من شرح بلوغ المرام للطريفي

عبد العزيز الطريفي

مقدمة

شرح بلوغ المرام اشرف على تفريغه وإخراجه حمود المطيري وفقه الله ومن أعانه بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله، اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فإن دراسة السنة من أهم العلوم وأفضلها وأشرفها عند الله سبحانه وتعالى، وإن من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى الله سبحانه وتعالى ويسعى إليه الساعون هو طلب أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك العناية بصحيحها وسقيمها، فإن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله سبحانه وتعالى، أوحاه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل وهي قرينة للقرآن من جهة الاحتجاج، ولذا فإنه قد أجمع أهل السنة على أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله جل وعلا في كتابه العظيم، {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} ، وهذا بيان من الله سبحانه وتعالى على أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله جل وعلا، وعلى هذا أهل العلم وكذلك صنيعهم دل على ذلك في مصنفاتهم، فالإمام البخاري عليه رحمة الله قد عقد أول كتاب في صحيحه: (كتاب بدء الوحي) ، إشارة إلى أن ما يليه من هذا الكتاب إنما هو وحي من الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولذا قال مشيراً إلى ذلك في كتاب التوحيد من صحيحه: (باب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايته عن ربه) ، وهذا محل اتفاق عند أهل العلم أيضاً فقد أخرج الدارمي في سننه وأبو داود في كتاب المراسيل والخطيب في الكفاية والفقيه والمتفقه وابن عبد البر في كتابه الجامع والمروزي في كتاب السنة عن الأوزاعي عن حسان قال: كان جبريل ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنّة كما ينزل عليه بالقرآن.

وقد أخرج الخطيب في كتابه الكفاية عن أحمد بن زيد بن هارون قال: إنما هو صالح عن صالح وصالح عن تابع وتابع عن صاحب وصاحب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله عن جبريل وجبريل عن الله عز وجل، أي فهذه شريعة الله سبحانه وتعالى من كتاب وسنة، إنما يرويها حتى وصلت إلينا صالح عن صالح وصالح عن تابع وتابع عن صاحب وصاحب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل وجبريل عن الله عز وجل، فلا يقف شيء من وحي الله سبحانه وتعالى عند أحد من هؤلاء دون الله سبحانه وتعالى والنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يقوله ويفعله، كله وحي من الله جل وعلا، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سئل في شيء من شرع الله سبحانه وتعالى وكان لديه وحي من الله تعالى سابق أخبر به، وإن لم يكن لديه وحي من الله جل وعلا فإنه حينئذٍ ينتظر خبر السماء ولا يتكلم من دون الله سبحانه وتعالى.

وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أخبار تبين وقوف النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدم كلامه من تلقاء نفسه، ومن ذلك ما أخرج الشيخان من حديث إسماعيل عن ابن جريج عن عطاء عن صفوان بن أميه عن أبيه أنه كان يقول لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ليتني أرى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حين ينزل عليه الوحي، قال: فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثوب قد أظل به عليه مع إناس من أصحابه فيهم عمر، إذ جاءه رجل عليه جبة صوف متضمخ بطيب، فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل قد أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ قال: فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة ثم سكت، فجاءه الوحي ولم يكن حينئذٍ لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - علماً من الله جل وعلا ووحي سابق، فأشار عمر بيديه إلى يعلى بن أميه أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - محمر الوجه يغط ساعة ثم سرّيَ عنه، فقال: «أين الذي سألني عن العمرة؟» ، فالتُمِس الرجل فجيء به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك» ، فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه ذلك الرجل الذي قد تلبس بعمرة، جاءه ولم يكن لديه علم عما تلبس به، فإنه قد لبس المخيط وهي: الجبة وتضمخ بطيب وهما من محظورات الإحرام، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ولم يكن لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله جل وعلا سابق، فانتظر الوحي الذي جاءه به جبريل عليه السلام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن أخباره وأقواله وأحكامه التي يقولها ويفعلها من أمر ونهي أو فعل وترك ونحو ذلك إنما هي وحي من الله سبحانه وتعالى بل هي من كتاب الله جل وعلا، فالله سبحانه وتعالى قد قرن طاعة نبيه

- صلى الله عليه وسلم - بطاعته في غير ما موضع من كتابه سبحانه وتعالى، بل أخبر أن من يعصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما يعصي الله جل وعلا، أخرج الشيخان قالا: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قال: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، قال: فقام خصمه الأعرابي الآخر، فقال: صدق يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله، فقال ذلك الأعرابي: إن ابني كان عسيفاً على هذا - يعني أجيراً يرعى له غنمه - فزنى بامرأته، فقالوا لي على ابنك الرجم، قال: ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم فقالوا إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، أما الوليدة والغنم فردٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وأما أنت يا أنيس، فاغدُ إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» ، فغدا أنيس إليها فرجمها.

ومن تأمل أحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الأعرابي وخصمه فإنه يجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حكم أحكاماً ليست في القرآن الكريم بنصها، وإنما هي من النبي - صلى الله عليه وسلم - من وحي الله جل وعلا، الذي هو يعد من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي هي قرينة القرآن الكريم من جهة الاحتجاج، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - حكم عليه بأن الغنم والوليدة رد عليه؛ لأنها ليست من حكم الله سبحانه وتعالى، وكذلك قد حكم على ابنه جلد مائة، والجلد قد ثبت في كتاب الله سبحانه وتعالى في سورة النور في قوله جل وعلا: {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} ، وكذلك قد حكم على ابنه بأن يجلد مائة جلدة ويغرّب عام، وتغريب العام أيضاً هو ليس مما نُص عليه في كتاب الله سبحانه وتعالى، وإنما هو من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأقضين بينكما» ، وهذا قَسَمٌ منه - صلى الله عليه وسلم -: «لأقضين بينكما بكتاب الله» ، وحكم بأن يجلد مائة جلدة ويغرّب عام، وذلك يدل على أن أحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - قرينة لكتاب الله سبحانه وتعالى، الذي هو القرآن الكريم من جهة الاحتجاج.

والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر في غير ما موضع أن سنته وما يرد عنه - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أنها قرينة لكتاب الله سبحانه وتعالى يحرم ردها ويحرم الإعراض عنها لقول أحد من الناس، بل أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم أن عدم توقير أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - إيذان بإحباط العمل، وقد قال الله جل وعلا في سورة الحجرات: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} ، فإحباط العمل هنا ليس من الذي تسبب فيه الكفر، فمعلوم أن الكفر بالله سبحانه وتعالى يحبط العمل، ولكن هنا من يرفع صوته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يكونون هم من أهل الإيمان وارتكبوا هذه المعصية، التي ربما تشعر بعدم إجلال لأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورفع الصوت عند أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء كان في حياته أو بعد مماته عند سماعها ممن يتحدث بها الحكم واحد، فإن ذلك مظنة حبوط العمل والعياذ بالله، وإن لم يكن كفراً، فما الظن إذاً بمن قدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهجه وهديه قول غيره ونهجه وهديه، أليس هذا قد حبط عمله من غير ان يشعر..!!. أخرج الشيخان من طريق صالح عن بن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة عن أبيها الصديق قال: لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ. وهذا الصديق يخاف إن ترك السنة أن يزيغ فماذا عسى أن يكون من وقت وزمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وبأوامره ونهيه، ويتنافسون في مخالفته، بل ويسخرون من نهجه.. وقد أجمع المسلمون على أن من ظهر له من السنة شيء لم يحل له أن يدعها لقول أحد كان.

وإذا علم هذا علم عظمة التعبد بالعناية بالوحي وكذلك الاعتناء بما يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والتعبد بما فيه، وإذا علم أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله جل وعلا، فإنه حينئذٍ يعلم شرف ذلك العلم وفضله عند الله سبحانه وتعالى. وقد كان السلف الصالح عليهم رحمة الله كثيراً ما يعتنون بمعرفة أحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحواله، وكذلك فإن مجالس الذكر إنما هي مجالس الحلال والحرام ليست هي مجالس القصاص ونحوها، إنما هي مجالس الحلال والحرام، معرفة الفقه ومعرفة أحكام القرآن وتفسيره ونحو ذلك، فقد أخرج أبو نعيم في كتابه الحلية من حديث أبي عبد الملك قال: حدثنا يزيد بن سمرة أبو هزان قال: سمعت عطاء الخرساني يقول: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام. وقد أخرج أيضاً أبو نعيم من حديث يحيى بن كثير قال: تعلّم الفقه صلاة، ودراسة القرآن صلاة. فإذن إذا علم أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله سبحانه وتعالى فإنه يُعلم شرف ذلك العلم وعظمة الأجر عند الله سبحانه وتعالى لمن تتبع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتفقه فيها، وسعى في حفظها وفي معرفة صحيحها من سقيمها، والذب عنها، وهذا من أرفع الدرجات عند الله لمن رزق الاخلاص والنية الصالحة، وقد قال يحي بن يحي النيسابوري: الذب عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله. قيل له: الرجل ينفق ماله ويتعب نفسه ويجاهد، فهذا أفضل منه؟، قال: نعم بكثير.. وقد قال ابو عبيد القاسم بن سلام: المتبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو عندي اليوم أفضل من الضرب بالسيوف في سبيل. وهذا يدل على فضل الجهاد كما يدل على فضل السنة حيث وقع التفضيل بينهما لعلو شأنهما في الاسلام.

ونحن في هذه الدرس وما يتبعه من مجالس نشرح كتاباً من أعظم وأنفع الكتب في باب الأحكام، وهو كتاب: (بلوغ المرام للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني عليه رحمة الله) ، وكتابه بلوغ المرام من أنفع كتب الأحكام فقد جمع عليه رحمة الله مجموعة من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - من كثير من كتب السنة، منها الصحيح ومنها ما هو دون ذلك؛ لأنه عليه رحمة الله قصد أن يجمع ما يستدل به أصحاب المذاهب على أقوالهم التي يستدلون بها في أبواب الفقه، فجمع الأحاديث ورتبها على الأبواب، فكان قليل النظير في بابه بل هو من أنفس كتب الأحكام التي صنفها أهل العلم في كتب الأحكام من الأئمة المتأخرين عليهم رحمة الله. قول الحافظ ابن حجر في مقدمته: (بسم الله الرحمن الرحيم....إلخ) والمصنف عليه رحمة الله في كتابه بلوغ المرام قد ابتدأ في المقدمة بالبسملة، ويقال للفظ: (بسم الله..) بسمله اختصاراً، ويقال لمن قال: (بسم الله) بسمل أو مبسمل قال عمر بن ابي ربيعة: لقد بسملت ليلى غداة لقيتها *** فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل. وابتداء الحافظ بالبسملة هو اقتداء بالكتاب العزيز، وبما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من التسمية من فعله - صلى الله عليه وسلم - في كثير من أحواله كالمكاتبات وغيرها، وقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالتسمية إلا أنه لا يثبت، فقد رواه الخطيب في جامعه من حديث مبشر بن اسماعيل عن الأوزاعي عن الزهري عن ابي سلمة عن ابي هريرة مرفوعا: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع) .

وهو خبر منكر بل موضوع، أعله الحفاظ كالإمام أحمد والدارقطني والصحيح فيه أنه مرسل وبغير لفظ البسمله وهو منكر أيضاً، وهم فيه مبشر بن إسماعيل فرواه بلفظ البسملة وقد رواه جماعة كالوليد بن مسلم وبقية وخارجه بن مصعب وشعيب بن إسحاق ومحمد بن كثير والمعافى بن عمران وعبد القدوس وغيرهم عن الاوزاعي بلفظ: (كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله..) والصحيح في هذا اللفظ الارسال، ووهم من عزاه بلفظ البسملة للسنن كالزيلعي والعراقي والسيوطي وغيرهم، وتساهل بعض المتأخرين فحسنه كالسيوطي وهو من المتساهلين جدا في تقوية الأخبار الضعيفة والواهية، ويقلد في هذا الباب كثيراً. إذا فالأمر بالبسملة في الخبر السابق لا يثبت، إلا أنه ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعله في المكاتبات، فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن عباس عن أبي سفيان عليهما رضوان الله تعالى أنه قال: كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم» ، وهذا ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - من فعله. والابتداء بالبسملة قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواضع عدة الحث بالابتداء بها، فقد جاء عنه في ذلك أحوال عدة من الحث على التسمية في ابتداء الأمور سواء في ابتداء الأفعال أو في ابتداء المكتوب أو في ابتداء بعض العبادات، منها: أن يبتدأ بالبسملة كاملة (بسم الله الرحمن الرحيم) ، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في مواضع عدة: منها ابتداء القراءة قبل الفاتحة بعد تكبيرة الإحرام بالبسملة، كما أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان عن سعيد بن أبي الهلال عن نعيم المجمر: صليت وراء أبي هريرة فقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم ... ) الخبر، وفيه قال أبو هريرة والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

ومثله الابتداء بها عند القراءة مطلقاً وفي ابتداء المكتوب وفي ذلك احاديث وأثار صحيحة * وكذلك من الأحوال أن يبتدأ عمله بالبسملة بـ (بسم الله) من غير إضافة (الرحمن الرحيم) ، جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحوال منها ما أخرجه الإمام مسلم من حديث الوليد بن كثير عن وهب بن كيسان عن عمر بن أبي سلمة أنه أكل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قل بسم الله، وكل بيمينك» ، وجاء في التسمية عند الطعام نصوص أخرى بذكر التسمية تامة * وكذلك قد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - حالة ثالثة هي التسمية من غير اضافة لفظ: (الرحمن الرحيم) مع زيادة شيء آخر، منها ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في وضع الميت بالقبر، وأن يقول: «بسم الله وعلى ملة رسول الله» ، كما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث شعبة عن قتادة عن أبي الصديق عن عبد الله بن عمر، وكذلك ما جاء في الصحيحين من حديث منصور عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ... » الخبر، كما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم -. وحالة رابعة وهي مجيء لفظ الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: (ذكر الله) من غير تصريح.

والسنة في ذلك لزوم ما جاءت به الاحاديث الصحيحة وعدم الزيادة عليها ففي الأحوال التي ثبت فيها الخبر عنه عليه الصلاة والسلام القول ببسم الله الرحمن الرحيم تامة لا يتحصل العمل وامتثال السنة إلا بذكرها تامة وإن اقتصر في تلك الأحوال على بسم الله فحسب لا يتحصل له امتثال السنة وفي الأحوال التي ثبت الاقتصار فيها على لفظ بسم الله فالامتثال في تلك الاحوال لزوم قول بسم الله فحسب وقد قال شيخ الاسلام ابن تيمية: يقول عند الأكل بسم الله الرحمن الرحيم كاملا فإنه أكمل بخلاف الذبح. وأما الأحوال التي ثبت فيها النص بذكر بسم الله مع زيادة إضافة لفظ آخر غير لفظ الرحمن الرحيم فالامتثال فيها قول بسم الله مع تلك الزيادة ومن اراد الزيادة بعد بسم الله بلفظ الرحمن الرحيم ثم ذكر الاضافة الاخرى الثابتة بالنص لم يكن ممتثلا، لان هذه أذكار وأدعية الاولى الوقوف عليها كما جاءت. وأما الأحوال التي ثبت فيها ذكر اسم الله من غير التصريح ببسم الله الرحمن الرحيم أو ببسم الله فحسب فهو مخير بذكر البسملة تامة وهو الاولى أو الاقتصار على قول بسم الله.

وقد أجمع أهل العلم على مشروعية التسمية كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن أهل العلم اختلفوا في ابتداء الشعر بالبسملة، فقد روي عن بعض السلف من التابعين وغيرهم كراهية التسمية في ابتداء الشعر ونحو ذلك، ومن ذلك ما أخرجه الخطيب البغدادي في كتاب الجامع من حديث جنادة بن سلم وهو من ولد جابر بن سمرة عن مجالد بن سعيد عن الشعبي قال: أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر (بسم الله الرحمن الرحيم) ، وقد أخرجه الخطيب البغدادي من طريق آخر من حديث حفص بن غياث عن مجالد عن الشعبي، قال: كانوا يكرهون أن يكتبوا أمام الأشعار (بسم الله الرحمن الرحيم) ، وهذا القول قد قال به أيضاً غير عامر بن شراحيل الشعبي، فقد روي أيضاً عن الزهري عليه رحمة الله، كما أخرجه الخطيب البغدادي في كتابه الجامع أيضاً من حديث عبد العزيز بن عمران الزهري عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال: مضت السنة ألا يكتب في الشعر (بسم الله الرحمن الرحيم) ، إلا أن هذا القول لا يثبت عن عامر بن شراحيل الشعبي؛ لأن في إسناده مجالد بن سعيد وهو ضعيف، والذي عليه المحققون من أهل العلم وقد ذهب إليه عامة المتأخرين أن ابتداء الشعر سواءً كان في تصنيف أو في قول أن ذلك من السنة ولا يخرجه من ذلك شيء يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقد روي ذلك عن سعيد بن جبير وغيره من التابعين كما روى الخطيب البغدادي أيضاً من حديث محمد بن مصعب عن جبلة بن أبي سليمان قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: لا يصلح كتاب إلا أوله (بسم الله الرحمن الرحيم) وإن كان شعراً، فهذا يدل على مشروعية ابتداء التسمية في جميع الأعمال، وأن ذلك هو السنة لا يستثنى من ذلك شيء، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستثن من ذلك شيئاً - صلى الله عليه وسلم -. وقد صنف اهل العلم في البسملة واحكامها مصنفات منهم الحافظ ابن عبد البر فله جزء فيها، وابن الصبان وهو من المتاخرين.

