سيرة السيدة عائشة أم المؤمنين

سليمان الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها

طبعة دار القلم الأولى 1424 هـ - 2003 م حقوق الطبع محفوظة

تقديم بقلم الأستاذ سعيد الأعظمي الندوي

تقديم بقلم الأستاذ سعيد الأعظمي الندوي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وإمام المرسلين: محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإنني لا أكاد أنسى ذلك اليوم السعيد، الذي يرجع تاريخه إلى عام 1986 م، يوم حظيت بزيارة الأخ المفضال سعادة الأستاذ محمد علي دولة في مقره العلمي في جدة، بعد عودتي من أداء فريضة الحج من مكة المكرمة، وكانت معي زوجتي العزيزة (حفظها الله تعالى)، فرحب بنا الأستاذ الكريم، وأكرمنا بضيافة كريمة لم تكن تخلو من مبرة علمية، وهي أنه خلال هذا اللقاء وتبادل الآراء حول إحياء بعض المآثر العلمية التاريخية في الهند التي ألفت باللغة الأردية، وترجمتها إلى اللغة العربية، سألني عن كتاب ((سيرة السيدة عائشة"ض")) للعلامة السيد سليمان الندوي (ح)، وترجمته إلى اللغة العربية. وقد كان وعد مني بالقيام بهذا العمل، وفعلا بدأت ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية، ولكنني واجهت مشكلة تخريج الأحاديث التي تتضمنها هذه السيرة الطيبة من مصادرها الأصلية، ذلك أنني لم أر من المناسب أن أترجم هذه الأحاديث التي شملت الكتاب بمفاهيمها الأردية دون إشارة إلى نصوصها العربية، فأسندت هذا العمل إلى أخي العزيز الأستاذ محمد رحمة الله الندوي، الذي كان طالبا في جامعة ندوة العلماء يوم ذاك، وطلبت منه تخريج الأحاديث من مصادرها، وقد وفق إلى ذلك بشكل جزئي لم يسعفني في تقديم عملية الترجمة، حتى توقفت عن الترجمة لبرهة من الوقت ريثما يتيسر لي عمل التخريج في فرصة مواتية.

ولكن شغلني أداء المسؤوليات العديدة والأعمال الرتيبة التي كنت مسؤولا عنها بحكم وظيفتي في جامعة ندوة العلماء ومجلة البعث الإسلامي. وسافر الأخ العزيز محمد رحمة الله الندوي إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لتلقي المزيد من العلم وتقوية اللغة العربية التي كان قد تعلمها في ندوة العلماء، وكان مبرزا فيها بين زملائه، وهنالك بدا لي أن يتولى الأخ العزيز ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية، نظرا إلى أشغالي وأعمالي، وما حصل فيها من التأخير، ونحمد الله على ما وفقه لهذا العمل، واستكمال ترجمة الكتاب، وإعداده للطباعة ولو بشيء من التأخير، فقلت في نفسي: إن لم أتمكن من القيام بهذا العمل العلمي العظيم فقد وفق إليه أخ عزيز علي أثق فيه وأعتبره جديرا بأن يتحمل هذا العبء الثقيل، الذي لم أستطع أن أتحمله، فجزاه الله تعالى أحسن ما يجزي به عباده العاملين المخلصين، ويتقبل عمله، ويعم نفعه في الأوساط العلمية والدينية. ... أما الكتاب - وهو من تأليف العلامة السيد سليمان الندوي (ح) أحد كبار علماء ندوة العلماء وأستاذ سماحة العلامة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي (ح) - فإنه يتميز بالتحقيق العلمي والدراسة التاريخية لحياة أم المؤمنين السيدة عائشة (ض)، التي كانت مدرسة علمية عظيمة لكبار الصحابة (ض) الذين كانوا يستفيدون منها في جميع المسائل العلمية والقضايا الدينية، وكانوا يراجعونها في كثير من الأحكام الفقهية الدينية لأنها كانت ذات رسوخ وتفقه فيها. ومن هنا كانت شخصية أم المؤمنين مصدرا كبيرا للعلم والدين وعلوم الكتاب والسنة، وكانت تتميز بالورع في بيان الآراء الذاتية، فكانت أمينة سر النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع جوانب الحياة، وحافظة لأحاديثه - صلى الله عليه وسلم - التي سمعتها وروتها. لقد تحدث المؤلف الكريم (ح) عن حياة أم المؤمنين ومكانتها العلمية

والحديثية والفقهية، وبصيرتها الدينية، وتوجيهاتها في المسائل والقضايا الحيوية، ولم يترك شيئا من تميزاتها وخصائصها، وما كانت تتمتع به من الرؤى الصالحة والنظرة العميقة في الشريعة الإسلامية، فضلا عما أودع الله فيها من البراعة العلمية والذكاء الخارق، والحب العميق الخالص لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والحرص الشديد على اتباعها، وعلى تطبيق الشريعة الإسلامية على حياة المسلمين فردية وجماعية، في جميع المجالات والمناحي. وهناك مؤلفات عديدة حول حياة أم المؤمنين لا تنقصها الموضوعية والأصالة الدراسية، إلا أن لكل مؤلف منهجا خاصا في عرض الصور الحية، وأسلوبا متميزا للبيان الواضح، ولعل هذا الكتاب يفوق في بعض جوانبه كثيرا من الكتب التي صدرت وتصدر في المستقبل في هذا الموضوع. وإنني إذ أهنئ المترجم العزيز والناشر الكريم على طبع هذا الكتاب الجليل في ثوب قشيب وأنيق؛ أرجو أن يتقبل الله من الجميع مجهوداتهم في إعداد هذا الكتاب وإصداره، ويجعله من الذخائر العلمية والدينية التي لها قيمة كبيرة في الدنيا والآخرة، والتي تعتبر زيادة قيمة في المكتبة الإسلامية. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه وبارك وسلم. لكنو 12/ 4 / 1423 هـ 24/ 6 / 2006 م كتبه بيمينه رئيس تحرير مجلة البعث الإسلامي ومدير جامعة ندوة العلماء بلكنو الهند

مقدمة المعرب

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المعرب الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبمنه وكرمه تكمل الأهداف والغايات، والصلاة والسلام على المبعوث بالهدى ودين الحق من فوق سبع سماوات، وعلى الأنبياء والمرسلين كافة، وعلى الأصحاب الغر المحجلين، وآل نبينا وأزواجه المطهرات. وبعد: فإن أخص ما يبهر طالب العلم في سيرة أم المؤمنين عائشة (ض) هو علم زاخر كالبحر بعد غور، وتلاطم أمواج، وسعة آفاق، واختلاف ألوان، فما شاء امرؤ من تمكن في فقه أو حديث أو تفسير، أو علم بشريعة، أو آداب، أو شعر، أو أخبار، أو أنساب، أو مفاخر، أو طب، أو تاريخ، إلا هو واجد منه ما يدهشه عند هذه العبقرية الفذة، ولن يقضي عجبا من اضطلاعها بكل ذلك وهي لم تتجاوز بعد الثامنة عشرة من عمرها. ومن هنا نوقن أن حياة أم المؤمنين بنت مجدا باذخا لتاريخ المرأة العلمي في الإسلام، بل إن عبقريتها وحدها كفيلة بملء تاريخ كامل، فلا نجد في عبقريات الرجال والنساء في تواريخ الأمم ما يداني مكانة أم المؤمنين (ض). فمن هذا شأنها وهذه مكانتها وتلك درجتها وعظمتها كانت أحق وأجدر بأن تدرس حياتها، ويهتم بإبراز أهم خصائص شخصيتها، وذكر مناقبها وفضلها على الأمة الإسلامية جمعاء، بل هو دين في عنق الأمة يجب أن تقوم بأدائه.

وفي اعتقادي إن كتاب كبير علماء الهند في عصره وشيخ الندويين العلامة السيد سليمان الندوي (ح) أولى المحاولات من نوعها لأداء هذا الدين، وكشف الستار عن مكانة هذه العبقرية الفذة والشخصية العظيمة التي صنعت العظائم، كيف لا! وقد ظفرت بالرعاية التي هي خلاصة الكرامة التي هيأتها لبناتها حمية البداوة، وصقلتها مع الزمن شمائل الحضر ومآثر الشرف والسيادة. وقد تبع الشيخ الندوي (ح) علماء (¬1) كتبوا عن سيرة وشخصية أم المؤمنين (ض) إلا أن كتاباتهم تأتي في إطار خاص، وتتناول جوانب معينة، ومعظمها لا يتجاوز سرد الوقائع والأحداث الواقعة في حياتها. أما كتاب الشيخ الندوي فهو في رأيي بمثابة موسوعة علمية وحضارية وثقافية لعصر أم المؤمنين وحياتها، يبرز كل جانب من جوانب حياتها من العلم والفقه والاجتهاد والتوجيه والإرشاد، والاجتماع والسياسة، بالإضافة إلى تقديم نموذج مثالي للعشرة الزوجية المتكاملة، التي من حقها أن توصف بأنها حياة زوجية سعيدة، لأننا لا نعرف بين أزواج الهداة والعظماء من ظفرت بأسعد منها، أو كانت أرضى من أم المؤمنين عن حياتها. ولما طلع هذا السفر العظيم (كتاب سيرة عائشة) على منصة العلم والأدب، الذي فاض به القلم السيال من صاحب القدم الراسخ والعقل الثاقب والفكر الناقد نسيج وحده الشيخ الندوي، كان ذلك منا منه على سائر الأوساط العلمية، وإضافة جديدة لذخائر المكتبة الأردية، وفضلا عظيما على ¬

_ (¬1) ومن هؤلاء العلماء: الكاتب المشهور والأديب النقاد عباس محمود العقاد الذي ألف كتابه ((الصديقة بنت الصديق)) وقد طبع في دار المعارف بمصر عام 1958 م، والأستاذ سعيد الأفغاني الذي ألف كتابه ((عائشة والسياسة))، ثم جاء بعده الأستاذ عبد الحميد طهماز وألف كتابه ((السيدة عائشة أم المؤمنين وعالمة نساء الإسلام)) وطبع ضمن سلسلة ((أعلام المسلمين)) تحت إشراف ورعاية صاحب السعادة الأستاذ محمد علي دولة الموقر حفظه الله تعالى، وذلك في دار القلم دمشق، الطبعة الخامسة عام 1415 هـ 1994 م.

كل النساء المؤمنات اللاتي كن يتطلعن إلى سيرة عظيمة ترشدهن إلى الأسوة الفاضلة والقدوة المثالية. وهل تجد المرأة المسلمة قدوة أعلى وأمثل وأفضل من قدوة أم المؤمنين عائشة الصديقة (ض) عبر التاريخ الإسلامي بأسره؟؟. ظهر هذا الكتاب لكي ينفخ روحا جديدة في النساء المسلمات، فيجدن بغيتهن في سائر مجالات الحياة، ويقوم بإحياء تلك السنن الشريفة التي تناساها الناس على مر الأيام والعصور، ويذكر شقائق الرجال بتلك الدروس والعبر والسير التي ينبغي للمرأة المسلمة الاحتفاظ بها والعض عليها بالنواجذ. وفعلا كان هذا محاولة ناجحة، وخير اختيار من مؤلف قدير، كتب فأدى حق الكتابة، وأجاد وأفاد. إلا أن هذه الدرة النادرة الثمينة والخدمة العلمية القيمة ظلت حبيسة اللغة الأردية، واقتصر نفعها على الناطقين بالأردية فحسب، وكانت الحاجة ماسة إلى نقل هذا التراث العلمي والكنز الثمين إلى لغات العالم كلها، وعلى رأسها اللغة العربية، لغة الكتاب والسنة، وذلك لكي يعم نفعه، ويشيع خيره في الجميع. وبحمد الله وعونه وفضله علينا أننا اليوم نتشرف بنقل هذا السفر المبارك إلى اللغة العربية وخدمته الخدمة العلمية اللائقة، وبالتالي تقديمه إلى إخواننا العرب، علما أن فن الترجمة والتعريب من الفنون الصعبة التي قلما يتكلل فيه المترجم بالنجاح، إلا إذا كان عنده إلمام بروح الكتاب الذي يترجمه وبمقاصده، وإدراك بما له وما عليه، ودراية كاملة بالموضوع الذي يعالجه الكتاب. وعلى هذا فهذه محاولة متواضعة وجهد علمي من طالب علم لا يملك الشيء الكثير من المران والممارسة في هذا الفن، إلا أنه قام به وشمر عن ساعد الجد متوكلا على الله الموفق والمعين، ومستجيبا لدعوة من لا ترد دعوته. هذا وقد كان منهجي في ترجمة الكتاب وتحقيقه وتخريج أحاديثه حسب الخطة الآتية:

1 - الترجمة الحرفية لكل ما تناوله المؤلف (ح) دون زيادة أو نقصان، إلا إذا مست الحاجة إلى شيء من ذلك. 2 - عزو الآيات القرآنية إلى السور وأرقام الآيات. 3 - نقل نصوص الحديث الشريف حرفيا من المصادر الأصلية. 4 - تخريج الأحاديث الواردة في الكتاب تخريجا علميا دقيقا بمراجعة الكتب الأصول في الحديث، والتزمت بذكر المصدر والكتاب الذي ورد فيه الحديث ورقم الحديث، وذلك إذا كان الحديث في الكتب التسعة أو أحدها، أما إذا كان الحديث في كتب السنن الأخرى والمسانيد والمعاجم والمجامع والمستدركات وغيرها فأعزوه إلى جزء الكتاب وصفحته وكذلك رقم الحديث، والباب الذي ورد فيه الحديث. 5 - الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف في بعض الأماكن حيث تبين لي ذلك من خلال أقوال المحدثين وفي ضوء آراء علماء الفن. 6 - عدم الاقتصار على المصدر الذي أحال إليه المؤلف في الهامش أو استفاد منه، وإنما حاولت أن أراجع أغلب مظان الحديث، والمراجع المتوفرة. 7 - هناك مراجع أحال إليها المؤلف بصدد رواية أو حديث، لكن تلك الرواية ضعيفة بسند ذلك المرجع، فأشرت إلى من رواه بسند صحيح وذكرته إن اقتضت الحاجة، ثم أتبعته بما ذكره المؤلف. 8 - نقل الروايات التاريخية بنصوصها من مصادرها الأصلية، دون الاقتصار على مرجع واحد، إن وجد غيره. 9 - ذكر نصوص الأحاديث التي لم يتناولها المؤلف في صلب الكتاب وإنما أشار إليها فقط للاستدلال على شيء معين أو إثبات حكم خاص. 10 - التعليق على بعض المواضع من الكتاب مما دعت الحاجة إليه لتوضيح رأي أو إبداء وجهة خاصة. 11 - ذكر لمحة موجزة عن حياة المؤلف وآثاره العلمية ومآثره الخالدة، وكلمة عن كتاب ((سيرة عائشة)).

12 - عمل فهرس لموضرعات الكتاب. 13 - عمل فهرس للمصادر والمراجع التي استقيت منها في ترجمة وتحقيق هذا الكتاب. وأخيرا أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل مني هذا الجهد العلمي المتواضع، ويجعله خالصا لوجهه الكريم وينفع به، وأصلي وأسلم على رسولنا وحبيبنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى صحابته أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. الدوحة 26/ 1 /1423 هـ كتبه العبد الفقير إلى الله محمد رحمة الله الندوي

لمحة موجزة عن حياة العلامة سليمان الندوي رحمه الله

لمحة موجزة عن حياة العلامة سليمان الندوي رحمه الله اسمه ونسبه: هو العلامة الكبير، المفسر الشهير، الفقيه المحدث، المتكلم المؤرخ، الكاتب القدير، والنابغة في الإنشاء والأدب، سليمان بن أبي الحسن بن محمد شير المعروف بالحكيم محمدي بن عظمت علي بن وجيه الدين المعروف بالأميرجكن ..... ، ويصل نسبه إلى سيدنا علي بن أبي طالب (ض) (¬1). وأمه هي السيدة قطب النساء بنت السيد حيدر حسين بن كاظم حسين بن خادم حسين .... ، ويصل نسبها كذلك إلى الإمام علي بن أبي طالب (ض) (¬2). أسرته: يتحدر السيد الندوي من أسرة حسينية النسب، مشهورة بالتقوى والعلم، وينتهي إلى بيت كريم من بيوت الأشراف كثير المآثر والمفاخر، معروف بالعلم والأدب والفضل والإحسان. مولده: ولد العلامة الندوي في قرية ديسنة من ولاية بيهار في الهند يوم الجمعة لسبع بقين من شهر صفر سنة اثنتين وثلاثمئة وألف من الهجرة، الموافق الثاني والعشرين من شهر تشرين الثاني نوفمبر سنة أربع وثمانين وثمانمئة وألف. ¬

_ (¬1) نسب سادات وملوك ديسنة ص 2. (¬2) نفس المصدر.

نشأته

نشأته: نشأ (ح) في بيئة علمية وأدبية، وجو من الصلاح والتقوى، كان أخوه أبو حبيب أحد كبار العاملين في مجال إصلاح المجتمع والدعوة إلى التوحيد والسنة، فكان العلامة الندوي يقرأ كتاب ((تقوية الإيمان)) على أخيه، وهو يشرحه، فنشأ السيد الندوي على عقيدة صافية لا تشوبها بدع أو خرافات، يقول (ح): ((كان هذا أول كتاب علمني طريق الحق تعليما ثبتت جذوره في قلبي)) (¬1). طلبه للعلم: بدأ دراسته الابتدائية على علماء قريته، وقرأ على شقيقه الأكبر السيد أبي حبيب النقشبندي المتوفى عام 1927 م اللغة الفارسية وآدابها واللغة العربية وقواعد النحو والصرف، كما قرأ أشياء على والده، ثم سافر في عام 1898 م إلى قرية فلواري شريف بولاية بيهار، ومكث بها عاما، قرأ هناك على الشيخ محيي الدين المحبي الفلواروي، حيث نشأ فيه التذوق للأدب والشعر، وأخذ دروس المنطق من العلامة سليمان الفلواروي. ثم رحل إلى المدرسة الإمدادية في دربنجه بولاية بيهار، قرأ هناك كتاب ((الهداية)) للمرغيناني في الفقه الحنفي على الشيخ مرتضى حسين الديوبندي، و ((شرح التهذيب)) في المنطق على الشيخ فدا حسين الآروي. التحاقه بدار العلوم لندوة العلماء لكنو الهند: رحل العلامة الندوي إلى لكنو، والتحق بدار العلوم لندوة العلماء في عام 1901 م وبقي هناك خمس سنوات، حتى نال الشهادة سنة 1907 م، وكان من أهم مشايخه في ندوة العلماء: 1 - المفتي الكبير العلامة الشهير الشيخ الفاضل عبد اللطيف بن إسحاق الحنفي السنبهلي، المتوفى عام 1379 هـ، وقد قرأ عليه الشيخ الندوي كتب الفقه. ¬

_ (¬1) الكتب التي لها منة على العلماء الأعلام، ص 15.

أهم العلماء الذين أثروا في تكوينه العلمي والفكري

2 - الشيخ العالم الكبير المحدث حفيظ الله البندري، المتوفى عام 1362 هـ، وقد أخد السيد الندوي عنه الحديث الشريف، وشيئا في علم الهيئة. 3 - الشيخ العلامة محمد فاروق بن علي أكبر العباسي الجرياكوتي المتوفى عام 1327 هـ وقد أخذ عنه السيد الندوي المنطق والفلسفة والأدب العربي. 4 - العالم الصالح الشيخ الفاضل شبلي بن محمد علي الجيراجفوري، المتوفى سنة 1364 هـ. 5 - العلامة الكبير مؤرخ الهند الشهير المحدث الطبيب السيد عبد الحي بن فخر الدين الحسني المتوفى عام 1341 هـ، وقد قرأ عليه الشيخ الندوي مقامات الحريري. 6 - العلامة الجليل المؤرخ العظيم شبلي النعماني المتوفى سنة 1332 هـ، وأخذ عنه السيد الندوي الأدب العربي، وقرأ عليه دلائل الإعجاز، كما أخذ عنه علم الكلام، وتدرب عليه في الكتابة والتأليف والإنشاء والعناية بالسيرة النبوية. أهم العلماء الذين أثروا في تكوينه العلمي والفكري: يدين السيد الندوي (ح) في تكوينه العلمي والفكري ودراساته الواسعة المتعمقة لعديد من الأئمة الأعلام الذين عرفوا بفكرهم الإسلامي الأصيل، ومذهبهم الفقهي الوسط وتبحرهم في علوم الكتاب والسنة والرجوع إليهما الرجوع المباشر، وكان من أبرزهم تأثيرا في عقل السيد الندوي وفكره ومنهجه في البحث والتحقيق ومذهبه في العقيدة والفقه: 1 - الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الإمام الحافظ فقيه الأمة أبو عبد الله الأصبحي المدني، إمام دار الهجرة (93 - 179 هـ)، وقد كانت للسيد الندوي محبة خاصة بإمام دار الهجرة، وكان يفضل موطأه على الصحيحين، وقد حصلت له رواية الموطأ عن طريق يحيى بن يحيى الليثي مسلسلا بالمالكية.

مكانته العلمية

2 - الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني شيخ الإسلام، العلامة المحدث الفقيه المجتهد نادرة عصره (661 - 728). 3 - الإمام المحقق الأصولي الحافظ الفقيه صاحب الذهن الوقاد والقلم السيال شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المشهور بابن قيم الجوزية (691 - 751 هـ). وقد نشأ السيد الندوي على الإعجاب بهذين العبقريين، واضطلع بدراسة كتبهما، وأخذ منهما كثيرا من آرائهما في كتابه ((سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -)) وغيره من المؤلفات. 4 - الإمام المحدث الفقيه الرحالة كوكب الديار الهندية شيخ الإسلام العالم المجتهد أحمد بن عبد الرحيم المعروف بولي الله الدهلوي (1114 - 1176 هـ). 5 - العلامة شبلي النعماني المتوفى 1332 هـ. مكانته العلمية: أولا - القرآن الكريم: كان العلامة الندوي دائم التدبر لكتاب الله تعالى إيمانا منه بأن ثمرة التلاوة التدبر والتذكر، وكان له اهتمام كبير باستنباط المسائل العقدية والفقهية والخلقية والسياسية، من آي القرآن الكريم، وشرح لطائفه الأدبية، وتحقيق مباحثه التاريخية، ويشهد على ذوقه هذا كتاب ((أرض القرآن))، والمجلدات الضخمة لكتاب ((سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -)) وخاصة المجلد الرابع والخامس منه، اللذين يعالجان منصب النبوة والعقائد والعبادات والأخلاق، من زاوية جديدة، ودراسة مقارنة، وسبب ذلك أن دراسته للغة العربية وآدابها، والبلاغة والمعاني وإعجاز القرآن كانت واسعة عميقة. وإن الآيات القرآنية الشريفة التي استشهد بها في بحوثه ودراساته

ثانيا - الحديث الشريف

الإسلامية إنما جاء بها مراعيا لموافقة مضمونها المناسة والمحل، طبق الأصل لما استعمله العرب قديما، وموافقة معاني كلماتها لما يستعمله العرب، وكان قد بذل جهدا لا يستهان به في معرفة مواضع استعمال الكلمات الواردة في القرآن الكريم، في العهد الذي نزل فيه، وفهمها وفق هذه الموضوعات المحددة. هذا وقد كانت له دروس منتظمة في التفسير في دار المصنفين، كما كانت لديه خطة لتدوين المسائل القرآنية، وترتيبها وفق الأسلوب العصري، وكان يرغب في دراسة الآيات القرآنية والنظر فيها مع تطبيق المبادئ والتدين وسلامة العقل والفكر، وأن تفرد الآيات القرآنية المتعلقة بالقضايا والشؤون العقائدية والفقهية والاقتصادية. ثانيا - الحديث الشريف: كان كثير الاشتغال بكتب الحديث والسنن والآثار، ومن حبه لها أنه كان دائم الحرص على اقتنائها في دار المصنفين، حتى أصبحت خزانة دار المصنفين حافلة بكتب الحديث ورجاله. وقد ظهر امتياز العلامة الندوي في شرح أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - كذلك، فقد كان معنيا بأن يكون فهم الحديث الشريف في إطار العمل النبوي الشريف المشتمل على إدراك الجو الذي جاء فيه، ليكون تطبيقه على الحياة أوفق وأجدر. وقد تصدى العلامة الندوي لمنكري السنة وفند شبهاتهم في مقالات، ومنها رسالته المشهورة ((تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها)). كان (ح) متبعا لمذهب السلف في أن المصدر الأساسي للشريعة الإسلامية هو الكتاب والسنة، وأن رأي الناس يرد عليهم إذا عارض نصا من القرآن) أو الحديث، فلم يسلك مسلك التأويل للنصوص، بل كان منهجه هو اتباع الدليل أنى وجد، وحيثما صار.

ثالثا - الفقه

ثالثا - الفقه: كانت للسيد الندوي بصيرة فقهية تامة، وقد توفرت له وسائل تحقيق المذاهب والاجتهاد، لما آتاه الله من الملكة في معرفة اللغة العربية وآدابها، والعلم الواسع الدقيق بالقرآن الكريم وعلومه، والحديث النبوي الشريف، والناسخ والمنسوخ، والإلمام القوي الكامل بمصادر الفقه وأصوله وقواعده، ومذاهب الأئمة وآراء الفقهاء، ولذلك نرى أنه نشأ على مذهب أبي حنيفة (ح)، ولكن ظل ملازما لما اختط لنفسه من التحرر الفكري في الفقه من ربقة التمذب والتقليد والتعصب لقول عالم بعينه. إنه (ح) لم ينطلق في فقهه من رأي محض أو هوى متبع أو تقليد أعمى وإنما انطلق من حجج وبراهين يعتمد عليها، وأصول يستند إليها، وأهمها الاعتصام بالكتاب والسنة، كما أنه (ح) يرى أن باب الاجتهاد مفتوح إلى قيام الساعة لمن تأهل له، يقول في مقدمة كتاب ((تراجم علماء أهل الحديث)): ((إني ملتزم للسنة ومتبع للتوحيد الخالص، أرى السنة دليلي، وباب الاجتهاد مفتوحا دائما للعلماء، ولا أرى الحق منحصرا في أحد من أئمة السلف)). ويقول في إحدى خطبه: ((من مفاسد هذا العصر الجمود المشين على آراء الفقهاء المتآخرين وفتاواهم، كأنهم معصومون عن الخطأ والمزلات، وعدم الرجوع إلى المرجعين الأصيلين القرآن والسنة، واجتهادات أئمة السلف في البحث عن الحلول للمشاكل المدنية والقضايا الدينية، والقول بإغلاق باب الاجتهاد للأبد)). وكان (ح) يرى أن الحاجة ماسة إلى تدوين جديد للفقه الإسلامي، نظرا إلى تطور الأوضاع وتجدد القضايا والمستجدات. رابعا - التاريخ: يقول الشيخ أبو الحسن علي الندوي (ح): ((إن السيد سليمان الندوي يستحق بدون مراء أن يعد أكبر مؤرخ وباحث في عصره، وإن كتبه ((خيام)) و ((الصلات بن الهند والعرب)) و ((الملاحة عند العرب)) و ((حياة الإمام مالك)) و (سيرة عائشة)) خير نموذج للكتابة في التاريخ، والبحث العلمي، وكتابه

خامسا - الفلسفة وعلم الكلام

((أرض القرآن)) لا يزال كتابا فريدا لم ينسج على منواله في موضوعه، وهو ثروة, غية في المواد العلمية)) (¬1). كان (ح) مرجعا لأساتذة التاريخ والمهتمين به في الهند، يزورونه ويراسلونه ويرجعون إلى آرائه وتحقيقاته، وكان يولي عناية تامة للصدق والأمانة التاريخية، فقلما تراه يتبع الأسلوب الشعري في مؤلفاته، وكان يحذر من إثارة مشاعر القارئ واللعب بعواطفه، مثلما كان يبذل من الجهد في البحث والتحقيق والنقد. كما كان له اهتمام كبير بإخراج مصادر كتب التاريخ والتراجم إلى الناس، والواقع أن كل كتابة من كتابات السيد الندوي تحمل بحوثا وتحقيقات تاريخية نادرة وقيمة، اعترف بها العلماء والمتخضصون في علم التاريخ، وسلموا بإمامته وتقدمه في هذا الشأن. خامسا - الفلسفة وعلم الكلام: كان (ح) ضليعا بالفلسفة وعلم الكلام، وخير دليل على ذلك كتاب ((سيرة النبي))، يقول العلامة أبو الحسن علي الندوي: ((وكان من منجزاته أيضا أنه حقق بالسيرة والتاريخ أهدافا لا تحقق إلا بعلم الكلام، فأسس علم كلام جديد يفوق علم الكلام القديم في التأثير على الذهن الجديد وإقناعه، وفي توثيق الثقة بالشخصية النبوية والشريعة الإسلامية، وهو أكثر سدادا للحياة العلمية المعاصرة)) (¬2). سادسا - اللغة والأدب: كان (ح) متضلعا باللغات الأردية والعربية والفارسية، وتعلم اللغة الإنكليزية لكي يتسنى له الاستفادة من المصادر الأجنبية، وكذلك تعلم اللغة العبرية وشيئا من اللغة التركية والفرنسية. ¬

_ (¬1) شخصيات وكتب، للعلامة السيد أبي الحسن علي الندوي، ص 71 - 70. (¬2) شخصيات وكتب، للعلامة أبي الحسن الندوي، ص 69.

يقول الأستاذ عبد الماجد الدريابادي: ((يعتقد الناس أن السيد الندوي عالم فريد، وبحاثة منقطع النظير، ويخضع العالم لإمامته في التاريخ، وتفرده في كتابة السيرة، ولكن قلما عرف الناس مكانته في الأدب والشعر والنقد، قلما علمه الناس كأديب منشئ وشاعر قدير)) (¬1) وها هو العلامة الندوي يحكي لنا قصة نشوء صلته باللغة العربية بقوله: ((تعلمت الأدب العربي على العلامة فاروق الجرياكوتي، والعلامة السيد عبد الحي الحسني، وكانا متبعين لأساليب المتأخرين، وكان من فضل العلامة شبلي أن قرأت عليه ((دلائل الإعجاز)) للجرجاني، فاطلعت على الكتابات الأدبية للمتقدمين، وقرأته بكل رغبة وشوق، وقلدته، واتجهت إلى الكتابة والخطابة بالعربية، وألهب كتابا ((ديوان الحماسة)) و ((نقد الشعر)) هذا الذوق عندي، وبدأت أقرض الشعر)) (¬2). كان السيد الندوي مقدسا لدور اللغة العربية في توحيد المسلمين، يقول بمناسبة افتتاح مجلة الضياء: ((وبعد فللإسلام مزايا تفوت الإحصاء دررها، وتستغني عن الإنباء غررها، إحداها أنه دين وحدة الشعوب والأمم، ودين مواخاة البشر، والنصيحة لعامة المسلمين، ومن الوسائل التي اتخذها لتحقيق بغيته هذه، أن جعل للمؤمنين بقرآنه والخاضعين لسلطانه، على اختلاف ألسنتهم وبلدانهم، وجنسياتهم وألوانهم لغة خاصة، وهي لغة كتابه المنزال من السماء، يتفاهمون بها معاني القلوب، ويتعارفون هواجس الأفكار، ويخطب بعضهم بها مودة بعض، فهي على تقلب من الأحوال لغة عصبة الأمم الإسلامية، منذ قرون وأجيال)) (¬3). هذا وللسيد الندوي (ح) شعر رائع في اللغة العربية، وقد نظم الشعر في موضوعات مختلفة، ويدل هذا الشعر على إرهاف حسه وحسن خياله، وحبه للفضائل والحكمة، وقد تجلت في شعره القوة والإجادة والتعبير الطبيعي ¬

_ (¬1) مجلة ((المعارف)) العدد الخاص بالسيد سليمان الندوي، ص 230. (¬2) الكتب التي لها منة على العلماء، ص 18. (¬3) مجلة الضياء عدد المحرم سنة 1351 هـ، ص 4 - 3.

أهم مؤلفاته

الجميل، مع أن نظم الشعر العربي بأسلوب يتصف بالتعبير الطبيعي الجميل قلما يتأتى لرجل لم ينشأ في جو عربي، ولم يطل أو يتكرر اختلاطه برجال اللغة الأقحاح)) (¬1). ومن شعره الرقيق الرائع وهو يصف الشمس عند غروبها: كأنما الشفق الممتد في الأفق … خمر معتقة شجت لمغتبق خمر يعتقها في أعلى همالية … شجت بماء غمام هامر غدق كف الطبيعة تسقي الناس أكؤسها … ويل لمن هذه الصهباء لم يذق (¬2) أهم مؤلفاته: لقد أنتج قلم العلامة الندوي السيال كتابات ومؤلفات قيمة نافعة تتسم بأقصى درجة من البحث والتحقيق والنظر والتدقيق، وتنوء بالعصبة من العلماء والباحثين، وكما قال الشيخ أبو الحسن علي الندوي: ((وبالنظر إلى هذه المؤلفات القيمة يمكن أن يصدر الحكم بأن شخصا واحدا في بعض الظروف ينجز من أعمال علمية هائلة ما لا تستطيع الأكاديميات الكبيرة إنجازها)) (¬3) وفيما يأتي نسرد بعض أهم مؤلفات العلامة الندوي: 1 - ((أرض القرآن)) هذا الكتاب بمثابة مقدمة لكتاب ((سيرة النبي)) وهو في جزئين، وقد طبع في دار المصنفين، وهو كتاب فريد من نوعه، من أهم مزاياه دراسته لأوضاع العرب السياسية والتاريخية والحضارية في ضوء القرآن الكريم، مع الاستفادة من المصادر العبرية والإنكليزية، والمراجع الإسلامية والرومية واليونانية والاكتشافات الأثرية)) (¬4). 2 - حواشيه على المصحف الشريف: ((وهذه الحواشي تتعلق بذكر أعمدة السور وموضوعاتها الأساسية وربط الآيات بعضها ببعض)). ويشتغل ¬

_ (¬1) ملحق الرائد للأدب الإسلامي، ص 33 - 32. (¬2) مجلة الضياء عدد صفر 1351 هـ، ص 30. (¬3) شخصيات وكتب للشيخ أبي الحسن علي الندوي، ص 71. (¬4) تاريخ ندوة العلماء 2/ 284.

نجل العلامة الندوي في ترتيب هذه الحواشي وطباعتها وإخراجها في كتاب خاص. جزاه الله خيرا. 3 - ((سيرة النبي)): وهو في سبع مجلدات كبار، والمجلدان الأولان منها لشيخه العلامة شبلي النعماني، ثم أكمله العلامة الندوي بخمس مجلدات كبار، ومن مزايا هذا الكتاب العظيم أن العلامة الندوي ومع نطاق السيرة من سرد الأحداث وبيان الشمائل ووصف العادات إلى الرسالة المحمدية، والتعليمات النبوية والشريعة الإسلامية، وبحث شعبها المختلفة، وفعلا هو دائرة معارف الإسلام، وأكبر ميزة له أنه يعتمد على كنوز الكتاب والسنة، والكتاب شهادة على ما آتاه الله من فهم دقيق لمعاني كتاب الله، كأن آيات القرآن الكريم ودواوين السنة منشورة أمام عينيه)) (¬1). 4 - ((محاضرات مدراس)): مجموعة من محاضرات ألقاها العلامة الندوي في مدراس عام 1925 م، وتتناول دراسة تلك الجوانب من السيرة النبوية التي لم تلق عناية كبيرة، وهي مكانة النبي - صلى الله عليه وسلم - التاريخية، وشموله وكماله، وقد ترجمت إلى العربية ونشرت بعنوان: (الرسالة المحمدية). 5 - ((سيرة عائشة (ض))) وسنتحدث عنه بالتفصيل في مبحث خاص. 6 - ((حياة الإمام مالك (ح))) وهو عرض لحياة إمام دار الهجرة مالك بن أنس (ح) وصفاته وأخلاقه، ومكانته العالية في الفقه والحديث، ودراسة لكتابه الموطأ. 7 - ((رسالة الكون والتكليف)) في الفلسفة. 8 - ((حياة العلامة شبلي)) وهو عرض علمي شامل ودقيق لحياة شيخه العلامة شبلي النعماني، ومآثره وخدماته العلمية والدعوية. 9 - ((الصلات بين الهند والعرب)): مجموعة محاضرات ألقاها العلامة الندوي بدعوة من الأكاديمية الهندية بمدينة إله آباد، قام فيها بتذكير المسلمين ¬

_ (¬1) انظر: شخصيات وكتب ص 69 وتارخ ندوة العلماء 2/ 458.

وفاته

والهندوس بالعهود الذهبية التي كانت تربطهم فيها أواصر مختلفة وعلاقات متنوعة. 10 - ((الملاحة عند العرب)): مجموعة محاضرات عالج فيها موضع الملاحة عند العرب في الجاهلية والإسلام، ومعرفة العرب لبحار العالم ومؤلفاتهم فيها واكتشافاتهم البحرية. 11 - ((رسالة أهل السنة والجماعة))، مجموعة مقالات في تحقيق معنى أهل السنة والجماعة. وفاته: بعد عمر حافل بأعمال علمية ودعوية ودينية، ومآثر خالدة وخدمات جليلة وافاه الأجل بباكستان في غرة ربيع الآخر عام 1373 هـ الموافق 22 من تشرين الثاني نوفمبر 1953 م، وحضر جنازته كبار العلماء وأعيان البلاد وسفراء الحكومات الإسلامية والعربية ودفن بجوار الشيخ شبير أحمد العثماني، رحمهما الله تعالى، وأمطر عليهما شآبيب رحمته (¬1). ... ¬

_ (¬1) قمت بتلخيص ترجمة العلامة السيد سليمان الندوي من كتاب الأستاذ الدكتور محمد أكرم الندوي ((السيد سليمان الندوي أمير علماء الهند في عصره وشيخ الندويين)) المطبوع في دار القلم بدمشق ضمن سلسلة أعلام المسلمين، وذلك بشيء من التعديل، فجزى الله تعالى مؤلفه وطابعه أحسن الجزاء.

كلمة عن كتاب سيرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

كلمة عن كتاب سيرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لقد بدأ العلامة الندوي في تأليف هذا الكتاب وكان طالبا في دار العلوم لندوة العلماء لكنو، ومديرا لتحرير صحيفة ((الندوة))، وقصة تأليفه ترجع إلى عام 1906 م حيث كتب العلامة الندوي إلى شيخه العلامة شبلي النعماني يطلعه على ما حدثته به نفسه، وخطر في باله من فكرة تأليف كتاب في سيرة عائشة (ض)، فشجعه الشيخ الجليل والمربي العظيم على التقدم في هذه الخطوة المباركة، وزوده ببعض المراجع والمصادر المتوفرة التي يمكن الاستفادة منها في تحقيق هذا الغرض العلمي الشريف، ثم فتح الله تعالى عليه، ونور له الطريق إلى البدء في هذا المشروع المبارك إلى أن نشر قطعة من هذا الكتاب في عام 1908 م في صحيفة ((الندوة))، ثم تأجل هذا المشروع لفترة غير يسيرة، ثم استهل تأليفه من جديد في عام 1914 م، حتى بزغ إلى نهاية مطافه في عام 1917 م. كما أن أميرة بوفال (سلطان جهان بيكم) عنيت بهذا الكتاب عناية كبيرة، وألحت على العلامة الندوي أن يسرع في إتمامه، فلبى العلامة الندوي نداءها، وأخرج هذا التراث العلمي الثمين، والكنز الحضاري القديم بأسلوب رشيق جذاب وبمنهج علمي رصين ومتين. أهمية هذا الكتاب: كانت ذخائر المكتبات الأردية حافلة وغنية بالكتب التي تتحدث عن عباقرة الرجال، والشخصيات العظام، الذين لعبوا دورا بارزا وملموسا في التاريخ الإسلامي وسجلتهم كتب التاريخ والسير بأحرف من الذهب، وكانوا من عداد الأحياء حتى بعد وفاتهم، وذلك نظرا إلى مآثرهم الخالدة،

مصادر الكتاب

وخدماتهم الجليلة والعظيمة التي قاموا بها لصالح الإسلام والمسلمين، إلا أن هذه الخزائن ودور الكتب كان ينقصها كتاب يتحدث عن عبقرية فذة وشخصية رائدة من عبقريات الإسلام، تدين لها الأمة الإسلامية جمعاء، ولها من كبير وفضل عظيم على الصنفين معا صنف الرجال وصنف النساء، وصنف النساء بالذات، فإنهن كن يتطلعن بغاية من اللهفة وشدة الشوق إلى من تكون قدوة وأسوة للبنات والزوجات والأمهات والجدات في جميع مجالات الحياة، والتي يكون لها تأثير عظيم ودور مجيد في إرشادهن وتوجيههن والقضاء على الطقوس والتقاليد والعادات غير الإسلامية التي تطرقت إلى مجتمعاتهن، فلما قام العلامة الندوي بتأليف هذا الكتاب في سيرة سيدة عظيمة وعبقرية فذة من التاريخ الإسلامي ألا وهي ((أم المؤمنين عائشة الصديقة (ض)))، من هذا الكتاب ذلك الفراغ الذي كان بحاجة إلى من يسده، وظهرت هذه السيرة المباركة للعبقرية المباركة كالمرآة الحقيقية التي يمكن لكل امرأة مسلمة أن ترى صورتها الواقعية أمامها، ثم تطلع على أحوالها وبالتالي تفكر في إصلاحها وصبغ حياتها بالصبغة الإسلامية المتمثلة في حياة أم المؤمنين (ض). مصادر الكتاب: يقول العلامة الندوي في مقدمة كتابه: ((إن عامة كتب التاريخ يمكن الاستفادة منها في كتابة تراجم عامة الناس، وتاريخهم، لكن الفترة التي نريد الكتابة عنها وعن وقائعها لا يتوفر تاريخها إلا في كتب الأحاديث، وكل ما تذخر به مكتباتنا الإسلامية من ذخائر كتب الحديث الشريف، إنها تاريخ عملي لحياة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولأمهات المؤمنين والصحابة الكرام (ض) أجمعين، وعلى هذا فجميع المصادر التي نستقي منها، وسائر المراجع التي نستند إليها في كتابة ((سيرة أم المؤمتين (ض)))، هي كتب الأحاديث لا غير، وقد استفدنا من كتب الجوامع والمسانيد والسنن عموما، وأحيانا احتجنا إلى كتب أسماء الرجال والطبقات، مثل (الطبقات الكبرى) لابن سعد، و (تذكرة الحفاظ) للذهبي، و (تهذيب التهذيب) للحافظ ابن حجر العسقلاني، وكذلك بعض كتب شروح الحديث مثل (فتح الباري)، و (إرشاد الساري) للقسطلاني على

البخاري، وشرح النووي لصحيح مسلم، ولم أعتمد على شيء من عامة كتب التواريخ إلا فيما يتعلق بحادثة الجمل، فقد اعتمدت فيها على تاريخ الطبري، وذلك لتعذر وجود تفاصيل الحادث في كتب الأحاديث. وأكثر الكتب الحديثية فائدة في إنجاز هذا العمل هو (صحيح البخاري) و (صحيح مسلم) و (سنن أبي داود) و (مسند الإمام أحمد بن حنبل)، ولقد درست هذه الكتب كلها حرفا حرفا واسقرأتها استقراء، ومعظم المعلومات القيمة عن أم المؤمنين (ض) استفدته من (مسند الإمام أحمد بن حنبل). ومن نوادر مصادر هذا الكتاب كتاب الحاكم ((المستدرك على الصحيحين)) (¬1) وكتاب السيوطي ((عين الإصابة في استدراك عائشة على الصحابة)) (¬2). ... ¬

_ (¬1) كتاب الحاكم ((المستدرك على الصحيحين)) كان مخطوطا عندما بدأ العلامة الندوي في تأليف كتابه، وقد طبع الآن، والطبعة الموجودة عندنا هي طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، المصورة عن طبعة حيدر أباد الدكن. (¬2) وقد طبعه العلامة الندوي بعد التحقيق كملحق مع كتابه ((سيرة عائشة)). قلت: وهو مختصر لكتاب الإمام بدر الدين الزركشي (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة) وقد طبع هذا في المطبعة الهاشمية عام 1939 بتحقيق الأستاذ سعيد الأفغاني (ح) (الناشر).

