفع بها الناس. * مذكرات الإمام: وضع مذكراته في ثلاث مجلدات تحت عنوان: "مراحل الحياة"، وتهافتت عليه المجلات المصرية، وكاد الاتفاق أن يتم مع جريدة "المصري" إلا أن الإمام قال: "استخرت الله، ووجدت أن نشرها يعتبر حديثاً عن النفس، وفيه تزكية لنفسي، وأنا لا أريد أن أزكّي نفسي، وليستفد من شاء بما شاء من كتاباتي"، ومزّقها. وتحت يدي بعض منها.

* انتقاله إلى الرفيق الأعلى: ولما أحبَّ الإمامُ لقاءَ الله، أحبَّ البه لقاءه. انتقل إلى الرفيق الأعلى بعد ظهر يوم الأحد (13 رجب 1377 هـ، الموافق 2 فيفري 1958 م)، ودفن إلى جوار صديقه المرحوم أحمد تيمور باشا جانب مسجد الإمام الشافعي - رضي الله عنه - بالقاهرة. رحم الله الإمام، وأنزله منزل الأنبياء والصدّيقين، والشهداء والأبرار والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقاً. وختاماً: حيّاكم الله وبيّاكم يا شعبَ الجزائر المظفرَّة، يا أهل ووالي بسكرة، يا رئيس وأعضاء الجمعية الخلدونية المزهرة، ملتقاكم مفخرة المفخرة: القَوْلُ لا يوفي الجزائرَ حَقَّها ... والشِّعْرُ يَعْجِزُ واللِّسانُ مُجَلْبَبُ حيِّ الجزائرَ والعُلا تاريخُها ... يا أَطْهَرَ الأَرَضِينَ عَيْشُكِ مُخْصِبُ وُاذكُرْ بِسِكْرَةَ وانتَخِبْ جَمْعِيَّةً ... هيَ لابْنِ خَلْدونَ المؤرِّخِ تَقْرُبُ وقبل ختم الكلمة، أتمنى على الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية لولاية بسكرة، أن تضع في برنامجها المستقبل ثلاثة من عظماء الأمة: الحسن بن عزّوز، ومحمد المكي بن عزّوز، والفضيل الورتلاني. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الإمام الشيخ محمد الخضر حسين ومنهجه في التراجم

محاضرات الملتقى الإمام الشيخ محمد الخضر حسين ومنهجه في التراجم الدكتور عمار الطالبي نعتمد في بيان منهج الشيخ الإمام محمد الخضر حسين (1874 هـ - 1958 م) على كتابه "تراجم الرجال" (¬1)، وإن كان المؤلف كتب تراجم أخرى، منها: "محمد رسول الله وخاتم النبيين"، كما كتب تراجم نشرها ضمن كتابه: "تونس وجامع الزيتونة". هذه التراجم التي ضمّها كتاب "تراجم الرجال" كتبها في مجلتي "الهداية الإسلامية"، و"نور الإسلام، بالقاهرة، كما ألقى بعضها في صورة محاضرات في بعض النوادي الإسلامية بالقاهرة -أيضاً-، ورتبّها جامعها تبعاً للتسلسل التاريخي لولادة المترجَم لهم، وعددهم أربعة عشر علماً: اثنان من الخلفاء، وهما: عثمان بن عفان، وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنهما - واثنان من القادة، وهما: موسى بن نصير، وصقر قريش عبدُ الرحمن الداخل، وإن كان منازعاً للخلافة العباسية، فأنشأ أخرى أموية بالأندلس، وواحد من الفقهاء المجتهدين من أصحاب المذاهب الفقهية، وهو: الإمام مالك بن أنس، وثلاثة أئمة من أئمة آل البيت، وهم: علي زين العابدين، وابناه: محمد الباقر، وزيد، وواحد ¬

_ (¬1) جمع هذه التراجم ونشرها علي الرضا الحسيني سنة (1392 هـ - 1972 م) بتوجيه من والده الشيخ زين العابدين الحسين التونسي.

من المحدّثين، وهو: أبو داود صاحب "السنن" المشهورة، وواحد من أصحاب المذاهب الاعتقادية، وهو: الإمام أبو الحسن الأشعري، وواحد من الأدباء الشعراء، وهو: القاضي أبو الحسن الجرجاني، وواحد من الصوفية الفقهاء معاً، وهو: الإمام الغزالي، وآخر من كبار فقهاء المالكية، وهو: أبو بكر بن العربي الأندلسي. وختم هذا الكتاب بترجمة لصديقه الحميم أحدِ كبار المثقفين المصريين، وهو: أحمد تيمور باشا، وترجمته له عبارة عن تابينه له، وصَف فيه خصاله الحميدة، وفضله، وعلمه، وصداقته التي اعتز بها، وأثرت في نفسه أيما تأثير. ونريد أن نشير إلى منهجه في هذه التراجم، وإلى غايته منها: * الغاية والمقصد: يرمي من هذه التراجم إلى: تعريف الشباب المسلم بعظمة الرجال الذين يترجم لهم، قال في خاتمة ترجمة علي زين العابدين: "هذه صحيفة من سيرة رجل من عظماء آل البيت، نعرضها على حضراتكم، وسيرة العظماء عظة وأسوة لأولي الألباب" (¬1). وبيّن غرضه -أيضاً- من سيرة محمد الباقر قائلاً: "وفي سيرة العظماء عبرة لمن يريد أن يكون عظيماً في علمه، أو في شرفه، وسمو همته أو في المسارعة إلى عمل الخير ما استطاع" (¬2). ¬

_ (¬1) "تراجم الرجال" (ص 28). (¬2) المصدر نفسه (ص 29).

واتجه إلى الشباب في ترجمته للخليفة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: "إن من الأسباب التي جعلت كثيراً من شبابنا يُسرفون في إكبار رجال أوربا، ولا يرفعون رؤوسهم فخراً بعظماء الشرق: أنهم لم يدرسوا تاريخ علمائنا بعناية ورويَّة وإنصاف" (¬1). وأن هذا السبب هو الذي "دعا رجال (جمعية الهداية الإسلامية) إلى أن توجه همتها إلى إلقاء محاضرات في إحياء ذكر رجال نبغوا في العلم، أو برعوا في السياسة، أو كانوا مُثُلاً كاملة في الأخلاق، والآداب" (¬2). وأشار إلى تطور الجانب السياسي بتعاقب الخلفاء، والانتقال من عهد الخلافة الراشدة إلى المُلْك العَضوض (¬3). فالخلفاء الراشدون قامت دولتهم على العدل في السياسة، وإيثار الحق، ثم جاء بعدهم خلفاء فقدت معهم الخلافة شيئاً مما كانت تعهده في أولئك، وشعر الناس بالفرق الواضح بين العهدين، وما زالت تلك الأساليب تتزايد حتى كادت تذهب بمعظم ما جاء في الإسلام "من عدل وحرية ومساواة" (¬4)، وجاء فتى هو عمر بن عبد العزيز، في العهد الذي صارت فيه الخلافة إلى ملك عَضوض؛ ليقيم شريعة، ويبسط العدل والأمن، ويرفع راية العلم، ومقام العلماء، فكان يستشير مجلساً من العلماء والخبراء؛ ليدلوا على الظلم إذا ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 35). (¬2) المصدر نفسه (ص 36). (¬3) المُلْك العضوض: فيه عسف وظلم. (¬4) المصدر نفسه (ص 36).

وقع من عماله، ويبدي رأيه في هذا: "وكذلك يكون حال من يتقلد الولاية وليس صالحاً، أما من يتقلدها للمباهاة، واتباع الشهوات، وطول الباع في اضطهاد الضعفاء، فلا يرتاح له بال إلا أن يضع على أفواه دعاة الإصلاح كمائم، أو ينفيهم من الأرض" (¬1). ولما قدّموا إليه مراكب الخلافة من الخيل والبراذين، قال: ما هذا؟ قالوا: مراكب الخلافة، فقال: "دابتي أوفقُ لي، فركب بغلته، فجاء صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال: تنحَّ عني، مالي ولك؟! إنما أنا رجل من المسلمين" (¬2). وعلّق الشيخ الخضر على هذا: بأن الخليفة عمر بن عبد العزيز لم يكن حريصاً على الولاية، وهذا "يعين الرجل على السير فيها باستقامة دون أن يخشى سخط شخص، أو رهط من الناس، وإن بلغوا منتهى الوجاهة، أو عرفوا من وسائل الكيد ما لم يعرفه أحد من قبل" (¬3). كما علَّق على ردِّ المظالم الذي قام به الخليفة، ونقض بعض ما كان يفعله غيره من الخلفاء: "أما ما يفعلونه استبداداً وعدواناً، فهذا ما يجب على من أتى بعدهم أن ينظر في شأنه، ويردّه عليهم بكل قوة، وكذلك فعل عمر ابن عبد العزيز" (¬4). ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 38). (¬2) المصدر نفسه (ص 39). (¬3) المصدر نفسه (ص 40). (¬4) المصدر نفسه (ص 41).

وسوّى العطاء بين بني أمية وغيرهم؛ إدراكاً منه لقيمة المساواة في الإسلام. وأشار إلى أن السياسة الحكيمة لا تولي عملاً لظالم غشوم؛ لأن من "اعتاد على الظلم لا يصلح للعمل في دولة العدل" (¬1)، ولذلك كان عمر بن عبد العزيز لا يستعمل من كان عاملاً لنحو الحجاج (¬2). وعدَّ من فضائل عمر بن عبد العزيز: نشره للعلم؛ إذ أرسل عشرة من التابعين؛ ليعلموا البربر بالمغرب القرآن والفقه والدين (¬3). وكد الشيخ هذا التعليم ووجوبه في عهده "وكذلك يجب على كل حكومة إسلامية أن تُعنى بعلوم الدين، وتعطيها حقّها من التعليم، والآباء الذين يستطيعون الوسيلة إلى أن يكون أبناؤهم على تربية دينية صادقة، ولم يفعلوا، إنما يحاربون الله في أرضه، ويكثرون سواد الأرواح الخبيثة" (¬4). كما أكد ضرورة العدل في سياسة الأمة، وعرّف الحاكم العادل بأنه "هو الذي يستوي في نظره القوي والضعيف، والقريب والبعيد، ولا يستقيم أمر أمة حتى يكون القابض على زمامه فعّالاً لما يراه الحق، ولا يكون لأولي القربى أثر في نفسه، إلا أن يهيئ لهم عزماً صارماً يكف بأسهم، ويعلمهم كيف يحترمون حقوق غيرهم، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز" (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 41). (¬2) المصدر نفسه (ص 41). (¬3) المصدر نفسه (ص 41). (¬4) المصدر نفسه (ص 42). (¬5) المصدر نفسه (ص 42).

وللعلماء عند عمر بن عبد العزيز مقام رفيع، لذلك أعانهم على الاحتفاظ بكرامتهم، وعلّق الشيخ محمد الخضر على هذا بأنه "لا تحيا أمة أو ترقى في سماء المجد إلا أن يكون فيها علماء مخلصون محترمون" (¬1). فأنت تراه قد وظّف هذه التراجم لبثِّ دعوته الإصلاحية في الأخلاق والدين، والسياسة والمعرفة؛ لعل الناس -وخاصة الشباب والحكام- أن يكون لهم هؤلاء الأعلام قدوة ومثلاً أعلى، ولذلك ختم ترجمته للخليفة عمر بن عبد العزيز بما يدل على ذلك: "هذه محادثة أخذنا فيها بطرف من سيرة رجل من أعظم رجال الإسلام، عسى أن يكون موضع قدوة لكل من تولى أمراً من أمور المسلمين، وأراد أن يكون له لسان صدق في الآخرين" (¬2). كما ختم الإمام مالك بقوله: "هذه صفحة من حياته، نعرضها على حضراتكم، وإن في ذلك لعبرة لأولي الألباب" (¬3). كما عقّب على عرضه لسيرة الإمام أبي الحسن الأشعري: "فإذا عرضنا عليك صحيفة من حياة أبي الحسن الأشعري، فإنما نعرض عليك شيئاً من سيرة رجل كان له في إصلاح النفوس وتقويم العقول جهادٌ وأيُّ جهاد" (¬4). وفي ترجمته للعلامة أحمد تيمور باشا أكَّد غرضه هذا: "وإنما هي كلمة أصف بها جانباً من خصاله الحميدة؛ عسى أن يكون في إلقائها تذكرةٌ ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 44). (¬2) المصدر نفسه (ص 48). (¬3) المصدر نفسه (ص 61). (¬4) المصدر نفسه (ص 83).

لطلاب الفضيلة من أبنائنا الناهضين" (¬1). * منهجه في التراجم: بيَّن طريقته في ترجمة الإمام عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بأنه "نعول في هذا على أقوال المحدثين، والمحققين من المؤرخين (¬2) "، وميَّز بين المحدّثين في روايتهم، والمؤرخين: "ولكن حفّاظ الحديث أنكروا هذا الذي يحكيه المؤرخون أشد الإنكار" (¬3)، وهو يعتمد في هذا على أبي بكر بن العربي في كتابه "العواصم من القواصم"، فرَّد كل التهم التي وجهها الثائرون على الإمام عثمان، على طريقة أهل الحديث في توثيق أخبار الفتنة، وعددها ثلاث عشرة تهمة، استعرضها كلها، وردّها واحدة تلو الأخرى، اعتمد في ذلك أكثر ما اعتمد على كتاب "العواصم من القواصم" كما قلنا. ولخص محاضرته في المجال بأن "عثمان - رضي الله عنه - لم يأت حدثاً منكراً، ولم يرتكب ظلماً ولا إثماً، وأن الصحابة جميعاً بريئون من دمه، وإنما حاول خلعه، أو خان الله في سفك دمه نفرٌ ليسوا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من القوم الذين يريدون الإصلاح" (¬4). وألحَّ في غرضه من تربية الشباب المسلم بالتثبُّت في الأخبار، وأن لا يأخذوا بكل ما يجدونه في كتب بعض المؤرخين: "ولعل في محاضرتنا ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 108). (¬2) المصدر نفسه (ص 12). (¬3) المصدر نفسه (ص 16). (¬4) المصدر نفسه (ص 19).

هذه تنبيهَ شبابنا النابتين نباتاً حسناً على أن يتثبتوا فيما يقصه المؤرخون عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولاسيما الذين صاحبوه أعواماً، ووردت الأخبار الصحيحة أنه توفي وهو عنهم راض" (¬1). وأنتم تعلمون أن خطوات الترجمة عند القدماء تتمثل في الخطوات الآتية: - اسم المترجَم له، ونسبه، ولقبه، وكنيته. - مولده، أو إثبات عمره. - نشأته، ودراسته، وشيوخه. - مؤلفاته، وتلاميذه. - مكانته العلمية، وآراء العلماء فيه. - وفاته. وتتوقف الترجمة على شخصية المترجَم له من كونه سياسياً، أو فقهياً، أو محدّثاً. وسلك الشيخ محمد الخضر في ذلك مسلكاً دقيقاً، وصاغَ التراجم صياغة أدبية واضحة، مع إبداء آرائه الشخصية، ونقد لما لا يراه صحيحاً. وكان القدماء يبنون التراجم على طبقات، والطبقة: وحدة زمنية، تتمثل في العقد؛ أي: عشر سنوات، وترتب حسب السنوات، سواء في ذلك الحوادث التاريخية، أو التراجم؛ كما فعل الذهبي في كتابه: "تاريخ الإسلام" كتب فيه الحوادث والتراجم ابتداء من السنة الأولى للهجرة، إلى العصر الذي عاش فيه، وهو القرن السابع الهجري، وسلك مسلك المحدّثين -أيضاً- في نقد ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 19).

رجال الحديث والتاريخ، وكتب كتاب: "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" كما نقد المصادر والموارد التاريخية والحديثية. وكما فعل ابن الجوزي في كتابه: "المنتظم" الذي يذكر فيه الحوادث التاريخية، ثم يعقبها بالتراجم. ومنهج المحدثين يتشدد في رواية الأحداث الخطيرة؛ كالفتن التي تحيط بها الأهواء والعصبيات، فيحتاط في نقد المصادر المتعلقة بها، وكذلك الروايات التي لها صلة بالعقائد، أو الفتن التي وقعت في عهد الصحابة، فيطبقون قواعد نقد الحديث ورواته. وجاء الغربيون بعد ذلك، ووضعوا منهجاً نقدياً للتاريخ، لا يبعد كثيراً عن مناهج المحدثين النقدية، كما بيّن ذلك أسد رستم في "مصطلح التاريخ". ولا تقتصر التراجم على رجال الحديث، وإنما تشمل غيرهم؛ كالفقهاء، والشعراء، والملوك، والقضاة، وترتب على حسب الطبقات، أو حروف المعجم. ومنهج المحدثين النقدي أدى إلى نمو نقد المصادر، وبيان مدى ثقة الناقلين وإتقانهم لما ينقلون من روايات وأخبار، فتقبل روايات الرواة ذوي الضبط والإتقان، وتأثر المؤرخون والأدباء بهذه الطريقة في الرواية وسندها، ولكنهم لم يتشددوا في رواية التاريخ تشدُّدَهم في رواية الحديث؛ لما يترتب عليه من أحكام شرعية. وقد بلغت تراجم الذهبي (1040) ترجمة في كتابه "تاريخ الإسلام"، وكان الأوزاعي يقول: "إنا كنا لنستمع الحديث، فنعرضه على أصحابه كما

نعرض الدرهم الزائف على الصيارفة، فما عرفوا، أخذنا، وما أنكروا، تركنا" (¬1). ويمتاز الشيخ محمد الخضر بأنه يعنون للأفكار التي يريد تبليغها، ورؤوس الموضوعات التي يعالجها، وهو منهج تربوي إصلاحي سلكه ابن باديس في تراجمه، وفي تفسيره للآيات القرآنية، والأحاديث النبوية. - ملاحظات: 1 - من قراءة هذه التراجم ندرك جوانب من حياة الشيخ العلمية، وتكوينه العقلي، فهو متأثر بابي بكر بن العربي غاية التأثر، فغيَّر من اتجاهه العلمي جذرياً: "ولأبي بكر هذا فضل في انصرافي عن دراسة علوم الدين دراسة تقليد ومتابعة، شأن من لا يزيد في التفقه على قراءة "مختصر خليل"، وشروحه، وحواشيه، ذلك أني اتصلت بمكتبة خالي وأستاذي المرحوم الشيخ محمد المكي بن عزّوز، واستعرت منها كتاب "العارضة" (¬2)، وكتاب "القبس"، وجزءاً من "ترتيب المسالك" (¬3)، ثم اتصلت بمكتبة صديقي العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشورِ شيخ الإسلام المالكي بتونس هذا العهد، واستعرت منها كتاب: الأحكام "أحكام القرآن"، وكتاب "العواصم من القواصم"، فأعجبت بطريقة المؤلف في التأليف، ووجدتها التي تنهض بالفكر حتى يكون ¬

_ (¬1) ابن عساكر، تاريخ دمشق ج 10، ق 346 في ترجمة عبد الرحمن الأوزاعي. (¬2) هو "عارضة الأحوذي في شرح صحيح الترمذي". (¬3) يقصد: "المسالك في شرح موطأ مالك" طالع جزءاً منه في إحدى مكتبات الجزائر كما علق في هامش للترجمة.

مثمراً، بل الطريقة التي تحبب إلى ذوي الفطرة السليمة دراسةَ العلوم الدينية، والواقع أن هذه الكتب كانت أول ما أخذني إلى النظر في علوم الشريعة بتلهف، بعد أن كنت قد انقطعت إلى علوم اللغة وآدابها" (¬1). فصلتهُ بخاله محمد المكي بن عزوز -علامةِ هذه المنطقة، المعروفِ في العالم الإسلامي في ذلك العهد- ذاتُ أهمية بالغة، ونسخته من "العواصم من القواصم" موجودة بدار الكتب المصرية، وعليها خطه، وقد اعتمدت عليها في تحقيق "العواصم من القواصم"، مع غيرها من النسخ، وكذلك صلته بصديقه الحميم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الذي كان يزوره بدمشق عندما كان مقيماً بها، وقبل أن يستقر بمصر، كما كان يزوره بها، فهذا التحول في اتجاهه الفكري والعلمي في غاية الأهمية في حياته وتطورها، وأشار إلى أنه تولى القضاء ببنزرت بتونس مدة مشة وأربعة أشهر، ولكنه فضل إلى أن يعود للزيتونة للتدريس بها، والاشتغال بالتعليم، معرِضاً عن منصب القضاء (¬2). 2 - ترجمته لعدد من أئمة آل البيت يدل على سعة أفقه، والبعد عن التعصب لأهل السنّة، وعندما ترجم للإمام زيد بن علي، وصفه بأنه مات شهيداً، وقال: "نحن نوافق الزيدية في الاعتقاد بفضل زيد وعلمه وجلالة قدره" (¬3). وأشاد بالباقر، وزيد، ووصف كل واحد منهما بأنه: "كان عظيماً في ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 106). (¬2) المصدر نفسه (ص 104). (¬3) المصدر نفسه (ص 134).

علمه، عظيماً في خلقه، عظيماً في تقواه" (¬1). واحترم ثورة الإمام زيد، ومخاطرته وصراحته، وإنكاره الفساد. قال فيه: "كان يطمح إلى أن يكون له سلطان يبتغيه وسيلةً إلى إصلاح حال الأمة، وإعادة ما ضاع على أيدي بعض أمراء بني أمية من العدل" (¬2). "ولا ننكر على زيد مخاطرته في سبيل الإصلاح إذا أخذ بالعزيمة" (¬3). وامتدح الشيخ نقده للخليفة هشام بن عبد الملك، ووصفه بأنه: "كان من كبار المحدثين" (¬4)، وأنه: "كان فقيهاً مجتهداً" (¬5)، وهذا يعد تقريباً بين الشيعة وأهل السنّة، سبق إليه الذين يعملون للتقريب اليوم. انتقد الباطنية، والبابية، كما انتقد بعض المعتزلة الذين يرى أنهم انحرفوا تأثراً بالفلسفة، وتعسفوا في تأويل بعض النصوص (¬6). وأشاد بالأشعري، الذي رأى أنه عبّر عن مذهب أهل السنة، وأنه على مذهب السلف، وما كان عليه الأئمة، ودافع عن الأشعري ضد خصومه، ولكنه لم يطلع إلا على كتابه: "الإبانة" الذي قرر فيه عقيدة السلف. وأشاد بالجرجاني أبي الحسن، الذي جمع بين النثر والشعر والذوق الرفيع في نقده الأدبي، متأثراً بعبد القاهر الجرجاني، فجمع بين نثر الجاحظ، ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 34). (¬2) المصدر نفسه (ص 34). (¬3) المصدر نفسه (ص 34). (¬4) المصدر نفسه (ص 32). (¬5) المصدر نفسه (ص 32). (¬6) المصدر نفسه (ص 82 - 83).

ونظم البحتري، وكتابه: "الوساطة بين المتنبي وخصومه" كان فيه مع ميزان العدل في النقد، ولم يتابع فيه الصاحبَ بنَ عباد. كما دافع عن الغزالي في كتابه "الإحياء" ضد خصومه أيما دفاع. واعتز بشخصية أحمد تيمور باشا، ويصداقته، وعلمه وتواضعه، واعتزازه بالعربية، وبالتاريخ الهجري الذي لا يكتب غيره في مراسلاته، حتى إذا كاتب الشركات الأجنبية، ولا يقبل أي طعن في الإسلام. وبدأت علاقة الشيخ محمد الخضر به سنة (1340 هـ - 1922 م)، ولم يذكر تاريخ وفاته في هذه الترجمة أو التأبين، ولا تاربخ ولادته، وهو ولُد سنة 1288 هـ، وتوفي سنة 1348 هـ (1871 - 1930)، ومعنى هذا: أنه دامت صداقتهما ثمانية أعوام. وكان أحمد تيمور قد صحب الشيخ طاهر الجزائري، وأخذ عن محمد عبده، وخزانته تضم ثلاثة عشر ألف مجلد، نصفها مخطوط (¬1). 3 - تشتمل هذه التراجم على نموذج من شعر الشيخ محمد الخضر حسين، تدل على قيمة جمالية واضحة، ويتمثل هذا النموذج في قطعتين: الأولى: في قصة عبد الرحمن الداخل (¬2) مع الشاعر أبي المخشِيّ، نظم هذه القصة في موشح رائع مطلعه: خلّ نفسَ الحرِّ تَصْلى النُّوَبا ... لا تُبالي ¬

_ (¬1) عمر رضا كحالة، معجم المؤلفين، مؤسسة الرسالة بيروت، 1414 هـ / 1993 م، ج 1، (ص 105). (¬2) ديوان "خواطر الحياة".

ليستِ الأخْطارُ إلا سبَبَا ... لِلْمَعالي وهي قطعة تستحق دراسة أدبية لسانية خاصة، وتقع في 112 بيتاً. وأما القطعة الثانية، فنظمها عندما أنهى كتابه: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" لطه حسين في خمسة أبيات على لسان القلم، وأهداها إلى أحمد تيمور باشا مع الكتاب، ومطلعها: سفكَتْ دمي في الطِّرْسِ أنملُ كاتبٍ ... وطوتنِيَ المبراةُ إلّا ما ترى (¬1) * مصادر التراجم: موارد الشيخ محمد الخضر حسين في تراجمه متعددة، يأتي في مقدمتها "العواصم من القواصم" لأبي بكر بن العربي، اتخذ منهجه في الدفاع عن العثمانية، وفي معالجة مشكلة الفتنة الكبرى (¬2)، على طريقة المحدثين التي لا تتفق مع روايات كثير من المؤرخين، يقول: "لكن حفاظ الحديث أنكروا هذا الذي يحكيه المؤرخون" (¬3). أما ما نقله عن المؤرخين، فإنه لا يسميهم، ولا يذكر مؤلفاتهم -غالباً-, ويقتصر على عبارة: "يذكر المؤرخون" (¬4). ومن مصادره: "صحيح البخاري" (¬5)، في مسألة: حماية الأرض، وغياب ¬

_ (¬1) المصدر نفسه في هامش (ص 113). (¬2) المصدر نفسه (ص 12، 16، 81، 90، 91، 97). (¬3) المصدر نفسه (ص 16). (¬4) المصدر نفسه (ص 13، 17، 18، 20). (¬5) المصدر نفسه (ص 18، 19).

الإمام عثمان عن بعض الغزوات. ونقل عن الحافظ ابن عبد البر، من كتابه: "الاستيعاب" (¬1)، ورجع إلى "وفيات الأعيان" لابن خلكان، وسماه: "تاريخ ابن خلكان" (¬2)، وابن قتيبة في كتاب: "المعارف" (¬3)، و"سيرة محمد بن إسحاق"، وكتاب الزمخشري: "ربيع الأبرار" (¬4). ويذكر أحياناً مصادر غير واضحة؛ مثل: "صاحب الإرشاد" (¬5)، أو: "قال صاحب القاموس" (¬6)، أو "كتب الأدب والتاريخ" (¬7). ويورد أحاديث لا يخرجها غالبا بذكر مصادرها الحديثية (¬8). ومن مصادره: كتاب أبي بكر بن الخطيب في الرواة (¬9)، ويرجح أحياناً بعض الروايات (¬10) على بعض، ورجع إلى كتاب "المدارك" للقاضي عياض (¬11)، ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 15). (¬2) المصدر نفسه (ص 15). (¬3) المصدر نفسه (ص 22). (¬4) المصدر نفسه (ص 24). (¬5) المصدر نفسه (ص 29). (¬6) المصدر نفسه (ص 30). (¬7) المصدر نفسه (ص 44). (¬8) انظر تخريجه للحديث: (ص 53). (¬9) المصدر نفسه (ص 58). (¬10) المصدر نفسه (ص 58). (¬11) المصدر نفسه (ص 85، 89، 103).

و"معالم السنن" لأبي سليمان الخطابي، وهو شرح لسنن أبي داود (¬1)، وتكلم على منحى البخاري ومسلم في مدونتيهما في الحديث في أثناء كلامه عن سنن أبي داود (¬2)، ونقل من "المنقذ من الضلال" للغزالي (¬3)، وابن السبكي في "طبقات الشافعية" (¬4)، وابن الجوزي في كتابه "شذور العقود" (¬5)، ورجع إلى "الإبانة" للأشعري (¬6)، وبعض "رسائل الصاحب بن عباد" (¬7)، و"الوساطة بين المتنبي وخصومه" لأبي الحسن الجرجاني (¬8)، و"زجر المفتري على أبي الحسن الأشعري" لأبي العباس أحمد القرطبي (¬9)، و"عقيدة المطلبي" لأبي عبد الله الجويني (¬10)، وكتاب "تبيين كذب المفتري" لابن عساكر (¬11)، و"قانون التأويل" لأبي بكر بن العربي (¬12)، وكتاب "الإحياء" للغزالي (¬13)، و"المغني عن ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 78). (¬2) المصدر نفسه (ص 78). (¬3) المصدر نفسه (ص 83). (¬4) المصدر نفسه (ص 85، 90). (¬5) المصدر نفسه (ص 58). (¬6) المصدر نفسه (ص 58). (¬7) المصدر نفسه (ص 92، 94). (¬8) المصدر نفسه (ص 94). (¬9) المصدر نفسه (ص 89). (¬10) المصدر نفسه (ص 88). (¬11) المصدر نفسه (ص 97). (¬12) المصدر نفسه (ص 97، 101، 104، 106). (¬13) المصدر نفسه (ص 68).

حمل الأسفار" لزين العابدين عبد الرحيم العراقي (¬1)، و"مقدمة ابن خلدون" (¬2)، و"ترتيب المسالك" لأبي بكر بن العربي (¬3)، و"مقالات الآثار النبوية" لأحمد تيمور باشا، التي حررها في مجلة "الهداية الإسلامية" (¬4). ويبدو أنه اطلع على ما ذكره من مؤلفات أحمد تيمور، ومقالاته في " المؤيد"، "والهلال"، و "المقتطف"، و"المقتبس"، ومجلة "الزهراء"، و "الفتح"، ومجلة "المجمع العلمي بدمشق"، فضلاً عن مقالاته في مجلة "الهداية الإسلامية"، التي أنشأها الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله-، ولعل دفنه بالمقبرة التيمورية له صلة بصداقته لأحمد تيمور باشا، ولنجليه الماجدين (¬5)، على حد وصفه لهما. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 99). (¬2) المصدر نفسه (ص 105). (¬3) المصدر نفسه (ص 106). (¬4) المصدر نفسه (ص 112). (¬5) المصدر نفسه (ص 114).

الإمام العلامة محمد الخضر حسين شاعرا

محاضرات الملتقى الإمام العلامة محمد الخضر حسين شاعرا ً للدكتور كمال عجالي (¬1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاة والسلام على. سيدنا محمد، وآله وسلم تسليماً. عاش محمد الخضر حسين في أسرة وفي عائلة مفعمة بحب الأدب ¬

_ (¬1) قدمه رئيس الجلسة بقوله: "الأستاذ كمال عجالي غني عن التعريف، هو أحد الأسماء الباقية معنا هنا، لم ترحل لحسن الحظ، لم تهاجر، بقيت تضيء من حولنا. هو قاموس متكامل حقيقة بالأدب. في وقت فقدت فيه الكلمات مفرداتها، فهو الأستاذ والكاتب والباحث والمحقق، لا بأس أن أقدمه كأكاديمي في بعض الومضات، مقحصل على دكتوراه الدولة في الأدب الجزائري الحديث حول أدب الشيخ الطيب العقبي، متحصل -أيضاً- على شهادة الماجستير حول أدب الشيخ أبي بكر مصطفى بن رحمون، بالإضافة إلى شهادة الليسانس في الحقوق. ومن مؤلفاته: أبو بكر مصطفى بن رحمون حياته وشعره - الفكر الإصلاحي في الجزائر الشيخ العقبي - بين الأصالة والتجديد - الشيخ الطيب العقبي مواقف وآراء - محمد ابن عزوز البرجي وكتابه "قواطع المريد" - ديوان شعر حدث "وإرهاص. وللأستاذ كمال العجالي كتب أخرى تحت الطبع، نذكر منها: آثار الشيخ الطيب العقبي- ديوان أبي بكر مصطفى بن رحمون، ومن أعلام الجزائر. وهو يشتغل الآن -والحمد لله- أستاذاً في التعليم العالي في كلية الآداب بجامعة "باتنة".

والشعر، والثقافة العربية والإسلامية، فلا غرابة أن يقرض الشعر، ويكتب مبكراً من سني عمره. ثم انصرف عنه إلى طلب العلم، ومزيدٍ من التحصيل المعرفي، ولم يعد ينظم الشعر إلا لدواعي الضرورة القصوى، فهو لم يقل الشعر إلا لتهنئة صديق، أو تذكيره بما يربط بينهما من الصلات، أو لرصد ناحية خلقية أو اجتماعية مشاركة منه في إصلاح المجتمع الإسلامي وتهذيبه، ولكن ذلك كله لم يمنعه من أن يقول شعراً كثيراً، وخاصة في السنوات الأخيرة من حياته. وأكثر شعره جاء في موضوعات متفرقة؛ كوصف منظر، أو رصد موقف، أو تسجيل حكمة، أو التقاط مفارقة، أو تأمل في تجارب الحياة وأخلاق الناس. يقول في رصد منظر الغروب وتصوير الشفق: هذا الدُّجى اغْتالَ النَّهارَ ودَسَّهُ ... تحتَ التُرابِ مُضرَّجاً بدمائهِ (¬1) ما حُمْرَةُ الشَّفَقِ التي تَبْدو سِوى ... لَطْخٍ مِنَ الدَّمِ طارَ نحو رِدائهِ (¬2) لقد كان الشيخ الحسين مجبولاً على حب الحرية، والعرة النفسية العالية، وقلما سنحت له الفرصة، وكثيراً ما كان يفعل ذلك، إلا ونبّه الأمة إلى الأخذ بأسباب التقدم والازدهار، والعمل على الانعتاق من ربقة الاستعمار. ¬

_ (¬1) الدجى: الظلمة. (¬2) الشفق: الحمرة في الأفق من الغروب الى العشاء الآخرة، أو الى قريب العتمة. اللطخ: اليسير القليل من كل شيء.

يقول في موقف، وهو على فراش المرض بعد أبيات كلها تصبر وثبات على المكاره: أَطَلَّ عَلَيَّ الموتُ من خَلَلِ الضَّنا ... فآنَسْتُ وجْهَ الموْتِ غيرَ كئيبِ (¬1) ولوْ جسَّ أَحشائي لخِلْتُ بَنانَهُ ... وإنْ هالَ أقْواماً بنانَ طبيبِ فلا كانَ مِنْ عَيْشٍ أرى فيه أُمَّتي ... تُساسُ بِكَفَّيْ غاشمٍ وغريبِ (¬2) كما كان الشيخ ودوداً، صائناً للعشرة، محافظاً على الصداقة، مراعياً لآداب الأخوة، ما لم تمس كرامته، أو يطعن في ذمته، لذلك نجده يقول في متفرقاته: خَلُّوا عِداتي يَمْلَؤونَ بخَيْلِهمْ ... وبِرَجْلِهمْ أَكَمَ الثَّرى ووِهادَهُ (¬3) لا هَمَّ في الدُّنْيا إذا ظفَرتْ يَدي ... بأخٍ عَشِقْتُ ذَكَاءَه ورَشادَهُ أصْفو لهُ أمدَ الحياةِ وإنْ رَمى ... سَمْعي بقَوْلٍ خادِشٍ ما اعْتادَهُ لستُ المُقاطِعَ إنْ جَفا خِلٌّ ولَمْ ... يَكُ قَطْعُ رابطةِ الوِدادِ مُرادَهُ إن متفرقات الشيخ الخضر كثيرة ومتنوعة ومتداخلة، لا يكاد يحصيها الباحث عدّاً، وعليه: فشعره أغلبه من المقطوعات الشعرية التي تحوي البيتين، أو الثلاثة، أو الستة أبيات. ولا يتجاوز عدد قصائده الطويلة سبعين قصيدة؛ فقد كان الرجل قصير النفس في جلِّ أشعاره، إلا فيما يتصل ببعض المواضيع ¬

_ (¬1) الضنا: المرض والهزال، سوء الحال. (¬2) ساس الأمة: قام بها. الغاشم: الظالم والغاصب. الغريب: المستعمر إطلاقاً. (¬3) العداة: واحده العادي، وهو العدو. الأكم: جمع أكمة: التل.

الهامة التي يبدو أنها كانت توافق مزاجه؛ مثل: تمجيد العرب والإسلام، وتهئة الأصدقاء، ورثاء الأقارب. وقد تناول في شعره أغراضاً كثيرة، أهمها: الإخوانيات، والقضايا الوطنية والسياسية، والرثاء، والو صف، والوجدانيات، والاجتماعيات، والإسلاميات. وقبل الحديث عن شعر الإخوانيات لابد أن نعرف أولاً: ما المقصود بهذا اللون من الشعر؟ وفي الحقيقة يصور هذا اللون من الشعر الاجتماعي الصلات والروابط التي كانت تربط الأصدقاء من الشعراء، ويتحدث هذا الشعر بين سطوره عن الصداقة، والأخوة، والتهنئة، والاعتذا ر، والعتاب، والشكوى، والتعزية، والاستعطاف. ولقد ساعدت المساجلات والمراسلات الشعرية، واستخدامها استخدام النص على انتشار هذا اللون من الشعر بين الكثير من الشعراء والأدباء، كما يذهب البعض إلى تسميته بشعر المجاملات، أو الشعر الإخواني. ولكثرة تجوال شاعرنا وأسفاره، ودماثة أخلاقه، فقد اكتسب إخواناً وأصدقاء من الأدباء والشعراء والعلماء في بلدان متعددة، وكان من أبرزهم: الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من تونس، وخليل مردم بك من سورية، إلى آخرين غيرهم من أفراد أسرته وأقاربه. بعث ذات مرة إلى الشيخ عبد القادر بن المبارك الجزائري المقيم في دمشق، بعد أن قزظ كتاب "الخيال في الشعر العربي" للخضر حسين، فقال الشيخ محمد الخضر حسين شاكراً الفضل، وحامداً الصنيع:

أَمْحَضُ الأُستاذَ شُكْراً ساطِعاً ... بَيْنَ صافي الوِدِّ والشَّوْقِ المُذيبِ (¬1) وسلاماً مِنْ بَعيدٍ كُلَّما ... عَزَّ إِلقاءُ سلامي مِنْ قريبِ وحين تولى الشيخ الطاهر بن عاشور خطة القضاء في تونس، بعث إليه الحسين مهنئاً، فقال: يا طاهِرَ الهِمَمِ احْتَمَتْ بِكَ خُطَّةٌ ... تَبْغي هُدًى ومروءَةً وسَماحا (¬2) سحَبَتْ رِداءَ الفَخْرِ واثقةً بما ... لكَ مِنْ فؤادٍ يَعْشَقُ الإِصْلاحا ستشُدُّ بالحَزْمِ الحكيمِ إزارَها ... والحَزْمُ أنْفَسُ ما يكونُ وِشاحا (¬3) وتذودُ بالعَدْل القَذَى عَنْ حَوضِها ... والعَدْلُ أَقْوى ما يكونُ سِلاحا (¬4) وفي ردّه على خليل مردم بك الشاعر السوري الشهير، الذي اشتكى أن ينساه الحسين، وينسى أيامه التي قضياها معاً في دمشق، فقال الخضر: إنّي على ثقةٍ مِنْ أنَّ ذِكْرَكَ لا ... ينفَكُّ مُرْتَسِماً في النَّفْسِ كالخُلُقِ وكيفَ أنسى "خليلاً" قَدْ تضوَّعَ في ... حُشاشَتي وِدُّهُ كالعَنْبَرِ العَبِقِ كان شاعرنا مخلصاً في صداقته، مجدداً تواصله مع أحبائه، متطلعاً إلى ¬

_ (¬1) مَحَضَ: أخلص. (¬2) الخطة: الأمر والطريقة. ويطلقها أهل الأندلس على أي منصب من مناصب الحكومة، فيقال: خطة الفتوى، وخطة التعليم. (¬3) الإزار: الملحفة. الوشاح: شيء شبه قلادة تلبسه النساء. (¬4) تذود: تطرد. القذى: ما يقع في العين أو الشراب من تبنة أو غيرها. الحوض: مجتمع الماء.

لقياهم وسماع أخبارهم، ولا غرو في ذلك، فهو قد نظم في موضوع الصداقة والأصدقاء أكثر من عشر قصائد، تعرض في بعض منها إلى أهمية الصداقة، ودورها في حياة الإنسان، وتعرض في البعض الآخر إلى خصال بعض أصدقائه، وصلاته المتينة بهم، وخاصة منهم: الشيخ محمد الطاهر بن عاشور الذي أفرد له مقطوعات وقصائدَ عديدة تبين مدى الود الذي كان يربط بين الرجلين، والمحبة الخالصة التي كانت تجمع بينهما. وكما كان الشاعر محباً لأصدقائه، فقد كان محباً -أيضاً- لأمته، مخلصاً لها، محضها الود والإخلاص، والرشدَ والنصيحة طوال حياته، فبعد وعد بلفور المشؤوم في نوفمبر 1917 م، بدا تألُّم الشاعر وتحسّره على ما آلت إليه فلسطين من عصابات الإجرام اليهودية، الذين نخروا في جسمها كالسوس بالمال والمؤامرات والرشاوى، وشراء المواقف في المحافل الدولية، واستنكرَ تباطؤ العرب وتخاذلَهم في نصرة إخوانهم الفلسطينيين بالمال والسلاح، فقال: لا تُنجِدُوهُمْ بالتَحَشُرِ وَحْدَهُ ... إنَ التَحَشُرَ لا يُزيحُ عَناءَ لا تنهَضُ الأوطانُ من كَبَوَاتها .... إلّا على أيدٍ تَفيضُ سخاءَ ما سادَ قومٌ أُشْرِبوا شُحّاً وإنْ ... بَلَغوا السّماءَ شَجاعةً وذَكاءَ (¬1) أمِنَ المُروءةِ أنْ ننُادَى للّتي ... فيها النَّجاةُ ولا نُجيبُ نِداءَ بسطَ اليهودُ إلى اليهودِ أكُفَهُمْ ... بالمالِ مِنْ بَيْضاءَ أوْ صَفْراءَ (¬2) ¬

_ (¬1) الشُّح: البخل مع الحرص. (¬2) البيضاء: الفضة. الصفراء: الذهب.

ومتى أرى قَوْمي قَدِ اسْتَبَقوا العُلا ... بِسخاء كَفٍّ يكْشِفُ اللأْواءَ (¬1) مثلما أحب الشاعر أمته، فلم ينس وطنه الذي ولد فيه، وتربّى في ربوعه، فأشاد به في كل موقف، وتغنّى فيه بكل محفل ومناسبة ذكَّرته به. ودعا إلى التحرر والاستقلال، والعمل على طرد الباغي الغريب، وحرَّضهم على أن يفعلوا مثلهم مثل إخوانهم في طرابلس الذين يخوضون حرباً ضد الإيطاليين (1911 - 1912 م)، فقال: رُدّوا على مَجْدنا الذكْرَ الذي ذَهَبا ... يَكْفي مَضاجِعنَا نومٌ دَهَى حُقُبا (¬2) ولا تعودُ إلى شَعْبٍ مُجادَتُه ... إلا إذا غامَرَتْ هِمّاتُهُ الشُّهُبا (¬3) حَيّاكُمُ الله قَوْمي إنَّ خَيْلَكُمُ ... قَدْ ضُمّرَتْ والسِّباقُ اليومَ قد وَجَبا (¬4) وقد ظلت عين شاعرنا ترقب كل كبيرة وصغيرة في الساحة الدولية، فراعه ما كانت تقوم به قوى الاستعمار من أساليب المكر والخداع، ومنها: خدعة التجنيس التي كان يهدف الاستعمار من ورائها إلى احتواء النخبة، وتخلية الوطن من قواه الحية التي يمكن أن يعقد عليها الأمل. فقال الحسين في قصيدته: (صرخة المغرب): ¬

_ (¬1) اللأواء: يقال: لأواء العيش شدته. وفي الحديث الشريف: "من كان له ثلاث بنات، فصبر على لأوائهن، كُنَّ له حجاباً من النار". (¬2) دهاه: أصابه بأمر عظيم. الحُقُب: ثمانون سنة، ويقال أكثر من ذلك. (¬3) مجادته: عزته وشرفه. غامرت: قاتلت، ولم تبال بالموت. هماته: جمع همّة، وهي العزم القوي. الشهب: شعلة من نار ساطعة، أو كل شيء مضيء متولد من نار. (¬4) ضمّرت: ضمَّر الخيل: ربطها وأكثر ماءها وعلفها حتى تسمن، ثم قلَّل ماءها وعلفها مدّة وركّضها في الميدان حتى تهزل. ومدة التضمير عند العرب أربعون يوماً.

لاذَ بالتجْنيسِ والقَوْمُ أَبَوْا ... خَوْفَ أنْ يَصْلَوْا بهِ النَّارَ الحِراقا (¬1) وبَنو المغربِ عُرْب شِيَماً ... ولِساناً، لا ادِّعاءً واخْتِلاقا وما دام بنو المغرب مسلمين، رفضوا التجنيس، وخافوا أن يصلَوا النار، فواقعُ الحال يدعو فرضاً أن يكسروا هذه القيود، ويحطموا تلك السدود التي ينصبها لهم المستعمر الغاشم، فقال مخاطباً تونس: يا شاطِئَ المرْسى إلامَ الهُجودْ ... فُكَّ القُيودْ (¬2) وكُنْ كما كُنْتَ لعهدِ الجُدودْ ... غِيلَ الأُسودْ (¬3) يَمْرَحُ فيكَ العزُّ بين الجُنودْ ... ضافي البُرودْ فأنت لا تَزْهى بِتَلْحينِ خُودْ ... ونَقْرِعودْ (¬4) إن تحرير الأوطان يتطلب تضحية وفداء، ولا بدَّ أن تراق الدماء القانية في طريق الحرية، وتروى الدروب بدماء الشهداء، وتغسل الأرض من درن الاستعمار وأوضاره، لذلك قال الخضر: حديثُ عنقاء شَعْبٌ أنقذَ الوطنا ... ولم يسلَّ سيوفاً أو يَهُزَّ قَنا (¬5) ¬

_ (¬1) التجنيس: فتح باب التجنيس بالجنسية الفرنسية. الحراق: التي لا تبقي شيئاً. (¬2) المرسى: بلدة في ضواحي تونس فيها متنزهات تجمع بين منظر البحر الأبيض، والحدائق الأنيقة، وطالما تمتع الشاعر بالتنزّه فيها؛ إذ هي مقر صديقه منذ عهد طلب العلم العلامة المرحوم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور. الهجود: النوم. (¬3) الغيل: الشجر الكثير الملتف، ويقصد به: العرين. (¬4) الخود: الحسنة الخَلْق. (¬5) العنقاء: طائر معروف الاسم، مجهول الجسم لا يعرف، ويراد بحديث عنقاء: =

إلى أن يقول: عُسْفُ العدا دَرَنٌ فاسْكُبْ عليه دماً ... مِنَ الدّماءِ الغَوالي تَغْسِلُ الدَّرَنا (¬1) ولا يَروعَنْكَ جُنْدٌ شنَّ غارَتَهُ ... على البُغاثِ فَلاقى الجُبْنَ والوَهَنا (¬2) إن الصُّقورَ إذا انْفضَّتْ تُنافحُ عَنْ ... أوْكارِها لم تَهَبْ جُنْداً ولا ثَكَنا (¬3) وعزة الأوطان غالية، وأغلى منها مهرُها الذي يتجسد في أرواح شبابها حين يتقدمون إلى ساح الوغى فداء وتضحية مع الاستعداد وإعداد العدة، فقال: عِزَّةُ الأُمَّهِ في نَشْءٍ إذا ... نَشَبتْ في خَطرٍ كانوا فِداها وجَناحا فَوْزِها اسْتِمْساكُها ... بِهُدى الله وإرهافُ قَناها ولما كان شاعرنا من دعاة الجامعة الإسلامية الذين كانوا يعمدون إلى العمل السياسي المنظم الشامل، وسعوا إلى الوحدة العامة بين الأقطار الإسلامية، وكان منطلقهم الأول: أن الإسلام صالح لنهضة المسلمين المطلوبة لكل زمان، ¬

_ = الأمر لا حقيقة له. قال الشاعر: الجود والغول والعنقاء ثالثة ... أسماء أشياء لم توجد ولم تكن وقال آخر: ثلاثة ليس لها وجودُ ... الغول والعنقاء والودود (¬1) العسف: الظلم. الدرن: الوسخ. (¬2) البغاث: طائر لا يصطاد، ولا يرغب في صيده، شرار الطير. (¬3) الثكن: جمع ثكنة: مركز الأجناد ومجتمعهم على لواء صاحبهم، وإن لم يكن هناك لواء ولا عَلَم.

لكل ذلك تأثر شاعرنا بالضربة القاصمة التي وجهها كمال أتاتورك للخلافة الإسلامية حين ألغاها، فازدادت آلام شاعرنا أضعافاً مضاعفة، إلى جانب ما كان يقاسيه من معاناة بسبب استعمار أوطانه العربية التي دعاها مرات ومرات إلى الثورة وفك القيود. كان الخضر حسين مدركاً الخلافة الإسلامية، فقال: حتى تحكَمَ فيهِ رَهْطٌ بَدَّلوا ... خَبَثَ الحديدِ بِعَسْجَدِ مَسْبوكِ (¬1) نزَغاتُ وَسْواسِ تَخَبَّطَهُمْ فَما ... لَبِثوا أنِ اغْتَرّوا بِوَحْيِ أَفوكِ (¬2) وتبلغ الحسرة مداها، فيتمنى شاعرنا لو يقيض الله لهذه الأمة رجلاً يجمع شملها، ويعيد لها وحدتها؛ مثل: صلاح الدين الأيوبي الذي أبلى البلاء الحسن في سبيل نصرتها، ولمِّ شملها، وتحرير أوطانها. وها هي ذي اليوم قوى الاستعمار تمرح في ربوعها: جاسُوا المَدائنَ والقفارَ وأَرْصَدوا ... في كلِّ وادٍ غاشمٍ فَتّاكا (¬3) يا لَيْتَني أدري ومِثْلُكَ يُقْتَدى ... بمثالِهِ بينَ الوَرى ويُحاكى أَيُتاحُ للشَّرْقِ المعذَّبِ ذائدٌ ... يَرْمي ويَبْلُغُ في النِّضالِ مَداكا ومن أهم عناصر كيان الأمة: الأخلاق الفاضلة، والسجايا الحسنة التي دعا إليها شاعرنا بأكثر من موقف، وفي أكثر من مناسبة، وهاجم الآفات الاجتماعية، والأمراض الخلقية، وكل ما تفشَّى في المجتمعات العربية ¬

_ (¬1) الرهط: قوم الرجل وقبيلته. خبث الحديد: ما نفاه الكير. (¬2) الوسواس: الشيطان. أفوك: كاذب، ويعني به: الشيطان. (¬3) المدائن: جمع المدينة. أرصدوا الرقيب: نصبوه في الطريق.

والإسلامية من جراء تقليدها للحياة الأوربية المستجدة. وانتقد ما تقدمه المدارس الحكومية من علوم ومعارف مجافية لروح الدين، وكرَّ كرّة عنيفة على دعاة الإلحاد والتفسخ، وكشفَ مخاطر البهائية والبابية والقاديانية التي تدَّعي الإسلام، والإسلامُ منها براء. وانتقد الرؤساء والحكام المتخاذلين والمتقاعسين لنصرة شعوبهم، وإصلاح أمر مجتمعهم؛ بحجة قوة الاستعمار وغلبته: لاخَيْرَ في الرُّؤساءِ إنْ لَمْ يَنْهَضوا ... بالشَّرْقِ حتى يَخْلُفَ الدّاءَ الشِّفاءُ قالوا: حَوالَيْنا غَريبٌ رُبَّما ... يُبْدي رَغائبَ قَدْ تُعارِضُ ما نَشاءْ (¬1) قُلْنا: الرئيسُ الحرُّ لا يُثْنيِه عَنْ ... إِصلاحِ شَأْنِ الشَّعْبِ خَوف أوْ رَجاءُ كان الخضر حسين في كل مناسبة يدعو إلى إصلاح المجتمع، ويحث على التمسك بعرا الدين القويم، ويستنهض الهمم، ويضرب الأمثال بالنماذج وأصحاب السير الخالدة الذين تركوا بصماتهم في الحياة، وكانوا النبراسَ المضيء لشعوبهم، كما دعا إلى الحفاظ على اللغة العربية؛ لكونها عنصراً مهماً في حياة الأمة العربية والإسلامية، وشجع على تعلم الآداب والفنون، وأرشد الأدباء وأصحاب الأقلام إلى تسخير طاقاتهم الإبداعية لخدمة مجموعتهم وملّتهم الغراء. وبيَّن أن العلم في عصرنا واجب وفرضٌ طلبُه، واللغة العربية التي استطاعت مواكبةَ كل تطور قادرةٌ على استيعاب علوم العصر، ولا تقدُّم للشعوب إلا بالعلوم والمعارف والأخلاق والآداب والثقافة (التكنولوجيا)، والذي ¬

_ (¬1) الغريب: يقصد به المستعمر إطلاقاً.

رام التقدم من غير هذا السبيل أضاع عمره سدى. كان محمد الخضر حسين شاعراً وعالماً، ومصلحاً منفتحاً على العصر وعلومه، يأخذ منه كل ما يعتقد أنه مفيد لأمته؛ شريطة أن لا يتصادم مع أصول الدين الإسلامي الحنيف. وهذا الذي يعبر عنه بالانفتاح، ونعني به: الانفتاحَ الحضاري للاستفادة من المعطيات الحضارية الغربية الجديدة؛ باقتباس علوم الطبيعة، وعلوم التمدن المدني والعلمي؛ مثل: علوم الزراعة والحيوان، وعلوم الصناعة والحرف والتجارة، وعلوم الطب والصيدلة، ووسائل الاتصال والمواصلات، وعلوم طبقات الأرض وأنواعها ومعادنها، والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفلك، وعلم الجغرافية والبحار والملاحة، وما إلى ذلك من المعارف التي تتصل بعلوم المادة وظواهرها. وبقدر ما كان الخضر حسين ذا شخصية قوية معبرة ذات أنفة وكبرياء، فقد كان رقيق القلب، شفيقاً رؤوفاً، ويبدو أن نفس الشاعر كانت مشوبَة بحزن وألم دائمين، مما جعله يجيد فن الرثاء، ويعبر عن أحاسيسَ وعواطفَ تتجاوز المرء إلى أبعاد أعمقَ وأشمل، فقد رثى خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز الذي توفي بالآستانة، وزوجته الثالثة المتوفاة سنة 1953 م في القاهرة، ورثى صديقه الحميم أحمد تيمور باشا الذي كانت تربطه به صداقة متينة، وودٌّ متين. وأبلغُ مرثياته في نظرنا: هي التي قالها في والدته التي توفيت بدمشق سنة 1917 م، وكان وقتئذ في البلاد الألمانية. وأبّن الشيخ علي محفوظ أحدَ علماء الأزهر الكبار، ورثى أستاذه سالم بو حاجب من تونس.

ولقد كان أعمقَ عاطفة، وأرقَّ أسلوباً في مراثيه، التي قالها في والدته التي كانت تمثل له شيئاً كبيراً، وقيمة ثمينة؛ بما كانت تغرسه فيه وفي إخوته من قيم ومُثُل، فقال: (بِنْتَ عَزّوزَ) لَقَدْ لَقَّنْتِنا ... خَشْيَةَ الله وأنْ نَرْعى الذِّماما (¬1) وَدَرَيْنا مِنْكِ أنْ لا نَشْتري ... بِمعالينا مِنَ الدُّنْيا حُطاما (¬2) وَدَرَيْنا منكِ أنَّ الله لا ... يَخْذِلُ العَبْدَ إذا العَبْدُ اسْتَقاما (¬3) ودرينا كيفَ لا نَعْنو لَمِنْ ... حاربَ الحَقَّ وإنْ سَلَّ الحُساما (¬4) كُنْتِ نوراً في حِمانا مِثْلَما ... نَجْتَلي البَدْرَ إذا البَدْرُ تَسامى أَفَلَمْ تُحْييه بالقرآنِ في ... رِقّةِ الخاشِعِ ما عِشْتِ لِزاما كُنْتِ لي رَوْضَةَ أُنْسٍ أَيْنما ... سِرْتُ أهْدَتْ نَفْحَ وَرْدٍ وخُزامى (¬5) والدارس لمرثيات الحسين يلاحظ أن الرجل يمجد قيماً، ويبكي خصالاً وسجايا حميدة في الأشخاص الذين رثاهم، سواء كانوا أقارب، أو غيرهم. ويدعو ضمنياً إلى التخلق بتلك الصفات، والتشبت بتلك القيم؛ لما فيها من ¬

_ (¬1) بنت عزوز: السيدة البارة المرحومة حليمة السعدية بنت الشيخ مصطفى بن عزوز، والدة الشاعر، ومن الشهيرات بالتقى والعلم والصلاح. ولدت بتونس سنة 1270 هـ، وتوفيت بدمشق سنة 1335 هـ. الذمام: الحق والحرمة. (¬2) الحطام: ما تكسر من اليبس. ويقصد الشاعر: مال الدنيا وزخرفها. (¬3) خذل الرَّجُلَ: ترك نصرته وإعانته. (¬4) نعنو: عنا له: خضع وذل. (¬5) الخزامى: نبت زهره أطيب الأزهار نفحة، ويتمثل به في الطيب.

النفع والفائدة لصالح الأفراد والجماعات. بالإضافة إلى ما سبق: نجد الشاعر يُعمل فكره في الحياة، وسلوك الخَلْق، ويتأمل ويخلُص إلى أخذ العبرة مما وصل إليه من عظات وعبر في شؤون الناس والحياة، وما رصد من مفارقات تستلفت نظر الإنسان وتتطلب منه. وشعر الخضر حسين شعر تقليدي إذا ما قيس بمقاييس المعاصرة، وإن عدّه البعض شعراً عصرياً أو جديداً، إلا أن الروح المحافظة المسيطرة عليه جعلت النزعة التقليدية لديه أقوى. يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في هذا المضمار: ويظهر أن نشأة الطريقة الشعرية المصورة للنزعة الفكرية والقومية إنما ظهرت في سبك متين، ومنطق رصين على يد الشيخ محمد النخلي، ثم سمت وأشرقت على يد الشيخ الخضر، إلا أنهما لم يلتزما. خلاصة القول التي يمكن أن نختم بها: إن هذا الديوان "خواطر الحياة" لصاحبه محمد الخضر حسين وثيقة هامة، تفيد الباحث في التعرف على كثير من المعطيات التاريخية، والنظريات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي كانت تشغل بال هذا العالم، وبالَ غيره من المثقفين المعاصرين له، والمهتمين بشؤون العالم الإسلامي وقضاياه. كما يبيّن هذا الديوان قيمة صاحبه الشعرية، وهو ديوان يحتاج إلى دارسة علمية أكاديمية متأنية، وما قدمناه اليوم لا يكاد يتجاوز حد الانطباع، أو قلْ: هو خطرات حول ديوان "خواطر الحياة". وشكراً لكم.

جهود الأزهر في مواجهة التغريب الإمام محمد الخضر حسين الجزائري نموذجا

محاضرات الملتقى جهود الأزهر في مواجهة التغريب الإمام محمد الخضر حسين الجزائري نموذجا ً الدكتور نجيب بن خيرة (¬1) * محمد الخضر حسين ... في سطور: - أصله من "طولقة" بالصحراء الجزائرية، ولا تزال أسرته بطولقة، وهي أسرة "عثماني" القائمين على الزاوية العثمانية العامرة، وبلدة "برج ابن عزّوز"؛ حيث أحفاد أخواله هناك، ومنهم: العلامة محمد المكي بن عزّوز -رحمه الله-. - ولد في مدينة "نفطة" بتونس (1293 هـ = 1876 م). - تلقى تعليمه في مسقط رأسه، ثم انتقل إلى تونس العاصمة مع أسرته، والتحق بجامع الزيتونة. - بعد تخرُّجه في جامع الزيتونة عمل بالخطابة والتدريس والقضاء. - أسَّس في تونس مجلة لخدمة الفكر الإسلامي بعنوان: "السعادة العظمى". - في سنة (1329 هـ / 1911 م) وجّهت إليه التهمة ببثّ روح العداء ¬

_ (¬1) الدكتور نجيب بن خيرة الأستاذ المحاضر بقسم التاريخ/ كلية الآداب والعلوم الإنسانية - جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية/ قسنطينة - الجزائر.

للغرب، ولاسيما سلطة الحماية الفرنسية، فسافر إلى الآستانة متذرعاً بزيارة خاله السيد محمد المكي بن عزّوز، ولما ظنَّ أن الزوبعة هدأت، عاد إلى تونس بطريق "نابولي" ولما استقر به المقام، رأى أنه لا يطيق البقاء في ذلك الجو الخانق، فازمع الهجرة منه نهائياً، ووقع اختياره على دمشق ليتخذها وطناً ثانياً له. - تعرض في بلاد الشام -أيضاً- للاضطهاد والسجن بسبب اتهام جمال باشا له بالتآمر على السلطة. - نزل محمد الخضر حسين القاهرة سنة (1339 هـ = 1920 م)، واشتغل بالبحث وكتابة المقالات، وقد ساقت له الأقدار الأستاذ الأديب أحمد تيمور باشا الذي قدّر موهبته، وعرف قدره، فساعده على الاستقرار في القاهرة باختياره مصححاً بدار الكتب المصرية، فسمحت له هذه الوظيفة أن يتصل بأعلام النهضة الإسلامية في مصر، وتوثقت علاقته بهم، وتقدم لامتحان شهادة العالمية بالأزهر، وعقدت له لجنة الامتحان برئاسة العلامة عبد المجيد اللبان مع نخبة من علماء الأزهر الأفذاذ، وأبدى الشيخ من رسوخ القدم ما أدهش الممتحنين، وكانت اللجنة كلما تعمّقت في الأسئلة، وجدت من الشيخ عمقاً في الإجابة، وغزارة في العلم، وقوة في الحجّة، فمنحته اللجنةُ شهادةَ العالمية، وبلغ من إعجاب رئيس اللجنة بالشيخ العالم أن قال: "هذا بحرٌ لاساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج؟! ". * إلغاء الخلافة الإسلامية ... أول الوهن السياسي: في شهر مارس 1924 م، وقع إلغاء الخلافة الإسلامية نهائياً من طرف الجمعية الوطنية التركية الكبرى، مدعية أن الشعب التركي قد فوض الجمعية

التي تمثله تمثيلاً حقيقياً جميعَ حقوق سيادته وحاكميته .. وقد أثار هذا القرار ضجة كبيرة في العالم الإسلامي، فكُتبت المقالات المعارضة، وعُقدت المؤتمرات للتشهير بهذا الإلغاء الذي يتعارض مع مذهب أهل السنَّة، الذي يشير إلى أن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسةِ دنيا الناس به. وقد كان الملك فؤاد ملكُ مصر من أكبر المعارضين والحاثّين لرجال الدين وشيوخ جامع الأزهر على التنديد بهذا القرار وبأصحابه؛ ذلك لأنه كان يسعى لتولي خلافة المسلمين، وزعامة العالم الإسلامي. وقام أنصار الملك فؤاد وأتباعُه بترويج الفكرة، والدفاع عنها باستعمال وسائل عديدة. وفي خضم هذا الاختلاف الشديد القائم بين المدافعين عن هذه الخطة الإسلامية، وبين المناوئين لها، أصدر الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الأزهر كتابه: "الإسلام وأصول الحكم" في غرة أفريل 1925 م، وأكد فيه أن الخلافة ليست ضرورية لقيام حكومات إسلامية حديثة، وأنها ليست من الدين في شيء ... وقد أثار هذا الكتاب ضجة كبرى في أوساط علماء الأزهر، وعدّوه خروجاً على إجماع الأمة، وما ألفته وتلقته بالقبول عبر تاريخها السياسي الطويل. واغتنم الشيخ محمد الخضر حسين هذه المناسبة للمساهمة في خوض هذه المعركة الدينية والسياسية، فألّف كتاباً ردَّ فيه على الشيخ عبد الرازق سماه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، ورتّبه نفس الترتيب المتبع

في الأصل المردود عليه (¬1). واعتبر الشيخ محمد الخضر حسين أن كتاب علي عبد الرازق مظهر من مظاهر التغريب التي هبّت على المجتمعات الإسلامية تريد النيل من خلافتها، وتأجيج خلافاتها، وتشتيت صفوفها، بعدما كانت تحت مظلة خلافة إسلامية جامعة .. ولكن الشيخ استطاع أن يحقق مأرباً آخر بتأليفه لهذا الكتاب، وهو: تلبية رغبة القصر الملكي، واستجابة لطلب أنصاره ومؤيديه مما ناله به من حظوة ومكانة عند الملك، ويؤكد ذلك: إهداء الكتاب إلى خزانة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملكِ مصر المعظم، يقول في خاتمته: "تلك المزية (رعاية الدين) التي أصبح بها صاحب الجلالة واسطة عِقْد ملوك الأمم الشرقية قد أخذت في نفسي ماخذ الإكبار والإجلال، ودعتني إلى أن أقدم إلى خزانته الملكية مؤلَّفاً قمت فيه ببعض حقوق إسلامية علمية، وهو: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، ورجائي أن يتفضل عليه بالقبول، والله يحرس ملكه المجيد، ويثبت دولته على دعائم العز والتأييد"، ويختم هذا الإهداء بالعبارة التالية: "المخلص في الطاعة: محمد الخضر حسين". وقد تمكن الشيخ من الحصول على الجنسية المصرية، مما سمح له أن يندمج كلياً في المجتمع المصري، ويحقق ما كان يصبو إليه. * الخضر حسين ... ينقض طه حسين! لا شك أن حياة الشيخ الخضر في بلاد "الجريد" جعلته يعيش كالنخلة، ¬

_ (¬1) انظر: محمد مواعدة، الشيخ محمد الخضر حسين، حياته وآثاره. دمشق: الدار الحسينية، (ص 76 - 82).

أصلُها ثابت، وفرعها ثابت، لا تهزها أعاصيرُ التغريب التي هبت على المؤسسات العلمية التي رعى المستعمر غراسها، واستطاع أن يُلَمِّعَ بعضَ رجالاتها، ومن بينهم: الأديب طه حسين، الذي ألف سنة 1926 م كتاباً سمّاه: "في الشعر الجاهلي"، اعتبر فيه أن الشعر مُنتَحَل، لا يمثل الحياة الدينية أو العقلية أو الاجتماعية فيه، ولا يمكن أن نعتمد على هذا الشعر في تصور اللغة وخصائصها وأساليبها عند الجاهليين، محتجاً بما يرويه الرواة من الخلاف بين لغة الشمال، وبين لغة الجنوب. ويتناول ذكرَ إبراهيم وإسماعيل - عليهما الصلاة والسلام - بكلام أقلُّ ما يوصف به من أنه كُفر بكُتبه ورسله يؤذي إيمانَ المؤمنين، ويفسد عقائد صغار الطلاب الذين ألقي عليهم، فيقول مثلاً: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما -أيضاً-، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل ابن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين العرب واليهود من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى" (¬1). وواضح من كلام طه حسين مدى التأثير الاستشراقي المتحامل في فكر الرجل، وإعداده بوقاً يردِّد كلاماً طالما ردَّدته كتابات الغربيين من أمثال (مرجليوث)، وغيره. ¬

_ (¬1) محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ط 8، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1986 م، 298 - 299.

هاج هذا الكتاب الرأي العام، فثار الناس، وتوالت المقالات في نقد الكتاب ومهاجمة مؤلِّفه، وفضح نُقوله عن الكتابات الغربية المغرضة، وقد شارك الشيخ محمد الخضر حسين بتأليف كتاب لا في النقد، بل في نقض كتاب "الشعر الجاهلي"، ولا شك أن كلمة (نقض) أكثر حدة وشمولاً من كلمة (نقد)، "وكان أسلوب الكتاب أدنى إلى أسلوب الأزهر المتبع في الحواشي، والذي يتحرى الدقة في تتبع النص كلمة كلمة. فهو يتناول في نقده طه حسين صفحة صفحة، بل سطراً سطراً. فيقدم بين يدَيْ نقدِه نصَّ الفِقرة أو الجملة التي سيتناولها بالمناقشة، مشيراً إلى رَقْم الصحيفة التي جاءت فيها، ثم يُعقب بمناقشتها، مفيضاً في ذلك ما بدا له، في صبر وحرص واستقصاء. وقد كان كتابه أطولَ ما أُلف في الرد على طه حسين، إذ يقرب من أربع مئة صفحة. وقد ظهر في سنة (1345 هـ / 1926 - 1927 م) (¬1). وقد نال هذا الكتاب شهرة واسعة في الأوساط الثقافية والعلمية، وخاصة لدى علماء الأزهر، وبيق غزارة علم الشيخ، وسعة اطلاعه في ميادين اللغة والأدب والدين. * في ميادين الاصلاح: لم يرض الشيخ الخضر حسين أن يقضي حياته موظفاً بدار الكتب، يتقاضى المرتب، ويتطلع للترقية في المنصب، ويعيش كيفما اتفق .. بل كانت نفسه تؤاقة تعشق المعالي، ولا ترضى بالخمول والسعي وراء مطالب العيش الرتيب ... نزل إلى الميدان يبارز التغريب في ميادين العمل الصحفي ¬

_ (¬1) المرجع نفسه (ص 302).

والجمعوي .. يلقي الدروس والمحاضرات في الأندية والمجامع، ويحرر المقالات في الصحف والمجلات، وينشئ الجمعيات، ويشترك مع الغيورين على الإسلام في إصلاح أوضاع الأمة التي أنهكها الدخيل، واستولى عليها بقوته وفكره، فأحالها شبحاً لا تصلح للحياة، ولا تصلح الحياة بها! فنفخ الشيخ -عبر مقالاته- في طوايا الأمة العزّةَ والإباء، راجياً منها البرء والشفاء؛ بما أوتي من سعة العلم، وقوة العارضة، وحسن البلاغ. وهو في طريقه إلى تحقيق هدفه يبحث عن العلل التي لبست الأمم الإسلامية، وقعدت بها في خمول، حتى ضربت عليها الدول الغربية بهذه السلطة الغاشمة، فيقول: "وأنت إذا تدبرت هذه الأسباب، وجدت السبب الحق منها يرجع إلى تهاون هذه الأمم بتعاليم الشريعة، ونكث أيديهم من المشروعات التي عهدت إليهم للقيام عليها، والعلة في ضعف هممهم، وقلة إقبالهم على ما أرشد إليه القرآن -من وجوه الإصلح ووسائل المنعة والعزة- إنما هي تقصيرهم في التواصي بالحق، وعدم استقامة زعمائهم على طريقة الدعوة والإرشاد" (¬1). "والشيخ حسين -بحكم هدوء طبعه، وتوازن مزاجه، وقوة ثقافته- عُدّ من "حزب المصلحين المعتدلين" كما وصفه صاحب "المنار" الشيخ رشيد رضا، والعلامة التونسي محمد الطاهر بن عاشور" (¬2). ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين، "الدعوة في الإصلاح"، القاهرة: المطبعة السلفية، 1346 هـ (ص 50). (¬2) محمد مواعدة، الشيخ محمد الخضر حسين .. مرجع سابق، (ص 209).

والظاهر: أن رحلته إلى ألمانيا، وإقامته هناك، وتعلمه اللغة الألمانية، واطِّلاعه من خلالها على الثقافة الغربية، فتحت فكره، وأنضجت أفكاره، ووسَّعت أفقه، وأعطت لمنهج إصلاحه بُعداً حضارياً وعالمياً لم يعهده الكثير من شيوخ الأزهر في عصره. كما اتجه الشيخ إلى تأسيس الجمعيات الإسلامية، وهو المنهج الذي اختاره أنصار (الجامعة الإسلامية) في التعريف بقضايا الأمة، والدفاع عنها، وجمع كلمتها تحت راية إسلامية واحدة (¬1). فاشترك مع جماعة من الغيورين على الإسلام سنة (1346 هـ = 1928 م) في إنشاء (جمعية الشبان المسلمين)، ووضع لائحتها الأولى مع صديقه محبِّ الدين الخطيب، وقامت الجمعية بنشر مبادئ الإسلام، والدفاع عن قيمه الخالصة، ومحاربة الإلحاد العلمي. ولا تزال هذه الجمعية بفروعها المختلفة تؤدي بعضاً من رسالتها القديمة. وقد كان ميثاق الجمعية يبدأ بهذه الكلمات: "عليّ عهدُ الله وميثاقه، لأقومَنَّ بقدر طاقتي: أولاً - بإحياء هداية الإسلام في عقائده وآدابه، وأوامره ونواهيه ولغته، ومقاومة تيار الإلحاد والإباحية، المهددين لهذه الهداية ... "، وأصدرت الجمعية العدد الأول من مجلتها في جمادى الأول سنة (1348 هـ / أكتوبر 1929 م). وكتب يحيى الدرديري المقالة الافتتاحية، مشيراً فيها إلى ما ينشره دعاة الإلحاد من سموم باسم التجديد، داعياً إلى الرجوع للقرآن، واتخاذِه ¬

_ (¬1) انظر: عميراوي الحميدة، الأمير خالد وخطاب الحركة الوطنية الجزائرية، ط 1، الجزائر: دار الهدى، 2007 م، (ص 89 - 92).

أساساً ومرشداً ومرجعاً لنهضتها الخلقية التي بدونها لا تصلح أي نهضة أخرى، اجتماعية كانت أو اقتصادية أو غيرها، وجعله المرجع الأول والأخير في تمييز ما يصلح اقتباسه مما ينبغي تركه من المدنية الغربية الحديثة ... (¬1). وقد وصف محب الدين الخطيب الحال في ذلك الوقت، فقال في حديثه عن أول اجتماع عقدته الجمعية في دار "سينما الكوزمو" بدعوة من الشاعر أحمد شوقي، وقد حضره نخبة من الشيوخ والشباب: "كنت أنا وأحمد تيمور باشا -رحمه الله-، والسيد محمد الخضر حسين - حريصين على أن تكون هذه المؤسسة الأولى للإسلام في مصر قائمة على تقوى من الله وإخلاص، وكنا حريصين على أن يتولى إدارتها رجال يعرفون كيف يصمدون لتيار الإلحاد الجارف بعد أن استولى على أدوات الثقافة والنشر في العالم الإسلامي، وفي مصر على الخصوص، فكنا نبحث عن هؤلاء الرجال بين من نعرف ومن لا نعرف، ونستقصي الحقائق عن دخائلهم من غير أن يعلموا ... " (¬2). وأنشأ -أيضاً- (جمعية الهداية الإسلامية) التي برز هيكلها إلى الوجود يوم 31 رجب سنة (1346 هـ / جانفي 1928 م)، وكان نشاطها علمياً أكثر منه اجتماعياً، ضمَّت عدداً من شيوخ الأزهرة كالشيخ مصطفى المراغي، والأستاذ عبد الحليم النجار، وطائفة من شباب الأزهر المثقفين، وكوَّن بها مكتبة كبيرة كانت مكتبتُه الخاضةُ نواة لها، وأصدر مجلة باسمها كانت تحمل ¬

_ (¬1) محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية ... مرجع سابق، (ص 323 م). (¬2) المرجع نفسه، (ص 324).

الروائع من التفسير والتشريع واللغة والتاريخ. وكانت تهدف هذه الجمعية إلى: 1 - السعي لتمتين الصلات بين الشعوب الإسلامية، وتوثيق الروابط بينها، والقضاء على الخلافات بين الفرق الإسلامية المختلفة. 2 - التعريف بحقائق الإسلام، ونشرها بأسلوب يلائم روح العصر. 3 - مقاومة الإلحاد والدعايات المناوئة للدين الإسلامي بطرق علمية. 4 - السعي لإصلاح شأن اللغة العربية، وإحياء آدابها (¬1). وقد استعمل أعضاء الجمعية وسيلتين أساسيتين لتحقيق ذلك، وهما: 1 - إلقاء المحاضرات والمسامرات في المساجد عقب صلاة الجمعة، وفي بعض النوادي، وخاصة التابعة لفروع جمعية (الهداية الإسلامية). 2 - إصدار مجلة تحمل اسم الجمعية، يشارك في تحريرها نخبة من العلماء والفقهاء في الدين والأدب واللغة (¬2). والجدير بالذكر: أن مجلة "الهداية الإسلامية" لم تكن تهتم بنشر المقالات السياسية، بل كان التركيز فيها على الفكر والأخلاق والقيم، وهذه هي مداخل التغريب إلى قلب الأمة، يريد الشيخ بناء أسوار عالية حولها تحميها من كل غاشم كفور. ومما يدل على سعة أفق الشيخ في الإصلاح، فإن دور (جمعية الهداية) لم يقتصر على النشاط في مصر فقط، بل أنشئت لها فروع في ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية"، مج 1، مج 3. (¬2) محمد مواعدة، الشيخ محمد الخضر حسين. مرجع سابق (ص 89).

بلدان عربية؛ مثل: سورية والعراق. "وقد قضت مجلة "الهداية الإسلامية" عشر سنين متتالية، وهي تدعو إلى الخير والصلاح، وتُواصل البحث عن الحقائق الدينية والعلمية والأدبية، سالكة في جهادها سبيل الحكمة، لا تجمد عن حق، ولا يطيش لها قلم في باطل .. فكبر حجمها، كما أصبحت تحتوي على سبعة عشر باباً، يتناول فيها العلماء والفقهاء في اللغة والدين جميع القضايا التي تتصل بالإسلام والمسلمين؛ مثل: تفسير وشرح الأحاديث النبوية الصحيحة، ونشر الفتاوى والأحكام، والقيام بمقارنات بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية ومدى تلاؤمهما، ومكافحة بعض البدع والعادات السيئة. وكان لهذه الأعمال الجليلة نتائجُها المثمرة؛ إذ اهتم جميع المثقفين بهذه المجلة "الإسلامية العلمية الأدبية"، فانتشرت في جميع الأوساط، وابتهج بها القراء المسلمون؛ مما مكنها من القيام بدور كبير في توجيههم وإرشادهم، وفي إصلاح المجتمع الإسلامي بصورة عامة" (¬1). ويبدو أن مجلة "الهداية الإسلامية" بعثت في نفوس العلماء والكتّاب عزيمة لا تلين في مقاومة الفكر التغريبي الوافد الذي يتسلل إلى الثقافة الذاتية للأمة، ويعبث بمقدساتها، ويبث الشك والريب في ثوابتها؛ مما جعل السيد عبد العزيز بك محمد المستشارَ بمحكمة الاستئناف، وعضوَ المجلس الأعلى للأزهر يقدم اقتراحاً يقضي بإنشاء مجلة إسلامية، تساهم في تنوير المسلمين، وفضح مخططات أعدائهم، ومكافحة التيارات المنحرفة النابتة بين ظهرانيهم .. ¬

_ (¬1) المرجع نفسه، (ص 92 - 93).

ولما أسندت مشيخة الأزهر إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر محمد الأحمدي الظواهري، كان أول ما توجهت إليه عنايته مشروع هذه المجلة، فأخذ يدبر بجد وحكمة حتى لانت صعابه، وتهيأت بتأييد الله أسبابه .. فقرر المجلس الأعلى- بعد دراسة الموضوع - تخصيصَ مبلغ مالي ينفق على المجلة، التي تحمل اسم "نور الإسلام"، وأسندت رئاسة تحريرها إلى الشيخ محمد الخضر حسين. وذلك في (المحرم من عام 1349 هـ = 1931 م)، ودامت رئاسته لها ثلاثة أعوام. وقد أوضح الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله تعالى- في أول افتتاحية عدد منها أسبابَ إصدارها، ومبيناً خطتها، فيقول: "خرجت هذه المجلة بعد أن رسمت لنفسها خطة لا تمس السياسة في شأن، وقصارى مجهودها: أن تعمل على نشر آداب الإسلام، وإظهار حقائقه نقية من كل لَبْس، وتكشف عما أُلصق بالدين من بِدَع ومحدَثات، وتنبه على ما دُسَّ في السنَّة من أحاديث موضوعة، وتدفع الشُّبه التي يحوم بها مرضى القلوب على أصل من أصول الشريعة، وتعنى- بعد هذا - بسِيَرِ العظماء من رجال الإسلام، وإن في سيرهم لتذكرةً لقوم يفقهون، ويضاف إلى هذا: ما تدعو فائدته إلى نشره من المباحث القيمة، علمية كانت أو أدبية ... والمجلة ليست منقطعة عن الحركة الفكرية في عصرها، بل تابعت ذلك عن ما يجيء في الصحف الأجنبية من مباحث علمية، أو مقالات تتحدث فيها عن الإسلام، غير أننا لا نضع أمام القراء مقالة في الإسلام من غير منصِف، إلا أن نصلها بما يستبين بها خطأُ كاتبها، ناقلاً كان أو مدَّعياً ... هذا غرض المجلة، وهو -بلا ريب- غرض نبيل، وهذه خطتها، وهي

كما عرفت خطة من يمشي على سواء السبيل، وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل" (¬1). ويشير الشيخ محمد الخضر حسين في تقديمه العدد الأول من السنة الثالثة (المحرم 1351 هـ / مايو 1932 م) إلى خطر الذين يتخفّون في زِيِّ المسلمين، ويتظاهرون بالدفاع عنه، من فاسدي العقيدة الذين ينشرون سمومهم باسم الباحث العلمي، فيقول: "لاحظت المجلة أن من المُضلّين مَنْ يكشف الغطاء عن سريرته، ويركب الصراحة في دعايته، ومنهم من يدس الباطل في عبارات يصبغها بما يشبه لون الحق، فيكون أثره في نفوس بعض الأحداث أشد من أثر الداعي إلى الضلالة علانية. فلم تقصُر المجلة جهادها على دفاع ما يصدع به المبطلون من آرائهم المردية، وعُنيت بنقد المقالات أو المؤلفات التي تصدر تحت اسم: البحث العلمي، أو الدعوة إلى التجديد، وهي تنطوي على روح لا يأتي على نفس غافلة إلا أطفأ نورها، وخالطها من الحيرة أو الجحود ما كان بعيداً عنها ... " (¬2). * محمد الخضر حسين ... وجهالات دعاة التنوير: اصطدمت مجلة "نور الإسلام" منذ بداياتها بالكتابات المنحرفة عن الإسلام، والتيار الإلحادي القويّ آنذاك، الذي كان ينادي بأن يتحكم العقل والعلم في مسيرة الحياة، دون أيّ تدخّل من النصوص الشرعية، أو سيطرة للدين على شؤون الحياة. ¬

_ (¬1) مجلة "نور الإسلام"، العدد الأول، محرم 1349 هـ / 1930 م، المجلد الأول. (¬2) محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية ... مرجع سابق، (ص 326).

فهاجم الشيخ محمد الخضر حسين دعاة العَلْمانية، وأنصارَ فصل الدين عن الدولة؛ بدعوى أن الجمع بين السلطتين الدينية والزمنية سبب لتأخر المسلمين، وأرجع سبب محاربة هذا التيار للدين إلى الإعجاب غير المتعقّل بالغرب، عبرَ وسائل الغزو الفكري في المجتمعات الإسلامية، ويرى أن الصورة في ذهن الشرقي عن أوروبا صورة مبالغَ فيها نحو الكمال والرقي الإنساني؛ بفضل الدعاية الثقافية والأدبية التي تقوم بها الأفلام السينمائية، ومدارس الإرساليات الأجنبية، والنشرات التي تحمل طابع البحث العلمي. وقد كتب -رحمه الله- مقالاً في افتتاحية "نور الإسلام" (¬1) بعنوان: "ضلالة فصل الدين عن السياسة" ردّ فيه ردّاً علمياً منصفاً على مقال خرجت به إحدى المجلات تحت عنوان: "داء الشرق ودواؤه"، وفيه دعاية إلى فصل الدين عن السياسة، زعم فيه صاحبه: أن سبب تأخر المسلمين عدمُ فصل الدين عن السياسة، ورذ عليه فقرة فقرة، موضحاً زَيْفَ ما ورد فيه من أباطيل، وما نفخ فيه من نفاثات الفكر الغربي وفلسفته في الحكم والسياسة، مستمداً رده العلمي من آي القرآن، وسنّة المصطفى، وسير السلف الصالحين. وعندما قال صاحب المقال: "ولو رزق المسلمون رجالاً ينظرون بعين الناقد البصير، من قبل قرنين، وفصلوا الدين عن السياسة، لكان للإسلام اليوم من الشأن والسيادة في الممالك التي اغتصبتها الدول الأورويية ما لا يقل عما للفاتيكان، وما كان خطر الاستيلاء عليهم عظيماً ... ". رد عليه الشيخ بقوله: "إن فصل الدين عن السياسة هدمٌ لمعظم حقائق ¬

_ (¬1) الجزء الخامس، مج 2، جمادى الأولى، 1350 هـ.

الدين، ولا يُقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين، وليست هذه الجناية بأقلَّ مما يعتدي به الأجنبي على الدين إذا جاس خلال الديار، وقد رأينا الذين فصلوا الدين عن السياسة عَلَناً كيف صاروا أشد الناس عداوة لهداية القرآن، ورأينا كيف كان بعض المبتَلين بالاستعمار الأجنبي أقرب إلى الحرية في الدين ممن أصيبوا بسلطانهم، ونحن على ثقة من أن الفئة التي ترتاح لمثل مقال الكاتب لو ملكت قوة، لألغت محكم يُقضى فيها بأصول الإسلام، وقلبت معاهد تُدَرَّس فيها علوم شريعته الغراء إلى معاهدِ لغوِ ومجون، بل لم يجدوا في أنفسهم ما يتباطأ بهم عن التصرف في مساجدَ يذكر فيها اسمُ الله تَصَرُّف من لا يرجو الله وقاراً. يقول الكاتب: "لو فصلوا الدين عن السياسة، ما كان خطر الاستيلاء الأجنبي عليهم عظيماً"، يقول هذا كأنه لا يدري أن السياسة الطاغية لا تهاب إلا حديداً أشدَّ بأساً من حديدها، وناراً أشد حرّاً من نارها، فليس من المعقول أن تردها عن قصدها سلطةٌ دينية ليس في كِنانتها سهم، ولا في كفها حُسام، أما قياسه حال السلطة الدينية الإسلامية -على فرض صحة إقامتها- بحال السلطة الكاثوليكية في احترام مؤسساتها، وإطلاق يدها في عمل يرفع أهل ملتها، فمغالطةٌ أو غفلة عن الفرق بين سلطة دينية يجد فيها الاستعمار مؤازرة أو موافقة على أي حال، وسلطة دينية قد يكون في بعض أصولها ما لا يلائم طبيعة الاستعمار. ولو ربط المسلمون سياستهم بالدين من قبل قرنين ربطاً محكماً، لم يجد الغاصب للعبث بحقوقهم مدخلاً، ولو أعلنوا فصل الدين عن السياسة، لظلوا بغير دين، ولوجد فيهم الغاصب من الفشل أكثرَ مما وجد، فليست

مصيبة المسلمين في تركهم السياسة، مربوطة بالدين كما زعم الكاتب، وإنما هي ذُهولهم عن تعاليم دين لم يدع وسيلة من وسائل النجاة إلا وصفها، ولا قاعدة من قواعد العدل إلا رفعها". بهذه الروح ظل الشيخ محمد الخضر حسين يدافع عن حقائق الإسلام، ويرد أباطيل خصومه، بقلم صلب على الحق، ماض غير هياب .. وقد تعرضت مجلة "نور الإسلام" -أيضاً- إلى فضح أنشطة التنصير في العالم الإسلامي، وكشف مخططاته الرامية لهدم الدين الإسلامي، وإزالته بشتى الوسائل الخبيثة من قلوب المسلمين، فنقلت عن مجلة "العالم الإسلامي" التي يحرّرها القس "زويمر" مخطّطاتِ التنصير في العالم الإسلامي، تحت غطاء المستشفيات والمدارس والأعمال الخيرية، وخير مثال على ذلك هو مستشفى "هنري" في أسيوط. وكذلك قامت المجلة بعرض الشُّبهات التي يقذفها المنصِّرون والمستشرقون في مؤلفاتهم إلى المسلمين البسطاء بغيةَ زعزعة الدين في قلوبهم، وتولّت المجلة الردّ على هذه الشبهات بأساليب منهجية علمية، وممن تولّى الردّ عليهم في هذا السبيل: الكاتب "محمد فريد وجدي"، فقد ردّ على "أندريه هارفيه" ما كتبه في جريدة "كوكب الشرق" المصرية من شبهات كاذبة على الإسلام. وكذلك تولّى وجدي الردّ على المستشرق "فرنك فرستر" الذي كتب سلسلة عن تاريخ الإسلام، فنبذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ببعض التهم الكاذبة، وكشفَ زيفَها وبطلانها بحجج قوية متينة. وخاضت المجلة العديد من المعارك الفكرية على الكثير من الجبهات،

وعبر العديد من المحاور الفكرية، إلا أن الباحث الدكتور "جمال النجار" في دراسته القيمة عن صحافة الاتجاه الإسلامي في مصر بين الحربين العالميتين يُجمل القول عن أبرز اهتمامات مجلة "نور الإسلام" -كما يراها- على النحو التالي: 1 - تفسير آيات من القرآن الكريم، وبيان ما في الذِّكر الحكيم، والسنّة النبوية المشرفة من أصول الأخلاق الفاضلة، وقواعد الأدب الكريمة التي يجدر بالمسلم أن يتبعها. 2 - متابعة الحركة الفكرية العالمية، وترجمة بعض ما يجيء في الصحف الأجنبية من مباحث علمية، أو مقالات صحفية تتحدث عن الإسلام، ومقاومة تيار الإلحاد ودعاتِه من العلمانيين والملحديين الذين يروّجون لفصل الدين عن شؤون الحياة العامة. 3 - مهاجمة التبرج والتعري والسُّفور، والاختلاط بين الجنسين، ومهاجمة الدعوة إلى تقليد المرأة المصرية للمرأة الأجنبية في كل أنماط الحياة، والدفاع عن الشرعية الإسلامية وأصولها، وبيان فساد النظريات والمذاهب الوضعية التي تتعارض معها. 4 - التصدي لحركة التبشير النصراني في العالم الإسلامي، وفضح خطط وتآمر المبشرين على المسلمين، ودحض الشبهات التي يُثيرها المستشرقون ضد الإسلام. 5 - الدعوة إلى إدخال الدين في المدارس الحكومية، ومحاربة المدارس الأجنبية، والدفاع عن اللغة العربية، وبحث مسألة ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، والتصدي للمذاهب الضالة، والحركات الهدامة المنتسبة

إلى الإسلام؛ كالصوفية، والقاديانية، والبابية، والبهائية". والذي يتتبع افتتاحيات الأعداد الأولى من مجلة "نور الإسلام" التي كان يحررها الشيخ محمد الخضر حسين بقلمه يتبين له مدى حرصه على صناعة أجيال جديدة تضبط حركتها في الحياة على أوامر الدين ونواهيه، وتشريعاته وقيمه، كما تتطلع إلى مستقبلها بكل عزيمة وإرادة مثلما تتطلع إليه الأمم التي تأخذ بأسباب السعادة والتقدم والنهوض. وهذه بعض عناوين هذه المقالات: - الانحراف عن الدين - علله - آثاره - دواؤه -. (العدد 2 مج 1 صفر 1349 هـ). - العلماء والإصلاح. (العدد 3، مج 1، ربيع الأول 1349 هـ). - المدينة الفاضلة الإسلامية. (العدد 4، مج 1، ربيع الثاني 1349). - أصول سعادة الأمة. (العدد 5، مج 1، جمادى الأولى 1349 هـ). - صدق العزيمة أو قوة الإرادة. (العدد 6، مج 1، جمادى الثانية 1349 هـ). - الغيرة على الحقائق والمصالح. (العدد 7، مج 1، رجب 1349 هـ). - كبر الهمة في العلم. (العدد 8، مج 1، شعبان 1349 هـ). - الدهاء والاستقامة. (العدد 9، مج 1، رمضان 1349 هـ). وفي معركته مع التغريب وآثاره البادية في أخلاق المجتمع، وما طرأ عليها من الانحراف المبين، الذي أخذ يدب في نفوس الناشئة دبيبَ السم الناقع في جسم اللسيع، أرجع الشيخ سبب ذلك كله إلى زيغ في العقيدة، وزيغُ العقيدة مصدر الأخلاق المرذولة في كل حين، واعتبر أن الدعاية إلى القبائح لم تبلغ علانيتها ما بلغته في أيامه، واعتبر أن دعاة التنوير والتحرير

والفن الجميل كثيراً ما يخادعون الشباب بهذه الشعارات الخادعة. وقد كتب -رحه الله- مقالا استهل بهه مجلة "نور الإِسلام" (¬1)، بعنوان: التعليم الديني في مدارس الحكومة: "ولم تتفش - الرذيلة وزيغ العقيدة وقبائح الأخلاق-؛ لأن وسائل ساعدت على سريان وبائه لم توجد قبل، وأمهات هذه الوسائل ثلاثة أمور: أحدها: هذه المدارس التي يفتحها الأجانب في أوطاننا باسم العلم، ويغفل بعض المسلمين عن سريرتها، فتأخذم بظاهرها، حتى يسلِّموا أطفالهم وهم على الفطرة إلى من يصبغ هذه الفطر بسواد، وينزع منها روح الأدب الذي يجعلهم أولياء لعشيرتهم، نصحاءَ لأمتهم. ثانيها: تهاون بعض الآباء بواجب أبنائهم؛ إذ يرسلون الناشئ إلى معاهد العلم بأوربا قبل أن يتلقن من علوم الدين ما يجعل عقيدته مطمئنة، فيلاقي في أثناء الدراسة هنالك، أو في بعض المحادثات شُبَهاً لا يجد في نفسه من الحجج ما يدفعها، وإذا تواردت الشبه على الناشئ، رانت على قلبه، وأصبح يبصر وجهَ الحق أسود قاتماً، فيعود إلى وطنه وهو يحمل لأبويه عقيدة أنهما في ضلال قديم، وذلك جزاء من يستهين بهدى الله، ولا يهمه إلا أن يكون لابنه رزق واسع، أو منصب في أحد الدواوين وجيه. ثالثها: أن كثيراً من الحكومات الإِسلامية ضعف فيها روح الاعتزاز بالدين الحنيف، فاستباح واضعو برامج التعليم العام في مدارسها أن لا يضربوا ¬

_ (¬1) الجزء السادس، جمادى الآخرة، المجلد الثاني، مطبعة المعاهد الدينية الإسلامية، 1350 هـ / 1931 م، (ص 395 - 401).