والمصنف الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في كتابه بلوغ المرام قد وقع له اصطلاحات وقد نص عليها في مقدمته، فقد ذكر أنه إذا قال أخرجه السبعة أنه يريد بذلك: أصحاب الكتب الستة والإمام أحمد عليهم رحمة الله، وإذا قال أخرجه الأربعة فإنهم: أصحاب السنن، وكذلك الستة هم: البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة، ثم ذكر بقية ما وضعه من اصطلاحات، بعضها يعتبر خاص به عليه رحمة الله , فاصطلاحات الحافظ ابن حجر في كتاب بلوغ المرام هنا اصطلاحات ينبغي لطالب العلم معرفتها قبل أن يبتدأ في بلوغ المرام، فإن مما ينبغي لطالب العلم أن يعرف اصطلاحات أهل العلم في مصنفاتهم لكي لا يقع في توهيم أهل العلم وتخطئتهم من غير بينة , فإن لكل عالم من أهل العلم شيء من الاصطلاحات في كتابه إما أن يذكرها في مقدمته، وإما أن تعلم بالسبر والنظر لذلك الكتاب الذي صنفه، فإنه حينئذٍ يستخلص ويستخرج اصطلاحات من كتابه ذلك. فالحافظ ابن حجر عليه رحمة الله مثلاً في قوله: (متفق عليه) هنا أي أنه أخرجه البخاري ومسلم، مع أنه يوجد عند بعض أهل العلم من أمثال هذا الاصطلاح يعد غير ما أراد به الحافظ بن حجر البخاري ومسلم فحسب، فمثلاً صاحب المنتقى المجد ابن تيمية عليه رحمة الله إذا قال: (متفق عليه) فإنه يريد به أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد.

وكذلك فإن أبا نعيم الأصبهاني عليه رحمة الله في كتابه حلية الأولياء له شيء من الاصطلاحات في ذلك، فإنه عليه رحمة الله إذا أطلق (متفق عليه) ؛ فإنه لا يريد به في كثير من الأحيان أنه أخرجه البخاري ومسلم، وإنما يريد به أنه توفرت فيه شروط الصحة، فإنه قد أطلق هذه الكلمة (متفق عليه) في كتابه حلية الأولياء، في أحاديث ليست بنادرة أو بالقليلة، ووجدت أنها ليست في البخاري ولا مسلم عليهما رحمة الله، أو توجد في أحد الصحيحين وليست في الآخر، وهذا يدل على أن له اصطلاح غير ما اصطلح عليه بعض أهل العلم، وأخذه عمن اصطلح عليه عامة المتأخرين، فمثلاً الحافظ أبو نعيم عليه رحمة الله يورد بعض الأحاديث ويقول (متفق عليه) وليست هي في البخاري ومسلم أصلاً، منها ما أخرجه أبو نعيم في كتابه الحلية من حديث سفيان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين» ، قال أبو نعيم عليه رحمة الله بعد إخراجه لهذا الخبر قال: صحيح متفق عليه، وهذا الخبر ليس في الصحيحين ولا في أحدهما، فإن المصنف عليه رحمة الله أراد بذلك أنه توفرت فيه شروط الصحة، وقال هذه الكلمة في غير ما خبر، منها ما أخرجه أيضاً من طريق أبي داود الطيالسي عن سفيان عن أبي إسحاق عن البراء، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر قال: «آيبون تائبون لربنا حامدون» ، وهذا ليس في الصحيحين ولا في أحدهما، وإنما مراد المؤلف عليه رحمة الله في أمثال هذه المواضع أن هذه الأحاديث قد توفرت فيها شروط الصحة التي اشترطها أهل العلم، ومراده أن ذلك أعلى درجات الصحة عنده عليه رحمه الله.

هو الطهور الماؤه، الحل ميتته

إذاً فينبغي على طالب العلم أن يعلم اصطلاحات أهل العلم في مصنفاتهم، ليكون على بينة من أحكامهم، ولكي لا يقع في شيء من الخطأ في فهم مراد الحفاظ عليهم رحمة الله. 1- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البحر: «هو الطهور الماؤه، الحل ميتته» . أخرجه الأربعة، وابن أبي شيبة واللفظ له، وصححه ابن خزيمة والترمذي. الحديث الأول الذي أورده المصنف عليه رحمة الله هو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو ما يسميه أهل العلم بحديث البحر. قوله عليه رحمة الله: (كتاب الطهارة) : الكتاب أصل كلمة: كتب، والمراد بها الجمع، يقال " تكتب بنو فلان "، إذا تجمعوا؛ وسميت الكتيبة كتيبة لاجتماع أفرادها بعضهم مع بعض، وكذلك يسمى الكتاب كتاباً لاجتماع أوراقه والتصاقها بعضها مع بعض، وكذلك يسمى المكتوب مكتوباً لاجتماع الحروف في ذلك المكتوب، وإن كانت ورقة واحدة فإنها تسمى كتاباً إذا كان مكتوب فيها، ولا تسمى الورقة الواحدة كتاباً حتى يكتب فيها، فإن المراد بالكتب هنا الجمع، كما قال الشاعر: لا تأمنن فزارياً خلوت به ……على قلوصك واكتبها بأسيارِ قوله عليه رحة الله: (الطهارة) : والطهارة في لغة العرب تطلق على: النَظافة والنزاهة طَهر الثوب من القذر، يعني: تنظيف. وتنزه منه وفي اصطلاح الشارع تطلقُ على معنيين الأول: معنوي، وهو طهارة القلب من الشِّرك في عبادة الله، والبغضاء لعباد الله المؤمنين، وهي اهم من طهارة البدن وأولى بالعناية والملاحظة والتدارك الثَّاني: حسي، وهي ارتفاع الحدث، وما في معناه، وزوال الخَبث. قوله عليه رحمة الله: (باب المياه) :

المراد بالباب هنا هو: ما يخرج منه ويدخل منه، وهذا معلوم في لغة العرب، وأهل العلم قد اصطلحوا على هذه المسميات: (الكتاب والباب) ، على أنها في الغالب عند أهل العلم أن (الكتاب) هو: ما يجمع أبواباً من مسائل العلم أو من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها قول المصنف عليه رحمة الله (كتاب الطهارة) ، أراد بالكتاب هنا: الجمع، أي جامع لأحاديث الطهارة وأخبارها التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أصحابه عليهم رضوان الله تعالى. وإيراد المصنف عليه رحمة الله لهذا الخبر خبر أبي هريرة - هو أول حديث في هذا الباب - أراد به بيان طهورية ماء البحر، وأن ماء البحر إذا كان طاهراً فإن غيره أولى منه، وقد جعل أهل العلم هذا الخبر من أصول الطهارة في الشريعة. وهذا الخبر قد أخرجه كما ذكر المصنف الإمام أحمد وأصحاب السنن، وكذلك قد أخرجه مالك وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن، وكذلك قد رواه جماعة من أهل العلم، كلهم رووه من حديث صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمه عن المغيرة بن أبي بردة أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإذا توضأنا به عطشنا! أفنتوضأ به؟ ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «هو الطهور مائه الحل ميتته» .

وهذا الخبر قد تلقته الأمة بالقبول، وقد صححه جماعة من أهل العلم، كالإمام البخاري كما في علل الترمذي المفرد والترمذي وابن خزيمة والدارقطني جوده كما في علله، وكذلك البيهقي وابن عبد البر والحاكم وابن حبان وغيرهم من أهل العلم، وقد صححه جماعة من أهل العلم يزيدون على ثلاثين إماماً، ولم أرَ أحداً من أهل العلم ضعّف هذا الخبر سوى ابن دقيق العيد وابن القطان الفاسي، فإنهما قد أعلاه بسعيد بن سلمة وقالا بجهالته، فإن سعيد بن سلمة قد قال عن النسائي عليه رحمة الله: ثقة، وذكره ابن حبان في كتابه الثقات، إلا أن المجاهيل أو من هو مستور الحال عند أهل العلم لا يرد حديثه مطلقاً، وإنما يعتبر في بعض الأحوال بأحاديثه وتقوى أحاديثه ببعض القرائن، وإنما قبل أهل العلم حديث سعيد بن سلمة في هذا الخبر؛ لأن أهل العلم قد تلقوا خبره بالقبول، وشاع عندهم فكان قرينة لقبول الخبر، وأهل العلم في بعض الأحيان يعتمدون على شهرة الخبر عن الاحتجاج بالإسناد وهذا في أحوال نادرة، وأيضاً فإن الحفاظ يقوون في الأحيان أحاديث من لا يعرف فيه جرحاً ولا تعديلا، في بعض ما يرويه إذا إحتفت القرائن على صدقه بحيث لا يأتي بما ينكر، ولا يغرب بالألفاظ وقد صحح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة والدارقطني لجماعة لم يوجد فيهم جرح ولا تعديل، وذلك بعد سبر حديثهم فوجد مستقيماً، ولا يعد هذا تساهلاً منهم، وذلك أن جهلهم بحال الراوي لا يعني جرحاً حتى يخشى من التقوية له، ومعرفة صدق الراوي وضبطه وعدالته تكون بسبر حديثه وتتبعه كما تكون بملاصقته واختباره، والتساهل إنما هو بتقوية أحاديث الضعفاء وبتصحيح خبر المجاهيل مع غرابة حديثهم ونكارته وتفردهم به مع أن احوال المجاهيل تختلف من شخص لآخر، ومن طبقة لأخرى ومن بلد لآخر، وبحسب الرواة عنهم أيضا فمجاهيل متقدمي التابعين ليسوا كمن بعدهم ومن روى عنه الشعبي وابن سيرين ليس كمن روى عنه

أقل منهم حفظا وتثبتا وان كثر عددهم مع قرائن كثيرة يُعملها الحفاظ في قبولهم لحديث بعض المجاهيل، ولذا لا تجد للائمة الحفاظ منهجا واحدا يعملونه في قبول ورد روايات المجاهيل كما لا يخفى فتجدهم يصححون حديث ويوثقون من لا يعرف له إلا حديث واحد وهو معدود في المجاهيل من جهة قلة روايته وتجدهم يردون من له أكثر من حديثين او ثلاثه او اربعة او خمسة وذلك لتفاوت القرائن المحتفة بكل واحد منهم فلأسود بن سعيد لا أعلم له غير حديث (تقتل عمار الفئة الباغية) مع هذا وثقه يحي بن معين وابن حبان ونحوه هارون بن رئاب وهو من المقلين جداً، قال سفيان بن عيينة: (كان عنده أربعة أحاديث) ومع هذا وثقه أحمد بن حنبل ويحي ابن معين والنسائي، بل قد أخرج الشيخان لمن هو من المستورين ولا يعرف بجرح ولا تعديل كإبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة فقد أخرج له البخاري ولا أعلم من وثقه، وقد أخرج مسلم من حديث أبي عوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة قال أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ قال أتوضأ من لحوم الإبل قال نعم فتوضأ من لحوم الإبل. وجعفر بن أبي ثور لا أعلم له موثق سوى ابن حبان، ومع هذا أخرج له مسلم في صحيحه وتقلى الأئمة الحفاظ حديثه بالقبول حتى قال الحافظ ابن خزيمه في صحيحه: لم نر خلافا بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل. وفي الصحيحين من الرواة عدد غير قليل ممن هم في عداد المستورين.

فعلى هذا يُعلم أن أمر المجهول يتفاوت بحسب ما ذكرناه فقد يكون الراوي عند الأئمة الحفاظ مجهولا على الرغم من رواية أكثر من واحد عنه، وقد يكون عندهم معروفا بل يكون ثقة وصحيح الحديث مع كونه لم يرو عنه إلا راو واحد فحسب، على هذا لا تكون مسألة المجهول ورفع الجهالة عنه متوقفة على عدد من روى عنه كما يذكره كثير من أهل الاصطلاح والأصول،. وإعلال ابن القطان الفاسي وابن دقيق لحديث ماء البحر بجهالة راويه فيه نظر فابن القطان الفاسي ممن يتشدد جدا في هذا الباب ويعمل الاخذ بظاهر الاسانيد وهو قليل الاخذ بالقرائن كحال جمع من اهل العلم كابن حزم والخطيب وكثير من المتأخرين. وطهورية ماء البحر هي مما لا خلاف فيها عند أهل العلم إلا قول يسير يروى عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله هنا في ابتداء الخبر: (إنا نركب البحر) ، فيه دليل على إباحة ركوب البحر، وأن الأصل فيه الجواز والإباحة، وهذا الذي يدل عليه كتاب الله سبحانه وتعالى، فإن الله جل وعلا قد ذكر ركوب الفلك وركوب البحر في غير ما موضع من كتابه سبحانه وتعالى،قال الله تعالى: {هو الذي يسيركم في البر والبحر} ، والمسير هو: ركوب الدابة في البر، وكذلك السير على الأقدام، وكذلك المسير في البحر المراد به: ركوب الفلك والسفن، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} .

أما في حالة غلبة الظن بالهلاك كالموج ونحوه فإنه يحرم، ولذا قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الأخبار التي هي ضعيفة، منها ما أخرجها سعيد وعن سعيد أبو داود والبيهقي من حديث مطرف بن طريف عن بشر أبي عبد الله عن بشير بن مسلم عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يركبن رجل بحراً إلا غازياً أو معتمراً أو حاجاً، وإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً» ، وهذا الخبر قد ضعفه بعض أهل العلم فهو مضطرب وضعيف سندا منكر متنا، وضعفه الإمام البخاري عليه رحمة الله كما في تاريخه وقال ابن عبد البر: مظلم الاسناد، وما روي من نهي من بعض السلف عن ركوب البحر يحمل على حالة الظن بالهلكة من اشتداد الموج واشتداد الريح ونحو ذلك، فإنه ينهى عن ذلك ويكون محرماً، ولذا توقف الشافعي في إيجاب الحج على من وراء البحر فقد قال رحمه الله: ما يبين لي أن أوجب الحج علي من وراء البحر ولا أدري كيف استطاعته، وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كما أخرجه عبد الرازق في مصنفه من حديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: (كان عمر يكره أن يحمل المسلمين غزاة في البحر) وهو صحيح عن عمر وإن لم يسمع ابن المسيب من عمر فهو محمول على الاتصال وقد صحح حديثه عن عمر عامة الحفاظ المتقدمين، ولا أعلم في ذلك مخالفاً سوى الترمذي في بعض المواطن يصححه وبعضها يعله وممن نص على تصحيحه الامام أحمد وابو حاتم وابن المديني وغيرهم، وهذا الأثر يحمل في حال شدة الموج وكذلك شدة الريح وغلبة الظن بالهلكة فإنه حينئذ يكره ذلك بل يكون محرماً، وقد رخص عمر في غير تلك الحاله كما رواه البيهقي عن نافع عن بن عمر أن تميم الداري سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ركوب البحر وكان عظيم التجارة في البحر فأمره بتقصير الصلاة. ومن ذلك أيضاً ما روي عن عبد الله بن عمر كما أخرجه عبد الرازق من حديث ليث عن

مجاهد عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - (أنه كان يكره ركوب البحر إلا لثلاث غازياً أو حاجاً أو معتمراً) ، وهذا الخبر لا يصح عن عبد الله بن عمر في إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف بإتفاق الحفاظ عليهم رحمة الله، وأحاديثه عن مجاهد تعتبر ضعيفة إلا في حديثه عن مجاهد عن عبد الله بن عباس في التفسير فإنها قد تمشى لأنها من كتاب، كما ذكر ذلك ابن حبان عليه رحمة الله، فإنها يرويها من حديث ليث بن أبي سُليم ويرويها ليث عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -، وبقية أحاديث ليث بن أبي سُليم عن مجاهد بن جبر وعن غيره تعد ضعيفة عند أهل العلم. إلا أن الإمام مالك عليه رحمة الله في مسألة ركوب البحر، قد فرق بين الرجل والمرأة، فقد روي عنه أنه كان يكره ركوب المرأة في البحر مطلقاً؛ وحمل ذلك على أن المرأة إذا ركبت السفينة فإنها حينئذٍ تحتاج إلى كشف عورتها من قضاء حاجة ونحو ذلك، فإنها تتكشف، وهذا يغتفر في الرجل ما لا يغتفر في المرأة، وكذلك في ركوب السفينة فإنها حينئذٍ قد ترى عورات الرجال، وترى أجساد الرجال في السفن لأن ركوب السفن بحاجة إلى مشقة وكد مما يلزم منها ابداء الصدر والبطن والظهر وكذلك بحاجة إلى كشف العورة للضرورة، مما استدل به الإمام مالك عليه رحمة الله على منع المرأة وكراهية ركوب البحر لها، إلا أن ذلك في الغالب منتفي وخاصة في وقتنا هذا، فإنه حينئذٍ تبقى المرأة على الأصل من إباحة ركوب البحر لها. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «هو الطهور ماؤه» :

الطهور إذا جاء بالفتح (الطَهور) فالمراد به الماء بذاته، وهو الذي يُطهّر المتطهِر به، وإذا جاء بالضم فالمراد به فعل المتطهِر، ومثله: الوضوء والغسل، فإنه إذا جاء بالضم فالمراد حالة الغسل وفعل الغسل وحالة الوضوء وحال الطهارة، وإذا جاء بالفتح فالمراد به الذي يُغتسل به والذي يُتطهر به والذي يُتوضأ به، حكاه النووي عن الجمهور. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «هو الطهور ماؤه» : وهذا كما ذكرنا هو محل إجماع عند أهل العلم، إلا ما روي من خلاف يسير عند بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أنه لا يعتد به في مقابل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد روي طهورية ماء البحر عن جماعة من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى ونصوا عليه، منهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - كما أخرج ذلك أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه من حديث عبيد الله بن عمر عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل قال: سئل أبو بكر الصديق: أيتوضأ من ماء البحر؟ فقال: (هو الطهور ماؤه الحلال ميتته) ، وروي ذلك أيضاً عن عمر بن الخطاب، وابن عباس وابن سيرين والحسن وعكرمة وطاووس وعطاء، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى طهارة ماء البحر، ولكنهم جعلوا العذب أولى منه، وألا يُلجأ إلى التطهر بماء البحر إلا عند فقدان الماء العذب، وذلك مروي عن سعيد بن المسيب، وكذلك عن النخعي كما أخرج ابن أبي شيبة من حديث شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: (إذا ألجئت إليه فلا بأس) ، يعني إذا ألجئت إلى التطهر بماء البحر فلا بأس، مما يشير إلى أنه يرى التطهر بالماء الذي ليس بمالح وإنما هو عذب، وكذلك روي عن إبراهيم النخعي كما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما عن سفيان عن الزبير بن عدي عن إبراهيم النخعي قال: (ماء البحر يجزئ، والعذب أحب إلي منه) ، إلا أن ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على التساوي بين الماء العذب وماء

البحر، وأما قول سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي فإنه لا يقابل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذهب كما ذكرنا بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم قلّة، منهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص عليهم - رضي الله عنهم -، إلى عدم طهارة ماء البحر وعدم مشروعية التوضؤ به، فقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث شعبة عن قتادة عن عقبة، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: (التيمم أحب إلي من الوضوء من ماء البحر) ، فعدل عبد الله بن عمر إلى التيمم وهو بدل، ولا يكون ذلك إلا في فقدان الماء.