كلمة شكر وتقدير

كلمة شكر وتقدير امتثالا لقول الله عز وجل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]. وتصديقا لقول الصادق المصدوق الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ((من لا يشكر الناس لا يشكر الله)) (¬1) أرى من الواجب علي أن أتقدم بخالص شكري وتقديري إلى كل من ساعدني في النهوض بهذا العمل، وإنجازه وإبلاغه إلى نهاية المطاف، وعلى رأسهم سعادة الأستاذ محمد علي دولة صاحب دار القلم حفظه الله تعالى ورعاه، الذي تقدم مشكورا ومأجورا بتبني مشروع ترجمة كتاب ((سيرة عائشة)) فجزاه الله أحسن الجزاء وشكر مساعيه وتقبل منه خدماته، وجعلها في ميزان حسناته، فقد وجدته خلال اتصالاتي به أستاذا كريما، ومربيا جليلا محبا للعلم وطلابه، مهتما بأمورهم. كما لا يفوتني بهذه المناسبة أن أشكر الأستاذين الكريمين المشفقين سعادة الدكتور سعيد الأعظمي مدير دار العلوم لندوة العلماء لكنو الهند، وسعادة الشيخ محمد قاسم المظفر فوري رئيس قسم الحديث بالمدرسة الرحمانية سوفول دربنجه بيهار الهند اللذين شرفاني دائما بتوجيهاتهما القيمة وإرشاداتهما الغالية التي نورت أمامي طريق التقدم والازدهار، فجزاهما الله تعالى أحسن الجزاء، وأحسن مثوبتهما في الدنيا والآخرة. ثم أتقدم بالشكر والتقدير إلى كل من وجهني وقدم لي عونا أيا كان من الأساتذة والأصدقاء والزملاء، وأخص بالذكر منهم الأخ الفاضل محمد ¬

_ (¬1) الترمذي رقم 1954 في كتاب البر والصلة، وأبو داود رقم 4811 كتاب الأدب.

عبد الحي الندوي ونسيم أحمد عبد الوهاب المدني فجزاهما الله تعالى على حسن تعاونهما وشكر مساعيهما. وأخيرا أختم هذه الكلمات بتقديم أسمى معاني الشكر والثناء وأخلص الحب والوفاء إلى أبوي الكريمين المحبين، وإلى زوجتي أم عائشة الذين حظيت من حبهم وعنايتهم دائما، وكان لهم فضل كبير في إنجاز هذا العمل، فجزاهم الله تعالى أحسن الجزاء، وبارك في أعمارهم، وأسبغ عليهم نعمة الصحة والعافية. إنه تعالى هو القريب المجيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد وآله وصحبه وأهل بيته أجمعين. الدوحة 26/ 1 / 1423 هـ 15/ 3 / 2002 م كتبه العبد الفقير إلى الله محمد رحمة الله الندوي

سيرة السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تأليف العلامة السيد سليمان الندوي عربه وحققه وخرج أحاديثه محمد رحمة الله حافظ الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وأزواجه وأصحابه أجمعين (¬1). ... ¬

_ (¬1) تقسيم الكتاب إلى أبواب وفصول وبحوث من صنع الناشر.

الباب الأول سيرة السيدة عائشة أم المؤمنين

الباب الأول سيرة السيدة عائشة أم المؤمنين * تمهيد. * الفصل الأول: الزواج الميمون. * الفصل الثاني: عائشة في مدرسة النبوة. * الفصل الثالث: معاملتها للضرائر والأقارب. * الفصل الرابع: حديث الإفك، ومشروعية التيمم. * الفصل الخامس: وقائع التحريم والإيلاء والتخيير. * الفصل السادس: وداع الحبيب - صلى الله عليه وسلم - في السنة الحادية عشرة للهجرة. * الفصل السابع: عائشة (ض) بعد رحيل الحبيب - صلى الله عليه وسلم -. * الفصل الثامن: نشوء الفتن ومعركة الجمل. * الفصل التاسع: أم المؤمنين (ض) في عهد معاوية (ض). * الفصل العاشر: وفاتها (ض).

تمهيد

تمهيد الاسم والكنية والنسب: كان اسمها الذي عرفت به عائشة، ولقبها الصديقة، كانت تخاطب بأم المؤمنين وتكنى بأم عبد الله، وأحيانا كانت تلقب بالحميراء (¬1)، وكثيرا ما ناداها النبي - صلى الله عليه وسلم - بـ ((بنت الصديق)) (¬2). ¬

_ (¬1) الحميراء لغة: البيضاء الجميلة كما قاله الذهبي في السير، ينظر: سير أعلام النبلاء 2/ 140. هذا ولم يثبت في لقبها بالحميراء شيء عند المحدثين، كما نص عليه علماء الحديث في كتب الموضرعات عند كلامهم على قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء)) وزعم البعض وجود هذا اللقب في سنن النسائي بسند صحيح، ولم أجده بعد البحث والتحقيق، حتى قال الإمام ابن قيم الجوزية: ((كل حديث فيه يا حميراء، أو ذكر الحميراء، فهو كذب مختلق، مثل ((يا حميراء لا تأكلي الطين فإنه يورث كذا وكذا)) يراجع: المنار المنيف 60/ 1 لابن القيم، ط: مكتب المطبوعات الإسلامية حلب، ت الشيخ عبد الفتاح، 1403 هـ. قلت: حديث ((خذوا شطر دينكم ...)) أورده الملا علي القاري في ((المصنوع في معرفة الموضوع)) برقم 121، 98/ 1 بتحقيق الشيخ أبي غدة، ط: مكتبة الرشد الرياض 1404 هـ، والعجلوني في كشف الخفاء برقم 1198، 449/ 1، وابن كثير في تحفة الطالب 165/ 1، ط: دار حراء مكة المكرمة 1406 هـ. وحديث ((يا حميراء لا تأكلي الطين ...)) أورده العجلوني في كشف الخفاء 1/ 450 ط: مؤسسة الرسالة 1405 هـ، وابن قيم الجوزية في المنار المنيف 60/ 1. (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه، باب التوقي على العمل برقم 4198، والترمذي في سننه كتاب التفسير برقم 3175، وأحمد في مسنده 6/ 159 برقم 25302 و6/ 205 برقم 25746، وأبو بكر الحميدي في مسنده 132/ 1 برقم 274 ط: دار الكتب العلمية بيروت بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، وأبو يعلى في مسنده 6/ 8 برقم =

وكما هو معروف فإن العرب يعنون التكني من علامات الشرف، ورمزا للفضل والافتخار، وعائشة (ض) لم تحمل قط فلم تكن لها ذرية، ولذلك لم تكتن بكنية، وقد ظهر ألمها هذا حين قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حزينة كاسفة: يا رسول الله كل صواحبي لهن كنى، فقال لها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((فاكتني بابنك عبد الله، يعني ابن أختها)) (¬1). كان اسم والدها عبد الله، وكنيته أبو بكر، وقد اشتهر بلقب الصديق، وأمها أم رومان. وهي قرشية تيمية من أبيها، وكنانية من أمها. نسبها من أبيها: عائشة بنت أبي بكر الصديق بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن فهر بن مالك. نسبها من أمها: عائشة بنت أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن وهبان بن حارث بن غنم بن مالك بن كنانة. ويلتقي نسبها مع نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجد السابع، ومن قبل الأم في الجد الحادي عشر أو الثاني عشر. وقد توقي أبوها أبو بكر الصديق في سنة 13 هـ، واختلفوا في سنة وفاة أم رومان فقيل: إنها توفيت في السنة الخامسة أو السادسة من الهجرة (¬2)، في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ = 4507 ط: دار المأمون للتراث دمشق 1404 هـ ت: حسين سليم أسد، والبيهقي في شعب الإيمان 477/ 1 برقم 762 ط: دار الكتب العلمية ببيروت 1410 هـ. (¬1) أخرجه أبو داود في سننه باب في المرأة تكنى برقم 4970، والإمام أحمد في مسنده 260/ 6 برقم 26285. (¬2) انظر: أسد الغابة للإمام ابن الأثير الجزري 5/ 583 ط: المطبعة الإسلامية بطهران مصورة من طبعة مصر 1285 هـ. وقال ابن سعد في الطبقات الكبرى: ((وتوفيت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة في ذي الحجة سنة ست من الهجرة.)) (276/ 8، ط: دار صادر بيروت).

وهذا لا يصح، وأثبتت الروايات الصحيحة أنها كانت على قيد الحياة في خلافة أبي بكر (ض)، حيث قد ذكر اسمها في جملة الأحاديث الواردة في قصة الإفك؛ كما صح أنها كانت حية ترزق في السنة التاسعة من الهجرة، العام الذي وقع فيه حادث التخيير (¬1). وأورد الإمام البخاري في صحيحه رواية مسروق عنها بإسناد متصل (¬2)، كما ذكرها في التاريخ الصغير ممن توفوا في خلافة أبي بكر الصديق (ض)، واعترض على القول (¬3) الأول، وأيده الحافظ ابن حجر العسقلاني (ح) وأثبت ذلك بدلائل مقنعة ودراسة وافية تحقيقيه في كتابه ((تهذيب التهذيب)) (¬4) وقال بأن الصواب هو ما قاله البخاري. ¬

_ (¬1) انظر واقعة التخيير في صحيح البخاري كتاب المظالم والغصب برقم 2468 وكتاب تفسير القرآن برقم 4786، وصحيح الإمام مسلم كتاب الطلاق برقم 1475، وسنن الترمذي كتاب التفسير برقم 3204. (¬2) أخرج الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن مسروق عن أم رومان ام عائشة أنها قالت: ((لما رميت عائشة خرت مغشيا عليها)) كتاب تفسير (سورة النور) برقم 4751 وفي كتاب أحاديث الأنبياء برقم 3388، وكتاب المغازي برقم 4143، والإمام أحمد في مسنده 367/ 6 برقم 27115، وابن حبان في صحيحه 22/ 16 برقم 7103، والطبراني في الكبير 122/ 23 ذكر حديث الإفك. (¬3) قال البخاري: وروى علي بن زيد عن القاسم: ماتت أم رومان زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه نظر، وحديث مسروق أسند، (انظر: التاريخ الصغير 38/ 1). (¬4) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني بعد ذكر اسم أم رومان ونسبها: قيل: إنها ماتت سنة أربع أو خمس ... وقال الواقدي والزبير بن بكار: توفيت في ذي الحجة سنة ست، روى البخاري في صحيحه عن مسروق حدثتني أم رومان فذكر طرفا من الحديث، قال الخطيب: هذا حديث غريب ... ومسروق لم يدرك أم رومان، لأنها توفيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان مسروق يرسل رواية هذا الحديث عنها، قال: وأخرج البخاري هذا الحديث لما رأى فيه عن مسروق ... ولم يظهر له علة، قلت: (القائل هو الحافظ ابن حجر): قد صرح البخاري بأن قول من قال إنها توفيت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم، وإن قول مسروق ((حدثتني أم رومان)) هو الصحيح. كما صرح بذلك في تاريخه الأوسط والصغير، وقال: حديث مسروق أسند، كما يدل على ذلك حديث التخيير، والتخيير كان في سنة تسع .. ، انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر باختصار وتلخيص 12/ 95 - 494، ط: دار الفكر بيروت 1404 هـ.

الولادة

الولادة: كانت أم رومان قبل بناء الصديق (ض) بها زوجا لصاحبه في الجاهلية عبد الله بن الحارث الأزدي، فلما توفي عبد الله تزوجها أبو بكر الصديق (ض)، وولدت له اثنين: عبد الرحمن وعائشة (ض). هذا ولم ترو لنا كتب السير والتراجم تاريخ ولادة عائشة (ض) بالضبط، إلا أن بعض مؤلفي السير والتاريخ نقلوا عن ابن سعد قوله في الطبقات: إن ولادتها كانت في بداية السنة الرابعة من النبوة، وتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنة العاشرة من النبوة وهي بنت ست سنين، وهذا لا يصح. لأنه لو قدر مولدها في بداية السنة الرابعة من النبوة للزم أن يكون عمرها في السنة العاشرة سبع سنوات وليس ست سنوات. والواقع أن هناك عدة أمور ثابتة في موضوع سنها (ض)، وهي: 1 - أنها تزوجت قبل الهجرة بثلاث سنوات، وهي بنت ست سنين. 2 - أعرس بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال، السنة الأولى من الهجرة وهي بنت تسع سنين. 3 - توفي عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الأول، السنة الحادية عشرة، وهي بنت ثماني عشرة سنة. وعلى هذا وفي ضوء هذه الحقائق فيكون أصح تاريخ لولادتها هو شهر شوال السنة التاسعة قبل الهجرة، الموافق يوليو (تموز) عام 614 م، وهو نهاية السنة الخامسة من البعثة. ملاحظة: ينبغي لنا قبل أن ندخل في الوقائع التاريخية القادمة أن نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قضى في مكة ثلاثة عشر عاما، وفي المدينة المنورة عشرة أعوام من حياته النبوية، ولما ولدت عائشة (ض) تكون قد مضت على البعثة أربعة أعوام، ودخلت في السنة الخامسة. هذا ولم تبلغ أسرة من الأسر المسلمة ما بلغته أسرة أبي بكر الصديق في جهادها وتضحيتها في سبيل نشر دعوة الإسلام.

الطفولة

فكان منزله هو ذلك المكان المبارك الذي يحمل في طياته أسمى معاني الشرف والسعادة والعزة والوقار، حيث طلعت من هناك أولى أشعة الشمس البارقة، وبالتالي فعائشة (ض) من أولئك الناس الخيرين سعيدي الحظ، الذين لم يقع آذانهم صوت من الشرك أو الكفر. تقول (ض): ((لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين)) (¬1). وقد أرضعتها زوجة وائل أبي القعيس، فكان أخو وائل أفلح - عمها من الرضاعة - يأتي أحيانا لزيارتها فتأذن له عائشة بإذن من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، تقول (ض): ((إن أفلحأخا أبى القعيس جاء يستأذن عليها، وهو عمها من الرضاعة، بعد أن أنزل الحجاب، قالت: فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرته بالذي صنعث، فأمرني أن آذن له)) (¬2) كما أن أخاها من الرضاعة أيضا كان يزورها في بعض الأحيان (¬3). الطفولة: إن العباقرة تبدو معالم عبقريتهم منذ نعومة أظفارهم في كل ما يصدر منهم من الأقوال والأفعال، وتتلمع آثار رفعتهم وعلامات سعادتهم على نواصيهم، تنبئ عن المستقبل الباهر والرائع لهم، وتوحي بأنهم يصنعون العظائم. وأم المؤمنين عائشة (ض) كانت من هؤلاء العباقرة، فسيما الرفعة وعلو الدرجة والسعادة كان يلوح منذ صباها في سائر أعمالها وحركاتها، لكن كما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة برقم 476 وكتاب الحوالة برقم 2298 وكتاب المناقب رقم 3906 وكتاب الأدب رقم 6079، والإمام أحمد في مسنده 6/ 198 برقم 25667. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح برقم 5103، ومسلم في صحيحه كتاب الرضاع برقم 1445، والإمام أحمد في مسنده 177/ 6 برقم 25482، والإمام مالك في الموطأ كتاب الرضاع رقم 1279، والدارمي في سننه كتاب النكاح رقم 2248. (¬3) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الحيض برقم 320، والبخاري في صحيحه كتاب الغسل برقم 251، والنسائي في سننه كتاب الطهارة برقم 227.

هو معروف فإن الطفل هو الطفل في فطرته وطبيعته، مهما بلغ أوج السعادة وقمة الشرف، فهو يحب اللعب نظرا لسن طفولته. وعائشة (ض) كذلك كانت تحب اللعب كثيرا، فكانت جواري الحي تجتمع عندها وتلعب معها، إلا أنها رغم هذه الطفولة وصغر السن لا يفوتها أن تراعي أدب النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل لحظة، وغالبا ما يحدث أن تكون ملهوفة على لعبها ومعها صواحبها إذ يأتيها النبي - صلى الله عليه وسلم - فجأة، فتسرع في إخفاء اللعبة عنه، وتنقمع صواحبها، لكن الرسول الحبيب - صلى الله عليه وسلم - الذي كان حنونا على الأطفال، محبا لهم، رؤوفا بهم، وشفيقا عليهم، يأمرهن أن يلعبن معها. تقول عائشة إنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: ((وكانت تأتيني صواحبي، فكن ينقمعن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسربهن إلي يلعبن معي)) (¬1) وكان أحب اللعب إليها هو اللعب بالبنات والعرائس والأراجيح. وذات مرة كانت تلعب بالبنات إذ جاءها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ورأى بين البنات فرسا له جناحان من يمين وشمال، فسألها: ما هذا يا عائشة؟ فقالت: فرس، فقال: وهل يكون للفرس جناحان؟ فردت عليه مرتجلة: أما كانت لخيل سليمان (س) - أجنحة؟ فضحك الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬2) على هذا الرد الارتجالي المقنع، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على قوتها الفائقة الطبيعية في الإسراع في ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه باب في فضل عائشة برقم 2440، وابن حبان في صحيحه 173/ 13 برقم 5863 ط: مؤسسة الرسالة بيروت 1414 هـ، والبيهقي في السنن الكبرى باب ما جاء في اللعب 219/ 10، كما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه كتاب الأدب برقم 6130 وفيه ((يتقمعن)) بدل ((ينقمعن)). (¬2) مشكاة المصابيح باب عشرة النساء من كتاب النكاح برقم 3265، 974/ 2 تحقيق ناصر الدين الألباني، وقد رواه أبو داود في سننه باب في اللعب بالبنات برقم 4932 وفيه أن هذه الواقعة كانت عند رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك أو خيبر، وتبوك كانت في السنة التاسعة وخيبر كانت في السابعة من الهجرة، وعلى هذا فيكون سنها في ذاك الوقت ثلاث عشرة سنة أو خمس عشرة سنة. كما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 219/ 10.

الجواب، والثقافة العالية التي كانت تتمتع بها، وسعة اطلاعها على الأمور الدينية، والذكاء المتوقد، وسرعة إدراك الأمور. إن طبيعة الأطفال في كل عصر تكون واحدة حيث إنهم لا يبالون بشيء، ولا يهمهم أمر، ولا تلفت نظرهم قضية حتى السن السابعة والثامنة، ويكونون بعيدين كل البعد عن الأمور الفكرية. إلا أن السيدة عائشة (ض) قد اختلفت طبيعتها عن الآخرين في هذا الشأن، فنرى أنها كانت تحفظ كل ما حدث أيام طفولتها، وتخزنه في ذاكرتها، وتفقه من أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - ما تيسر لها أن تفقه، ثم ترويه، وتستخرج منه الأحكام، وتستنبط منه الجزئيات الفقهية، كما أنها كانت تشرح الحكم والمصالح من واقعات الطفولة الجزئية، حتى لو قرعت أذنيها آية من كتاب الله أثناء لعبتها فإنها كانت تذكرها. تقول (ض): لقد أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - بمكة وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46] (¬1). وعندما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة لم تكن عائشة تجاوزت الثامنة من عمرها لكنها كانت تفهم وتعي وتحسن الحفظ لأسرار وقائع الهجرة النبوية والجزئيات المتعلقة بها، ولم يدانها أحد من الصحابة في حفظ هذه الوقائع بالترتيب المسلسل كما حفظته هي (¬2). ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه تفسير سورة القمر برقم 4876، وبرقم 4993 باب تأليف القرآن. (¬2) يراجع أبواب الهجرة في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما.

الفصل الأول الزواج الميمون

الفصل الأول الزواج الميمون كانت السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين (ض) أولى زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحبهن إليه، وقد بنى بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نحو الخامسة والعشرين، وهي في نحو الأربعين، وقد سعدت بالبقاء معه - صلى الله عليه وسلم - زهاء خمس وعشرين سنة إلى أن أوفت على الخامسة والستين فاستأثرت بها رحمة الله تعالى في شهر رمضان السنة العاشرة بعد البعثة، أي قبل الهجرة بثلاث سنوات، وكان سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ خمسين سنة. كانت أول من آمن به وأول إنسان أسلم على وجه الأرض، وكانت نعم القرين له في السراء والضراء، وقد أغدقت عليه من حنان الأمومة ما فاته في بواكير الطفولة، وأدركه عطفها وهو يعالج من نوازع الدعوة النبوية ثورة مقيمة مقعدة في سريرة النفس، لا تزال بين الجلاء والغموض وبين الإقدام والإحجام، ولا تزال في هذه الحالة على حاجته القصوى إلى التثبيت والكلاءة والتشجيع. ولما توفيت (ض)، لم يعرف عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه حزن على أحد قط أشد من حزنه عليها، ولا أطال الذكرى لأحد قط بعد وفاته كما أطال ذكراها، حتى إنه قد صعبت عليه الحياة من شدة ما أصابته من هموم الوحدة والتفرد، فشق ذلك على صحابته المخلصين (ض) وآلمهم ما لحظوه من حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - على زوجه العزيزة عليه، فجاءت السيدة خولة بنت حكيم - امرأة عثمان بن مظعون من أجلاء الصحابة توفي سنة 2 هـ - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: يا رسول الله ألا تتزوج؟ قال: من؟ قالت: إن شئت بكرا، وإن شئت ثيبا، قال: ((ومن البكر ومن الثيب؟)) قالت: أما الثيب فهي سودة بنت زمعة، وأما البكر فهي بنت أحب الخلق إليك، عائشة بنت أبي (¬1) بكر الصديق. ¬

_ (¬1) من أشنع الجهالات وأقبح الضلالات التي وقع فريستها المحققون والباحثون =

قال: ((فاذكريها لي)) فأتت بيت أبي بكر وذكرت ذلك له،- وكان الناس في الجاهلية لا يتزوجون بنات إخوانهم بالتآخي، ويظنون أن المؤاخاة تمنع قرابة المصاهرة مثل بنات الأشقاء - فقال لها أبو بكر: وهل تصلح له؟ إنما هي ابنة أخيه؟ فرجعت خولة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرت له ذلك، فقال: ((ارجعي فقولي له: إنه أخي في الدين، وهي لي حلال)) (¬1) فلما علم ذلك أبو بكر قبل به. هذا وكانت عائشة مخطوبة قبل ذلك لجبير بن مطعم بن عدي، فتحرج أبو بكر من نقض خطبته قبل مراجعته فيما ينويه، فلقي أبا الفتى، فأقبل الأب على امرأته يسألها ما تقولين؟ - وكانت أسرة جبير لم تعتنق الإسلام ذاك الحين - فقالت: يا ابن أبي قحافة لعلك مصب صاحبنا - مدخله في دينك الذي أنت عليه - إن تزوج إليك؟! (¬2). ¬

_ = المستشرقون والنصارى في تكني الصديق بأبي بكر، قولهم: ((إن كلمة البكر تطلق على العذراء في اللغة العربية، وكانت عائشة هي البكر الوحيدة التي تزوجها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك تكنى والدها بأبي بكر)) ولا غرابة إذا لم يطلع الأعداء على هذه الحقيقة، ولكن مما يبعث على القلق والأسف الشديدين أن إخواننا المسلمين كذلك جهلوا هذا الواقع، فهذا السيد أمير علي الكاتب المعروف وقع في الخطأ نفسه في كتابه حياة محمد (Life of Mohammad - S.W) الباب الرابع عشر، وقلد المستشرقين في ذكر سبب تكني الصديق بأبي بكر، مع أن التكني هو من علامات الشرف ورمز الافتخار لدى العرب، ومخاطبتهم بالكنى تدل على توقيرهم والاحترام لهم، وأشراف القبائل وساداتهم لا يعرفون إلا بالكنى، فهذا أبو سفيان، وأبو جهل، وأبو لهب، كل منا يعرفهم بكناهم لكن كم منا يعرف أسماءهم الحقيقية؟ وهكذا كان شأن أبي بكر (ض)، ثم إنه لم يكن بهذه الكنية بعد ولادة عائشة، بل هذه كنيته حتى قبل مجيء الإسلام. ثم كلمة ((البكر)) (بفتح الباء) لا تطلق على العذراء، وإنما ((البكر)) (بكسر الباء) هي التي تطلق على العذراء، و ((بكر)) علم من أشهر الأعلام العربية أمثال زيد وعمرو، وكانت بنو بكر بن وائل من القبائل المشهورة في العرب، وبالتالي فلا علاقة له بكلمة ((بكر)). (¬1) أخرجه الإمام البخاري مختصرا في كتاب النكاح 5081 باب تزويج الصغار من الكبار، وأورده الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) باب تزويج عائشة 9/ 225 ط: دار الريان للتراث 1407 هـ. والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 129 برقم 13526 ط: مكتبة دار الباز مكة المكرمة 1414 هـ، والإمام أحمد في مسنده 6/ 210 برقم 25810، ط: مؤسسة قرطبة مصر. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 210 برقم 25810.

وعائشة (ض) كانت صبية في سنها الباكر، وقد تصدر منها بعض الأعمال والحركات التي لا ترضى بها أمها، فتعاقبها عليها، ويرى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحزنه، فيقول لأمها: ((يا أم رومان استوصي بعائشة خيرا واحفظيني فيها)) (¬1) وذات مرة دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت أبي بكر (ض)، فوجد عائشة متسترة بباب أبي بكر تبكي بكاء حزينا، فسألها، فشكت أمها، وذكرت أنها تولع، فدمعت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخل على أم رومان فقال: ((يا أم رومان ألم أوصك بعائشة أن تحفظيني فيها؟)) فقالت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنها بلغت الصديق عنا، وأغضبته علينا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وإن فعلت)) (¬2). وقد ثبت في الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في المنام أن ملكا يقدم إليه شيئا في سرقة حرير، فسأله الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما هذا؟ فقال: هذه امرأتك، فكشفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هي عائشة، روى البخاري في صحيحه عن عائشة (ض) قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أريتك قبل أن أتزوجك مرتين، رأيت الملك يحملك في سرقة من حرير، فقلت له: اكشف، فكشف فإذا هي أنت، فقلت: إن يكن هذا من عند الله يمضه، ثم رأيتك يحملك في سرقة من حرير فقلت: اكشف، فكشف، فإذا هي أنت، فقلت: إن يك هذا من عند الله يمضه)) (¬3). ونكح - صلى الله عليه وسلم - عائشة وهي بنت ست سنين (¬4)، وكان الهدف الأصلي من هذا الزواج المبكر هو إحكام العلاقة وتوطيد الصلة وتوثيقها بين الخلافة والنبوة، وإذا كان الجو الحار الذي يعيشه العرب في البلاد العربية يمهد الطريق إلى النمو غير العادي ويساعد في النشأة السريعة في النساء في جانب، فهناك ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك 6/ 4 برقم 6716. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك 6/ 4 برقم 6716. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التعبير برقم 7012، وكتاب المناقب برقم 3895، وكتاب النكاح برقم 5078، والإمام مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2438، وأحمد في مسنده 41/ 6 برقم 24188 و128/ 6 برقم 25015. (¬4) أنظر صحيح البخاري كتاب المناقب رقم الحديث 3894، صحيح الإمام مسلم كتاب النكاح برقم 1422، سنن النسائي كتاب النكاح برقم 3378.

مهر عائشة (ض)

جانب آخر وهو أن الشخصيات البارزة ذات الأهمية والمكانة العالية كما توجد لديهم مواهب خاصة واستعدادات غير عادية لتطوير وتنمية القوى الذهنية والفكرية، كذلك يتوافر فيهن استعداد كامل للنشأة والنضج المبكر من حيث الجسم، وذلك ما يعبر عنه في الإنجليزية ب << Precocious>> (يعني النشوء المبكر أو النضج المبكر) وعلى كل فإن موافقته - صلى الله عليه وسلم - على زواجه منها في هذه السن المبكرة فيها دليل صريح وقاطع على ما كانت تتمتع به عائشة منذ صباها من غاية الذكاء المتوقد وجودة القريحة وقوة التفكير العالية والبديهة الواعية، وبراعة في الاستنتاج والاستنباط. وها هي الصحابية أم عطية (ض) تحكي لنا قصة زواجها من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكل بساطة وتواضع، تقول: ((خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة بنت أبي بكر، وهي صبية، فأتتها حاضنتها وهي تلعب، فأخذت بيدها، فانطلقت بها إلى البيت، فأصلحتها، وأخذت معها حجابا فزوجها أبو بكر (¬1) إياه)) هكذا تم حفل زفاف سيدة نساء العالمين بكل تواضع وبأقصى درجات البساطة، ومما لا شك فيه أن فيه أسوة حسنة وقدوة طيبة لسائر البنات المسلمات، وفيه عبرة وعظة لأولئك الذين جعلوا الزواج في عصرنا الراهن من المشكلات، وأصبح رمزا للإسراف والتبذير، والإنفاق في اتباع الهوى وإرضاء الرغبات والشهوات، ومعلما للطقوس والتقاليد والعادات التي تعارض مبادئ الإسلام وديننا الحنيف. أفلم يكن زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ تكذيبا عمليا لما اختلقه الناس وابتدعوه في حفلات زواجهم؟ واسمعوا إلى قول أم المؤمنين عاشة (ض): ((فما دريت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجني، حتى أخذتني أمي فحبستني في البيت عن الخروج، فوقع في نفسي أني تزوجت، فما سألتها حتى كانت أمي هي التي أخبرتني)) (¬2). مهر عائشة (ض): ويتبين من روايتي الإمام ابن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دفع إلى عائشة (ض) ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد الكبرى 8/ 59. (¬2) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 58، المعجم الكبير للطبراني 23/ 25.

التاريخ الذي تزوجت فيه عائشة (ض)

من المهر بيتا قيمته خمسون أو نحو خمسين (¬1)، وهو يعدل عشر روبيات (¬2). وهذا لا يصح دراية، لأن مبلغ عشر روبيات لا يمكن أن يشترى به حتى بيت صغير، وجاء في رواية ابن إسحاق أن المهر كان أربعمئة درهم (¬3). وهناك رواية أخرى عند ابن سعد نفسه عن عائشة تقول: ((كان صداق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة أوقية ونشا، فذلك خمسمئة درهم قالت عائشة: ((الأوقية أربعون، والنش عشرون)) (¬4). وفي صحيح مسلم عن عائشة (ض) قالت: ((كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا، قالت: أتدري ما النش؟ قالت: نصف أوقية، فتلك خمسمئة درهم، فهذا صداق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه)) (¬5) كذا ثبت في مسند الإمام أحمد بن حنبل (¬6). هذا ولو قورن صداق عائشة بالمغالاة التي عمت في المهور في مجتمعنا اليوم لتبين لنا الفرق الشاسع بينهما، والأخطر من ذلك أن التقليل في المهور أصبح الآن رمزا لإذلال وإهانة الأسر وتحقيرها، والحط من مكانتها الاجتماعية، ومن ثم فالسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو هل توجد اليوم أسرة تفوق أسرة الصديق بل تدانيها في الفضل والشرف والسعادة والمكانة؟ وهل شهد العالم الإنساني اليوم بنتا هي أرفع مكانة وأعلى شرفا وأسمى منزلة من بنت الصديق؟ سيكون الجواب بالتأكيد النفي. التاريخ الذي تزوجت فيه عائشة (ض): اختلفت الأقوال في تعيين التاريخ الذي نكح فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة، فقال ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 59/ 8. (¬2) هذا سعر الروبية مقابل الدرهم قبل ثماين سنة. (¬3) ذكره ابن هشام في السيرة النبوية 57/ 6 ط: دار الجيل بيروت 1411 هـ، ت: طه عبد الرؤوف سعد. (¬4) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 161 ط دار صادر بيروت. (¬5) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه باب الصداق برقم 1426، والحاكم في المستدرك على الصحيحين 4/ 5 برقم 6716 ط: دار الكتب العلمية بيروت 1411 هـ، والدارمي في سننه باب كم كانت مهور أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم 2199، وأبو داود في سننه باب الصداق برقم 2105، والنسائي في سننه باب القسط في الأصدقة برقم 3347. (¬6) مسند الإمام أحمد بن حنبل 6/ 93 برقم 24670، ط: مؤسسة قرطبة، مصر.

العلامة بدر الدين العيني: ((تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث، وقيل: بسنة ونصف أو نحوها في شوال، وهي بنت ست سنين، وقيل: سبع، وبنى بها في شوال أيضا بعد وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة ...)) (¬1). بينما تقول بعض الروايات: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها بعد وفاة خديجة (ض) بثلاث سنوات، ويقول أهل السير والتراجم: إنها تزوجت في نفس العام الذي توفيت فيه خديجة (ض). وكان بإمكاننا أن نحدد تاريخ زواجها بتاريخ وفاة أم المؤمنين خديجة (ض)، لكن تاريخ وفاتها أيضا مختلف فيه بين العلماء، فمن قائل: إنها توفيت قبل الهجرة بخمس سنوات، ومن قائل: قبل الهجرة بأربع سنوات، ومن قائل: قبل الهجرة بثلاث سنوات، حتى عائشة (ض) نفسها روت لنا روايتين مختلفتين في هذ الصدد كما في صحيح الإمام البخاري ومسند الإمام أحمد بن حنبل، فرواية تقول: ((ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها))، قالت: ((وتزوجني بعدها بثلاث سنين)) (¬2)، وأخرى تقول: ((إنه تزوجها في نفس السنة)) (¬3). وهو ما اختاره جمهور المحققين، ويؤيده معظم الروايات الصحيحة، وذلك أن خديجة (ض) توفيت في رمضان السنة العاشرة من البعثة، قبل الهجرة بثلاث سنوات تقريبا، وبعدها بشهر في شوال تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكانت عائشة بنت ست سنين، وعلى هذا يكون تاريخ زواجها شهر شوال السنة الثالثة قبل الهجرة، الموافق مايو (أيار) 620 م. وقد وثق الإمام ابن عبد البر (¬4) هذا القول في كتابه ¬

_ (¬1) عمدة القاري بشرح صحيح البخاري للعلامة بدر الدين العيني 1/ 45. (¬2) البخاري كتاب المناقب برقم 3817، مسلم كتاب فضائل الصحابة برقم 2435. (¬3) صحيح البخاري باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة وقدومها المدينة وبنائه بها برقم 3896. (¬4) هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر أبو عمر، الحافظ، القرطبي، أحد الأعلام في الأندلس وكبير محدثيها، كان ثقة نزيها متبحرا في الفقه والعربية والحديث والتاريخ، له كتب كثيرة نافعة ومفيدة منها: التمهيد، والاستذكار، والاستيعاب، وجامع بيان العلم وفضله، توفي سنة 463 هـ وقيل 458 هـ، انظر: وفيات الأعيان 6/ 64، الديباج المذهب 367/ 2، شذرات الذهب 314/ 4، شجرة النور الزكية ص 119.

هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة

((الاستيعاب، (¬1)، أما الروايتان اللتان ترويهما عائشة (ض)، فيمكن أن الراوي أخطأ في إحداهما، حيث إنه قد تم الزواج في نفس السنة التي ماتت فيها خديجة، وبنى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاث سنوات، وكانت في التاسعة من عمرها. هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة: مكثت عائشة (ض) في بيت أمها بعد نكاحها حوالي ثلاث سنين، سنتان وثلاثة أشهر في مكة، وسبعة أشهر في المدينة المنورة بعد الهجرة. ومعلوم تاريخيا أن المسلمين هاجروا من مكة مرتين، الهجرة الأولى كانت إلى بلاد الحبشة، والهجرة الثانية كانت إلى المدينة، وإن عائشة (ض) تابعت موضع الهجرة وقصتها بكل دقة وبراعة، وها هي تحكي لنا قصة هجرة أبي بكر وما أصابه من الأذى في سبيل دينه، حتى خرج من مكة مهاجرا قبل الحبشة؛ تقول (ض): ((حتى إذا بلغ برك العماد لقيه ابن الدغنة، وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع .... فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج ... الحديث)) (¬2) ويحتمل أن تكون عائشة وأهلها كلهم كانوا مع أبي بكر في هذه الرحلة. وأما الهجرة الثانية: فإنه لما اشتد الظلم على المسلمين في مكة، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وظلت المصائب والمشاق تزداد عليهم يوما بعد يوم من قبل المشركين، وتعرضوا لأقسى أنواع الأذى والاضطهاد نوى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الهجرة إلى المدينة. ¬

_ (¬1) انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1881/ 4 رقم الترجمة 4029، ط: دار الجيل بيروت 1412 هـ، ت: علي محمد البجاوي. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الحوالة برقم 2298 وكتاب المناقب برقم 3906.

ولنسمع قصة هذه الهجرة من فم عائشة (ض) تقول: لم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار بكرة وعشية، بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ... فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أذن لي في الخروج، قالت عائشة: فجهزناهما (الراحلتين) أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به فم الجراب ...)) (¬1). وهكذا هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه أبو بكر (ض) إلى المدينة، وتركوا أهاليهم بين هؤلاء الأعداء، وعندما حل الركاب النبوي المبارك بالمدينة كان الثاني عشر من شهر ربيع الأول من العام الرابع عشر من البعثة. ولما استقر - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أرسل كلا من زيد بن حارثة وأبي رافع إلى مكة لكي يأتيا بأهله، وبعث أبو بكر معهما عبد الله بن أريقط الليثي، وكتب إلى ابنه عبد الله يأمره أن يحمل أهله أم رومان وعائشة وأسماء، فخرج بهم عبد الله، وخرج زيد وأبو رافع بفاطمة وأم كلثوم وسودة وأم أيمن وأسامة، فاصطحبوا جميعا، حتى إذا كانوا في طريقهم إلى المدينة نفر بعير عائشة (ض)، فجعلت أمها تقول: وابنتاه، واعروساه، حتى أدرك البعير وقد هبط، فقدموا المدينة، فنزلت عائشة مع عيال أبي بكر، ونزل آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذ يبني المسجد وأبياتا حول المسجد فأنزل فيها أهله)) (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب برقم 3906. (¬2) انظر تفاصيل هذه القصة في: المستدرك على الصحيحين 6/ 4 - 5 برقم 6716، الطبقات الكبرى لابن سعد 63/ 2، المعجم الكبير للطبراني 23/ 25 برقم 60، ومجمع الزوائد للهيثمي 227/ 9 ط: دار الريان للتراث القاهرة 1407 هـ، وسير أعلام النبلاء للذهبي 2/ 152، الاستيعاب 1936/ 4 ط: دار الجيل بيروت.

بناؤه - صلى الله عليه وسلم - بعائشة

بناؤه - صلى الله عليه وسلم - بعائشة: نزلت عائشة (ض) مع أهلها في حي بني الحارث بن الخزرج (¬1)، وأقامت هناك مع أمها ما يقارب سبعة أو ثمانية أشهر، وكانت المدينة المنورة أرضا وبئة، فتأثر المهاجرون بمناخها هذا لما سكنوا فيها، فمرض بعضهم، وأصابتهم الحمى والسقم حتى أجهدهم ذلك، وكذلك أبو بكر (ض) أصابته الحمى الشديدة فكانت عائشة تعوده وتستخبر حاله، تقول (ض): ((لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وعك أبو بكر وبلال، فدخلت عليهما، فقلت: يا أبي كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: ((كل امرئ مصبح في أهله … والموت أدنى من شراك نعله)) قالت: فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: ((اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة، أو أشد، اللهم وصححها، وبارك لنا في مدها وصاعها، انقل حماها، فاجعلها بالجحفة)) (¬2). ثم تأثرت عائشة (ض) نفسها بهذا المناخ الذي لم تألفه من قبل فمرضت، فكان أبو بكر (ض) يأتيها ويقبلها ويقول: كيف أنت يا بنية؟ وكان المرض شديدا حتى تمرق شعرها، تقول (ض) وهي تحكي لنا هذه القصة: ((فقدمنا المدينة فوعكت شهرا فوفى شعري جميمة)) (¬3). ولما شفيث أخذت أمها تهيئها للزواج وتعالجها، ثم قال أبو بكر: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة وقدومها المدينة وبنائه بها برقم 3894، وأبو عوانة في مسنده 78/ 3 برقم 4260، والدارمي في سننه باب في تزويج الصغار إذا زوجهن آباؤهن برقم 2261، 212/ 2، والبيهقي في السنن الكبرى باب ما تقول النسوة للعروس برقم 13621، 7/ 148، وأبو داود في السنن باب في الأرجوحة برقم 4937. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب برقم 3926، وكتاب المرض برقم 5654 وبرقم 5677، والإمام مسلم في صحيحه كتاب الحج برقم 1376، ومالك في الموطأ كتاب الجامع برقم 1648. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب برقم 3894، ومسلم في صحيحه كتاب النكاح برقم 1422 واللفظ له، وابن ماجه في سننه كتاب النكاح برقم 1876.

يا رسول الله ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصداق، فأعطاه أبو بكر اثنتي عشرة أوقية ونشا، فبعث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عائشة، (¬1). وفي هذا عبرة وعظة للذين يتساهلون في أداء المهور، هع أنه حق ثابت للمرأة، وألزم الله سبحانه وتعالى الزوج أن يقدمه لزوجته تعبيرا عن تقديره لها. كانت علاقة أم المؤمتين عائشة (ض) بالمدينة المنورة علاقة المصاهرة، وها هي تصف لنا بنفسها قصة زفافها وبناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها، فتقول: ((تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لست سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين، قالت: فقدمنا المدينة ...... فأتتني أم رومان وأنا على أرجوحة، ومعي صواحبي، فصرخت بي فأتيتها، وما أدري ما تريد بي، فأخذت بيدي، فأوقفتني على الباب، فقلت: هه، هه، حتى ذهب نفسي، فأدخلتني بيتا، فإذا نسوة من الأنصار، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن، فغسلن رأسي، وأصلحنني، فلم يرعني إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحى، فأسلمتني إليه)) (¬2). وهذه أسماء بنت يزيد إحدى صديقات عائشة - صلى الله عليه وسلم - تحكي لنا عما قدم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنواع القرى عند حفل الزفاف، تقول: كنت صاحبة عائشة التي هيأتها وأدخلتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فوالله ما وجدنا عنده قرى إلا قدحا من لبن، قالت: فشرب منه، ثم ناوله عائشة، فاستحيت الجارية، فقلنا: لا تردي يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خذي منه، فأخذته على حياء، فشربت منه، ثم قال: ناولي صواحبك، فقلنا: لا نشتهيه، فقال: لا تجمعن جوعا وكذبا، قالت: فقلت: يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه، يعد ذلك ¬

_ (¬1) أخرجه مفصلا الطبراني في الكبير 25/ 23 برقم 60، ط: مكتبة العلوم والحكم، والإمام ابن عبد البر في الاستيعاب 1937/ 4، وابن سعد في الطبقات الكبرى 63/ 8. (¬2) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه كتاب المناقب برقم 3894، والإمام مسلم في صحيحه كتاب النكاح برقم 1422، وأبو داود في سننه كتاب الأدب برقم 4933، وابن ماجه في سننه كتاب النكاح برقم 1876، والدارمي في سننه كتاب النكاح برقم 2261.