لعلوم الدين بسهم، ومن يضرب لهم، فبسهمٍ لا يغني من جهل، والتعليم الذي يُهضم فيه جانب العلوم الدينية، لا يرجى منه تهيئة لنشء تتساقط عليهم الشُّبه فيطردونها، أو توسوس إليهم الشياطين فيستعيذون منها". لذلك حرص الشيخ محمد الخضر حسين على الدعوة إلى تعميم التعليم الديني في جميع المراحل والتخصصات؛ لأنه يدرك أن هذا النوع من التعليم هو صمّام الأمان الذي يحمي الأجيال الناشئة من حملات التغريب الهاجمة على عقلها وفكرها، فمنه تستمد المنهج، ومن خلاله تعرف الأحكام والتشريعات، وتترقى بتوجيهاته في مدارج الرقي الخلقي المنشود، وما ينبغي أن يحرم طلاب العلوم الحديثة من هذا كله، لتتوحد الرؤى والمنهل بين الطلاب جميعاً، فيقول -رحمه الله-: "ولو كان التعليم الديني آخذاً حقه في جميع مدارسنا، لم ير الناس ما يرونه فيها من التجافي بين أفراد نشؤوا في مدارس دينية، وآخرين نشؤوا في مدارس ليس للدين فيها نصيب، ولا منشأ لهذا التجافي إلا بُعد ما بين النشأتين، وإدخال العلوم الحديثة في المعاهد الدينية يذهب بجانب من هذا التجافي، فإذا عُنيت وزارة المعارف بدراسة علوم الدين درساً جديًا، اتحد أبناؤنا في أصل التربية، فيكون فضل المعاهد الدينية والمدارس الرسمية على الشرق في إخراجهما نشئاً يتقارب شعورهم، وتتدانى عواطفهم، فيتسابقون إلى أعباء الحياة بكواهل ملتئمة، ويرمون في وجوه العظائم عن قوس واحدة". لم يقتصر النشاط الإصلاحي للشيخ محمد الخضر حسين على مواجهة التغريب، وكشف أساليبه، وفضح مؤامراته، بل تعدى ذلك إلى الكشف عن خطر الحركات التي تبرقعت باسم الدين، ولبست لبوس الإِسلام، ورفعت

شعارات توهم الغافلين أنها من صميم القرآن، وحقائق التشريع، وهم -في حقيقة الأمر- من الدجاجلة المفسدين الذين ادّعوا كذباً وزوراً أنهم مهبط الوحي، وأنبياء العصر، ورسل رحمة للعالمين، فكتب -رحمه الله- كتاباً فضح فيه ثلّة من هؤلاء، وهم "طائفة القاديانية"، وذكر في مقدمته: "لقد دلنا التاريخ الصادق أن الدين الحنيف يُبتلى في كل عصر بنفوس نزّاعة إلى الغواية، فتتنكب عن الحقائق، وتمشي في تحريف كلمه مُكبّةً على وجهها، وليس هذا الإغواء بمقصور على من يدّعون التفقه في الدين، ولم يتفقهوا؛ ككسر من زعماء الفرق المنحرفة على الرشد، بل يتعداهم إلى فئة تسول لهم نفوسهم ادعاء أنهم مهبط الوحي، وأنهم يتلقون ما يقولونه بأفواههم من الله تعالى بدون وسيلة كتابه الحكيم، وحديث رسوله الكريم. . . ومن هذا الصنف غلام أحمد مبتدعُ النِّحلَة القاديانية، وكثيراً ما وردتنا رسائلُ من البلاد العربية وغيرها؛ كأمريكا يسأل كاتبوها عن أصل هذه النحلة، ومبلغ صلتها بالإِسلام، وبالأحرى: بعد أن ظهر المقال الذي كشفنا فيه الغطاء عن النحلة البهائية، ونشرناه في الجزء الخامس من المجلد الأول من مجلة "نور الإِسلام"، ووردتنا رسائل أخرى مطوية على ما يصرح به دعاة هذه النحلة من الآراء، ويقترح مرسلوها نقد هذه الآراء، وتحذير المسلمين من الوقوع في مهالكها، ولم نشأ التعرض للكتابة في شأنها قبل اليوم؛ إذ لم يكن لدينا من كتب أصحابها ما نطلع به على أساسها، ونعرف منه حال واضعها. وقد انساق إلينا اليوم من كتب مبتدعها غلام أحمد، وبعض دعاتها ما جعلنا على بينة من أمرها، وها نحن أولاء نضع أمام حضرات القراء فصولاً فيما تقوم عليه هذه النحلة من المزاعم الخاطئة، ونلقي عليهم كلمات في

نشأة واضعها؛ ليكونوا على بصيرة من أنها دعوى زائغة، ولا يغيب عنهم أن دعاتها الذين يجوسون خلال ديار الإِسلام إنما يثيرون في نفوس شبابنا فتنة، والفتنةُ أشد من القتل" (¬1). وهكذا استطاع الشيخ محمد الخضر حسين أن يكشف زيف نحلة خطيرة ظلت حيناً من الدهر مطية ذلولًا للمستعمر الدخيل في بلاد الإِسلام، وأغرت بالدين حتى جعلت الناس -وخاصة في بلاد الهند- يعتقدون أن صاحبها مجددٌ من دعاة الإِسلام الحق، وأعلامه المصلحين!!. "لقد عاش الشيخ الخضر حي الضمير، شديد الحساسية؛ فقد رأى الأجنبي يحاول أن يطمس نور الشريعة عن عيون تهيم بالإِسلام، كما يبذل قوته الحاشدة لتشويه اللغة العربية، والحكم عليها بالجمود والتقهقر؛ لينصرف الناس عن قرآنهم المجيد، وأحاديثِ نبيهم الكريم، ثم تنقطع صلاتهم بأصحاب الذخائر العلمية الرائعة من ورثة الأنبياء وهداة المصلحين. لذلك أنشأ صحيفة "السعادة العظمى" على نمط "العروة الوثقى"؛ لتنشر محاسن الإِسلام، وتفضح أساليب الاستعمار، وكانت خطة السيد منذ حمل لواء الدعوة في صباه إلى أن لقي الله في شيِخوخته واضحة مفهومة، فهو يعتقد أن فساد الأمم الإِسلامية يرجع -في أصح أسبابه- إلى انصراف المسلمين عن هدي الشريعة الإِسلامية، ويرى أن السيطرة الأوروبية لم تملك زمام الأمور في الشرق إلا حين اعتصمت بالعلم، واستضاءت بالعقل، وأن الشلل العقلي لم تتمهد وسائلُه المؤسفة، وأسبابُه القاتلة في ربوع الدين ¬

_ (¬1) طائفة القاديانية: الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، 1986 م، (ص 5 - 7).

الحنيف، إلا حين استطاع الدخلاء أن يَلْبِسوا الحق بالباطل، فيصِموا الإِسلام بما هو براء منه من الجمود والتزمت والاستسلام، والأخذ بالخرافات والبدع والغيبيات؛ المزعومة مما لم يأت به وحي سماوي، أو هَدْي نبوي. ولذلك كانت مهمة "السعادة العظمى" شاقة خطيرة؛ إذ أخذت تحارب القوة والمال والنفوذ بعزم واثق، وجهد صابر أمين" (¬1). ومن يطالع روائع قلمه، وبخاصة ما كتبه في "رسائل الإصلاح" بأجزائه الثلاثة، يدرك مدى اعتزاز الشيخ الخضر بأمجاد أمته، وافتخاره بتراثها العريق، والشموخ بحضارتها الزاهرة، وكان ذلك أمراً لا بد منه في عصر تتبرج فيه الأفكار والفلسفات؛ لتدل بأفضالها على الناس بحق أو بغير حق، وتُلحق بالشرق كل ضعف ونقيصة، وتنعت الغرب بجميل النعوت، وكمالِ الأوصاف. وقد جاء في مقدمة كتابه "نقض الشعر الجاهلي" ما يلي: "نهضت الأمم الشرقية فيما سلف نهضة اجتماعية، ابتدأت بطلوع كوكب الإِسلام، واستوثقت حين سارت هدايته سيرها الحثيث، وفتحت عيون هذه الأمم في طريقة الحياة المثلى، سادت هذه النهضة، وكان لها الأثر الأعلى في الأفكار والهمم والآداب. ومن فروعها: نهضة أدبية لغوية، جعلت تأخذ مظاهرها العلمية لعهد بني أمية، واستوت على سوقها في أيام بني العباس. ¬

_ (¬1) محمد رجب البيومي، النهضة الإِسلامية في سير أعلامها المعاصرين، ط 1، دمشق: دار القلم، 1995 م، 1/ 55.

تمتع الشرق بنهضته الاجتماعية والأدبية حُقُباً، ثم وقف التعليم عند غاية، وأخذ شأناً غير الشأن الذي تسمو به المدارك، وتنمو نتائج العقول، فإذا غفوة تدبُّ إلى جفون هذه الأمم، ولم تكد تستفيق منها، إلا ويدٌ أجنبية تقبض على زمامها. التفت الشرق إلى ما كان في يده من حكمة، وإلى ما شاد من مسجد، وإلى من شبَّ في مهده من أعاظم الرجال، وأخذ ينظر إلى ماضيه؛ ليميِّز أبناؤه بين ما هو تراث آبائهم، وبين ما يقتبسونه من الغرب، ويشعروا بما كان لهم من مسجد شامخ، فتأخذهم العزة إلى أن ينضموا إلى التالد طريفاً، وليذكروا أنهم ذريّة أولئك السراة، فلا يرضَوا أن يكونوا للمستبدين عبيداً" (¬1). هذا هو المجال الذي انطلق فيه يراع الشيخ محمد الخضر حسين طوال حياته: مجال التذكير بالأمجاد عن دراسة وتنقيب، وكشف الخداع عن بهارج الغرب في استشفاف ونفاذ، ووضع العلاج لأدواء الشرق في بصر وتشخيص. وقد ألّح في ذلك إلحاحاً جعل فريقاً من المؤرخين يفهمون رسالته الإصلاحية على غير وجهها الصحيح. فالأستاذ (ولفريد كانتويل) أستاذ الدراسات الإِسلامية بجامعة (مونتريال) يضع كتاباً عن الإِسلام في التاريخ الحديث، يتعرض فيه إلى مجلة "الأزهر"، موازنًا بين رئيسي تحريرها السابقين: محمد الخضر حسين، ومحمد فريد وجدي، فيجعل الأول ممثلاً للمدرسة السلفية فقط، والثاني مجدداً عصرياً ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين، "نقض الشعر الجاهلي".

تسير طريقتُه في التجديد على قواعد المعرفة الحديثة، وهذا شَطَط بالغ تنّبه إليه الأستاذ عباس العقاد حين تعرّض لنقد الكتاب، فقال (¬1): "ويقول صاحب الكتاب في مقابلته بين منهج الشيخ الخضر، ومنهج الأستاذ وجدي: إن أولهما يعتبر الإِسلام وحياً تاماً، قد تنزل على صورته الكاملة عند عصر الرسالة الإِسلامية، فلا إضافة إليه، ولا زيادة عليه، ولا تحوير فيه، وإنما الإيمان بالإِسلام هو الذي يحتمل القوة والضعف، كما يحتمل زيادة المعرفة، أو النقصَ فيها، أو يحتمل المراجعة من عصر إلى عصر لتفقّد الآثار العصوية فيه، وليس الأستاذ الخضر -كما يرى المؤلف- من أنصار الحنين إلى الماضي، بل هو من أنصار الدعوة التي لا زمان لها؛ لأنها صالحة لكل زمان، ومهما تتجدد مذاهب المعرفة، فالمسلم يسلم أمره إلى إرادة الله كما هَدَته معارفه إلى فهم تلك الإرادة الإلهية بالدرس والإلهام، وقد تساوى في نظر الشيخ الخضر كلا الطرفين من المسلمين في الحاجة إلى التصحيح والإصلاح، وهما -على تعبير المؤلف-: طرف اليسار من المتعلمين الذين جاوزوا حدود الإِسلام، وطرف اليمين من الجامدين وأتباع الطرق الصوفية الذين ضيقوا حدوده عليهم، وإن لم يجاوزوه". كما تولى رئاسة تحرير مجلة "لواء الإِسلام" سنة (1366 هـ = 1946 م)، وتحمَّل إلى هذه الأعباء التدريس بكلية أصول الدين، فالتفَّ حوله الطلاب، وأفادوا من علمه الغزير، وثقافته الواسعة، وعندما أنشئ (مجمع اللغة العربية) بالقاهرة سنة (1350 هـ = 1932 م)، كان من الرعيل الأول الذين اختيروا ¬

_ (¬1) مجلة "الأزهر"، رجب، سنة 1381 هـ.

لعضويته، كما اختير عضواً بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وأثرى مجلة "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة ببحوثه القيمة عن صحة الاستشهاد بالحديث النبوي، والمجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية، وطرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية. * مشيخة الأزهر: نال الشيخ عضوية جماعة كبار العلماء برسالته القيمة "القياس في اللغة العربية" سنة (1370 هـ = 1950 م)، ثم لم يلبث أن وقع عليه الاختيار شيخاً للجامع الأزهر في (26 ذي الحجة 1371 هـ = 16 سبتمبر 1952 م)، وكان الاختيار مفاجئاً له، فلم يكن يتوقعه أو ينتظره بعدما كبر في السن، وضعفت صحته، لكن مشيئة الله أبت إلا أن تكرم أحد المناضلين في ميادين الإصلاح؛ حيث اعتلى أكبر منصب ديني في العالم الإِسلامي. وكان في ذهن الشيخ -حين ولي المنصب الكبير- وسائلُ لبعث النهضة في مؤسسة الأزهر، ويرامجُ للإصلاح، لكنه لم يتمكن من ذلك، ولم تساعده صحته على مغالبة العقبات، ثم لم يلبث أن قدّم استقالته احتجاجاً على اندماج القضاء الشرعي في القضاء الأهلي وكان من رأيه أن العكس هو الصحيح، فيجب اندماج القضاء الأهلي في القضاء الشرعي؛ لأن الشريعة الإِسلامية ينبغي أن تكون المصدر الأساسي للتشريع، وكانت استقالته في (2 جمادى الأولى 1372 هـ = 7 يناير 1954 م)، ويذكر له في أثناء توليه مشيخة الأزهر قولته: "إن الأزهر أمانة في عنقي، أُسلمها حين أُسلمها موفورةً كاملة، وإذا لم يتأتَّ أن يحصل الأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقلَّ من أن لا يحصل له نقص"، وكان كثيراً ما يردد: "يكفيني كوبُ لبن،

وكسرةُ خبز، وعلى الدنيا بعدها العفاء". * مؤلفاته: كان الشيخ عالماً، فقيهاً، لغوياً، أديباً، كاتباً من الرعيل الأول، أسهم في الحركة الفكرية بنصيب وافر، وترك لقراء العربية زاداً ثرياً من مؤلفاته، منها: - "رسائل الإصلاح"، وهي في ثلاثة أجزاء، أبرز فيها منهجه في الدعوة الإِسلامية، ووسائل النهوض بالعالم الإِسلامي. - "الخيال في الشعر العربي". - "آداب الحرب في الإِسلام". - "تعليقات على كتاب الموافقات للشاطبي". - ديوان شعر "خواطر الحياة". بالإضافة إلى بحوث ومقالات نشرت في مجلة "الأزهر"، و"نور الإِسلام"، و"لواء الإِسلام"، و"الهداية الإسلامية". وقد جمع ابن أخيه الأستاذ الباحث علي الرضا الحسيني تراث عمه في مؤلفات بلغت الأربعة عشرة كتاباً، قدمها باقة للمكتبة العربية، وذخراً للأجيال، تسطر حياة وفكر وجهاد عَلَم من أعلام النهضة الإِسلامية المعاصرة. * وفاته: وبعد استقالة الشيخ محمد الخضر حسين من المشيخة، تفرغ للبحث والمحاضرة، حتى لبى نداء ربه في مساء الأحد (13 من رجب 1377 هـ = 28 من فبراير 1958 م)، وصُلي عليه في الجامع الأزهر، ومشى في موكب جنازته علماء الأزهر، وأعيان الأمة، والمنتسبون إلى العلم، حتى بلغ

النعش (باب الخلق)، والموكب متصل فيما بينه وبين الأزهر، ودفن بجوار صديقه أحمد تيمور باشا بوصية منه، ونعاه العلامة محمد علي النجار بقوله: "إن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره إلا في النّدْرَى؛ فقد كان عالماً ضليعاً بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصدُ الناس ومعاقد شؤونهم، حفيظاً على العروبة والدين، يردّ ما يوجَّه إليهما، وما يصدُر من الأفكار منابذاً لهما، قويَّ الحجة، حسنَ الجدال، عفَّ اللسان والقلم. . ." (¬1). ¬

_ (¬1) أحمد تمام (الخضر حسين). ذكرى توليه مشيخة الأزهر، 26 ذي الحجة 1371 هـ موقع إسلام أون لاين - محب الدين الخطيب، شيخ الأزهر السابق السيد محمد الخضر حسين، مجلة "الأزهر"، الجزء الثامن، مج 29، شعبان 1377 هـ / فيفري 1958 م، (ص 736).

الإمام محمد الخضر حسين رجل العلاقات والمؤسسات العلمية

محاضرات الملتقى الإمام محمد الخضر حسين رجل العلاقات والمؤسسات العلمية (¬1) الدكتور مولود عويمر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في حدود الوقت الباقي أحاول أن ألخص هذه المحاضرة المكتوبة. أنا أنطلق من ملاحظة، ومن خلال دراستي مجموعة من أعلام المسلمين. وأنا أبحث عن هؤلاء العلماء والمفكرين والمعاصرين: شكيب أرسلان، محمد إقبال، حسن البنا، والمودودي، وغيرهم، أجد دائماً في طريق البحث الشيخ محمد الخضر حسين. وصلت إلى نتيجة بأن هذا العالم هو رجل العلاقات، تربطه علاقات متينة مع كبار العلماء المفكرين المعاصرين، سواء من المغرب العربي، وعلى رأسهم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، أو من رجالات وعلماء المشرق، منهم: شكيب أرسلان، وأبو الحسن الندوي، وغيرهم من العلماء المسلمين. هذه العلاقات، كيف أقامها؟ كيف وصل إليها؟ لقد استثمرها لخدمة قضايا المشرق العربي في المغرب، وقضايا المغرب في المشرق العربي، واستثمر هذه العلاقات من خلال تأسيس مؤسسات، فهو بالإضافة إلى أنه رجل ¬

_ (¬1) ملخص المحاضرة كما قرأها الدكتور مولود عويمر من جامعة الجزائر.

علاقات، هو رجل مؤسسات، وهو رجل رحلات، عاش أربعين سنة في تونس، وثمان سنوات في سورية، وسنة في الآستانة، وسنة أو أكثر في ألمانيا، وثمان وثلاثين سنة في مصر. في أي بلد ينزل فيه هذا العالم يقيم فيه علاقات تربط المغرب بالمشرق، و -أيضاً- يقيم مؤسسات من خلال تأسيس جمعيات وصحف. أسس مجلة "السعادة العظمى" في تونس بين (1903 - 1904)، وفتحها لغيره من علماء المغرب. عندما ذهب إلى ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، أقام علاقات مع علماء من المشرق؛ مثل: محمد فريد، وعبد العزيز جاويش، وشكيب أرسلان، كل هؤلاء رموز النهضة العربية المعاصرة. و-أيضاً-: أسس جريدة مع جماعة من المناضلين، هذه الجريدة موجهة إلى السجناء من الجنود المغاربة الذين كانوا في الجيش الفرنسي، ووقعوا في قبضة الألمان، كتب نشرية موجهة إليهم، يحثهم على التخلي عن هذا الانتماء للجيش الفرنسي، والتعاون فيما بينهم لتأسيس جيش لمحاربة فرنسا في شمال إفريقيا. وعندما ذهب إلى مصر فعل نفس الشيء، أسس مجلة "الهداية الإِسلامية" عام 1928 م، وعندما تأسست مجلة "نور الإِسلام"، وهي لسان الأزهر، أصبح رئيسَ تحريرها؛ بالإضافة إلى أنه كان يكتب في كثير من الصحف والمجلات المصرية. نلاحظ من خلال هذه العلاقات، ومن خلال هذه المؤسسات، أو من خلال الجمعيات، أسس "جمعية الهداية الإِسلامية" في مصر جانفي 1928 م، وساهم بشكل كبير في تأسيس جمعية معروفة بالعالم الإِسلامي هي (جمعية

الشبان المسلمين) عام 1926 م، وهو من المؤسسين الذين وضعوا قانون هذه الجمعية، و-أيضاً- من خلال تأسيس (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية)، وفي كل مرة نجد في دراسة نشاط مجلة "الهداية" -كما تفضل الأستاذ الحسيني من قبل-، وفي دراسة نشاط (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية)، ودراسة نشاط (جمعية الشبان المسلمين) في مصر، وفي امتداداتها في سورية، وفي تونس، نجد دائماً أن هذه الجمعيات والمجلات تفتح أبوابها، ويستضيف فيها علماء من المشرق، ومن المغرب؛ لكي يقدموا المحاضرات والندوات التي تمس القضية الفلسطينية، وتمس القضية التونسية، وتمس القضية المغربية؛ مثل: الظهير البربري في نشاط دؤوب عام 1930 م. إذن هذا تلاقح الأفكار بين علماء المغرب وعلماء المشرق، نجده بانتظام في كل مؤسسة، سواء كان صحيفة، أو جمعية، وهذا يدل على تفتح هذا الرجل العالم على المشرق والمغرب. وإذا أردتم، أعطيكم نماذج عن هذه النشاطات: ففي جمعية (الشبان المسلمين) كانت تفتح أبوابها لزعماء المغرب العربي، فالحبيب بورقيبة عندما ذهب إلى مصر، استقبلته هذه الجمعية، وأقام فيها إلى أن وجد مكاناً يليق به في مصر. وكذلك الشيخ محيي الدين القليبي، وكذلك من الذين فتحت لهم الأبواب، وساهموا في الجمعية شخصية معروفة هو: الشيخ الفضيل الورتلاني، هذا الرجل العظيم الذي ساهم مع الشيخ محمد الخضر حسين في تأسيس (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية). فالشيخ محمد الخضر حسين كان رئيس هذه الجمعية، والشيخ الفضيل

الورتلاني كان أميناً عاماً لها، وأي واحد يطلع على كتاب الفضيل الورتلاني "الجزائر الثائرة" سيجد -تقريباً- كل البيانات والنشريات التي كانت تصدرها (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية). هذه الجمعية دامت حتى عام 1947 م. و-أيضاً-، ومن خلال هذه العلاقات بين محمد الخضر حسين وعلماء المشرق، نجد أن هذه العلاقات نجدها أحياناً علاقات سياسية، فهو رجل سياسة -أيضاً- بالإضافة إلى أنه رجل علم. ونشاطه السياسي واسع، نجده يربط علاقات سياسية مع رجال السياسة في مصر، وفي بعض الأحيان نجد نوعاً من التناقض؛ يعني: الشيخ محمد الخضر حسين تربطه علاقات ممتازة مع ملوك مصر، وخاصة الملك فؤاد الأول، الذي منحه الجنسية المصرية، والملك فؤاد أُعجب كثيراً بمحمد الخضر حسين عندما ألف كتابه المعروف "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم"، وكان هذا سبب اللقاء بين فؤاد الأول، والشيخ محمد الخضر حسين. وكذلك نقضَ كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين في حوالي 400 صفحة. وإن جميع الذين هاجموا طه حسين هاجموه بعد موته، وكل الدراسات حول نقض هذا الكتاب جاءت بعد موت طه حسين. والقلائل من العلماء الذين واجهوا طه حسين في حياته، ومنهم: الشيخ محمد الخضر حسين، والعالم الآخر الشيخ محمود شاكر، وكان سبباً لطرده من جامعة القاهرة. وفي هذا الكتاب يرد الشيخ الخضر على كل ما كتبه طه حسين حرفاً حرفاً، على طريقة العلماء المسلمين في الحواشي، يضع النص، فيرده سطراً سطراً.

وهذا الكتاب لقي رواجاً كبيراً في العالم الإِسلامي، ليس فقط في مصر؛ بدليل أن الشيخ أبا الحسن الندوي عندما زار مصر في عام 1952 م كان شغوفاً إلى التعرف على شخصية محمد الخضر حسين الذي قرأ عنه هذا الكتاب، وسجل ذلك في كتابه "مذكرات سائح في المشرق"، أو الشرق العربي، هذا الكتاب مشهور، طبع عدة طبعات. وكذلك نجد الشيخ الخضر تربطه علاقة متينة برجال الثورة المصرية؛ بدليل أنه أول شيخ للأزهر بعد إسقاط نظام الملك فاروق، وإقامة الجمهورية في مصر عام 1952 م، فأول عالم، وأول شيخ للأزهر هو الشيخ محمد الخضر حسين، الذي تعاون مع رجال الثورة، ولكن عندما اصطدمت قناعاته في بعض الأعمال التي قام بها رجال الثورة؛ مثل: الإصلاحات على مستوى الأزهر، أو حول قضية المحاكم الشرعية، وقضية الإصلاح الزراعي في مصر، لم يرض الشيخ الخضر حسين عن هذه الإصلاحات، وقدَّم استقالته. وهذه الاستقالة -كما فسرها- هي استقالة سياسية تختلف عن الاستقالات التي عرفها الجامع الأزهر: وقليل من علماء الأزهر الذين استقالوا في تاريخه، ولكنها كانت استقالات علمية أكاديمية مرتبطة بإصلاحات داخل الأزهر. وكان التعيين في مشيخة الأزهر من قبل هيئة كبار العلماء، وأصبح قراراً سياسياً. وقلما نجد عالماً يأخذ هذا الموقف السياسي، ويرفض هذه المشاريع السياسية التي طرحها رجال الثورة في مصر. وأضاف الشيخ الخضر حسين ميزة عندما قال: "إن شيخ الأزهر لا ينتقل إلى الحاكم". عندما طُلب إليه الذهاب لمقابلة الرئيس محمد نجيب، وأعتقد أن هذه ميزة نقلها الشيخ محمد الخضر حسين إلى مصر.

إن دراسة تاريخ هذا العالم الجليل مطلوبة الآن حقيقة، خاصة بعد الأعمال التي قدمها الأستاذ علي الرضا الحسيني بجمع أعمال الشيخ محمد الخضر حسين، وخاصة في الصحافة: مجلة "الهداية"، ومجلة "السعادة العظمى"، كلها تحتاج إلى دراسة أعمق لاكتشاف عظمة هذا الرجل العظيم في جميع مواهبه وأعماله المختلفة. هذا بالاختصار الشديد للعلاقات التي تربط بين الشيخ محمد الخضر حسين ومجموعة من العلماء المسلمين، سواء -كما قلت- في مؤسسات، أو كشخصيات، وتسليط هذه الأضواء على شريط التواصل بين المشرق والمغرب، وتأكيد على حقيقة أن المغرب والمشرق كانا عبر التاريخ متلاحمين متواصلين، عكس الفكرة الرائجة في أن حساسية المغرب بالمشرق، أو حول استكبارات المشرق. هذه الأفكار تطرح في كثير من الصحافة الآن، وفي أدبيات الفكر الإِسلامي المعاصر، وعن القطيعة بين المشرق والمغرب، فنضال الشيخ محمد الخضر حسين يثبت العكس؛ بأن التواصل بين المغرب والمشرق فيه ترابط بين الطرفين. فالشرق لم يستطع أن يواصل إشعاعه الفكري والحضاري إلا بمساعدة ومساهمة عقول علماء المغرب، ومن بينهم: الشيخ محمد الخضر حسين -كما ذكرت- والذين استقروا في مصر خاصة، أو في الشام، أو في الحجاز، قدموا خدمات جليلة في هذه الدول. والمغرب العربي لم يكن باستطاعته أن يتحرر من الاستعمار الفرنسي إلا بفضل وجهود وتعاون وتضامن شعوب وعلماء ومفكري المشرق العربي.

هذا إذن العلامة الشيخ محمد الخضر حسين، نموذج من التفاعل والتواصل بين المشرق والمغرب، وأنا أعترف -بنهاية ملخص هذه المحاضرة- بأن هذه هي مشروع بحث، وليس البحث؛ لأنه برغم اطلاعي على الصحافة العربية خلال عامي (1941 - 1962 م)، فإني وجدت البارحة عندما اطلعت على أعمال الشيخ محمد الخضر حسين، بفضل جهود علي الرضا الحسيني، ونحييه على ذلك، فأدركت أنني في الحقيقة الآن في الخطوة الأولى من البحث، وأدعو نفسي وغيري إلى مواصلة هذا البحث؛ لأنه حقيقة يحتاج منا كل اهتمام. وشكراً لكم على الاستماع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

توصيات الملتقى

توصيات الملتقى نظَّمت (الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية لولاية بسكرة)، وبالرعاية السامية لمعالي وزير الثقافة، والسيد والي بسكرة، وبمساهمة العديد من المؤسسات العمومية والخاصة أيام (25، 26، 27 ديسمبر 2007 م) بقاعة مداولات الولاية، وقاعة الفكر والأدب (الملتقى الوطني السادس - بسكرة عبر التاريخ) حول شخصية العلامة محمد الخضر حسين الطولقي الجزائري. يتميز الملتقى بحضور عدد كبير من الأساتذة المحاضرين من دول عربية: من سورية، ومصر، وتونس، ومن جامعات جزائرية، إضافة إلى أساتذة معقبين ساهموا في مناقشة وإثراء محاور الملتقى. علاوة على ثراء الجانب العلمي، تمَّ تنظيم معرض للمخطوطات والتراث، وأعلام منطقة الزيبان، والأعمال الكاملة للشيغ محمد الخضر حسين ببهو دار الثقافة (أحمد رضا حوحو)، عرف إقبالاً كبيراً من طرف المهتمين. بعد الاستماع لكلمات السيد والي بسكرة، ورئيس (الجمعية الخلدونية)، وسماحة الشيخ عبد الرحمن شيبان، ومحاضرات الأساتذة، والقراءات الشعرية، وتكريم الأستاذ علي الرضا الحسيني من سورية تقديراً للجهود العلمية الكبيرة

في إحياء التراث، وجمع وطبع الأعمال الكاملة للشيخ محمد الخضر حسين، وتكريم انشراح مدكور من مصر حرم الشيخ محمد الخضر حسين. اجتمعت لجنة التوصيات الخاصة بالملتقى، وبعد النقاش رفعت التوصيات التالية: 1 - التعريف بشخصية العلامة محمد الخضر حسين وأعماله عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، وإنجاز أشرطة وثائقية، وفيلم سينمائي. 2 - إنشاء موقع على الانترنيت يحمل اسم العلامة محمد الخضر حسين، يشمل أعماله الكاملة، وكل الكتابات التي تناولت حياته ومسيرته النضالية والعملية مدعّمة بالصور. 3 - دعوة للجامعات الجزائرية إلى توجيه طلبة الدراسات العليا إلى تناول آثار العلامة محمد الخضر حسين بالدراسة والتحليل. 4 - السعي لإطلاق اسم الشيخ محمد الخضر حسين على أحد المرافق الثقافية والتربوية والدينية بولاية بسكرة. 5 - دعوة وزارة البريد إلى إصدار طابع بريدي يخلّد شخصية الشيخ محمد الخضر حسين. 6 - التأكيد على جمع وطبع المحاضرات والتعقيبات المقدمة في الملتقى في كتاب، وعلى أقراص مضغوطة، وتوزيعه على نطاق واسع للاستفادة منها أكثر. 7 - لعدم توفر كتب الشيخ محمد الخضر حسين في المكتبات الجزائرية، نلتمس بإعادة طبع أعماله الكاملة، وكلِّ ما كُتب حول شخصيته وأعماله. 8 - للروابط التاريخية بين مدينة "طولقة" بالجزائر، ومدينة "نفطة"

بتونس، نقترح توءمة بينهما؛ من أجل التواصل الثقافي والعلمي في جميع المجالات. 9 - العمل على تدعيم الملتقى، وتقديم ميزانية خاصة من أجل مواصلة هذه الجهود المبذولة، وتجسيد التوصيات على أرض الواقع. 10 - دعوة الجامعات الجزائرية، والمؤسسات التربوية لبرمجة رحلات علمية إلى منطقة الزيبان لفائدة الطلبة والتلاميذ؛ للتعرف عن قرب على المواقع التاريخية والمعالم الحضارية التي تزخر بها الولاية. وفي الأخير: نرفع آيات الشكر والتقدير والامتنان لكل من كانت له أيادٍ بيضاء، وعونٌ مادي أو أدبي لإنجاح هذا الملتقى، وإبرازه في حلة زاهية الألوان، وضّاءة الملامح، مشرقة الجنبات، ونخص بالذكر بدءاً وانتهاء: وزيرة الثقافة، كما نخص بالذكر الرجلَ الأول في الولاية السيدَ الوالي الذي أعطى الأنموذج الحي للمسؤول العاشق للعلم والعلماء. كما لا ننسى كل الدعم الذي لاقيناه من جميع السلطات المحلية والأمنية، ورجال الإعلام في مختلف القطاعات؛ ممن أحاطوا هذا المهرجان العلمي بكل رعاية وإحسان. ولو أَنْ لنا في كُلِّ مَنْبَتِ شَعْرَةٍ ... لِساناً يَبُثُّ الشُّكْرَ فيهم لَقَصَّرا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

على هامش الملتقى

على هامش الملتقى ندوة إذاعية (¬1) الدكتور مجاهد توفيق الجندي الأستاذ علي الرضا الحسيني - الدكتور كمال عجالي المذيع مقدم الندوة: أيها الأحبة! سأكون سعيداً أن ألقاكم على ضفاف هذا المساء؛ لتناول وجبةٍ علمية، غذاء كامل؛ كما لو أننا سنتناول حلواً تمراً من تمور "طولقة" التي تمور هذا المساء في أحلامها. الحضرة حضرة علماء، وحينما يحضر العلم، يبطل كل شيء، يبطل كل ما يمت بصلة إلى اللغو. سأكون سعيداً أن أكون بين حضرات العلماء؛ حيث سكون واحداً من بين الذين يغرفون من بحر هؤلاء. بداية أيها الأحبة يحضر معنا: - الأستاذ الدكتور مجاهد توفيق الجندي أستاذ كرسي الحضارة الإِسلامية والتاريخ الإِسلامي، ومؤرخ الأزهر، وعضو اتحاد المؤرخين العرب. - الأستاذ علي الرضا الحسيني ابن شقيق المحتفى به العلامة الإمام محمد الخضر حسين، مهتم بتراث العائلة على مدى أربعين عاماً. وكان قد ¬

_ (¬1) ندوة إذاعية على الهواء مباشرة من الإذاعة الجزائرية في مدينة "بسكرة" على هامش الملتقى. مساء يوم 26/ 12/ 2007 م.

جمع كل أعمال العلامة والفهَّامة والتكلامة (¬1) الشيخ محمد الخضر حسين. - الأستاذ الدكتور كمال عجالي من جامعة "باتنة"، وهو مهتم -أيضاً- بالحضارة الإِسلامية والأدب. نتحول إلى الأستاذ علي الرضا الحسيني ابن شقيق المحتفى به الشيخِ محمد الخضر حسين. أود أن أشير إلى أن العلامة محمد الخضر حسين قد ولد في مدينة "نفطة" بالجنوب التونسي، لو تحدثنا عن نشأته؛ لأنكم كنتم بين الذين اهتموا بتراث العلامة. الحسيني: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أريد -قبل الدخول في هذا الحوار- أن أوجه التحية إلى هذه المدينة الرائعة الخالدة، والتي شاءت أن تحتضن هذا الملتقى العظيم. هذه أبيات قلتها أولَ أمسِ عندما جئت بالطائرة من مدينة الجزائر، أوحَتْها لي هذه المحبة التي أُكنها لهذه المدينة: لسانُ الوَفا نادَى بصوتٍ مُجلْجِلِ ... بِسِكْرَةُ ميلادي وأَهْلي ومَنْزِلي على بابِها يلقاكَ وجْهُ بُطولةٍ ... وفي ساحها آياتُ نَضرٍ مُحَجَّلِ إذا نطقتْ أحجارُها أوْقدَتْ لَظًى ... وكمْ جَحْفَلٍ أفْنَتْهُ في إثْرِ جَحْفَلِ وفي ثورَةِ التَّحرير هَبَّتْ طليعةً ... تُذيقُ العِدا قَهْراً بأكْؤُسِ حَنْظَلِ وفي السِّلْمِ دارٌ للضيافةِ والنَّدى ... تعانِق رُوّادَ التُّراثِ بِمَحْفِلِ ¬

_ (¬1) التكلامة: الجيّد الكلام، الكثيره.

وحَقًا غدَتْ للفِكْرِ مَرْقًى ومُلْتَقًى ... ومنبرَ إلهامٍ لأِعذَبِ مَنْهَلِ "بِسِكْرَةُ" يا أُمَّ الكِرامِ تحيةً ... وقُبْلةَ شُكْرٍ في جبينكِ مِنْ (علي) قبل "نفطة" نحن نقول: إن أصوله جزائرية من مدينة "طولقة"، والده التقي الشيخ الحسين ابن شيخ الزاوية سيدي علي بن عمر. ووالدته السيدة حليمة السعدية بنت سيدي مصطفى بن عزوز ابن الشيخ محمد بن عزوز في (برج ابن عزوز). انتقلت العائلة من جنوبي الجزائر - في الواقع لم يكن هناك حدود، ولم يكونوا يعرفون الحدود بين تونس والجزائر. وكان سبب انتقال الشيخ ابن عزوز سبباً نضالياً، وهو أن يجعل الزاوية في "نفطة" مكان راحة للمجاهدين الجزائريين -بالإضافة إلى دورها الأول في التوجيه الديني-، هذه الحقيقة غابت عن كثير من المؤرخين، ولكن لدي من الوثائق ما يؤكد هذه الحقيقة. استقر في "نفطة"، وأقبل عليها طلاب العلم من كل حدب وصوب، وخاصة من الجزائر، ثم من بعد، انتقلت العائلة إلى تونس؛ لظروف خاصة؛ فقد توفي الشيخ مصطفى بن عزوز -رحمه الله- وانتقل الشيخ الحسين إلى مدينة تونس، وأسس هناك زاوية، واستولد هؤلاء العظماء من الشيوخ: الشيخ سيدي محمد الخضر حسين، وسيدي الوالد زين العابدين، والشيخ محمد المكي بن الحسين من رجال العلم، ومن المختصين في اللغة العربية. والمشهود له بذلك، وطبعت كل آثارهم والحمد لله، إلى جانب مهنة المحاماة، مهنةُ المحاماة بالذات قاسية، فكنت أستقطع من الوقت ساعات حتى استطعت أن أجمع هذا التراث خلال أربعين سنة، والحمد لله على هذا.

المذيع: ما علمته من خلال قراءاتي: أن فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين كان قد ترأس تحرير مجلات عديدة في تونس، وفي مصر، ومن أهم هذه المجلات مجلة "الهداية الإسلامية". الحسيني: أخي الكريم! الشيخ محمد الخضر حسين متعدد المواهب، فإن شئت أن تقرأه صحفيًا، أو فقيهاً، أو مفسراً، أو محدثاً، أو شاعراً، أو لغوياً، أو رحّالة، أو ما شئت قل فيه من الأوصاف؛ فقد وهبه الله هذه الخصال، وعمل عليها بإخلاص، لذلك نجح في حياته. أما بالنسبة -حسب طلبك- للنواحي الصحفية، فهو أول ما بدأ بالعمل الصحفي، أصدر مجلة "السعادة العظمى" في تونس، أول مجلة صدرت في المغرب، وصدر منها واحد وعشرون عدداً، وتوقفت لأسباب ما جابهه به التقليديون من الشيوخ القدماء؛ لأنه حاول أن يجعل منها دورية إصلاحية، فجابهوه لهذه الناحية؛ مما أدى إلى توقفها، هي لم تغلق، ولكن توقفت؛ مما اضطره إلى الهجرة بعدها إلى الشرق. ليس إغلاقها هو العامل الوحيد، هناك أسباب أخرى دعته إلى الهجرة إلى الشرق؛ لأنه حاول خلال إقامته في مدينة "بنزرت" كقاضٍ. نزل إلى تونس، وألقى في (جمعية قدماء الصادقية) محاضرة عنوانها: "الحرية في الإِسلام"، وختمها بالحديث عن الاستبداد، فما بالُكَ برجل في عهدِ محتلٍّ قاسٍ غاشم، يتحدث عن الحرية، ويدعو إلى مقاومة المحتل؟! مما جعل عيون المحتل تراقبه، وتضغط عليه، وتلاحقه، في الواقع هذا السبب الأول في انطلاقه إلى الشرق. لأنه كان يرى أن همته أوسعُ من تونس، ورسالته تضيق في هذا البلد،

فأحب أن ينطلق إلى آفاق، كما قال في مقدمة ديوانه الشعري "خواطر الحياة". أما بالنسبة لتتمة أعماله الصحفية، أول عمله في مصر كان رئيساً لتحرير مجلة "نور الإِسلام"، والتي هي مجلة الأزهر منذ العدد الأول، وصدر منها أربع سنوات، كان يحرر الافتتاحية، وله مقالات هامة فيها، وفي هذه الأثناء أسس مجلة "الهداية الإِسلامية"، و (جمعية الهداية الإِسلامية)، وصدرت المجلة على مدى ثلاث وعشرين سنة، حتى قيل في مجلة "الهداية الإِسلامية" من كثرة ما كتبت عن المغرب: هذه ليست مجلة مصرية عربية، هذه مجلة مغربية عربية، حتى إن أحد الكتاب المصريين أطلق عليه لفظ: (ابن خلدون عصره)، هذا الرجل هو ابن خلدون عصره. وإذا رجعنا الآن إلى مجلدات "الهداية الإسلام" فإننا نجد أنه لا يخلو عدد من الأعداد من الحديث عن المغرب، سواء لترجمة رجل من الرجال، أو لوصف جغرافي، أو تاريخي، (مسقطُ الرأس غالي) كما يقولون. ثم عمل في مجلة "لواء الإِسلام" التي أصدرها السيد أحمد حمزة، وقال في مقدمتها: عندما شاءت الإرادة الإلهية أن نباشر في إصدار هذه المجلة، لم نجد علماً من الأعلام سوى الخضر حسين لترؤُّس هذه المجلة. دام في هذه المجلة حتى عام 1952 م عندما استلم مشيخة الأزهر، وبرغم هذا، لم يتخل عن وفائه لمجلة "لواء الإِسلام"، إنما استمر في الكتابة بها حتى وفاته عام 1958 م. حتى في السنة التي توفي فيها كتب مقالاً، وما زال مستمراً على هذا، وتوفي عندما سقط القلم من يده. هؤلاء هم أهل الإيمان والفكر الإِسلامي كما ترى.

المذيع: نتحول إلى الدكتور كمال عجالي، مهتم بالحضارة الإِسلامية والأدب، وله دراسة حول الطيب العقبي. لما أصدر عميد الأدب العربي طه حسين كتابه: "في الشعر الجاهلي"، لم يجد من يردّ عليه في تلك الأثناء -أثناء حياته- إلا العلامة محمد الخضر حسين، هل هي ثقة بالنفس؟ الدكتور عجالي: في الحقيقة هناك بعض الأسماء التي حاولت الرد على طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي"، ولكن البحث الحقيقي، أو البحث الذي اعترف به طه حسين، واعترف بنزاهته وموضوعيته، وبحيادية صاحبه هو كتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" لمحمد الخضر حسين، هذه بشهادة طه حسين، هو الكتاب الذي اعترف بموضوعيته، أما بعض الردود الأخرى، فكان يعتبرها من قبيل التهريج، أو الاندفاع، أو من قبل العواطف، كان ينظر إليها أنها عاطفية أكثر منها عقلانية أو علمية بمعنى الكلمة. المذيع: دكتور مجاهد توفيق الجندي. . . يقال: إن العلامة محمد الخضر حسين كان نابغة؛ لدرجة أنه لما بُعث في بعثة علمية إلى ألمانيا، كان قد أتقن اللغة الألمانية في ظرف وجيز. ما المسوغ الذي جعله يترأس الأزهر، هل هي الغزارة في العلم؟ هل هي موسوعيته؟ الدكتور الجندي: الشيخ محمد الخضر حسين كان موسوعة، كان من العلماء الموسوعيين، نجده فقيهاً، نجده أديباً، نجده سياسياً، نجده كاتباً، ناقدًا، صحفيًا، متعدد المواهب. وقد خصص نفسه للعلم، ليس عنده مشاغل

أخرى؛ حيث إنه لم ينجب أولاداً (¬1)، وكان أبناؤه هي الكتب، زوجته ساعدته في حياته؛ بحيث إنه لا يحمل همَّ أي شيء. تزوج من مصر الحاجه زينب مدكور من قبيلة النجمة التي تقطن منطقة الهرم، وجلس معها ثلاثين سنة، وبرغم أنها كانت عاقراً، لم يتزوج عليها، وعاشا سوية عيشة هنية، وبعد وفاتها تزوج ابنة أختها الموجودة الآن الحاجة انشراح مدكور، وابنُها المستشار أحمد البطران رئيسُ محكمة جنوب القاهرة. وهذه جلستْ معه خمس سنوات. أما كونه قد تعلم اللغة الألمانية، فقد تعلمها فعلاً في ثمانية شهور، وهذا يدل على ذكائه، وعلى عظمة هذه الرجل. ونرجو الله أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويسكنه فسيح جناته. وقد دخل إلى جماعة كبار العلماء في كتاب هو رسالة قيمة "القياس في اللغة العربية". هذه الرسالة دخل بها بجدارة إلى جماعة كبار العلماء، وهيئةُ كبار العلماء في الأزهر هيئةٌ أُنيط بها تحديث الأزهر الشريف، وإدخال العلوم الحديثة في الأزهرة يعني: هيئة كبار العلماء هذه خصصت لتحديث الأزهر الشريف؛ بمعنى: أن الشيخ الفلاني يدرس الرياضة، والشيخ الفلاني يدرس الكيمياء، اختيروا اختياراً، والشيخ محمد الخضر حسين كان من هؤلاء العلماء العظماء. وقد حصل على الجنسية المصرية، أعطاها له الملك فؤاد؛ لأنه عندما أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتابه "الإِسلام وأصول الحكم"، نقض الشيخ ¬

_ (¬1) أنجب من زوجته الأولى في تونس بنتاً فقط.

محمد الخضر حسين هذا الكتاب، وردَّ عليه رداً مفحماً، وبهذا الرد عطف عليه الملك فؤاد؛ لأن الملك فؤاد كان يريد أن يكون خليفة بعد إسقاط كمال أتاتورك للخلافة. بهذه الجنسية، وبدخوله جماعة كبار العلماء، اختارته الثورة المصرية لمشيخة الأزهر الشريف. . . حيث زاره ثلاثة وزراء، فيهم: الشيخ أحمد حسن الباقوري الذي كان وزيراً للأوقاف في ذلك الوقت، وكان صديقاً للشيخ الخضر، بالإضافة إلى أن أعضاء مجلس قيادة الثورة كان معظمهم معه في (جمعية الهداية الإِسلامية). المذيع: أعود ثانية إلى ندوة هؤلاء العلماء التي تجمعني بهم. ومعنا في هذه الجلسة -الدكتور مجاهد توفيق الجندي- والأستاذ علي الرضا الحسيني، شاعر، وأستاذ باحث، ابن شقيق المحتفى به، وكان قد جمع آثار العلامة محمد الخضر حسين- ومعنا الدكتور كمال عجالي أستاذ في جامعة "باتنة"، والمختص بالحضارة الإِسلامية والأدب. مرحباً بكم إذن لأعود إلى الأستاذ الدكتور كمال عجالي. دكتور عجالي! يقال: إن كتاب "القياس في اللغة العربية" هو درّة نادرة في هذا الظرف؟ الدكتور عجالي: طبعاً كما قال السادة الأساتذة، الشيخ محمد الخضر حسين لغوي بمعنى الكلمة، وهو جدير بهذا المعنى، وقد ألف كتابه هذا "القياس في اللغة العربية" ليبين أن اللغة العربية قادرة على أن تستوعب العصر، وتستوعب مستجدات العصر، وهذا المقصود من الكتاب. وقد تقدم به كبحث لينال به درجة أحد كبار علماء مصر، وعندما ناقشه

السادة الأساتذة، وكان على رأسهم الأستاذ عبد المجيد اللبان -كما قال الدكتور توفيق- على أن الأساتذة أو اللجنة عندما ناقشت الرجل، وسمعت منه ما طرحه في الكتاب من آراء، ومن نظرات، ومن آفاق للغة العربية، ومن رؤى ثاقبة، قال رئيس اللجنة: هذا بحر لا ساحل له، فكيف ندخل معه في لجاج، أو كيف ندخل معه في حجاج؟! هذا اعتراف من اللجنة، ومن رئيس اللجنة على أن كتاب "القياس في اللغة العربية" كتاب فريد من نوعه، ومن حسن الحظ أن الجزائر شاركت في طبعه، وهي الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، وأنا عندي نسخة منه، قرأته مرات عديدة، هذا الكتاب جدير بالقراءة للمتخصصين، وغير المتخصصين. المذيع: أعود إلى الأستاذ علي الرضا الحسيني. العلماء، أو أغلب العلماء يُزَجّ بهم في السجون، فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين كان قد زُجّ به في السجن، هلّا حدثتنا عن هذا؟ الحسيني: زُجّ به في السجن في عهد السفاح جمال باشا، وكان الشيخ في مجلس علمي، ويظهر أن أحد المحامين من مدينة طرابلس بلبنان كان حاضراً هذا المجلس، وتحدث عن تشكيل ناد، أو بمعنى جماعة لمقاومة الخلافة العثمانية، أو مقاومة الحكم، هذا الخبر انتقل إلى البوليس التركي، فألقي عليه القبض، وزُجّ به في السجن. وكان السجن في مدينة دمشق، في (خان مردم بك)، وهو الآن سوق تجاري وكان من رفاقه في السجن: المرحوم الرئيس شكري القوتلي رئيس أول جمهورية في عهد الاستقلال، وسعدي بك الملا، وفارس الخوري رئيس الوزراء، وأقام في السجن مدة ستة أشهر، أو يزيد، وما اشتكى من اضطهاد أو تعذيب أو قلة طعام، وإنما اشتكى من

عدم وجود قلم كان يحتاج إليه ليكتب حتى في السجن، ومنعوا عنه الورق. . . قال: غلَّ ذا الحبْسُ يَدي عن قَلَمٍ ... كانَ لا يَصحُو عن الطِّرْسِ فَناما أنا لولا هِمَّةٌ تَحْدو إلى ... خِدْمةِ الإِسلامِ آثَرْتُ الحِماما وله بعض أبيات جميلة قالها في السجن عندما جرى نقاش مع الأستاذ سعدي بك الملا الذي أصبح رئيساً للوزراء في لبنان؛ عن أيهما أفضل: البداوة، أم الحضارة؟ وكان الشيخ برأيه أن الحضارة نوع من المدنية، وأما بالنسبة للبداوة، فكان الشيخ قد عاش أول حياته في "نفطة"، وتأثر بالجو الريفي البدوي، وقال شعراً: جَرى سَمَرٌ يومَ اعْتُقِلْنا بفُنْدُقٍ ... ضُحانا به لَيْلٌ وسامِرُنا رَمْسُ (¬1) وقالَ رَفيقي في شَقا الحَبْسِ إنَّ في الْـ ... ـحَضارةِ أُنسًا لا يُقاسُ بهِ أُنْسُ (¬2) فقلتُ لَهُ: فَضْلُ البَداوةِ راجحٌ ... وحَسْبُكَ أن البَدْوَ لِيْسَ بهِ حَبْسُ المذيع: طيب أستاذ حسيني. حدثتنا عن العلّامة محمد الخضر حسين كعالم، ولم نتحدث عنه كشاعر. الحسيني: الشيخ الخضر شاعر رقيق، قوي السبك، إذا تصفحت ديوانه "خواطر الحياة"، تجده طرق كل فنون الشعر ما عدا الغزل، وقد حَقَّقته، كما حَقَّقه الأستاذ محمد علي النجار من الشيوخ في الأزهر، وأستاذ ¬

_ (¬1) الرمس: القبر مستوياً على وجه الأرض. (¬2) رفيق الحبس: الأستاذ سعدي الملّا الذي كان سكرتيراً لشكري الأيوبي وقت الاعتقال، ثم أصبح رئيساً للوزارة اللبنانية.

اللغة العربية فيه. كما نجد في الديوان أبياتاً لا تصدر إلا عن شاعر ذي حس صادق. لقد قرأت في شعره من أجمل ما قرأت في حياتي، وأنا محب للشعر، وأقوله في بعض الأحيان. لنستمع إلى قوله: وغلامٍ قرَّبَ السّاعةَ مِن ... أُذْنِه يَسْمعُ منها النَّقَراتِ قَالَ ما في جَوْفِها قلتُ له ... سوسةٌ تقرُضُ أيامَ حَياتي المذيع: طيب أستاذ حسيني. لا شك أن العلامة محمد الخضر حسين من خلال بيت نرصده له يقول: ولولا ارْتياحي للنّضالِ عن الهُدى ... لَفتَّشْتُ عن وادٍ أعيشُ به وَحْدي في الشطر الثاني يظهر أن العلّامة يجنح إلى الاعتزال بعض الشيء. الحسيني: لا أستطيع أن أفهم هذا البيت من هذه الوجهة، كان الشيخ اجتماعياً واعتزالياً، هو اجتماعي مع رجال الحق، مع الشيوخ الكرام، مع السياسيين الأباة كان اجتماعيًا. أما عندما يجد أن هذه الطبقة لا تناسبه، فكان يعتزل. ثم إن الشيخ لا يجلس في مقهى، ولم يدخل في نادٍ، كان همه خدمة الإِسلام، يتنقل من داره إلى (جمعية الهداية الإِسلامية)، إلى كلية أصول الدين، ثم يعود إلى داره، هذا برنامجه اليومي تقريباً. المذيع: الأستاذ الدكتور مجاهد توفيق! إذا تتبعنا أعمال العلامة محمد الخضر حسين التي تهتم بالشريعة الإِسلامية، فإننا نرصد أن هذه العلامة كان يهتم بالجانب الإصلاحي. وفي تصوري أن هذا الإحصاء الأولي: الحرية في

الإِسلام -الدعوة إلى الإصلاح- رسائل الإصلاح. هذه كلها عناوين لهذا العلامة. لا شك أنه كان يدعو إلى الإصلاح كثيراً. . . ربما هو امتداد لبعض العلماء الذين سبقوه؟ الدكتور الجندي: بالطبع. هو عالم جليل، عالم موسوعي، كان امتداداً للإمام محمد عبده، بل أنا شخصياً أعتبره مثل الإمام محمد عبده، وربما يفوق الشيخ محمد عبده في سفرياته إلى ألمانيا، وأعماله الأخرى. إن الإمام محمد عبده ذهب لزيارة إيطاليا وفرنسا، وزار جزيرة إلى جانب إيطاليا التي أصوله منها، ولعلها ليست على ذاكرتي الآن. فالشيخ محمد الخضر حسين -أيضاً- طوّف في سويسرا، وألمانيا، وتركيا، وبلاد الشام، وبلاد المغرب، وزار الجزائر أكثر من مرة، كل هذه دعوات للإصلاح، كل هذا في سبيل نشر العلم، وفي سبيل إصلاح أحوال الأمة الإِسلامية، وإنقاذها من رقدتها؛ لتحارب وتواجه الاستعمار الفرنسي، والاستعمار الإنكليزي، وهذا الرجل يعتبر فلتة من فلتات الزمن، لا يجود بها الزمن كثيراً. المذيع: نعود إلى الدكتور الأستاذ كمال عجالي. لا شك أنكم درستم الحركة الإصلاحية في الجزائر، وما جلب انتباهي: أن الرجلين: عبد الحميد بن باديس، والشيخ محمد الخضر حسين كانا إصلاحيين، وكانا قد درسا على العلامة الشهير محمد الطاهر بن عاشور، لعل هذا الأصل هو الذي جعل الرجلين يتفرغان في مذهب الإصلاح إن صح القول؟ الحسيني: أريد أن أصحح في السؤال؛ فالإمام لم يدرس على الشيخ

محمد الطاهر بن عاشور، بل كانا زميلين معاً في الدراسة. والشيخ ابن باديس درس عليهما. أردت فقط أن أوضح هذا. الدكتور عجالي: في الحقيقة -كما قال السادة الأساتذة- الشيخ محمد الخضر حسين رجل متعدد المواهب، ومتعدد الوظائف؛ كان رجلاً سياسياً، وكان رجلاً إصلاحياً، وكان رجل دين، كان لغوياً، كان شاعراً، كان صحافياً، رحّالة. وبالنسبة لقضية الإصلاح عند الشيخ محمد الخضر حسين، أنا درست ديوانه "خواطر الحياة"، لا أقول: إني درسته، بل ألقيت عليه نظرة، فوجدت أن الرجل كان يدعو إلى الإصلاح، والتمسك بالأصول من صحيح الدين المتمثلة في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية الشريفة، ويدعو إلى الرجوع لهذه الأصول. . . في نفس، الوقت كان -أيضاً- من الذين لا يمانعون من الأخذ من الحضارة، ومن مظاهر المدنية المعاصرة، وبالتالي كان الرجل رجل إصلاح، ورجل انفتاح، وبالتالي كان يدعو إلى الأخذ بالأصول، والأخذ بمستجدات الحياة. وهذه هي نفس النظرة التي دعا إليها الشيخ محمد عبده، ونفس النظرة التي تبناها الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله-، ومنهج (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين). فالرجل كان إصلاحياً بمعنى الكلمة، ولا جدال في هذه النقطة. المذيع: طيب، الأستاذ علي الرضا الحسيني! ما علمتُه من حضرتكم؛ أن العلامة محمد الخضر حسين يتقن ثلاث لغات أجنبية، هل تحدثنا عن تمكنه وبراعته في إتقان هذه اللغات؟ الحسيني: حسب ما وصلتُ إليه من وثائق أثناء تحقيقي في موضوع

الشيخ: أنه درس الألمانية في برلين عندما قام هناك بأعمال مجيدة، وهي في الغاية: تأليب الجنود المغاربة الذين وقعوا في أسر الألمان؛ ليجندهم للحرب ضد فرنسا في المغرب العربي. ووجوده في ألمانيا لمدة ستة أشهر في زيارته الأولى، ثم ولمدة أربعة أشهر ويزيد في المرّة الثانية، أتقن اللغة الألمانية على يد مستشرق ألماني اسمه (هاردر)، وأسس مسجداً في برلين، وألقى به خطاباً، يقال: إنه بعد الخطاب ألقاه باللغة الألمانية. ثم في تركيا عُين في ديوان وزارة الحربية عند أنور باشا، كان هو صديقاً له في ديوان اللغة العربية، فكان مضطراً أن يدرس اللغة التركية، فدرَسها وأتقنها. ثم في أواخر أيامه، عندما أسس (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية) في مصر، ومهمتها عبارة عن حرب ضد فرنسا، والدعاية ضدها، فأتى بمصري يتقن الفرنسية، وعلمه اللغة الفرنسية حتى أتقنها. الشيخ لا يتبجَّح، ولا يُكابر، لا يقول في أي مجلس كذا وكذا، ولكني سمعت ممن أثق بدينه وبقوله أن الشيخ يتقن هذه الثلاث لغات. المذيع: طيب، أستاذ رضا الحسيني! أنت كنت ملازماً للشيخ محمد الخضر حسين، هل كان يتردد عليه بعض العلماء -مثلاً-؟ الحسيني: يا أخي! أنا لم أكن مقيماً معه، إن إقامتي في دمشق مع الوالد زين العابدين، إنما التقيت بالشيخ عندما استلم مشيخة الأزهر، وأقمت لديه شهراً. وكان يأتينا بين سنة أو ثلاثة إلى دمشق للاصطياف وللتنزه، والترويح عن النفس؛ يعني: يمكن أن أجمع لك الأيام بالنسبة للشيخ بما لا تتجاوز

أربعة أو خمسة أشهر. ولكن عرفت كل شيء عن الشيخ؛ لأن الشيخ لا يخفي شيئاً عن الناس، تراه على طبيعته. والسادة العلماء يعرفون أكثر مني عن العلماء الذين يترددون عليه في مصر. والشيخ لا يستقبل أحداً في داره. في السيدة زينب شقة تتألف من غرفتين، وفسحة صغيرة، كانت لا تتسع أن يستقبل فيها أحداً، كان يأتيه كبار القوم من العالم الإِسلامي، فكان يتفق معهم على موعد في (جمعية الهداية الإِسلامية)، يستقبلهم هناك مساء، وإذا دعاهم، يدعوهم إلى مطعم، أو يأتيهم بالطعام إلى (جمعية الهداية الإِسلامية). ما كان يستقبل أحداً في بيته. وعندما استلم مشيخة الأزهر، أصبحت داره أوسع في شارع صفية زغلول، فيها أربع أو خمس غرف. حتى يقال: إن الحبيب بورقيبة عندما فرَّ من تونس إلى مصر، أوقفوه في السلّوم، فقالوا له: من أنت؟ قال لهم: أنا الحبيب بورقيبة، واتصل بالشيخ الذي اتصل بدوره باللواء صالح حرب باشا، كان وزيراً للداخلية وقتها، وكان صديقاً للشيخ. وكان كبار عظماء الرجال في مصر -كما تفضل الأستاذ الجندي- كانوا من أصدقاء الشيخ. كثير من أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا أعضاء في (جمعية الهداية الإِسلامية)، ليسوا بأعضاء عاملين، بل أعضاء مؤازرين. اللواء محمد نجيب كان يترد على الشيخ باستمرار، فلما قامت الثورة، استدعي الشيخ لتسلم مشيخة الأزهر. وكانت (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية) إحدى حركاته النضالية. ومقرها في (جمعية الهداية الإِسلامية)، وكثير من الجزائريين فيها، وكان الفضيل الورتلاني هو الأمين العام للجبهة، والمكي الشاذلي.

أنا عندي الآن وثائق للفضيل الورتلاني أكثر من خمسين مقالة يتحدث فيها عن نضال الجزائر، والقضية الجزائرية، وله كتاب "الجزائر الثائرة"، كتبها في جريدة "المنار"، وكانت تصدر بدمشق. المذيع: إن الفضيل الورتلاني الذي تحدث عنه الأستاذ علي الرضا الحسيني هو من أكبر المجاهدين، وعضو في (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين). وأخيراً: شكراً للسادة المشاركين في هذه الندوة.

ندوة إذاعية الدكتور عمار الطالبي - الأستاذ محمد الهادي الحسني الدكتور نجيب بن خيرة - الدكتور محمد مواعدة الدكتور مولود عويمر

على هامش الملتقى ندوة إذاعية (¬1) الدكتور عمار الطالبي - الأستاذ محمد الهادي الحسني الدكتور نجيب بن خيرة - الدكتور محمد مواعدة الدكتور مولود عويمر المذيع مقدم الندوة: مرحباً بكم إلى هذه الندوة التاريخية العلمية، التي نتناول من خلالها جوانبَ من شخصية العلامة التكلامة محمد الخضر حسين الطولقي الجزائري. ها هو ذا مساء آخر يفتح أكمامه، ويلقي عصاه في بحر آخر من بحور المعرفة؛ بحثاً عن الحقيقة التاريخية، وما يحوطها من أسرار. يتجدد الموعد إذن في موسم من مواسم العودة إلى مدن الجنوب، في عرس معارفي تحييه نواميس الحياة، فنجلس معاً في حضرة العلماء، ونتناول ما لذّ وطاب من علم ومعرفة. أهلاً بكم إلى هذه الجلسة الأثيرية، وهذه الندوة التاريخية العلمية التي يحضر من خلالها معنى: - فضيلة العلامة الأستاذ الدكتور عمار الطالبي أستاذ بجامعة الجزائر. ¬

_ (¬1) ندوة إذاعية على الهواء مباشرة من الإذاعة الجزائرية في مدينة "بسكرة" على هامش الملتقى. مساء يوم 27/ 12/ 2007 م.

- الأستاذ محمد الهادي الحسني. - الدكتور نجيب بن خيرة أستاذ في جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة. - الدكتور محمد مواعدة، خبير لدى المنظمة العربية للتربية والثقافة من تونس. - الدكتور مولود عويمر أستاذ بجامعة الجزائر. نتحول إلى فضيلة الشيخ والعلامة الدكتور عمار الطالبي من جامعة الجزائر؛ لنضع هذا السؤال: حياة اللغة العربية -الخطابة عند العرب- القياس في اللغة العربية - دراسات في العربية وتاريخها. هذه العناوين هي للعلامة محمد الخضر حسين. هل هو شعوره القوي بالانتماء؟ الهوية؟ أم دافع التوسع والتطلع إلى مجالات أخرى، واختصاصات أخرى غير الشريعة، جعله يهتم باللغة العربية بهذا الشكل؟ الدكتور الطالبي: إذا ما درسنا أعمال العلامة محمد الخضر حسين من جوانبها اللغوية، فإنا نجده ينشط في هذا المجال لسببين: السبب الأول: هو سبب نضالي، ودفاع عن اللغة العربية في عصر حوصرت، وضيَّق عليها الاستعمار، وخاصة في الجزائر، وإن كانت تونس بقيت بمنجاة عن كثير مما حلّ بالجزائر من الطمس والاندثار، ويدافع الدفاع عن اللغة العربية وعن وجودها؛ باعتبارها وسيلة لفهم القرآن الكريم، ولفهم الإِسلام، فهو يدافع عنها بكل ما لديه من قوة. والسبب الثاني: هو دافع علمي، لذلك إنه في أول حياته كان شغوفاً بالدراسات اللغوية والعربية وآدابها، ثم بعد ذلك وقع له تحوّل أساسي، انصرف إلى علوم الشريعة بأسلوب جديد غير الأسلوب التقليدي الذي كان

يألفه الناس في عصره؛ من اختصار الخليل، وشروحه، وحواشيه. والذي نبهّه إلى هذا: هو أبو بكر بن العربي، حينما قرأ مؤلفاته، فهو يدرس الشريعة بذوق عقلي إن صح التعبير، وهذا التعبير قاله ابن رشد: الذوق العقلي، ولم يستعمله غيره؛ لذا أعجب بأسلوب أبي بكر بن العربي، وهو أسلوب قوي في اللغة العربية، وبأسلوبه في تناول الدراسات الحديثية، والدراسات الفقهية، وتفسير القرآن، فانصرف إلى هذا الجانب. ولكنه لم يتخلّ عن اللغة العربية؛ بدليل أنه لما تقدم إلى جماعة كبار العلماء في القاهرة، قدّم هذا الكتاب، وهو: "القياس في اللغة العربية"؛ لينال به هذه العضوية، التي تشترط بصاحبها أن يقدم بحثاً جديداً فيه أصالة، وفيه تظهر شخصية الباحث، فنال هذه الدرجة لإجماع الذين قبلوا عضويته في هذه الجماعة. وكذلك الدراسات اللغوية الأخرى انتهى إليها بدافع علمي، وهي الدراسات التي قدمها لمجمع اللغة العربية في القاهرة، وكان عضواً فيه، وكذلك "المجمع العلمي العربي بدمشق. قدّم لهذين المجمعين أبحاثاً لغوية متميزة في وضع المصطلحات، سواء كانت تتعلق بمتن اللغة نفسِها، أو تتعلق بالمدارس الأخرى؛ بتصحيح الروايات التي تتحدث عن مشافهة العرب، واستعمالاتها، وأوضاعها في اللغة. فهو لا يقبل إلا ما كان صحيحاً في سنده وروايته، ولا يقبل أقوال بعض علماء اللغة الذين لا سند لهم بالطريقة التي يراها هو صحيحة تصل إلى كبار المصادر والموارد اللغوية القديمة؛ كسيبويه، ونفطويه، والسكاكي، والأخفش، ومن إليهم من كبار العلماء.

هو جال جولة عظيمة، ودافع عن اللغة العربية، وعن الشعر الجاهلي ضد طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي"؛ لأنه شكَّ في هذا الشعر أنه منحول، ونسب إلى الجاهليين، ولا يمكن أن يستعمل في فهم القرآن؛ لأنه ليس مصدراً موثوقاً به، وهذا ما دفعه للدفاع عن اللغة العربية، والدفاع عن الشريعة في "نقض كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين"، وهو ليس أمراً سهلًا أن تعارض شخصية مثل هذه الشخصية الأدبية اللغوية، الأمر ليس من السهولة في مكان. ولكنه اقتحم، ومع أنه في مصر وليس مصرياً، بمعنى الكلمة، ومع ذلك اقتحم ذلك بجرأة، ولم يخش إلا الله. وكذلك في كتابه "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم"، وإن كان الجانب الشرعي غير الجانب اللغوي. المذيع: أفهم من كلامكم هذا -فضيلةَ الدكتور-: أن العلامة محمد الخضر حسين أراد أن يطبق علمَ الجرح والتعديل على الأسانيد اللغوية؟ الدكتور الطالبي: منهجهُ هو منهج المحدثين في التوثق من رواية الأخبار والمتون اللغوية، أو المتون الحديثية. ولذلك نجده في تراجمه للرجال يعتمد على منهج المحدّثين أكثر مما يعتمد على منهج المؤرخين؛ لأن المؤرخين -كما تعلم- يتساهلون فيما لا يتساهل فيه أهل الحديث؛ لأن الحديث يترتب عليه أحكام شرعية، ولذلك يشترطون شروطاً قاسية ومضبوطة حتى يقبلوا رواية من الروايات. أما المؤرخون، فلا يترتب على الأخبار التي ينقلونها، والروايات التي يوردونها أشياء خطيرة، إلا في أخبار الفتن التي وقعت بين الصحابة، والأحداث الكبرى التي تحيط بالأمة. وسلك في هذا منهجاً هو في الحقيقة منهج أبي بكر بن العربي في كتابه "العواصم من القواصم".

أنكر كثيراً من الروايات التاريخية، ولم يصدق إلا ما رواه الطبري، والثقات من المحدّثين؛ لأن السيرة -مثلاً- إما أن نأخذها من كتب التاريخ، وإما أن نأخذها من كتب الحديث، فالسيرة الصحيحة إنما تعتمد على السند الحديثي، وهو أكثر وثاقة من السند التاريخي، والمحدثون هم ابتدعوا هذا الطريق، وهذا المنهج النقدي، ثم تبعهم بعد ذلك المؤرخون، حتى الأدباء يروون النصوص الأدبية بطريق السند. أظن أن هذا منهج متشدد فيه. المذيع: نتحول إلى الدكتور محمد مواعدة: لا شك أن الشيخ محمد الخضر حسين كانت نشأته الأولى في "نفطة" من الجنوب التونسي، ومعلوم أن هذا العلامة كان موسوعياً متعدد المواهب، كان شاعراً، مفكراً، رجل دين، وكان إعلامياً. بتصوري هل هذه المواهب كانت قد تشكلت مع إقامته الأولى في الجنوب التونسي، أو في تونس بالأحرى، وحتى درس في جامعة الزيتونة؟ الأستاذ مواعدة: أشكر إذاعة "بسكرة" على هذا اللقاء الحميم مع نخبة من المثقفين من الجزائر الشقيقة، ومع نخبة ليست فقط مهتمة بالشيخ محمد الخضر حسين، بل مهتمة بقضية الهوية والانتماء. الملاحظة الأولى: أن قيمة الشيخ محمد الخضر حسين هو بحر، وكما قال أحد الإخوان في الندوة: هو رجال في رجل. ولكن أقول شيئاً آخر: إنه من الشخصيات العديدة بين الجزائر وتونس التي وحَّدت، تجاوزت الحدود المصطنعة الاستعمارية، وأكدّت أن هذه الشعوب هي شعب واحد، هي أمة واحدة. ومن "طولقة" كأصول، إلى "نفطة" نشأة وتكوين، إلى تونس، إلى

الأزهر؛ يعني: أنه أصبح رجل الأمة الإِسلامية انطلاقاً من إطار محدود جداً. هذا نوع من الشخصيات التي تتجاوز الإطار الجغرافي إلى الإطار الحضاري. الذي أثر أولاً في شخصيته، أعتقد: الأساس الجذور، هو مثل النخلة، النخيل جذورها عميقة، ورؤوسها في السماء مرتفعة إلى أبعد الحدود، وهذا هو نوع الشخصية التي يرمز إليها الشيخ الخضر حسين. لا شكَّ أن انتماءه إلى جذوره له أثره: الشيخ مصطفى بن عزوز جدّه لجهة الأم، وعلي بن عمر من جهة الأب، العائلة في جذورها في مدينة "طولقة" بسكرة عاصمة الزيبان، له أهمية كبيرة أن ينشأ الإنسان في عائلة محاطة بجو ديني شرعي، ثم باهتمام لغوي. والاهتمام اللغوي -كما قال الدكتور عمار- هو أساس الاهتمام بالنصوص الدينية. وحوله خاله المرحوم الشيخ محمد المكي بن عزوز في "نفطة". قلت للإخوان ونحن أطفال صغار، ونسمع بالشيخ محمد الخضر حسين، ومن منا لا يزور زاوية الشيخ مصطفى بن عزوز؟!. ونعرف أن الشيخ مصطفى ابن عزوز جاء من منطقة "طولقة"، والعائلة كلها منحدرة منها. إن العلاقات العائلية بين "نفطة" في الجريد -مثلاً- وبين هذه المنطقة -الزيبان- علاقات لا تحصى. بل يستحيل أن لا تجد هنا وهناك عائلة من هنا وهناك. المذيع: حتى بعض العلماء هنا -في منطقة الزاب الكبير-، كانوا قد درسوا في "نفطة"، ومنهم: العلامة الشيخ العربي التبسّي، وغيره. ومؤسس (زاوية الهامل).

الأستاذ مواعدة: صحيح، كثيرون من الجزائريين تلقوا العلم في زاوية "نفطة". ثم بعد ذلك البيئة التي عاشها في "نفطة"، وتسمى: الكوفة الصغرى في ذلك الوقت نتيجة الدروس والمعاهد العلمية. عندنا مثل يقول: بين كل جامع وجامع هناك جامع، وبين كل مسجد ومسجد هناك مسجد. وهذا طبعاً له تأثيره. ثم الانتقال إلى جامع الزيتونة في تونس في المرحلة الموالية، مع إخوته بطبيعة الحال. والعائلة انتقلت إلى تونس للتمكين، والمزيد من التعمق في جامع الزيتونة. وقد سبقه قبل ذلك خالهُ الشيخ محمد المكي بن عزوز، والعديد من أقاربه. عاش الشيخ الخضر، واستفاد من ذلك الجو العلمي، وليس فقط العلمي، بل العلمي والأدبي؛ لأنه هو يذكر عن نفسه في تاريخه: أنه من الطفولة اهتم بالشعر، وبدأ يقول الشعر، ويقول: عندما كبرت، اهتممت بالجانب العلمي أكثر من الجانب الأدبي الذوقي الشعري، إضافة إلى الجانب الأدبي، وإضافة إلى الجانب العلمي. ووصل في جامع الزيتونة إلى درجة رفيعة -كما هو معلوم - فهو من كبار علماء جامع الزيتونة، قبل أن ينتقل -طبعاً- إلى الشرق. ومن المعلوم: أنه أحدث أول مجلة عربية في الساحة المغربية، هي مجلة "السعادة العظمى"، التي تعتبر نموذجاً لذلك الوقت، نموذجاً للمحتوى العلمي، ولمحتواها العقائدي والفكري، والمحتوى الأدبي. كانت تنشر الشعر، وكان في ذلك الوقت نوع من الشعر العصري الذي هو شعر رصين رقيق، ومن النوع الرفيع من حيث الصياغة، ولكن في الوقت نفسه من حيث

المضمون هو حداثي، يدعو للاستفادة من الجانب الحديث. وكانت من بين المجلات القليلة التي نشرت هذا النوع من الشعر الذي يسمى بالشعر العصري. إذن. بيئته وأصوله وجذوره، ينتمي إلى عائلة لها قيمة في "طولقة" منها أجداده وأخواله. ثم البيئة في "نفطة" هي نفس البيئة -تقريباً- مع البيئة في المدينة التي عاش فيها، كل ذلك له تأثير كبير جداً، وله تأثير -فيما بعد - على مستقبله العلمي ومكانته. المذيع: نتحول إلى الدكتور نجيب بن خيرة من جامعة الأمير عبد القادر في قسنطينة: بلا شك -دكتور نجيب - أن العالم أو الدارس الذي يستطيع أن يعلق ويشرح كتاب "الموافقات" للشاطبي، لا شك أنه وصل إلى هامة عالية من العلم، وما بلغني، وما أطلعت عليه: أن فضيلة الشيخ الخضر حسين كان قد علّق، أو لديه تعليقات على كتاب "الموافقات" في عام 1923 م؟ الدكتور بن خيرة: الحقيقة ما أجيب به لن يكون أكثر مما يقوله الدكتور عمار الطالبي، وهو متخصص في مجال الفقه والأصول والفلسفة. ما كتبه الشيخ الخضر حسين عندما كتب عن "الموافقات" للشاطبي، هذا دليل على الزاد الشرعي الذي كان يحمله من خلال الرحلة العلمية التي تلقاها عبر جامع الزيتونة، وقبل ذلك في الكتاتيب. كانت المعارف اللغوية، والمعارف الفقهية التي تعتبر آليات لفهم علم الأصول. . . ونعرف أن الإمام الشاطبي كان من أواخر من كتب في المقاصد الشرعية، بعد أن استكمل دراسة علم الأصول، كتب كتاب "الموافقات" الذي

هو في مقاصد العلوم الشرعية. والذي يشرح هذا الكتاب يعني: ألمَّ بعلوم، الفقه، وأصول الفقه، والمنطق، ودلالة الألفاظ، وأقيسة اللغة. كل هذه درسها، وتمكن فيها، ورسخت قدمه في جوانبها، ثم بعد ذلك يتناول كتاباً مثل "الموافقات" للإمام الشاطبي. وأظن أن هذه الكتابة، وهذا التخصص يأتي دائماً كتتويج للمعارف الشرعية التي يدرسها العالم، ويدرِّسها. وبعد جهد جهيد يؤلف في ميدان مثل ميدان المقاصد، أو يشرح كتاب "الموافقات" للشاطبي الذي نحن الآن في هذا العصر هناك "أطروحات دكتوراه" كثيرة في جامعات إسلامية في جوانب من الشاطبي. ولا يكتب عن الشاطبي إلا ضليع في الفقه والأصول. وليس في نظرية المقاصد فقط. والخضر حسين كان سباقاً في شرح "الموافقات" للشاطبي، وشرح الموافقات التي يلدّ فهمها إلا على الألبّاء من العلماء الفطاحلة والفقهاء. الدكتور الطالبي: ما تفضل به بن خيرة. كتاب "الموافقات" طبع أول ما طبع في تونس، لجنة من العلماء صحّحوه على مخطوطات موجودة في تونس، ولكنه لما ذهب إلى مصر الشيخ محمد الخضر حسين، أراد أن ينشر هذا النص المحقق؛ لأن عبد الله دراز كان قد علق عليه، وطبعه، ولكن هذه النشرة يتولاها هو والشيخ بخيت المطيعي، وهو مفتي الديار المصرية، والذي أجاز الشيخ ابن باديس في منزله في حلوان. أنا قرأت هذه التعليقات، وأعجبت بأسلوبه، ليس كأسلوب القدماء في التعليق، بل أسلوب حديث، وأسلوب التعبيرات السياسية، تشمّ منه رائحة النضال السياسي في أصول الفقه ومقاصده. تجد هذه التعليقات في غاية القوة،

وفي غاية الحداثة. لهذا يختلف تماماً عن تعليقات اللجنة التي حققته في تونس. وكان لهذا الكتاب الذي أوحى بالاهتمام به الشيخُ محمد عبده نفسه، وقدم له بمقدمات مهمة مع تعليقات، ولكن تعليقات الشيخ لها طابعها الخاص. كما لاتجاهه طابعه الخاص، ليس هو اتجاه البخيتي، والشيخ البخيتي مفتي وفقيه، ولكن طريقة القدماء. أما صاحبنا، فهو واقعي، عينه في الواقع أكثر من عينه في النص. الدكتور بن خيرة: اطلعت بالأمس على مجلة "نور الإِسلام"، فوجدت أن مقالات الشيخ التي يستهل بها المجلة كلها في الأخلاق، وفي تربية النشء؛ لأن الجيل يتعرض للمسخ، والهوية تتعرض للطمس، فهو ليس لديه الوقت على أن يتتبع دقائق التفسير، ودقائق الأقوال والأدلة والمذاهب. الأستاذ الحسني: ربما حصل في هذا الوقت التيار التغريبي، لم يستطع أن يواجه الأمة بالتنكر للإسلام مباشرة، وإنما هذا التيار بمصطلح المثالية: مثالية الإِسلام، والمقصود: أن هذا الكلام الذي تقولونه جميل جداً، لكنه لا يصلح للواقع، فكان الشيخ الخضر وغير الشيخ الخضر ردّ عليهم. المذيع: الأستاذ محمد الهادي الحسني! باعتباركم أنكم إعلامي كبير، لا شك أنكم مهتمون بالجانب الإعلامي: فضيلة الشيخ الخضر حسين -إلى جانب أنه عالم- كان قد أسس بعض المجلات. . . مجلة "السعادة العظمى"، مجلة "الشبان المسلمين"، مجلة "نور الإِسلام"، مجلة "الهداية الإِسلامية"، وغيرها، وكنت اطلعت له على مقال له في مجلة "الهداية الإِسلامية" في المجلد السابع، كان قوياً في كتابته، وكان رقيقاً، كان إعلامياً يوصل المعلومة إلى قارئها من حيث لا يدري؟

الأستاذ الحسني: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. يظهر لي أولاً بالتعليق على "السعادة العظمى" حتى خاله محمد المكي بن عزوز قال له: هذه مستواها عالي كثيراً -عندما راسله-. لكن يظهر لي هناك أمران: يريدان أن يثبت؛ كما يقول المثل العربي: (إن في بني عمك رماحاً)، يريد أمرين: هذا تحليل، وليس نتيجة دراسة واستنتاج، يريد أن يضع المنبهرين بمجلة "المنار" أننا يمكن أن ننشئ منارنا هنا، ويمكن أن يضع الذين يعارضون اتجاهه وتياره بأن ما أعرضه عليكم فيه جدوى، وفيه فائدة من حيث المبنى، ومن حيث المعنى، يعني: من حيث الشكل، وإلا من حيث المضمون. لكن صراحة نقول: إنني لم أطلع على كل ما كتب، لكن "السعادة العظمى" قرأتها من أولها إلى آخرها، والكثير منها استغلق عليَّ فعلاً، حتى الذين جاؤوا من بعده، وأتيحت لهم ظروف للانفتاح، لم يصلوا إلى مستوى دقة كثير من المقالات تقرؤها في الجرائد في الثلاثينات والأربعينات، لا ترقى أبداً لمستواها. ويبدو لي أن هذه اللغة مطواعة له، يكتب في الشعر، يكتب في الدين، يكتب في الأمور الاجتماعية، في الأخلاق، فمستواه لا ينزل، لا يُسِفّ، هذا يعني: أن فيه الاستعداد الفطري، وفيه اكتساب، الرجل درَس وقرأ. . . هذا درسٌ لنا ولأبنائنا الشبان: أن الثقافة لا تأتي من صحيفة، ولكن من أمهات الكتب، أن تقضي معها الأوقات. فتقدر أن تقول ما يقول ابن مالك على ابن معطي. حتى ولو الذين جاؤوا بعد الشيخ الخضر حسين نبغوا وكتبوا، ولكنه الرائد له الريادة، فهو أول من أصدر مجلة في شمال إفريقيا، ولذلك -كما قال ابن مالك- فهو مستحق التفضيلة بهذه الريادة. ولكن حتى الريادة، من طبيعة الأشياء: أن الرائد دائماً يكون عمله فيه نقص،

ولكنه كان في مستوى رفيع جداً وعالي. وننبه على فكرة: الشيخ الخضر لم يدرس على الشيخ الطاهر بن عاشور، بل درسا معاً، وهما زميلان، وإنما الشيخ ابن باديس تتلمذ على الاثنين. الدكتور الطالبي: الأسلوب الجديد عنده في الصحافة والكتابة نتحرى فيه أمرين: الأمر الأول: المحسنات اللفظية، والأسلوب اللفظي. والأمر الثاني: المضامين. مضامين جديدة تتناول الحياة السياسية والاقتصادية، والاجتماعية والأخلاقية، والدفاع عن اللغة العربية. هذا شيء مهم، وحرر الصحافة بشمال إفريقيا بهذا الأسلوب، وابن باديس حررها هنا. وأتى بأسلوب جديد يخالف أسلوب القدماء. . المذيم: الدكتور عويمر! كأني بالرجل يتقن الفنون الثلاثة: علم البيان، علم المعاني، وعلم البديع. الدكتور عويمر: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قضية الصحافة في المشروع الإصلاحي للشيخ محمد الخضر. هو لم يدخل الصحافة كصحافي، هو عالم ومصلح، واستغل هذه الآلة الجديدة التي ابتكرت في الغرب وسيلة يستطيع من خلالها أن يوصل أفكاره إلى شعوب، وإلى أقوام، وإلى المسلمين، لا يستطيع أن يحققها من خلال الكتب، أو من خلال المسجد. هذا الخطاب الذي يحمله يمكن أن يمر عن قناة ووسيلة أنجح. وعندما يكتب الشيخ الخضر المقالة، يكتب وهو يحافظ على هويته، هويته المثلى، هوية العالم، هوية المفكر، ولا يتقمص شخصية الصحافي. بدليل: أن هذه الصحافة في الحقيقة هي صحافة علمية. هو لم يؤسس جريدة، هو أسس مجلة، المجلة هي علم، هي كتاب. المجلة طابعها أنها تحمل

مقالات ليست مقالات صحفية، ولكن مقالات علمية بشكل مبسط. الأستاذ مواعدة: المجلة -أحياناً- كان يكتبها وحده كاملة. العدد الأول يحدد وجهة المجلة وسياستها. فنجده كتب العدد الأول كاملاً فيه مجموعة من الاستطلاعات، هو رجل كان يريد إصلاح المجتمع من خلال نظرته للشريعة. فاستعمل كل الوسائل: المجلة، والجرائد، والمحاضرات، والكتب، واللقاءات. في كل المجالس يتحدث عن الإِسلام، والشريعة، وإصلاح المجتمع. حتى اللقاءات الخاصة في البيوت، وإلي آخره. المذيع: أتحول إليك الدكتور عويمر مرة أخرى. ما لاحظته من خلال أعمال الخضر حسين أنها تنقسم إلى شقين: هناك الجانب الإصلاحي الذي تناول الشريعة، وهناك الجانب اللغوي. وربما حذا في دربه هذا حذو محمد عبده، أليس كذلك؟ الدكتور عويمر: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. في الحقيقة أن الشيخ محمد الخضر حسين ابنُ زمانه، لا يمكن أن نفصل أي عالم من زمانه، فليس هناك فاصل بين الاهتمام باللغة، وبين الاهتمام بالإصلاح، فاللغة هي وسيلة. وكما تفضل الدكتور عمار الطالبي أن هذه اللغة كانت مهددة، لا ننسى أنه في فترة العشرينات والثلاثينات قامت صيحات داخل العالم العربي تنادي إلى القضاء على اللغة العربية، وتعميم ونشر العامية، وفيه جدال وسجال كبير في داخل الأزهر، وفي الساحة الثقافية العربية، وخاصة بعد أن حاول كمال أتاتورك أن يقضي عليها، ويضع اللغة اللاتينية بدل اللغة العثمانية المكتوبة بالحروف العربية. إذن. فإن مسألة اللغة كانت مطروحة بقوة في العالم العربي، وهي

موضوع اشتغل به المصلحون، اللغة والهوية والتربية والتاريخ والقرآن والتفسير، كل هذه المواضيع دخل منها العلماء والمصلحون في بداية النصف الأول من القرن العشرين للاشتغال بالإصلاح، ومحاولة تغيير هذا المجتمع الإِسلامي. فليس هناك فاصل بالاهتمام باللغة العربية؛ بحيث يهتم باللغة العربية فترة معينة، ثم يشتغل بقضايا اجتماعية وسياسية، ثم يعود إلى اللغة العربية، فلا أرى فاصلًا، وإنما فيه تكامل. هذه النظرة هي نظرة شمولية تكاملية إلى القضايا الأساسية المطروحة على الساحة الفكرية. . . وهذه هي رسالة المفكر، كلما طرحت قضية شائكة ومهمة في المجتمع، لا بدَّ أن يتصدى لها، ويناقشها، ويقدّم تصوره حول هذه المشكلة، خاصة إذا تزاحمت الأفكار، وغلبت الأفكار الخاطئة الأفكار الصحيحة، وكان هذا هو دور الشيخ محمد عبده، ودور الشيخ ابن باديس، ودور الشيخ محمد الخضر حسين. المذيع: نتحول إلى فضيلة الشيخ الدكتور عمار الطالبي. يبدو من أن الذي يدرس فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، من الوهلة الأولى، يبدو أنه كان حضارياً، أي: بكلمة أخرى: حدثياً؛ أي: بمعنى أنه كان مسايراً إلى ما يحدث في الغرب، وهكذا العلامة محمد الخضر حسين، أليس كذلك؟ الدكتور الطالبي: أعتقد بأن محمد الخضر حسين متأثر بابن خلدون، كما كان ابن باديس أيضاً، ويدرِّسه لطلبته. وابن خلدون رجل واقعي، ويهتم بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وليس رجلاً يحلق في المستوى الخيالي. وهذه الواقعية التي أكسبته هذا المنهج التجريدي التاريخي النقدي. نجد أن هناك قدراً مشتركاً -كما أشار الإخوان-: محمد عبده لم

يهتم بإصلاح الحياة الاجتماعية والسياسية، اهتم بإصلاح اللغة، فرجع، وأصدر قرارات في التعليم بالأزهر، وأدخل "نهج البلاغة" و"شرحه"، كما أدخل العديد من الكتب -أيضاً- من عبد القادر الجرجاني، ومنها: "مقدمة ابن خلدون"، عرضها على الأزهريين، وبعضهم امتنع من تدريسها. والشيخ له هذا الجانب -أيضاً- اهتم باللغة، وبالقياس اللغوي، وبمصادر اللغة. وهو أول من أراد أن يجعل الحديث حجة في اللغة العربية، الحجة في الشعر الجاهلي، وصدر الإسلام، والجماعة الذين رووا عن العرب في البادية، وعن المناطق البعيدة عن التأثر بالرومان والفرس. وابن خلدون أتى بمنهج جديد في التاريخ، نقد الأخبار، ولم يقبل كثيراً من الروايات التاريخية التي تعتمد على الخرافة، وعلى ما لا حجة فيه ولا سند. وهو يريد أن يعيد المؤرخين إلى الناحية الواقعية، وإلى الأسباب، كما أنه أكد في دراسة الظواهر الاجتماعية، منهج واقعي يقوم على المشاهدة، وليس على التخيل. وفيه شبه بين ابن خلدون والشيخ الخضر: ابن خلدون كان يرحل ويكتب، وهذا الرجل كان يرحل، رحّالة ينتقل في بلاد الله، وكلاهما استقر به المقام في مصر، وانتهى أمره في البلاد المصرية، ودفن هناك. فهذا المنهج الواقعي الاجتماعي والتربوي لابن خلدون؛ لأن ابن خلدون تحدث عن التربية، وتأثيرها في تكوين الذهنيات العلمية، وأما صاحبنا الشيخ محمد الخضر حسين، فهو متصل بالتربية العلمية في النوادي، ويخاطب الشباب، ويعطيهم التوجيهات، إن في الواقع، وإن في التاريخ، وإن في السلوك الأخلاقي والسلوك اللغوي.