ومعلوم أن من تيمم في حال وجود الماء وهو مستطيع قادر على استعماله فإنه حينئذٍ تعتبر طهارته باطلة وتعتبر الصلاة باطلة بالاجماع، إلا لعذر يحمله على التيمم من مرض وبرد ونحو ذلك، أما إذا كان ليس بمعذور فإنه حينئذً يعد تيممه باطلاً وطهارته باطلة وعليه أن يتوضأ بالماء، فلما عدل عبد الله بن عمر إلى التيمم وترك التطهر بماء البحر، عُلم أنه لا يرى طهورية ماء البحر، إلا أن ذلك لا يقابل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، كما أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي من حديث هشام عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال: (ماء البحر لا يجزئ من وضوء ولا جنابة، إن تحت البحر نارا ثم ماءٌ ثم نار) ، وهذا عن عبد الله بن عمرو كما هو عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، فإنهما لا يريان الإجزاء بماء البحر، وهذا لا يقابل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روي ذلك عن أبي هريرة في مصنف ابن أبي شيبة ولا يصح، وعن أبي العالية الرياحي وهو رفيع بن مهران، كما أخرج ذلك ابن أبي شيبة من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية أنه ركب البحر فنفذ ماؤه، فتوضأ بنبيذ وكره أن يتوضأ بماء البحر، وهو من كبار التابعين عليه رحمة الله، هذا لا يثبت لحال إسناده. إذاً فماء البحر طهور والخلاف فيه غير معتبر، وقد حكى إجماع أهل العلم على طهورية ماء البحر جماعة من أهل العلم، منهم الحافظ ابن عبد البر عليه رحمة الله وغيره. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الحل ميتته» :

أي الحلال، كما جاء في بعض الروايات عند الدارقطني عليه رحمة الله وغيره من أهل العلم وفي صحة اللفظة نظر، وميتة البحر هي حلال بإجماع أهل العلم، إلا أن أهل العلم اختلفوا في استثناء بعض ميتة البحر، فقد قال أبو حنيفة عليه رحمة الله: أن ميتة البحر حلال، إلا ما كان على صورة حيوان كالكلب أو صورة الآدمي ونحو ذلك، وذهب الإمام أحمد وهو المشهور عنه عليه رحمة الله: إلى أن ميتة البحر حلال إلا الحية والضفدع والتمساح، وقال بأن الحية والضفدع هي من المستخبثات وأن التمساح يعد ممن قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه ذو ناب ونهى عنه، والذي عليه جمهور أهل العلم أن ميتة البحر كلها تعد مباحة وحلال بنص قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما ما استثناه أبو حنيفة عليه رحمة الله ما كان على صورة حيوان ونحو ذلك، فإن ذلك لا دليل عليه ولا يقابل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أطلق الإباحة بميتة البحر، وما جاء عن الإمام أحمد من استثناء الضفدع والتمساح فإن الضفدع لا يعد من ميتة البحر فإنه لا يمكث في البحر دوماً، ولا يمكث في البر فإنه بينهما فلا يعد من ميتة البحر، ولا يعد كذلك من حيوان البر، ومثله التمساح فإنه يعيش بين البر والبحر وإطلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد به ميتة البحر، أي إذا أُخرج الحيوان من البحر فإنه حينئذٍ يموت، إذن فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق الإباحة لميتة البحر مطلقاً من غير استثناء وما علم ضرره من ميتة البحر فإنه حينئذٍ يحرم لضرره، فإنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ولا يستثنى من ميتة البحر إلا ما ثبت ضرره، وأما ما كان بين البر والبحر من الحيوانات، فإنه لا يعد حيوانا بحريا ويبقى على الأصل من الإباحة فيه، فإن كان من المستخبثات فإنه يعد مستخبثاً، وما كان كذلك من الحيوانات الضارة، فإنه حينئذ يحرم لضرره، فلا

إن الماء طهور لا ينجسه شيء

ضرر ولا ضرار في الإسلام، وقد نهى الله جل وعلا في كتابه العظيم عن أكل المستخبثات فقال الله سبحانه وتعالى: {ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث} . *************************************** 2- وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» أخرجه الثلاثة، وصححه أحمد. حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قد أورده المصنف عليه رحمة الله، وذكر أن الثلاثة قد أخرجوه، وهذا اصطلاح خاص به عليه رحمة الله، أما الثلاثة هنا المراد بهم: أبو داود والترمذي والنسائي، هم أهل السنن إلا ابن ماجه عليهم رحمة الله جميعا، وهذا من الاصطلاحات التي تعد خاصة بالحافظ ابن حجر في كتابه بلوغ المرام، ولذا قلنا أنه ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لمصطلحات أهل العلم في مصنفاتهم لكي يكون على بينة من أحكامهم. وهذا الحديث قد أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وكذلك قد أخرجه أحمدوابن حبان والحاكم وابن خزيمة كلهم من طريق حماد بن أسامة أبي أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

وهذا الحديث قد صححه الإمام أحمد كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله، وكذلك صححه ابن معين وابن حبان والحاكم وابن خزيمة وشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، وقد حسنه الإمام الترمذي عليه رحمة الله، فقد قال بعد إخراجه له في سننه قال: هذا حديث حسن وقد جود أبو أسامة هذا الحديث, والامام الترمذي حينما يطلق لفظ (حسن) على حديث مجرد من غير اضافة فهو يعني في الغالب الضعف، وهو هنا اضاف ولم يجرد، وهذا في الغالب، وقد قال في احاديث قليله مخرجة في الصحيحين (حسن) مجرد، وابن الجوزي عليه رحمة الله قد نقل في كتابه التحقيق عن الإمام الدارقطني قوله: أن هذا الحديث ليس ثابت، وكلام الدارقطني عليه رحمة الله في هذا الخبر ليس المراد به هذا الحديث من هذا الطريق، ونقل ابن الجوزي عليه رحمة الله عن الإمام الدارقطني هذا الكلام على هذا الطريق فيه شيء من التجوز والمسامحة وهو أقرب الى الوهم من العمد، وإلا فكلام الدارقطني عليه رحمة الله في هذا الحديث ليس مراده عليه رحمة الله هذا الطريق. وقد أُعلَّ هذا الحديث بجهالة عبيد الله بن عبد الله وقد قيل عبيد الله بن عبد الرحمن، وقد أعله بجهالته ابن القطان الفاسي عليه رحمة الله مضعفاً للخبر بجهالة عبيد الله بن عبد الله أو ابن عبد الرحمن، فقد قال عليه رحمة الله أي ابن القطان في كتابه (الوهم والإيهام) : وكيفما كان فهو من لا يعرف له حال ولا عين، وقد قال عنه ابن مندة عليه رحمة الله أنه مجهول، وقد قال البخاري عليه رحمة الله: فيمن سمّى أباه عبد الرحمن قال: بأن ذلك وهم. ومعنى هذا الحديث مروي عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، فقد رُوي عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وحذيفة بن اليمان وابن عباس، وكذلك مروي عن جماعة من التابعين كسعيد بن المسيّب ومجاهد بن جبر وعكرمة مولى عبد الله بن عباس. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الماء طهور» :

إن الماء لا ينجسه شيء , إلا ما غلب على ريحه وطعمه , ولونه

(طَهور) : هنا إذا كانت بالفتح فالمراد به الماء الذي يتطهر به، ومثله أيضاً في الوضوء وكذلك في الغسل، وإذا جاء بالضم فالمراد به الفعل فإذا قال: طَُهور أو غَُسل أو وُضوء فالمراد به الفعل، فعل المتوضئ والمغتسل والمتطهر وهذا عند جماهير أهل العلم قد نقله الإمام النووي عليه رحمة الله وجماعة،. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» هذا هو الأصل في الماء أنه باقي على طهوريته، فالله جل وعلا قد أنزله طاهراً فلا ينتقل من أصله إلا بدليل واضح، أو بنص عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الماء إذا كانت أوصافه متغيرة بنجاسه فهو نجس، أو بالخبرة والتجربة إذا علم أن ذلك الماء يكون نجسا؛ فإنه حينئذٍ يكون قد انتقل من أصله إلى النجاسة. فالأصل في الماء الطهارة، وهذا عام كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينجسه شيء» : هو مطلق مقيد ببقية الأخبار، أنه إذا مازجته شيء من النجاسة وتغير أحد أوصافه الثلاثة فإنه قد تنجس بالإجماع، وهذا يأتي تفسير الكلام عليه بإذن الله تعالى، في حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - الآتي. *************************************** 3- وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الماء لا ينجسه شيء , إلا ما غلب على ريحه وطعمه , ولونه» . أخرجه ابن ماجه , وضعفه أبو حاتم. وهذا الحديث قد أخرجه ابن ماجه، وكذلك قد ضعفه أبو حاتم، فقد أخرجه ابن ماجه عليه رحمة الله من حديث رِشدين بن سعد عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه -.

وهذا الحديث قد أجمع المحدثون على ضعفه والطعن فيه، ففي إسناده رشدين بن سعد قد ضعفه جماعة من أهل العلم، ضعفه الإمام أحمد وأبو زرعة والنسائي، وقد قال أبو داود ويحي بن معين: ليس بشيء، وكذلك قال الإمام أحمد: لا بأس به في الرقائق، وقال أبو حاتم: منكر الحديث. والصحيح في هذا الخبر أنه مرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح موصول عنه، كما أخرجه عبد الرزاق والدارقطني من حديث الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد مرسلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو الصحيح الذي رجحه جماعة من الحفاظ كأبي حاتم الرازي والإمام الدارقطني عليهما رحمة الله قال الدارقطني: لم يرفعه غير رشدين عن معاوية وليس بالقوي. وتابع رشدين ثور بن يزيد عن كما رواه البيهقي من حديث عطية بن بقية عن ابيه عن ثور به وهو واه، وفيه اختلاف كثير فتارة يجعل من مسند ابي امامه وتارة عن ثوبان، وهذا الحديث قد أجمع العلماء على ضعفه وقد حكى الإجماع جماعة كالإمام النووي عليه رحمة الله، إلا أن معناه صحيح وقد عمل به أهل العلم، بل حكى جماعة من أهل العلم الإجماع على صحة معناه، كما حكى ذلك الإمام ابن حبان عليه رحمة الله في صحيحه. فالأصل في الماء طاهر ومطهر، لا ينتقل من أصله إلا بنجاسة تحدث فيه تغير أحد أوصافه. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» : أجمع أهل العلم على أنه لا فرق بين تغير الماء بأحد هذه الأوصاف الثلاثة سواء من ريح أو طعم أو لون، وأن ذلك علامة على نجاسة الماء إذا كان قد تغير بنجاسة، إلا ما روي من خلاف شاذ عن ابن ماجشون عليه رحمة الله من استثنائه الريح، وهذا لا عبرة له بمقابل إجماع أهل العلم حكى الاجماع الشافعي وابن المنذر وابن حبان في صحيحه والبيهقي وابن عبد البر وابن قدامه وابن تيميه.

وأهل العلم جمهورهم يقسمون الماء إلى ثلاثة أقسام، وهو قول الحنابلة والشافعية والمالكية وكذلك الحنفية، على أن الماء ينقسم إلى ثلاث أقسام: طهور , وطاهر, ونجس، واستدلوا بحديث البحر وان السائل يعلم بان ماء البحر ليس بنجس، لكنه اراد هل هو طاهر ام طهور، واستدلوا باحاديث النهي عن الاغتسال في الماء الراكد وغسل اليد بعد النوم قبل غمسها وياتي بيان هذه الاخبار ومعانيها. وذهب بعض أهل العلم وهو رواية عن الإمام أحمد عليه رحمة الله، ويروى عن أبي حنيفة وقال به جماعة من المحققين من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية: على أن الماء على قسمين: طاهر ونجس واستدلوا بحديث بئر بضاعة وغيره. والتحرير أنه عند جمع الأدلة يتضح أن الماء ينقسم إلى قسمين: طاهر ونجس، وأن ما أسماه أهل العلم طهوراً؛ أنه يدخل في قسم الطاهر. والماء إذا تغير بنجاسةٍ قد خالطته وتغير أحد أوصافه؛ فإنه حينئذٍ يُعد نجساً، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة، بل حُكي الإجماع على ذلك. وإذا تغير الماء بأحد أوصافه بمجاورة النجاسة له لا بالمخالطة؛ فإنه يعد نجساً كذلك، وقد حُكي الإجماع على ذلك , فإنه إذا تغيرت أحد أوصاف الماء بالمجاورة أو بالممازجة فإنه حينئذٍ يُعد ذلك الماء نجساً، وقد حَكى الإجماع على ذلك جماعة من أهل العلم كالإمام النووي عليه رحمة الله. وإذا تغير الماء بشيء من الطاهرات كالنبيذ ونحو ذلك هل يعد طاهراً أم لا؟ اختلف أهل العلم في ذلك: - فذهب الإمام أبو حنيفة عليه رحمة الله إلى أنه يتوضأ به في حالة واحدة؛ أنه إذا لم يجد شيء غيره فإنه يتوضأ به، وذهب بعض الحنفية وهو قولٌ لمحمد بن حسن عليه رحمة الله إلى أنه طاهر مطهر، إلا أنه يتيمم معه احتياطا، وهذا القول فيه شيء من المخالفة، فلم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حالة من الأحوال أن يجمع الرجل بين الوضوء والتيمم، وهذا فيه شيء من التشدد.

- وذهب المالكية والشافعية والحنابلة وهو قول جمهور أهل العلم، إلى أنه يتيمم ولا يتوضأ به، وهذا مروي عن جماعة كما هو مروي عن الإمام أبي حنيفة عليه رحمة الله ومروي أيضاً عن الإمام ابن حزم، وقالوا إن هذا الماء لا يسمى ماء إلا بالإضافة، وقالوا إن الإجماع قد انعقد أن رفع الحدث لا يكون إلا بالماء الخالص , قالوا: وقد حكى ذلك الإمام ابن المنذر عليه رحمة الله من أن الحدث لا يرفع بسائل إلا بماء، وهذا قد مازجه غيره فغير لونه مع بقائه على طهارته إلا أنه لا يرفع الحدث. - وذهب مجيزُ الوضوء بالنبيذ، إلى ما رواه الإمام أحمد عليه رحمة الله فقال حدثنا يحي بن زكريا عن إسرائيل عن أبي فزارة عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة لقي الجن، فقال: «أمعك ماء؟» ، فقلت: لا، فقال: «ماهذه الإداوة؟» ، قلت: نبيذ، قال: «أرينيها» ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تمرة طيبة وماء طهور» ، فتوضأ منها ثم صلى , ولكن هذا الحديث حديث ضعيف لا يصح، ففي إسناده أبو زيد وهو في عداد المجاهيل، وقد قال فيه الإمام الترمذي عليه رحمة الله: أبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا يعرف له رواية غير هذا الحديث، وكذلك قد قال بجهالته البخاري والحاكم وابن عدي، وهو الراوي عن عبد الله بن مسعود في هذا الخبر، إذاً فلا يصح الاستدال به , ولذا قد أعلَّه الحافظ ابن عدي عليه رحمة الله بقوله: وهذا الحديث مداره على أبي فزارة عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود، وأبو فزارة مشهور واسمه: راشد بن كيسان، وأبو زيد مولى عمرو بن حريث مجهول ولا يصح هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو خلاف القرآن.

الماء طاهر إلا إن تغير ريحه، أو طعمه، أو لونه؛ بنجاسة تحدث فيه

ففيه المخالفة من أن الماء إذا تغير أحد أوصافه فإذا كان نجساً يعد نجساً، وإذا كان بطاهر فإنه يبقى على طهوريته، إلا أنه حينئذٍ لا يرفع الحدث، وأنه إذا مس جسد الإنسان أو مس لباسه فإنه ليس في عداد النجس، بل إنه في عداد الطاهرات؛ إلا أنه لا يرفع الحدث للعبادة. *************************************** 4- وللبيهقي: «الماء طاهر إلا إن تغير ريحه، أو طعمه، أو لونه؛ بنجاسةٍ تحدث فيه» . هذا قد أخرجه البيهقي عليه رحمة الله من طريق عطية بن بقية بن الوليد عن أبيه عن ثور عن راشد بن سعد عن أبي أمامة، وعطية بن بقية محله الصدق، كما حكى ذلك ابن أبي حاتم عن أبيه كما في الجرح والتعديل , إلا أن أباه بقية بن الوليد هو في عداد المدلسين، ومجيء هذا الخبر من هذا الطريق فيه شيء من النكارة والغرابة , فهذا الطريق لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تكلم الكلام عليه فيما سبق. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بنجاسة تحدث فيه» : استدل به من قال أن الماء لا ينجس بالمجاورة، وذكرنا أن هذا القول قول شاذ حُكي عن ابن ماجشون، بل إن الماء إذا تغير أحد أوصافه بممازجة أو بمجاورة؛ فإنه يعد نجس ولا يجوز التطهر به، فإنه لا يرفع الحدث ولا النجس. *************************************** 5- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» وفي لفظ: «لم ينجس» ، أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان. هذا الحديث هو ما يسميه أهل العلم بحديث القلتين، وهو مروي من حديث حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

وهذا الخبر قد أعله بعض أهل العلم، وصححه جماعة وهم الأكثر , قد أُعل بالاضطراب في إسناده, فقد روي عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير بدل محمد بن عباد بن جعفر، وروي في بعض طرقه عبد الله بن عبد الله بدل عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عليهما رضوان الله تعالى. واختلفت أقوال أهل العلم في ترجيح تلك الأوجه، فقد رجح أبو داود السجستاني في سننه رواية محمد بن عباد بن جعفر، وخالفه في ذلك جماعة من الحفاظ كابن منده وابن حبان وأبي حاتم، فإنهم رجحوا رواية محمد بن جعفر بن الزبير، ورجح الوجهين جماعة أيضاً من الحفاظ كالإمام البيهقي، والدارقطني، وكذلك قد رجحه الزيلعي؛ فرجح هؤلاء الوجهين. وقد ضعفه بعض أهل العلم , فقد ضعفه ابن القيم وابن دقيق العيد، وضعفه أبوبكر ابن العربي متعقباً الشافعي عليه رحمة الله في كتابه (أحكام القرآن) ، وكذلك في شرحه على سنن الإمام الترمذي عليه رحمة الله. ولكنه أغرب حينما أعلّّه بالوليد بن كثير , فالوليد بن كثير ثقة حافظ، قد أخرج له الجماعة ولم يطعن فيه أحد من أهل العلم سوى ابن سعد عليه رحمة الله؛ فإنه قال ليس بذاك , والوليد ابن كثير هو من الثقات المعروفين الذين قد أخرج لهم الجماعة , وجرح ابن سعد عليه رحمة الله له ليس بمقبول في مقابل كلام الحفاظ عليهم رحمة الله. وهذا الخبر قد صححه أيضاً جماعة من أهل العلم، صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وكذلك روي عن الدارقطني تصحيحه وعن البيهقي ومن المتاخرين ابن تيمية وغيرهم من أهل العلم.

