غاية المقصود فى الرد على النصارى واليهود

السموأل بن يحيى المغربي

ـ[غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود]ـ المؤلف: السموأل بن يحيى بن عباس المغربي (المتوفى: نحو 570هـ) تحقيق ودراسة: د. إمام حنفي سيد عبد الله الناشر: دار الآفاق العربية - القاهرة الطبعة: الأولى 1427 هـ - 2006 م عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

مقدمة

مقدمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أما بعد حمد الله على ما ألهم من الهداية وعصم عنه من الغواية، والصلاة على محمد، خاتم النبيين، وعلى آله الطاهرين، فإن سبيل من فضل من العباد بالفطانة والرشاد أن يجد في البحث عن أحوال المعاد، والتأمل لما أخذه من الآباء والأجداد بعين الامتحان والانتقاد، فإن رآه فضيلة سمَا لإدراكها، وإن ألفها رزيلة نجا من أشراكها، ليحصى حقائبه بطانًا من الزاد، فإن هاتف الموت بالمرصاد، ولن تحمد العقبى مضيع في تحصين شرعه، وموزع مواقيته على ما ينقاد إليه بطبعه، ولن يظفر بضالة الحق إلا ناشدوها، ولن يبهرج الأباطيل على أنفسهم إلا مفسدوها. الغرض الأقصى من إنشاء هذه الكلمة الرد على أهل اللجاج والعناد، بأن نظهر ما يعتور كلمتهم من الفساد، على أن الأئمة - ضوعف ثوابهم - قد انتدبوا قبلي لذلك، وسلكوا في مناظرة اليهود أنواع المسالك، إلا أن أكثر ما نوظروا به يكادون لا يفقهونه، ولا يلتزمونه.

إلزام اليهود الفسخ في الشرائع

وقد جعل الله إلى إفحامهم طريقًا، مما يتداولونه في أيديهم من نص توراتهم، وعماهم الله عنه عند تبديلهم، ليكون حجة عليهم موجودة فى أيديهم. إلزام اليهود الفسخ في الشرائع وهذا أول ما أبتدئ من إلزامهم النسخ من نصِّ كتابهم ومما تقتضيه أصولهم. نقول لهم: هل كان قبل نزول التوراة شرعٌ أم لا؟ فإن جحدوا كذبوا بما نطق به الجزء الثاني من السفر الأول من التوراة، إذ شرع الله على نوح، عليه السلام، القصاص في القتلى ذلك قوله تعالى: "شوفيخ ذام هاء إذام باء اذام دامو يشافيخ كى يصيلم ألوهيم عاساات ها اذام " .. تفسيره: سافك. دم الإنسان، فليحكم بسفك دمهِ، لأن الله خلق الآدمي بصورةٍ شريفةٍ. وما يشهد به الجزء الثاني من السفر الأول من التوراة، إذ شرع إبراهيم، عليه السلام ختانة المولود في اليوم الثامن من ميلاده. وهذه - وأمثالها - شرائع، لأن الشرع لا يخرج عن كونه أمرًا أو نهيًا من الله لعباده، سواء نزل على لسان رسولٍ، أو كُتبَ في أسفار، أو ألواح أو غير ذلك. فإذا أقروا بأن قد كان شرعٌ، قلنا لهم: ما تقولون في التوراة، هل أتت بزيادة على تلك الشرائع، أم لا؟ فإن لم تكن أتت بزيادةٍ، فقد صارت عبثًا،

إذ لا زيادة فيها، على ما تقدم، ولم تغن شيئًا، فلا يجوز أن تكون صادرةً عن الله، تعالى، فيلزمكم أن التوراة ليست من عند الله، وذلك كفر على مذهبكم! وإن كانت التوراة أتت بزيادة، فهل في تلك الزيادة تحريم ما كان مباحًا، أم لا؟ فإن أنكروا ذلك، بطل قولهم من وجهين: - - أحدهما: أن التوراة حرمت الأعمال الصناعية في يوم السبت، بعد أن كان ذلك مباحًا، وهذا بعينه فهو النسخ. - والثانى: أنه لا معنى للزيادة في الشرع، إلا تحريم ما تقدمت إباحته، وإباحة ما تقدم تحريمه. - فإن قالوا: إن الحكيم لا يحظرُ شيئًا، ثم يبيحه، لأن ذلك إن جاز مثله، كان كمن أمر بشىء وضده! فالجواب: إن من أمر بشىءٍ وضدهِ في زمانين مختلفين، غير مناقضٍ بين أوامره ، وإنما يكون كذلك لو كان الأمران في وقت واحد. فإن قالوا: إن التوراة حظرت أمورًا كانت مباحة من قبل ولم تأت بإباحة محظور. والنسخ المكروه هو إباحة المحظور" لأن من أبيح له شىءً فامتنع عنه وحظره على نفسه، فليس بمخالف، وإنما المخالفُ من منع عن شىءٍ فأتاه، لاستباحته المحظور. فالجواب: من أحلَّ ما حظره الشرع في طبقة المحرم لما أحله الشرعُ، إذ كل منهما قد خالف المشروع ولم يقرّ الكلمة على معاهدها.

فإذا جاز أن يأتي في شرع التوراة تحريم ما كان إبراهيم، عليه السلام ، ومن تقدمه على استباحته، فجائز أن تأتي شريعة أخرى بتحليل ما كان في التوراة محظورًا. وأيضًا: فلا تخلو المحظورات من أن يكون تحريمها مفترضًا في كل الأزمنة، لأن الله يكرهُ ذلك المحظور لعينه أو لا يكون كذلك، بل نهى عنه في بعض الأزمنة. فإن كان الله ينهى عن عمل الصناعات في يوم السبت، لعين السبت، فينبغى أن يكون هذا التحريم على إبراهيم ونوح وآدم أيضًا؛ لأن عين السبت كانت أيضًا موجودة في زمانه، وهى علةُ التحريم. وإذا كان ذلك غير محرم على إبراهيم ومن تقدمه، فليس النهى عنه لعينه، أعني في جميع أوقات وجود عينه. وإذًا لزمكم أن تحريم الأعمال الصناعية في يوم السبت ليس بمحرم في جميع وجود أوقات السبت، فليس بممتنع أن ينسخ هذا التحريم في زمانٍ آخرَ، وإذا ظهر قائمٌ بمعجزات الرسالة وأعلام النبوة في زمنٍ آخر بعد فترةٍ طويلة. فجائز أن يأتي بنسخ كثير من أحكام الشريعة، سواء حظر مباحاتها، أو أباح محظوراتها، وكيف يجوز أن يحاج من جاء بالبينةِ البشرية أو باينها، ولا سيما أن الخصوم قد طالما تعبدوا بفرائض مباينة للعقول، كطهارة أنجاسهم برماد البقرة

إفحام اليهود والنصارى بالحجة العقلية وإلزامهم الإسلام.

التى كان الإمام الهاروني يحرقها قبيل أوان الحج، ونجاسة طاهرهم بذلك الرماد بعينه. على أن الذي يروم تنزيله منزلة هذا أقرب كثيرًا إلى العقل، فإن الأفعال والأوامر الإلهية منزهة عن الوقوف عند مقتضى العقول البشرية. وإذا كانت التعبدات الشرعية غير عائدةٍ بنفع لله، عز وجل، ولا دافعةٍ عنه ضررًا، لتنزهه، سبحانه، عن الانتفاع والتأذى بشىءٍ فما الذي يحيلُ أو يمنع كونه تعالى، يأمرُ أمةً بشريعةٍ، ثم ينهى أمةً أخرى عنها، أو يُحرِّم محظورًا على قوم، ويحله لأولادهم، ثم يحظره ثانيًا على من يجىء من بعده! كيف يجوز للمتعبد أن يعارض الرسول في تحليله ما كان حرامًا على قوم، ويستدل بذلك على كذبه بعد أن جاء بالبينة، وأوجب العقل تصديقه وتحكيمه، أليس هذا تحكمًا وضلالاً وعدولاً عن الحق.؟! إفحام اليهود والنصارى بالحجة العقلية وإلزامهم الإسلام. لا يسع عاقلاً أن يكذب نبيًا ذا دعوة شائعة، وكلمة قائمة، ويصدق غيره، لأنه لم ير أحدهما، ولا شاهد معجزاته، فإذا خصص أحدهما بالتصديق، والآخر بالتكذيب، فقد تعين عليه الملام والإزراء عقلاً. ولنضرب لذلك مثالاً: وهو أنا إذا سألنا يهوديًا عن موسى، عليه السلام، وهل رآه وعاين معجزاته؟ .. فهو بالضرورة يقرُّ بأنه لم يشاهد شيئًا من ذلك عيانًا. فنقول له: بماذا عرفت نبوة موسى وصدقه

فإن قال: إن التواتر قد حقق ذلك، وشهادات الأمم بصحته دليل ثابت فى العقل، كما قد ثبت عقلاً وجود بلاد وأنهار لم نشاهدها، وإنما تحققنا وجودها بتواتر الأنباء والأخبار. قلنا: إن هذا التواتر موجود لمحمد وعيسى، عليهما السلام، كما هو موجود لموسى عليه السلام. فيلزمك التصديق بهما. وإن قال اليهودي: إن شهادة أبي عندي بنبوة موسى، هى سبب تصديقي بنبوته. قلنا له: ولمَ كان أبوك عندك صادقًا في ذلك معصومًا عن الكذب، وأنت ترى الكفار أيضا يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك، إما تعصبًا من أحدهم لدينه وكراهيته لمباينة طائفته، ومفارقة قومه وعشيرته، وإما لأن أباه وأشياخه نقلوه إليه، فتلقفته منهم، معتقدًا فيه الهداية والنجاة! فإذا كنت، يا هذا، ترى جميع المذاهب التي تكفرها قد أخذها أربابها عن آبائهم، كأخذك مذهبك عن أبيك، وكنت عالمًا أن ما هم عليه ضلال وجهلٌ. فيلزمك أن تبحث عما أخذته عن أبيك، خوفًا من أن تكون هذه حالته! فإن قال: إن الذي أخذته عن أبى أصحُّ مما أخذه الناس عن آبائهم: لزمه أن يقيم البرهان على نبوة موسى، من غير تقليد لأبيه، لأنه قد ادعى صحة ذلك بغير تقليد.

وإن زعم أن العلة في صحة ما نقله عن أبيه أن أباه يرجح على آباء الناس بالصدق والمعرفة، كما تدعى اليهود في حق آبائها، لزمه أن يأتي بالدليل على أن أباه كان أعقل من سائر آباء الناس وأفضل، فإن هو ادعى ذلك كذب فيه، لأن من هذه صفته، يجب أن يستدل على فضائله بآثاره. وقول اليهود باطل. بأنه ليس لهم من الآثار في العالم ما لغيرهم مثله، بل على الحقيقة لا ذكر لهم بين الأمم الذين استخرجوا العلوم الدقيقة، ودونوها لمن يأتى بعدهم. وجميع ما نسب إليهم من العلوم مما استفادوه، من علوم غيرهم لا يضاهى بعض الفنون الحكمية التي استخرجها حكماء اليونان، والعلوم التى استنبطها النبط. وأما تصانيف المسلمين فيستحيل لكثرتها أن يقف أحدٌ من الناس على جميع ما صنفوه في أحد الفنون العلمية، لسعته وكثرته. وإذا كان هذا موقعهم من الأمم، فقد بطل قولهم: إن آباءهم أعقل الناس وأفضلهم وأحكمهم ولهم أسوة بسائر آباء الناس المماثلين لهم من ولد سام بن نوح، عليهما السلام. فإذا أقروا بتأسى آبائهم بآباء غيرهم، وعلموا بأن آباء غيرهم قد لقنوهم الكفر. لزمهم أن شهادة الآباء لا يجوز أن تكون حجةً في صحة الدين، فلا يبقى لهم حجة بنبوة موسى، عليه السلام، إلا شهادة التواتر، وهذا التواتر موجود لعيسى ومحمد، كوجوده لموسى، عليهم السلام.

وجه آخر في إثبات النسخ بأصولها

وإذا كانوا قد آمنوا بموسى لشهادة التواتر بنبوته، فقد لزمهم التصديق بنبوة المسيح والمصطفى، صلى الله عليهما وسلم. وجه آخر في إثبات النسخ بأصولها نقول لهم: هل أنتم اليوم على ملة موسى، عليه السلام؟ فإن قالوا: نعم. قلنا لهم: أليس في التوراة: "أن من قسَّ عظمًا، أو وطئ قبرًا، أو حضر ميتًا عند موته، فإنه يصير من النجاسة في حالٍ لا مخرج له منها، إلا برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها؟! فلا يمكنهم مخالفة ذلك، لأنه نص ما يتداولونه. فيقول لهم: فهل أنتم اليوم على ذلك؟ فيقولون: لا نقدر عليه. فيقول لهم: فلمَ جعلتم أن من لمس العظم والقبر والميت فهو طاهر يصلح للصلاة وحمل المصحف، والذى في كتابكم بخلافه؟! فإن قالوا: لأنا عدمنا أسباب الطهارة وهى رماد البقرة، والإمام المطهر المستغفر. قلنا: فهل ترون هذا الأمر مع عجزكم عن فعله مما تستغنون في الطهارة عنه، أم لا، فإن قالوا: نعم، قد نستغنى عنه. فقد أقروا بالنسخ لتلك الفريضة لحالٍ اقتضاها هذا الزمان.

وإن قالوا: لا نستغنى في الطهارة عن ذلك الطهور. فقد أقروا بأنهم الأنجاس أبدًا، ما داموا لا يقدرون على سبب الطهارة. فنقول لهم: فإذا كنتم أنجاسًا، على رأيكم وأصولكم، فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيامٍ اعتزالاً تفرطون فيه إلى حدِّ أن أحدكم لو لمس ثوبه ثوبَ المرأة لاستنجستموه مع ثوبه. فإن قالوا: لأن ذلك من أحكام التوراة. قلنا: أليس في التوراة أن ذلك يراد به الطهارة؟ فإذا كانت الطهارة قد فاتتكم والنجاسة التي أنتم فيها هى على معتقدكم لا ترتفع بالغسل كنجاسة الحيض، فهى لذلك أشدُّ من نجاسة الحيض. ثم إنكم ترون أن الحائض طاهرة، إذا كانت من غير ملتكم، ولا تستنجسون لامسها ولا الثوب الذي تلمسه، وتخصيص هذا الأمر - أعني نجاسة الحيض - بطائفتكم، مما ليس في التوراة. فهذا كله منكم نسخٌ أوتبديل. فإن قالوا: إن هذا - وإن كان النص غير ناطقٍ به - فقد جاء في الفقه. قلنا لهم: فما تقولون في فقهائكم، هل الذي اختلفوا فيه من مسائل الخلاف والذهب - (على كثرتها - كان ثمرة اجتهاد واستدلال منقولاً) بعيته؟ فهم يقولون: إن جميع ما في كتب فقهنا نقله الفقهاء عن الأحبار عن الثقات من السلف عن يوشع بن نون عن موسى الكليم، عليهما السلام، عن الله تعالى.

إلزام النسخ بوجه آخر

فيلزمكم في هذا أن المسألة الواحدة التي اختلف فيها اثنان من فقهائكم، يكون كل واحد منهما ينقل مذهبه فيها نقلاً مسندًا إلى الله، عز وجل، وفى ذلك من الشناعة اللازمة لهم أن يجعلوا الله قد أمر في تلك المسألة بشىء وخلافه، وهو النسخ الذي يدفعونه بعينه. فإن قالوا: إن هذا الخلاف غير مستعمل، لأن الأولين كانوا بعد اختلافهم فى المذهب في المسألة يرجعون بها إلى أصلٍ واحد، هو المقطوع به. قلنا: إن رجوعهم بعد الاختلاف إلى الاتفاق على مذهبٍ واحدٍ، إما لأن أحدهم رجع عما نقل، أو طعن في نقله، فيلزمه السقوط عن العدالة، ولا يجوز لكم أن تعاودوا الالتفات إلى نقله، وإما أن يكون الفقهاء اجتمعوا على نسخ أحد المذهبين، أو تكون رواية أحدهما ناسخة لرواية الآخر، وما من الفقهاء إلا من ألغى مذهبه في مسائل كثيرة، وهذا جنون ممن لا يقر بالنسخ، ولا يرى كلام أصحاب الخلاف اجتهادًا ونظرًا، بل نقلاً محضًا. إلزام النسخ بوجه آخر نقول لهم: ما تقولون في صلواتكم وأصوامكم، هل هى التي فارقكم عليها موسى صلى الله عليه؟ فإن قالوا: نعم.