فكان الرجل لا يتكلم عن التربية، وإنما يطبقها. نجد -مثلاً-: أن محمد عبده تكلم عن التربية، وتغيير المناهج في تونس، وحاول أن يطبق دراسته ومنهجه في الأزهر، إلا أنه فشل إلى حد ما. والشيخ الطاهر بن عاشور كتب "أليس الصبح بقريب" في التربية، نهج منهج محمد عبده، ولكن تفسيره يختلف عن تفسير محمد عبده. ابن عاشور رجل مهندس اللغة، ويأتي بأشياء مبتكرة لا تجدها في القواميس، رجل بحاثة، ويغوص في هذا. والشيخ محمد الخضر حسين يناقش القدماء، ويناقش المحدثين في مناهجهم اللغوية، وآرائهم اللغوية، كما ناقش طه حسين، وله صولة وجولة في مصر، لا يسمع لمن ينتقده. ولم يخشى الشيخ الخضر القوى التي كانت وراء طه حسين. ولكن دافع بجوأة عن اللغة، وعن الشعر الجاهلي، واعتبره مصدراً من مصادر اللغة العربية يحتج به. وتجوُّله في أوريا أعطى له بعداً حضارياً، ورأى أشياء لم يعهدها شيوخ الأزهر. ولعل تكلمه اللغة الألمانية ساعده على معرفة ما يكتبه الغربيون. ولذلك نحمد لشيخنا دفاعَه المستميت عن اللغة وصحة متونها وصحة أساليبها، والدفاع ضد كل من يحاول أن (يخربش) فيها. المذيع: نتحول للدكتور مواعدة. فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين كان قد درس في جامع الزيتونة في عام 1889 م، وفي ذلك الوقت كان جامع الزيتونة منارة تضاهي جامع الأزهر الشريف؛ أي: بمعنى أن الخضر حسين لما انتقل إلى مصر، كان قد شبع علماً، أليس كذلك؟ الأستاذ مواعدة: ملاحظة أحببت الرجوع إليها. هل كان يعرف ما يدور في الغرب؟ أعتقد أن الشيخ الخضر حسين ومن معه كانوا يواجهون تيارين

متناقضين، والاثنان سلبيان، أحدهما: الغرب الذي كان يشكك في الحضارة العربية الإسلامية واللغة، وله أنصاره، والتيار الآخر: التقليد والانغلاق. هناك تياران متناقضان، وليسا في صالح الأمة العربية الإسلامية؛ لأنه إذا انتصر أحدهما على الآخر -لا سمح الله- لا يمكن لهذه الأمة أن تواصل وتحافظ على هويتها. طبعاً جامع الزيتونة جامع معروف، ولكن الإطار الزيتوني وقتها كان إطاراً تقليدياً، ولذلك نجد الشيخ الخضر حسين اعتبرها قضية جوهرية، ومع علاقته بالطاهر بن عاشور، هما كانا معاً يقودان هذا التيار، وهو تيار للمطالبة بإصلاح التعليم الزيتوني، كان هذًا الهاجس هو تطوير التعليم، درس في جامع الزيتونة، ولكنه وجد أن هذا الإطار إذا بقي على هذه الصورة، لا يمكن أن يساهم في التطوير والمحافظة على الهوية، خاصة إزاء هذه الهجومات من جانب الاستعمار الغربي، وما حوله من مثقفين وأنصار، ومن جانب أن الإطار التقليدي ليس قادراً على هذه المواجهة. هنا يأتي دوره في إصلاح النظام التعليمي. أعطيك مثالاً: وهو ما زال في طور الدراسة، وجه الشيخ الخضر رسالة، قال: لماذا الإنشاء غير موجود في التعليم؟ وأهمية القلم عنده في توجيه الإصلاح أساسية؛ لأن الذي ساعده في الإصلاح هو الإنشاء والتحرير والكتابة الجيدة. المذيع: نتحول إلى الدكتور نجيب بن خيرة من جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة. ربما حتى لا أقول بأن الرجل كان متصلباً، بل كان متشبثاً بأسلوب فكره، وبهويته، وبدفاعه عن القضية الإسلامية. لذلك زُجَّ به في السجن، أليس كذلك؟

الدكتور بن خيرة: زُجَّ بالعلماء في السجون في أواخر الحكم العثماني في بلاد العالم الإسلامي، وخاصة في مصر والشام، وليس الشيخ محمد الخضر حسين لوحده. كثير من العلماء بقسنطينة عارضوا نماذج رديئة للحكام العثمانيين الأواخر، الذين كانت سياستهم السبب في سقوط الخلافة العثمانية الإسلامية. وهذا السجن ضريبة يدفعها كل عالم حر، وكل أبيٍّ شهم، عندما يعرض آراءه بقوة، ويريد أن يواجه تيارات التغريب، بل الامتيازات التي كانت تعطى للدول الأجنبية في العالم الإسلامي، هذه الامتيازات التي وقف ضدها العلماء الأحرار؛ لأن هذه الامتيازات الأجنبية هي التي كانت في العالم الإسلامي مطايا ذُلُلاً ركبها الاستعمار، ودخل بها، ووجد الأبواب مشرعة أمامه للدخول إلى بلاد العالم الإسلامي. لذلك؛ الشيخ محمد الخضر حسين، سواء في بلاد الشام، أو غيرها، ظل صليب الرأي، شامخاً في مواقفه؛ مما جعله يدفع ثمن ذلك بدخوله إلى السجن في بلاد الشام، وهي فترة ليست طويلة جداً، وإنما هي فترة قليلة، بعدها غادر إلى مصر، واستقر به المقام هناك. كانت مصر أكثر حرية من بلاد الشام من ناحية التيارات الفكرية والوطنية والثقافية، والرأي والرأي الآخر. الدكتور الطالبي: اتهم في الشام بالمؤامرة ضد السلطة التركية، مع أنه -في واقعه- يريد أن يجمع بين العرب والأتراك، ويتشبث بالخلافة العثمانية، ويدافع عن الجامعة الإسلامية، ولكن هذا خلط للأوراق، واتهم باطلاً. المذيع: نتحول إليكم الأستاذ محمد الهادي الحسني: بما أنكم إعلامي،

الشيخ محمد الخضر حسين ربما إتقانهُ لثلاث لغات -كما بلغتي أمس: أنه يتضمن اللغة الألمانية، والتركية، والفرنسية- هذا ما مكنه على التفتح على الحضارة الغربية، والإعلام الغربي، وما جعل هذا الرجل يكون متمكناً إعلامياً؟ الأستاذ الحسني: هو هكذا -كما أشار الإخوة - هو لم يهيئ نفسه ليكون إعلامياً؛ كما أنه لم يقرأ عن الإعلام ... القضية في رأيي ليست قراءة فن من الفنون، فالإنسان إخلاصُه، وإيمانه بالقضية التي يدافع عنها، وإخلاصه لها. ولذلك لو غير الشيخ الخضر حسين، ربما يستنكف أن يعترف بأنه ينهج نهجاً خاطئاً. أما الشيخ - الخضر، انتقد نفسه عندما حضر درس الشيخ عبد القادر المجاوي في "جوهرة التوحيد" ماذا يقول؟ يقول: نستحسن من دروس هذا الشيخ: اقتصاره في كل فن على تقرير مسائله التي يشملها موضوعه، وعدم خلط بعضها ببعض، وقد كنت -عافاكم الله- ممن ابتلي درسه باستجلاب المسائل المختلفة الفنون، وأتوكأ على أدنى مناسبة، حتى أفضى الأمر إلى أن لا أتجاوز في الدرس شطر بيت من "ألفية ابن مالك" -مثلاً-، ثم أدركت أنها طريقة منحرفة المزاج، عقيمة عن الإنتاج، وأقلع عنها. فالرجل كان بين أمرين: الشيء الذي يهمه، وأعز شيء عنده هو الإسلام، ولغة هذا الإسلام، ويرى أن هذا الشيء العزيز الثمين النفيس يتعاوره خصمان: خصم من الداخل، والآخر من الخارج، وكلا الخصمين -حتى الخصم الداخلي- مدعوم من الخارج الذي هو ذو بأس شديد. عندما يجد (مارسينيون) إلى جانبه في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ويكيد للغة العربية.

لكن الجوهر الذي نستفيده من الشيخ محمد الخضر حسين وأمثاله، هؤلاء الذين بفضلهم - والحمد لله - الأمة أولاً. زرع رغم ما أحاطه من مصاعب وقوى، وربما لو رأى أحد هذه القوى تناوشه من كل جانب، ربما ييأس ويستسلم. أما هذا الرجل الشيخ الخضر، يواجه علي عبد الرازق، وما أدراك بعائلة ثرية مدعومة؟! ويواجه طه حسين، وهو لا عصبة له. فالشيخ ثقته بنفسه، ثقته بمصير الأمة قوية، وبعض الناس وقفوا مع الشيخ؛ لأنهم يعرفون أنه يحاول ويدافع عن مشروع مشترك للأمة كلها. ولكن النقطة التي نحب أن أشير إليها: هي السجن. في هذه الفترة ظهرت نبتة، جرثومة، ميكروب، هي: القومية الطورانية. ولهذا جنح كل الجزائريين الموجودين في المشرق، والذين قرأت عنهم وعرفتهم، نبذوا ضد هذه الفكرة دون أن يمسوا الدولة العثمانية، حاربوا جماعة الطورانيين القومية التركية، لكنهم -في الوقت نفسه- حافظوا، ودعوا إلى الجامعة الإسلامية، ويتردد أسماء الشيخ محمد الخضر حسين، وصالح الشريف، وغيرهم، حتى الأمير خالد في المؤتمر العربي في عام 1913 م لم يحضر مع الذين حضروا في فرنسا، وبعث برسالة قال: أرجو أن لا يكون هذا المؤتمر ضد الدولة العثمانية، ننتقد تجاوزات المسؤولين الحكام والولاة في الأقاليم، أما أن نضرب الدولة العثمانية، فهذا سيقلب الأمر علينا. المذيع: نتحول إلى الدكتور عويمر. ما يلحظه القارئ -في تاريخ تلك الحقبة التي كان قد عاش فيها فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين-: أنه كان مستنداً للحركات التحررية في المغرب العربي بصورة أخص، فكان قد ساعد الجهاد في ليبيا، واتصل بالزعيم المغربي عبد الكريم الخطابي،

وربما تلقى عبد الكريم الخطابي توجيهات، أو ربما نصائح من قِبَل الشيخ الخضر حسين، وحتى إن الشيخ الخضر كتب كتاباً عن تاريخ الاحتلال في تونس، يبدو لي أن الرجل كان سياسياً -أيضاً-؟ الدكتور عويمر: نعم، بالنسبة للشيخ محمد الخضر حسين، أنا لا أقول: سياسي، وإنما أقول: المصلح السياسي، أو المفكر السياسي. وهو لم يؤسس حزباً، ولم يدخل الانتخابات، وإنما كان يطرح أفكاراً سياسية، ويدافع عن إصلاح السياسة. وكان أستاذ السياسة الشرعية في جامعة الأزهر عدة سنوات. واهتمامه بقضايا المغرب العربي، سواء بالاحتلال البريطاني لليبيا، أو بحرب الريف في المغرب، أو مؤتمر أفخارست في تونس، أو الاحتفالات بالذكرى المئوية في الجزائر، والظهير البربري في المغرب عام 1930 م، كل اهتماماته بهذه القضايا ليست اهتماماً بما تحمله هذه الكلمة من معنى، وإنما السياسة جزء من نشاطه، بمعنى: أنه يقدم تصوراً لهذه القضايا، ويساندها. لا يساندها فقط بخطاب، أو كلام مكتوب في الجرائد أو الكتب، وإنما أيضاً بتأسيس جمعيات. فهو عندما أسس جمعية "الهداية الإسلامية" في القاهرة في جانفي 1922 م، وأسس (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية)، هذه المؤسسات جعلها منابر لكل الزعماء السياسيين المغاربة، وغيرهم الذين كانوا في مصر، ومن بينهم: الحبيب بورقيبة، الذي عندما دخل مصر اعتُقل للتأكد من جنسيته، فتدخل الشيخ محمد الخضر حسين، وكان عنده وزن لدى السلطة المصرية، فأفرج عنه، وكان يبيت في دار الشيخ حتى هيا له مكاناً للإقامة. و-أيضاً- الشيخ محمد الخضر حسين هو الذي استقبل الزعيم عبد الكريم

الخطابي عندما جاء ماراً بمصر وأرادت فرنسا أن ترجعه من منفاه إلى المغرب، فكثير من الزعماء زاروه في الباخرة، وتعاونوا على تهريبه من الباخرة الفرنسية حتى لا يذهب، ويقع تحت الإقامة الجبرية في المغرب، ومن بينهم كان الشيخ الخضر في استقباله. وكان الزعيم الخطابي عضواً في (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية)، ويوجد بيانات ونشريات كلها تحمل إمضاءات الأمير عبد الكريم الخطابي، والحبيب بورقيبة، ومحيي الدين القليبي، والشاذلي المكي، والبشير الإبراهيمي، والفضيل الورتلاني. فهو دائماً يعتبر النضال من أجل التحرر قضية من القضايا الأساسية في مشروعه الإصلاحي، الإصلاح ليس فقط إصلاح الأفكار، وإصلاح الأنظمة، وإنما كان عنصر التحرر في مشروعه الإصلاحي. وكان يستعمل منابر أخرى؛ مثل: جمعية (الشبان المسلمين) التي كان العضو المؤسس لها في مارس 1927 م. وأنا قرأت للدكتور أبي القاسم سعد الله: أنه في جمعية الشبان المسلمين كنا نتدرب على العمل العسكري. فكان الشيخ الخضر، هذا الرجل كان حقيقة فعالاً في المجتمع، كان يحمل هموم هذه الأمة عبر عمره الطويل، هذا الرجل الموسوعة علمياً، وهذا الرجل الشامل نضالياً. المذيع: أعلن انتهاء الندوة.

أعلام من الزيبان الحسين بن علي بن عمر (والد الإمام محمد الخضر حسين)

على هامش الملتقى أعلام من الزيبان (¬1) الحسين بن علي بن عمر (والد الإمام محمد الخضر حسين) الأستاذ صيد: مستمعيَّ الكرام! السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. مرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم الأسبوعي (أعلام من الزيبان)، هؤلاء الأعلام الذين شرّفوا المنطقة بعملهم وعلمهم، منهم من مكث في الزيبان حتى توفي، ودفن فيها، ومنهم من هاجر إلى دول عربية أخرى، وذلك نظراً لأسباب سياسية واجتماعية. من هؤلاء الأعلام: رجل عالم، وولي صالح من بلدة "طولقة"، ولد ونشأ وترعرع في هذه البلدة، ثم شاء له القدر الإلهي الهجرة إلى تونس الشقيقة، التي عاش فيها إلى آخر حياته. هذا العالم -مستمعيَّ الأفاضل- هو الشيخ العالم الصالح الحسين بن علي بن عمر الطولقي النفطي والتونسي، ولأجل التعرّف عليه، والوقوف على أهم المحطات التاريخية في حياته، استضفتُ حفيدَه الأستاذ الفاضل علي الرضا الحسيني، وهو أديب وشاعر ومؤلف معروف، أصله من "طولقة"، ¬

_ (¬1) برنامج إذاعي من إعداد وتقديم الأديب الأستاذ عبد الحليم صيد من إذاعة مدينة "بسكرة" جرى على الهواء مباشرة في 26/ 12/ 2007 م الساعة السابعة مساءً.

وولد سنة 1932 م في دمشق عاصمة سورية، وما يزال مقيماً بها. للأستاذ الحسيني العديد من التآليف التاريخية، والروايات الأدبية، والدواوين الشعرية، أذكر منها -على سبيل المثال لا الحصر-: "محمد المكي ابن عزوز حياته وشعره" - وديوان شعر بعنوان "تونسيات"، كما أن له كتاباً عن الشيخ محمد بن عزوز البرجي، وآخر عن زاوية الشيخ علي بن عمر في "طولقة". الأستاذ الفاضل علي الرضا الحسيني! مرحباً بك في "بسكرة"، وإذاعة بسكرة. الأستاذ الحسيني: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. الحديث عن هذا الناسك المربي حديث يطول، ولكن سنختصر ما أمكننا الحديث عنه. هو العالم الزاهد المرَبِّي السالك، شيخ شيوخ الطريقة الخلوتية، والرجل الفاضل الكامل، ولد عام 1246 للهجرة في مدينة "طولقة" ما يعادل سنة 1830 ميلادية، وتوفي عام (1309 هـ -1893 م) في مدينة تونس. هذا التقي النقي الصالح كان هَمُّه في الحياة أن يدعو الناس إلى الموعظة الحسنة، واشتهر بسعيه لتأليف القلوب بالحسنى، والدعوة إلى الخير، ومساعدة الفقراء، إلى جانب هدفه السامي في نشر الطريقة الخلوتية في القطرين الجزائري والتونسي. صحيح أنه انتقل إلى "نفطة"، وأقام بتونس، لكن له إقامات ورحلات متعددة إلى الجزائر، ويعرف كل الولايات الجزائرية، ومن الممكن أن نقول:

إن إقامته في الجزائر هي أكثر من إقامته في تونس. الأستاذ صيد: أي بعد هجرته من الجزائر لم ينقطع عنها؟ الأستاذ الحسيني: يقضي في الجزائر الأشهر الطوال، وهو يدعو إلى الطريقة، ويصلح بين الناس، ويبث العلم والفضيلة. ولد -كما قلنا- في مدينة "طولقة" بالجنوب الجزائري في بلاد الزاب، والدُه الولي الصالح الصادق الشيخ علي بن عمر صاحب الزاوية المشهورة، وفي رحاب تلك الزاوية - التي يتردد فيها ذكر الله ليلاً ونهاراً -كانت ولادته، وفيها تعلم القرآن الكريم، وأخذ عن كبار الشيوخ والعلماء، وخاصة علامة عصره الشيخ محمد المدني بن عزوز، أخذ عنه علوم التوحيد، والفقه، واللغة، والأدب. وفي ذاك البيت الطاهر نشأته، وتدرّجه ومعيشته التي يحيط بها الإيمان من كل جانب. انتقل إلى مدينة "نفطة" عام 1259 هـ برفقة شيخه مصطفى بن عزوز، واعتنى الشيخ عناية فائقة به، وأسكنه إلى جواره، واعتمد عليه في بناء الزاوية وعمرانها، وأدى فريضة الحج معه، واتخذه صاحباً ومعاوناً ورفيقاً في السفر والإقامة، ومبعوثاً له إلى كافة المريدين والمحبين في أنحاء البلاد، يظهر ذلك ملياً من رسائل الشيخ مصطفى بن عزوز إلى الشيخ الحسين، كان يراسله في أية ولاية جزائرية. أعطيك فكرة عن هذا الرسائل: من الرسائل المخطوطة للشيخ مصطفى أبن عزوز - التي بعث بها إلى أهل "سوف" في الجزائر - يتحدث فيها عن أخلاق الشيخ الحسين، ومدى محبته واحترامه له: "الحمد لله. وصلى الله على سيدنا محمد كثيراً كثيراً. من محبكم في الله خديم الخلق مصطفى بن

عزوز مقدّم علي بن عمر إلى كافة أهل المحبة الصافية في وطن "سوف". عمَّركم الله آمين، وأحسن عافيتكم دنيا وآخرى، وبعد: بلغنا أن السيد وابنَ سيدنا ذا الرأي الرشيد، والرأي المستقيم، الأجلّ الذّاكر سيدي الحسين بن مولانا الزاهد الصادق بربه، مولانا علي بن عمر بلغكم، وفرح به وطن "سوف" كله، جازاكم الله خيراً، وأحسن إليكم، وأنكم لم تقصّروا جميعاً، وحُقّ لكم ذلك؛ لأنه ولد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أولاً، وثانياً ولد القطب الأكبر، والغوثِ الأشهر مولانا علي بن عمر -رحمه الله-". هذه أمثولة من الرسائل التي كان يرسلها إلى الشيخ الحسين في أنحاء القطرين. الأستاذ صيد: طيب، أستاذنا الحسيني! زاوية "نفطة" التي أسسها الشيخ مصطفى بن عزوز، نريد أن نعرف بعض النشاطات التي كانت تقوم بها، على اعتبار أن مؤسسها جزائري. الأستاذ الحسيني: صحيح. هذه الناحية كانت تحتاج من سنوات إلى التحقيق والتوسع في معرفتها. استطعت من خلال البحث في الوثائق القومية الموجودة في المركز القومي بتونس أن أصل إلى أشياء عجيبة عن هذه الزاوية. قد يكون من الظاهر: أن غاية هذه الزاوية: الدعوة إلى الدين، وإلى الطريقة، ولكن تبين لي أنها ليست فقط للتعليم، إنما اتخذ التعليم الديني غطاء لما كانت تهدف إليه هذه الزاوية من الأعمال الجهادية للجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، فكانت محطة. تعرف أن المُدافع والمجاهد يحتاج إلى خط خلفي يستريح فيه، ويتهيأ فيه، وأسس هذه الزاوية لهذه الغاية.

حتى إن القنصل الفرنسي في تونس، هناك وثائق أرسلها بخطه إلى وزير خارجية فرنسا في باريس، يقول فيها ويؤكد: أن هذه الزاوية خطر على الوجود الفرنسي في الجزائر، وهناك تقارير أكثر من واحد. الأستاذ صيد: مما يؤكد كلامكم هذا: أن المؤرخ الكبير في الجزائر الدكتور يحيى بوعزيز -رحمه الله- ذكر في كتابه "ثورات الجزائر في القرنين التاسع عشر والعشرين" أن زاوية "نفطة" -زاوية الشيخ مصطفى بن عزوز - كانت ملجأ للهاربين والمضطهدين والمطلوبين من الجزائريين الذين هربوا من الاستعمار الفرنسي. وحتى نربط الكلام بموضوع حلقتنا اليوم، وهو الحسين بن علي بن عمر، فقد كان هذا الشيخ الذراع الأيمن للشيخ مصطفى بن عزوز. نواصل الحديث عنه: هل أضاف شيئاً جديداً إلى جانب الزاوية، أم لا؟ الأستاذ الحسيني: لديَّ بعض الرسائل التي كان يرسلها له الشيخ مصطفى، وأجد بين السطور أشياء لم يكتبها الشيخ مصطفى، ويفهم عليه الشيخُ الحسين. مثلاً: يقول له في إحدى رسائله: "أرسلنا لك عشرة أحمال من الجمال". ما اشتغل الشيخ مصطفى بالتجارة، ولا الشيخ الحسين غايتُه التجارة، والحمولة غير معروفة، "أرسلت لك مع فلان عشرة أحمال إلى المنطقة الفلانية في الجزائر، أو سبعة أحمال ... وهكذا". أفترض إما أنها سلاح، أو ربما مواد تموينية تعين الثوار المجاهدين .. ثم لا ننسى أن كثيراً من الإخوة الجزائريين درسوا في "نفطة": الشيخ العربي التبسّي، وعاشور الخنقي، والشيخ العربي كمجاهد وعالم، ومن كبار جمعية العلماء الجزائريين المسلمين، تربّى في "نفطة".

أما عن أخلاق الشيخ الحسين، فقد قال فيه الشيخ محمد المكي بن عزوز بن الشيخ مصطفى: "كان طلق المحيا، جميل الملتقى، عارفاً بمقتضيات الأحوال، ليّن الجانب، كان ذا فطنة قوية، غيوراً على أهل الله". أحببت أن أذكر هذه الأوصاف؛ لأخذ صورة عن هذا الرجل الصالح. "حازماً في أموره، منصفاً، صاحب بلاغة في مراسلاته، ملاطفاً في مخاطباته، مهاباً، معظّم الجانب، حريصاً على إطفاء الفتن، مثابراً على إزالة الشحناء". كان من مهمة رجال الدعوة الصالحة الصادقة المعتدلة أنهم يصلحون بين الناس وبين الأعراش، وخاصة في القبائل التي تصل فيها الأحقاد إلى درجة قد يستخدم فيها السلاح والقوة، وكان يتدخل الشيخ الحسين في هذا الخلاف، ويجري الموضوع صلحاً. الأستاذ صيد: وذلك نظراً لمكانته الاجتماعية. الأستاذ الحسيني: مثلما يقولون في الشام: إنه "تنطبش برأس كام خاروف" تذبح بعض الخرفان، وتتم الوليمة، فتزول الفتنة بين العشيرتين، وهذا نوع من إصلاح ذات البين، وُيستغنى عن القضاء، وإطالة الأعمال في القضاء. الأستاذ صيد: إذن، أستاذ الحسيني! هناك زاوية "نفطة"، وأظن أن الشيخ الحسين أنشأ زاوية أخرى، أو مسجداً تقام فيه الصلوات في "نفطة". الأستاذ الحسيني: بعد وفاة شيخه أحبَّ أن يترك زاوية مصطفى بن عزوز لأبناء الشيخ مصطفى، وهذا كرم أخلاق منه، وحتى لا يكون هناك

شيء ما، فإن لكل شيخ من شيوخ الزاوية طريقه في الدعوة، وأسلوبه الخاص به. فانتقل إلى مكان آخر مقابل الزاوية، واتخذ له مسجداً، وفي هذا المسجد الذي مازال قائماً حتى الآن في "نفطة" ولد في دار إلى جانبه الشيخُ محمد الخضر حسين، وما زال مدخل الدار نفس الدار والمسجد، وقد زرت هذا المسجد مراراً. الأستاذ صيد: إذن، كل هذه الأعمال التي تحدثنا عنها تنبئ: أن هذه الشخصية العلمية والدينية والاجتماعية كانت تتمتع بهذه الصفات الجليلة. (فاصل موسيقي). الأستاذ صيد: ما زلنا معكم -مستمعيَّ الكرام- مع شخصية هذه الحلقة، وهو الحسين بن علي بن عمر الطولقي. وبعد أن تعرفنا على جوانبه العلمية، وومضات من حياته الاجتماعية -أيضاً-، والدور الذي كان يقوم به بالإصلاح بين ذات البين. أستاذي الكريم الحسيني! ننتقل إلى الجانب العلمي في شخصية هذا الرجل. لا شك أنه كان رجلاً عالماً ومؤلفاً، فما هي الآثار التي تركها وراءه؟ الأستاذ الحسيني: في الواقع لم يترك آثاراً كثيرة؛ لأنه كان منصرفاً إلى التوجيه والإصلاح، إنما -حسب ما وصل إلينا- له رسالة لطيفة في التصوف، سماها: "فاكهة الحلقوم في نبذة قليلة من أحوال القوم"، رسالة في التصوف، فيها نوع من الهداية.

لكن الشيخ لم يكن له آثار علمية كبيرة كأولاده -مثلاً- الذين تفرغوا للكتابة. هؤلاء الرجال الصالحون -غالباً- ما يكتفون بالتوجيه في اللسان. هذه الرسالة طويلة، ولكن أحب أن أقدم بعضاً منها. الأستاذ صيد: هذه الرسالة أين نشرتها؟ الأستاذ الحسيني: نشرتها في كتاب: "أعلام زاوية مصطفى بن عزوز"، وجعلته هو من أحد الأعلام. وأغلب أعلام زاوية مصطفى بن عزوز هم جزائريون، ومن ولادات الجزائر، إلا النادر منهم. ما كان هناك فرق بين تونس والجزائر، أو بين "نفطة" و"بسكرة"؛ أعني: أن الواحد كان يغادر صباحاً إلى نفطة، ويتغذى، ويعود إلى واد "سوف"، ويتعشى، ويبيت في "طولقة"، أو "بسكرة"؛ لقرب المسافة، وطبيعة وحدة العشائر. وجدت كثيراً من العائلات في "نفطة" من أصول جزائرية من "بسكرة"، يأتي أحدهم، ويتزوج من بسكرة، ويعيش في نفطة، أو العكس. هناك علاقات وثيقة بين البلدين، وكأنهما مدينة واحدة. وبودّي أن تتم التوءمة بينهما. الأستاذ صيد: هذه الرسالة كم عدد صفحاتها؟ الأستاذ الحسيني: عدد الصفحات لا تتعدى العشرين، هذه الرسالة وجدتها ناقصة، ويقول أبو القاسم سعد الله: إنه وجدها كاملة في مخطوطات المغرب. الأستاذ صيد: ولكن الأستاذ أبا القاسم سعد الله ينسبها إلى الأب، وهو علي بن عمر.

الأستاذ الحسيني: هذا خطأ. ومن المؤكد أنها للشيخ الحسين. من المؤكد للابن، والحكم بيننا قول الشيخ نفسه: "وبعد: فيقول العبد الفقير المضطر، الحسينُ بن علي بن عمر" إذن، هي لسيدنا الحسين. ويقول: "المقصود من كتابة هذه الرسالة: التعريفُ على سبيل الاختصار لمن أراد أن يعرف أحوال السند ورجاله". تعرف -الأستاذ عبد الحليم- أن هناك أربع عشرة زاوية حصرتها في تونس، تابعة لزاوية "نفطة". يعني: أن الشيخ مصطفى ما قَصَر عمله على نفطة فقط، إنما انتشرت حتى العاصمة. حتى إن سيدي الحسين أسس زاوية في العاصمة تونس، وعاش فيها الشيخ، وهاجر من نفطة إلى تونس وأولاده صغار، والشيخ الخضر عمره أربع عشرة سنة. الأستاذ صيد: لعل هذه الهجرة سببها القرب من جامع الزيتونة. الأستاذ الحسيني: السيدة حليمة بنت الشيخ مصطفى بن عزوز كانت ترغب أن يدرس أولادها في جامع الزيتونة، وهي السيدة التي أشرفت على تربية أولادها، وتعليمهم من الصغر، وتلقينهم مبادئ علوم الدين واللغة. هناك طرفة لطيفة من المناسب أن نقولها في هذا اللقاء: إن السيدة حليمة والدةَ الإمام الخضر كانت تُرَبِّت على كتفه وهو صغير، وتقول: إن شاء الله يا أخضر، تكبر وتروح الأزهر. وهي قالت له ذلك عندما كبر، فاستجاب الله -سبحانه وتعالى- لدعاء تلك الأم النقية الصالحة. وأصبح الشيخ الطولقي الأصل، المولد نفطة، الدراسة في تونس، ثم انتقل في أنحاء

العالم من دمشق إلى إستنبول إلى برلين، وكان جهاده الكبير فيها، وهذا يحتاج إلى شرح طويل، ثم عاد إلى دمشق، وانتقل إلى القاهرة، وإذ به يصبح شيخاً للأزهر، وهذا دليل على أن الله تعالى يكرم أولياءه في حياتهم، إلى جانب ما هو مكتوب لهم من الجزاء في الآخرة. الأستاذ صيد: يذكر الأستاذ نويهض في كتابه: أن للشيخ الحسين كتاباً آخر اسمه: "دقائق النكت". الأستاذ الحسيني: لم أطلع على هذا الكتاب، وإن كان قد سمعت به. الأستاذ صيد: إن للشيخ الحسين تراجم في كثير من الكتب، له ترجمة في كتاب "معجم المؤلفين"، وغيره، وهذا دليل على أنه علم من الأعلام. الأستاذ الحسيني: الشيخ الحسين علم من أعلام التصوف في عصره، وهو معروف. الأستاذ صيد: يعني: أنه جمع بين العلم والتصوف. الأستاذ الحسيني: أقول: إنه في التصوف أكثر، من أجل أن نكون صادقين في جلستنا. هو رجل صالح فاضل، تقي نقي، إنما هو في التصوف متعمق، بينما أولاده أحرزوا التقدم البعيد في العلم، والإمام محمد الخضر حسين انتقل إلى دمشق سنة 1913 م مع كافة العائلة، ووضع هدفه أن تكون القاهرة إقامته، وميدان نشاطه العلمي والسياسي، وأن خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز كان قد سبقه في الهجرة إلى إستنبول، ووصل إلى رتبة علمية عالية، كادت أن توصله إلى شيخ الإسلام في تركيا، وكان مدرساً في دار الحديث

التي هي بمثابة جامعة إستنبول اليوم، كما كان مدرساً في جامع (الفاتح)، ومساجد أخرى، وكان مقرباً من السلاطين من ناحية الاستشارات الدينية هو والشيخ إسماعيل الصفايحي، والشيخ صالح الشريف. الأستاذ صيد: نعود الآن إلى أبناء الشيخ الحسين، من هم الأبناء الذين تركهم؟ الأستاذ الحسيني: منهم: الشيخ محمد الجنيدي، رجل فاضل صالح، وهو مدفون هنا في "طولقة" في زاوية سيدي علي بن عمر، والرجوع إلى الأصل فضيلة إن لم نقل فريضة، وأعتقد أن أغلب الشيوخ الذين هاجروا كانوا يرغبون بالعودة إلى المغرب، وكثير منهم عاد إليه، لكن إذا ارتبط بأسرة خارج المغرب، ولا سيما إذا استولد أولاداً، صار من الصعوبة العودة إلى بلده الأصلي. ثم من أبناء الشيخ: الإمام محمد الخضر حسين، الذي وصل إلى إمامة الأزهر. والأخ الآخر هو: الشيخ محمد المكي بن الحسين، عالم اللغة الشهير، وقد أصدرتُ له ثمانية كتب في اللغة من تأليفه، كان ينشر في الصحافة التونسية والمصرية، ولاسيما في مجلة "الهداية الإسلامية". والشيخ المكي بن الحسين أقام أربع سنوات في دمشق، ودرّس في المعهد السلطاني، وله دراسات في بعض مجلات دمشق، وكلها دراسات لغوية، ولم يكتب بغير اللغة، كانت كل أبحاثه منصرفة إلى اللغة. لقد زرت مرة تونس، وسألت: أين آثار العم الشيخ المكي بن الحسين؟ فقيل لي: في مدرسة في سيدي البشير، وهو حي من أحياء تونس، وقد ضاقت

الدار عن هذه الأوراق، فأرسلناها إلى المدرسة. وانتقلت إلى المدرسة التي رحب مديرها، ووجدت في إحدى الغرف المهملة أكواماً من الأوراق، بدأ السوس يقرضها، وكلها مخطوطة غير مطبوعة، فنقلتها جميعاً إلى مكان آمن، وأصلحت فيها، وأصدرت له من الكتب: "عادات عربية - نوادر في اللغة - نوادر في الأدب - أسماء لغوية - أمثال عربية - حكم وأخلاق عربية - كلمات للاستعمال - لغويات - المستدرك"، وكل كتاب يزيد عن مئتي صفحة. ومن أبنائه -أيضاً-: محمد العروسي، وعلي بن عمر، وعبد العلي، وله ولدان توفيا صغيرين: العروسي، وعبد اللطيف. الأستاذ صيد: هذا مجهود كبير تُشكر عليه، وأريد أن أنتقل بك إلى الوالد الكريم، وهو ابن الشيخ الحسين -أيضاً- الأستاذ زين العابدين -رحمه الله-. الأستاذ الحسيني: والله! أنا أخجل أن أتحدث كثيراً عن الوالد، والواقع أنه يحرج الإنسان أن يتحدث عن والده؛ لأنه في الشام قبل شهر دُعيت من قبل هيئة تبحث عن أعلام الرجال، وطلبوا مني أن أعمل محاضرة عن الشيخ الوالد زين العابدين، فقلت لهم: أفضِّل أن تجدوا شخصاً آخر يتحدث عنه؛ لأنني قد أخجل من قول الحقيقة كلها. الأستاذ صيد: إن الذي أعرفه عن والدكم: أنه مؤلف كبير، ولغوي ونحوي، وله مؤلفات كثيرة، له معاجم في الصرف، وفي النحو، وفي اللغة، وغيرها. الأستاذ الحسيني: سأقول لك عناوين مؤلفاتهِ: "المعجم المدرسي - المعجم في الكلمات القرآنية - المعجم في النحو والصرف - دروس الوعظ

والإرشاد - الدين والقرآن - القرآن القانون الإلهي، وغيرها". وسأترك لك الحكم والقول في الوالد. الأستاذ صيد: هل قيل في الشيخ الحسين رثاء من بعض الشعراء؟ حبذا لو نسمع شيئاً منه. الأستاذ الحسيني: رثاه الكثيرون من شعراء تونس، منهم: العلامة الشيخ محمد الصادق المحرزي، والشاعر أحمد الأمين بن عزوز، والشاعر الحسين بن الشيخ، والشاعر أحمد الأديب، وغيرهم. ولعل أهم المرثيات: مرثية للعلامة محمد المكي بن مصطفى بن عزوز، أسمعك منها بعض الأبيات: ما ثمَّ موعظةٌ لكلِّ مُشاهِدِ ... مثل المنيَّةِ وهي أَرْصَدُ راصدِ وهو اليقين المشبهُ الشكَّ الذي ... عنه تغافَلْنا كأزهدِ زاهدِ كمْ من أبٍ وأخٍ ونَجْلٍ منجب ... وأخي ودادٍ من رفاقِ شدائدِ واراهُمُ المرُّ القسيُّ وراح في ... لهوٍ عن المنبوذِ تحت جلامدِ يغدو المغفَّلُ باتِّباعِ جنازةٍ ... ويَبيت معتنقاً لصدرِ خرائدِ يا وَيْحَ مَنْ وافاهُ يومُ حِمامِهِ ... ولقلبه غُلُفٌ كغُلْفِ الراقدِ والفوزُ للمتأهبينَ على رجا ... مثل الرِّضا الأسنى الحُسَيْنِ الماجدِ حاوي الفضائلِ من زكا جرثومةً ... من آلِ بيتٍ للمكارمِ شائدِ جَمُّ الخلالَ الفاخراتِ يَحوطُها ... زينُ التواضعِ من شَكورٍ حامدِ كم نالَ مضطرٌّ به ما يرتجي ... كم أرشدَ المحتارَ حسنَ مواردِ فجزاؤه عدنٌ ومن هو في الورى ... زرعَ الرشادَ يكون أنجحَ حاصدِ

آهٍ على تلك اللطافةِ والوفا ... آهٍ على الحزمِ النبيهِ السائدِ آهٍ على مرضي الأحّبة أنسهم ... آهِ على حامي الذّمار الزائدِ أَبَنيهِ صبراً والرّضا عند القضا ... سبَبٌ لرضوانِ الإلهِ الواحدِ الخطبُ خطبٌ هائلٌ لا مسّكم ... أَسَفٌ يَشُقُّ من ارتحالِ الوالدِ سيروا على منهاج أصلِكُمُ الذي ... منه سرَتْ في الناس خيْرُ محامدِ لا تُشغلوا أوقاتكم بتأسّفِ ... عمَّنّ ثوى الفردوسَ بين فرائدِ ربَّ البريّةِ كُنْ له في رَمْسهِ ... وابعثْ له بالفضل بُشرى الواردِ وارْحَمْه رحمةَ من تحبُّ ورَقِّهِ ... في ظِلِّ عَرْشٍ يومَ حشرٍ حاشدِ وأَنِلْهُ في الجنَّاتِ عَيْشاً ناعماً ... بدلاً عن الفاني بأفخر آبدِ فجزيلُ فضلِكَ لا يُحدّ نهايةً ... لا سيّما في مُرْتجيكَ الوافدِ الأستاذ صيد: في الختام نشكر الأستاذ علي الرضا الحسيني على هذه الإضاءة التي قدمنا فيها عالماً نقياً من "طولقة" في الجزائر، وامتدت آثاره ومعارفه إلى تونس. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بعض عناوين الصحافة الجزائرية عن الملتقى

على هامش الملتقى بعض عناوين الصحافة الجزائرية عن الملتقى * العلامة محمد الخضر حسين يعود إلى بسكرة (¬1). * الملتقى الوطني للعلامة محمد الخضر حسين ببسكرة: الجزائري الوحيد الذي تقلد مشيخة الأزهر (¬2). * بسكرة تحتفي بأول جزائري نال مشيخة الأزهر (¬3). * العلامة محمد الخضر حسين موضوع الملتقى الوطني: "بسكرة عبر التاريخ" (¬4). * انطلاق فعاليات الملتقى الوطني السادس "بسكرة عبر التاريخ" (¬5). * بحضور عدة مشايخ أزهريين، بسكرة تذكر شيخ الأزهر الجزائري محمد الخضر حسين (¬6). ¬

_ (¬1) صحيفة "البلاد"، العدد 2460، تاريخ ديسمبر 2007 م. (¬2) صحيفة "البلاد"، العدد 2464، تاريخ 29 ديسمبر 2007 م. (¬3) صحيفة "النصر"، العدد 2464 الصادر تاريخ 26 ديسمبر 2007 م. (¬4) صحيفة "الأحرار"، العدد 2993، تاريخ 26 ديسمبر 2007 م. (¬5) صحيفة "الفجر"، العدد الصادر في 29 ديسمبر 2007 م. (¬6) صحيفة "الشروق"، العدد 2180 الصادر في تاريخ 24 ديسمبر 2007 م.

* بمبادرة من الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية، انطلاق فعاليات الملتقى الوطني السادس "بسكرة عبر التاريخ" (¬1). * شيخ الأزهر محمد الخضر حسين يعود إلى موطنه (¬2). * بسكرة تتذكر شيخ الأزهر محمد الخضر حسين (¬3). * انطلاق ملتقى عن العلامة محمد الخضر حسين (¬4). * اختتام ملتقى شيخ الأزهر محمد الخضر حسين ببسكرة - هدد باستنفار الشعب لزلزلة الحكومة - وبورقيبة اقترح نقل جثمانه عبر طائرة خاصة (¬5). ¬

_ (¬1) صحيفة "الأيام"، العدد 685، الصادر في 27 ديسمبر 2007 م. (¬2) صحيفة "الشعب"، العدد 14456، الصادر في 24 ديسمبر 2007 م. (¬3) صحيفة "المساء"، العدد الصادر في 24 ديسمبر 2007 م. (¬4) صحيفة "الفجر"، العدد الصادر في 24 ديسمبر 2007 م. (¬5) صحيفة "الشروق"، العدد الصادر في 29 ديسمبر 2007 م.

ملتقى الإمام محمد الخضر حسين

على هامش الملتقى ملتقى الإمام محمد الخضر حسين (¬1) للأستاذ محمد الهادي الحسني كتبتُ في جريدة "الشروق" اليومي في 28/ 2/ 2007 م مقالاً عرَّفت فيه الشباب بأحد أعلام الجزائر الذين ولدوا خارجها، وعاشوا خارجها، ودفنوا خارجها؛ بسبب اللعنة الفرنسية التي نزلت على هذا الوطن، لم يكن ذلك العَلَم إلا الإمام محمد الخضر حسين، الذي رفعه الله بالإيمان والعِلْم، وبوَّأه علمُه أرفعَ منصب ديني في العالم الإسلامي، وهو مشيخة الأزهر الشريف، من غير رغبة فيها، ولا سعي إليها. وقد دعوت في ذلك المقال إلى عقد ملتقى عن هذا الإمام؛ بمناسبة الذكرى الخمسين لوفاته -رحمه الله-، ولم أكتف في الدعوة إلى الملتقى بما كتبت، بل افترصت عدة فرص، التقيت فيها بعض الإخوة المسؤولين على مؤسسات دينية وثقافية، فأعلنت لبعضهم، وأسررت لبعضهم، فأعرض بعضهم، وأعطاني بعضهم من طرف اللسان حلاوة، وألقى معاذيره، ووعدني بعضهم خيراً، وما أظنه موفياً بما وعد، ولعله قال لمن حوله بعدما غادرته: ¬

_ (¬1) جريدة "الشروق"، العدد 2183، الصادر يوم الخميس (27 ديسمبر 2007 م، الموافق 18 ذي الحجة 1428 هـ)، الجزائر.

ماذا قال آنفاً؟ ومهما يكن، فإنا لوعده لمنتظرون. وأحمد الله أن صيحتي التي أذّنت بها في "الشروق اليومي" لم تكن صيحة في واد، ولم تكن نفحة في رماد، وَعَتهْا أُذُن خيرٍ واعية، هي: أُذُن (الجمعية الخلدونية) بمدينة "بسكرة" التي لم يثنها قلّة ما بيدها من إمكانات، وما يعترضها من مثبطات من عقد ملتقى دولي عن الإمام محمد الخضر حسين في أيام 25 - 26 - 27 من هذا الشهر، وقد دعت إليه ثلّة من العلماء ومن الأساتذة من داخل الوطن، ومن خارجه؛ لاستعراض حياة هذا الإمام الغنية، ومناقشة جوانب شخصيته الثرية، فقد علم الله خيراً في هذه الجمعية، فأدّخر لها هذه المزية، وحتى لو وفّى من وعد بما وعد، فهي حائزة بالسبق تفضيلا، مستحقة الثناء الجميلا، ومن لا يشكر الناس، لا يشكر ربَّ الناس؛ كما صحَّ عن أخيَر الناس - صلى الله عليه وسلم -. لقد استسمَنَتْني هذه الجمعية، فتكرمت بدعوتي للمشاركة في هذا الملتقى، وحَمَّلتني أثقالاً مع أثقالي، فعهدت إليَّ بتناول الكلمة، وحددت لي موضوعاً يقصر عنه باعي، ويضؤل أمامه متاعي، وهو: "الإمام محمد الخضر حسين مصلحاً". إن احتفاءنا بهذا العالم الجليل وأمثاله، قديماً وحديثاً، والتذكير بجليل أعمالهم، والإشادة بجميل فعالهم، إنما هو للتأكيد على ما قاله الشاعر الفحل محمد العيد آل خليفة، وهو: إنّ الجزائرَ لم تزلْ في نَسْلها ... أمّاً وَلوداً خصبةَ الأرحامِ وإنها بلد الرأي الحصيف، لا بلد الرأي السخيف، وبلد الجهاد الشريف، لا بلد العمل العنيف، وبلد الشُّمِّ الأماثل، لا بلد الأراذل، فإن طفا هؤلاء

على حين غفلة من أهلها الكرام، فمثلهم كمثل الزبد الرابي الذي يحتمله السيل، لهم نَشَب (¬1)، وما لهم نسب ولا حسب، وسيذهب ذلك الزبد جُفاء، وأما الدرّ النفيس الذي ينفع الناس، فهو في الأعماق كامن، وسيجلّيه الله لوقته. لقد علم الإمام محمد الخضر حسين، وآمن أن الله - جلّ وعلا - سائلُه يوم يقوم الناس: "ماذا عمل فيما علم؟ "، ولذلك ملأ حياته عملاً صالحاً، فما إن تخرج من جامع الزيتونة -أتمّ الله نوره- حتى راح يبلِّغ ما ورثه من ميراث محمد - صلى الله عليه وسلم - من علم نافع، وحكمة بالغة، وأوتي رشداً، فلم يقعد مع القاعدين، ولم يتخلف مع الخوالف؛ متعللاً بظاهر الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، بل عمل بما فَقِهه منها ثاني اثنين، صِدّيقُ هذه الأمة، الذي رُوي عنه: أنه قال في شأن هذه الآية: أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر، ولا يغيرونه، يوشك الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يعمّهم بعقابه" انظر: "تفسير ابن كثير" دار الأندلس (ج 2 ص 667). ولهذا كان شعار الإمام محمد الخضر قوله: ولولا ارتياحي للنِّضالِ عن الهدى ... لفتَّشتُ عن وادٍ أعيشُ به وَحْدي لا يتسع المجال لتفصيل القول في آراء الإمام محمد الخضر حسين ¬

_ (¬1) النّشب: المال والعَقَار.

الإصلاحية التي بسطها، وأبدأ فيها وأعاد، في كتبه ومقالاته الكثيرة، ومنها: "رسائل الإصلاح"، و"الدعوة إلى الإصلاح". ولكني أودُّ التنبيه إلى نقطتين أنا مقتنع بهما: أولاهما: أن الإصلاح لا يَشْنأُ -كما يشاع- التصوفَ السنّي الخالي من البدع والخرافات والشطحات، وأن التصوف السنّي لا يشنأ الإصلاح. وقد كان محمد العيد آل خليفة -رحمه الله- متصوِّفاً أوَّاهاً، وكان في الوقت نفسه أحد عُمُد الإصلاح، الدّاعي إليه، المجادل عنه، حتى شُرِّف بلقب: (حسَّان الحركة الإصلاحية)؛ تشبيهاً له بحسّان بن ثابت - رضي الله عنه -. ودليل آخر على أن الإصلاح لا يعادي، ولا يعارض التصوف السنّي: هو هذا الإمام محمد الخضر حسين، الذي ينتسب إلى عائلة صوفية، ونشأ في أجواء التصوف الصافي، لم يجد في صدره حرجاً من اعتناق الإصلاح، والدعوة إليه، ولهذا وجدت رموز الإصلاح في الجزائر، وقادته؛ كالإمامين: ابن باديس، والإبراهيمي، لا يجدان حرجاً ولا تناقضاً عندما يُكْبِران الإمام محمد الخضر حسين، ويشيدان به. ومما قاله الإمام ابن باديس -تعليقاً على مقال للإمام محمد الخضر-: "دعاني إلى كتابة هذا: مقال نفيس نشرته مجلة "الهداية الإسلامية" بقلم أستاذنا العلامة الجليل محمد الخضر بن الحسين الطولقي الجزائري، التونسي، ثم المصري ... وأحببت أن تكون مقدمتي هذه الصغيرة أمام ذلك المقام الكبير تذكرة لجلوسي لتلقي "تهذيب المنطق" بين يدي الأستاذ بجامع الزيتونة، وسماع دروس من صدر "تفسير الييضاوي" بدار الأستاذ بشارع باب منارة من تونس الخضراء".

ويضيف الإمام ابن باديس قائلاً: "ولا يخفى أن الأستاذ -أبقاه الله- ابن أخت العلامة الجليل الشيخ المكي بن عزوز -رحمه الله-، وكلاهما من أبناء الطرقية، ولكن العلم سما بهما إلى بقاع التفكير والهداية والإصلاح. ولكليهما -أحسن الله جزاءهما- كتاباتٌ في التحذير مما عليه الطرقية اليوم، تارة بالتصريح، وتارة بالتلويح، وإلى القراء الكرام نص مقال الأستاذ -أبقاه الله-، وهو من ذلك الطراز". (انظر: الشهاب، ج 8، مجلد 15، سبتمبر 1939 م) وهذا آخر مقال كتبه الإمام ابن باديس في الشهاب؛ لأنها توقفت في هذا التاريخ. وقد عثر على هذا المقال في مطبعة الشهاب. وأما الإمام الإبراهيمي، فقد كتب عن مجالس العلم في دمشق عندما كان مقيماً بها قبل عودته إلى الجزائر في عام 1920 م، وذكر: "أن واسطة العقد في تلك المجالس: الأستاذ الجليل، والأخ الوفي الشيخُ الأستاذ محمد الخضر حسين -مدَّ الله في حياته-". (آثار الإمام الإبراهيمي، ج 3، ص 566. والمقال منشور في 24 جانفي 1949 م في جريدة البصائر). ولو رأى الإمامان ابنُ باديس والإبراهيمي في أقوال الإمام محمد الخضر حسين وأفعاله ما يوجب النقد، لما ترددا في ذلك، وهو ما فعلاه مع الإمام محمد الطاهر بن عاشور، على قيمته العلمية، ومكانته الدينية، عندما اعتبر أحد مواقفه مناصرة للبدعة، منابذة للسنّة (انظر: آثار الإمام ابن باديس، ج 3، ص 270 - 285. وآثار الإمام الإبراهيمي، ج 1، ص 221 - 226). أما النقطة الثانية، فهي أن الإصلاح لا يجعل الإسلام عِضين، ولا يراه تفاريق، بل يعتبره شاملاً، فيه العقيدة، والعبادة، والمعاملات، والتربية، والسياسة، والحرب. فالذين ينفون السياسة عن الإسلام يجهلونه أو يَكْفُرونه.

والذين يرون الإصلاح عقيدة وعبادة وتربية فقط، يتجنّون عليه. وها هو ذا الإمام محمد الخضر حسين الذي لا يرتاب أحد في سعة علمه، وانفتاح ذرعه، يخوض لُجج السياسة، فيكتب عن الحرية، ويتصدى لمن زعم أن الإسلام لا شأن له بالحكم وسياسة أمور الناس، ولا يكتفي في ذلك بالقول والكتابة، ولكنه يضرب بسهمه في تأسيس الجمعيات والهيئات السياسية، ويجري الاتصالات مع الدول، والمؤتمرات والمنظمات السياسية، ويؤمن بالحرب لدفع الظلم، وردّ العدوان، واسترجاع الحقوق المغتصبة، من غير تهوّر بإلقاء الناس إلى التهلكة، وزجِّهم في معركة لم يُعَدَّ لها، ولم تتَّخذ أسبابها. إن الإصلاح عند الإمام محمد الخضر حسين وأمثاله من العلماء المصلحين فكرة ثابتة؛ لأنها لبّ الدين، وغايته، ولكن وسائل الإصلاح تتعدد بتعدد ميادينه، وتتجدد حسب الظروف المحيطة والإمكانات المتوفرة، والكيِّس من فَقِه ذلك، وعمل على ضوء ذلك الفقه. لقد كان الإمام محمد الخضر حسين يجمع في انسجام تام، وفي تناغم جميل بين الإصلاح، السلفية المتنوِّرة، والتصوف السنّي، وهذا ما يحتاجه المسلمون في كل عصر، وخاصة في هذا العصر. أمطر الله شآبيبَ رحمته على هذا الإمام الجليل، الذي لم يحضر ذكراه أحد من كبار المسؤولين؛ ربما لانشغالهم بالإعداد لـ ... ولعل عدم حضورهم من علامات قبول الله لهذا الصالح، وأمارات رضوانه عنه.

في الذكرى الخمسين لوفاة العلامة التونسي محمد الخضر حسين شيغ الأزهر السابق

على هامش الملتقى في الذكرى الخمسين لوفاة العلامة التونسي محمد الخضر حسين شيغ الأزهر السابق (¬1) الأستاذ محمد مواعدة (¬2) مرت خلال الأسبوع الأول من فيفري 2008 م، الذكرى الخمسون لوفاة العلّامة التونسي محمد الخضر حسين شيخِ جامع الأزهر السابق (2 فيفري 1958 - فيفري 2008). وفي هذا الإطار تعتزم (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي) بإشراف رئيسها المثقف، والجامعي المتميز الدكتور كمال عمران، تعتزم تنظيمَ ندوة علمية خلال هذه السنة بمشاركة باحثين تونسيين وجزائريين ومشارقة للتعريف بهذه الشخصية العلمية التي تجاوزت الحدود، وبلغت أوج الشهرة والمجد العلمي والثقافي خلال النصف الأول من القرن الماضي. ولا يحتاج إلى تأكيد أهمية منصب علمي مثل مشيخة جامع الأزهر الشريف، هذه المؤسسة الدينية والعلمية التي كان مجرد الدراسة فيها، والتعلم ¬

_ (¬1) جريدة "الصباح" التونسية، العدد الصادر في 24 فيفري (شباط) 2008 م. (¬2) الأستاذ محمد مواعدة من كبار الباحثين والكتاب التونسيين، له مؤلف مشهور "محمد الخضر حسين حياته وآثاره".

بها يعتبر شهادة امتياز وتقدير. ومما يستحق الإشادة في هذا المجال: أن الشيخ محمد الخضر حسين لم يطلبها ويعمل من أجلها، بل جاءته هذه الخطّة ساعية إليه من خلال الوفد الوزاري الذي أرسله إليه الرئيس جمال عبد الناصر في سبتمبر 1952 م بقيادة الوزير الشيخ الباقوري عارضاً عليه تولي هذه الخطة، فاعتذر، فألحَّ عليه، وهو صديقه القديم بما معناه: إن الثورة تهدف إلى بناء مجتمع جديد، وهو أحد جنودها، ولا يمكن له أن يعتذر عن المساهمة في هذا البناء ... فقبل عندئذ تولي مشيخة الأزهر، وبقي يباشرها إلى سنة 1954 م، ثم استقال منها متعللاً بكبر سنه ... لكن السبب الحقيقي كان اختلافه مع مجلس قيادة الثورة في قضايا عديدة، منها: وضع المحاكم الشرعية. ومما يذكر عنه في هذه المرحلة من حياته: أن اللواء محمد نجيب قد زاره في بيته -بحكم العلاقة القائمة بين الرجلين قبل الثورة-، ثم طلب منه بعضُ الأصدقاء القيام بزيارة اللواء نجيب في مقر مجلس قيادة الثورة، فكان جوابه: "شيخ الأزهر لا ينتقل إلى مقر السلطة ... بل على السلطة أن تنتقل إليه؛ لأنها هي التي تحتاجه". * حياته ثرية ونشيطة: إن كل من تعرف على هذه الشخصية -من خلال البحث والدراسة- يتبين غزارة حياتها وثراءها، إذ هو العالم في القضايا الشرعية، وفي اللغة، والأدب، وهو الشاعر، والمحاضر، والرحالة، وكاتب المقالة، والمناضل المغاربي السياسي. فقد قال عنه أحد علماء الأزهر الكبار -الشيخ اللبان- عند إلقائه درساً

في "القياس في اللغة العربية" وهو البحث الذي تأهل به للدخول إلى هيئة كبار العلماء ... وهي أعلى هيئة علمية بالجامع الأزهر. قال الشيخ اللبان: "هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حجاج؟! ". ونظراً إلى أن هذا العلامة هو كما قال عنه أحد زملائه: "هو رجال في رجل"؛ فإننا في هذه المناسبة -الذكرى الخمسين لوفاته- سنكتفي بالإشارة بإيجاز إلى بعض الجوانب (¬1): 1 - جذور هذه الشخصية وأصول عائلته هي أصول جزائرية من بلدة "طولقة" من منطقة الزاب على الحدود التونسية ... وهي منطقة واحات النخيل المجاورة لمنطقة الجريد بالجنوب التونسي ... وهو ما يجعل المتجول في إحدى هذه الواحات لا يستطيع التفريق بين هاتين المنطقتين: نخيلاً، بشراً، عادات، أنواع الأطعمة والمأكولات ... إلخ. 2 - انتقل جده للأم الشيخ مصطفى بن عزوز إلى بلدة "نفطة" خلال النصف الأول من القرن 19 م، واستقر بها، وبنى بها زاويته الشهيرة القائمة إلى اليوم ... وانطلاقاً منها قام بنشر الطريقة الرحمانية. قد أشار الشيخ إبراهيم خريف (والد الأديبين البارزين: مصطفى خريف، والبشير خريف) في كتابه "المنهج السديد في التعريف بقطر الجريد" - (مخطوط) إلى الحظوة الكبيرة، والعناية الفائقة التي استقبل بها علماء "نفطة" ورجالها الشيخ مصطفى بن عزوز. ¬

_ (¬1) محمد مواعدة: "محمد الخضر حسين: حياته وآثاره"، ط 1، تونس 1974 م، قريباً طبعة جديدة مفصلة في جزأين.

وكان لهذا الشيخ مكانة خاصة ومتميزة لدى العلماء والشيوخ في مختلف أنحاء البلاد التونسية، وكذلك لدى سلطة البايات، وهو ما أهله للقيام بدور فاعل للوساطة بين باي تونس وعلي بن غذاهم، أشار إليها بتفصيل ابن أبي الضياف في ج 5 من كتاب "الإتحاف". 3 - كان -أيضاً- جد محمد الخضر حسين للأب علي بن عمر من علماء "طولقة" وشيوخها، وله -حالياً- زاوية باسمه في هذه المدينة، هي من أكبر الزوايا التي زرتها أخيراً بمنطقة الزاب ... وبها مكتبة ثرية جداً بالمخطوطات العلمية والأدبية النادرة ... ويشرف على شؤونها عالم جليل هو الشيخ عبد القادر عثماني. 4 - إذن كانت العائلة التي ينتسب إليها علامتنا من أعظم العائلات وأعرقها علماً وورعاً ... إذ -إضافة إلى ما ذكرنا- فإن الشيخ محمد بن عزّوز والد الشيخ مصطفى بن عزوز ... هو العالم والورع المتصوف المعروف بـ "نور الصحراء"، وزاويته الشهيرة قائمة إلى اليوم. ومن أبرز أبناء هذه العائلة -أيضاً- الشيخ المكي ابن عزوز (خال محمد الخضر) الذي كان من علماء جامع الزيتونة، وأحد قضاة مدينة "نفطة" ... والذي ارتحل فيما بعد إلى "الآستانة" واستقر بها للتدريس ... وكان من أبرز وجهائها إلى أن توفي بها، ودفن هناك. 5 - ولد الشيخ محمد الخضر حسين بمدينة "نفطة" يوم (26 رجب سنة 1293 هـ / 21 جويلية سنة 1873 م)، واسمه الأصلي: محمد الأخضر ابن حسين، وقد حدث تحوير في الاسم على مرحلتين: الأولى: منذ طفولته، عندما أبدل لفظ "الأخضر" بـ "الخضر"؛ تيمناً

بـ "الخضر" الذي رفعه القرآن إلى درجة الأنبياء، ويحظى عند رجال التصوف بمكانة خاصة. أما التحوير الثاني الذي حدث في صيغة الاسم، فبحذف لفظ "الابن"، وذلك عندما هاجر إلى المشرق العربي، واستقر بـ"دمشق، ثم القاهرة" مسايرةً لأسلوب المشارقة في التسمية؛ مثل: طه حسين ... 6 - تلقى تعلمه الابتدائي "بنفطة" على يد خاله الشيخ محمد المكي ابن عزوز، وعلى مؤدبين وشيوخ من أبرز مؤدبي وشيوخ "نفطة" في ذلك العهد. وتجدر الإشارة إلى أن مدينة "نفطة" التي كانت تسمى بالكوفة الصغرى (في كتب الرحالة العرب)، ومنطقة الجريد عامة: توزر، دقاش، كانت كلها زاخرة بالعلماء والأدباء والشعراء. 7 - عندما بلغ محمد الخضر سن 13 من عمره انتقلت العائلة سنة (1307 هـ / 1886 م) إلى العاصمة تونس؛ لتمكينه وإخوته من مواصلة الدراسة بجامعة الزيتونة ... وكان خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز مدرساً متطوعاً بالجامع الأعظم، وصاحبَ منزلة وتقدير لدى أبرز شيوخ هذه المؤسسة العلمية. 8 - تخرج محمد الخضر حسين من جامع الزيتونة بنجاحه في شهادة التطويع سنة (1316 هـ / 1898 م)، وكان لهذه المرحلة الزيتونية من حياته شديدُ التأثير في مساره العلمي والفكري والأدبي، أشاد به في عديد المناسبات. (انظر كتابه: "تونس وجامع الزيتونة")، وخاصة انبهاره وتعلقه بشيوخه الكبار:

- الشيخ سالم بو حاجب (ت: 1343 هـ / 1925 م). - الشيخ عمر بن الشيخ (ت: 1329 هـ / 1911 م). - الشيخ محمد النجار (ت: 1329 هـ / 1911 م). أشار العلامة محمد الخضر حسين إلى مراحل حياته في مناسبات عديدة، وهي ثلاثة: - المرحلة التونسية: وقد امتدت طيلة 40 سنة، من ولادته بمدينة "نفطة" بالجريد سنة 873 م إلى هجرته النهائية إلى المشرق العربي سنة 1912 م. وقد قال العلامة محمد الفاضل بن عاشور عن هذه المرحلة التأسيسية لشخصية صاحبنا: تميزت هذه المرحلة الأولى من حياته التي قضاها بتونس بالتعلم والتثقف، فتكونت شخصيته، ونضجت أفكاره، واشتهر في الأوساط العلمية باعتداله، وهدوء طبعه، وخلوص نيته، وسعة علمه، وبراعة قلمه. ولئن باشر التدريس بالجامع الأعظم خلال هذه المرحلة، وكذلك بالمعهد الصادقي، وتقلد خطة القضاء بمدينة "بنزرت" تلبية لطلب صديقه الحميم العلامة محمد الطاهر بن عاشور، ثم استقال منها سريعاً؛ لعدم تلاؤم شخصيته وبيئته العائلية والعلمية مع ضوابط الوظائف الرسمية وحدودها، وانشغاله الأساسي بالعلم والأدب والثقافة درساً وتعلماً وتعليماً. لئن قام بكل ذلك وبغيره خلال هذه المرحلة التونسية، فإننا نعتقد -تأكيداً لما قاله العلامة محمد الفاضل بن عاشور- أن من أهم ما يستحق الإشادة والذكر في هذه المناسبة الخمسينية:

أ - بداية بروزه في مجال الدعوة إلى إصلاح المجتمع الإسلامي من خلال المسامرات والمحاضرات والتي من أشهرها: - "الحرية في الإسلام": التي ألقاها بنادي (جمعية قدماء الصادقية) سنة 1906 م، ونشرت سنة 1909 م، ونالت اهتمام جميع الأوساط العلمية والثقافية في ذلك العهد. - "حياة اللغة العربية": والتي ألقاها بنادي الجمعية نفسها خلال سنة 1909 م. ب - إصدار مجلة "السعادة العظمى" (¬1)، والتي هي في نظرنا أهم إنجاز قام بتحقيقه في مرحلته التونسية، والتي قال عنها العلامة محمد الفاضل بن عاشور: " ... كان ظهورها في معمعة تلك الخلافات كطلوع الحكم العادل، تنزهت به المجادلات عن الفحش، وتطهرت من الهمز واللمز، وتسامت عن التشهير والأذى الشخصي". ويقصد شيخنا ابن عاشور بهذا القول: محاولةَ مجلة "السعادة العظمى"، وبالتالي صاحبها الشيخ محمد الخضر حسين التعاملَ بهدوء ورصانة مع الخلاف الذي كان وقتها محتدماً بين الإصلاحيين والمحافظين حول قضايا فكرية ودينية عديدة؛ مما جعل أصحاب التيارين وأنصارهم "المتطرفين" يخاصمون المجلة، وصاحبها، (وهو موضوع يحتاج إلى بحث خاص) ... باستثناء صديقه الوفي العلامة محمد الطاهر بن عاشور. وقد كانت بينهما ¬

_ (¬1) نجاة الحامي بوملالة: مجلة "السعادة العظمى"، بحث جامعي متميز عن هذه المجلة وظروف صدورها وتوجهاتها الدينية والفكرية.

مودة استمرت طيلة حياتهما ... هذه المودة التي تبرز في الرسائل التي كان يوجهها إمام الجامع الأزهر إلى إمام الجامع الأعظم جامعِ الزيتونة ... وأغتنمُ هذه المناسبة؛ لأشير إلى أن هذه المودة والوفاء والتقدير قد لمستها شخصياً خلال إعداد كتابي عن الخضر حسين والجلسات العديدة التي خصصها لي المرحوم العلامة محمد الطاهر بن عاشور ببيت ابن عاشور العامر بالمَرْسى ... وتمكيني من معلومات وتدقيقات علمية وتاريخية نادرة لم تكن متوفرة لغيره من العلماء والشيوخ والمؤرخين ... فله منا -رحمه الله- كامل الثناء والتقدير، ولهذه العائلة -آل ابن عاشور- التي مكنت تونس والعالم الإسلامي -وما زالت- من خيرة العلماء والباحثين في عديد المجالات العلمية والثقافية والفكرية والقانونية ... إلخ. ج - العناية البارزة بمجال الإصلاح الديني والاجتماعي والتربوي: وقد تجلى ذلك بالدعوة إلى الإصلاح من خلال المحاضرات والمسامرات والمقالات ... أما في الميدان التربوي، فقد كان منشغلاً بإصلاح التعليم الزيتوني منذ حياته الطالبية ... وبعد تخرجه من الجامع الأعظم كان من بين شيوخ الزيتونة وعلمائها العاملين على تطوير التعليم مضموناً وأسلوباً ومنهجاً. وفي هذا الإطار شارك في تكوين جمعية (تلاميذ جامع الزيتونة) سنة (1324 هـ / 1906 م)، إضافة إلى نخبة من العلماء، في مقدمتهم: العلامة محمد الطاهر بن عاشور ... وخلال سنة (1325 هـ / 1907 م) انحلت هذه الجمعية وتكونت جمعية جديدة باسم (الجمعية الزيتونية)، تولى رئاستها الشيخ ابن عاشور، وعضويتها العلماء: الطاهر النيفر، محمد رضوان، محمد النخلي،

محمد الخضر حسين، أبو حسن النجار ... وفي هذا الإطار الإصلاحي التربوي يتنزل كتاب (أليس الصبح بقريب) لشيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور. - المرحلة السورية: وهي المرحلة الثانية من حياة العلامة محمد الخضر حسين، والتي امتدت طيلة 8 سنوات، من سنة (1912 م إلى سنة 1920 م). وقد كانت -حسب تعبير العلامة محمد الفاضل بن عاشور- مرحلة التنقل والترحال والاكتشاف ... والنضال السياسي. وتجدر الإشارة -في هذا الإطار- إلى أن أسباباً عديدة دفعت بالشيخ الخضر حسين إلى الهجرة إلى المشرق العربي، منها: انتقال عائلته إلى دمشق، والاستقرار بها سنة 1911 م، وهي حالياً من أشهر العائلات علماً وورعاً وقيمة ثقافية، وفي مقدمة هذه الأسرة التونسية السورية: الأستاذ الكبير والمحامي المتميز والأخ العزيز علي الرضا الحسيني التونسي، الذي سخّر جهوده العلمية والمعرفية، وكل إمكانياته المادية لتحقيق وجمع ونشر آثار عمه العلامة الخضر حسين، وكذلك آثار والده الشيخ زين العابدين بن الحسين، وأعمال آل عزّوز، والحسين، وهي الجهود التي من أجلها قلّده الرئيس زين العابدين ابن علي وساماً ثقافياً متميزاً، ومن أجلها استحق كامل التقدير من أبرز الجامعيين والمثقفين العرب والمسلمين المعنيين بتراث هذه الأمة، وبرجالها الأجلاء مثل: علامتنا محمد الخضر حسين. قد كانت هذه المرحلة السورية مليئة بالنشاط العلمي والثقافي، والتنقل والترحال، وبالخصوص بالنضال السياسي.

ونظراً إلى ضيق المجال، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى أبرز ما تميزت به هذه المرحلة: 1 - منذ حلوله بالعاصمة السورية دمشق، واسعقراره عند إخوته وعائلته، واصلَ نشاطه العلمي والثقافي بالتدريس بالمدرسة (السلطانية)، وهي من أبرز المعاهد العلمية، ومن أشهر من درّس بها الإمام محمد عبده. كما واصل إلقاء المحاضرات في الجامع الأموي، وكتابة المقالات بالصحف السورية. ومن الجدير بالذكر: أن قدومه إلى الشام وجد حظوة كبيرة لدى العلماء والمثقفين السوريين. 2 - كان من أبرز الداعين إلى تمتين الروابط بين العرب والأتراك في إطار الأمة الإسلامية، وسخر جهده الإعلامي والثقافي في هذا الإطار، وهو ما عبر عنه في قصيدته الشهيرة: "بكاء على مجد ضائع". 3 - كان حاكم سورية في تلك المرحلة التركي جمال باشا المعروف بتعسفه وجبروته، وقد أدخل العديد من العلماء والمفكرين السجن، منهم: الشيخ الخضر حسين. وعند إطلاق سراحه -بعد ثبوت براءته- عاد إلى التدريس والمحاضرات العلمية والثقافية. 4 - سافر إلى عاصمة الخلافة العثمانية الآستانة؛ حيث عمل منشئاً عربياً بوزارة الحربية. 5 - كان استقرار خاله وأستاذه الشيخ محمد المكي بن عزوز بالآستانة، والمكانة التي كان يتمتع بها لدى الباب العالي، ولدى أبرز العلماء والساسة

بعاصمة الخلافة الإسلامية وقتئذ، كل ذلك ساعد الخضر حسين على حصوله على ثقة الباب العالي؛ مما جعل السلطة التركية تعهد له مهمة في ألمانيا التي كانت في الحرب العالمية الأولى حليفة لتركيا ضد فرنسا. 6 - سافر الخضر حسين إلى ألمانيا، واستقر ببرلين صحبةَ عدد من العلماء المسلمين، منهم: الشيخان: صالح الشريف، وإسماعيل الصفايحي. وكان الهدف من هذه البعثة العلمية: تحقيق رغبة السلطة العثمانية في تكوين تنظيمات ثورية شعبية من المغاربة المقيمين بألمانيا ضد الاستعمار الفرنسي في بلدان شمال إفريقيا. وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى صلة الشيخ الخضر حسين بالأخوين المناضلين: محمد، وعلي باش حامبة، واتفاقهم مع بقية المغاربة المقيمين وقتها بالآستانة وبرلين على ضرورة الدفاع عن الخلافة الإسلامية، ومجابهة الاستعمار الفرنسي. وفي هذا الإطار يندرج تكوين (اللجنة التونسية الجزائرية) التي وجهت إلى مؤتمر الصلح المنعقد بباريس سنة 1917 م تقريراً مفصلاً تحت عنوان: (مطالب الشعب الجزائري التونسي)، ويإمضاء مجموعة من المناضلين المغاربيين، منهم: محمد باش حامبة، محمد الخضر حسين، صالح الشريف ... 7 - عندما سقطت تركيا في أيدي الحلفاء، عاد الشيخ الخضر صحبة عدد من زعماء الحركة الإسلامية من ألمانيا إلى الآستانة، ومنها إلى دمشق. وقد أثر هذا الحدث في نفسه التأثير البالغ؛ لما كان يعلقه من آمال عريضة على الباب العالي في مساعدة القضايا الوطنية التحريرية بالعالم العربي، وخاصة بشمال إفريقيا، وكذلك لما كان يؤمن به من ضرورة تدعيم الخلافة

الإسلامية وتقويتها؛ لما في ذلك من دعم للدين الإسلامي، وتقوية له. 8 - عند عودته إلى دمشق واصلَ نشاطه العلمي والثقافي والإعلامي، كما وقع تعيينه عضواً للمجمع العلمي العربي بدمشق، الذي عقد جلسته الأولى يوم 30 جويلية 1919 م. وبقي عضواً عاملاً بهذا المجمع مدة إقامته بالعاصمة السورية، ثم أصبح عضواً مراسلاً عند انتقاله إلى القاهرة، واستقراره بها سنة 1920 م. 9 - عند احتلال الجيش الفرنسي لسورية إثر معركة ميسلون يوم 24 جويلية 1920 م، أصبحت إقامة الخضر حسين بدمشق معرضة للخطر، وهو المتابَع من السلطات الفرنسية من تونس، ثم لنشاطه السياسي بالآستانة وبرلين. ولذلك برغم حنينه إلى وطنه تونس، فقد قرر الانتقال إلى مصر، والاستقرار بها. فقد كانت القاهرة مقر الجامع الأزهر، وكعبة العلماء والباحثين، ولذلك قال في مقدمة كتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم": "وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وأخذت البلاد العربية والتركية هيئة غير هيئاتها، هبطت مصر، فلقيت على ضفاف وادي النيل علماً زاخراً، وأدباً جماً". - المرحلة المصرية: هذه المرحلة الثالثة والأخيرة من حياة العلامة محمد الخضر حسين امتدت طيلة 37 سنة، من سنة 1920 م إلى وفاته سنة 1958 م. وهي المرحلة التي أطلق عليها الشيخ محمد الفاضل بن عاشور بمناسبة أربعينية الشيخ الخضر في مارس 1958 م: "مرحلة المجد الثقافي والشهرة العلمية". ولذلك كانت من أغزر مراحل حياته إنتاجاً علمياً وثقافياً وإعلامياً،

وأبرزها مكانة وشهرة وفاعلية. وبرغم هذه الأهمية، فإننا نكتفي بالإشارة إلى ما يلي: 1 - تنقسم هذه المرحلة بدورها إلى ثلاث فترات: أ - ما قبل توليه مشيخة الأزهر (1920 م - 1952 م). ب - مدة توليه مشيخة الأزهر (1952 م - 1954 م). ج - بعد استقالته من الأزهر إلى وفاته (1954 م - 1958 م). 2 - مما يستحق الذكر في أيامه الأولى بالقاهرة هو: اعتماده على نفسه، وهو الوحيد البعيد عن الأهل والأقارب والأصدقاء، وتحمله لشتى الأتعاب والمشاق ... فقد كان ذا شخصية قوية، وأنفة وكبرياء، وشعور بعزة النفس ... ولا غرابة، وهو سليل عائلة علم وورع، وتجرَّد لخدمة الإسلام وقيمه وأهدافه الإنسانية. وقد اختار شعاراً لحياته: ولَوْلا ارتياحي للنِّضالِ عنِ الهُدى ... لفتَّشتُ عن وادٍ أعيشُ به وحدي ومن المعلوم بداهة: أن الذين يختارون طريق النضال من أجل أهداف وطنية وإنسانية عالية، ويسخّرون حياتهم ووجودهم كله لتحقيق هذا المطمح النبيل، هؤلاء يكونون دائماً عن وعي عميق بما يستحقه ذلك من تضحيات، وما يطرحه من استعداد لتحمل التبعات، مهما كانت شاقة وقاسية. 3 - منذ أيامه الأولى بالقاهرة قام بالاتصال بالطلبة المغاربة بالجامع الأزهر، ورُواقُ المغاربة بهذه المؤسسة العلمية ما زالت آثاره بارزة إلى اليوم، برغم زوال الرواق نفسه، وبقية الأروقة الأخرى. كما تمكن من الحصول على خطة مصحّح ومراجع النصوص بدار الكتب المصرية بتدخل من صديقه

الحميم الذي بقي يُكِنُّ له كامل التقدير والاعتراف بالجميل إلى آخر حياته، وهو العلامة أحمد تيمور. وهذا الاعتراف هو الذي جعل الشيخ محمد الخضر حسين يوصي بدفنه في مقبرة آل تيمور بالقاهرة بجانب صديقه الوفي. وقد زرتُ شخصياً هذه المقبرة خلال زيارتي الأخيرة للقاهرة في جانفي الماضي 2008 م، حيث لاحظت قبر المرحوم علامتنا ضمن المبنى المخصص للعائلة، بل وفي مقدمة قبور أسرة تيمور، وبمبنى ضخم مكتوب عليه العديد من الآيات القرآنية، وفي أعلاه لوحة رخامية تُشيد بصاحب القبر، وبقيمته العلمية، وخاصة مشيخة الأزهر. 4 - خلال السنوات الأولى من هذه المرحلة ساهم في تأسيس (جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية) التي تألفت من عدة شخصيات مغاربية؛ من تونس، والجزائر، والمغرب، وليبيا، وقد تحمل مسؤولية رئاستها. وكان هدفها: الرفع من مستوى هذه الجاليات مادياً واجتماعياً وثقافياً. وتجدر الاشارة في هذا المجال إلى: أن اهتمام الشيخ الخضر حسين بالمغرب العربي وقضاياه قد استمر طيلة حياته، ومساعدته للزعماء المغاربة ولعلمائه تواصلت إلى آخر أيام حياته. 5 - كانت له مساهمات هامة وفاعلة في المناظرات، بل الصراعات الفكرية والدينية والأدبية خلال هذه المرحلة المصرية، وأبرز هذه المساهمات: أ - تأليفه كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، الصادر في أفريل 1925 م، إثر صدور قرار إلغاء الخلافة في مارس 1924 م.

وقد كان لنقض الخضر حسين الصدى الكبير في الأوساط الإسلامية، وخاصة في مصر. ونال حظوة متميزة لدى الملك فؤاد ملك مصر. وقد كان حكم مصر يسعى إلى اغتنام الفرصة لتحل القاهرة محل الآستانة عاصمة للأمة الإسلامية. ب - تأليفه كتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين، الصادر سنة 1926 م. وقد نال هذا الكتاب -أيضاً- شهرة كبيرة، وخاصة لدى علماء الأزهر، ورجال الدين عموماً. وقد قال العلامة محمد الفاضل بن عاشور عن هذا الكتاب: إن الدكتور طه حسين يعتبر كتاب الشيخ محمد الخضر حسين من أهم الردود، وأشدها حجّة. 6 - إن المتابع لنشاط الشيخ محمد الخضر حسين -طيلة حياته الزاخرة بالأعمال الجليلة- يلاحظ مدى اهتمامه بتكوين الجمعيات في مختلف مجالات الإصلاح الديني والاجتماعي والتربوي والسياسي. وفي هذا الإطار نراه يقوم بتأسيس "جمعية الهداية الإسلامية" بتاريخ 6 جانفي 1928 م، وذلك صحبة نخبة من أبرز، العلماء، منهم: الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر، والشيخ عبد الحليم النجار. لم تكتف هذه الجمعية بتنظيم المحاضرات والمسامرات، وتكوين الفروع داخل مصر وخارجها. بل قامت بإصدار مجلة "الهداية الإسلامية" الشهرية، وذلك منذ أكتوبر 1928 م. ومن الملاحظ: أن هذه المجلة تنشر أخباراً عن تونس، كما تقوم بالتعريف

بأبرز الشخصيات العلمية؛ مثل: الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وتنشر -أيضاً- بحوثًا ومقالات لعلماء تونسيين، أمثال: الشيخ ابن عاشور، والشيخ محمد النيفر، وكان من مراسليها الشيخ محمد المكي بن الحسين. وقد نالت هذه المجلة حظوة خاصة لدى علماء الإسلام مغرباً ومشرقاً، نذكر منهم: الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة "المنار" الذي حثّ المسلمين على قراءتها ... ومما قاله عن الشيخ الخضر حسين: "هو صديقنا الأستاذ التونسي الزيتوني الأزهري، العالم الفاضل، الكاتب الخطيب المتفنن" (مجلة "المنار" م 29، ج 9، ص 720). ... هذا برغم أن العلاقة بين العالمين الخضر حسين، ورشيد رضا لم تبق على هذا الود؛ إذ انقلبت إلى خصومة فكرية وشخصية لاذعة، بدأها صاحب "المنار"، ولم يتجاوزها صاحب "السعادة العظمى" و "الهداية الإسلامية"، وهذه قضية تحتاج وحدها إلى مقال تحليلي ليس هذا مجاله. 7 - إن تواصل نشاط الخضر حسين، وكثافة هذا النشاط العلمي والثقافي والإعلامي أكد حضوره البارز والمتميز في المجتمع المصري، وخاصة لدى علماء الأزهر. ولذلك وقع انتدابه للتدريس في قسم التخصص بهذه المؤسسة العلمية سنة 1927 م بصورة مؤقتة، ثم بصورة رسمية سنة 1928 م عندما أصبح صديقه الشيخ المراغي شيخاً للأزهر. وفي هذه المرحلة من حياته العلمية، أصدر الأزهر مجلة "نور الإسلام" (محرم 1349 هـ / جوان 1930 م)، التي تولى الشيخ الخضر رئاسة تحريرها. 8 - تأسيس "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة بمرسوم ملكي أصدره الملك

فؤاد الأول في 14 شعبان سنة (1351 هـ / 13 ديسمبر 1932 م). ثم صدر مرسوم ثان تَمَّ بموجبه تعيين الأعضاء العاملين بالمجمع، وهم من أبرز العلماء والمستشرقين، منهم: "الشيخ محمد الخضر حسين، الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب، والمستشرقون: هملتون جيب، ونالينو مارسينيون ... وقد ترأس الشيخ محمد الخضر لجنة اللهجات، وشارك في أعمال عدة لجان علمية، وألقى عديد البحوث نشرت بمجلة المجمع؛ كما مَثَّل هذه المؤسسة اللغوية في مؤتمرات دولية عديدة. 9 - أصبح الشيخ محمد الخضر عضواً بهيئة كبار العلماء سنة 1950 م إثر تقديمه بحث "القياس في اللغة العربية"، وهي أكبر هيئة علمية في مصر. وخلال مناقشة اللجنة لصاحب البحث، قال الشيخ اللبّان رئيس اللجنة عبارتَه المشهورة التي ما زال شيوخ الأزهر يرددونها إلى اليوم، وقد سمعتها منهم شخصياً خلال زيارتي الأخيرة إلى الجامع، واستقبالي من طرفهم بتقدير لن أنساه. وقد شاركت بالمناسبة في نقاش علمي بكلية اللغة العربية يوم 16 جانفي 2008 م. أما عبارة الشيخ اللبّان، والتي أشرتُ إليها في بداية هذا المقال، فهي: "هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حجاج؟! ". 10 - تولى خطة شيخ الجامع الأزهر -كما أشرت إلى ذلك في بداية المقال - في سبتمبر 1952 م. هذا وقد تحصل على الجنسية المصرية خلال سنة 1932 م حتى يتمكن من تحمل مسؤوليات في مؤسسات وهيئات علمية مصرية مثل هذه الخطة.

وقدم استقالته من مشيخة الأزهر في جانفي 1954 م لكبر سنه؛ إذ تجاوز الثمانين من العمر، ولتدهور حالته الصحية، ولخلافات عديدة بينه وبين مجلس قيادة الثورة، وهو العالم الجليل صاحب الشهرة الكبيرة، والشخصية القوية، والكبرياء والأنفة، والذي لا يخشى في قول الحق لومة لائم، ولو كان سلطاناً متسلطاً. ومما يذكر عنه في أثناء توليه مشيخة الأزهر قوله: "إن الأزهر أمانة في عنقي، أُسلِّمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذ لم يتأتَّ أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من أن لا يحصل له نقص"، وكان كثيراً ما يردد: "يكفيني كوب لبن، وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العفاء". 11 - واصل بعد الأزهر نشاطه في (المجمع اللغوي)، وفي (هيئة كبار العلماء)، وكتابة المقالات والبحوث الدينية في بعض المجلات؛ مثل: "لواء الإسلام" التي صدر له فيها آخر مقال. وقد وافته المنية، ورجعت نفسُه إلى ربها راضية مرضية بعد ظهر يوم الأحد (13 رجب سنة 1377 هـ، فيفري 1958 م). وقد نعاه العلامة محمد علي النجار بكلمة تأبينية، مما جاء فيها: " ... إن الشيخ اجتمعت فيه من الفضائل ما لم تجتمع في غيره إلا في الندرى؛ فقد كان عالماً ضليعاً بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصد الناس ومعاقد شؤونهم، حفيظًا على العروبة والدين، يردّ ما يوجه إليهما، وما يصدر من الأفكار منابذاً لهما، قوي الحجّة، حسن الجدال، عف اللسان والقلم ... " (محاضر جلسات مجمع اللغة العربية، ج 21، القاهرة).

لقد فارق عالمنا هذا إلى العالم الآخر، وقد ترك من جليل الأعمال والآثار الشيء الكثير الكثير؛ مما أغنى المكتبة العربية والإسلامية، وبالتالي حضارة هذه الأمة بكنوز لا تفنى، وموارد لا تنضب. حرصنا في هذه المناسبة - الذكرى الخمسون لوفاة العلامة محمد الخضر حسين - على التعريف بإيجاز شديد بهذه الشخصية التي نشأت على أرض تونس - بنفطة - وواصلت حياتها بثبات ومثابرة جعلتها تبلغ أعلى الدرجات العلمية في مجالات عديدة، في مغارب العالم العربي والإسلامي ومشارقه. على أن هنالك جوانبَ عديدة تستحق الإشارة والتحليل إزاء هذه الشخصية، وخاصة منها الجوانب التي حولها خلاف بين الباحثين، منها: جنسيته، علاقته بالزعيم الحبيب بورقيبة، وموقفه من الإصلاح الاجتماعي والديني والسياسي، نضاله السياسي ... إلخ. لكن المجال لا يسمح بذلك، وفي الوقت نفسه نرى لزاماً علينا للأمانة والتاريخ ضرورة الإشارة إلى بعضها على الأقل، وبإيجاز شديد، وتوضيح القليل مما يشوبها من غموض. * الخضر حسين والزعيم بورقيبة: مرت العلاقة بين الزعيم التاريخي الحبيب بورقيبة والعلامة الزيتوني الأزهري محمد الخضر حسين بحالات مد وجزر، تعود أسبابها إلى عوامل عديدة لا يسمح المجال بتعدادها وتحليلها، لذلك سنكتفي بالإشارة إلى ما يلي: تناول بورقيبة شخصية الخضر حسين بالحديث في مناسبات عديدة

ومختلفة، أحياناً بالاحترام والتقدير، وأحياناً أخرى بالتنقيص والاحتقار -مع الأسف-. والمهم في هذا الإطار: أن أول مناسبة جمعت بين الرجلين كانت زيارة بورقيبة إلى المشرق، وتوقفه بمنطقة السلُّوم على الحدود الليبية المصرية، وعدم تمكنه من دخول الأراضي المصرية؛ لجهل حرس الحدود المصريين بالزعيم الوطني التونسي في تلك الفترة، وإشارته لهم بمعرفته بالشيخ التونسي الخضر حسين، ونظراً إلى العلاقة المتينة التي كانت تربط وقتئذ وزير الداخلية المصري وبين الخضر حسين، وضمان علامتنا في زعيمنا الوطني، ومساندته له، تمكن بورقيبة من دخول مصر، والاتجاه إلى بيت الخضر حسين. وخلال زيارتي إلى القاهرة (جانفي 2008 م) أكَّدت لي شخصياً زوجةُ الخضر حسين الأخيرة: أنهما استقبلوا الزعيم بورقيبة في بيتهم ليلاً، وبقي معهم عدة أيام إلى أن أوجدوا له مقراً للإقامة، كما أكدت لي: أن الشيخ الخضر كان شديد الاحترام والتقدير للزعيم الوطني والمناضل الكبير الحبيب بورقيبة. لكن هذا التقدير المتبادل لم يستمر على هذه الحال، ونترك التفاصيل التاريخية والدينية إلى الفصل الذي سنخصصه لهذه القضية في الطبعة الجديدة القادمة لكتابنا عن الخضر حسين. ومن بين هذه التفاصيل: ما دار في اللقاء الذي دعانا إليه الزعيم بورقيبة إثر صدور كتابنا المذكور سنة 1974 م، والذي حضره نخبة من الجامعيين التونسيين، نذكر منهم: أساتذتنا وأصدقاءنا الأفاضل: المنجي الشملي، وعبد القادر المهيري، وجعفر ماجد ... إلخ، إضافة إلى السيدين المحترمين:

الشاذلي القليبي، ومحمد الصياح. على أن ما يمكن الإشارة إليه بايجاز شديد جداً في هذه المناسبة هو: أن ما سمعناه مباشرة من الزعيم بورقيبة عن الإسلام وشيوخه، والخضر حسين أحدهم، وهو موضوع اللقاء، يساهم إلى حد كبير في توضيح الكثير من الجوانب؛ مما يجعل ما نقرؤه حالياً من تحاليل وكتابات عن بورقيبة والإسلام يحتاج إلى كثير من التصحيح والتدقيق ... وهذه قضية أخرى قد نعود إليها في مناسبة لاحقة. وعودة إلى العلاقة بين بورقيبة والخضر حسين: فبرغم تأرجح موقف الزعيم من العلامة الزيتوني الأزهري بين التقدير والاحترام والإشادة حيناً، ومحاولة الاستنقاص حيناً آخر، فإن بورقيبة لم يتردد بمجرد علمه بوفاة الخضر حسين من تكليف سفير تونس بالقاهرة السيد الطيب السحباني وقتئذ من السعي إلى نقل رفات المرحوم لدفنها بتونس، لكن وصية الخضر حسين بدفنه بجانب صديقه الحميم أحمد تيمور بمقبرة التيمورية بالقاهرة حالت دون ذلك. * المحافظ "المصلح": من الجوانب الخلافية بين الباحثين: موقع العلامة الخضر حسين من الإصلاحيين والمحافظين في المجتمع الإسلامي، فهل هو محافظ متزمت منغلق ومتعصب، وبالتالي هو معارض عنيد لكل إصلاح ديني واجتماعي وسياسي في المجتمع الإسلامي، أم هو مصلح يمكن اعتباره من بين المصلحين العاملين على تطوير الأمة الإسلامية في مختلف المجالات الدينية والاجتماعية والفكرية والسياسية؛ مثل: الأفغاني، وعبده، وخير الدين التونسي، والطاهر الحداد؟

ودون الدخول في تفاصيل لا يسمح المجال بذكرها، وهي عديدة جداً ومعقدة، فإننا نكتفي بالتأكيد، وهذا هو موقفنا الثابت نتيجة درس وتمحيص لهذه الشخصية العلمية الفذة، التأكيد على: أن العلامة الخضر حسين ليس من الصنف المحافظ المنغلق المعارض لكل إصلاح وتطوير، وليس -أيضاً- من الصنف الإصلاحي على غرار زعماء الإصلاح المعروفين، إنه في منزلة بين المنزلتين؛ كما يقال عند المعتزلة. ولهذا السبب عارضه أنصار التيارين معاً عند صدور مجلة "السعادة العظمى"، ولم يجد سنداً إلا صديقه الوفي العلامة محمد الطاهر بن عاشور؛ إذ هو مثله المصلح المعتدل؛ فقد ساعده على مواصلة إصدار المجلة، والتي اضطرت إلى التوقف - حسب رأينا - لأسباب مادية؛ كما يبدو في أعدادها الأخيرة، وبالخصوص العدد المزدوج 19 و 20، وعدد 21 الأخير الصادر في جانفي 1905 م. وللمزيد من التدقيق، وضمن ترتيب "المنزلة بين المنزلتين"، هل هو "محافظ مصلح"، أم "مصلح محافظ"، ما دام أنه ليس "محافظاً صرفاً"، ولا "مصلحاً صرفاً"؟ إننا نعتقد أنه محافظ مصلح، -وخاصة في المجالين الديني والاجتماعي- كثرَ منه مصلحاً محافظاً ... وهذا لا يقلل أبداً من شأنه، بل إنه ما كان يتميز به من وضوح في المواقف، ومن جرأة في التعبير عنها، والتدليل عليها: إن كل ذلك يؤكد ما يستحقه من مكانة وقيمة علمية ودينية وفكرية على مستوى الأمة الإسلامية جمعاء. ويجدر التذكير -في هذا الإطار- بمجهوده المتميز في مجال الإصلاح،

والدعوة إليه - حسب مفهومه وتصوره له - بالتآليف والكتابة والمسامرات والمحاضرات في مختلف المحافل الدينية والاجتماعية والتربوية، وخلال جميع رحلاته المتعددة في البلاد الإسلامية مغرباً ومشرقاً. * هل هو: تونسي ... أم جزائري ... أم مصري؟ خلال الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر 2007 م قامت (الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية) بمدينة "بسكرة" بالجزائر الشقيقة بتنظيم ندوة علمية موضوعها: "العلامة محمد الخضر حسين الطولقي الجزائري"، وذلك بالرعاية السامية لمعالي وزير الثقافة، والسيد والي بسكرة. وأغتنم هذه المناسبة للإشادة بجهود الجمعية الثقافية النشيطة بإشراف رئيسها الباحث والإعلامي المتميز الأستاذ فوزي مصمودي، وهي جهود قلما نجد مثيلاً لها على الساحة الثقافية العربية. وقد شرفتني هذه الجمعية بالدعوة إلى المشاركة في هذه الندوة العلمية صحبة الأخوين العزيزين: الأستاذ علي الرضا الحسيني ابن أخي الخضر حسين، وناشرُ آثاره، والأستاذ الدكتور مجاهد توفيق الجندي مؤرخ الأزهر، وأستاذ كرسي الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وعضو العديد من الهيئات العلمية العربية والإسلامية. وقد شارك في هذه الندوة نخبة من خيرة الباحثين والجامعيين الجزائريين، وقد كانت -فعلاً- من أهم اللقاءات العلمية العربية التي شاركتُ فيها خلال هذه السنوات. وإضافة إلى عنوان الندوة: "العلامة محمد الخضر حسين الطولقي الجزائري"؛ أي: من بلدة "طولقة" من منطقة الزاب ... لاحظت أن هذه الندوة

قد سبقتها ندوات سابقة خلال سنوات مضت، وتأكدتُ من مدى تمسك الإخوة في الجزائر الشقيقة بجزائرية العلامة محمد الخضر حسين. ونظراً إلى دراستي الشاملة والمتواصلة لهذه الشخصية المتميزة، ونظراً إلى إيماني العميق والدائم بأن العلم لا يعرف المجاملات، فقد أكدت في البحث المطول الذي قدمته في هذه الندوة على الجوانب التاية: 1 - إن أصول محمد الخضر حسين وجذوره العائلية هي فعلاً جزائرية. فجده للأم الشيخُ الجليل مصطفى بن عزوز صاحب الزاوية الشهيرة بمدينة "نفطة"، وهو -فعلاً- من منطقة الزاب؛ حيث توجد زاوية والده الشيخ الورع (نور الصحراء) محمد بن عزّوز. وكذلك جده للأب الشيخ علي بن عمر هو -أيضاً- من "طولقة"، وزاويته قائمة حالياً بإشراف الشيخ عبد القادر عثماني العالم الجليل، وعضو المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر الشقيقة. وقد وجدنا منه ومن عائلة الخضر حسين الأصيلة بطولقة وبرج ابن عزوز خلال زيارتنا لهذه الزاوية (ديسمبر 2007 م) كامل التبجيل والاحترام، فلهم منا جليل الشكر. 2 - لكن محمد الخضر حسين شخصياً ولد بمدينة "نفطة" التونسية، ونشأ بها، وتربى وتلقى تعليمه القرآني والابتدائي العام بها إلى أن بلغ سن 13 من العمر، ثم انتقل إلى العاصمة، ودرس بجامع الزيتونة المعمور إلى آخر المرحلة التونسية من حياته؛ كما أشرنا إليها بشيء من الإيجاز والتدقيق في هذا المقال. 3 - إن الشيخ الخضر بقي متعلقاً بوطنه تونس طيلة مراحل حياته، سواء عند انتقاله إلى سورية، أو الآستانة، أو برلين، وأخيراً استقراره بالقاهرة.