وقد صنف في الكلام عليه وعلى طرقه جماعة من أهل العلم، فقد صنف العلائي عليه رحمة الله جزءاً في جمع طرق هذا الخبر، وصنف كذلك محمد بن عبد الواحد المقدسي جزءاً في جمع طرقه راداً على الحافظ ابن عبد البر عليه رحمة الله في تضعيفه لهذا الخبر، فإن ابن عبد البر عليه رحمة الله قد ضعّف هذا الخبر وشدد في تضعيفه، وتعقبه المقدسي عليه رحمة الله في جزءٍ له، وقد أُعلّ أيضاً باضطراب متنه من أنه روي في بعض الطرق الشك، فجاء في بعض الطرق قلتين أو ثلاثاً ولم يقل قلتين فحسب، وهذا مروي من حديث حماد بن أسامة عن عاصم بن المنذر عن عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عمر، وحماد بن أسامة قد تغير بآخره، وقد خالف الثقات في روايته هنا فوقع في الشك، وقوله هنا مرجوح في مخالفته للثقات، وهذا الشك في عداد الشذوذ، وقد بين ذلك الحافظ البيهقي عليه رحمة الله، وبين أن هذه الرواية رواية مرجوحة. وكذلك مما وقع فيه أنه جاء في بعض الروايات أن هذه القلال هي قلال هجر، كما أخرج ذلك ابن عدي في كامله من حديث المغيرة بن سقلاب عن محمد بن إسحاق عن نافع عن عبد الله بن عمر، والمغيرة بن سقلاب منكر الحديث، وقد بيَّن الدارقطني عليه رحمة الله، أن هذا الطريق وَهْم كما بيّن ذلك في علله، وبيَّن أن الصواب هو عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عمر بن الخطاب عليهما رضوان الله تعالى.

وهذا الخبر مهما يكن من الكلام على طرقه فقد صححه جماعة وضعفه آخرون، ومنهم من قال أن إعلاله بالاضطراب سواءً في متنه أو إسناده أنه ليس بمضعّفٍ له، وإنما اضطراب المتن يدل على ضعف تلك الأوجه، أما أصل الحديث فإنه ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما اضطراب السند فقد أجاب عنه بعض أهل العلم بأجوبة، ومنهم من رجّح الوجهين، وقال أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذين الوجهين، كما هو قول الإمام الدارقطني وقول البيهقي وقول الزيلعي عليهم رحمة الله وقد توسع ابن القيم في تضعيف هذا الخبر ورده على من قواه بكلام نفيس متين قوي. (والقُلَّة) هي: بضم القاف مأخوذة من الارتفاع، يقال: قلة الجبل أي أعلاه، واختلف أهل العلم في مقدار القلة في خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقدر الذي تعرف به القُلّة على أقوال: - فقد روي أن المراد بالقلة أنها قربتين وجاء ذلك في كتاب الأم للشافعي، فقد أخرج عليه رحمة الله في كتابه الأم وكذا في مسنده فقال: أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج قال: قلال هَجَر قربتين أو قربتين وشيئاً. - وهناك قول آخر وهو القول الثاني في قدر القلّة، وهو مروي عن الإمام الشافعي والإمام أحمد وكذا مروي عن أبي ثور عليهم رحمة الله، وقالوا: أن القُلّة تَسع قربتين ونصفا، واستدلوا بما روي عن ابن جريج السابق، وقالوا أن قول ابن جريج أن القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً، قوله (شيئاً) هنا: أكثر ما يطلق عليه لفظ الشيء هو الشطر وهو النصف، قالوا فيقال بالاحتياط أن القلة تسع قربتين ونصفاً، وهذا كما ذكرنا مروي عن الإمام الشافعي وأحمد وأبي ثور. - وثمة قول ثالث: قالوا بأن القلة هي تسع ستة قرب، وهذا مروي عن إسحاق بن راهويه عليه رحمة الله.

- وثمة قول رابع في مقدار القلة: أنها تسع فرقين، وهذا مروي عن يحيى بن عقيل كما أخرج ذلك الدارقطني في سننه عليه رحمة الله من حديث ابن جريج عن محمد بن يحيى عن يحيى بن عقيل قال: رأيت قلال هَجَر، فرأيت القُلّة تسع فرقين. - وروي في ذلك قول خامس أيضاً قالوا: أن القلة ليس لها قدرٌ معين معروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مروي عن عبد الرحمن بن مهدي، ومرويٌ أيضاً عن وكيع ويحيى بن آدم وجماعة من أهل العلم، وكذلك هو مروي عن أبي عبيد عليهم رحمة الله. فالقول الحق في ذلك بإذن الله تعالى، أن القلتين ليس لها قدر معين عند أهل العلم؛ ولكن المراد بالقلّة هي قلال هَجَر، كما حكى ذلك بعض أهل العلم، فقلال هجر معروفة عند العرب، واشتهرت حتى وصلت شهرتها المدينة، بل جاءت على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - في خبر صحيح، كما في قصة الإسراء والمعراج عنه - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الصحيح من حديث قتادة عن أنس عن مالك بن صعصة - رضي الله عنه - في خبر طويل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فرأيت نبقها كأنه قلال هَجَر» ، وهذا يدل على أن قلال هجر معروفة عند العرب ومعروفة على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي أقرب ما تكون من إرادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها. والقلة كما ذكرنا أنها تنصرف عند التحقيق لمن تأمل أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قلال هجر، وإذا عُلم أيضاً أن قلال هجر ليس لها قدر معين؛ عُلم أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الخبر أنه غلبة الضن وليس القطع. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن صحّ: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» ، له دلالة منطوق ودلالة مفهوم.

* فدلالة منطوقه: أن الماء إذا كان قلتين على اختلاف في قدر القلتين فإنه لا يحمل الخبث، إلا إذا تغيّر طعمه أو ريحه أو لونه بنجاسة تحدث فيه، وهذا محل إجماع عند أهل العلم. * ودلالة مفهوم هذا الخبر: أن ما كان دون القلتين فإنه في غلبة الظن أنه تطرأ عليه النجاسة. ولكن اختلف أهل العلم في دلالة المفهوم هنا، هل ما كان دون القلتين بملاقاة النجاسة ينجس، حتى وإن لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه؟ على خلاف عند أهل العلم، فذهب الحنفية والشافعية وقول عند الحنابلة وهو رواية عن الإمام أحمد عليه رحمة الله: على أن النجاسة إذا لاقت الماء القليل فإنه ينجس، حتى وإن لم يتغير ريحه أو طعمه أو لونه. ولكن هؤلاء الذين قالوا بهذا القول وهو قول الجمهور، اختلفوا في الماء القليل: - فذهب الحنفية قالوا: أن الماء القليل هو إذا حُرّك طرفه تحرّك طرفه الآخر - وذهب الحنابلة وكذلك الشافعية إلى أن الماء القليل هو: ما كان دون القلتين مما قدّرَه النبي - صلى الله عليه وسلم -. - وذهب وهو القول الثاني جماعة من أهل العلم وهو قول ابن المسيب والحسن والثوري والإمام مالك عليه رحمة الله وابن مهدي ورواية عن احمد وعليه المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية: على أن الماء إذا لاقته نجاسة وهو قليل حتى وإن كان دون قلتين أنه لا ينجس، إلا إن تغير طعمه أو لونه أو ريحه من تلك النجاسة، وهذا هو القول الحق. فإن دلالة المفهوم من هذا الخبر إن صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، تعارضها دلالة المنطوق عنه - صلى الله عليه وسلم - في الأخبار المتقدمة: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» ، وهذا كلام عام لا يستثنى منه شيء قليل أو كثير.

لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب

فخبر القلتين هنا يؤخذ منه أن الماء إذا كان كثيراً؛ من قلتين فأكثر أن يقل احتمال ورود النجاسة عليه، وأنه إن كان دون القلتين فإنه حينئذٍ يغلب على الظن ورود النجاسة وغلبتها عليه، مع لزوم ذلك الضابط وهو: أن يتغير ريحه أو لونه أو طعمه من تلك النجاسة التي تحدث فيه. *************************************** 6- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» . أخرجه مسلم. وللبخاري: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه» . ولمسلم: «منه» . ولأبي داود: «ولا يغتسل فيه من الجنابة» . هذا الحديث قد أخرجه الإمام مسلم عليه رحمة الله فقال حدثنا هارون حدثنا بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن أبي السائب مولى هشام بن زُهرة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يغتسل أحدكم» : اللام هنا: لام النهي وهي ناهية، واختلف أهل العلم في دلالة ذلك النهي هل هو على التحريم أم لا؟ - فذهب المالكية وقالوا أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه» ، على خلافٍ في الروايات عند البخاري ومسلم وعند أبي داود عليهم رحمة الله، قالوا: أن ذلك يُحمل على الكراهة، وأن ذلك محمول على كراهة التنزيه عنه - صلى الله عليه وسلم -، وعللوا ذلك؛ قالوا: أن الماء باقٍ على طهوريته وأنه ليس بنجس، إذا فهذا يدل على أن النهي هنا هو نهي للكراهة وليس للتحريم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينهى عن شيء مع أن الغاية هو طهارة الماء حتى وإن فعله العبد.

- وذهب الحنابلة وقول الظاهرية على أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا هو للتحريم، وعللوا ذلك بعللًٍ كثيرة؛ قالوا: أن الأصل من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - هو التحريم، ولا يصرف ذلك إلا لعلّة ظاهرة أو لقرينة ظاهرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من عمل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (والماء الدائم) : هو الباقي الماكث الساكن الذي لا يجري، لا يتحرك إلا بفعل فاعل من آدمي أو حيوان ونحو ذلك. والعلة في ذلك؛ من النهي عن الاغتسال في الماء الدائم سواء من غسل جنابة ونحو ذلك، قالوا أن الماء الدائم يغلب عليه أن النجاسة تبقى فيه، وأن الجاري يتطهر بجريانه وكذلك بمكاثرة الماء فيه، ولذلك قال الشاعر: إني رأيت وقوف الماء يفسده………إن سال طاب وإن لم يجرِ لم يطبِ وهذا معلوم؛ فإن الماء إذا كان ساكناً فإنه كلما أتته النجاسة وطرأت عليه فإنه ينجس في الغالب اذا كان قليلا، أما الذي يجري فإنه يلتقي بغيره وكذلك فإن النجاسة تزول عنه بجريانه في الأرض. واختلف أهل العلم إذا اغتسل الجنب في الماء الدائم، ما حكم ذلك الماء؟ على اختلاف عندهم في القدر الذي يكون به الماء قليلا فلا يدفع النجاسة وهذا الخلاف في الماء القليل وأما الكثير عندهم فلا يكون مستعملا كالنهر والبحر والغدير ونحوه مما يخرج عن حد القلة بإجماعهم لكنهم اختلفوا في حد القليل وعليه يبنى خلافهم في نجاسه المستعمل من الماء فقد اختلف أهل العلم على ثلاثة أقوال؛ وهن روايات عن الإمام أحمد عليه رحمة الله إلا إحدى الروايات فهي تعدّ غريبة. القول الأول: قالوا أنه باقٍ على طهارته إلا أن ليس بمطهّر، وقالوا أنه يشرب ويطبخ به إلا أنه لا يزال به الحدث من وضوء وغسل جنابة وهو المشهور عن احمد وقول الشافعيه.

القول الثاني: قالوا أنه نجس، إذا اغتسل الجنب في الماء الدائم أن ذلك يدل على نجاسته، فلا يشرب ولا يطبخ به ولا يغتسل به، ولا يتوضأ به من باب أولى. وهو قول ابي حنيفه وهذه كما ذكرنا رواية لإمام أحمد، وقد تأولها بعض الأصحاب كأبي يعلى الحنبلي، وابن عقيل وغيره وهي رواية بعيدة عنه عليه رحمة الله، ولعل فهم بعض الأصحاب قول أحمد على غير وجهه فحكوه على أن الماء إذا اغتسل فيه الجنب بنجس، وإلا ففقه الإمام أحمد عليه رحمة الله هو أبعد من ذلك. القول الثالث: قالوا أن الماء إذا اغتسل فيه الجنب أنه باقٍ على طهوريته، وأنه طاهر مطهِّر، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم، فقد روي عن سفيان الثوري وكذا مالك بن أنس والشافعي واحمد، وعليه المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، فقالوا: أن الماء إذا اغتسل فيه الجنب باقٍ على أصله ولا ينتقل من أصله إلا بدليل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اغتسال الجنب في الماء الدائم ليس بمتعلق بطهارة الماء أو نجاسته بعد الاغتسال منه، ولكن لعلّة: إما أن تكون تأديب من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو منع من الغسل في الدائم لكي لا يتهاون المرء بالاغتسال فيه على أي حال فيسفد معه الماء بتغير أوصافه أو غير ذلك مما تخفى حكمته، ولا يقال بنجاسة الماء ونقله من أصله إلا بدليل أو علة ظاهرة قد نص عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله: وللبخاري: «لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه» . هذه الرواية التي أخرجها البخاري عليه رحمة الله قال: حدثنا أبو اليمان قال اخبرنا شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وفيه قوله: «ثم يغتسل فيه» :

وهذه الرواية جاءت بحكمٍ أخذه منه بعض أهل العلم قالوا: أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتبط بالجمع، أي لا يبول الرجل في الماء الدائم ثم يغتسل فيه، أما أن يغتسل فيه من غير بول فلا بأس، ومن قال بهذا القول فإنه استمسك بهذه الرواية. قوله: ولمسلم: «منه» : رواية الإمام مسلم عليه رحمة الله بقوله: «منه» قد أخرجها عليه رحمة الله فقال حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق عن معمّر بن راشد عن همام ابن منبّه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وفيها دلالة على قولٍ لبعض أهل العلم أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بخاص أن ينغمس الجنب في الماء، ولكن نهيه - صلى الله عليه وسلم - يشمل أيضاً أن يغتسل من ذلك الماء حتى وإن اغترف منه. وهذه الرواية يظهر والله أعلم أنها رويت بالمعنى وإلا فنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهر من تفسير أبي هريرة - رضي الله عنه -، لما سأله أبو السائب عليه رحمة الله قال: كيف يصنع يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً، وهذا يخالف تفسير أبي هريرة - رضي الله عنه - لهذه الرواية. قوله: ولأبي داود: «ولا يغتسل فيه من الجنابة» :

هذه الرواية قد أخرجها أبو داود عليه رحمة الله، فقال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وقد رواه الامام احمد عن يحي عن ابن عجلان به وبظاهر الإسناد فمحمد بن عجلان وأبوه هم من الثقات، وأحاديثهم مستقيمة، لكن مخالفة ابن عجلان في هذه الرواية توجب النظر والتوقف فيها فلم يرو الجمع بين الاغتسال في الماء الدائم والنهي عن الاغتسال للجنب في الماء الدائم الا محمد بن عجلان وانفراده يوجب الشك في ثبوت هذا اللفظ، بل الذي يظهر هو شذوذه حيث ان الخبر واحد وخالف فيه الثقات مع كون ابن عجلان فيه خفه في الضبط فليس هو من الثقات الحفاظ فالحديث معروف عن ابي هريرة رواه جماعة من اصحابه كالاعرج وابن سيرين وهمام وحميد بن عبد الرحمن وغيرهم وانفرد ابن عجلان عن ابيه بهذا اللفظ. ومما يجب معرفته لزوم العناية والتنبه لمثل هذا الاختلاف في احاديث الاحكام وكثيرا ما يغفل هذا الفقهاء فترى الاقوال تختلف باختلاف تعدد الفاظ الحديث كما في هذا الخبر ولو جمعت الالفاظ لبان ذلك، وهذا يرد كثيرا جدا في كتب الفقه، فالاحاديث كثيرا ما تروى من طريق واحد ومخرج واحد فتتعدد الفاظها لكونها رويت بالمعنى او رويت من غير ضبط ومع هذا تتعدد اقوال الفقهاء بتعدد هذه الروايات، وهذا ما ينلغي التنبه له في كثير من مسائل الفقه وادلته، ولو حررت هذه الالفاظ المتعددة للحديث الواحد وعرف الصحيح منها لضعفت الاقوال المعتمدة عليها.

أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو الرجل بفضل المرأة

ومما يجب معرفته ايضا ان الاحاديث في كثير من الابواب تتفق على حكم معين جاء الحديث بتقريره وهو السبب من ورود الحديث ومن نقل الرواة له، فيعتني الرواة بنقل الخبر وضبط اللفظ الذي جاء به الحكم من الحديث ولا يعتنون بضبط ما جاء تبعا في الحديث من ايراد قصه او لفظ آخر ليس هو مما ينص على الحكم فتتنوع حينئذ الالفاظ وتختلف وهذا يرد كثير جدا فيتمسك هؤلاء بتلك الالفاظ على تفسير الحكم بينما الحكم واحد لو جرد من تلك الالفاظ التي جاءت تبعا في سياق الحديث وهي كثيرا ما لا يعتني بها الرواة، ومع كون مخرج الحديث واحد ويقطع بكونه قاله النبي صلى الله عليه وسلم في موطن واحد الا ان الاقوال تنقسم في تفسير الحكم باختلاف تلك الالفاظ التابعة وليست اصلا في الخبر، فمثلا تجد الاختلاف في خبر المقداد (توضأ وانضح فرجك) او (اغسل ذكر وتوضأ) والنص جاء ولاجله نقل الخبر في عدم الغسل من المذي وانه يكفي غسل الذكر والوضوء، لكن تمسك البعض وانقسمت الاقوال بحسب سياق الخبر هل يصح الوضوء قبل الاستنجاء او لا؟ وهل يصح الوضوء قبل غسل الذكر ام لا؟ وهذه المسالة ترد كثيرا فيجب التنبه لها. *************************************** 7- وعن رجل صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جمعياً» . أخرجه أبو داود. والنسائي، وإسناده صحيح. هذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي عوانه عن داود بن عبد الله الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، قال: سمعت رجلاً صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صحبه أبو هريرة أربع سنين.

وهذا الحديث إسناده صحيح وقد أعله بعض أهل العلم بما لا يقدح، فقد أعله ابن حزم عليه رحمة الله، وأشار البيهقي عليه رحمة الله في أنه في حكم المرسل، ولكن جهالة الصحابي هنا لا تضر وعليه عامة أهل العلم، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم وأبو إسحاق الإسفريني، فإنهما قال بأن جهالة الصحابي تضر، وعلل ذلك بتعليل غير مقبول، فوأهل العلم على أن جهالة الصحابي لا تضر فإن الله سبحانه وتعالى قد عدّلهم في كتابه العظيم ورضي عنهم سبحانه وتعالى، وهذا منصوص في كتاب الله جل وعلا، وهو محل إجماع عند السلف الصالح عليهم رحمة الله وممن نص على ذلك الامام أحمد والحميدي، واضطرب في هذا البيهقي رحم الله الجميع، قال الامام احمد إذا قال الرجل من التابعين حدثني رجل من الصحابة ولم يسمّه فالحديث صحيح. وقال الحميدي: إذا صح الإسناد عن الثقات إلى رجل من الصحابة فهو حجة إن لم يسم ذلك. وابن حزم عليه رحمة الله لا يقابل قوله قول أئمة هذا الشأن فليس هو ممن يعارض باحمد والبخاري وابن المديني والدارقطني وابن معين والنسائي والترمذي واضرابهم، وهو ممن يعمل الظاهر في النقد ويغفل القرائن ككثير من المتأخرين كابن القطان الفاسي ونحوه، بل ان ابن حزم له أوهام في معرفة الرواة واسمائهم مما لا يوجد عادة في عند الائمة الكبار فقد وهم في اسم حماد فجعله ابن زيد والصواب أنه ابن سلمة فالراوي عنه موسى بن اسماعيل وعدم معرفته بداود راوي خبر هذا الحديث كما سياتي وغير ذلك مما لم اره عند الحفاظ النقاد وان وجد عندهم لكنه نادر جدا.

وداود بن عبد الله الأودي قد وثقه الإمام أحمد وكذلك وثقه ابن معين عليهم رحمة الله، وقد حكى ابن معين عليه رحمة الله عن داود بن يزيد الأودي أنه قال: ليس بشيء، فتوهم الحافظ المزي عليه رحمة الله، أن هذا الحكم هو في داود بن عبد الله الأودي صاحب هذا الخبر، فذكر هذا الطعن وهذا الجرح في رواية داود بن عبد الله الأودي في كتابه التهذيب، وهو وهم ينبغي التنبيه له، فإن قول ابن معين عليه رحمة الله في داود الأودي: ليس بشيء، لا يريد فيه داود بن عبد الله ولكنه يريد داود بن يزيد، وداود بن يزيد الأودي هو ضعيف معروف. وقد أعل ابن حزم عليه رحمة الله هذا الخبر بداود الأودي وذلك لجهله بحاله، فإنه قال عليه رحمة الله: إن كان داود هذا هو عم ابن إدريس فضعيف وإلا فمجهول، وقد تعقبه جماعة من أهل العلم كابن قطان الفاسي فإنه قد ذكر أن الحميدي قد صحح هذا الخبر، وكتب إلى ابن حزم عليه رحمة الله رسالة يبين له صحة هذا الخبر، وكذلك يبين له حال داود بن عبد الله الأودي وأنه ثقة معروف وليس بمجهول وليس بضعيف أيضاً، وقال عليه رحمة الله: فلا أدري ابن حزم عليه رحمة الله أرجع عن قوله أم لا؟ ، والشاهد في ذلك أن هذا الخبر صحيح إسناده، وقد صححه بعض أهل العلم كالحميدي الله وابن القطان الفاسي والمصنف ابن حجر هنا وغيرهم من أهل العلم ونقل الميموني عن الامام أحمد إعلاله للاخبار الواردة في منع التطهر بفضل وضوء المرأة وفي جواز ذلك وعدها مضطربه.

وهذا يدل على ان الامام أحمد رحمه الله لم يشترط الصحة في مسنده وانما اشترط الشهرة ومعنى الشهرة أي ما عرف عند الحفاظ واشتهر وغن لم يشتهر ويعرف عند من هو دونهم، وليس المراد به الشهره عند أهل الاصطلاح وقد قال الامام احمد لابنه عبد الله لما سأله عن حديث ضعيف ذكره في المسند قال: إنما قصدت في المسند المشهور وتركت الناس تحت ستر الله ولو أردت أن أقصد ما صح عندي، لم أرو هذا المسند الا الشيء بعد الشيء. وهذا حكاه غير واحد من الأئمة وجماعة من الحنابلة كأبي بعلى وابن تيمية وابن القيم وغيرهم. ولهذا تجد ان الامام احمد اخرج احاديث في مسنده ومع هذا يعلها بل منها ما ينكره والامثله على هذا كثيرة جدا ومنها هذا الحديث وكذلك ما أخرجه الامام أحمد في مسنده من طريق أبي العميس عتبة عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصوم حتى يكون رمضان. وقد نقل حرب عن أحمد قوله في هذا الحديث: هذا حديث منكر ولم يحدث العلاء بحديث أنكر من هذا وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث به ومن ذلك أيضاً ما أخرجه في مسنده من حديث أبي هريرة وابي سعيد وغيرهما: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه. وقال: لا يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها ما أخرجه في مسنده من حديث إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعه الطعام بعد دفنه من النياحة. وقد نقل ابو داود عن الامام احمد قوله فيه: لا اصل له.ومنه ما اخرجه في مسنده من حديث بقية عن عثمان بن زفر عن هاشم عن بن عمر قال: من اشترى ثوبا بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم يقبل الله له صلاة ما دام عليه. قال ثم أدخل إصبعيه في أذنيه ثم قال صمتا ان لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقوله. وقد قال احمد: ليس له اسناد. يعني بهذه العبارة ليس له اسناد يعتمد عليه

وهو اشبه بالاحاديث التي تروى وليس لها اسناد اصلا. وكذلك من الامثله هذا الحديث الذي معنا كما ذكرناه في النهي عن الاغتسال بفضل الرجل والمرأة. وهذا الخبر في نهيه - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل المرأة بفضل الرجل والرجل بفضل المرأة، قد اختلف أهل العلم في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: - فذهب أهل الظاهر وهو مروي عن الإمام أحمد وهو قول الحنابلة عليهم رحمة الله على أن النهي هنا للتحريم؛ لأن الأصل من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يحمل على التحريم.

- وذهب جماعة من أهل العلم وهو قولٌ للمالكية من أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - هو للتنزيه، ويحمل على الكراهة، وذلك لورود عدة أخبار عنه - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل يغتسل بفضل المرأة، فقد أخرج البخاري وغيره عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر قال: كان الرجال والنساء يتوضأون جمعياً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك ما أخرجه أهل السنن: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وأخرجه أيضاً الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم من أهل العلم، ما أخرجوه من حديث سماك بن حرب عن عكرمة عن عبد الله بن عباس: اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جفنة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليغتسل منها، فقالت زوجته: إني كنت جنباً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الماء لا يجنب» ، وهذا الخبر قد أعله بعض أهل العلم وصححه بعضهم، فقد صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن حجر كما في كتابه هنا، وقد أعله بعض أهل العلم وتوقف فيه الإمام أحمد عليه رحمة الله وذلك لحالِ سماك بن حرب، وسماك بن حرب قد وثقه ابن معين عليه رحمة الله، وقد قال فيه النسائي: ليس به بأس، وقال فيه ابن المديني عليه رحمة الله ويعقوب ابن شيبة: أنه مضطرب الرواية في روايته عن عكرمة، قال الدارقطني عليه رحمة الله: إذا روى عنه سفيان وشعبة وأبو الأحوص فإن أحاديثه سليمة، وهو في هذا الخبر قد روى عنه سفيان كما عند الإمام أحمد وكذلك عند النسائي، وروى عنه أبو الأحوص كما عند أبي داود والترمذي وابن حبان والطبراني وغيرهم، وكذلك قد رواه عنه شعبة بن الحجاج عليه رحمة الله وقد اختلفت الالفاظ فيه فرواه شعبه وسفيان وابو الاحوص بلفظ: (ان الماء لا ينجسه شيء) وهو الصواب ولا يصح بلفظ (ان الماء لا يجنب) وفي الغالب اذا روى عنه شعبه وسفيان وابو الاحوص فهو

مما يدل على ضبطه لهذا الخبر، وأن هذا الخبر مستقيم، والعمدة أن ينظر مع ذلك الى استقامة الحديث وعدم غرابته واضطرابه وان لا يتفرد بما لم يأت به الثقات الحفاظ. وعكرمة مولى عبد الله بن عباس قد أخرج له البخاري في صحيحه، وهنا مسألة ينبغي التنبه لها: وهي أن أمثال هذا الروايات إذا وجد راوٍ قد أخرج له البخاري يروي عن راوي قد أخرج له الإمام مسلم عليه رحمة الله فإنه لا يقال في مثل هذا الخبر أنه لا على شرط البخاري ولا على شرط مسلم، ولا يقال أيضاً أنه على شرط الصحيح من غير الإشارة إلى البخاري أو مسلم، وإنما يقال رجاله رجال الصحيح أو رجاله أخرج لهم في الصحيح، فقد ذكرنا أن أمثال هذه اللفظة لا تدل على تصحيح الحديث، فإن سماك بن حرب في روايته عن عكرمة فيها اضطراب كما حكى ذلك ابن المديني، وكذلك يعقوب بن شيبة مع أن الإمام مسلم عليه رحمة الله قد أخرج لسماك بن حرب في روايته عن غير عكرمة، والبخاري عليه رحمة الله قد أخرج لعكرمة مولى عبد الله بن عباس من غير رواية سماك بن حرب عنه، فلا يقال ذلك أنه على شرط أحدهما فضلاً عن أن يكون على شرطهما، وأن قول البعض: (رجاله رجال الصحيح) ، لا تفيد تصحيحاً لهذا الخبر أو لغيره من الأخبار، وحكاية على شرط الصحيح على الاحاديث تساهل فيها الكثير ونظروا الى ظاهر الاسانيد وحكموا بذلك، وهذا غير صحيح فثمة اشياء غير سياق الرواة يلزم النظر فيه وهو الغرابة والتفرد وعدم المخالفة وسلامة المتن، وقد وجد من الاحاديث حكي فيها انها على شرط البخاري او مسلم او كليهما وفي متونها نكارة وغرابة، وهذا لا يصح والشيخان ينظران الى المتون كما ينظران الى الاسانيد والرجال وهذا قد غفل عنه كثير ممن ينتسب الى العلم من أهل العصر. وعلى هذا فحديث سماك بن حرب عن عكرمة على ثلاثة انواع:

كان يغتسل بفضل ميمونة رضي الله عنها

الاول: فيما رواه عن عكرمة عن ابن عباس وانفرد به ولم يوافق عليه فهو يغلب عليه النكاره فيكون مردودا. ومن ذلك ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سماك عن عكرمة عن بن عباس قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال قال أتشهد أن لا إله إلا الله أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدا. والصحيح فيه الارسال فقد رواه جماعة كسفيان الثوري وغير هـ عن سماك عن عكرمة مرسلا وصوب ذلك الحفاظ كالترمذي والنسائي. وقد انكر الحفاظ تفردات سماك عن عكرمة كابن المديني واحمد العجلي والدارقطني وغيرهم الثاني: ما رواه عن عكرمة عن ابن عباس ورواه عنه قدماء أصحابه شعبة وسفيان وابو الاحوص فهذا النوع ينظر فيه الى استقامة متنه وعدم غرابته ونكارته فان كان كذلك فيقبل الثالث: ما رواه عن عكرمة عن غير ابن عباس كعائشة وغيرها ولم يكن ممن يستنكر متنه ولم ينفرد بأصل فهو محمول على الاستقامة والصحة ما لم يخالف كما روى النسائي والطيالسي والبيهقي عن سماك عن عكرمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال أعندك شيء قلت لا قال إذا أصوم. وهذا صحيح قد صححه الحفاظ كالدارقطني والبيهقي وغيرهما وفي مسالة الاغتسال بالفضله كذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه قد اغتسل بفضل ميمونة عليها رضوان الله تعالى، كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -، إذاً فغسل الرجل بفضل المرأة هو جائز ومجزئ، وأن ذلك لا يحمل على التحريم جمعاً بين الأخبار التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك عن أصحاب النبي - رضي الله عنهم -. *************************************** 8- وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة رضي الله عنها. أخرجه مسلم.

هذا الحديث قد أخرجه الإمام مسلم من حديث محمد بن بكر عن ابن جريج عن عمرو بن دينار قال: أكبر علمي والذي يخطر على بالي، أن أبا الشعثاء حدثني عن عبد الله بن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل بفضل ميمونة عليها رضوان الله تعالى. وهذا الخبر صارف لما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي أن يغتسل الرجل بفضل المرأة أو المرأة بفضل الرجل للتحريم، وقد صرفه من التحريم إلى كراهة التنزيه، وإلا لما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا قد نهى عنه. وفيه دلالة أيضاً على أن الماء باقٍ على طهوريته وتطهيره، وهو باق على أصله لا ينصرف إلى غيره، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما فعل ذلك وفعله أصحابه عليهم رضوان الله تعالى، دلّ ذلك على بقاء الماء على أصله، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما نهى عن اغتسال الرجل بفضل المرأة أو المرأة بفضل الرجل أنه على كراهة التنزيه، وأن الأولى أن يغتسل الرجل بعد المرأة من غير فضلها، وأن المرأة تغتسل بعد الرجل من غير فضله، أو يغترفا من إناء واحد جميعا، وذلك مما نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه بنهيه عن ذلك، نهي كراهة وليس نهياً تحريميا.

وفي إسناد هذا الخبر من المسائل ما يذكره أهل الحديث عليهم رحمة الله من قول عمرو بن دينار عليه رحمة الله: أكبر علمي، والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء حدثني ... ، فقد وقع في الشك عليه رحمة الله، مع ذلك أخرج هذا الخبر الإمام مسلم عليه رحمة الله في صحيحه، مع أن عمرو بن دينار قد وقع في شيء من الشك في تحديث أبي الشعثاء له عن عبد الله بن عباس عليهما رضوان الله تعالى، وهذا الجواب عنه أن شك الثقات الحفاظ كعمرو بن دينار أنه كيقين غيرهم خاصة إذا غلب ظنهم على شيء، ولذا قال شعبة بن الحجاج شك مسعر أحب إلي من يقين غيره. وقال ذلك ايضا في ابن عون. وروي ان شعبه سأل أيوب عن حديث فقال أشك فيه فقال له شكك أحب إلي من يقين غيرك.، فإن الثقة إذا شك في أمر ومال إلى أحدهما كما في رواية عمرو بن دينار هنا يدل على شدة تحرزه وضبطه، بخلاف خفيف الضبط أو الصدوق أو من الثقات الذين ليسوا معروفين بالحفظ، وكذلك الضبط فإنه إذا شك يتوقف فيه، بل إن أهل العلم عليهم رحمة الله قد قالوا: أن الحافظ إذا حدّث بحديث عن شيخه ونفى شيخه أن يكون قد حدّثه بذلك الخبر أن حديثه صحيحا، وإن نفي الشيخ أن يكون حدثه بذلك الخبر إما أن يكون قد طرى على شيخه من النسيان أو شيء من الغفلة ونحو ذلك، وقد جاءت في ذلك روايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد فيها مثل هذا، فقد نفى بعض الشيوخ أن يكون قد حدّثوا التلاميذ مع أن التلاميذ هم من الحفاظ، وقد قبل الحفاظ رواياتهم، وقد أخرج البخاري ومسلم مثل هذا في صحيحهما، كما أخرج الإمام مسلم في مثل هذا الشك هنا في حديث عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن أبي الشعثاء عن عبد الله بن عباس عليهما رضوان الله تعالى. ***************************************