قلنا: فهل كان موسى وأمته يقولون في صلواتهم كما تقولون: "تقاع شوفار كادول لخير وثينو وسانيس لقبو صينو وقبصينو باخد ميارباع كنفوث هاارض النوى قد شيحنا باروخ إثا ادناى مقبَّيص نذحى عمو يسرائيل ". تفسيره: " اللهم اضرب ببوقٍ عظيم لعتقنا، واقبضنا جميعًا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك يا جامع تشتيت قوم بنى إسرائيل ". أم هل كانوا يقولون على عهد موسى عليه السلام، كما يقولون في كل يوم: "هاشيب شوفطينوا كبار يشونا ويوعصينو لبتحلا وينى أث يروشا لايم عير قد شنحا يحيينوونا حمينو بنيا نماه ياروخ أثا اذوناى بوفى يرشالايم ". تفسيره: " اردد حكامنا كالأولين، ومشيرينا كالابتداء، وابن يروشليم قرية قدسك في أيامنا وأعزنا ببنائها، سبحانك يا بانى يروشليم ". أم هذه فصول شاهدة بأنكم لفقتموها بعد زوال الدولة، وأما صوم إحراق بيت المقدس، وصوم حصاره، وصوم كذليا الذي جعلتموها فرضًا، هل كان موسى يصومها، أو أمر بها هو أو خليفته يوشع بن نون، أو صوم صلب هامان، هل هذه الأمور مفترضة في التوراة أو زيدت لأسباب اقتضت زيادتها في هذه الأعصار؟

إثبات النسخ على وجه آخر

فإن قالوا: وكيف يلزمنا النسخ بهذا الأمر؟ قلنا: لأن التوراة نطقت بهذه الآية: "لوتوسيفو على هدَّا بار أشير أنوحى مصوى الجيم ولو تعرعو ممينو". تفسيره: "لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئًا، ولا تنقصوا منه شيئًا، وإذا زدتم شيئًا من الفرائض، فقد نسختم تلك الآية". إثبات النسخ على وجهٍ آخر نقول لهم: أليس عندكم أن الله اختار من بنى إسرائيل الأبكار، ليكونوا خواص فى الخدمة للأقداس؟ فيقولون: بلى. فنقول لهم: أليس عندكم أيضًا أن موسى لما نزل من الجبل وبيده الألواح، ووجد القوم عاكفين على العجل، ووقف بطرف المعسكر، ونادى: " من كان لله فليحضرنى". فانضم إليه بنوليوى، ولم ينضم إليه البكور، على أن مناداته، وإن كان لفظها يقتضى العموم، لم تكن إشارتها إلا إلى البكور، إذ هم خاصة الله يومئذ، دون أولاد لاوى، فلما خذله البكور. ونصرهُ أولاد ليوى قال الله لموسى: " وأ اقاح اث هلوتيم تاحت كل نحُو بنى يسراايل " .. تفسيره: "وقد أخذت اللاويين عوضاً عن كل بكر في بنى إسرائيل " .. وفى عقيب نزول هذه

إلزام نبوة المسيح، صلى الله عليه.

الآية، أليس أن الله عزل الأبكار عن ولاية الاختصاص، وأخذ أولاد ليوى عوضًا عنهم؟! فهم لا يقدرون على إنكار ذلك. وهذا يلزمهم منه القول بالبداء أو النسخ. إلزام نبوة المسيح، صلى الله عليه. نقول لهم: أليس في التوراة التي في أيديكم: "لوياسور شبيط ميم ومحو فيق مبين زعلاو" .. تفسيره: لا يزول الملك من آل يهود، أو الراسم بين ظهرانيهم، إلى أن يأتي المسيح، فلا يقدرون على جحده. فنقول لهم: أفما علمتم أنكم كنتم أصحاب دولة وملك إلى ظهور المسيح، ثم انقضى ملككم، فإن لم يكن لكم اليوم ملك، فقد لزمكم من التوراة أن المسيح قد أرسل. وأيضا فإنا نقول: أليس منذ بعث المسيح، عليه السلام، استولت ملوك الروم على اليهود وبيت المقدس، وانقضت دولتهم وتفرق شملهم؟! ولا يقدرون على جحد ذلك إلا بالبهتان. ويلزمهم، على أصلهم الذي في التوراة أن عيسى ابن مريم هو المسيح الذى كانوا ينتظرونه. إلزامهم نبوته ونبوة المصطفى، عليهما السلام. نقول لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟

فيقولون: ولد يوسف النجار سفاحًا. كان قد عرف اسم الله الأعظم فسخر به كثيرًا من الأشياء. فيقول لهم: أليس عندكم في أصح نقلكم أن موسى، عليه السلام، قد أطلعه الله على الاسم المركب من اثنين وأربعين حرفًا، وبه شق البحر، وعمل المعجزات؟! .. فلا يقدرون على إنكار ذلك. فنقول لهم: فإذا كان موسى أيضًا قد عمل المعجزات بأسماء الله تعالى ، فلمَ صدقتم نبوته، وكذبتم نبوة عيسى؟! فيقولون: لأن الله تعالى علم موسى الأسماء، وعيسى لم يتعلمها من الوحى، ولكنه تعلمها من حيطان بيت المقدس. فنقول لهم: فإذا كان الأمرُ الذي يتوصلُ به إلى عمل المعجزات قد يصل إليه من لا يختصه الله به، ولا يزيد تعليمه إياه، فبأى شىء جاز تصديق موسى؟ فيقولون: لأنه أخذها عن ربه. فنقول: وبأى شىء عرفتم أنه أخذها عن ربه؟ فيقولون: بما تواتر من أخبار أسلافنا. وأيضا فإنا نلجئهم إلى نقل أسلافهم " بأن نقول لهم: بماذا عرفتم نبوة موسى؟ فإن قالوا: بما عمله من المعجزات. قلنا لهم: وهل فيكم من رأى هذه المعجزات؟ ليس هذا، لعمرى، طريقًا إلى تصديق النبوات، لأن هذا كان يلزم منه أن تكون معجزات الأنبياء، عليهم السلام،

باقيةً من بعدهم ليراها كل جيل وجيل، فيؤمنوا به، وليس ذلك بواجب " لأنه إذا اشتهر النبي في عصر، وصحت نبوتُهُ في ذلك العصر بالمعجزات التي ظهرت منه لأهل عصره، ووصل خبره إلى أهل عصرٍ آخر، ووجب عليهم تصديق نبوته واتباعه، لأن المتواترات والمشهورات مما يجب قبولها فى العقل. وموسى وعيسى ومحمد، صلوات الله عليهم وسلامه، في هذا الأمر متساوون، ولعل تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادات بنبوة عيسى ومحمدٍ (عليهما السلام)، لأن شهادة المسلمين والنصارى بنبوة موسى ليست إلا بسبب أن كتابيهما شهدا له بذلك، فتصديقهم بنبوة موسى فرع على تصديقهم بكتابتهم. وأما معجزة القرآن فإنها، وإن كانت باقيةً، فتلك فضيلة زائدة لا تحتاج إلى كونها سبب الإيمان. فأما من أعطى ذوق الفصاحة، فإن إيمانه بإعجاز القرآن إيمانُ من شاهد المعجزة، لا من اعتمد على الخبر، إلا أن هذه درجة لم يرشح لها كل أحدٍ. فإن قالوا: إن نبينا تشهد له جميع الأمم، فالتواتر به أقوى، فكيف تقولون إنه أضعف؟! قلنا: وكأن إجماع شهادات الأمم صحيح لديكم؟!

فصل فيما يحكونه عن عيسى عليه السلام.

فإن قالوا: نعم. قلنا: فإن الأمم الذين قبلتم شهاداتهم مجمعون على تكفيركم وتضليلكم، فيلزمكم ذلك، لأن شهادتهم عندكم مقبولة! فإن قالوا: لا نقبل شهادة أحدٍ .. لم يبق لهم تواتر إلا من طائفتهم، وهى أقل الطوائف عددًا، فيصير تواترهم وشرعهم لذلك أضعف الشرائع. ويلزمهم مما تقدم - أن كل من أظهر معجزاتٍ شهد بها التواتر مصدقٌ فى مقالته، ويلزمهم - مِن ذلك - التصديق بنبوة المسيح والمصطفى، عليهما السلام. فَصْل فيَما يَحْكُونَهُ عَنْ عيسى عَلَيْهِ السَّلام. هم يزعمون أنه كان من العلماء لا من الأنبياء، وأنه كان يطببُ المرضى بالأدوية، ويوهمهم أن الانتفاع إنما حصل لهم بدعائه، وأنه أبرأ جماعةً من المرضى من أسقامهم في يوم السبت، فأنكرت عليه اليهود ذلك. فقال لهم: أخبرونى عن الشاة من الغنم، وإذا وقعت في البئر يوم السبت أما تنزلون إليها، وتحلون السبت لتخليصها؟ قالوا: بلى. قال: فلمَ أحللتم السبت لتخليص الغنم، ولا تحلونها لتخليص الإنسان الذى هو أكبر حرمةً من الغنم؟!

ذكر الآيات والعلامات التي في التوراة الدالة على نبوة سيدنا محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم -

فأفحمهم، ولم يؤمنوا. وأيضًا، فإنهم يحكون عنه أنه كان مع قومٍ من تلاميذه في جبل ولم يحضرهم الطعام، فأذن لهم في تناول الحشيش في يوم السبت. فأنكرت عليه اليهودُ قطع الحشيش في يوم السبت. فقال لهم: أرأيتم لو أن أحدكم، لو كان وحيدًا مع قومٍ على غير ملته، وأمروهُ بقطع النبات في يوم السبت وإلقائه لدوابهم، لا ليقصدوا بذلك كسر السبت تجيزون له قطع النبات؟! قالوا: بلى. قال: فإن هؤلاء القوم أمرتهم بقطع النبات ليأكلوه لينقذوا به أنفسهم، لا للطعن في أمر السبت. كل ذلك ملاطفةً منه لعقولهم التي لا ينطبع فيها النسخ. ولئن كان ما يحكونه من ذلك صحيحًا، فلعله كان في ابتداء ظهور أمر المسيح، عليه السلام. ذكر الآيات والعلامات التي في التوراة الدالة على نبوة سيدنا محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إنهم لا يقدرون على أن يجحدوا هذه الآية من الجزء الثاني من السفر الخامس من التوراة.

"نابى أقيم لا هيم مقارب أحيهم كاموخا ايلا وتشماعون " ... تفسيره: "نبيًا أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك به، فليؤمنوا". وإنما أشار بهذا إلى أنهم يؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. فإن قالوا: إنه قال، من وسط إخوتهم. وليس في عادة كتابنا أن يعنى بقوله: "إخوتكم" إلا بني إسرائيل. قلنا: بلى، قد جاء في التوراة "إخوتكم بنى العيص"، وذلك في الجزء الأول من السفر الخامس، قوله: "اتيم عوبز بقبول اخيحم بنى عيسووهيوشييم بسيعير". تفسيره: " أنتم عابرون في تخم إخوتكم بنى العيص المقيمين في سيعير، إياكم أن تطيعُوا في شىء من أرضهم ". فإذا كان بنو العيص إخوة لبنى إسرائيل، لأن العيص وإسرائيل ولدا إسحاق، فكذلك بنو إسماعيل إخوة لجميع ولد إبراهيم. وإن قالوا: إن هذا القول إنما أشير به إلى شموائيل النبي، عليه السلام، لأنه قال: "من وسط إخوتهم مثلك ". وشموائيل كان مثل موسى" لأنه من أولاد ليوى يعنون من السبط الذي كان منه موسى، عليه السلام. قلنا لهم: فإن كنتم صادقين، فأى حاجةٍ بكم إلى أن يوصيكم بالإيمان بشموائيل، وأنتم تقولون: إن شموائيل لم يأتِ بزيادةٍ، لا بنسخ أشفق

الإشارة إلى اسمه - صلى الله عليه وسلم - في التوراة

من أن لا تقبلوه، لأنه إنما أرسل ليقوى أيديكم على أهل فلسطين وليردكم إلى شرع التوراة، وبين صفته، فأنتم أسبق الناس إلى الإيمان به، لأنه إنما يخاف تكذيبكم، من ينسخ مذهبكم، ويغير أوضاع ديانتكم. فالوصية بالإيمان به، مما لا يستغنى مثلكم عنه، ولذلك لم يكن بموسى حاجة أن يوصيكم بالإيمان بنبوة أرميا وأشيعيا وغيرهما من الأنبياء. وهذا دليل على أن التوراة أمرتهم، في هذا الفصل، بالإيمان بالمصطفى عليه السلام، واتباعه. الإشارة إلى اسمه - صلى الله عليه وسلم - في التوراة قال الله، تعالى، في الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة، مخاطبًا لإبراهيم الخليل، عليه السلام: "وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك، ها قد باركت فيه، وأثمرِّه وأكثرِّه جدًا جدًا". ذلك قوله: "وليشماعيل شمعتيخا هنى بير اختى أوتووهر بيثى أوتو بمأ دماد". فهذه الكلمة "بماذماد" إذا عددنا حساب حروفها بالجمل، كان اثنين وتسعين، وذلك عدد حساب حروف اسم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أيضًا اثنان وتسعون. وإنما جُعل ذلك في هذا الموضع ملغزا، لأنه لو صرح به، لبدلته اليهود، أو أسقطته من التوراة، كما عملوا في غير ذلك. فإن قالوا: إنه قد يوجد في التوراة عدة كلمات، مما يكون عدد حساب حروفه مساويًا لعدد حساب حروف اسم زيد وعمرو وخالد وبكر، فلا يلزم من ذلك أن يكون زيد وعمرو وخالد وبكر أنبياء.

ذكر الوضع الذي أشير فيه إلى نبوة الكليم. والمسيح والمصطفى، عليهم السلام.

فالجواب: إن الأمر كما تقولون، لو كان لهذه الآية أسوة بغيرها من كلمات التوراة، لكنا نحن نقيم البراهين والأدلة على أنه لا أسوة لهذه الكلمة بغيرها من سائر التوراة، وذلك أنه ليس في التوراة من الآيات ما حاز به إسماعيل الشرف كهذه الآية، لأنها وعد من الله لإبراهيم، بما يكون من شرف إسماعيل، وليس فى التوراة آية آخرى، مشتملة على شرفٍ لقبيلة زيد وعمرو وخالد وبكر. ثم إنا نبين أنه ليس في هذه الآية كلمة تساوى "بمادماد" التي معناها "جدًا جدًا"، وذلك أنها كلمة المبالغة من الله، سبحانه، فلا أسوة لها بشىءٍ من كلمات الآية المذكورة. وإذا كانت هذه الآية أعظم الآيات مبالغة في حق إسماعيل وأولاده، وكانت تلك الكلمة أعظم مبالغةً من باقى كلمات تلك الآية، فلا عجب أن تضمن الإشارة إلى أجل أولاد إسماعيل شرفًا، وأعظمهم قدرًا، محمد - صلى الله عليه وسلم -. وإذ بينا أنه ليس لهذه الكلمة أسوة بغيرها من كلمات هذه الآية، ولا لهذه الآية أسوة بغيرها من آيات التوراة، فقد بطل اعترافهم. ذكر الوضع الذي أشير فيه إلى نبوة الكليم. والمسيح والمصطفى، عليهم السلام. "واما راذوناى مسيناى اثكلى وريهور يقاربه مسيعيرا تجرى لانا استحى بغبورتيه على طورا دفاران وعميّه ربوات قد يشين ". تفسير، قال: "إن الله من سيناء تجلى، وأشرق نوره من سيعير، واطلع من جبال فاران، ومعه ربوات المقدسين ".