ويبرز هذا التعلق المتين والدائم في كتاباته وأشعاره في ديوانه "خواطر الحياه"، وفي متابعاته الدقيقة لما يجري في وطنه من أحداث. كما يبرز -أيضاً- في مراسلاته المتعددة والمتوالية مع صديقه العلامة الطاهر بن عاشور. وقد أكدت لنا هذا الموقف زوجتُه الفاضلة عند زيارتنا لها ولابنها (من زوجها الثاني) المستشار القانوني رئيس محكمة جنوب القاهرة حالياً الأخ الفاضل أحمد البطران. هذا برغم حصول الشيخ الخضر على الجنسية المصرية سنة 1932 م، وتحمله لعديد المسؤوليات العلمية، وفي مقدمتها: مشيخة الأزهر، هذه الخطة الرفيعة والمتميزة التي لا يتحملها إلا علماء مصر، وكبارُ شيوخها، وهو ما أثاره بقدر كبير من الاستفزاز والتوتر الشيخ محمد رشيد رضا صاحب "المنار" عند بروز خلافه الشديد مع الخضر حسين. على أن ما يستحق الإشادة بهذه المناسبة هو: تقدير علماء مصر وكبار رجالها في مختلف المجالات للعلامة التونسي (هذا البحر الذي لا ساحل له)، وهو ما لاحظتهُ خلال زيارتي الأخيرة للقاهرة، وللأزهر الشريف. 4 - قام الشيخ الخضر بزيارتين إلى الجزائر خلال سنتي (1903 - 1904 م)، ولئن لم نعثر على نص رحلته الأولى، فإن رحلته الجزائرية الثانية التي نشرها في الأعداد الأخيرة من "السعادة العظمى" لم يشر فيها أبداً إلى جذوره الجزائرية، ولا إلى زيارة موطن أجداده وأهله، وهو ما أثار استغرابنا خلال دراسة هذا الجانب من حياة علامتنا الجليل. 5 - وبهذه المناسبة يجدر التذكير بمدى اعتزاز أهل "نفطة" بالشيخ الخضر، وبوالده (سيد الحسين) صاحب المسجد المعروف بحي الشرفة،

جوار حي المواعدة، وتجلى هذا الاعتزاز بتكوين جمعية سنة 1947 م هي (جمعية شباب الخضر حسين النفطي) (هكذا)، والتي كانت تُعنى بالتلاميذ والطلبة المعوزين، ويمساعدتهم على مواصلة دراستهم في أحسن الظروف. كما تجلى هذا الاعتزاز بحدث لن أنساه أبداً، وهو: أننا بعد أسابيع قليلة من وفاته -رحمه الله- في 2 فيفري 1958 م، قمنا نحن تلاميذ تلك الفترة بتنظيم ندوة ألقيتُ فيها بحثاً عن حياة هذا العلامة، وهي أول محاضرة ألقيتها في حياتي، ولم أتجاوز 20 سنة ... وحضرتها نخبة مدينة "نفطة", وفي مقدمتهم: المعلمون الذين درسنا عنهم في المرحلة الابتدائية، وما زلنا نذكرهم بكل الاحترام والتقدير. ولا شك أن هذا الاعتزاز هو الذي دفعني إلى إعداد بحث جامعي - بإشراف الأستاذ الفاضل المنجي الشملي - عن هذا العلامة، والذي صدر في كتاب سنة 1974 م. وفي ختام هذا المقال التعريفي - بمناسبة الذكرى الخمسين لوفاة محمد الخضر حسين - يجدر التأكيد على: أن هذا العلامة مثلُ علامتنا التونسي النشأة والتكوين الأساسي ابنِ خلدون، وأمثالهما كثيرون، وخاصة بين الشعبين الشقيقين تونس والجزائر، وما يجمعهما من تواصل تاريخي ونضالي وثقافي، اهتم به المثقف الموسوعة الدكتور محمد صالح الجابري، الذي نعتبره - دون منازع - المرجعَ الثقة في هذا المجال، ومؤلفاته وأبحاثه الغزيرة والممتعة لأكبر دليل على ذلك، منها - على سبيل المثال لا الحصر -: (النشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريين بتونس 1900 م - 1962 م)، الصادر بكل من تونس والجزائر سنة 1983 م.

وبالخصوص كتابه "التواصل الثقافي بين الجزائر وتونس" الصادر عن دار الحكمة بالجزائر سنة 2007 م، والذي جاء في بداية مقدمته: "الصلات الفكرية والثقافية بين تونس والجزائر تعتبر نموذجاً فريداً وطريفاً لما يمكن أن ينشأ من صلات حميمة بين قطرين شقيقين، كما تعتبر مثالاً نادراً لعلاقات الجوار الإيجابي الخصيب بين الأقطار العربية التي تجمع بينها حدود مشتركة". إن هذا التواصل الحضاري والثقافي يدعم أسسه رجالٌ مثل: الخضر حسين الجزائري الأصول، التونسي النشأة والتكوين والبروز، المشرقي الإسلامي الشهرة والمجد؛ حسب عبارة العلامة محمد الفاضل بن عاشور. هؤلاء هم جسور هذا التواصل مما يجعلهم يتجاوزون الحدود العائلية والجغرافية إلى الفضاءات الحضارية والثقافية الرحبة واللانهائية. ولذلك، فلا غرابة أن يتواصل الاهتمام بالخضر حسين، وبعلمه وآثاره، ودوره الديني والفكري في الجزائر، وتونس، ودمشق، والقاهرة، وأن تنعقد الندوات العلمية هنا وهناك؛ فالرجل هو (رجال في رجل)، وهو (بحر لا ساحل له ...)، يتسع للجميع، ويستوعب الجميع، ويحتضنهم، وما يختزنه من كنوز وجواهر يمكِّن الجميع من إثراء معارفهم وترسيخ هويتهم الحضارية.

بسكرة عاصمة الثقافة باحتفالها بالإمام محمد الخضر حسين إمام العالم الإسلامي، وأستاذ الشيخ ابن باديس

على هامش الملتقى بسكرة عاصمة الثقافة باحتفالها بالإمام محمد الخضر حسين إمام العالم الإسلامي، وأستاذ الشيخ ابن باديس (¬1) الدكتور عمار الطالبي نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والأستاذ بجامعة الجزائر الثقافة روح الأمة، ودمها الذي يجري في عروقها، تحيا بحياتها، وتندرس باندراسها، وهذه المدينة العريقة في التاريخ، مدينة "بسكرة" تنشأ فيها جمعية تحمل اسم مؤرخ لامع، وعالم اجتماع مازال نجمه يهتدي به الباحثون، ويلجأ إلى نوره الدارسون، هي: (الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية)، تقوم بما لم تقم به مؤسسة ثقافية كبيرة من مؤسساتنا، فتعيد لبسكرة مجدها، وتحيي ذكراها، وتبعث تراثها. وها هي ذي تذكِّر الجزائريين بعلَم من أعلامها الشامخة، وإمام من أئمة المسلمين، وداعية من دعاة الحرية والإصلاح، هو: الإمام الشيخ محمد الخضر حسين. وليس هذا الإمام الذي نبتت شجرته في الزيبان في "طولقة" النخيل، ¬

_ (¬1) مجلة "البصائر"، العدد 372 الصادر في (21 - 28 من ذي الحجة 1428 هـ / 31 ديسمبر 2007 - 7 جانفي 2008 م) - الجزائر.

وعلا فرعها في سماء "نفطة" بالجنوب التونسي، وأضاء في الزيتونة المباركة بعاصمة تونس، وتألق في سماء الشام، وأشرق في مصر، فأصبح إماماً للأزهر، اختارته الثورة المصرية لأن يكون شيخاً للأزهر، يقوده في طريق الإصلاح والتغيير المثمر. إنه العالم بالشريعة ومداركها، وباللغة العربية وآدابها، والصحفي المبدع، والداعية الصادق، والمناضل المدافع عن شرف الأمة وأوطانها، إنه رئيس (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية) التي أسسها بالقاهرة، وهو الشاعر، والمحاضر، لسان العربية في (مجمع اللغة العربية) بالقاهرة، وبدمشق، بدراساته العلمية في تاريخ العربية ومصادرها، ومواردها ومتونها، ومنشئ (جمعية الهداية الإسلامية)، ومجلتها التي تحمل اسم الجمعية، ومنشئ أول مجلة عربية في تونس هي "السعادة العظمى". ولولا جهود ابن أخيه الأستاذ المحامي الشاعر علي الرضا الحسيني -حفظه الله- في جمع آثاره ونشرها، لذهبت أدراجَ الرياح، وأتت عليها الأرضة "سوسة الكتب"، وحرم الناس من ثمراتها، ولذلك كرّمت هذه الجمعية هذا العمل الجليل الذي أنجزه، فأحسنت الصنع. كان لوالي "بسكرة" فضل بمساعدة هذه الجمعية التي يرأسها الشاب النشط، المتّقد حماسة وجدية، فقامت بتنظيم هذا الملتقى الكريم، الذي حضره باحثون: من تونس: "الدكتور محمد مواعدة"، ومن سورية: "الأستاذ علي الرضا الحسيني"، ومن مصر: "الدكتور مجاهد توفيق"، ومن جامعات الجزائر: عدد من الباحثين الشباب، الذين نفخر بأبحاثهم الجادة التي قدموها، ولا ننسى فضل شيخنا الكبير، وإمام بسكرة العظيم، فضيلة الشيخ عبد القادر

عثماني، الذي جمع هذه الوفود، وأكرم وفادتها، على عادته في الكرم الجمّ، والهمة العالية، جمعنا في زاويته العامرة بطلاب القرآن، وحفاظه، وزرنا مكتبته الغنية بالمخطوطات والمطبوعات، التي لا يبخل بها على الباحثين والدارسين؛ كما يفعل الآخرون الذين يضنّون بما لديهم من مخطوطات تفنى وتبيد، ولا ينتفع بها مستفيد، فلنعمَ الزاويةُ، ولنعم شيخُها ومكتبتها. وإمامنا هذا الذي احتفلت به "بسكرة" إمام عظيم في خلقه، عظيم في جهاده، عظيم في علمه، أستاذ للشيخ عبد الحميد بن باديس، الذي درس عليه "تفسير البيضاوي" في منزله بتونس، كما درس عليه المنطق في جامع الزيتونة الأعظم، وعلق في آخر مقال كتبه (سبتمبر 1939 م) على مقال للشيخ محمد الخضر عن (أولي الأمر)، وأشار إلى فضله ونبله وعلمه، وأنه جزائري، تونسي، مصري، من منبت صوفي أصيل، ومن مورد الشريعة الغراء. وأنا أقول: إن صوته ونضاله وأعماله وصل صداها إلى الهند، وقد أشاد الشيخُ الهندي الجليل "أبو الحسن الندوي" بفضله، فهو إمام العالم الإسلامي بلا منازع، ناضل من أجل وحدته، ودافع عن الجامعة الإسلامية، وعن القرآن والعربية، فناقش طه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي" ونقضَه، كما نقضَ كتاب الشيخ علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، ورد عليه، ولم يخش في ذلك كله لومة لائم، فارتفع ذكره، واشتهرت شخصيته في مصر وغيرها، وشاركه في ذلك صديقه الحميم العلامة محمد الطاهر بن عاشور، صاحب "التحرير والتنوير"، فنقض -أيضاً- كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، وأبطل دعاواه بأسلوب علمي رصين، كما أبطل شيخنا الإمام محمد الخضر دعاوى طه حسين، وما أثاره علي عبد الرازق من شكوك.

فهنيئاً للجمعية الخلدونية بهذا العمل الجليل، وبهذا النشاط المتواصل، وهنيئاً لوالي "بسكرة" السيد ساعد أقوجيل، الذي لازم حضور المحاضرات، وتابعها بكل عناية، وهنيئاً لسكان "بسكرة" على هذا الشباب الذي يلمع في سمائها، من شعراء مبدعين، وباحثين جادين، وهم جيل جديد يبشر بمستقبل مشرق وضّاء، وإني شخصياً أقرأ فيهم صفحة جديدة واعدة في تاريخنا الثقافي، تحمل الأمل في حسن العمل، ومجال الإبداع في كل فن. وليس هذا غريباً عن "بسكرة" التي تزهو بواحتها الأخّاذة، وينخيلها الذي يغذو هذا الشباب، ويعلو بهم مراتب المعرفة، وينمي عقولهم، ويثمر الحلو الجميل من الإبداع.

ربيع في الشتاء

على هامش الملتقى ربيع في الشتاء (¬1) الأستاذ محمد الهادي الحسني استعجلت الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية ببسكرة فصل الربيع، فاستقدمت أربعة أيام منه إلى فصل القرّ والصرّ. إذا كان ربيع البحتري كاد أن يتكلم، فإن الأيام الخلدونية الربيعية قد تكلمت، لا بالأزهار الفوَّاحة، والنسيم العليل، ولكن بالعلم النافع الذي يغذي العقول الجائعة، والأدب الطريف الذي يطرب النفوس الحزينة، والشعر اللطيف الذي يشرح الصدور الحرجة، والقول الحسن الذي ينعش الأرواح الذابلة. كنت أسمع بالجمعية الخلدونية، فأحسبها كإحدى الجمعيات التي كثرت أسماؤها، وقلَّ غَناؤها، تصحو أياماً، وتسْبت أعواماً، وتصوم دهراً، وتنطق نكُراً، فلما حضرت ملتقاها (الخلدونية) السادس الذي خصصته للإمام محمد الخضر حسين، أصيل مدينة "طولقة"، رأيت منها العمل المنهجي السليم، والسعي الدائب الجاد، والغيرة الصادقة على تراثنا، والحرص الشديد على إحياء أمجادنا، والعناية الفائقة بتدوين تاريخنا، حتى ظننت أنها لا تنام ¬

_ (¬1) جريدة "الشروق"، العدد 2188 الصادر في (3/ 1/ 2008 م - 25 من ذي الحجة 1428 هـ).

ولا تُنيم، فعذراً للقائمين على تلك الجمعية العاملة عن ذلك الظن السيئ، والعذرُ عند كرام الناس مقبول ... يشرف على هذه الجمعية النشيطة ويسيِّرها نخبة من الشباب الطموح المتسلح بالعلم، المتخلق بالحلم، المتدرع بالعزم، ولهذا لم يستنكف كبار السن فيها أن يكونوا -برغم سعة علمهم، وغناء تجربتهم- تابعين لأولئك الشبان، يمدونهم بصالح الدعوات، ويساندونهم بصادق التوجيهات، ويباهون بما يحققونه من إنجازات. لقد أضاف أولئك الشبان الكرام البررة إلى جمال أم قرى الزيبان جلالَ الفكر، وطيب الذكر، وحلال السحر، فنالوا محبة الحميم، وانتزعوا احترام الخصيم، فلا يشنؤهم إلا من في قلبه مرض، وفي نفسه غرض. تظهر جِدِّية هذه الجمعية، ويبدو عملها المنهجي فيما أقامت -لحد الآن- من ندوات وملتقيات وطنية ودولية، ومنها: بسكرة عبر التاريخ، والمقاومة الشعبية بمنطقة الزيبان، وتاريخ الحركة الوطنية بمنطقة الزيبان، والعلامة عبد الرحمن الأخضري، وعقبة بن نافع الفهري. كما تتجلى جديتها فيما نشرته من كتب قيمة عن تاريخ المنطقة وأعلامها، ومنها: "تاريخ الصحافة والصحفيين في بسكرة، وأعلام من بسكرة، وزهير الزاهري، وملحمة الزيبان، وغيرها"، ولم تنس هذه الجمعية فضل السابقين، فكرّمت ثلة من علماء الجزائر الذين خدموها بإخلاص، وناضلوا بصدق، لا يريدون من وراء ذلك جزاء ولا شكوراً، ومنهم: بقية السلف الصالح رمضان محمد الصالح، تلميذ الإمام ابن باديس، وخليفة الإمام الإبراهيمي في إدارة مدرسة دار الحديث بتلمسان، ومؤسس التعليم الديني في الجزائر المستقلة،

وأول مُحْيٍ لتراث الإمام ابن باديس ... والأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله، الذي أحيا تاريخ الجزائر الثقافي، وأرّخ لحركتها الوطنية ... والمرحوم الدكتور يحيى بو عزيز، والشيخ الفاضل عبد القادر عثماني ... إن نجاح هذه الجمعية يعود -في رأيي- إلى الانسجام الذي يسود بين مسيِّريها، فهم لا يتنافسون إلا في الجديات، ولا يسارعون إلا في الخيرات، لا يزدهيهم مدح، ولا يثبطهم قدح، كلٌّ قد وثق في نفسه وفي إخوانه، وكل قد علم مكانه ودوره، فلا سعي لنيل شهرة، أو إحراز لقب، أو تحقيق مكسب، فهمُّهم الدائم، وشغلهم الشاغل هو: تحريك الركود، وإيقاظ الرقود، ولذلك فلا تعرف منهم رئيساً من مرؤوس، ولا تميز تابعاً من متبوع، وميزتهم جميعاً أن كل واحد منهم ذو فكر جوَّال، ولسان قوَّال، وقلم سيَّال، يحسن إذا خطب، ويتقن إذا كتب، راحتهم في التعب، ولذتهم في النصَب. لقد خصصت الجمعية بمناسبة ذكرى وفاته الخمسين (¬1)، وقد ألقيت في الملتقى عدة محاضرات من قبل أساتذة من الجزائر، وتونس، وسورية، ومصر، تناولت جوانب من شخصية الإمام، وإن لم توفِّها حقها؛ لتعدد جوانبها، وثرائها، ولضيق الوقت، ولعدم توافر كتابات الإمام في الجزائر. وأغتنم هذه الفرصة لأُشيد بشخصيتين كريمتين لهما فضل كبير يُذكر وُيشكر، أولهما: الأخ الدكتور محمد مواعدة، من تونس الشقيقة، والأستاذ علي الرضا الحسيني الذي تتبع حياة الإمام محمد الخضر حسين، وهو مقيم بدمشق، ويتمثل فضلُه في حصر نشاطه، ووقف حياته على آثار الإمام ¬

_ (¬1) توفي الشيخ محمد الخضر حسين يوم 2 فبراير 1958 م.

جمعاً ونشراً، وقد طبع منها -حتى الآن- بضعاً وثلاثين أثراً ما بين كتاب ورسالة، ونطمع أن يزيد. ولا يتم فضل هذا الأستاذ، ويكمل عمله إلا إذا سعى لإدخال هذه الكتب القيمة إلى الجزائر؛ باتخاذ وكيل لمؤسسته "الحسينية" في الجزائر، أو -على الأقل- بالمشاركة في معرض الكتاب الدولي. وهل تستطيع "بسكرة" صبراً على الشعر؟ وأنَّى لها ذلك، وقد نسبت إليه، فقيل: "بسكرة الشعر" (¬1). ولهذا لم يجد المنظمون للملتقى مناصاً من تخصيص الجزء الأكبر من أمسية الخميس (27/ 12/ 2007 م) لثلة من الشعراء الشبان، الذين أحسنوا الغوص في بحور الشعر، وروَّضوا قوافيه، فأطربوا الآذان، وهيَّجوا الأشجان، ونبهوا الأذهان، فلا فُضَّت أفواههم، ولا عقمت قرائحهم. وفي صباح يوم الجمعة (28/ 12) توجه الركب إلى بلدة "بنْطيوس" لزيارة ضريح العلامة عبد الرحمن الأخضري، والترحم على روحه، وهو من أعلام القرن العاشر الهجري (16 م)، له تآليف قيّمة في البلاغة، والمنطق، والفقه، أشهرها؛ "الجوهر المكنون ... "، و"السلم المرونق"، و"الدرة البيضاء"، وقد وجدنا الضريح على غير ما تصورنا، ولو قُدّر الرجل حق قدره، وعرفت قيمته العلمية، لأقيم بجوار الضريح معهد علمي ينسِل إليه طلاب العلم من كل حدب، ويضم مؤلفاته وما كتب عنه. إذا صحت العزائم، وصدقت النوايا، فما زال في الأمر مستدرك، ¬

_ (¬1) سليم كرام - ملحمة الزيبان (ص 26).

وما على البلدية وكبراء المنطقة إلا السعي لدى أولي الأمر لإقامة صرح علمي ومركز ثقافي، فتحيا بهما "بنطيوس"، وتعود سيرتها الأولى في أيام الشيخ عبد الرحمن الأخضري. ثم يمَّم الجمع تلقاء مدينة "طولقة"، ويالتحديد إلى الزاوية العثمانية (زاوية علي بن عمر) التي أسست في عام 1789 م (¬1)، فكانت لبنة التمام، ومسك الختام. كان في استقبال الزائرين فضيلة الشيخ عبد القادر عثماني شيخ الزاوية، وعضو المجلس الإسلامي الأعلى، وقد استولى على مجامع القلوب بتواضعه، وطلاقة وجهه، ودماثة خلقه. يتميز الشيخ عبد القادر بأنه لا يحيط نفسه بهالة من الغموض كما يفعل كثير من أدعياء التصوف، فمظهره ينبئ عن مخبره، وقد انعكس ذلك على مريديه، فلا تراهم يتصرفون أمامه كأنه هبط من كوكب آخر؛ لأنه علّمهم أنه -مثلُهم- ابنُ امرأة تأكل القديد. وقد زار الوفد مكتبة الزاوية الزاخرة بآلاف الكتب المخطوطة والمطبوعة، وتفضل الشيخ فكان مرشداً ودليلاً، شرح للزوار ما تحتويه المكتبة، منبِّهاً إلى بعض الكتب المتميزة في موضوعها أو منهجها، فالزاوية زاوية علم، لا زاوية رقص السَّمَاح (¬2). وقد كرم الشيخ ضيوفه، فأقام لهم وجبة غداء، وأبى إلا أن يظل ¬

_ (¬1) تاريخ الصحافة والصحفيين في بسكرة - فوزي مصمودي، (ص 235). (¬2) رقصة يستعملها بعض المشايخ الذين جعلوا الذكر مكاء وتصدية. (انظر: المنجد في اللغة، مادة: سمح).

واقفاً يطوف على ضيوفه، ويؤنسهم بلطف حديثه، معتبراً ذلك شرفاً له. وتمتاز الزاوية العثمانية باتساع رحابها، ونظافة أرجائها، وجمال تنسيقها، فهذه أزهار، وتلك أشجار، ويتوسط ساحتها نافورة ماء، قد أدينا صلاة الجمعة في مسجدها البسيط النظيف، ثم ودَّعَنا الشيخ بمثل ما استقبلنا به من اللطافة والبشاشة، ملحاً على إعادة الزيارة جميعاً أو أشتاتاً. وأما الأمر الذي أدهشنا وعقدَ ألسنتنا، فهو ما رُقِم في لوح الإعلانات في مدخل الزاوية، وهو أن "الزاوية لا تقبل هدايا ولا عطايا، لا من الأشخاص، ولا من الهيئات". وهذه بدعة حسنة انفردت بها هذه الزاوية؛ لأن أكثر الزوايا ليس لها من عمل إلا جمع المال، دون إلقاء بال لمصدر ذلك المال، أمن حرام هو أم من حلال، حتى صح فيها قول القائل: "إنها فراج لجمع الخراج". وقد اقترحت أن يتبرع الحاضرون بما استطاعوا من كتب لمكتبة الزاوية، يستفيد منها الباحثون الذين يقصدونها لإنجاز أبحاثهم، ولم يعترض الشيخ على هذا الاقتراح. بارك الله في عمر الشيخ الجليل، ومتَّعه بسمعه وبصره ما أبقاه، وهدى به إلى الصراط المستقيم، والخلق القويم، وعَمَر زاويته بالذكر الحكيم. وشكر الله للجمعية الخلدونية سعيها، وجعلها نوراً تنير "بسكرة"، وتضيء ما حولها، وجعل اسمها للخلود، وأعضاءها للخُلْد، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وفي مثله فليتنافس المتنافسون.

تذكرة ملتقى الإمام العلامة محمد الخضر حسين

على هامش الملتقى تذكرة ملتقى الإمام العلامة محمد الخضر حسين (¬1) للدكتور محمد بن سمينة جامعة بن يوسف بن خدة - الجزائر كنت قد حللت بمدينة "بسكرة" -في زيارة إلى الأهل- يوم 24 ديسمبر المنصرم، وكنت وأنا بمدخل المدينة قد لفت نظري الإعلان عن عزم الجمعية الخلدونية ببسكرة على تنظيم ملتقى (الإمام العلامة محمد الخضر حسين) في الأيام (25، 26، 27 ديسمبر 2007 م)، فسعدت بهذه المصادفة الطيبة، وشعرت أن هذه الزيارة ستكون -إن شاء الله- مباركة ومثمرة؛ لأنها ستمكنني من حضور هذه التظاهرة الثقافية الهامة التي لم يكن لي سابقُ علم بها، مع أنني أحرص على أن لا تفوتني قراءة الصفحة الثقافية في بعض الجرائد، ومع ذلك، فقد فاتني الاطلاع على خبر الملتقى. وقد يعود ذلك لأني لم أقرأ الجريدة ذلك اليوم، أو يعود لما يميز وسائل إعلامنا -بوجه عام- من ضعف عنايتها بما يجري في الحقل الثقافي والأدبي - بالمقارنة مع اهتمامها البالغ، وحرصها الكبير بما يجري في المجال الترفيهي (غناء كان ذلك، أو موسيقى، أو فلكلوراً، أو رياضة، وما إلى ذلك). ¬

_ (¬1) مجلة "البصائر"، العدد 375 الصادر في (13 - 20 محرم 1429 هـ / 21 - 28 جانفي 2008 م).

باستثناء ما كان من بعض الاهتمام بشيء من النشاط الثقافي الجاد هذه السنة، سنة الجزائر عاصمة الثقافة العربية. ومهما يكن من ذلك، فقد حرصت على أن أحضر جلسات هذا الملتقى، وإن كنت غير مدعو لحضوره. كان افتتاح الملتقى برعاية السيد والي ولاية "بسكرة"، ويحضور السلطات المحلية، وعدد من السادة الأساتذة المحاضرين والمدعوين، وجمعٍ من المواطنين المهتمين. وكان السيد الوالي قد افتتح هذا الملتقى بكلمة ترحيبية، متمنياً لهذا الملتقى النجاح والتوفيق، ثم أعقبه رئيس الجمعية الخلدونية مرحباً بالحاضرين، شاكراً لهم استجابتهم للدعوة، ثم تلاه الشيخ عبد القادر عثماني رئيسُ الزاوية العثمانية بطولقة، ممثلاً لأسرة الشيخ محمد الخَضِر، فأشاد بعلم الشيخ، وجهاده وجهود أسلافه من رجالات الأسرة في خدمة الدين والعلم والوطن. ثم جاء دور كلمة سماحة الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيسِ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وقد تعذر عليه الحضور جسدياً -لمهامه وظروفه الصحية- إلى هذا الملتقى، ولكنه كان حاضراً بأفكاره وتوجيهاته بين الذين حضروه، فقد أناب عنه الدكتور عمار الطالبي في إلقاء كلمته التي نوه سماحته فيها بعلم الإمام محمد الخَضِر، مشيداً بجهوده، مقدراً إسهاماته، مُكْبِراَ جهاده في خدمة الإسلام والعربية وقضايا الأمة. ثم أُعطيت الكلمة للأساتذة المحاضرين الذين جاؤوا من عدد من جامعات الوطن، ومن بعض البلاد العربية الشقيقة: الأستاذ علي الرضا الحسيني

ابن أخ الإمام من سورية، والدكتور مواعدة من تونس، والدكتور مجاهد توفيق الجندي من مصر. لقد تناول الأساتذة المحاضرون في هذا الملتقى بالدرس والتحليل جوانب عديدة من حياة الشيخ تتصل بشخصيته، وبما اضطلع به من مهام ومسؤوليات، وبما قام به من جهود وجهاد في مختلف المجالات العلمية والإصلاحية والفكرية والأدبية. 1 - معالم شخصية، وحياة جهاد في سطور: يقول الشيخ محمد الخضر: ولولا ارتياحي للنضال عن الهدى ... لفتشت عن وادٍ أعيش به وحدي ينتسب الشيخ محمد الخَضِر إلى أسرة عريقة في الدين والعلم والتصوف، من أهل مدينة "طولقة" ولاية "بسكرة". رحل والده الشيخ الحسين إلى تونس، واستقر لإحدى حواضرها مدينة "نفطه" وفيها ولد ابنه الإمام محمد الخَضِر في (1293 هـ / 1873 م). استهل تعلمه بنفطة، ثم انتقلت أسرته إلى تونس العاصمة، فأتم حفظ القرآن الكريم وتعليمه الابتدائي بها، ثم التحق بجامع الزيتونة العامر 1889 م، فتخرج منه بشهادة التطويع 1898 م، وهي أعلى شهادة علمية يمنحها جامع الزيتونة يومئذ للخريجين منه، وتعادل آنذاك شهادة الثانوية العامة (البكالوريا)، ولا تعادل شهادة الدكتوراه؛ كما جاء في كراس الملتقى الموزع على الحاضرين. 2 - جهود الأمام وجهاده في الحياة العملية: استهل الشيخ حياته العملية (العلمية والإصلاحية والاجتماعية والثقافية)

بالتدريس في جامع الزيتونة، وفي المدرسة الصادقية، ثم دخل ميدان الإعلام 1904 م، فأصدر مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة عرفتها تونس في تاريخها الحديث. ثم تولى 1905 م مسؤولية القضاء. وكان الشيخ إلى جانب هذه المهام يسهم في الميدان السياسي، ما جعله عرضة لمضايقات سلطات الاحتلال الفرنسي في تونس، فاضطر للارتحال إلى الشرق العربي، فنزل بدمشق الشام إبان الحرب العالمية الأولى، ولم يلبث أن اندمج فيها بحركة النهضة العلمية والفكرية والسياسية، فجعله ذلك متابعاً من سلطات جمال باشا حاكم دمشق، فزجَّ به في السجن، ولم يخرج منه إلا بعد عام ونيف، ثم سافر إلى ألمانيا. وفي أعقاب الحرب رجع إلى سورية، واستأنف بها نشاطه العلمي والإصلاحي، فعين عضواً بالمجمع العلمي العربي في دمشق، وقد أدى به نشاطه ذلك أن حكم عليه الاحتلال الفرنسي في سوريا بالإعدام 1920 م. فنجاه الله من ذلك. فارتحل إلى مصر، والتحق بالأزهر الشريف، فنال منه الشهادة العالمية 1928 م، وعين على إثر ذلك أستاذاً به في كلية أصول الدين. اندمج الشيخ فيما تشهده مصر يومئذ من حركة علمية وفكرية نشطة، فأسس في السنة نفسها "جمعية الهداية الإسلامية"، ثم عين 1932 م عضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة. تفرغ في هذه الفترة إلى تأليف مجموعة من المصنفات، أسهم بها فيما يجري يومئذ في مصر من مناقشات وحوارات في الساحة الفكرية والأدبية. وكان من بين مؤلفاته: كتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" ضَمَّنه نقدَه لكتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق.

وكتابه "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" تصدى فيه بالرد على كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين. كما أصدر في هذه الفترة 1928 م مجلة "الهداية الإسلامية"، ثم مجلة "نور الإسلام" في سنة 1932 م. كان الشيخ قد ترقى بهذه المكانة العلمية السامية أعلى مرتبة علمية ودينية في العالم الإسلامي، وهي تعيينه على رأس مشيخة الأزهر الشريف 1952 م، فمكث في هذه المهمة يشرف على تسيير شؤون هذه المؤسسة، وَيسُوس أمورها قرابة حولين، فاضطربت الأوضاع العامة بعدهما في مصر، وكان قد بلغ من الكبر عتياً (تجاوز الثمانين من عمره)، فآثر حينئذ أن يقدم استقالة من هذه المسؤولية، فكان له ذلك، وأُعفي منها في شهر جانفي 1954 م. تفرغ الإمام بعد ذلك إلى استئناف نشاطه العلمي والإصلاحي الذي بدأ به حياته في شبابه، وظل ينهض بذلك إلى وفاته (في رجب 1377 هـ / فيفري 1958 م) - رحمه الله، وأسكنه فسيح جنانه إلى جانب عباده المؤمنين الصالحين المصلحين والشهداء الأكرمين -. ترك الشيخ مجموعة من الأعمال العلمية والفكرية يرجع القضل في جمعها وتصنيفها إلى ابن أخيه الأستاذ علي الرضا الحسيني -جازاه الله عن ذلك أحسن الجزاء، وأجزل المثوبة -.

30 - الإمام محمد الخضر حسين وإصلاح المجتمع الإسلامي - تونس

مَوسُوعَةُ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين (30) «الإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين وإصْلاَحُ المُجْتَمَعِ الإسلامِي - تُونس» للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ المولود بتونس سنة 1293 هـ والمتوفى بالقاهرة سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى - اعتنى به ابْنُ أخِيهِ المحامي علي الرّضا الحسيني دَارُ النَّوادِرِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1431 هـ - 2010 م ردمك: 6 - 49 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - حولي - ص. ب: 32046 - هاتف: 22630223 - فاكس: 22630227 (00965) أسَّسَهَا سَنَة: 2006 م نُوْرُ الدِّين طَالِبْ المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة أصبحتِ (نفطةُ) فوقَ كلِّ لسانِ ... وفَخَرْتِ بـ (الخِضْرِ) عظيمِ الشّانِ وغدوتِ جوهرةَ الثقافةِ منذ أنْ ... وُلِدَ الإمامُ بحضنِكِ الريّانِ و (الكوفةُ الصُّغرى) تُسمَّى بعدَهُ ... بـ (الكوفةِ الكبرى) مِنَ الأوطانِ تتوجّهُ الأنظارُ نحوكِ كلَّما ... ذُكِرَ الإمامُ بمجلسِ الإيمانِ لكِ في القلوبِ وفي العيونِ مكانةٌ ... ما حازَها بلدٌ من البلدانِ (¬1) زهت مدينة "نفطة" أو (الكوفة الصغرى) -كما عُرفت عبر تاريخها العريق - خلال أيام 16 - 17 - 18 جانفي كانون الثاني من عام 2009 م التي انعقدت فيها (الندوة العلمية العالمية الأولى للإمام العلامة محمد الخضر حسين وإصلاح المجتمع الإسلامي)، وارتدت، وتزيّنت بأبهى وأحلى وأجمل حللها القشيبة، وتعلقت على جدرانها العتيقة البديعة لافتاتٌ احتوت ما جَمُلت قراءتُه، وجلّت معانيه من أقوال الإمام الخضر حسين - رضوان الله تعالى عليه -، وبدت في بهجة عيد انتظرته طويلاً. أقول: برزت "نفطة" من بلاد الجريد - مولد الإمام محمد الخضر حسين - وضاءةَ الوجه، رافعةَ الجبين، تتباهى وتجرُّ ذيول الفخر والاعتزاز بوليدها ¬

_ (¬1) هذه الأبيات في ديواني "خماسيات الحسيني".

وابنها البارّ الإمام، الذي أجمع العالَمان العربي والإسلامي على مكانته السامية، وفضله وعلمه الوفير، ونضاله من أجل تونس والعرب والإسلام، وأوقف حياته في هذا الميدان -محتسباً أوّاباً صدّيقاً- إلى رب العالمين، إلى الله - جل وعلا - الذي لم يعبد سواه، ولم يمالئ أو يدارِ أحداً من الخلق في دنياه، مردِّداً قوله في بيته الشعري الشهير: أنا لولا همةٌ تحدو إلى ... خدمةِ الإسلامِ آثرتُ الحِماما وقوله الذي كان كثيراً ما يردّده: ولولا ارْتياحي للنضالِ عن الهدى ... لَفَتَّشتُ عن وادٍ أعيشُ به وَحْدي هذا قوله الصادق، وقلبه السليم، وعمله الدؤوب طوال حياته المباركة، وكتابُه الذي حمله بيمينه للقاء رب العالمين. إن مبادرة (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي) بإقامة هذا الملتقى الإسلامي الجامع، عملٌ أُكبره وأُجِلُّه، وأُثني وأُحَيي القائمين عليه، فقد آن لتونس أن تكرِّم عظماءها وعلماءها، ورجالها المناضلين المخلصين بحق وأمانة، وأن ترفعهم إلى مكانتهم اللائقة والمستحقة لهم، لاسيما أولئك الذين هاجروا من ديارهم، وانتقلوا في آفاق الدنيا حاملين رسالة الوطن الكبرى، رسالَة الاستقلال وطرد الغاصب المحتل؛ من أجل أن تتبوّأ تونس مكانها بين كواكب الدول في سماء الحرية والسيادة ... وأن يتطلع إليها العالم كأمة أنجبت الأفذاذ والنبغاء وروّاد الكفاح، وزاحمت بمنكبيها سائر الأقطار المتقدمة والمتطلعة دوماً إلى المستقبل؛ لتقول: إن فيها رجالاً مفكرين ومبدعين، ومناضلين أحراراً وأشرافاً يستحقون أن ينالوا بفضل علمهم وعملهم أعلى المناصب السياسية والدينية، وأرفعَها منزلة؛

كمشيخة الأزهر التي ارتقى إليها الإمام محمد الخضر حسين بقوة إيمانه وتقواه وورعه، وعلومه التي زوّده بها الجامع الأعظم - جامع الزيتونة في تونس -، وضم إليها علوم الجامع الأزهر، فتوّجته إرادة الله -سبحانه وتعالى- شيخاً للجامع الأزهر. والله -سبحانه وتعالى- يكافئ رجاله الصادقين المخلصين في دنياهم قبل أن يثيبهم في آخرتهم أولئك {لَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]. والحديث عن سالف الزمن لم يعد من المفيد ذكرُه في هذه المقدمة. عندما حاول الطغيان والجهل والغباء أن يطمس وجه تونس المشرق، ورجالاتها وزعماءها المخلصين. والله - سبحانه وتعالى- عنده الجزاء والحساب. ولكن بعد زوال الغمّة، وانكشاف العسر والهيمنة والضياع، عادت تونس إلى تاريخها الصحيح الصادق، وفتحت صفحاتها الناصعة المضيئة والحمد لله. لقد كان من حق الجزائر أن تحتفل بالإمام محمد الخضر حسين من خلال الملتقى الهام الذي أقامته (الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية) في مدينة "بسكرة") أيام 25 - 26 - 27 ديسمبر كانون الأول 2007 م. كذلك من حق تونس أن تقيم المهرجان العلمي العالمي الأول خلال أيام 16 - 17 - 18 جانفي كانون الثاني 2009 م ... بل ومن الجدير بالعالم الإسلامي أن يقيم الندوات والدراسات حول الإمام. إن هذه الندوات والملتقيات حافز للمثقفين والدارسين والباحثين لاستكشاف آراء الإمام الإصلاحية، ودعوته الإسلامية، ونضاله السياسي. لا للدراسة والقراءة، بل للعمل بموجبها في كافة مناحي الحياة، وهي في

حقيقتها منارة من منارات الشريعة الإسلامية، هذه الشريعة التي هي صالحة لكل زمان ومكان. إن ميزات هذه التظاهرات العلمية، تعبير عما تكنه الأمة من تقدير واحترام لرجالها الأوفياء، وإن ما ننَشده هو الانتفاع، والاستثمار لتراث الإمام وأفكاره وعلومه المبثوثة في الكتب التي نشرناها له، والتي يأمل الإمام أن تكون دعوة صالحة عند الله تعالى. ليس من المهم مطلقاً أن نكتفي بإطلاق الصفات عليه، سواء كان إصلاحياً، أو تجديدياً، أو تنويرياً، فإن فكر الإمام -بمواهبه المتعددة في كل ميدان من ميادين العمل الإسلامي- يدعونا إلى الأخذ به، والسير على منهاجه؛ لأن النهج الذي دخله من باب الإسلام، ولخدمة الإسلام، ولا غاية من وراء ذلك إلا أن يرى الإسلام عزيز الجانب؛ لأنه الدين الذي اختاره الله لعباده. والحمد لله على ما هدى. والحمد لله على نعمة الإسلام. علي الرّضا الحسيني

كلمة اللجنة التنظيمية

الجلسة الافتتاحية كلمة اللجنة التنظيمية (¬1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يشرفني أن أكون معكم في هذه الندوة، وفي هذه الجلسة، باسم اللجنة التنظيمية والعلمية لهذه الندوة التي تنعقد بمناسبة مرور خمسين سنة على وفاة أحد أعلام تونس والعالَم الإسلامي: الشيخِ العلامة محمد الخضر حسين. ويشرفنا جميعاً أن يكون بيننا المثقف والمبدع المتميز والأصيل والأخ العزيز عبدُ الرؤوف الباسطي وزيرُ الثقافة والمحافظة على التراث، والذي أصر على أن يكون معنا في هذه الجلسة؛ إذ كانت الجلسة بعد الظهر، فاضطر أن يأتي هذا الصباح، وسيعود مباشرة بطائرة خاصة لمواكبة نشاطه الوطني في البلد، وهذا الإصرار نعتبره تشريفاً لنا بكل صراحة، وشكراً له. طبعاً الشكر له، والشكر للسيد الوالي الذي لقيته وزرته، وأكدت له أننا نساعد وندعم كل الجهود التي تتم في هذه المنطقة. وإني أوجه الشكر الخاص لسيادة الرئيس زين العابدين بن علي الذي دعَّم هذه الندوة أدبياً ومادياً، وساندها، ويكفي أن أشير إلى أمرين: ¬

_ (¬1) ألقاها ارتجالاً الكاتب والأديب التونسي الأستاذ محمد مواعدة عضو مجلس المستشارين، والخبير لدى المنظمة العربية للتربية والثقافة التابعة للجامعة العربية.

الأول: أن سيادة الرئيس في عام 1996 م من القرن الماضي، وسّم، وقام بتقليد وسام ثقافي لأخينا علي الرضا التونسي الحسيني ابن أخ العلامة الخضر حسين. وهذا الوسام للجهود التي قام بها الأخ علي الرضا في طبع مؤلفات الخضر حسين. لا غرابة أن يكون هذا من رئيس الدولة، ونحن في سنة 2009 م حيث القيروان -يعني: تونس- عاصمة الثقافة الإسلامية، وفي عام 2009 م مئويةُ أبي القاسم الشابي. إذن، كل هذه الأجواء فيها يتضمن هذا العمل الثقافي، هذه الندوة. وإني أشكر كل الإخوة الذين حضروا معنا. أبدأ بالإخوة من الجزائر الشقيقة: الدكتور العربي الزبيري، وهو مؤرخ، والأستاذ فوزي المصمودي، ومعه نخبة من الجمعية الجزائرية (الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية) في "بسكرة"، وهذه الجمعية نظمت قبل سنة ندوة عن الخضر حسين، وتشرفتُ بالمشاركة فيها، وهم الآن يشاركوننا في هذه الندوة، وسينتظم عمل مشترك تونسي جزائري في هذا الاتجاه. أوجه شكري -أيضاً- بالإضافة إلى الإطارات الإدارية والجهوية والتجمع، إلى الأساتذة الذين شرفونا بالحضور، أذكر في مقدمتهم: أستاذنا الكبير الأستاذ المنجي الشملي، والأخ فؤاد قرقوري، وهو أستاذ ودكتور وأمين عام مساعد بالتجمع، مسؤول عن الثقافة، ورئيس اللجنة الثقافية والتربوية في مجلس النواب التونسي، والدكتور أحمد الطويلي.

ونرحب بالأساتذة الذين شاركوا معنا، وعددهم كبير جداً، ونُجلّهم جميعاً. هذا العمل تقوم به (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي)، ويمثلها الأخ العزيز الدكتور فتحي القاسمي الكاتب العام للجمعية، ورئيس الجمعية الدكتور كمال عمران مدير إذاعة الزيتونة بتونس، ولاعتبارات تنظيمية جامعية سيكون معنا بعد الظهر -إن شاء الله-. هذه الندوة -كما قلت- بمناسبة الخمسين، وتنتظم في جلسات اليوم بعد الظهر، وغداً، ويوم الأحد، يشارك فيها نخبة من المثقفين من تونس والجزائر، وستكون اللحمة بين هذين الشعبين الشقيقين. و-أيضاً - يشارك معنا بداية من الغد شيخٌ من الأزهر، هو العلامة الدكتور مجاهد توفيق الجندي، يأتي هذا المساء، وهو مؤرخ الأزهر، وعضو في الجمعية التاريخية الإسلامية والعربية والدولية. في هذه الندوة، هناك كفاءات تونسية وجزائرية، وطبعاً من سورية الأخ علي الرضا، وإن كان هو سورياً تونسياً جزائرياً، فهو يجمع بين هذه الأصول جميعاً. هذه أجواء الندوة الدولية، وكان في نيتنا مشاركة كفاءات من الخارج من أوروبا. ما قلته للسيد الوزير، وللسيد الوالي: إن الكفاءات الوطنية في تونس من هذه الجهة -ولاية "توزر" وغيرها- مطالبة بالمشاركة في هذا المجال. هذه الندوة بداية لعمل آخر ستشارك فيه كل كفاءات أبناء الجريد بدون استثناء، هذا الجريد الذي أنجب ابن الشباط، وأبا علي السني، وأبا العباس الدرجيني

صاحب "طبقات الدرجيني " ... إلى آخره، بالإضافة إلى الشعراء الجدد؛ كالشابي، والميداني بن صالح، والخريف، وغيرهم. يعني: نحن مطالبون بدعم ومساندة الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي، ووزارة الثقافة والمحافظة على التراث، ووزارة الشؤون الدينية، وا لإطارات المعتمدية والجهوية أن تشارك في إثراء هذا الحوار وتعريفه؛ ولأن في ذلك تأصيلاً لهذا الإطار، وهناك الكلمة السابقة التي ألقاها السيد الرئيس عن قيمة الثقافة، وقيمة الثقافة التونسية في تأصيل ودعم الثقافة الإنسانية. دون أن أطيل، أحب أن أؤكد التقدير لكل الإطارات الإدارية، والجهوية والتجمع في هذا العمل المشترك. وتونس تحتاج إلى الجميع دون استثناء. والسلام عليكم.

كلمة السيد والي توزر الترحيبية

الجلسة الافتتاحية كلمة السيد والي توزر الترحيبية (¬1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - السيد الكاتب العام للتنسيق بالتجمع التونسي الديمقراطي! - السادة أعضاء لجنة التنظيم، وأعضاء الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي! - حضرات السيدات والسادة! في البداية أرحب بكل ضيوف مدينة "نفطة" بولاية توزر الوافدين من الدول الشقيقة: مصر، وسورية، والجزائر، وكل الأساتذة والباحثين الأجلاء من الجامعة التونسية. أرحب الترحاب الحار بالسيد عبد الرؤوف الباسطي وزير الثقافة والمحافظة على التراث، الذي يشرف على افتتاح هذه الندوة الفكرية، والتي تنظم ببادرة من الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي، بدعم من وزارتي: الثقافة والمحافظة على التراث، ووزارة الشؤون الدينية، حول العلامة محمد الخضر حسين وإصلاح المجتمع الإسلامي. ¬

_ (¬1) ألقاها الأستاذ صلاح رمضان والي توزر. وإن مدينة "نفطة" تابعة لولاية توزر؛ لذا كانت الكلمة للوالي.

هذه الندوة تقام في مدينة "نفطة" بولاية توزر المشهورة عبر التاريخ برسا لاتها، ويمخزونها وموروثها الثقافي، ولاية توزر التي تعتبر ولاية التغيير، وتحظى بعناية موصولة من الرئيس زين العابدين بن علي. ولاية توزر، هذا القطب السياحي، والقطب الفِلاحي، والقطب الجامعي والثقافي. هذه الولاية التي تعيش حركية وتنمية شاملة. أحب بالمناسبة أن أتمنى لكم إقامة طيبة في هذه الربوع، وهناك فرصة سواء للإطارات التونسية من مختلف الولايات، أو من الدول الشقيقة؛ من الاطلاع عن كثب على ما تشهده ولاية توزر، مثلها مثل مختلف الولايات الأخرى في العهد الجديد من تنمية شاملة، متمنياً لكم طيب الإقامة، ومتمنياً لكم ولأشغال ندوتكم هذه النجاح والتوفيق، والسلام عليكم.

كلمة السيد وزير الثقافة والمحافظة على التراث الأستاذ عبد الرؤوف الباسطي بافتتاح أعمال الندوة

الجلسة الافتتاحية كلمة السيد وزير الثقافة والمحافظة على التراث الأستاذ عبد الرؤوف الباسطي بافتتاح أعمال الندوة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. - السيد والي توزر! - الكاتب العام للتنسيق بالتجمع التونسي الديمقراطي! - السيد المعتمد الأول! - أعضاء مجلس النواب، وأعضاء مجلس المستشارين، وأعضاء اللجنة المركزية للتجمع! - السيد فتحي القاسمي الكاتب العام للجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي! - الأستاذ محمد مواعدة عن الهيئة التنظيمية لهذه الندوة! - الأساتذة الأجلاء! -أيها السيدات والسادة! يسعدني أن كون بينكم اليوم في هذه المدينة الجميلة، هذه المدينة العريقة التي تعتز بعطائها المستمر في المجال الثقافي والفكري، وفي بناء

الوطن، وإلى مزيد من التقدم، مدينة "نفطة" الجميلة. يسعدني أن أكون بينكم في هذه المدينة لافتتاح هذه الندوة الدولية حول العلامة محمد الخضر حسين وإصلاخ المجتمع الإسلامي. هذه الندوة التي تنظمها الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي، والتي تندرج في سياق سعي دؤوب انطلق منذ فجر التغيير المبارك بهدي من سيادة الرئيس زين العابدين بن علي، وسعي متصل الحلقات على درب تحقيق المصالحة، مصالحة التونسي مع مقومات هويته، ومع تراثه الإصلاحي السَّرِيِّ والثريّ. ولا شك بأن بلادنا قد أنجبت أعلاماً أفذاذاً، ومصلحين روّاداً، كان لهم -منذ القدم- إسهام بارز في إنماء الثقافة العربية الإسلامية، وتغييرِ الفكر الإنساني. وإن المتتبع لتاريخ الأفكار، وللتاريخ الثقافي في تونس عموماً، يتبين -من خلال محطات هذا التاريخ ومناراته- خصوصيةَ المدرسة التونسية التي اتسمت على مرّ العصور بالنظر العميق، وبالرؤية المتزنة، وبالتيقظ المبكّر للقضايا المحورية والفكرية. وياستشراف منعطفات الصيرورة التاريخية، وبالانفتاح على الآخر، انفتاح التكافؤ والحوار، مع نبذ الانكفاء والانغلاق والتصادم والتعصب. إن التراث الفكري الثري والمتنوع الذي أنتجته هذه المدرسة العريقة المتأصلة، جدير بأن يعكف عليه أهل العلم والبحث؛ نظراً وتحقيقاً وتمحيصاً وتحليلاً وتأليفاً؛ من أجل مزيد استكمال جوهره الثمين، وأبعاده المتعددة، ومن أجل تبيان تراكمية البناء في مراحله المتعاقبة، وتوجهات المنزع التنويري والتحقيقي الذي كان من أهم ثوابته؛ حتى يدرك الجيل الصاعد من المثقفين

أن لحركة الإصلاح في بلادنا مرجعياتٍ فكرية وثقافية متينةَ الأسس، وضاربة الجذور في قرار مكين من ذاكرتنا ومن موروثنا. وحتى يدرك -أيضاً-، وبالخصوص: أن حفظ هويتنا وخصوصيتنا من الذوبان في عصر العولمة، وتحقيق الحضور الفاعل، والانخراط النشيط في مجتمع المعلومات يقتضيان -بالضرورة- حرصاً مستمراً على إحياء الذاكرة، وسعياً لا يكلّ، وتعهداً هدْياً. لعلاقتنا بالمرجعيات، نستقرئها ونسائلها، ونجدد تمثلنا لها، ووضعها في كل آنٍ وحين على محك البحث والتمحيص، وهو ما تعمل (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي) بجدّ ومثابرة من أجل تحقيقه، وهو جهد يستحق منا كل الشكر والثناء والتقدير، جهد نحييه في هذه المناسبة. حضرات السيدات والسادة، أيها الأساتذة الأجلاء! لقد ظهرت في البلاد التونسية - منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإلى الثلث الأول من القرن العشرين - كوكبةٌ من رجال الإصلاح والتنوير، برّزوا في العلم، وحققوا ودققوا، ووصلوا مجد الأسلاف بمبتكرات الأخلاف، وأسهموا بقسط وافر في نشر مبادئ العقلانية والواقعية والفكر الاجتهادي، وإشاعة قيم التسامح والانفتاح والحوار، وكانوا منارات مضيئة في تاريخ تونس الفكري والثقافي. وُيعدّ الشيخ العلامة محمد الخضر حسين الذي تعلّم في جامع الزيتونة، وعلّم فيه، ركناً من أركان الحركة الإصلاحية، وعلَماً من أعلام النهضة الفكرية والأدبية، ورمزاً من رموز النضال الوطني التونسي خلال العقد الأول من القرن العشرين.

وقد سطع هذا النجم الثاقب في سماء تونس في فترة مخاض عسير، مثّلت منعطفاً حاسماً في التاريخ الفكري والأدبي والسياسي لبلادنا، وأجمع الكلّ على تثمين قيمة الرجل العلمية، ومنزلته الإصلاحية، وتوجهاته الوطنية. وشهدت تآليفه الحجّة -في العلوم الإسلامية، وفي اللغة، وفي الأدب، والتراجم- على رسوخ قدمه وعلوها. ولم تكن هجرته إلى الشام أولاً، ثم إلى مصر حيث استقر وبلغ قمة المجد العلمي خلال توليه مشيخة الأزهر عام 1952 م لتنسيه واجب الوفاء لتونس، والاعتزاز بالانتماء إليها، أو تثنيه عن النضال من أجل استقلالها. فقد كان دائم الاتصال والتواصل مع أهل العلم والأدب في تونس، واحتضن العديد من الطلبة الذين أتموا دراساتهم الجامعية في مصر، وأسس سنة أربع وأربعين وتسع مئة وألف (جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا) وكان من خلالها سنداً ونصيراً للقضية التونسية، وللوطنيين الذين ولّوا وجوههم قبَل القاهرة؛ للتعريف بهذه القضية لدى الرأي العام العربي، كما كان سنداً لقضايا التحرر في شمال إفريقية عموماً. وإن من دواعي مزيد اعتزازنا بهذا الشيخ الجليل، التونسي المنشأ: إشعاعَه العربي والإسلامي الذي لم يُنسه يوماً أصوله ومنبته، وحرصه على أن يكون فاعلاً في حركة التحرر في شمال أفريقية بشكل عام. حضرات الأساتذة الموقرين! إن تونس التغيير بقيادة سيادة الرئيس زين العابدين بن علي، اختارت منذ فجر التحوّل بلا مواربة طريقَ المصالحة مع هويتها وتراثها، وأكدت، وتؤكد كل يوم وشائجَ الاعتزاز بأعلامنا الروّاد الذين سطروا بمداد من ذهب

التاريخَ المجيد في المجالات الفكرية والأدبية، والعلمية والوطنية، وحرصت على تكريم هؤلاء الأعلام، وإحياء ذكراهم، والعمل على مزيد التعريف بآثارهم ومآثرهم. وما تفضّل سيادة الرئيس زين العابدين بن علي سنة ست وتسعين بتوسيم الأستاذ علي الرضا الحسيني الذي تولى الاعتناء بتراث عمه العلامة محمد الخضرحسين، وتحقيقه، وإخراجه إلى أهل العلم والبحث، وإعادة نشره، إلا دليلٌ قاطعٌ على هذا التوجّه، وشهادة معبرة عن وفاء سيادة الرئيس وتكريمه لكل من تفانى ويتفانى في خدمة الوطن، وأخلص له. وإني لمتأكد من أن ما سيتفضل به الأساتذة الأجلاء - بهذه المناسبة نود أن نحيي الأشقاء من بين الأساتذة الذي يشاركون في أعمال هذه الندوة من الأقطار الشقيقة من الجزائر، من سورية، من مصر - إني متأكد، قلت: إن ما سيتفضل به الأساتذة الأجلاء من تونس، ومن هذه الأقطار الشقيقة في هذه الندوة من أبحاث، سينير السبيل، ويسلط مزيد الأضواء على جوانب عديدة ثرية متصلة بهذا العَلمَ الفذّ الذي كان من أعلام الإصلاح الديني والاجتماعي، ومن أقطاب النهضة اللغوية والأدبية، ومن رموز النضال الوطني. أشكر كل المساهمين في هذه الندوة على حُسن إعدادها، وعلى ما بُذل، وكل ما بذلوه من جهود من أجل إعدادها وتنظيمها، وأتمنى لأعمالكم كل النجاح والتوفيق. وأجدد الترحاب والشكر، الترحاب بالأشقاء، والشكر لهم على حضورهم معنا، ومشاركتهم في هذه الندوة حول هذا الرجل الذي نعتبره

تونسياً، وعربياً، وإسلامياً، وهو من الرجالات، ومن المنارات التي حققت إشعاعاً يجعل انتماءها انتماءً واسعاً إلى الأقطار العربية الإسلامية. أشكركم جزيل الشكر على حسن استماعكم وصبركم، والسلام عليكم.

كلمة الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي

الجلسة الافتتاحية كلمة الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي (¬1) يسر الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي في مفتتح هذه السنة الإدارية 2009 م أن تستهل أنشطتها العلمية في رحاب (الكوفة الصغيرة) مدينة "نفطة" الساحرة ببنائها، وهندسة بنائها، والآسرة بدفء الحياة فيها، وبحرارة الاستقبال الذي عودنا به أهله. "نفطة" درة الجنوب في بلاد الجريد، ومولد العلماء والشعراء، وممن نفاخر بأنهم أفادوا وأجادوا، ومنهم: العلامة محمد الخضر حسين، الذي تربى في أرض الجريد، وأُشرب قلبه في "نفطة" حب العلم وأهله. وكان يخطو خطواته الأولى في "نفطة" في الزاوية العزوزية، زاويةِ جده الشيخ مصطفى بن عزوز، المنحدرِ كما يقول ابن أبي ضياف في "الإتحاف" من بيت فضل وعلم وصلاح، أتى من الجزائر الشقيقة، واستقر بنفطة. وقد سدّد خطا الشيخ الخضر، العلامةُ محمد المكي بن عزوز، وهو خاله، وهو -أيضاً- نزيل إستنبول، وسراج العلماء في عصره. وإن مرور نصف قرن على وفاة العلامة محمد الخضر حسين فرصة ¬

_ (¬1) ألقاها الدكتور فتحي القاسمي أمين عام (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي).

سانحة لنكرَّم هذا العَلَم في رأسه نار، نال الشهرة في المغرب والمشرق وأوروبا، وتعددت مواهبه، وسطع نجمه في تونس مع مطلع القرن العشرين، عندما كان مثل الشيخ عبد العزيز الثعالبي، والشيخ الضرير محمد شاكر، ومع ثلة من خريجي (لصادقية)، منهم الأخوان: علي، ومحمد باش حانبة، يبذر في المجتمع التونسي روح المبادرة والتجديد والتنوير من خلال مجلته "السعات العظمى"، ومحاضراته ومسامراته المجذّرة للهوية التونسية، والمدافعة عن الأصالة، والمواجهة بكل أشكال الطمس والمراقبة والمعاقبة التي كان يفرضها نظام الحماية الفرنسية. دافع عن الحرية، ودعا عالياً إلى الإصلاح، وردَّ على متهم اللغة العربية بالجمود والموت. وعندما ضاقت به السبل، شدّ الرحال إلى الشام، فكان في العقد الثاني من القرن العشرين إلى جانب الشيخ صالح الشريف خير مدافع عن العروبة والإسلام، الأمر الذي عرّضه للسجن، وهدده بالإعدام. ثم رحل إلى مصر، وانتسب إلى الأزهر، فانضمت إلى ما نهله في الزيتونة لَبِناتٌ أزهرية، زادته رسوخاً في العلم، وبوّأته مكانة كبرى في أرض الكنانة. فاختير شيخاً للأزهر، وجد د فيه الحياة، وأحدث في الإسلام طفرة من التجديد، وكذلك -كما قال عنه عبد العظيم الزرقاني-: جدّد بعزمه من شباب الإسلام. لقد جمع الشيخ العلامة بين التدريس والمحاضرة، والتحرير والإفتاء. وكان بيته بالقاهرة قبلة القصّاد، ومحط رحال التونسيين الوافدين إلى مصر، ومنهم: الرئيس الراحل الحبيب بورقيية، والشيخان: محمد الفاضل بن عاشور،

ووالده محمد الطاهربن عاشور. وإن عشرات الكتب التي تركها، والتي جمع شتاتها ونشرها اينُ أخيه الأمين على ذلك التراث الفكري الهام الأستاذ علي الرضا الحسيني. إن ذلك لمادة ثرية تحتاج إلى الدراسة والإبراز، ولعل ندوتنا هذه ستسلط الأضواء على جوانب كثيرة من سيرة الشيخ محمد الخضر حسين، وسيعمق الأساتذة الأجلاء والمحاضرون النظرَ في المشروع الإصلاحي التونسي، انطلاقاً من الشيخ، ومن مساجلاته الفكرية، ومجادلاته العلمية التي دلت على انخراط رجال الإصلاح في تونس في الجدل الديني والحضاري، الذي تأجج في النصف الأول من القرن العشرين. وكانت الأطروحات التونسية متجاوزة القطرية، والنظرة الدينية الضيقة، نزاعةً إلى الاختراق، والاستشراف والانفتاح على الآخر. أيها السادة الكرام! إن جمعيتنا لفخورة منذ انبعاثها سنة أربع وألفين على التعاون مع وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، التي ما انفكت تدعمها، وتيسر لها نشاطها الذي امتد إلى تسع ولايات في البلاد التونسية. كما أن تعاوننا متصل مع مؤسسة بيت الحكمة، وتكفلها بطبع الندوات التي تعقدها بالاشتراك مع الجمعية لدليلٌ على أهمية التعاون من أجل إشاعة المعرفة الدقيقة برجالات الفكر والثقافة في تونس. إنه إذا كان الأستاذ عبد الرؤوف الباسطي وزيرُ الثقافة والمحافظة على التراث قد شرفنا بافتتاح ندوتنا، فإننا نتشرف بالتعاون مع وزارة الشؤون الدينية، والسيد وزير الشؤون الدينية الأستاذ أبي بكر الأخزوري الذي سيتولى

الإشراف على اختتام هذه الندوة ... وقد تفضل إلى جانب السيد وزير الثقافة عبدِ الرؤوف الباسطي باستقبالها استقبالاً حاراً في مكتبيهما. كما أن حضور الوفد الجزائري في الندوة لجديرٌ بمواصلة الفكر والرؤية بين الشقيقتين: تونس، والجزائر منذ عشرات القرون. ولا يفوتنا التنويهُ بما بذله الأستاذ محمد مواعدة من عناية فائقة؛ لتكون ندوتنا في مستوى ما نطمح إليه جميعاً. وإن شكرنا متجددٌ للسيد والي توزر، والمندوب الجهوي للثقافة من إنجاح هذا الحدث العلمي. كما أن حضور الباحث المصري الشيخ مجاهد توفيق الجندي تجذير -أيضاً- لما أرساه الشيخ الخضر حسين، الذي ليس إلا فرداً من كوكبة الأعلام التونسيين الذين شدوا الرحال من تونس إلى مصر، مثل: العلامة ابن خلدون، والشيخ محمد بيرم الخامس، فكان مقامنا بها طريقاً للاتصال التاريخي والروحي والعلمي. أيها السادة الكرام! إننا -أيضاً- سعداء بتكريم ثلة من أعلام تونس ممن خدموا الثقافة، وهم حاضرون بيننا، بمبادرة من الجمعية، شهادة سنوزعها على كل من الأساتذة: المنجي الشملي، الحبيب الجنحاني، ومحمد مواعدة، ومحمد صالح الجابري، وعلي الرضا الحسيني، الذين أكدوا بتآليفهم إلى هذه اللحظة في خدمة الثقافة التونسية أنهم جديرون بكل تكريم. وهذا غيض من فيض؛ لأن الكثيرين -أيضاً- سنحاول أن نكرمهم في مناسبات لاحقة. وإن جمعيتنا بندوتها العشرين تأمل الانتقال إلى بقية الولايات في

الجمهورية التونسية؛ للتعريف بأعلام منسيين، والنبش على آثار المتقدمين، وإبراز مضامين أفكارهم الخالدة. ولا شك أن وزارة الثقافة ستكون لنا -كالعادة- خير سند في ذلك. نأمل أن تكون سنة تسع وألفين زاخرة بالأنشطة النافعة للفكر، ومدعمة للحياة الثقافية التونسية، وسيكون لنا -قريباً- موقع على الأنترنت، وندوتان: الأولى: حول الحكيم أحمد بن ميلاد في عشرين مارس تسع وألفين، والثانية مغاربية حول مفدي زكرياء، وسوف يحتضنهما قصر بيت الحكمة. كما أننا نأمل في نشر أبحاث لطلبتنا المنخرطين في الجمعية، ممن يُعدُّون ماجستير ودكتوراه حول التراث الفكري التونسي. ولا شك أن كل عمل جماعي سندٌ لها؛ لتحقيق مثل هذه الرهانات في بلد راهنَ -منذ القديم- على الإتيان بما لم تستطعه الأوائل. وشكراً.

كلمة رئيس الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية بسكرة - الجزائر

الجلسة الافتتاحية كلمة رئيس الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية (¬1) بسكرة - الجزائر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. - السيد معالي وزير الثقافة والمحافظة على التراث الفكري التونسي! - السيد والي توزر! - السادة الإطارات بتونس الشقيقة! - السادة من الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي! من خارج مصر يتقلد مشيخةَ الأزهر الشريف عن جدارة واستحقاق هذا الرجلُ الفذ، وإن كان تونسيَّ المولد والنشأة، والتعلّم والنبوغ، فإن دولاً أخرى تشترك فيه، على غرار الجزائر بلدِ أجداده، وسوريةَ التي لبث فيها بضع سنين، ومصر التي تقلد مشيخة أزهرها، وتوفي ودفن فيها، وهو رجل عالمي بامتياز ولولاه -بعد الله- لما اجتمعنا بعد خمسين عاماً على رحيله في هذه البلدة، بلدة "نفطة" التي شهدت ميلاد هذا النور ذاتَ يوم من عام ألف وثمان ¬

_ (¬1) ألقاها الباحث والكاتب الجزائري الأستاذ فوزي مصمودي بصفتة رئيساً للجمعية.

مئة وثلاثة وسبعين، بلدة "نفطة" التي لا يخلو كتاب في التاريخ، وأدبِ الرحلات في الجزائر وفي غيرها، إلا وكان اسمها بين دفتيه؛ فقد كانت ملاذاً آمناً للمقاومين الجزائريين خلال القرن التاسع عشر ميلادي، هؤلاء الذين قاوموا المحتل، وتصدوا لجبروت احتلال استيطاني، ومن هؤلاء: الشيخ مصطفى بن عزوز المولود في "برج ابن عزوز" التابعة لولاية "بسكرة"، وهو جد العلامة الشيخ محمد الخضر حسين لأمه. والشيخ محمد الصغير ابن الحاج، خليفة الأمير عبد القادر على "الزبيان" الولاية الثامنة في دولة الأمير عبد القادر، هذه الولاية التي جئناكم منها، ومازال أحفاده إلى اليوم في "نفطة"، وفي غيرها من المدن التونسية. وبعضهم يحضر معنا في هاته الندوة. أفاضل السيدات والسادة! جئنا من الجزائر للمشاركة في هذه الندوة؛ لمواصلة درب آبائنا وأجدادنا الذين كانت -وما زالت- تربطهم وشائج القربى والأخوة والتعاون في السراء والضراء بأبناء تونس الشقيقة. وإن كنا ننسى، فلن ننسى أبداً ما حيينا -لأننا أهل للوفاء- لن ننسى وقفاتِ الشعب التونسي إلى جانب الشعب الجزائري في أحلك ليالي الاحتلال الفرنسي، فكم من معركة ومحطة امتزجت فيها دماء الشعبين، واستضافت حكومتها المؤقتة، مع جيش من الطلبة الجزائريين الذين تخرجوا في جامع الزيتونة الزاهر، وفي مختلف المعاهد والمدارس التونسية؛ كالمدرسة الصادقية، والخلدونية، التي تتشرف جمعيتنا الخلدونية الجزائرية بحمل اسمها؛ تيمناً بدورها الطلائعي والمتميز.

وفي الختام -أيها السادة الكرام- وباسم وفد الجزائر، وعلى رأسه عميد المؤرخين الجزائريين البحاثة الدكتور محمد العربي الزبيري، كذلك رئيس الجمعية الخلدونية، والأستاذ محمد قويدري المستشار بالمحكمة العليا الجزائرية، والسيد علي الأخضري حاضر معنا كذلك، وهو حفيد العلامة عبد الرحمن الأخضري. باسم هؤلاء جميعاً، وياسم الجزائر إن شئتم، أتقدم إلى الجميع بأحر الشكر والتقدير، وخاصة الجمعية التونسية للدراسات والبحوث المنظمة لهذه الندوة العلمية الشيقة، والتي ستربطها بنهاية أشغال الندوة توءمة مع الجمعية الخلدونية الجزائرية. وعاشت تونس والجزائر. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كلمة عائلة الإمام محمد الخضر حسين

الجلسة الافتتاحية كلمة عائلة الإمام محمد الخضر حسين (¬1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى أصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها السادة الكرام! إن عائلة الإمام محمد الخضر حسين في تونس ودمشق والجزائر ومصر، يسرها أن ترفع آيات الشكر والامتنان والاحترام الصادق إلى السيد الرئيس زين العابدين بن علي، الذي دأب على مباركة وتشجيع الأعمال التي من شأنها التنويهُ بعظماء ورجال تونس الحبيبة. وقد شرّفني -كرّمه الله- بوسام الجمهورية؛ من أجل عنايتي بتراث العم الإمام محمد الخضر حسين. كما أشكر الأستاذ الفاضل عبد الرؤوف الباسطي وزير الثقافة والمحافظة على التراث على رعايته هذه الندوة، وحضوره بالذات للمشاركة بنفسه في هذا الملتقى. والشكر إلى الأساتذة والدكاترة والمحاضرين، وكل من شارك وساهم ¬

_ (¬1) ألقاها علي الرضا بن زين العابدين الحسيني ابن أخي الإمام محمد الخضر حسين.

وآزر في أعمال الندوة بأي وجه من الوجوه. وإني أُتوِّج هذا الشكر والامتنان بأبيات قلتها أولَ أمسِ تحيةً إلى "نفطة"، والجريد. تحية إلى نفطة والجريد شَدْوِي (لِنَفْطَةَ) أُمِّ النُخْبَةِ الصِّيدِ ... دَأْبِي وَ (لِلْكُوفَةِ الصُّغْرَى) (¬1) أَناشيدي رَصَّعْتُ فيها قَصيدي وَهْيَ مُلْهِمَتي ... جَواهراً منْ نفيسِ الدُّرِّ مَنْضُودِ كَمْ أَنجَبتْ للدُّنى مِنْ عالِمٍ عَلَمٍ ... واللهُ بارَكَ فيها كلَّ مَوْلودِ نورُ (ابْنِ عَزُّوزَ) (¬2) يَسْري في جَوانِحِها ... هدْيَ المدائنِ والآفاقِ والبيد والطُّهْرُ في الواحةِ المِعْطاءِ ساكِنُها ... (أبو عَليٍّ) (¬3) بِتسْبيحِ وتَحْميد ¬

_ (¬1) اشتهرت مدينة "نفطة" عبر التاريخ باسم (الكوفة الصغرى)؛ لكثرة ما أنجبت من علماء وأدباء. (¬2) الولي الصالح مصطفى بن عزوز له مقام يُزار في "نفطة"، وهو جد الإمام محمد الخضر حسين. (¬3) الولي الصالح أبو علي السني دفين واحة "نفطة" , وله فيها مقام يُزار.

سبْحانَهُ وتعالى اللهُ أَبدَعَها ... وَبَثَّ فيها دَواماً بَهْجَةَ العيدِ عَشِقْتُ تُونسُ مِنْ عِشْقِي لِنَفْطَتِها ... وَهَلْ يُلامُ عِناقُ الحسْنِ والغيدِ هواؤها، صَفُوها يَشْفِي العَليلَ إذا ... أتى لها شاكياً آلامَ تسْهيدِ ويا لِواحَتِها تَزْهو (بدِقْلَتِها) (¬1) ... مَعسولةٍ تَتراءى كالعَناقيد مَهْما أُعدِّدُ لا تُحصى روائِعُها ... وَفي مَرابِعِها تَحْلو أَغاريدي أَما كَفاها فَخاراً أَنَّها وَلَدَتْ ... نوَابغَ الفِكرِ فامْتازَتْ بِتَخْليد (الخِضْرُ) (¬2) قالَ ويا طوبى لمِقْوَلهِ ... ذَاكَ الإمامُ سَليلُ الِعلْمِ والجوُدِ أنا الجريديُّ والعَلياءُ مَنزِلَتي ... وَللْجَريدِ شعاعٌ غَيْرُ مَحدودِ ¬

_ (¬1) الدقلة: اسم لثمار النخيل في واحة نفطة، وهو من أشهر التمور في العالم. (¬2) الإمام محمد الخضر حسين.

ومَوطني تونسُ الخَضْراءُ مَفْخَرتِي ... والجذْرُ في (طُولْقَةِ) (¬1) مَأْوى الصَّناديدِ وفي الشَّآمِ سَقاني المَجْدُ أَكْؤُسَةُ ... فَيْضاً وفي مِصْرَ قدْ بُلِّغْتُ مَقْصودي ¬

_ (¬1) مدينة "طولقة" في الجنوب الجزائري تابعة لولاية بسكرة، وفيها زاوية سيدي علي بن عمر جداً الإمام محمد الخضر حسين، ومكان ولادة والده سيدي الحسين.

كلمة المشاركين في الندوة

الجلسة الافتتاحية كلمة المشاركين في الندوة (¬1) باسم الله، وبه نستعين. - حضرة السيد الوزير المحترم صديقي العزيز الأستاذ عبد الرؤوف الباسطي! - حضرة السيد الوالي المحترم والصديق العزيز -أيضاً-! - حضرة السادة المسؤولين السياسيين والمثقفين أجمعين! تحيتي لكم، وتقديري لكم جميعاً. ماذا أقول بعد ما قيل؟ وكل شيء قد قيل، وقد أتيت متأخراً، والحقيقة أني أريد أن أحييكم باسمي الخاص أولاً، وياسم جميع المشاركين في الندوة ثانياً. في نفسي تختلج خواطر كثيرة؛ لأني أزور أول مرة (الكوفة الصغيرة) "نفطة" ذاتَ الخمائل والواحات الرائعة الجميلة. ولو كان هنا كاتب ألماني، لبقي هنا طول حياته؛ لأن كاتباً ألمانياً أحب الشرق، وأحب الواحات، ¬

_ (¬1) كلمة ارتجلها الأستاذ المنجي الشملي شيخ أساتذة الجامعة التونسية، وكان المشرف على الرسالة المهمة التي ألفها الأستاذ محمد مواعدة "محمد الخضر حسين حياته وآثاره".

وأحب الخمائل، وكتب في ذلك ديواناً عظيماً خالداً يسمى: "الديوان الشرقي للأديب الغربي" أنا الآن بصدد دراسته. أتيت إلى هنا طبعاً لأحييكم، وأقول ذلك تخليداً للذكرى الخمسين لوفاة العلامة المرحوم محمد الخضر حسين، أصيلِ نفطة، وأصيلِ -أيضاً- الجزائر من جهة أمه، وحبيب دمشق، وحبيب مصر، وحبيب العالم كله، إذن هو عربي بالمعنى الحقيقي. وهذه الأصول وهذه المراجع، رفعته ليس بالعلم فقط، ولكن داخل السياسة بالعلم، وأي مثقف أصيل لا يكون سياسياً؟! فإن الثقافة الأصيلة هي سياسة عميقة، اعترف بذلك العلماء، واعترف بذلك رجال السياسة الكبار. واعترف بها -أيضاً- رئيسنا زين العابدين بن علي الذي جعل هذه الندوة العلمية مؤطّرة بوزيرين مهمين، أولاً: الأستاذ عبد الرؤوف الباسطي في الافتتاح، والأستاذ الأخزوري في الاختتام، إني أعتبر هذا التأطير عملية ثقافية سياسية بعيدة المدى. نذكر بها الرئيس ابن علي، ويشكر عليها، وتحيتي إليه من هذا المنبر. هذا من وجه. ومن وجه آخر: أنا أحس بقلق في نفسي؛ لأني عندما ألقيت دروسي في الجامعة التونسية عن الحركة الإصلاحية الإسلامية في البلاد العربية، كنت مقصراً؛ لأني لم أذكر الشيخ الخضر حسين؛ لأني لم أكن أعرفه تماماً معرفة جيدة، والاعتراف بالفضل دون الفضل فضيلة. لقد أفادني محمد مواعدة حقاً؛ لأنه هو الذي اقترح عليَّ موضوعَ دراسته الجامعية أن تكون عن الخضر حسين، ففرحت بما قاله لي، وخشيت

-أيضاً- مما قاله لي، وأشرفت على عمله العلمي، كان عملاً ممتازاً، ونوقشت سنة 1972 م. وكان محمد مواعدة -حقيقة- عالماً بحاثة، كان عالماً علامة بحاثة جيداً، أتعبني وأتعبته، لكن ذلك التعب كان تعباً لذيذاً، وإن لهذا الكتاب الذي هو بين أيديكم اليوم قصة، إن له قصة وهو يُعد البحث فيه، وله قصة -أيضاً- بعد أن تم البحث، والقصتان سياسيتان: القصة الأولى: أشير إليها في إيجاز؛ لأنه لم يحن الحين لتفصيلها، وإن كان في العمر فضل، فستكون في مذكراتي: كنت يوماً مع محمد مواعدة في قهوة (الشيلينك) (¬1) يوم كانت قهوة ممتازة، فرأيت شخصاً ينظر إلينا بنظارتين سوداوين، قال لي محمد مواعدة: إنه من الشرطة، ومن حق الدولة التونسية أن يكون لها شرطة سرية مثل كل دولة، ومن الغد دُعيت إلى الداخلية، دعاني السيد وزير الداخلية شخصياً، وانتهت هذه القضية، وحُفظت القضيةُ -كما يقال- إدارياً. وبعد أن نوقش بحث محمد مواعدة، دُعينا إلى رئاسة الجمهورية من قِبل الرئيس الراحل الزعيم بورقيبة، وقضينا معه أربع ساعات في القصر، والحديث كان عن محمد الخضر حسين، فيه الصحيح، وفيه الذي ينظر فيه -أيضاً-. إذن هذا الكتاب خطير جداً الذي بين يديكم، أول كتاب -في رأيي- علمي أكاديمي عن المرحوم محمد الخضر حسين -حسبما أعلم -. وليس صدفة إذن أن يكون محمد مواعدة هو القطب الصلب لهذه ¬

_ (¬1) مقهى في شارع محمد الخامس بمدينة تونس.

العملية، إلى جانب أصدقائي الأعزاء (أصحاب الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي)، ورئيسها صديقي المعتز كمال عمران، وأخي -أيضاً- فتحي القاسمي. إذن، محمد الخضر حسين قضية، قضية فكرية عظيمة، وقضية سياسية خطيرة؛ أي: مهمة. كيف ندرسه؟ وقد نهج محمد مواعدة الطريقة، والعلماء الآخرون سيواصلون البحث. وإني -حقيقةً- أحيي أصدقائي من الجزائر الذين أَعتز بحضورهم هنا. كما أعتز بأخينا علي الرضا التونسي الحسيني لما بذل من مجهود عظيم جداً في تعريفنا بآثار الشيخ محمد الخضر حسين. محمد الخضر حسين وصل إلى مصر، وقد ناهز الخمسين قليلاً، تماماً كما فعل ابن خلدون، وصل عالماً إلى هناك، وإخواننا المصريون أحبوه، وكرموه، وانتخبوه شيخاً في الأزهر، ثم رقوه إلى رتبة شيخ الأزهر، وما أدراك ما شيخ الأزهر؟! هو تونسي المنشأ، ولكن لا نقلل من شأن مصر؛ لأن تونس ومصر إخوة. وإلى اللقاء.

كلمة الأمين العام للتجمع الدستوري الديمقراطي

الجلسة الافتتاحية كلمة الأمين العام للتجمع الدستوري الديمقراطي (¬1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاة والسلام على أشرف الموسلين. - الأستاذ عبد الرؤوف الباسطي وزير الثقافة والمحافظة على التراث! - الأستاذ صلاح رمضان والي توزر! رجائي إليكم أن تسمحوا لي لأُعرب عن عميق الاعتزاز الذي يغمرني، وعن عظيم الشرف الذي نالني اليوم؛ إذ تتاح لي هذه الفرصة السعيدة لأكون معكم وبينكم في سياق حدث ثقافي كبير متميز. وقد حصل هذا بدعوة كريمة من (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي)، تعهّدها تعهداً حريصاً أخي وصديقي وزميلي الأستاذ الجامعي وعضو مجلس المستشارين المحترم الأخ محمد مواعدة. وإني أذ ألبي هذه الدعوة لممنونٌ؛ لأني -كما قلت- تتاح لي هذه الفرصة أن أعيش هذه اللحظات الاستثنائية، لحظات استثنائية نحتفي فيها بعَلَم من أعلام تونس، في شخصية فذّة من شخصيات تونس الفكر والحضارة، ¬

_ (¬1) كلمة الأستاذ فؤاد القرقوري، أستاذ جامعي، ورئيس لجنة التربية والثقافة فى مجلس النواب، ونائب الأمين للعام للتجمع الدستوري الديمقراطي.

قلت: شخصية تونسية، لكنها -أيضاً- جزائرية، وهي كذلك سورية، وهي كذلك مصرية. فالرجل مفرد في صيغة الجمع، رجل متعدد الأبعاد، ولا يكون الرجال الأفذاذ إلا كذلك متعددي الأبعاد حتماً. وأحس بالنخوة والاعتزاز؛ إذ أجد نفسي معكم ويينكم أيها الملأ الكريم، أيها الإخوة والأصدقاء. في سياق هذا الحدث، في سياق إبراز عمق الرصيد الفكري الإصلاحي في بلادنا، هذا الرصيد الفكري الإصلاحي الذي اختار رئيسُ بلادنا، رئيسُنا وقائد مسيرتنا الوطنية سيادة الرئيس زين العابدين بن علي، اختار اختياراً سياسياً واعياً أن يكون هذا الفكر الإصلاحي مرجعية مشروعنا الإصلاحي الوطني، الذي يسهر على الوصول به قائدُ مسيرتنا الوطنية إلى أبعد الآفاق الممكنة. فلا عجب أن يحظى هذا الحدث الكبير برعايته السامية، ولا عجب أن نهبَّ نحن تلبيةً لنداء جمعيتنا النشيطة التي ننوّه بمبادرتها، ولا عجب أن تحظى هذه الندوة وهذا اللقاء الكبير بإشراف متميز من وزبرنا، من والينا، من سلطتنا الإدارية والثقافية، وبحضوركم أنتم جميعاً. فلا أقل من أن نرفع من رحاب هذه الندوة الكبيرة، التي تنعقد في "نفطة" بالذات، نفطة العراقة، ونفطة الخير، ونفطة العطاء، ونفطة التي أعطت الرجال والنساء، ولا تزال، ولن تزال. قلت: لا أقلَّ من أن نرفع من "نفطة" اليوم، من رحاب هذه الندوة، أسمى مشاعر التقدير والاعتزاز لسيادة الرئيس زين العابدين بن علي، نحن

الذين نمثل النخبة المثقفة، فما أسعدَنا بقيادتنا الوطنية وهي ترعى مسيرتنا الثقافية؛ حيث الثقافةُ صنو الحضارة، وحيث السياسة موعدٌ مع التاريخ، يتفاعل فيه الماضي مع الحاضر، ويستثمر فيه الرصيد الحضاري الكبير من أجل الارتقاء بالواقع، ومن أجل تحقيق أهداف المستقبل. وفي الخاتمة: لابد أن أشير إلى أننا نعتز بهذه الندوة المشتركة بين نخبة تونسية، ونخبة جزائرية. فبمثل هذا تؤسَّس المشاريع الحضارية، وبمثل هذا التعاون نبني مغربنا العربي الثقافي في إطار حرصنا على بناء مغربنا العربي الحضاري الديمقراطي في مختلف وجوهه. أختم أيها -الحفل الكريم - بتأكيد اعتزازي وشكري وتقديري وإشادتي بهذه المبادرة، وكان الله في عوننا جميعاً. الشكر كل الشكر للجمعية، والشكر كل الشكر للمسؤولين الذين ارتقوا بهذا الحدث إلى المستوى، وتمنياتي لهذه الندوة الكبيرة بوافر النجاح والتوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المرحلة التونسية في حياة الإمام العلامة محمد الخضر حسين

محاضرات الندوة المرحلة التونسية في حياة الإمام العلامة محمد الخضر حسين (¬1) حضرات الأخوات والإخوة! الإمام العلامة محمد الخضر حسين هو شخصيات متعددة بشخصية واحدة، شخصية متنوعة متكاملة ليست متناقضة، وهنا تبدو قيمة الرجل العلمية والأدبية والوطنية التي أوصلته إلى قمة المجد. سأركِّز على القضية الأساسية في حياة الشيخ محمد الخضر حسين بتونس، وما سمي بالمرحلة التونسية، وهي تسميته هو، وتشمل الجزء الأول من حياته بالبلاد التونسية، وهي الفترة التي تكونت فيها شخصيته العلمية، ونعتبرها -من هذه الناحية- مرحلة أساسية؛ ككل شخصية في تكوينها الأساسي. الجذور لها أهمية كبيرة جداً، الجذور جزائرية، وهذه العائلة -حتى في جذورها الجزائرية- هي جذور دينية وسياسية في آن واحد، ونعني بذلك: نشر الثقافة العربية الإسلامية، وإصلاح المجتمع الإسلامي، ومقاومة الاستعمار ¬

_ (¬1) محاضرة الأستاذ محمد مواعدة، وتجدر الإشارة أن كتابه "محمد الخضر حسين حياته وآثاره" أهم وأوسع كتاب حول الإمام، وقد صدر في طبعته الأولى في جزء واحد، وسيصدر -إن شاء الله- في جزأين بعد التوسع في البحث، وإضافة الجديد عليه.