إن الماء لا يجنب

9- ولأصحاب السنن: اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جفنة، فجاء ليغتسل منها، فقالت له: إني كنت جنباً، فقال: «إن الماء لا يجنب» . وصححه الترمذي، وابن خزيمة. هذا الحديث هو حديث عبد الله بن عباس، قد أشرنا إليه في السابق عند الحديث الذي قبل الماضي، من أنه حديث عبد الله بن عباس ويرويه عنه عكرمة ويرويه عن عكرمة سماك بن حرب ويرويه عن سماك بن حرب سفيان الثوري، ويرويه مع سفيان شعبة بن الحجاج وأبو الأحوص، وهؤلاء ثقات حفاظ إذا رووا عن سماك بن حرب حديثاً حتى وإن كان عن عكرمة عن ابن عباس فهو في الغالب يكون مستقيما، وقد يكون له ما ينكر فيرد؛ وهؤلاء ينتقون من شيوخهم الأحاديث، وقد قال الدارقطني عليه رحمة الله عن سماك بن حرب: إذا روى عنه سفيان وشعبة وأبو الأحوص فإن أحاديثه سليمة، فإن سماك بن حرب في روايته عن عكرمة فيه شيء من الاضطراب، كما حكى ذلك ابن المديني ويعقوب بن شيبة، وكذلك قد حكاه أيضاً أحمد بن عبد الله العجلي عليه رحمة الله، وإلا فسماك بن حرب في نفسه هو من الثقات وقد وثقه ابن معين، وقال فيه النسائي: ليس به بأس وفي حديثه شيء. وقد توقف فيه الإمام أحمد عليه رحمة الله، لشدة تحرزه لحال سماك بن حرب، فإنه ليس يرويه غير سماك بن حرب لم يرو إلا من طريق سماك بن حرب. والحديث بهذا اللفظ الذي اورده المصنف لا يصح، والصحيح ما اتفق عليه ثقات اصحاب سماك كشعبه وسفيان وابي الاحوص (ان الماء لا ينجس) او لا ينجسه شيء .وقد تقدم الكلام عليه وعلى رواية سماك بن حرب عن عكرمة مولى ابن عباس بالتفصيل

طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب

وفي هذا الخبر من الدلالة أيضاً ما ذكرناه في السابق أنه صارف لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، أو المرأة بفضل الرجل، وليغترفا جميعاً، وأن النهي يحمل على الكراهة كراهة التنزيه، وأنها ليست بكراهة التحريم، وإلا النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال لزوجته عليها رضوان الله تعالى: «إن الماء لا ينجس» ، واغتسل منه - صلى الله عليه وسلم -. 10- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب» أخرجه مسلم. هذا الحديث قد أخرجه الإمام مسلم عليه رحمة الله قال حدثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ولغ الكلب» : الولوغ هنا هو: الشرب باللسان، وهذا خاص بالكلب ونحوه من السباع، والولوغ لا يكون إلا لسائل من ماء وغيره، ومنه يؤخذ كما أخذ أهل العلم أن الكلب إذا وضع لسانه على شئ من الجامدات ونحو ذلك، أن هذا ليس بحكم السائل، وأنه لا يغسل سبعا، وإنما يأخذ ما وضع فيه الكلب لسانه ويغسل كسائر النجاسات او يزال فيرمى، ولا يقال بأن ذلك الموضع يغسل سبعاً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيد ذلك بالولوغ، والولوغ لا يكون إلا في الشرب. وهذه اللفظة التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا في قوله: «إذا ولغ» ، ذكرنا أنها خاصة بالكلب وما في حكمه من السباع , ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصص هذا الحكم بالكلب ولم يعممه في سائر السباع بقوله: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم» ، فهذا خاص في الكلب لا يعم سائر السباع.

وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: «إذا شرب» ، والمعلوم أن الكلب لا يشرب وإنما يلغ، وهذا معلوم عند العرب، جاء ذلك في الصحيحين: من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا شرب الكلب» ، وقال الحافظ ابن عبد البر عليه رحمة الله تفرد الإمام مالك بهذا اللفظة يعني: «إذا شرب» ، والصحيح أن الإمام مالك عليه رحمة الله لم يتفرد بهذه اللفظة لفظة: «إذا شرب» ، والذي يظهر والله أعلم أنها ممن فوقه أو ممن دونه، أو أن هذا الخبر روي بالمعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد جاءت هذه اللفظة عن غير الإمام مالك عليه رحمة الله، بل روى هذا الخبر عن الإمام مالك عليه رحمة الله غير راوٍ ولم يذكروا لفظة: «إذا شرب» وإنما قالوا: «إذا ولغ» ، وهذا قد جاء عند أبي عبيد في كتابه (الطهور) من حديث إسماعيل بن عمر عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا ولغ» . وكذلك قد أخرجه ابن ماجه من حديث روح بن عبادة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا ولغ» ، ولم يذكر إذا شرب، مما يدل على أن الإمام مالك عليه رحمة الله قد أتى بالحديث على وجهه، وأن هذا إما أن يكون من أبي الزناد، أو ممن روى عن الإمام مالك عليه رحمة الله، وكذلك مما يؤيد أن الخبر هذا قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى وجاء بلفظ: «إذا شرب» .

وأن الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ولغ» أنه جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير طريق الإمام مالك عليه رحمة الله، فقد أخرج ابن المنذر من حديث عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا شرب» ، وعبد الرحمن بن أبي الزناد قد تابع الإمام مالك عليه رحمة الله هنا. وكذلك قد أخرجه أيضاً شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا شرب» مما يدل على أن الإمام مالك عليه رحمة الله لم يتفرد بطريقه بهذه اللفظة. وكذلك قد أخرج من غير طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة جاء عند ابن خزيمة وكذلك ابن المنذر من طريقين عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أنه قال: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم» فجاء بلفظ شرب. والذي يظهر والله أعلم أن قوله في أول هذا الخبر «إذا شرب» جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى، وأنه جاء على سبيل التجوّز لكي يفهم السامع، وكذلك لكي يتبادر إلى الذهن من أن المراد هو: الشرب وليس المراد أن يمس لسان الكلب الموضع، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أراد بذلك الخبر كما ذكرنا الولوغ. والولوغ لا يكون إلا بالسائل وأن الكلب إذا مس لسانه شئ من الجامدات ونحو ذلك أنه لا يغسل سبعاً ولا بالتراب، وإنما يُزال ذلك الموضع إن كان ذلك من الجامدات من سمن جامد ونحو ذلك، يزال ما مسه الكلب من لسانه ولا يقال بأنه يغسل سبعا ونحو ذلك، ثم يستعمل ذلك الشيء الذي مسه لسان الكلب. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ولغ الكلب» : والكلب هنا: هو دابة من السباع معروفة، وهذا الحكم خاص بالكلاب ولا يشمل سائر السباع عند عامة أهل العلم.

ولكنهم اختلفوا في الخنزير هل يغسل سبعاً ويكون حكمه كحكم الكلب كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ - ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الخنزير ليس حكمه كحكم الكلب، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خصص ذلك بالكلب ولم يطلقه، وإلا لو كان ذلك عام لقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا وُلِغ في إناء أحدكم» ، ولم يذكر الكلب بعينه. - وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخنزير يغسل سبعاً إحداهن بالتراب، وذلك لتعليلهم بقولهم أن الخنزير أشد نجاسة من الكلب، فيكون ذلك القياس من باب أولى، ولكن هذا لا يسلم؛ لأن تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - للكلب لحكمة، وكذلك تخصيصه لريقه لحكمة معلومة، ومعلوم أن ثمة أشياء هي من المستخبثات، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينص على ذلك العدد، ولم ينص على التراب إلا في الكلب مما يدل على أن الكلب له ميزة معلومة في علم الله جل وعلا من باب النجاسة، خص النبي - صلى الله عليه وسلم - إزالتها بالغسل سبعاً أولاهن بالتراب، كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

والكلب هنا يشمل جميع أنواع الكلاب، حتى ما رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - باقتنائه من كلب صيد أو ماشية أو حراسة ونحو ذلك , وقال بعض أهل العلم أنه يستثنى من ذلك ما رخص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من كلب الحراسة وكلب الصيد ونحو ذلك، وقالوا أن ذلك أولى بسماحة الإسلام، فإن الشارع الحكيم حينما أباح اقتناء الكلب، وهو الذي الأصل فيه أن من اقتناه قد كسب إثماً وذلك من محبطات الأعمال، فإنه حينئذ يغتفر النجاسة، كما غفر الله جل وعلا الذنب تغتفر النجاسة؛ لأنه مما تعم به البلوى فإن كلاب الحراسة وكلاب الصيد ونحو ذلك، تعم بمخالطتها البلوى فاغتفار نجاستها من باب الشارع الحكيم يدل على سماحة الإسلام، ولكن هذا القول ليس بمسلم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أطلق هذا القول ولم يقيده - صلى الله عليه وسلم - لا بكلب صيد ولا ماشية ولا غيرها مما خصصه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد تخصيص شئ لخصصها كما خصص كلاب الصيد وغيرها من الاستثناء، مما خصه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التحريم، وهذا هو الصحيح الذي تعضده الأدلة أن نجاسة الكلب عامة، وأن الأمر بالغسل عام لجميع أنواع الكلاب. وهل نجاسة الكلب في فمه وريقه أم في سائر جسده؟ ذهب جمهور أهل العلم من الشافعية والحنفية والحنابلة إلى أن نجاسة الكلب كاملة في جميع جسده، إلا أن الغسل سبعاً لا يكون إلا لما ولغ فيه الكلب، وسائر جسد الكلب يعتبر نجساً؛ وعللوا ذلك فقالوا: إذا كان ريق الكلب نجس، فإن الريق يخرج من باطن الكلب من أمعاءه ونحو ذلك، وهي ما ينبت منه جسد الحيوان فيدل ذلك على أنه ينبت من نجاسة.

وذهب الإمام مالك وداود الظاهري وهو قول للظاهرية عامة إلى أن نجاسة الكلب في فمه وريقه؛ وعللوا قالوا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل نجاسة الكلب إذا ولغ فحسب، مع أن مخالطة الكلب للناس ككلاب الحراسة وما أذن فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ولوغها في الآنية، ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء من الاحتراز الذي يزيل نجاسة الكلب في جسده ونحو ذلك , وهذا قول مردود فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إغفاله لذكر نجاسة جسد الكلب وهو مما تعم به البلوى، لا يعني أن جسد الكلب ليس بنجس، وإنما غاية ما يدل عليه ذلك، أن جسد الكلب وشعره أنه لا ينطبق عليه ولوغ الكلب فلا يغسل سبعاً ولا بالتراب، هذا غاية ما يفهم من نص النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي أن حكم نجاسة ريق الكلب ولعابه هي أشد من نجاسة جسده، هذا غاية ما يدل عليه النص الذي جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والغسل سبعاً واجب عند عامة أهل العلم، ولا يجزئ غسل لعاب الكلب أو الإناء الذي يلغ فيه الكلب بأقل من ذلك، ومن غسل أقل من ذلك فإنه لا يجزئه عند عامة الفقهاء عليهم رحمة الله. ولكنهم اختلفوا في غسلة التراب هل هي واجبة أم لا؟ فذهب الحنفية والمالكية إلى أن الواجب هو الغسل سبعاً، وأن غسلة التراب ليست بواجبة؛ وعللوا بتعليل قالوا: أن غسلة التراب قد اختلفت الروايات فيها وفي محلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مما يدل على عدم تأكيد الشارع عليها وإلا لضبطها الرواة.

وذهب جمهور أهل العلم وهو قولٌ للشافعي وللإمام أحمد عليهم رحمة الله، إلى أن غسلة التراب واجبة، وأن من غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً ولم يغسله بالتراب أن ذلك لا يجزئ عنه , واستدلوا بظاهر ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الخبر حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأن ذلك ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غبار عليه , وأن ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من اختلاف الرواة في ذكر موطن غسلة التراب أو الشك فيها، أن ذلك لا يعني عدم ثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكما أنها شك فيها بعض الرواة واضطرب فيها، فإن هناك من الرواة من ضبطها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأثبت محلها , وذلك معلوم عند من تأمل أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - وتأمل كذلك طرق حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وغيره من الأخبار التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غسل الإناء من ولوغ الكلب. وهذا هو القول الصحيح الذي يعضده ظاهر الأدلة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -من أن الغسلات السبع وغسلة التراب واجبة وأن من غسل الإناء بأقل من ذلك أو لم يغسله بالتراب أنه لا يجزئ عنه وهذا قد علم بالتجربة وكذلك قد علم عند أهل الطب أن للتراب مزية عن غيره من المنظفات وهذا لم يخصه النبي - صلى الله عليه وسلم -إلا لعلم من الغيب أخبره الله جل وعلا به {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} . قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم) : ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -هنا الإناء وخصص الولوغ به وذكرنا أن جماهير أهل العلم على أن الغسل لا يكون إلا في ولوغ الكلب في السائل وأنه إذا مس لسان الكلب شيئا من الجمادات أنه لا يغسل , ولكن أهل العلم اختلفوا في باقي جسد الكلب إذا غمس في الإناء ونحو ذلك.

فذهب جمهور أهل العلم الى أن جسد الكلب كيده ورجله وشعره إذا انغمس في إناء من ماء أو شراب غيره كلبن وعصير ونحو ذلك انه لا يغسل سبعاً. وإنما إذا كان الماء كثيراً ولم يتغير شئ من أوصافه فإنه حينئذ يبقى على طهوريته وإن تغير شئ من أوصافه فإنه حينئذ يكون نجساً. وذهب الشافعي عليه رحمة الله إلى أن الكلب أذنه وفمه ولعابه ورجله إذا انغمست في السائل أنه يغسل سبعاً إحداهن بالتراب وعمم ذلك الحكم , ولكن هذا لا يعضده الدليل فالذي جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -هو الولوغ في الإناء وهذا لا يكون إلا في السائل ولا يكون إلا من لسان الكلب وغيره من السباع وهذا خاص بالكلب تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم -له بقوله «إذا ولغ الكلب» فهنا تقييدات متعاقبة من النبي - صلى الله عليه وسلم -في هذا الخبر: أولاها: بقوله - صلى الله عليه وسلم - «إذا ولغ» خصص الولوغ وهذا عام ثم قال «الكلب» يخصص سائر السباع منها الكلب , وذلك يدل على أن الحكم خاص بالكلب لا يعمه إلى غيره من السباع. ثم قال - صلى الله عليه وسلم - «في إناء أحدكم» مما يدل على تخصيصه في الشراب وأن ذلك لا يكون في بقية جسد الكلب من أذنه أو غمس فمه من غير ولوغ ونحو ذلك أو غمس قدمه فإن ذلك لا يوجب الغسل سبعاً ولا يوجب الغسلة بالتراب لظاهر النص عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الخبر: (أولاهن بالتراب) : هذا هو الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أولاهن أو أخراهن فهو بالشك وليس بالتخيير شك عند بعض الرواة والصحيح أنه بأولاهن. قال المؤلف رحمه الله: وفي لفظ له (فليرقه) :

هذه اللفظة أخرجها الإمام مسلم عليه رحمة الله من حديث علي بن حجر عن علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي صالح وأبي رزين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وهذه اللفظة لفظة شاذة قد خالف فيها علي بن مسهر سائر أصحاب الأعمش الذين رووا هذا الخبر عنه. وعلي بن مسهر هو من الثقات وهو من المعروفين المشهورين بالرواية , وقد أخرج له الجماعة وغيرهم , وهو وإن كان من الثقات المعروفين إلا أنه خالف الثقات الحفاظ من أصحاب الأعمش عليه رحمة الله فإنهم لم يذكروا هذه الزيادة فقد رواه عن الأعمش جماعة منهم شعبة بن الحجاج وكذلك أبو معاوية كما عند الإمام أحمد عليه رحمة الله وإسماعيل بن زكريا عند الإمام مسلم وحماد بن أسامة عند ابن أبى شيبة ورواه ايضا غيرهم وشعبة وابو معاوية من أوثق الناس وأثبتهم في حديث الأعمش , وكذلك قد رواه جماعة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - من غير ذكر لفظه «فليرقه» وهذه الزيادة هي زيادة شاذة قد نص الحفاظ على شذوذها فقد قال الإمام النسائي عليه رحمة الله في سننه بشذوذها وقال: لا أعلم أحدا من الرواة وافق علي بن مسهر على هذه اللفظة يعني «فليرقه» ، وكذلك قال ذلك ابن عبد البر عليه رحمة فقال: وهذه اللفظة لم يأت بها أصحاب الأعمش الثقات الحفاظ كشعبه وغيره، وكذلك قد قال بشذوذها حمزة الكناني عليه رحمة الله وهو من الحفاظ النقاد فقال أنها غير محفوظة. واذا فهي زيادة شاذة لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة الرواية.