وهم يعلمون أن جبل سيعير هو جبلُ الشراة الذي فيه بنو العيص الذين آمنوا بعيسى، عليه السلام، بل في هذا الجبل كان مقام المسيح عليه السلام. وهم يعلمون أن سيناء هو جبل الطور، لكنهم لا يعلمون أن جبل فاران هو جبل مكة! وفى الإشارة إلى هذه الأماكن الثلاثة التي كانت مقام نبوة هؤلاء الأنبياء، ما يقتضى للعقلاء أن يبحثوا عن تأويله المؤدى إلى الأمر باتباع مقالتهم. فأما الدليل الواضحُ من التوراة على أن جبل فاران هو جبل مكة، فهو أن إسماعيل لما فارق أباه الخليل، عليهما السلام سكن إسماعيل في برِّية فاران، ونطقت التوراة بذلك في قوله: " وتقاح لو اموا شيامئا يرض مِصْرايم ". تفسير: " وأقام في برية فاران، وأنكحته أمه امراةً من أرض مصر". فقد ثبت من التوراة أن جبل فاران مسكنٌ لآل إسماعيل، وإذا كانت التوراة قد أشارت في الآية التى تقدم ذكرها إلى نبوة تنزل على جبل فاران. لزم أن تلك النبوة على آل إسماعيل؛ لأنهم سكان فاران، وقد علم الناسُ قاطبة أن الشار إليه بالنبوة من ولد إسماعيل هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه بعث من مكة التي كان فيها مقام إسماعيل. فدل ذلك على جبال فاران هى جبال مكة، وأن التوراة أشارت في هذا الموضع إلى نبوة الصطفى، صلوات الله وسلامه عليه، وبشرت به، إلا أن اليهود، لجهلهم وضلالهم، لا يحسنون الجمع بين هاتين الآيتين، بل يسلمون المقدمتين ويجحدون النتيجة، لفرط جهلهم.

فى إبطال ما يدعونه من معبة الله إياهم.

وقد شهدت عليهم التوراة بالإفلاس من الفطنة والرأى، ذلك قوله تعالى: "كى غووى أو باد عيصوت هيما واين باهيم تبونا". تفسيره: "إنهم لشعب عادم الرأى، وليس فيهم فطانة". فى إبطال ما يدعونه من معبة الله إياهم. هم يزعمون أن الله، سبحانه وتعالى، يحبهم دون جميع الناس، ويحب طائفتهم وسلالتهم، وأن الأنبياء والصالحين لا يختارهم الله إلا منهم، ونحن نناظرهم على ذلك. فنقول ما قولكم في أيوب النبي، عليه السلام، أتقرون بنبوته؟ فيقولون: نعم. فنقول لهم: هل هو من بنى إسرائيل؟ فيقولون: لا. فنقول لهم: ما تقولون في جمهور بنى إسرائيل، أعني التسعة أسباط والنصف، الذين أغواهم يربعام بن نباط الذى خرج على ولد سليمان بن داود، وصنع لهم الكبشين من الذهب، وعكف على عبادتهما جماعة من بنى إسرائيل ، وأهل جميع ولاية دار ملكهم الملقبة يومئذ بشومرون، إلى (أن) جرت الحرب بينهم وبين السبطين والنصف، الذين كانوا مؤمنين مع ولد سليمان في بيت المقدس، وقتل في معركة واحدة خمسمائة ألف إنسان، فما تقولون في أولئك

فصل في ذكر طرف من كفرهم وتبديلهم.

القتلى بأسرهم، وفى التسعة أسباط والنصف، هل كان الله يحبهم، لأنهم إسر ائيلين؟! فيقولون: لا، لأنهم كفار. فنقول لهم: أليس عندكم في التوراة، أنه لا فرق بين الدخيل في دينكم وبين الصريح النسب منكم؟! فيقولون: بلى، لأن التوراة ناطقة بهذا: "كليركا اراح كاخيم بيهى لقتى اذوناى". تفسيره: " إن الأجنبي والصريح النسب منكم سواء عند الله ". "احاث وشفاط ايجاد بيهى لا خيم ولكريم هكار بثو خيم ". تفسيره: "شريعة واحدة" وحكم واحد يكون لكم، وللغريب الساكن فيما بينكم. فإذا اضطررناهم إلى الإقرار بأن الله لا يحب الظالمين منهم، ويحب المؤمنين من غير طائفتهم، ويتخذ أولياء وأنبياء من غير سلالتهم، فقد نفوا ما ادعوه من اختصاص محبة الله، سبحانهُ وتعالى، بطائفتهم من بين المخلوقين. فصل في ذكر طرف من كفرهم وتبديلهم. إن من سبيل ذوى التحصيل أن يتجنبوا الرذائل، وينفروا مما قبح فى العقول السليمة، ورجح تزييفه، عند ذوي الأفهام المستقيمة. ولهذه الطائفة من فنون الضلال والاختلال ما تنبو عن مثله العقول، يخالفه المشروع والمعقول. وذلك أنهم مع ذهاب دولتهم وتفرق شملهم

وعملهم بالغصب الممدود عليهم، يقولون في كل يوم في صلاتهم: إنهم أبناء الله وأحباؤه، وذلك قولهم في كل يوم في الصلاة. "اهباث عولام اهبتا نوأذوناى الوهينو". تفسيره: " محبة الدهر أحببتنا يا إلهنا". " هشليتيو لتوراتيخا ". تفسيره: " ارددنا يا أبانا إلى شريعتك ". "ابينو ملكينو الوهينو". تفسيره: " يا أبانا يا مالكنا يا إلهنا". "اتا أذوناى ابينو كو الينو". تفسيره: "أنت اللهم أبونا منقذنا". وايت كل رود في بانخا واوينى غداثنحا لولام كسامويام ايجاد ميهم لو نوثار. تفسيره: " وجميع الذين اقتصُّوا أثر بنيك، واعدًا جماعتك كلهم غطاهم البحر واحد منهم لم يبق "؛ ويمثلون أنفسهم بعناقيد العنب، وسائر الأمم بالشوك المحيط بأعالى حيطان الكرم! وهذا من قلة عقولهم، وفساد نظرهم، فإن المعتنى بمصالح الكرم، إنما يجعل على أعالى حيطانه الشوك حفظًا، وحياطة للكرم ".

ولسنا نرى لليهود من بقية الأمم إلا الضرر والذل والصغار وذلك مبطلٌ " لقولهم، وينتظرون قائمًا يأتيهم من آل داود النبي، إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم، ولا يبقى إلا اليهود، وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذى وعدوا به. وقد كان الأنبياء، عليهم السلام، ضربوا لهم أمثالاً، أشاروا بها إلى جلالة دين المسيح عليه السلام، وخضوع الجبارين لأهل ملته، وإتيانه بالنسخ العظيم. فمن ذلك قول إشيعيا في نبوءته: "وعارزانت عم كبيش يحذا ويربضو شنيهم وفارا واذوب ترعينا وارباكبا قارلوخل يتبين ". تفسيره: " إن الذيب والكبش يرعيان جميعًا، ويربضان معًا، وأن البقرة والدب يرعيان جميعًا، وأن الأسد يأكل التبن كالبقرة". فلم يفهموا من تلك الأمثال إلا صورها الحسية، دون معانيها العقلية، فقولوا عن الإيمان بالمسيح عند مبعثه، وأقاموا ينتظرون الأسد حتى يأكل التبن ويصبح حينئذ لهم علامة المسيح إ! ويعتقدون أن هذا المنتظر حتى جاءهم يجمعهم بأسرهم إلى القدس، وتصير لهم الدولة، ويخلو العالم من سواهم، ويجم الموت عن جنابهم المدد الطويلة.

وسبيلهم أن لا يعدلوا عن تتبع الأسود في غاباتها، وطرح التبن بين أيديها، ليعلموا وقت أكلها إياه! وأيضاً، فإنهم في العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة، يقولون فى صلاتههم: "ألوهينو والوهى أبو ثينو ملوخ على كل يوشى تيبيل أرضيخا ويوماركول أشير نشا مانا قواذوناى الوهى يسرائيل مالاخ وملخو توبكوك ما شيا لا ". تفسيره: " يا إلهنا وإله آبائنا املكْ على جميع الأرض، ليقول كل ذى قسمة، الله إله إسرائيل قد ملك، ومملكته في الكل متسلطة". ويقولون في هذه الصلاة أيضًا: "وسيكون لله الملك، وفى ذلك اليوم يكون الله واحدًا". ويعنون بذلك أنه لا يظهر أن الملك لله، إلا إذا صارت الدولة إلى اليهود الذين هم أمته وصفوته، فأما مادامت الدولة لغير اليهود، فإن الله خامل الذكر عند الأمم، وأنه مطعون في ملكه، مشكوك في قدرته!!. فهذا معنى قولهم: "اللهم املك على جميع الأرض "، ومعنى قولهم: "وسيكون الملك لله ". وما ينخرط في هذا السلك قولهم: "لا ما يومر وهلويثم إلى يا ألوهيهم ". تفسيره: " لم يقول الأمم أين إلههم ". وقولهم: " عورا لا مانيشان ادوناى هاقيصا مشنا شيخا". تفسيره: " انتبه كم تنام يارب، استيقظ من رقدتك ".! وهؤلاء إنما نطقوا بهذه الهذيانات والكفريات من شدة الضجر من الذل والعبودية والصغار، وانتظار فرج

لا يزداد منهم إلا بعدًا، فأوقعهم ذلك في الطيش والضجر، وأخرجهم إلى نوع من التزندق والهذيان، الذي لا يستحسنه إلا عقولهم الركيكة! .. فتجرءوا على الله بهذه المناجاة القبيحة، كأنهم ينخون الله بذلك لينتخى لهم، ويحمى لنفسه، لأنهم إذا ناجوا ربهم بذلك، فكأنهم يخبرونه بأنه قد اختار الخمول لنفسه، وينخونه للنباهة واشتهار الصيت! فترى أحدهم إذا تلا هذه الكلمات في الصلاة يقشعر جلده، ولا يشك في أن كلامه يقع عند الله بموقع عظيم، وأنه يؤثر في ربه، ويحركه بذلك، ويهزه وينخِّيه! .. وهؤلاء على الحقيقة ينبغى أن يرحم جهلهم وضعف عقولهم. وأيضًا فإنه عندهم في توراتهم: أن موسى صعد الجبل مع مشايخ أمته، فأبصروا الله جهرة، وتحت رجليه كرسى منظره كمنظر البلور، ذلك قوله: "وتراوايث ألوهى هشفير وخعيصم هشاما يم لا طوهر". ويزعمون أن اللوحين مكتوبان بأصبع الله! .. في قولهم: "بإصباع ألوهيتم ". ويطول الكتاب إن عددنا ما عندهم من كفريات التجسيم، على أن أحبارهم قد تهذبوا كثيرًا عن معتقد آبائهم، بما استفادوه من توحيد المسلمين، وأعربوا عن تفسير ما عندهم بما يدفع عنهم إنكار المسلمين عليهم، مما لا تقتضيه الألفاظ التي فسروها ونقولها، وصاروا متى سُئلوا عما عندهم من هذه الفضائح، استتروا بالجحد والبهتان، خوفًا من فظيع ما يلزمهم من الشناعة. ومن ذلك أنهم ينسبون إلى الله، تعالى، إلى الندم على ما يفعل، فمن ذلك قولهم في التوراة التي بأيديهم: "ويناجم أذوناى كى عاسا اث مما اذام يا أرض ويتعصب إل لبُّو ".

تفسيره: " وندم الله على خلق البشر في الأرض وشق عليه ". وقد أفرط المترجم في تعصبه وتحريفه الألفاظ عن موجب اللغة، وفسر: " ويناخم أذوناى وثاب أذوناى تميمريه ". يعنى: " وعاد الله في رأيه "! .. وهذا التأويل، وإن كان غير موافق اللغة فهو أيضًا كفر، بل مناقض لا يدفعونه من البداء والنسخ. وأما الدليل على أن تفسير: " ويتعصب إل لبوُّ" وشق عليه " فهو ما جاء فى مخاطبة حواء، عليها السلام: بعصيب يتلدى بانيم " تفسيره: " بمشقة تلدين الأولاد". فقد تبين أن "العصيب " في اللسان العبراني هو "المشقة". وهذه الآية عندهم في قصة قوم نوح، زعموا أن الله، تعالى، لما رأى فساد قوم نوح، وأن شرهم وكفرهم قد عظما، ندم على خلق البشر، وشق عليه! .. ولا يعلمُ البله أن من يقول بهذه المقالة لزمه أن الله قبل أن يخلق البشر لم يكن عالمًا بما سيكون من قوم نوح، وغير ذلك من النقص، تعالى الله عما يكفرون! وعندهم أيضا: أن الله، تعالى، قال لشموائيل النبي، عليه السلام: "نيحا متى لي هملا حتى اث شا أولميلخ على يسرا ائل ". تفسيره ": ندمت إذ وليت شاءول ملكًا على إسرائيل ". وفي موضع آخر من سفر شموائيل: " وادناى نيخام كى هميلخ اث شا أول على يسراائل ".

ذكر السبب في تبديل التوراة.

تفسيره: " والله ندم على تمليكه شاءول على إسرائيل ". وأيضًا فإن عندهم أن نوحًا النبي عليه السلام، لما خرج من السفينة بدأ ببناء مذبح لله، وقرب عليه قرابين، ويتلوا ذلك: "وتارخ ادوناى اث ريتخ هينحورخ ويومر ادوناى ال لبولا سيف عود لقليل اث ها إذا ما با عبورها إذام لي يبصر لبب ها اذام راع منعورا وولوا وسيف عود لهلكوت اث كل ماى يكا اشيرعا سيتى". تفسيره: " فاستنشق الله رائحة الفنار، فقال الله في ذاته: لن أعاود لعنة الأرض، بسبب الناس، لأن خاطر البشر مطبوع الرداءة، ولن أعاود إهلاك جميع الحيوان، كما صنعت ". ولسنا نرى أن هذه الكفريات كانت في التوراة المنزلة على موسى، صلوات الله عليه ولا نقول أيضًا: إن اليهود قصدوا تغييرها وإفسادها، بل الحق أولى ما اتبع، ونحن نذكر الآن حقيقة سبب تبديل التوراة. ذكر السبب في تبديل التوراة. علماؤهم وأحبارهم يعلمون أن هذه التوراة التي بأيديهم، لا يعتقد أحد من علمائهم وأحبارهم أنها المنزلة على موسى ألبتة، لأن موسى صان التوراة عن بنى إسرائيل، ولم يبثها فيهم، وإنما سلمها إلى عشيرته من أولاد ليوى. ودليل ذلك قول التوراة: " وتختوب موشا أث هتورا هزوت وتيناه الط هكوهنيم بنى ليوى ".