أهم مميزات نكاحه - صلى الله عليه وسلم - بعائشة وبنائه بها

كذبا؟ قال: إن الكذب يكتب كذبا، حتى تكتب الكذيبة كذيبة)) (¬1). هذا وقد كان بناؤه - صلى الله عليه وسلم - بها نهارا في شوال السنة الأولى من الهجرة على أصح الأقوال، بينما قال العلامة بدر الدين العيني في عمدة القاري: ((وبنى بها في شوال أيضا بعد وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة ....)) (¬2). وهذا لا يصح، لأنه يقتضي أن يكون عمرها عند بنائه - صلى الله عليه وسلم - بها عشر سنين، مع أن كتب الأحاديث والتاريخ والسير مجمعة على أنها كانت بنت تسع سنين عند البناء. أهم مميزات نكاحه - صلى الله عليه وسلم - بعائشة وبنائه بها: هكذا اتضحت لنا صورة واقعية لحفل زفاف عائشة (ض)، وكيفية أداء صداقها وبنائه - صلى الله عليه وسلم - بها، كيف تم ذلك كله في غاية من السذاجة والتواضع دون أي تكلف او تنعم ولا إسراف ولا تبذير. {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]. ومن أهم المميزات التي تميز بها زواجها أنه قضى على كثير من الطقوس والتقاليد غير الإسلامية والعادات غير الشرعية، التي قد رسخت جذورها في المجتمع العربي، كما أنه استأصل تلك الجذور وأبدل بها خير طريقة وأحسن منهاج يتمتع بالسهولة والسماحة والسير. 1 - إن العرب ما كانوا يستبيحون الزواج مع ابنة الصديق الأخ، ويظنون أن الصحبة والمؤاخاة تبلغ مبلغ القرابة التي تمنع المصاهرة، وتلك خولة بنت حكيم لما أخبرت أبا بكر (ض) عن رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في زواجه من ابنته سألها ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 438/ 6 برقم 27511 وفيه أسماء بنت عميس، و6/ 458 برقم 27632 و6/ 459 برقم 27639، وابن ماجه في سننه باب عرض الطعام برقم 3298، وأبو بكر القرشي في مكارم الأخلاق 1/ 54 برقم 149، ط: مكتبة القرآن القاهرة. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 142/ 1 باب في ذم الكذب، و4/ 50 والمنذري في الترغيب والترهيب 369/ 3 برقم 4465. (¬2) عمدة القاري 1/ 45.

أبو بكر مستغربا: وهل تصلح له؟ لأنها بنت أخيه، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه النظرية، وقال: ((هي حلال لي، وأنت أخ في الإسلام)). 2 - إن العرب ما كانوا يتزوجون في شهر شوال، ويكرهون أن يدخلوا بالنساء في شوال، لاعتقادهم أن طاعونا وقع في شوال في الزمن الأول، فقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع هذا الوهم والتوهم عند الناس في كراهية الدخول بالنساء في شوال (¬1). ولذلك كانت عائشة (ض) تحب أن تدخل النساء من أهلها وأحبتها في شوال، وتقول: ((تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت أحظى عنده مني)) وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساؤها في شوال)) (¬2). 3 - ومن العادات الشائعة في العرب إشعال النار أمام العروس، وأن الزوج لا يدخل على امرأته لأول مرة إلا في المحمل أو المحفة، وقد صرح البخاري والقسطلاني بأنه قد تم القضاء على هذه العادة كذلك. ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 61 - 60 ط: دار صادر بيروت. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه باب استحباب التزوج والتزويج في شوال، برقم 1423، والترمذي في سننه باب ما جاء في الأوقات التي يستحب فيها النكاح برقم 1093، والدارمي في سننه باب بناء الرجل بأهله في شوال برقم 2211، والبيهقي في السنن الكبرى باب التزويج والبناء بالمرأة في شوال برقم 14478، وابن ماجه في سننه باب متى يستحب البناء بالنساء برقم 1990.

الفصل الثاني عائشة في مدرسة النبوة

الفصل الثاني عائشة في مدرسة النبوة الدراسة وطلب العلم: كانت البيئة العربية خالية من التعلم والدراسة، ولم يكن هناك أي رواج لطلب العلم في صنف الرجال، فما بالك بالنساء؟ ولما جاء الإسلام كان في قريش بضعة عشر شخصا يعرفون القراءة والكتابة، من بينهم امرأة واحدة، وهي الشفاء بنت عبد الله العدوية (¬1). إن تطوير فن القراءة والكتابة وترويجهما وإشاعتهما، وإيلاءهما اهتماما كبيرا مع نشر دعوة الإسلام إنما يعتبر من أهم البركات الدنيوية التي أفاض بها الإسلام على الناس جميعا، وهو الجميل العظيم والمن الكبير الذي أسداه الإسلام إلى البشرية جمعاء. وخير دليل على ذلك ما حدث يوم بدر، حيث أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأسرى الذين لم يجدوا ما يفتدون به أنفسهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة (¬2)، كما أن أصحاب الصفة الذين بلغ عددهم حوالي مئة شخص كانوا يركزون على جانب القراءة والكتابة ويتعلمونها، وكانوا يتعلمون الدين والأحكام الشرعية. أما بالنسبة لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت حفصة وأم سلمة هما اللتان تعرفان ¬

_ (¬1) فتح البلدان للبلاذري 1/ 458 أمر الخط، ط: دار الكتب العلمية بيروث 1403 هـ ت: رضوان محمد رضوان. (¬2) أخرج الحاكم في المستدرك عن ابن عباس (ض) قال: ((كان ناس من قريش يوم بدر ليس لهم فداء، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة)) 2/ 152 برقم 2621، وأورده البيهقي في السنن الكبرى 6/ 124 برقم 11460 و6/ 322 برقم 1262، وأحمد في مسنده 1/ 247 برقم 2216، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 96/ 4 باب الأجر على تعليم القرآن.

من حكم تعدد أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -

القراءة والكتابة، وكانت حفصة قد تعلمت ذلك من الشفاء العدوية (¬1). وهناك بعض الصحابيات (¬2) الأخر اللواتي كن تعلمن القراءة والكتابة. من حكم تعدد أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: وقد اقتضت إرادة الله تعالى، والمصالح الدينية والدعوية أن تتعدد زوجاته - صلى الله عليه وسلم - وتتعدد صلات المصاهرات بينه وبين مختلف القبائل في الجزيرة العربية، ولعل أكبر مصلحة دينية ودعوية في تعدد أزواجه - صلى الله عليه وسلم -، وزواجه من عائشة في السن المبكر هو أن مئات من الرجال قد سنحت لهم الفرصة لنيل شرف صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فاقتبسوا من أنوار فيوضه، وارتووا من منهله العذب الفياض، واستضاؤوا من أنواره، وبلغوا قمة العز والسعادة والشرف. أما النساء فلم يتيسر لهن ذلك، ولم تتوافر لديهن هذه الفرصة، نظرا إلى الفرق في الفطرة والجبلة، وبالتالي فكان حظهن أقل بكثير من حظ الرجال ونصيبهم، إلا الزوجات المطهرات، فقد متعهن الله تعالى بهذه النعمة الكبيرة، وأكرمهن بهذه العادة العظيمة، وكان بإمكانهن أن يشاركن الرجال في هذه السعادة، ثم يقمن ببث هذه السعادة ونشرها وإبلاغها إلى صنف النساء، ويكن سفراءه - صلى الله عليه وسلم - إلى سائر نساء العالم، ويقمن بإعادة سيرته المطهرة، ينشرن تفاصيلها للناس، كأن الوحي لم ينقطع، وكأنهن من أنواره في شمس لا يلم بها أفول. هذا وقد كانت الأزواج المطهرات اللاتي تزوجهن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) روى الإمام أبو داود في كتاب الطب، باب ما جاء في الرقى برقم 3887، عن الشفاء بنت عبد الله قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا عند حفصة، فقال لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9/ 349، وابن أبي شيبة في المصنف باب من رخص في رقية النملة 5/ 43 برقم 23542، والإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار 326/ 4، والإمام أحمد في مسنده 6/ 372 برقم 27140، وإسحاق بن راهويه في مسنده 1/ 78 ت د. عبد الغفور البلوشي ط: مكتبة الإيمان المدينة المنورة. (¬2) قد ذكر الإمام البلاذري من هؤلاء النساء: أم كلثوم بنت عقبة، كريمة بنت المقداد، وغيرهما، انظر: فتوح البلدان للبلاذري، أمر الخط 1/ 458.

وأكرمهن الله تعالى به ثيبات تجاوزن سن الصبا إلا عائشة (ض)، فكانت هي الوحيدة في الاستفادة الخالصة من فيوض النبوة، ولما دخلت في سن طلب العلم والدراسة غشيتها أنوار السعادة، وأخذت بها إلى دار مباركة، ألا وهي دار النبوة والرسالة، ولم يكن كل ذلك إلا لكي تبرز شخصيتها، وتصبح منارة نور وهداية، ومنبع خير وبركة تستقي منها النساء، ويرجعن إليها في كل ما تراجع فيه السنن النبوية من شؤون عامة وخاصة. وكان أبوها أبو بكر الصديق (ض) أعلم قريش بأنسابها والشعر (¬1)، بل كل ما كان ينشده شعراء الإسلام من القصائد القيمة البالغة أعلى قمة من الأدب والبلاغة للرد على شعراء قريش الذين ينالون من الإسلام، لم يكن ليتم ذلك إلا باستشارة أبي بكر (¬2)، فترعرعت عائشة في حضن هذا الوالد العظيم، وكانت بنت أبيها في أكثر من خصلة، ولكنها كانت أشبه ما تكون به في صفة الذكاء المتوقد، والبديهة الواعية، ولم تقصر فيها عن شأوه، بل لا نحسبها قصرت عن شأو واحد من معاصريها من الرجال والنساء على السواء في سرعة الفهم، وقدرة التحصيل، والإحاطة بكل ما يقع في متناول ذهنها، فكانت تقتدي بأبيها في حفظ الأخبار والأنساب، وكانت تواقة إلى معرفة تواريخ الأمم. وغزارة العلم بينة في لغة السيدة عائشة، فقد كان لها أسلوب في اللغة لا يتهيأ بغير محصول كبير من أخبار العربية التي تستقى من أعرق مصادرها، وذلك لأنها كانت قد قبست من ميراث طباع وملكات أبيها الأدبية والشعرية (¬3)، وذوقه الرفيع وجودة القريحة. ¬

_ (¬1) يراجع: صحيح الإمام مسلم باب مناقب حسان (ض) برقم 2490، وسنن البيهفي الكبرى. 238/ 1، والمعجم الكبير للطبراني 38/ 4 برقم 3582. (¬2) حيث قال. لحسان: ائب أبا بكر فإنه أعلم بأنساب القوم منك، فكان يمضي إلى أبي بكر ليقف على أنسابهم، فكان يقول له: كف عن فلانة وفلانة واذكر فلانة، فجعل حسان يهجوهم، فلما سمعت قريش شعر حسان قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة، أو من شعر ابن أبي قحافة (الاستيعاب لابن عبد البر 342/ 1). (¬3) أحال المؤلف (ح) إلى مستدرك الحاكم، وقد ورد في المستدرك عدة أحاديث في هذا المعنى: منها: عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما رأيت أحدا أعلم بالحلال والحرام والعلم =

حزم أبي بكر في تربية أولاده

حزم أبي بكر في تربية أولاده: كان أبو بكر حازما في تربية أولاده، ومن حزمه في التربية أنه كان يغضب على أولاده من أجل أمور عادية وبسيطة (¬1). وعائشة (ض) كانت تخاف أباها من أخطائها حتى بعد الزواج (¬2)، وقد عاتبها أبو بكر (ض) في عدة مواضع (¬3)، وقد حدث ذلك مرة أمام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنقذها - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

_ = والشعر والطب من عائشة أم المؤمنين. ومنها: عن أبي مليكة قال: قلت لعائشة: تقولين الشعر وأنت ابنة الصديق ولا تبالين ... (12/ 4 بأرقام 6733، 6737). (¬1) يشير المؤلف (ح) إلى غضب أبي بكر (ض) على ابنه عبد الرحمن، حيث أوصاه أن يهتم بالضيوف ومطعمهم قبل أن يرجع، والحديث أخرجه البخاري ونصه: إن أبا بكر تضيف رهطا، فقال لعبد الرحمن: دونك أضيافك، فإني منطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأفرغ من قراهم قبل أن أجيء، فانطلق عبد الرحمن، فأتاهم بما عنده فقال: اطعموا، فقالوا: أين رب منزلنا؟ قال: اطعموا، قالوا: ما نحن بآكلين حتى يجيء رب منزلنا، قال: اقبلوا عنا قراكم، فإنه إن جاء ولم تطعموا لنلقين منه، فأبوا، فعرفت أنه يجد علي، فلما جاء تنحيت عنه، فقال: ما صنعتم فأخبروه، فقال: يا عبد الرحمن، فسكت، ثم قال: يا عبد الرحمن، فسكت، فقال: يا غنثر، أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي لما جئت، فخرجت)) .... الحديث. أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأدب برقم 6140، ومسلم في صحيحه كتاب الأشربة رقم 2057، وأبو داود كتاب الأيمان والنذور برقم 3270. (¬2) أشار المؤلف (ح) إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس قال: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - تسع نسوة، فكان إذا قسم بينهن لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلا في تسع فكن يجتمعن في كل ليلة في بيت التي يأتيها، فكان في بيت عائشة، فجاءت زينب، فمد يده إليها. فقالت: هذه زينب، فكف النبي - صلى الله عليه وسلم - يده، فتقاولتا حتى استخبتا، وأقيمت الصلاة فمر أبو بكر على ذلك، فسمع أصواتهما، فقال: أخرج يا رسول الله إلى الصلاة واحث في أفواههن التراب، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت عائشة: الآن يقضي النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته، فيجيء أبو بكر فيفعل بي ويفعل، فلما قضى النبى - صلى الله عليه وسلم - صلاته أتاها أبو بكر فقال لها قولا شديدا وقال: أتصنعين هذا، (صحيح مسلم كتاب الرضاع برقم 1462). (¬3) من تلك المواضع ما رواه البخاري في صحيحه كتاب التيمم رقم 334 وفيه: فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي ... الحديث. (¬4) وذلك ما رواه أبو داود عن النعمان بن بشير (ض) قال: استأذن أبو بكر (ض) على =

هذا وتبدأ الفترة الحقيقية لتعلم عائشة (ض) ونشأتها التربوية بعد بناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها، حيث إنها تعلمت في هذه الفترة القراءة والكتابة، وكانت تقرأ القرآن الكريم بالنظر (¬1)، وفي رواية أنها لم تكن تعرف الكتابة (¬2)، وورد في الأحاديث أن مولاها ذكوان هو الذي كان يكتب لها المصحف (¬3)، وهذا يدل على عدم معرفتها بالكتابة، لكن ورد في بعض الروايات أنها كانت ترد على بعض الرسائل التي ترد إليها (¬4)، ويمكن أن الرواة عبروا بالكتابة والمقصود: أنها أمرت غيرها بالكتابة، كما هو المعتاد في مثل هذه المناسبات. وعلى كل فإن القراءة والكتابة من قبيل التعليم الظاهري، ولا شك أن مكانة التعليم الحقيقي ودرجته أعلى وأرفع منه بكثير، وكمال الإنسانية، وتزكية الأخلاق، والاطلاع على مبادئ الدين، ومعرفة أسرار الشريعة والتعمق في حكمها ومصالحها، وعلم كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كل هذا من التعليم الحقيقي الذي يطلب من الإنسان أن يبرع فيه ويبذل قصارى جهوده في نيله وابتغائه. ¬

_ = النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمع صوت عائشة عاليا، فلما دخل تناولها ليلطمها وقال: لا أراك ترفعين صوتك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يحجزه، وخرج أبو بكر مغضبا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج أبو بكر: ((كيف رأيتني قد أنقذتك من الرجل ...)) الحديث، أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب برقم 4999، والنسائي في السنن الكبرى 5/ 139 برقم 8495، و5/ 365 برقم 9155، ط: دار الكتب العلمية بيروت 1411 هـ. (¬1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن رقم 4993. (¬2) ذكر البلاذري عن عائشة أنها كانت تقرأ المصحف ولا تكتب (فتوح البلدان 1/ 458). (¬3) أخرج مسلم في صحيحه عن أبي يونس مولى عائشة أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فلما بلغب آذنتها، فأملت علي {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى - وصلاة العصر - وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم 629، وأخرجه الترمذي كتاب تفسير القرآن برقم 2982، والنسائي في سننه كتاب الصلاة رقم 472، وأبو داود في سننه كتاب الصلاة رقم 410. (¬4) كما كتبت إلى معاوية كتابا تذكر فيه الحديث الذي ورد في عثمان بن عفان (ض): ((يا عثمان إن الله عز وجل عسى أن يلبسك قميصا ...)) الحديث. أخرجه أحمد في مسنده 86/ 6 برقم 24610 وأصل الحديث أخرجه الترمذي في سننه كتاب المناقب برقم 3705، وابن ماجه في سننه المقدمة برقم 112.

مراجعة عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يشكل عليها

وعائشة (ض) قد نالت من هذا العلم الحقيقي حظا وافرا ونصيبا كاملا، ولم يقتصر مجال تعلمها ونطاق دراستها على حصول العلوم الدينية فحسب، بل كانت بارعة حتى في علوم التاريخ والطب (¬1) والأدب، وقد ورثته من (¬2) أبيها. أما الطب فقد تعلمته من وفود العرب التي كانت تفد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتنعت له الأنعات، ولما سألها عروة فقال: أعجب من علمك بالطب كيف هو؟ ومن أين هو؟ فقالت: أي عرية إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسقم عند آخر عمره أو في آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات، وكنت أعالجها له فمن ثم)) (¬3). مراجعة عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يشكل عليها: هذا ولم يكن هناك ساعات محددة أو حصص خاصة لتحصيل العلم، لأن معلم الشريعة - صلى الله عليه وسلم - كان بنفسه موجودا في البيت، وكانت (ض) تنال شرف صحبته ليل نهار، [.......] * تقام في المسجد النبوي يوميا، وحجرتها (ض) كانت ملاصقة للمسجد، ولذا فإنه كانت تتوافر لها فرص الاستفادة من تلك الدروس التي يلقيها الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أمام الجماهير خارج البيت، وحين يشكل عليها أمر من الأمور ولا تفهمه أو لا تسمعه جيدا فإنها كانت تستفسر النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه عندما يأتي البيت (¬4)، وأحيانا تقترب من المسجد حتى تسمع من قريب، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد خصص يوما في الأسبوع لتعليم النساء ووعظهن (¬5)، فكانت (ض) تعي من سنن ¬

_ (¬1) أخرج الحاكم في المستدرك عن عروة قوله: ((ما رأيت أحدا أعلم بالحلال والحرام والعلم والشعر والطب من عائشة أم المؤمنين))، (12/ 4 برقم 6733). (¬2) يدل عليه قول عروة فيما أخرجه الإمام أحمد: كان عروة يقول لعائشة (ض): ((يا أمتاه لا أعجب من فهمك؛ أقول زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت أبي بكر. ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس؛ أقول ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس أو من أعلم الناس ..)) 6/ 67 برقم 425/ 24. (¬3) نفس المصدر. (¬4) انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل 75/ 6 برقم 24511 وكذلك 24507 وكذلك 24514. (¬5) أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قالت النساء للنبي - صلى الله عليه وسلم - =

النبي - صلى الله عليه وسلم - في مختلف القضايا وشتى العلوم والمعارف، في اليوم والليلة. وكان من عادتها أنها كانت طلعة، كثيرة السؤال، لا يهدأ لها بال حتى ترضي طمأنينتها، وتجلو لنفسها كل خفي حتى تحيط به، فكانت ذات مرة قد سمعت قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((من حوسب عذب)) فقالت له: إن الله تعالى يقول: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] فقال لها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب هلك)) (¬1). وذات مرة تلت قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48]- وفي رواية - قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وسألت: أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((على الصراط)) (¬2). ولما سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يحشر الناس يوم القيامة عراة))، ¬

_ = غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما من نفسك، فوعدهن يوما لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن: ((ما منكن امرأة تقدم ...)) (باب هل يجعل للنساء يوم على حدة؟ برقم102). (¬1) أشار به المؤلف إلى الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه كتاب العلم برقم 103، ومسلم في صحيحه كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها برقم 2876، والترمذي في سننه كتاب صفة القيامة والرقائق برقم 2426 وأبو داود كتاب الجنائز برقم 3093. (¬2) الرواية التي فيها قول الله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ...} أخرجها الإمام أحمد في مسنده عن مسروق قال: قالت عائشة (ض): أنا أول الناس سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ ....} قالت: فقلت: أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: على الصراط. أحمد في المسند 6/ 35 (24115) وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب صفة القيامة والجنة والنار برقم 2791، والترمذي في سننه كتاب تفسير القرآن برقم 3121، وابن ماجه في سننه كتاب الزهد برقم 4279، والدارمي في سننه كتاب الرقاق برقم 2809. أما الرواية التي فيها قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ ...} فقد أخرجها الترمذي في سننه كتاب تفسير القرآن برقم 3241 وفيها: قالت عائشة: فقلت: فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: على جسر جهنم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وأخرجها الإمام أحمد في مسنده 6/ 116 برقم 24900، والنسائي في السنن الكبرى 447/ 6 برقم 11453.

سألت: هل ينظر الرجال والنساء بعضهم إلى بعض؟ فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((الأمر أشد من أن يهمهم ذاك)) (¬1) وفي رواية مسلم: ((يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض)). وسألت مرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ فقال: ((يا عائشة أما عند ثلاث فلا، أما عند الميزان حتى يثقل أويخف، وأما عند تطاير الكتب فإما أن يعطى بيمينه أو يعطى بشماله فلا، وحين يخرج عنق من النار فينطوي عليهم، ويتغيظ عليهم، ويقول ذلك العنق: وكلت بثلاثة ....)) (¬2). وسألته يوما عن الكفار والمشركين إذا عملوا عملا صالحا في الدنيا فهل يثابون عليه أم لا؟ وذكرت عبد الله بن جدعان من مشركي مكة، الذي كان رجلا صالحا رفيقا بالناس، وقد أنشأ مجلسا للتصالح، (حلف الفضول) جمع فيه كل رؤساء قريش لإيقاف الحرب الناشبة والمستمرة فيما بين قريش وكنانة، قبل مجيء الإسلام، حيث كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحد أعضاء هذا المجلس، فسألت الرسول يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المساكين، ويحسن الجوار، ويقري الضيف، فهل ذاك نافعه؟ قال: ((لا يا عائشة! إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) (¬3). وكما هو معلوم فإن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وركيزة أساسية من ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه كتاب الرقاق برقم 6527، ومسلم في صحيحه كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها برقم 2859، والنسائي كتاب الجنائز برقم 2084. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 110 برقم 24837، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 358 باب ما جاء في الميزان والصراط والورود، وقال: عند أبي داود طرف منه، ورواه أحمد وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح. قلت: أخرجه أبو داود في سننه كتاب السنة برقم 4755. (¬3) الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الإيمان برقم 214، وابن حبان في صحيحه 29/ 2 برقم 330 والحاكم في المستدرك 439/ 2 برقم 3524، وأحمد في مسنده 93/ 6 رقم 24665. قلت: وسبب إقامة حلف الفضول هو حبس العاص بن وائل السهمي حق رجل من زبيد، انظر السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي ص (112) ط دار القلم بدمشق (الناشر).

ركائز ديننا الإسلامي الحنيف وأهم فرائضه، فكانت عائشة ترى أن الجهاد فرض على النساء مثل الرجال، لعدم التفريق بين الصنفين في الفرائض الأخرى، فاستفسرت قائلة: هل عليهن جهاد؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((جهادهن الحج)) (¬1). كما سألت الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الجارية ينكحها أهلها هل تستأمر أم لا؟ فقال لها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم تستأمر))، قالت عائشة: فقلت له: فإنها تستحيي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((فذلك إذنها إذا هي سكتت)) (¬2). إن الإسلام قد أولى حقوق الجيران اهتماما بالغا وعناية كبيرة، والنساء أحظى الناس في أداء هذه الحقوق، وتتاح لهن الفرص لأداء هذه الحقوق أكثر من الرجال، فأشكلت على عائشة قضية الترجيح بين الجارين فسألته - صلى الله عليه وسلم - قائلة: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: ((إلى أقربهما منك بابا)) (¬3). وذات مرة جاءها عمها من الرضاعة يستأذن عليها، فأبت أن تأذن له، فجاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك، فقال: إنه عمك فأذني له، قالت: فقلت: يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل، قالت: فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ((إنه عمك فليلج عليك)) (¬4). ¬

_ (¬1) أشار به المؤلف (ح) إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة قالت: يا رسول الله، ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج، حج مبرور، فقالت: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (البخاري باب حج النساء برقم 1861، وأخرجه النسائي في كتاب الحج برقم 2628 وابن ماجه في سننه كتاب المناسك برقم 2901). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح برقم 5137، ومسلم في صحيحه كتاب النكاح برقم 1420 وكذلك البخاري في صحيحه كتاب الإكراه برقم 6946، والنسائي في كتاب النكاح برقم 3266. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الشفعة برقم 2259، وكتاب الهبة برقم 2595 وكتاب الأدب برقم 6020، وأبو داود في سننه كتاب الأدب برقم 5155، والإمام أحمد في مسنده 6/ 175 برقم 25462، و239/ 6 برقم 26068، والحاكم في المستدرك 4/ 185 برقم 7309. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن برقم 4796 وكتاب النكاح برقم 5239 ومسلم في صحيحه كتاب الرضاع برقم 1445 والترمذي في سننه كتاب الرضاع برقم 1148.

وأشكل عليها مفهوم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: يا رسول الله هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله؟ قال: ((لا، يا بنت أبي بكر يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل (¬1). ولما سمعت قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) قالت: فقلت: يا رسول الله كلنا نكره الموت، قال: ((ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذ بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه)) (¬2). وهكذا لدينا عدد كبير من أمثال هذه الاستفسارات والإشكالات التي نجدها في ذخائر السنن النبوية وخزائن الأحاديث الشريفة، التي عرضتها عائشة (ض) على الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - للكشف عن حقائقها، وإزاحة الستار عن واقعيتها، وإنها في واقع الأمر عدد من الدروس التي تلقتها عائشة (ض) من لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تعليمها اليومي حتى إنها (ض) لم يفتها أن توجه السؤال إلى الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في بعض المناسبات التي يخاف فيها أن يجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليها، لكن من رحمته - صلى الله عليه وسلم - بها وحبه لها وشفقته عليها أنه لم يكن يتضايق من مناقشاتها وتوجيهها الأسئلة إليه، بل كان يسر بذلك. أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة أن لا يدخل على نسائه شهرا، وأقام في مشربة له تسعة وعشرين يوما، وهجرهن خلال هذه الفترة، فشق ذلك عليهن كثيرا، ولما مضت تسع وعشرون دخل على عائشة فبدأ بها، ومما لا شك فيه أنها كانت ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام الترمذي في سننه كتاب تفسير القرآن برقم 3175، وابن ماجه في سننه كتاب الزهد برقم 4198، والإمام أحمد في مسنده 6/ 159 رقم 25302. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق رقم 6507، ومسلم في صحيحه كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار برقم 157 وبرقم 2685، والترمذي في سننه كتاب الجنائز رقم 1067.

مناسبة مباركة تبعث على الفرح والسرور بالنسبة لعائشة (ض)، وكان المفروض أن تسر بها عائشة وتنسى كل ما مضى، ولا تتفوه بكلمة تكاد تغضب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنها آثرت فهم الشريعة وحل عقدتها على هذه الفرحة، فماذا سمع منها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول ما سمع؟ قالت: إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا، وإنا أصبحنا لتسع وعشرين ليلة أعدها عدا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الشهر تسع وعشرون، وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين ...)) (¬1). استأذن رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فتعجبت عائشة من ذلك، فلما نهض قالت: يا رسول الله! قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - ((أي عائشة! إن شر الناس من تركه الناس، أو ودعه الناس اتقاء فحشه)) (¬2). كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل هدايا الأعراب وأصحاب البادية، لما كان يعلم أنهم لا يتحرون في أطعمتهم وأشربتهم، ولا يحتاطون فيها، كما أنهم ليس لديهم علم كاف بشرائع الإسلام ومبادئ الدين، وذات يوم جاءت أم سنبلة، وأهدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبنا، فلم تجده، فقالت لها عائشة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى أن يؤكل طعام الأعراب، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فقال: ما معك يا أم سنبلة؟ قالت: لبنا أهديت لك يا رسول لله، قال: اسكبي أم سنبلة، فسكبت، فقال: ناولي أبا بكر، ففعلت، فقال: اسكبي أم سنبلة، فسكبت، فناولت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشرب، قالت عائشة: يا رسول الله كنت حدثت أنك قد نهيت عن طعام الأعراب؟ فقال: ((يا عائشة! إنهم ليسوا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المظالم والغصب برقم 2468 في حديث طويل، وكتاب النكاح برقم 5191، ومسلم في صحيحه كتاب الطلاق برقم 1475، والترمذي في سننه كتاب التفسير برقم 3318. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأدب باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب برقم 6054 ومسلم في صحيحه كتاب البر والصلة والآداب برقم 2591، والترمذي في سننه كتاب البر والصلة برقم 1996، وأبو داود كتاب الأدب برقم 4791.

بالأعراب، هم أهل باديتنا ونحن أهل حاضرتهم، وإذا دعوا أجابوا، فليسوا الأعراب)) (¬1) قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك أنهم يعرفون أحكام الشريعة، وإذا دعوناهم إلى نصرة الدين فإنهم يجيبون ولا يترددون، إذن هم ليسوا من الأعراب. ولما سمعت قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ((سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحدا الجنة عمله)) فاستغربت من قوله: ((فإنه لا يدخل أحدا الجنة عمله)) لظنها أن المعصومين يستثنون من هذه القاعدة العامة، فسألت: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة)) (¬2). ورأت مرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن ينام قبل أن يوتر، فقالت: يا رسول لله أتنام قبل أن توتر؟ قال: ((يا عائشة إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي)) (¬3). قد تبدو هذه الأسئلة من قبيل سوء الأدب لأولئك الذين لا يدركون حقيقة الأمور، ولا يتعمقون في التفكير، لكن الواقع الذي لا ينازع فيه اثنان أنه لو لم تكن هذه الجرأة النسائية لتوجيه الأسئلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والاستفسارات عن الإشكالات، لما أمكن اليوم لأبناء الأمة المحمدية أن يطلعوا على حقيقة النبوة، وبغض النظر عن هذه الأسئلة والمناقشات العلمية والمباحث الدراسية فهناك جانب آخر مهم ألا وهو مراقبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل أعمال وحركات عائشة (ض) وإيلاؤه إياها اهتماما بالغا، فكان - صلى الله عليه وسلم - ينبهها على زلاتها، ويربيها ويعلمها بعناية فائقة، ولم يفتأ رويدا رويدا يشركها في العبء الذي ينبغي أن تنهض به زوجة النبي وأم المؤمنين وسفيرته الأولى إلى عالم النساء. ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك 142/ 4 رقم 7168 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 149/ 4 باب ثواب الهدية والثناء والمكافأة، وأحمد في المسند 133/ 6 برقم 25054، وابن سعد في الطبقات الكبرى 294/ 8، وأورده ابن عبد البر في الاستيعاب 1942/ 4،وابن حجر في الإصابة 8/ 233. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق برقم 6467، وسلم في صحيحه كتاب صفة القيامة والجنة والنار برقم 2818. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب صلاة التراويح برقم 2013، ومسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها برقم 738.

دخل رهط من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليك - بدل السلام عليك - فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((وعليكم))، وكانت عائشة (ض) تسمع ذلك فقالت: وعليكم السام واللعنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مهلا يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله)) (¬1). سرق لعائشة (ض) شيء، فجعلت تدعو على من سرقه - كما هي عادة النساء - فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لا تسبخي عنه)) (¬2). ذات مرة كانت عائشة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فلعنت بعيرا لها - كعادة النساء في هذه المناسبات - فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرد، وقال: ((لا يصحبني شيء ملعون)) (¬3). فكان ذلك تعليما لها عدم توجبه اللعن إلى البهائم. من الواقع الملموس أن الناس عامة وبخاصة النساء لا يبالون بمحقرات الذنوب، ويتساهلون في هذا الجانب تساهلا كبيرا، وقد أحس بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدرك هذه الخطورة، فقال مخاطبا عائشة (ض): ((يا عائشة! إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله عز وجل طالبا)) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه كتاب الأدب بارقام 6024 - 6256 - 6395 - 6410، ومسلم في صحيحه كتاب السلام برقم 2165، والترمذي في سننه كتاب الاستائذان والآداب برقم 2701. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 45 برقم 24229 وفي رواية أخرى له ((سرق لي ثوب)) 6/ 136 برقم 25095، وفي رواية أخرى ((سرقت مخنقتي)) 6/ 251 برقم 25840، كما أخرجه الإمام أبو داود في سننه باب فيمن دعا على من ظلم برقم 4909، وفي رواية أخرى له ((سرقت ملحفة لها)) برقم 1497 كتاب الصلاة. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى باب لعن السارق برقم 7359، 327/ 4 والطبراني في الأوسط بلفظ ((سرق لها متاع)) 4/ 184 برقم 3925. وقوله: (لا تسبخي) لا تخففي. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 72 برقم 24478، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 77 باب ما نهي عن سبه من الدواب وما يفعل بالدابة إذا أجيب في لعنها. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 70 برقم 24460، و6/ 151 برقم 25218، والدارمي في سننه باب في المحقرات برقم 2726، وذكره أبو المحاسن يوسف الحنفي في معتصر المختصر 339/ 2 باب في محقرات الذنوب، ط: عالم الكتب بيروت، والطبراني في الأوسط 3/ 31 برقم 2377 و4/ 125 برقم 3776، وإسحاق بن راهويه في مسنده 2/ 538 برقم 1120.

وذات مرة كانت تحكي للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن امرأة فوصفتها بالقصيرة فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اغتبتها)) (¬1). كانت أم المؤمنين صفية (ض) قصيرة القامة، فذكرتها عائشة (ض) ذات يوم وقالت بيدها هكذا، كأنها تعني قصيرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لعكرت صفو الماء كله)) فقالت: يا رسول الله إني حكيت لك رجلا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا وكذا)) (¬2). جاء مسكين إلى عائشة فتصدقت عليه بشيء، فأمرت بريرة أن تأتيها فتنظر إليه، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحصي فيحصى عليك)) (¬3). وقال لها في مناسبة أخرى: ((يا عائشة استتري من النار ولو شق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان)) (¬4). سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ((اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة)) فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: ((إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا، يا عائشة! لا تردي المسكين ولو بشق تمرة، يا عائشة! أحبي المساكين وقربيهم، فإن الله يقربك يوم القيامة)) (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 136/ 6 برقم 25093، و206/ 6 برقم 25749، والبيهقي في شعب الإيمان 5/ 303 برقم 6730، وهناد في الزهد 2/ 568 برقم 1190 ط: دار الخلفاء للكتاب الإسلامي الكويت 1406. (¬2) أخرجه الإمام الترمذي في سننه كتاب صفة القيامة والرقائق والورع برقم 2502 والإمام أبو داود في كتاب الأدب برقم 4875، والإمام أحمد في مسنده 189/ 6 برقم 25601. (¬3) أخرجه الإمام ابن حبان في صحيحه ذكر الزجر عن إحصاء المرء صدقته إذا تصدق بها 8/ 151 برقم 3365، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد باب اللهم أعط منفقا خلفا 122/ 3 والإمام النسائي في السنن الكبرى باب الإحصاء في الصدقة 38/ 2 برقم 2330، والإمام أحمد في مسنده 70/ 6 برقم 24463 و108/ 6 برقم 24810. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 79/ 6 برقم 24545، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب 6/ 2 برقم 1278، وأصل الحديث موجود في الكتب الستة وغيرها بلفظ ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)). (¬5) أخرجه الإمام الترمذي في سننه كتاب الزهد برقم 2352، والبيهقي في شعب الإيمان =

الشؤون المنزلية

فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمها الأحكام الدينية والمسائل الشرعية المنوطة بمختلف المجالات من الصلاة والذكر والدعاء، والحياة الاجتماعية، وهي تتعلمها بكل شوق ورغبة، وتستمع إليها بآذان صاغية وقلوب واعية، وتعمل بها بكل مواظبة ومداومة (¬1). الشؤون المنزلية: والبيت الذي بنى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعائشة (ض) لم يكن قصرا عاليا رفيعا مفخما، وإنما كان عبارة عن حجر وغرف صغيرة في حي بني النجار، مبنية حول المسجد النبوي الشريف، بناها النبي - صلى الله عليه وسلم - لتكون مساكن له ولأهله، وكانت مساكن قصيرة البناء قريبة الفناء، ومن بينها كانت حجرة عائشة (ض) بناها النبي - صلى الله عليه وسلم - شرقي المسجد (¬2)، وكان بابه من هذه الحجرة واقعا داخل المسجد النبوي على جهة الغرب، وكأن المسجد النبوي صار فناء لها. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصغي إلى عائشة رأسه وهو معتكف في المسجد، فترجله (¬3)، وأحيانا يطلب شيئا فيمد يده من المسجد إليها فتناوله إياه، وكان ¬

_ = 167/ 2 برقم 1453، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب 66/ 4 برقم 4825 ط: دار الكتب العلمية بيروت 1417 هـ ت إبراهيم شمس الدين. (¬1) من أمثلة شدة مواظبتها على العمل بتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رواه أحمد في مسنده عن عائشة قالت: صليت صلاة كنت أصليها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أن أبي نشر فنهاني عنها ما تركتها 138/ 6 برقم 25122، وهناك أحاديث تدل على تعلمها أمور دينها من النبي - صلى الله عليه وسلم -. يراجع: مسند الإمام أحمد بن حنبل 138/ 6 و147/ 6 و6/ 151. (¬2) يراجع للتفصيل: خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى للإمام السمهودي الباب الرابع فصل 4. (¬3) أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة (ض) قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصغي إلي رأسه وهو مجاور في المسجد، فأرلجله وأنا حائض. وفي لفظ للبخاري: ((ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله)) وفي لفظ لمسلم ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرلجله)). انظر صحيح البخاري كتاب الاعتكاف برقم 1924/ 1925، صحيح مسلمم كتاب الحيض برقم 683/ 682، سنن أبي داود كتاب الصيام برقم 2467، 2469، سنن الترمذي كتاب الصوم برقم 804.

عرض الحجرة ست أو سبع أذرع، جدارها من الطين، وسقفها من جريد النخل، قصير حيث يناله كل من يقف، مغشاة من خارج بمسوح الشعر، لكي تكون وقاية من المطر، ولم يكن للباب مصراعان وإنما مصراع واحد من عرعر أو ساج (¬1)، إلا أنه لم يغلق على أحد ليوم واحد طوال الحياة. وكان في جنب الحجرة مشربة أقام فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - شهرا كاملا زمن الإيلاء (¬2)، وكان جهاز بيت النبى - صلى الله عليه وسلم - وأثاث حجرته محتويا على سرير وحصير، ووسادة من أدم حشوها ليف، وأهب معلقة، وقربة، وإداوة للماء والتمر، وقصعة لشرب الماء (¬3). ومما لا شك فيه أن مسكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان منبعا للأنوار الربانية، ومنهلا للفيوض النبوية إلا أنه كان خاليا من المصابيح الدنيوية، فلم يكن هناك سراج ولا مصباح يضيئ البيت وينوره بالنور والضياء الظاهري (¬4)، تقول عائشة (ض): ((كان يأتي علينا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعون ليلة ما يوقذ في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصباح ولا غيره)) (¬5). هذا ولم يكن في البيت أحد غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعائشة (ض)، وبعد فترة جاءت جارية (بريرة (ض)) اشترتها عائشة (ض) واشترطت أن يكون ولاؤها ¬

_ (¬1) يراجع: الأدب المفرد للبخاري باب البناء 272/ 1 برقم 776، والطبقات الكبرى لابن سعد، وخلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى للسمهودي الباب الرابع الفصل الرابع، ووفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى 1/ 458. (¬2) سبق تخريج حديث الإيلاء، انظر: صحيح البخاري برقم 2468. (¬3) انظر: صحيح البخاري بأرقام 4913، 2468، 5388، 905. (¬4) تقول عائشة (ض): كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة برقم 513، ومسلم في صحيحه كتاب الصلاة برقم 512، والنسائي في سننه كتاب الطهارة رقم 168، ومالك في الموطأ كتاب النداء للصلاة برقم 258. (¬5) أخرجه الطيالسي في مسنده ص 207 رقم 1472، كما أخرجه إسحاق بن راهويه 2/ 335 رقم 891.