الفرنسي، نفس التوجه الذي كان قائماً في الجزائر انتقل إلى تونس، وبالذات إلى مدينة "نفطة". ومنذ البداية فقد اهتممت بدراسة شخصية الشيخ محمد الخضر حسين؛ لأنه علم بارز من أعلام الإسلام في العصر الحديث، شارك مشاركة فعالة في الحركة الفكرية، سواء في المغرب، أو في المشرق العربيين، وارتبط اسمه بأسماء عدد كبير من رجالات الدين الذين قاموا بدور هام في ميادين مختلفة دينية ولغوية وأدبية وسياسية. وفي كتابي "محمد الخضر حسين حياته وآثاره" أوضحت أن المرحلة الأولى من حياته التي قضاها في تونس -منذ ولادته وطفولته، إلى تعلمه ثم تعليمه-، وهي فترة يمكن تسميتها بفترة (التعلم والتكوين)، وتمتد من سنة 1873 سنة ولادته إلى سنة 1912 م، وهي السنة التي غادر فيها البلاد التونسية نهائياً إلى الشرق، ونميز فيها: - حياته بنفطة. - حياته بتونس العاصمة حتى سفره إلى المشرق العربي. ومدة إقامته في "نفطة" هي مدة الطفولة، ولها أهمية كبيرة من ناحية الوسط العائلي الذي عاش فيه، وسط علمي ثقافي ديني، هذه البيئة العائلية، عائلة ابن عزوز، وما أدراك بابن عزوز؟ فيها العلم والثقافة، إلى جانب السياسة والجهاد الوطني. هذه البيئة التي عاش فيها، وهذا الوسط العائلي الذي تُلقن فيه الأم أبناءها علوم الشريعة واللغة، وتتحدث عن الأزهر. وكما روى الشيخ نفسه، ورواها أقاربه: أن أمه السيدة حليمة السعدية بنتَ الشيخ مصطفى بن عزوز كانت تربِّت على ظهره، وهي تداعبه وتقول له:

الأخضر يا الأخضر ... تكبر وتولي شيخ الأزهر وكان اسمه الأصلي: (محمد الأخضر)، ثم أبدلت منذ طفولته بـ (الخضر) اختصاراً، وفي نفس الوقت تيمناً بأحد أولياء المسلمين الذي كان يسمى: (الخضر). وفي مدينة "نفطة" ذات واحات النخيل الجميلة الفيحاء، والمياه المتدفقة الصافية، في ذلك العهد، ومقر العلم والعلماء، وكان رجل العلم فيها هو النموذج الاجتماعي البارز في ذلك العهد، صاحب الكلمة المسموعة، والرأي الراجح، لقد تربى في هذه البيئة التي يسيطر عليها العلم، وتغمرها الثقافة، ويحيط بها الورع الديني من كل جانب، فحفظ القرآن الكريم على الشيخ عبد الحفيظ اللموشي، ودرس بعض العلوم الدينية واللغوية على عدد من العلماء، وخاصة منهم: خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز، الذي كان مهتماً به اهتماماً خاصاً، ويرعاه رعاية كاملة. وانتقلت العائلة -وقد بلغ الشيخ السنة الثالثة عشرة من عمره- إلى تونس العاصمة في أواخر سنة (1306 هـ - 1886 م). ويبدو أن سبب هذا الانتقال هو حرص العائلة على تمكين الشيخ الخضر من مواصلة الدرس والتعلم بجامع الزيتونة مع إخوته الآخرين؛ إذ كان جامع الزيتونة قبلة طلاب العلم من جميع الأمصار، ومن إخوته: العلامة اللغوي محمد المكي بن الحسين، الذي استقر في تونس، والعلامة الشيخ زين العابدين بن الحسين، الذي استقر وتوفي بدمشق. وبرغم انتقال عائلة الشيخ الخضر إلى مدينة تونس، فان مدينة "نفطة" وأهلها الأوفياء مازالوا فخورين ومعتزين بالشيخ حتى اليوم، وأذكر أنني في

مطلع حياتي -وأنا طالب في مدارس "نفطة"- طلبت من صاحب مقهى قديم أن أستخدم المكان كقاعة محاضرات، وكانت مقهى مهدمة خراباً، هيأناها بإمكانياتنا البسيطة، وألقيت فيها محاضرة عن الشيخ محمد الخضر حسين نالت إعجاب أهل "نفطة". كما أصدرت (جمعية شباب محمد الخضر حسين النفطي) نشرة اعتزازاً بابن نفطة. ونجد أن طبيعة نفطة قد أثرت بالشيخ الخضر حتى آخر حياته؛ إذ كان يتمتع بصفات الإباء والشمم وعزة النفس، بالإضافة إلى سماحته وتواضعه، وأذكر -هنا- واقعة تنم عن هذه الصفات التي اكتسبها منذ طفولته: بعد اختيار الإمام شيخاً للأزهر زاره الرئيس محمد نجيب في مكتبه بالأزهر للتهنئة، وبعد مدة من هذه الزيارة، أتاه السيد حسين الشافعي عضو قيادة الثورة، وأخبره أن الرئيس محمد نجيب يطلبه لأمر ما، فغضب الإمام -وقلما يغضب إلا للحق-، وأخرج ورقة من درج مكتبه، وكتب عليها استقالته، وقال للشافعي: "قل لسيادة الرئيس: إن شيخ الأزهر لا ينتقل إلى الحاكم". إن هذا الموقف هو تأثير تربيته في تونس. وهناك خصلة أخرى تأثر بها من تونس، وخاصة من نفطة التي تنمي في المرء الكرم والإيثار وصلة الرحم، وغيرها من الفضائل، ففي أول حياته في القاهرة كان راتبه خمسة عشر جنيهاً شهرياً، كان يرسل خمسة جنيهات إلى ذوي القربى في دمشق، وخمسة جنيهات إلى ذوي القربى في تونس، وهذا الحال استمر معه إلى أن وصل إلى ما وصل إليه. وفي جامع الزيتونة درس الشيخ محمد الخضر حسين منذ سنة (1307 هـ -

1887 م) على كبار الشيوخ، ومنهم: خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز، وسالم بوحاجب، وعمر بن الشيخ، ومحمد النجار، وتحصل على شهادة التطويع سنة (1316 هـ - 1898 م). ويلاحظ أن النشاط العملي الكبير الذي بذله إثر تخرجه من جامع الزيتونة يدل على أن هذا الرجل صاحب طموح كبير، فلم يقنع بالعمل في الإدارة والاستقرار فيها، بل اختار سبيلاً وعرة في حياته. فهو -بالإضافة إلى الجهد العلمي الذي كان يبذله في سبيل نشر المعرفة عن طريق الدروس التي كان يلقيها على الطلاب الزيتونيين- لم تثنه عن خلق وسائل أخرى أكثر تأثيراً وانتشاراً؛ فقد أسس مجلة "السعادة العظمى" في شهر أفريل 1904 م، وهي موضوع محاضرة الأخت نجاة بوملالة في هذه الندوة. وقد تولى في أثناء تعيينه قاضياً في "بنزرت" الخطابةَ والتدريس بجامعها الكبير؛ لرغبته أن يكون دائماً على صلة بالناس مباشرة، كما ألقى في المدة محاضرته الشهيرة: "الحرية في الإسلام" بنادي (جمعية قدماء الصادقية) سنة 1906 م، ونالت اهتمام جميع الأوساط الثقافية في ذلك العهد، واستقال من القضاء للعودة إلى التدريس بجامع الزيتونة، وكلفته إدارة الجامع بالإشراف على تنظيم المكتبة ضمن لجنة للقيام بهذا العمل، كذلك نجده ضمن شيوخ جامع الزيتونة الأوائل الذين تزعموا حركة إصلاح التعليم بتأسيس جمعية (تلامذة جامع الزيتونة) سنة (1324 هـ - 1906 م). تبين من ذلك: أن الشيخ محمد الخضر لم يقصر نشاطه على التدريس، بل كان له نشاط اجتماعي وثقافي، يتمثل بإلقاء المحاضرات، مثل محاضرته:

(حياة اللغة العربية) التي ألقاها بنادي قدماء الصادقية. . . كما قام برحلتين علميتين إلى الجزائر، الأولى: سنة 1903 م، والثانية: سنة 1904 م، ونشر عن الرحلتين في مجلة "السعادة العظمى". وقد اهتم في أثناء ذلك بالميدان الثقافي والديني، فزار المساجد والمكتبات، وحضر بعض الدروس الدينية واللغوية، كما ألقى بعض المسامرات في الفقه والحديث والتفسير، وشارك في بعض المجالس الأدبية. ومن خلال نشاطه السياسي، فقد شارك في التنديدِ بالحرب التي شنتها إيطاليا سنة 1911 م ضد ليبيا، ودعوةِ المواطنين إلى مساعدة شعب ليبيا المسلم والحكومةِ العثمانية ضد الإيطاليين، ونشر قصيدته الشهيرة التي نجد فيها بوضوح حبه للحرية، وعواطفه الوطنية الجياشة، وقال في مطلعها: رُدُّوا على مجدِنا الذّكْرَ الذي ذهبا ... يكفي مضاجِعَنا نومٌ دهى حِقَبا ولا تعودُ إلى شعبٍ مَجَادَتُهُ ... إلا إذا غامرت هماتُه الشُّهُبا وكانت النخبة المثقفة التونسية تعيش في جو نفسي خانق في النصف الثاني من سنة 1912 م نتيجة ما سلطه على البلاد من إرهاب وتعسف النظامُ الاستعماري القائم، ولاشك أن الشيخ محمد الخضر حسين كان يعاني نفس الأزمة، ويشعر بنفس الشعور، وهو الوطني الحساس، وقد زاد في ضيق نفسه خيبتُه في مناظرة التدريس من الطبقة الأولى التي اجتازها في أثناء تلك المدة، وسعى شيوخ النظارة إلى إسقاطه نتيجةَ وجود بعض العوامل الشخصية والميول الخاصة، جعلت هؤلاء الشيوخ (وخاصة منهم الشيخ بلحسن النجار) لا يعتمدون على مقاييس الكفاءة العلمية؛ مما أدى بالشيخ محمد الخضر إلى قول البيتين المشهورين:

عَجَباً لهاتيكَ النظارةِ أصبحَتْ ... كالثوبِ بينَ أناملِ (القَصَّارِ) وأناملُ (القصارِ) تعبثُ مثل آ ... لاتِ تحركُها يُد (النجَّارِ) والقصار والنجار من كبار شيوخ جامع الزيتونة، وهما من هيئة نظارة الجامع الأعظم. رأى الشيخ الخضر: "أن القيام بحق الإسلام يستدعي مجالاً واسعاً، وسماء صافية"، فقرر الارتحال إلى الشام نهائياً خلال شهر ديسمبر سنة 1912 م، (وكانت سنه تناهز الأربعين)، وقد تكونت فيه شخصيته العلمية، وغزرت معارفه؛ مما جعلها تبحث عن مجالات أوسع، وآفاق أرحب. أنا سأقول جملة: "إن المرحلة التونسية استمرت مع الشيخ محمد الخضر حسين كامل حياته؛ من ناحية التأثير والتأثر، ومن ناحية مسيرته حتى وصل إلى مشيخة الأزهر"، والدليل على ذلك: لجوء الرئيس الحبيب بورقيبة إلى مصر، فقد أُوقف على الحدود الليبية المصرية، فاتصل وزير الداخلية اللواء صالح حرب -آنذاك- بالشيخ الخضر ليلاً ... وكانا معاً في جمعية (الشبان المسلمين)، فضمن الشيخ الخضر الرئيس بورقيبة الذي أنزله الشيخ في داره لمدة يومين حتى وفّر له غرفة في إحدى الجمعيات. ثم إن دار الشيخ الخضر في القاهرة كانت محطة استقبال وترحيب بالتونسيين من علماء وساسة وأدباء. وفي مقالاتي الأخيرة، ذكرت أن زوجته توفيت، وتزوج ابنة أختها التي كانت تعيش معه، للخدمة والعناية بالشيخ، ومازالت موجودة للآن، وكنا سنأتي بها، ولكنها مريضة، وقد ذهبتُ إليها السنة الماضية، ووافقت أن نقوم بتسجيل كامل حياتها مع الشيخ، ويكون هذا فصلاً من الكتاب الذي سأطبعه

عن الشيخ فيما بعد، وسيكون في جزأين، وأنا في طور التحضير فيه، وإن شاء الله في الندوة القادمة للشيخ الخضر سيكون حاضراً، وهذا الكتاب تمَّ بدعم كامل من الشيخ محمد الطاهر بن عاشور الذي تربطه بالشيخ الخضر أخوة صادقة. هذا باختصار ما سمي بالمرحلة التونسية من حياة العلامة محمد الخضر حسين، التي أعتبرها من الناحية التاريخية هامة جداً، شخصية لها أبعاد عديدة، تجاوزت الإطار، ولذا قررت (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي): أن هذه الندوة العلمية الأولى. وهناك ندوات، وبالتعاون مع (الجمعية الخلدونية) ببسكرة، هذه الشخصية غنية جداً، ويمكن للجمعيتين أن تقوما بتنظيم ندوات مشتركة. قلت في الجزائر، وقلت في مقالاتي، وأقول الآن: إن شخصية الشيخ محمد الخضر حسين، وابن خلدون، هي شخصيات تتجاوز الإطار الجغرافي إلى إطار عالمي، وهذه الشخصيات لها قيمة علمية وعالمية، والسلام.

المرحلة السورية في حياة الإمام محمد الخضر حسين

محاضرات الندوة المرحلة السورية في حياة الإمام محمد الخضر حسين (¬1) الأمم الماجدة العظيمة، تلك التي تعتز وتفاخر بمسيرة عظمائها، وتعقد الملتقيات والندوات بين الفينة والفينة؛ لتكون عبرة ومنهجاً لمن يريد أن يسلك مسلك العزة والشرف، وليكون بهما عظيماً في علمه وعلو همته. وفي الندوات درْس إلى أفراد الأمة -وخصوصاً شبابها وطليعتها المتنوّرة المثقفة- ليستدلوا به إلى سبيل العمل الصادق الجاد لرفعة شأن الأمة وصلاح حالها، وارتقائها إلى أسمى درجات الكرامة ومراتب المجد. في هذه الندوة التي تحتضنها مدينة "نفطة"، والتي تؤكد استمرارها لما سمّيت به آنفاً (بالكوفة الصغرى). تقدم ابناً لها، غزيرَ العلم والمعرفة، رائع الأدب، كامل الخلق، أودع الله تعالى فيه من المواهب ما لا نجدها في الكثير من أهل عصره، وممن لا يجود بهم الدهر إلّا قليلاً في النادر، في هذه الندوة يشرق فيها وجه الإمام الخضر حسين. ومن حق تونس أن تفاخر بوليدها، ومن حق الجزائر أن تتباهى بأصيلها، ومن حق دمشق أن تعتز بمعلّمها وعالِمها، ومن حق مصر أن ترفع الرأس ¬

_ (¬1) محاضرة علي الرضا الحسيني.

بشيخها وإمامها في مشيخة الأزهر، بل من حق أي بلد إسلامي أن يحتفل بالرجل العظيم. فهو المصلح الاجتماعي، والمفسّر، والمحدث، والمناضل، والمدرّس، والقاضي، والإعلامي، والرّحالة، واللغوي، والشاعر، والأديب، وأكرمه الله أن يكون شيخاً للأزهر، وهكذا يكرّم الله رجاله في الحياة الدنيا قبل ثواب الآخرة. والإمام محمد الخضر حسين من الرجال الذين صبروا وصابروا ورابطوا من أجل الدعوة إلى الإسلام، وإصلاح المجتمع، والدفاع عن حال الأمة، برغم ما لاقاه في سبيل ذلك من أذى، وترحال من بلد إلى بلد، وملاحقة من قبل المستعمر، إلا أنه كان عظيماً في علمه، عظيماً في خلقه، عظيماً في تقواه. والمرحلة السورية في حياة الإمام محمد الخضر حسين تنحصر من تاريخ الرابع من شعبان (1331 هـ - الموافق ديسمبر 1912 م) عندما أقلعت الباخرة من مرساها في تونس إلى دمشق، حتى عام (1939 هـ -1920 م) خروجه من سورية إلى مصر. غادر التراب التونسي وهو ينشد: حادِي سَفينتِنا اطْوَحْ مِنْ حُمولَتِها ... زادَ الوقودِ فَما في طَرْحهِ خَطَرُ وخُذْ إذا خمدَتْ أنْفاسُ مِرْجَلِهَا ... مِنْ لَوْعةِ البَيْنِ مِقْباساً فَتَسْتَعِرُ عندما أخذ الحنو إلى الوطن يتزايد، وحر الآسف لمفارقة الأصحاب يتصاعد. وفي هذه المرحلة نميز ثلاث ومضات هامة من حياته:

أ - نشاطه العلمي الغزير، ومكانته السامية في الأوساط السورية. ب - دخوله السجن في عهد السفاح جمال. ج - نضاله السياسي في ألمانيا من أجل المغرب العربي والإسلام. هاجر الشيخ الخضر إلى دمشق وفي صدره أسى، وفي نفسه لوعة على فراق وطنه تونس. وتجمعت عدة أسباب لديه لاتخاذ هذه الخطوة: 1 - رغبته في الالتحاق بأسرته التي انتقلت بكامل أفرادها إلى دمشق، بعد أن أرتأت والدته السيدة حليمة السعدية بنتُ مصطفى بن عزوز ضرورةَ الانتقال إلى بلد آمن، والمغاربة يعتقدون أن الشام بلد شريف. 2 - أضف إلى هذا: عامل التضييق والمراقبة والملاحقة من قبل السلطة الاستعمارية الفرنسية، ووجد أن ميدان العمل أصبح ضيقاً لا يتناسب مع روحه الوثّابة، وطموحه وآماله الكبرى في العمل الإسلامي. وفي انتقاله إلى الشام فسحة من المكان، يجد فيه المجال الأوسع لرسالته العظمى. * نشاطه العلمي الغزير، ومكانته السامية في الأوساط السورية: دخل إلى دمشق على القطار القادم من بيروت، وعند مدخل مدينة دمشق حيث الغوطة الغربية الجميلة، والوادي الضيق بين جبلين، ونهر بردى يقطع الوادي عند (الربوة)، فاضت شاعريته ببيتين هما من أجمل ما قاله شعراً: لجَّ القطارُ بنا والنارُ تَسْحَبُه ... ما بَيْنَ رائق أشْجارِ وأنهارِ ومِنْ عجائبِ ما تَدْريهِ في ... سَفَرِ قَوْم يُقادوُنَ للجَنَّاتِ بالنّارِ سبقته شهرته العلمية إلى الوسط الثقافي بدمشق، فبادر العلماء والأدباء

للترحيب به في المجالس والنوادي، كما التف حوله طلبة العلم في حلقات الدرس والبحث، فأعطى كل فريق حقه، ووزّع أوقاته للتدريس بين الجامع الأموي، ونوادي دمشق - والمدرسة (السلطانية)، وفي مجالسه الخاصة التي كانت تُقصد على مدار الأسبوع. يقول الإمام الخضر في إحدى رسائله إلى الشيخ محمد الصادق النيفر في تونس، والمؤرخة في 20 محرم 1331 هـ: "لقينا من أهل دمشق حفاوة واحتراماً فوق ما نستحق، لاسيما الناشئة المتأدبة، وكثير من أهل الفضل والعلم، حتى ظهر منهم الاستبشار، وأقبلوا على تهنئتها عندما بلغهم تعيننا لتدريس آداب اللغة العربية والفلسفة في المدرسة السلطانية بدمشق". والإمام -من خلال هذه الاحتفالات والمسامرات التي تتصل حلقاتها يوميا- لم ينسَ وطنه تونس، ولم يغب عن باله الأصحاب، ولاسيما صديق الوفاء والمحبة الإمام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وها هو ذا يرسل له تحية شعرية: أيَنْعمُ لي بالٌ وأَنتَ بَعيدُ ... وأَسْلو بطَيْفٍ والمنامُ شَريدُ بَعُدْتُ بِجثماني ورُوحي رهينةٌ ... لَدَيْكَ وَلِلْودّ الصّميمِ قُيودُ إلى أن يقول: فأين ليالينا وأسمارنا التي ... تُبَلُّ بها عند الظِّماءِ كُبودُ ليالٍ قَضَيناها بِتويسَ ليْتها ... تعودُ وَجيْشُ الغاصِبينَ طريدُ ويقول في رسالة من دمشق بتاريخ 29 جمادى الأول 1332 هـ موجهة إلى الشيخ محمد الصادق النيفر: "أما سيرتنا بدمشق، فلم تتغير عن الطريقة التي كنا نسلكها في تونس، وهو أن معظم أدبائها وكبرائها يعرفوننا ونعرفهم،

وبالجملة: فقد لقيت منهم أخلاقاً حسنة، وآداباً مؤنسة، وفيما بلغني أنهم راضون عن سيرتنا، ومعجبون بمسالكنا في التعليم. كما أن للتلاميذ أدباً كامل معنا، وعواطف زائدة، ولاسيما نجباؤهم، وكثيراً ما أحادثهم بالحالة العلمية في تونس، وأحاضرهم بشؤون جامع الزيتونة. . . وعلمائه، فأصبحوا يجلّون التونسيين، ويدركون شيئاً من مقدراتهم العلمية". إن عبارات الخطاب تشير إلى اهتمام الإمام محمد الخضر حسين ببلده تونس، والحرص على التعريف بها، وعن مكانتها العلمية. عقد الشيخ الخضر صداقات مع كبار العلماء والمفكرين بدمشق، ومنهم: محمد كرد علي رئيس (المجمع العلمي العربى بدمشق)، وخير الدين الزركلي صاحب كتاب "الأعلام"، وعلامة الشام محمد بهجة البيطار، وشاعر الشام الأستاذ خليل مردم بك، وغيرهم الكثير. وأصبح عضواً عاملاً في (المجمع العلمي العربي بدمشق) بجلسته الأولى في 30/ 7/ 1919 م. وعندما عزم الإمام على الارتحال من دمشق، كتب له الشاعر الأستاذ خليل مردم بك وزيرُ خارجية سورية، ورئيس (المجمع العلمي العربي) في ذلك العهذ كتاباً رقيقاً، قال فيه: "سيدي! إن من خير ما أثبته في سجل حياتي، وأشكر الله عليه، معرفتي إلى الأستاذ الجليل السيد محمد الخضر التونسي. فقد صحبتُ الأستاذ عدة سنين، رأيته فيها الإنسان الكامل الذي لا تغيره الأحداث والطوارئ، فما زلت أغبط نفسي على ظَفَرها بهذا الكنز

الثمين، حتى فاجأني خبرُ رحلته عن هذه الديار، فتراءت لي حقيقةُ المثل: (بقدر سرور التواصل تكون حسرة التفاصل). فلم يعد لي إلا الرجاء بأن يكون لي نصيب من الذكر في قلبه، وحظ من الخطور على باله، لذلك فأنا أتقدم إليه بهذه القصيدة؛ لتكون لي رتيمة عنده، وذكرى أحد المخلصين إليه. أمتع الله به، وأدام الكرامة، وكتب له السلامة في حله وترحاله". ومطلعها: طَيْفٌ لِلَمْياءَ ما ينفك يبعثُ لي ... في آخرِ الليل إنْ هَوَّمْتُ أشجانا وأجابه الشيخ الخضر بقصيدة طويلة، ومطلعها: ما النّجْمُ تجري به الأفلاكُ في غَسقٍ ... كالدرِّ تقذفُه الأقلامُ في نسقِ ويقول فيها: وكيف أنْسى خليلاً قد تَضَوَّعَ في ... حُشاشتي ودُّه كالعنبرِ العَبِقِ هذا مشهد نضربه لبيان المرتبة العلمية الرفيعة التي تبوأها الإمام في قلوب أهل العلم والأدب في دمشق. ونظم خلال إقامته في دمشق قصائد رائعة في مناسبات عدة مختلفة، نكتفي بالإشارة إلى عنوان ومطلع بعضها: عن الضجر من كثرة الأسفار يقول: أنا كأسُ الكريمِ والأرضُ نادٍ ... والمطايا تطوفُ بي كالسُّقاةِ كَمْ كؤوسٍ هَوَتْ إلى الأرضِ صَرْعى ... بين كفٍّ تديرها واللَّهاةِ فاسمحي يا حياةُ بي لبخيلٍ ... جفنُ ساقِيه طافحٌ بسُباتِ ومن قصيدة في تهنئة أخيه الإمام محمد الطاهر بن عاشور عند ولايته

القضاء بتونس 1332 هـ: بسطَ الهناءُ على القلوبِ جناحا ... فأعاد مُسْوَدَّ الحياةِ صباحا ومنها: أَوَ لَمْ نكُنْ كالفَرْقَدَين تَقارَبا ... والصَّفْوُ يملأُ بينَنا أَقْداحا وله قصيدة تحت عنوان: (بكاء على مجد ضائع) قالها في دمشق سنة 1322 هـ حين وجد للدولة العثمانية شيئاً من الضعف، ولقنصل فرنسا أمام قناصل الدول الأوروبية شيئاً من النفوذ، ومطلعها: بين الجوانحِ همةٌ ... تسمو إلى أمدٍ بعيدِ ومنها: أدْمى فؤادي أَنْ أَرى الـ ... أَيامَ ترسُفُ في قيودِ وأرى سياسةَ أمتي ... في قبضةِ الخَصْمِ العنيدِ ومن أروع ما قاله في الحنين متشوقاً إلى تونس ومَنْ فارقهم فيها من الأصدقاء تحت عنوان: (تحية الوطن)، ومطلعها: ماليَ لا ألمحُ من ذي الجمالْ ... سوى الخيالْ إلى أن يقول: يا موطني لم أنسَ عهدَ الشبابْ ... عذبَ الرُّضابْ وريثما شمَّر يبغي الذهابْ ... صاح الغرابْ بِنا وخُضْنا في غِمار الصِّعابْ ... بلا حسابْ بيني وبين المجد عهدٌ يُهابْ ... فلا عتابْ حيا رُبا تونسَ ذات الزهورْ ... عهدُ السرورْ

وقال قصيدة تحت عنوان: (الشعور طليعة الفلاح) أيام الحرب العظمى في دمشق سنة 1334 هـ، ومطلعها: وإن ساورَتْ بعضَ القلوب ضغينةٌ ... وعادت من البغضاءِ كالحَشَفِ البالي وفيها يقول: لنا هممٌ تسمو إلى العِلْمِ رفعةً ... وهِمّاتُ بعضِ الناس تصبو إلى المالِ وله قصيدة (بكاء على قبر) يرثي بها والدته البارة السيدة حليمة السعدية بنتَ مصطفى بن عزوز. وقد عاد إلى دمشق من ألمانيا، ووجدها ارتحلت إلى الله تعالى. وهي من أهم قصائده في الرثاء، ومطلعها: قطَّبَ الدهرُ فأبديتُ ابتساما ... وانْتضى الخطبُ فما قلتُ سلاما "بنتَ عزّوزٍ" لقد لقنْتِنا ... خشيةَ الله وأَنْ نرعى الذِّماما ودَرَيْنا منكِ أن لا نشتري ... بمعالينا من الدنيا حُطاما ودَريْنا منكِ أن الله لا ... يخذُلُ العبدَ إذا العبدُ استقاما ودَرينا كيف لا نعنو لمن ... حاربَ الحقَّ وإنْ سَلَّ الحساما وقال عند سفره من دمشق: كأنيِّ دينارٌ وجِلَّقَ راحةٌ ... تُنافِسُ في الإنفاق راحةَ حاتمِ فكمْ سمحتْ بي للرّحيل وليتني ... ضربتُ بها الأوتادَ ضربةَ لازمِ وخاطب صديقه الشاعر الأستاذ خير الدين الزركلي صاحب كتاب "الأعلام" بعد أن ألقى قصيدة من نظمه في مجلسى الإمام: يا محضراً في بُردِ شعرٍ رائعٍ ... روحَ ابْنِ بُرْدٍ وهو يلفظ بالحِكَمْ

من علّمَ الشعراءَ أن يتحضّروا ... روحاً تَرَذَّى جسْمُها ثوبَ العدمْ هذه بعض أشعاره خلال المرحلة السورية في حياته التي قالها بدمشق، وله قصائد أخرى عن دمشق خلال زيارته لها قادماً من القاهرة. * دخوله السجن في عهد السفاح جمال: عندما نقرأ سيرة الإمام محمد الخضر حسين نجد صفحاتِ قاسيةً مؤلمة من جراء دفاعه عن الحق، وقد عانى الأذى والاضطهاد على يد السفاح التركي جمال باشا في دمشق، وقَبِلَ الابتلاء بكل إيمان وصبر، وبقلب مؤمن صادق. اعتقل الشيخ الإمام مدة ستة أشهر وأريعة عشر يوماً في شهر رمضان سنة (1334 هـ الموافق آوت آب 1916 م) حتى الرابع من شهر ربيع الثاني 1335 هـ. وأحيل إلى المحاكمة أمام المجلس العرفي العسكري تحت رئاسة فخري باشا؛ بحجّة أنه حضر مجلساً خاض فيه المجتمعون في سياسة الدولة، وسعى فيه أحدُ المحامين إلى تناول الدولة بعبارات قاسية، حتى استفتى في نكث العهد من طاعتها، والخروج عليها، وسعى إلى تأسيس جمعية تدعو إلى الانفصال عن الدولة العثمانية. واعتبرت السلطة الطاغية في دمشق أن الشيخ يحمل المسؤولية لعدم إبلاغ الإدارة المختصة بهذا الاجتماع، وما جرى فيه من حديث يتعلق بسياسة الدولة، وأذنت باعتقاله حتى يرى المجلس العرفي رأيه. وتم الاعتقال في (خان مردم بك) بمدينة دمشق، وهو مكان مُعَدٌّ لاعتقال رجال السياسة، وكان من رفاقه في السجن: الرئيس شكري القوتلي الذي شغل منصب رئيس الجمهورية السورية، وفارس الخوري أحد رؤساء الوزارة،

وسعدي بك الملا الذي أصبح رئيساً للوزراء في لبنان، وكان سكرتيراً لشكري الأيوبي. وحكم المجلس العرفي على الشيخ الإمام بالبراءة مما نسب إليه , وقرر مخاطبة الدولة بطلب إعطائه مكافأة بما لحقه من ضرر. ويقول الإمام: "ولكني لم أتشبث بهذا القرار، وقنعت بما ظهر للدولة من طهارة ذمتي، وعدم تسرعي إلى النفخ في لهيب الفتنة على غير هدى". ومن شعر الإمام في السجن: غلَّ ذا الحبْسُ يدي عن قلمٍ ... كانَ لا يصحو عن الطِّرْس فناما هل يذودُ الغمض عن مقلته ... أو يلاقي بعدَه الموتَ الزُّؤاما أنا لولا همةٌ تدعو إلى ... خِدْمة الإسلام آثرتُ الحِماما ومن روائع شعره في المعتقل: أن الأستاذ سعدي الملا كان رفيق الإمام في زنزانة واحدة، وجرت بينهما محاورة عن البداوة والحضارة، فقال الشيخ: جَرَى سمرٌ يومَ اعْتُقلنا بفندقِ ... ضُحانا به ليلٌ وسامرُنا رَمْسُ فقالَ رفيقي في شَقا الحبسِ إنَّ في الْـ ... ـحضارةِ أُنْساً لا يقاسُ به أُنسُ فقلتُ له: فضلُ البداوة راجحٌ ... وحسْبُكَ أن البَدْوَ ليس به حَبْسُ وله أشعار أخرى في المعتقل الذي لم يزِدْه إلا قوةً في العزيمة، وإصراراً على النضال والاستمرار بصلابة في طريق الحق، ودون أن تؤثر في إيمانه الراسخ حوادث الأيام العابرة. ومن ذكريات السجن قال في دمشق: ولقد ذكرتُكِ في الدّجى والجندُ قد .. ضربوا على دار القضاء نِطاقا

وقضاةُ حربِ أرهفوا أسماعَهم ... وصدورُهم تغْلِي عَلَيَّ حِناقا والمدّعي يُغري القضاةَ بمصْرَعي ... ويرى مُعاناتي الدفاعَ سِياقا أتروعُ أهوالُ المنونِ متيَّماً ... جَرَّعْتِهِ بعدَ الوصالِ فِراقا * نضاله السباسي في ألمانيا من أجل المغرب العربي والإسلام: جند الاستعمار الفرنسي -بالترغيب والترهيب - الآلافَ من أبناء المغرب العربي في صفوف جيشه، وزجَّ بهم كالقطيع من الأغنام في مذابح الحرب، وألقى بهم في خطوط النار الأولى من المعارك التي خاضتها فرنسا ضد ألمانيا، ووقع منهم العدد الكبير أسرى لدى القوات الألمانية. وقد سافر الإمام إلى ألمانيا؛ للاتصال بهؤلاء الأسرى؛ ليحرضهم على القتال ضدَّ فرنسا، لأن بلادهم أحوجُ إليهم في هذا الموقف، ويحثهم على التطوع لمحاربة فرنسا. أقام في ألمانيا على مرحلتين: تسعة أشهر في عام 1917 م، وسبعة أشهر في عام 1918 م، وكان رفاقه في النضال: الشيخ صالح الشريف، والشيخ إسماعيل الصفايحي من تونس، بالإضافة إلى مناضلين عرب؛ كالأستاذ عبد العزيز شاويش، والدكتور عبد الحميد سعيد، واللواء يوسف مصطفى. قام بتأليف (اللجنة التونسية الجزائرية) لتحرير المغرب، وألقى المحاضرات على الجنود المغاربة الأسرى في المعتقلات، وسعى إلى ضمِّهم تحت لواء الثورة على الاستعمار من أجل الاستقلال والحرية لأوطانهم. وكان يكتب مناشير التحريض؛ لتلقى بواسطة المدافع وراء خطوط القتال على الجنود المغاربة، يدعوهم فيها إلى التمرد والعصيان. أتقن اللغة الألمانية خلال مدة إقامته في برلين، واطلع على أحوال

المجتمع الألماني وعاداته وأخلاقه، كما درس علوم الكيمياء والطبيعة على يد البرفسور الألماني (هاردر) أحدِ العلماء المستشرقين الألمان. وتقول بعض المصادر: إنه كان يخطب باللغة الألمانية في بعض المناسبات. حتى تحت أزير الرصاص، وفي الأتون المشتعل لهيباً ودماراً، والحرب بضجيجها وعجاجها تقرع الأسماع ليل نهار، لم يترك الشيخ القلم جانباً، وإنما دوّن مشاهداته في برلين، ونشرها في جريدة "المقتبس" بدمشق، الجزأين السابع والثامن من المجلد الثامن، كما طبعت في كتاب مستقل، وله شعر بديع في مناسبات عدة في ألمانيا ضمن ديوانه "خواطر الحياة". أصدرت السلطات الفرنسية حكماً عليه بالإعدام غيابياً؛ لتحريض المغاربة على الثورة ضد المستعمر الفرنسي. كما صدر الأمر المؤرخ في 15 حزيران 1917 م، والذي تضمن: "حُجزت بقصد بيعها أملاكُ الأخضر ابن الحسين المدرسِ السابق في الجامع الأعظم الذي ثبت عصيانه"، ونشر الأمر في "الرائد التونسي" - النسخة الفرنسية الصادرة 20/ 6/ 1917 م. أقول في خاتمة هذه المحاضرة المقتضبة عن المرحلة السورية في سيرة الإمام الخضر التي تستغرق مجلداً لباحث ودارس، ولعلِّي بهذه العجالة أوجزت كثيراً، وأوفيت. أقول: - إن الإمام محمد الخضر حسين خزانة علم متنقلة في حله وترحاله. - إن الإمام محمد الخضر حسين نبع إلهي لا يغور ماؤه، ولا ينضب عطاؤه. - إن الإمام محمد الخضر حسين -كما قال فيه الأستاذ محمد مواعدة-: هو رجال في رجل.

- إن الإمام محمد الخضر حسين -كما قال فيه أحد كبار علماء الأزهر، ويردده الأزهريون من بعده-: هذا. بحر لا ساحل له. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المرحلة المصرية في حياة الإمام محمد الخضر حسين

محاضرات الندوة المرحلة المصرية في حياة الإمام محمد الخضر حسين (¬1) أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. ورضي الله عن صحابة رسول الله، وعن التابعين، وتابعي التابعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ورضي الله عن مشايخنا ووالدينا والحاضرين، وجميع المسلمين، آمين يا رب العالمين. وبعد: الإمام الشيخ محمد الخضر حسين عَلَم من أعلام الإسلام، فريدُ عصوِه، ووحيدُ دهرِه، وهو فلتة من فلتات الزمن، لن يجود الزمن بمثل هذا الرجل. صحيح اْن الأمة الاسلامية ولّادة، ولكن هذا الرجل يعتبر فعلاً فلتة ¬

_ (¬1) محاضرة الدكتور مجاهد توفيق الجندي مؤرخ الأزهر، وعضو في الجمعية التاريخية العربية الإسلامية. مع ملاحظة أن هذه للمحاضرة هي نفسها بنصها مع حذف وإضافة القليل، والتي سبق أن ألقاها في (ملتقى الإمام محمد الخضر حسين) في مدينة "بسكر" بالجزائر ديسمبر 2007 م , ونوردها مجدداً هنا حسب نصها السابق، لعل القارئ لم تصل يده إلى محاضرات الملتقى في الجزائر.

من فلتات الزمن، فهو المصلح لهذه الأمة أمرَ دينها، وهو الذي أنار السبيل لها؛ لتنهض من كبوتها، لتحارب الاستعمار، وتخرجه من بلادها. وهو السياسي الذي قاد السفينة إلى برِّ الأمان وسطَ الأمواج المتلاطمة، والأعاصير القاتلة، والرياح العاصفة، والبروق والرعود المدوية. وهو الصحفي الذي لا يُشق له غبار، صاحب مجلة "السعادة العظمى" في تونس، ومجلة "الشبان المسلمين" في مصر، ومجلة "الهداية الإسلامية"، ومجلة "نور الاسلام" التي هي مجلة "الأزهر" بعد ذلك، ومجلة "لواء الإسلام" ومجلة "مجمع اللغة العربية"، وجريدة "الفتح". ومجلات وصحف أخرى لا نستطيع أن نعرفها بالتحديد، نشر فيها الشيخ الخضر قصائده ومقالاته وبحوثه، سواء الصادرة منها في مصر، أو سورية، أو تونس، أو غيرها من البلاد، ومنها: مجلة "المجمع العلمي العربي" بدمشق. ومجلة "البدر" التونسية، والمجلة "الزيتونية" التونسية، وجريدة "الزهراء" الصادرة بتونس، ومجلة "الزهراء"، وهي علمية أدبية اجتماعية، منشئها محب الدين الخطيب. وهو الشاعر، والأديب، والخطيب المفوّه الذي يهز المنابر. والواقع أن الشيخ محمد الخضر حسين ابتدأ حياته الأدبية شاعراً قبل أن يبدأها ناثراً؛ حيث نجد آثاره الشعرية الأولى أكثر اهتماماً بالحياة العامة، وأطرفَ أسلوباً، وأميلَ إلى التجديدِ والمطالبةِ بالإصلاح من نثره. ولكنه سرعان ما انقلب إلى النثر، فعبّر به عن قضايا الأمة والحياة، والمجتمع والفكر، تاركاً للشعر بعض المناسبات الخاصة، والجوانب الأكثر التصاقاً بالعاطفة والوجدان والإخوانيات، وقد ترك ديوانين كبيرين، أحدهما

طبع، وهو "خواطر الحياة"، والثاني مازال مخطوطاً، لكن كثيراً منه منشور في الصحف. وكان قد أعدّ للطبع، ولكن وفاة الشيخ حالت دون ذلك. وقد رثى والدته السيدة حليمة السعدية التي توفيت سنة (1335 هـ - 1913 م) بقصيدة يقول فيها: قَطَّبَ الدَّهْرُ فأَبْدَيْتُ ابتساما ... وانتضى الخطبُ فما قلتُ سَلاما لستُ أدْري أنَّ في كفَّيكَ يا ... دهرُ رُزْءاً يملأُ العيْنَ ظَلاَما إلى آخر القصيدة. وقد رثى زوجته المصرية الأولى السيدة زينب مدكور -وهي من عائلة مدكور، وهي عائلة كبيرة في مصر تتبع قبيلة النجمة التي تعيش في منطقة الهرم، وأعتقد أنها قبيلة من أصول يمنية- بقصيدة منها: أعاذلُ غُضَّ الطَّرْفَ عَنْ جَفْني الباكي ... فخَطْبٌ رمى الأكْبَاد مني بأشواكِ ولي جارةٌ أَوْدى بها سَقَمٌ إلى ... نوًى دونَ منآها المحيطِ بأفْلاكِ إلى آخر القصيدة. * معارك الشيخ محمد الخضر حسين الأدبية والفكرية: ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة الإسلامية سنة 1322 هـ. وقد أثار هذا القرار ضجة كبرى في العالم الإسلامي، فعقدت المؤتمرات، وكتبت المقالات المعارضة للتشهير بهذا الإلغاء الذي يتعارض مع أهل السنّة والجماعة. وقد كان الملك فؤاد -رحمه الله- ملكُ مصر من أكبر المعارضين لهذا القرار؛ لأنه كان يسعى لتولِّي خلافة المسلمين؛ لما في ذلك من مكاسب مادية وأدبية وسياسية. وقام أنصار الملك فؤاد بترويج هذه الفكرة بوسائل عديدة، وفي خضم

هذا الخلاف الشديد بين المناوئين للملك فؤاد، والموافقين له، والمدافعين عن هذه الفكرة، أصدر الشيخ علي عبد الرازق أحدُ علماء الأزهر كتابة "الإسلام وأصول الحكم" سنة 1925 م. في الحقيقة: أن الشيخ علي عبد الرازق -رحمه الله-، وهو من بيت علم قديم في قرية أبو جرج التابعة لمحافظة المنيا في مصر، وهذا الرجل قد وهبه أبوه مع ثلاثة من إخوته للأزهر الشريف، وهو من بيت أثرياء، بيتهم مفتوح لعابري السبيل، ولا يذهب أي قاصد لصدقة، أو لطلبة فيرجع خائباً. في حديث لي مع المرحوم الشيخ أحمد إدريس وكيلِ لجنة الفتوى بالأزهر، عندما قلت له: عندنا ندوة غداً، أو بعد غد في المجلس الأعلى للثقافة بمناسبة مرور سبعين سنة على كتاب "في الشعر الجاهلي"، وتحدثنا بشأن كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، قال: يا بني! هذا الكتاب ليس للشيخ علي عبد الرازق، ولكنه لطه حسين، أضافه إليه، ليأخذ به شهرة. وكان بينه ويين طه حسين علاقة ما من النسب أو القرابة، فخجل الرجل، كان رجلاً طيبا جداً، لم يشأ أن يُحرج طه حسين، برغم أن هيئة كبار العلماء اجتمعت، ومحت اسمه من سجلات الأزهر، وأخرجته من زمرتها. قلت للشيخ أحمد إدريس: ما الذي عَرفك؟ قال: كنت واعظاً لهذا المركز في محافظة المنيا، مركز يتبع بني مزار، وبني مزار بلدة بها العديد من الصحابة، صحابة رسول الله الذين استشهدوا بالمعارك، الذين صاحبوا عمرو بن العاص في الفتوحات الإسلامية. بلدة أبو جرج هذه بلدة علي عبد الرازق، وآلُ عبد الرازق بيت كريم، الشيخ أحمد إدريس ذهب إلى هذا البيت، وكان واعظاً للمركز، ذهب ليتغذى

هناك، وليبيت. وعندما انتصف الليل وأراد الرجل أن يذهب إلى الحمام، وجد الشيخ علي عبد الرازق يبكي، والدموع تُبلل لحيته في جوف الليل، يُصلّي في جوف الليل والناسُ نيام، والدموع تبلل لحيته، قال له: يا مولانا! ولماذا كتبت هذا الكتاب؟ قال: يا ابني! هذا الكتاب -والله- ليس لي، ولكنه لطه حسين، أضافه إليَّ؛ لشيء من القرابة، أو شيء من المصاهرة، لآخذ به شهرة، وهذا الكتاب ليس لي. قال: لماذا لم تتبرأ من هذا الكتاب؟ قال: ما أردت أن أُحرج طه حسين، وتحمَّل الرجلُ ما حدث له، وأنا اليوم سعيد. هذا ما أؤكد عليه بخصوص كتاب "الإسلام وأصول الحكم". في ندوة طه حسين في المجلس الأعلى للثقافة، قمن بمداخلة، وقلت هذا الكلام، فغضب عليَّ الدكتور جابر عصفور، وهو من العَلْمانيين المعروفين في مصر. ولكن هو لا يعوف الحقائق، وعندما قلت هذا الكلام، قام وثار وغضب، وقال: هذا الكلام غير صحيح؛ لأنه لو كان صحيحاً، لوقف في وجه هيئة كبار العلماء الذين أخرجوه من زمرتهم، فقلت: اذهبوا إلى الشيخ أحمد إدريس، والصحفيون تجمعوا حولي؛ لأن هذا الكلام جديد بعد مرور أكثر من سبعين سنة على هذا الكتاب. وذهبوا إلى الشيخ أحمد إدريس، وأكد لهم ما قلته، ونشر ذلك في الصحف. هذا بخصوص "الإسلام وأصول الحكم"، وقد عارضه مولانا وشيخنا الجليل الشيخ الخضر حسين، عارض هذا الكتاب، فأُعجب به الملك فؤاد؛ لأنه كان يريد أن يكون خليفة للمسلمين. كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، يقول فيه طه حسين؛ لأنه ليس لعلي

عبد الرازق، يقول: إن الحكومات الحديثة لا تحتاج إلى الخلافة، والخلافة ليست ضرورية، وليست من الدين، هذا كلام طه حسين، وهو كلام المستشرقين. وطه حسين -بالطبع- حاقد على الأزهر الشريف، برغم أنه أكل من خيرات الأزهر، ولحم أكتافه من خيرات الأزهر الشريف، وجلس في زاوية العميان، يحترمونه، ويأكل ويشرب ويكتسي على نفقة الأزهر الشريف، حيث كان فقيراً، الأزهر الشريف خيرُه على أشداق الذين درسوا فيه، وبرغم هذا يشتمون الأزهر، ويلعنون المشايخ. قال طه حسين يشتم اللجنة التي ناقشته في الدكتوراه، أو في العالمية، في قصيدة طويلة يشتم فيها المشايخ: جلسةٌ في الضُّحى ... بين العمائمِ واللِّحَى أتذكَّر هذا البيت. وثار عليه المشايخ، وسألوه أسئلة عويصة كانت سبباً في أنه لم ينجح في العالمية، فغضب على الأزهر الشريف، واتجه إلى المستشرقين أربابِ النعمة عليه، وقيل: إنهم أعطوه الدكتوراه في جلسة شاي. هكذا يقولون. وأنا أخذت في هذه الندوة، ندوةِ كتاب "في الشعر الجاهلي"، حصلت على ملف الدكتور طه حسين، اشتريته بثمن غالٍ، وليس ببخس، وجئت به إلى جابر عصفور. فقال لي: جبت الملف ده منين؟ قلت: أنا صحّيته من النوم، وقلت له: قم يا طه، هناك مؤتمر بالنسبة لك. قال بعد أن قلّب الملف: أريد أصوّر هذه الأوراق، وهي الأوراق التي يدافع بها المستشرقون عن طه حسين، وهم أساتذة جامعة فؤاد الأول،

أو الجامعة المصرية من الفرنسيين. يدافعون عنه، ويقولون: إن الأستاذ في الجامعة حرّ يقول ما يريد. وشهد شاهد من أهلها. هم أهلُه وأحبابه شهدوا له. فقلت له: لا تصوِّر ولا ورقة واحدة، فاسوَدَّ وجهه، وامتقع، وقال لي: لماذا قلت: أنا لا أريد أن أصور شيئاً من هذا الملف؟ قال: أنا أريد أن أتفاوض مع وزارة الثقافة لأشتري منك هذا الملف بما تحب؛ لنضعه في (راماتان) -هي فيلا طه حسين-، فقلت: أنا لا أريد أن أبيع هذا الملف، أنا أريد أن بيقى عندي. خُذْ صوِّر هذه الثلاث ورقات، هذه الثلاث ورقات قرأتها على الحاضرين. وفيها دفاع طبعاً عن طه حسين، المستشرقون الفرنسيون يدافعون عن طه حسين. هذا كلام أقوله أمام حضراتكم. هذا بخصوص كتاب "الإسلام وأصول الحكم" الذي أُعجب به الملك فؤاد، واستدعاه إلى الإسكندرية ليقابله هناك، وأعطاه الجنسية المصرية، فرحاً وحباً في دفاعه عن الخلافة، ونقضه لكتاب "الإسلام وأصول الحكم" الذي هو لطه حسين، وليس للشيخ علي عبد الرازق. وقد كان الملك فؤاد ملكُ مصر من أكبر المعارضين لهذا القرار، قرارِ إلغاء الخلافة؛ لأنه كان يسعى لتولي خلافة المسلمين؛ لما في ذلك من مكاسب مادية وأدبية وسياسية. وقد أثار هذا الكتاب ضجة في أوساط رجال الدين والأزهر، سواء من مؤلفه الذي هو من رجال الإسلام، ولا يمكن لمثله أن يصدر عنه كتاب من هذا النوع، أو بالنسبة لمحتواه المخالف لما يعتقده العلماء والشيوخ،

فتصدى له الشيخ محمد الخضر حسين بكتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، وقد بادرت هيئة كبار العلماء بالأزهر إلى طرد الشيخ علي عبد الرازق من صفوفها، ومحو اسمه من سجلات الأزهر، كما حوكم الكتاب، وصودر من الأسواق. * خلاف الشيخ محمد الخضر حسين مع الدكتور طه حسين: في سنة 1926 م أصدر طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي"، وتصدى له الشيخ محمد الخضر، طبعاً جاء في هذا الكتاب: أن الشعر الجاهلي منحول، وهذا يعني: أن القرآن الكريم منحول، وهذه الأشياء كلها منحولة، وتصدى له الشيخ الخضر بكتاب يساويه حجماً وصفحات وتبوبياً، أسماه: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" الذي أُعيد نشره مراراً بعد تعديله تحت اسم "في الأدب الجاهلي". وقفز هذا الكتاب بالشيخ الخضر حسين إلى الصف الأول بين علماء مصر وأدبائها، فارتفعت حكمانته وشهرته بسرعة فائقة جداً. * خلاف الشيخ محمد الخضر حسين مع الأستاذ إبراهيم مصطفى: وهو -أيضاً- من تلاميذ طه حسين، ألف الأستاذ إبراهيم مصطفى كتابه "إحياء النحو" الذي تعرض فيه إلى بعض علماء النحو القدامى، ونظرياتهم في هذا الميدان، وردّ عنيه الشيخ محمد الخضر في مجلة "الهداية الإسلامية"، ومما قاله: والواقع: أن المؤلف سلك أعوج الطرق في التحامل على علماء العربية، والمبالغة في نسبتهم إلى التقصير، وهي الطريقة التي يسلكها الدكتور طه حسين على جهالة، أو قضاءً لحاجة في النفس.

وقد شكر طه حسين جهودَ إبراهيم مصطفى، وسعة علمه، فتعرض له الشيخ الخضر حسين بقوله: وهذا التقريظ دائر بين أمرين: إما أن الدكتور طه حسين لم يقرأ هذا الكتاب، وقرّظه مع العاطفة والمبدأ، وإما أنه قرأه، ولضعفه -أي: ضعف طه حسين- في عِلْم العربية بدا له أن هذا الكتاب إحياء لعلم النحو. ويبدو من مقال "الهداية الإسلامية" أن الشيخ الخضر كان يعتزم تأليف كتاب بالرد على إبراهيم مصطفى، لكن لأن الشيخ محمد عرفة -وهو عالم جليل من علماء الأزهر المصلحين أيضاً- كفاه مؤونة ذلك عندما ألف كتاباً حقق نفس غرضه، وهو "النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة". * خصومة الشيخ محمد الخضر حسين مع الشيخ رشيد رضا: كان الرجلان متفقين في النظرة إلى اللغة العربية؛ من حيث الدفاعُ عنها باعتبارها وسيلة للتعريف بأصول الدين الإسلامي، وهي لغة القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، وتزداد الصلة مكانة ومتانة عند صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، و"في الشعر الجاهلي" لطه حسين، ويقف منهما الشيخ الخضر الموقفَ الذي بيّناه، ويسانده الشيخ رشيد رضا، ويشيد بكتابيه، وبقيمة صاحبهما العلمية والدينية، كما يقرّظ مجلة "الهداية الإسلامية". كانوا متقفين سوياً، ثم برزت القطيعةُ بينهما عند صدور العدد الأول من مجلة "نور الإسلام"، وما كتبه بشأنها الشيخ رشيد رضا، خاصة لومه على رئيس التحرير الشيخ الخضر؛ لعدم ذكره الشيخ محمد مصطفى المراغي، الذي هو شيخ الأزهر الذي ثبّت الشيخ الخضر حسين في وظيفته بالأزهر

رسمياً، وكان أستاذاً في كلية أصول الدين في قسم التخصص، يدرّس السياسة الشرعية لطلبة التخصص، و-أيضاً- في كلية الشريعة طلبة التخصص في السياسة الشرعية، وهذه لا يدرسها إلا فطاحل العلماء. لعدم ذكر الشيخ مصطفى المراغي، وابتعاد المجلة عن السياسة، اختلف في حاجتين: لأنه ما ذكر الشيخ المراغي في العدد الأول، وأنه كان صاحب فضل عليه في تثبيته رسمياً في الوظيفة عندما أصبح شيخاً للأزهر، و-أيضاً- لخلافه أن المجلة بعيدة عن السياسة. وقد ردّ الشيخ الخضر على الشيخ رشيد رضا بمقال عنوانه: "للحقيقة والتاريخ"، وهو خطاب مفتوح نشر في مجلة "الهداية الإسلامية"، ثم يذكر ما قاله الشيخ رشيد رضا بخصوص مساعدة الشيخ المراغي للشيخ الخضر حسين بجعله مدرساً في قسم التخصص في كلية أصول الدين بعناية خاصة استثنائية، فيشير الشيخ الخضر إلى أن مجلس الأزهر قد ندبه بالتدريس قبل ولاية الشيخ المراغي بنحو سنة، عندما كان الأستاذ عبد الرحمن قرّاعة رئيساً لهذا المجلس. * دخول الشيخ محمد الخضر حسين جماعة كبار العلماء: أخذ عضوية هذه الجماعة، وحصل عليها بكتاب "القياس في اللغة العربيق"، وهي رسالة؛ لأن من شروط الانضمام إلى هذه الجماعة: أن يقدم العالم رسالة جديدة فيها كل جديد. فقويل بالإجماع سنة 1952 م. وعندما ناقشت اللجنة الشيخ، أجاب على الأسئلة باستفاضة ودقّة متناهية، ولذلك قال الشيخ اللبان -وهو رئيس الممتحنين- للجنة: هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حجاج؟!

وأعطي العالمية بالإجماع بدرجة ممتازة. * مشيخة الأزهر الشريف: تقلد الشيخ محمد الخضر حسين منصب شيخ الأزهر الشريف في ظروف سياسية واجتماعية معينة، جعلت بقاءه في هذا المنصب العلمي الهام لا يطول كثيراً، برغم ما للرجل من قيمة علمية وأخلاقية ودينية. في يوم الأربعاء (27 من ذي الحجة 1371 هـ - 17 ديسمبر 1952 م) زار ثلاثة من الوزراء على رأسهم الشيخ أحمد حسن الباقوري صديقُ الشيخ، ووزير الأوقاف المصرية منزلَ الشيخ محمد الخضر حسين، وبعد الترحيب بهم، بادره الشيخ صديقُه الباقوري بالقول: لقد وقع الاختيار عليك لتكون شيخاً للأزهر، فأبدى الرجل امتناعاً؛ نظراً لخطورة المهمة، وكبرها، ولعجزه البدني، وشيخوخته، وقد أشرف سنّه على الثمانين، فرفض الوزير الاعتذار قائلاً: هذا أمر تجنيد، وفي هذا العهد المبارك تُجند الكفاءات النزيهة لخدمة مصر. وعند ذلك قَبِل المسؤولية الجديدة، وأجاب: وأنا لا أهرب من الجندية، وليوفقنا الله. ولم يكن الشيخ الخضر ينتظر بلوغه هذا المنصب لأسباب عديدة، لذلك أجاب عن سؤال يتعلق ببرنامجه الإصلاحي في الأزهر بقوله -عندما سأله المحرر بمجلة "المصور" المصرية بذلك الوقت-، قال: ليس لدي برنامج مدروس؛ إذ كنت لا أتوقع أن أكون شيخأ للأزهر، بعد أن قضيت عمراً طويلاً أدرّس السياسة الشرعية في كليتي الشريعة وأصول الدين، ثم أُحلت على المعاش بعد عشرين سنة في هذا العمل، ولزمت بيتي. وتجدر الملاحظة: أن قلة المصادر المتعلقة بهذه الفترة الهامة من حياة

الخضر هي التي عاقتنا عن معرفة الأسباب التي أدت إلى اختياره شيخاً للأزهر، ولعل ما نفترضه هو: أن غزارة علمه، وشهرته الواسعة في الأوساط الدينية والثقافية، وهدوء طبعه في معالجة الأمور، وفي مشيخة الأزهر بالذات التي تكثر حولها الفتن، وتكثر حولها المؤامرات. بالإضافة إلى الصداقة التي كانت تربط بينه وبين عدد كبير من علماء مصر وفضلالها، وأعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو كانوا زملاءه في جمعية "الهداية الإسلامية"، كانوا أعضاء، ربما ليسوا أعضاء عاملين، ولكن كانوا يساعدون بالمال، ويساعدون بأشياء كثيرة. * استقالة الشيخ محمد الخضر حسين من مشيخة الأزهر: واصل الشيخ محمد الخضر حسين نشاطه الإداري والعلمي بمساعدة عدد من العلماء البارزين في الأزهر إلى سنة 1954 م؛ إذ كثرت أمراضه الجسمية؛ مما منعه من القيام بمسؤولياته التي يرتضي ضميره، لذا قرر الاستقالة من منصب مشيخة الأزهر، وبارح هذا المعهد العلمي يوم (2 جمادى الأولى 1372 هـ - 8 جانفي 1945 م). طبعاً هذا كلام سياسي، ولكن الحقيقة أنه استقال نظراً لقانون الإصلاح الزراعي. وهذا يلغي كل من عنده أكثر من مئة فدان من الإقطاعيين المصريين بذلك الوقت. وغضب الشيخ غضباً، وقال: هذا حرام أن نأخذ أموال الناس، ونوزعها على آخرين، وقدم استقالته، لكن وجد من يطرق عليه الباب، فتح الباب، فوجد محمد نجيب وجمال عبد الناصر يقفان أمام البيت بعد الاستضافة، قالا له: إننا نرجوك أن تسحب هذه الاستقالة، ونحن نلغي هذا القانون. وفعلاً أُلغي مؤقتاً إلى أن رجع الشيخ؛ لأن استقالة الشيخ فضيحة، كون الشيخ يستقيل من الثورة هذه فضيحة لهم،

ولأن الشيخ من العلماء العظام الذين اختيروا من بين جماعة كبار العلماء، وليس معيناً من قبل الثورة، ولكنه آخر العلماء العظام الذين كانوا مختارين لمشيخة الأزهر الشريف، لذلك رجع مرة إلى المشيخة، والمرة الثانية قالوا: إنه استقال؛ لأنهم أرادوا أن يضموا المحاكم الشرعية إلى القضاء الأهلي، فقال: العكس هو الصحيح، يُضم القضاء الأهلي إلى القضاء الشرعي، وقدم استقالته نهائياً، ولم يرجع، ونفذوا كل ما أرادوه بعد ذلك. * حياته بعد الأزهر: ترك الشيخ الخضر جامع الأزهر وسنّه إحدى وثمانون سنة، وانزوى بمنزله إلى كتبه العلمية، وقد أنهك جسمَه الإعياء، ولم يبق له من المهام العلمية إلا عضويةُ المجمع اللغوي التي واصل القيام بها إلى آخر يوم من حياته، وكذلك عضوية جماعة كبار العلماء التي لم تكن تكلف صاحبها عناء كبيراً. ولم ينقطع عن كتابة المقالات الدينية في بعض المجلات؛ مثل: "لواء الإسلام" التي كان أحد المشرفين عليها، ومحرراً لقسم تفسير القرآن فيها. * وفاة الشيخ محمد الخضر حسين: انتقل الشيخ محمد الخضر حسين إلى جوار ربه بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال يوم الأحد (13 رجب سنة 1377 هـ - 2 فيفري 1958 م). وفي نفس ذلك التاريخ وقع الإعلام بمدينتي القاهرة ودمشق عن ميلاد الجمهورية العربية المتحدة. وكأن الصدفة أرادت اقتران هذا الحدث السياسي بوفاة رجل كان يدعو طول حياته إلى دعم الرابطة الإسلامية، وتقوية التعاون والوحدة بين المسلمين.

وقد نعى العالم الإسلامي هذا العلّامة الكبير، وحضر تشييع جثمانه كبارُ رجال الدولة المصرية، وعدد من علماء المشرق العربي البارزين. وقد طلب رئيس الجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة من سفير تونس بمصر السعي لدى عائلة الفقيد للموافقة على دفنه في أرض الوطن، إلا أن المرحوم كان قد ترك وصية خطية طلب فيها دفنه بجوار صديقه أحمد تيمور باشا، الذي وجد منه الشيخُ التقدير والعون والمساعدة، ولذلك دفن في مصر تاركاً شهرة علمية واسعة. وبذلك انتهت حياة العالم الجليل عن سن 86 عاماً قضاها في طلب العلم، وتقوية الرابطة الإسلامية.

زواية الشيخ مصطفى بن عزوز، وأشهر أعلامها

محاضرات الندوة زواية الشيخ مصطفى بن عزوز، وأشهر أعلامها (¬1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. في بداية هذه الندوة المباركة، أشكر (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي)، والقائمين عليها، كما أشكر الأستاذ محمد مواعدة على جهوده الصادقة في التحضير لها، والعمل المخلص الجاد على إنجاحها، وإبرازها في صورة واضحة. كما أشكر الأستاذ فتحي القاسمي الكاتب العام للجمعية، لهم الشكر جميعاً على أن أتاحوا لي هذه الفرصة للمشاركة في هذه الندوة، وأن أحاول أن أتحدث عن زاوية الشيخ سيدي مصطفى بن عزوز، وعن أبرز أعلامها في "نفطة". والحديث عن هذه الزاوية هو الحديث عن جذور الشيخ سيدي مصطفى ابن عزوز العائلية والفكرية، والروحية -أيضاً-، وصلة هذه العائلة الشريفة بعائلة سيدي الحسين من جهة النسب، والصلة العائلية، وخدمة الطريقة الرحمانية التي عملوا لها ومن أجلها. ¬

_ (¬1) محاضرة الدكتور الطبيب حسين بن عزوز، من أحفاد الشيخ مصطفى بن عزوز. وهو طبيب، وله اهتمامه الخاص (بعائلة آل عزوز).

إن الشيخ مصطفى عزوز هو جدّ الإمام محمد الخضر حسين للأم. وإن هذه الزاوية هي المدرسة الأولى للشيخ الخضر، والذي أصبح من أبرز أعلامها. إن العلامة الإمام محمد الخضر حسين مولود في "نفطة" سنة 1873 م، وينتمي إلى عائلة جزائرية صوفية، ووالده الشيخ الحسين بن علي بن عمر الطولقي نسبة إلى "طولقة" من دوائر "بسكرة"، وكان مريداً خاصاً للشيخ مصطفى ابن عزوز، وقد دخل معه "نفطة" مهاجراً سنة 1843 م، وأم الإمام الخضر هي السيدة حليمة السعدية إحدى بنات الشيخ مصطفى بن عزوز، ورابطة النسب بين عائلة الشيخ الخضر وعائلة ابن عزوز متأصلة متشعبة. ثم إن هذه علاقة القربى ترافقها علاقة روحية قوية، وهي علاقة الشيخ بخليفته، وعلاقة الخليفة بشيخه؛ إذ أن الشيخ سيدي علي بن عمر الطولقي هو جد الخضر، وأبرز خلفاء سيدي محمد بن عزوز البرجي والد سيدي مصطفى. كما أن الشيخ مصطفى بن عزوز هو شيخ سيدي الحسين بن علي بن عمر والد الشيخ الخضر. وبعد هذه التوطئة أريد أن أقرأ عليكم هذه الكلمة عن أعلام تونس. "أشد ما يؤلم ذا الشعور الحي، والنفس اليقظة: ذلك الكابوسُ العجيب الذي نزل على التاريخ التونسي في أحداثه وآثاره ورجاله، فلزَّه إلى زاوية الإهمال، وكساه ثوب الذبول والخمول، وضرب عليه التلاشي والضياع، وألزمه انعدام المصادر، وفقدان التآليف، وتعطل البروز، حتى أصبحت الجهالة بأحواله سنّة متبعة، والنكران لرجاله مشرعاً سائغاً، والطمس لمعالمه

حقاً مرعياً، ولقد كنت -حين ألاحظ أمر هذا الكابوس- يشتد عجبي، ويحتد غضبي من كونه عمَّ بلا استئناء، حتى دس الجهل في أوساط العلم، وأساغ النكران في شارع المعرفة ... " هذه الصرخة هي من العلامة الشيخ محمد الفاضل بن عاشور -رحمه الله- في كتابه "تراجم الأعلام"، وفي مقدمة له لترجمة الشيخ محمد المكي بن عزوز، وهي صرخة لهذا العَلَم، ولغيره من أعلام تونس. وللأسف الشديد، هذا الإهمال مازال موجوداً حتى اليوم، ولكن الآن -والحمد لله- هذه هي (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي)، إلى جانب وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، ووزارة الشؤون الدينية، تقوم بمجهود طيب في التعريف بالأعلام المنسيين. ولعلي بهذا العرض ألقي الضوء على بعض جوانب زاوية سيدي مصطفى ابن عزوز وأعلامها. من هو الشيخ سيدي مصطفى بن عزوز؟ وما هي ظروفه التي هاجر فيها؟ وما كان نشاطه ونشاط الزاوية؟ ثم ما أنتجَه من دعوة؟ الشيخ مصطفى بن عزوز هو ابن المربي الشهير الشيخ محمد بن عزوز البرجي الإدريسي، ينتمي إلى النسب النبوي الشريف، ولد في مدينة "البرج" القريبة من "طولقة"، وهي قرية صغيرة في الواحة، وتبعد 140 كم عن "بسكرة" بالجنوب الجزائري. في هذه الروضة الشريفة، والدوحة الطاهرة ولد الشيخ مصطفى بن عزوز سنة 1220 هـ "وهو ينحدر من بيت عريق في الديانة والفضل، والمنزلة الجليلة المنقطعة النظير، والصيت المطلق في الخير والهداية والصلاح، ولقد ارتكزت

قيمة هذا البيت على ما شهر به الشيخ محمد بن عزوز من الورع والصلاح، والقدم الراسخة في السلوك الشرعي؛ إذ تخرج على الصوفي الأشهر الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري الجزائري، ناشرِ الطريقة الرحمانية الخلوتية، وعمَّ ذكر فضله بانتشار الطريقة التي عظُمت بها سمعته، وعلت شهرته". كما كتب الشيخ محمد الفاضل بن عاشور -رحمه الله-: لقد أخذ الشيخ مصطفى العلم عن والده، وعن شيوخ كبار، أخذ عن محمد الأمير أحدِ شيوخ الأزهر الشريف، وإبراهيم الباجوري، ومحمد بن علي السنوسي مؤلفِ الطريقة السنوسية، وغيرهم. هذا ما جاء في كتاب الأستاذ عبد المنعم القاسمي -وهو حاضر معنا- عن "أعلام التصوف في الجزائر"، وهو من العائلة القاسمية الفاضلة. تعلم الشيخ مصطفى، وأخذ طريقته الرحمانية عن شيخه سيدي علي بن عمر الطولقي جد الشيخ الخضر؛ إذ بعد وفاة الشيخ محمد بن عزوز دفن في زاويته بالبرج، وما زالت الزاوية حتى الآن يؤمها المصلون والزوار، وهي عامرة بالصلاة والذكر. بعد وفاة والده، ويوصاية منه، اعتنى به شيخه سيدي علي بن عمر، وانتصب في زاوية والده بالبرج، ثم دعاه شيخه، وألح عليه بالهجرة إلى تونس -كما ذكره الشيخ عبد الرحمن بن الحاج بن علي بن عثمان ابن علي بن عمر في كتابه "الدر المكنوز في حياة سيدي علي بن عمر، وسيدي ابن عزوز" لنشر الطريقة الرحمانية في هذه الربوع، زيادة عن البحث عن ملجأ للثوار الجزائريين. فاختار الشيخ مصطفى بن عزوز "نفطة" موطناً لعائلته؛ لقربها من الحدود الجزائرية، ولِبَثِّ الطريقة الرحمانية، ولأهداف بعيدة المدى، منها: مساعدة المجاهدين في الجزائر.

يقول الشيخ إبراهيم خريف في كتابه "المنهج السديد في التعريف بقطر الجريد": "وورد على بلدة "نفطة" من بلاد الزاب مهاجراً، القدوةُ المرشد، صفوةُ البررة، وخلاصة الصالحين الخيرة، صاحبُ المآثر العديدة، والأخلاقِ الحميدة، الشيخُ سيدي مصطفى بن عزوز، فاستوطن مع عائلته وعددٍ كبير من أتباعه وأشياعه، فأقبلت عليه البلاد، وهرعت إليه العباد، يلتمسون بركته، ويستمدون فيوضاته. ثم أحدث زاويته المشهورة، المشتملة على عدد كبير من المساكن لإيواء الواردين عليه من كل صُقْع، وإنشاء مطابخ لإطعام كل مَنْ يرد مِن أبناء السبيل وغيرهم". أقام في "نفطة" مدرسةً مهمة لتعليم القرآن الكريم وحفظِه، مع تعليم كافة العلوم الأخرى، وجهز بيوتاً لإقامة طلاب العلم، وأحضر من كبار الشيوخ للتدريس، ومنهم: العلامة محمد المدني بن عزوز، والفقيه العالِم أبو العباس أخو الشيخ مصطفى، والشيخ محمد بن حمادي، وجلب من "قفصة" العالم الشيخ أحمد السنوسي بن عبد الرحمن القفصي، ومن "توزر" العلامة إبراهيم بو علّاق التوزري، والشيخ محمد بن عزوز، والشيخ أحمد الأمين بن عزوز، والشيخ التارزي بن عزوز، وكثير غيرهم من الفضلاء الأجلّة. فما هي الطريقة الرحمانية التي جاء لبثِّها؟ الطريقة الرحمانية هي طريقته، وطريقة والده، المنبثقة عن الطريقة الخلوتية التي أسسها سراج الدين الخلوتي المتوفى في "تبريز" 800 هـ، وهي ترجع إلى فرع من فروع السهروردية وترجع بالطبع إلى الإمام علي -كرم الله وجهه-.

سميت بالرحمانية؛ لأن ناشرها الأول بالجزائر والمغرب العربي هو الشيخ محمد بن عبد الرحمن الجرجري الأزهري، عن الشيخ محمد بن سالم الحفناوي، وقد لازمه أكثر من ربع قرن قبل أن يرجع إلى الجزائر؛ حيث عرفت الطريقة انتشاراً واسعاً على يديه بين بلاد القبائل في القطر الجزائري، وتونس، وامتدت إلى جوبا، وإلى طرابلس في ليبيا، وعند وفاة الشيخ عبد الرحمن خلف 23 خليفة من كبار الشيوخ ساهموا في نشر الطريقة، منهم: سيدي عبد الرحمن باش تارزي القُسَنْطيني، وسيدي علي بن عيسى، وسيدي محمد أمزيان بن الحداد، وسيدي محمد بن عزوز البرجي والد سيدي مصطفى بن عزوز، الذي كان له أثر عظيم في الجنوب والشرق الجزائري، كما ذكره الأستاذ عبد الباقي مفتاح في عرضه (لمحة تاريخية حول الطريقة الرحمانية الخلوتية)، وذلك في ندوة أقيمت في "طولقة" تحت عنوان: (الملتقى الأول للعلامة الشيخ محمد بن عزوز) نور الصحراء في زاوية الشيخ علي بن عمر بين (11 - 12 ربيع الأول 1418/ 16 - 17 جويلية 1997 م). وطلب الشيخ محمد بن عزوز من شيخه محمد بن عبد الرحمن الإذن بزيارة والدته، فقال له شيخه- بعد أن أذن: - إذا لم تجدني في قيد الحياة، فاتمم دروسك وتربيتك عند الشيخ عبد الرحمن باش تارزي دفينِ قسنطنية. وبالفعل توفي الشيخ في غياب تلميذه، فلازم الشيخ باش تارزي صاحبَ "المنظومة الرحمانية" حتى أتم تربيته، وقفل راجعاً إلى بلدته "البرج" حيث أسس زاويته هناك إلى أن توفي سنة 1233 هـ، ودفن بزاويته المشهورة حتى اليوم. وللشيخ محمد بن عزوز أرجوزة عنوانها: "رسالة المريد في قواطع

الطريق وسوالبه وأصوله وأمهاته"، وله شرح عجيب مفيد عليها. وترك الشيخ محمد بن عزوز ثمانية أبناء، وهم: 1 - الحسين، ودفن في "البرج" جانب والده. 2 - محمد الشيخ، ودفن في "طولقة". 3 - أبو العباس، توفي ودفن في "نفطة". 4 - محمد، انتقل إلى القيروان، واستوطنها، وتوفي بها، ومازال فرعه حتى اليوم. 5 - الحسن بن عزوز الذي عينه الأمير عبد القادر خليفة على مقاطعة الزاب، وله تاريخ مجيد في البطولات. ويحتاج إلى ندوة كاملة، وقد تحدث عنه مطولاً الأستاذ محمد علي دبوز في كتابه "نهضة الجزائر". 6 - الشيخ مصطفى صاحب زاوية "نفطة"- وموضوع محاضرتي في هذه الندوة. 7 - الشيخ محمد التارزي صاحب كتاب "الهواتف"، وهاجر إلى المدينة المنورة، وتوفي بها. 8 - الشيخ المبروك، انتقل إلى الأغواط في الجزائر، وأسس زاوية هامة لازالت حتى اليوم. يذكر الباحثون أن الشيخ مصطفى بن عزوز أسس قرابة خمسين زاوية ومسجد للصلاة في أنحاء القطر التونسي، ودخل في الطريقة عشرات الألوف، حتى كانت الأولى بين الطرق المنتشرة في تونس، وبلاد المغرب العربي. وعرفت الطريقة الخلوتية بالعزوزية؛ لشهرتها بآل عزوز الذين خدموا العلم والطريقة، بدءاً من شيخها الأول سيدي محمد بن عزوز، وإخوته،

إلى الأبناء والحفدة من أسرته المباركة. لا بد أن نشير هنا باختصار شديد إلى مساعي الصلح التي قام بها الشيخ مصطفى بن عزوز مع علي بن غذاهم، وثورته سنة (1280 هـ - 1864 م)، وقد تناولها الباحثون والمؤرخون في العديد من المؤلفات. فقد أصدر المشير محمد الصادق باي أمراً فرض بموجبه إعانة -وهي ما يعرف اليوم بالضريبة- على كل تونسي تُجبى لصالح الخزينة، وقدرها 72 ريالاً، وشكل هذا عبئا على الناس، ولاسيما طبقة العمال والفلاحين، ومنهم من اشتكى، ومنهم من تمرد وحمل السلاح في وجه الباي، ومنهم: علي بن غذاهم من مدينة "ماجر"، وعمت الفوضى البلاد التونسية، وقامت حملات عسكرية عنيفة على المواطنين. ونظراً للمكانة السامية للشيخ عند الباي محمد الصادق، ومكانة الشيخ عند عامة الناس، فقد طلب الباي إليه التوسط في هذا الموضوع. يقول الشيخ الوزير أحمد بن أبي ضياف في كتابه "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان": "ولم يزل الحال في اضطراب وشدة إلى أن قدم من الجريد بركةُ القطر المشارُ إليه بالبنان، المتدرجُ في مقامات العرفان، الوليُّ السالك المحبّبُ لعباد الله، شيخُ الطريقة الرحمانية، أبو النخبة، الشيخُ مصطفى بن عزوز، واجتمع بعلي بن غذاهم ووجوه جموعه، وقد مسهم نصبُ الملل، بعد أن أخذ لهم الأمان من الباي، واستوثق منه بالعهود والأيمان، وقرأ للباي قوله تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91]. ثم قال لهم: لا جواب لكم عند الله تعالى على إراقة دماء المسلمين. وقد أعطاكم

الباي الأمان على يد أمير المحلة، وخفف عنكم أكثر مما يُظن، إلى غير ذلك مما تفضل به عليكم خشيةَ إراقة الدماء. وقال لعلي بن غذاهم: "أنت لستَ بقائمِ تطلب ملكاً، وزعمت أنك جامعُ عصابة شاكية لكفِّ عادية جهالها، وقد زال السبب، فلابد أن يزول المسبب، وقد عطلتم الناس عن السعي في ابتغاء رزقهم". "وبلّغ الشيخ مصطفى الناس أوامر الباي في الأمان، وإسقاط ما ثقل من الأوامر، فانقادوا معه، بعد أن عقد الباي يده بيد الشيخ، وعاهده على الوفاء بالعهد في أمان الناس ظاهراً أو باطناً، ووثق الشيخ بهذا العهد". ثم جرى ما جرى من نقض العهد، وقتل ابن غذاهم. يقول الأستاذ علي الرضا الحسيني في كتابه "زاوية مصطفى بن عزوز": "إن الشيخ مصطفى بن عزوز بصفاء سريرته، ونقاء نيته، لا يعرف أن السياسة في الملك لها طرقها وأساليبها، وأن العهود والعقود لا تعني شيئاً للحاكم إلا بمقدار ما تحفظ له سلطته، وتحقق له غاياته، حتى ما إذا تمكن من مراده، وحصل على مقاصده، تنكر لما عاهد به دون أي عناء. وكان الذي تمَّ من نقض عهد الدولة، ومآل علي بن غذاهم". ولابد من الإشارة إلى جهاد الشيخ مصطفى بن عزوز في مقاومة الفرنسيين بالجزائر، وهذا يحتاج إلى متسع من الوقت. كما يحتاج إلى مراجعة المؤرخين والباحثين في الملفات لذلك العهد. وهذه مهمة جداً في تاريخ الشيخ المجاهد الصالح. وما أحوجَنا إلى ندوة خاصة تقوم بها (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي) حول الشيخ مصطفى بن عزوز،

تتناول سيرته وأعماله وجهاده بالتفصيل، وتضيء النواحي المشرقة في حياة هذا الشيخ البركة الذي اختار "نفطة" لنشر الطريقة والجهاد، ونالت "نفطة" شرف إقامته فيها حتى وفاته -رحمه الله- في آخر ليلة من ذي الحجة سنة 1282 هـ، ودفن بزاويته هنا. ونظراً لضيق الوقت، فإن الحديث عن كبار أعلام زاوية مصطفى بن عزوز، ولاسيما الشيوخ: - محمد المدني بن المبروك بن عزوز الذي دفن بضريح ضيف الله في (عرش الشرفا) بمدينة "نفطة" سنة 1285 هـ. - التارزي بن محمد بن عزوز، وتوفي بالمدينة المنورة سنة 1310 هـ. - سيدي الحسين بن علي بن عمر والد الإمام محمد الخضر حسين، وتوفي في مدينة تونس سنة 1309 هـ. - أحمد الأمين بن محمد المدني بن عزوز، توفي بالمدينة المنورة سنة 1354 هـ. - المجاهد العربي التبسي رئيس جمعية العلماء الجزائريين المسلمين في الجزائر وغيرهم، نجعله في فرصة أخرى -إن شاء الله-. وأخيراً أقول: رحمة الله عليك يا ابن الحسين، يا الخضر، شرّفت أجدادك، وشرفت "بسكرة"، و"نفطة"، وشرفت تونس والجزائر، وشرفت جامع الزيتونة المعمور، وجامع الأزهر. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مناقشة حول المحاضرات وتعقيبات المحاضرين

جلسة مناقشة مناقشة حول المحاضرات وتعقيبات المحاضرين * الأستاذ فتحي القاسمي (¬1): - أريد أن أشكر الشكر كلّه لأساتذتي الذين تفضلوا بهذه المداخلات. هناك بعض التساؤلات التي أسوقها سريعاً: بقدر ما أنا مسرور بصدور كتاب الأستاذ محمد مواعدة "محمد الخضر حسين حياته وآثاره" مستقبلاً في جزأين، أتساءل: أليس من باب الإضافة والطرافة أن نضيف إلى هذه اللبنات: المرحلةَ الأوروبية، خصوصاً أن هناك وثائق ومخطوطات كثيرة موجودة في برلين. وأنا بلغني منذ مدة قصيرة أن الأستاذ منير فندي قد جلب من المكتبات الألمانية وثائق هامة جداً حول فترة إقامة الشيخ الخضر في ألمانيا، وكانت للشيخ لقاءات هامة مع كبار المستشرقين، وأنا أضم صوتي إلى ما قاله الأستاذ علي الرّضا الحسيني من أنه كان يتقن اللغة الألمانية كتابة وقراءة. - بالنسبة إلى المرحلة السورية، أتساءل: ألا يمكن أن نتحدث بهذا الإطار عن الدور التونسي في تأجيج مقاومة السوريين للاستعمار الفرنسي، ¬

_ (¬1) الكاتب العام للجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي، وأستاذ محاضر مختص في النهضة الفكرية في الوطن العربي عموماً، وتونس خصوصاً.

وقد وظف الشيخ صالح الشريف، والخضر حسين اللذان اكتويا من الاستعمار الفرنسي، وقد وظفا تلك الثقافة لتأجيج شعور المقاومة ضد الجيش الفرنسي في سورية؟ ألا يمكن الحديث عن الخضر في تعاونه مع كوكبة من التونسيين الذين استقروا فترة ما بدمشق، وكان لهم دور في هذا الوعي الوطني؟ - بالنسبة إلى صديقي الدكتور حسين بن عزوز، لماذا مررتَ مرور الكرام عن تلك القضية الكبيرة التي جرى حولها حديث كثير؟ وهي وساطة الشيخ مصطفى بن عزّوز في قضية ابن غذاهم، خصوصاً أن وساطة الشيخ مصطفى ابن عزوز لإقناع علي بن غذاهم في إيجاد حل سلمي، في حين أن غاية الباي الغدر، وقتل بالسم علي بن غذاهم وهو في ريعان شبابه. وربما نجد هنا أن الشيخ التقي الورع لم يكن له الدهاء السياسي، وأنه ربما لو لم يتوسط في هذه القضية، لكان لابن غذاهم شأن آخر، وشكراً لكم. * الأستاذ الحبيب الجنحاتي (¬1): في الحقيقة، نظراً لما استمعت إليه، وخاصة في النقاش، حرصت على أن أسهم إسهاماً متواضعاً. وقعت إشارة في كلام الأستاذ محمد مواعدة عن قضية تصنيف فكر الشيخ محمد الخضر حسين ضمن مفهوم الإصلاح. أولاً: من المعروف أن الحركات الإصلاحية التي عرفها المجتمع العربي الإسلامي، وخاصة في منتصف القرن التاسع عشر إلى ما بعد ذلك: أن هذه ¬

_ (¬1) باحث وكاتب وأستاذ في الجامعة التونسية.

الحركات مرت بمراحل وتيارات مختلفة، ويمكن تصنيفها بأكثر من تيار. ثم نجد ضمن التيار الواحد من روّاده خصوصيات، وهذا الرائد ضمن تيار معين يتغير موقفه من هذه القضية، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، ومنها: شخص محمد عبده، كانت له علاقات مع الأفغاني، ثم أصدروا "العروة الوثقى"، ثم اختلف معه في الرأي. بالنسبة للشيخ الخضر حسين، أعتقد -أيضاً- أن فكره الإصلاحي مرَّ بمراحل مختلفة، وليس هنا المجال للحديث عن هذه المراحل، المهم في هذا تفاعله، خاصة وأنه عاش في بيئات ثقافية وسياسية متنوعة، كيف أثرت هذه البيئات في تحوله الفكري الإصلاحي، ومواقفه الإصلاحية والسياسية. مثلاً عندما نأخذ المرحلة السورية، هناك بدأ تيار واضح في قضية العروبة، وموقفه من السلطة العثمانية، ونجده في بعض الأحيان تحدث عن هذه العروبة، هل هو تحوّل؟ ما أريد أن أصل إليه، هو: المهم تنزيل هذه المراحل المختلفة في سياقها التاريخي؛ لأن هناك-أيضاً- فترة مهمة، هي قضية رحلته من إستنبول إلى ألمانيا، وانضمامه إلى حركة أصبحت تظهر الآن حولها الوثائق، وليس فقط مجهود أفراد، وإنما حركة تمثل تياراً يستغل ظروف الحرب العالمية الأولى؛ ليخدم القضايا الوطنية في المغرب العربي والعالم الإسلامي، وهناك علاقته المتينة مع أنور باشا. وأختم بهذه الملاحظة: بأنه إلى جانب الدراسات المعروفة، ولاسيما الدراسات الأخيرة التي خرجت بالألمانية، وبعضٌ منها مذكرات ممن عرفوا بالقرب في برلين الشيخَ الخضر حسين، وليست مذكرات أنور باشا فقط، فهذه

الكتب معروفة نسبياً، الجديد هو الوثائق الألمانية الأصلية الرسمية؛ لأنه من حسن الحظ أن الوثائق الأصلية في برلين، والذين ترددوا على الشيخ الخضر، هذه الوثائق منعتها الحرب الثانية، موجودة، وأهم ما في هذه الوثائق هي: المراسلات من سفير ألمانيا في إستنبول إلى الخارجية الألمانية في برلين، وكثير من هذه الوثائق تحدثت عن هؤلاء الأشخاص، كيف نتعامل معهم؟ ما هي أهدافهم؟ هل هي متناقضة مع مصلحة ألمانيا؟ كل هذه التفاصيل أصبحت- والحمد لله- متوفرة بالنسبة للدارسين في المستقبل لهذه القضية. وشكراً. * الأستاذ محمد قويدري (¬1): شكراً للجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي على دعوتنا للمشاركة في هذه الندوة الهامة، وفي هذا اللقاء. عندي عدة ملاحظات: أولاً: ذكر الأستاذ علي الرضا الحسيني: أن الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله- عندما كان في دمشق، كان له اتصال مع تونس والجزائر. أقول: وكذلك لم ينس الشيخ الخضر الجزائر عندما كان في تونس، فكان له اتصالات وزيارات ورحلات كتبها في مجلة "السعادة العظمى"، فهو قلبه دائماً على تونس، وعلى الجزائر، وعلى الأمة العربية والإسلامية -رحمه الله-. ثانيا: إن والدة الشيخ الخضر حسين السيدة حليمة السعدية هي بنت ¬

_ (¬1) باحث ومستشار في المحكمة العليا بالجزائر.

سيدي مصطفى بن عزوز، وجدته السيدة (للا دخَّة) أخت سيدي مصطفى بن عزوز، والدة سيدي الحسين، وزوجة جده سيدي علي بن عمر؛ أي: إن الشيخ مصطفى خاله وجده من جهة الأم، فجدّه عزوزي، ووالدته عزوزية -رحمه الله-. ثالثاً: أحب أن أقول عن الطريقة الرحمانية: إنها تختلف عن الطرق الأخرى، القادرية والتيجانية يقدمون الرجل، والطريقة الرحمانية يقدمون الرجال والنساء، ومنهن من تولى شيخ الطريقة الرحمانية، وزينب البتول في زاوية الهامل تولت مشيخة الزاوية بعد وفاة والدها، وهي أول شيخة تحكم الزاوية في الجزائر، وسميت البتول؛ لصلاحها وتقواها. رابعاً: إن الشيخ مصطفى بن عزوز دخل تونس سنة 1837، وأقام زاويته الشهيرة بنفطة لنشر الطريقة الرحمانية، ولتكون موئلاً وملجأً للثوار المجاهدين الجزائريين. وقامت هذه الزاوية بتقديم خدمات جليلة في نشر الطريقة والجهاد الوطني. والسلام. * الأستاذ المنجي الشملي (¬1): أتيت إلى هنا؛ تقديراً واعتزازاً بمحمد الخضر حسين، وتقديراً لأهل "نفطة"، والجزائر، والعرب جميعاً. القضية، هي قضية شخصية العلامة محمد الخضر حسين، ولكن كنت أود في التدخل بالمرحلة التونسية، لكن لماذا ترك تونس؟ يجب أن نحلّل، لِمَ؟ ¬

_ (¬1) أستاذ في الجامعة التونسية، وباحث ومحقق.

عندما غادر الشيخ الخضر حسين تونس كان محروماً مقهوراً، هي قضيته، لما تقدم وشارك في امتحان الطبقة الأولى في الزيتونة، ولم ينصف؟ ثم مسألة أخرى وأخيرة، هي المرحلة الألمانية، وبعد صدور الوثائق الألمانية يجب أن ندرسها درسا هادئاً وموضوعياً. وشكراً. * الأستاذ أنور بن خليفة (¬1): لقد بحثت في تفسير الإمام محمد الخضر حسين للقرآن الكريم، وأعتبره في نهاية البحث شيخي وإمامي ووالدي؛ لأني صراحة عشت معه مرحلة طويلة جعلتني وإياه في روح واحدة. سؤالي موجه إلى الأستاذ محمد مواعدة: في خدمة هذه الشخصية العظيمة غيّبت بكتابك موضوعاً هاماً، وهو تفسيره للقرآن الكريم برغم أهمية هذا الموضوع؟ * الأستاذ شمام: لست مؤرخاً، وإنما أهتم بحضارتنا، عندما استمعت إلى ما قيل حول شخصية الشيخ الخضر، تبادر إلى ذهني شخصية أخرى تشترك مع الشيخ الخضر حسين في اهتماماته وجذوره، أعني بذلك: شخصية اهتمت بالإصلاح والسياسة، وعانت كذلك من المطاردة والنفي. لماذا لم نذكر هذه الشخصية؟ وهو عبد العزيز الثعالبي. سؤالي هو الآتي: هل للشيخ الخضر علاقة بهذه الشخصية، هل كانا يتصلان ببعضهما في الخارج والداخل؟ والسلام. ¬

_ (¬1) أستاذ في معاهد الجامعة الزيتونة، وباحث ومحقق.