تفسيره: " وكتب موسى هذه التوراة، ودفعها إلى الأئمة بنى ليوى". وكان بنو هارون قضاة" اليهود وحكامهم، لأن الإمامة وخدمة القرابين وبيت المقدس كانت موقفة عليهم، ولم يبذل موسى من التوراة لبنى إسرائيل إلا نصف سورة، ويقال لها: " ها ازينو" فإن هذه السورة من التوراة هى التي علمها موسى بنى إسرائيل، ذلك قوله: "وتختوب موشا أث هتيرا هروث وتلمذاه لبنى يسرائيل ". "تفسيره " وكتب موسى هذه السورة وعلمها بنى إسرائيل ". وأيضاً فإن الله تعالى قال لموسى عن هذه السورة (وها يتالى هشيرا هزوث لعيد بنى اسرائيل وتفسيره: وتكون لي هذه السورة). "كى لو تشا خاخ مفى زرعو". تفسيره: " لأن هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم ". يعنى أن هذه السورة مشتملة على ذم طباعهم، وأنهم سيخالفون شرائع التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك، وتخرب ديارهم، ويشتتون في البلاد. قال: فهذه السورة تكون متداولة في أفواههم، كالشاهد عليهم، والموافق لهم على صحة ما قيل لهم، فهذه السورة لما قال الله عنها: " إنها لا تنسى من أفواه أولادهم " دل على ذلك على أن (الله علم) أن غيرها من السور ينسى. وأيضاً فإن هذا دليل على أن موسى لم يعط بنى إسرائيل من التوراة إلا هذه السورة، فأما بقية التوراة فدفعها إلى هارون، وجعلها فيهم، وصانها عن سواهم. وهؤلاء الأئمة الهارونيون الذين كانوا يعرفون التوراة، ويحفظون أكثرها قتلهم بخت نصر على دم واحدٍ، يوم فتح بيت المقدس، ولم يكن حفظ التوراة، فرضًا بل سنة، بل كان كل واحدٍ من الهارونين يحفظ فصلاً من التوراة. فلما رأى عزرا أن القوم قد أحرق هيكلهم، وزالت دولتهم، وتفرق جمعهم، ورفع كتابهم، جمع من محفوظاته، ومن الفصول التي يحفظها الكهنة ما لفق منه هذه

التوراة التي بأيديهم، ولذلك بالغوا في تعظيم عزرا هذا غاية المبالغة. وزعموا أن التوراتي الآن يظهرُ على قبره الذي عنده بطاح العراق، لأنه عمل لهم كتابًا يحفظ دينهم. فهذه التوراة التي بأيديهم على الحقيقة كتاب عزرا، وليست كتاب الله، وهذا يدل على أنه - أعني الذي جمع هذه الفصول التي بأيديهم رجل فارغ جاهل بالصفات الإلهية، فلذلك نسب إلى الله، تعالى، صفات التجسيم، والندامة على ماضى أفعاله والإقلاع عن مثلها، وغير ذلك مما تقدم ذكره. وأيضًا فمما يستدل به على بطلان تأويلاتهم، وإفراطهم في التعصب، وتشديد الإصر، ما ذكروه في تفسيره هذه الآية: " ريشيث بلورى إذ ما تأبى بيت أذوناى ألوهيما لوت تسيل كذى باحابيب أمو". تفسيره: " بكور ثمار أرضك تحمل إلى بيت الله ربك، لا تنضج الجدى بلبن أمه ". والمراد من ذلك: أنهم أمروا عقب افتراض الحجج عليهم، أن يستصحبوا معهم، إذا حجوا إلى بيت المقدس أبكار أغنامهم، وأبكار مستغلات أرضهم؛ لأنه قد كان فرضًا عليهم قبل ذلك أن تبقى سخولة البقر والغنم وراء أمهاتها سبعة أيام، ومن اليوم الثامن فصاعدًا يصلح أن يكون قربانًا لله، فأشار في هذه الآية في قوله: " لا تنضج الجدى بلبن أمه ". إلى أنهم لا يبالغون فى

إطالة مكث بكور أولاد الغنم والبقر وراء أمهاتهن، بل يستصحبون أبكارهن اللاتي قد عبرن سبعة أيامٍ من ميلادهن معهم، إذا حجوا إلى بيت المقدس ليتخذوا منها القرابين فتوهم المشايخ البله المترجمون لهذه الآية، والمفسرون لمعانيها، أن المشرع يريد بالإنضاج هذا إنضاج الطبيخ في القدر. وهبهم صادقين في هذا التفسير، فلا يلزم من تحريم الطبيخ، تحريم الأكل، إذ لو أراد الشرع الأكل لما منعه مانع عن التصريح بذلك. وما كفاهم هذا الغلط فى تفسير هذه اللفظة، حتى حرموا أكل سائر اللحمان باللبن، وهذا مضاف إلى ما يستدل به على جهل المفسرين والنقلة، وكذبهم على الله وتشديد الإصر على طائفتهم. فأما الدليل على تفسير "تبسيل " الانضاج الذي هو البلوغ فهو قول رئيس السقاة ليوسف الصديق، وهما في السجن، إذ شرح له رؤياه، فقال فى جملة كلامه، "وبكيفن شكوشا سارنعيم وهى حضور راحت عالقا نصاه هيشيلوا شكلوثنا غباييم ". تفسيره: " وفى الكرمة ثلاثة عناقيد، وهى كأنها قد أثمرت وصعد نوارها، ونضجت عناقيدها عنبًا. فقد تبين أن الإنضاج

الذي يعبر عنه: " يالهيشيلوا" إنما هو البلوغ. ولا ينبغى للعاقل أن يستبعد اصطلاح كافة هذه الطائفة على المحال، واتفاقهم على فنونٍ من الكفر والضلال، فإن الدولة إذا انفرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها، وأخذها بلادها، انطمست حقائق سالف أخبارها، واندرس قديم آثارها، وتعذَّر الوقوف عليها، لأن الدولة إنما يكون زوالها عن أمةٍ، بتابع الغارات والمضايقات، وإخراب البلاد " وإحراق بعضها، فلا تزال هذه الفنون متتابعة عليها إلى أن يستحيل علومها جهلاً، وكثرتها قلة، وكلما كانت الأمم أقدم، واختلف عليها الدول المتتابعة لها بالإذلال والإيذاء، كان حظها من اندراس الآثار أكثر. وهذه الطائفة ولا شك أعظم الطوائف حظًا مما ذكرناه، لأنها من أقدم الأمم عهدًا، ولكثرة الأمم التي استولت عليها من الكلدانيين البابليين والفرس واليونان والنصارى والإسلام. وما من هذه الأمم إلا من قصدهم أشد القصد، وطلب استئصالهم، وبالغ فى إحراق بلادهم وإخرابها وإحراق كتبهم، إلا المسلمين، فإن الإسلام صادف اليهود تحت ذمة الفرس ولم يتبق لهم مدينة ولا جيش، إلا العرب المشهورة بخيابر. وأشد على اليهود من جميع هذه الممالك، ما نالهم من ملوكهم العصاة مثل أجأب وأحرنا وأمصيا ويهودام ويربعام بن نباط، وغيرهم من الملوك الإسرائيليين

الذين قتلوا الأنبياء، وبالغوا في تطلبهم ليقتلوهم، وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سدنة الأصنام، لتعظيمها وتعليم رسوم عبادتها، وابتنوا لها البيع العظيمة والهياكل، وعكف على عبادتها الملوك ومعظم بنى إسرائيل، وتركوا أحكام التوراة والشرع مددًا طويلة، وأعصارًا متصلة. فإذا كان هذا تواتر الآفات على شرعهم من قبل ملوكهم، ومنهم على أنفسهم، فما ظنك بالآفات المتفننة التي تواترت عليهم من استيلاء الأمم فيما بعد عليهم، وقتل أئمتهم، وإحراق كتبهم، ومنعهم إياهم عن القيام بشرائعهم!. فإن الفرس كثيرًا ما منعوهم عن الختانة، وكثيرًا ما منعوهم عن الصلاة، لمعرفتهم بأن معظم صلوات هذه الطائفة دعاء على الأمم بالبوار، وعلى العالم بالخراب، سوى بلادهم التي هى أرض كنعان! فلما رأت اليهود الجد من الفرس في منعهم من الصلاة، اخترعوا أدعية مزجوا بها فصولاً من صلاتهم، وسموها الحزانة وصاغوا لها ألحانًا عديدة، وصاروا يجتمعون أوقت صلواتهم على تلحينها وتلاوتها. والفرق بين هذه الحزانة، وبين الصلاة بغير لحنٍ أن المصلى يتلو الصلاة وحده، ولا يجهر معه غيره. أما الحزانُ فيشاركه جماعة في الجهر بالحزانة، ويعاونونه في الألحان، فكانت الفرسُ إذا أنكرت ذلك منهم، زعمت اليهود أنهم يغنون أحيانًا، وينوحون على أنفسهم أحيانًا فتركوهم وذاك.

فيما يعتقدونه في دين الإسلام

ومن العجب أن دولة الإسلام لما جاءت مقرة لأهل الذمة على أديانها، وصارت الصلاة مباحةً لهم، صارت الحزانة عند اليهود من السنن المستحبة فى الأعياد والمواسم والأفراح، يجعلونها عوضًا عن الصلاة، ويستغنون بها عنها، من غير ضرر يبعثهم على ذلك. فيما يعتقدونه في دين الإسلام هم يزعمون أن المصطفى، صلى الله عليه وسلم وشرف وعظَّم وكرَّم، كان قد رأى أحلامًا تدل على كونِه صاحب دولة وأنه سافر إلى الشام في تجارة لخديجة، رضوان الله عليها، واجتمع بأحبار اليهود، وقصَّ عليهم أحلامه، فعلموا أنه صاحب دولة، فأصحبوه عبد الله بن سلام فقرأ عليه علوم التوراة وفقهها مدةً، زعموا. وأفرطوا في دعواهم إلى أن نسبوا الفصاحة المعجزة التي فى القرآن إلى تأليف عبد الله بن سلام، وأنه قرر في شرع النكاح أن الزوجة لا تستحل بعد الطلاق الثلاث إلا بنكاح آخر، ليجعل بزعمهم أولاد المسلمين "ممزرير "، وهذه كلمة جميع واحدة (ممزير)، وهو اسم لولد الزنا، لأن في شرعهم أن الزوج إذا راجع زوجته بعد أن نكحت غيره، كان أولادهما معدودين من أولاد الزنا. فلما كان النسخ مما لا ينطبع فهمه في عقولهم، ذهبوا إلى أن هذا الحكم فى النكاح من موضوعات عبد الله بن سلام، قصد به أن يجعل أولاد المسلمين ) ممزريم) - بزعمهم.

ثم أكثر العجب منهم أنهم جعلوا داود النبي، عليه السلام، (ممزيز) من وجهين، وجعلوا منتظرهم (ممزير) من وجهين، وذلك أنهم لا يشكون فى أن داود بن بيشاى بن عابد، أبو هذا عابد يقال: له (بوعز) من سبط يهوذا، وأمه يقال لها: روث الموابية من بنى مؤاب، وهذا مؤاب منسوب عندهم في نصِّ التوراة فى هذه القصة. وهى أنه لما أهلك الله أمة لوط لفسادها، ونجا بابنتيه فقط " قالت ابنتاه: إن الأرض قد خلت ممن يستبقين منه نسلاً. فقالت الكبرى للصغرى: إن أبانا لشيخ، وإنسان لم يبق في الأرض ليأتينا كسبيل البشر، فهلمي بنا نسقي أبانا خمرًا ونضاجعه، لنستبقي من أبينا نسلاً. ففعلتا ذلك - بزعمهم. وجعلوا ذلك النبي قد شرب الخمر، حتى سكر، ولم يعرف ابنتيه ثم وطأهما، فأحبلهما وهو لا يعرفهما، فولدت أحدهما ولدًا سمته (مؤاب)، يعنى أنه من الأب، والثانية سمت ولدها (بن عمىِّ)، يعنى أنه من الأب، وذلك الولدان عند اليهود من (الممزريم) ضرورة، لأنهما من الأب وابنتيه. فإن أنكروا ذلك لأن التوراة لم تكن نزلت، لزمهم ذلك، لأنَّ عندهم أن إبراهيم الخليل، عليه السلام، لما خاف في ذلك العصر من أن يقتله المصريون بسبب زوجته، أخفى

نكاحها، وقال: "هى أختى". علمًا منه بأنه إذا قال ذلك لم يبق للظنون إليها سبيل، وهذا دليل على أن حظر نكاح الأخت كان في ذلك الزمان مشروعًا! فما ظنك بنكاح البنت الذي لم يجز ولا في زمن آدم، عليه السلام؟!. وهذه الحكاية منسوبة إلى لوطٍ النبي، في التوراة الموجودة بأيدى اليهود، فلن يقدروا على جحدانها. فيلزمهم من ذلك أن الولدين المنسوبين إلى لوط "ممزريم" إذ توليدهما على خلاف المشروع، وإذا كانت "روث " من ولد مؤاب، وهى جدة داود، عليه السلام، وجدة مسيحهم المنتظر، فقد جعلوهما جميعًا من نسل الأصل الذى يطعنون فيه. وأيضًا فمن أفحش المحال أن يكون شيخ كبير قد قارب المائة سنة، قد سقى الخمر حتى سكر سكرًا حال بينه وبين معرفة ابنتيه فضاجعته أحديهما، واستنزلت فيه، وقامت عنه، وهو لا يشعر كما نطق كتابهم في قوله، " ولو يا داع بشنخبا ويقوماه ". تفسيره: ولم يشعر باضطجاعها وقيامها. وهذا حديث من لا يعرف كيفية الحبل، لأنه من المحال أن تعلق المرأة من شيخ طاعن في السن قد فات حسه لفرطِ سكره. مما يؤكد استحالة ذلك أنهم زعموا أن ابنته الصغرى فعلت كذلك به في الليلة الثانية، فعلقت أيضًا!

وهذا ممتنع من المشايخ الكبار أن تعلق المرأة من أحدهم في ليلة، وتعلق منه أيضًا الأخرى في الليلة الثانية، إلا أن العداوة التي مازالت بين بنى عمون ومؤاب، وبين بنى إسرائيل بعثت واضع هذا الفصل على تلفيق هذا المحال، ليكون أعظم الأخبار فحشًا في حق بنى عمون ومؤاب. وأيضًا فإن عندهم أن موسى جعل الإمامة في الهارونيين فلما ولى طالوت، وثقلتْ وطأته على الهارونيين، وقتل منهم مقتلةً عظيمة، ثم انتقل الأمر إلى داود بقى في نفوس الهارونيين التشوف إلى الأمر الذي زال عنهم، وكان " عزرا " خادمًا لملك القدس حظيًا لديه، فتوصل إلى بناء بيت المقدس، وعمل لهم هذه التوراة التي بأيديهم. فلما كان هارونيًا كره أن يتولى عليهم في الدولة الثانية داودي، فأضاف في التوراة فصلين طاعنين في نسب داود، أحدهما قصة بناتِ لوطٍ، والآخر قصة تاماد، وسيأتي ذكرها. ولقد بلغ - لعمرى - غرضه، فإن الدولة الثانية التي كانت لهم في بيت المقدس، لم يملك عليهم فيها داوديون، بل كانت ملوكهم هارونيين، وهذا عزرا ليس هو العزير كما يظن، لأن العزير هو تعريب العازر، فأما عزرا فإنه إذا عُرِّبَ لم يتغير عن حاله، لأنه اسم خفيف الحركات والحروف، ولأن عزرا عندهم ليس بنبى، وإنما يسمونه عزيرة "هسوفير " وتفسيره: " الناسخ ".