لها (¬1). وفي بداية الأمر حينما لم تكن من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا سودة وعائشة، كان - صلى الله عليه وسلم - يبيت عند عائشة ليلة بعد ليلة، ولما تشرفت الأزواج المطهرات الأخريات بهذا الشرف، وأكرمهن الله تعالى به، وكبرت سودة (ض) جعلت يومها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم لعائشة يومين من تسعة أيام، يومها ويوم سودة (¬2). ولم يكن هناك اهتمام كبير بأمور البيت، ولم تعد لديهم حاجة إلى ذلك، وقلما يوقد في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار، تحكي لنا عائشة (ض) حياتها اليومية ومعيشتها فتقول: ((ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - من خبز بر مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق بالله عز وجل)) (¬3)، وكانت تقول: ((ليأتي على آل محمد - صلى الله عليه وسلم - الشهر ما يختبزون خبزا ولا يطبخون قدرا))، وفي رواية: ((لقد كان يأتي على آل محمد - صلى الله عليه وسلم - الشهر، ما يرى في بيت من بيوته الدخان)) (¬4)، ((كانوا يعيشون على التمر والماء)) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: صحيح البخاري كتاب الصلاة برقم 456، كتاب البيع بأرقام 2155، 2156، 2168، كتاب الهبة رقم 2578، كتاب العتق برقم 2563، كتاب الشهادات برقم 2637، 2661، كتاب الشروط رقم 2717، وصحيح الإمام مسلم كتاب العتق برقم 1504. (¬2) تنظر الأحاديث الواردة في هذا السياق في: صحيح البخاري كتاب الهبة برقم 2594 و2688، كتاب الشهادات، كتاب النكاح برقم 5212، وصحيح مسلم كتاب الرضاع برقم 1663، وسنن أبي داود كتاب النكاح برقم 2138. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأطعمة رقم 5423، ومسلم في صحيحه كتاب الزهد والرقائق برقم 2970، وسنن النسائي كتاب الضحايا رقم 4432، وابن ماجه في سننه كتاب الأطعمة برقم 3344. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 217/ 6 برقم 25867 و237/ 6 برقم 26046، والطيالسي في مسنده ص 207، وقد ورد في صحيح البخاري كلمة ((الشهر)) كتاب الرقاق رقم 6458. (¬5) تقول عائشة (ض): كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا، إنما هو التمر والماء ... الحديث. كتاب الرقاق من صحيح البخاري برقم 6458، وفي رواية: قالت ردا على سؤال عروة ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء. (كتاب الرقاق برقم =

فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - العطية لأزواجه بعد فتح خيبر

فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - العطية لأزواجه بعد فتح خيبر: هذا وقد كان فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - لنسائه بعد فتح خيبر عطية لتغطية المصاريف السنوية، كان مقدارها ثمانين وسقا من تمر وعشرين وسقا من شعير (¬1)، إلا أن هذه العطية سرعان ما تنتهي لكثرة بذلهن وإنفاقهن، وما منحن من الله تعالى من طبيعة فياضة، وما جبلن عليه من السخاء والكرم والإحسان إلى مستحقيه، فلا تكفيهن هذه العطية للسنة الكاملة. وكان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يبعثون بالهدايا والتحف إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا يتحرون بهداياهم - خاصة - يوم عائشة (ض) لما كانوا يعرفون من حبه - صلى الله عليه وسلم - إياها (¬2). وأحيانا يدخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يأتي من الخارج فيسألها: ((هل أصبح عندكم شيء تطعمونيه))؟ فتقول: ((لا، ما أصبح عندنا شيء))، فيقول: ((إني صائم)) (¬3)، وفي بعض الأحيان: ((كان لهم جيران من الأنصار وكانت لهم ربائب فكانوا يبعثون إليه من ألبانها)) (¬4). ¬

_ = 6459، وانظر مسند الإمام أحمد 237/ 6 برقم 26046. (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه 11/ 609 برقم 5199، والإمام مسلم في صحيحه باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع برقم 1551، وأورده الهيثمي في موارد الظمآن 413/ 1 رقم 1697، والبيهقي في السنن الكبرى 115/ 6 رقم 11411 باب المعاملة على زرع البياض ... إلخ، وأبو داود في سننه باب ما جاء في حكم أرض خيبر برقم 3006، والطبراني في المعجم الصغير 1/ 56 برقم 57. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب رقم 3775، كتاب الهبة رقم 2574، 2580، 2581، ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2441، والترمذي في سننه كتاب المناقب رقم 3879، والنسائي في سننه كتاب عشرة النساء برقم 3951. (¬3) أخرجه ابن حبان في صحيحه 393/ 8 برقم 3630، والنسائي في سننه برقم 2326، وأبو يعلى في مسنده 8/ 72 رقم 4596، وأحمد في مسنده 49/ 6 رقم 24266. (¬4) تقول عائشة (ض) فيما رواه أصحاب السنن والمسانيد: ((كان لنا جيران من الأنصار جزاهم الله خيرا كان لهم لبن يهدون منه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) أخرجه ابن حبان في =

عمر (ض) زاد في أعطيات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في عهده

وبالرغم من هذه المكانة العالية والدرجة السامية التي كانت تحتلها عائشة (ض) في كل مجال من العلم والثقافة والفهم والإدراك وقدرة التحصيل والإحاطة والبديهة الواعية والذكاء المتوقد، رغم ذلك كله فإنها لم تكن مبرأة معصومة عن الأخطاء التي تعتري البشر، لا سيما في صغر السن، فكانت جارية حديثة السن، تنام عن العجين، فتأتي الداجن فتأكله (¬1). وذات مرة طحنت شيئا من شعير فجعلت له قرصا، فأقبلت شاة لجارها داجنة، فدخلت ثم عمدت إلى القرص، فأخذته ثم أدبرت به (¬2). كما أنها لم تكن معروفة بجودة الطهي، ولا تحسن الطبخ مثل غيرها من الأزواج المطهرات (¬3). وكان بلال (ض) هو الذي يتولى مسؤولية الأمور المنزلية ونفقات أهل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو الذي كان يوزع الغلة عليهن، ويستقرض إذا دعت الحاجة إلى الاستقراض لتغطية المصاريف (¬4). عمر (ض) زاد في أعطيات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في عهده: ولما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - اتسعت رقعة الدولة المسلمة، وكانت الفتوحات، ¬

_ = صحيحه 278/ 14 برقم 6372، والإمام أحمد في مسنده 244/ 6 برقم 26119 و6/ 237 برقم 26046. (¬1) يراجع حديث الإفك في صحيح البخاري وصحيح مسلم. (¬2) أخرجه الإمام البخاري في الأدب المفرد 1/ 55 برقم 120. (¬3) أخرج الإمام أبو داود في سننه عن عائشة قالت: ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية، صنعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما فبعثت به ... الحديث كتاب البيوع برقم 3568، والنسائي في سننه كتاب عشرة النساء برقم 3957. (¬4) أخرج أبو داود في سننه عن عبد الله الهوزني قال: لقيت بلالا مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحلب، فقلت: يا بلال حدثني كيف كانت نفقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: ما كان له شيء، كنت أنا الذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله، إلى أن توفي، وكان إذا أتاه الإنسان مسلما فرآه عاريا يأمرني فأنطلق فأستقرض فأشتري له البردة فأكسوه وأطعمه ... الحديث (أبو داود كتاب الخراج والإمارة والفيء برقم 3055، وأخرجه ابن حبان في صحيحه 262/ 14 برقم 6351 وأورده الهيثمي في موارد الظمآن 629/ 1 برقم 2537، والبيهقي في السنن الكبرى 81/ 6 برقم 11217 والطبراني في المعجم الأوسط 147/ 1 برقم 466).

وبدأت ترد الأموال الهائلة من مشارق الأرض ومغاربها إلى بيت مال المسلمين، وتدفقت الخيرات والثروات على خزانة الدولة بالألوف التي يحار فيها الإحصاء، إلا أن بيت عائشة (ض) لم يكن فيه طعام يوم قبض الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وما زالت أمهات المؤمنين يصرف لهن ما فرض لهن من حصاد خيبر إلى زمن أبي بكر الصديق (ض)، ثم فرض عمر (ض) في عهده لكل واحدة منهن عشرة آلاف، وزاد عائشة (ض) ألفين (¬2)، وفي رواية: خير عمر (ض) أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع لهن من الماء والأرض أو يمضي لهن، فمنهن من اختار الأرض، ومنهن من اختار الوسق، واختارت عائشة (ض) الأرض (¬3)، إلا أن معظم ما كانت تستلمه أم المؤمنين من العطاء كان وقفا لصالح الفقراء والمساكين. وجرى الأمر على هذا المنوال حتى زمن الخليفتين عثمان وعلي (ض)، وكذلك في زمن معاوية (ض). فلما تولى عبد الله بن الزبير - ابن أخت عائشة (ض) - خلافة الحجاز بعد معاوية (ض)، كان هو المسؤول عن مصاريف خالته، فكانت لا تمسك شيئا مما جاءها من رزق الله إلا تصدقت به (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة (ض) قالت: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما في بيتي من شىء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لى، فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني. (كتاب فرض الخمس برقم 3097، كتاب الرقاق برقم 6451، صحيح مسلم كتاب الزهد والرقائق برقم 2973، وابن ماجه في سننه كتاب الأطعمة برقم 3345). (¬2) أخرج الحاكم عن مصعب بن سعد قال: فرض عمر لأمهات المؤمنين عشرة آلاف وزاد عائشة ألفين، وقال: إنها حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المستدرك 9/ 4 برقم 6723. كما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 7/ 614 برقم 3، 13، وذكره الذهبي في سير أعلام البلاء 187/ 2، و197/ 2، وكذلك ابن سعد في الطبقات الكبرى 67/ 8. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المزارعة باب المزارعة بالشطر، حديث رقم 2328، ومسلم في صحيحه كتاب المساقاة برقم 1551. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب باب مناقب قريش، برقم 3505.

العشرة الزوجية ونظر الإسلام إلى المرأة مقارنة بنظر الشرق والغرب

العشرة الزوجية ونظر الإسلام إلى المرأة مقارنة بنظر الشرق والغرب: يتباين تفكير الغرب والشرق تجاه المرأة تباينا واضحا، فأهل الشرق يعتقدون أن حبها وصمة عار على جبين القداسة، ووظيفتها هي التقيد بحدود البيت وعدم التجاوز عنه. بينما يرى الغرب أنها الإله أو مثل الإله، ويعتبرون رضا المرأة رضا الله تعالى، ويقولون: إن أي مذهب أو دين إذا أعطى للمرأة كامل حقوقها ومكانتها الحقيقية فذلك أكبر دليل وأسطع برهان على كونه معقولا ملائما للعقل البشري السليم. وتختلف وجهة نظر الإسلام تجاه المرأة عن النظرتين السابقتين حيث يسلك فيها طريقا وسطا عدلا لا إفراط فيه ولا تفريط، فكما أنه لا ينزلها منزلة الإله، فهو لا يعتبرها من سقط المتاع، أو حاجزا وعائقا في طريق الحياة، وقد أحسن الإسلام إذ عرفها ((أنها وسيلة للسكون، وذريعة لاطمئنان الإنسان في هذا العالم)). يقول الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. ولسنا في هذه العجالة بصدد الحديث عن مكانة المرأة في الإسلام وحقوقها، وإنما الذي نقصد إليه هو إبراز جوانب العلاقات الزوجية، والعشرة الزوجية العملية في حياة عائشة. ويقول الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) (¬1) وخير تصديق عملي لهذا الحديث الشريف هو أن عائشة (ض) دامت حياتها الزوجية النادرة زهاء تسع سنين، ومن الحق أن توصف بأنها حياة زوجية سعيدة، ولا نعرف بين أزواج الهداة والعظماء من ظفرت بأسعد منها أو ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه 484/ 9 برقم 4177 و491/ 9 برقم 4186، والترمذي في سننه كتاب المناقب برقم 3895، وابن ماجه في سننه كتاب النكاح برقم 1977 والدارمي في سننه باب في حسن معاشرة النساء برقم 2260، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 303/ 4، والبيهقي في السنن الكبرى 468/ 7.

الزوجة الحبيبة

كانت أرضى من عائشة (ض) عن حياتها، فنرى أنه في طوال هذه السنين لم تمتزج هذه الحياة قط بكدر أو مساءة، ولم يعكر صفاء علاقتها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - طيلة حياتها في كنفه سوى واقعة الإيلاء، فكانت الحياة يسودها أسمى معاني الحب، وجو المودة واللطف والمؤانسة والوفاء العالي، ولا سيما إذا تصورنا ما كانت عليه الأسرة النبوية من عسر وشدة وشظف في العيش، والصبر على ضروراته، والقناعة، ومغالبة الهوى، والبعد عن الترف ونعمة العيش، فتزداد قيمة هذا الإخلاص والمودة وتسمو مكانة الحب والوفاء. الزوجة الحبيبة: كانت عائشة (ض) من أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان الصحابة (ض) أجمعين قد علموا حبه إياها وأقروا لها بذلك، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتحرون يوم عائشة (ض) (¬1)، وقد أثار ذلك غيرة أمهات المؤمنين، ووقعت الغيرة التي لا محيص منها بين الزوجات، فدعون فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلنها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له: إن نساءك ينشدنك العدل في بنت أبي بكر، فكلمته، فقال: ((يا بنية ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى، فرجعت إليهن فأخبرتهن، فقلن: ارجعي إليه فأبت أن ترجع)) (¬2). ثم توسلن بأم سلمة (ض) أن تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما دار عليها كلمته، فقال: ((لا تؤذيني في عائشة، فإنه لم ينزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن إلا في لحاف عائشة)) (¬3). أهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ذات مرة هدية فيها قلادة من جزع، فقال: ((لأدفعنها ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الهبة برقم 2581، ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2441، والترمذي في سننه كتاب المناقب برقم 3879. (¬2) صحيح البخاري كتاب الهبة برقم 2581. (¬3) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3775، سنن النسائي كتاب عشرة النساء برقم 3950، سنن الترمذي كتاب المناقب 3879.

إلى أحب أهلي إلي))، فقالت النساء: ذهبت بها ابنة أبي قحافة، لكن حب النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكي الطاهر الخالص لم يظهر قط في لمعان الزينة الظاهرية وروعة المجوهرات الغالية، فدعا أمامة بنت زينب فعلقها في عنقها (¬1). وهذا عمرو بن العاص (ض) قد بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - على جيش ذات السلاسل، فلما أتى سأل: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقال: من الرجال؟ فقال: أبوها (¬2). دخل مرة عمر (ض) على حفصة فقال: ((يا بنية لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها، يريد عائشة)) (¬3). ومرة شرد بها الجمل أثناء الطريق، فقلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ((واعروساه)) (¬4). ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتها فقالت: وارأساه! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بل أنا وارأساه))، ومنذ ذلك الحين بدأ مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي توفي فيه (¬5). وكان - صلى الله عليه وسلم - يتفقد في مرض موته - وفي رواية ((ليتعذر)) - أين أنا اليوم، أين أنا غدا، استبطاء ليوم عائشة (ض) (¬6)، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 101 برقم 24748 و6/ 261 برقم 26292. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب المناقب برقم 3662 وكتاب المغازي برقم 4358، ومسلم كتاب فضائل الصحابة برقم 2384، والترمذي في سننه كتاب المناقب رقم 3885. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح باب حب الرجل بعض نسائه برقم 5218، ومسلم في صحيحه كتاب الطلاق برقم 1479، والترمذي كتاب تفسير القرآن برقم 3318. (¬4) أخرج الإمام أحمد في مسنده عن عائشة (ض) قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كنا بالحرة، انصرفنا وأنا على جمل، وكان آخر العهد منهم، وأنا أسمع صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بين ظهري ذلك السمر، وهو يقول: واعروساه ... الحديث، 248/ 6 برقم 26155. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المرضى برقم 5666، وابن حبان في صحيحه باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - 14/ 551 برقم 6586، والدارمي في سننه باب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم 80. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز برقم 1389، ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2443.

سبب حبه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة

في بيت عائشة حتى مات عندها، قالت عائشة: ((فمات في اليوم الذي كان يدور علي أي بيتي، فقبضه الله وإن رأسه لبين نحري وسحري)) (¬1). كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: ((اللهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)) (¬2) (يعني به حب عائشة). سبب حبه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: ويظن عامة الناس أن لحب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة (ض) كان لحسنها وجمالها وهذا مرفوض إطلاقا، لأن غيرها من الأزواج المطهرات أمثال زينب وجويرية وصفية رضي الله عنهن، أيضا كن ذوات حسن وجمال، وكتب الأحاديث والآثار والسير والتاريخ غنية بذكر محاسنهن وجمالهن، ولكن لا يوجد فيها شيء عن حسن عائشة (ض) وجمالها، إلا ما ذكر في موضع أو موضعين، ويستثنى من ذلك ما قاله عمر (ض) لحفصة (ض): ((لا يغرنك هذاه التي أعجبها حسنها حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها)) (¬3) فلما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك تبسم، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن عائشة (ض) قد احتلت في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلة في المحبة لم يصل إليها غيرها من أمهات المؤمنين. غير أن الأصل في هذا الباب هو ما روته عائشة (ض) نفسها (¬4)، ورواه أبو هريرة (ض) كما في صحيح مسلم وسنن أبي داود أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي برقم 4450. (¬2) أخرجه الترمذي في سننه كتاب النكاح برقم 1140، وأبو داود في سننه كتاب النكاح برقم 2134، وابن ماجه في سننه كتاب النكاح برقم 1971، والنسائي في سننه كتاب عشرة النساء برقم 3943، والدارمي في سننه كتاب النكاح برقم 2207. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح برقم 5218، ومسلم في صحيحه كتاب الطلاق برقم 1479، والترمذي في سننه كتاب تفسير القرآن برقم 3318. (¬4) رواية عائشة (ض) أخرجها الإمام أحمد في مسنده 6/ 152 برقم 25232، وفيه: ((تزوج المرأة لثلاث، لمالها وجمالها ودينها، فعليك بذات الدين تربت يداك)).

((تنكح المرأة لأربع، لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) (¬1). وبالتالي فأحب نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - هي: من تكون أنفع لخدمة الدين ونشر الإسلام من غيرها. والشيء الذي يميز أم المؤمنين عائشة (ض) على غيرها من أمهات المؤمنين هو بلوغ علمها ذروة الإحاطة والنضج في كل ما اتصل بالدين من قرآن وتفسير وحديث وفقه، والنضج في الاجتهاد، والنظر في دقائق المسائل، واستنباط الأحكام للوقائع الجديدة، والاضطلاع فيه، فكان من الطبيعي أن تكون هي أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غيرها. وقد فصل القول في هذا الموضوع العلامة ابن حزم (ح) في كتابه ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (¬2) وأثبت ذلك بالدلائل القاطعة. روى أصحاب الكتب الستة عن أبي موسى الأشعري (ض) أن رسول الله. قال: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الرضاع برقم 1466، والبخاري في صحيحه كتاب النكاح برقم 5090، والترمذي في كتاب النكاح برقم 1086، وأبو داود في سننه كتاب النكاح برقم 2047. (¬2) قال الإمام ابن حزم (ح) بعدما فصل القول في تفضيل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعهن على جميع الصحابة الآخرين، وأثبت ذلك بأدلة من الكتاب والسنة ثم قال: فإذ قد ثبت كل ذلك على رغم الآبي فقد وجب ضرورة أن يشهد لهن كلهن بأنهن أفضل من جميع الخلق كلهن بعد الملائكة والنبيين عليهم السلام، وكيف ومعنا نص النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها ... وقد قال الله عز وجل عنه - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (*) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فصح أن كلامه - صلى الله عليه وسلم - أنها أحب الناس إليه، وحي أوحاه الله تعالى إليه ليكون كذلك، ويخبر بذلك لا عن هوى له، ومن ظن ذلك فقد كذب الله تعالى، لكن لاستحقاقها لذلك الفضل في الدين، والتقدم فيه على جميع الناس الموجب لأن يحبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من محبته لجميع الناس، فقد فضلها على أبيها وعلى عمر وعلي وفاطمة تفضيلا ظاهرا بلا شك. (انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 119/ 3 - 118).

الزوج الحبيب - صلى الله عليه وسلم -

على سائر الطعام)) (¬1). وهذا الحديث خير دليل على الباعث الحقيقي والسبب الواقعي الذي من أجله كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب عائشة (ض) ويكرمها، ويرفع من مكانتها، هل كان ذلك من أجل الحسن والجمال الظاهري، أو بسبب الفضل والكمال الباطني، والتي تلي عائشة (ض) في الكمالات الداخلية والفضائل والمناقب هي أم سلمة (ض)، ولهذا فإنها كانت محبوبة لدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - رغم كبر سنها، وها هي خديجة (ض) قد توفيت وهي بنت ستين سنة، لكنها شغلت قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاتها، فلم يزل يذكرها، وهو شديد الكلف بها والتطلع إليها، حتى أثار ذلك غيرة عائشة (ض) (¬2)، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - على حلمه -ربما يغضب أحيانا من ثورتها على ذكرى خديجة (¬3). الزوج الحبيب - صلى الله عليه وسلم -: لم تكن عائشة (ض) ممن تحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحسب، وإنما كانت تعشقه وتعجب به إلى أقصى درجة، لقد كانت تحبه حب المسلمة لنبيها وحب الزوجة لزوجها، والمرأة لرجلها، معجبة بجماله، كما كانت معجبة بأدبه وعظمة قدره، بحيث لو ادعى أحد غيرها مثل حبها له كانت تأسى عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب أحاديث الأنبباء برقم 3411، 3434، وكتاب المناقب برقم 3769، وكتاب الأطعمة برقم 5418، ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2431، والترمذي في سننه كتاب الأطعمة برقم 1834، وابن ماجه في سننه كتاب الأطعمة برقم 3280. (¬2) أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة (ض) قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين، لما كنت أسمعه يذكرها ... الحديث كتاب فضائل الصحابة برقم 2435، والبخاري في صحيحه كتاب المناقب 3816، 3817، 3818، والترمذي في سننه كتاب البر والصلة برقم 2017 و3875، و3876، وابن ماجه في سننه كتاب النكاح برقم 1997. (¬3) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2435 وفيه قول عائشة (ض): فأغضبته يوما، فقلت: خديجة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني قد رزقت حبها. وأخرجه ابن حبان في صحيحه 15/ 467 برقم 7006، وأورده السيوطي في الجامع الصغير 147/ 1 برقم 219 ط: جدة، المملكة العربية السعودية.

نماذج من غيرة عائشة على ضرائرها

هذا وقد اعترفت أمهات المؤمنين لعائشة (ض) بهذه المكانة العالية رغم مشاعر الغيرة، لأن الحب الذي يبدو من فطنة عائشة لأسرار النبي أعمق وأقوى، فما منهن من لصقت بنفسه كما لصقت بها، ومن نفذت إلى معانيه كما نفذت إليها، ومن عاشرته في روحه وطويته، كما عاشرته بروحها وطويتها. ومن شدة حبها له - صلى الله عليه وسلم - أنها لو استيقظت من النوم ولم تجده جنبها يصيبها القلق والاضطراب، تقول: كنت نائمة إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففقدته من الليل - والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح -فلمسته بيدي، فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد يقول: ((أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)) (¬1). كما تحكي لنا قصة أخرى من نفس النوعية فتقول: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتجسسته فإذا هو راكع أو ساجد يقول: ((سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، فقالت: بأبي أنت وأمي، إني لفي شأن وإنك لفي آخر)) (¬2). نماذج من غيرة عائشة على ضرائرها: كذلك فقدته ذات ليلة وقد مضى من الليل نصفه، فبدأت تبحث عنه، حتى وجدته في البقيع، وهو رافع يديه يدعو ربه، فانحرفت، فلما أصبحت ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ كتاب النداء للصلاة برقم 497، كما أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصلاة برقم 486، والترمذي في سننه كتاب الدعوات برقم 3493، وأبو داود في سننه كتاب الصلاة برقم 879، وابن ماجه في سننه كتاب الدعاء برقم 3841، قوله: ((والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح، أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة برقم 513، ومسلم في صحيحه كتاب الصلاة برقم 512، والنسائي في سننه كتاب الطهارة برقم 168. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصلاة برقم 485، والنسائي في سننه كتاب التطبيق برقم 1131.

أخبرته بما حدث، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ فقالت: نعم)) (¬1). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد السفر أقرع بين نسائه، فمرة طارت القرعة لعائشة وحفصة. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث، فقالت لها حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري؟ وأركب بعيرك؟ تنظرين وأنظر؟ فقالت: بلى، فركبت، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلم عليها ثم سار، حتى نزلوا، وافتقدته عائشة، فلما نزلوا جعلت رجلها بين الإذخر، وتقول: ((يا رب سلط علي عقربا، أو حية تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئا)) (¬2). وإذا تأملنا في الفقرة الأخيرة من الحديث تبين لنا مدى غيرتها الشديدة، والأنوثة التي فيها، والمنافسة القوية التي كانت فيما بين الضرائر. ولما آلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسائه لمدة شهر وأقام في مشربة له عند حجرة عائشة، واعتزلهن، كان لهذا أثر عميق على أمهات المؤمنين، وإذا هن يبكين ¬

_ (¬1) تعددت الألفاظ لهذا الحديث إلا أن فحواها واحد، وقد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة (ض) قالت: لما كانت ليلتي التي هو عندي - تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - -انقلب فوضع نعليه عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رقدت، ثم انتعل رويدا، وأخذ رداءه رويدا، ثم فتح الباب رويدا، وخرج رويدا، وجعلت درعي في رأسي واختمرت، وتقنعت إزاري، وانطلقت في إثره، حتى جاء البقيع فرفع يديه ثلاث مرات، فأطال، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت وسبقته، فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت، فدخل فقال: ما لك يا عائشة حشيا رابية، قالت: لا، قال: لتخبريننى أو ليخبزني اللطيف الخبير، قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته الخبر، قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قالت: نعم ... الحديث. أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الجنائز برقم 974، والنسائي في سننه كتاب الجنائز رقم 2037 وفي كتاب عشرة النساء رقم 3963/ 3964، وأخربه ابن ماجه مختصرا في سننه كتاب ما جاء في الجنائز برقم 1546، وكتاب إقامة الصلاة والسنة فيها برقم 389، والترمذي في سننه كتاب الصوم برقم 739. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح رقم 5211، ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2445، وابن ماجه في سننه الجزء الأول من الحديث كتاب النكاح برقم 1970.

من شدة ما أصابهن من حزن وقلق، حتى لم تستطع إحداهن أن تدخل عليه من دون إذن، وعائشة (ض) كانت تعد الشهر عدا تنتظر انتهاءه، فلما كمل الشهر أول ما بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ بعائشة (ض) (¬1). هذا وقد كانت أمهات المؤمنين على درجات متفاوتة من الناحية الاقتصادية في بيوت آبائهن، فبعضهن كن من الأسر الثرية ذات الأموال والخيرات، وكن تربين في الترف ونعمة العيش، فنازعن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وألحفن عليه بطلب المزيد من النفقة والزينة، فنزلت آية التخيير (¬2)، فخيرهن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين التسريح والصبر على نصيبهن، فاخترن أجمل النصيبين بهن، وهو الصبر على سنة الأنبياء وأمهات المؤمنين، ورضين بهذه الحياة النبوية بكل فرح وسرور وسعادة، فبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعائشة أول امرأة من نسائه كلهن (¬3)، فاختارته وقالت: ((يا رسول الله لا تخبر أزواجك أني اخترتك)) (¬4)، وهنا تظهر غيرتها واستئثارها به - صلى الله عليه وسلم - دون غيرها، وذلك لكي تنال فضل التقدم في الاختيار، وفي كلامها هذا إيحاء إلى الطبيعة النسائية وفطرة المرأة التي جبلت عليه. وفي نهاية أيام هذا الحادث نزلت آية الإرجاء (¬5)، حيث خير النبي - صلى الله عليه وسلم - بإبقاء من أراد من أزواجه في كنفه، ومفارقة الأخريات، إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرض بمفارقة أي واحدة منهن، نظرا لما كان يحمل - صلى الله عليه وسلم - بين جنبيه من الرحمة والشفقة ¬

_ (¬1) يراجع: صحيح البخاري كتاب النكاح برقم 5191، وكتاب المظالم والغصب برقم 2468، ومسلم كتاب الطلاق برقم 1479. (¬2) وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28، 29]. (¬3) انظر: صحيح البخاري كتاب المظالم والغصب رقم 2468 وكتاب تفسير القرآن رقم 4786. (¬4) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الطلاق برقم 1475 بلفظ ((لا تخبر نساءك))، وأخرجه الترمذي في سننه كتاب تفسير القرآن برقم 338. (¬5) وهي قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51].

مداراة الزوجة

والحب والوفاء للأزواج المطهرات. وكانت عائشة (ض) تقول: ((إن كان ذاك إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدا)) (¬1). ولما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - نعي جعفر الطيار (ض) غزوة مؤتة حزن حزنا شديدا، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله إن شاء جعفر ... وذكر بكاءهن، فأمره بأن ينهاهن، فذهب الرجل ثم أتى فقال: قد نهيتهن، وذكر أنهن لم يطعنه، فأمره الثانية أن ينهاهن، فذهب ثم أتى فقال: والله لقد غلبنني أو غلبننا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فاحث في أفواههن التراب، وعائشة (ض) كانت تطلع عليه من شق الباب، فقالت: أرغم الله أنفك فوالله ما أنت بفاعل، وما تركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العناء)) (¬2). وغالبا ما ينام النبي - صلى الله عليه وسلم - ويضع رأسه على فخذ عائشة، وذات مرة جاءها أبو بكر (ض) ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذها قد نام، فعاتبها وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنها بيده في خاصرتها، تقول عائشة: ((فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي)) (¬3). مداراة الزوجة: لقد جعل الله عز وجل من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة للمجتمع الإنساني بأكمله، وكان - صلى الله عليه وسلم - خير الأزواج وألطفهم بأهله، لم يعهد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه عنفهن أو اشتد عليهن، بل كان بهن رفيقا رحيما، يترضاهن إذا غضبن، ويعاملهن معاملة كريمة بأقصى غاية من المودة والمحبة، ولم يكن ذلك كله إلا لكي يعلم أمته كيف يتعامل الأزواج مع زوجاتهم. سبق أن ذكرنا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتعهد عائشة بما يسرها، ويفرح حتى بلعبتها، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن برقم 4789، ومسلم في صحيحه كتاب الطلاق برقم 1476 وأبو داود في سننه كتاب النكاح برقم 2136. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز برقم 1299، 1305، ومسلم في صحيحه كتاب الجنائز برقم 935، والنسائي في سننه كتاب الجنائز برقم 1847. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التيمم برقم 334، ومسلم في صحيحه كتاب الحيض رقم 367، والنسائي في سننه كتاب الطهارة برقم 310.

كانت عائشة قد ربت في حضنها جارية من الأنصار، فلما حان عرسها زوجتها عائشة (ض) بكل بساطة دون أي غناء أو لهو، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك قال: ((يا عائشة ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهوا)) (¬1). وكان الأحباش يلعبون بحرابهم بمناسبة أفراح العيد، فأرادت عائشة (ض) أن تنظر إلى لعبهم، فسترها النبي - صلى الله عليه وسلم - بردائه وهي تشاهد لعبهم، تقول (ض): ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا التي أسأم)) (¬2). وربما مر أبوها (ض) بالبيت فيسمع صوتها عاليا في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيدخل غاضبا يتناولها ليلطمها وينهرها قائلا: لا أراك ترفعين صوتك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يحجزه، وخرج أبو بكر مغضبا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج أبو بكر: ((كيف رأيتني أنقذتك من الرجل)) (¬3)؟! وجاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا عائشة تعرفين هذه؟ قالت: لا، يا نبي الله، قال: هذه قينة بني فلان، تحبين أن تغنيك؟ قالت: نعم، فأعطتها طبقا، فغنتها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد نفخ الشيطان في منخريها)) (¬4) ومعنى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره مثل هذه الأغاني. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح برقم 5163، وأخرجه أحمد في مسنده بلفظ: ((كانت في حجري جارية من الأنصار فزوجتها، قالت: فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرسها، فلم يسمع لعبا، فقال: يا عائشة إن هذا الحي من الأنصار يحبون كذا وكذا)) رواه الإمام أحمد بن حنبل في المسند 269/ 6 برقم 26356، كما أخرجه ابن حبان في صحيحه 3/ 185 برقم 5875، وهو في موارد الظمآن للهيثمي 493/ 1 برقم 2016. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح رقم 5190/ 5236، ومسلم في صحيحه كتاب صلاة العيدين برقم 892، والنسائي في سننه كتاب صلاة العيدين رقم 1594 و1595. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب برقم 4999، والنسائي في السنن الكبرى 5/ 139 رقم 8495 و9155. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/ 449 حديث السائب بن يزيد، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 130: ورواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير 8/ 158 رقم 6686.

الملاطفة والمؤانسة

الملاطفة والمؤانسة: من لطفه - صلى الله عليه وسلم - بعائشة (ض) وعطفه عليها أنه كان يمازحها ويفاحكها ويسمر معها مستمعا إلى أحاديثها ملاطفة لقلبها، وإرضاء لخاطرها، وذات مرة ذكر ((خرافة)) أثناء الحديث، فسألها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أتدرين ما خرافة؟ إن خرافة كان رجلا من أهل عذرة، أسرته الجن في الجاهلية، فمكث فيهم دهرا طويلا، ثم ردوه إلى الإنس، فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة)) (¬1). تستخدم صيغة الجمع ((الخرافات)) في اللغة الأردية بنفس المعنى. سمره - صلى الله عليه وسلم - معها: وكان - صلى الله عليه وسلم - يسمر معها مستمعا إلى أحاديثها، وذات مرة حدثته عائشة (ض) حديث أم زرع قالت: جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا، قالت الأولى: زوجي لحم جمل غث على رأس جبل، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل، قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، إنى أخاف أن لا أذره، إن أذكره أذكر عحره وبجره، قالت الثالثة: زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق، قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة، قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد، قالت السادسة: زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث، قالت السابعة: زوجي غياياء أو عياياء طباقاء، كل داء له داء، شجك أو فلك أو جمع كلا لك، قالت الثامنة: زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب، قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 7/ 157 برقم 25283، وهو في مجمع الزوائد للهيثمي 4/ 315، والطبراني في المعجم الكبير 6/ 56 - 155 برقم 6069، وإسحاق بن راهويه في مسنده 3/ 801 برقم 1436، وأبو يعلى الموصلي في مسنده 419/ 7 برقم 4442.

من الناد، قالت العاشرة: زوجي مالك، وما مالك؟ مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، واذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك، قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع، وما أبو زرع؟ أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحث إلي نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق، فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتفنح، أم أبي زرع، فما أم أبي زرع؟ عكومها رداح، وبيتها فساح، ابن أبي زرع، فما ابن أبي زرع؟ مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة، بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها وطوع أمها، وملء كسائها وغيظ جارتها، جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع؟ لا تبث حديثنا تبثيثا، ولا تنقث ميرتنا تنفيثا، ولا تملأ بيتنا تعشيشا، قالت: خرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلا سريا، ركب شريا وأخذ خطيا، وأراح علي نعما ثريا، وأعطاني من كل رائحة زوجا، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك، قالت: فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع، قالت عائشة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((كنت لك كأبي زرع لأم زرع)) (¬1). هذا وفي الوقت الذي يكون - صلى الله عليه وسلم - مشغولا في السمر مع أهله إذا سمع النداء كان يسرع إلى الصلاة، تقول عائشة (ض): ((كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج)) (¬2) وفي رواية: قالت عائشة: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه)) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح برقم 5189، والإمام مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2448، وقد عزا النسائي هذه القصة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلا: ثم أنشأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث أن إحدى عشرة امرأة .. الحديث، السنن الكبرى للنسائي 5/ 359 برقم 9139، وكذلك أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 317/ 4. (¬2) صحيح البخاري كتاب النفقات رقم 5363، وكتاب الأدب رقم 5039. (¬3) أخرجه الأزدي في الضعفاء، وذكره الغزالي في إحياء علوم الدين 1/ 145 كتاب أسرار الصلاة.

المؤاكلة

المؤاكلة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وعائشة (ض) يتناولان الطعام على مائدة واحدة بل من قصعة واحدة، تحكي لنا عائشة ذلك قائلة: ((كنت آكل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حيسا، فمر عمر فدعاه فأكل، فأصابت يده إصبعي ... الحديث)) (¬1)، وكان ذلك قبل نزول الحجاب. والحديث الآتي يوضح لنا مدى حبه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة حتى في الأكل، تقول (ض): ((كنت أتعرق العظم وأنا حائض فأعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيضع فمه في الموضع الذي فيه وضعته، وأشرب الشراب فأناوله، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه)) (¬2). وذات ليلة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعشى مع عائشة - صلى الله عليه وسلم - في حجرتها إذ دخلت عليه أم المؤمنين سودة بنت زمعة (ض) وهي تشكو عمر، أنه يمنعها من الخروج حتى لقضاء الحوائج (¬3). وكانا يمسكان معا قطعة واحدة من اللحم، لأنه لم يكن مصباح في البيوت يومئذ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد 362/ 1 برقم 1053، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 93/ 7، والطبراني في المعجم الصغير 149/ 1 برقم 227 وفي الأوسط 212/ 3 برقم: 2947، والنسائي في السنن الكبرى 6/ 435 برقم 11419. (¬2) أخرجه الإمام أبو داود في السنن، كتاب الطهارة باب مؤاكلة الحائض برقم 259. كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الحيض برقم 300، والنسائي في سننه معضلاء كتاب الطهارة برقم 279 وكتاب الحيض برقم 377، 379، 380، وابن ماجه في سننه كتاب الطهارة برقم 643. (¬3) أصل الحديث في صحيح البخاري عن عائشة (ض) قالت: خرجت سودة بنت زمعة ليلا فرآها عمر فعرفها فقال: إنك والله يا سودة ما تخفين علينا، فرجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له وهو في حجرتي يتعشى وإن في يده لعرق، فأنزل الله عليه فرفع عنه وهو يقول: قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن. (كتاب النكاح باب خروج النساء لحوائجهن برقم 5237، وأخرج جزءا منه مسلم في صحيحه كتاب السلام برقم 2170). (¬4) أشار به المؤلف إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن حميد بن هلال قال: قالت عائشة: بعث إلينا آل أبي بكر بقائمة شاة ليلا فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - =

الصحبة في السفر

كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جار فارسي وكان طيب المرق فصنع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جاء يدعوه، فقال: وهذه - لعائشة -؟ فقال: لا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا فعاد يدعوه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وهذه؟ قال: لا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا، ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وهذه؟ قال: نعم في الثالثة، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله (¬1). الصحبة في السفر: كان من الصعب أن تصحب جميع أمهات المؤمنين النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر، كما أن ترجيح بعضهن على بعض أيضا يكون خلاف العدل الذي أمر به الله تعالى، ولذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد السفر أقرع بين نسائه، فأيتهن يخرج سهمها خرج بها النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وعلى هذا نالت عائشة (ض) شرف صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدد من أسفاره، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنها تشرفت بصحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني المصطلق (¬3)، ومن الأسفار كذلك السفر الذي حدث فيه قصة ركوب حفصة على بعير عائشة وركوب عائشة على بعير حفصة. ¬

_ = وقطعت أو أمسكت وقطع ... الحديث 6/ 217 برقم 25867، كما أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده 966/ 3 برقم 1682، وابن سعد في الطبقات الكبرى 404/ 1. (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الأشربة رقم 2037، والنسائي في سننه كتاب الطلاق برقم 3437. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الهبة برقم 2594، وكتاب الشهادات برقم 2661، 2688، وكتاب الجهاد والسير برقم 2879، وكتاب النكاح 5211، صحيح مسلم كتاب التوبة برقم 2770. (¬3) غزوة بني المصطلق كانت في شعبان من السنة السادسة، وقيل: كانت في شعبان من السنة الخامسة، والأول أصح، وهو قول ابن إسحاق وغيره، غزا فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - بني المصطلق من خزاعة، واستعمل على المدينة أبا ذر (ض)، وقيل: نميلة بن عبد الله الليثي، وكان شعار المسلمين يومئذ أمت أمت، كان من السبي جويرية بنت الحارث، وقعت في سهم ثابت بن قص، فكاتبها، فأدى عنها النبز اوتزوجها، فصارت أم المؤمنين، وكان في هذه الغزوة من الحوادث قصة الإفك (يراجع: تاريخ الطبري، البداية والنهاية، زاد المعاد في هدي خير العباد).

المسابقة

كما ثبت في الحديث السفر الذي سابقت فيه عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وكان في غزوة بني المصطلق من الحوادث قصتان عجيبتان، وكلتاهما كانت شرفا سرمديا وسعادة أبدية، أكرم الله تعالى بهما عائشة (ض)، فالأولى منهما كانت سببا لنزول حكم التيمم، والأخرى فيها قانون براءة المحصنات الغافلات من النساء - كما سيأتي في الفصل الرابع وتدل رواية الإمام أحمد في (المسند) أن عائشة (ض) كانت خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر الحديبية، أما حجة الوداع فمعظم أمهات المؤمنين كن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، ومنهن عائشة (ض). المسابقة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب الرمي وسباق الخيل، ويحض الصحابة عليه ويعلمهم ذلك، وأحيانا يسابق زوجته الحبيبة عائشة (ض)، تقول عائشة: خرجن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم، فقال للناس: تقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني، حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت، وخرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس: تقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: ((هذه بتلك)) (¬2). الدلال: إن خصائص المرأة ومميزاتها النسوية تحمل في طياتها بحرا زاخرا تتبلور فيه موجات الحب والمودة والوفاء والملاطفة بأسمى معانيها وأحلى ¬

_ (¬1) أشار المؤلف إلى الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن والمسانيد عن عائشة (ض) أنها كانت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك. أخرجه أبو داود في سننه برقم 2578، وابن حبان في صحيحه 10/ 545 برقم 4691، والإمام أحمد في مسنده 264/ 6 برقم 26320، والبيهقي في السنن الكبرى 17/ 10 و18/ 10. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 264/ 6 برقم 26320، والبيهقي في السنن الكبرى 217/ 10، وأورده الهيثمي في موارد الظمآن 318/ 1 برقم 1310، ويراجع تخريج الحديث مفصلا في الحاشية السابقة.

أشكالها، ومما لا شك فيه أن من الأنثويات الخالدة في طبيعة المرأة دلالها ومغاضبتها، وهي أشوق ما تكون إلى المصالحة وتقصير أمد المغاضبة، وقد يشكل ذلك على عامة الناس حيث إنهم ينظرون إلى ما ورد في كتب الأحاديث مما يدل على الدلال والمغاضبة، ويرون في مخاطبة الرسول أزواجه بهذا الأسلوب أنه خطاب من الرسول لأمته، وينسون أن زوجة تخاطب زوجها، أو زوجا يخاطب زوجته، ولذا فينبغي بل يجب أن تدرس أمثال هذه الوقائع التي سجلتها كتب الأحاديث في بطونها، بالطريقة الصحيحة، وتحمل على محملها الصحيح. ومن هذا النوع قول عائشة (ض): كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقول: أتهب المرأة نفسها، فلما أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51] قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك (¬1). فلم يكن قصد عائشة (ض) من ذلك الاعتراص أو الإشكال، وإنما كان ذلك نوعا من التدلل والدعابة والانبساط من الزوجة لزوجها. والخواص يعرفون معنى كلام عائشة (ض)، وهو أن الله عز وجل يحقق كل ما يتمناه حبيبه ويشتهيه، ويكون الهدف من وراء ذلك هو تثبيت قلبه وإحكامه على عمل الدعوة. إلا أننا رأينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تتغير عادته حتى بعد آية التخيير، فكان - صلى الله عليه وسلم - يستأذن أزواجه كلهن في نوبتهن ودورهن، تقول عائشة: ((إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ...} (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن برقم 4788، ومسلم في صحيحه كتاب الرضاع برقم 1464، والنسائي في سننه كتاب النكاح برقم 3199، وابن ماجه في سننه كتاب النكاح برقم 2000. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن برقم 4789، ومسلم في صحيحه كتاب الطلاق رقم 1476، وأبو داود في سننه كتاب النكاح برقم 2136.

غيرتها على خديجة ونماذج من تدللها

غيرتها على خديجة ونماذج من تدللها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر أم المؤمنين خديجة (ض) كثيرا، نظرا للمقام الرفيع الذي كانت تحتله في قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعرف أنه حزن على أحد قط أشد من حزنه عليها، ولا أطال الذكرى لأحد قط بعد وفاته كما أطال ذكرها، وسمى عام وفاتها عام الحزن، لأن الحزن لم يفارقه طوال أيامه وإن سكنت سورته مع الأيام كما تسكن كل سورة لاعجة مع ذلك العزم الصادق والقلب الصبور. وذات مرة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكرها فقالت عائشة: ((كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد)) (¬1). وفي رواية عند أحمد قالت عائشة (ض): ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يوما فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق، قد أبدلك الله عز وجل بها خيرا منها، قال: ما أبدلني الله عز وجل خيرا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقتي الله عز وجل ولدها، إذ حرمني أولاد النساء)) (¬2). وأصيبت عائشة (ض) مرة بالصدع في رأسها فقالت: وارأساه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بل أنا وارأساه - فكان ذلك ابتداء الوجع الذي توفي فيه - ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك، قالت: لكني أو لكأني والله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب برقم 3818. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده 117/ 6 برقم 24908، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 224/ 9، والطبراني في الكبير 13/ 23 برقم 22. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المرضى برقم (5666) جزءا من الحديث، وأحمد واللفظ له 228/ 6 برقم 25950، وابن حبان في صحيحه 14/ 551 برقم 6586، والبيهقي في السنن الكبرى 396/ 3 برقم 5451، والنسائي في السنن الكبرى 4/ 252 برقم 7079.