وبها استدل الذين يقولون بأن ولوغ الكلب في الإناء يدل على نجاسة الماء سواء كان كثيراً أو قليلاً وهذا قول ليس بصحيح من جهة اخذه من هذه الرواية وإن كان من جهة الغاية له وجه من الصحة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -حينما قال «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً» ، قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «فليغسله سبعاً» يدل على نجاسة الإناء فالإناء من أي شئ تنجس؟ تنجس من ذلك الماء الذي هو فيه فمعلوم أن الكلب ولغ في الماء وربما لم يمس الإناء بلسانه فالماء قد نقل النجاسة إلى الإناء فأصبح نجساً وأوجب الشارع غسله سبعاً ولكن هذه الزيادة تضمنت معنيين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: المعنى الأول: هو نجاسة هذا الماء مطلقاً سواء كان قليلاً أو كثيراً، وهذا لا يسلم إلا إذا كان الماء قليلاً قلة لا تدفع النجاسه, أما إذا كان كثيراً من الأواني الكبيرة ونحو ذلك التي يصعب أن ينتشر فيها لعاب الكلب فإنه حينئذ لا تنجس لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -قد أطلق كما تقدم معنا طهورية الماء إلا أن يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، أما إذا كان قليلاً كالأواني الصغيرة فإنها تنجس وإن لم يتغير شئ منها بنص النبي - صلى الله عليه وسلم -وأمره بغسل الإناء سبعاً. وتتضمن هذه الزيادة أمراً ثانياً: وهي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -بإراقة الماء وألا يستفاد منه بشيء وهذا لا يسلم لأن هذه الزيادة لا تصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -بل يشرع الاستفادة من الماء وعدم الإسراف فيه بإضافته إلى غيره فيتكاثر فتزول النجاسة بمكاثرة الماء , ولو قلنا بصحة هذه الزيادة لوجب وجوباً عدم الاستفادة من هذه الماء وأنه يجب إراقة الماء الذي ولغ فيه الكلب وهذه الزيادة لا تصح فالعمل بهذا الأمر لا يصح. قال المؤلف رحمه الله: وللترمذي: (أولاهن أو أخراهن بالتراب) :

إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم

هذه الرواية قد أخرجها الإمام الترمذي عليه رحمة الله قال حدثنا سوار عن المعتمر بن سليمان عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وهذه الرواية بالشك وليست للتخيير فقوله «أولاهن أو أخراهن» هي شك وليست بتخيير ويدل علي ذلك أن أصحاب ابن سيرين عليه رحمة الله قد رووا هذا الخبر عنه من غير الشك منهم هشام بن حسان وقتادة بن دعامة وحبيب بن الشهيد والأوزاعي وغيرهم من الحفاظ عليهم رحمة الله رووا عن ابن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - هذا الخبر ولم يشكوا فيه. والصحيح في هذه الرواية أنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -بأولاهن كما جاء عند الإمام مسلم عليه رحمة الله. 11- عن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الهرة: (إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم) . أخرجه الأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة. هذا الحديث قد أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وغيرهم من أهل العلم كلهم أخرجوه من حديث الإمام مالك بن انس عليه رحمة الله عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن زوجته حُميدة بنت عبيد بن رفاعة عن كبشة عن أبي قتادة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الحديث قد أعلّه بعض أهل العلم للجهالة في إسناده فقد أعلّه الحافظ ابن منده عليه رحمة الله تعالى فقال: لا يصح بوجه من الوجوه وأعلّه كذلك ابن عبد البر والبزار في مسنده فقال: لا يصح من جهة النقل. وكذلك قد أعلّه غيرهم من أهل العلم كابن دقيق العيد وابن التركماني عليهم رحمة الله.

ولكن إعلالهم للجهالة في إسناده مردود, فإن هذا الحديث وإن كان في إسناده شيء من الجهالة فإعلالهم بحُميدة بنت عبيد وكذلك بكبشة، فحُميدة بنت عبيد هي بالحاء المهمله المضمومة هكذا رواه سائر أصحاب الإمام مالك عليه رحمة الله ورواه يحي بن يحي الأندلسي عن الأمام مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن زوجته حَميدة فقال بفتح الحاء، وحَميدة أو حُميدة على الأشهر هي وإن كانت غير مشهورة بالرواية , إلا أنها قد روى عنها إسحاق بن أبي طلحة وهو من الثقات وكذلك قد روى عنها ابنها وقد وثقه ابن معين عليه رحمة الله وقد ذكرها ابن حبّان في كتابه الثقات. وهذا الخبر قد صححه جماعة من أهل العلم فقد قال الإمام الدارقطني عليه رحمة الله: رجاله ثقات معروفون , وحكى النووي عن البيهقي تصحيح هذا الخبر وكذلك قد قال الإمام الترمذي عليه رحمة الله: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: قد جوّد مالك هذا الحديث وروايته أصح من رواية غيره.

وهذا الحديث قد صححه غيرهم من أهل العلم من المتأخرين كالإمام النووي وغيره من المتأخرين، فإعلاله بحُميدة لجهالتها غير مسلّم فإن تضعيف الأحاديث للجهالة مطلقاً ليس من منهج الحفاظ عليهم رحمة الله، والإمام أحمد وابن المديني والبخاري ومسلم والدارقطني يصححون بعض الأحاديث إذا كان في إسنادها مجاهيل إذا احتفت القرائن ودلّت على ضبط هذه الرواية فحُميدة على الأشهر أو حَميدة كما قال يحي بن يحي الأندلسي قد روت هذا الحديث عن كبشة، وكبشة هي زوجة أبي قتادة - رضي الله عنه - قد قال ابن حبّان عليه رحمة الله بصحبتها وذكرها في الصحابة في كتابه الثقات , وكذلك قد ذكرها في التابعين ولعله تراجع وهو احسن ما يحمل عليه واولى من القول باضطرابه وقد قال بعضهم أنه قد تراجع عن صحبتها وقال أنها من التابعين، وعلى كل فهي في طبقة متقدمة وإعلال الخبر بجهالتها غير مسلّم ولذا فإن الحفاظ عليهم رحمة الله قد مالوا إلى تقوية هذا الخبر كالإمام الدارقطني وكذلك البخاري بقوله: قد جوّد مالك هذا الحديث وروايته أصح من رواية غيره , مما يدل على استقامة متن هذا الحديث، وكذلك أنه قد جاء في قصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -وهذا من القرائن التي يقبل فيها حديث الرواة سواء كانوا مجاهيل أو كانوا خفيفي الضبط فإنه حينئذ تقبل روايتهم إن احتفت القرائن بها.

وكذلك فإن الحفاظ عليهم رحمة الله يتسامحون في رواية النساء إذا كن من طبقة متقدمة لذلك يقول الإمام الذهبي عليه رحمة الله: لا يعرف في النساء متهمة ولا متروكة، أي من جهة الرواية وإنما سائر النساء أو أكثر النساء التي يأتين في الروايات إنما هن في عداد المجاهيل وفي عداد المستورين ولا يعرف امرأة هي في عداد الكذابين أو في عداد المتروكين وهذا من القرائن التي يقبل فيها الخبر , ولا يطلق قبول رواية النساء مطلقاً ولكن إذا احتفت القرائن بأحاديث المجاهيل ومنهم النساء فإن الحفاظ عليهم رحمة الله يقبلونها, ومنها هذا الحديث فإنه حديث مستقيم وقد اختفت القرائن به , منها أن رواته من المستورات من النساء ممن روين عن طبقة متقدمة , وكذلك قد جاء في قصة مما يدل على ضبط الناقل لها. وكذلك يعتضد بتصحيح الحفاظ وكذلك توثيقهم لرواته كما قال الإمام الدارقطني عليه رحمة الله: رجاله ثقات معروفون , وهو يعلم أن في إسناده حميدة وكذلك كبشة عن أبي قتادة - رضي الله عنه -. وهذا الخبر قد أخرجه ابن خزيمة وابن حبّان وهما لا يخرجان إلا الصحيح عندهما في صحيحهما عليهما رحمة الله. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنها ليست بخس) : النجس: هنا هو من النجاسة ويقابله الطهارة , فيدل على أن الهرة وما في حكمها في عداد الطاهرات , والهرة هي:دابة صغيرة من فصيلة السنور , ويدخل في حكمها ما عمت به البلوى مما هو في حجمها. واختلف أهل العلم هل مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا بعدم نجاسة الهرة هل هو لخلقتها لحجمها أو لأنه عمت بها البلوى فكانت من الطوافين؟ فذهب جمهور أهل العلم إلى أنها مما تعم بها البلوى وأنها من الطوافين ولذلك نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك بقوله إنها من الطوافين عليكم.

وذهب الحنابلة وبعض اهل العلم إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد كلا الأمرين وأن ترخيص النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون للهرة وما في حكمها مما هو في خلقتها مما هو ليس بنجس بنص النبي - صلى الله عليه وسلم - أو اشتهرت وثبتت نجاسته وما تعم به البلوى. فعلى قول جماهير اهل العلم إن إباحة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتيسيره لأمر الهرة بسبب عموم البلوى وأنها من الطوافين يدخل في ذلك ما كان أعظم منها لاشتراك العلة كالحمار والبغل لأنها مما تعم به البلوى ويخالط الناس. والعلة التي يذكرها أهل الأصول في مصنفاتهم يقسمونها إلى قسمين: علة منصوصة - وعلة مستنبطة والعلة المنصوصة: التي ينص النبي - صلى الله عليه وسلم - بها عند ذكر حكم من الأحكام. والعلة المستنبطة: هي التي يجتهد فيها العالم ويقيس عليها. فإذا كان الإعلال من النبي - صلى الله عليه وسلم - منصوصاً فإنه حينئذ لا خلاف في القياس إلا عند من نفاه من الظاهرية كابن حزم وغيره أما إذا كانت العلة مستنبطة فإنه حينئذ لا يقاس عليها إلا لقرينة ظاهرة تؤيد هذا الاستنباط للعلة , فالعلة هنا في الترخيص في الهره وتطهيرها بحكم النبي عليه الصلاة السلام عليها بأنها ليست بنجس هل هي علة مستنبطة أم علة منصوصة؟ هي علة منصوصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والعلة هنا قوله عليه الصلاة السلام «إنها من الطوافين عليكم» فهذه هي العلة التي جعل النبي عليه الصلاة السلام الهرة ليست بنجس.

ولا ينبغي التوسع في باب العلة المستنبطة , لأن الشارع الحكيم كثيراً ما يذكر الأحكام فيستنبط العلماء من الفقهاء وغيرهم من نص النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقيسون عليها غيرها وحينئذ يقعون فيما يخالف الشرع وذلك بتقدم العصور وكذلك بتنوع حاجات الناس ومن تأمل كثيراً من الأحكام التي يقيس فيها أهل الرأي العلة المستنبطة على غيرها يتوسعون في ذلك ويقعون فيما يخالف النبي - صلى الله عليه وسلم -. فعلى سبيل المثال تحريم الذهب والفضة جاء عن الشارع الحكيم التحريم بنص صريح بالنسبة للرجال , وما العلة في ذلك؟ لم تأتي علة منصوصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن العلة مستنبطة اختلفت باختلاف أفهام العلماء عليهم رحمة الله , فمنهم من قال أن العلة من تحريم الذهب والفضة هي حاجة الناس للنقدين من الذهب والفضة فإذا استعمل الرجال حلي الذهب بلبسهم واستعملوه في أكلهم وطعامهم وشرابهم فإن الناس يفتقرون إلى النقدين من الذهب والفضة، وقال بذلك بعض العلماء فلو قيل بأن هذه العلة مسلّمة فإنها في وقتنا لا يمكن أن يقال بأن هذه العلة هي العلة التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - لاجلها، ففي وقتنا الناس ليسوا بحاجة إلى النقدين الذهب والفضة من جهة المعاملة البيع والشراء فحينئذ فالحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً , فهل يقال هنا أن الذهب والفضة مباح لبسه بالنسبة للرجال والأكل فيه والشرب منه؟ لا شك أن ذلك لا يقال وحينئذ يعلم فساد العلة المستنبطة التي قال بها هؤلاء من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما نهى عن استعمال آنية الذهب والفضة لأجل حاجة الناس إلى النقدين وهذا يعلم بتقادم الوقت أو تغير الأعصار وكذلك يختلف من إمام إلى إمام.

والذي ينبغي ان يعلم هنا أن النصوص التي تأتي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينبغي فيها أن يسلم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال به، وإن استنبط العلماء العلة من قوله - صلى الله عليه وسلم - من تحليل أو تحريم فإنهم يستنبطونها لبيان الحكمة التي جاءت عن النبي عليه الصلاة السلام لاطمئنان النفس وأنه لا يشرع إلا ما فيه مصلحة للناس ولا ينهى إلا ما فيه مفسدة للناس فإنه حينئذ يعلم الناس حكمة الشارع الحكيم ولكن لا يقاس عليها ولا يقطع بأن هذه العلة هي التي أرادها النبي عليه الصلاة السلام مالم تكن العلة منصوصة او ظاهرة ظهورا بينا لقرينة ونحو ذلك. فالشارع الحكيم قد يأتي عنه أمور كثيرة من أوامر ونواهي لكن العلة تكون خافية وإذا كانت منصوصة فإنه حينئذ لا كلام لأحد والعلة منصوصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في هذا الحديث بقوله (من الطوافين) أما إذا كانت مستنبطة ليس لأحد أن يقيس عليها غيرها فإنه حينئذ ما فسد كثير من أهل الرأي إلا لأجل أقيستهم في هذا الباب من أنواع العلة. وبالنسبة للهرة وما في حكمها فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر العلة ونص عليها وهي قوله - صلى الله عليه وسلم - «إنما هي من الطوّافين عليكم» . (والطوّافين) : الطوّاف: هو ما يكثر الدخول والخروج ويكثر الذهاب والإياب والغدو والرواح , فإنه يسمّى من الطوافين والطواف، ولذلك يسمى الطواف طوافا لكثرة الذهاب والمجيء فيه.

جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد

وكذلك يطلق على السعي بين الصفا والمروة طوافا من جهة اللغة , وكذلك قد جاء في بعض ألفاظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي بعض ألفاظ السلف الصالح إطلاق طواف على السعي بين الصفا والمروة لأن فيه ذهاب وإياب فيسمى طواف وكذلك إطلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه العلة ونصه عليها يقاس لأجل هذه العلة ما في حكم الهرة من الدواب من الطوافين كالحمار والبغل وغيرهما من الدواب كالخيل ونحو ذلك مما تعم بها البلوى , لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نص على هذه العلة فلا بأس من القياس في مثل هذه الحالة. 12-: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى بوله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء فأهريق عليه. متفق عليه هذا الحديث قد أخرجه البخاري ومسلم من طرق متعددة وقد أخرجاه أيضاً من طريق حماد عن ثابت عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وهذا الحديث هو من المهمات في باب الطهارة. قول انس بن مالك - رضي الله عنه - (جاء أعرابي) : الأعرابي: هو من سكن البادية سواء كان عربياً أو عجمياً.فساكن البادية حتى وإن كان أعجميا فيسمى اعرابيا، وكلمة أعرابي لا مفرد لها من لفظها وإنما يفرق أهل العلم بين الجمع والمفرد بإضافة ياء النسبة في آخره فيقال أعراب للجمع وأعرابي بإضافة الياء للفرد. وقوله (جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد) : البول:هو أحد الخارج من السبيلين وهو نجس بإجماع أهل العلم ولا خلاف في ذلك. والبول في المسجد من المحرمات بالإجماع ولكن اختلف أهل العلم في البول في المسجد في الإناء إذا كان لدى شخص إناء وهو في المسجد هل له أن يبول فيه؟

ذهب جمهور أهل العلم إلى حرمة ذلك وهو قول للحنابلة وهو مذهب الحنفية والمالكية ومذهب للشافعية وذهب بعض الشافعية إلى جواز البول في المسجد في الإناء , وقالوا أن النهي جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبول في أرض المسجد , وأما البول في الإناء فلا بأس به وقاسوه على أمور كثيرة من حجامة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ولا يصح خبر الحجامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد وكذلك استدلوا بمبيت سعد بن معاذ - رضي الله عنه - وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نصب له خيمة في المسجد وهذا لا دليل فيه لأنه ليس فيه نص أن سعد بن معاذ - رضي الله عنه - يبول في إناء في المسجد فيبقي المسجد على تعظيمه فإنه يحرم أن يبال فيه. وقد أخرج مسلم في هذا الخبر من طريق عكرمة بن عمار عن اسحق عن انس ان النبي صلى الله عليه وسلم دعا الاعرابي بعد بوله فقال له: ان هذه المساجد لا تلح لشيء من هذا البول ولا القذر وانما هي لذكر الله. وهذا يدل على تنزيه المساجد عن البول مطلقا في ارضه او في اناء على ارضه، وكذلك نهى الشارع عن قرب المسجد برائحة البصل والثوم فكيف برائحة البول وكذلك اختلف أهل العلم فيما عدا البول في المسجد من الريح هل يجوز إخراج ريح في المسجد بالاختيار أم لا؟ ذهب جمهور أهل العلم إلى عدم جواز ذلك وأن من وجد فيه ريحا فإنه يخرج خارج المسجد، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك لأنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل يمنع وأن الأصل الجواز، وذهب من منع قالوا: أن حكم فضاء المسجد وهواءه كحكم أرضه ولذا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جاء عنه النهي بدخول المسجد لمن أكل ثوما أو بصلا وما في حكمها من الروائح الكريهة وهذا قياس عليها فهي من باب أولى. وقوله هنا: (المسجد) :

المسجد هنا: هو ما بني وقد أوقفت أرضه لله تعالى للصلاة. أما ما لم توقف أرضه للصلاة كبناء ونحو ذلك الذي ليس بدائم فإنه لا يسمى مسجداً وإنما يسمى مصلى ليس له حكم المسجد من تحية المسجد وغيرها. أما من جهة البول فإنه يحرم البول سواء في المصلى أو في المسجد لأنه موطن للصلاة ,. وقوله هنا: (فزجره الناس) : الزجر:هو من النهر والطرد والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينهَ هنا عن نهيهم وإنما نهى عن زجرهم وهذا من الحكمة في الدعوة ومما أوتيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخلق الحسن ولذا امتن الله جل وعلا على نبيه بذلك في قوله {وإنك لعلى خلق عظيم} . وهذا من مواطن الحكمة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فالنبي عليه الصلاة السلام قد قدم هنا مفسدة صغرى على مفسدة كبرى , فإن هذا الأعرابي قد جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فربما يكون حديث عهد بإسلام فإنه حينئذ قد يكون زجره مبعداً له عن الإسلام وقد يكون هذا الأعرابي قد بال وتكاثر بوله فإنه حينئذ إذا حمل فإن البول سينتشر والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن ذلك وتركوه حتى قضى حاجته لكي لا ينتشر البول وهذه من حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونظره - صلى الله عليه وسلم - للغايات والوسائل معا. …وبول الرجل سواء في المسجد أو غيره يطهره الماء بمكاثرة الماء عليه كما في هذا الخبر , وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يحفر مكان البول ويرمى ثم يضاف ذنوب من ماء , واستدلوا لذلك بحديث ضعيف يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ما أخرجه أبو داود من حديث جرير بن حازم عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن معقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو خبر لا يصح قال فيه الإمام أحمد: هذا حديث منكر، وكذلك فإن ابن معقل لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال ذلك أبو داود عليه رحمة الله , وقد أخرج هذا الخبر الدارقطني في سننه من غير هذا الوجه.