وأيضًا فإن عندهم في التوراة قصة أعجب من هذه، وهى أن يهوذا بن يعقوب النبي عليه السلام زوج ولده الأكبر من امرأةٍ يقال لها تاماد، فكان يأتيها مستدبرًا، فغضب الله من فعله، فأماته، فزوجها يهوذا من ولده الآخر، فكان إذا دخل بها أمنى على الأرض، علمًا منه بأنه إن أولدها كان أول الأولاد مدعوًا باسم أخيه، ومنسوبًا إلى أخيه، فكره الله ذلك من فعله، فأماته أيضًا، فأمرها يهوذا باللحاق بأهلها إلى أن يكبر "شبلا" ولده، ويتم عقله، حذرًا من أن يصيبه ما أصاب أخويه. فأقامت في بيت أبيها، فماتت من بعد زوجة يهوذا، وأصعدَ إلى منزلٍ يقالُ له: " تمناث " ليجزَّ غنمه، فلما أخبرت تاماد بإصعاد حميها إلى تمناث لبست زي الزواني، وجلست في مستشرف على طريقه لعلمها بشيمته فلما مرَّ بها خالها زانيةً، فراودها، فطالبته بالأجرة، فوعدها بجدى، ورهن عندها عصاه وخاتمه، ودخل بها، فعلقت منه بفارض وزارح، ومن نسل فارض هذا كان بوعز المتزوج بروث التي من نسل مؤاب، ومن ولدهما كان داود النبى، عليه السلام. وأيضًا: ففى هذه الحكاية دقيقة ملزمة بالنسخ، وهى أن يهوذا لما أخبر بأن كفته قد علقت من الزنا أفتى بإحراقها، فبعثت إليه بخاتمه وعصاه، وقالت: من، رب هذين أنا حامل. فقال: صدقت منى ذلك. واعتذر بأنه لم يعرفها، ولم يعاودها. وهذا يدل على أن شريعة ذلك الزمان كانت مقتضية إحراق الزواني، وأن التوراة أتت بنسخ ذلك، وأوجبت الرجم عليهن.

وفيه أيضًا: نسبتهم الزنا والكفر إلى بيت النبوة، ما يقارب ما نسبوه إلى لوط النبى عليه السلام، وهذا كله عندهم في نصِّ كتابهم، وهم يجعلون هذا نسبًا لداود وسليمان، ولمسيحهم المنتظر!. ثم يرون أن المسلمين أحق بهذا اللقب من منتظرهم، وكذبهم في هذا القول من أظهر الأمور وأبينها. فأما دفعهم لإعجاز القرآن للفصحاء، فلست أعجب منه، إذ كانوا لا يعرفون من العربية ما يفرقون به بين الفصاحة والعى، مع طول مكثهم فيما بين المسلمين! وأيضًا: فمن اعتراضهم على المسلمين أنهم يقولون: كيف يجوز أن ينسب إلى الله كتاب ينقض بعضه بعضًا؟! .. يريدون بذلك: ينسخ بعضه بعضًا. فنقول لهم: أما تحسين جواز ذلك، فقد ذكرناه في أول هذه الكلمة، وأما تعجبكم منه وتشنيعكم به، فإن كتابكم غير خال من مثله. فإن أنكروا ذلك، قلنا لهم: ما تقولون في السبت، أيما أقدم، افتراضها عليكم، أو افتراض الصوم الأكبر؟! فيقولون: السبت أقدم. لأنهم إن قالوا: الصوم أقدم. كذبناهم بأن السبت فرضت عليهم في أول إعطائهم المنَّ، والصوم الأكبر فرض عليهم بعد نزول اللوحين، ومخالفتهم وعبادتهم العجل، ولما رفع عنهم عقاب ذنبهم ذلك في هذا اليوم، ففرض عليهم صومه وتعظيمه.

فصل معرب عن بعض فضائحهم

فإذا أقروا بتقدم السبت. قلنا لهم: ما تقولون في يوم السبت، هل فرضت فيه عليكم الراحة والدعة وتحريم المشقات أم لا، فيقولون بلى. فنقول لهم: فلمَ فرضتم فيه الصوم إذا اتفق صومكم الأكبر يوم السبت، مع كون صومكم فُرِضَ بعد فريضة السبت، ولكم في ذلك الصوم أنواع من المشقة، منها القيام جميع النهار، أليس هذا أيضًا قد نسخ فريضة السبت؟! وأما سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعظم وكرم، فله فيما بينهم اسمان فقط، فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين: أحدهما: " فاسول " .. وتفسيره " الساقط ". والثا نى: " موشكا " وتأويله " المجنون ". وأما القرآن العظيم، فإنهم يسمونه - فيما بينهم - " قالون " وهو اسم للسوأة بلسانهم، يعنون بذلك أنه عورة المسلمين وسوأتهم، وبذلك وأمثاله صاروا أشدَّ عداوة للذين آمنوا، فكيف لا يلعنهم الله، ويلعنهم اللاعنون؟! فصل معرب عن بعض فضائحهم ومن الفضائح التي عندهم مذهبهم في قصة اليتامى والحالوص، وذلك أنهم أمروا أنه إذا أقام أخوان في موضع واحدٍ، ومات أحدهما، ولم يعقب ولدًا، فلا يخرج امرأة الميت إلى رجل أجنبي بل ولد حميها ينكحها، وأول ولد

يولدها ينسب إلى أخيه الدارج، فإن أبى أن ينكحها خرجت متشكية منه إلى مشيخة قومها، قائلة: " قد أبى ابن حمى أن يستبقى اسمًا لأخيه في إسرائيل، ولم يرد نكاحي"، فيحضره الحاكم هناك، ويكلفه أن يقف، ويقول: "لوحا فاصتى لقحتاه ". تفسيره: "ما أردت نكاحها". فتتناول المرأة نعله، فتخرجها عن رجله، وتمسكها بيدها، وتبصق في وجهه، وتنادى عليه: " كاخاييعأس لا أيش أشيرلو يبنى اث بيت اخيو". تفسيره: " كذا فليصنع بالرجل الذي لا يبنى بيت أخيه ". ويدعى فيما بعد اسمه بالمخلوع النعل، وينعت بيته بهذا اللقب، أعني بيت المخلوع النعل. هذا كله مفترض في التوراة عليهم، وفيه حكمة ملجئة للرجل إلى نكاح زوجة أخيه الدارج، لأنه إذا علم أنه قد فرض على المرأة أن تشكوه إلى نادى قومها، فذلك مما يحمله على نكاحها، فإن لم يردعه الحياء من ذلك، فربما إذا حضر استحى أن يقول: ما أردت نكاحها. فإن لم يخجله ذلك، فربما يستحى من انتهاك العرض بخلع نعله، وكون المرأة تسل نعله، وتبصق في وجهه، وتنادى عليه بقلة البركة والمروءة. فإن هو استهان بذلك، فربما استعظم أن ينبز باللقب، ويبقى عليه وعلى آله من بعده عارهُ وقبح اسمه، فيلجئه ذلك إلى نكاحها.

ذكر السبب في تشديدهم الإصر على أنفسهم

فإن كان من الزهد فيها بحيث يهون عليه جميع ذلك، فقد فرق الشرع بينهما بعد ذلك. وليس في التوراة غير هذا، ففرَّع فقهاؤهم على ذلك ما فيه خزيهم وفضيحتهم، وذلك أنه إذا زهدت المرأة في نكاح أخو زوجها المتوفى، أكرهوه على النزول عنها، ثم ألزموها الحضور عند الحاكم، بمحضر من مشيختهم، ولقنوها أن تقول: "مئاين ينامى لها قيم لا خيوشيم بيسرائيل لو ابائيمى". تفسيره: " أبى ابن حمى أن يقيم لأخيه اسمًا في إسرائيل، لم يرد نكاحي "! فيلزموها بالكذب عليه " لأنه أراد فمنعته، فكان الامتناع منها والإرادة منه، وإذا لقنوها تلك الألفاظ، فهم يأمرونها بالكذب، ويحضرونه ويأمرونه بأن يقوم، ويقول: " لوخا فاصتى لقحتاه ". تفسيره: " ما أردت نكاحها". ولعل ذلك سؤله ومناه! فيأمرونه بأن يكذبَ. وأما إحراقها به، وبصقها في وجهه، فغاية التعدى، لأنه ما كفاهم أن كذبوا عليه، وألزموه بأن يكذب، حتى ألزموه عقابًا على ذنب لم يجنه! .. فصاروا كما قال الشاعر: وَجُرْمُ جرَّهُ سُفَهاءُ قومٍ .. فحلَّ بغيرِ جانيهِ العقابُ! ذكر السبب في تشديدهم الإصر على أنفسهم تشديد الإصر على أنفسهم له سببان: أحدهما: من جانب ففقهائهم، وهم الذين يدعون الخحاميم.

وتفسير هذه اللفظة " الحكماء"، وكانت اليهود في قديم الزمان تسمى فقهاءها بالحكماء، وكانت لهم في الشام والمدائن مدارس، وكان لهم ألوف من الفقهاء، وذاك في زمان دولة النبط البابليين، ودولة اليونان، ودولة الروم حتى اجتمع الكتابان اللذان اجتمع فقهاؤهم على تأليفهما، وهما "المشنا والتلمود". - فأما المشنا فهو الكتاب الأصغر، ومبلغ حجمه نحو ثمان مائة ورقةٍ. - وأما التلمود فهو الكتاب الأكبر، ومبلغه نحو نصف حمل بعير، لكثرته، ولم يكن الفقهاء الذين ألفوه في عصرٍ واحدٍ، وإنما ألفوه في جيلٍ بعد جيل، فلما نظر المتأخرون منهم إلى هذا التأليف، وأنه كلما مرَّ عليه قوم زادوا فيه، وأن في هذه الزيادات المتأخرة مما يناقض أوائل هذا التأليف، علموا أنهم إن لم يقطعوا ذلك، ويمنعوا من الزيادة فيه، أدى إلى الخلل الظاهر والتناقض الفاحش، فطفقوا الزيادة فيه. ومنعوا من ذلك، وحظروا على الفقهاء الزيادة فيه، وإضافة شىءٍ آخر إليه، وحرموا من يضيف إليه شيئًا آخر، فوقف على ذلك المقدار. وكانوا أئمتهم قد حرَّموا عليهم في هذين الكتابين مؤاكلة الأجانب، أعني من كان على غير ملتهم، وحظروا عليهم أكل اللحمان من ذبيحةِ من لم يكن على دينهم، لأنهم - أعني علماءهم وأئمتهم - علموا أن دينهم لا يبقى عليهم

فى هذه الحالة، مع كونهم تحت الذل والعبودية إلى أن صدوهم عن مخالطة من كان على غير ملتهم، وحرموا عليهم مناكحتهم والأكل من ذبائحهم، ولم يمكنهم المبالغة في ذلك إلا لحجةٍ يبتدعونها من أنفسهم، ويكذبون بها على الله، لأن التوراة إنما حرمت عليهم مناكحة غيرهم من الأمم، لئلا يوافقوا أزواجهم في عبادة الأصنام والكفر بالله تعالى. وحرم عليهم فيالتوراة أكل ذبائح الأمم الذين يذبحونها قربانًا إلى الأصنام؛ لأنه قد سمى عليه غير اسم الله، فأما الذبائح التي لم تذبح قربانا، فلم تنطق التوراة بتحريمها، وإنما نطقت التوراة بإباحتهم تناول المأكل من يدى غيرهم من الأمم، في قول الله، تعالى، لموسى حين اجتازوا على أرض بنى العيص: لو تشكاروبام كى لوائين لخاميارصام عاذ مذراح كف راعل ". تفسيره: لا تنحروا شواتهم، فإنى لا أعطيك من أرضهم ولا مسلك قدم "أوحل مايم نحروا مياتام بكيف واخليتم وعمرمايم تحروا مياتام بكيف وشيم ". تفسيره: مأكولاً تمتازون منهم بفضةٍ، وتأكلون. أيضًا ما تشترون منهم بفضةٍ وتشربون. فقد تبين من نصِّ التوراة أن المأكول مباح لليهود تناوله من يد غيرهم من الأمم وأكله، وهم يعلمون أن بنى العيص عابدوا أصنام، وأصحاب كفرٍ.

فلا يكون المسلمون على كل حال دون هذه المنزلة، أعني أن يساوى بينهم وبين بنى العيص، فينبغى لهم أن يأكلوا من مأكولات المسلمين، وأن يجعلوا للمسلمين تفضيلاً، بتوحيدهم وإيمانهم وكونهم لا يعبدون الأصنام. فموسى، عليه السلام، إنما نهاهم عن مناكحة عباد الأصنام، وأكل ما يذبحونه بأسمائها، ولسنا نعرف أحدًا من المسلمين يذبح ذبيحة باسم صنم ولا وثن! .. فما بال هؤلاء لا يأكلون من ذبائح المسلمين، بل ما بال من سكن بالشام، وبلاد العجم منهم، لا يأكلون من أيدى المسلمين اللبن والجبن والحلوى والخبز، وغير ذلك من المأكولات!. فإن قالوا: لأن التوراة حرمت علينا أكل الطريفا. قلنا إن: الطريفا هى الفريسة التي يفترسها الأسد أو الذئب أو غيره من السباع، ودليل ذلك قوله في التوراة: " ويا سار بساذى طريفا لو ثوخيلوا كيلب تسليخوا اوثو". تفسيره: " ولحمًا في الصحراء فريسة لا تأكلوا للكلب ألقوه ". فلما نظر أئمتهم أن التوراة غير ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عباد الأصنام، وأن التوراة قد صرحت بأن تحريم مؤاكلتهم ومخالطتهم خوف استدراجهم بالمخالطة إلى مناكحتهم، وأن مناكحتهم إنما تكره خوف استتباعها الانتقال إلى أديانهم، وعبادة أوثانهم، ووجدوا جميع هذا واضحًا في التوراة

اختلقوا كتابًا سموه: " هلكت شحيطا" ومعناه "علم الذباحة"، ووضعوا في هذا الكتاب من تشديد الإصر عليهم، ما شغلوهم به عمَّا هم فيه من الذل والمشقَّةِ، وذلك أنهم أمروهم بأن ينفخوا الرئة، حتى تمتلئ هواءً، ويتأملونها هل يخرج الهواء من ثقب منها أم لا؟ .. فإن خرج منها الهواء حرموه، وإن كانت بعض أطراف الرئة لاصقة ببعضٍ لم يأكلوها! وأيضًا: فإنهم أمروا الذي يتفقد الذبيحة أن يدخل يده في بطن الذبيحة، ويتأمل بأصابعهِ، فإن وجد القلب ملتصقًا إلى الظهر أو أحد الجانبين، ولو كان الالتصاق بعرق رقيق كالشعرة، حرموه وسموه طريفا! ويعنون بذلك أنه نجس أكله، وهذه التسمية هى أول التعدي منهم، لأنه ليس موضوعها في اللغة إلا المفترس الذي يفترسه بعض الوحوش ودليل ذلك قول يعقوب لما جاءوه بقميص يوسف ملوثًا بالدم: " وبكيراه ويومر لثويث بنى حيارعا اخالا لهو طاروف طوارف يوسف ". تفسير: فتأملها، وقال: " ذراعه ابنى، وحش ردىء أكله افتراسًا افترس يوسف ". فقد تبين أن تفسير طاروف طوارف يوسف " افتراسًا افترس يوسف، فالطريفا هى الفريسة. ودليل آخر، وهو أنه قال: " ولحمًا في الصحراء فريسة لا تأكلوا". والفريسة أبدًا إنما توجد في الصحراء. وليس ينبغى أن تعجب من ذلك، فإن هذا النهى عن أكل الفريسة، إنما نزل على قوم ذوى أخبية يسكنون البر، وذلك أنهم مكثوا يترددون في التيه والبرارى تمام

أربعين سنة، وكان أكثر هذه المدة لا يجدون طعامًا إلا المنَّ، فلما اشتد قرمهم إلى اللحم، جاءهم موسى بالسلوى وهو طائر صغير يشبه السماني، وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية ويذهب الحزن والقساوة، وذلك أن هذا الطائر يموت إذا سمع صوت الرعد. كما أن الخطاف يقتله البرد، فيلهمه الله عز وجل، أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون بها مطر ولا رعد، إلى انفصال أوان المطر والرعد، فيخرج من الجزائر، وينتشر في الأرض، فجلب الله إليهم هذا الطائر لينتفعوا بما في أكل لحمه من الخاصية، وهى تليين القلوب القاسية، وكان قد اشتد قرمُهم إلى اللحم قبل ذلك، بحيث لم يمنعهم من أكل الفريسة والميتةِ، إلا نزول تحريمها في التوراة. فقد تبين التعدي من مشايخهم فى تفسير "الطريفا"، وأنه " الفريسة". فأما فقهاؤهم فقد اختلقوا من أنفسهم هذياناتٍ وخرافاتٍ، تتعلق بالرئة والقلب، وقالوا: ما كان من الذبائح سليمًا من هذه الشروط، فهو "دخيا "، وتفسير هذه الكلمة " طاهر " .. وما كان خارجًا عن هذه الشروط فهو "طريفا". وفسروا هذه الكلمة "حرام ". وقالوا: معنى قول التوراة "ولحمًا فريسة في الصحراء، لا تأكلوا، للكلب ألقوه ". يعنى إذا ذبحتم ذبيحة، ولم تجدوا فيها هذه الشروط، فلا تأكلوها، بل بيعوها على من ليس من أهل ملتكم!