وجيء مرة بأسير فحجزه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرة عائشة (ض) وعندها نسوة فلهينها عنه، فذهب الأسير، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا عائشة ما فعل الأسير؟ فقالت: لهوت عنه مع النسوة، فخرج، فقال: ما لك قطع الله يدك أو يديك، فخرج فآذن به الناس فطلبوه فجاؤوا به، فدخل علي وأنا أقلب يدي، فقال: مالك أجننن؟ قلت: دعوت علي فأنا أقلب يدي أنظر أيهما يقطعان، فحمد الله وأثنى عليه ورفع يديه مدا وقال: ((اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوت عليه فاجعله له زكاة وطهورا)) (¬1). وكانت (ض) تفتخر بكونها البكر الوحيدة بين سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وتدل أحيانا - إدلال الحبيب - أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقول: يا رسول الله أرأيت لو نزلت واديا فيه شجرة قد أكل منها ووجدت شجرا لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: ((في الذي لم يرتع منها)) (¬2). تعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بكرا غيرها. وفي واقعة الإفك - التي سيأتي ذكرها لاحقا - لما أنزل الله تعالى براءتها بالوحي قالت لها أمها: قومي إليه (تقصد النبي - صلى الله عليه وسلم -)، فقالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل في براءتي وحيا يتلى إلى يوم القيامة (¬3). وذات مرة قال لها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى، قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 52/ 6 برقم 24304، وهو في مجمع الزوائد للهيثمي 8/ 266 وفيه أنه دفع الأسير إلى حفصة بدل عائشة، وأخرجه الضياء المقدسي الحنبلي في الأحاديث المختارة 5/ 20، وفيه: أنه دفع الأسير إلى إنسان ولم يسمه، كما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 89/ 8. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه باب نكاح الأبكار برقم 5077، وابن حبان في صحيحه 174/ 10 برقم 4331. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي برقم 414، ومسلم في صحيحه كتاب التوبة برقم 2770، وأحمد في مسنده 6/ 59 برقم 24362.

القيام بالأعمال المنزلية

عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت علي غضبى، قلت: لا ورب إبراهيم، قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك (¬1). وفيما يأتي نرى كيف يعبر المؤلف الغربي ((مارغوليوث)) عن هذه الواقعة، يقول: ((فإذا أغضب محمد زوجته عائشة، فإنها كانت ترفض أن تقول له رسول الله، وتعترض على الوحي الذي ينزل عليه، اعتراضا شديدا)) (¬2). وهذا نموذج حي ومدهش لمعرفة الأوربيين باللغة العربية، وصدق مقالهم وعدم التعصب المذهبي!! (¬3). القيام بالأعمال المنزلية: رغم وجود الخادم في البيت فإن عائشة (ض) كانت تقوم بنفسها بخدمة الدار كلها وسائر حاجات النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت تطحن الدقيق (¬4) بيدها، وتطبخ بنفسها (¬5)، وتفرش (¬6) المفارش، وتحضر له (¬7) الوضوء، وتفتل (¬8) قلائد هدي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح باب غيرة النساء ووجدهن برقم 5228، ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2439، وابن حبان في صحيحه 16/ 49 برقم 7112، والنسائي في السنن الكبرى 5/ 365 باب غضب المرأة على زوجها برقم 9156، وأبو يعلى في مسنده 8/ 291 برقم 4893. (¬2) انظر: كتابه Life Of Muhammad] ص 415. (¬3) هذا استهزاء وتهكم من المؤلف على المتشرقين وخاصة الحاقدين منهم على الإسلام وعلى رأسهم مرغوليوث هذا (الناشر). (¬4) انظر الأدب المفرد للإمام البخاري 1/ 55 برقم 120، ط: دار البشائر الإسلامية بيروت 1409هـ. (¬5) انظر: حديث الإفك في صحيح البخاري كتاب المغازي برقم 4141، وصحيح مسلم كتاب التوبة برقم 2770. (¬6) انظر: الشمائل المحمدية والخصائل المصطفوية للإمام الترمذي 1/ 270 برقم 330 وفيه ذكر حفصة (ض)، ط: مؤسسة الكتب الثقانية بيروت 1412 هـ. (¬7) أورده الإمام أحمد في مسنده 68/ 6 برقم 24432. (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الحج رقم 1696، 1699، ومسلم في صحيحه كتاب الحج رقم 1321، والنسائي في سننه كتاب مناسك الحج برقم 2776، 2777 =

النبي - صلى الله عليه وسلم - بيديها، وترجله (¬1) بيدها، وتطيبه (¬2)، وتغسل ثيابه (¬3)، وتعد له السواك (¬4) عند المبيت، وتغسل سواكه اهتماما بنظافته (¬5). كما أنها كانت تقري الضيوف القادمين عليه - صلى الله عليه وسلم - في البيت، وتقوم بواجبهم، يقول الصحابي الجليل قيس الغفاري (ض) - وكان من أصحاب الصفة - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انطلقوا بنا إلى بيت عائشة (ض) فانطلقنا، فقال: يا عائشة أطعمينا، فجاءت بحشيشة، فأكلنا، ثم قال: يا عائشة أطعمينا، فجاءت بحيسة مثل القطاة فأكلنا، ثم قال: يا عائشة اسقينا، فجاءت بعس من لبن فشربنا، ثم قال: يا عائشة اسقينا، فجاءت بقدح صغير فشربنا (¬6). ¬

_ = وأبو داود في سننه كتاب المناسك برقم 1757، وابن ماجه في سننه كتاب المناسك برقم 3095. (¬1) انظر: صحيح البخاري كتاب الاعتكاف برقم 2028 - 2029، وصحيح الإمام مسلم كتاب الحيض برقم 297، وسنن الترمذي كتاب الصوم برقم 804، وأبو داود كتاب الصوم برقم 2467. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الحج برقم 1539، ومسلم في صحيحه كتاب الحج برقم 1189، والترمذي في سننه كتاب الحج برقم 917، والنسائي في سننه كتاب الغسل والتيمم برقم 417، 431، وفي كتاب مناسك الحج برقم 2684. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الوضوء بأرقام 229، 230، 231، 232، والإمام أبو داود في كتاب الطهارة برقم 388. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 53 برقم 24314 في حديث طويل، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض برقم 746، وابن خزيمة في صحيحه باب إباحة الوتر بسبع ركعات ... 2/ 141 برقم 1078، ط: المكتب الإسلامي بيروت 1390هـ، وابن حبان في صحيحه 6/ 195 برقم 2441 ذكر وصف وتر المرء ... والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 29 باب من أوتر بسبع أو بتسع ... برقم 4588، والنسائي في السنن الكبرى 1/ 173 برقم 448، وابن ماجه في سننه باب ما جاء في الوتر ... برقم 1191. (¬5) أخرجه الإمام أبو داود في سننه باب غسل السواك برقم 52، والإمام البيهقي في السنن الكبرى باب غسل السواك 1/ 39 رقم 168. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب برقم 5040، والإمام أحمد في مسنده 5/ 426 برقم 3666، وابن حبان في صحيحه 12/ 358 برقم 5550، والنسائي في السنن الكبرى 4/ 161 برقم 6695، وانظر: الأحاديث المختارة للمقدسي 8/ 135 - 134.

الطاعة واتباع الأحكام

الطاعة واتباع الأحكام: مما لا شك فيه أن طاعة الزوج واتباع أوامره من أهم وآكد الواجبات على الزوجة، وحياة عائشة (ض) خير أسوة وأحسن قدوة لذلك، فإنه لم تعهد منها أية مخالفة لأي حكم من أحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - طوال الفترة التي عاشتها في كنف النبي - صلى الله عليه وسلم - التي امتدت إلى تسع سنين، لدرجة أنه لو خطر على بالها أو عرفت ولو بالتلميح أن الشيء الفلاني يغضب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتوقفت عنه فورا وامتنعت منه كليا، تقول عائشة (ض): ((استترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الباب، فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهة، قالت: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله ماذا أذنبت؟ قال: ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة)) (¬1). وها هو الصحابي الجليل ربيعة الأسلمي (ض) قد تزوج، ولم يجد ما يولم به فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزينا، فقال: يا ربيعة ما لك حزين؟ فقلت: يا رسول الله ما رأيت قوما ... حديث طويل وفيه ... فقال لي رسول الله اذهب إلى عائشة فقل لها: فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام، قال: فأتيتها فقلت لها ما أمرني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: هذا المكتل فيه تسع آصع شعير، لا والله إن أصبح لنا طعام غيره، خذه، فأخذته ... الحديث (¬2). هذا وقد كانت جميع أمهات المؤمنين يقمن بهذه الطاعة وتنفيذ أوامره - صلى الله عليه وسلم - مثل ما كانت تقوم به عائشة (ض) في حياته - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن الطاعة الحقيقية والانقياد التام الأصلي هو القيام بهذا الواجب بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيجب أن تنفذ كل أوامره وسائر أحكامه - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته مثلها في حياته. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب اللباس باب التصاوير برقم 5961، ومسلم في صحيحه كتاب اللباس والزينة برقم 2107. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك 188/ 2 برقم 2718، والإمام أحمد في سننه 4/ 58، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 256.

النبي - صلى الله عليه وسلم - رباها على السخاء والكرم

النبي - صلى الله عليه وسلم - رباها على السخاء والكرم: وقد سبق أن ذكرنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علمها الجود، ورباها على السخاء والكرم، فكان من فضل هذه التربية العظيمة والتعليم النبوي المبارك أنها عضت بنواجذها على هذا الواجب الكبير ولم تتخل عنه حتى أتاها اليقين. كما مر بنا أنها استأذنت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد فقال لها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((جهاد النساء الحج))، فلما سمعت بهذا التعليم النبوي قلما مضى عام ولم تحج فيه (¬1). بعث إليها عبد الله بن عامر مرة بنفقة وكسوة، فقالت لرسوله: يا بني إني لا أقبل من أحد شيئا، فلما خرج قالت: ردوه علي، فردوه، فقالت: إني ذكرت شيئا قاله لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: ((يا عائشة من أعطاك عطاء بغير مسألة فاقبليه، فإنما هو رزق عرضه الله لك)) (¬2). ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر يوم عرفة على عائشة وهي صائمة يرش عليها، فقال لها: أفطري، فقالت: أفطر وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن صوم يوم عرفة يكفر العام الذي قبله)) (¬3). ولما رأت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى، بدأت تواظب عليها، ولم تتركها قط، وكانت تقول: ((لو أن أبي نشر فنهاني عنها ما تركتها)) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين قالت: قلت: يا رسول الله ألا نغزو وتجاهد معكم؟ فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله: الحج حج مبرور، فقالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب حج النساء برقم 1861. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 77/ 6 برقم 24524 و6/ 259 برقم 26276، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 100، والبيهفي في السنن الكبرى 6/ 184 برقم 1823. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 128/ 6 برقم 25014، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد باب صيام يوم عرفة، 189/ 3، وأصل الحديث وهو فضيلة صوم يوم عرفة موجود في كتب الصحاح والسنن، من دون قصة عائشة (ض). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 138/ 6 برقم 25122، والنسائي في السنن الكبرى 181/ 1 رقم 482، ومالك في الموطأ 1/ 153 برقم 358، وعبد الرزاق في مصنفه 4/ 7 برقم 4866.

التعايش الديني

وجاءتها امرأة تسألها عن الحناء فقالت عائشة (ض): ((كان حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه لونه ويكره ريحه)) (¬1). التعايش الديني: كان بيت أم المؤمنين عائشة (ض) مسكنا ومأوى لسيد المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -، حيث لم تكن الثروات الكبيرة ولا الأموال الهائلة ولا أغراض التنعم والعيش الهنيء الرغيد، ولا هي كانت تبالي بهذه الأشياء الزائلة. ومعلوم أن الإسلام دين يجمع بين الدين والدنيا، فما سبق في الصفحات الماضية من ذكر بعض الحقائق، وصور للجود والكرم والسخاء كانت علاقته بالفطرة البشرية والجبلة الإنسانية. ونتحول الآن لكي نعيش حياته - صلى الله عليه وسلم - ونطلع على صور واقعية منها في ضوء الحقائق التالية: تقول أم المؤمنين عائشة (ض): كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل البيت تمتثل: ((لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ فمه إلا التراب، وما جعلنا المال إلا لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ويتوب الله على من تاب)) (¬2). كان غرضه - صلى الله عليه وسلم - من تكرار هذه الكلمات يوميا هو تذكير أهل البيت بفناء هذه الدنيا الزائلة، وعدم ثباتها واستقرارها، والحط من مكانة وأهمية المال في القلوب وتقليل قيمته. وكان - صلى الله عليه وسلم - يدخل في الحجرة بعد صلاة العشاء فيستاك ثم ينام مباشرة، ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 117/ 6 برقم 24905، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 61 برقم 8905، وأبو داود في سننه باب في الخضاب للنساء برقم 4164، والنسائي في سننه برقم 5090 باب كراهية ريح الحناء. (¬2) مسند الإمام أحمد 55/ 6 برقم 24321، كما أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن بعضهم عن أنس وآخرون عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، والإمام مسلم في صحيحه برقم 1048 باب لو كان لابن آدم واديان لابتغى ثالثا، والترمذي في سننه باب ما جاء لو كان لابن آدم واديان من مال برقم 2337، والدارمي باب لو كان لابن آدم واديان من مال برقم 2778.

فإذا كان وسط الليل يستيقظ من النوم ويتهجد، فإذا كان آخر الليل يوقظ عائشة (ض) فتصلي معه ثم توتر (¬1)، وإذا تبين له الفجر يصلي ركعتي الفجر ويضطجع على شقه الأيمن (¬2)، ويتحدث مع عائشة (¬3)، حتى يأتيه المؤذن للإقامة. وأحيانا كانت (ض) تقوم الليل كاملا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تعبد ربه، تقول (ض): كنت أقوم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليلة التمام فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء، فلا يمر بآية فيها تخوف إلا دعا الله عز وجل واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل ورغب إليه (¬4). كما إنها كانت تقوم تصلي مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحالات الطارئة؛ مثل الكسوف وغيره وكانت تقتدي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجرته (¬5) والرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤم الناس في المسجد. وكانت تواظب على الصلوات الخمس وقيام الليل، وكذلك صلاة الضحى، وتكثر من الصوم، وأحيانا يصومان معا، وحينما ترى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، قد تشاركه في هذه العبادة، وتضرب الخيمة في المسجد فيصلي الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصبح ثم يدخله (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده 6/ 55 برقم 24320 و6/ 152 برقم 25225، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه باب صلاة الليل برقم 744. (¬2) يراجع: صحيح الإمام مسلم باب صلاة الليل برقم 736، وصحيح البخاري باب الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر برقم 626. (¬3) صحيح البخاري باب من تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع برقم 1161، وفيه ((فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة))، وسنن أبي داود كتاب الصلاة رقم 1262. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 92 برقم 24653، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 282. (¬5) صحيح البخاري كتاب الجمعة برقم 1051، صحيح الإمام مسلم كتاب الكسوف رقم 905، 906، 910. (¬6) صحيح البخاري كتاب الاعتكاف رقم 2033.

القيام بواجب النبوة في الببت

وقد صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع سنة 11هـ، فلما قدمت مكة حاضت فلم تطف بالبيت، فشكت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة، فلما قضت مناسك الحج، أرسلها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع شقيقها عبد الرحمن إلى التنعيم فأحرمت من هناك للعمرة واعتمرت، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((هذه مكان عمرتك)) (¬1). القيام بواجب النبوة في الببت: هذا هو المبحث الأخير في باب العلاقات الزوجية، وما مر معنا من القصص والوقائع التي تدل على غاية الحب والمودة، ربما يخطر منها على بال البليد القليل الفطنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغفل عن واجب النبوة في بيته، وحسبنا في الرد على ذلك قول عائشة (ض): كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة (¬2). ولما رجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك فاتحا استقبلته عائشة (ض) وعلقت درنوكا فيه تماثيل فأمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تنزعه فنزعته (¬3). وذات ليلة كان - صلى الله عليه وسلم - عند عائشة إذ خرج فجأة فانطلقت عائشة (ض) في إثره حتى جاء البقيع، فرفع يديه ثلاث مرات فأطال ثم انصرف، فانصرفت عائشة (ض)، تقول: فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت وسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت، فدخل فقال: مالك يا عائشة حشيا رابية؟ قالت: لا، قال: لتخبرينني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قلت: ¬

_ (¬1) يراجع تفصيل القصة في صحيح البخاري كتاب الحج بالأرقام التالية: 1556، 1638، 1650، 1786، وفي صحيح الإمام مسلم كتاب الحج برقم 1211. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأدب باب كيف يكون الرجل في أهله برقم 6039، وكذلك في كتاب النفقات برقم 5363 وكتاب الأذان برقم 676، والإمام الترمذي في سننه كتاب صفة القيامة والرقائق برقم 2468. (¬3) يراجع: صحيح البخاري كتاب اللباس بأرقام 5954، 5956، والإمام الترمذي نحوه في سننه كتاب مفة القيامة والرقائق برقم 2486، والنسائي في سننه كتاب الزينة برقم 5352.

يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فأخبرته الخبر (¬1). وذات مرة استأذن رهط من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله (¬2)، وفي رواية لمسلم: ((يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه)) (¬3). هذا وبالرغم من أن الإسلام قد أباح الحرير والذهب للنساء، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تعجبه مظاهر التنعم والعيش الهنيء والتزين الفاخر، فيكره أن يرى مثل هذا التنعم في بيته، تقول عائشة: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى عليها مسكتي ذهب فقال: ألا أخبرك بما هو أحسن من هذا، لو نزعت هذا، وجعلت مسكتين من ورق ثم صفرتهما بزعفران، كانتا حسنتين)) (¬4). وتقول (ض): نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن خمس: لبس الحرير والذهب (¬5) والشرب في آنية الذهب والفضة، والميثرة الحمراء، ولبس القسي، فقالت له: يا رسول الله شيء رقيق من الذهب يربط به المسك أو يربط به، قال: ((لا، ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الجنائز برقم 974، والإمام النسائي في سننه كتاب الجنائز باب الأمر بالاستغفار للمؤمنين برقم 2037 والإمام الترمذي في سننه كتاب الصوم برقم 739، وابن ماجه في سننه كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها برقم 1389. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب السلام برقم 2165، والبخاري في صحيحه كتاب الأدب برقم 6024 - 06025 والترمذي في سننه كتاب الاستئذان برقم 2701. (¬3) صحيح الإمام مسلم كتاب البر والصلة برقم 2593. (¬4) أخرجه الإمام النسائي في سننه كتاب الزينة برقم 5143، وفي السنن الكبرى 5/ 436 برقم 9444، كما ذكره أبو المحاسن يوسف بن عيسى الحنفي في معتصر المختصر 213/ 2. (¬5) لقد أباح الإسلام الذهب والحرير للنساء، ويدل عليه أحاديث صحيحة وصريحة، ولعل هذا المنع كان خاصا بأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، أو أن المقصود بالمنع هو الإفراط والغلو في استعمالهما، والله اعلم. قلت: أو أن النهي للكراهة لا للتحريم (الناشر).

اجعليه فضة وصفريه بشيء من زعفران)) (¬1). كان النبي - صلى الله عليه وسلم - دائما يعلم أهله الخلق الحسن ويربيهم على الصفات الفاضلة والأخلاق الطيبة النبيلة، وقد سبق أن ذكرنا بعض الأمثلة على ذلك، وها هي أم المؤمنين عائشة (ض) تحكي لنا قصة شاة أكلت رغيفها، فماذا كان تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، تقول: إنه كانت ليلتي معه، فطحنت شيئا من شعير فجعلت له قرصا، فدخل فرد الباب، وكان إذا أراد أن ينام أغلق الباب وأوكأ القربة وأكفأ القدح وأطفأ المصباح، فانتظرته أن ينصرف فأطعمه القرص، فلم ينصرف حتى غلبني النوم، وأوجعه البرد فأتاني فأقامني ثم قال: أدفئيتي أدفئيتي، فقلت له: إني حائض، فقال: وأن اكشفي عن فخذيك، فكشفت له عن فخذي، فوضع خذه ورأسه على فخذي حتى دفئ، فأقبلت شاة لجارتنا داجنة، فدخلت ثم عمدت إلى القرص فأخذته، ثم أدبرت به، قالت: وقلقت عنه واستيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبادرتها إلى الباب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خذي ما أدركت من قرصك ولا تؤذي جارك في شاته)) (¬2). وكان العرب قد تعودوا على أكل الضب، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكرهه، فأهدي إليه لحمه ذات مرة فلم يأكله فقالت عائشة (ض): ألا نطعمه المساكين؟ قال: لا تطعموهم مما لا تأكلون (¬3). ... ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 228/ 6 رقم 25953. (¬2) أخرجه الإمام البخاري في الأدب المفرد 54/ 1 رقم 120 وقال: ضعيف الإسناد. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 143 برقم 25153 و123/ 6 برقم 24961، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 113/ 3 باب فيمن تصدق بما يكره، والبيهقي في السنن الكبرى 325/ 9 برقم 19208، والطبراني في المعجم الأوسط 213/ 5 رقم 5116.

الفصل الثالث معاملتها مع الضرائر والأقارب

الفصل الثالث معاملتها مع الضرائر والأقارب لا يوجد شيء في حياة امرأة أشد مرارة وأنكى جرحا من وجود ضرة لها، وكانت عائشة (ض) لها ثماني ضرائر، ولكن حياتهن كلها كانت صافية نظيفة، لم يعكر صفوها شيء من الحقد أو الشحناء، وذلك لما أكرمهن الله تعالى بنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ورفع من مكانتهن وأعظم من شأنهن. وكان جملة من تزوج بهن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أم المؤمنين خديجة الكبرى (ض) عشر نساء، وقد كان زواجه - صلى الله عليه وسلم - بهؤلاء النسوة في مناسبات مختلفة، ولعدد من الأسباب والمصالح. ومن ضمنها كانت أم المساكين زينب بنت خزيمة (ض)، التي تشرفت بالزواج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في سنة 3هـ، وعاشت شهرين أو ثلاثة أشهر فقط، أما التسع البواقي فقد قدر لهن العيش إلى ما بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والجدول الآتي يوضح سنوات زواج أمهات المؤمنين بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبهذا تتبين لنا الفترة التي عايشت فيها عائشة (ض) صويحباتها وضرائرها. أسماء أمهات المؤمنين ............................... سنة زواجهن 1 - سودة بنت زمعة ................................ السنة العاشرة من البعثة. 2 - حفصة بنت عمر الفاروق ....................... السنة الثالثة من الهجرة. 3 - أم سلمة ....................................... السنة الرابعة من الهجرة. 4 - جويرية (من أثرياء قبيلة بني المصطلق) .......... السنة الخامسة من الهجرة. 5 - زينب بنت جحش القرشية ...................... السنة الخامسة من الهجرة. 6 - أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان ................... السنة السادسة من الهجرة. 7 - ميمونة ......................................... السنة السابعة من الهجرة. 8 - صفية .......................................... السنة السابعة من الهجرة. 1 - أم المؤمنين خديجة (ض) هذا وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رزق حب أم

المؤمنين خديجة (ض)، وكان لها مكانة رفيعة في قلبه - صلى الله عليه وسلم -، وكان دائما يذكرها بالخير عند عائشة (ض) - رغم أنها انتقلت إلى رحمة الله تعالى قبل زواجه - صلى الله عليه وسلم - بعائشة (ض) - فكانت تغار عليها غيرة لم تنطو على مثلها لشريكاتها اللواتي يعشن معها، لأنها شغلت قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاتها، فلم يزل يذكرها ويحب لحبها من كان يزورها أو يراها، وكان شديد الكلف بها والتطلع إليها، تقول عائشة (ض): ((ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، هلكت قبل أن يتوزجني، لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن)) (¬1). وكل ما سجلته لنا كتب الأحاديث من مآثر وخدمات أم المؤمنين خديجة (ض) الدينية والدعوية؛ من مواساتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومساعدتها له ومؤازرتها إياه، كل ذلك مروي عن طريق عائشة (ض). 2 - سودة (ض): وقد تزوج الرسول - صلى الله عليه وسلم - عائشة وسودة في الوقت نفسه تقريبا، بفارق يسير من التقديم والتأخير، إلا أن دخوله بعائشة (ض) قد تأخر إلى ما بعد الهجرة، حيث إنها بقيت في بيت أمها بمكة لمدة ثلاث سنوات ونصف سنة تقريبا، وفي هذه الفترة (فترة تأخير بنائه بعائشة) كانت سودة (ض) هي الزوجة الوحيدة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فلما بنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعائشة (ض) في سنة 1هـ كانت سودة (ضرتها) موجودة، وكان من المتوقع أن تكون هذه الفترة فترة المنافسة بينهما، ونيل الحقوق دون مشاركة غيرها، إلا أن الواقع يثبت عكس ذلك كليا، فكل ما حدث في هذه الفترة يدل على وحدتهما ومودتهما وإخلاصهما ووفائهما، بل كانت سودة (ض) صديقة لعائشة ورفيقتها في الأمور المنزلية (¬2)، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب بأرقام 3816، 3817، 3818، وكتاب النكاح برقم 5229، ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2435، والترمذي في سننه كتاب البر والصلة برقم 2017، وكتاب المناقب برقم 3875، وابن ماجه في سننه كتاب النكاح برقم 1997. [هلكت: ماتت]. (¬2) انظر: صحيح البخاري كتاب الطلاق رقم 5268 قصة العسل، وفيها: قالت عائشة: فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقولي: أكلت مغافير ... الحديث.

ولما كبرت سودة (ض) وأسنت فرقت أن يفارقها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وضنت بمكانها منه، وعرفت من حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة فوهبت يومها لها، فقبل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها (¬1). كانت عائشة (ض) تمدح سودة كثيرا وتقول: ما رأيت امرأة أحب إلي أن أكون في سلاخها من سودة بنت زمعة من امرأة فيها حدة (¬2). 3 - حفصة (ض): وأم المؤمنين حفصة (ض) دخلت في كنف الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السنة الثالثة من الهجرة، وعاشتا معا في ظل حبيبهما المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حوالي ثماني سنوات، فإحداهما كانت فلذة كبد أبي بكر الصديق (ض)، والأخرى كانت قرة عين عمر الفاروق (ض)، كانت حياتهما نموذجا حيا صادقا للتوادد والتلاطف والتحابب، يكون لهما رأي (¬3) واحد في الأمور المنزلية، وكانتا أصدق صديقتين تتفقان وتتكاشفان كلما وقع الخصام في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتؤيد إحداهما الأخرى في كل الأمور بإزاء غيرهما من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك كله فبسبب نطاق الحب ودائرة العشق لا تكاد تتحمل فيه الواحدة الأخرى ولا ترضى بقسمة هذا الجوهر الغالي في غيرها، لما فيها من المنافسة والغيرة على أترابها كما قال الشاعر: ¬

_ (¬1) انظر: صحيح البخاري كتاب النكاح برقم 5212، وصحيح الإمام مسلم كتاب الرضاع برقم 1463 ومستدرك الحاكم 203/ 2 برقم 2760، وسنن سعيد بن منصور 1401/ 4 برقم 702، وسنن البيهقي الكبرى 74/ 7 برقم 13212 و297/ 7 برقم 14513 (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الرضاع برقم 1463، وابن حبان في صحيحه 12/ 10 برقم 4211، والبيهقي في السنن الكبرى 74/ 7 برقم 13211، والنسائي في السنن الكبرى 5/ 301 برقم 8934، وإسحاق بن راهويه في مسنده 207/ 2 برقم 712. (¬3) يتبين اتحادهما في الرأي واتخاذهما موقفا واحدا في كل القضايا بما ورد في الأحاديث الصحيحة في قصة الهدايا وحادث التحريم والإيلاء، تقول عائشة في قصة العسل: فتواصيت أنا وحفصة (صحيح البخاري كتاب الطلاق برقم 5267)، وفي سنن الترمذي عن صفية بنت حيي قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بلغني عن عائشة وحفصة كلام ... الحديث، (كتاب المناقب برقم 3892، وكذلك سنن النسائي كتاب عشرة النساء برقم 3958 و3959).

((باسايه ترانمي بسندم)) ((حتى ظلك فإني أغار عليه)) وما كانت تتوقف هذه المنافسة بينهما حتى في السفر، وإلى هذا يشير حديث عائشة الآتي: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لعائشة وحفصة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث، فقالت حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك، تنظرين وأنظر؟ فقالت: بلى، فركبت، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلم عليها، ثم سار حتى نزلوا، وافتقدته عائشة، فلما نزلوا جعلت رجلها بين الإذخر وتقول: يا رب سلط علي عقربا أو حية تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئا)) (¬1). 4 - أما أم سلمة (ض): فكانت هي التي امتازت بصفات عالية من العقل وقوة الإدراك وملكة في الفهم وبعد في النظر بين أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد عائشة (ض)، ومشورتها التاريخية التي أشارت بها على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية بخصوص (¬2) نحر الهدي لتستحق أن تسجل بأحرف من الذهب، ¬

_ (¬1) انظر صحيح البخاري كتاب النكاح حديث رقم 5211، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة رقم 2445. (¬2) وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من كتابة المعاهدة أمر أصحابه بالنحر والحلق، قال ذلك ثلاث مرات، فلم يقم منهم أحد، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أم سلمة (ض) وهو شديد الغضب، فقالت: ما لك يا رسول الله؟ مرارا وهو لا يجيبها، ثم ذكر لها ما لقي من الناس وقال لها: ((هلك المسلمون، أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا، وفي لفظ قال: عجبا يا أم سلمة، ألا ترين إلى الناس آمرهم بالأمر فلا يفعلونه، قلت لهم انحروا واحلقوا ... ثم أشارت عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج ولا يكلم أحدا منهم، وينحر بدنه ويحلق رأسه، ففعل، فلما رأى الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نحر وتحلق، تواثبوا ينحرون ويحلقون)). انظر تفاصيل الروايات والأحاديث الواردة في الموضوع: صحيح ابن حبان 11/ 225 برقم 4872، سنن البيهقي الكبرى 5/ 215 برقم 9856، مصنف ابن أبي شيبة 7/ 383 برقم 36840، مصنف عبد الرزاق 5/ 340، مسند الإمام أحمد 4/ 325، المعجم الكبير للطبراني 20/ 14 برقم 13.

وتبقى تذكارا رائعا في تاريخ النساء. ودرجتها في فهم المسائل، ومكانتها في استنباط الأحكام الفقهية بعد عائشة (ض) (¬1)، ولذلك نراها قد احتلت مرتبة رفيعة لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - رغم كبر سنها، ولم يعكر صفاء علاقتها مع عائشة طوال هذه الفترة إلا حادث واحد بسيط فقط، وهو ما حكته لنا عائشة (ض) تقول: اجتمع صواحبي إلى أم مسلمة، فقلن: يا أم سلمة والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيثما كان، أو حيثما دار، قالت: فذكرت ذلك أم مسلمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - قالت (أم مسلمة): فأعرض عني، فلما عاد إلي ذكرت له ذلك، فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له، فقال: ((يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها)) (¬2). 5 - وأما جويرية (ض): فلم تذكر لنا كتب الأحاديث والسير أي خلاف بينها وبين عائشة (ض)، سوى أن عائشة قد انبهرت بجمالها لما رأتها لأول وهلة، ولنسمع وصفها بلسان عائشة تقول: وكانت امرأة حلوة لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فبينا النبي - صلى الله عليه وسلم - عندي إذ دخلت عليه جويرية تسأله في كتابتها، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهت دخولها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعرفت أنه سيرى منها مثل الذي رأيت .... الحديث (¬3). فخافت عائشة على نفسها علها تسبب نقصان مرتبتها، والتقليل من مكانتها وأهميتها، وسرعان ما زاحت هذه الفكرة وزالت هذه الوسوسة، وثبت أن ذلك كان خطأ، إذ لم تكن أسباب مكانتها العالية، وعظم مرتبتها وسمو درجتها ورفعتها ذاك الجمال الظاهري أو الحسن الرائع الذي يبهر العقول ويجلب النفوس. ¬

_ (¬1) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 92 - 86. (¬2) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3775، سنن الترمذي كتاب المناقب برقم 3879، سنن النسائي كتاب عشرة النساء برقم 3950. (¬3) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد ترجمة جويرية 8/ 117 - 161، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك 28/ 4 برقم 6781.

6 - أم المؤمنين زينب بنت جحش (ض): كانت بنت عمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أبية، أنوفة، فيها شيء من الحدة من أجلها فارقها زوجها الأول، كانت (ض) أقرب النساء قرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك فإنها كانت تعتبر نفسها أحق وأجدر بالاحترام، والاهتمام من غيرها من الأزواج. تقول عائشة (ض) وهي تصفها: ((وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1) وقد أرسلها بعض الأزواج إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلتني يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، قالت (عائشة): ثم وقعت بي، فاستطالت علي، وأنا أرقب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأرقب طرفه، هل يأذن لي فيها، قلت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكره أن أنتصر، قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها حتى أنحيت عليها، قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنها ابنة أبي بكر (¬2). ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في العشر الأواخر من رمضان يضرب له الخباء، فيدخله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت عائشة أيضا يضرب لها الخباء في فناء المسجد، وذات مرة ضرب لها الخباء، فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباء فأذنت لها، فضربت خباء، فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباء آخر، فلما أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى الأخبية، فقال: ما هذا؟ فأخبر، فقال: آلبر تردن؟ فترك الاعتكاف ذلك الشهر، ثم اعتكف عشرا من شوال وفي رواية مسلم ((فأمر بخبائه فقوض، وترك الاعتكاف في شهر رمضان ....)) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات برقم 2661، وكتاب المغازي 4141، ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2442. (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه باب فضل عائشة برقم 2441، والبيهقي في السنن الكبرى 299/ 7 برقم 14526، والنسائي في السنن الكبرى 5/ 281 برقم 8892، وأحمد في مسنده 88/ 6 برقم 24619. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الاعتكاف برقم 2041، ومسلم في صحيحه كتاب الاعتكاف برقم 1173، وأبو داود في سننه كتاب الصوم برقم 2464، والنسائي في سننه كتاب المساجد برقم 709، وابن ماجه في سننه كتاب الصيام برقم 1771.

وذات ليلة جاءت زيب إلى بيت عائشة - ولم يكن يومئذ مصباح في البيوت - إذ دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فمد يده إليها، فقالت عائشة (ض): هذه زينب، فكف النبي - صلى الله عليه وسلم - يده فتقاولتا، حتى استخبتا وأقيمت الصلاة، فمر أبو بكر على ذلك فسمع أصواتهما فقال: اخرج يا رسول الله إلى الصلاة، واحث في أفواههن التراب، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت عائشة: الآن يقضي النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته فيجيء أبو بكر فيفعل بي ويفعل، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته أتاها أبو بكر فقال لها قولا شديدا، وقال: أتصنعين هذا (¬1)؟. ولا يظنن ظان من هذه القصص أن قلوبهن لم تكن صافية تجاه ضرائرهن وصواحبهن، فكانت العلاقات بينهن على أحسن ما تتسنى العلاقات بين أناس تجمعهم معيشة واحدة، فعائشة وزميلاتها كن يغرن ويتنافسن لا محالة كما تغار النساء في كل مكان، ولكنهن لم ينسين قط أنهن نساء نبي يتأدبن بأدبه، ويتطلعن إلى رضاه، وكل ما روي لنا من غيرة زوجات النبي إن ذكرنا أنهن نساء من طينة الأنوثة الخالدة، فلن ينسينا أنهن نساء نبي يتأدبن بأدبه ولا يجاوزن بالغيرة ما يجمل بهن في كنفه ورعايته، وإن تسع أخوات شقيفات من أب واحد وأم واحدة ليقع بينهن من شحناء الغيرة إذا اجتمعن في بيت أسرتهن أضعاف ما روي لنا من غيرة زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - في عشرتهن الطويلة. ومما لا مراء فيه أن شرف الصحبة يجعل الإنسان يحتل مكانة عالية مرموقة ودرجة سامية، ولكنه لا يغير من طبيعته وجبلته شيئا، كذلك حال المرأة فإنها بطبيعتها وفطرتها لا ترضى بأن تشاركها واحدة أخرى في حبها، ولا تقبل فيه أية قسمة، لكن حال زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - تختلف عن عامة النساء، فكن يحمن حول حمى المصباح الوحيد - وهو مصباح حب النبي - صلى الله عليه وسلم - - بينما قلوب جميعهن كانت تستضيء من سراج واحد، وتستنير من مصباح واحد، ورغم ذلك كله كن نموذجا رائعا ومثالا نادرا للملاطفة والمداراة والتحابب فيما بين الضرائر، سوى ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الرضاع برقم 1462. [الاستخاب: ارتفاع الأصوات].

ما روي عنهن في بعض الأحوال الاستثنائية والمواضع العاطفية. وهذه زينب بنت جحش (ض) لما بنى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - هنأتها عائشة (ض) وباركتها (¬1). ولما حاولت بعض القلوب المنافقة الحاقدة اتهام عائشة (ض) في حادث الإفك شاركتهم حمنة بنت جحش - شقيقة زينب - في هذه المؤامرة، إلا أن زينب (ض) لم تزل قدماها عن طريق الصواب قيد شبر لأية لحظة، وظلت على موقفها ثابتة، ولما سألها الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أمر عائشة (ض): يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ فاستعاذت بالله وقالت: ((أحمي سمعي وبصري؛ والله ما علمت إلا خيرا))، وقد كان بوسعها أن تقول في هذه المناسة ما تقوله الضرة المحنقة، وتسقط قرينتها وتخسرها بكلمة واحدة، لكن شرف صحبة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جعلها أعلى وأرفع بكثير من هذه الدنايا، فلم ينبس فمها بكلمة باطل، ولذلك نرى عائشة (ض) كانت تذكرها بكلمات من الشكر والامتنان، وتقول: ((فعصمها الله بالورع)) (¬2). ومرة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فاعتل بعير لصفية، وفي إبل زينب فضل من الإبل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزينب: ((إن بعير صفية قد اعتل فلو أنك أعطيتها بعيرا؟ قالت: أنا أعطي تلك اليهودية، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتركها شهرين أو ثلاثا حتى رفعت سريرها، وطنت أنه لا يرضى عنها، قالت: فإذا أنا بظله يوما بنصف النهار، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعادت سريرها)) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في صحيحه عن أنس (ض) قصة بناء النبي - صلى الله عليه وسلم - بزيب وفيها: ... فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدث أهلك بارك الله لك ... الحديث (كتاب تفسير القرآن برقم 4793). (¬2) يراجع: صحيح البخاري كتاب الشهادات برقم 2661، صحيح الإمام مسلم كتاب التوبة برقم 2770. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه مختصرا باب ترك السلام على أهل الأهواء برقم 4602، وأحمد في مسنده 131/ 6 برقم 25046 و261/ 6 برقم 26293، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 323/ 4، والطبراني في المعجم الأوسط 99/ 3 رقم 2609، وفي الكبير =

مما لا شك فيه أن ذكر محاسن الأموات ومآثرهم يمنح حياتهم الخلقية الدوام والسرمدية وعائشة (ض) كانت خير مثال لذكر محاسن ضرائرها وقريناتها، تقول (ض): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه: أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا، قالت: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا، فعرفنا حينئذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد بطول اليد الصدقة، وكانت زينب امرأة صناعة اليد، فكانت تدبغ وتخرز وتتصدق في سبيل الله. (¬1). وقد سبق أن ذكرنا ما حدث ذات مرة بين عائشة وزينب (ض) ووصل الأمر إلى غاية الضيق والكره والاستياء، وها هي عائشة (ض) تحكي لنا تلك القصة المرة بأسلوب حلو غني بالحب والإخلاص، لا يشوبه شيء من الحقد أو الكره أو الاشمئزاز، فهي تسرد القصة وتمدحها، تقول (ض): ((فأرسل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من ¬

_ = 24/ 71 برقم 188، قلت: ذكر المؤلف أن زينب بنت جحش لما وجد عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - (لمخاطبتها صفية باليهودية) طلبت من عائشة التدخل في الموضوع وإرضاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ففعلت عائشة ذلك، وعزاه إلى مسند الإمام أحمد 6/ 95، لكن تبين بمراجعة مسند الإمام أحمد وغيره من كتب المسانيد والسنن أن التي طلبت من عائشة التدخل في الموضوع هي صفية لما وجد عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمر ما، وليست زينب. وها هو نص رواية أحمد: عن عائشة (ض) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد على صفية بنت حيي فى شيء، فقالت: يا عائشة أرضي عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولك يومي، فقالت: نعم، فأخذت خمارا لها مصبوغا بزعفران فرشته بالماء ليفوح ريحه، فقعدت إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليك يا عائشة، إنه ليس يومك، قالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واخبرته بالأمر، فرضي عنها (منسد الإمام أحمد 6/ 95 برقم 24684، السنن الكبرى للنسائي 5/ 300 برقم 8923). (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة مختصرا برقم 2452، وابن حبان في صحيحه 108/ 8 برقم 3314، والحاكم في المستدرك 26/ 4 برقم 6776، والطبراني في الأوسط 233/ 1 برقم 6276.

زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى، ما عدا سورة من حد كانت فيها، تسرع منها الفيئة ...)) (¬1) الحديث. 7 - أما أم المؤمنين أم حبيبة (ض)، فلم تسجل لنا كتب الأحاديث عنها شيئا في تعاملها مع عائشة (ض) بالموافقة أو بالمخالفة، إلا أن كتب أسماء الرجال تنص على أنها استدعت عائشة (ض) عند وفاتها فقالت: قد كان ويكون بيننا وبين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت (القائلة هي عائشة): غفر الله لك ذلك كله، وتجاوز، وحللك من ذلك، فقالت (أم حبيبة): سررتني سرك الله (¬2). 8 - وكذلك أم المؤمنين ميمونة (ض) لم تذكر لنا كتب الأحاديث شيئا من تعاملها مع عائشة (ض)، وقد ثبت في كتب الرجال أنها لما ماتت قالت عنها عائشة (ض): أما إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم (¬3). 9 - أما صفية بنت حيي (ض) فقد نالت شرف صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحظيت بالبقاء في كنفه لمدة ثلاث سنوات فقط، وكانت مختلفة عن بقية أمهات المؤمنين، لأنها كانت من خيبر ومن أسرة يهودية، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خيبر، فلما دنوا من المدينة دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعثرت الناقة العضباء وندر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام فسترها، وقد أشرفت النساء فقلن: أبعد الله اليهودية (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه باب في فضل عائشة برقم 2442، والبيهقي في السنن الكبرى 299/ 7 رقم 14526، والنسائي في السنن الكبرى 5/ 281 رقم 8892، والطبراني في الأوسط 88/ 9 رقم 9211. (¬2) أحال المؤلف إلى طبقات ابن سعد 8/ 100 فقط، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك 24/ 4 رقم 6773، كما ذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء 223/ 2، وابن حجر في الإصابة 653/ 7. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 34 رقم 6799، وابن سعد في الطبقات 138/ 8، والحارث في مسنده 1/ 13 برقم 455، وأبو نعيم في حلية الأولياء 97/ 4، والذهبي في السير 244/ 2 وابن حجر في الإصابة 128/ 8. (¬4) صحيح الإمام مسلم باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها رقم 1365، والبخاري في صحيحه كتاب النكاح، برقم 5085، 5159.

فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر ومعه صفية أنزلها في بيت من بيوت حارثة بن النعمان، فسمع بها نساء الأنصار وبجمالها فجئن ينظرن إليها، وجاءت عائشة متنقبة حتى دخلت، فعرفها، فلما خرجت خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إثرها، فقال: كيف رأيتها يا عائشة؟ قالت: رأيت يهودية، قال: لا تقولي هذا يا عائشة، فإنها قد أسلمت وحسن إسلامها (¬1). وقد عرفت أم المؤمنين صفية (ض) بجودة الطهي فنفست عليها السيدة عائشة هذه الإجادة، ولم تكتم غيرتها عليها، بل هي التي روتها، ومن حديثها عنها عرفناها، قالت: ما رأيت صانعة طعام مثل صفية، أهدت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إناء فيه طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كفارته فقال: ((إناء كإناء وطعام كطعام)) (¬2). وفي رواية البخاري: فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام، وقال: كلوا، وحبس الرسول القصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة وحبس المكسورة (¬3). كانت صفية (ض) قصيرة القامة، فذات مرة قالت عائشة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حسبك من صفية كذا وكذا - تعني قصيرة - فقال - صلى الله عليه وسلم - ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته، قالت: وحكيت له إنسانا، فقال: ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا)) (¬4). والدليل على أن هذه المشاعر تجاه الضرة كانت ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 126/ 8، وسير أعلام النبلاء للذهبي 227/ 2. (¬2) أخرجه النسائي في سننه برقم 3957، وفي السنن الكبرى 5/ 286 برقم 8905، وأحمد في مسنده 148/ 6 برقم 25196، هذا وقد اختلفت ألفاظ الرواية من كتاب إلى كتاب، وتتبين صورة القصة بأكملها عند جمع سائر الروايات. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المظالم برقم 2481، والترمذي في سننه كتاب الأحكام برقم 1359، والنسائي في سننه كتاب عشرة النساء برقم 3955، وأبو داود كتاب البيع برقم 3567، وقد استنبط الفقهاء من هذا الحديث أصلا عظيما من أصول الفقه الإسلامي ألا وهو كيفية أداء الضمان. (¬4) أخرجه الإمام أبو داود في سننه باب الغيبة برقم 4875، والترمذي كتاب صفة القيامة برقم 2502، والمنذري في الترغيب والترهيب 3/ 327 برقم 4286.

تنبيه على بعض الروايات الضعيفة

مؤقتة زائلة أن صفية (ض) كانت من حزب عائشة (ض) ومؤيدة لها في كل الأمور. هذا وقد تبين لنا في ضوء ما قدمنا مدى اهتمام عائشة (ض) بصواحبها وضرائرها واحترامها إياهن وتوقيرهن، والنظر إليهن بنظرة العزة والإكرام والتعامل معهن بأقصى درجات اللطف والإخلاص والعدل، كما عرفنا كيف كانت تستقبلهن برحابة الصدر وسعة القلب، وتذكرهن بالخير، وتثني عليهن وعلى محاسنهن، وتسرع إلى التوبة والرجوع إلى الله إذا صدر منها خطأ نظرا إلى الطبيعة البشرية، ولم يكن من عادتها أنها هي التي تبدأ الهجوم على ضرائرها في أمر ما، نعم إذا بادرت واحدة بالهجوم عليها فإنها كذلك لا تلزم الصمت، ومع ذلك كله فإنها تثني على كل واحدة وتمدحهن. تنبيه على بعض الروايات الضعيفة: كل منا يعلم أن الإخلاص والحب والوفاء بين الضرائر أصبح من الأشياء العزيزة النادرة والقليلة الوجود في مجتمعنا اليوم، إلا أن شأن أمهات المؤمنين في هذا الأمر كان مختلفا عن غيرهن من نساء العالم، فقد كن على أعلى مستوى وأرفع مكانة في الخصائص والمميزات مما كان توقعه منهن العالم البشري، وقد حققن تلك الأحلام التي رأتها دنيا النساء تجاههن، ولم يخيبن آمالهن في شيء والحمد لله على ذلك. فكن يغرن ويتنافسن لا محالة كما تغار النساء في كل مكان، ولكنهن لم ينسين قط أنهن نساء نبي، يتأدبن بأدبه، ويتطلعن إلى رضاه، ويفزعن من غضبه. أما ما يوجد من بعض الصور المشوهة غير اللائقة بهن، فإنها في واقع الأمر إما من صنع المنافقين ونسيجهم ومكرهم، أو أنها محاولات من بعض الفرق والطوائف التي تجهل مصيرها، وتغفل عن عواقبها، مثل المرأة التي كانت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحرش بين الأزواج المطهرات، وتعترف بخطئها هذا، فسألها الناس كيف كن يثقن بقولك؟ فقالت: لو لم يكن موثوقا بها

عندهن ما قبلن منها (¬1). ورغم أن معظم الأحاديث والروايات التاريخية التي سبق أن ذكرناها هي مستقاة من كتب الصحاح، إلا أنه يوجد فيها بعض من نقاط الضعف، أو تشويه للصورة الأصلية، ولو قمنا بعملية الفحص والتحقيق والدراسة سيتضح لنا ذلك بكل وضوح وفي صورة مشرقة. 1 - مثلا عندنا قصة كسر القصعة، فهذه القصة موجودة في سائر كتب الأحاديث تقريبا، إلا أن البخاري ومسلم لم ينصا على أن التي كسرت القصعة هي عائشة (ض)، بينما الأحاديث الواردة في السنن والمسانيد تنص على أنها كانت عائشة، مثل سنن أبي داود، سنن النسائي ومسند الإمام أحمد بن حنبل وغيرها، والغريب في الأمر أنهم يروون ذلك عن عائشة نفسها، وأول راوية لهذا السند هي جسرة بنت دجاجة، وهي وإن وثقها العجلي (¬2) وابن حبان (¬3) لكن يقول عنها البخاري: عند جسرة عجائب (¬4)، وزعم ابن حزم أن حديثها باطل (¬5). والراوي الثاني هو أفلت العامري، وهو وإن وثقه بعض المحدثين إلا أن معظمهم على تضعيفه. قال الإمام أحمد: ما أرى به بأسا (¬6) (وهذا دليل الضعف)، ونقل الخطابي عن أحمد قوله: إن أفلت راو مجهول، وقال البغوي في شرح السنة: ¬

_ (¬1) انظر: الإصابة 8/ 180 ولسان الميزان 1/ 453. (¬2) انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني 435/ 12 رقم الترجمة 2749. (¬3) انظر: كتاب الثقات لابن حبان البستي 121/ 4 رقم الترجمة 2097، وانظر كذلك تهذيب التهذيب 12/ 435 رقم الترجمة 2749. (¬4) انظر: التاريخ الكبير للإمام البخاري 67/ 2 رقم الترجمة 1710، وتهذيب التهذيب 435/ 12 رقم الترجمة 2749. (¬5) نفس المصدر. (¬6) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 346/ 2 رقم الترجمة 1316، وانظر: ميزان الاعتدال في نقد الرجال 125/ 2 رقم الترجمة 1483.

ضعف أحمد هذا الحديث، لأنه من رواية أفلت، وهو مجهول (¬1)، وقال ابن حزم: مشهور ولا معروف بالثقة، وحديثه هذا باطل (¬2). 2 - وأما ما حدث بين عائشة وزينب (ض) من التقاول والتشدد في الكلام في الليل، فإن هذه الرواية مع أنها أخرجها الإمام مسلم في صحيحه، لكن تبين لنا بعد إمعان النظر والتأمل فيها ما يلي: 1 - الراوي الأول لهذا الحديث هو الصحابي الجليل أنس بن مالك، الذي توقف عن التردد على حجرات أمهات المؤمنين من عام 5هـ، وهذه الحادثة وقعت بعد السنة الخاسة من الهجرة. 2 - إن هذه الواقعة وقعت داخل حجرة عائشة (ض) حيث لم يكن أنس (ض) موجودا في الحجرة، وبالتالي فاحتمال وقوع الانقطاع بين أنس والراوي الذي قبله وارد. 3 - لو سلم أن أنسا (ض) كان في المسجد النبوي الشريف، وكانت أصوات امهات المؤمنين تقرع أذنيه، فكيف أمكته مشاهدة ما يجري في داخل الحجرة، من مد النبي - صلى الله عليه وسلم - يده وما إلى ذلك، مع أن البيوت يومئذ لم يكن فيها مصباح، والأغرب من ذلك كله أنه كيف اطلع على ما في خاطر عائشة (ض)، أنها خافت من أبيها، وأنه سوف يزجرها، ونظرا إلى هذه الأسباب فإن هذه الرواية فيها شيء من قبيل عدم الأخذ بالحيطة والتحري (¬3). ¬

_ (¬1) تهذيب التهذيب 1/ 320 رقم الترجمة 668. (¬2) نفس المصدر. (¬3) إذا قلنا إن أنسا .......... (ض) لم يأخذ بالحيطة والتحري في هذه الرواية فإن هذا القول سوف يؤدي إلى إثارة الشبهة والشك في كثير من تلك الروايات التي يرويها بعض الصحابة مرسلا مع أن مراسيل الصحابة مقبولة إجماعا، وأنس (ض) كان من أولئك الحفظة النقلة لسنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذين اختارهم الله سبحانه ليكونوا أساتذة الإسلام، والأمناء عليه بعده، بل كان (ض) من كبار حفاظهم، فلم يسبقه في رواية السنة سوى اثنين منهم وهما أبو هريرة وعبد الله بن عمر (ض)، ووراء كثرة روايته للسنة عاملان: أولهما: ملازمته للنبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء خدمته له مدة عشر سنوات مما ساعده أن يتلقى الكثير من السنة عنه - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، وثانيهما: امتداد عمره (ض) بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، الذي أعطاه =

3 - وفي سنن الترمذي عن صفية بنت حيي (ض) قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بلغني عن حفصة وعائشة كلام، فذكرت ذلك له، فقال: ((ألا قلت: فكيف تكونان خيرا مني؟ وزوجي محمد وأبي هارون وعمي موسى، وكان الذي بلغها أنهم قالوا: نحن أكرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، وقالوا: نحن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وبنات عمه)) (¬1) قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث صفية إلا من حديث هاشم الكوفي، وليس إسناده بذلك القوي. هذه الرواية تناقلتها كل كتب السير ولكنها لم تذكر تعليق الإمام الترمذي على الرواة، وفيما يأتي نذكر أقوال المحدثين في هاشم الكوفي الذي عليه مدار الإسناد: قال الإمام أحمد: لا أعرفه (¬2)، وقال ابن معين: ليس بشيء (¬3)، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث (¬4)، وقال ابن عدي: مقدار ما يرويه لا يتابع عليه (¬5)، ومع ذلك كله فإن رواية أنس (ض) ليس فيها ذكر عائشة. 4 - وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل عن علي بن زيد عن أم محمد امرأة أبيه عن عائشة قالت: كانت عندنا أم سلمة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم جنح الليل، قالت: فذكرت شيئا صنعه بيده، قالت: وجعل لا يفطن لأم سلمة، قالت: وجعلت أومئ إليه حتى فطن، قالت أم سلمة: أهكذا الآن، أما كانت ¬

_ = فسحة زمنية كبيرة لتعليم السنة وتحفيظها للناس، فقد عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - نيفا وثمانين سنة، وبالعكس فقد امتاز (ض) بحيطته الكبيرة في رواية السنة حذر الخطأ، وكان هو القائل لأصحابه: لولا أن أخشى أن أخطئ لحدثتكم بأشياء سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكنه قال: من كذب علي متعمدا فليتبوا مقعده من النار، كما أنه كان يختم حديثه بقوله أو كما قال، يراجع لمزيد من التفصيل: كتاب ((أنس بن مالك الخادم الأمين والمحب العظيم)) للأساذ عبد الحميد طهماز، ط: دار القلم دمشق. (¬1) أخرجه الترمذي في سننه باب فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم 3894، والحاكم في المستدرك 31/ 4 برقم 6790، والطبراني في الأوسط 236/ 8 برقم 8503 وفي الكبير 24/ 75 برقم 196. (¬2) (¬3) (¬4) (¬5) تهذيب التهذيب 17/ 11 ترجمة رقم 37.

واحدة منا عندك إلا في خلابة كما أرى، وسبت عائشة وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهاها، فتأبى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - سبيها، فسبتها حتى غلبتها، فانطلقت أم سلمة على علي وفاطمة، فقالت: إن عائشة سبتها وقالت لكم وقالت لكم .... الحديث (¬1). والراوي الثاني لهذا الحديث هو علي بن زيد، يقول فيه ابن سعد: ولد وهو أعمى، وكان كثير الحديث وفيه ضعف ولا يحتج به، وقال صالح بن أحمد عن أبيه: ليس بالقوي، وقد روى عنه الناس، وقال أحمد: ليس شيء، وقال حنبل عن أحمد: ضعيف الحديث، وقال يحيىى: ضعيف، وفي رواية: ضعيف في كل شيء، وقال الجوزجاني: واهي الحديث، ضعيف، وفيه ميل عن القصد، لا يحتج بحديثه، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم، وقال أبو زرعة: ليس بالقوي، وقال البخاري: لا يحتج به، وقال سليمان بن حرب عن حماد بن زيد: حدثنا علي بن زيد وكان يقلب الأحاديث، وفي رواية: كان يحدثنا اليوم بالحديث ثم يحدثنا غدا، فكأنه ليس كذلك (¬2). هذا وكتب السير غنية بعدد كبير من هذه الوقائع، ومعظمها مستقاة من رواية الواقدي والكلبي، وفيما يأتي نذكر مثالا واحدا للتوضيح: 5 - روى أصحاب الصحاح قصة زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من ابنة رئيس قبيلة، فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل، ومعها دايتها حاضنة لها، فلما دخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((هبي نفسك لي، قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟ قال: فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: قد عذت بمعاذ، ثم خرج علينا فقال: يا أبا أسيد اكها رازقيتين وألحقها بأهله)) (¬3). ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد بن حنبل 6/ 130 برقم.2503. (¬2) انظر هذه الأقوال كلها في تهذيب التهذيب 284/ 7 رقم الترجمة 545. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الطلاق برقم 5257، وابن الجارود في المنتقى 190/ 1 برقم 758 ط: مؤسسة الكتب الثقافية ببيروت 1408هـ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 339/ 4 باب في متعة الطلاق، وأحمد في مسنده 5/ 339 رقم 22920.

كانت هذه رواية صحيح البخاري، أما رواية ابن سعد ففيها زيادات، وقد رواها بسنده من طريق هشام بن محمد ... قال: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسماء بنت النعمان الجونية فجئت بها، فقالت حفصة لعائشة أو عائشة لحفصة: اخضبيها أنت وأنا أمشطها، ففعلن، ثم قالت لها إحداهما: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ بالله منك، فلما دخلت عليه وأغلق الباب وأرخى الستر مد يده إليها فقالت: أعوذ بالله منك ... الحديث (¬1). وهشام بن محمد هذا (راوي الحديث) هو الكلبي نفسه، والذي قال فيه العلماء: متروك، غير ثقة، رافضي، يقول الإمام أحمد: إنما كان صاحب سمر ونسب ما ظننت أن أحدا يحدث عنه، وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقال ابن عساكر: رافضي ليس بثقة (¬2). ورواية البخاري ثتبت أن هذه المرأة (التي قالت أعوذ بالله منك) لم تكن تعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - وها هو نص الحديث: عن سهل بن سعد (ض) قال: ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة من العرب. فأمر أبا أسيد الساعدي أن يرسل إليها، فأرسل إليها، فقدمت فنزلت في أجم بني ساعدة، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءها فدخل عليها، فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: أعوذ بالله منك، فقال: قد أعذتك مني، فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ قالت: لا، قالوا: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ليخطبك، قالت: كنت أنا أشقى من ذلك ... الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 146/ 8. (¬2) انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 89/ 7 رقم الترجمة 9245، ولسان الميزان لابن حجر العسقلاني 196/ 6 رقم الترجمة 700. (¬3) صحيح البخاري كتاب الأشربة برقم 5637، وصحيح الإمام مسلم كتاب الأشربة برقم 2007.

علاقتها الوطيدة بالسيدة فاطمة (ض)

وهذه السيدة عائشة (ض) تروي لنا قصة هذه المرأة (¬1) ولا تقول إنها هي التي علمتها أن تقول ما قالت، مع أن حريتها في البيان والاعتراف بالخطأ إذا صدر منها أمر معروف ومشهور. علاقتها الوطيدة بالسيدة فاطمة (ض): كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع بنات كلهن من خديجة أم المؤمنين (ض) وهن: السيدة زينب، رقية، أم كلثوم، وفاطمة الزهراء رضي الله عنهن، وكلهن قد كن تزوجن وانتقلن إلى بيوت أزواجهن قبل بناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعائشة (ض)، إلا فاطمة الزهراء (ض)، أما السيدة رقية (ض) فقد وافتها المنية قبل سنة من بناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعائشة، وأما السيدة زيب وأم كلثوم (ض) فقد عاشتا حوالي سبعة أو ثمانية أعوام مع زوجة أبيهما عائشة (ض)، ثم استأثرت بهما رحمة الله تعالى في السنة الثامنة والتاسة من الهجرة على التوالي، ولم يحدث بينهن خلال هذه الفترة شيء يعكر صفو علاقتهن، وهذه السيدة زينب (ض) أكبر بنات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد استشهدت في سبيل الله، تروي لنا عنها عائشة (ض) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((هي أفضل بناتي أصيبت في)) (¬2) وكانت لها بنت تسمى أمامة، يحبها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن حبه لها أنه كان يصلي وهو حاملها، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها (¬3). وذات مرة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الطلاق، برقم 5257، و5254. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 219 برقم 2812، و4/ 46، و4/ 47، كما ذكره أبو المحاسن يوسف بن موسى في معتصر المختصر 2/ 246، وأحمد بن عمرو الشيباني في الآحاد والنسائي 5/ 372 رقم 2975، كما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري 7/ 109 نقلا عن الطحاوي، والبخاري في التاريخ الصغير 1/ 7 مبحث حديث زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة رقم 516، ومسلم في صحيحه كتاب المساجد ومواضع الصلاة رقم 543، وأبو داود في سننه كتاب الصلاة رقم 917، والإمام مالك في الموطأ كتاب النداء للصلاة برقم 412، والدارمي في سننه كتاب الصلاة رقم 1359.

أهديت للرسول - صلى الله عليه وسلم - هدية فيها قلادة من جزع فقال: ((لأدفعنها إلى أحب أهلي إلي)). فقالت النساء: ذهبت بها ابنة أبي قحافة، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أمامة بنت زينب فعلقها قي عنقها)) (¬1). أما السيدة فاطمة الزهراء (ض) فإنها كانت بكرا عندما بنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعائشة (ض)، لكنها كانت أكبر سنا منها بحوالي خمس أو ست سنوات، وقد عاشت مع عائشة (ض) سنة أو أقل، لأنها تزوجت في وسط السنة الخامسة للهجرة، وكانت عائشة من اللاتي قمن بتجهيزها للعرس، وإعداد أغراض البيت وترتيب أمور الزواج، تقول (ض): أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نجهز فاطمة حتى ندخلها على علي، فعمدنا إلى البيت، ففرشنا ترابا لينا من أعراض البطحاء، ثم حشونا مرفقتين ليفا فنفشناه بأيدينا، ثم أطعمنا تمرا وزبيبا، وسقينا ماء عذبا، وعمدنا إلى عود فعرضناه في جانب البيت ليلقى عليه الثوب ويعلق عليه السقاء، فما رأينا عرسا أحسن من عرس فاطمة (¬2) والبيت الذي نزلت فيه فاطمة (ض) بعد الزواج كان يفصله جدار من حجرة عائشة (ض)، وكان بينهما مشربة تتكلمان منها. هذا ولم تسجل لنا كتب الأحاديث واقعة صحيحة تدل على أن واحدة منهما تحمل شيئا من الكراهية أو البغض في قلبها تجاه الأخرى، بل أجمع أصحاب السير وكتب الأحاديث على أن الصلة بين عائشة (ض) وبين فاطمة كانت على أكمل ما ترضاه السجية الإنسانية في كل صلة من قبيلها، وكانتا شريكتين في قلب واحد تتنافسان عليه ولكنها شركة بين ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 101 برقم 24748، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد مفصلا باب مناقب أمامة 9/ 254، والطبراني في المعجم الكبير 442/ 22 برقم 1080. (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه كتاب النكاح برقم 1911.

كريمتين، وها هي فاطمة (ض) تأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى وقد بلغها أنه جاءه رقيق فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة ... الحديث (¬1). ومن أثر هذه المنافسة أن أمهات المؤمنين أوفدن السيدة فاطمة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - ينشدن العدل في ابنة أبي قحافة، لكن لنرى كيف كان موقفها من ذلك، تقول: فكلمته فقال: يا بنية ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى، فرجعت إليهن فأخبرتهن فقلن: ارجعي إليه، فأبت أن ترجع (¬2). وهذه عائشة (ض) تثتي على فاطمة (ض) قائلة: ما رأيت أحدا أحسن من فاطمة غير أباها - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ويقول جميع بن عمير التيمي: دخلت مع عمتي على عائشة فسئلت: أي الناس كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: فاطمة (¬4). تقول عائشة (ض): ((ما رأيت أحدا أشبه سمتا ودلا وهديا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: وكانت إذا دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها)) (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النفقات برقم 5361، ومسلم في صحيحه كتاب الذكر والدعاء برقم 2727، وأبو داود في سننه كتاب الخراج برقم 2988. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الهبة برقم 2581، ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2442، والنسائي في سننه كتاب عشرة النساء برقم 3944. (¬3) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط عن عائشة (ض) قالت: ما رأيت أفضل من أبيها ... الحديث 137/ 3 برقم 2721. (¬4) أخرجه الإمام أبو عبد الله الحاكم في المستدرك 3/ 171 برقم 4744، والترمذي سننه باب فضل فاطمة (ض) برقم 3874، والطبراني في المعجم الكبير 403/ 22 برقم 1008. (¬5) أخرجه الترمذي في سننه باب مناقب فاطمة (ض) برقم 3872، وابن حبان في صحيحه 15/ 403 برقم 6953، نحوه، وكذلك الحاكم في المستدرك 174/ 3 برقم 4753 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأبو داود في سننه باب ما جاء في القيام برقم 5217.

كما أن عائشة هي التي روت حديث فضل أهل البيت الذي يعتبر من أعظم مناقب فاطمة (ض). والحديث الآتي يبين لنا مدى علاقتها الوطيدة مع فاطمة (ض)، وثنائها عليها في الوقت نفسه، تول: كن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده لم يغادر منهن واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا، فلما رآها رحب بها فقال: مرحبا بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارها فبكت بكاء شديدا فلما رأى جزعها سارها الثانية، فضحكت، فقلت لها: خصك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين، فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألتها ما قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: ((ما كنت أفشي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سره، قالت: فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أما الآن فنعم، أما حين سارني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين، وإنه عارضه الآن مرتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك، قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما راى جزعي سارني الثانية فقال: يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة، قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيت)) (¬1). هذا الحديث خير دليل على حسن علاقتهما الوطيدة، وكما نعلم أن هذا الحادث جرى في آخر عمر فاطمة (ض)، فاتضح من ذلك أن قضايا الميراث وفدك لم تؤثر شيئا على علاقتهما الطيبة، ولم تدفع إلى حدوث أي توتر في الصلة التي تجمعهما بكل صدق وإخلاص، كما أنه لم يعهد منهما شيء من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب برقم 3624، ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2450 واللفظ له، والترمذي في سننه كتاب المناقب برقم 3872، وابن ماجه في سننه كتاب ما جاء في الجنائز برقم 1621.

تنبيه على بعض الروايات الواهية والضعيفة

المضايقات حتى في الشؤون المنزلية والداخلية يعكر صفو علاقتهما القلبية والروحية. تنبيه على بعض الروايات الواهية والضعيفة: أورد الإمام أحمد بن حنبل في مسنده رواية عن طريق الراوي نفسه الذي روى حديث تشاجر عائشة مع أم سلمة في بيت عائشة (ض) بشيء من الزيادة ونصها: فانطلقت أم سلمة إلى علي وفاطمة فقالت: إن عائشة سبتها، وقالت لكم وقالت لكم، فقال علي لفاطمة: اذهبي إليه فقولي إن عائشة قالت لنا وقالت لنا، فأتته فذكرت ذلك له فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنها حبة أبيك ورب الكعبة، فرجعت إلى علي فذكرت له الذي قال لها، فقال: أما كفاك إلا أن قالت لنا عائشة وقالت لنا حتى أتتك فاطمة فقلت لها: إنها حبة أبيك ورب الكعبة (¬1). فظاهر هذا الحديث فيه منقبة لعائشة (ض) والثناء عليها، ولكن يبدو بعد إمعان النظر وتدقيقه أن الراوي قام بتقديم صورة مشوهة مستكرهة لأخلاق أمهات المؤمنين، ومصدر هذه البلية هو علي بن زيد التيمي الذي ضعفه العلماء، وهو رافضي (¬2). وأخرج يحيى في مسنده عن عمر بن علي بن عمر بن علي بن الحسين قال: كان بيت فاطمة في موضع الزوار مخرج النبي (ض)، وكانت فيه كوة إلى بيت عائشة (ض)، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى المخرج اطلع من الكوة إلى فاطمة فعلم خبرهم وأن فاطمة قالت لعلي: إن ابني أمسيا عليلين فلو نظرت لنا أدما نستصبح به، فخرج علي إلى السوق فاشترى لهم أدما وجاء به إلى فاطمة فاستصبحت، فدخلت عائشة المخرج في جوف الليل فأبصرت المصجاح عندهم، وذكر كلاما وقع بينهما فلما ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد بن حبل 7/ 130 برقم 25030. (¬2) تهذيب التهذيب 83/ 7 - 284 رقم الترجمة 545.

أصبحوا سألت فاطمة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسد الكوة، فسدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وعبد الحميد وعيسى بن عبد الله ضعيفان ومن أهل التشيع، ورغم أن علماء الحديث لا يعتبرون التشيع من أسباب الضعف، إلا أن شهادتهم لا تقبل في عائشة (ض). ... ¬

_ (¬1) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 466/ 1، تأليف نور الدين علي السمهودي المتوفى عام 911هـ، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد: ط: دار إحياء التراث العربي بيروت- لبنان.

الفصل الرابع حديث الإفك ومشروعية التيمم

الفصل الرابع حديث الإفك ومشروعية التيمم إن المصائب والمحن التي واجهها المسلمون بعد هجرتهم إلى المدينة المنورة كانت متباينة تماما مما أصابهم في مكة المكرمة، وقد نشأ في المدينة رهط من المنافقين، كان شغلهم الشاغل التآمر ضد المسلمين ونسج خيوط المكر والدهاء للإيقاع في المسلمين. ولا شك أن العرض والناموس هو رأس مال الإنسان وأغلى متاع عنده، والهجوم على أعراض الناس والطعن فيها والنيل من نواميسهم لا يجترئ على ذلك إلا العدو اللئيم الحقير الخسيس، وكما أن المدينة المنورة كانت مأوى ومستقرا للمؤمنين الصادقين المتفانين في سبيل الله، أصحاب الإخلاص والوفاء، أولي الهمم العالية والتضحيات الجليلة العظيمة، كذلك نشأت هناك طائفة من الأعداء الخائنين الخاتلين الذين كانوا يكتمون النفاق في قلوبهم، وكان جل اهتمامهم الغدر والخيانة بالمسلمين والتآمر ضدهم بسائر الطرق المتاحة لديهم، وكان سلاحهم الأقوى والأكبر هو بث الإشاعات الكاذبة ونشر الأخبار المزورة التي تنال من حرمات المسلمين وأعراضهم، وتهتك حرماتهم، كما أنها تهيئ الأسباب والدوافع لإشعال الحروب الأهلية، وتوفر مناخا مناسبا وجوا ملائما لها. ولو لم يكن توفيق الله سبحانه وتعلى حليفا للمسلمين، والعناية الإلهية حافة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لتكللت جهودهم السيئة هذه بالنجاح، وأثاروا الفتن في المجتمع الإسلامي، ليس عن طريق التفريق بين الصحابة وتشتيت شملهم فحسب، بل بإيجاب أسباب ودوافع للتقاتل والتحارب وإسالة الدماء. هذا ومن أسوأ وأقبح الأمثلة لهذه الجهود التي قامت بها القلوب الحاقدة ضد المسلمين حادثة الإفك، ولما كان سيدنا أبو بكر الصديق (ض)

أولا - حديث الإفك

وسيدنا عمر الفاروق (ض) من أكبر أعداء هذه القلوب الحاقدة المنافقة، صرفت هذه الطائفة الماكرة قسطا كبيرا من مساعيها وجهودها الفاشلة إلى توجيه الطعن إلى حرم النبوة أمهات المؤمنين السيدة عائشة وحفصة (ض). أولا - حديث الإفك: كانت غزوة المريسيع في شعبان سنة خمس فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - على بئر لبني المصطلق يقال له ((المريسيع)) قريبا من نجد، فقاتلوا المشركين، وقد خرج معهم جماعة من المنافقين لم يخرجوا قط في غزاة قبلها، لأنهم ظنوا أنه لا يحدث شيء، ولا تنشب معركة دامية، يقول ابن سعد: ((وخرج معهم بشر كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قط مثلها)) (¬1). وقبل الخروج أقرع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أزواجه حسب عادته فأيهن خرج سهمها خرج بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، تقول عائشة (ض): ((فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكانت عائشة قد استعارت عقدا من أختها أسماء، وكان في عنقها وكانت سموطه تسقط وتتقطع، فانقطع هذا العقد، وهي يومئذ في الرابعة عشرة من عمرها، فقلقت عليه كما هي عادة البنات في مثل هذا العمر وهي تحسب وتعتبر الحلية المتواضعة البسيطة من أغلى الأشياء عندها، وتستعد لتحمل أي مشقة في سبيل الحصول عليها. تقول (ض): ((فأقبل الذين يرحلون لي، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، وإنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج، فاحتملوه، وكتت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وسارو)). ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 63/ 2 غزوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المريسيع. قلت الأصح سنة ست، انظر: الحاشية رقم (3) ص (90).

هذا وخلال رحلة العودة إلى المدينة المنورة قام المنافقون بإيقاد نار من الاضطرابات، وإحداث الغوغاء بين المهاجرين والأنصار، وكادوا أن يشهروا السلاح ويتقاتلوا فيما بينهم. وكان المنافقون يحثون الأنصار على أن لا ينفقوا على المهاجرين والإسلام والمسلمين، ويتخلوا عن مؤازرتهم ويتركوا مساعدتهم، فقال عبد الله بن أبي رئيس المنافقين: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]. ولما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الغوغاء بين المهاجرين والأنصار خرج فقال: ((ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بما حصل بين المهاجرين والأنصار فقال: دعوها فإنها منتنة، ثم أمر بالرحيل وخرج بالناس، فقدم عبد لله بن عبد الله بن أبي حتى وقف لأبيه على الطريق، فلما رآه أناخ به وقال: لا أفارقك حتى تزعم أنك الذليل ومحمد العزيز (¬1). تقول عائشة: ((لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته وقفل دنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمث حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه)) - وكانت على يقين تام أنها ستجد ضالتها قبل رحيل السفر ولذلك لم تخبر أحدا ولم تطلب منهم أن ينتظروها - قالت: ((وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني فاحتملوا ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 65، وأخرجه الترمذي في سننه تفسير سورة ((المنافقون)) برقم 3315، وكذلك البخاري في صحيحه. ورجحوا أن هذه الواقعة كانت في غزوة المريسيع بينما قال النسائي: إنها كانت في غزوة تبوك، (السنن الكبرى للنسائي تفسير سورة ((المنانقون)) 491/ 6 برقم 11597)، والأول هو الصحيح وعليه أجمع كل أصحاب السير والمغازي، وهو المفهوم من رواية البخاري ((وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين)) وفصل القول في ذلك الحافظ ابن حجر (ح) في فتح الباري فقال: قوله: ((كنا في غزاة قال سفيان مرة في جيش)) وسمى ابن إسحاق هذه الغزوة غزوة بني المصطلق، وكذا وقع عند الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن سفيان أن هذه الغزاة غزاة بني المصطلق وكذا في مرسل عروة (فتح الباري 649/ 8).

هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه ... ، قالت: ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول)) (¬1). هذه هي الصورة الحقيقية للواقعة، والتي تحدث في معظم الأحوال عندما يكون واحد في السفر، حتى في زمننا هذا الذي وصل فيه الرقي التكنولوجي إلى قمة التطور والنمو، وأبدعت شتى أنواع وسائل السفر والمواصلة والتنقل. ثم ما حدث لعائشة (ض) وما قام به أصحاب القلوب الحاقدة ذوات الشحناء والبغضاء نحو هذه المحصنة الغافلة التقية الزكية، ليس ذلك الوحيد من نوعه، وإنما هذا إعادة لما حدث من قبل لمريم البتول (س) في بني إسرائيل، ولـ ((سيتا)) المرأة الطاهرة في الديانة الهندوسية. فوجد الخبيث عدو الله عبد الله بن أبي متنفسا، فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه، فجعل يحيك الإفك ويوشيه، ويشيعه ويذيعه، ويجمعه ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه. ولما سمع المسلمون الصادقون وسادات الصحابة قالوا: هذا بهتان عظيم، وهذا أبو أيوب (ض) قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب أكنت يا أم أيوب فاعلة؟ قالت: لا والله ما كنت ¬

_ (¬1) صحيح البخاري حديث الإفك برقم 4141.

لأفعله، قال: فعائشة خير منك (¬1). وقد شارك عبد الله بن أبي ابن سلول في هذه المؤامرة ثلاثة آخرون وهم حسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، ومسطح بن أثاثة (ض)،، مع أن حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش لم يكونا مع المسلمين في هذه الغزوة، ولم يشاهدا الحادث بأم أعينهم، إلا أن حسان (معاذ الله) كان فرحا شامتا بصفوان وفضيحته، وكان قلقا على ما حصل للمهاجرين من عزة وسعادة في المدينة أكثر من أهلها، وقد قال شعرا يعرض بصفوان فيه: ((أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا … وابن الفريعة أمسى بيضة البلد)) (¬2) أما حمنة شقيقة أم المؤمنين زينب بنت جحش (ض) فقد أرادت أن تضار عائشة (ض) بهذه الطريقة لكي تعظم من شأن أختها وعزتها عند الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وأما مسطح فأمره غريب، وكل واحد يستغرب ذلك، كيف قام بذلك مع أن أبا بكر (ض) هو الذي كان يتكفله وينفق عليه لقرابته منه وفقره. وليس أشد على نفس الفتاة خاصة ولا أوجع لضميرها من مطعن يهدم سمعتها، ويعصف بهناءتها، ويفقدها الرجل الذي تحبه، والمكانة التي تبوأتها، وأشد ما يكون ذلك على البريئة العزيزة التي يهولها الأمر على قدر ظلمها فيه وعلى قدر نكبتها بما تفقده من العزة والسمعة، لم تكن عاشة (ض) مطلعة على هذا الخبر المفجع المؤلم، ولم تشعر بالشر إذ خرجت مع أم مسطح قبل المناصع، تقول (ض): ((فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا .... فانطلقت أنا وأم مسطح، إذ عثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح، قالت: قلت: بئس - لعمر الله - ما قلت لرجل ¬

_ (¬1) السيرة النبوية لابن هشام 268/ 4، وانظر تاريخ الطبري 2/ 114. (¬2) انظر: تاريخ الطبري 2/ 115، السيرة النبوية لابن هشام 270/ 4، البداية والنهاية 4/ 163 وبقية الشعر: قد ثكلت أمه من كنت صاحبه … أو كان منشبا في برثن الأسد ما لقتيلي الذي أغدو فآخذه … من دية فيه يعطاها ولا قود

من المهاجرين قد شهد بدرا، قالت: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: وما الخبر؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك، قالت: قلت: أو قد كان هذا؟ قالت: نعم والله فقد كان، قالت: فوالله أني ما قدرت على أن أقضي حاجتي، ورجعت)) (¬1) قالت: فلما تيقنت بالخبر جئت إلى بيت أمي، فقلت لأمي: يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به وبلغك ما بلغك، ولا تذكرين لي من ذلك شيئا، قالت: أي بنية خففي الشأن، ثم جاءت أنصارية فحكت لي كل القصة، حتى لم يبق هناك أي مجال للشك، فلما سمعت خررت مغشيا علي، ودخلت في بيتي، ووعكت وعكا شديدا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدخل علي ولكن لا أعرف منه اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف، فذلك يريبني، فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندي أبواي وقد بكيت ليلتين ويوما حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، وتقول أمي: يا بني هوني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها (¬2). وذات مرة أرادت أن تلقي نفسها في البئر نظرا إلى الغيرة الشديدة. فلما سمع صفوان بالشعر الذي هجاه فيه حسان حلف بالله وقال: سبحان الله ما كشفت ثوبا عن أنثى (¬3)، واعترضه بالسيف وضربه ثم قال: ((تلق ذباب السيف عني فإنني … غلام إذا هوجيت لست بشاعر)) فلما ضربه صفوان بسيفه جيء به إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فدعا حسان وصفوان بن المعطل، فقال ابن المعطل: يا رسول الله إنه آذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان: أحسن يا حسان ¬

_ (¬1) السيرة النبوية لابن هشام 464/ 4. (¬2) صحيح البخاري قصة الإفك برقم 4141. (¬3) مسند إسحاق بن راهويه 2/ 605 وفي تفسير الطبري: ما كشفت كنف أنثى قط 94/ 18.

أتشوهت على قومي أن هداهم الله للإسلام، ثم قال: أحسن يا حسان في الذي أصابك، قال: هي لك يا رسول الله، قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن إبراهيم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاه عوضا منها بيرحاء، وهي قصر بني جديلة اليوم بالمدينة، وكانت مالا لأبي طلحة بن سهل تصدق بها على آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسان في ضربته (¬1). ومما لا شك فيه أن أم المؤمنين كانت مبرأة من كل الاتهامات براءة كاملة، إلا أن الحاجة كانت داعية إلى التحقيق والتمحيص لتسكيت ألسنة الناس والمتحدثين بالأقاويل، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا وأسامة (ض) يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة (ض) فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود، فقال: أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي (ض) فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة، فقال: أي بريرة هل رأيت شيئا يريبك؟ (وبريرة لم تستوعب سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الواقع كان أصلا مستبعدا ومستحيلا وظنت أنهم يستفسرونها عن الأمور المنزلية) فردت: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله، ثم سألها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ صريحة فقالت: أحمي سمعي وبصري، والله لعائشة أطيب من طيب الذهب (¬2). وزادت بعض الروايات: أن عليا (ض) ضرب الجارية وهو يقول: أصدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزعم بعض الناس نظرا إلى ضربه الجارية أن عائشة (ض) تأذت بفعل علي هذا، وقد كان ذلك من ضمن الاتهامات التي اتهم بها بنو أمية عليا (ض)، ولكن فندها الإمام الزهري (ح) في حينها. أما من الضرائر فكانت زينب بنت جحش (ض) هي التي تسامي ¬

_ (¬1) السيرة النبوية لابن هشام 272/ 2 والبداية والنهاية 163/ 4. (¬2) انظر: تفسير الطبري 18/ 95، مسند إسحاق بن راهويه 2/ 559، شعب الإيمان للبيهقي 5/ 385، الكفاية في علم الرواية 98/ 1.

عائشة (ض) من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، (وقد شاركت أختها حمنة المتآمرين في هذه القضية) فسألها الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أمر عائشة فقال: يا زينب ما علمت ما رأيت؟ فقالت: ((يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرا)). ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه - وكانت العداوة بين الأوس والخزرج مستمرة من زمن بعيد، فلما أشرق فجر الإسلام قضى على هذه الفتنة، ولكن رماد هذه النار لم يخمد كليا، فكلما هبت ريح ولو خفيفة توقد هذه النار وتشتعل أشعتها وتحيط بهاتين القبيلتين - فلما سمع ذلك سعد بن عبادة (رئيس الخزرج) ساءه ذلك، ورأى أن ما قاله سعد بن معاذ هو تدخل منه في غير قبيلته من غير حق. فقام وقال: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فنزل فخفضهم حتى سكتوا وسكت)). ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة (ض)، وهي كانت مضطجعة على فراش المرض وأبواها جالسان عندها، لا يرقأ لها دمع، إذ جلس عندها ثم قال: يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب، تاب الله عليه، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته، تقول (ض): قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، وقلت لأبي: أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال: فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت عائشة: وأنا

أهداف المنافقين من وراء حادث الإفك

جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، فقلت: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس، ووقر في قلوبكم وصدقتم به ولئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقنني، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] (¬1). أهداف المنافقين من وراء حادث الإفك: هذا وكان المنافقون قد استهدفوا من وراء هذه الفتنة العظيمة ما يأتي: 1 - إهانة وتشويه سمعة أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيت الصديق والنيل من أعراضهما، والطعن في حرماتهما. 2 - التفريق والتشتيت في الأسرة النبوية الكريمة. 3 - تمزيق شمل المسلمين وجمعهم، وإحداث خلل في قوتهم ووحدتهم وغرس بذور الفرقة في وحدة الأخوة الإسلامية. وظاهرا قد نجحوا في تخطيطهم هذا، وحققوا أهدافهم، وتحققت أحلامهم وآمالهم، إلا أن البيان الرباني كان بانتظارهم يترقبهم، وآن الأوان أن يتكلم ويزيح الستار عن الواقع ويكشف الغمة عن الحقيقة الأصلية، تقول عائشة (ض): فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات، فلما سري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: يا عائشة أحمدي الله فقد برأك الله فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) والتفاصيل موجودة في واقعة الإفك من كتب الصحاح.

عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 11 - 19] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 23 - 24]. فقالت لها أمها: قومي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت عائشة: ((والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله)). ثم نفذ الحد في أولئك الثلاثة الذين شاركوا في هذه المؤامرة، فجلدوا ثمانين جلدة (¬1). هذا وقد أنشد حسان بن ثابت (ض) شعرا يمدح فيه عائشة، ذكره ابن إسحاق في سيرته (¬2)، وروى البخاري عن مسروق قال: دخلنا على عائشة (ض) ¬

_ (¬1) حديث الإفك أخرجه بالتفصيل الإمام البخاري في صحيحه كتاب الشهادات برقم 2661 وكتاب المغازي برقم 4141 وكتاب تفسير القرآن برقم 4750، ومسلم في صحيحه كتاب التوبة برقم 2770، أما الإضافات والزيادات التي زيدت خلال الرواية وأثناء سرد القصة فهي مستقاة من كتب الأحاديث الأخرى، وكذلك كتب السيرة والتراجم والتاريخ، وقد اعتمدت في نقل هذه الواقعة على فتح الباري تفسير سورة النور، واتبعت أثر الحافظ ابن حجر العسقلاني في تطبيق الروايات، والاختلافات الموجودة فيها، وكذلك في ترتيب الوقائع وتصحيح المطالب. (¬2) وفيها: عقيلة حي من لؤي بن غالب … كرام المساعي مجدهم غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها … وطهرها من كل سوء وباطل فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم … فلا رفعت سوطي إلي أناملي وكيف وودي ما حييت ونصرتي … لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس كلهم … تقاصر عنه سورة المتطاول

موقف المستشرق ((وليم موير)) من حديث الإفك

وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرا يشبب بأبيات له وقال: حصان ززان ما تزن بريبة … وتصبح غرثى من لحوم الغوافل فقالت له عائشة: لكنك لست كذلك (¬1)، (تشير إلى أنه كان أحد الخائضين في حديث الإفك). موقف المستشرق ((وليم موير)) من حديث الإفك: هذا وقد وقع الكاتب المؤرخ المستشرق ((وليم موير)) فريسة أخطاء فادحة وفظيعة أدبية وتاريخية في حكايته لحديث الإفك. ولا يسعني في هذا الكتاب الموجز أن أستعرض جملة أخطائه التاريخية والأدبية، وسأكتفي بذكر مثال واحد لكل من الخطأ التاريخي والأدبي. يقول وليم موير: ((لما قفل المسلمون من بني المصطلق ووصلوا المدينة، حملوا معهم هودج عائشة (ض)، فوضعوه عند الباب قرب المسجد النبوي أمام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما فتحوه لم يجدوا فيه عائشة، وبعد وقت قليل ظهر صفوان بن المعظل (الصحابي المهاجر) فكانت عائشة جالسة على البعير وهو يقودها)). ثم يقول: ((لقد أسرع صفوان بن المعطل لكي يلحق بالجيش، لكنه لم يقدر عليه، فلما نزل الناس وضربوا الخيام جاءت عائشة ودخلت المدينة على مرأى من الناس، يقودها صفوان بن المعطل)). وكل من هذين التصريحين يخالف ما ورد في سائر كتب الأحاديث والسير، ولا شك أن غرض ((وليم موير)) من ذلك لهو بعينه غرض كل متشبث بحديث الإفك ليتخذ منه سبيلا إلى الطعن في الإسلام، وتشويه صورة الواقعة بشكل أسوأ وأفضح، لأنه قد ثبت باتفاق علماء السير والتاريخ أن صفوان قد أدرك الجيش في الظهيرة قبل الوصول إلى المدينة، فلا علاقة للموضوع بالمدينة المنورة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب المغازي رقم 4146، وصحيح الإمام مسلم كتاب فضائل الصحابة رقم 2488.

كان الناس يطعنون في حسان بن ثابت ويسبونه، لكن عائشة (ض) لم تسبه قط بلسانها فحسب بل إنها كانت تمنع الناس أن يسبوه. عن هشام عن أبيه قال: ذهبت أسب حسان عند عائشة فقالت: ((لا تسبه فإنه كان ينافح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). وهذه عائشة (ض) تبين لنا سبب الامتناع عن سب حسان بن ثابت (ض) كما في الحديث الآتي: عن مسروق قال: دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال: حصان رزان ما ترى بريبة … وتصبح غرثى من لحوم الغوافل قالت: لست كذاك، قال مسروق: فقلت لها: لم تأذنين له يدخل عليك وقد أنزل الله {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ...} فقالت: فأي عذاب أشد من العمى، وقالت: إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). إلا أن السير وليم موير يرى سببا آخر لمنع عاشة (ض) عن سب حسان فيقول: ((لقد أنشد حسان قصيدة رائعة مدح فيها عائشة وعفتها وحسنها وذكاءها وفطنتها وجمالها الجسمي، وأدى هذا المدح الغني بالتملق والمجاملة إلى إيجاد علاقة بينهما)). ويا ليت لو بين لي هذا المستشرق كلمة واحدة في قصيدة حسان التي تثني على حسن عائشة وروعتها وبهائها ورقة بدنها ووضاءتها، ولعله فاته أن حسان بن ثابت (ض) حينما أنشد هذه الأبيات عند عائشة (ض) كان أعمى، وكانت هي قد بلغت من عمرها أربعين عاما، فمن أين لها الجسم الرقيق في مثل هذا العمر، وقد سبق أن ذكرنا أنها قد سمنت وبدنت وعمرها خمسة عشر عاما (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3531 وكتاب المغازي برقم 4145 وكتاب الأدب 6150، صحيح الإمام مسلم كتاب فضائل الصحابة برقم 2487. (¬2) صحيح البخاري كتاب المغازي برقم 4146، وصحيح الإمام مسلم برقم 2488. (¬3) والدليل عليه ما أخرجه أبو داود عن عاشة (ض) أنها كانت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر =

وأغرب من ذلك كله مما يدعو إلى الاستعجاب والضحك قوله: ((كانت تلك القصيدة تتضمن الثناء على جسم عائشة الرقيق النحيف، وكانت تتأذى بالهجاء للجسم النحيف الرقيق، فلما بلغ حسان إلى الفقرة التي تشير إلى جسمها النحيف، أوقفته لبرهة من الزمن بالتدلل وذمته على سمنته)). وقد استعرضت سائر دفاتر التاريخ الإنساني واستطلعت كل السجلات والصحائف، وتصفحت الكتب، ومع كل هذا التتبع لم أجد لها هذه الأوصاف الخلقية والخلقية أبدا. وفي الأخير بدأت أبحث في الموضوع على منهج المستشرق وليم نفسه وطريقه التي سلكها فبدا لي أن التقصير لم يكن في الصورة، وإنما كان مترشحا وناتجا عن ذلك الذهن والنظر الذي يزعم أنه أعرف الأوروبيين باللغة العربية، وأبرعهم فيها وأقدرهم على تعيين فحواها ومرادها. وواقع الأمر أن سوء فهمه أتى من تفسيره للخبر فقد ورد أن البيت الثاني من القصيدة هو ((وتصبح غرثى من لحوم الغوافل)) فقالت له عائشة: ((ولكنك لست كذلك)). وأكل لحم الغير يطلق في اللغة العربية على الغيبة، وذكر أحد بما يكرهه، وكان غرض حسان من هذا الشعر أن عائشة (ض) لا تغتاب أحدا، ولا تطعن في أحد، فقالت له عائشة تعريضا: ولكنك لست كذلك، تعني: أنه يغتاب، وتشير بذلك إلى أن حسان كان أحد الخائضين في حديث الإفك، فلم تقصد أبدا أنها كانت نحيفة الجسم وهو متين وسمين (وحاشاها من ذلك) ولا شك أن مثل هذه الجهالة الجهلاء، وعدم الإلمام بمعاني وفحوى الكلمات، وتحميل اللفظ ما لا يحتمله هذا كله لا يوجد إلا في غرائب أوروبة وعجائبها. وفي النهاية نشكره على أنه قد استبعد حديث الإفك حيث قال بعد الإشارة إليه: ((إن سيرة عائشة قبل الحادث وبعده لتوجب علينا أن نعتقد

_ = قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة (باب السبق على الرجل برقم 2587).

ثانيا - مشروعية التيمم

براءتها من التهمة)) (1). ثانيا - مشروعية التيمم: خرجت عائشة (ض) مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إحدى أسفاره، وكان في عنقها نفس العقد الذي كان في غزوة بني المصطلق، فلما قفل المسلمون ووصلوا إلى ذات الحبيش انسل العقد من عنقها وذلك من السحر (¬2)، فحبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لالتماسه. تقول عائشة (ض) وهي تحكي لنا القصة بتمامها: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الحبيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالناس، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر الصديق، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمتوا (¬3). إن من خصائص الشريعة الإسلامية وميزات أحكامها أن الله سبحانه وتعالى قد أنزلها في أوقات مناسبة وحسب الحاجات الإنسانية والمصالح البشرية، فالوضوء كان فرضا للصلاة، لكن واجه المسلمون مشكلات في عشرات المواضع حيث لم يتوفر فيها الماء، وهذا المكان كان من تلك المواضع التي لم يجد فيها المسلمون الماء، فأنزل الله تعالى حكم التيمم نظرا لحاجتهم ¬

_ The Life of Mohammad (S.A.W) by, Sir Wiliam Meour. (1) (¬2) مسند الإمام أحمد 6/ 272 رقم 26384. (¬3) صحيح البخاري كتاب التيمم برقم 334 وكتاب المناقب برقم 367 وكتاب التفسير رقم 4607، وصحيح مسلم كتاب الحيض باب التيمم برقم 367.

الشديدة ورحمة بهم وشفقة عليهم لكي يقيموا أكبر شعائر الإسلام وأهم فرائضه ألا وهي الصلاة، ونزلت الآية الكريمة: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43] فلما نزلت هذه الآية سرعان ما تحول جو المعاتبة والغضب إلى جو من الفرح والسرور والبهجة والحبور، وبدأ المسلمون يرفعون أيديهم إلى فاطر السماوات والأرض داعين لأم المؤمنين عائشة (ض)، حيث أكرم المسلمون بهذه النعمة الإلهية العظمى من أجلها، وقام أسيد بن حضير ووجهه متهلل بمعالم الفرح يقول: ((ما هي أول بركتكم يا آل أبي بكر)) (¬1) وهذا أبو بكر الصديق (ض) الذي لقيت منه عائشة (ض) ما الله به عليم من التعنيف والتأنيب، بدأ يقول حين جاء من الله ما جاء من الرخصة للمسلمين: ((والله ما علمت يا بنية أنك لمباركة، ماذا جعل الله للمسلمين في حبسك إياهم من البركة واليسر)) (¬2) ثم وجدوا العقد الذي افتقدته عائشة (ض) وكان تحت البعير. ... ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب التيمم برقم 334، وصحيح مسلم كتاب التيمم برقم 367. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده 6/ 272 برقم 26384، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 208 برقم 947، وابن ماجه في سننه باب التيمم برقم 565.

الفصل الخامس وقائع التحريم والإيلاء والتخيير

الفصل الخامس وقائع التحريم والإيلاء والتخيير أولا - التحريم: سبق أن ذكرنا أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن حزبين، وكان الحزب الأول يضم عائشة وحفصة وسودة وصفية رضي الله عنهن، والحزب الآخر يضم زينب وبقية الأزواج المطهرات، وكان من عادته - صلى الله عليه وسلم - أن يزور سائر أزواجه ويقضي معهن شيئا من الوقت بعد صلاة العصر، ويعدل في الجلوس عندهن حتى لا يمكن أن ترجح كفة واحدة على الأخرى، إذا به يجلس عند أم المؤمنين زينب (ض) فوق العادة، وظلت بقية الأزواج ينتظرنه في أوقاتهن المحددة والمعتادة، فأرابهن ذلك، وسألت عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سبب التأخير، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن امرأة من قوم زينب أهدت لها عكة من العسل -وكان العسل من أحب الأشياء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وهي تسقيه منه كل يوم، فيتناوله ولا يرفض حتى لا ينكسر خاطرها، وهذا هو سبب التأخير، فتواطأت عائشة وحفصة وسودة أن يحتلن له، وقلن: أيتنا دخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - فلتقل له: ماذا شربت؟ وما هذه الريح التي أجد منك؟ - وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكره أن توجد منه الريح (¬1) - فإن قال: شربت عسلا، فلتقل: جرست نحله العرفط (شجر الطلح)، ولعله عسل المغافير - والمغافير شيء ينضحه شجر العرفط حلو كالناطف، وله ريح منكرة - وهكذا وقع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود له وقد حلفت (¬2). وهكذا بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره العسل وحلف أن لا يشربه. ¬

_ (¬1) انظر: مسند الإمام أحمد 249/ 6 برقم 26162. (¬2) صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن برقم 4912 وكتاب الأيمان والنذور برقم 66091.

ولو صدر ذلك الحلف من إنسان عادي لم تكن له أية أهمية، ولكنه صدر من الشارع العظيم الذي يكون كل قول مما نطق به لسانه سببا لتشريع الشرائع وتأصيل الأصول. ولذلك أنزل الله تعالى العتاب ونزلت آيات من سورة التحريم: {يا يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 1 - 2]. وأثناء هذه الفترة أسر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حفصة شيئا، فأخبرت عائشة بذلك، وذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 3 - 4]. إذن ما هو السر الذي طلب من حفصة أن تخفيه؟ وقد ورد في صحيح البخاري أن ذلك كان حادث تحريم العسل (¬1)، كما ورد في بعض الروايات الضعيفة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت له أمة تسمى مارية يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، وأكد على حفصة أن تحافظ على هذا السر ولا تفشيه عند أحد، فأخبرت بها عائشة فنزلت هذه الآية (¬2). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة (ض) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث عند زيب بنت جحش ويشرب عندها عسلا، فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - فلتقل إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له، فنزلت {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} لعائشة وحفصة {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} لقوله: بل شربت عسلا. (البخاري كتاب الطلاق برقم 5267، صحيح مسلم كتاب الطلاق برقم 1474، سنن النسائي كتاب الطلاق برقم 3421، كتاب الأيمان والنذور برقم 3795). (¬2) أشار به المؤلف إلى الرواية التي أخرجها البيهقي وغيره أن حفصة أم المؤمنين (ض) زارت أباها ذات يوم وكان يومها فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يرها في المنزل فأرسل إلى أمته مارية القبطية فأصاب منها في بيت حفصة، فجاءت حفصة على تلك الحالة =

ولكن هنا ينشأ السؤال أنه لما لم يكن قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحريم إرضاء عائشة وحدها كما هو منصوص في الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} فلا معنى لإخفاء هذا السر فقط عن عائشة. لأنه قد أمكن الحصول على رضاها بعدما اطلعت على هذه الواقعة، كما أن الآية الكريمة تدل على أن ما حرمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس له أي علاقة بالأمة، لأننا حنى لو سلمنا بصحة هذه الرواية، فإنها تدل على أن حفصة هي التي طلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك. بينما الآية تستوجب أن يكون ذلك رغبة مشتركة من ثلاثة من الأزواج على الأقل. وليس من واحدة فقط. ثم سر الاحتراز عن طعام أو أمة ليس بذاك الأهمية حتى يتطلب مؤازرة المسلمين في الأرض والملائكة في السماء، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لو لم يتناول العسل ولم تبق له علاقة ظاهرية مع الأمة لعرف الناس أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل كذا، مثل ما كان الأمر في الضب، حيث كان العرب كلهم يأكلونه، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعجبه ذلك، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد طلق بعض أزواجه أو فكر بذلك، ولكن لم يكن شيء من ذلك سرا مخفيا عن الناس، والذين لديهم إلمام بأساليب القرآن الكريم العامة ومناهجه في البيان والتوضيح، واطلاع على اللغة العربية وقواعدها، يعرفون حق المعرفة أن الكلمة التي تأتي بعد ((إذ)) تكون جملة مستأنفة وقصة جديدة، فالآية السابقة تناولت موضوع التحريم، ثم استأنفت موضوعا جديدا، وما هو هذا الموضوع؟ قد بينه القرآن الكريم في آية أخرى ألا وهو ((الظهار)) (¬1) وسوف نذكر تفاصيل موضوع الظهار لاحقا. ¬

_ = فقالت: يا رسول الله أتفعل هذا في بيتي وفي يومي، قال: فإنها علي حرام لا تخبري بذلك أحدا، فانطلقت حفصة إلى عائشة فأخذتها بذلك، فأنزل الله عز وجل في كتابه {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ....} الآية هذا الحديث مرسل، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 353 برقم 14854، وأخرجه موصولا أصحاب السنن عن أنس كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله عز وجل الآيات. انظر: سنن النسائي الكبرى 5/ 286 رقم 8907 و6/ 495 برقم 11607، والمقدسي في الأحاديث المختارة 5/ 69 برقم 1694. هذا وقد صرح كبار المحدثين أن هذه الرواية لم تثبت من طريق صحيح. (¬1) الظهار هو تشبيه المسلم زوجته أو تشبيه ما يعبر به عنها من أعضائها أو تشبيه جزء =

تفنيد بعض الشبهات

إن منافقي المدينة المنورة الذين سبق أن ذكرنا بعض نماذج من خبثهم ومكرهم وحقدهم على الإسلام والمسلمين لم تسنح لهم فرصة أغلى وأثمن لإبداء كراهيتهم والضغينة الدفينة في قلوبهم تجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الفرصة، ولا عجب أن غرسوا بذورا من المؤامرة الخطيرة، ولا نقول ذلك قياسا أو استنباطا، وإنما يدل عليه آيات من القرآن الكريم، والآية السابقة بما لها من الأهمية البالغة تشير إلى هذا الواقع، والآية بعدما بينت وأرشدت الناس إلى أن لا يكون حب الأهل والأولاد عائقا لهم دون الصراط المستقيم جاء قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9] ثم في الخطاب نفسه ساقت الآية قصة أزواج نوح ولوط (س) ووضحت أنهما لو لم يتبعا طريق الحق، وانحرفتا عن سواء السبيل فماذا أضرتا بالأنبياء، أو بدعوتهم؟ وهكذا أنتم ياأيها المنافقون ماذا بوسعكم أن تؤذوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تضروه بشيء بموجدة زوجاته المؤقتة عليه؟ كما يدل على صحة هذا القياس ما نزل من الآيات ضمن هذه القصة (¬1) وهي قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. تفنيد بعض الشبهات: لقد أخطأ بعض المفسرين فى تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4] إذ قالوا إن معنى قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} إن رجعتما إلى الله فهو واجب، لأن قلوبكما قد زاغت، وهذا المعنى لا يصح لثلاثة وجوه: ¬

_ = شائع منها بمحرم عليه تأبيدا بوصف لا يمكن زواله (الفقه على المذاهب الأربعة). (¬1) انظر قصة الإيلاء في صحيح البخاري كتاب الطلاق برقم 4913/ 5191، وصحيح مسلم كتاب الطلاق برقم 1479 وفيه قول عمر بعد ذكر الآية: ((فكنت أنا أستنبطت ذلك الأمر)).

1 - لأن هذه جملة شرطية حذف جزاؤها، والجزاء المحذوف في تقديري كلمة ((فلا بأس)) لا كما قدره المفسرون وهو ((فهو واجب)) والملمون بقواعد اللغة العربية يعرفون تمام المعرفة أنه إذا حذف الجزاء بعد ((إن)) الشرطية، وذكرت علة الجزاء بـ ((فقد)) فيكون الجزاء المقدر دائما هو كلمة ((لا بأس)) أو ((لا حرج)) أو ((لا ضير)) أو ((فهو هين)) وقد ورد في شعر العرب، وفي القرآن الكريم نفسه أمثلة كثيرة من ذلك (¬1). 2 - ولا يصح أن تترجم كلمة ((صغت)) بـ ((زاغت)) لأن عائشة (ض) وبقية أمهات المؤمنين حاشاهن أن تزيغ قلوبهن أو تضل. هذا ويوجد في اللغة الأردية مفهومان: 1 - الانحراف عن الشيء. 2 - الميلان إلى الشيء. أما في اللغة العربية فيعبر عن هذين المفهومين ثلاثة أنواع من الكلمات: الأول: الذي يدل على المعنى الأول مثل: انحرف، زاغ، حاد. الثاني: الذي يدل على المعنى الثاني مثلا: زاغ؛ تاب، التفت، توجه. الثالث: الذي يدل على المعنى الأول والثاني معا مثلا: مال، شغل، عدل، رجع. فكلمة ((صغى)) استعملت للمعنى الثاني، إلا أن بعض المفسيرين قد أرادوا به المعنى الثالث، ومعظمهم استخدموه للمعنى الأول، وهذا من الأخطاء الأدبية الفادحة، التي لا تستند إلى أي دليل أو برهان في أساليب ¬

_ (¬1) ومن تلك الأمثلة: أ - قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [آل عمران: 184]. ب - {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [سورة التوبة: 40]. ج - {إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38]. د - {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89].

ثانيا - الإيلاء

اللغة العربية واستعمالاتها (¬1)، وقد وردت هذه الكلمة في موضع آخر من القرآن الكريم: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 113] وليس معناها الانحراف ولا الزيغ. 3 - لم تنص الآية الكريمة {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} على الشيء الذي مالت إليه قلوب عائشة وحفصة (ض)، وقد ذكر بعض المفسيرين أن قلوبهما - نعوذ بالله- مالت إلى إيذاء الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بينما القاعدة تقول: إن الكلمة المحذوفة تكون موجودة حوالي الجملة إما قبلها أو بعدها، أو تدل عليها القرائن الغالبة، وقد ذكرت كلمة ((التوبة)) من قبل، فيغلب الظن أن هذه هي الكلمة المقدرة والمحذوفة، ولو أظهرنا ما حذف من الآية تكون العبارة كالآتي: ((إن تتوبا إلى الله (فهو هين) فقد صغت قلوبكم ((إلى التوبة إلى الله))). ثانيا - الإيلاء: وقعت قصة الإيلاء عندما وقع التحريم، وذلك في العام التاسع الهجري، وكانت قد اتسعت رقعة الدولة المسلمة آنذاك، واستولى المسلمون على مناطق بعيدة، فكانت المدينة تردها الخيرات بقدر وافر بين فينة وأخرى، وكثرت الغتيمة والفيء إثر الفتوحات الإسلامية، في مشارق الأرض ومغاربها، ورغم كل هذه السعة في الخيرات والكثرة في الأموال وامتلاء خزائن بيت مال المسلمين بالثروات، ما زالت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في وضعها السابق لم تتغير، فكانوا يعيشون عيشة الشدة والشظف والعسرة، وعلى قمة من الزهد والقناعة. ¬

_ (¬1) يراجع: لسان العرب وفيه: صغى إليه يصغى ويصغو صغوا وصغوا وصغا: مال، وصغى صغيا: مال، قال شمر: صغوت وصغيت وصغيت، وأكثره ضغيت، وقال ابن السكيت: صغيت إلى الشيء أصغى صغيا إذا ملت، قال الله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ....} أي ولتميل (لسان العرب 461/ 14، كذا في مختار الصحاح 153/ 1). وذكره البيضاوي بصيغة ((قيل)) وفصل القول في هذا الموضوع العلامة حميد الدين الفراهي فأفاد وأجاد.

وبعدما فتح الله خيبر للمسلمين فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - للأزواج المطهرات قدرا معلوما من الأطعمة والتمور سنويا، وهذا القدر من المال كان أقل من حوائجهن السنوية، زد على ذلك ما أكرمهن الله تعالى من الكرم والجود وطول اليد للإنفاق في سبيل الله، والبذل والعطاء في سبيل الخير، فتمضي أيام ولا توقد النار في بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكما هو المعلوم أن الأزواج المطهرات منهن من كانت بنت شيخ قبيلة أو رئيس أو ثري، والبعض منهن كن عشن سابقا مع أزواجهن أو بيوت آبائهن عيشة الترف وفي التنعم والهناء، لم تمسهن العسرة ولا الشدة في العيش لا من قريب ولا من بعيد، فلما رأين هذه السعة في الأموال التي حصلت للمسلمين إثر الفتوحات الإسلامية طالبن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمزيد من النفقة والزينة، فلما سمع عمر بذلك أصابه القلق والاضطراب فدخل على حفصة، وفهمها الأمر وقال: ((لا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك))، والله لولا أنا لطلقك الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذهب إلى أخرى ونصحها، فقالت له أم سلمة: عجبا لك يا ابن الخطاب قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه، يقول عمر بن الخطاب (ض): ((فأخذتني أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد فخرجت من عندها)) (¬1). وذات مرة دخل أبو بكر وعمر (ض) على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدا النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا يطلبن منه النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول: ((تسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا أبدا ليس عنده)) (¬2). أما بقية الأزواج فبقين على طلبهن، وفي هذه الفترة ((ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسا بالمدينة فصرعه على جذم نخلة فانفكت قدمه (¬3) فجلس في مشربة له ¬

_ (¬1) صحيح مسلم كتاب الطلاق برقم 1479، صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن برقم 4913. (¬2) صحيح الإمام مسلم كتاب الطلاق برقم 1478. (¬3) سنن أبي داود كتاب الصلاة برقم 602، سنن ابن ماجه كتاب الطب برقم 3485.

واعتزل فيها وآلى من نسائه شهرا، وشهر المنافقون وشاع بين المسلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلق نساءه)). وكان لهذه الإشاعة بين المسلمين رجة أي رجة، فاجتمع الصحابة (ض) في المسجد يبكي بعضهم، وبدأت أمهات المؤمنين يبكين، ولا ريب أن نساء النبي أنفسهن كانت بينهن للنبأ رجة أشد عليهن من بقية المسلمين، وكان لهذه العقوبة - التي لم يعاقبن بمثلها من قبل - في قلوبهن أبلغ الأثر، ولم يتجرأ أحد أن يستفسر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الحادث، وبوسعنا أن نتخيل تلك الرجة بين الصحابة إذا علمنا أن صاحبا لعمر بن الخطاب سمع بالنبأ ليلا فأسرع إلى بابه يدقه دقا شديدا، ويسأل عنه في فزع، فقال صاحبه: حدث أمر عظيم، يقول عمر بن الخطاب (ض): فجئت إلى المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم فجلست معهم قليلا ثم غلبني ما أجد فجئت المشربة التي فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت لغلام له أسود: استأذن لعمر، فدخل الغلام فكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع، فقال: كلمت النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكرتك له فصمت، ثم في المرة الثالثة لما وليت منصرفا إذا الغلام يدعوني فقال: قد أذن لك النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع على حصير فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ومثلها قرظا في ناحية الغرفة، وإذا أفيق معلق قال: فابتدرت عيناي ... فقلت: يا رسول الله أطلقتهن؟ قال: لا، قلت: يا رسول الله إني دخلت المسجد، والمسلمون ينكتون بالحصى، يقولون: طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: نعم، إن شئت، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه (¬1). وهذا الشهر كان تسعا وعشرين ليلة، وكانت عائشة (ض) تنتظر استيفاء الثلاثين، وقد عدتهن يوما يوما، وعلمت ساعة دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - كم مضى وكم ¬

_ (¬1) صحيح الإمام مسلم كتاب الطلاق برقم 1479.

ثالثا - التخيير

بقي، تقول (ض): فلما مضت تسع وعشرون ليلة دخل على عائشة فقالت عائشة: يا رسول الله إنك كنت قد أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا، وإنما أصبحت مع تسع وعشرين ليلة أعدها عدا، فقال: الشهر تسع وعشرون ليلة (¬1). ثالثا - التخيير: وبما أن عامة الأزواج كن قد طلبن الزيادة في النفقات، ولم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلطخ يده بالزخارف الدنيوية وزينتها وبهائها تلبية لرغبات أزواجه، فقد غضب من نسائه لكثرة منازعاتهن، وإلحافهن عليه بطلب المزيد من النفقة والزينة، وكان خير درس لهن يعلمهن أن يصبرن على ضرورات العيش كما يصبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها، لأنهن قدوة في القناعة ومغالبة الهوى، ولسن بقدوة في الترف ونعمة العيش، وقد خيرن بعد هذا الدرس بين التسريح والصبر على نصيبهن، فاخترن أجمل النصيبين بهن، ونزلت آية التخيير. {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (*) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28 - 29]. تقول عائشة (ض): لما مضى تسع وعشرون ليلة دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ بي فقلت: يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنك دخلت مع تسع وعشرين أعدهن، فقال: إن الشهر تسع وعشرون، ثم قال: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، ثم قرأ علي الآية {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} حتى بلغ {أَجْرًا عَظِيمًا} قالت عائشة: قد علم والله أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، قالت: فقلت: أو في هذا أستأمر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم قالت: لا تخبر نساءك أني اخترتك، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله أرسلني مبلغا ولم يرسلني متعنتا)) (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب النكاح برقم5191/ 5201 / 5289، صحيح الإمام مسلم كتاب الصيام برقم 1083، سنن الترمذي كتاب الصوم برقم 690. (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الطلاق برقم 1475.

الفصل السادس وداع الحبيب في السنة الحادية عشرة للهجرة

الفصل السادس وداع الحبيب في السنة الحادية عشرة للهجرة وها نحن الآن ندخل في المرحلة العصيبة النهائية، والنقطة الأخيرة من مصائب الحياة التي تعاني منها المرأة، ألا وهي وداع الحبيب ومفارقة الزوج. كانت عائشة (ض) في السنة الثامنة عشرة من عمرها عندما التحق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى، وكانت ملامح الحب والوفاء ومعالم الإخلاص والمودة تلمس بينهما بكل جلاء، وفي كل مكان ومناسبة، فكان يوما من شهر صفر عام 11 هـ إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة فقالت: وارأساه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل أنا وارأساه (¬1). ومنذ ذلك الحين ابتدأ به - صلى الله عليه وسلم - وجعه في بيت ميمونة، وكان وجعا في رأسه الكريم، وكان أكثر ما يعتريه - صلى الله عليه وسلم - الصداع، فجعل مع هذا يدور على نسائه فما إن شعر بالمرض حتى أخذ يسأل: أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟ استبطاء ليوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها (¬2). سبب رغبته - صلى الله عليه وسلم - في التمريض في بيت عائشة: وربما يفهم البعض أن سبب رغبته - صلى الله عليه وسلم - في التمريض في بيت عائشة (ض) هو حبه لها، ولكننا ذكرنا سابقا أن الله سبحانه وتعالى قد خص السيدة عائشة (ض) بكثير من الفضائل والمزايا الفطرية ووهبها حظا وافرا من كمال العقل وقوة الذاكرة وسرعة الفهم والذكاء المتوقد والبديهة الواعية وقدرة التحصيل والإحاطة بكل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب المرضى برقم 5666 وكتاب الأحكام برقم 7217. (¬2) صحيح البخاري كتاب الجنائز برقم 1389، كتاب المناقب برقم 3774، كتاب المغازي 4450، كتاب النكاح برقم 5217، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة برقم 2443.

ما يقع في متناول ذهنها، وملكة في الاستنباط والاستخراج، وقوة نادرة للاجتهاد، إذن فلا غرابة أن يكون غرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التمريض في بيت عائشة والاستقرار فيه أن تقوم عائشة بحفظ كل الأقوال والأفعال الصادرة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيامه الأخيرة، والحق الذي لا مراء فيه أن المسلمين قد عرفوا الكثير من أمر نبيهم وأمر دينهم، وأحواله - صلى الله عليه وسلم - عند الاحتضار، من أحاديث عائشة عن زوجها المحبوب عليه الصلاة والسلام. هذا واشتد المرض بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على مر الأيام حتى لم يسعه أن يصلي بالناس في المسجد، وكانت هناك أدعية كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا مرض نفث بها على نفسه، فعائشة (ض) كذلك كانت تنفث عليه بتلك المعوذات والأدعية وتمسح بيده (¬1)، وكان الناس عكوفا ينتظرون النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد لصلاة الصبح، فكلما ذهب لينوء أغمي عليه، فقال: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس))، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، فلو أمرت غير أبي بكر، قالت: والله ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول من يقوم في مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فراجعته مرتين أو ثلاثا، فقال: ((ليصل بالناس أبو بكر، فإنكن صواحب يوسف)) (¬2). وكان - صلى الله عليه وسلم - قد ترك شيئا من الذهب عند عائشة (ض) قبل مرضه الذي مات فيه، فتذكره في مرضه فقال لعائشة: يا عائشة ما فعلت بالذهب؟ فجاءت ما بين الخمسة إلى السبعة أو الثمانية أو التسعة، فجعل يقلبها بيده ويقول: ما ¬

_ (¬1) أشار به المؤلف إلى الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة (ض) قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - (البخاري في صحيحه كتاب المغازي برقم 4439، ومسلم في صحيحه كتاب السلام برقم 2192، وأبو داود في سننه كتاب الطب برقم 3902، وابن ماجه في سننه كتاب الطب برقم 3529). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأذان برقم 687، والإمام مسلم في صحيحه كتاب الصلاة برقم 418.

ظن محمد بالله عز جل لو لقيه وهذه عنده، أنفقيها (¬1). وحانت اللحظة الأخيرة من حياة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، وكانت عائشة (ض) مسندة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تقول: دخل علي عبد الرحمن وبيده السواك وأنا مسندة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته فأمره (¬2) وفي رواية: ((فاستن بها كأحسن ما رأيته مستنا قط)) (¬3). فكانت عائشة (ض) تعتز وتفتخر بما نالت من هذه الفضيلة والكرامة وتقول: إن من نعم الله تعالى علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته (¬4). فلما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه أخذت عائشة (ض) بيده وجعلت تمسحه وتقول: أذهب الباس رب الناس اشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما، قالت: فنزع يده مني ثم قال: ((اللهم الرفيق الأعلى)) (¬5). وكانت (ض) تقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صحيح يقول: ((إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيا أو يخير، فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: اللهم في الرفيق الأعلى، فقلت: إذا لا يجاورنا، فعرفت أنه ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 49/ 6 برقم 24268 و182/ 6 برقم 25531، كما أخرجه ابن حبان في صحيحه 8/ 8 برقم 3212، وابن أبي شيبة في مصنفه 83/ 7 برقم 34371. (¬2) صحيح البخاري كتاب المغازي برقم 4449. (¬3) صحيح البخاري كتاب المغازي برقم 4451، ومسند الإمام أحمد 274/ 6 برقم 26390. (¬4) صحيح البخاري كتاب فرض الخمس برقم 3100، كتاب المغازي برقم 4449 و4451، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة برقم 2443. (¬5) مسند الإمام أحمد 126/ 6 برقم 24990، والبخاري نحوه في صحيحه برقم 4463 كتاب المغازي.

خبر منام عائشة (ض)

الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح)) (¬1). وتقول: ((وقد قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في حجري فذهبت أنظر إلى وجهه، فإذا بصره قد شخص، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي)) (¬2). ومما لا شك فيه أن من أعظم الفضائل وأعلى السعادة وأهم المناقب للسيدة عائشة (ض) أن حجرتها الشريفة كانت المسكن الأخير للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومكان دفنه ووفاته. ((إنا لله وإنا إليه راجعون)). خبر منام عائشة (ض): وكانت عائشة (ض) قد رأت في المنام أن ثلاثة أقمار سقطت في حجرتها، قالت: فسألت أبا بكر (ض) فقال: يا عائشة إن تصدق رؤياك، يدفن في بيتك خير أهل الأرض ثلاثة، فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفن قال لي أبو بكر: يا عائشة هذا خير أقمارك، وهو أحدها (¬3). وقد أثبتت الوقائع القادمة أن القمرين الآخرين هما أبو بكر وعمر بن الخطاب (ض)، والآن صارت السيدة عائشة (ض) أرملة، وقضت من عمرها أربعين عاما على هذه الحالة، لزمت حجرتها طول حياتها تعزي نفسها بجوار قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وذات مرة رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فتركت ذلك المكان (¬4) وما برحت منذ تلك اللحظة تلازم البقعة الخالدة لا تفارقها إلا للعمرة أو الحج أو لزيارة قريبة، واتخذت سكنها في الحجرة المجاورة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب المغازي برقم 4437 و4463، ومسلم كتاب فضائل الصحابة برقم 2444. (¬2) مسند الإمام أحمد 6/ 274 برقم 26391. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 62 برقم 4400 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 185/ 7 و38/ 9، والطبراني في الأوسط 266/ 6 رقم 6373 وفي الكبير 48/ 23 برقم 127، والإمام مالك في الموطأ باب ما جاء في دفن الميت 232/ 1 برقم 548. (¬4) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد.

لقبره، وهي لا تحسب أنها قد فارقت منه غير مشهد جثمانه، فقد كانت تزوره زيارة الأحياء. كما أنها كانت تزور القبر الشريف من دون حجاب ثلاث عشرة سنة متوالية إلى أن توفي عمر بن الخطاب (ض) (¬1)، فلما دفن عمر معهما جعلت بعدها تنتقب وتلبس ملابس الحجاب، وهي تزور أولئك الأصحاب المتجاورين كأنهم على قيد الحياة. هذا وقد حرم الله تعالى على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوجن بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال رجل من سادات قريش: ((لو توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتزوجت عائشة)) (¬2) فلما كان هذا الأمر مخالفا للمصالح الدينية والسياسية، وحطا من شأن النبوة أنزل الله تعالى قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]. والأصل في هذا أن الأزواج المطهرات اللاتي أكرمهن الله تعالى بصحبة نبيه الحبيب - صلى الله عليه وسلم - في حله وترحاله، عشن في كنفه حاملات لتعاليمه، حافظات لسنته، وبخاصة سنته عليه الصلاة والسلام في بيته، التي لم يطلع عليها في الأغلب أحد سواهن لم تكن بقايا حياتهن إلا لكي يقمن بواجب نشر وإشاعة الدروس والتعليمات التي تلقينها من الحبيب المصطفى الزوج المبارك المعظم طول حياتهن، وألا يصرفن شيئا من حياتهن إلا في تأدية هذا الواجب، كن أمهات المؤمنين، فكانت مسؤوليتهن تعليم أبنائهن وتربيتهم، وكن المرجع الأول فيما حفظ عندهن من آي القرآن، وما حفظنه من السنن والأحاديث، حتى كانت بيوتهن مثابة الزوار من أبنائها وبناتها. ¬

_ (¬1) انظر: المستدرك للحاكم 8/ 4 برقم 6721. (¬2) ذكره الإمام القرطبي في تفسيره 228/ 14، والبيهقي في السنن الكبرى 69/ 7 برقم 13196.

يقول الله سبحانه وتعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (*) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (*) يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (*) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (*) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 30 - 34]. والحياة المتبقية لعائشة (ض) هي تفسير عملي بمعنى الكلمة لهذه الآيات الربانية. ***

الفصل السابع عائشة بعد رحيل الحبيب - صلى الله عليه وسلم -

الفصل السابع عائشة بعد رحيل الحبيب - صلى الله عليه وسلم - عهد أبي بكر الصديق (ض): كان أبو بكر الصديق (ض) هو الذي رشحه النبي - صلى الله عليه وسلم - لكي يلي أمور المسلمين ويكون الخليفة الراشد الأول، وبعدما فرغ المسلمون من مراسم دفن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصار أبو بكر الصديق (ض) خليفة المسلمين، أرادت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرسلن عثمان (ض) إلى أبي بكر (ض) يسألنه ميراثهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت لهن عائشة (ض) مذكرة إياهن بقول الحبيب المصطفى في حياته: ((لا نورث ما تركناه صدقة)) (¬1) فلما سمعن ذلك توقفن عنه. والواقع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخلف شيئا بعد وفاته حتى يوزع بين الورثة، ففي صحيح البخاري عن عمرو بن الحارث قال: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا (¬2) إلا ما خصه الله تعالى في الفيء، فكانت خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان - صلى الله عليه وسلم - ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي فيجعله في مال الله، فعمل بذاك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياته، فلما توفى الله نبيه، وولي أبو بكر فقبضها وعمل بما عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا جرى الأمر في هذا المال طوال الخلافة الراشدة (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3712 وكتاب الفرائض برقم 6725، وصحيح الإمام مسلم كتاب الجهاد والسير برقم 1758. (¬2) صحيح البخاري كتاب الوصايا برقم 2739، وسنن النسائي كتاب الأحباس برقم 3594. (¬3) انظر تفصيل الحوار الذي جرى بين علي والعباس وعمر (ض) حول موضوع توزيع المواريث، في صحيح البخاري كتاب الفرائض برقم 6728، وصحيح الإمام مسلم كتاب الجهاد والسير برقم 1757، وسنن أبي داود كتاب الخراج والإمارة والفيء برقم 2963.

وفاة أبي بكر الصديق (ض)

وما فعلته عائشة (ض) في موضوع الميراث يدل على مكانتها الرفيعة في الجود والسخاء والكرم وطول يدها في البذل والعطاء، وخاصة إذا عرفنا أنه توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما في بيتها شيء يأكله ذو كبد سوى البركة (¬1). وفاة أبي بكر الصديق (ض): ولم تطل خلافة الصديق (ض)، إلى مدة طويلة، وإنما انتهت بعد استكمال سنتين فقط، حيث توفي الخليفة الراشد الصديق في عام 13هـ. وكانت السيدة عائشة (ض) تشرف على تمريضه عند الاحتضار، وقد نحلها أبو بكر الصديق (ض) شيئا من المال والأراضي، فقال لها: أي بنية! قد علمت أنك كنت أحب الناس إلي وأعزهم. وإني كنت نحلتك الأراضي التي تعلمين بمكان كذا وكذا، وأنا أحب أن تردي بها إلي، فيكون ذلك قسمة بين ولدي على كتاب الله، فألقى ربي حين ألقاه، ولم أفضل بعض ولدي على بعض (¬2)، فقالت عائشة (ض): على الرأس والعين، ثم سألها في كم كفنتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، وقال لها: في أي يوم توفي الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: يوم الإثنين، قال: فأي يوم هذا؟ قالت: يوم الإثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليل، فنظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه به ردع من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين، فكفنوني فيها، فقالت: إن هذا خلق، فقال: إن الحي أحق بالجديد من الميت، وإنما هو للمهلة، فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء (¬3). فلما توفي حفر له في حجرة عائشة (ض) وجعل رأسه عند كتفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وألصق اللحد بقبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا أصبحت هذه الحجرة مجمعا لقمر الخلافة مع قمر النبوة، ومرت عائشة (ض) بهذه المرحلة العصيبة الثانية من نوعها. وتحملت هذه الصدمة ¬

_ (¬1) انظر: سنن الترمذي كتاب الأدب. (¬2) الطبقات الكبرى لابن سعد ذكر وصية أبي بكر الصديق (ض) 3/ 195. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز برقم 1387، والإمام أحمد في مسنده 6/ 132 برقم 25049.

عهد عمر بن الخطاب (ض)

صدمة وفاة الوالد، رابطة الجأش ثابتة القلب في سنها المبكر، وذلك بعد سنتين فقط مما مرت به من الحادثة حيث ودعت حبيبها المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. عهد عمر بن الخطاب (ض): يتميز عهد الفاروق (ض) من حيث التنظيم والتنسيق تميزا ملموسا، وكان قد فرض (ض) عطية نقدية لكل المسلمين من بيت المال في عهده الميمون، أما ما فرضه لأمهات المؤمنين فقد ذكر لنا الإمام أبو يوسف (ح) (¬1) روايتين في كتابه ((الخراج)) (¬2)، الأولى: أنه فرض لأمهات المؤمنين كل واحدة منهن اثني عشر ألف سنويا، والثانية: أن عمر (ض) فرض لأمهات المؤمنين عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين، وقال: إنها حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (وقد أخرجها الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) (¬3). وكان (ض) قد جعل تسع صحاف، عدد أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا تكون فاكهة ولا طريفة إلا جعل منها في تلك الصحاف، فيبعث بها إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

_ (¬1) هو الإمام يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي، العلامة أبو يوسف، فقيه العراقيين صاحب أبي حنيفة (ض)، كان من أصحاب الحديث ثم غلب عليه الرأي، ولي القضاء لهارون الرشيد، مات ببغداد سنة 182هـ، كان (ح) من أولاد أبي دجانة الأنصاري، وأول من لقب بقاضي القضاة، قال محمد بن سماعة: كان أبو يوسف يصلي بعد ما ولي القضاء كل يوم مئتي ركعة، روى عنه محمد بن الحسن الشيباني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وأكثر العلماء على تفضيله وتعظيمه، وكان مع سعة علمه أحد الأجواد الأسخياء، ولد سنة ثلاث عشرة ومئة ومات ببغداد سنة اثنتين وثمانين ومئة، وله ((الأمالي)) و ((النوادر)) و ((الخراج)) (انظر: شذرات الذهب 1/ 301، تذكرة الحفاظ 292/ 1، الفوائد البهية ص372). (¬2) انظر: كتاب الخراج لأبي يوسف ص 51، وفيه استثناء ((جويرية وصفية (ض))) فإنهما قد فرض لهما ستة آلاف في أول الأمر فلم تقبلا ففرض لهما اثني عشر ألفا. (¬3) الحاكم في المستدرك 9/ 4 برقم 6723، كما أخرجه المحاملي في أماليه 248/ 1 برقم 242. (¬4) أخرجه الإمام مالك في الموطأ باب جزية أهل الكتاب 1/ 279 برقم 618، والبيهقي في السنن الكبرى 35/ 7 رقم 13036، وابن أبي عاصم في كتاب الزهد 116/ 1.