* مداخلات أخرى من الحضور: - عندي اقتراح، هذا الاقتراح يتعلق بحياة الشيخ، وباعتبار أن حياته مليئة بالأحداث، وأن لنا دراسات مستفيضة عن فكره ونضاله السياسي، لماذا لا تكون هذه الدراسات ضمن إنتاج تلفزي كما هو الحال في الشرق يكرمون علماءهم؟ - المداخلات التي تمت وتناولت هذه الشخصية الجديرة بالاهتمام، مداخلات جيدة بالنسبة لما ذكره الأستاذ علي الرّضا الحسيني، ما هي الأسباب الوجيهة التي أدت إلى محاكمة الشيخ أمام المحكمة العرفية بدمشق أيام جمال باشا؟ - وغيرها من المداخلات التي تتضمنها إجابة المحاضرين عليها. * تعقيب المحاضر الأستاذ محمد مواعدة: أيها الإخوة والأخوات! جواباً على الأسئلة والتساؤلات التي طرحت: - حقيقة هذه الجلسة اليوم هي بداية الجلسات العلمية، أعطت الندوة البعد الحقيقي العميق. نقول بكل صراحة: في بعض الندوات، تقع الجلسة الافتتاحية فقط، بعد الافتتاح تنطلق الأمور عادية، ولكن هذه الندوة أخذت أبعاداً علمية جادة بفضل الأساتذة والمحاضرين والمشاركين الذين أبدوا اهتماماً خاصاً بهذه الشخصية، شخصية محمد الخضر حسين بكافة وجوهها الإصلاحية والأدبية والنضالية. - أقول بصراحة -أيضاً-: إنه ترددنا كثيراً في مكان تنظيم الندوة،

في تونس العاصمة، أم في نفطة؟ ولكن جميع الأساتذة والمهتمين بهذا العلامة كدوا أن تنعقد في "نفطقة"، والإخوة في (الجمعية التونسية للبحوث والدراسات حول التراث الفكري التونسي) قالوا: لابدَّ أن تنعقد في "نفطقة" لسبب أساسي، هو: أهمية تنظيم هذه الندوة من حيث الهوية الوطنية الحضارية، برغم أنه كان هناك اتجاه أن تنعقد في تونس. هذه الشخصيات الهامة هي ركائز موجودة في مكان ما، ولكل بلد له وضعه ومكانته: ابن الشباط في "توزر"، الحبيب بورقيبة في "المنستير"، وغيرهم. هذه الشخصيات هي ركائز حضارية تؤكد تثبيت الهوية الوطنية في الأماكن التي ولدت فيها. - بالنسبة للمرحلة التركية، والمرحلة الألمانية للشيخ. أنا قلت في كتابي ملاحظة إن هذه الشخصية لها جوانب متعددة تستحق الدرس والتحليل، وفي الطبعة الأولى لكتابي أشرت إلى العديد من الأمور التي تحتاج إلى بحث واستقصاء توضيح. وهناك مساعٍ جادة للتوصل إلى وثائق الخارجية الألمانية والتركية، ووزارة الحرب التركية والألمانية؛ للتمكن منها، وسأتناول في الطبعة الثانية من كتابي هاتين المسألتين الهامتين، وهما مرحلتان سياسيتان، بالإضافة إلى العديد من الأسئلة التي مازالت تطرح في سيرة الرجل، وتحتاج إلى جواب. - بخصوص وساطة الشيخ مصطفى بن عزوز بين الباي وابن غذاهم، فإن الشيخ تدخل بصفة دينية وعلمية، وبالإضافة لذلك: مكانته لدى السلطة الحاكمة في عهده، وخاصة لدى الباي محمد الصادق، ولولا ما كان يتمتع به

شيخ الطريقة الرحمانية من تقدير وإكبار من قبل الجانبين المتنازعين، لما نجحت هذه الوساطة، أما ما نتج عن هذه الوساطة، فالواقع يحتاج الموضوع إلى التوسع في البحث والدراسة لنصل إلى الحقيقة، هذا يحتاج إلى ندوة في المستقبل. - رداً على الأستاذ ابن خليفة، فإن كتابى قد استوفى كل ناحية من حياة الشيخ الخضر، وإذا قرأ كتابي بإمعان، فسيجد أني أوليت مكانة القرآن الكريم في حياة الشيخ مكانها الأول، وقد أبرزت في الكتاب البيئةَ التي عاش خلالها الشيخ في نفطة، وقلت: إن عدداً كبيراً من الجوامع والمساجد يتجاوز الأربعين كانت كلها مواطن عِلْم يتلى فيها كتاب الله، وتلقى فيها دروس الفقه والحديث واللغة والأدب. وقلت بشكل واضح: إن الشيخ محمد الخضر حسين تربى في هذه البيئة العلمية الثقافية، وما يحيط بها من ورع ديني، وحفظ القرآن الكريم على مؤدبه الخاص الشيخ عبد الحفيظ اللموشي. ثم إن الشيخ الخضر هو ابن زاوية عاش فيها، وتعلم في صغره العلوم الدينية واللغوية، بما في ذلك تفسير القرآن الكريم، وهذا واضح في كتابي. - إن هذه الندوة ستتبعها ندوات، وستتناول بشكل دقيق كل المواضيع التي طرحها الإخوة المتداخلون، والجواب على كافة التساؤلات التي مازالت حتى اليوم على الألسنة. وهذه الندوة لا يمكن أن تلمّ بكل ما يتعلق بشخصية متعددة المواهب والكفاءات، مثل شخصية الشيخ محمد الخضر حسين، والندوات القادمة

سوف تبين كل ما يمكن السؤال عنه. - بالنسبة للعلاقة بين الشيخ الخضر حسين والشيخ الثعالبي لم تكن قائمة، هذا باختصار شديد، وهذه معلوماتي الخاصة، وهذه قضية تحتاج إلى بيانها، والأسباب التي كانت في تلك الفترة، والتي أدت إلى هذا الأمر. - لماذا غادر الشيخ محمد الخضر حسين تونس؟ هذه الأسباب أوضحتها في كتابي "محمد الخضر حسين حياته وآثاره"، وفي الطبعة الجديدة ساتناولها بتفاصيل أكثر. هناك ثلاثة أسباب أساسية: السبب الأول: هي الطريقة التي عومل بها الشيخ من قبل علماء الزيتونة عندما تقدم للمناظرة للطبقة الأولى من المدرسين ... هذه القضية طرحتها مع الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وقال لي: إن الشيخ الخضر لم يجد حقه. والسبب الثاني: القضية السياسية. والسبب الثالث: وجود عائلته بدمشق؛ لأنه ذهب إلى دمشق مرتين، ذهب في المرة الأولى برحلة إلى بلاد الشام كما يقول الشيخ: "إن الباعث هو زيارة الأهل وفاء بحق صلة الرحم" في جويلية 1912 م، ثم عاد إلى تونس يوم 24 نوفمبر 1912 م، ومن ثم قرر العودة إلى الشرق، والاستقرار مع إخوته بدمشق، ورأى: "أن القيام بحق الاسلام يستدير مجالاً واسعاً، وسماء صافية"، وتم ذلك خلال شهر ديسمبر 1912 م. - بخصوص البحوث والدراسات حول الشيخ محمد الخضر حسين، هناك عدة دراسات حوله، وهناك في الجامعة التونسية توجهات حول هذا

الموضوع، بعد أن توفرت مؤلفاته التي كانت نادرة، ونامل المزيد من دراسة هذه الشخصية وتحليلها والتعريف بها، والاستفادة من آرائها في كافة المجالات العلمية التي يتناولها الشيخ. - إن هذه الندوة ليست للتعريف فقط بالشيخ، إنما هي للدراسة والتحليل، والبحث في علومه وآثاره، إن هذه الشخصية عظيمة، صامدة، لها أبعاد متعددة، وكما قلت في كتابي: هو الرجل العالم، والأديب، واللغوي، والمصلح، والسياسي، ومع ذلك عندما ستعقد الندوات عن الشيخ الخضر مستقبلاً ستتناول هذه الشخصية وفق تلك الصفات. وشكراً. * تعقيب المحاضر علي الرضا الحسيني: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هناك نقاط هامة تساءل عنها المتداخلون والحضور الكرام، أحببت أن أوضحها باختصار: - أرى أنه من الواجب تجاه الشيخ الإمام محمد الخضر حسين أن لا نفسر أمراً من أموره بأكثر مما يستحق من التفسير؛ لأن تفسير الأمر يتعلق حسب زمانه ومكانه، والشيخ في حياته المباركة من "نفطة" إلى مشيخة الأزهر في القاهرة لم يكن غامضاً، ولم يكن ذا وجهين، ولم يكن في السر ما لم يكن في العلن، فإن صلته بالله -سبحانه وتعالى-، وإيمانه القوي برسالة الإسلام، فتح له الطريق واضحة لا عوج فيها، على هذا المبدأ يجب أن نفهم الشيخ، ونقرأه، وندرسه، ونحلله. - لماذا لم يتعامل مع المجاهدين العظيمين: إسماعيل الصفايحي، وصالح الشريف بدمشق؟

سبق وأن قلت: إنه لاشك ولا ريب عند كل منصف: أن الإمام محمد الخضر حسين، والمجاهد الشيخ صالح الشريف، والعلامة المناضل الشيخ إسماعيل الصفايحي، هؤلاء الأبطال الثلاثة تونسيو الولادة، زيتونيون تعلماً وثقافة، إسلاميون نضالاً وفكراً ودعوة. لم يجتمع الإمام الخضر حسين بالشيخين في دمشق؛ لأن الشيخ الخضر قدم دمشق سنة 1912 م، وقد سبقه الشيخان بمدة، فالشيخ صالح الشريف غادر تونس 1906 م، وعاش مدة ستتين في دمشق، وكان له شأن عظيم لا مجال لذكره في هذه العجالة، ثم سافر إلى تركيا، أما الشيخ إسماعيل الصفايحي، فقد توجه إلى الشرق سنة (1324 هـ - 1906 م)، وأقام مدة قصيرة في دمشق، وانتقل إلى تركيا. فالشيخان سبقا الشيخ الخضر إلى دمشق، وغادراها قبل قدومه، وهذا سبب عدم تعامله معهما في دمشق، وكان تعامله ولقاؤه بهما لأول مرة في إستنبول سنة 1915، أو 1916 م) ثم كان كفاحهم المشهود له في برلين. وهذا يحتاج إلى متسع من الوقت للإفاضة، وما أكثرَ ما في الجعبة من تلك المشاهد الرائعة! - لماذا لم يحارب الشيخ الخضر الاستعمار الفرنسي الذي فرَّ منه في تونس، لماذا لم يحاربه بدمشق؟ إن حياة الشيخ الخضر -منذ مغادرته تونس وحتى آخر حياته الشريفة- كلها نضال وكفاح، ولتونس القسم الأكبر من هذا النشاط. لقد حارب الشيخ الخضر فرنسا في كافة الميادين، بدمشق، وألمانيا، ومصر. وبالرجوع إلى نشاطه في برلين، وقيامه بتحريض الجنود المغاربة

في الجيش الفرنسي للفرار من الجبهة الألمانية - الفرنسية، وانضمامهم إلى جيش وطني يعمل على تحرير تونس والمغرب من الاحتلال الفرنسي الغاشم. وما حكمُ الإعدام الذي أصدرته فرنسا، ومصادرةُ أملاكه إلا الدليل القوي على أثر محاربته ونضاله ضد فرنسا عند المحتل الفرنسي. وآمل من السائل أن يرجع بإمعان إلى تاريخ الشيخ؛ ليجد الجواب الكافي والشافي. - لماذا اتصل بالتونسيين، ولم يتصل بالجزائريين؟ لا أدري ماذا يقصد الأخ السائل؟ هل يقصد اتصاله بالتونسيين والجزائريين في دمشق؟ أم مراسلة بعض التونسيين والجزائريين من دمشق؟ للشيخ اتصالات واسعة بدمشق مع كل من أبناء تونس والجزائر، ولمزيد من الإيضاح هنا أشير أن أبناء المغرب العربي من المغرب إلى الجزائر وتونس وليبيا هم في عرف السوريين مغاربة، لا فرق بين هذا وذلك -أقول هذا بصدق لا عن عاطفة-، وكان اتصاله بهم مستمراً ومتيناً، حتى إن حي المغاربة في مدينة دمشق، وفي منطقة تسمى: "السويقة" حي كبير يضم كافة أبناء المغرب دون تفريق. أما مراسلاته من دمشق مع المغاربة، فلاشك أنها كانت قائمة، ولا ندري حجمها، أما مراسلاته خاصة مع التونسيين، فقد اتصل بشخصين -حسب ما وقع تحت يدي من رسائله- هما: الشيخ محمد الطاهر بن عاشور الصديق والأخ الوفي، والشيخ محمد الصادق النيفر، برسائل عاطفية، ولم يتدخل فيهما بالسياسة. إن المهام العظام التي يحمل الشيخ رسالتها لم تسمح له بالمراسلات الكثيرة التي لا طائل منها إلا بث الشوق. فقد كان الشيخ وقتُه مليئاً بالأعمال،

وحتى الشيخ محيي الدين القليبي -رحمه الله- يتحدث عن يوم في حياة الشيخ، إذا قرأناه، نستغرب هذه الطاقة الإيمانية عند الشيخ، فهو يخرج من داره بعد صلاة الفجر ... وتبدأ أعماله، ولا أريد أن أطيل هنا، ولعلها في مناسبات أخرى. - يسأل الأستاذ عن الصلة بين الشيخ الخضر حسين والشيخ الثعالبي، وهل كانا يتصلان بالداخل والخارج؟ لم تكن هناك علاقة قائمة بين الشيخين، أما عن الأسباب، فالله أعلم بذلك، إلا أنني لم أجد في كافة كتبه وأوراقه الخاصة التي حصلتُ عليها كلمةً واحدة عن الشيخ الثعالبي، ومن طبيعة الشيخ الخضر لا يرغب في عمل حزازات شخصية مع أي شخص كان، أما إذا كان الأمر يتعلق بعظمة الإسلام -كالرد على طه حسين، وعلي عبد الرازق وغيرهما-، فلن يقف صامتاً، بل يغضب لله، ويقول حقاً. - لم تقم أية صلة بينه وبين الشيخ محمد عبده، ولا علم لي بالسبب، ولم أجد في أوراقه وكتبه ما يتعلق بهذا الأمر. - الشيخ الخضر من دعاة الوحدة الإسلامية، وله في هذا الميدان بحوث ومقالات عديدة، وقد انتقد رجال الخلافة الإسلامية؛ لما شاهده من ضعف ووهن في نظامها، ولكنه كان من دعاة التقاء المسلمين ووحدتهم؛ لما في ذلك من قوة للإسلام. - دعوته إلى الإصلاح من أولى مبادئه وعقيدته، وإن مؤلفاته مليئة بالبحوث التي تدعو إلى الاصلاح في كافة ميادين الحياة، الدينية والاجتماعية والأدبية، وأول كتاب نشر في تونس: "الدعوة إلى الإصلاح"، وهو - على

صغر حجمه - يمثل مدرسة في الإصلاح، وفي القاهرة أصدر كتابه: "رسائل الإصلاح". إن مواضيع الإصلاح واضحة في مؤلفاته، ولا تحتاج إلى عناء للوصول إليها. - لماذا ترك تونس؟ سؤال يتناقله الكثير من الباحثين، ويفردون له التحاليل والظنون، وأنا أرى من خلال دراستي لحياة الشيخ، وطموحه في خدمة الإسلام: أنه ليس هناك غرابة، صحيح أن ما ناله من شيوخ الزيتونة من أذى، هذا سبب، ولا أعتقد أنه السبب الأهم؛ لأن الشيخ فوق هذا التفكير. ولعل السبب المهم في الدرجة الأولى: رغبته في الانتقال إلى ميدان أوسع للنضال والكفاح، والإصلاح والعمل السياسي، فأتى إلى سورية، ووجد فيها مبتغاه، يضاف إلى هذين السببين: وجود عائلته في دمشق. - أما اعتقاله في دمشق في عهد جمال باشا؟ من سجل الإمام المتعلق بجهاده الإسلامي اعتقاله في دمشق في (شهر رمضان 1334 هـ - 15 أوت 1916 م) لمدة ستة أشهر وعشرة أيام، وجرت محاكمته أمام المجلس العرفي العسكري، وطلب المدعي العام عقوية الإعدام، والتهمة: أنه حضر في مجلس خاض فيه أحدُ المحامين اللبنانيين في سياسة الدولة، وسعى إلى تأسيس جمعية تدعو إلى الانفصال عن الدولة العثمانية، وقد استفتي الشيخ في هذا، ورأت إدارة البوليس أنه مسؤول عن عدم إبلاغ الحكومة في حينه، وحكم المجلس العرفي بالبراءة. ومن رفاقه في السجن: شكري القوتلي الذي شغل منصب رئيس الجمهورية السورية، وفارس الخوري

رئيس وزرائها، وسعدي بك الملا الذي أصبح رئيسا للوزارة اللبنانية، فكان اعتقال الشيخ سياسيا، وقضت المحكمة ببراءته. - أقول في الختام: إن كثيراً من مراحل حياة ومؤلفات وأفكار الشيخ الخضر حسين تحتاج إلى مزيد من الدرس والتحقيق، ولعل الندوات القادمة تنجز هذه الآمال في هذه الشخصية الإسلامية العالمية، والسلام عليكم.

الفكر الإصلاحي ومشاريع التحديث

محاضرات الندوة الفكر الإصلاحي ومشاريع التحديث (¬1) أيها الزملاء والأصدقاء! أشكر في البداية المشرفين على تنظيم هذه الندوة، وأشكر الإخوة في (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي). الدعوة الكريمة للمشاركة في هذه الندوة قد مكنتني من التعرف إلى جوانب جديدة من شخصية محمد الخضر حسين، وهذه الجوانب ذاتها لها علاقة بالفكر الإصلاحي في المجتمع العربي الإسلامي بالمرحلة الحديثة بصفة عامة. واسمحوا لي -قبل الحديث عن الفكر الإصلاحي ومشروعات التحديث- أن أبدأ بنقطة تمهيدية. من حسن الحظ أن مرحلة تراكم الدراسات والبحوث حققت في السنوات الأخيرة في تونس وفي خارجها تقدماً كبيراً، تراكم البحوث والدراسات حول الفكر الإصلاحي بصفة عامة، والفكر الإصلاحي في تونس. وقد أُنجزت -عملياً- عن الفكر الإصلاحي التونسي في مراحل مختلفة ¬

_ (¬1) محاضرة الأستاذ الحبيب الجنحاني، كاتب وباحث وأستاذ في الجامعة التونسية، ألقاها ارتجالاً مستعيناً بأوراق دوّن بها ملاحظاته حول الموضوع.

رسائل جيدة في الحقيقة، البعض منها طبع، وعرفناه، والبعض الآخر بصدد النشر بحول الله. هذه البحوث الجديدة أضواء جديدة عن شخصيات رواد الإصلاح وعن فكرهم، كما أنه توجد وثائق عرفت في الأعوام الأخيرة فقط، وهنا أذكر مثالاً، وهو: مثال الشخصية المحتفى بها، والتي عقدت هذه الندوة الأولى لدراستها، وأعني: الشيخ الخضر حسين. إلى جانب النصوص الأصلية، وهي الأساس، وهي المنطلق، النصوص التي رعاها الأستاذ علي الرّضا الحسيني مشكوراً بنشرها وتوزيعها، هناك نصوص أخرى تعتبر جديدة، اطلعت على بعضها في بعض الرسائل التي كتبها باحثون ألمان باللغة الألمانية، هذه البحوث تناولت شخصيات متعددة من رواد الحركة الإصلاحية التي عرفتها نصوص الثلث الأول من بداية القرن العشرين، ومنهم: شخصية الشيخ الخضر الحسين. واعتمدت على مجموعة من مذكرات أشخاص عرفوا مباشرة الشيخ الخضر حسين، منهم: مذكرات أنور باشا، وشكيب أرسلان، ومحمد فريد، ومذكرات بعض الألمان الذين عاشوا -أيضاً- تلك الفترة، ونشروا مذكراتهم بالألمانية، وفيها -أيضاً- إشارة إلى هؤلاء الرواد. هذا ذكرته كمثال عن المراجع والمصادر والنصوص الجديدة. وإني أستطيع أن أقول: إن المدونة حول هذه الشخصية التي وقع إثراؤها والإضافة إليها في جوانب مختلفة، سواء كانت رسائل جامعية، أو مذكرات، ولكن أبرز هذه النصوص التي كانت غير معروفة تماماً، ولا أدري بالضبط هل لم يكشف عنها من قبل؛ لأنه في الوثائق الرسمية يسمح بالاطلاع عليها

بعد مرور فترة زمنية معينة. أبرز هذه النصوص هي وثائق وزارة الخارجية الألمانية خلال الحرب العالمية الأولى، هذه مهمة جداً؛ لأنها تتضمن نشاط التعريف بهؤلاء الأشخاص وغيرهم، ونظرة الألمان لهؤلاء، والحديث مع هؤلاء الساسة. واْبرز هذه النصوص هي مراسلات السفير الألماني في إستنبول إلى وزارة الخارجية، أو مراسلات وزارة الخارجية الألمانية إلى سفيرها في إستنبول؛ لأخذ معلومات عن هؤلاء الرواد الذين اتصلوا بها، أو وصلوا إلى ألمانيا خلالها، ومجموعة أساسية من هؤلاء الرواد الذين كانوا موجودين، وقاموا بأعمال في ألمانيا، أو في سويسرا، ثم انتقلوا إلى ألمانيا، أبرز مجموعة من العربي الإسلامي هي المجموعة التونسية. إذن، نذكر بسرعة بعض الأسماء؛ كصالح الشريف، وإسماعيل الصفايحي، والشيخ محمد الخضر حسين، ومحمد باش حانبة، هؤلاء بالأساس، وهناك أسماء في درجة ثانية. البعض منهم كانوا ضباطاً في الجيش الفرنسي، ووقع الاتصال بهم في نطاق الهدف الذي سعوا لتحقيقه من خلال تعاونهم مع ألمانيا في تلك الفترة. في هذه الملاحظة التي ذكرتها هنا، من الأشياء الجديدة التي لا نعرفها، كشفت عنها الوثائق، هو انتساب هؤلاء أو البعض منهم؛ كالشيخ الخضر إلى تنظيم كان يشرف عليه أنور باشا بالصيغة التركية، وباسم رسمي (تشكيلات مخصوصة) في المراجع الأجنبية يذكرونها بهذه الصفة. هذه الملاحظة التركية أختمها بملاحظة:

بعد أن توفرت هذه المدونة بأصنافها المتنوعة: رسائل جامعية، ومذكرات، وسائر الدراسات، هذه المدونة توفرت، ووقع إثراؤها خلال عشرين سنة الماضية، الآن المرحلة القادمة، وأعتقد أنه ضمن المرحلة القادمة تندرج الدراسات المستقبلية عن العلامة الشيخ محمد الخضر حسين. المرحلة القادمة هي القراءة الجديدة لهذه المدونة في ضوء مناهج البحث الجديدة، التي وصلت إليها - هذه المناهج الجديدة لدراسة القضايا الاجتماعية والفكرية. اسمحوا لي أني توقفت عند هذه الملاحظة، ربما تساعد بعض الباحثين الجدد الذين يهتمون بهذه الجوانب. أصل الآن إلى موضوع الفكر الإصلاحي، وعلاقته بمشروعات التحديث في المجتمع العربي الإسلامي، ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر إلى ما بعد ذلك، إلى المرحلة التي عاشها وناضل من خلالها المرحوم محمد الخضر حسين. من أبرز دراسة ملامح هذا الفكر الإصلاحي عادة، إلى جانب النصوص، وإلى جانب الصحافة من المراجع التي عدتُ إليها هي: رحلات هؤلاء الروّاد، رحلاتهم إلى أوروبا، يكتشف المرء -في نظري- في النهاية بعد دراستي لنصوص هذه الرحلات، يشعر أو يلمس في يسر هذه الرحلات، كتبوا هذه الرحلات وهم هادفون، كتبوها عن وعي، ليست مجرد تسجيل رحلات. نأخذ -مثلاً- رحلة الطهطاوي "تخليص الابريز" في رحلته إلى باريز، أو "أقوم المسالك" لخير الدين، أو ما كتبه الشيخ أحمد بن أبي ضياف في رحلته مع أحمد باي إلى فرنسا سنة 1846 م، أو فارس شدياق في كتابه

"المخبى"، أو بيرم الخامس، أو محمد السنوسي، إلى آخر هؤلاء. هؤلاء من كبار الرواد في الفكر الإصلاحي العربي والإسلامي. تشعر - في النهاية- أنهم كتبوا ذلك عن هدف، وأرادوا من خلال الرحلة، ومن نصوص الرحلة أن ينقلوا إلى مجتمعاتهم وإلى شعوبهم صورة التقدم في أورويا، فليس من الصدفة أن يتحدثوا عن الدساتير، وعن أنواع السلطة، وعن عمل البرلمان، وكيف أن البرلمان في فرنسا -مثلاً-، أو في أوربا يقوم بعملية المحاسبة، ويستعمل المفهوم التقليدي الحسبة، وكيف أنهم يستطيعون أن يحاسبوا الحكومة، ويسحبوا منها الثقة، كل هذه القضايا للفت النظر إليها في بلدانهم وفي شعوبهم، ثم إلى جانب ذلك هناك جوانب أخرى في الحقيقة، وبكل وضوح، أبرز هذه الأفكار الإصلاحية لم يعالجوها مباشرة، وإنما تحدثوا عنها هادفين. لما نريد أن نحوصل ونلخص أبرز هذه التيارات. أنا عادة أصنفها إلى ثلاثة تيارات: التيار الأول: هو التيار الذي يهدف إلى تجديد الفكر الديني، وإلى نشر التعليم والتربية؛ باعتبار أن نشر التعليم والتربية هو خطوة أساسية أولى في نشر الوعي والتقدم، والخروج من التخلف بصفة عامة. وهنا تندرج مساعي محمد الخضر حسين، وصديقه الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ضمن هذا التيار. وكذا ألمحتُ أمسِ بسرعة، نجد أن التيار الواحد الكبير نجد ملامح مختلفة؛ لأن أحد المصلحين -مثلاً- هو نفسه مرَّ من مرحلة إلى مرحلة ثانية. وهذا معروف في التاريخ، الشيخ محمد عبده في المرحلة الأولى كان

ينتسب إلى التيار الذي نتحدث عنه، ولما تخالف مع أستاذه الأفغاني، أصبح ينتسب إلى هذا التيار الأول: نشر التعليم والتربية، وابتعد عن السياسة والعمل السياسي. التيار الثاني: يرى أنه لا يمكن التفكير في التحديث والحداثة والتقدم قبل إنجاز مرحلة الإصلاح السياسي، وقسم من هؤلاء سعى هذا المسعى التحديثي من داخل السلطة. وليس من الصدفة أن أبرز تيارات الفكر الإصلاحي في المجتمع العربي الإسلامي في تلك الفترة انطلقت من عدة مراكز: إستنبول عاصمة الخلافة، ومصر وتونس؛ لأن مشروعات التحديث البارزة في هذه البلدان الثلاثة انطلقت من داخل السلطة: محاولات مدحت باشا بالباب العالي، الطهطاوي وعلاقته مع محمد علي في مصر، ثم خير الدين في تونس. وأبرز نقطة يمكن أن نلمح الآن إليها بسرعة في هذا: الفكرة التحديثية من داخل السلطة. أبرز نقطة -في رأي الشخصي- أن هذه المحاولات الثلاث للإصلاح من داخل السلطة من رجال يباشرون السلطة، الصدر الأعظم أو الوزير الأكبر في تونس، وشخص أكبر من الوزير، في النهاية اكتشفوا أنه لا إمكان لمشاريع تحديثية تقدمية ضمن سلطة استبدادية، وأبرز من تفطن إلى هذا هو خير الدين، ولذا أنا طرحت هذا السؤال وتساءلت في أحد النصوص التي نشرتها: هل كان أنصار الفئة الثانية مدركين أنه لا يمكن أن يتحقق التقدم، وأن تؤتي الإصلاحات التحديثية أُكلها في ظل نظم سلطوية استبدادية، وأن الحل يبدأ بالإصلاح السياسي كما تفطن إلى ذلك خير الدين حكيم السياسة -كما كان يسميه الطهطاوي-؛ لأنه في ممارسة السلطة تفطنوا إلى هذا التناقض الكبير؟ غير أن خير الدين وجد نفسه أن ذلك غير ممكن في ظل السلطة

الاستبدادية سلطة البايات، مدحت باشا مع السلطان عبد الحميد، نفس القصة في مصر مع محمد علي وابنه إبراهيم باشا ... إلى آخره. وهنا نجد صنفاً آخر ضمن هذا التيار الذي ذكر أنه لا يمكن أن يتقدم المجتمع العربي الإسلامي، وأن تتحقق مشاريع التحديث بدون إصلاح سياسي، لكنه كان خارج السلطة؛ بحيث هو يلتقى مع التيار الآخر، ولكن التيار الثاني يقول: يمكن أن يحقق من داخل السلطة، والصنف الآخر يقول: لا يمكن أن يتم ذلك، ومنهم: الأفغاني، وولي الدين يكن، وسليم سركيس، وهؤلاء لقوا عنفاً شديداً، ومتابعة واضطهاداً من طرف السلطة القائمة يومئذ. أصلُ الآن إلى التيار الثالث، وأختم هنا مع ملاحظة أساسية، سواء كانوا أنصار التيار الأول التجديدي الديني البحت، أو التيار الثاني الذي انتبه إلى الإشكالية السياسية وإئما مع الهاجس الكبير أو مشاريع التحديث، الاقتداء بالنموذج الغربي، لكن دوماً مع التوفيق مع الشريعة الإسلامية، يسمونها: الاقتباس والتوفيق مع الشريعة الإسلامية. التيار الثالث يختلف، ولكن هو أبعد من التيارين السابقين، ولكنه يؤمن بضرورة الإصلاح الفكري والسياسي، والإفادة من الجوانب المضيئة المشرقة في التراث العربي الإسلامي في مرحلة معينة. الوضع يقتضي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الإفادة من هذه الجوانب، الجوانب المشرقة المضيئة، ليست القضية شغلهم الشاغل التوفيق مع الشريعة، لا، وهذا التيار فيهم من المسلمين، وفيهم من غير المسلمين. بل بالعكس، إنهم يرون -بعد ذلك- أنه يجب القطيعة مع التراث، من أبرزهم: شبلي شميل، وحنتور. وحنتور يستشهد بابن رشد، ولكن يقول: أرجو أن يأتي يوم وننسى ابن رشد، وهؤلاء

على أساس يصبح التفكير حداثياً بحتاً. وأنا حريص أن أقف عند شخص في خاتمة هذه الكلمة، ولماذا هذا الوقوف؟ لأن هذا الشخص من الجيل الذي سبق الخضر حسين، وتوفي في السنة التي وُلد فيها الخضر حسين، وهو أحمد بن أبي ضياف، هذا الزيتوني المعمم في رحلته التي كتبها، ورافق فيها أحمد باي تفطن -أيضاً-، وهو طبعاً من الزمرة الأولى. خير الدين تفطن -أيضاً- إلى أن مشروعات التحديث، والتي تزعمها صديقه أحمد باي: أنه لا يمكن أن تصل إلى نتائج في ظل سلطة استبدادية، وهي سلطة البايات. فخرج يوماً مع أحمد باي في شارع الشانزليزيه خارج البرنامج الرسمي، وقال له أحمد باي: ما أشوقَني إلى الدخول في تونس من باب عليوه، وأشتم رائحة داخله. فقلت له مداعباً: وأنا أتنفس في هواء الحرية، وأرد من مائها، وأقف على أرضها، قلت له: يحق لك ذلك؛ لأنك إذا دخلت من هذا الباب، تفعل ما تشاء، أما الآن، فأنت واحد من الناس، فقال له: سامحك الله، ولماذا لا تحملني على حب الوطن وأهله، فقلت له: إن هذا البلد يُنسي الوطن، وكما قال الشاعر: ولا عيبَ فيهم غيرَ أن نزيلَهم ... يُعاب بنسيانِ الأحبةِ والأهلِ إذن، أصبحت الحرية التي شاهدها الزيتوني المعمَّم تتجاوز الحدود الجغرافية. اذكر هذا؛ لأنه يندرج ضمن التيار الذي واصله بعد ذلك الشيخ الخضر حسين. ومع الشكر على اجتماعي بكم.

الإصلاح التربوي في فكر الإمام العلامة محمد الخضر حسين

محاضرات الندوة الإصلاح التربوي في فكر الإمام العلامة محمد الخضر حسين (¬1) أيها السيدات والسادة! جاء في مقال الأستاذ محمد مواعدة، الذي صدر بجريدة "الصباح" يوم الأحد في 24 فيفري 2008 م (محمد الخضر حسين شيخ الأزهر السابق): أن هذا العَلَم الإسلامي المتميز كان منشغلاً في الميدان التربوي لإصلاح التعليم الزيتوني منذ حياته الطلابية، وبعد تخرجه من الجامع الأعظم كان من بين شيوخ الزيتونة، وعلمائها العاملين على تطوير التعليم مضموناً ومنهجاً. هذه الإشارات التي أتى بها تدل على المكانة التي حازتها القضية التربوية لدى عالِمنا الشيخ محمد الخضر حسين. ومع ذلك، لا يمكن الادعاء بأنه كان صاحب نظريات، أو صاحب مدرسة في هذا المجال، وإنما نجد في مختلف كتاباته بذوراً للإصلاح التربوي، وخاصة في مجال التعليم؛ لأن التربية لا تقتصر على التعليم فقط. وأفكاره التربوية الإصلاحية مبثوثة هنا وهناك في مؤلفاته ... تارة في شكل فصول كاملة، وطوراً في شكل فقرات تتخلل مشهداً إصلاحياً عاماً. ¬

_ (¬1) مختصر محاضرة الدكتور مصدق الجليدي، باحث في مشاريع الحضارة والتربية، ودكتور في علوم التربية.

وسنعتمد بدراسة الفكر التربوي للشيخ محمد الخضر حسين على المدونة التالية: 1 - "رسائل الإصلاح". 2 - "الدعوة إلى الإصلاح". 3 - "تونس وجامع الزيتونة". 4 - "الرحلات". 5 - مجلة "الهداية الاسلامية" الجزء 10 و 11 من المجلد التاسع، والجزء الثاني من المجلد الثالث عشر. 6 - مجلة "السعادة العظمى" العدد 7. للشيخ محمد الخضر حسين مجالان أساسيان في الإصلاح التربوي، وكلاهما يتبع المجال الديني، وهما: الإصلاح التربوي الأخلاقي، والإصلاح التربوي العقلي. نقد الشيخ محمد الخضر حسين التعليم الديني على عهده تحت عنوان: (عيوب التعليم الديني الحاضر). في نظر الشيخ الخضر، المثالبُ والنقائص التالية في التعليم على عهده بمصر: - وأكتفي بأن أقرأ عناوين هذه النقائص- 1 - ضآلة المحتوى في التعليم الديني. 2 - عدم اعتبار المادة الإسلامية مادة أساسية. 3 - سوء العناية بمادة القرآن الكريم. 4 - عدم الاهتمام بالسيرة النبوية، وبالتاريخ الإسلامي.

5 - الاقتصار بالتعليم الديني على الأحداث دون الكبار. 6 - التساهل مع المقصرين بأداء الواجبات الدينية، والمخالفين لمكارم الأخلاق. 7 - حصر التعليم الديني بالأزهر، وفي المعاهد الدينية. 8 - نقده الطرق البيداغوجية التقليدية المعتمدة على نظام العقوبات البدنية القاسية. وهذه نتوقف عندها قليلاً من خلال ما رواه الشيخ في كتابه "الرحلات" مما شاهده بنفسه عند أحد الشيوخ التقليديين، فيقول: "ذهبت إلى الجامع الأزهر لأذان العصر، وانتدبت للتحية مكاناً بين مجتمعين لتعليم القرآن، فانشق صدري أسفاً لأحد المعلمين، إذ كان لا يضع العصا من يده، ولا يفتر أن يقرع بها جنوب الأطفال وظهورهم بما ملكت يده من قوة. وربما قفز الصبي آبقاً من وجع الضرب الذي لا يستطيع له صبراً، فيثب في أثره بخطوات سريعة، ويجلده بالمقرعة جلداً قاسياً، حتى قلت لأزهري كان بجنبي: من جلس إزاء هذه المزعجات، فقد ظلم نفسه ... وذكرت أني كنت ألقيت خطبة في أدب تعليم الصبيان ببلدة "بنزرت"، حالما كنت قاضياً بها، وأدرجت فيها ما قرره صاحب "المدخل" من الرفق بالصبي، وعدم زيادة المعلم -إن اضطر إلى ضربه- على ثلاثة أسواط، وتحذيره من اتخاذ آلة الضرب؛ مثل: عصا اللوز اليابس والفلقة، ولما خطبت في هذه الآداب، أرسل لي بعض المعلمين كتاباً على طريق البريد يعترض فيه على نشر هذه الآداب، ويقول: إن هذا مما ينبه قلوب التلامذة للجسارة علينا".

مما يدل على انتقاده للقسوة في التعامل مع الصبيان، وهذا من خلقه، وكذلك مما أخذه عن ابن خلدون في "المقدمة". * سبل الإصلاح: يذكر الشيخ محمد الخضر حسين طرقاً خمسة لإصلاح أوضاع التعليم الديني، ففي رأيه: 1 - يحب تقرير التعليم الديني مادة أساسية، شأنه شأن بعض اللغات الأجنبية -على الأقل-. 2 - يجب أن يكون التعليم الديني عاماً يشمل كل دور من أدوار التعليم. 3 - يجب تعديل مناهج التعليم تعديلاً يناسب حال التلاميذ في سنهم وتفكيرهم، وفي نوع دراستهم ومستقبلهم. 4 - يجب أن يكون التعليم عملياً، يحرص على الالتزام بالشعائر الدينية؛ من حيث الأخلاق، والحشمة، وحُسْن الزي، واحترام المعلمين، وغير ذلك. 5 - يجب أن يُعنى بدراسة التاريخ الإسلامي دراسة حية واسعة، تطبع في نفس التلميذ طابعاً لا ينمحي؛ من الاعتزاز بدينه، والاعتداد بأسلافه، والإجلال لأبطال أمته، والطموح إلى ترسم آثار السلف الصالح في التوثب والنهوض، والتشبه بهم في كافة مناحي الحياة الحقة. 6 - وفي كتابه "تونس وجامع الزيتونة" يورد الشيخ الملاحظات والمطالب التالية، وهو الطلب السادس. يقول: من الملاحظ أن ليس في مواد الامتحان علم الحديث والتفسير، مع أنهما يدرسان في المعهد، ونحن نود أن يكون هذا العلمان في أول

ما يجري فيه الامتحان، ولو أفضى الحال إلى مد أجل الدراسة سنتين أو ثلاثة. 7 - وفي ملاحظة سابعة يقول: لو أن المشايخ النظّار يأخذون بطريقة مناقشة الطلاب في درس الامتحان، حتى يتضح مقدار فهم الطالب جلياً، ولتكون هذه المناقشة من دواعي مواظبتهم على الدروس، وإقبالهم على ما يقرر الأستاذ؛ ليكونوا من كل ما يلقيه على بيّنة. كما أنه دعا لتعويد الطلاب على المناقشة والنقد والتمحيص. وفي مجلة "السعادة العظمى" يقول: "لا نريد بكراهة هذه الرأفة المفرطة أن يفتك من الصبي سائر إرادته، ويسلب منه جميع عزائمه، كما يفعل الجاهلون بأساليب الإصلاح والتهذيب، إن ذلك مما يحول بينه وبين عزة النفس، وما يتبعها من قوة الجأش، وأصالة الرأي، والإقدام على إرسال كلمة الحق عندما يقتضيها المقام. لا ريب أن الشيخ محمد الخضر حسين قد أصاب قدراً في مجال الإصلاح التربوي خلال النصف الأول من القرن الماضي، ويظهر ذلك من خلال المعاني التحديثية التي تضمنتها أفكاره وخواطره التربوية. وشكراً.

مجلة "السعادة العظمى" وقضايا الإصلاح

محاضرات الندوة مجلة "السعادة العظمى" وقضايا الإصلاح (¬1) مجلَّة "السعادة العظمى" هي أول مجلَّة عربية في تونس، أسسها الشيخ محمد الخضر حسين في (محرم 1322 هـ / أفريل 1904 م)، وهي (مجلة علمية أدبية إسلامية) تصدر في أول كل نصف شهر، انقطعت في (ذي القعدة 1322 هـ / جانفي 1905 م) بعد أن صدر منها واحد وعشرون عدداً. فما هي ظروف نشأتها؟ وكيف ظهرت فكرة المجلة؟ ولماذا اختير لها هذا الاسْم؟ وما هي الأبواب التي تحتوي عليها؟ وما هي أهدافها؟ وما هو مضمون أبوابها؟. * ظروت نشأة المجلة: يعود اهتمام التونسيين بالصحافة إلى بداية الحركة الإصلاحية، ومنذ احتكاكهم بالغرب؛ إذ أنهم أدركوا قيمتها، ودورها في التربية والرفع من مستوى الشعب وتوعيته. وقد أعجب خير الدين بالطباعة والصحافة في البلدان الأورويية، وكان سياسياً واعياً لرسالة النشر والصحافة، وتأثيرهما في حركة النهضة، لذلك ¬

_ (¬1) محاضرة الأستاذة نجاة الحامي بو ملآلة - باحثة.

شجَّع الطباعة، واهتم بالصحافة، واعتنى شخصياً بجريدة "الرائد التونسي"، فوجَّهَ مقالتها، وأشرف على سياستها، وتعتبر هذه الجريدة من أقدم الصحف في تاريخ الصحافة العربية على الإطلاق. وقد عدَّت حركة الطباعة وميلاد الصحافة التونسية من أبرز معالم النهضة الثقافية في عهد خير الدين، وكان لهما تأثير قوي في الحركة الأدبية وتجديد اللغة، ولكن برغم هذا الوعي بدور الصحافة، فإننا نجد عدد الصحف محدوداً، فلعل تطبيق قانون الضمان المالي للصحافة الصادر في 14 أكتوبر 1884 م كان أكبرَ عائق أمام انتشار الصحف بالبلاد، ودفع التونسيين إلى التلهف على الصحف، والدوريات الواردة من الخارج، ولاسيما من الشرق. وهذا ما يفسر استبشارهم بمجلة "العروة الوثقى"، والالتفاف حولها؛ لأنها لسان الأمة الإسلامية جمعاء، وإن تقريظ الشيخ محمد السنوسي لهذه المجلة لأكبر شاهد. وكلما تقدمنا خطوة في تاريخ الإصلاح بتونس، تبين لنا الدور الأساسي الذي تقوم به الصحف فيها، فجريده "الحاضرة" كانت محور الحركة الإصلاحية، وجريدة "الزهرة" لسان القوى الوطنية. ويقوى اهتمام النخبة الإصلاحية بالصحافة خاصة بعد صدور مجلة "المنار" المصرية التي عرفت انتشاراً كبيراً في البلاد التونسية، تحدث عنه رشيد رضا نفسه: "وجاءنا من تونس أن الجزء الواحد من المنار يدار على العشرات من الناس". وفي سنة 1901 م أصدر الشيخ عبد العزيز الثعالبي جريدة سمّاها: "سبيل الرشاد"، جاءت لتدعم الحركة الإصلاحية، وتقوي صفوف المجددين، وبرغم أنها لم تعمر طويلاً، فإن صاحبها كان داعية إلى التطور والحرية،

ومروِّجاً لأفكار الأفغاني، وعبده، والكواكبي. وبصدور قانون جديد للصحافة يخفف من قيودها، ويرفع عنها الضمان المالي، زادت روح النهضة اتقاداً، وانتشرت دعوتها، وكثرت صحفها مناصرة الفكرة الإصلاحية، ومنوّهة بمجلة "المنار" ومقالاتها التي تقاوم الأولياء وزيارة القبور، وتثير مسائل كلامية، ومسائل فقهية. فأصبح الخطر يهدد المحافظين والمناهضين لحركة الإصلاح، سيما وأنهم لا يملكون وسيلة ناجعة تربطهم بالناس، وتوضح مواقفهم؛ لأن الصحافة كانت كلها بأيدي المجددين، وقد قَوَّت الضجّة التي قامت حول مسألة الفتوى الترنسفالية سنة 1903 حاجةُ هذه المجموعةِ المحافظةِ إلى عالم شهير يقود حركتهم، كما يفعل الشيخ سالم بو حاجب مع الإصلاحيين، ولسان نشر يعرف بمواقفهم وآرائهم يقابل مجلة "المنار". وكان الشيخ محمد النجار المفتي المالكي معروفاً بغزارة علمه، وسعة اطلاعه، ورده على المسائل الدينية التي تتناولها مجلة "المنار"، فالتف حوله المحافظون، ووفروا بذلك العنصر الأول من حاجتهم، أما العنصر الثاني، فقد توفر لهم بصدور مجلة "السعادة العظمى" التي أسسها الشيخ محمد الخضر حسين سنة 1904 م، الذي كان يتحين الفرص لتحرير مجلة يساير بها أبناء نشأته، ويؤدي بها واجبه نحو دينه. وقد قال "وكثيراً ما ترصدنا فترة من العوائق لمسايرتهم بتحرير مجلة علمية أدبية توفية ببعض حقوق دينية، ولم تهب رياح القدر مسعفة بفصالها، إلا في هذا الإبان". إذاً، رغبة شخصية نابعة من اقتناع بقيمة الصحافة، ودورها في الإرشاد وترقية الأمة، وهذا ما يثبته اختيار محمد الخضر حسين للمقال الذي صدر

في جريدة "اللواء" بعنوان: "رأي الشرع في الصحافة" ونشره في العدد الثاني عشر من مجلة "السعادة العظمى" نشًّطتها رغبةُ جماعة المحافظين في إيجاد وسيلة نشر تدعم مركزهم في المجتمع، وتثبت شخصيتهم وقدرتهم على المساهمة في إثراء الأفكار ونقدها، وإبداء الآراء في المسائل الدينية والعلمية والاجتماعية، وتخرجهم من طور استهلاك ما يفد من الشرق، إلى طور الفعل والعطاء. تفاعل هذا العاملان: الحاجة الشخصية، والحاجة الجماعية، فأنتجا مجلة "السعادة العظمى". ولكن نتساءل هنا عن سبب اختيار مجلة، وليس جريدة؟ ولماذا وقع اختيار هذا الاسم "السعادة العظمى"؟. * فكرة المجلة، وسبب اختيار هذا الاسم: مجلة "السعادة العظمى" هي أول مجلة عربية في تونس؛ إذ كان النشر مقصوراً على الجرائد. وتعريف المجلة في القاموس هي: "الصحيفة فيها الحكمة - الكراسة، وخصت الآن بالجريدة التي على شكل كراس". وهذا التعريف نفسه يورده الشيخ محمد الخضر حسين عندما يسأله أحد الفضلاء بالجزائر العاصمة عن معنى مجلة، فيقول: وَصحبنا أحد الفضلاء، فذُكر لفظ (مجلة)، فاسْتنبأنا عن معناه لغة، فسقنا إليه عبارة القاموس: "مجلَّة -بالفتح-: الصحيفة فيها الحكمة، أو كل كتاب". ويعرفها المقال المنقول عن "اللواء" في مجلة "السعادة العظمى": "إن حرفة الصحافة قسمان: قسم يبحث فيه عن علوم مخصوصة للإرشاد عما

تبحث فيه؛ كالمجلات الغير اليومية، وهذه شرفها بمقدار شرف ما تبحث فيه، وهي صحافة جليلة"، وبما أن هدف المجموعة التي كانت وراء تأسيس هذه المجلة مناقشة المباحث الدينية والمسائل العلمية، وإرشادُ الأمة إلى ما تراه صالحاً عن طريق الحكمة، فإن الجريدة لا تفي بحاجتهم، لذلك ظهرت فكرة المجلة. كما أن حرص العلماء على محاكاة مصر في وسائل نهضتها، ورغبتهم في تأسيس مجلة تقابل مجلة "المنار"، وترد عليها، جعلهم يفضلون المجلة عن الجريدة. أمّا تسميتها: "السعادة العظمى"، فإن صاحب المجلة يرمز به إلى أن هذه المجلة تعين الأمة على تحقيق السعادة العظمى؛ بما تحويه من حكم، وما تتناوله من مواضيع، وما توضحه من مسائل، وما تبذله في سبيل الدين من جهد؛ لتقريبه إلى الأذهان، وشرح حقائقه، وتصفيته من الشوائب، وما تعدده من سبل الرقي والتمدن، فجاء العنوان بمثابة المبتدأ الذي يخبر عنه مضمون المجلة. هذا الاسم له خلفية دينية؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى مجلتي: "العروة الوثقى" و"المنار". فقد أبرز الأفغاني أن أفضل رابطة للأمة الإسلامية هي القرآن، والتمسك به، ورمز إليه (بالعروة الوثقى). أما "المنار"، فهو الذي يهدي إلى السبيل القويم، وكأن محمد رشيد رضا يتمم المهمة التي بدأها الأفغاني بالمناداة إلى (العروة الوثقى)، وذلك يهدي المسلمين إلى سبيل هذه العروة، ومن يعرف سر نجاح، ويهتدي إلى سبيله، فإنه يحقق (السعادة العظمى)، وعلى هذا الأساس نشعر بخيط رابط

بين هذه المجلات الثلاث؛ لأن الواحدة جاءت تواصل مهمة سابقتها، أو تعاضدها، ثم إن الترتيب الزمني يوحي لنا بهذه الفكرة. كما أن هناك توافقاً في اختيار الصيغة، فكلمتا: (الوثقى)، و (العظمى) جاءتا على وزن واحد، لتدل على أن ما يبغيه الرجلان للأمة، يحتل أفضل المراتب، فهو السر في استعمال صيغة التفضيل. ولنعد إلى مجلة "السعادة العظمى"؛ لنتعرّف على أبوابها وأهدافها. * أبواب المجلة، وأهدافها: صدر العدد الأول من هذه المجلة في (16 من شهر محرم سنة 1322 هـ 1 أبريل 1904 م)، بقطع من الورق مقياس الصفحة (16 × 25). فرحب بظهورها جريدة "الحاضرة" لعلي باش حامبة، و"المنار" لرشيد رضا، وكثير من رجال الفكر والأدب وشيوخ الزيتونة. وقد قال الشيخ محمد الفاضل بن عاشور "فكان ظهور السعادة في معمعة تلك الخلافات كطلوع الحَكَم، انتهت به المجادلات عن الفحش، وتطهرت من الهمز واللمز، وتسامت عن التشهير والأذى الشخصي". تحتوي المجلة على 336 صفحة، وصدر منها واحد وعشرون عدداً، ثم انقطعت عن الصدور في (ذي العقدة 1322 هـ / 1905 م). تحتوي المجلة على ستة أبواب، ذكرها الشيخ محمد الخضر حسين في العدد الأول منها، وهي: 1 - الافتتاحية تتناول مواضيع "تقتضيها المحافظة على حياة مجدنا القديم". 2 - المباحث العلمية.

3 - المباحث الأدبية؛ نشر ما يكون "مرقاة للتقدم في صناعتي الشعر والكتابة". 4 - الأخلاق: "كيف ينحرف مزاجها، وبماذا يستقيم اعوجاجها؟ ". 5 - الأسئلة والاقتراحات. 6 - مسائل شتى. وتهدف المجلة إلى: - إصلاح وضع المسلمين، وإعادة مجدهم الضائع. - الدعوة إلى الاتحاد والتعاون للاهتمام بقضايا العصر، ومسايرتها في إطار ديني إسلامي. - التمسك بالأخوة الإسلامية هي التي تسير المجموعة. - الدعوة إلى نهضة جديدة. - التمسك بالإسلام دون حرمان المؤمنين من حقوقهم في التمتع بالدنيا. ومما يقول في الحثّ على مسايرة قضايا العصر: "وإنْ تعجب، فعجبٌ ما يتخيله بعض من ربّي في مهد الجمود من أن هذا الدين القيم لم يرشد إخوانه إلا إلى العبادات المحضة، وأنه حجاب مسدول بينهم وبين المدنية". وقد ذكرنا الظروف التي صدرت فيها المجلة. أما أسباب انقطاعها، فيبدو أنها مادية، تتعلق بعجز صاحبها عن توفير ما تتطلبه مستلزمات المجلة من مال، وما إلحاحه في الأعداد الأخيرة على المشتركين لإرسال مبالغ اشتراكاتهم، إلا دليل واضح على هذا العجز. ويختم العدد الأخير من المجلة بهذا الإعلان: "يتأخر العدد 22 على

غرّة ذي الحجة؛ لعارضة من الضروريات ألجأتنا إلى ذلك"، ولكن هذا العدد لم يصدر. العددان الأول والثاني: صدر هذان العددان مزدوجين، ويعلّل محمد الخضر حسين هذا الازدواج ببطء طول المقدمات الأولية لإصدار المجلة، ولا يذكر ذلك إلا في العدد الرابع، ويستدرك هذا الخلل بإصدار أربع ورقات في العدد الرابع، وأربع ورقات في العدد الخامس، وفاءً بذمته حتّى لا تكون المجلة منساة. احتوى هذا العدد على مقدمة تقليدية ذات صبغة تقليدية، تلاها مدرج للعلم والعقل، ثم الحديث عن بروز فكرة المجلة، ثم بيان لأغراضها وأبوابها، ويلي ذلك ثلاثة تلويحات، احتوى التلويح الثالث منها على اثني عشر استطلاعاً. والملاحظ أن الشيخ محمد الخضر حسين قد حرر جميع صفحات هذا العدد، وقصد إلى الإطالة في الافتتاحية؛ ليعرِّف بالمجلة، وظروفها، وأبوابها، وأغراضها، ومنهجها، حتى يكون مسلكها واضحاً، ويقبل عليها مَنْ يجد في نفسه تجاوباً مع هذا المنهج والأغراض، ولا ننسى أن هذه المجلة هي أول مجلة تصدر بتونس، وربما هذا سبب آخر من أسباب طول الافتتاحية، حتى لا ينفر الناس من شكل لم يألفوه. نلاحظ أن ترتيب الأبواب روعي في الأعداد الأولى، ثم بداية من العدد الخامس بدا بعضها يحتجب، ومن العدد السادس عشر لم يعد هناك محافظة على التبويب أو الترتيب، بل تذكر مقالات بدون تصنيفها في أي باب كان.

الباب الأول موجود في كل الأعداد، باب الأخلاق لم يُذكر إلا في عددين. احتوت المجلة على خمسة وسبعين مقالاً، منها خمسة وعشرون غير ممضاة، وخمسون ممضاة، كتب منها صاحب المجلة أربع عشرة مقالة. وقد ذكر لي الأستاذ محمد مواعدة أن المقالات غير الممضاة هي من تأليف صاحب المجلة؛ اعتماداً على ما أكده له الشيخ محمد طاهر بن عاشور؛ من أن الشيخ محمد الخضر حسين كان يقوم بجل ما تتطلبه المجلة من أعمال أدبية ومادية. وإستناداً على هذه المعلومات، فإن المقالات التي كتبها الشيخ محمد الخضر حسين في مجلة "السعادة العظمى" تكون تسعاً وثلاثين مقالة، مع العلم أن كل صفحات العدد 1 - 2 قد كتبها صاحب المجلة. إذن، أكثر من ثلثي المجلة هو من تأليف الشيخ محمد الخضر حسين، ولذلك اعتبرها الأستاذ محمد مواعدة أول تأليف له، فقال: وتجدر الملاحظة إلى أن أغلب مقالات المجلة كانت من تحريره، ولذلك اعتبرتها تأليفاً من تآليفه، وليست مثل المجلات التي كان يشرف عليها ضمن هيئة تحرير منظمة لمجلتي "الهداية الإسلامية"، و"نور الإسلام". * التقاريظ: أشرنا في تقديم المجلة إلى أنه رحب بظهورها عدد كبير من رجال الفكر والأدب، ورجال الزيتونة، وقد تمثل ذلك في التقاريظ التي وصلت إلى المجلة، ونشرتها في أعدادها تحت باب: (مسائل شتى) والمتأمل فيها يتبين قيمة أصحابها، ونوعية الذين يتعاملون مع المجلة، ووجودهم في مناطق

مختلفة دليل آخر على مدى رواج هذه المجلة، وإقبال الناس عليها. لقد احتوت المجلة -أيضاً- على العديد من الملاحظات، هي استدركات، وتشكرات، وإعلانات، واعتذارات، وقد تنوعت، فجاءت -أحياناً- لتعرف بمجلة أو جريدة، و-أحياناً- أخرى لتوضح كيفية التعامل مع المجلة في إرسال المقالات، أو لتلح على إرسال مبالغ الاشتراك في المجلة، وهذا خاصة في- الأعداد الأخيرة من المجلة. أما مضمون المجلة، ونوعية المقالات التي تضمنتها، والقضايا التي عالجتها، والمواقف التي عبرت عنها، فإننا نقدمها حسب المحاور التالية: - الجانب الديني. - قضايا اجتماعية وأخلاقية. - الأدب. - العلوم. ونعتبرها العلوم العصرية، لا العلوم بمفهوم رجال الدين. - المواقف التجديدية. - التقاريظ. وإن حلّلنا افتتاحية هذه المجلة، تبينّا مدى علاقتها بهذه المحاور. لقد اعتبر رجال الإصلاح انتشار الزوايا والطرق السببَ الأساسي لانتشار العادات الفاسدة، والعقلية الحائدة عن مبادئ الدين الصحيح، وكرّسوا جهودهم لمحاربة الأباطيل والبدع، وتطهير العقليات من الأوهام، واتخذوا الصحف والمجلات منابر للوعظ والتوعية، ووسيلة للدفاع عن الدين، وتجديد مفاهيمه، وسعَت مجلة "السعادة العظمى" إلى الاستجابة إلى ما تفرضه عليها الشريعة الإسلامية من نصح الأمة وإرشادها، لاسيما وأن صاحبها يجعل

تأسيس هذه المجلة "توفية ببعض حقوق دينيه"، ورداً على من (زاغ بالكلم عن مدلولها، وانتزع الفروع من غير أصولها"، ويضبط مسلكها في التمسك بالشريعة، ويلتزم بعدم الخوض فيما يخالفها، فيقول:؟ "إن هذه المجلة لا تنثر من كنانتها إلا ما يشمله نظر الشارع بعنايته". والناظر في افتتاحية هذه المجلة - التي خصص لها الشيخ محمد الخضر حسين العدد 1 - 2 بأكمله- يتبين -بوضوح- أن خدمة الدين الإسلامي، والعمل على صيانته وتجديد مفاهيمه، هو الهدف الأساسي لهذه المجلة، حتى تستعيد الأمة مجدها الأول، وترتفع في درجات الرقي. وقد أفاض في الحديث عن الأسباب التي جعلت "أبناء النشأة الأولى" ينجحون في مسعاهم، ويصلون إلى العزة والشدة والبأس، وأوضح أن السرّ في كل ذلك، يتمثل في تمسكهم بالمعارف والهداية، ونبذهم الظواهر، والاهتمام باللب، والبعد عن الكسل والبطالة والخمول والتجمد، وفتحهم لباب الاجتهاد. ولما تنكر المسلمون إلى كل هذه المبادئ، انقلب الوضع، وساءت حالهم، ونقضت عُرا الاستحكام بينهم، فعمّهم الفشل، ودبّ في أجسادهم الضعف. إذن، العودة إلى ينابيع الإسلام الصافية، والتمسك بمبادئ الشريعة، هو علاج العلة التي أصابت المسلمين، ولذلك جعل أغراض المجلة وأبوابها، تهدف إلى الوصول إلى هذا العلاج. فالغرض من مقالات الافتتاحية: "المحافظة على حياة مجدنا القديم"، والمباحث العلمية تخوض في علوم الدين، والغرض منها: "تحقيق ما يتخللها

من أفكار سامية"، توضح السبيل القويم للمسلمين؛ ليتمسكوا بما جاء فيها من أفكار من شأنها أن تصلح وضعهم، وتبرز لهم حقوقهم وواجباتهم الأخروية والدنيوية، فالعلوم الدينية هي العلوم الأساسية. أما المباحث الأدبية، فالهدف منها: "التقدم في صناعتي الشعر والكتابة"؛ لأن الشعر يخدم المجتمع، والفنون الأدبية والبحوث اللغوية تساعد على فهم الشريعة ونصوصها. وفي هذا أسباب تخصيص قسم للتاريخ، فالإعلام عن الماضي يستخلص الدرس منه، ويكون عبرة لأولى الألباب، فنلاحظ أن المباحث الأدبية تهدف إلى خدمة العلوم الدينية. والباب الرابع خُصص للبحث في الأخلاق، وكيف ينحرف مزاجها، وبماذا يستقيم اعوجاجها، وما مقياسه في ذلك إلا القيم الأخلاقية في الإسلام، وما أمر به، ونهى عنه، ونجد في هذا القسم استشراف العوائد من خلال الشريعة؛ أي: بحث في العادات والتقاليد، وتمسك الناس بهما، ومدى علاقتهما بالشريعة. وهذا الباب -أيضاً- له خليفة دينية. ثم إن الباب المخصص للأسئلة لا يخرج عن هذا السياق، ففتح مجال الأسئلة لقراء ينتمون إلى مجتمع الربع الأول من القرن العشرين، يعيش الأوضاع التي وصفناها في السابق، ويبحث عن مخرج من الأزمة التي تردى فيها، لا يمكن أن يفضي إلا إلى صنف واحد من الأسئلة، وهو الصنف الديني، والمتتبع لأعداد المجلة يلاحظ ذلك بوضوح. وأما الباب الأخير، فيتركه صاحب المجلة مفتوحاً لمسائل شتى، دون تخصيص أو تحديد لنوع معين من المسائل. ومن خلال هذا العرض لأبواب المجلة، يتبين اهتمامها بالجانب الديني؛

إذ هو أساس الحياة، وتتفرع عنه بقية المسائل الأخرى، ولذلك وضعت العلوم الدينية في المرتبة الأولى، ثم تليها الآداب، فالأخلاق. إذن، يمكن أن نستنتج أن هذه المجلة ترمي إلى إصلاح المجتمع على هذه الأسس: الدين، والعلوم، والآداب، والأخلاق. وهكذا جاءت التلويحات التي تلت أبواب المجلة تزيد منهجها وضوحاً. ونفصل القول في العلوم التي ستتناولها المجلة بالبحث، وهي ثلاثة تلويحات: خصص التلويح الأول لإبراز شرف العلوم بالاعتماد على الشريعة، ولا يكون العلم شريفاً إلا إذا كان مفيداً، فالعلم النافع طريق إلى الجنة، وهذه نظرة دينية تنزهه عن شبهة اللذة، ولذلك حثّ الشيخ محمد الخضر حسين على الخوض في المسائل المفيدة، أما غير ذلك، فيعدّ لغواً، وإضاعة للوقت. ويحصر مسلك المجلة فيما لا يخرج عن الشريعة. وهذه العلوم النافعة يقسمها في التلويح الثاني إلى قسمين: ما دوَّنه أهل الإسلام؛ أي: العلوم الدينية، وما دونه الفلاسفة. ويخصص الجزء الأوفر من هذا التلويح لإبراز النوع الأول، وتعريف كل علم من علومه، بينما يتحدث عن النوع الثاني في سطر واحد. ثم يعود إلى تفصيل هذه العلوم، وبيان مقاصدها في التلويح الثالث، الذي احتوى على اثني عشر استطلاعاً، كان نصيب العلوم الفلسفية استطلاعاً واحداً، وهو الأخير، بينما تناولت بقية الاستطلاعات العلوم الإسلامية. وبهذه النسبة المتفاوتة بين نوعي العلوم، يتدعّم ما ذكرناه في بداية هذا الفصل، من أن الشيخ محمد الخضر حسين قد أولى مباحث الجانب الديني

المرتبة الأولى في مجلته، فما هي هذه القضايا؟ وما هو موقفه منها؟ 1 - الجانب الديني: أوّل مهمة تكفلت بها المجلة هي: الدعوة إلى إعادة مجد الأمة، وإصلاح وضع المسملمين، والدفاع عن الإسلام، وصيانته من التحريف والتشويه. لذلك دعت إلى ضرورة الاعتصام بالشريعة، والتمسك بها، وسعت إلى توضيح مقاصدها، وخصصت افتتاحيات الأعداد الثالث والرابع والخامس لهذا الغرض، وقد كتبها على التوالي: الشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ محمد طاهر بن عاشور، والشيخ محمد النخلي. أما النقطة الثانية التي دعت إليها المجلة بعد التمسك بالشريعة، فهي: فتح باب الاجتهاد في الإسلام، وأحكامه، وأساليبه؛ لأن هذا الدين صالح لكل زمان ومكان، لذلك يقول الشيخ محمد الخضر حسين: "أما من استكمل شروطه المقررة في الأصول، فلا يسوغ له المقام في حوزة التقليد. ودعوى أن باب الاجتهاد مغلق، لا تُسمع إلا بدليل ينسخ الأدلة التي انفتح بها أولاً". وقد كان الاجتهاد، والبعدُ عن الجمود من أسباب نهضة المسلمين في أول عهدهم، ووصولهم إلى أعلى المراتب. إذن، كانت أهم النقاط التي عالجتها المجلة في الجانب الديني، هي: الدعوة إلى التمسك بالشريعة في أصولها ومبادئها، والاعتماد على الكتاب والسنَّة والإجماع، وفتح باب الاجتهاد، والقيام بالوعظ والإرشاد والفتاوى؛ لمقاومة البدع والضلالات؛ لتخلِّص الإسلام مما علق به من شبهات، وردِّ ما زاغ بالشريعة عن مقاصدها. وما تخصيص ركن قارٍّ في أربعة أعداد متتالية

للرد على الفتوى الترنسفالية، إلا دليل واضح على عزم المجلة على هذا الاتجاه. 2 - قضايا اجتماعية وأخلاقية: لقد اهتمت المجلة اهتماماً كبيراً بهذا الجانب، وتحدثت عن حياة الأمة، وأسباب ترقيها، وأبرزت أن التعاضد والتعاون بين أفراد الأمة هو سر عيشها، والدافع إلى تقدمها، فدعت إلى الابتعاد عن الكسل والجمود، ومحو المزاعم الباطلة، وربط القلوب بالاعتقاد الصحيح، مع الاستفادة بحضارة العصر الحديث ومدنيته. يقول الشيخ محمد الخضر حسين: (وإن تعجب، فعجبٌ ما يتخيله بعض من رُبّي في مهد الجمود، من أنّ هذا الدين القيم لم يرشد إخوانه إلا إلى العبادات المحضة، وأنه حجاب مسدول بينهم وبين المدنية"، فالكسل والبطالة خطران يؤديان بالأمة إلى الانهيار والسقوط، وبالفرد إلى الوحدة والعزلة، ولا يمكن للفرد أن يعيش بمعزل عن غيره، فالتعاون وليد الحاجة. لذا، وجب على أفراد الأمة صيانة مدنيتها، وذلك بتحمل كل طائفة منها حظاً عظيماً من وسائل لوازمها المدنية والعقلية، وسدِّ كل ثلمة من الحاجات ما تزايدت. وقد قسمت الأمة إلى أربع طبقات، حددت المجلة دور كل واحدة منها: فالأولى: تدبر أمور الرعية، وتحفظ حقوقها، وتقتلع مفاسدها، وتثبت مصالحها. والثانية: تنشر المعارف، وتحث على العلم والعمل.

والثالثة: تهتم بالتجارة، وتوفير المال. والرابعة: تشتغل بالصنائع، وهي الطبقة الغالبة؛ لأهمية هذه الصنائع، فهي العنصر الذي يقوم عليه سوق التجارات، ومعظم أسباب العمران. وبما أن الأخلاق دعامة المجتمع، فإن المجلة خصصت لها باباً كاملاً، ودعت إلى مكافحة الرذائل وفساد الأخلاق، ومقاومة العادات الشاذة عن الإسلام، والحث على التمسك بالقيم الأخلاقية في الإسلام، وهي: الحياء، والحلم، والتواضع، وكبر الهمة، والشجاعة، والإخلاص، والعزة، ولا تحصل هذه القيم إلا بغرسها في النفوس منذ النشأة الأولى. لذا، أبرز الشيخ محمد الخضر حسين منافع التربية المتشبعة بما جاء في كتاب الله من المواعظ الحسنة، والإرشادات الصحيحة، فهي تعصم الإنسان من مخاطر التقليد، وما ينشأ عنه من مفاسد، ودعا إلى وجوب الاهتمام بالطفل منذ النشأة الأولى؛ لأنه يولد على الفطرة، والشرور ليست جبلّية في الإنسان، ومن نشأ نشأة صالحة، كان صالحاً، ومن نشأ في الفساد، يكون فاسد الذوق، لا يخضع لسلطة الأحكام الدينية. فالتربية الأولى تكون بغرس عزة النفوس، وقوة الجأش، وأصالة الرأي، والإقدام على إرسال كلمة الحق، وفي هذا الصدد تنادي المجلة بوجوب تعميم التربية بين طبقات الأمة؛ لأنها أساس الحياة، وعماد كل تقدم. فيقول الشيخ الخضر حسين: "وخاتمة المقال: أن تعميم التربية بين طبقات الأمة شيء واجب، لا ينتظم لها العيش الناعم بدونه، ولا تشرق صحائف تاريخها بسواه". ومن الأخلاق التي حثت عليها المجلة: كبر الهمة، فهي سجية من

سجايا الدين، والعزة من شعائر الإيمان؛ لأنها تردع النفوس عما نهى الله، وتغلق أبواب الفسوق والملاهي، وتسمو بها إلى الوقوف على أسرار الهداية، وأصحاب هذه النفوس تستضيء الأمة بأنوار عقولهم، فتخطو إلى المجد بخطا سريعة. أما من ضعفت هممهم، فإنهم ينزلقون بها إلى الحضيض والرذائل. وقد جعل الشيخ محمد الخضر حسين الهمة مقياساً لرفعة الأمة وانحطاطها: "وإنما هو كبر الهمة وضعفها، يمثلان لك الإنسانية بالسلك التي ينظم خرزاً كثيراً، تباينت معادنها شرفاً وحِطَّة، واختلفت مناظرها سماحة وجمالاً". ودعت المجلة العلماء إلى الاضطلاع بدورهم في تقويم المعوج من الأخلاق، وتعديل الزائغ من العقائد، والنهي عن البدع المذمومة. وقد خصصت العديد من المقالات لإبراز ما تفشّى في المجتمع من الرذائل وسوء المعاملات، وطغيان المصلحة الشخصية، والتعامل بالربا الذي أفردت له مقالة؛ لتبين مدى تلاعب البعض بما جاء في القرآن من تحريم الربا، وتفسيرهم له تفسيراً يرضي حاجتهم، ويخدم مصالحهم. وفي هذا خطر كبير على المجتمع، وبُعْدٌ عن مقاصد الشريعة، وتشويه للوجه الحقيقي للإسلام. * الأدب: تحتل المباحث الأدبية مرتبة ثانية بعد المباحث العلمية في المجلة، وقد أشرنا إلى أن الأدب واللغة وُظِّفا لخدمة الدين، فهما فرع من العلوم الدينية، لذلك نرى أن جل المقالات المخصصة للأدب في هذه المجلة خاضعة

إلى هذه النظرة، فالأدب يجب أن يتطور، وتتناول مواضيعه ما يحصي مجد الأمة، ولذلك حثت المجلة العلماء أولي القوى والأفكار الرشيدة على خدمة الأمة بأقلامهم؛ للنهي عن البدع المذمومة، والتنفير من العوائد الهجينة، ودعتهم إلى تحرير الموضوعات المفيدة، والثبات أمام الانتقاد، والتمثل بالسلف الصالح، وما بلغوه من ترقٍّ وتقدم عن طريق الكتابة؛ لأنهم لم يرفعوا أسس هذا التقدم باستعداد زائد في فطرتهم، أو قوة خارقة في إنسانيتهم، وإنما بسعيهم وحزمهم، ونشاطهم وجدهم، وبعدهم عن الركود والتخاذل عن الإصدل بكلمة الحق. يقول الشيخ الخضر حسين: "هم رجال، ونحن رجال، أقلامهم من القصب الذي ننحت منه أقلامنا، ولا يحملونها إلا بمثل أناملنا قوة وشكلاً ... "، فالكتابة إذن هي إحدى دعائم التقدم والإصلاح، وقد بينت إحدى المقالات في المجلة طرق الترقي في الكتابة، وخصصت أربع مقالات للحديث عن حياة الشعر وترقية، نشرت في أعداد متتابعة. 3 - العلوم العصرية: رأينا أن المجلة تسعى إلى بعث مجد الأمة، والوصول بها إلى مراتب التقدم والرقي، ولذلك فإنها لم تنكر الأخذ بالعلوم العصرية، بل دعت إلى تجديد العلوم الدينية ببعض العلوم الأخرى؛ تلبية لمتطلبات العصر. وقد أبرز الشيخ الخضر حسين -خاصة فىِ حديثه عن حياة الأمة- فوائدَ الأخذ بالآلات والطرق الجديدة، والأساليب الحديثة؛ تطبيقاً لأوامر الشريعة التي ألحت على الاقتصاد في الأموال والمجهود، ويطالب بقيام نخبة من أهل النهضة بتعليم أبناء الوطن هذه الطرق؛ لأنها سبب القوة، وازدياد الملك

والثروة، فيقول: "وهكذا سائر الصنائع التي تمس الحاجة إليها، ينبغي الأخذ فيها بالطرق التي هي أيسر كلفة، وأربى فائدة، وقد حكم العيان بأن الآلات الجديدة حققت كثيراً من الأعمال التي لا تبلغ غايتها إلا بشق الأنفس". ونظراً إلى أهمية هذه القضية، فإن المجلة تفرد لها مقالاً يتحدث عن "مدنية الإسلام والعلوم العصريقا، نتبين من خلاله أن المجلة لا تعادي هذه العلوم، بل تدعو إلى الأخذ بها؛ متأسية في ذلك بالسلف الذي أخذ الأشياء النافعة من "أي وجهة صدرت، فمحّصوها بتطبيق أصول الديانة عليها، وغرسوها في معادن معارفهم العالية". تدعو المجلة إذن إلى معرفة هذه العلوم العصرية، وتمحيصها، وإلحاقها بالعلوم الإسلامية؛ لتضمن بذلك تقدم الأمة، وتؤكد أن ذلك لا يخالف الشريعة الإسلامية، بل إن ما ذهب إليه البعض من إساءة الظن بتعاطي هذه العلوم، واتهامه بالإلحاد، هو عينُ الجهالة والغي. وموقف المجلة من العلوم العصرية يعتبر من المواقف التجديدية، فما هي هذه المواقف؟. 4 - المواقف التجديدية: من يتابع أعداد هذه المجلة، يرى أنها سعت إلى التجديد في أغلب المحاور التي طرقتها، فهي تنادي بضرورة التجديد في المفاهيم الدينية بما يلائم روح العصر، حتى تكون الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وهي تؤمن بمنافع الاجتهاد، وما يهيئه للدّين من حياة جديدة، وتعدد سبل الترقي والوسائل التي تدفع بالأمة إلى التقدم في كل المجالات؛ كالكتابة، وترقية الشعر، وتطعيم العلوم الإسلامية بالعلوم العصرية، ولكنها تُخضع كل ذلك

إلى مقياس الشريعة الإسلامية. وهذا ما جعل المجلة تلقى رواجاً كبيراً في أوساط المثقفين التونسيين، وشارك في الكتابة فيها العديد من العلماء، باختلاف انتمائهم إلى الطرفين المتصارعين: المحا فظين، والإصلاحيين، وقرَّظها الكثيرون، وابتهجوا لصدروها. * المجتمع التونسي من خلال مجلة "السعادة العظمى": ذكرنا عند تعريفنا بمجلة "السعادة العظمى": أنها أنشئت سنة 1904 م؛ أي: في أوائل القرن العشرين، وقد اتصفت هذه الفترة بسيطرة السلطات الاستعمارية الفرنسية على البلاد، ومحاولاتها مَحْقَ العقلية الإسلامية، وصبغتها بعقليتها؛ لاستيلائها على أهم المراكز التي تقوم عليها البلاد؛ كالتعليم والاقتصاد، وضعفت حالة الشعب، وشعَرَ بالذل والهوان، وطغَت عليه روح الخمول والاستسلام، فانتشرت الأوهام والبدع، وساءت المعاملات التجارية، وتغلغل الشعور بالعجز، وبان البون شاسعاً بين العقليتين المسيطرتين على المجتمع: عقلية الغرب المتطور، وعقلية الشرق المتخلف. فتحركت همم العلماء لحماية الإسلام من الاندثار، والوقوف في وجه الغرب الزاحف بحضارته وقيمه. واتخذ هؤلاء العلماء الصحافةَ وسيلةً للجهاد، ومنبراً للوعظ، ولم تتخلف مجلة "السعادة العظمى" عن أداء دورها ضمن هذه الحركة، فاختارت المواضيع من صميم الواقع الاجتماعي، وصوّرت لنا اهتمامات السكان بمختلف طبقاتهم، وعكست القضايا التي تشغلهم، وكتب فيها المحافظون المجددون، وقرَّظها العلماء وغيرهم من الموظفين، ووجهت إليها أسئلة من مختلف

المناطق، فكانت هذه المجلة مرآة عاكسة للحياة الاجتماعية التونسية في تلك الفترة. ويبرز هذا خاصة في المواضيع التي خاضت فيها؛ كالبدع "هذه الضلالة لعبت بعقول طائفة لم يتبحّروا في قواعد الدين، فآلت بهم إلى التوسع في دائرته باخترل أحكام على قالب أغراضهم". والتمدن الذي يُبرز صاحب المقال مفهومه الحقيقي، ونظر الناس إليه، فيقول: "وقد يخطئ بعض المنتمين إلى هذا القبيل، فيخرجون بتلك اللوازم عن هذا الاعتدال، بل ربما فهموا من هذه اللفظة غير المراد منها، وحاولوا التلبس بشعارها، فيفضي سوء الفهم إلى التقدم، ولكن في الهمجية لا المدنية". والأحاديث الموضوعة التي تداولها الناس دون تمييز بين خبيثها وطيبها، فيحذر منها صاحب المقال، ويبرز طريقة الأخذ بالأحاديث، والعمل بها، وموقف أئمة الدين منها، فيقول: "ونحن لا نرى إلا ما رأته أئمة الدين، وهو: أنه لا يستباح لأحد أن يروي حديثاً إلا بعد تحققه عدم وضعه، ولا يكفي في ذلك سماعُه من عالم أو خطيب، أو رؤيته في كتاب، إلا إذا أُسند إلى من يوثق بروايته". ومن بين المواضيع التي عالجتها المجلة: موضوع الربا؛ لأنه كان منتشراً في أوساط المجتمع، يستغل به الغني حاجة أخيه الفقير، فيستشهد صاحب المقال بما أورده الله من آيات في تحريم الربا، ويوضح المقصد الحقيقي منها؛ لأن المرابين قد فسروها بما يخدم مصلحتهم، واحتالوا في قياصها على مآربهم، ويُبرز أن الربا مفضٍ إلى الخراب، ويقرل: "وأن الحكمة

في التحريم: إزالة نحو هذا الظلم، والمحافظة على فضيلة التراحم، وأن لا يستغل الغني حاجة أخيه الفقير إليه". أما المشكل الذي كان يشغل بالَ أغلب المسلمين، فهو: موقف الإسلام من الحضارة، ومدى مسايرة الشريعة لمقتضيات هذا العصر، وقد أَوْلَته هذه المجلة عناية هامة، وخصصت له مقالتين منفردتين: "مدنية الإسلام والعلوم العصرية"، و"مدنية الإسلام والخطابة"، وتناولته في مقالات أخرى متفرقة، تتناول وسائل الرقي والتقدم؛ كالصحافة، والكتابة، والعلم، والتربية المطلقة. وقد أوضحت هذه المجلة السبل التي تمكّن الأمة من مستقبل زاهر، يعيد لها ما غبر من مجد، وأبرزُها: الاعتصام بالشريعة، والاجتهاد في فهم مقاصدها، والإقبال على العلم، والتحلّي بالأخلاق والقيم الإسلامية، مع مراعاة روح العصر. ولن يتحقق هذا إلا بالتعاون والتعاضد بين كل أفراد الأمة خدمة للمصلحة العامة؛ لأن "التعاون شرعاً يتمحض القصد منه في استجلاب المنفعة، صازالة الضرر اللاحق، ولو لفرد واحد من أفراد الجماعة؛ رعاية للأخوة الدينية، واحتراماً للعهد الذي أخذه عنه الشارع". وفي الختام: نرى أن هذه المجلة تفاعلت مع البيئة في أوائل هذا القرن، وساهمت في الحركة التي تميزت بها هاته الفترة.

تطور الخطاب الديني عند الشيخ محمد الخضر حسين

محاضرات الندوة تطور الخطاب الديني عند الشيخ محمد الخضر حسين (¬1) أيها السيدات والسادة عنوان مداخلتي: تطور الخطاب الديني عند الشيخ محمد الخضر حسين من "السعادة العظمى" التي تأسست سنة 1904 م إلى "الهداية الإسلامية" التي تأسست في مصر سنة 1928 م. لا مراء في أن الشيخ محمد الخضر حسين كان ركناً من أركان النهضة الفكرية والأدبية، كما بيّن ذلك الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في كتابيه: "الحركة الفكرية والأدبية في تونس"، و "أركان النهضة الأدبية في تونس". وهو معدود من أبرز من أرّخ للحركة الفكرية والأدبية في بلادنا. والمعلوم أن الشيخ محمد الخضر حسين كان من أبرز ناشطي شيوخ الجامع الأعظم في العقد الأول من القرن العشرين، كما كان حضوره بارزاً وفاعلاً ومنتظماً في أبرز المؤسسات التحديثية التي أسسها إصلاحيو القرن التاسع عشر، أو أسسها الجيل الأول من تلاميذه، أقصد: المدرسة الصادقية. كان الرجل مدرساً في هذه المؤسسة، الجمعية الخلدونية التي تأسست عام 1896 م، وكان من أبرز محاضريها، وكان حضوره فيها منتظماً، جمعية ¬

_ (¬1) محاضرة الأستاذ جمال الدين دراويل، باحث، ورئيس تحرير مجلة "الحياة الثقافية" بتونس.

قدماء الصادقية التي تأسست سنة 1905 م، وكانت محاضرته عن "الحرية في الإسلام" من أبرز المحاضرات التي ألقيت على منبر هذه الجمعية، وما زالت الكثير من الأفكار التي تضمنتها هذه المحاضرة تحتفظ بأهميتها. تأسست بإشرافه وتوجيهه أولُ منظمة طالبية بتونس سنة 1907 م، وهي: (جمعية طلبة تلاميذ جامع الزيتونة). وكان حراكه الفكري، ومنزعه الإصلاحي، ووعيه الوطني سببَ استهدافه من الجبهتين: الداخلية، وأقصد: المعهد العتيقال في كان علماً من أعلامه، وهو جامع الزيتونة، والجبهة الخارجية، وأقصد: الاستعمار الفرنسي الذي سلّط عليه أنواعاً من النكاية. وكان هذا الاستهداف من الجبهتين الداخلية والخارجية وراء إغرائه سنة 1912 م إلى الرحيل إلى الشام أولاً، فمصر ثانياً؛ حيث استقر، وبلغ قمة المجد العلمي كما تعلمون. إذن، في أفريل 904 أم أسس الشيخ محمد الخضر حسين مجلة علمية هي الأولى في البلاد التونسية، سماها: "السعادة العظمى"، والملاحظ: أن تأسيس هذه المجلة كان في مرحلة الشباب والتوثب بالنسبة إلى هذا الرجل، وعمره في سنة 1904 م إحدى وثلاثون سنة. * "السعادة العظمى"، أو النظرة العالية: تجدر الملاحظة: أن خروج الشيخ الخضر من دائرة المسجد، ومن حدود الدرس العلمي داخل المعهد العتيق، واقتحامه لأول مرة في التاريخ الثقافي التونسي مجالَ الصحافة الفكرية، يقيم الدليل على سعة أفق الرجل، وإدراكه أن مجال النشاط الإصلاحي ينبغي أن يشمل الرأي العام الفكري والثقافي، وأن لا يبقى في الدوائر العلمية الضيقة. وهو ما يفسّر توجُّسَ هيئة

النظّارة العلمية في جامع الزيتونة من صدور هذه المجلة، ومطالبتها للوزير الأكبر في ذلك الوقت محمد العزيز بو عتّور بإيقاف إصدارها. إذ لم يستوعب أعضاءُ هذه الهيئة من الشيوخ المنحدرين في معظمهم من عائلات بورجوازية تونسية تجاسرَ هذا العالم الشاب من نقل مجال المداولات العلمية والفكرية المتصلة بالقضايا الفقهية والأخلاقية، والأدبية واللغوية من الدوائر التقليدية التي كان يتولاها هؤلاء الشيوخ إلى الرأي العام؛ حيث المقاهي والنوادي، إلى غير ذلك. إذ كانوا يعتبرون أن هذه الوظيفة هي وظيفتهم، وليس فيها لغيرهم أن يتولاها، وأن يضيق دائرة سلطتهم العلمية والمعرفية في ذلك الوقت. صدع الشيخ محمد الخضر حسين منذ المقال الأول مين مجلة "السعادة العظمى"، المقال الافتتاحي للعدد الأول، فقال: "إن دعوى غلق باب الاجتهاد لا يُسمع إلا بدليل ينسخ الدليل الذي انفتح به هذا الباب أولاً"؛ رداً على النظرة الضيقة المغلقة التي كان يروِّجها المحافظون من شيوخ جامع الزيتونة، ووعيا من الرجل بأن في "السعادة العظمى" استقلالاً وحرية ونهضة معرفية وعمرانية، وهي قضايا مركزية وجوهرية بالنسبة إليهم، فالرجل كان ذا نزعة استقلالية لا مراء فيها، وكان يعتبر أن قضايا الحرية وحقوق الإنسان من القضايا التي ينبغي أن تعالج في المجتمع الحديث. كما راهن وركز وعالج النهضة المعرفية والنهضة الفكرية التي لابد أن تكون المقدمةَ الضرورية لدخول المجتمعات العربية الإسلامية - والمجتمعُ التونسي مثالٌ لها- إلى مرحلة التحديث، والخروج من أَسر الأُطر المغلقة التي أراد المحافظون من علماء جامع الزيتونة أن يُبقوا مسارَ

الحراك الفكري والأدبي ضمنها. فكانت هذه الفكرة -المعبّرة عن التحدي للجمود والمحافظة- سبباً في الهياج الذي قام في وجه الشيخ الخضر ووجهِ مجلته، وكان سبباً لكثير مما نال صاحبَها من الاضطهاد والنكاية خلال مقامه بتونس، علماً أن الصراع بين الطرفين، العلمي يستلزم الاستحواذ على المناصب العلمية والشرعية والدينية، وآفاقي يتطلع إلى اعتلاء سدة التفكير الفكري والإيديولوجي، كان يغذي موقف هؤلاء الشيوخ من صاحب "السعادة العظمى". وإضافة إلى المقال الافتتاحي للعدد الأول من مجلة "السعادة العظمى" الذي جاء واضح العبارة، صريح الموقف، لا مواربة في رفضه للتقليد والاستحواذ النظرة المذهبية على المذهب التشريعي. بيّن الشيخ الخضر -في ذات العدد الأول-: أنه ينتهج في نظره الفقهي فَهْمَ مقاصد الشريعة، ولا يساير من انفرد بضيق النظر، فزاغ بالكلم عن مدلولها، وانتزع الفروع من غير أصولها. والرجل واضح المسلك في رفضه للجمود والتقليد، وفي كونه يروم المنزع الاجتهادي التنويري الذي لابد منه لإحداث الحراك الفكري والاجتماعي الضروري لخروج المجتمع التونسي من دائرة التقليد والجمود إلى دائرة النهضة المعرفية والاستقلال والحرية، إلى غير ذلك. وعبّر عن موقفه ممن سلك مسلك الجمود والقعود والركود إلى ما قدمه القدامى اعتقاداً من أنه منتهى ما يمكن الوصول إليه، عبَّر عن ذلك في ذات المقال، فقال: "فإليك إيابه، وعليك حسابه" في أول جملة قالها في هذا المقال "اللهم كذا وكذا"، ثم أنهاه بقوله: "فإليك إيابه، وعليك حسابه"، والمقصود

هو من الجامدين من الزيتونيين المحافظين. على هذا الأساس عبّرت مقالاته عن نظر فسيح، ورؤية عميقة، ومنزع إصلاحي، وهو ما يبرز للوهلة الأولى من خلال إمعان النظر في العنونة التي توخاها في جملة مقالاته في "السعادة العظمى". وأسوق لكم بعض هذه العناوين: حياة الأمة - التقدم والكتابة - النهضة والرحلة - الشعر العصري - مدنية الإسلام والعلوم العصرية - الديانة والحرية المطلقة - كبر الهمة. هذا المعجم الذي كان الرجل يتوخاه في العنونة، بالإضافة إلى المضامين التي سآتي عليها بإيجاز بطبيعة الحال، تبين وجهة الرجل النهضوية، وطريقه الإصلاحي. وفي مقاله الافتتاحي الموسوم بـ: "حياة الأمة" جاء في الأسطر الأولى: "لتجدن أشد الناس فتوراً، وأضعفهم عقدة في رابطة بني جنسه، من يرى أمة متمسكة بأذيال المدنية، ساعية وراءها بحركات تبهر العيون، وتدهش الألباب، ترفل في ملابس الرفاهية تحت ظلال عزّ مكين، ويشاهد أمة أخرى في أسوأ منظر من خشونة الحال، وشظف العيش، وجهومة المسكنة، ثم لا يسأل الناس إلحافاً عن الأسباب التي ترتفع بها قواعد العمران، والعلل التي تخربها على عروشها". هذا هو سؤال التقدم الذي يمثل مركز الاهتمام بالنسبة إلى إصلاحي القرن التاسع عشر، واللافت للنظر: أن الشيخ الخضر وصف من ركنوا إلى الجمود، ووضعوا الحواجز والموانع أمام كل محاولة للتجاوز؛ بأنهم إخوان الأنعام، ودعا على أيديهم التي تمتد بالأذى على المصلحين والتنويريين بالشلل، فقال: "رماها الله بالشلل"؛ لذلك قلت: إن مرحلة "السعادة العظمى"

بالنسبة إلى خطاب الرجل هي مرحلة النظرة العالية. فالتقدم المشاهَد في المجتمعات الأوروبية بالعيان، وليس بعده بيان -كما عبَّر عنه المصلح خير الدين-، وسقوط المجتمعات العربية والإسلامية في وَهْدة التخلف، وانحباس أعضائها الحضاري قابلٌ -كما بيّن الشيخ الخضر- لكل ذي همة عالية أن يسأل ويبحث، ويقارن ويحلل، ويضع مظاهر التخلف تحت محك البحث والمساءلة؛ وصولاً إلى معرفة الأسباب التي أدت إلى هذا الانحدار في وهدة السقوط الحضاري، وتوصلاً بالمعالجات الصحيحة العلمية المبنية على النظر الدقيق، والفحص العميق؛ للخروج من دائرة التخلف إلى دائرة النهوض والتقدم. ولا يكون التقدم قابلاً للتحقق في مواقع الوجود الفعلي في رأي الشيخ الخضر، ولا يتسنى للأمة أن تستعيد عافيتها وتوازنها، وتسترجع نضارتها وحيويتها، وتستأنف دورها في تنشيط الحركة الحضارية، ولا يمكن للمجتمع العربي والإسلامي، وتونسُ أنموذجٌ له، أن يعرج إلى الأفق الأعلى من الأمن والسعادة -كما قال- إلا من خلال كبر الهمة، إلا إذا كانت الهمة تواقة إلى المعالي. ومن قوله: "جرت سنّة الله في خلقه أن لا ينهض بأحد المقاصد الجليلة، ويرمي إلى الغايات البعيدة، التي يشد بها نطاق السيادة الكبرى، غيرُ النفوس التي عظم حجمها، وكبرت هممها، فلم تعلق إرادتها بسفاسف الآمال". هذه النوعية من الرجال والشباب التي كان الشيخ الخضر يعمل على تحريكها، وعلى صناعتها؛ للوصول بالمجتمع التونسي بعد حين إلى الغاية التي كان يروم؛ من الاستقلال، ومن الحرية، ومن النهضة المعرفية.

ودعا الشيخ الخضر إلى أن تتجه المؤسسة التربوية والفكرية إلى بث هذه الروح في الناشئة التي هي مناط المستقبل، فقال: "وإذا استبنّا أن أكبر الهمة سجيةٌ من سجايا الدين، تصدر عنها الأعمال العظيمة، وتضم تحت جناحيها فضائلَ شتى، فلم لا تعقد عليها نفوس أبنائنا، ونرشحهم بلبانها في أدوار تربيتهم الأولى؛ ليستشعروا بالأداب المضيئة، ويتجلببوا بالقوانين العادلة، ولنا حياة طيبة في العاجل، وعطاء غير مجذوذ في الآجل". وكبر الهمة، والتَّوق إلى المعالي والوجدان الأفضل والأكمل والرَّوْم على الدوام، هي مركزية في النطاق الفردي، وفي النطاق الجماعي بالنسبة إلى المجتمع التونسي، وخصص لها كتابا مفرداً هو في حقيقته محاضرة ألقاها على منبر (جمعية قدماء الصادقية) سنة 1906 م، وفي هذا الكتاب الصغير الحجم، الجليل الفائدة، جليلُ الأفكار المتضمنة فيه، بيَّن أن المجتمع الذي جثم الاستعمار عليه، أو كان تحت نفوذ سلطة مستبدة، غيرُ قادر على إنجاز الأعمال الجليلة، فقال: "الأمة التي بُليت بأفراد متوحشة تجوس خلالها"، ويقصد: السلطة الاستعمارية، "أو حكومة جائرة تسوقها بسوط الاستعباد": النظام الملكي للبايات المطلق، "هي الأمة التي نصفها بصفة الاستعباد، وننفي عنها لقب الحرية". وفي المقابل، فالتجمع الحر المستقل الذي يتمتع أفراده بالحرية التي عرّفها الشيخ الخضر بمضامينها الحديثة، فقال: "حيث عرف الحرية أن تُقرر للمرء حقوق لا تعوقه عن استيفائها يد غالبة"، هذه الحرية هي المنطلق والأساس بالنسبة إلى تحقق كبر الهمة، ثم إلى النهوض المعرفي والسياسي، والعلمي والاجتماعي، وإحداث الحراك اللازم لهذا النهوض.

يمكن أن نقول: إن المباحث التي تصدى لها الشيخ الخضر في مجلة "السعادة العظمى" عالجت بنظرة عالية قضايا الحرية والنهضة والتقدم والمدنية في مرحلة كانت البلاد التونسية تشهد فيها مخاضات وتحولات تُؤذِن بأن التونسيين بدؤوا يستعدون لإدارة بلادهم بأنفسهم، وهو ما عبّر عنه الشيخ الخضر إذ قال في كتابه "تونس 67 عاماً من الاحتلال الفرنساوي"، قال: "أصبحت تونس مستعدة للقيام بواجبات استقلالها، وليست في حاجة إلى ما يسمونه: حماية". علماً أن الرجل بعد الحرب العالمية الأولى أسس (جمعية استقلال تونس والجزائر) صحبةَ الشيخين: صالح الشريف، وإسماعيل الصفايحي، ثم في أربعينات القرن الماضي أسس (جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا)، وهي منظمة سياسية بالدرجة الأولى، غايتها استقلالية. لم يساير الشيخ الخضر في هذه المرحلة التونسية التي أسس فيها مجلة "السعادة العظمى" المؤسسةَ التقليدية، والعلماء المحافظين، وكانت نظرته فيها معارضة للتوجه الذي كان سائداً في تلك الفترة. * مجلة "الهداية الإسلامية": الحجة البالغة في مجلة "الهداية الإسلامية" هي الوصول للبحث العميق والدقيق، وهي وسيلة في ذلك بينها وبين النظرة العالية في مجلة "السعادة العظمى". إذ كان الشيخ الخضر حسين علماً بارزاً، وطوداً شامخاً، ينبغي أن نهتدي به، وإن مدونته تتيح للباحثين أن يمرسوه مفسراً، وفقيهاً، ومصلحاً، ولغوياً، وبلاغياً من الدرجة الأولى.

والحقيقة أن الأبحاث مازالت ضنينة إلى حد بعيد في هذا الاتجاه، ونرجو أن تكون هذه الندوة محفّزاً لمن يهتم من الباحثين بهذا العَلَم. وشكراً على إصغائكم.

تطوير الفكر الديني من خلال مجلة "السعادة العظمى"

محاضرات الندوة تطوير الفكر الديني من خلال مجلة "السعادة العظمى" (¬1) بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيمِ ما أريد أن أقول في هذا العمل الذي قمت به هو: أن الشيخ محمد الخضر حسين له مكانة في تونس، حينما كان يعيش في تونس، حينما أنشأ مجلة "السعادة العظمى"، جدير بنا أن نفكر بها، لا أن نستعرضها. فلذلك سأبدأ بمقدمة، ثم سأتطرق إلى جوهر الموضوع من خلال نقاط ثلاث. أما المقدمة، ففيها جانبان: الجانب الأول: يتمثل في قدوم، "الآفاقي" (¬2) إلى الحاضرة، هذا الذي جاء من "نفطة" كما جاء الشيخ سالم بو حاجب من "بنبلة" إلى تونس الحاضرة بما فيها من "علماء". ماذا أحدث؟ من أين انطلق؟ وماذا أحدث؟ ¬

_ (¬1) محاضرة الدكتور كمال عمران رئيس (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي)، وأستاذ جامعي، ومدير إذاعة الزيتونة بتونس. (¬2) تطلق كلمة (الآفاقي) في تونس على القادم من خارج المدينة، من الريف أو الصحراء، وهي كلمة كانت تعني في الماضي شيئاً من الحطّ بالقيمة.

انطلق من "نقطة" حيث الاتساع، حيث الجرأة، حيث الشجاعة، حيث الفطرة، الفطرة الذي يجعل التفكير بداية لا نهاية؛ لأن هناك من يستعمل الفطرة؛ بكون الأنسان بلا فطرة، وانتهى، لا الفطرة باعتبارها بداية للتفكير. حينما دخل -في تقديري- الشيخُ محمد الخضر حسين بعقلية (الآفاقي) فتح فتحاً مبينا في الحاضرة (¬1)، وفي جامع الزيتونة، بهذه القيم التي استلهمها من موطنه من "نقطة" كما استلهم الشيخ سالم بو حاجب، وغير هؤلاء الكثير الذين دخلوا إلى تونس، لا أذكر الشابي، لا أذكر الحداد، لا أذكر زعماء السياسة الذين جاؤوا من الآفاف، ودخلوا الحاضرة، فأهاجوا في الحاضرة نوعا من التفكير غيَّر نزعة الثقافة التونسية العربية الإسلامية. وحينما أقول: تونسية، فإني أتكلم على ثقافة تونسية عربية إسلامية قومية. هذا الجانب -في تقديري- مهم، والتفكير فيه ضروري، حتى ندرك فضل هؤلاء الذين جاؤوا إلى تونس، وفتحوا الفتح المبين، بأن جعلوا من النسق الفكري نسقاً فيه من الجرأة، وفيه من الشجاعة ما جعل الشيخ الخضر يكتب هذه الكتب، وأكثر منها غير موجود على المنصة. النقطة الثانية: الجامع الأعظم في تونس حينما جاء الشيخ الخضر حسين، كان فيه -في تقديري- نزعتان: نزعة يترأسها الشيخ سالم بو حاجب، ونزعة يترأسها شيخ الإسلام أحمد بن الخوجة. سأذكر حادثتين، وهما تكفيان عن الإبانة عن خصائص جامع الزيتونة بين هذين المفترقيْن: ¬

_ (¬1) يطلق لفظ (الحاضرة) على مدينة تونس العاصمة.