وذلك أنهم فسروا قوله: " للكلب ألقوه " أى لمن ليس على ملتكم أطعموه وبيعوه! .. إلا أنهم على الحقيقة أشبهُ بالكلاب، وأحقُ بهذا اللقب والتشبيه، لقبح عقولهم، وسوء ظنونهم واعتقادهم في سواهم من الأمم. ثم إن اليهود فرقتان، أحدهما عَرفت أن أولئك السلف الذين ألفوا "المشنا" و"التلمود"، وهم فقهاء اليهود، كذابون على الله وعلى موسى النبي، أصحاب حماقاتٍ ورقاعاتٍ هائلة. من ذلك: أن أكثر مسائل فقههم ومذهبهم يختلفون فيها، ويزعمون أن الفقهاء كانوا إذا اختلفوا في كل واحدةٍ من هذه المسائل، يوحى اللهُ إليهم بصوتٍ يسمعه جمهورُهم، يقول: الحقُ في هذه المسألة مع الفقيه فلان! .. وهم يسمون هذا الصوت "بث قول". فلما نظر اليهود القراءون، وهم أصحاب "عالمون " و " بنيامين " إلى هذه المجالات الشنيعة، وإلى هذا الافتراءِ الفاحش، والكذب البارد انفصلوا بأنفسهم عن الفقهاء، وعن كل من يقول بمقالتهم، وكذبوهم في كل ما افتروا به على الله. وقالوا - بعد أن ثبت كذبهم على الله - وأنهم قد ادعوا النبوة، وزعموا أن الله كان يوحى إلى جميعهم في كل يوم مراتٍ، فقد فسقوا، ولا يجوز قبولُ شىءٍ منهم، فخالفوهم في سائر ما أصلوه، من الأمور التي لم ينطق بها نصُّ التوراة، وأكلوا اللحم باللبن، ولم يحرموا سوى لحم الجدي بلبن أمهِ، فقط مراعاة للنص، أعني قول التوراة:

"لا تنضج الجدي بلبن أمه " .. وأما الترهات التي أنها الحاخاميم الفهقاء، وسموها "هلكت شحيطا"، أعني: "علم الذباحة"، وهى المسائل الفقهية التي رتبها الفقهاء، ونسبوها إلى الله عن موسى، عليه السلام، فإن القرائين اطرحوها مع غيرها وألغوها، وصاروا لا يحرمون شيئًا من الذبائح التي يتولون ذباحتها ألبتة. فهذا حال هذه الطائفة من اليهود، أعني القرائين. ولهم أيضا فقهاء أصحاب تصانيف، إلا أنهم لم يبالغوا في الكذب على الله، إلى حد أن يدعوا النبوة، ولا نسبوا شيئًا من تفاسيرهم إلى النبي، ولا إلى الله، بل إلى اجتهادهم. 2 - والفرقة الثانية يقال لهم: الربانيون: وهم أكثر عددًا، وهم شيعة الحاخاميم الفقهاء، المفترين على الله، الذين يزعمون أن الله كان يخاطبهم في كل مسألة بالصوت الذي سموه "بث قولِ ". وهذه الطائفة أشدُّ اليهود عداوة لغيرهم من الأمم، لأنَّ أولئك الفقهاء المفترين على الله قد أوهموهم أن المأكولات والمشروبات إنما يحل للناس بأن يستعلموا فيها هذا العلم، الذي نسبوه إلى موسى، وإلى الله، وأن سائر الأمم لا يعرفون هذا، وأنهم إنما شرفهم الله بهذا وأمثاله من الترهات التي أفسدوا بها

عقولهم، فصار أحدهم ينظر إلى من ليس على ملته، كما ينظر إلى بعض الحيوانات التي لا عقل لها، وينظر إلى المآكل التي تأكلها الأمم، كما ينظر الرجل العاقل إلى العذرة، أو إلى صديد الموتى، وغير ذلك من الأشياء القذرة، التى لا يسوغ لأحدٍ أكلها! فهذا هو الأصل في بقاء هذه الطائفة على أديانها، لشدةِ مباينتها لغيرها من الأمم، ولأنهم ينظرون إلى الناس بعين النقص والإزراء إلى أبعد غاية. .. أما الطائفة الأولى، وهم القراءون، فأكثرهم خرج إلى دين الإسلام أولاً فأولاً، إلى أن لم يبق منهم إلا نفرٌ يسير، لأنهم أقربُ إلى الاستعداد لقبول الإسلام لسلامتهم من محالات فقهاء الربانيين، أصحاب الافتراء الزائد، الذين شددوا على جماعتهم الإصر. فقد تبين، مما ذكرنا، أن الحاخاميم هم الذين شددوا على هذه الطائفة دينهم، وضيقوا عليهم المعيشة والإصر، قصدوا بذلك مبالغتهم في مضادة مذاهب الأمم، حتى لا يختلطوا بهم، فيؤدي اختلاطهم بهم إلى خروجهم من دينهم. والسبب الثاني في تضييق الإصر عليهم أن اليهود مُبددون في شرق البلاد وغربها، فما من جماعة منهم في بلدةٍ إلا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة، يظهر لهم الخشونة في دينهِ، والمبالغة في التورع والاحتياط. فإن كان من المتفقهة فهو يسرع في إنكار أشياء عليهم، ويوهمهم التنزه عمَّا هم فيه، وينسبهم إلى قلة الدين، وينسب ما ينكره عليهم إلى مشايخه وأهل بلده، ويكون في أكثر ذلك الإسناد كاذبًا، ويكونُ قصدهُ بذلك إما الرئاسة عليهم، وإما

تحصيل غرض منهم، ولا سيما إن أراد المقام بينهم، أو التدين عندهم، فتراه أول ما ينزل بهم لا يأكل من أطعمتهم ولا من ذبائحهم، ويتأمل سكين ذبائحهم، وينكر عليهم بعض أمره. ويقول: أنا لا آكل إلا من ذباحة يدي، فتراهم معه في عذابٍ لا يزال ينكر عليهم الحلال والمباح، ويوهمهم تحريمه بإسنادات يخترعها، حتىَ لا يشكوا فى ذلك. فإن وصل بعد مدة طويلة من أهل بلده من يعرف أنه كاذب في تلك الإسنادات، فلا يخلو أمره من أن يوافقه أو يخالفه، فإن وافقه فإنما يوافقه ليشاركه في الرئاسة الناموسية التي حصلت له، وخوفًا من أن يكذب إن خالفه، وينسب إلى قلة الدين. وأيضًا: فإن القادم الثاني - في أكثر الأمر - يستحسن ما اعتمده القادم الأول من تحريم المباحات وإنكار المحللات، ويقول لقد عظم الله ثواب فلانٍ، إذ قوى ناموس الدين في قلوب هذه الجماعة، وشيد سياج الشرع عندهم. وإذا على الانفراد يشكره ويجزيه خيرًا، ويقول له: لقد زين الله بك أهل بلدنا! وإن كان القادم الثاني ينكر ما أتى به القادم الأول من الإنكار عليهم والتضييق، لم يبق من الجماعة واحد يستنصحه ويصدقه، بل جميعهم ينسبونه إلى قلة الدين، لأن هؤلاء القوم يعتقدون أن تضييق المعيشة وتحريم المحللات، هو

المبالغة في الدين والزهد وعم أبدًا يعتقدون الدين والحق مع من يضيق عليهم ولا ينظرون هل يأتي بدليل أم لا، ولا يبحثون عن كونه محقًا أو مبطلاً؟! هذا حال القادم إلى بلد من متفقهة. فأما إن كان القادم أحد أحبار اليهود وعلمائهم، فهنالك ترى العجب من الناموس الذي يعتمده، والسنن التي يحدثها ويلحقها الفرائض، ولا يقدر أحدهم على الاعتراض عليه، فتراهم مستسلمين إليه، وهو يختلب درهم، ويجتلب بحيله درهمهم، حتى لو بلغه أن بعض أحداث اليهود، قد جلس على قارعة الطريق في يوم السبت، أو اشترى لبنًا من بعض المسلمين أو خمرًا، ثلبه وسبه فى تجمع من يهود المدينة، وأباحهم عرضه ونسبه إلى قلة الدين! فهذا السبب، والسبب الذي ذكرناه قبله، العلة في تشديد الإصر الذى جعلته اليهود على أنفسها، وتضييق المعيشة عليها، وتجنبهم مآكل غيرهم، ومخالطة من كان على غير ملتهم، وقد أوضحناهما للمتأمل.

خاتمة الكتاب

خاتمة الكتاب أحق الناس بأن يرسم بالجهالة، وينبز بالضلالة من كان طبعه أبيًا عن الانقياد للحقائق، وعقله بعيدًا عن فهم اليقين. فأما من شقت درجته عن ذلك، وكان مع ذلك أبيًا عن تسليم الحقائق، متسرعًا إلى قبول الباطل، وتصديق المستحيل، فهو حقيق النسبة إلى الجنون والسقوط. وهذه الطائفة أحقُ الناس بذلك، لأن آباءهم كانوا يشاهدون في كل يوم من الآيات الحسية، والنار السمائية، ما لم يره غيرهم من الأمم، وهم مع ذلك يهمون برجم موسى وهارون في كثير من الأوقات، وكفى باتخاذهم العجل في أيام موسى، وإيثارهم العودة إلى مصر والرجوع إلى العبودية، ليشبعوا من أكل اللحم والبصل والقثاء. ثم عبادتهم الأصنام بعد عصر يوشع بن نون، ثم انضمامهم إلى ايشالوم، الولد العاق، ولد داود من بنت ملك الكرخ، فإن سوادهم الأعظم انضم إلى هذا الولد العاصي العاق، وشدوا معه على حرب الملك الكبير داود، عليه السلام!! ثم إنهم لما عادوا إلى طاعة داود، جاءت وفودهم وعساكرهم متقاطرة إليه، مستغفرين مما ارتكبوه، مستبشرين بسلامة الملك داود، بحيث اختصم الأسباط

مع سبع يهوذا، إذ عبروا بالملك الأردن، قبل مجىء عساكر الأسباط، غيرةً منهم على السبق إلى خدمة الملك، وتعاتبوا في ذاك عتابًا رقيقًا، فقال سبط يهوذا: نحن أحق الناس بالسبق إلى الملك، والاختصاص بخدمته، لأنه منا، فلا وجه لعتبكم علينا يا بنى إسرائيل في ذلك. فنبغ فضولي، يقال له: "نخزى بن شيبع " فنادى برفيع صوته: " لا نصيب لنا في داود، ولاحظ لنا في ابن بيشاى، ليمض كل منكم إلى خبائه يا إسرائيليين "! فما كان بأسرع من انفضاض عسكر بنى إسرائيل عن داود، بسبب كلمة ذلك الفضولي، ولما توصل الوزير "يؤاب " إلى قتل ذلك المشغب، عادت العساكر جميعها إلى طاعة داود. فما كان القوم إلا مثل رعاع همج العوام، الذين يجمعهم دبدبة وتفرقهم صيحة. وأما عبادتهم الكبشين، وتركهم الحج إلى القدس، ثم إصرارهم على مخالفة الأنبياءِ، إلى انقضاء دولتهم، فمما لا يصدر عن متمسك بأهداب العقل!! وسبيلهم أن لا يتطرقوا لمعائب أحد من الأمم، إذ كانت هذه مخازيهم وفضائحهم! فأما تسرعهم إلى قبول الباطل والمستحيل، فإنا نذكر منه طرفًا ينبئ عن قلة عقولهم، وهو ما جرى في زماننا، من أذكاهم وأكيسهم وأمكرهم، وهم يهود بغداد.

فإن محتالاً من شبان اليهود نشأ بسواد الموصل، يقال له: "مناحيم بن سليمان. ويعرف "بابن الروجى"، وكان ذا جمالٍ في صورته، وقد تفقه في دينهم، بالإضافة إلى الخمر من اليهود الساكنين بالناحية المعروفة بالعمادية من بلد الموصل. وكان المتولي للقلعة هناك ذا ميل إلى ذلك المحتال وحب له، لحسن اعتقاد فيه، ولما توهم فيه من ديانة تظاهر بها، بحيث كان الوالى يسعى إلى زيارته، فطمع ذلك المحتال في جانب الوالى، واستضعف عقله، فتوهم أنه يتمكن من الوثوب على القلعة وأخذها، وأنها تضحى له معقلاً حصينًا، فكتب إلى اليهود المستقرين بنواحى بلاد أذربيجان، وما والاها، لأنه علم أن يهود الأعاجم أقوى جهالة من سائر اليهود. وذكر في كتبه أنه قائم قد غار لليهود من يد المسلمين، وخاطبهم بأنواع من المكر والخديعة. فمن بعض فصول كتبه التي رأيتها تحوى ما هذا معناه. " ولعلكم تقولون هذا لأىِّ شىء قد استفزَّنا لحرب أم لقتال؟، لسنا نريدكم لحرب ولا لقتال، بل لتكونوا واقفين بين يدى هذا القائم، ليراكم هناك من يغشاه من رسل الملوك الذين ببابه ". وفى أواخر الكتب: "ينبغى أن يكون مع كل واحدٍ منكم سيف أو غيره من آلات الحرب، ويخفيه تحت أثوابه ".

فاستجاب له يهود الأعاجم، وأهل نواحى العمارية، وسواد الموصل، ونفروا إليه بالسلاح المستتر، حتى صار عنده منهم جماعة كبيرة، وكان الوالى لحسن ظنه به، يظن أن أولئك القادمين إنما جاءوا إلى زيارة ذلك الحبر، الذي قد ظهر لهم - بزعمه - في بلده، إلى أن انكشفت له مطامعهم، وكان حليًما عن سفك الدماء، فقتل صاحب الفتنة المحتال وحده. وأما الباقون فتهاجوا مدبرين، بعد أن ذافوا وبال المشقة والخسارات والفقر، ولم تنكشف لهم هذه القصة مع ظهورها لكل ذي عقل، بل هم إلى الآن يفضلونه على كثير من أنبيائهم، أعني يهود العمارية! .. ومنهم من يعتقد أنه المسيح المنتظر بعينه إ! ولقد رأيت جماعة من يهود الأعاجم بجوى وسلماس وتبريز ومراغة، وقد جعلوا اسمه قسِّهم الأعظم! وأما من بالعمارية من اليهود فصاروا أشد مباينة ومخالفة في جميع أمورهم لليهود من النصارى! .. وفى تلك الولاية جماعة منهم على دين ينسبونه إلى "مناحيم " المحتال المذكور. ولما وصل خبره إلى بغداد اتفق هناك شخصان من محتالي اليهود ودواهي مشيختهم، مرروا على لسان مناحيم - كتبًا إلى بغداد، يبشرهم بالفرج الذي كانوا قديًما ينتظرونه، وأنه يعين لهم ليلة يطيرون فيها أجمعون إلى بيت المقدس.