أحلت لنا ميتتان ودمان

ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إخراج ما بال عليه الأعرابي. وإنما الصحيح أن يصب على البول ماء من غير إخراج التراب الذي قد بال الرجل عليه , وذلك يدل على أن الماء يطهر النجاسة بالمكاثرة ولذا النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأن يصب عليه ذنوب من ماء. الذنوب: هو الدلو الكبير , يسمى ذنوباً لعظم حجمه , فبقدر البول يكون قدر الماء الذي يصب عليه فإذا كان قليلاً يصب ماء قليل أكثر من البول فإنه حينئذ تزول نجاسة البول. 13-: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالجراد والحوت، وأما الدمان فالطحال والكبد)) أخرجه أحمد وابن ماجه وفيه ضعف. هذا الحديث قد أخرجه الإمام أحمد وكذا ابن ماجه وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه زيد بن سلم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -. وهو معلول بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف عند عامة أهل العلم , فقد ضعفه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وعلي بن المديني ويحي بن معين وغيرهم , وقد سأل أبو حاتم الإمام أحمد عليه رحمة الله عن ولد زيد بن اسلم أيهما أحب إليك، فقال: أسامة قال ثم من قال: عبد الله. ثم ذكر عبد الرحمن وضجع في عبد الرحمن عليه رحمة الله. وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم راوي هذا الخبر عند الإمام أحمد وابن ماجة وغيرهما ضعيف عند عامة أهل العلم عليهم رحمة الله فقد قال فيه ابن معين: ليس بشيء وقال فيه أبو داود: أولاد زيد بن أسلم كلهم ضعيف. وأولاد زيد بن أسلم هم عبد الرحمن وعبد الله وأسامة أبناء زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو وإخوانه قد تفردوا برواية هذا الخبر مرفوعاً عن النبي علية الصلاة والسلام أي مسنداً إليه.

فقد أخرجه الدراقطني وأخرجه ابن عدي والبيهقى من حديث إسماعيل بن أبي أويس عن عبد الرحمن وعبد الله وأسامة عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنداً , وهذا طريق البيهقي وابن عدي. أما الدراقطني فذكر عبد الله وعبد الرحمن فحسب وتفرد أبناء زيد بن أسلم في هذا الخبر وهم ضعفاء وفيه مخالفة للثقات , فقد جاء موقوفاً عن عبد الله بن عمر من حديث عبد الله بن وهب عليه رحمة الله عن سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر من قوله - رضي الله عنه -. وهذا هو الصحيح الذي رجحه الحفاظ فقد رجح الوقف أبو حاتم والدارقطني , وأبو زرعة والبيهقي والحاكم وكذلك من المتأخرين الحافظ ابن القيم عليه رحمة الله وله حكم الرفع , وقد قال ذلك البيهقي عليه رحمة الله أنه في حكم المسند عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الصحابي إذا قال أحلت لنا أو أحل لنا أو أمرنا أو نهينا فكان ذلك الأمر أو النهي من اختصاص الشارع الحكيم فإنه حينئذ يكون في حكم الرفع. أما إذا كان ما يختص به الشارع ويختص به غير الشارع فإنه حينئذ اختلف في ذلك وقد ذكره أهل الأصول , لكن الصحيح أنه إذا قال الصحابي - رضي الله عنه - أمرنا أو نهينا عن كذا فإنه مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مالم يتضمن قرينة تدل على غير الرفع كتأخر صحابي أو كون الامر دلت روايات على أخرى على انه من احد الخلفاء أو المامور به لم يرد النص فيه من الشارع ونحو ذلك.

وهذا الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكمه حكم الرفع أما من جهة الرواية فإنه لا يصح مسنداً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وإن كان قد جاء عند الحافظ ابن عدي عليه رحمة الله من حديث يحي بن حسان عن سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء يحي بن حسان متابعاً لأبناء زيد بن أسلم متابعة قاصرة إلا أنه قد خالف الحافظ عبد الله بن وهب وهو من أصحاب الإمام مالك ومن كبار الحفاظ ومن كبار الرواة الثقات، ورواية عبد الله بن وهب لاشك أنها أثبت وأصح لجلالته وحفظه ولا يقابله أمثال هؤلاء الضعفاء الذين يروون الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله (أحلت لنا) : أحلت: مأخوذة من الحلال والمراد به الإباحة. والتحليل والتحريم هو من اختصاص الشارع الحكيم. فليس لأحد أن يحل أو يحرم إلا الشارع الحكيم. وقوله (ميتتان) : مفردها: ميته وفيه لغتان ميت بتسكين الياء وميّت بتشديدها، فما تحقق موته تجوز فيه اللغتان، وما لم يمت تشدد يائه، وقال بعضهم بتساوي اللفظين، وقد أنشد بعضهم: أيا سائلي تفسير ميْت وميّت فدونك قد فسرت ما عنه تسأل فما كان ذا روح فذلك ميّت وما الميْت إلا من إلى القبر يحمل والأصل في الميتة أنها محرمة إذا كانت ميتة البر وأما ميتة البحر فالأصل فيها الإباحة. والنبي علية الصلاة والسلام أشار إلى ذلك في هذا الخبر من قوله (أحلت لنا) إن صح مرفوعاً أو من قوله عبد الله بن عمر وهو موقوف عليه - رضي الله عنه -. قوله (أحلت لنا ميتتان ودمان) :

إشارة إلى أن الأصل التحريم في الميتة والميتة التي حرمها الله سبحانه وتعالى هي ميتة البر بإطلاق وأباح الله جلا وعلا ميتة البحر مطلقاً. فالنوعان اللذان استثناهما الله تعالى من الميتة هما ميتة البحر وذكرنا هذه المسائل في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو أول حديث في كتاب بلوغ المرام «هو الطهور ماءه الحل ميتته» تكلمنا على ذلك بالتفصيل وخلاف أهل العلم وقررنا أن ميتة البحر هي حل عند جماهير أهل العلم , وما استثني من ذلك فلا دليل عليه وأنه باقي على الأصل فيه، فإما أن يكون من ميتة البحر فإنه حلال مباح وإنا كان من ميتة البر فإنه حينئذ يعد محرماً وما كان بينهما أي ليس من ميتة البر ولا من ميتة البحر فإنه يبقى على أصله من الإباحة , إن كان مستخبثاً حرم لاستخباثه وإن كان ذو ناب فإنه يحرم لأنه من ذي الناب الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -. النوع الثاني: من أنواع الميتة (الجراد) وهذا بإجماع أهل العلم ولا يعلم في ذلك مخالف إلا ما جاء عن الليث بن سعد وابن العربي وهو متأخر عليهم رحمة الله فقال الليث بتحريمه وهو قول غريب جداً لا أعلم من وافقه عليه ولا يليق بمكانته في العلم هذا القول الشاذ وقد قال الحافظ ابن حجر في كتاب له في ترجمة الليث سماه الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية قال: لقد تتبعت كتب الخلاف كثيرا فلم اقف على مسالة واحدة انفرد بها الليث عن الائمة من الصحابة والتابعين الا في هذه المسالة. او كما قال الحافظ رحمه الله. وقد قال ابن العربي: جراد الحجاز حلال وجراد الاندلس حرام وهو غريب جدا , وهذا قول مخالف لإجماع أهل العلم فإن الجراد واحد وإباحته مطلقة من الشارع الحكيم. وقوله هنا (وأحل لنا دمان) : دمان مفرده الدم , والمراد بالدم هنا هو: الحيوان الذي له نفس سائلة , وليس المراد به هنا الدم الذي يجري في العروق.

إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء

ومعلوم أن الدواب إما أن تكون لها نفس سائلة كبهيمة الأنعام وإما أن تكون ليس لها نفس سائلة كسائر الحشرات ونحو ذلك. فقوله هنا (أحل لنا دمان) وذكر النوع الأول: وهو (الكبد) فهي مباحة بإجماع أهل العلم ولم يخالف في ذلك أحد منهم. (والطحال) كذلك قد أجمع العلماء على إباحته ولا يعلم مخالف في ذلك. ******************************* 14- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء)) . أخرجه البخاري، وأبو داود وزاد (وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء) . هذا الحديث قد أخرجه البخاري عليه رحمه الله، فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عتبة بن مسلم عن عبيد بن حنين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله في هذا الحديث (إذا وقع الذباب) : الذباب: مفرد وجمعه ذبان , وقول العوام في جمعه ذباب ومفرده ذبّانه وهذا مخالف وإن كان قديماً وقد حكى مخالفة ذلك أبوحاتم السجستاني عليه رحمة الله , وإلا فالصحيح أن الذباب هو المفرد. والذبان هو الجمع وقد قال بعكس ذلك البعض، وأما ذبانه فليست بفصيحة. قال ابن بطال وغيره أن الذباب سمي ذباب لأنه يذب عن الطعام ثم يعود إليه، يذب لاستقذاره. والذباب ليس من النجاسات. فقد أجمع أهل العلم على أن كلّ ما ليس له نفس سائلة إذا وقع في شراب أو في طعام أنه لا ينجس , ولم يخالف في ذلك إلا رواية حكاها الربيع بن سليمان المرادي عن الشافعي عليه رحمة الله أنه إذا وقع شئ من الحشرات مما لا نفس له سائله في شراب أو طعام أو نحو ذلك أنه ينجس وقد حكى الإجماع على خلاف ذلك وأن كلّ ما لا نفس له سائله لا ينجس ما وقع فيه وأن الأصل فيها أنها طاهرة.

وخصص الشارع مما لا نفس له سائله هنا الذباب بحكم من الأحكام وهو أنه إذا وقع في شراب أحدكم وجاء في رواية (إناء أحدكم) وجاء في رواية أخرى خارج الصحيح إذا وقع في (طعام أحدكم) , وليس المراد في قوله في شراب أحدكم ليس المراد به السائل فحسب ولكنه يعم الطعام وكذلك يعم جميع المشروبات والمطعومات لأن هذا من التعليل الوارد في هذا الحديث يشمل الشراب والطعام لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) وفي رواية (دواء) وهذا يشمل وقوعه في السائل ووقوعه في الطعام. وقوله - صلى الله عليه وسلم - (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه) : والغمس هنا واجب وهذا هو الظاهر من النص أنه يجب على من وقع في إنائه ذباب أن يغمسه وعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلة منصوصة في قوله - صلى الله عليه وسلم - (فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء) وهذا من علم الغيب الذي أوحاه الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإن الذباب إذا وقع في الإناء فإنه أول ما يقع على جناحه الذي فيه الداء لكي يحتفظ بجناحه الذي فيه الدواء لبقية حياته إن لم يغمس فإنه إذا غمس فإنه في الغالب أنه يموت فيغمس حينئذ جناحه الذي فيه الدواء فيعالج هذا بهذا ولا يكون حينئذ شئ من الداء الذي وضعه الذباب حينما وقع في الإناء. وقسم أهل العلم الحيوان إلى قسمين: الأول: ماله نفس سائله. والمراد بالنفس السائلة هو الدم الذي يسري في العروق. وهذا ميتتة نجسة بإجماع أهل العلم ويأتي تفصيل هذا باذن الله في الاطعمه.

الثاني: ما ليس له نفس سائلة: أي ليس له دم في عروقه كسائر الحشرات من ذباب وما في أنواعه كنحل وجراد وغير ذلك فإنه إذا مات فإن ميتته طاهرة , فإن مالا نفس له سائله إذامات لايتعفن ولاتحصل منه رائحة نجسة كريهة , بخلاف ماله نفس سائله فإنه حينئذ يتعفن ويكون له رائحة خبيثة ورائحة نتنة ولذا حرم الشارع أكله وبين أنه من النجاسات لأنه يتنجس ويتعفن بوجود ذلك الدم المحبوس فيه لأنه لم يزهق. حينئذ تعلم الحكمة التي أخذ منها النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم وهو أنه إذا وقع الذباب في إناء أحدكم أن يغمسه ثم ينزعه، ولو كان نجساً بكامله فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بغمسه وإنما قال بنزعه وإخراجه. وقد قال بعض أهل العلم أن الذباب إذا وقع في الإناء ولم يكن الذي وقع فيه شراب أنه يغمس ثم يخرج ما حوله من الطعام وهذا لا دليل عليه ويخالفه طاهر النص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نظير ما تقدم معنا في حديث بول الأعرابي الذي بال في المسجد فإنه رغم بوله إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بمكاثرة الماء عليه فلم يأمر بحمل ما بال عليه من التراب ونحو ذلك , وهذا الخبر نظير له فيلزم فيهما الوقوف على النص, فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخبر أن الذباب في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء أمر بغمسه كاملاً وهذا أمر يجب امتثاله. وقد طعن بعض من لا فقه له ممن أعرض عن دين الله عز وجل من معتزلة العصر وغيرهم في هذا الخبر وطعنوا في حديث أبي هريرة رضوان الله تعالى عليه وهذا لجهلهم فإن هذا الحديث لم ينفرد به أبو هريرة رضوان الله تعالى عليه. فقد جاء من حديث أبي سعيد الخدري كما أخرجه الإمام النسائي وغيره فقد أخرجه من حديث ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصححه بعض أهل العلم.

وكذلك روي من حديث انس بن مالك ولا مجال للطعن في هذا الحديث في أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ انفرد فكيف إذا رواه جماعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وقد طعن في ذلك أبو ريّة في كتاب له سماه " أضواء على السنة النبوية" ورد عليه العلامّة عبد الرحمن بن يحي المعلّمي في كتابه " الأنوار الكاشفة" 0. فقد عقب عليه بأصول علمية من أصول الشرع وأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم ثقات عدول بتوثيق الله جلّ وعلا لهم وأن ذلك وحي من الله سبحانه وتعالى أوحاه الى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا مجال للعقل أن يختار ما شاء من وحي الله جل وعلا وأن يرد ما شاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: وأبو داود وزاد (وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء) : هذه الزيادة التي أخرجها الإمام أحمد ومن طريقه أبو داود قال ابو داود حدثنا أحمد بن حنبل عن بشر بن المفضل عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبى هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن حبان من طريق شيخه ابن خزيمه عن بشر به وسعيد المقبري هو من الرواة المشهورين وهذا الطريق طريق حسن لحال محمد بن عجلان فإن أحاديثه مستقيمة وفي عداد الأحاديث الحسنة , وسعيد المقبري سمى المقبري لأنه يسكن في مقبرة كما قيل , وقالوا أن العرب كانوا قديماً يسكنون في جوار المقابر. وقيل أنه في دار كل رجل منهم أو في كل أسرة منهم في فنائهم مقبرة لموتاهم ولذلك يقول الشاعر لكل أناس مقبر بفنائهم فهم ينقصون والقبور تزيد ولذلك سمى المقبري بهذا الاسم وهو راويه عن أبي هريرة وقد أخرج له الجماعة وغيرهم عليه رحمة الله تعالى. وقوله هنا (فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء) :

ما قطع من البهيمة وهي حيه فهو ميت

وهذا من علم الله سبحانه وتعالى الذي أوحاه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يقول ذلك من تلقاء نفسه فإن الإنسان بعقله وطبيعته لا يمكن أن يدرك ذلك وخاصة ممن هو في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - فالنبي صلى الله عليه وسلم كل قوله وفعله وتقريره تشريع ودين إلا ما دل الدليل عليه من قوله وفعله أنه قاله أو فعله عادة في وقته أو دلت قرينة الحال على ذلك وإن لم ينص عليه. *********************** 15- عن أبي واقد الليثي رضى الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (ما قطع من البهيمة وهي حيَّه فهو ميِّت) . أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه واللفظ له. هذا الحديث أخرجه ابو داود والترمذي وكذا البيهقي وابن الجارود في كتابه المنتقى وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي واقد الليثي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وسبب هذا الخبر أن النبي عليه الصلاة السلام لما قدم المدينة وجد أهلها يقطعون أسنِمة الإبل وهي حية ويقطعون إليّة الغنم وهي حيّة ليستفيدوا من دهنها , وأن أسنمة الإبل وإلية الغنم إذا قطعت تنبت إذا لم تقطع من أصلها, فهم يستفيدون من ذلك فحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وأخبر أن ما أبين من الحي فهو ميّت وهذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - رأفة ورفقاً بالحيوان أولاً وكذلك تجنيب للإنسان أكل الميتة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله هنا (ما أبين من البهيمة) : البهيمة: هنا هي ذوات الأربع وذلك لغلبة ما يصنعه العرب في ذلك الوقت. لذا خص النبي - صلى الله عليه وسلم - البهيمة لأن البهيمة غالباً ما تطلق على بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم وإلا فان البهيمة في اللغة تشمل سائر ما مشى على الأربع حتى وإن لم يكن من الإبل والبقر والغنم وتسمى بهيمة: لبهمها وأنها لا تتكلم. …وقوله (ما ُأبين) :

أي ما قطع من البهيمة وهي حيّه فهو ميّت. وهذا بإجماع أهل العلم ولم يخالف في ذلك أحد منهم ولكن أهل العلم استثنوا من هذه الحالة صورتان. الصورة الأولى: مسك الغزال إذا أبين من الغزال وهو حي فإنه طاهر ويجوز استعماله بإجماع أهل العلم وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد. الصورة الثانية: ما ند من البهائم وصعب حبسه. فإن كان جمل أو ناقة استوحش وصعب على أهله حبسه ثم ضربوه فقطع سنامه أو قطعة رجله أو نحو ذلك فإن ما قطع منه حينئذ يعتبر مباح الأكل بشرط أنه إذا قبض على تلك الناقة أو ذلك الجمل أنه يذبح ولا يترك حيّاً لأن ما قطع مرتبط بأصله من ذلك الحيوان وهذا مجمع عليه كذلك عند أهل العلم وهذا خاص في البهائم. أما ما أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل الميتة منه في الأصل، فإنه ما قطع يعد طاهراً ولا يعد من الميتة التي يحرم أكلها كالسمك فما قطع من السمك وهو حي ولم يمسك ويصاد فإنه حينئذ يعد مباحاً ويعد كذلك طاهر يجوز أكله , وكذلك الجراد فإنه إذا قطع منه شيء وهو حي ولم يمسك فإنه حينئذ يجوز أكله لأنه ميتته في الأصل مباحة وليست محرّمة فاستثنى أهل العلم هذه الأحوال ولا يعلم مخالف في هذه المسألة والله أعلم. يتبع بقية الشرح بإذن الله

§1/1