الشيخ أحمد بن الخوجة كان هو شيخ الإسلام حينما دخلت فونسا تونس ليلة 12 ماي 1881 م، ولعله من الصدف أن مراسل جريدة "التايمز" أحدث معه حواراً، مختصرُ هذا الحوار هو ما يلي: كيف لك سيدي شيخ الإسلام، وأنت نصير الإسلام، ترتضي أن يُمضي الباي معاهدة فيها حماية أجنبي مسيحي غربي على تونس المسلمة الشرقية إلى آخره، كيف كان الجواب؟ جواب شيخ الإسلام هو: أنه لا يُمضي إلا بعد أن أمضى ولي أمره، وشأنه أن يكون خاضعأ لولي أمره، فالصادق باي أمضى، فعليّ أنا -شيخ الإسلام- أن أمضي. لا أريد أن أعلق، الأمر واضح. الشيخ أحمد بن الخوجة هو الذي أفتى فى مشكلة (الشوكولاته) (شوكولاته مينييل) التي دبَّ في تونس الحاضرة أن هذه الشوكولاته التي تأتي من مرسيليا كانت تصنع من شحم الخنزير، فعطّل الناس شراء هذه الشوكولاته، فأفتى في حِلِّية أكل الشوكولاته. هذا نموذج من شيوخ جامع الزيتونة، مع احترامنا لهم. الشيخ سالم بو حاجب كان صفة أخرى من الآفاق، الذي جاء فحرر بالجرأة والشجاعة. أكتفى بأن أقول بأنه في المحاضرة التي افتتح بها دروس المدرسة الخلدونية سنة 1897 م، قال كلاماً ليس له من نظير لربما إلى يوم الناس هذا، وإذا قارنته بمحاضرة الشيخ محمد عبده في نفس المكان، وبعد سنوات، فمانني أرى البون بائناً بين الشيخ سالم بو حاجب، والشيخ محمد عبده؛ لأن الشيخ سالم بو حاجب خلاصة ما قاله، قال: إن العلوم الدينية لا ترقى إلا إذا ارتقينا بالعلوم الدنيوية، شرط الارتقاء بعلوم الشرع: الارتقاء بالعلوم الدنيوية. الشيخ محمد عبده قال، وأطال في الطريقة التقليدية في

استنهاض همة المدرسين والطلبة في جامع الزيتونة. هاتان المقدمتان أردت بهما أن أشير إلى الوضع، البيئة، التي نشأ فيها الشيخ محمد الخضر حسين، وشارك فيها. كيف شارك؟ في تقديري، منظومة التطوير عند الشيخ محمد الخضر حسين فيها مجالات تحتاج إلى المراجعة، مراجعتنا نحن؛ لأننا -في تقديري- من المقصرين إزاء الشيخ محمد الخضر حسين وغيره من الذين كانوا أعلاماً، وأعطوا للفكر التونسي إلى يوم الناس هذا الثوابتَ التي ينبغي أن نعرفها، وأن نعرّف بها شبابنا على وجه الخصوص. أول فكرة -في تقديري- جوهرية، هي فكرة العقل. كيف عاد الشيخ محمد الخضر حسين إلى منظومة العقل لتطوير المنظومة الدينية، العقل في تاريخ المسلمين له شأن كبير، ولكنه شأن منزلق من القوة إلى الضعف. بدأ العقل اجتهاداً واستنباطاً، ونشراً للعلوم والمعارف، ثم ارتبط بالتقليد، والتقليد إنما هو كسر للعقل، واتباع لآراء البشر، وتبني الآراء المقلدة بدلَ العودة إلى القرآن والسنّة، والتماس الحجج منهما. الشيخ محمد الخضر حسين حينما نظر إلى العقل كأني به يسترجع ما قاله أبو سليمان المنطقي، ابن بهرام السجستاني له كتاب عنوانه: "سوار الحكمة"، نقل عنه أبو حيان التوحيدي ما يلي، يقول: إن الشريعة حق، ولكنها ليست من الفلسفة في شيء، وإن الفلسفة حق، ولكنها ليست من الشريعة في شيء، فوجب الأخذ بهما في مكانين متوازيين؛ وصولاً إلى السكينة الإلهية، أو إلى الحكمة الإلهية. انظروا العقل الذي كان صافياً إلى درجة التمييز بين الفلسفة، وهي واجب على المجتمع، والشريعة، وهي واجب على المجتمع.

لم ينفِ هذا بذاك كما سيحصل انطلاقاً من القرن الخامس إلى يوم الناس هذا تقريباً حينما أصبحت الفلسفة بدعة أو زندقة، وعلم الكلام بدعة. وما أدراكم أن المقَّري يخبرنا أن أمراء الأندلس كانوا يقتلون الفلاسفة تقرباً من العامة. العقل عند الشيخ محمد الخضر حسين -والشاهد على ما أقوله مأخوذ من مجلة "السعادة العظمى"- هو المؤسس لكل تطوير في المنظومة الدينية الإسلامية. فإذن العقل عند الشيخ هو أداة للتأسيس، وأداة لمراجعة الثقافة العربية الإسلامية. الجانب الثاني: هو التطوير بالعودة إلى الأصل، وهنا من النقاط الجوهرية التي وجدتها واضحة لدى الشيخ في "السعادة العظمى". ما معنى الأصل؟ كيف نعود إلى الأصل لنطوّر؟ كيف نعود إلى الوراء لنطوّر؟ هنا التمس الشيخ مبدأً جوهرياً يتمثل في مناقشة معنى الأصل، ما هو الأصل؟ الأصل عنده: هو مقتضى حديث نبوي شريف "خيرُ القرون قَرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، ما معنى هذا الحديث؟ القرن هو: الجيل، ثلاثة أجيال زكّاها النبي، وجعلها المرقاة إلى كل تطوير. ما معنى العودة إلى الأصل؟ العودة إلى الأصل: العودة إلى القديم. والقديم في مناقشة لطيفة بين الأستاذ عبد الوهاب بو حدييه، والمستشرق الفرنسي (جاك بيرك).

يعالج الأستاذ عبد الوهاب بو حديية فكرة القديم، ويقول لجاك بيرك: القديم عندنا ليس نصّه عندكم. ثمة فرق كيير بين القديم عندنا بمقتضى العلاقة بين التجديد والقديم، يقول: القديم عندنا فترة من التاريخ، نعم، فترة من الزمان، نعم، حددت بالسنوات اثنين، ثلاثة، تسعين سنة، أو مئة سنة على أقل تقدير. هي في الزمان، ولكن أصبحت أنموذجاً على الزمان. الاختراق، فترة الأصل فترة القديم من الزمان تسعين أو مئة سنة التي عاشها الصحابة بأخطائهم بالفتنة الكبرى، بما فيها من معايب، لكن بما فيها من الخصال الممارسة عن النبي، والتابعين عن الصحابة، وتابعي التابعين عن التابعين. هذه الأشياء الثلاثة يقول الأستاذ عبد الوهاب بو حديية ما لم يقله الشيخ، ولكن كان ليختصره اختصاراً ... الفترة القديمة التي كانت في الزمان من الزمان، ولكنها أصبحت أنموذجاً لذي ينبغي أن يعود إليه البشر حتى يدركوا ثوابت الإسلام، حتى يستصلحوا أحوالهم في ضوء هذه الفترة القديمة؛ لأن شريعة الحق، شريعة الأصل: الفترة التي ذكرها "خير القرون قرني"، هي الشريعة تؤدي إلى حقوق الإنسان بلا منازع، ولكن الركام ساد على الفكر الإسلامي، الركام هو الذي أفقدها نظرتها. هل يمكن أن نعد الشيخ مصلحاً في هذا السياق؟ أظن أنه نجنبه مصطلح الإصلاح بالمعنى الضيق، أما بالمعنى العام لعبارة الإصلاح، فنعم، لم يكن الشيخ محمد الخضر حسين مصلحاً كشأن الشيخ بيرم الخامس، وإن كان الشيخ بيرم الخامس متطوراً، أو غيره من الذين عاشوا؛ كخير الدين الذي تكلم عن الإصلاح، والطهطاوي، وكل الذين

تكلموا على موضوع الإصلاح بالمعنى الذي ذكرته. الفكرة الأخيرة تتعلق بالتطوير انطلاقاً من القيم المدنية، وهذا لافت في نظر الشيخ؛ لأن العودة إلى الأصل، التطوير بالتفقه بالدين، هذا من شأن المنظومهّ الدينية الداخلية، ولكن للشيخ فكراً يدعو إلى تطوير المنظومة الدينية عبر القيم التي هي إسلامية محضة؛ كالوقت، كالعمل، كالعمران، هذه المصطلحات التي تناولها الشيخ في "السعادة العظمى". هذه القيم التي كان يبدو أن ثقافة المسلمين كانت خالية منها، فجاء يدعو إليها بمقتضى الأصل، بمقتضى القرآن والسنّة، وبمقتضى حال الوقت، أو بمقتضى روح العصر الذي عاشه، وهو في سنة 1904 م، وقد أصدر مجلة "السعادة العظمى". أريد أن أختم بأن الشيخ اهتدى لأول مرة في تونس إلى الصحافة الدينية. صحافة، ما دورها؟ من كان يكتب فيها في تلك الفترة من 1860 إلى 1888 م بجريدة الحاضرة إلى "السعادة العظمى"، وإلى المجلة "الزيتونية"؟ أقطاب الفكر التونسي كلهم كانوا يكتبون في الصحافة. جلّ المفكرين التونسيين من المدرسيين، أو من المسجديين كانوا يكتبون في الصحافة. أليس من الجرأة التي تعيدني إلى من جاء من "نقطقه" حيث الاتساع إلى الحاضرة؛ حييث الضيق والمحبس، لكي ينشر قيما في الصحافة التي كانت تقرأ في المقاهي الأدبية، وفي الجمعيات، وفي المنتديات؛ حيث كان عامة الناس من الذين يجهلون القراءة والكتابة، يصغون إلى من يقرؤون عليهم الصحف والمجلات، ومنها: "السعادة العظمى".

خاتمتي: هي كون الشيخ لم يكن من الإصلاحيين، بل كان من التطويريين، لم يكن من المجددين، بل كان من التطويريين، وحسبه أنه نفخ في البلاد التونسية عبر "السعادة العظمى" هذه النسمات التي سيجني منها الفكر التونسي من خلال "المجلة الزيتونية" ما به يرسي ثوابت للفكر الديني. وكانت "السعادة العظمى" تجذف مع تيار لمجلة أخرى هي مجلة "العالم الأدبي" لزين العابدين السنوسي، وكانت نفحاتها تحديثية. و"المجلة الزيتونية" كانت تجذف مع تيار مجلة "المباحث"، وإن كانت -أيضاً- تحديثية. انظروا هذا التوازي في المجلات الدينية التحديثية، كيف أننا إزاء تيارين هما اللذان سيصنعان هويتنا اليوم، فأية هوية نختار خارج هذا الاعتدال بين منابت دينية ومنابت حداثية. وهذا ما أرساه فينا الشيخ محمد الخضر حسين. وشكراً لكم على الصبر.

الإمام الشيخ محمد الخضر حسين مفسرا

محاضرات الندوة الإمام الشيخ محمد الخضر حسين مفسرا ً (¬1) يُعَدُّ الشيخُ محمد الخضر حسين من روّاد الحركة الإصلاحية الإسلامية الحديثة؛ مثل: محمد عبده (1849 - 1905 م)، ورشيد رضا (1865 م - 1935 م)، وعبد الرحمن الكواكبي (1854 م - 1902 م)، وسالم بو حاجب (1828 م -1925 م)، وغيرهم. ومِنَ المعروف أنَّ شخصيةَ الخضر حسين رجلِ "الهداية"، وصاحبِ "السعادة" شخصيةٌ ثريةٌ متعددةُ الاهتمامات. فمنها: الاهتمامُ الصحفي الذي بدأ به نشاطه. ومنها: الاهتمامُ التربوي؛ إذ اشتغل بالتدريس في جامع الزيتونة، والأزهر، والاهتمامُ الصحفي الإصلاحيُّ الإسلاميُّ التنويريُّ، والاهتمامُ الديني الذي يتبوَّأ مكانةً بارزةً في حياته، إنْ لم نقل: إنه يحتل الحيِّزَ الأَوفرَ في شخصيته. وهو من رجال الفكر والأدب التونسيين مولداً ونشأةً، ساهم في إخصاب التراث العربي الإسلامي بإنتاج ثري ومتنوع في الحقلين الأدبي والديني؛ إذ كان -رحمه الله- "عَلَماً من أعلام الإسلام، وكان تعريفاً وتشريفاً للتونسيين ¬

_ (¬1) محاضرة الأستاذ أنور بن خليفة - باحث ومدرّس في معاهد الجامعة الزيتونية.

وجامع الزيتونة، ومفخرةً للمغرب الإسلامي كلِّه" (¬1). وقد كان الرجلُ -إلى جانب كل ما ذكرنا- مُفَسِّراً للقرآن الكريم -كما تشهدُ بذلك آثارهُ-؛ إذ كانت أغلبُ آثاره تتصل بالعلوم الدينية مباشرة، وكانت الطاغيةَ على شخصيته الثقافية؛ مما يجعل آراءَه في المجال الديني تستحق بحثاً مفصلاً، وخاصة: تفسيره للقرآن الكريم. والمُتَمَعِّنُ في إنتاج الخضر حسين في التفسير يُدْركُ -دونَ عناءٍ- أهميةَ منهجه في التفسير، واستقلاليتَه عن التفاسير السابقة والمعاصرة له، والحديثُ عن الشيخ محمد الخضر حسين مفسراً من خلال تفسيره "أسرار التنزيل"، وبقية آثاره يقتضي منّا التركيز على المسائل التالية: أولاً: إنتاجه في التفسير. ثانياً: مصادره في تفسير القرآن الكريم. ثالثاً: منهجه في تفسير القرآن الكريم. ولكن -باعتبار أنَّ ثقافةَ المفسِّر، واتجاهاتِه الفكريةَ، وما يسود عصرَه من علوم ومناهجَ واتجاهاتِ وأحداث مختلفة، ينعكس غالباً على تفسيره- يجدر بنا أن نقف على بيئته، وتكوين شخصيته، ومختلف المراحل التي مرَّ بها في حياته. والشيخُ محمد الخضر حسين صورةٌ عن عصره الثقافي، والبيئات المختلفة التي تقلَّبَ فيها؛ حيث وُلد في بلدة "نفطة" بالجنوب الغربي التونسي ¬

_ (¬1) علي الرضا الحسيني (الإمام محمد الخضر حسين بأقلام نخبة من أهل الفكر) -مقال محمد الخضر حسين ذلك الجندي المجهول- بقلم عبد القادر سلامة - الدار الحسينية للكتاب، ط 1/ 1992/ م ص 146.

يوم (26 رجب 1293 هـ 21/ جويلية 1873 م) (¬1) في أسرة شريفة عُرِفَتْ بعلمها وفضلها. و"نفطة" مدينةٌ ذاتُ تاريخ، عُرفت بأثرها في العلوم الدينية والأدبية حتى لُقِّبَتْ "بالكوفة الصغرى" (¬2)، فقد برز فيها عددٌ من كبار العلماء، كان لهم دورٌ بارزٌ في حفظ العلوم، ونقلها إلى الأجيال اللاحقة عنهم. وقد تميَّزت بكثرة مساجدها، وما كانت تقدِّمهُ للتلاميذ الوافدين عليها من تعليم وتكوين؛ إذ كان يقصدها طلبةُ العلم من الجزائر وتونس". أما في أسرته، فقد عُرِفتْ أمه بثقافتها الواسعة، وحرصها الشديد على حسن تربيتها لأبنائها، وإشرإفها على تعليمهم. وجثُهُ للأم هو الشيخ مصطفى ابن محمد بن عزوز، وقد اشتهر أبوه الحسين بالعلم والورع والصلاح، تتلمذ على الصوفي الشهير الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري ناشر الطريقة الرحمانية (¬3). وخالهُ هو الشيخ محمد المكي بن عزوز العالمُ الجليلُ الذي وُلد سنة (1270 هـ / 1850 م) بنفطة، واشتهر بنبوغه في الفنون الأدبية، والعلوم الرياضية، والعناية بعلوم الحديث، وكانت له وجهةٌ إصلاحيةٌ. وقد أشار الشيخ محمد الخضر حسين إلى البيئة العلمية الأولى حيث تلقى تكوينه الأول، فحفظ القرآن الكريم، ودرَس الكتب الأولى في علوم ¬

_ (¬1) اختلفت الروايات في ضبط تاريخ ميلاده: - ذكر علي الرضا الحسيني سنة 1874 م في كل ما نشر من مؤلفات الشيخ. - أبو القاسم محمد كرو سنة 1876 م في "أعلامنا" تونس 1974 م، وكذلك "دائرة المعارف التونسية" (ج 3 ص 690). (¬2) محمد الفاضل بن عاشور "تراجم الأعلام "/ 1970/ م، ص 190. (¬3) محمد الفاضل بن عاشور "تراجم الأعلام" / 1970/ م، ص 187.

اللغة والدين إذ يقول: "نشأت في بلدة من بلاد الجريد بالقطر التونسي يقال لها: "نفطة"، وكان للأدب المنظوم والمنثور في هذه البلدة نفحاتٌ تهُبُّ في مجالس علمائها، وكان حولي من أقاربي وغيرهم من يقول الشعر، فتذوقتُ طعم الأدب من أول نشأتي، وحاولت وأنا في سن الثانية عشرة نظمَ الشعر" (¬1). والتحق الخضر حسين سنة (1307 هـ / 1887 م) بجامع الزيتونة، وكان متهيئاً لتلقي العلوم؛ لما أُتيح له من تكوين خاص، وقد وافق دخولُهُ حركةً إصلاحيةً عميقةً شملتْ العلومَ والكتبَ المقرَّرَةَ ومناهجَ التدريس، وكان لهذا الإصلاح أثرُهُ الإيجابيُّ في تكوبن شخصيته، مع ما تلقاه من علم على عدد من الشيوخ الذين تأثر بهم، وتلقى عنهم العلمَ، ومن أبرزهم: الشيخُ سالم بو حاجب، والشيخ عمر بن الشيخ، ومحمد النجار (1839 م - 1912 م). وبذلك فقد تلقى علومَه من شيوخ تميزوا بالبراعة في التدريس والمحاضرة، والتبحر في العلوم اللغوية والشرعية، وكان لهذا الاتصال أثرُهُ؛ إذ تجلَّت هذه الخصال فيه، وظهرتْ في مقالاته ومحاضراته. ثم انتقل إلى سورية في ديسمبر 1912 م؛ حيث استقر بدمشق مع عائلته، والدته وإخوته الأربعة الذين سبقوه إلى هناك، وخلال إقامته كان مثابراً على نفس النشاط العلمي والإصلاحي الذي كان يقوم به في تونس، فكان يكتب المقالاتِ في الصحف والمجلات، ويلقي المحاضرات. وقد امتازت هذه المرحلة من حياته في سورية بكثرة التنقل والسفر بين البلدان العربية والأوروبية خاصة. ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين ديوان "خواطر الحياة"، القاهرة سنة 1953 م، (ص 5).

ومن سورية انتقل إلى مصر في 24 جويلية 1920 م؛ حيث قضَّى فيها بقية عمره. وقد توجَّهَ اهتمامُه إلى تأسيس الجمعيات، وواصل نشاطَه العلمي والثقافي؛ إذ كان يلقي المحاضرات والدروسَ الدينية بالمساجد، ويكتب المقالات في بعض الصحف والمجلات لخدمة الإسلام والمسلمين. وانتُدِب للتدريس بالأزهر في قسم التخصص سنة (1927 م)، وبلغ مجدَه العلمي والديني حيث أصبح شيخاً للأزهر يوم الأربعاء (27 ذو الحجة سنة 1371 هـ / 17 ديسمبر 1952 م). وواصل جهوده العلمية، فكان ينشر البحوثَ الدينية والمقالات في بعض المجلات؛ مثل: "لواء الإسلام"، التي كان أحد المشرفين عليها، ومحرراً لقسم تفسير القرآن الكريم فيها تحت عنوان: "أسرار التنزيل"، ثم جُمعت هذه البحوث في كتاب واحد يحمل نفس الاسم، بعد أن قام علي الرّضا الحسيني بجمعها وتحقيقها. وبذلك فلقد تكونت شخصية الخضر حسين تكويناً شاملاً بعد أن مرَّ بمراحل عديدة، واتصل بشخصيات علمية. ولئن امتازت المرحلة الأولى التي قضاها بتونس بالتعليم والتكوين، واختصت المرحلة الثانية التي قضاها بالشام، وبعض البلدان العربية والأورويية بكثرة التنقل والترحال، فإن المرحلة الأخيرة التي سماها محمد الفاضل بن عاشور (16/ أكتوبر 1901 م -/ 19 أفريل 1970 م): "مرحلة المجد الثقافي والشهرة العلمية" (¬1)، هي التي عرف فيها أعلى المراتب العلمية، وأشرف على مشيخة الأزهر. ¬

_ (¬1) في محاضرة ألقاها بمناسبة أريعينية الشيخ محمد الخضر حسين في 20 مارس 1958 م محمد مواعدة "محمد الخضر حسين حياته وآثاره" (ص 86).

وقد تبين لي: أن للشيخ محمد الخضر حسين مكانة علمية كبيرة، وأنه يتميز بسعة المعارف، وتنوع المؤلفات وغزارتها. فهو القائدُ الذي واجه الاستعمارَ الفرنسي في تونس، فعمل على استنهاض الشعب بإبراز قيمة الحرية في الإسلام، وقد دفع ثمنَ ذلك الهجرةَ من الوطن الذي نشأ فيه وترعرع. وقد واجه تسلُّط أحمد جمال باشا وجبروته في دمشق، خاصة مع المفكرين ورجال النخبة المثقفة، فعمل على بث العلم في صفوف شبابها من خلال تدريسه بالمدرسة السلطانية، وشحذ همم رِجالها من خلال إلقاء المحاضرات العلمية بالجامع الأموي. فدفع ثمنَ ذلك السجنَ والتعذيبَ. وتصدَّى لخطر فكر أراد النيل من الدين الإسلامي وسماحته في مصر، فنقض كتابي: علي عبد الرازق، وطه حسين، وعمل على تنظيم النظم الاجتماعية وتطويرها "من خلال بعث الجمعيات"، وأثرى الحياة الفكرية "إنشاء المجلات"، فلاقى جزاءَ ذلك التدريس بالأزهر قرابة العشرين سنة، ودخول هيئة كبار العلماء، وتقلَّد مشيخة الأزهر. وقد ساهمتْ هذه المحطاتُ في إثراء الزاد المعرفي والفكري للشيخ؛ حيث لاقى في كل مرحلة علماءَ الأمة وأقطابَها، وهو ما ساهم في بلورة فكره الديني، وترجيح كفّة العلوم الدينية في كتاباته، ترجيحاً توَّجَهُ باتجاهه إلى علم التفسير من خلال كتاب "أسرار التنزيل"، الذي وضعه بداية من سنة (1366 هـ / 1947 م). أولاً - إنتاجه في التفسير: طرق الخضر حسين بابَ التفسير، فعقد دروساً دينية في تفسير القرآن

الكريم (¬1)، وكَتبَ في المجلات (¬2)، وقد جُمعت وطُبعت ووُزعَتْ ليعمَّ نفعُها، ويزدادَ أثرُها، وقد "استمر في هذا العمل الجليل حتى أثقلتْهُ السنون، وقد قارب عمرُه الطاهرُ الثمانين عاماً" (¬3). ولم تكن هذه الدروسُ والكتاباتُ على شيء من الكثرة، فلم يكن مقدارُ ما تناوله من آيات القرآن بالمقدار الكبير الذي كنّا نرغب في أن تُزوَّد به المكتبة الإسلامية. وإذا نحن ذهبنا نستقصيه، فإنا نجده في تفسيره لسورة (الفاتحة) (¬4). وكذلك قام بتفسير القسم الأكبر من سورة (البقرة) من بدايتها إلى الآية 193 من قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} [البقرة: 193] (¬5). ¬

_ (¬1) دروس التفسير التي ألقاها في بعض النوادي والجمعيات الإسلامية والمساجد، ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" التي كان يصدرها المؤلف في القاهرة. (¬2) مجلة "لواء الإسلام" التي كانت تصدر بالقاهرة، وكان رئيساً لتحريرها بدءاً من العدد الصادر بتاريخ الأول من شهر رمضان لعام (1366 هـ / 1947 م) حتى العدد الثاني عشر من السنة الرابعة، والصادر في شهر شعبان لعام (1370 هـ / 1951 م). (¬3) علي الرضا الحسيني - تقديم كتاب أسرار التنزيل" الذي قام بجمعه، وصدر سنة 1976 م. (¬4) مجلة "لواء الإسلام"، العدد الأول من السنة الأولى/ كتاب "أسرار التنزيل" من (ص 7 إلى 12). (¬5) مجلة "لواء الإسلام" من العدد الثاني إلى العدد السابع السنة الأولى/ كتاب "أسرار التنزيل" (13 - 311).

وقام بتفسير آيتيْ سورة (البقرة) (119 - 120) من قوله تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 119] إلى قوله {... مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] (¬1). تفسير الآيات (52 - 53 - 54 - 55) من سورة (آل عمران)؛ أي من قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ...} [آل عمران: 52]، إلى قوله: {فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 55] (¬2). تفسير الآية (159) من سورة (آل عمران) من قوله تعالى: ({فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ...} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] (¬3). تفسير الآيات (24 - 25 - 26) من سورة (الأنفال) من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ...} [الأنفال: 24]، إلى قوله: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26] (¬4). تفسير الآيات (62 - 63 - 64 - 65) من سورة (يونس) من قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ ...} [يونس: 62] إلى قوله: {نَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس: 65] (¬5). ¬

_ (¬1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الحادي عشر/ كتاب "أسرار التنزيل" (318 - 322). (¬2) ن م - الجزء الثاني من المجلد الثامن عشر/ كتاب "أسرار التنزيل" من الصفحة (323 - 328) .. (¬3) ن م - ج 3 مج 11/ كتاب "أسرار التنزيل" من الصفحة (329 - 333). (¬4) ن م - ج 2 مج 11/ كتاب "أسرار التنزيل" من الصفحة (334 - 340). (¬5) محمد الخضر حسين كتاب "أسرار التنزيل" من الصفحة (341 - 345).

تفسير الآيتين (27 - 28) من سورة (الحج) من قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ ...} [الحج: 27} إلى قوله: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] (¬1). قام بتفسير خمس آيات (21 - 25) من سورة (ص) من قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا ...} [ص: 21]، إلى قوله: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] (¬2). ونجد من آثار الخضر حسين في التفسير تلك الدروسَ التي ألقاها في الأزهر الشريف "محافظة على سُنَّة الكثير من أهل العلم حيث يمرُّون بالأزهر" (¬3)، فقام بتفسير الآيات: (122) من سورة (التوية) من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ...} إلى آخر الآية. (26) من سورة (غافر) من قوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ...} إلى آخر الآية. (22) من سورة (الأنبياء) من قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ ...} إلى آخر الآية. ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإسلام"، العدد 4 من السنة 1، كتاب "أسرار التنزيل" من الصفحة (346 - 350). (¬2) مجلة "الهداية الإسلامية" 1، ج 4 من المجلد 11 - كتاب "أسرار التنزيل" من الصفحة (351 - 358). (¬3) محمد الخضر حسين من دروسه في التفسير التي ألقاها في الأزهر - نشرت بجريدة "الزهرة" يوم الثلاثاء (17 ربيع الثاني 1331 ص 25/ مارس 1913 م).

(69) من سورة (يس) من قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ...} إلى آخر الآية (¬1). وقام بتفسير الآيات (21 - 22) من سورة (البقرة) من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ...} [البقرة: 21]، إلى قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] (¬2). وكذلك نجد له بعض البحوث التفسيرية عالج فيها بعض مشكلات القرآن، ودفع بها بعض ما أثير حول القرآن من شكوك وإشكالات؛ كشرحه لقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ..} [القيامة: 3] (¬3). وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا ...} [الأعراف: 157] (¬4). وقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ...} [الأنعام: 20] (¬5). وقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ¬

_ (¬1) ن م. (¬2) ملخص درس من دروس التفسير التى كان يلقيها فى دار (جمعية الهداية الإسلامية) بالقاهرة - وقد نشر في مجلة "الهداية الإسلامية" ج 12 من مج 13 - كتاب "أسرار التنزيل" من (312 - 317). (¬3) "محمد رسول الله وخاتم النبيين" (ص 44). (¬4) ن م ص 45 - 46. (¬5) ن م ص 46.

وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} [يس: 36] (¬1). وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ...} [التوبة: 6] (¬2). وكانت له بعض المقالات المتضمنة لتفسير بعض الآيات؛ مثل قوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ...} [الكهف: 20} (¬3). قولى تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ...} [النساء: 135] إلى قوله: {وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] (¬4). قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ...} إلى قوله: {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] (¬5). هذا كلّ ما للخضر حسين -رحمه الله- من إنتاج في التفسير، وهو -على قلّته- عملٌ كبيرٌ وعظيمٌ، بالنظر لما يهدف إليه من إصلاح، وما يحمل في طياته من توجيه حَسَنٍ في التفسير، وحَسْبُ الشيخ أن يكون قد لفت قلوباً كثيرة من المسلمين إلى القرآن بعد أن أعرضوا عن هديه، وضلوا عن إرشاده، وتلك حَسَنةٌ نرجو له برّها وذخرَها عند الله تعالى. وهذه القلة في التفسير لا تعني مطلقاً أن الشيخ لم يكن مطلعاً على ¬

_ (¬1) ن م ص 48. (¬2) ن م ص 108. (¬3) ن م ص 109. (¬4) ن م ص. (¬5) "محمد رسول الله وخاتم النبيين" (ص. 11).

ما كتبه أهم أعلام التفسير، سواء ممن سبقه، أو من عاصره، وهو -كما ذكرنا سابقاً- يُمضي أغلب أوقاته في القراءة والاطلاع على أمَّهات الكتب، وهو ما يوضِّح بصورة جلية تنوُّع مصادر الشيخ في التفسير وثراءَها. ثانياً - مصادره في تفسير القرآن الكريم: كان الشيخ يستند في تفسيره للقرآن الكريم على كتاب الله تعالى ذاته؛ إيماناً منه بأنه مصدر للتفسير؛ باعتبار أن ما أُجمل في موضع قد فُصِّل في موضع آخر، وما أُبهم في آية قد عُيِّن في آية أخرى ... وكان يستند -أيضاً- إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبيان السلف من الصحابة والتابعين استنادَه إلى أساليب اللغة والبلاغة، وما كتبه المفسرون، ولكنه لم يُلْغ عقله، بل كان يضع هذه المصادرَ والمراجعَ كلَّها أمام نظره. وقد كان الخضر حسين ينهج في الإشارة إلى مصادره ومراجعه الطرقَ التالية: إما أن يصرِّح باسم المؤلف، ولا يذكر اسم الكتاب. وإما أن يذكر اسم الكتاب، ولا يصرِّح باسم المؤلف. وإما أن يصرح باسم المؤلف والكتاب معا. وسوف أستعرض مصادر الخضر حسين من خلال ثلاثة أوجه رئيسية: أولاً: مصادره في التفسير وعلوم القرآن. ثانياً: مصادره في الحديث وعلومه. ثالثأ: مصادره في اللغة والنحو والأداب. أولاً - مصادره في التفسير وعلوم القرآن: التفسير: إن المتأمل في تفسير الخضر حسين يقف على مصادر متنوعة في العلوم الإسلامية الأساسية، وخاصة التفسير، وكان اعتماده الأكثرُ في هذا العلم على تفسير الزمخشري (ت 538 هـ) "الكشاف"، وابن العربي

(ت 638 هـ) في تفسيرآيات الأحكام "واضح السبيل إلى معرفة قانون التأويل بفوائد التنزيل"، و"كشف المعاني" لابن جماعة (1422 م - 1457 م)، وتفسير القاضي البيضاوي (ت 658 هـ / 1286 م) "أنوار التنزيل وأسرار التأويل". وبرغم أنه لا يغفل عن ذكر المصادر والمراجع التي ينقل عنها، إذ تجده في عديد المقالات يعدد كتب التفسير التي نهل من معينها، والتي ركز عليها في أثناء تفسيره للقرآن الكريم، فهذا لا يعني حصره لكل ما جاء في تفسيره من مراجع، فقد نجد الكثير مما لم يتطرق إليه بالذكر؛ إذ نجده رجع في بعض المواضع إلى كتب "شروح الكشاف" للجرجاني (1340 م / 1413 م)، وابن جريج (699 م / 767 م)، والطبري (ت 315 هـ)، ويكتفي -في بعض الأحيان- بالإشارة إلى ذلك بالقول: "ذهب كثير من المفسرين إلى"، و"قال المفسرون"، "جمهور المفسرين"، دون الإشارة إلى الكتب. وبذلك فإن الخضر حسين في اعتماده على بعض أعلام المفسرين قد انتهج الطرق التالية: - نقل بعض المواقف والأفكار والآراء، ومخالفتهم في مواقف أخرى؛ كما فعل مع الزمخشري. - مجرد النقل الحرفي لمواقف مفسرين آخرين طالما اعتبرهم معلمين له، ودرسهم لتلاميذه، فالتقى معهم في الأفكار والآراء؛ مثل: البيضاوي، وابن العربي. - الاعتماد على بعض المفسرين لتدعيم مواقف يراها، وذلك قصد تدعيم وإثبات توجهاته. علوم القرآن: اعتمد الخضر حسين في مجال علوم القرآن على السيوطي

(1445 م / 1505 م) في "الإتقان"؛ إذ نجده يُكثر من الرجوع إليه في أغلب مقالاته المتعلقة بالقرآن، وخاصة في تفسيره "أسرار التنزيل". وللإشارة، فإن السيوطي قد مثّل مصدراً أساسياً في علوم القرآن بالنسبة لجميع المفسرين من بعده، وخاصة في العصر الحديث. ثانياً - مصادره في الحديث وعلومه: الدَّارسُ لتفسير الخضر حسين "أسرار التنزيل"، والمُطَّلعُ على بقية آثاره، يعثر -دون عناء- على مصادره من الحديث النبوي التي يعتمد عليها. والملاحظ: أن مجموعة من الكتب وأصحابها كانت تتصدر القائمة، وأخرى لم تزد الإشارة إليها على مرة أو مرتين خلال تفسيره للقرآن الكريم. أما أكثرُ هذه المصادر التي كان كثيراً ما يعود إليها، ويستقي منها -فيما بدا لي-، فهي: "صحيح البخاري"، و"صحيح مسلم، و"سنن التّرمذي"، و "النسائي"، و "موطا مالك"، و "السنن الكبرى للبيهقي" ... وهي -في مجملها- أصحُّ الكتبِ المتضمنةِ لأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولا غرابةَ في أن تحتلَّ الأولويةَ في مصادره، ذلك أنه التزم بضرورة الأخذ بما صحَّ من الأحاديث. أمّا منهجُهُ في ذلك، فهو الرجوعُ إلى سائر المصادر الأخرى؛ من حيث ذكرُ المرجع ومؤلفه معا، أو ذكر المرجع دون الإشارة إلى اسم مؤلفه، أو الاكتفاء بالإشارة إلى صاحب المرجع فقط. وبذلك فإن الخضر حسين قد حافظ على سنَّة المفسرين في اعتماد الحديث النبوي لتفسير القرآن الكريم، معتمداً على أهمّ الكتب في الحديث، وقد كان أميناً في نقله عن المحدِّثين برغم أنه يكتفي بالإشارة فقط إلى

مصدر الحديث بصيغة تدل على درجة الحديث فقط. وفي بعض الأحيان يذكر الحديث بالمعنى دون المحافظة على الألفاظ التي ورد بها الحديث. ولئن كان مُقَلِّداً في اعتماد الحديث للتفسير، فإن كتابه يخلو من الضعيف والموضوع، متجنباً لخوض في بعض الاختلافات الحاصلة حول رفض بعض الأحاديث. وبذلك تظهر إضافة الخضر حسين في مجال الاعتماد على الحديث في أنه تجاوز سُنَّةَ القدامى من المفسرين في ذكر أسانيد الأحاديث، ولم يُثقل قارئ تفسيره بأسماء الرواة. ثالثاً - مصادره في اللغة والنحو والأداب: ما تجب الإشارة إليه: أن المصادر والمراجع التي اعتمد عليها في هذا المجال عديدة ومتنوعة، وليس من قبيل المبالغة إذا قلنا: إنها تفوَّقت على جميع المصادر التي اعتمد عليها في تفسيره، برغم أنه نادراً ما يذكر المصدرَ أو صاحبَه. ومن الملاحظ: أنه لا يقتصر في استشهاده بآراء أغلب هؤلاء الأئمة على التأييد فقط، بل كان يخالفهم الرأي، أو يُفنِّد ما أقرُّوه، برغم أنه يُظهر نفسَه بمثابة التلميذ المتعلم من شيخه، والساعي إلى الاستفادة بمذاهبهم في النحو، فهو غالباً ما يسعى لتقريب وجهات النظر، والعمل على تقليص الهوَّة والاختلافات، خاصة في فهمه لآيات الذكر الحكيم. ومن أكثرِ الأسماء التي تداولها في تفسيره "أسرار التنزيل"، ابن هشام (ت 761 هـ) في كتابه "مغنى اللبيب"، وعبد القاهر الجرجاني (ت 1078 م) في كتابيه: "أسرار البلاغة"، و"دلائل الإعجاز"، وسيبويه في "الكتاب"،

ثم السكاكي (ت 1229 م)، والزجاج (ت 923 م)، والكسائي (ت 850 م) ... وتتعدد الأسماءُ في مختلف الكتب، وكذلك تتالت أسماءُ عديدةٌ للعلماء الذين اهتموا بالقرآن من حيث دراسةُ معانيه وإعجازه البياني واللغوي؛ من أمثال: الكسائي، والزمخشري، وابن قيم الجوزية (ت 751 هـ)، والفيروزبادي (ت 1415 م)، الذي يشير إليه دائماً بصاحب "القاموس". وله مصادرُ في فنون أخرى متنوعةٌ؛ مثل: التراجم والسير، والتاريخ والعلوم ... رأيتُ أن لا اْذكرها، إذ لو جمعتُ كل ما ذكر من مؤلفات ومصنفات، لاستغرق مني ذلك حيزاً كبيراً، ولكن اقتصرت على ذكر نماذج منها، علّها توضِّح منهجه في مساره الفكري والثقافي، وخاصة في تفسيره للقرآن الكريم. ثالثاً- منهجه في تفسير القرآن الكريم: يمكن استخلاص منهج الشيخ محمد الخضر حسين في المفسير من خلال تعريفه لعلم التفسير، وتحديد موضوعه وأغراضه، وهو يراه: علماً "من أشرف الصناعات؛ لأن موضوعَه كلامُ الله تعالى، والغرضُ منه الاعتصامُ بالعُروة الوثقى، مع أن الناس في حاجة شديدة إليه ... " (¬1). وهو -في نظره- ينبني على علوم كثيرة شرعية ولغوية، من ذلك: أنه يرى من شروط المفسر "أن يكون عارفاً بعلوم اللغة العربية، وفنون بلاغتها ... " (¬2). ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "بلاغة القرآن" (ص 23). (¬2) ن م ص.

وقد بَيَّنَ الغرضَ من علم التفسير، فحددَ له أمرين أساسيين: فهمَ معاني القرآن المُمَكِّنَ من استخراج أحكامه، والاستدلالَ به على صدق النبوة؛ إذ يقول: "أُنزل القرآن لمقصدين ساميين: أولهما: هداية البشر إلى سبل السعادة في الحياتين الدنيا والآخرة، وثانيهما: دلالته على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما ادّعاه من الرسالة التي هي مطلعُ تلك الهداية العامة، فكان أعظمَ معجزة وأخلدَها على وجه الأرض" (¬1). هذه أهمُّ الأغراض التي حرص على بيانها من خلال تفسيره، وقد تعرَّض في مجمل آثاره، وفي أثناء حديثه عن التفسير إلى أنواعه، فذكر التفسيرَ بالمأثور، والتفسيرَ بالرأي، وخصائصَ كلِّ واحد منهما، وبعضَ نقاط الضعف فيها؛ مثل: الإسرائيليات في التفسير بالمأثور. أما التفسير بالرأي، فقد جاءه النقص من ناحيتين: عدم الأخذ بأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التفسير من ناحية، أو بعدم الموافقة لما تقتضيه قواعد اللغة أو بلاغتها من ناحية أخرى. كما ذكرَ بعضَ أنواع التفسير التي اعتُبرت مخالفةً للحكم المقصود من التفسير، بل خرج البعضُ منها عن الدين وأصوله، وخالف أحكامَه، وأهمُّها: التفسير الإرشادي، والتفسير الباطني. أما المنهجُ الذي اتبعه في تفسيره للقرآن الكريم، والوسائل التي اعتمدها لبيان ما فيه من أهداف سامية، وأغراض ومعانيَ جليلةٍ، فيقوم على أسس ثلاثة، هي: اللغة، المأثور، والرأي. ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "بلاغة القرآن" (ص 26).

ولا يعني التّركيز على هذه الدعائم أنّ مباحثه لم تستند إلّا عليها، وإنما هي ركائزُ بدتْ أكثرَ وضوحاً، ورأيتُ أنها الأجدرُ بالدراسة والتّحليل، إضافة إلى تضمُّنِها موضوعاتِ مهمّةً على صلة وثيقة بموضوع عملنا. الأساس الأول - اللغة: إن الأساسَ الأولَ -وهو اللغة- استحوذ على النصيب الأوفر، ولأن "خلفية المفسر العلمية تبدو في تفسيره واضحة، وقد تطغى على الجوانب العلمية الأخرى في تفسيره، فالزمخشري العالم المفسر اللغوي ظهرت آثار بلاغته وتقدمه في تفسيره الكشاف" (¬1). فقد ظهرت براعةُ الخضر حسين، وقدرتُه في اللغة في تفسيره للقرآن الكريم؛ بحيث يمكننا اعتباره تفسيراً لغوياً. وتعتبر اللغة في تفسيره من أهم وأبرز الأسس التي قام عليها، واستوى على سوقه، بل هي العَصَبُ الذي يشدُّ أركانَ هذا التفسير ويُقوِّيه، ويميزه ويتميز به. فهو يقدِّم علوم العربية على ما سواها في مجمل آثاره، وذلك لأهميتها العظمى عنده؛ إذ يقول في ذلك: " ... يفهمه (القرآن) كل من له إلمام باللغة العربية، سواء عليه كان خبيراً بطرق البلاغة، أم فاقد الإحساس التي يتذوق به طعمها ... " (¬2). ومن خلال تفسيره للقرآن الكريم تبين لي: أنه عَكَفَ في مجمل مباحثه المتعلقة بالعربية على: ¬

_ (¬1) مرتضى محمد تقي الإيراواني "الشيخ الطبرسي وآراؤه النحوية من خلال كتابه: مجمع البيان" رسالة ماجستير، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة 1980 م (ص 91). (¬2) محمد الخضر حسين "بلاغة القرآن" (ص 12).

- المعجم. - النحو والإعراب. - علم البلاغة (المعاني، البيان، البديع). - المعجم: يعتمد الخضر حسين اعتماداً كبيراً على اللغة، فيهتم: ببيان المفردات: اهتم الشيخ بإيضاح المفردات القرآنية، وبيان أصولها اللغوية العميقة؛ ليوفر لقارئ كتاب الله تعالى معرفةً بأصول كلام العرب الذي به نزل القرآن، ويكون أقدرَ على فهم النصوص التي تتألف من مثل هذه المفردات. والأمثلة توضِّح ذلك: قال في شرح كلمة "الفاسقين" من قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]. "الفاسقون: جمع فاسق. وهو في أصل اللغة: الخروج. يقال: فَسَقَت الرطبة من قشرها؛ أي: خرجت منه. وشرعاً: الخروج عن طاعة الله، فيشمل الخروجَ من حدود الإيمان، وهو الكفر، ثم ما دون الكفر من الكبائر والصغائر. ولكنه اختص في العرف من بعدُ بارتكاب الكبيرة. ولم يُسمَع الفسق في كلام الجاهلية بمعنى الخروج عن الطاعة. فهو بهذا المعنى من الألفاظ الإسلامية، وقَصْر الإضلال بالمثل على الفاسقين إيذانٌ بأن الفسق هو الذي أعدَّهم لأن يضلوا به؛ حيث إن كفرهم قد صرف أنظارهم عن التدبر فيه حتى أنكروه .. " (¬1). - عنايته بالاشتقاق: اهتم الخضر حسين بالاشتقاق في تفسيره، وذلك ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 48). (انظر -أيضاً-: أمثلة أخرى (ص 323، ص 350).

لأنّ معرفة اشتقاق الكلمة يزيد في بيان معناها، ويوضحه. ومن أمثله ذلك: يقول في تفسير قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180]. " ... والوصية: اسم من أوصى يوصي، فهو بمعنى: الإيصاء، وقد تستعمل بمعنى: الموصى به. ومعنى الجملة: إذا حضر أحدكم الموت، وقد ترك مالاً كبيراً، وجب عليه الإيصاء بجانب منه لوالديه: أبيه وأمه، وأقاربه، وبدأ بالوالدين؛ لعظم حقهما ... " (¬1). - معاني الحروف: ومن نماذج ذلك نذكر ما قاله في تفسيره للآية: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 19]: "و (من) في قوله تعالى: (من الصواعق) للتعليل، وإنما كانت الصواعقُ داعيةً إلى سدّهم آذانهَم بأصابعهم؛ من جهة أنها قد تُفضي بصوتها الهائل إلى الموت. وجاء هذا صريحاً في قوله تعالى: {حَذَرَ الْمَوْتِ}، يقال: صعقته صاعقةٌ: إذا أهلكته بشدّه صوتها، أو با لإحراق. والمعنى: يسدُّون آذانهم من أجل الصواعق حذراً من أن تقتلهم بروعة صوتها" (¬2). كما يعتمد الخضر حسين على النحو والإعراب، وقد تميز منهجه في ذلك بخصائص عديدة منها: ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 287). (انظر -أيضاً-: أمثلة أخرى (ص 14، ص 15). (¬2) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 34). (انظر -أيضاً-: أمثلة أخرى) ص 186، ص 316).

* المزج بين المباحث النحوية والبلاغية: كان كلَّما تعرَّض لآية خلال تفسيره للقرآن الكريم، ذكرها بطريقة تدل على تمكنه من المادة التي يتناولها، مع ما عُرف به من الجمع بين المباحث النحوية الإعرابية، والمباحث البلاغية عند إعراب الآية الواحدة. فقد يبدأ بإعراب الآية إعراباً نحوياً، ويفاجئ القارئ بالدخول إلى مبحث بلاغي في نفس الوقت واللحظة، ومن نماذج ذلك تفسيره الآية الكريمة: يقول في تفسيره لقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 26]. "وأمَّا: حرف تصدَّر به الجملة للتأكيد. تقول: زيد ذاهب، فإذا قصدْتَ تأكيدَ ذلك، وإفادةَ أنَّ ذهابَه واقع لا محالة، قلت: فأما زيد فذاهب، والضمير في قوله: (أنه) يعود على المثل، أو على ضربه من قوله: {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} [البقرة: 26]. والحق: خلاف الباطل، وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكارُه. ووجه كون المثل أو ضربه حقاً: أنه يوضح المبهم، ويفصل المجمل، فهو وسيلة إلى تقرير الحقائق وبيانها. وقال: (أنه الحق) معرَّف بـ "ال"، ولم يقل: أنه حق؛ للمبالغة في حقيقة مثل. ومن المعروف في علم البيان: أن الخبر قد يؤتى به معرَّفاً بـ "ال"؛ للدلالة على أن المخبر عنه بالغ في الوصف الذي أخبر به عنه مرتبة الكمال. وأشار إلى ما يتلقى به الكافرون هذه الأمثلة عندما تتلى عليهم، فقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة: 26].

"ماذا: ما الذي. والإرادة في أصل اللغة: نزوع النفس إلى الفعل. وإذا أُسندت إلى الله تعالى، دلَّت على صفة له تتعلق بالممكنات. فيترجح بهذا أحدُ وجهَي المقدور. وقد كان جائزَ الوقوع، وعدم الوقوع. وقوله: (مثلاً) واقعٌ موقع التمييز لاسم الإشارة. هذا كقولك لمن أجاب بجواب غير مقبول: "ماذا أردت بهذا الجواب؟ ". وكلامُ هؤلاء الكافرين هي لفظة استفهام عما أراد الله من الأمثال، ومعناه: استحقارٌ لهذه الأمثال، وإنكارٌ لأن يكون الله قد ضربها للناس" (¬1). * كثافة المادة النحوية: تكثفت المادةُ النحويةُ الواردةُ خلال إعراب الشيخ محمد الخضر حسين للآيات القرآنية، حتى أصبحتْ سِمةَ تميَّز بها منهجُه الذي اعتمد فيه على ثقافته اللغوية النحوية دون العودة إلى ذكر مصادره، منها -على سبيل المثال- تفسير لقوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58]. " ... الحِطَّة: مِنْ حَطَّ بمعنى: وضع. وقد وردتْ هذه الكلمة وهي مفردة في معرض الحكاية بالقول: (وقولوا حطة)، والمعروف أن القول لا يُحكى به إلا الجُمل، ولا يُحكى به المفردات إلا أن يكون المفرد في معنى الجملة ... ومن أقرب ما تفسر به الجملة: أن يكون (حطة) مصدراً مراداً منه طلبُ حِطَّةِ الذنوب. وقد يجيء المصدرُ المرادُ منه الطلب مرفوعاً؛ نحو: ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 47)، (انظر -أيضاً-: أمثلة أخرى (ص 20).

"سلام عليكم"، ويُحمل من جهة صناعة الإعراب على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: مسألتنا حطة؛ أي: أن تحط عنا ذنوباً، والاقتصارُ في لفظ الجملة على الخبر وحده لقيام قرينة تدل على المبتدأ من أساليب الإيجاز المعدود في أبدع فنون البيان" (¬1). * استخراج الأسرار اللغوية بالاعتماد على أسلوب العرب: لمّا كان الخضر حسين شغوفاً باللغة وأسرارها، ضليعاً في معرفة خباياها، كان يعود إلى استعمالات العرب وأساليبهم، قاصداً من وراء ذلك أن يصل بالكلمة على القرار المكين بحسب مبلغ علمه وإدراكه. ومن نماذج ذلك: ما قاله في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: 85]. " ... هذا تقريعٌ لهم؛ لعصيانهم بارتكاب ما نُهوا عنه. وقد وردتْ هذه الجملة على أسلوب قول العرب: "ها أنت ذا قائماً"، فالضمير (أنتم) مبتدأ، واسم الإشارة (هؤلاء) خبر عنه. وجملة: (تقتلون أنفسكم) حال، وهي من قبيل الأحوال التي لا تحمل الفائدة من الأخبار إلا ذكرها ... " (¬2). وبعدَ أن تتبَّعْتُ منهجَه وموقفَه من استخدام النحو والإعراب في تفسير القرآن الكريم من خلال آثاره، وخاصة كتاب "أسرار التنزيل"، تبيَّن لي أنه يمتاز بثقافة نحوية كبيرة، جعلتْه يتخلص من أسر أئمة النحو؛ كسيبويه، ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 97)، و"الهداية الإسلامية" (ص 106). (¬2) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 137)، (انظر -أيضاً-: أمثلة أخرى (ص 352، 181).

والخليل، والفرّاء ... وهذا إنما يدلُّ على تمكُّن الخضر حسين من اللغة العربية، وامتلاكه لثقافة نحوية واسعة أهَّلته لتفسير القرآن الكريم. ويندرج ضمن اعتماده على التفسير البياني واللغوي: استشهادُه بالشعر العربي، وهو كثيرٌ جداً، ومتناثرٌ في "أسرار التنزيل"، وبقية آثاره. وقد تميزتْ شواهده الشعرية بالقوة والبيان والتنوع، وكان منهجه يراوح بين إسناد هذه الأشعار إلى قائليها، وعدمه، وهو في كل ذلك ملتزم بـ: - أن يكون الشعر شارحاً لبعض كلمات القرآن ومفرداته: مثال ذلك: ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93]. " ... الإشراب: السّقي، وهو إيصال مائع إلى الجوف من طريق الفم، واستُعمل على وجه التجوُّز في خلط لون بلون؛ كأنَّ أحدَ اللونين سقى الآخرَ، فقالوا: بياض مُشْرَبٌ بحمرة، وقالوا: أُشرب قلبُه على حب كذا: إذا خالط حبُّه قلبَه: إذا ما القلبُ أُشْرِبَ حُبَّ شيءٍ ... فلا تأملْ له الدهرَ انصرافا (الوافر) "ففي جملة: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} مضاف بمحذوف؛ لدلالة المعنى عليه، وهو لفظ: "حب"، والتقدير: حب العجل. والمعنى: أنّ حب العجل خالطهم حتى خلص إلى قلوبهم؛ كما يخالط الماء أعماق البدن. وحذفُ لفظ الحب من نظم الكلام يُشعر بشدّة تعلق قلوبهم بالعجل؛ حتى كأنهم أُشربوا ذات العجل ... " (¬1). ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 152).

- أن يؤكد بالشاهد من الشعر ما ترشد إليه الآية من معان: مثل ما قاله في تفسير قوله تعالى: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]. "تفيد هذه الجملة -بحسب وضعها الأصلي- النهيَ عن الموت في حال غير حال الإسلام، وليس الموت في استطاعة الإنسان حتى يَنهى عنه، أو يأمر به، وإنما النهي في المعنى متوجِّه إلى أن يكون المخاطبون في حال لو جاءهم الموتُ وهم متلبِّسون به، لوقعوا في خسران مبين، فنهيهم عن الموت في حال غير حال الإسلام يراد منه: الأمر بالثبات على الإسلام إلى حين الوفاة. والمعنى: اثبتوا على الإسلام، واستقيموا على مَحَجَّتِهِ البيضاء حتى يدرككم الموت، وأنتم في حال كونكم مسلمين. وكما ينهى عن الموت في حالة، والمراد: عن التلبس بتلك الحالة، يأمر بالموت في حالة، والمراد: الحث على التلبس بتلك الحالة؛ كما يقال: مُتْ وأنت شهيد. المراد: الحث على الاستشهاد في سبيل الله. ومن هذا القبيل قول المتنبي: عِشْ عزيزاً أو مُتْ وأنتَ كريمٌ ... بينَ طعنِ القنا وخفقِ البُنودِ (الخفيف) (¬1) - أن يورد الشعر بياناً وتأييداً لأوجه البلاغة: مثال ذلك: عند تفسيره لقوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61]. يقول "الذلّة: الهوان. والمسكنة: الخضوع، وضرب الذلة والمسكنة ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 213).

عليهم كنايةٌ عن إحاطتهما بهم كما تحيط القبة بمن ضُربت عليه. كما قال زياد الأعجم في عبد الله بن الحشرج: إِنَّ السماحةَ والمروءةَ والنَّدَى ... في قُبَّةٍ ضُرِبتْ على ابنِ الحَشْرَجِ (البسيط) (¬1) وهكذا نراه في عرضه للآيات القرآنية يتعامل معها بروح اللغوي الأديب، والمفسر الذي ينطلق من قاعدة اللغة، ويجعلها أساس التفسير، ثم يعضِدُها بالشعر العربي انطلاقاً من أن في القرآن بعض الآيات التي تستوجب العودة إلى الشعر لكشف معانيها، وتبيان ألفاظها، وهو ما يؤكد اهتمامَه الشديد بديوان العرب، وإلمامَه بوجوه الإعجاز البياني. والبلاغة القرآنية كانت من أكبر أهداف الخضر حسين، فعِلْمَا: المعاني، والبديع- اللذان أشار إليهما الشيخ في مختلف آثاره التفسيرية- من الأمور التي تأثَّر بها من مدرسة عبد القاهر الجرجاني، والزمخشري. ولعل أهم الأوجه والقضايا البلاغية التي تناولها الشيخ بالبحث والدراسة هي: - الإيجاز: حين يعرض الشيخُ لأسلوب الإيجاز في القرآن الكريم نراه معنِياً بالإشارة إلى ما أُوجز فحسب، دون أن يومئَ إلى موضع الحُسن في ذلك الأسلوب، وقد اعتبر الشيخ للإيجاز أنواعاً منها: حذف المبتدأ، وحذف الجمل التي يدل الكلام على تقديرها، واستعمال المفرد في معنى الجمع، إضافة إلى إيجاز الحذف، وذكر البدل ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 105).

وحذف المبدل منه. - المجاز: والمجازُ من المباحث البلاغية التي عرض لها محمد الخضر حسين في تفسيره، من ذلك -مثلاً-: قوله في تفسير قوله تعالى: {يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة: 61]. يقول: إخراج النبات: إظهاره بإيجاده، والمنبِت له -في الحقيقة- هو الخالق -جلّ شأنه-. وإسناده إلى الأرض في قوله: (تنبت الأرض) أخذاً بعادة إسناده إلى الأرض على وجه المجاز، وإسناد الفعل إلى المكان الذي يقع فيه أسلوبٌ عربي فصيح، والحقيقةُ في قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7] (¬1). * الأساس الثاني - التفسير بالمأثور: يعتمد الشيخ محمد الخضر حسين في تفسيره للقرآن الكريم نهجَ التفسير بالمأثور؛ حيث يفسِّر القرآن بالقرآن، والقرآن بالحديث النبوي، والقرآن بأقوال الصحابة والتابعين، فمَنْ بعدَهم من العلماء والفقهاء، وكذلك أسباب النزول، واعتماد أوجه القراءات، وأصحاب السير والأخبار. * تفسير القرآن بالقرآن: اشترط العلماءُ على من أراد تفسير القرآن: أن ينظر أولاً في كتاب الله العزيز؛ ليصل إلى المعنى الصحيح؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، فما جاء منه مجملاً في مكان يفسر ما جاء مُبيناً في مكان آخر، وما جاء موجزاً يستعان على بيانه بما جاء مُسهَباً، وقد اعتد الخضر حسين بهذا النوع من ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 104).

التفسير اعتداداً واضحاً في "أسرار التنزيل"؛ إذ نجده في تفسيره للقرآن الكريم يعتمد القرآن في: - الاستدلال على معنى كلمة بما ورد من معناها في آيات أخرى: ومن نماذج ذلك: تفسيره لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35]. يقول: "القرب: الدنُّو. ولم يذكر القرآن نوعَ هذه الشجرة على عادته من عدم التعرض لذكر ما لم يدع المقصود من سوق القصة إلى بيانه. والمنهيُّ عنه: هو الأكلُ من ثمار الجنة، وتعليق النهي بالقرب منها، إذ قال: (ولا تقربا) لقصد المبالغة في النهي عن الأكل؛ إذ في النهي عن القرب من الشيء قطعٌ لوسيلة التلبُّس به؛ كما قال تعالى {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، فنهى عن القرب من الزنى؛ ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه، وهي القرب منه (¬1). - الاستدلال على معنى كلمة مجمَلة بما فُصِّل في مكان آخر: يقول في تفسير قوله - سبحانه تعالى -: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [البقرة: 136]. "ما أُنزل إلى إبراهيم: الصحفُ المشارُ إليها بقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18 - 19] (¬2). - الاستدلال بالقرآن على تعدُّدِ المعاني للكلمة الواحدة: تفسيره لقوله ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 61)، "روائع مجلة الهداية الإسلامية" إعداد وضبط علي الرضا الحسيني، الدار الحسينية للكتاب، دمشق 1999 م، (ص 107 - 108). (¬2) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 218)، وانظر -أيضاً -: (ص 243).

تعالى: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53]. "والشاهدون: الذين يشهدون بالتوحيد، وما لا يتم الإيمان إلا به، أو الأنبياء - عليهم السلام -؛ فإنهم شهداء على أممهم يوم القيامة؛ كما قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] (¬1). - نفي الاحتمالات، وتعدد الأقوال، فيحمل الآية على آية أخرى: ومن نماذج ذلك: تفسيره لقوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40]. "والنعمة: المنعَم به، وتُجمع على نِعَم، وقد وردت في القرآن بمعنى النعم، ولا تحتمل غير هذا المعنى؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]. فلفظ العدّ والإحصاء يعني: أنه أريد بها: النعم الكثيرة. والنعمة في هذه الآية التي نحن بصددها يترجح حملها على معنى النعم، إن لم يقم دليل من الآية على أنه أريد بها نعمة معهودة" (¬2). - تأييد ما ورد في آية بما نص عليه في آيات أخرى: قال في معرض تفسيره لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...} [البقرة: 185]. "هذه جملة مستأنفة لبيان حكمة الإذن للمريض والمسافر في الفِطْر، وهي أن الله تعالى بنى تشريعه على اليسر والرفق؛ كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 325)، وانظر -أيضاً -: (ص 163). (¬2) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 71)، وانظر -أيضاً -: (ص 163).

عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (¬1). * تفسير القرآن بالحديث: كما فسّر القرآنُ الكريم بعضُه بعضاً، فسرت السنة النبوية كثيراً من القرآن. وإذا رجعنا إلى كتاب الله - تبارك وتعالى -، وجدناه يشهد بذلك، فقد قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. المطلع على تفسير الخضر حسين للقرآن الكريم، وخاصة في كتابه "أسرار التنزيل"، وبقية آثاره يجده يعتمد الحديث النبوي لـ: - تفسير معنى لفظ في الآية، أو يعاضدها ويساندها فيما ترمي إليه. - توضيح حكم في القرآن. - اعتماد الخضر حسين الحديث لتأكيد وتأييد ما ورد في القرآن. - الحديث يأتي بحكم جديد ليس في القرآن. تميز منهجُ الخضر حسين في تناول الحديث النبوي الشريف بملامح متباينة، تمثلت في ذكر الحديث دون الإشارة إلى مصدره، أن يذكر الحديث مشيراً إلى المصدر، وإن كان لا يعنى بذكر درجته من الصحة والضعف، أو التعليق على رجال الحديث، أن يذكر درجة الحديث دون ذكر المصدر. وبالرغم من عدم انتظام طريقته في تخريج الحديث النبوي الشريف بذكر مصادره التي استقى منها، إلا أنّي أرى أنه قد انتفع في تفسيره بقواعد المحدثين وأصولهم في الرواية. فقد امتلأ تفسيره بالأحاديث الصحيحة والحسنة، وابتعد ابتعاداً تاماً عن الأخذ بالأحاديث الموضوعة، وهذه ميّزة ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 296).

تُذكر للشيخ، وتبيّن لنا مدى التزامه بالمنهج السليم في البحث في تفسيره، وهو في طريقته تلك لا يعتمد على كتب التفسير فقط، وإنما يرجع إلى مصادر الحديث الشريف، ويأخذ منها. * تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين: من مصادره في التفسير بالأثر: ما روي عن الصحابة - رضي الله عنهم -، وخاصة ما جاء عن طريق ابن عباس "ترجمان القرآن". وقد اعتبر الشيخ محمد الخضر حسين أن تفسير الصحابة للقرآن يلي بالمكانة تفسير الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والنماذج التالية من التفسير تُظهر مدى اعتماده على هذا الجانب الذي يعتبر أحد أركان التفسير بالمأثور، حيث قال محمد الخضر حسين في تفسير قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]. "ذكر اسم الله: حمدُه وتقديسه. والأيام المعلومات: الأيام العشر عند جماعة من الصحابة والتابعين، منهم: ابن عباس، والحسن البصري. وبه قال أبو حنيفة، وذهب جماعة، منهم مالك بن أنس وأصحابه، إلى أن الأيام المعلومات: يوم النحر، ويومان بعده ... والمعنى: يقدسون الله ويحمدونه شكراً على ما رزقهم من بهيمة الأنعام" (¬1). * تفسير القرآن باعتماد أسباب النزول: الذي يطلع على تفسير الشيخ محمد الخضر حسين يلفت انتباهه كثرةُ عنايته بأسباب النزول، ورفضُه اعتمادَ المفسرين على الكثير من الروايات ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 349).

الضعيفة، حتى أوهموا كثيراً من الناس أن القرآن لا تنزل آياته إلا لأجل حوادث. والقرآن الكريم عنده "أتى للإصلاح والهداية ... " (¬1). ونموذج ذلك: ما ذكره بصدد تفسير قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189]. "لما ذكر في الآية السابقة أن الأهلة مواقيت للحج، صح أن يوصل ذلك بإنكار عادة جرى عليها الأنصار في حجهم، فقال تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا]، هذه العادة -كما روي في سبب نزول الآية-: أن الأنصار كانوا إذا أحرم الرجل منهم في الجاهلية، لم يدخل بيتاً من بابه، بل كان يدخل من نَقْب من ظهره، أو يتخذ سُلَّماً يصعد فيه، فقيل لهم: ليس البر بتحرجكم من إتيان المنازل من أبوابها" (¬2). * تفسير القرآن باعتماد القراءات: اهتم الخضر حسين في تفسيره بالقراءات، واعتمدها في بيان معاني القرآن الكريم، وترجيح بعض المعاني على بعض، ومن نماذج ذلك: ما قاله في معرض تفسيره لقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]. يقول: "المالك: وصف من المِلْك -بكسر الميم-. والدين: الجزاء؛ أي: إنه تعالى يتصرف في أمور الدين تصرفَ المالك فيما يملك؛ كما قال تعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19]. وقُرئ: {ملك يوم الدين} من المُلك -بضم الميم-، ومعناه: المدبّر لأمور يوم ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "بلاغة القرآن" (ص 26). (¬2) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 307).

الدين؛ كما قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] (¬1). ومما تقدم نلاحظ أن محمد الخضر حسين قد اقتصر على الروايات الصحيحة دون الشاذة، حيث لم نجده يطرح قضية اختلاف القراءات. ونهجُه لهذا الخط جعله في غنى عن نقد بعض القراءات، وقد كانت موافقة القراءة للغة العربية من أهم الشروط التي حرص الشيخ على توافرها في القراءة، خاصة لغرض تفسير آيات الذكر الحكيم. * الأخذ عن التوراة والإنجيل: لم يختلف المعاصرون عن القدامى في الرجوع إلى التوراة والإنجيل في تفسيرهم للقرآن، فها هو محمد الخضر حسين يعتمدها في تفسيره لبعض الآيات، على غرار ما قاله في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]. "فهذه الآية صريحة في أن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مكتوب في التوراة والإنجيل، والمراد بكتابته فيهما: ذكر مبعثه، ودعوته، وشيء من نعوته، وهذا المعنى موجود في الكتابين يقيناً. ومن البشائر الباقية في التوراة والإنجيل إلى هذا العهد. ما جاء في سفر التثنية من التوراة: (أقم لهم نبياً من وسط إخوتك مثلك، واجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به). والنبي المماثل لموسى - عليه السلام - في الرسالة العظيمة، والشريعة المستأنفة هو سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإخوة بني إسرائيل هم العرب؛ لأنهما يجتمعان ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 9).

في إبراهيم - عليه السلام - ... " (¬1). ومن خلال هذا النموذج وغيره يتجلى لنا أن الشيخ محمد الخضر حسين قد اعتمد على التوافق الوارد بين القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية؛ من حيث تأكيدهُا على نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والتكامل بين الرسالات السماوية؛ مما يثبت وحدة المصدر. الأساس الثالث - التفسير بالرأي: يعتبر التفسيرُ بالرأي من الوسائل المعتمدة في تفسير الشيخ محمد الخضر حسين للقرآن الكريم، إضافة إلى التفسير باللغة، والعكسير بالمأثور. والتفسيرُ بالرَّأي، أو التفسيرُ العقلي هو ما يقابل التفسيرَ النقلي؛ إذ "يعتمد على الفهم العميق والمركز لمعاني الألفاظ القرآنية، بعد إدراك مدلول العبارات القرآنية التي تنتظم في سلكها تلك الألفاظ، وفهم دلالاتها" (¬2). وعلى هذا، فالتفسير بالرأي يقوم على الاجتهاد في فهم الآيات القرآنية، وإدراك مقاصدها اعتماداً على كلام العرب، و "الوقوف على معرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وما يتبع ذلك من الأدوات التي يحتاج إليه المفسر" (¬3). وكان رجالُ التفسير الذين أخذ عنهم الشيخ محمد الخضر حسين ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "محمد رسول الله وخاتم النبيين" (ص 45 - 46). (¬2) خالد عبد الرحمن العك "أصول التفسير وقواعده" دار النفائس، بيروت، ط 2، 1986 م، (ص 117). (¬3) ن م ص.

في معظمهم ينتمون إلى المدرسة العقلية في التفسير (¬1)، بدءاً بالزمخشري (ت 538 هـ)، فالرازي (ت 606 هـ) في القديم، وانتهاءً بالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في العصر الحديث. ومن هذا المنطلق سأحاول أن أبيّن منهج الشيخ محمد الخضر حسين، وموقفه من قضية التفسير بالرأي، وكيف اعتمد المنهج العقلي في "أسرار التنزيل". ونجده يحدد ضوابط التفسير بالرأي إذ يقول: "تفسير يستند إلى فهم علماء اللغة والبلاغة" (¬2). ومن مظاهر التفسير بالرأي نجد: - استخدام الترجيح: استخدم الشيخ محمد الخضر حسين في ترجيحه لما يتعرض له من تفسير بعض الآيات على قواعد أساسية، وهي -كما وقفتُ عليها - أولها لغوي، والثاني مأثور، والثالث عقلي. ومن النماذج الدَّالَّةِ على استخدام الجانب اللغوي في الترجيح أو التضعيف ما يلي: 1 - الترجيح باللغة: قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]. يقول: "لعل: حرف موضوع ليدل على الترجي، وهو توقُّع حصول الشيء عندما يحصل سببه، وتنتفي موانعه. والشيء المتوقع حصوله في الآية هي: التقوى، وسببه هي: العبادة؛ إذ بالعبادة يستعد الإنسان لأن يبلغ درجة ¬

_ (¬1) لمزيد التعرف على المدرسة العقلية القديمة والمدرسة العقلية الحديثة راجع: "منهج المدرسة العقلية في التفسير" لفهد الرومي. (¬2) محمد الخضر حسين "بلاغة القرآن" (ص 23).

التقوى، وهي الفوز بالهدى والفلاح. والترجي قد يكون من جهة المتكلم، وهو الشائع، وقد تستعمل "لعل" في الكلام على أن يكون الترجي مصروفاً للمخاطب، فيكون المترجي هو المخاطب، لا المتكلم. وعلى هذا الوجه يحمل الترجي في هذه الآية؛ لاستحالة حصول الشيء من عالم الغيب والشهادة؛ لأن توقع الإنسان لحصول الشيء هو أن يكون متردداً بين الوقوع وعدمه، مع رجحان الوقوع، والمعنى: اعبدوا ربكم راجين أن تكونوا من المتقين، وهم البالغون الغاية في الهدى والفلاح (¬1). 2 - الترجيح بالأثر: ومن نماذج استخدام المأثور في الترجيح: ما ذكره الخضر حسين عند تفسيره قوله تعالى: {. . . فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]. إذ يقول: " ... وليس ببعيد أن يكون معنى (لا خوف عليهم): أنهم بلغوا استقامة السيرة وفضل التقوى؛ حيث لا يخاف عليهم أحد أن يصيبهم في يوم الجزاء مكروه. ونفي الخوف والحزن ورد في الآية على وجه الإطلاق، وظاهره: أن المهتدين لا يعتريهم الخوف ولا الحزن في دنياهم، ولا في آخرتهم. ولكن قوله فيما يقابله من جزاء الكافرين: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39] يرجح أن يكون المراد: نفي الخوف والحزن عنهم في الدار الآخرة. ثم إن الذين يتقون الله حق تقاته قد يأخذهم شيء من الحزن في الدنيا. ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 38).

وأوضح شاهد على هذا: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عند احتضار ابنه إبراهيم - عليه السلام -: "إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ" (¬1)، وقول يعقوب - عليه السلام - فيما قصه الله في القرآن: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، ونفي الخوف والحزن عن المهتدين يوم القيامة كناية عن سلامتهم من العذاب، وفوزهم بالنعم الخالدة في الجنة، فتتم المقابلة بين جزاء المهتدين، وجزاء الكافرين المشار إليه بقوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39] (¬2). 3 - الترجيح بالعقل: أما استخدامه للجانب العقلي في الترجيح، فمن شواهد ذلك: ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى: أ - {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]. يقول: "جاءت هذه الجملة عقب الحديث عن استبدال المنافقين الضلالةَ بالهدى، فيكون المعنى: وما كانوا مهتدين إلى سبيل الرشد، وما تتجه إليه العقول الراجحة من الدين الحق. ويصح أن يراعى في هذه الجملة إخراج لك الاستبدال في صورة المبايعة التجارية، فيكون المعنى: وما كانوا مهتدين إلى طرق التجارة الرابحة؛ حيث باعوا الهدى -الذي هو مطلع النجاح والسعادة- بالضلالة التي هي مهواة الخيبة والشقاء" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري كتاب: "الجنائز"، باب: "قول النبي: إنا بك لمحزونون" (ج 1/ ص 402 حديث رقم/ 1303). (¬2) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 67). (¬3) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 30).

ب - {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104]. يقول: "ذكَّر المسلمين في هذه الآية بأن ما عسى أن يلاقوه من آلام الحروب يلاقي خصومُهم مثلَها، فكأنه يقول لهم: لا ينبغي أن يكون خصومكم -وهم أشياع الباطل- أصبرَ على الآلام، وأثبتَ في مواقف الأخطار منكم، وأنتم حماة الحق، والدعاة إلى الخير، ولا سيما حماة يرجون نصر الله وجزاء مثوبته ما لا يرجوه أعداؤهم الغاوون المفسدون" (¬1). * موقف الخضر حسين من الأقوال المختلفة في التفسير: نجد محمد الخضر حسين يعرض الأقوال المختلفة في تفسير الآية الواحدة، ثم يحاول التوفيق بينها، إن أمكن له ذلك. فإن لم يمكن الجمع، قارن بين الآراء، ورجح فيها ما رآه راجحاً بالدليل ... ومن نماذج ذلك كما ورد في تفسيره نذكر: قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. يقول: "من المفسرين من حمل الآية على قوم ينكرون وجود الخالق، وهذا ما سلكه القرطبي في تفسيره؛ إذ قال في تفسير هذه الآية: وكان المشركون أصنافاً، منهم هؤلاء، ومنهم من كان يثبت الصانع، وينكر البعث. وجرى على هذا أبو البقاء في "كلياته"، فقال: والدَّهري -بالفتح- هو: الذي يقول: العالم موجود أزلاً وأبداً، ولا صانع له، وما هي إلا حياتنا الدنيا ... ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "رسائل الإصلاح" (ص 30).

ومن المفسرين من جعل الآية محتملة لأن تكون في قوم لا يعرفون الله، ولا يقرون به، وهم الدهرية، وأن تكون في قوم يقرون بالخالق، وينكرون البعث، وينسبون الآفات إلى الدهر؛ لجهلهم أنها مقدَّرة من الله، وجرى على هذا أبو حيان في تفسيره "البحر". وليس في الآية ما يدل على أن هؤلاء القوم يقرون بالإله، أو يجحدون به. فمن ذهب إلى أن موردها قوم لا يقرون بالإله، فلأن إضافة الحوادث إلى الدهر مقترنة بإنكار البعث؛ شأن الدهريين الذين ينكرون وجود الخالق -جل شأنه-" (¬1). * التفسير بالعقل والنقل: يتضح لي من خلال ما وقفتُ عليه من "أسرار التنزيل"، وبقية آثاره: أن الشيخ محمد الخضر حسين يراوح بين التفسير بالرواية (النقل)، وبين التفسير بالدراية (العقل)، ويزاوج بينهما. 1 - المراوحة بين العقل والنقل: قال تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]. يقول: "هذا الخطاب لمطيقي الصيام من الذين خُيروا بين الصوم والفدية، فهي من متممات قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]. والمعنى: أن الصوم أفضل من الفدية؛ ذلك أن الفوائد الروحية والاجتماعية التي تحصل بالصوم أرجحُ من الفوائد التي تحصل بالفدية، ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "محمد رسول الله وخاتم النبيين" (ص 28 - 29).

ويصح أن تكون هذه الجملة موصولة بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، فيكون المراد منها: فُرض عليكم الصيام إلخ. ثم قال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]؛ أي: إن الصوم من الأعمال التي تورثكم خيراً عظيماً (¬1). 2 - المزاوجة بين العقل والنقل: قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة: 164]. يقول: "لما تضمنت الآية السابقة إثباتَ وجوده تعالى، ونفيَ الإلهية عما سواه، جاءت هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها منبهةً لبعض الأدلة على وجوده تعالى. وقد اشتملت على آيات يخرج الناظر من التفكير فيها إلى بطلان ما يفعله طوائف من البشر من عبادة بعض المخلوقات؛ كالكواكب، والنار، والحيوان، والأحجار، بزعم أنها آلهة، أو شركاء الله في إلهيته. وأول هذه الآيات: السموات. فقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} السموات: جمع سماء. والسماء: كل ما علا؛ كالسقف. المراد في الآية: الأجرام المقابلة للأرض، وهي سبع كما ورد ذلك صريحاً في قوله تعالى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [الطلاق: 12]. ذكرها القرآن هنا في جملة المصنوعات التي يجد فيها الناظر آياتٍ عظيمةً على وجود الله ووحدانيته. ونبه في آيات أخرى على بعض وجوه الاعتبار فيها؛ من نحو تزيينها بمصابيح، ورفعها بغير عمد" (¬2). ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 294). (¬2) محمد الخضر حسين "أسرار التنزيل" (ص 256).

* الصيغ الدالة على إعماله الرأي: إذا نظرنا إلى تفسير محمد الخضر حسين للقرآن الكريم من خلال كتاب "أسرار التنزيل"، وجدْنا صيغاً متنوعة ومتعددة عبر بها عن استعماله للرأي، وإعطاء وجهة نظره المخالفة لغيره من المفسرين، ويمكن حصرُ هذه الصيغ في التعابير التالية: (الأقرب إلى الذهن: ص 115)، (ويصح فيما نرى ص 126)، (ويصح فهم ص 125)، (ويصح أن يفهم ص 221)، (ويصح أن يفسر ص 146)، (صح تفسير ص 146)، (ويصح أن يراعى ص 30)، (فيؤول معنى ... إلى معنى ص 85)، (ومن أقرب ما تفسر به الجملة: ص 97)، (ويصح تفسير ص 142)، (ويصح أن يراد ص 88 - 242 ...)، (ويحتمل أن يراد ص 105)، (هنا صح تفسير ص 106)، (والتقدير ص 101، 111، 118، 119، 215)، (ويصح أن يكون المراد ص 127)، (ويصح أن تحمل على معنى ص 221)، (ويصح أن يكون المعنى ص 317)، (هذا ما يصح أن تفسر به ص 357)، (فمن تعسف وأتى ... تألفه العقول الراجحة: ص 159)، (ومن المحتمل القريب أن يفهم ص 304)، (وإذا نظرنا على ما جاء في آية أخرى ص 85)، (ومن أقرب ما تفسر به الجملة ص 97) ... ولم يقتصر على استعمال الصيغ الدالة على إعمال الرأي في تفسيره من خلال "أسرار التنزيل"، بل كانت هذه الصيغ مميزة لكل مقالاته في التفسير. والمتأمل لمقالاته في كتاب "تفسير الهداية الإسلامية" يلاحظ العديد من الصيغ، ومن أمثلة ذلك: (والأقرب أن يقال ص 106)، (ويصح أن يكون

المعنى ص 109)، (ويفهم من الآية بعد هذا ص 114). وفي كتاب "محمد رسول الله وخاتم النبيين": (بيان هذا ص 43)، (فهنه الآية صريحة ص 45)، (فهذه الآية تفهم على معنى ص 158)، (فالمقصود في الآية ص 160)، (فرأيت في الآية مرعى خصباً ومجالاً فسيحاً ص 160). * الخاتمة: بعد هذه المداخلة المتواضعة لاستجلاء منهج الشيخ محمد الخضر حسين في تفسير القرآن الكريم، يمكن الإقرارُ بأنّ كتاب "أسرار التنزيل"، وما ورد في بقية آثاره، يعدُّ محاولة جادة في إرساء مدرسة جديدة في التفسير، حاول صاحبُها ملامسةَ الجوانب الاجتماعية، والحِكَم التشريعية، والوقوف على أهم القضايا المعاصرة التي كانت تشغل الأمة، وهي تعيش التخلف والتجزئة والاستعمار الغربي، وتتوق إلى النهضة والوحدة؛ لتسترد وعيها لبناء المشروع الحضاري العالمىِ. ولعل أهم النتائج التي يمكن التوصلُ إليها، هو: أن للنشأة والبيئة التي عاش فيها الخضر حسين دوراً كبيراً في تكوين شخصيته، فمنذ طفولته توجَّه إلى حفظ القرآن الكريم، وتلقَّى علومَ الشَّرع والالتزام بآدابه. وكانت رغبتُه في طلب العلم حيث استفاد من المناخ الثقافي، فأقبل على دروس التعليم، ولازم عدداً من الشيوخ المعروفين؛ مثل خاله "محمد المكي بن عزوزا" والشيخ "سالم بوحاجب"، و"عمر بن الشيخ"، وغيرهم. وقد حرص -برغم كثرة الترحال والتنقل- على دوام الكتابة، وإلقاء الدروس والمحاضرات في المساجد والجمعيات، وإنشاء المجلات، والإقبال

على مطالعة أمهات الكتب في التفسير وعلوم اللغة والأدب والحديث. فكان تفسيرُ "أسرار التنزيل" من التفاسير السهلة التي اعتنى فيها صاحبُها بالصور البيانية، والمحسِّنات المعنوية، برغم شغفه بالأسلوب. وابتعد فيه عن ذكر مصطلحات الفنون، والتوسع فيما لا تفهمه العامَّةُ، وهو في ذلك يتفق مع "تفسير المنار" لرشيد رضا، برغم عدم التأثر المباشر بمدرسة المنار. وما يتميز به الخضر حسين -روَّحَ الله روحَه- من استقلال في التفسير عن بقية المفسرين، على الرغم من اعتماده على العديد من التفاسير، وما توصل إليه أصحابها، قد أظهره شديد الالتزام بتفسير القرآن بالقرآن، دون إهمال للحديث النبوي الشريف، والاعتماد على الشعر العربي. هذه الميزة وغيرها جعلته تفسيراً عصرياً يعكس بصدق ووضوح توجهاتِ العصر، وحاجة المجتمع الإسلامي والمكتبة الإسلامية إلى هذه النوعية من التفاسير، ومن ثمَّة بدتْ علاقتُه بمعطيات عصره الثقافية والاجتماعية والسياسية وثيقةً جداً. لذلك يمكن اعتبار "أسرار التنزيل" في منهجه المعتدل تفسيراً مثالياً بكل معاني الكلمة، وذلك في ظل الضوابط والشروط التي وضعها العلماءُ والمفسرون لبناء تفسير سليم. ويُعتبر صاحبُه من المجتهدين القلائل المعدودين في العصر الحديث ممن دَعَوْا إلى نبذ التقليد والجمود. والمُطَّلعُ على بعض مواطن من التفسير، يلحظ -دون عناء- أن الخضر حسين قد جمع في طريقة تفسيره بين اتجاهات ثلاث، ولم يكن أسير مذهب أو مدرسة. فنجد الاتجاه اللغوي؛ إذ ركًّز على الأساس اللغوي، فتوسع لقبول

كل المعاني التي يتحملها اللفظ، ويشترط على المفسر "أن يكون عارفاً لعلوم اللغة العربية، وفنون بلاغتها" (¬1). والملاحَظ: أن قيمة هذا المنهج برزتْ تاريخياً في الردّ على التيارات الباطنية التي أدَّى بها تأويلُها إلى العبث باللغة العربية، فاندفع الخضر حسين لغوياً بارعاً إلى دحض هذه النزعات الرامية إلى إهدار الدلالة اللغوية التي تقوم عليها معاني القرآن الكريم. وركّز على المأثور، فأخذ من القرآن الكريم، وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يساعد على استخراج المعاني، ويقرِّب الدلالة إلى الأفهام، دون إهمال لما تركه الصحابة والتابعون، ولا تغافل عن أسباب النزول. واشترط على المفسر: "أن يتَّجه إلى تمحيص الروايات، ولا يعوِّل إلا على ما صحت روايته" (¬2). وقيمة هذا المنهج تبدو أساساً في الرد على مختلف من زيَّنتْ له نفسه إمكانية النظر إلى القرآن الكريم نظرة مجردة عن كل ما ظهر حوله من نصوص، حتى ولو كانت سنّة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقد عمل الخضر حسين على إحياء هذا النسق، مؤمناً بأن المأثور هو الأداة الأنجعُ والأسلمُ في العملية التفسيرية. وبين اللغة والمأثور يظهر الرأي نبراساً يعتمده الخضر حسين؛ ليستخرج ما توحي به اللغة، وما يكشفه المأثور؛ إذ لا يمر بآية إلا استحضر رأيه. ¬

_ (¬1) محمد الخضر حسين "بلاغة القرآن" (ص 24). (¬2) محمد الخضر حسين "بلاغة القرآن" (ص 24).

ويلحظ القارئ ذلك من خلال الألفاظ والمصطلحات المستعملة من جهة، وما يصل إليه من فهم لدلالات الآيات من جهة أخرى. وقيمة هذا المنهج تبدو في سعي صاحبه إلى أن يجعل أحكام القرآن ومعانيه مستجيبة لمتطلبات العصر وتطوره، مؤمناً بأن القرآن الكريم هو أهم دستور يضمن للأمة السلامة، ويخرج بها من بوتقة التخلف لمعالجة أهم المعضلات. وقد تبين لي أن الخضر حسين عَلَمٌ من أعلام التفسير الإسلامي، ساهم بشكل كبير في إثراء المكتبة العربية الإسلامية بكتاباته في التأليف، والمقالات في المجلات والصحف، والقاء المحاضرات، كما كان له الدور الريادي في كشف معاني القرآن الكريم من خلال تفسيره، ودعوته إلى التمسك بأحكامه وتشريعاته، وجعلها مسايرة لمتطلبات العصر وضرورات التقدم. كل ذلك كان باعتدال يعكس قوة شخصيته، وهدوء طبعه، وغزارة علمه، وسعة اطلاعه. ولا يسعنا -في خاتمة هذا العمل- إلا أن نقترح على المهتمين بالحقل المعرفي جمعَ ما كتبه الشيخ محمد الخضر حسين في التفسير، ونشره مستقلاً عن تآليفه الأخرى، وتحقيقه. وعلى المشرفين على وضع البرامج إدراجُ دراسة تفسيره في برامج المعاهد والجامعات الإسلامية في فصل من الفصول تحت عنوان مادة "التفسير في العصر الحديث". كما أدعو المختصين من أهل الفكر والثقافة، والمهتمين بتفسير القرآن إلى مواصلة بناء مشروعه التفسيري الذي رسم معالمه، وبيّن أسسه. على نحو

ما قام به محمد رشيد رضا مع محمد عبده في مصر. وفي تونس المراهنة على إحياء التراث رجال صدقوا ما عاهدوا عليه أنفسهم من بر للمعارف والعلوم، وخاصة ما تعلق بتفسير القرآن الكريم، نأمل أن يوجهوا هممهم لهذا المبحث سبيلاً لمساوقة التغيرات التي يشهدها العصر، والتحديات التي يفرضها، فتفرض علينا أن نتوجَّه إلى ما به يكون تأصيل الهوية. * المصادر: القرآن الكريم: - برواية قالون لقراءة نافع من طريق أبي نشيط، الطبعة الأولى، صادر عن دار الفجر الإسلامي، دمشق (1426 هـ / 2005 م). حسين محمد الخضر: - "أسرار التنزيل" - المطبعة التعاونية، دمشق، 1976 م. - "بلاغة القرآن"، طبعة المطبعة التعاونية، دمشق، 1971 م / طبعة الدار الحسينية للكتاب، 1997 م. - "خواطر الحياة"، المطبعة التعاونية، دمشق، 1978 م. - "رسائل الإصلاح"، المطبعة التعاونية، دمشق، 1971. - "محمد رسول الله خاتم النبيين"، المطبعة التعاونية، دمشق، 1971 م. - "الهداية الإسلامية"، المطبعة التعاونية، دمشق، 1976 م. * المراجع: ابن خلكان أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر: - "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان"، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت لبنان.

الحسيني علي الرضا: - "الإمام محمد الخضر حسين بأقلام نخبة من أهل الفكر"، الدار الحسينية للكتاب، طبعة 1، 1992 م. الزركلي خير الدين: - "الأعلام" - دار العلم للملايين، بيروت، طبعة 2، 1982 م. ابن عاشور محمد الفاضل: - "تراجم الأعلام" - الدار التونسية للنشر، تونس، 1970 م. العك خالد عبد الرحمن: - "أصول التفسير وقواعده" - ط 2، دار النفائس بيروت، 1986 م. محمد كرو أبو القاسم: - "أعلامنا" - دار المغرب العربي، تونس، 1973 م. مواعدة محمد: - "محمد الخضر حسين حياته وآثاره"، الدار التونسية للنشر، 1974 م.

دور المثقف في توثيق العلاقات المغاربية

محاضرات الندوة دور المثقف في توثيق العلاقات المغاربية (¬1) أخواتي وإخواني! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. محورٌ أساسي، ويبدو أن كثيراً من الجهات الثقافية -في مختلف أنحاء الوطن العربي والإسلامي- تحاول دائماً العناية به، ولكن حتى الآن لم نجد الطريق السوي الذي يمكننا من المعالجة الصحيحة. لكن قبل ذلك عندي ملاحظة: ملاحظة حول الشيخ محمد الأخضر ابن الحسين: أعرف أن الشيخ زار الجزائر مرتين سنة 1903، و 1904، وفي سنة 1903 م كان قد زار الجزائر قبلها الشيخ محمد عبده، وفي الوقت الذي نجد آثاراً وتأثيراً، آثاراً علمية ثقافية للشيخ محمد عبده، سواء فيما يتعلق باتصالاته بشيوخ العلم والمثقفين في ذلك الوقت، وحتى الآن مازالت بعض الرسائل تدرس في هذا الموضوع، نرى أن الشيخ محمد الخضر قد مرَّ هناك، ولم يترك شيئاً، في حين أن المثقفين الذي كانوا موجودين في الجزائر في تلك ¬

_ (¬1) محاضرة المؤرخ والكاتب الجزائري الدكتور محمد عربي الزبيري، ألقاها دون الاعتماد على أوراق مكتوبة.