فانقاد اليهود البغداديون إليهما، مع ما يدعونه من الذكاء، ويفخرون به من الحب، انقادوا بأسرهم إلى تصديق ذلك، وذهب نسوانهن بأموالهن وحليهن، إلى ذينك الشخصين، ليصدقا به عنهن، على من يستحقه - بزعمهما. وصرف اليهود جل أموالهم في هذا الوجه، واكتسوا ثيابًا خضرًا، واجتمعوا في تلك الليلة على السطوح، ينتظرون الطيران - بزعمهم - على أجنحة الملائكة إلى بيت المقدس، وارتفع للنسوان منهم بكاء على أطفالهن المرتضعين، خوفًا أن يطرن قبل طيران أولادهن أو يطير أطفالهن قبلهن، فتجوع الأطفال بتأخر الرضاع عنهم! وتعجب المسلمون هناك مما اعترى اليهود حينئذ، بحيث أحجموا عن معارضتهم، حتى تنكشف آثار مواعيدهم العرقوبيَّة، فمازالوا متهافتين إلى الطيران إلى أن أسفر الصباح عن خذلانهم وامتهانهم، ونجا ذانك المحتالان بما وصل إليهما من أموال اليهود، وانكشف لهم بعد ذلك وجه الحيلة، وما تظاهرو به من جلباب الرذيلة. فسموا ذلك العام، عام الطيران، وصاروا يعتبرون به سنى كهولهم والشبان، وهو تاريخ البغداديين من المتهودة في هذا الزمان، فكفاهم هذا الأمر عارًا دائمًا وشنارًا ملازمًا!

ذكر سبب إسلام السموأل

وفيما قد أوردناه كفاية قاضية للوطر من إفحامهم وإلجامهم بما هو عين ما عندهم. وأعوذ بالله مما يشركون، وإليه البراءة مما يكفرون، والحمد لله رب العالين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ذكر سبب إسلام السموأل إن أبى كان يقال له: الراب يهوذا بن أيوب "، من مدينة فاس، التي بأقصى المغرب. و "الراب ": لقب ليس باسم. وتفسيره: الحبر. وكان أعلم أهل زمانه بعلوم التوراة، وأقدرهم على التوسع في الإنشاء والإعجاز في ارتجال منظوم العبرانى ومنشوره. وكان اسمه المدعو به بين أهل العربية "أبا البقاء بن يحيى بن عباس المغربى". وذلك أن كثيرًا من متخصصيهم يكون له اسم عربى، غير اسمه العبرى مشتق منه، كما جعلت العرب الاسم غير الكنية. وكان اتصاله بأمي ببغداد، وأصلها من البصرة، وهى إحدى الأخوات الثلاث المنجَّبات في علوم التوراة، والكتابة بالقلم العبرى، وهن بنات إسحاق بن إبراهيم البصرى الليوى، أغنى سبط ليوى، وهو مضبوط النسب، لأن منه كان موسى عليه السلام. وكان إسحاق هذا ذا علوم يدرسها ببغداد، وكانت أمهن نفيسة بنت أبى نصر الداودي المصري، وهذا الداودي من رؤسائهم المشهورين، وذريته إلى الآن بمصر، وكان اسم أمي باسم أم شموائيل النبي عليه السلام. وكان هذا النبي ولد بعد أن مكثت أمه عاقرًا لا ترزق ولدًا، ولا تحبل مدة سنين، حتى دعت ربها نما طلب ولد يكون ناسكا لله تعالى، ودعا لها رجل صالح من الأئمة، يقال له "عبلى"، فولدت شموائيل النبى.

ومكثت أمى كذلك عند أبى مدة لا ترزق ولدًا، حتى استشعرت العقم، فرأت فى منامها أنها تتلو مناجاة "حنة" أم شموائيل لربها، فنذرت أنها إن رزقت ولدًا ذكرًا تسميه شموائيل، لأن اسمها كان باسم أم شموائيل. فاتفق أنها بعد ذلك اشتملت علىَّ، وحين رُزقتنى دعتنى "شموائيل "، وهو إذا عُرِّب: "السموأل "، وكنانى أبى "أبا نصر"، وهى كنية جدى. وشغلنى أبى بالكتابة بالقلم العبرى، ثم بعلوم التوراة وتفاسيرها، حتى إذا أحكمت علم ذلك عند كمال السنة الثالثة عشر من مولدى، شغلنى حينئذ بتعلم الحساب الهندى، وحل الزيجات، عند الشيخ الأستاذ العالم أبى الحسن البكرى. وقرأت علم الطب على الفيلسوف أبى البركات هبة الله بن على رحمه الله تعالى، والتأمل في علاج الأمراض، ومشاهدة ما ينفق من الأعمال الصناعية في الطب، والعلاجات التي يعالجها خالى أبو الفتح الطبيب ابن البصرى. فأما الحساب الهندى والزيج، فإنى حملت علمهما في أقل من سنة، وذلك حين كمل لي أربع عشرة سنة، وأنا في خلال ذلك لا أقطع القراءة في الطب، ومشاهدة علاج الأمراض، ثم قراءة الحساب الديوانى. وعلم المساحة على الشيخ الإمام العالم أبى المظفر بن السهروردى رحمه الله تعالى، وقرأت الجبر والمقابلة أيضًا عليه وعلى الكاتب ابن أبى تراب. وترددت إلى الأستاذ أبى الحسن بن البسكرى، وأبى الحسن بن النفاش، لقراءة الهندسة، حتى حللت المقالات التي كانا يحلانها من كتب إقليدس، وأنا في خلال ذلك متشاغل بالطب حتى استوعبت ما ذكرته من الأستاذ ابن البسكرى من هذه العلوم. بقى بعض كتاب المجسطى في الحساب، والكتاب السابع في الجبر، والمقابلة للكرخى، لا أجد من يعرف منه شيئًا، وغير ذلك من العلوم الرياضية، مثل كتاب شجاع بن أسلم في الجبر، والمقابلة وغيره.

وكان لما من الشغف بهذه العلوم والعشق لها ما يلهينى عن المطعم والمشرب، إذا فكرت في بعضها، فخلوت بنفسى في بيت، وحللت جميع تلك الكتب وشرحتها، ورددت على من أخطأ فيها، وأظهرت أغلاط مصنفيها، وعرَّبتُ ما عجزوا عن تصحيحه وتحقيقه، وأدركت على إقليدس في ترتيب أشكال كتابه، بحيث أمكننى إذا غيرت نظام أشكاله، أن أستغنى عن عدة منها لا يبقى إليها حاجة بعد. وكتاب إقليدس معجز لسائر المهندسين، إذ لم يحدثوا أنفسهم بتغيير نظام أشكاله، ولا بالاستغناء عن بعضها، كل ذلك في هذه السنة، أعني الثامنة عشرة من مولدى، واتصلت تصانيفى في هذه العلوم منذ تلك السنة وإلى الآن، وفتح الله علىَّ كثيرًا، مما ارتج على من سبقنى من الحكماء المتدربين، فدونت ذلك، لينتفع به من فُتح عليه. في خلال ذلك ليس لي مكسب إلا بضاعة الطب، وكان لي منها أوفر حظٍ، إذ أعطانى الله من التأييد فيها ما عرفت به كل مرض يقبل العلاج من الأمراض التي لا علاج لها، فما عالجت مريضًا إلا وعوفي، وما كرهت علاج مريض إلا وعجز عن علاجه سائر الأطباء، وكاعوا من تدبيره، فالحمد لله على جزيل مننه، وعظيم فضله. واتضح لي، بعد مطالعة ما طالعته من الكتب التي بالعراق والشام وأذربيحان وكوهستان، الطريق إلى استخراج علوم كثيرة، واختراع أدوية لم أعرف أنى سبقت إليها، مثل الدريات الذي وسمته بالخلص ذى الكوة النافذة، وهو يبرئ من عدة أمراض عشرةٍ في بعض يوم، وغيره من الأدوية التي ركبتها مما فيه منافع وشفاء للناس، بإذن الله تعالى.

وقد كنت قبل اشتغالى بهذه العلوم، ذلك في السنة الثالثة عشرة، مشغوفًا بالأخبار والحكايات، شديد الحرص على الاطلاع على ما كان في الزمان القديم، والمعرفة بما جرى في القرون الخالية. فاطلعت على التصانيف المؤلفة في الحكايات والنوادر، على اختلاف فنونها، ثم انتقلت عن ذاك إلى محبة الأسمار والخرافات، ثم إلى الدواوين الكبار، مثل ديوان أخبار عنترة، وديوان ذو الهمة والبطال، وأخبار الإسكندر ذى القرنين، وأخبار العنقاء، وأخبار المطرف بن لوذان وغير ذلك. ثم إنى لما طالعت ذلك اتضح لي أن أكثره من تأليفات الوراقين، فطلبت الأخبار الصحيحة، فمالت همتى إلى التواريخ، فقرأت كتاب أبى على بن مسكويه الذى سماه "تجارب الأمم "، وطالعت "تاريخ الطبري"، وغيرهما من التواريخ، وكان يمر بى في هذه التواريخ أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغزواته، وما أظهره الله عليه من المعجزات، وما خصه به من الكرامات، وحباه من النصر والتأييد في غزاة بدر، وغزاة خيابر وغيرها. وقصة منشئه في اليتم والضعف ومعاداة أهله له، وإقامته فيما بينه وبين أعدائه، يجاهرهم بإنكار دينهم عليهم، والدعوة إلى دينه مدةً طويلة، وسنين كثيرة، إلى أن أذن الله له في الهجرة إلى دار عزَّة، وما جرى للأعداء التي جاهدوه من أهل الكتاب، ومصرعهم بين يديه بسيوف أوليائه ببدرٍ وغيرها.

وظهور الآية العجيبة في هزيمة الفرس، ورستم الجبار معهم في ألوفٍ كثيرة على غاية الحشد والقوة، بين يدى أصحاب سعد بن أبى وقاص، وهم في فئةٍ يسيرة على حالٍ من الضعف، ومنام كسرى أنو شروان وانكسار الروم، وهلاك عساكرهم على يدى أبى عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، رحمة الله عليهما. ثم سياسة أبي بكر وعمر، رضى الله عنهما، وعَدْلهما وزهدهما. ومع ذلك فإنى كنت لكثرة شغفي بأخبار الوزراء والكتاب، قد اكتسبت، بكثرة مطالعتى لحكاياتهم وأخبارهم وكلامهم، قوةً في البلاغة، ومعرفة بالفصاحة، وكان لي من ذلك طبع يحمده الفصحاء، ويعجب به البلغاء. قد يعلم ذلك منى من تأمل كلامى في بعض الكتب التي ألفتها في أحد الفنون العلمية، فشاهدت المعجزة التي لا تباريها الفصاحة الآدمية في القرآن، فعلمت صحة إعجازه. ثم إنى لما هَذَّبَتْ خاطرى العلوم الرياضية، ولا سيما الهندسة وبراهينها، راجعت نفسى في اختلاف الناس في الأديان والمذاهب. وكان أكبر المحركات لي إلى البحث عن ذلك مطالعتى كتاب برزويه الطبيب من كتاب "كليلة ودمنة"، وما وجدت فيه، فعلمت أن العقل حاكم يجب تحكيمه على كليات أمور عالمنا هذا، إذ لولا العقل. أرشدنا إلى اتباع الأنبياء والرسل، وتصديق المشايخ والسلف، لما صدقناهم في سائر ما نقلنا عنهم.

وعلمت أنه إذا كان أصل التمسك بالمذهب الموروث عن السلف، وأصل اتباع الأنبياء، مما دعا إليه العقل، فإن تحكيم العقل على كليات جميع ذلك واجبٌ، وإذا نحن حكمنا بالعقل على ما نقلناه عن الآباء والأجداد، علمنا أن النقل عن السلف ليس يوجب العقل قبوله، من غير امتحان لصحته، بل بمجرد كونه مأخوذًا عن السلف، لكن من أجل أنه يكون أمرًا حقيقة فى ذاته، والحجة موجودة بصحته. فأما الأبوة والسلفية وحدها، فليست حجة إذ لو كانت حجة، لكانت أيضًا حجة لسائر الخصوم الكفار، كالنصارى، فإنهم نقلوا عن أسلافهم أن عيسى ابن الله، وأنه الرازق المانع الضار النافع. فإن كان تقليد الآباء والأسلاف يدل على صحة ما ينقل عنهم، فإن ذلك يلزم منه الإقرار بصحة مقالة النصارى، ومقالة المجوس، وإن كان هذا التقليد لأسلاف اليهود خاصة - دون غيرهم - من الأمم - فلا يقبل منهم ذلك، إلا أن يأتوا بدليل على أن أباءهم وأسلافهم كانوا أعقل من آباء الأمم الأخرى وأسلافهم. فإن ادعت اليهود ذلك في حق آبائها وأسلافها، فجميع أخبار أسلافهم ناطقة بتكذيبهم في ذلك.

وإذا طلبنا التعصب منهم، فنحن نجعل لآبائهم أسوة بسائر آباء غيرهم من الأمم، فإذا كانت آباء النصارى وغيرهم قد نقلوا عن آبائهم الكفر والضلال الذي تهرب العقول منه، وتنفر الطباع السليمة عنه، فليس يمتنع أن يكون ما نقله اليهود عن آبائهم أيضًا بهذه الصفة. فلما علمتُ أن اليهود لهم أسوة بغيرهم فيما نقلوه عن الآباء والأسلاف علمت أنه ليس بأيديهم حجة صحيحة بنبوة موسى إلا شهادة التواتر، وهذا التواتر موجود بعيسى ومحمد، كوجوده لموسى عليهم السلام أجمعين، فإن كان التواتر يفيد تصديقًا، فالثلاثة صادقون ونبوتهم معًا صحيحة. وعلمت أيضًا أنى لم أر موسى بعينى، ولم أشاهد معجزاته، ولا معجزات غيره من الأنبياء، عليهم السلام، ولولا النقل وتقليد الناقلين، لما عرفنا شيئًا من ذلك، فعلمت أنه لا يجوز للعاقل أن يصدق بواحد ويكذِّب واحدًا من هؤلاء الأنبياء، عليهم السلام، لأنه لم ير أحدهم ولا شاهد أحواله إلا بالنقل، وشهادة التواتر موجودة لثلاثتهم. فليس من العقل، ولا من الحكمة أن يصدق أحدهم ويكذب الباقون، بل الواجب عقلاً إما تصديق الكل وإما تكذيب الكل، فأما تكذيب الكل، فإن العقل لا يوجبه أيضًا، لانأ إنما نجدهم أتوا بمكارم الأخلاق وندبوا إلى الفضائل، ونهوا عن الرذائل، ولأنَّا نجدهم ساسوا العالم سياسة بها صلاح حال أهله. فصحَّ عندى بالدليل القاطع نبوة المسيح والمصطفى عليهما السلام، وآمنت بهما.

المنام الأول

فمكثتُ برهةً أعتقد ذلك من غير أن ألتزم الفرائض الإسلامية، مراقبة لأبي، وذلك أنه كان شديد الحب لي، قليل الصبر عني، كثير البرّ بي، وكان قد أحسن تربيتي، إذ شغلني منذ أوَّل حداثتي بالعلوم البرهانية، وربى ذهني وخاطري في الحساب والهندسة العلمين اللذين مدح أفلاطون عقل من يتربى ذهنه في النظر فيهما. فمكثت مدة طويلة لا يفتح علىَّ وجه الهداية، ولا تنحل عنى هذه الشبهة، وهى مراقبة أبي، إلى أن حالت الأسفار بينى وبينه، وبعدت داري عن داره، وأنا مقيم على مراقبته، وألتزم من أن أفجعه بنفسى، وحان وقت الهداية، وجاءتني الموعظة الإلهية، برؤيتى للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، في ليلة الجمعة تاسع ذى الحجة، سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وكان ذلك بمراغة من أذربيجان. وهذا شرح ما رأيت: المنام الأول رأيت كأن في صحراء فيحاء مخضرَّة، يلوح من شرقيها شجرة عظيمة والناس يهرعون إلى تلك الشجرة .. فسالت بعضهم عن حال الناس؟ .. فقال: إن تحت الشجرة شموائيل النبي جالسا، والناس يسلمون عليه، فسررت بما سمعته، وقصدت الشجرة، فوجدت في ظلها شيخًا جسيمًا بهيًا وقورًا، شديد بياض الشعر، عظيم الهيبة، بيده كتاب ينظر فيه، فسلمت عليه، وقلت بلسان عربي: السلام عليك يا نبي الله.

فالتفت إلىَّ مبتِسمًا، وهش إلىَّ، وقال: وعليك السلام يا شريكنا في الاسم، اجلس لنعرض عليك أمرًا .. فجلست بين يديه فدفع إلىَّ الكتاب الذي بيده. وقال: اقرأ ما تجده بين يديك، فوجدتُ بين يدى هذه الآية من التوراة: " نابى أقيم لاهيم مقارب أجيهيم كاموخا إيلا ويشماعون " .. تفسيره: نبيًا أقيم لهم من وسط أخيهم مثلك فليؤمنوا .. وهذه مناجاة من الله، عز وجل، لموسى، وكنت أعرف اليهود يقولون أن هذه الآية نزلت في حق شموائيل النبي، لأنه كان مثل موسى، يعون أنه كان من سبط ليوى، وهو السبط الذي كان منه موسى، فلما وجدت بين يدى هذه الآية من التوراة قرأتها، وظننت أنه يذهب إلى الافتخار بأن الله، تعالى ذكره فى التوراة وبشَّر به موسى، عليه السلام، .. فقلت: هنيئا لك يا نبي الله، ما خصك الله به من هذه المنزلة فنظر إلىَّ مغضبًا، وقال: أو إياي أراد الله بهذا يا ذكيًا ما أفادتك إذًا البراهين الهندسية. فقلت: يا نبي الله، فمن أراد الله بهذا؟ قال: الذى أراد به في قوله: "هو قيع ميها فاران " .. تفسيره: "إشارة إلى نبوة وعد بنزولها على جبال فاران. فلما قال لي ذلك، عرفت أنه يعني المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، لأنه المبعوث من جبال فاران، وهى جبال مكة، لأن التوراة ناطقة نصًا بأن "فاران " مسكن لأول إسماعيل، وذلك قول التوراة، وينسب "بمدنار فاران " يعنى ولد إبراهيم الخليل، عليهما السلام. ثم عاد والتفت إلىَّ، وقال: أما علمت أن الله لم يبعثنى بنسخ شيء من التوراة، وإنما بعثني لأذكرهم بها، وأحيي شرائعها وخاصهم من أهل فلسطين .. فقلت: بلى يا نبي الله .. قال: فأي حاجة بهم إلى أن يوصيهم ربهم باتباع من لم ينسخ دينهم، ولم يغير شريعتهم، أرأيتهم احتاجوا إلى أن يوصيهم بقبول نبوة دانيال أو أرميا أو بحزقيل؟.

المنام الثاني

فقلت: لا لعمرى لم يحتج إلى ذلك .. ثم أخذ المصحف من يدي، وانصرف مغضبًا، فارتعدت لغضبه وازدجرت لموعظته واستيقظت مذعورًا، فجلست، وكان وقت السحر والمصباح يقدنى غاية استنارته، فتذكرت المنام جميعه، فإذا أنا قد تخيلته لا يذهب علىَّ منه شىء، فعلمت أنَّ ذلك لطف من الله، سبحانه، وموعظة لإزالة الشبهة التي كانت تمنعني من إعلان كلمة الحق، والتظاهر بالإسلام. فتبت إلى الله من ذلك واستغفرته، وأكثرت من الصلاة على رسول الله المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وأسبغت الوضوء، وصليت عدة ركعات لله، تعالى، وأنا شديد الفرح والسرور بما قد انكشف لي من الهداية. المنام الثاني ثم جلست متفكرًا فغلب علىَّ النوم عند تفكُّرى، ونمت فرأيت كأنى جالس فى سكةٍ عامرة لا أعرفها، إذْ أتانى آتٍ عليه ثياب المتصوفة وزي الفقراء، فلم يسلِّم علىَّ لكنه، قال: أجب رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم. فهبته وقمت معه مسرورًا مستبشرًا بلقاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسار بين يدى وأنا من ورائه، حتى انتهى بي إلى باب دان فدخله واستدخلنى، فدخلت وراءه وسرت خلفه في دهليز طويل قليل الظلمة إلا أنه مظلم، فلما انتهيت إلى طرف الدهليز. وعلمت أنه حان إشراقى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، هبت لقاءه هيبة شديدة، فأخذت فى الاستعداد للقائه وسلامه، وذكرت أنى قد قرأت في أخباره - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان إذا لقى فى جماعة قيل: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وإذا لقى وحده، قيل: السلام عليك يارسول الله ورحمة الله وبركاته .. فعزمت على أنى أسلم عليه سلامًا عامًا لتدخل الجماعة في السلام، لأنى رأيت ذلك كأنه الأوْلى والأليق. ثم أشرفت على صحن الدار، وكان مقابل الدهليز مجلس طويل، وعن يسرة الداخل مجلس آخر، وليس من الدار غير هذين المجلسين، وفى كل واحد

من المجلسين رجلان لا أحقق الآن صور أولئك الرجال إلا أنى أظنُّ أكثرهم كانوا شبانًا، لكنهم كانوا متأهبين للسفر، فمنهم من يلبس ثيابًا للسفر، وأسلحتهم قريبة منهم. ورأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قائمًا فيما بين المجلسين، أعني في الزاوية التي في ذلك - الركن من أركان الصحن، وكأنه قد كان في شغل وقد فرغ منه، وانقلب عنه يشرع فى غيره، ففجاته بالدخول عليه قبل شروعه في غيره. وكان - صلى الله عليه وسلم - لابسا ثياب بيض وعمامته معتدلة اللطافة، وعلى عنقه رداء أبيض حول عنقه، وهو معتدل القامة جسيم نبيل، معتدل اللون بين البياض والحمرة واليسير من السمرة، أسود الحاجبين والعينين، وشعر محاسنه يصف كأنه شعرة وشعرة، ومحاسنه أيضًا معتدل بين الطول والقصر. ولما دخلت عليه ورأيته، التفت إلى ورائى، فأقبل علىَّ مبتسمًا وهش إلى جدًا، فذهلت - لهيبته - عما كنت قد عزمت عليه من السلام فسلمت عليه سلامًا خاصًا، فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، وألغيت الجماعة، فلم ألتفت ببصرى ولا بقلبى إلا إليه، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. ولم يكن بين تسليمى عليه وبين سعيي إليه توقف، ولا زمان بل جريت إليه مسرعا وأمددت بيدى إلى يده، ومد يده الكريمة إلىَّ فأمسكتها بيدى. وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وذلك أنه خطر بقلبى أن النجاة، منهم من زعم أن الأسماء الأعلام هى أعرف المعارف، ومنهم من يقول أن الأسماء المضمرة هى أعرف المعارف، وهو الصحيح، لأنَّ الكاف من قولي " أنك " لا يشارك المخاطب فيه أحد، لأنها لا تقع إلا عليه وحده. فرأيته قد ملئ ابتهاجًا، ثم جلس في الزاوية التي بين المجلسين، وجلست بين يديه، وقال: تأهب للمسير معنا إلى غمدان للقراءة. فلما قال ذلك، وقع في نفسي أنه يعنى المدينة العظمى التي هى كرسى ملك الصين، وأن الإسلام لم يستول عليها

بعد وكنت قد قرأت قبل ذلك أن الطريق الأقرب المسلوك إلى الصين في البحر الأخضر، وهو أشد البحار أهوالاً، وأعظمها أخطارًا. فلما سمعت ذلك القول من النبي - صلى الله عليه وسلم -، خفت من ركوب البحر .. وقلت في نفسي إن الحكماء لا يركبون البحار، فكيف اركب البحر، .. ثم قلت فى نفسى أيضًا من غير توقف: يا سبحان الله أنا قد آمنت بهذا النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وبايعته، أفيأمرنى بأمر، ولا أتابعه؟! .. فإذًا بالمبايعة نكون متابعين له، وعزمت على السمع والطاعة. ثم وقع - لي خاطر آخر. وقلت إذا كان معنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإن البر والبحر يكونان مسخرين لنا، ولا خوف علينا من سائر الأخطار، وطاب قلبى بذلك، وحسن يقينى وقبولى، وأنا أذكر أن هذه الأفكار والخواطر خطرت لي، وأنا بين يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير توقف، أعني من غير توقف، يستبطئ به إجابته، فما كان بأسرع من أن قلت له: سمعًا وطاعة يا رسول الله .. فقال: على خيرة الله تعالى .. فقمت بين يديه وخرجت، فما وجدت في الدهليز من الظلمة التي كانت فيه عند الدخول، فلما خرجت من الدار، ومشيت قليلاً وجدت كأنى في سوق مراغة فيما بين الصيارف وبين المدرسة القصويَّة، وكأنى أرى ثلاثة نفر عليهم زي المتصوفة، وثياب الزهاد، ومنهم من على بدنه صدرة صوف خشن أسود، وعلى رأسه مئزر من جنسها، وبيده قوس ملفوفة في لباد خلق، وبيده الأخرى حربة نصابها من سعف النخل، والآخر متقلد سيفًا غمده من خوص النخل، لأنه كان قد انطبع فى خيالى منذ كنت صغيرًا حين قرأت أخبار ظهور دولة الإسلام كيف أن أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - ضعفاء وفقراء، وليس لهم من الآلات إلا شبيهًا بما ذكرنا، وأنهم كانوا مع ذلك ينتصرون على الجيوش الكثيفة والخيول الربدة، ذوى الشوكة القوية. فلما رأيت النفر الثلاثة .. قلت: هؤلاء المجاهدون والغزاة، وهؤلاء أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - مع هؤلاء أسافرُ وأغزو، وكانت الدمعة تبدر من عينى لنى النوم، لفرط سرورى بهم وغبطتي إياهم.

ثم استيقظت والصبح لم يسفر بعد، فأسبغت الوضوء وصليت الفجر، وأنا شديد الحرص على إشهار كلمة الإخلاص وإعلان الانتقال إلى دين الإسلام، وكنت حينئذ بمراغة من أذربيجان في ضيافة الصاحب الأمجد فخر الدين عبد العزيز محمد بن محمود بن سعد بن على بن حميد المصرى، رحمة الله عليه، وكان قد أبلى من مرض قد عافاه الله منه فتقدمت، فدخلت إليه في أوائل نهار الجمعة المذكور يومئذ، وعرَّفته أن الله قد رفع الحجاب عنى، وقد هداني، فما أعظم استبشاره يومئذ بذلك، وقال: والله إن هذا الأمر ما زلت أتمناه وأترجاه، وطالما قد حاورت قاضي القضاة صدر الدين في ذلك، وكنا جميعًا نتأسف على علومك وفضائلك، بأن لا تكون إسلامية، فالحمد لله على ما ألهمك له من صلاح وهداية، وعلى استجابة دعائنا في ذلك .. فقل لي كيف فتح الله ذلك عليك، وسهله بعد إرتاجه وامتناعه؟ .. فقلت: ذلك أمر أوقعه الله تعالى في نفسى بالإلهام والفكر، ودليله العقلى وببرهانه قد، كنت قديمًا أعرفه، ودليلهُ من التوراة، إلا أنى كنت أراقب أبي وأكره أن أقبحه بنفسى قديما من الله، تعالى، الآن فقد زالت عنى هذه الشبهة، مد يدك أن أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فقاْم الصاحب لفرط سروره قائمًا واهتز فرحًا، وكان قبل ذلك لا يقوم إلا بالتكلف، وغاب عنى، واستجلسنى إلى عودته، وأفاض من الملابس أجلها، وحملنى من المراكب أنبلها، وأمر خواصه بالسعى إلى الجامع بين يدى، وكان الصاحب قد تقدم إلى الخطيب بالتأخير والتوقف إلى وقت حضورى للمسجد، لأن الوقت ضاق إلى أن فرغ الخياطون من خياطة الجبة، التي أمر الصاحب بتفصيلها، فسرت إلى الجامع، والجماعة في انتظارى، وارتفع التكبير من جماعة أهل المسمجد حين أشرفت عليهم، وارتج المسجد الجامع من صلاتهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم رقى الخطيب المنبر، ومن بعد صلاة الجمعة وعظ الناس القاضى صدر الدين وملك الوعاظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، وأطنب في مدحى وإحماد ما الدنى الله به من التيقظ والهداية، وبالغ في ذلك مبالغة تجاوز حد الوصف، وكان أكثر المجلس متعلقًا بي.

وفى عشية ذلك اليوم، أعني عشية ليلة عيد النحر، ابتدأت بتحرير الحجج المفحمة لليهود، وألفتها في كتاب قيام السموأل بتأليف إفحام اليهود ثم غاية القصود وسميته "بإفحام اليهود". واشتهر ذلك الكتاب، وطار خبره وانتسخ فى عدة بقاع نسخًا كثيرة - بالموصل وأعمالها، وديار بكر العراق وبلاد العجم، ثم أضفت إليه بعد وقت فصولاً كثيرة من الاحتجاج على اليهود من التوراة، حتى صار كتابًا بديعًا، لم يعمل في الإسلام مثله في مناظرة اليهود ألبتة. وأما المنام الأول والثانى، فإنى لم أذكرهما للصاحب، ولا لغيره من أهل مراغة إلى انقضاء أربع سنين منذ أوان رؤيتهما، وكان ذلك منى لسببين، أحدهما أنى كرهت أن أذكر أمرًا لا يقوم عليه البرهان، وبما يسوغ خاطر من يسمعه إلى تكذيبه، لأنه أمر نادر قليل ما يتفق إذ كان العاقل يكره أن يعرض كلامه - للتكذيب سرًا وعلانية. والثانى: إنى كرهت أن يصل خبر المنامين إلى من يحسدنى في البلاد، على ما فضلنى الله به من العلم والحرمة، فيجعل ذلك طريقًا على التشنيع علىّ والإزراء على مذهبى، فيقول: إن فلان ترك دينه لمنام رآه، وانخدع لأضغاث أحلام! فأخفيت ذلك إلى أن اشتهر كتاب "إفحام اليهود" وكثرت نسخه، وقرأه علىَّ جماعة كثيرة من الناس، أعني أن الانتقال عن مذهب اليهود إنما كان بدليل وبرهان وحجج قطعية عرفتها، وإن كنت أخفى ذلك ولا أبوح به مدة، مراقبة لأبى، وبرأيه حينئذ أظهرت قصة المنامين، وأوضحت أنهما كانا موعظة من الله تعالى، وتنبيهاً على ما يجب علىَّ تقديمه، ولا يحل لي تأخيره بسبب والدى وغيره. وكتبت كتابًا إلى أبى إلى حلب، وأنا يومئذ بحصن كيفا، وأوضحت له في ذلك الكتاب عدة حجج وبراهين، مما أعلم أنه لا ينكره ولا يقدر على إبطاله، وأخبرته أيضا بخبر المنامين، فانحدر إلى الموصل ليلقاني، وفاجأه مرض حاد بالموصل، فهلك فيه.

فليعلم الآن من يقرأ هذه الأوراق أن المنام لم يكن باعثًا على ترك المذهب الأول، فإن العاقل لا يجوز أن ينخدع عن أحواله بالمنامات والأعلام من غير برهان ولا دليل، لكنى كنت قد عرفت قبل ذلك بزمان طويل الحجج والبراهين والأدلة على نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فتلك الحجج والبراهين هى سبب الانتقال والهداية، وأما المنام فإنما كانت فائدته الانتباه والازدجار من التمادي في الغفلة والتربص، بإعلان كلمة الحق ارتقاء بالموت، فالحمد لله على الإسلام، وكلمة الحق، ونور الإيمان وزلفى الهداية، وأساله الإرشاد لما يرضيه بمحمد وآله. تم بيان سبب إسلام السموأل، والحمد لله رب العالمين حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

§1/1