الفترة كانوا على ثلاثة أصناف، لم نجد أثراً له عند أي من هذه الأصناف. كان هناك المثقفون المفرنسَون الذين انسلخوا عن جلدتهم، وكانوا يسعون للاندماج في المجتمع الفرنسي، لكنهم كانوا مثقفين، كانوا يكتبون على أعمدة الصحافة، وكانوا ينشطون ثقافياً، والمثقفون الوطنيون الذين كانوا -أيضاً- نوعين: كان نوع مزدوجَ اللغة، وكان نوع زيتونياً، وخاصة أنه في النوع المزدوج باللغة نجد أن الشيخ محمد بن رحّال كان يكتب في موضوعات عالجها الشيخ محمد الخضر حسين، فالشيخ محمد بن رحّال كان يلقي محاضراته باللغة الفرنسية في باريس في ذلك الوقت حول الحرية في الإسلام، حول نظرة الإسلام إلى المرأة، ونظرة الإسلام إلى المجتمع، إلى غير ذلك. موضوعات مهمة نجد أن الشيخ قد عالجها، وفي نفس الوقت عالجها الشيخ محمد بن رحّال، والمفروض أن هذا يربط بين الرجلين، خاصة وأن الشيخ محمد بن رحال كان مزدوج اللغة، ثم الزيتونيون، فكانوا في الجزائر في تلك الفترة، كان يوجد عمر القدور، وهو زيتوني، وعمر راسم الذي هو زيتوني، اللذان كان لهما مساهمة كبيرة في تنشيط الحياة الثقافية المغاربية على أعمدة الصحافة التونسية، وعلى أعمدة الصحافة الجزائرية. هذا السؤال بقي يحيرني، بحثت فعلاً، ولكني لم أجد الجواب الشافي الكافي، هذه الملاحظة أطلب من الجميع أن يفكر معي في أسباب عدم وجود التلاقي في تلك الفترة بين هذه الرجالات التي كانت تعمل بالفعل من أجل إعادة بعث هذا المجتمع المغاربي، ودفعه نحو ما كان يسميه مالك بن نبي: المجتمع الموحد. نعود الآن إلى صلب الموضوع: دور المثقف في تمتين أو توثيق العلاقات

المغاربية بين الشعبين الجزائري والتونسي على الأقل، وحتى في هذه التسمية أرى أن هناك تقهقراً؛ لأن التعبير كان غير ذلك، كان أسلافنا يقولون: الشعب في الجزائر وتونس، لا أن يقولوا: الشعبين الجزائري والتونسي. سؤالي أولاً من هو المثقف؟ هل المثقف هو حامل الشهادات؟ أقول: لا، إن الشهادات -مهما علت- ليست مقياس المثقف الثقافي. أنا أقيس الثقافة بشيء آخر هو الوعي، أن يكون الإنسان واعياً أولاً بذاته، واعياً بمحيطه الضيق، وبمحيطه الواسع، والعامل من أجل تحقيق أهداف تعود بالخير على الذات، وعلى محيطه، وعلى غيره، من أجل ذلك لكي يكون المثقف فاعلاً يجب أن ينطلق من مشروع المجتمع، ينطلق من مرجعيته الفكرية، أن ينطلق لتحقيق أهداف وأغراض ومعالم بينة واضحة. فإن لم يكن هذا موجوداً، فلست أدري كيف يمكن لإنسان أن يُسمى مثقفاً، وكيف يمكن أن يقوم بدوره؟ وفي مستهل القرن كان المثقف موجوداً بالفعل، ويبدو لي: صحيح أن الاستعمار موجود، ولكن مقاومة الاستعمار كانت قد فتحت للمثقفين مجالاً للعمل من أجل ترقية المجتمع، ومن أجل الدفاع عنه، ومن أجل وضع الأسس التي يكون منها المنطلق لتحقيق ما هو الأفضل. قرأت مرة للشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي تعرفونه جيداً يقول: إننا في الجزائر، ويتكلم عن المثقفين في الجزائر، يقول: نحن في الجزائر نعرف عن إخواننا في تونس، وعن إخواننا في ليييا ما لا يعرفونه هم عن أنفسهم؛ لأننا نهتم بواقعهم، ونتمنى لهم كل الخير. اليوم نرى أن هناك انحساراً، نرى أن من نسميهم: المثقفين، سواء في

الجزائر، أو في تونس، أو ليبيا، هؤلاء لا يعرفون ما يجري حتى في بلدانهم، لماذا؟ لأنهم حبسوا أنفسهم فيما يمكن أن نسميه: الوظيفة، أو العمل الرسمي، أو الجري وراء أشياء أخرى لا علاقة لها بالثقافة؛ لأن الثقافة -كما قلت- هي الوعي. ثم إن الثقافة هي مواقف، عندما يكون الإنسان واعياً، لا بد له من مواقف تجسد ذلك الوعي، والمواقف -اسمحوا لي- لها أثمان تدفع لكي تتجسد على أرض الواقع. ما هي مواقف المثقف في الوقت الحالي؟ مواقف المثقف -على الأقل- هي أن يؤاخي، هي أن يفتح طريق الوحدة، هي أن يعمل على تحقيق ما يصبو إليه المجتمع ككل، الشعب هنا، والشعب هناك. لكن -مع الأسف- عندما نرى المثقف، أو ما نسميه مثقفاً يسعى دائماً لتحقيق ما يصدر عن الجهات الرسمية، هذا لم يعد مثقفاً. المفروض أن المثقف هو الذي يخط الطريق للجهات الرسمية، وليست الجهات الرسمية هي التي تخط الطريق للمثقف. ولقد أكبرت بالأستاذ الجليل الشيخ المنجي موقفه مع وزير الداخلية، الذي أراد أن يملي عليه موقفاً من تلميذه في ذلك الوقت، هذا هو المثقف. كان يدرك، وكان يعرف أنه سيدفع ثمن موقفه هذا مع وزير الداخلية يجر عليه أتعاباً؛ لأنه كان يعرف ويدرك، فكان مستعداً لتقديم الثمن. موضوع آخر في الجزائر جرى، هو عمر بن قدور، هذا هو زيتوني، وكان يكتب في الصحافة التونسية، والصحافة الجزائرية، وكان يظهر بموقفه المعادي للاستعمار، والداعي إلى اليقظة في أوساط المجتمع، دُعي ليغيّر

مواقفه، ويغيّر كتابته، فرفض، وهُدد، فتحدى التهديد، وحُكم عليه بالحبس والنفي في مدينة "الأغواط"، وهو موجود في الجزائر، وكان في الحكم قرار أن ينتقل إلى منفاه مشياً على الأقدام 450 كم. وبالفعل انتقل، وعندما وصل، وكان في حالة سيئة، سأله صحفي، فقال له: أنا مستعد إلى أكثر من هذا، وإلى أن أموت إن اقتضى الحال. وقع نفس الشيء مع الشيخ المكي بن شباح في بداية القرن عندما دعته السلطات الاستعمارية، وطلبت منه أن يتخلى عن النضال السياسي، ورفض، فحكم عليه بالنفي من "بسكرة" إلى "أولاد جلال"، وهو مربوط في ذيل الفرس التي كان يقودها التابع لدائرة الشرطة، هذه هي شروط المثقف. لذلك كنت دائماً أقول للطلبة عندما يتحدثون عن الذين فجروا فتيلاً: هؤلاء لم يكونوا مثقفين. أقول لهم: لا، لم يكونوا حاملي شهادات، ولكنهم كانوا مثقفين؛ بدليل أنهم أدركوا: أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأدركوا -أيضاً- أنه ما ينبغي أن نسترجعه إن كان ثميناً يجب أن نقدم له ما هو أسمى، وهي أنفسنا، فهؤلاء هم المثقفون. نعود إلى دور المثقف في توثيق العلاقات بين الشعب الجزائري والشعب التونسي، ما دام أرغمنا على هذه التسمية، وأرغمنا على التنازل عن كثير من المفاهيم. كنا -نحن المثقفين- نتحدث عن الإمبريالية، وكنا نتحدث عن الاستعمار، وأرغمنا على التخلي عن كثير من المفاهيم، وأتمنى أن يأتي مثقفون حقيقيون يعيدون المياه إلى مجاريها. فالعلاقات كانت أمتن في الفترة الاستعمارية بين مثقفي الجرائر ومثقفي تونس مما عليه الآن. لم تعد هناك علاقات.

كنت أتمنى أن أرى أساتذة أجلاء من تونس يزورون الجزائر مثلما كان يقع في السابق. وعندما تقع اللقاءات، وعندما تقع الاحتكاكات والحوارات، فهذا هو سبب تطور وتقدم للمجتمع. أما إذا انزوى كل على نفسه، وتقوقع، فإننا نبقى دائماً ندور في حلقة مفرغة، ومع الأسف بدلاً من أن نتقدم، فإننا نتقهقر. كنا نعتبر نفسنا شخصاً واحداً، شعباً واحداً، أصبحنا نعتبر نفسنا شعبين، وحدود تقام بيننا تمنع. هذه الحدود لم تمنع انتقال الجزائريين إلى تونس، والتونسيين إلى الجزائر في عهد الاستعمار، ولو كنا مثقفين بالفعل، ونقوم بدورنا، فإننا نرفع هذه الحقائق إلى من يهمه الأمر، ونطالب بإزالة هذه الحدود؛ لكي يتمكن المثقفون من الاتصال فيما بينهم، ويتمكنوا من معرفة ما يجري هنا، وما يجري هناك. والمعرفة هي التي تساعد على حل المشاكل. وما لم نعرف، لا يمكن أن نصل إلى ذلك بالطبع. أعود إلى المثقفين بالفعل، أعرف في الجزائر مثقفين ليست لهم شهادات، باعوا أملاكهم ليؤسسوا جريدة. الجريدة يأتون بمقالاتها إلى تونس، وتطبع في تونس، ويعودون بها إلى الجزائر، ويوزعونها هناك، هذه العائدات لا تفي بالمصاريف اللازمة لإعادة طبع العدد الآخر، فكانوا يبيعون أملاكهم لكي يستمروا في طبع هذه الجرائد، وهذه موجودة، وشارك في تحريرها كثير من التونسيين، وشارك كثير من الجزائريين في تحرير الكثير من الجرائد التونسية. ويبدو لي أن الجريدتين اللتين كان يشرف عليهما كل من عمر بن قدور، وعمر راسم كانتا متنفساً بالنسبة إلى المثقفين التونسيين، وقد اطلعت على

كثير من المقالات، عندما تقرأ لهذا لا تكاد تفرق بين مقال هنا، ومقال هناك. لماذا؟ لأن الهدف واحد، ولأن التكوين واحد، وليست هناك مصالح شخصية تدفع هؤلاء المثقفين. إذن، نعود إلى إعطاء الوصف، وإعطاء المعنى الصحيح للمثقف، من هو المثقف؟ عندما أصل إلى من هو المثقف، في هذه الحالة. وهذا يتطلب منا أن نعود إلى الثقافة، ما هي الثقافة؟ فنحن اليوم -مع الأسف- نجلس إلى جانب ثقافتنا، ولا ننشط في داخلها؛ لأنها ممسوخة بتأثيرات خارجية كثيرة. ولست أدري إذا كانت الجامعة التونسية تتألم مما تتألم منه الجامعة الجزائرية. فأنا لا يمكن أن أطلب من طلبة جامعيين يُعِدّون رسائل دكتوراه، أو رسائل ماجستير في موضوعات فلسفية، أو في موضوعات تاريخية أو اجتماعية، أو في علم النفس من دون وجود مدارس وطنية. إذا كنا نطلب من المثقف أن يكون له دور. يجب أن نحدد ما هو نوع الثقافة، قبل أن نتحدث عن دور المثقف؛ لأنه إذا كان يرتوي من مَعين ليس هو ثقافة، فلا يمكن أن تطلب منه أن يقوم بدور المثقف. والسلام.

كلمة وزير الشؤون الدينية الدكتور أبي بكر الأخزوري في اختتام أعمال الندوة

الجلسة الختامية كلمة وزير الشؤون الدينية الدكتور أبي بكر الأخزوري في اختتام أعمال الندوة (¬1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. يطيب لي -في البداية- أن أعبّر لكم عن عميق سعادتي بوجودي بين هذه النخبة الفكرية النيِّرة، هذه النخبة المشهود لها بالارتباطات بالعلم، وجودة البحث. كما أعبّر عن كبير اغتباطي باختتام هذه الندوة العلمية الدولية ذاتِ الموضوع الهام: (العلامة الشيخ محمد الخضر حسين، وإصلاح المجتمع الإسلامي). أهمية هذه الندوة متأتية -أساساً- من كونها حلقة من حلقات السلسلة الإصلاحية التونسية من بداية القرن التاسع عشر إلى التغيير المبارك بقيادة رائد الإصلاح والتغيير سيادة الرئيس زين العابدين بن علي، الذي انطلق في مشروعه الحضاري من فكره الثاقب من المخزون الوطني، ومن ثوابت المرجعية الفكرية لرّواد الإصلاح. يقول سيادته ما يأتي: "إن التغيير مسار متواصل، ¬

_ (¬1) في الواقع لم تكن هذه كلمة، بل محاضرة أكسبت الندوة ثراء ثقافياً مهماً.

والإصلاخ استشراف مستمر للمستقبل، لا يكتفي بمواكبة التحولات، بل يعدّ لها، ولما بعدها. وقد اخترنا الإصلاح منهجاً؛ لأننا انطلقنا من مخزون وطني عميق، واستلهمنا ثوابتنا ومراجعنا من فكر روّاده، ونضال شعبنا، ومقومات شخصيته الوطنية، وحضارته المتميزة. ونحن نذكر -بهذه المناسبة- بكل اعتزاز وإكبار روادَ الإصلاح في بلادنا، وزعماء الحركة الوطنية وقادتها، وشهداءها ومناضليها، ونحيى مآثرهم وتضحياتهم، وننزّلها المكانة اللائقة بها، لتبقى مراجعَ لأجيالنا القادمة، ومحطاتٍ وضاءة في تاريخنا الوطني". هذا من خطاب سيادته الذي ألقاه بمناسبة حلول شهر رمضان المعظم سنة (1423 هـ , الموافق 2002 م). كلمة المفاتيح تحدد أغراضنا من مثل هذه الملتقيات، هذه الملتقيات التي تتناول بالدرس أعلام الفكر والثقافة، والتغيير والإصلاح، ومواكبة التحولات، الهوية، الثوابت، وليس من أغراضنا إطلاقاً التبرير والتنديد. إنما نروم الإسهام في بناء الشخصية المتميزة المشدودة إلى خلفية فكرية تاريخية، المعتزة بالتمسك بالهوية، وبالانتماء الحضاري، والانتماء إلى الوطن، الوطن لا كحيّز جغرافي فقط، إنما ككيان روحي حضاري بغايته السامية، وقيمه النبيلة، بما يمكّن تلك الشخصية الأصيلة المتجذّرة من التماس أسباب التحديث والارتقاء بالفرد والمجموع إلى أسمى ما يمكن أن يتحقق من المناعة والسؤدد، تلك هي المعادلة التي تتآخى فيها الأصالة والحداثة، التاريخيُّ والآنيُّ، والتي نراها في عهدنا السعيد تتحقق، بل قل: تنمو وتينع. إن كل سعي إلى هذا الغرض مطلوب محمود، نطرب له وندعمه،

ويقيني: أن غطاء الثقافة والمحافظة على التراث، و (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي) قد نزّلت هذه الندوة في هذا الإطار بالذات، والشاهد إنما يتمثل في هذه المداخلات القيمة، وفي هذا الخيط الجامع الذي يؤلف بينها جميعا. ولا يسعني هنا إلا أن أتوجه بالشكر الجزيل المستحق إلى السادة الأساتذة الأجلاء من تونس، ومن أشقائنا الوافدين من الجزائر ومصر وسورية ومن الكويت؛ لأنني رأيت كويتياً بيننا والحمد لله، بغية الإسهام في طرق الموضوع على النحو المنهجي الذي يضمن موضوعية الاستنتاج والنتائج. كما لا يفوتني أن أشكر الذين بذلوا جهداً ملحوظاً بالإعداد والتنظيم المحكمين، والسلط الجهوية والمحلية على اختلاف مواقعها التي دعمت العمل، وأسهمت بالتالي في إنجاح فعالياته، وعلى رأسها السيد والي "توزر". أيها السادة والسيدات! لقد تناولت البحوث القيّمة التي تفضلتم بإعدادها بالدرس، تناولت بالدرس فكر عَلَمٍ من أعلامنا الأفذاذ، حريٌّ بنا جميعاً أن نستلهم من فكره ومواقفه ما به نستحث الخطا للأفضل. نعم إننا لا نشرب من النهر مرتين كما يقول بعض الفلاسفة، فلا نقر الماضوية والتشبث بالقديم، لكن التاريخ مثقل بالمعاني والعبر، ورحم الله ابن خلدون الذي سمى كتابه في التاريخ: "العبر". إن جوانب كثيرة من شخصية محمد الخضر حسين جديرة بالانضباط، ولعل أبرزها -على الإطلاق- منهجه التنويري في تناول قضايا الإصلاح الاجتماعي، وليس غريباً أن يوصف بكونه رصيناً عقلانياً، فبالتتبع والاستقراء

ندرك أنه سلك سبيل الدرس المعمق، والنظر الشامل السديد. فقد كان يعرض القضايا التي يتقبلها على معيار البحث العلمي الرصين، الذي قوامه النقد والتحليل والتعريف. يقول المرحوم الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور في كتابه "الحركة الأدبية والفكرية في تونس": "اقتضت هذه الحيرة ظهور شهاب ثاقب من شهب العلم والأدب، يهدي الحائرين، يتناول قضية الإصلاح، فيعرضها على معيار البحث العلمي الرصين، والنقد المنطقي الرزين". إن منهجه هذا أهّله إلى أن يكون مستنيراً، رافضاً لكل فكر خرافي أسطوري، لكل فكر ماضوي، كان متفتحاً غير متعصب لقديم، يعتمد الرأي المستند إلى دليل، حتى أدبه الرائق جاء غنياً بسديد الأنظار، وبمزيد الحكم المتعلقة بالخصوص بالإصلاح الاجتماعي. لقد رفض الشيخ الخضر حسين القول بغلق باب الاجتهاد -وأقول هذا وبأعلى الصوت لأننا بحاجة ماسة إلى ما التمسه من الاجتهاد-, واستدل بمقتضى المنطق، فقال في أول مقال كتبه في أول مجلة عربية في بلادنا أسسها هو بنفسه "السعادة العظمى" قال ما يأتي: "إن دعوى أن الاجتهاد قد أغلق هي دعوى لا تُسمع إلا إذا أيدها دليل يوازن بقوته الدليل الذي انفتح به باب الاجتهاد أولاً". إننا اليوم نتمسك بهذا المنهج العقلاني، الذي لا غنى عنه في تحقيق تطلعات المجتمعات الإسلامية إلى الرقي الحضاري المتوازن. ومن حق أبنائنا علينا أن نطلعهم على هذه الشواهد مثال الحصافة والجدّ والنبوغ، بما هي لحظات وضاءة تنير السبيل، وتعطي الخطوة الصحيحة. {اهْدِنَا الصِّرَاطَ

الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7]. لقد تولدت عن هذا المنهج قيم خالدة (نعضّ عليها بالنواجذ) كما جاء في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ كحرية النقد، واحترام التفكير، والوسطية والاعتدال، واعتبار النسبية لضبط الظواهر والمواقف؛ بحيث لا إفراط في فكره. ولعل قمة نبوغه في مواقفه من نزوعات عصره وأحداثه، فما إن ظهرت "العروة الوثقى" إلى تونس، ظهر اضطراب بالأفكار، ولّد -كما يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور- تناحراً وتنابذاً، واهتزت الألباب دهشة من جراء ذلك الاضطراب. ووقف الشيخ الخضر حسين في الوسط العدل، ونأى بنفسه الانحياز إلى نزعة من النزعات المتقابلة، رافضاً الإغراء في الحكم، معايشاً القضايا بكل هدوء وموضوعية، موجهاً الرأي إلى ما فيه الصلاح العام، وما يقتضيه من قيم زكية ينبغي أن تسود، وكل خلق قويم يجب أن يكون الرابط بين الطرفين. ومما يزيدنا إكباراً لفكر محمد الخضر حسين، ويعمم رغبتنا في الاستزادة من دراسته بالعمق اللازم -وقد سمعت نباً أطرب له: أنه ستتناول هذه القضايا التي تقبلها مراراً وتكراراً في المستقبل إن شاء الله تحقيقاً-: وعيُه الكبير لضرورة تربية الشخصية الفردية والجماعية على التمسك بالهوية، الهوية المتحركة، المتشبثة بالثوابت، المعتبرة لمتغيرات الزمان والمكان، ولا تعارض بين هذه وتلك، آملة في مستقبل تواكب حركة المجتمع ومواقعه من علوم ومعارف وتقنيات كفيلة بتيسير إنجاز التقدم، وتحقيق النمو، ودعم القدرة على الإسهام في صنع التاريخ. كفانا استهلاكاً، لا بد أن نصل إلى

مرحلة صنع المعرفة، صنع التاريخ، وهذا لا يتأتى إلا بالاستناد إلى هويتنا. إن موضوع الهوية، ويناء الشخصية المتميزة القادرة على مواكبة التطورات والتغيرات الطارئة، مازال مركز اهتمام. اليوم بحاجة ماسة إلى أن نحث الخطا حتى نجذّر أبناءَنا في هويتنا، بل أقول: اقتضى الأمر مع العولمة في جوانبها جميعاً وخاصة منها الثقافية، وهذا ما أكد عليه رئيس الدولة سيادة الرئيس زين العابدين بن علي غير ما مرة، منها قوله: "إننا نتقدم على درب الحداثة والرقي متمسكين بمقومات هويتنا الوطنية، مستلهمين من ثرائها العريق ما يدفعنا إلى مزيد الإنجاز والإضاءة، لقد اخترنا لبلادنا سبيل العمل والكد، والجد والتنوير والتحديث في مدارج المعرفة والعلوم والرخاء والنماء، لتبقى تونس واحة أمان واستقرار، وأرض تسامح واعتدال، ومنارة حضارية مشعة على الدوام". إننا عندما نتحدث عن الهوية، نعني -بالطبع- مقوماتها المتماثلة من تاريخ، ودين، ولغة، ومصالح مشتركة، هذا تعريفنا للهوية. في خصوص التاريخ: كما نوهنا -سابقاً-: أن لذاكرة الشعوب أهمية كبرى في تحريك الثوابت، ومن هنا تأكدت ضرورة معرفة أبنائنا لتاريخ بلادهم بكل ما يتسع له من احتمالات الظواهر والأحداث، على اختلاف دروبها، ودرجات أهميتها، ولا يتأتى ذلك إلّا بقراءة موضوعية نقدية للوقائع وعللها ومتطلباتها، ومن لا تاريخ له، لا حاضر له، ولا مستقبل له. جاء في كلمة رئيس الدولة بتصديره البريد لكتاب "تونس عبر التاريخ" ما يأتي: "التاريخ بنظامه ورموزه ومراميه هو مبنى الهوية، والعمود الفقري للشخصية الوطنية، نرى فيه دلالات تكرس تعلقنا بهويتنا وأمجادنا التاريخية،

ونستلهم مآثر أجدادنا، ومكانتهم السامية". هنا أذكر أن الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله- اشترك في لجنة (تدوين التاريخ) بتونس؛ مما يظهر فهمه الصحيح للتاريخ، والرأي عندي: أن له في ذلك بعض ما يذكّر بالمنهج الخلدوني، إنه كان واعي التأثر بقواعد علم العمران البشري، ويشهد بذلك اهتمامه بحياة الرجل الذي تخرج مثله في جامع الزيتونة المعمور، واستقر مثله في مصر حيث مجاله، وقد ألقى محاضرة بعنوان: (حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية). ومن الكتّاب المعاصرين من شبّه الشيخَ محمد الخضر حسين بابن خلدون، حتى في تنقلاته وأغراضه، سواء في هجرته إلى مصر، أو إلى البلاد المغربية، نقول اليوم: المغاربية. بخصوص الدين كمقوّم من المقومات: كل منطلقات الشيخ هي منطلقات إصلاحية، كانت مبنية على النصوص التأسيسية، على العلوم الشرعية، على الفكر الديني النيّر المؤسَّس على الاجتهاد والقيم السمحة، ومن مآثره هنا -زيادة على ما أسلفنا- يدعو إلى الاجتهاد المنضبط، إنه يعتمد الرأي حيث يثبت بالدليل، ولا يثق بالمرويات إلا بعد نقدها وعرضها على معقول المعنى. وهذا هو علم المنهج المستنير الذي ننشده اليوم، والذي به نسلم من هذه الفتاوى المضحكة المبكية التي اتسع سوقها هذه الأيام، وضمتها مذهبية مقيتة. نعم، إن ديننا الحنيف هو عصمة أمرنا، وقوام مسارنا الحضاري، كما يقول سيادة الرئيس، والدين عقيدة وقيم ومُثل، وقراءة مقاصدية، وسند للتنمية، التنمية تستغرق كل سبل التنمية ... الدين لا ينضب معينه، وليس

الدين تشبثاً -كما قلنا- بالماضي، وبأقوال رجال عبّروا عن واقعهم الذي ولّى ولن يعود. وهؤلاء رجال، ونحن رجال -كما يقول علماؤنا-. وعلينا أن نجتهد كما اجتهدوا، وأن نفهم نصوصنا لنعبّر عن واقعنا كما عبّروا، ونجدّد كما جدّدوا بكنف التمسك الواعي في ثوابت شخصيتنا. والمقوم الثالث اللغة: - وأرى لافتة كُتب عليها: اللغة مقوّم أساسي من المقومات - يجدر القول هنا: إن الشيخ محمد الخضر حسين لم يكتف بطرح المسألة اللغوية في محاضرته التي ألقاها في نادي الجمعية الصادقية بعنوان: (حياة اللغة العربية)، لم يكتف بتدريس اللغة، بل تجاوز ذلك إلى العمل الميداني من خلال الجمعيات الثقافية ... وأقصد: هنا هذه الجمعيات الثقافية، ومن خلال العمل المؤسساتي، وأقصد هنا: المجمع العلمي العربي في دمشق، الذي يعد محمد الخضر حسين من أعضائه الأولين، كما أنه كان من أبرز الأعضاء الذين تأسس بهم مجمع اللغة العربية بمصر، فقد أبرز أن اللغة وعاء حضاري، ولابد أن تواكب حركة المجتمعات العربية، وذلك يتأتى بالانفتاح على العلوم الأخرى، واستيعاب العلوم والمعاني الجديدة. وهو ممن حرص على حذق اللغة الأجنبية، والتفتح على الآخر. وزار ألمانيا مرتين، ومن فرط ذكائه ونبوغه: أنه حفظ اللغة في أشهر معدودة، فاكتسب الخصال الثورية لمعرفة الواقع المتجدد. هذا المقوم نحرص عليه اليوم، ومن أغلب الدلالات على ذلك: ما تفضل به سيادة الرئيس زين العابدين بن علي بإطار المرجع الذي ألقاه يوم 7 نوفمبر 2008 م دعا فيه إلى إحكام الإحاطة بالشباب، وتجنيبهم الاغتراب الحاصل من التحولات المتسارعة، وإلى الاهتمام باللغة العربية.

وإن الإحاطة بالشباب اليوم من أدق المهام المطروحة على المجتمعات والبلدان، بحكم ما يشهده عالمنا من تطور، وما تعيشه الحضارة البشرية من تحولات متسارعة تفتح آفاقاً وفرصاً جديدة، مما يحتم حسنَ تهيئة الشباب للتأقلم معها، ومواكبتها، والاستفادة منها حتى يكون فاعلاً فيها، وحتى نجنبه ما قد ينشأ عنها من مخاطر الاغتراب، وفقدان التوازن، وغياب الوعي بالهوية. الهوية التي حرصنا دوماً على حماية مقوماتها، ومن بينها: اللغة العربية، التي ندعو وسائل الإعلام -وخصوصاً المرئية منها والمسموعة- بحكم انتشارها إلى أن تكون أول من يحافظ على سلامتها، ويعزز من حيويتها. أيها السادة والسيدات! إن تعلقنا بمقومات هويتنا، وحرصنا عليها لا يحتاجان إلى دليل، هنا لابد أن نرد على من أراد أن يمس من شخصيتنا، أو من انتمائنا، إننا أمناء أوفياء، نحتضن مدارك مصلحينا، وتونس لم تعد قاصرة عن كفاية عظمائها -كما سجل زين العابدين السنوسي في ترجمة لمحمد الخضر حسين- بل أضحت -وخاصة من فجر التغيير المبارك- أضحت معروفة بدائم اعتزازها بعظمائها، والنابغين من أبنائها، وأنها تذكرهم اليوم، وتكرمهم أحياء وأمواتاً، فحمداً لله. إذن، نتجاوز هذا الاحتضان؛ لنؤسس ما به نحقق الرغبة الملحة لجميع المصلحين والمناضلين، ومن بينهم: الشيخ المصلح محمد الخضر حسين. بماذا؟ بالتواصل مع الأشقاء مغرباً ومشرقاً. إن الشيخ محمد الخضر حسين رحل إلى الجزائر؛ حيث وجد التبجيل أينما حلَّ، وحَسَناً فعل المنظمون للندوة حين أدرجوا في فعاليتها دور المثقف في توثيق العلاقات التونسية

الجزائرية خاصة، والعلاقات العربية عامة. كما رحل إلى مصر، وإلى سورية، وإلى تركيا، ولقي في جميعها الاحترام والتقدير. وهنا -فعلاً- كانت الندوة دولية. نعم، إن الفكر هو القاطرة، فلنعمق الصلة الثقافية والعلمية في مجتمعاتنا، وهنا أثمّن هذه التوءمة التي قامت البارحة بين جمعيتنا، والجمعية الجزائرية. وهذا مكسب كبير نريد أن يتوسع؛ لأن وحدة الفكر هو الأسّ الذي يمكن أن نبني عليه مصيرنا المشترك، فلنعمق الصلة الثقافية والعلمية بين مجتمعاتنا؛ فهي الطريق الأمثل لكشف عقول أبنائنا على قيمنا المشتركة، أملاً في بلوغ أعلى درجات النماء والتقدم. وإننا نرجو أن تتكرر مثل هذه الملتقيات، وستتكرر -إن شاء الله- تحقيقاً، لتناول هذا العَلَم وأعلاماً آخرين من أعلامنا الذين كان لهم الفضل في النهج الإصلاحي الذي نعتز به ونفتخر. وإن ساعدت الأبحاث والدراسات التي تناول بها أصحابها عدداً غير قليل من المواضيع المتصلة بسيرة الشيخ محمد الخضر حسين ومواقفه وفكره، فإن المرتجى هو: أن يمضي البحث في فكر الرجل إلى أعماق ما أفضى فيه إلى الآن من نتائج ومعين لا ينضب؛ تأكيداً للحقيقة، واعتباراً لتمثيل رؤاه ومواقفه في سياقها التاريخي والسياسي بما يوسع مدى نقدها من جديد. قلت: أن نجلي أسباب ما نشاهد من تطوير في مراحل حياته على أساس من الاعتصام بالقيم الخالدة، والثوابت التي لا مهرب منها. أجدد الشكر للجمعية، والأساتذة الأجلاء، والوافدين، والمنظمين الأكفاء، والسلط الجهوية والمحلية، أشكر كل أهل الجريد. عندما أنشد

الأستاذ علي الرضا تلك الأبيات، انقدح في ذهني أن العامل الجيني له دور كبير جداً. أشكر كل أهل الجريد الذين كان لهم -على الدوام- دور كبير، ومفترق هام في بناء الوطن وتماسكه وإشعاعه، بفضل ما أنجب من نبغاء تجاوزت حدود بعضهم حدود البلاد؛ ليقيموا جسور المحبة والإخاء والتضامن والتعاون، وبناء المصير المشترك بيننا وبين إخوتنا في المغرب والمشرق. سدّد الله الخطا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تعقيب الأستاذ محمد مواعدة على خطاب السيد وزير الشؤون الدينية

اختتام الندوة تعقيب الأستاذ محمد مواعدة (¬1) على خطاب السيد وزير الشؤون الدينية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ شكراً للأخ العزيز، وللأستاذ المتميز الدكتور أبي بكر الأخزوري وزيرِ الشؤون الدينية. لا أقول: على هذه الكلمة، ولكن على هذا البحث الدقيق والعميق، وليس كلمة. هو بحث من أستاذ جامعي متميز معروف بتواضعه، فهذه الكلمة الآن عميقة تمثل إضاءة جوهرية في هذه الندوة. والإخوة يعرفون أن مثل هذه الندوات العلمية، هناك بحث في الافتتاح، وبحث في الاختتام، وهذا بحث الاختتام، وليس كلمة. وأشكركم -أيضاً- على التركيز في قضية جوهرية هي قضية الهوية، خاصة وأنتم تعلمون أن قضية الهوية الوطنية والحضارية هي الآن محل مهاجمة. نحن نعيش الآن مرحلةَ، الهويةُ معرضة فيها للأخطار، ولذا قلت: ندوتُنا هدفها هدفنا هذا، وهو أن المساهمة في الحفاظ على الهوية وحمايتها، من ¬

_ (¬1) كلمة الأستاذ محمد مواعدة تعقيباً على خطاب الدكتور أبي بكر الأخزوري في اختتام أعمال الندوة.

بينها: العودةُ إلى مثل هذه الشخصيات التي تمثل ركائز للهوية. إننا في هذه الندوة جعلنا العنوان: (الندوة العلمية الأولى للعلامة محمد الخضر حسين وإصلاح المجتمع الإسلامي). وهذا الاقتراح جاء من قبل رئيس الجمعية الذي قال: "الندوة العلمية الأولى" ثم إن اللجنة التنظيمية باركت هذا التوجه؛ أي: إن هناك ندوات، وهذه الندوات -كما قال السيد الوزير- ستكون في تعميق القضايا التي تناولها الشيخ خضر حسين طوال حياته. وبهذه المناسبة أبين للسيد الوزير ما يلي: خلال لقائي بالسيد الوالي المحترم أشرت إلى مبادرة هي الآن في دور التطور، وهي أن هدف هذه الندوة، أهميتها إلى غيرها من الندوات ستسعى إلى تكوين هيئة تهتم بأبناء الجريد قديماً وحديثاً، ونحن الآن -بالاتفاق مع الجمعية وأهل الجريد- سنسعى إلى هذا التوجيه. وأشكر أهل الجريد، وأهل "نفطة"، وآل عزوز، والذين تعاونوا بشكل مباشر وكامل مشاركة أدبية ومادية. وشكراً للسيد الوزير، وأطلب إبلاع السيد الرئيس زين العابدين بن علي كامل تقديرنا، وستوجه الندوةُ برقية إلى سيادته؛ لاهتمامه بصفة شخصية في هذه الندوة، هذا التوجه الذي يسعى إلى تأصيل الكيان الوطني والحضاري، وشكراً.

تحية إلى نفطة والجريد في ختام الندوة

تحية إلى نفطة والجريد في ختام الندوة (¬1) ثلاثةُ أعيادٍ على ندوةِ (الِخضْرِ) ... توالتْ سِراعاً في محاورةِ الفِكْرِ وشاهدتُ أيامَ السُّرورِ قصيرةً ... وياليتَها دامتْ إلى آخرِ العُمْرِ و"نفطةُ" فَرْحى إذْ أعدتُمْ إمامَها ... مُعافى من الإهمالِ والنَّسْيِ والنُّكْرِ ولو تَنطِقُ الأحجارُ عمّا تُكِنُّهُ ... لَدَوَّتْ بشكرٍ وامتنانٍ إلى الفَجْرِ وآمنْتُ بعدَ اللهِ أنَّ اْرتقاءَنا ... بتونسَ في خيرٍ ونمضي إلى خيرِ وآمنتُ أنَّ الله سدَّدَ خَطْوَها ... وَحفَّتْ بها الأملاكُ بالسِّرِّ والجَهْرِ ومن يجعلِ الإخلاصَ نورَ طريقهِ ... مُنيباً إلى الرحمن واصلَ للنَّصْرِ رأيتُ وجوهاً ترسم العِلْمَ صورةً ... وأنصَتُّ للأَفواهِ تنثر بالدرِّ فطاحلُ، بلْ أفذاذُ، بلْ خيرُ نخبةٍ ... تجودُ بها الأيامُ في زَمنِ العُسْرِ وقولوا إلى الشَّرْقِ الحبيبِ بحكمةٍ ... ألا فاْنظروا الأمجادَ في المغْرب الحُرِّ تَعالوا جميعاً نَبْتني خيرَ أمَّةٍ ... بوحدَةِ أوطانٍ تُنَوِّرُ كالبَدْرِ وننقذُ هذا الدِّينَ من كفِّ ظالمٍ ... وعالَمَنا المجنونَ من سُلْطةِ الكُفْرِ ¬

_ (¬1) أبيات ألقاها علي الرضا الحسيني في ختام ندوة: (الإمام العلامة محمد الخضر حسين وإصلاح المجتمع الإسلامي).

ولَمْ امْتدِحْ بالشِّعْرِ يوماً وإنَّما ... (مواعدةٌ) (¬1) أهديهِ شعري مع النَّثْرِ وأُهدي إلى (عِمران) (¬2) تَمَّ (كمالُه) ... وفاءً لما أبداه في ساحةِ النَّشْرِ تحيةَ تقديرٍ تُزَفُّ كريمةً ... لجمعيةٍ تُحيي التُّراث مِنَ الهَجْرِ علي الرّضا الحسيني ¬

_ (¬1) الأستاذ محمد مواعدة الذي بذل الجهد الأكبر بنشاطه واتصالاته لإنجاح الندوة. (¬2) الأستاذ كمال عمران رئيس (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي).

ملاحظة واعتذار

ملاحظة واعتذار ألفت نظر القارئ الكريم إلى أني استنسخت المحاضرات والكلمات والمداخلات التي ألقيت في الندوة من أقراص (D.V.D)، وقد عانيت الكثير من الاستنساخ لسببين: أ - أن المتكلم من وراء (الميكروفون) قد يلتفت يمنة أو يُسرة دون قصد منه، فيغيب وضوح بعض الكلمات، وبعضها لا يُسمع إطلاقاً، لذا يكون التسجيل مطموساً. ب - هناك أحد الحاضرين في جميع جلسات الندوة كان مصاباً بالسعال الحاد، ويبدو أنه اختار الجلوس بالقرب من (كاميرا) التصوير والتسجيل، وسعاله يطمس بعض الكلمات التي لم أتمكن من استيضاحها. ولئن كانت الكلمات المطموسة معدودة على الأصابع، ولم تؤثر على المضمون، إلا أنه اقتضى التنويه والاعتذار. ونشير إلى أن بعض المحاضرات لم تكن مسجلة على أقراص (D.V.D)، ويرغم طلبنا من أصحابها ليبعثوا بها، فلم يستجيبوا -للأسف-.

الورقة العلمية

الورقة العلمية (¬1) ظهرت في البلاد التونسية مع مطلع القرن العشرين كوكبة من رجال الإصلاح والتنوير، تخرّج أفرادها من الجامعة الزيتونية، ونهلوا مما كانت تقدّمه (الجمعية الخلدونية) من دروس في شتّى المعارف باللسان العربي، وتعاضدوا مع أقرانهم الصادقيين. وقد اضطرت فئة منهم إلى شد الرّحال إلى الشّرق نتيجة ملابسات وإكراهات، وسعت إلى التعريف بالقضيّة التونسية، والاستزادة من المعارف والعلوم؛ مما بوّأهم أعلى المراتب العلمية والثقافية. وقد كان الشيخ محمد الخضر حسين في مقدّمة هؤلاء، بعد أن سعى إلى إشاعة مبادئ الإصلاح والحرية في تونس، وأصدر مجلة "السعادة العظمى". ثم سطع نجمه عند انتقاله إلى الشرق في الشام ومصر، وقد بوّأه علمه الغزير، وشهادة أولي العلم له بالمعرفة الواسعة، للعضوية في مجمع اللغة العربية في كل من دمشق والقاهرة، وبالخصوص: تولّيه منصب مشيخة جامع الأزهر، وهو مركز جليل لا يُعهد إلّا لمن رسخت قدمُه في العلم. وقد تميّزت شخصية هذا العلامة بالمساهمة الميدانية في الحركة التحريرية ¬

_ (¬1) الأستاذ فتحي القاسمي.

لبلدان المغرب والمشرق والعالم الإسلامي، وكانت له صلات وروابط فكرية مع جمّ من علماء الشرق والمغرب، وطائفة من المستعربين. وألّف كثيراً من الكتب في شتى الأغراض؛ مما جعل آراءه في حاجة إلى البحث والمساءلة؛ ذلك أنها تثير عدداً من الإشكاليات المتعلّقة بدور العلماء التونسيين المهاجرين والمغاربيين عموماً إلى الشرق والغرب، في حركة التحرير الوطني والإصلاح الفكري في النصف الأول من القرن العشرين. كما تكشف آراؤه عن ملامح المشروع الفكري التنويري الذي عرضه الشيخ محمد الخضر حسين ومعاصروه من ذوي الأفكار المناوئة للاستعمار من ناحية، وللعقول المتحجّرة ودعاة التقليد من ناحية أخرى، ما يرتبط بالمناهج المبتكرة لدى العلماء الزيتونيين لإصلاح مؤسسة التعليم (مناهج ومقررات)، وتطوير الفكر الديني في المغرب والمشرق العربيّين. وتثير شخصية الشيخ الخضر حسين - من خلال ردوده على كلٍّ من علي عبد الرّازق، وطه حسين، ومقالاته الكثيرة حول مسائل أدبيّة وفكرية واجتماعيّة - تساؤلاتٍ جوهريةً ترتبط بخصوصيّات التفكير الديني لدى العلماء التونسيين المهاجرين والمغاربة عموماً، ومدى التزامهم بالأطروحات والمواقف المتعلقة بقضايا الدين والدنيا. كما يطرح السؤال حول مدى مساهمة نشاطهم في الشرق والغرب في إغناء آفاقهم الذهنية، وتسديد تجاربهم النضالية، وترسيخ معارفهم العلمية. وتطمح هذه الندوة إلى تبّين أهم ما يُميّز الفكر الإصلاحي الإسلامي، انطلاقاً من هذا العالم الذي ارتبط اسمه بمسيرة الحركة الفكرية الإصلاحيّة،

والنظر في مدى إشعاعها وتأثيرها في فترة تاريخية هامة وحسّاسة، مثّلت منعطفاً في تاريخ العالم العربي والإسلامي. ونظراً إلى أصول العلامة محمد الخضر حسين الجزائرية، ونشأته وتكوينه التونسي، وبروز شخصيته العلمية والثقافية، وبلوغ أوجها في كل من سورية ومصر، حسب تعبير العلامة الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، فإن هذه الندوة تطمح -أيضاً- إلى المساهمة في ترسيخ العلاقات الثقافية والفكرية بين المغرب والمشرق العربييّن، وبالخصوص بين الجارتين الشقيقتين تونس والجزائر. وهو ما ستسعى المائدة المستديرة - حول دور المثقف في توثيق العلاقات التونسيّة الجزائرية خاصة، والعلاقات العربية الإسلامية عامة، من خلال شخصية الشيخ محمد الخضر حسين - إلى إبرازه.

برنامج الندوة

برنامج الندوة * اليوم الأول - الجمعة 16 جانفي 2009: - صباحاً: 10,00: 11,30 - الجلسة الافتتاحية: 10,00: 10,10 - كلمة اللجنة التنظيمية يلقيها الأستاذ محمد مواعدة. 10,10: 10,20 - كلمة السيد والي توزر الترحيبية. 10,20: 10,30 - كلمة السيد وزير الثقافة والمحافظة على التراث الأستاذ عبد الرؤوف الباسطي. 10,30: 10,40 - كلمة الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي. 10,40: 10,50 - كلمة العائلة يلقيها الأستاذ علي الرّضا الحسيني. 10,50: 11,00 - كلمة الجمعية الخلدونية بالجزائر يلقيها الأستاذ فوزي المصمودي. 11,00: 11,10 - كلمة الأستاذ المنجي الشملي باسم المشاركين. 11,10: 11,30 - استراحة، وزيارة المعارض المقامة على هامش الندوة (مؤلفات الشيخ محمد الخضر حسين - صور تذكارية له - صور حول نفطة والجريد - كلمات مأثورة للشيخ محمد الخضر حسين - معرض تشكيلي حول مدينة تونس أيام العلّامة محمد الخضر حسين - معرض بيت البناني حول الشيخ محمد الخضر حسين).

- بعد الظهر: 16. 00: 18. 20 - الجلسة العلمية الأولى: محورها: شخصية الشيخ محمد الخضر حسين. رئيس الجلسة الأستاذ العربي الزبيري (الجامعة الجزائرية). 00. 16: 16.20 - المحاضرة الأولى: المرحلة التونسية في حياة محمد الخضر حسين. الأستاذ محمد مواعدة. (تونس). 16.40: 16.20 - المحاضرة الثانية: المرحلة السورية في حياته، الأستاذ علي الرضا الحسيني (سورية). 17.00: 16.40 - المحاضرة الثالثة: المرحلة المصرية في حياته، الأستاذ مجاهد توفيق الجندي (مصر). 00. 20: 17. 17 - المحاضرة الرابعة: عرض حول زاوية الشيخ مصطفى بن عزوز وأشهر أعلامها، الدكتور حسين بن عزوز. * اليوم الثاني - السبت 17 جانفي 2009 م: - صباحاً: 30. 9: 12.30 الجلسة العلمية الثانية: محورها: العلّامة محمد الخضر حسين والإصلاح الديني والاجتماعي. رئيس الجلسة: الأستاذ مجاهد توفيق الجندي. 9.30: 9.50 - المحاضرة الأولى: الفكر الإصلاحي ومشاريع التحديث، الأستاذ الحبيب الجنحاني (تونس). 50. 9: 10.10 - المحاضرة الثانية: الإصلاح التربوي في فكر العلامة محمد الخضر حسين، الأستاذ مصدق الجليدي (تونس).

10.10: 30. 10 - المحاضرة الثالثة: مجلة "السعادة العظمى"، وقضايا الإصلاح، الأستاذة نجاة بو ملالة (تونس). 30. 10: 50. 10 - المحاضرة الرابعة: تطوّر الخطاب الديني للشيخ محمد الخضر حسين من "السعادة العظمى" إلى "الهداية الإسلامية"، الأستاذ جمال الدين دراويل (تونس). 50. 10: 11.10 - المحاضرة الخامسة: العلامة محمد الخضر حسين فقيهاً مُجدّداً، الأستاذ مختار الجبالي (تونس). 10. 11: 12.30 - نقاش. - بعد الظهر: 30. 15: 18.00 - الجلسة العلمية الثالثة: محورها: العلّامة محمد الخضر حسين ومساجلاته الفكرية. رئيس الجلسة: الأستاذ محمد مواعدة. 30. 15: 50. 15 - المحاضرة الأولى: الشيخ محمد الخضر حسين صحفياً، الأستاذ فوزي المصمودي (الجزائر). 50. 15: 16.10 - المحاضرة الثانية: تطوير الفكر الديني من خلال مجلة "السعادة العظمى"، الأستاذ كمال عمران (تونس). 10. 16: 16.30 - المحاضرة الثالثة: نقائض الشيخ محمد الخضر حسين، الأستاذ فتحي القاسم (تونس). 30. 16: 16.50 - المحاضرة الرابعة: الشيخ محمد الخضر حسين شاعراً، الأستاذ محجوب عون (تونس). 50. 16: 17.10 - المحاضرة الخامسة: الشيخ محمد الخضر حسين مُفسّراً، الأستاذ أنور بن خليفة (تونس). 10. 17: 18.00 - نقاش.

* اليوم الثالث - الأحد 18 جانفي 2009 م: - صباحاً: 30. 9: 12.00 - مائدة مستديرة بإشراف السيد وزير الشؤون الدينية الأستاذ أبي بكر الأخزوري، يُديرها الأستاذ الحبيب الجنحاني، ويُقدّمها الأستاذان: محمد الصالح الجابري، والعربي الزبيريّ. 00. 12: 30. 12 - اختتام الندوة، وتكريم المحاضرين والمساهمين في إنجازها. - تكريم ثلة ممن خدموا التراث الفكري التونسي. - غداء على شرف المحاضرين والضيوف. 50. 15: 18. 30 - زيارات ميدانية إلى الواحة، وسيدي بو علي، وزاوية الشيخ مصطفى ابن عزوز، وضريح الشاعر مصطفى خريف. - زيارة جماعية إلى توزر، ودار شريط ...

شهادات حول العلامة محمد الخضر حسين

شهادات حول العلامة محمد الخضر حسين * الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: "قد عرفت الحكومة من صديقنا هذا، وعرف الناس عنه بما جاءت مجلته العلمية العظمى "السعادة العظمى" (...) من البرهان على أنَّ في الطبقة العلمية العربية التونسية المتهمة بالبعد عن الشعور بالحاجات القومية رجالاً يقتاد الواحد منهم الأفكار، ويأتي بالآيات والأعمال الكبار، هكذا جعل رفيقنا هذا بمجلته لهاته الفئة اسماً شهيراً في النهضة". * محبّ الدين الخطيب صاحب مجلة "الفتح" المصرية: "نزل مصر، ومع تحاميه الإعلان عن نفسه، فإن عارفي فضله ونبله أحلُّوه المحلّ اللائق بكرامته، وانتدب للعمل خمسة أعوام في دار الكتب المصرية (...)، وتقدم لامتحان العالمية الأزهرية، فنال شهادته بتفوق (...)، ولا جدال في أن تجنس السيد الخضر بالجنسية المصرية غُنمٌ لمصر، وجوهرة يزدان بها تاج علماء الدين". * عبد العظيم الزرقاني: "الأستاذ الخضر نفحة من نفحات الحق في هذا العصر، جاد به الجواد على هذا العالم العقيم، فأحيا به من أموات الإسلام، وجدّد بعزمه من شباب الدّين".

* جريدة "الوزير" التونسية (العدد 773 الصادر في 25/ 12/ 1952 م): "لأول مرة في تاريخ الأزهر، أو في تاريخ شيوخ الأزهر يذهب ثلاثة من الوزراء يطرقون باب شيخ، شيخ يبعد كل البعد عن الأزهر، وسياسة الأزهر، وأزمة الأزهر، ومناصب الأزهر، ذهب ثلاثة من الوزراء إلى شارع خيرت؛ ليطرقوا باب الشيخ الخضر حسين التونسي الأصيل، المصري الجنسية، وذهبوا إليه ليقولوا له: أنت شيخ الأزهر". * الشيخ محمد الفاضل بن عاشور: "كان في شبابه بتونس على ما عرف من الشرق في كهولته وشيخوخته اعتدالاً، وهدوء طبع، وخلوص نية، وسعة علم، وبراعة قلم". * د. صلاح الدين المنجد السّوري: "كانت داره في حي الميدان مجمعَ الأفاضل، وكانت له دروس عامة يلقيها، ويجتمع فيها الكثيرون، ويفيدون منها، وكان في منتهى الذكاء، يخاطب كلاً على قدر عقله وفهمه، وكان لطيف المعشر، خفيف الظل، مع صلاح ووقار". * الأستاذ أبو القاسم محمد كرّو: "كان أحد الذين ساهموا في بعث الثورات المسلحة بالجنوب ... وكان هو والشيخان: صالح الشريف، وإسماعيل الصفايحي القادةَ الحقيقيين للنضال التونسي في أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى". * خير الدين الزركلي: "كان هادئ الطبع، وقوراً، خصّ قسماً كبيراً من وقته لمقاومة الاستعمار، وانتخب رئيساً لجبهة الدفاع عن شمال إفريقيا".

ترجمة الشيخ مصطفى بن عزوز في كتاب (الإتحاف) لابن أبي الضياف

ترجمة الشيخ مصطفى بن عزّوز (¬1) في كتاب (الإتحاف) لابن أبي الضياف العالم الوليّ، العارف بالله، أبو النخبة، سيدي مصطفى بن عزوز. هو من بيت فضل وعلم وصلاح، وزاويتهم بصحراء الزاب من عمل "بسكرة". ومحل زاويتهم ببلدة صغيرة تسمى بالبرج. ولآل بيته شجرة بتلك النواحي؛ كما له بهذا القطر الإفريقي. ودخل هذا الولي للقطر التونسي، وبث الطريقة الرحمانية في العروش، وجدد لهذه الأمة أمر دينهم، وطريقته لا تشديد فيها لمن أراد التوغل في السلوك والخلوة، ويأمر الناس بأداء فريضة الصلاة، وذكر لا إله إلا الله بقدر الإمكان. وطار صيته، وظهرت كرامته في العربان، لاسيما في الجهة الغربية، وأنشأ زاوية بنفطة للصادر والوارد. وكان المشير أبو العباس أحمد باي يعظم شأنه، ويجلُّه، واجتمع به غير مرة ... وسافر لأداء فريضة الحج، ورجع لتونس. ومنّ الله به على هذا القطر، فأطفأ نار فتنة تأجّجت في سنة ثمانين؛ لأجل مغرم الاثنين وسبعين. وضمن للناس الأمان، وطوّع العاصي، وقرب القاصي، واستنزل أهل المنعة من الصياصي، ساق لذلك من بيده النواصي، ¬

_ (¬1) جد الإمام محمد الخضر حسين من جهة الأم.

ورجع لزاويته بنفطة. وكان ما كان من الاغترار بالأمان، فتغير الشيخ، وأصبح من النادمين من أجل ذلك، والمؤمن لا يلدغ من جُحْر مرتين. وكان تقياً، نقياً، فقيهاً، صوفياً، قسم حياته بين تلاوة وذكر، ونظر في الملكوت بإعمال فكر، ووعظ وإفادة، وإخلاص في التهجّد والعبادة، وهداية إلى طرق السعادة، وإصلاح ذات البين، داعانة المحتاجين، ورحمة المساكين، وهداية الضالين، وإلى غير ذلك من أخلاق الصالحين. وكان -رحمهُ الله- فصيح اللسان، بليغ البيان في أسرار آي القرآن، صاحب ذوق في مقام العرفان، متواضعاً على رفعة هذا الشأن. يرشح وعاؤه بالرحمة والرأفة والحنان، يحب الخير لكل إنسان، داعياً لعباد الله بالهداية والإيمان والإحسان، ما شئت من محاضرات أبرار، ومطالع أسرار وأنوار، وزهد أخيار. ولم يزل على حاله، ناظراً لمآله، يحاسب نفسه عن دقائق أعماله، ولقاءُ الله أحبُّ آماله، إلى أن أحب الله لقاءه ليلة الاثنين، آخر ذي الحجة سنة (1282 هـ، 14 ماي 1866 م)، ودفن بزاويته بنفطة. وترك الدنيا وأهل عصره يثنون عليه بخير. والآخرة خير -رحمه الله-. * حول مدينتي "نفطة"، و "توزر": "بَلدَان صِنْوان، وأختان توءمان جاثمان وسط رمال الصحراء، بين شط الجريد وشط الغرسة، ودُورُهُما مبنية بالآجر، وقد خطت على جدرانهما أشكال هندسية تجدها مرسومة بالزاربي، والمناطق (ج نطاق) الحريرية المزركشة التي تصنع هناك. يشرب أهلها من العيون النضاخة المنبجسة من الرمال، فتسقي واحتيهما الفاتنتين (...).

وقد امتازت الوديان (منطقة دقاش) (فيهما) بالخصب وطيب الثمر، بفضل السد الجبلي الذي يحمي واحتهما من ريح الرمال والزمهرير. كما أن بلاد الجريد -عامّة- تنتج أحسن ثمار العالم طعماً وجمالاً (...). حامة الجريد: واحة ذات مياه حارّة، فيها عدّة حمّامات طبيعية عمومية، يؤمها سكان الجريد خاصة في فصل الصيف؛ لطيب هوائها، وعذوبة مائها، وحمّاماتها المعدنية. واشتهرت بلاد الجريد -عامة- بنسج البرانس الرفيعة، والجبب الحريرية والصوفية الدقيقة". (انتهاء النشرة الإعلامية عن الندوة) إبراهيم بن علي العبيدي النفطي جغرافية تونس الحديثة تونس: مطبعة الشريف (المقدمة 1950) ص: 11

نفطة (الكوفة الصغرى) تحتضن ندوة علمية حول العلامة محمد الخضر حسين

على هامش الندوة نفطة (الكوفة الصغرى) تحتضن ندوة علمية حول العلامة محمد الخضر حسين (¬1) بين أحضان واحات الجريد في أحد نزل "نفطة"، التأمت الندوة العلمية الأولى حول العلامة محمد الخضر حسين وإصلاح المجتمع الإسلامي، بمناسبة مرور خمسين سنة على وفاته، وذلك أيام 16 - 17 - 18 جانفي 2009 م. هذه الندوة نظمتها (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي)، بالتعاون مع وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، ووزارة الشؤون الدينية. * العلامة محمد الخضر حسين في سطور: محمد الخضر حسين، تونسي، ينحدر من عائلة جزائرية الأصل، ولد بنفطة سنة 1873 م، حصل على شهادة التطويع من جامع الزيتونة 1898 م، أنشأ أول مجلة في تونس أسماها: "السعادة العظمى" ناطقة بالفصحى، ومزاحمة لمجلة "المنار" المصرية، وفي سنة 1905 م تولى خطة القضاء ببنزرت، واستقال منه بعد شهور قليلة. كما شارك الشيخُ في تأسيس (جمعية تلامذة جامع الزيتونة) قبل هجرته ¬

_ (¬1) الملحق الثقافي الصادر في الخميس 5 فيفري 2009 م بجريدة "الحرية" تونس. بقلم عبد الكريم عمار.

إلى الشرق سنة 1912 م. وهناك في دمشق وقع اختياره عضواً في (مجمع اللغة العربية) سنة 1919 م. وانتقل إلى مصر، واستقر بها سنة 1920 م، تألق نجم الشيخ في الأوساط العلمية بعد ردّه على كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم"، وذلك سنة 1926 م، كما ردّ على كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" بكتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" سنة 1927 م. أسس العلامة محمد الخضر حسين مجلة "الهداية الإسلامية" سنة 1928 م، بالتعاون مع ثلة من علماء الأزهر، وكان أول رئيس لها، تواصل صدورها سنوات، ثم توقفت في أثناء الحرب العالمية الثانية، وشارك كذلك في تأسيس (جمعية الشبان المسلمين) بمصر في نفس السنة. عُين الشيخ عضواً بجماعة كبار الأزهر، تولى مشيخته سنة 1952 م، واستعفى من ذلك المنصب لتقدم سنه بعد سنتين، واستمر يمارس نشاطه العلمي دون انقطاع إلى أن توفي في شهر فيفري 1958 م، ودفن -رحمه الله- في التربة التيمورية بالقاهرة. * افتتاح الندوة: في صباح الجمعة 16 جانفي 2009 م، افتتحت الندوة بحضور السيد عبد الرؤوف الباسطي وزير الثقافة والمحافظة على التراث، الذي ألقى كلمة بعد اللجنة التنظيمية والكلمة الترحيبية للسيد والي توزر، وبعد ذلك ألقى الأستاذ فتحي القاسمي كلمة (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث التونسي). وقد حضر الندوة من سورية: الأستاذ علي الرضا الحسيني "ابن أخي الشيخ"، ومن الجزائر: الأستاذ فوزي المصمودي عن (الجمعية الخلدونية)،

والأستاذ العربي الزبيري (الجامعة الجزائرية). وحضر من مصر: الأستاذ مجاهد توفيق الجندي (جامع الأزهر)، ومن الكويت: الأستاذ فهد سالم الراشد. * محاضرات الندوة: تمحورت محاضرات ومداخلات الندوة حول ثلاثة محاور رئيسية: - شخصية الشيخ محمد الخضر حسين. - العلامة محمد الخضر حسين والإصلاح الديني والاجتماعي. - العلامة محمد الخضر حسين ومساجلاته الفكرية. في الجلسة العلمية الأولى سلطت محاضرة الأستاذ مواعدة الضوء على المرحلة التونسية من حياة الشيخ، وجاءت المحاضرة الثانية التي ألقاها علي الرضا الحسيني (سورية) مبينة المرحلة السورية من حياته. أما المحاضرة المتعلقة بالمرحلة المصرية، فقد أُجلت إلى الغد؛ بسبب تأخر قدوم الأستاذ مجاهد توفيق الجندي، وفي ختام الجلسة قدم الأستاذ حسين بن عزوز محاضرة حول زاوية مصطفى بن عزوز، وأشهر أعلامها، خاصة: المكي بن عزوز خال العلامة الخضر حسين. وفي اليوم التالي 17 جانفي 2009 م تناولت الجلسة العلمية الثانية محور الإصلاح الديني والاجتماعي عند العلامة؛ فقد نزل الأستاذ الحبيب الجنحاني تجربة الشيخ الإصلاحية في سياقها التاريخي والفكري بمحاضرة متميزة عنوانها: "الفكر الإصلاحي ومشاريع التحديث"، كما تناول الأستاذ أنور ابن خليفة في محاضرته "تجربة التفسير عند الشيخ"، فأبرز منهجه في ذلك المجال من خلال تفسيره لسورة "البقرة"، وبعض السور الأخرى.

أما الأستاذة نجاة بو ملالة، فقد تطرقت في محاضرتها إلى قضايا الإصلاح من خلال دراسة مستفيضة لمجلة "السعادة العظمى". وألقى الأستاذ جمال الدين دراويل محاضرة رصد فيها تطور الخطاب الديني لدى الشيخ من "السعادة العظمى" إلى "الهداية الإسلامية". ولم تكن الجلسة العلمية الثالثة أقل أهمية من الجلستين الأوليين؛ فقد تناولت مساجلات الشيخ الفكرية، فجاءت محاضرة الأستاذ فوزي المصمودي (الجزائر) لتبين النشاط الصحفي الذي قام به الشيخ منذ بداية مسيرته العلمية إلى حين وفاته. وعن تطوير الفكر الديني من خلال مجلة "السعادة العظمى" ارتجل الأستاذ كمال عمران محاضرة متميزة بيّن فيها إسهامات الشيخ في هذا المجال. أما الأستاذ فتحي القاسمي، فقد تناولت محاضرته نقائض العلامة محمد الخضر حسين من خلال دراسته لكتابيه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، و"نقض كتاب في الشعر الجاهلي" لطه حسين. وفيما يخص تجربة الشيخ الشعرية، فقد تناولها الأستاذ محجوب عون في محاضرة بيّن فيها رسوخ قدم الشيخ في مجال الشعر من خلال دراسته لقصائده. وفي اليوم الثالث من أيام الندوة، قدّم الأستاذ مصدق الجليدي محاضرة حول الإصلاح التربوي في فكر الشيخ، وبعدها أتم الأستاذ الجندي عرض بعض الوثائق والأدوات التي جلبها من رواق المغاربة بالأزهر الشريف، ثم دارت مداولات حول دور المثقف في توثيق العلاقات التونسية الجزائرية

خاصة، والعلاقات العربية الإسلامية عامة: العلامة محمد الخضر حسين أنموذجاً. * اختتام الندوة: اختتمت الندوة بكلمة ألقاها الأستاذ أبو بكر الأخزوري وزير الشؤون الدينية، أكد فيها على مقومات الهوية وثوابتها، وبارك أعمال الندوة، كما تولى تكريم الأستاذ المنجي الشملي، بمنحه شهادة تقدير؛ اعترافاً بمساهمته العلمية في الندوة، وكرم السادةُ: والي توزر، معتمدُ نفطة، المندوب الجهوي للثقافة والمحافظة على التراث، والكاتبُ العام للجنة التنسيق بتوزر، كرموا المحاضرين والمساهمين في إنجاز الندوة. وإلى جانب النجاح العلمي الذي حققته الندوة، وثقت عرا التواصل والتعاون الثقافي بين تونس والجزائر بالإعلان عن توءمة بين (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي)، (والجمعية الخلدونية بالجزائر). وعلى هامش الندوة أقامت الفنانة التشكيلية روضة يحيى معرضاً لمجموعة من لوحاتها، كما احتفت (المدرسة الأساسية الخضر حسين) بنفطة بضيوف الندوة؛ إذ قدم كورال أطفالها مجموعة من الأناشيد والأغاني.

الفن يحتفي بخريج الزيتونة - شيخ الأزهر

على هامش الندوة الفن يحتفي بخريج الزيتونة - شيخ الأزهر (¬1) من الأمور التي سعت إليها (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي) ضمن ندوتها العشرين، والتي خصصتها للعلامة محمد الخضر حسين، بمناسبة مرور خمسين سنة على وفاته، وذلك أيام 16 - 17 - 18 جانفي 2009 م، إلى جانب تتبع الوعي الإصلاحي لدى الرجل، هو: محاولة استعادة عناصر الحياة بكل تفاصيلها في الفترة التي عاش فيها هذا المفكر الفذّ، سواء في تونس، أو في الشرق العربي، أو في الغرب. ويتجلى ذلك -بالنسبة إلى مصر- في العرض الذي قدمه الأستاذ مجاهد توفيق الجندي، الذي حمل للندوة الأدوات التي كان للأزهر، بالإضافة إلى عديد الوثائق والملبوسات وغيرها. كما مثلث المعارض التي أقيمت بالمناسبة مظاهر من تلك الحياة منذ تأسيسه لأول مجلة عربية في تونس بعنوان "السعادة العظمى" سنة 1904 م، وحتى سنة 1958 م شهر فيفري؛ حيث نشر آخر مقال له في مجلة "لواء الإسلام"، وهو الشهر نفسه الذي توفي فيه. ¬

_ (¬1) الملحق الثقافي الصادر في الخميس 12 فيفري 2009 م بجريدة "الحرية" تونس. بقلم أحميدة الصولي.

وتؤكد المعارض التذكارية التي أقيمت حول حياة الشيخ في نفطة، والجريد، ومعرض بيت البناني، ومعرض مؤلفاته: أن الرجل يمثل مؤسسة عتيدة، سيكون موضوع أكثر من ندوة في المستقبل. ويقدم معرض الرسم حول مدينة تونس أيام العلامة محمد الخضر حسين، للرسامة الناشئة روضة يحيى، مظهراً من مظاهر الحياة العامة إذ ذاك، وخاصة من حيث العمارة التي تعكس هدوء الحياة وبساطتها، ولا تنسى الأعمال بما يتحرك في الأعماق من ردود فعل تجاه ما يجري في مواجهة المستعمر، ومن طابور المحافظين على تكريس الاستسلام والقبول بما يأتيه الأجنبي، إلا أن الشيخ محمد الخضر حسين مزّق الصمت، ونبش في الضمائر، وحرك السواكن بمجلته "السعادة العظمى"، وبما استحدثه من أساليب في التناول والطرح وما إليهما. ففي معرض اشتمل على 17 لوحة من أحجام متوسطة -غالباً-، جميعها تتناول العمارة من خلال الزوايا والكتاتيب والمساجد والأسواق القديمة، وفيها تتجلى خصوصيات العمارة والفضاءات؛ كأماكن العبادة بأقواسها وصوامعها. كما أنجزت هذه الرسامة صورة الشيخ محمد الخضر حسين جاءت ألوانها تتميز بالهدوء، ومتماهية مع المظهر العام، وناهلة منه، وهو ما يمكن مشاهدته في بعض البناءات المتداعية، أو التي في حالة ترميم، هنا أو هناك في البلاد التونسية. وفيها يستذكر المشاهد، أو ربما تحمله تلك الألوان إلى سنوات بداية القرن العشرين، وما ينتشر فيها من البناءات البسيطة، ولكنها تتمتع بجمال خاص، وتحمل طابعاً معمارياً متميزاً، وبتلك المعارض كان

للفن حضور الاحتفاء بالشيخ محمد الخضر حسين. كانت مدينة "نفطة" بكل ما فيها، تذكرنا بشخصية الشيخ محمد الخضر حسين، وقد أسهم عدد من أبنائها في فتح فضاءاتهم لتكون امتداداً للتظاهرة؛ مثل: المتاحف الخاصة، والمحلات، وغيرها. وباعتبار أن أصل عائلة الشيخ من الجزائر، فقد أسهم وفد هام من الأساتذة الجزائريين في الندوة، وكان تداخلهم لافتاً ومؤثراً، ومؤكداً: أن الشيخ شخصية عربية تؤسس للإصلاح، وتتصدى لمعوقات التطور والنمو الفكري، والتحرر من الاستعمار، والبناء الحضاري. يذكر أن ابن أخي المحتفى به الأستاذ علي الرّضا الحسيني قد قام بطباعة جميع آثاره في دمشق حيث يقيم، وينتظر أن تصدر طبعة بأعماله الكاملة في تونس. وتوجد بنفطة مدرسة باسمه تتميز بتفوق تلاميذها، وحصولهم على عديد الجوائز التي تؤكد نبوغهم وإبداعهم، خاصة من خلال نشريتهم، علماً بأن للمدرسة فرقة أطفال للإنشاد، ساهمت بعدد من الأغاني والأناشيد في أمسية اليوم الثاني من الندوة التي استمرت ثلاثة أيام. وليس هنا التعرض إلى ما أسهم به بعض المشاركين من أفكار حركت في الجميع روح التحفز الإيجابي؛ مثل: الأساتذة المنجي الشملي، ومحمد مواعدة، والحبيب الجنحاني، وكمال عمران من تونس، والعربي الزبيري من الجزائر، وغيرهم. مع ذلك، نلاحظ أن ثلاثة عناصر أساسية ميزت هذه الندوة، أشار إليها أحد الأساتذة بالجامعات الجزائرية، هي: الوضوح في الأهداف، وهدوء الخطاب، واتباع المناهج العلمية. وهذه العناصر إذا ما توفرت، تنتج عملاً

أو أعمالاً هادفة، وذات فوائد جمة. وهو ما يُجمع على توفره فيها كل من حضر هذه الندوة، أياً كانت مشاربهم. وقد افتتح الندوة وزير الثقافة والمحافظة على التراث، واختتمها وزير الشؤون الدينية، وقدم كل منهما بحثاً يتعلق بالمحتفى به الشيخ محمد الخضر حسين، والمدرسة التونسية في الفكر الإصلاحي، وهي المدرسة التي كان من أهم مميزاتها: النظر العميق في المسائل الفكرية، والانفتاح، وهي المميزات التي طبعت فكر الزيتوني التونسي وشيخِ الأزهر المصلح الفذ. ومروراً بكل من حضر فعالياتها، وانتهاءً بما تمخض عنها من بحوث، ارتفعت الندوة بالطرح إلى مستوى لفت الأنظار إلى خصوصيات العلامة، وتأثيره الفعلي في الحياة العربية مشرقاً ومغرباً. وقد ارتأى المنظمون أن موضوع المائدة المستديرة "دور المثقف في توثيق العلاقات التونسية الجزائرية خاصة، والعلاقات العربية الإسلامية عامة: العلامة محمد الخضر حسين نموذجاً" سيكون موضوع الندوة المقبلة بحول الله.

شيخ الأزهر العلامة التونسي محمد الخضر حسين محل ندوة علمية في "نفطة"

على هامش الندوة شيخ الأزهر العلامة التونسي محمد الخضر حسين محل ندوة علمية في "نفطة" (¬1) نظَّمت "الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي" بالتعاون مع وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، ووزارة الشؤون الدينية ندوةً علمية أولى بنفطة من ولاية توزر حول العلامة محمد الخضر حسين وإصلاحِ المجتمع الإسلامي، وذلك بمناسبة مرور خمسين سنة على وفاته. وافتتح الجلسة العلمية الأولى وزير الثقافة والمحافظة على التراث الأستاذ عبد الرؤوف الباسطي، الذي أكد أن هذه الندوة التي تنظمها (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي)، والتي تندرج في سياق سعي دؤوب انطلق بهدي من سيادة الرئيس زين العابدين بن علي، على درب تحقيق المصالحة، مصالحة التونسي مع هويته الحضارية، ولا شك أن بلادنا قد أنجبت أعلاماً أفذاذاً، ومصلحين رواداً أسهموا في تغذية الفكر الإنساني، وإن المتتبع لتاريخ الأفكار يتبين خصوصية المدرسة التونسية التي اتسمت بالرأي العميق، والرؤية المتزنة، وباستشراف منعطفات السيرورة التاريخية، ¬

_ (¬1) مجلة "الملاحظ" العدد 829 الصادر في 25 مارس 2009 م - تونس بقلم الأستاذ محمد علي الشتيوي.

وبالانفتاح على الآخر، ونبذ الانغلاق والتعصب. ثم ألقى الأستاذ فتحي القاسمي كلمة (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي)، وبين أن مرور نصف قرن على وفاة العلامة محمد الخضر حسين يمثل فرصة سانحة لتكريم هذا العَلَم الذي تعددت مواهبه، وسطع نجمه، وقد كان بَثَّ في المجتمع التونسي روح المبادرة والتجديد والتنوير، دافع عن الحرية، ودعا عالياً إلى الإصلاح، وعندما ضاقت به السبل، شدّ الرحال إلى الشام، فكان خير مدافع عن العروبة والإسلام، ثم رحل إلى مصر أين اختير شيخاً للأزهر الذي جدد فيه الحياة، وأحدث في الإسلام طفرة من التجديد. وقد تخللت هذه الجلسة الترحيبية بالضيوف كلمة اللجنة التنظيمية، ألقاها الأستاذ محمد مواعدة، وكلمة السيد والي توزر، وكلمة العائلة ألقاها علي الرضا الحسيني، وكلمة (الجمعية الخلدونية بالجزائر)، وكلمة الأستاذ منجي الشملي باسم المشاركين. وقدم الأستاذ محمد مواعدة مداخلة حول المرحلة التونسية في حياة الشيخ محمد الخضر حسين، خاصة وأنه أول من أنجز بحثاً جامعياً حول الخضر حسين منذ أكثر من ربع قرن تحت إشراف الدكتور المتميز منجي الشملي، وقد ركز على أهمية الفترة التونسية في ثقافة الشيخ الذي استطاع أن يساهم في الحراك الثقافي التونسي ببعثه أول مجلة تنويرية في مطلع القرن العشرين (1904 م)، وبالرغم من استقراره في الشرق، فإنه ظل وفياً لتونس، تدل على ذلك العديد من كتاباته. كما أن بيته في القاهرة كان قبلة القصّاد من تونس، بل إن له الفضل

على بورقيبة عندما كان نكرة بالنسبة إلى المصريين؛ فقد تدخل الشيخ لتمكينه من اجتياز الحدود المصرية، كما جسم الشيخ وهو في مصر شخصية متعددة الأبعاد، فهو جزائري الأصول، تونسي التكوين والنشأة، رحل إلى الشرق، فكان له التميز، وسطع نجمه في مصر خصوصاً، وكانت له مساهمات في الثقافة الكونية في عصره. ثم تحدث الأستاذ علي الرضا الحسيني عن المرحلة السورية في حياة الخضر حسين؛ حيث تتلمذ على يديه في سورية كثير من العلماء والأدباء، وكان له دور في (مجمع اللغة العربية) بدمشق، كما تركت أسرته كثيراً من الآثار الأدبية والعلمية، منها: مؤلفات شقيقه زين العابدين، وقدم الحسيني معرضاً يضم جلّ مؤلفات الشيخ الخضر، وقد اختص بطبع كتب الشيخ والمهاجرين التونسيين الذين استقروا في الشرق؛ من أمثال: محمد المكي ابن عزوز خالِ الإمام الخضر، وإسماعيل الصفايحي، وصالح الشريف، والشيخ الكافي. أما الدكتور حسين بن عزوز، الذي قدم مداخلة حول زاوية الشيخ مصطفى بن عزوز وأشهر أعلامها، وكانت حرمه الرسامة روضة يحيى قدمت على هامش الندوة معرضاً ضم لوحات تشكيلية استلهمتها من بيئة الشيخ في الحاضرة التونسية. لقد لفت الدكتور ابن عزوز الانتباه إلى جذور الشيخ خضر حسين، وإلى عائلته التي وفدت من الجزائر، واستقرت بالجنوب التونسي مع عميدها الشيخ مصطفى بن عزوز، الذي تربى على يديه الشيخ الخضر حسين، ونهل من علمه، كما تتلمذ على خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز قبل أن يلتحق بجامع الزيتونة.

وفي الجلسة العلمية الثانية التي كان محورها: (العلامة محمد الخضر حسين والإصلاح الديني والاجتماعي)، وترأسها الأستاذ مجاهد توفيق الجندي، فقد افتتحها الأستاذ الحبيب الجنحاني بمحاضرة عنوانها: "الفكر الإصلاحي ومشاريع التحديث"، وقد أكد أنه اطلع على نصوص أخرى للشيخ الخضر تعتبر جديدة، وهي باللغة الألمانية، بحوث تناولت شخصيات متعددة من رواد الحركة الإصلاحية، واعتمدت على مجموعة من مذكرات أشخاص عرفوا مباشرة الخضر حسين، منهم: شكيب أرسلان، وإن من أبرز ملامح الفكر الإصلاحي رحلات هؤلاء الرواد إلى أوروبا، ومن أبرزهم: صالح الشريف، وإسماعيل الصفايحي، والخضر حسين، ومحمد باش حامبة، وقد كتبوا هذه الرحلات عن وعي، وهي ليست مجرد تسجيلات، بل أرادوا من خلال هذه النصوص نقل صورة التقدم في أورويا إلى مجتمعاتهم، وتحدثوا عن الأفكار الإصلاحية. وإنّ من أبرز هذه التيارات الإصلاحية: 1 - تيار يهدف إلى تجديد الفكر الديني، ونشر التعليم والتربية، والخضر حسين يندرج ضمن هذا التيار. 2 - تيار يرى أنه لا يمكن التفكير في التحديث والحداثة قبل إنجاز مرحلة الإصلاح السياسي، قسم من هؤلاء سعى هذا المسعى التحديثي من داخل السلطة (ليس من الصدفة أن أبرز تيارات الفكر الإصلاحي انطلقت من إسطنبول ومصر وتونس، فمشروعات التحديث لهؤلاء الثلاثة انطلقت من داخل السلطة)، وقد تفطّن "حكيمُ السياسة" خيرُ الدين التونسي إلى أنه لا إمكان لمشاريع تحديثية تقدمية ضمن سلطة استبدادية.

3 - تيار يختلف عن البقية، ويؤمن بضرورة الإصلاح الفكري والسياسي، والإفادة من الجوانب المضيئة والمشرقة في التراث العربي الإسلامي في مرحلة معينة. أما المحاضرة الثانية، فقد كانت للدكتور كمال عمران، وهي بعنوان: تطوير الفكر الديني من خلال مجلة "السعادة العظمى". وقد أكد في مستهل محاضرته: أن قدوم هذا "الآفاقي" إلى الحاضرة انطلق من "نفطة" حيث الشجاعة والجرأة والفطرة، وأن هؤلاء العلماء من أمثال العلامة الخضر حسين قد أهاجوا في الحاضرة نوعاً من التفكير غيّر الوجهة الثقافية؛ فقد جاؤوا إلى تونس، وفتحوا فتحاً مبيناً، وحملوا نسقاً فكرياً فيه من الجرأة والشجاعة الشيء الكثير، وأن الجامع الأعظم حين جاءه الشيخ الخضر كان فيه نزعتان: أ - نزعة يترأسها الشيخ سالم بو حاجب. ب - نزعة يترأسها الشيخ أحمد بن الخوجة، شيخ الإسلام. فكيف شارك محمد الخضر حسين في هذه البيئة؟ 1 - فكرة العقل: كيف عاد الخضر حسين إلى فكرة العقل لتطوير المنظومة الدينية؟ إن العقل عنده هو المؤسس لكل تطوير في المنظومة الدينية، فهو أداة للتأسيس، ولمراجعة الثقافة العربية الإسلامية. 2 - التطوير بالعودة إلى الأصل، والأصل عنده مقتضى حديث نبوي شريف: "خير القُرونِ قَرني، ثم الذين يلونَهُم، ثم الذين يلونهم"، فإذا أردت أن تستصلح أحوال الدين، ينبغي أن تعود إلى هذه الفترة من الزمان.

3 - التطوير بالتفقه في الدين انطلاقاً من آلية الاجتهاد. 4 - التطوير انطلاقاً من القيم الحديثة، وهذا لافت في نظر الشيخ. نستنتج إذن: أن للشيخ الخضر حسين: أ - فكراً يدعو إلى تطوير المنظومة الدينية عبر القيم الإسلامية البحتة، وبيّن ذلك من خلال مقالاته في مجلته "السعادة العظمى". ب - الشيخ اهتدى لأول مرة في تونس إلى الصحافة الدينية. ج - الشيخ لم يكن من الإصلاحيين، بل كان من التطويريين، وحسبه أنه نفخ في البلاد التونسية هذه النسمات التي سيجني الفكر التونسي ما به يُرسي ثوابت الفكر الديني. أما المحاضرة الثالثة، فقد كانت للأستاذة نجاة بو ملّالة، وهي بعنوان: "مجلة السعادة العظمى وقضايا الإصلاح"، ويينت فيها: أن هناك رغبة شخصية من الشيخ الخضر حسين، واقتناعاً بقيمة الصحافة، ودورها في تقدم الأمة ونحت شخصيتها، وقد تعرضت إلى ظروف نشأة هذه المجلة في وقت كانت تعيش فيه تونس طفرة وحركة إصلاحية، واهتمت بدور مجلة "السعادة العظمى" في نشر الوعي الإصلاحي، وقد كان من أبرز أهدافها: إصلاح وضع المسلمين، وإعادة مجدهم الضائع، ودعوة إلى الاتحاد والتعاون من أجل قضايا العصر، والدعوة إلى نهضة جديدة، وقد حاولت أن تقاوم انتشار الطرق والزوايا، وتطوير الشريعة الإسلامية، وتطهيرها من الأفكار البالية. أما المحاضرة الرابعة، فقد كانت للأستاذ جمال الدين دراويل، وهي بعنوان: تطور الخطاب الديني لدى الشيخ محمد الخضر حسين من "السعادة العظمى" إلى "الهداية الإسلامية".

لقد كان الشيخ ركناً من أركان النهضة الفكرية والأدبية؛ كما بيّن ذلك محمد الفاضل بن عاشور، وقد كان من أبرز ناشطي شيوخ الزيتونة في العقد الأول من القرن العشرين، وكان من أبرز محاضري الجمعية الخلدونية (1896 م) والجمعية الصادقية (1905 م)، وتأسست تحت إشرافه وتوجيهه أول جمعية طالبية بتونس، وهي (جمعية طلبة جامعة الزيتونة). لقد أسس الشيخ الخضر مجلة (السعادة العظمى) وهو في مرحلة الشباب، وكان اقتحامه مجال الصحافة الفكرية دليلاً على سعة أفق الرجل ونشاطه. لقد صدع الشيخ منذ المقال الافتتاحي بدور الاجتهاد في تطوير منظومة الشريعة الإسلامية، إنها نبرة معتبرة عن تحدّي الجمود والمحافظة، وهو ما سبب له الكثير من الاضطهاد والنكاية طوال مقامه في تونس، خصوصاً أنه كان ينتهج في فكره فهمَ مقاصد الشريعة الإسلامية، وقد عبرت مقالاته في المجلة عن نظر فسيح، ورؤية عميقة، ومنزع إصلاحي، وعالج الشيخ فيها قضايا الحرية والتقدم والتمدن. أما المحاضرة الخامسة، فقد كانت للأستاذ أنور بن خليفة، وهي بعنوان: "الشيخ محمد الخضر حسين مفسراً"، وقد تعرض فيها إلى منهج الشيخ في تفسير القرآن الكريم، ومصادره، وإنتاجه في التفسير، وقد كانت له بصمته الخاصة في تفسير بعض آيات القرآن تدل على سعة اطلاع الرجل على مدونة التفسير في حقب زمنية مختلفة. أما الجلسة العلمية الثالثة، فقد كان محورها: العلامة محمد الخضر حسين ومساجلاته الفكرية، ترأسها الأستاذ محمد مواعدة، وافتتحها الأستاذ

فوزي المصمودي (الجزائر) بمحاضرة عنوانها: الشيخ محمد الخضر حسين صحفياً. لقد كانت مجلة "الهداية الإسلامية" مجلة مغاربية بامتياز، دافعت عن القضايا الإسلامية والوطنية والعربية، مدير المجلة الخضر حسين خصص افتتاحية العدد للدولة الحسينية بتونس، معرّجاً على الدول التي تعاقبت على تونس، وقد كان الشيخ محمد النيفر، والطاهر بن عاشور، والمكي بن عزوز من محرري هذه المجلة، وقد كانت تصل إلى الجزائر عن طريق عبد الحميد ابن باديس، وأسندت مشيخة الأزهر رئاسة تحرير مجلة "نور الإسلام" للخضر حسين، وهي مجلة شهرية تصدر عن الأزهر الشريف تعمل على إنارة سبيل المسلمين، ومكافحة الطرق المنحرفة التي تنشرها مختلف التيارات الدينية، وقد أضاف إليه الشيخ الخضر قسماً بالإنجليزية وهو ما يحسب له. مجلة "لواء الإسلام" كان للشيخ نصيب في إخراجها سنة 1945 م، وهي إحدى المجلات المصرية التي قامت بدور كبير في التثقيف الإسلامي، وأسندت له رئاسة تحريرها، وتصدت إلى الملحدين، ولأفكارهم الدخيلة، وعزفت حقيقة الإسلام. إن الشيخ الخضر حسين لم تقتصر مواكبته للحركة الصحفية على هذه المجلات، بل كان مواكباً للكثير من المجلات والجرائد، فقد كتب في جريدة "الزهرة" اليومية، و"الفجر" للحزب الدستوري، وراسل مجلة "البدر" الزيتونية، أما بمصر، فقد كتب في مجلة "الفتح"، وكتب في مجلة "مجمع اللغة العربية"، إضافة إلى مجلة "مجمع اللغة العربية" بدمشق. أما الدكتور فتحي القاسمي، فقد كانت محاضرته بعنوان: "نقائض

العلامة محمد الخضر حسين"، وقد عرف بكثرة ردوده ومجادلاته، وتمحور حديثه حول ثلاثة آثار هامة للشيخ: 1 - "حياة اللغة العربية"، وهو رد على أحد الفرنسيين الذي تساءل بقوله: هل العربية لغة حيّة؟ وقد انتصب له هذا العالِم، وردَّ عليه رداً فيه كثير من العمق والدقة. 2 - ردّه على كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" بمؤلف: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم". 3 - رده على كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" بمؤلف: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي". وما نلاحظه: مركزية المجادلة في المدرسة الإصلاحية عموماً؛ إذ كثير من هذه المؤلفات موسومة بروح جدالية أثارت كثيراً من الخبر، وقد انكبت نقائض الخضر حسين على معالجة مسائل وقضايا ترتبط بالآنية، وبين في رده على مقال (شارل نويل) أن الذي يتهم الإسلام ولغته بالعقم له رصيد كبير من الجهل بأسرار اللغة العربية وبحقائقها، وقد كان رده على هذه الدعوى قوياً، ومشبعاً بالدليل والحجة، ويرى أنه لابد من تضافر الجهود من أجل الدفاع عن اللغة العربية، وربطَ الشيخ بين الدفاع عن اللغة والوطن؛ حيث اعتبرها قضية وطنية، وبيّن بالحجة والدليل من واقع بيئته قدرة اللغة العربية على مواكبة الحداثة، وهي مسكونة بهاجس التطور. أما فيما يخص الكتاب الثاني: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، فما نلاحظه: أن الشيخ الخضر انخرط في دوامة الولاء السياسي؛ لأنه أهدى الكتاب إلى الملك فؤاد الأول، وقد كتب في ذلك المفكر محمد عمارة "أجود

دراسة كتبت وقتذاك، إلا أن صاحبها ساقها في الموكب الملكي"، وقد وظّف الشيخ ثقافته الزيتونية المتينة، والأزهرية العميقة لنقض هذا الكتاب، وإبطال آراء علي عبد الرازق، وجادل هذا المؤلف بدقة متناهية، فكان عالماً ثبتاً، متمكناً من المنظومة الفقهية والسياسية في حقب زمنية متلاحقة، وفيما يتعلق بمؤلفه: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، فما نلمسه أن الشيخ الخضر حسين كان مهتماً بالأدب، وتمرس بالآداب، وعرف شواردها، وقد بيّن أن طه حسين تلقّف أفكاراً وافدة تطعن في الإسلام والعربية، وقد كان متأثراً بأطروحات بعض المستشرقين الذين ناصبوا الإسلامَ العداء، وندّد الخضر بمن ينادون ويلهجون بحرية الفكر، وهم ينالون من الشريعة الإسلامية، وقد كانت الفكرة المركزية التي يقوم عليها الكتاب: تفنيد مطاعن طه حسين، وكان من أهم ما جادل به الشيخ طه حسين هو: ضرورة أن ينطلق من النص التأسيسي؛ أي: من القرآن، وليس مما كتبه الرواة. إن اطّلاع الشيخ الدقيق على فرائد العربية ودقائقها اقترن بردّ من منطق دفاعي. إن الشيخ الخضر حسين في ردوده ونقائصه الكثيرة خزانة علم، وأحد العلماء الذين اقتنعوا بضرورة المجادلة لتقديم إضافة معرفية دقيقة، وقد تميّز بالجدل العنيد، والحصر الشديد على المخاطرة الدقيقة، والحجة الصارمة. لئن كان جدل الشيخ قائماً على روح تحررية نزاعة إلى الاعتدال، فإننا نلاحظ في مقابل ذلك -من خلال نقائضه- تضييقه الخناق على العقل. أما الأستاذ محجوب عون، فكانت محاضرته بعنوان: الشيخ محمد

الخضر حسين شاعراً، وبين فيها: أن الشيخ نشر شعره قبيل وفاته بعقد من الزمان، وبإلحاح من المقربين منه، وذكر أن شعر الخضر حسين حَكَمَه أمران اثنان: أمر الشيخ العالم من جهة، والذي يجد حرجاً في قرض الشعر؛ كما كان الحال مع الإمام الشافعي، والأمر الثاني: هو أمر الناقد؛ فقد كان الخضر حسين ناقداً من طراز رفيع، فقد رد على طه حسين في كتابه: "نقض كتاب الشعر الجاهلي"، وردّ على علي عبد الرازق بكتاب: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، وألف كتابه المهم في التنظير للشعر، وهو كتاب: "الخيال في الشعر العربي". وهذه الشخصية العلمية النقدية كان لها تأثير كبير في الشخصية الشعرية للشيخ الخضر حسين، ولذلك كان شعره صدى لروح العالم، فلم يعالج من القضايا إلا ما ارتبط بالأخلاق، وإصلاح المجتمع، وخلا شعر الشيخ "خواطر الحياة" من الغزل، وحضرت فيه الإخوانيات، والتغني بالأوطان، والرثاء ... وختم الأستاذ محجوب عون مداخلته بالإشارة إلى أن الشيخ كان شاعراً ملتزما بقضايا الوطن والأمة، حتى وهو في ديار الغربة، ولكن هذا الشعر لم يكن شغل الشاعر الشاغل، فعملت فيه أصابع الشيخ الملتزم كما أصابع الشاعر المسكون بعواصف العواطف. ثم كانت الجلسة العلمية الثالثة محورها: "دور المثقف في توثيق العلاقات التونسية الجزائرية خاصة، والعلاقات العربية الإسلامية عامة: العلامة محمد الخضر حسين أنموذجاً"؛ بإشراف السيد وزير الشؤون الدينية الأستاذ أبي بكر الأخزوري، وقد ركّز الأستاذ العربي الزبيري (الجامعة الجزائرية) في تدخله على الأمانة المنوطة بعهدة المثقف المغاربي لجبر

ما كسرته السياسة، والاضطلاع بدور طلائعي في صلب الفضاء المغاربي الذي يعاني من الأزمات، وعدم تكتّل رجال الفكر من أجل كسب الرهان، ومواجهة أسباب الصراع. كما دعا المثقفين في المغرب العربي خصوصاً إلى الاضطلاع بدورهم المنشودة لإنقاذ الوضع الذي تردّى فيه الواقع المغاربي؛ نتيجة استقلال المفكر، وعدم انخراطه في اتجاه التحرير والتنوير، وبناء صرح الأفكار الجديرة بإصلاح الواقع المغاربي. أما الأستاذ مجاهد توفيق الجندي (مصر)، فقد أحضر بعض معدات الشيخ الخضر حسين، والأدوات التي كان يستعملها في حياته اليومية، وأكد أن الشيخ عالم من أعلام الإسلام، فريد عصره، ووحيد دهره، سياسي قاد السفينة إلى برّ الأمان، صحفي لا يشق له غبار، شاعر وأديب وخطيب، وأشار الأستاذ مجاهد إلى كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، وقال: إن هذا الكتاب ليس له، ولكنه لطه حسين، فقط أكد فيه أن الخلاقة ليست من الدين في شيء، وهذا أسلوب طه حسين؛ لأنه يريد تصفية حسابه مع شيوخ الأزهر، ولا يمكن لمثل علي عبد الرازق أن يصدر منه هذا الكتاب، بل ذهب أكثر من ذلك، وقال: إن طه حسين أعطاه الفرنسيون الدكتوراه في جلسة شاي، ثم تحدث عن انتساب الخضر حسين إلى أعلى هيئة علمية في مصر، وعن سبب اختياره لمشيخة الأزهر الشريف سنة 1952 م، والتي مثلت نقطة تحول كبيرة في حياته، وقال: إن ملفه موجود في رئاسة الجمهورية، ولم يفرج عنه إلى الآن، لذلك كانت المصادر -ولا زالت- شحيحة حول فترة مشيخته للأزهر.

واختتم الندوة العلمية وزير الشؤون الدينية الأستاذ أبو بكر الأخزوري بمداخلة قيّمة، أشار فيها إلى أهمية هذه الندوة المتأتية من كونها حلقة من حلقات السلسلة الإصلاحية التونسية من بداية القرن 19 إلى التغيير، فقد تناولت البحوث القيّمة بالدرس فكرَ عَلَمٍ من أعلامنا الأفذاذ، حريّ بنا جميعاً أن نستلهم من فكره ومواقفه ما يدفع بنا إلى الأفضل، وهناك جوانب كثيرة من شخصية الشيخ جديرة بالاعتبار، ولعل أبرزها: منهجه التنويري في تناول قضايا الفكر الإصلاحي، وقد سلك سبيل الدرس المعمّق، والنظر الشامل، قوام بحثه: النقد والتعريف والتعليل، منهجه أَهَّله لأن يكون مستنيراً، رافضاً لكل فكر ماضوي، كان متفتحاً، يعتمد الرأي المستند إلى دليل، رفض القول بغلق باب الاجتهاد، واستدلّ بمقتضى المنطق. وبيّن السيد الوزير أننا اليوم نتمسك بهذا المنهج العقلاني الذي لا غنى عنه في تحقيق تطلّع المجتمعات الإسلامية إلى الرقي الحضاري، مستدلاً بنُبذ من خطب الرئيس زين العابدين بن علي، وأشار إلى أن الخضر حسين كان واعياً بضرورة تربية الشخصية الفردية والجماعية على التمسك بالهوية المتشبثة بالثوابت؛ إذ يجب علينا أن نصل إلى مرحلة صنع المعرفة، وصنع التاريخ، وذلك استناداً إلى هويتنا. ويضيف الأستاذ أبو بكر الأخزوري: أن كل منطلقات الشيخ منطلقات إصلاحية مبنية على النصوص التأسيسية، وعلى العلوم الشرعية، وعلى الفكر الديني النيّر المؤسس على الاجتهاد، وبيّن -أيضاً-: أن الشيخ الخضر حسين لم يكتف بطرح المسألة اللغوية في محاضراته، بل تجاوز ذلك إلى العمل الميداني من خلال الجمعيات الثقافية، ومن خلال العمل المؤسساتي؛ فقد

أدرك أن اللغة وعاء حضاري ولابد أن تواكب تطور المجتمعات العربية، وهو ممّن حرص على حذق اللغة الأجنبية، والتفتح على الآخر، فاكتسب الخصال الثورية لمعرفة الواقع المتجدد ...

شهادة تقدير

الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي شهادة تقدير سلّمت إلى الأستاذ: على الرضا الحسيني بمناسبة تكريم الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي له, اعترافا بفضله على تونس وبدور أبحاثه ومؤلفاته وأنشطته الفكريةُ والمتنوعة في تحقيق مزيد من الإشعاع والتميُّز. حرّرت بتونس في 18/ 01/ 2009 الرئيس د. كمال عمران

§1/1