وأكبر دليل على اهتمامه البالغ بأمهات المؤمنين وشدة التفقد لأحوالهن أنه كان يبعث إليهن باللحوم كلما نحرت النعم، كما تقول عائشة (ض): ((كان عمر بن الخطاب يرسل إلينا بأحظائنا - حصصنا - حتى من الرؤوس والأكارع (¬1))). ولما فتح المسلمون العراق جاء درج إلى عمر (ض) وفيه جوهر فقال لأصحابه: ((تدرون ما ثمنه؟ قالوا: لا، ولم يدروا كيف يقسمونه، فقال: تأذنون أن أبعث به إلى عائشة لحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها؟ فقالوا: نعم، فبعث به إليها، ففتحته فقالت: ماذا فتح علي ابن الخطاب بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اللهم لا تبقني لعطيته لقابل (¬2))). وكان (ض) يتمنى أن يدفن في حجرة عائشة (ض) تحت أقدام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكنه لم يتمكن من تقديم طلبه هذا نظرا إلى الأدب والاحترام، وكان مضطربا قلقا من هذا الموضوع وهو في سياقة الموت وحالة الاحتضار، حتى قال لابنه عبد الله: انطلق إلى عائشة أم المؤمنين (ض) فقل: يقرأ عليك عمر السلام، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فمضى فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فسلم عليها وقال كما أوصاه، قالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي (¬3). وحتى بعد هذا الإذن من عائشة (ض) قال عمر (ض): ((يا عبد الله بن عمر انطر، فإذا أنا قبضت فاحملوني على سريري، ثم قف بي على الباب، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلني، وأن ردتني فردني إلى مقابر ¬

_ (¬1) انظر: موطأ الإمام محمد باب الزهد والتواضع برقم 927، ط: وزارة الأوقاف القاهرة مصر 1407هـ. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك 9/ 4 برقم 6725، والإمام أحمد في فضائل الصحابة رقم 1642. (¬3) صحيح البخاري كتاب الجنائز برقم 1392، كتاب المناقب برقم 3700، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 58 برقم 6874 باب من رأى أن يدفن في أرض مملوكة بإذن صاحبها، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 34 برقم 11858 مختصرا، و436/ 7 برقم 37059.

عهد عثمان بن عفان (ض)

المسلمين، فإني أخشى أن يكون إذنها لي لمكان السلطان))، ففعل كما أمر به، وأذنت السيدة عائشة (ض) مرة ثانية، ثم دفن هناك مع صاحبيه (¬1). وأخيرا أفل هذا القمر الثاني للخلافة في نفس الحجرة المقدسة. عهد عثمان بن عفان (ض): امتد عهد خلافة عثمان (ض) إلى اثني عشر عاما، والنصف الأول من هذا العهد كان يسوده الأمن والسكون والاستقرار، بينما النصف الثاني من عهده أصيب بأنواع من الاضطرابات، وحدثت فيه بعض الخلافات نحو الخليفة، واشتكى طائفة من الناس الخليفة عثمان (ض)، وها هي عائشة (ض) تروي لنا وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي أوصى بها عثمان: ((يا عثمان إن الله عز وجل لعله أن يقمصك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه، ثلاث مرات)) (¬2). لقد احتلت السيدة عائشة (ض) مكانة سامية مرموقة في قلوب عامة الناس (¬3)، فكانوا يقصدونها متعلمين مستفتين، فكانت تهدي الحائر، وتعلم الجاهل، وتحمي الملتجئ، وتنجد المستغيث، فكانت أم المؤمنين بمعنى الكلمة، والناس في الحجاز والعراق والشام ومصر يعتبرونها أما لهم بواقع الأمر، والوقائع التي سوف نتحدث عنها لاحقا تدل على ذلك بكل وضوح، كما أن الناس يقبلون عليها، يعرضون عليها شكاواهم فهي تؤازرهم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الجنائز برقم 1392، كتاب المناقب برقم 3700. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده 6/ 149 برقم 25203، وابن حبان في صحيحه 15/ 346 برقم 6915، الحاكم في المستدرك 106/ 3 برقم 4544 وقال: هذا حديث صحيح عالي الإسناد ولم يخرجاه، وأورده الهيثمي في موارد الظمآن 1/ 539 برقم 2196، وفي مجمع الزوائد 5/ 178، 5/ 184، 9/ 56، 9/ 90، وتكلم بالتفصيل حول الرواة، وكذلك أخرجه الترمذي في سننه باب مناقب عثمان (ض) برقم 3705، وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬3) أخرج الحاكم في المستدرك عن عطاء قال: كانت عائشة (ض) أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيا في العامة (4/ 15، برقم 6748، كما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 185/ 2 وابن حجر في الإصابة 8/ 18 وابن عبد البر في الاستيعاب 4/ 1883).

وتواسيهم، ومن المعروف تاريخيا أن كبار الصحابة وأصحاب الإفتاء والمشورة كانوا على قيد الحياة في عهدي الصديق والفاروق (ض) وكذلك في بداية عهد عثمان، فكان الخلفاء يستشيرونهم في مهمات الأمور ومعضلات القضايا، وهم كانوا حائزين على مناصب جليلة رفيعة المستوى حسب مواهبهم ومؤهلاتهم التي أكرمهم الله تعالى بها، وميزهم على غيرهم، وكان نظام الحكومة والترتيبات المتعلقة بالسلطة التي أقامها الشيخان غاية في العدل والإنصاف، لا يشوبها شيء من الحيف أو الظلم، ولذا ضمن لهم ذلك النظام استقرار البلاد أمنا وسكونا فلم تشهد أي توتر أو اضطراب أو خلل في الأمن، ولم يجد كبار الصحابة أي سبب لتقديم الشكاوى على إساءة التنظيم أو خلل في الأمن. أما الشباب أمثال عبد الله بن الزبير، ومحمد بن أبي بكر، ومروان بن الحكم، ومحمد بن أبي حذيفة، وسعيد بن العاص (ض)، فكلهم كانوا يهابون الخليفة، ويقدرون للخلافة قدرها، ويعتبرونها فوق مصالحهم. ***

الفصل الثامن نشوء الفتن ومعركة الجمل

الفصل الثامن نشوء الفتن ومعركة الجمل إن عبد الله بن الزبير (ض) حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عمته، سبط أبي بكر الصديق (ض)، كان يعتبر نفسه أحق بالخلافة، وأنه وارث للخلافة، أما محمد بن أبي بكر فكان أصغر أبناء الصديق (ض) وهو أخو عائشة (ض) من الأب، وقد تزوج أمه - بعد وفاة أبي بكر الصديق (ض) - علي (ض)، ولذلك فإنه قد ترعرع ونشأ في حضن علي (ض)، وكان يحبه مثل أبنائه (¬1)، ومحمد بن أبي حذيفة تربى وترعرع في كنف عثمان (ض)، ولما بلغ أشده طالب بمنصب كبير فرفض عثمان (ض) أن يسلمه، فارتحل إلى مصر غاضبا. وأما مروان بن الحكم وسعيد بن العاص فكانا من الأمويين ومن الشباب حديثي السن، من أبناء المهاجرين القدامى وأخلاقهم، وكانوا من مقدمي طلاب المناصب الرفيعة، وذلك نظرا إلى ما كان يحوزه آباؤهم وأسلافهم من مناصب رفيعة، والخليفة الراشد عثمان (ض) كذلك كان من الأمويين، وكان يثق بأفراد أسرته، ولذا فكان المرشحون والمختارون للمناصب معظمهم من بني أمية. ولذلك نرى أن مروان وسعيد بن العاص قد فازا بمناصب كبيرة رفيعة المستوى، الأمر الذي أدى إلى إثارة الغضب والسخط لدى بعض شباب قريش تجاه بني أمية، وكان هذا هو السبب الذي دفع محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة ليشاركا في الثورة ضد عثمان بن عفان (ض) أكثر من الآخرين، مع العلم بأن هؤلاء الشباب ما كان فيهم من صفات الصبر والعدل والصدق ¬

_ (¬1) ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في الإصابة 6/ 245 ترجمة رقم 8300.

والأمانة والزهد والورع مثل ما كان في آبائهم من كبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فوصل الأمر إلى غضبهم وثورتهم ضد الخليفة. وفوق ذلك كله فإن العرب كانوا يعتبرون الاستعباد العجمي وصمة عار على جبين شرفهم وسعادتهم، إذ إنهم قد نشؤوا وترعرعوا في بيئة تتمتع بالحرية والاستقلال، فلما جاء الإسلام نفخ فيهم روحا جديدة، وجعل كل القبائل في ميزان واحد وتحت قوة واحدة. وكبار الصحابة الذين كانوا هم رعاة تعاليم الإسلام وتربيته الأصيلة كانوا يراعون هذا الجانب دائما، ولما جاء من حلفهم من المسؤولين وأصحاب المناصب الرفيعة والمراتب العالية، تناسوا هذا الدرس العظيم، وبدؤوا يتظاهرون علنا بشرفهم القبلي والأسرى ويتفاخرون به ويتباهون باستقلالهم الشيخصي في مجالسهم وزواياهم، فشق ذلك على القبائل العربية الأخرى، فزعموا أن الفتوحات التي حصلت بعد العهد النبوي في كل من إيران والشام ومصر وبلاد أفريقية، كلها كانت بسبب سيوفهم، ولذا بإنهم يستحقون نصيبهم وسهامهم بالتساري والتعادل. أما الأعاجم الذين كانوا حديثي العهد بالإسلام فهم على طبيعتهم السابقة، لم يكونوا راضين بحكم قريش أو بني أمية فحسب، بل كانوا لا يعجبهم أن تكون السلطة بيد العرب أساسا وهم يحكمون عليهم، ولذا فإنهم كانوا يحبون أن يساهموا في كل فتنة أو ثورة تثار ضد الحكومة، والموقع الجغرافي لبلاد الكوفة كان نقطة اتصال بين العرب والعجم، ومن ثمة بدأت الفتنة، وكانت هناك أكبر المجتعات للقبائل العربية، كان واليها سعيد بن العاص، وكان سادات معظم القبائل الموجودة في البلد يجتمعون في ديوانه بالليل، حيث يتحدثون حول موضوع الحروب التي خاضتها العرب، كما يتطرق حديثهم إلى موضع أنساب العرب ومفاخر الآباء والأجداد، وكل قبيلة تزعم نفسها أعلى وأرفع من الأخرى، وتكون نهاية الحديث مؤلمة، فينهون كلامهم وسمرهم بالتشاجر والتهاوش والتجادل والسب والشتم، وسعيد بن العاص يغتنم هذه الفرصة لإظهار مفاخر قريش، الأمر الذي يزيد الطين بلة، فاشتكى سادات القبائل أخلاقه وسلوكه، وأدت هذه الظاهرة السيئة إلى نشوء

اعتناق عبد الله بن سبأ اليهودي الإسلام

فتنة، وأثناء هذه الفترة، اعتنق ابن سبأ اليهودي الإسلام. اعتناق عبد الله بن سبأ اليهودي الإسلام: ومن عادة اليهود - أصحاب الدسائس والمكر والخداع - أنهم لو لم يتمكنوا من الانتقام من أعدائهم بإظهار العداوة، سرعان ما يتحولون ظاهرا إلى أصدقاء حميمين، وينسجون خيوط المؤامرات الخفية، مثل اليهود لما سقطوا في إفشال دعوة سيدنا عيسى (س) وإزاحة تأثيرها، فاعتنق أحد زعمائهم - بولس - النصرانية، وتستر بستارها، ومن ثم بدأ في استئصال جذور تعاليمها، والقضاء على حقيقتها. فقام ابن سبأ يشيع بين الناس أن عليا (ض) هو خليفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصيه، يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أوصى بخلافته، وكان ابن سبأ يعتقد نفس هذه العقيدة تجاه هارون (س)، عندما كان يهوديا، فنادى في الناس: انهضوا بهذا الأمر فحركوه، وابدأوا بالطعن على أمرائكم، وادعوا الناس إلى هذا الأمر، فبث دعاته، وكاتب من كان في الأمصار، ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وبذل ابن سبأ أقصى ما في وسعه في نسج شبكات من المؤامرة والمكر على نطاق واسع استنادا إلى الإصلاح السياسي، وقام بجولة لكل من بلاد الكوفة والبصرة ومصر، حيث كانت هذه البلاد مشحونة بالسلاح والرجال، منذ أن أمر عمر بن الخطاب بتأسيسها، لتكون ثكنات عسكرية لجند المسلمين، ينطلقون منها لنشر الإسلام. وكان طبيعيا وجود بعض العناصر من محبي الثورة والانقلاب في القوات العسكرية، فاتخذ ابن سبأ مصر مقرا ومركزا لهؤلاء الثوار، وبدأ يجمع أولئك الشراذم المتفرقين في سلك واحد، وعلى رصيف واحد، فسموا هؤلاء فيما بعد بالسبئية. هذا وكانت الحروب جارية مستمرة في مختلف مناطق أفريقية وبلاد الجزائر والروم زمن خلافة عثمان (ض)، ولهذا السبب كان معظم الجيوش

الإسلامية موجودين هناك، ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة كانا يلتقيان بالجيوش ويجلسان عندهم بكل حرية بزعم المشاركة في الجهاد، ويؤلبانهم على عثمان (ض)، فأدى ذلك إلى أن تحولت مصر إلى مركز للثوار ومعارضي السلطة والخارجين على الخليفة، وكان والي مصر حينذاك هو عبد الله بن أبي سرح، فبدأ محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة بحركة معادية لعبد لله بن أبي سرح وعثمان بن عفان (ض)، وهكذا تزعما حزبا سياسيا جديدا في مصر، وعظم ذلك كان مسندا إلى محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة حتى استنفرا نحو ألف راكب من كل من الكوفة والبصرة ومصر، يذهبون إلى المدينة بصفة حجاج، ليشغبوا على عثمان (ض)، فساروا إليها وأقاموا قرب المدينة، فلما اقتربوا من المدينة، أمر عثمان (ض) علي بن أبي طالب (ض) أن يخرج إليهم ليردهم إلى بلادهم قبل أن يدخلوا المدينة، فانطلق علي بن أبي طالب إليهم وهم بالجحفة، وكانوا يعظمونه ويبالغون في أمره، فردهم وأنبهم وشتمهم، فرجعوا على أنفسهم بالملامة، ورجع كل فريق منهم إلى قومهم، وأظهروا للناس أنهم راجعون إلى بلدانهم، وساروا أياما راجعين، ثم كروا عائدين إلى المدينة، فما كان غير قليل حتى سمع أهل المدينة التكبير وإذا القوم قد زحفوا على المدينة وأحاطوا بها، وذهب الصحابة إلى هؤلاء يؤنبونهم حتى قال علي لأهل مصر: ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ فقالوا: لما رجعنا إلى بلادنا وجدنا في الطريق شخصا فإذا معه في إداوة كتاب على لسان عثمان فيه الأمر بقتل طائفة منهم، وبصلب آخرين، وبقطع أيدي آخرين منهم وأرجلهم، وكان على الكتاب طابع بخاتم عثمان. هذا وظنوا أن الكتاب كتبه مروان بن الحكم بيده، فحاصروا بيت عثمان (ض) واشترطوا عليه شرطين: إما أن يسلم إليهم مروان بن الحكم أو يعتزل عن الخلافة، فرفض عثمان (ض) هذين الشرطين. واستدعت عائشة (ض) أخاها محمد بن أبي بكر، وطلبت منه أن يمتنع من هذا لكنه رفض، حتى حان موعد الحج، فخرجت إلى الحج وأرادت أن تأخذ معها أخاها محمدا لكنه رفض.

استشهاد الخليفة عثمان بن عفان (ض) وبيعة علي بن أبي طالب

استشهاد الخليفة عثمان بن عفان (ض) وبيعة علي بن أبي طالب: واستمر حصار الدار ثلاثة أسابيع، وأخيرا قتل الخليفة عثمان بن عفان (ض) شهيدا بيد البغاة والخوارج، ((إنا لله وإنا إليه راجعون)) وبعدما استشهد عثمان (ض) لم يبق للخلافة إلا أربعة من الصحابة الذين يستأهلونها وهم طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعلي (ض)، أجمعين. وكان الكوفيون يطلبون الزبير فلا يجدونه، والبصريون يطلبون طلحة فلا يجيبهم، والمصريون يلحون على علي وهو يهرب منهم إلى الحيطان، فمضوا إلى سعد بن أبي وقاص فقالوا: إنك من أهل الشورى، فلم يقبل منهم، فرجعوا إلى علي فألحوا عليه، وأخذ الأشتر النخعي بيده فبايعه وبايعه الناس، وكان من مقدمي أصحاب علي (ض) الأشتر النخعي وعمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر، وكان بعض الناس رشحوا عبد الله بن عمر (ض)، أما بنو أمية فرشحوا للخلافة أبان بن عثمان، كما أن هناك من كانوا يذكرون عبد الرحمن بن أبي بكر. ثم بعد ثلاثة أيام بايعه جمهور أهل المدينة، إلا بعض الأشخاص. وهذا ما حدث في الحجاز، أما الوضع السياسي في بلاد الشام فكان معاوية (ض) يحلم باستقلاله وحريته، كما أن محمد بن أبي حذيفة أعلن استقلاله بمصر، وكان الناس مذهولين بسبب حادث امستشهاد الخليفة الراشد الثالث في رحاب الحرم النبوي، وبأيدي المسلمين، تلك الحادثة المفجعة التي لم يرض بها حتى معارضو عثمان ومخالفوه، وكانت من هؤلاء عائشة أم المؤمنين (ض) كما في (¬1) رواية، وحاشاهم أن يتعمدوا ذلك. وقبل هذا الحادث المدهش المذهل جاء الأشتر النخعي فقال: ((يا أم المؤمنين ما تقولين في قتل هذا الرجل؟ يعني عثمان، فقالت: معاذ الله أن آمر بسفك دم إمام المسلمين)) (¬2)، وقد أذاع بعض الأعداء أن السيدة عائشة (ض) كانت متورطة في هذه الحادثة. ولعلهم يبررون زعمهم الباطل هذا بما فعله ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد جزء أهل المدينة ترجمة مروان بن الحكم. (¬2) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 485.

عهد علي بن أبي طالب (ض)

أخوها محمد بن أبي بكر في هذه الحادثة، لأنه كان من كبار الثائرين على عثمان والمؤلبين عليه، لكن سبق أن ذكرنا أن عائشة (ض) قد غضبت على أخيها لموقفه من عثمان وسمته مذمما، وظلت تدعو عليه من كبد حرى وعلى بقية الساعين في قتل عثمان دعاء حارا، كما أعربت السيدة عائشة عن انطباعاتها نحو الخليفة الراشد عثمان (ض) ذات مرة قائلة: ((والله ما أحببت أن ينتهك من عثمان أمر قط إلا قد انتهك مني مثله، حتى والله لو أحببت قتله لقتلت، يا عبيد الله بن عدي لا يغرنك أحد بعد الذي تعلم، فوالله ما احتقرت أعمال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تهجم النفر الذين طعنوا في عثمان، فقالوا له قولا لا يحسن قوله، وقرؤوا قراءة لا يحسن مثلها، وصلوا صلاة لا يصلى مثلها، فلما تدبرت الصنيع إذا هم والله ما يقاربون أعمال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولا شيء أدل على تفنيد ما زعمه الزاعمون وأذاعه المرجفون من أكاذيب حول نجوم خلاف بين السيدة عائشة وعثمان (ض)، ودحض مزاعمهم الباطلة من هذا التصريح والإعلان الواضح الصريح من السيدة عائشة (ض). عهد علي بن أبي طالب (ض): وبالجملة فإن أوضاع المسلمين كلها كانت مصابة بالتوتر والاضطراب، وكانوا يعانون من ظروف حرجة وقاسية من الناحية السياسية في تلك الفترة، فلما رآى جماعة من الصحابة هذا المنظر المؤلم وجدوا أن الحديقة التي سقوا أزهارها ورووها بدمائهم، وبذلوا فيها النفائس، وضحوا من أجلها بكل نفس ونفيس وغال ورخيص، قد بدأت تتعرض للانهيار والضياع، ورأوا بأم أعينهم أن مجهوداتهم أصبحت تروح سدى ومن دون جدوى، فلما واجهوا ذلك كله قاموا ورفعوا علم الإصلاح، وكان من أهم أعضاء هذه الجماعة طلحة والزبير وعائشة (ض). طلحة (ض): هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان القرشي، أبو محمد أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، كان فاتح ¬

_ (¬1) جزء خلق أفعال العباد للإمام البخاري 1/ 56، كما ذكره معمر بن راشد في جامعه 11/ 447.

المعارك في عهد النبوة، وصهر الخليفة الأول أبي بكر الصديق (ض)، ونسيب النبي - صلى الله عليه وسلم -. الزبير (ض): هو الزير بن العوام بن خويلد بن أسد القرشي أبو عبد الله، كان حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عمته، ونسيبه، وصهر الخليفة الأول، وكان من شجعان الإسلام، وهذان الاثنان كانا من أولئك الذين اختارهم عمر بن الخطاب (ض) للخلافة. وقد سبق أن ذكرنا أن السيدة عائشة (ض) خرجت من المدينة قاصدة مكة لأداء الحج حسب عادتها، وذلك بعد أن غلب الثائرون والغوغاء على المدينة المنورة وحاصر البغاة بيت عثمان (ض)، وعلمت السيدة عائشة بمقتل عثمان وهي في طريق العودة إلى المدينة، فلما تقدمت لقيها طلحة والزبير (ض) هاربين من المدينة، فقالت: ((ما وراءكما؟ فقالا: ((وراءنا أنا تحملنا بقليتنا هرابا من المدينة من غوغاء وأعراب، وفارقنا قوما حيارى، لا يعرفون حقا ولا ينكرون باطلا، ولا يمنعون أنفسهم)) فقالت عائشة (ض) فائتمروا أمرا ثم انهضوا إلى هذه الغوغاء))، وتمثلت: ((ولو أن قومي طاوعتني سراتهم … لأنقذتهم من الحبال أو الخبل)) (¬1) ثم عادت إلى مكة المكرمة، ولما علم عامة الناس بهذا الحادث، بدأوا يقصدونها من كل النواحي وجميع الأطراف، وطلبوا منها أن تنهض بعمل إصلاح الأمة ورأب الصدع الذي أحدثه مقتل عثمان (ض) في صفوفها، تروي لنا عمرة بنت عبد الرحمن عن أم المؤمنين (ض) قولها: ((ما رأيت مثل ما رغبت هذه الأمة عنه، من هذه الآية (¬2): {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: 9])). ¬

_ (¬1) يراجع: تاريخ الطبري 7/ 3. (¬2) موطأ الإمام محمد كتاب التفسير رقم الحديث 1003 ص 315، تعليق وتحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف ط: وزارة الأوقاف القاهرة 1407هـ.

الإصلاح وواجبات المرأة المسلمة

الإصلاح وواجبات المرأة المسلمة: تحكي لنا عائشة (ض) قصة فتاة فتقول: إن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء (¬1). فطلوع عائشة (ض) على منصة السياسة لدليل على أن نطاق حقوق المرأة المسلمة لا ينحصر فيما يظنه العامة، لقد أصيبت السيدة عائشة (ض) بصدمة عنيفة إثر هذا الحادث المفجع، وتألمت كثيرا بما رأته من أوضاع المسلمين وأحوالهم التي وصلت إلى أسوأ درجة، ولا سيما لما عرفت بأنه لا يوجد من ينهض للإصلاح فيما بينهم ويقوم بحل هذه العقدة التي وقعوا فريستها إبان مقتل عثمان (ض)، وكما نعرف أن أم المؤمنين عائشة كانت ذات جرأة نادرة، رابطة الجأش، ثابتة القلب والنفس، لم تزعزعها شدة المصيبة، ولم تهز كيانها المشاكل والمصائب، ومن مظاهر جرأتها العديمة المثال أنها استأذنت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تشارك في الجهاد، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((جهادكن الحج)) (¬2). وكانت قد شاركت في بعض الغزوات قبل أن ينزل الحجاب، وفي رواية أنها شاركت في غزوة بدر الكبرى كذلك. أما في غزوة أحد فكان لها سهم وافر في نصرة المجاهدين، فكانت تسقي الجرحى، وتحمل قرب الماء على عاتقها لتفرغها في أفواه المجاهدين، يقول أنس (ض): ((ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما ثم ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه باب البكر يزوجها أبوها وهي كارهة برقم 3269، وفي السنن الكبرى 284/ 3 برقم 5390، وابن ماجه في سننه برقم 1874 وأحمد في مسنده 136/ 6 برقم 25087. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه باب حج النساء عن عائشة (ض) قالت: قلت: يا رسول الله ألا نغزو ونجاهد؟ فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج، حج مبرور.

تفرغانه في أفواههم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان تفرغانه في أفواه القوم)) (¬1). وفي غزوة الخندق لما كان المسلمون شبه محصورين نزلت من الحصن الذي وضع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء والأطفال، وتقدمت إلى الصفوف الأمامية (¬2). ولا ينكر أحد أن الإمارة والولاية لا تتفق مع تكوين المرأة النفسي والعاطفي والطبيعي، كما أن الشروط اللازمة للإمامة والإمارة لا يمكن أن يتحملها هذا الجنس اللطيف الرقيق، ولذلك لم تكلفها الشريعة بحمل هذا العبء العظيم والثقل الكبير على أكتافها، ولكن لا يحتج بذلك على عدم جواز توليها وظائف أخرى، ومساهماتها في شتى ميادين السياسة، من القيام بأعمال إصلاحية، وإرشادية في الجمهور، ولا سيما في الأوضاع الطارئة التي تسود فيها نيران الفتن والفساد كل المجتمع، ولا يوجد أحد غيرها يقوم بإخماد هذه النار، والقضاء على تلك الفتن والاضطرابات واجتثاث جذورها من المجتمع البشري. وقد ذهب الإمام مالك، والطبري، وأبو حنيفة في رواية، وآخرون إلى جواز منح المرأة الإمارة وولاية القضاء (¬3). وكانت شفاء العدوية (ض) قد استعملها عمر (ض) على السوق (¬4)، وهذه عائشة (ض) ربما اجتمع عندها ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجهاد والسير برقم 2880، وكتاب المناقب برقم 3811، وكتاب المغازي برقم 4064، ومسلم في صحيحه كتاب الجهاد والسير برقم 1811. (¬2) تقول عائشة: خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس، فسمعت وئيد الأرض ورائي، فالتفت فإذا أنا يسعد بن معاذ .... الحديث أخرجه أحمد مفصلا في مسنده 6/ 141 برقم 25140 وابن حبان في صحيحه 15/ 497 برقم 7028، والذهبي في سير أعلام النبلاء 284/ 1. (¬3) قال الحافظ ابن حجر: قال الخطابي: في الحديث أن المرأة لا تلي الإمارة ولا القضاء، وأجازه الطبري، وهي رواية عن مالك، وعن أبي حنيفة: تلي الحكم فيما تجوز فيه شهادة النساء (فتح الباري 469/ 9). (¬4) أخرج أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني عن زيد بن أبي حبيب أن عمر (ض) استعمل الشفاء على السوق، قال: ولا نعلم امرأة كهذه (الآحاد والمثاني 4/ 6 رقم 3179).

عائشة (ض) ترفع راية الإصلاح وتغادر إلى البصرة

النساء، فأمتهن وقامت بينهن في الوسط (¬1). عائشة (ض) ترفع راية الإصلاح وتغادر إلى البصرة: وعلى كل فإن عائشة (ض) لما أعلنت نهوضها بأعمال الإصلاح ورفعت رايته لبى ندائها حوالي سبعمئة شخص من الحرم فقط، وتبرع ابن عامر وابن أمية - من أغنياء العرب - بمئات الآلاف من الدراهم، والبعير، وأناخوا بالأبطح معسكرا، ثم استشاروا في بيت عائشة (ض) لتقرير اتجاه مسير العسكر، فأشارت عليهم أن يتجهوا إلى المدينة حيث يوجد السبئيون والثوار - ولو كانوا اتجهوا إلى المدينة لكان الأمر مختلفا - لكن بعد مداولات الآراء ومناقشتها استقام لهم الرأي على أن يتجهوا إلى البصرة، فلما قالوا لها ذلك ولم يكن ذلك مستقيما إلا بها، قالت: نعم. وقد كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - معها على قصد المدينة. فلما تحول رأيها إلى البصرة تركن ذلك. وانطلق القوم إلى حفصة فقالت: رأيي تبع لرأي عائشة. قال يعلى بن أمية: معي ستمئة ألف، وسبعمئة بعير فاركبوها، وقال ابن عامر: معي كذا وكذا، فتجهزوا به، فنادى المنادي أن أم المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة، فمن كان يريد إعزاز الإسلام وقتال المحدثين والطلب بثأر عثمان، ومن لم يكن عنده مركب ولم يكن له جهاز، فهذا جهاز وهذه نفقة، وتجهزوا بالمال ونادوا بالرحيل واستقلوا ذاهبين، فخرجوا في سبعمئة رجل من أهل المدينة ومكة، ولحقهم الناس حتى وصل عددهم إلى ثلاثة آلاف رجل، وخرج معها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق يودعنها، فودعنها بالدموع والنحيب، ولم ير يوم كان أكثر باكيا على الإسلام منه. ولم تتهيأ لشباب بني أمية فرصة أحسن من هذه لإثارة الفتن والغوغاء فكانوا قد لجأوا إلى الحرم المكي فارين هاربين مختفين، ولما سمعوا أن أم ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3/ 131 برقم 5138، وابن أبي شيبة في المصنف 430/ 1 برقم 4954، وعبد الرزاق في المصنف 141/ 3 برقم 5086، 5087، وهو في كتاب الآثار 41/ 1 رقم 212.

قصة ماء الحوأب وعزم عائشة على الرجوع

المؤمنين خرجت تطلب ثأر دم عثمان انضموا معها، وشارك معظم الناس في هذه الجماعة، لأنهم أخبروا أن أم المؤمنين هي التي تقود هذا الجيش، فلحقوا به حتى وصلوا إلى ثلاثة آلاف لما انتهوا إلى المنزل. هذا ولم يكن الهدف الأساسي لبعض بني أمية من وراء هذه الجهود طلب ثأر دم عثمان، والعمل من أجل الإصلاح، وإنما كان غرضهم الزيادة في مشكلات علي (ض)، ولذا فإنهم لما رأوا أن هناك قوة سياسية ثالثة بدأت تنشأ بقيادة السيدة عائشة (ض). ويمكن أن تكون هذه القوة حليفهم الثاني، بدأوا ينسجون شبكات من المؤامرات الخفية والدسائس الباطنية في داخل العساكر، وبما أن هذا العسكر كان فيه العديد من مدعي الخلافة، فأول سؤال طرح عن الخليفة، من يتولى الخلافة؟ هل طلحة أو الزبير؟ فقامت عائشة (ض) بإنهاء هذه القضية، ثم ثارت فتنة أخرى حول الإمامة، من يؤم الناس؟ ومن هو أحق بالإمامة؟ فقررت عائشة (ض) لأبناء كل من طلحة والزبير أن يتناوبوا في الإمامة يوما بعد يوم. قصة ماء الحوأب وعزم عائشة على الرجوع: ولما وصلوا مياه بني عامر طرقوا ماء الحوأب ونبحت الكلاب فقالت: أي ماء هذا؟ فقالوا: ماء الحوأب، فصرخت فقالت: ما أظن إلا راجعة، وتذكرت قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما خاطبها قائلا: ((كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب؟)) (¬1) فأناخت وأناخوا حولها وهم على ذلك وهي تأبى حتى كانت الساعة التي أناخوا فيها من الغد، وفي نهاية الأمر شهد خمسون شخصا من القرية أن هذا ليس بماء الحوأب، فاطمأنت عائشة (ض)، فلما وصل الخبر إلى علي (ض) بخروج طلحة والزبير وأم المؤمنين أمر على المدينة تمام بن العباس، وبعث إلى مكة قثم بن العباس، وخرج وهو يرجو أن يأخذهم ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه 1/ 126 برقم 6732، وأورده الهيثمي في موارد الظمآن 1/ 453 برقم 1831، وابن أبي شيبة في المصنف 7/ 536 برقم 37771، والطبراني في الأوسط 6/ 234 برقم 6276، وأحمد في مسنده 6/ 25 برقم 24299 و6/ 97 برقم 24698.

أوضاع المسلمين في الكوفة

بالطريق، وأراد أن يعترضهم، وخرج معه من نشط من الكوفيين والبصريين. فجاءها ابن الزبير فقال: النجاء النجاء، فقد أدرككم والله علي بن أبي طالب، فارتحلوا. هذه رواية الطبري (¬1) وما شاكله من كتب التاريخ. وقد أخرج الإمام أحمد هذه القصة بلسان عائشة (ض) نفسها أنها أتت على الحوأب وسمعت نباح الكلاب، فقالت: ما أظنني إلا راجعة، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: ((أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب))؟ فقال لها الزبير: ترجعين؟ عسى الله عز وجل، أن يصلح بك بين الناس (¬2)، وفي رواية أخرى: ((فقال بعض من كان معها بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله عز وجل ذات بينهم)) (¬3) وهذه الروايات خير دليل على أن مسيرة عائشة (ض) كان الغرض الأساسي منها هو الإصلاح بين الناس لا غير. أوضاع المسلمين في الكوفة: كانت الكوفة أكبر بلاد المسلمين بعد مكة والمدينة والبصرة، وكان واليها أبو موسى الأشعري (ض)، وزعماء الفريقين يحاولون إقناع العامة بما يرونهم، ودعوتهم إليهم كل على حدة، فجاء الناس إلى أبي موسى الأشعري (ض) يستشيرونه في الخروج، فقال أبو موسى: ((كان الرأي بالأمس ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 3/ 11. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده 97/ 6 برقم 24698، كما أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 129 برقم 4613، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 234 وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح، وإسحاق بن راهويه في مسنده 3/ 891 برقم 1569 ونعيم بن حماد في الفتن 1/ 83 برقم 188. (وانظر كذلك الهامش السابق). (¬3) مسند الإمام أحمد 92/ 6 برقم 24299، هذا وروايتا أحمد عن طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، واختلفت أقوال المحدثين في قيس بين التوثيق والتجريح، ووصفه البعض بأنه ضعيف منكر الرواية ساقط الحديث، وتكلموا في صحة روايته هذه عن الحوأب، (انظر تهذيب التهذيب 8/ 346 رقم الترجمة 691).

ليس باليوم، إن الذي تهاونتم به فيما مضى هو الذي جر عليكم ما ترون، وما بقي إنما هما أمران: القعود سبيل الآخرة والخروج سبيل الدنيا)). وكتبت عائشة (ض) إلى الكوفة مع رسولهم، وأرسل علي (ض) عمارا ومعه الحسن (ض) إلى الكوفة، فخطب عمار في جامع الكوفة حول الأوضاع الراهنة، وبين مناقب أم المؤمنين (ض)، ثم قال: هذا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى طلحة والزبير، وإني أشهد أنها زوجته في الدنيا والآخرة، فانظروا ثم انظروا في الحق، فقاتلوا معه، ثم قام الحسن بن علي فقال: ياأيها الناس أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فأجيبوا دعوتنا على ما ابتلينا به وابتليتم، فسامح الناس وأجابوا ورضوا به، وأثر فيهم هذا الخطاب تأثيرا عجيبا، ونفر معهم تسعة آلاف، فأخذ بعضهم البر وأخذ بعضهم الماء. إلا أن الناس كانوا مترددين إلى أي جانب يميلون ومع من يروحون، لأنهم وجدوا أم المؤمنين وحبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جانب، وابن عم الرسول وصهره في جانب آخر. ولما وصلت عائشة (ض) قرب البصرة، أرسلت بعض الناس لكي يخبروا الناس بالواقعة، كما كتبت إلى رؤساء وسادات العرب في البلاد، وذهبت إلى بعض الرؤساء، وقد امتنع رئيس من قبيلة ما، فذهبت إليه عائشة (ض) بنفسها وأقنعته فقال: أنا أستحيي أن أرفض أمي ولا أطيع أمرها (¬1)، وكان عثمان بن حنيف قد ولاه علي (ض) البصرة، فدعا عثمان عمران بن حصين وألزمه بأبي الأسود الدؤلي فقال: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها، فخرجا فانتهيا إليها وإلى الناس فاستأذنا فأذنت لهما، فسلما وقالا: إن أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت (ض): ((والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم ولا يغطي لبنيه الخبر، إن الغوغاء من ¬

_ (¬1) ذكر في الأخبار الطوال ((أن كعب بن سور قعد عنهم في أهل بيته حتى أتته عائشة في منزله فأجابها وقال: أكره ألا أجيب أمي)). انظر: الأخبار الطوال، لأبي حنيفة أحمد بن دواد الدينوري، تحقيق عبد المنعم عامر ص (144) ط: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة 1960م.

أهل الأمصار ونزاع القبائل، غزوا حرم رسول الله، وأحدثوا فيه الأحداث، وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر، فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام والشهر الحرام، ومزقوا الأعراض والجلود، وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم، ضارين مضرين، غير نافعين ولا متقين، لا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت في المسلمين، أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم، وما فيه الناس وراءنا، ولا ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا، وقرأت: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] ننهض في الإصلاح ممن أمر الله عز وجل، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصغير والكبير والذكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به ونحضكم عليه، ومنكر ننهاكم عنه ونحثكم على تغييره)) (¬1). فخرج أبو الأسود وعمران من عندها، فأتيا طلحة، فقالا: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان، قالا: ألم تبايع عليا؟ قال: بلى، والعج في عنقي وما أستقيل عليا، إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان، ثم أتيا الزبير وسألاه نفس السؤال، فأجابهما الزبير بما أجاب طلحة، فرجعا إلى أم المؤمنين فودعاها فودعت عمران وقالت: ((يا أبا الأسود إياك أن يقودك الهوى إلى النار، {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8])). وقد أثر كلام عائشة (ض) في عمران، واعتزل عن المعركة، وقال لعثمان: والله لتعركنكم عركا طويلا، ثم لا يساوي ما بقي منكم كثير شيء، فقال له عثمان: فأشر علي يا عمران! قال: إني قاعد فاقعد، فقال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين علي وانصرف إلى بيته، ثم نادى في الناس، وأمرهم بالتهيؤ، ولبسوا السلاح، واجتمعوا إلى المسجد الجامع. وأقبل عثمان على الكيد، فكاد الناس لينظر ما عندهم وأمرهم بالتهيؤ، وأمر رجلا ودسه إلى الناس خدعا كوفيا قيسيا فقام فقال: ياأيها الناس أنا ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 14/ 3.

خطبة عائشة (ض) في البصرة

قيس بن العقدية الحميسي، إن هؤلاء القوم الذين جاؤوكم، إن كانوا جاؤوكم خائفين فقد جاؤوا من المكان الذي يأمن فيه الطير، وإن كانوا جاؤوا يطلبون بدم عثمان (ض) فما نحن بقتلة عثمان، أطيعوني في هؤلاء القوم فردوهم من حيث جاؤوا (¬1). وقد وقع سهم الخطيب في موقعه، وتأثر العامة بكلامه، إذ قام الأسود بن سريع السعدي فقال: أو زعموا أنا قتلة عثمان (ض)؟ فإنما فزعوا إلينا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا، فإن كان القوم أخرجوا من ديارهم كما زعمت، فمن يمنعهم من إخراجهم الرجال أو البلدان (¬2). ولم تكن هذه الكلمات أقل تأثيرا مما سبق، وكان الناس يستمعون إلى هذه الخطب إذ دخلت عائشة (ض) فيمن معها حتى إذا انتهو إلى المربد ودخلوا من أعلاه أمسكوا ووقفوا حتى خرج عثمان فيمن معه، وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يخرج إليها، ويكون معها، فاجتمعوا بالمربد وجعلوا يثوبون حتى غص بالناس فتكلم طلحة ثم تكلم الزبير وتحاثى الناس وتحاصبوا وأرهجوا. خطبة عائشة (ض) في البصرة: فتكلمت عائشة وكانت جهورية الصوت، يعلو صوتها كثرة، كأنه صوت امرأة جليلة، فحمدت الله عز وجل وأثنت عليه وقالت: ((كان الناس يتجنون على عثمان (ض)، ويزرون على عماله، ويأتوننا بالمدينة يستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، ويرون حسنا من كلامنا في صلاح بينهم، فننظر في ذلك فنجده برا تقيا وفيا، ونجدهم فجرة كذبة، يحاولون غير ما يظهرون، فلما قووا على المكاثرة كاثروه، فاقتحموا عليه داره، واستحلوا الدم الحرام والمال الحرام والبلد الحرام بلا ترة ولا عذر، ألا إن مما ينبغي لا ينبغي لكم غيره، أخذ قتلة عثمان (ض)، وإقامة كتاب الله عز وجل (¬3) {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 3/ 15. (¬2) تاريخ الطبري 3/ 15. (¬3) نفس المصدر.

خطبة أخرى لعائشة (ض)

يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23]. خطبة أخرى لعائشة (ض): وينسب إلى أم المؤمنين عائشة (ض) خطبة أخرى بهذه المناسبة، وهي تفوق الخطبة المذكورة من حيث البلاغة والفصاحة ورصانة في الأسلوب ورشاقة في البيان ونصها: ((إن لي عليكم حرمة الأمومة (¬1)، وحق الموعظة، لا يتهمني إلا من عصى ربه، قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سحري ونحري (¬2)، وأنا إحدى نسائه في الجنة، له ادخرني ربي وحصنني من كل بضع، وبي ميز مؤمنكم من منافقكم (¬3)، وبي أرخص الله لكم في صعيد الأبواء وفي نسخة ((ثم أبي ثاني اثنين الله ثالثهما)) وأبي رابع أربعة من المسلمين (¬4)، وأول من سمي صديقا (¬5)، قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنه راض. وقد طوقه وهف الإمامة (¬6)، ثم اضطرب حبل الدين، فأخذ بطرفيه، ورتق لكم أثناءه (¬7)، فوقد النفاق، وأغاض نبع (¬8) الردة، وأطفأ ما تحش يهود، وأنتم يومئذ جحظ العيون، تنظرون العدوة وتستمعون الصيحة (¬9)، فرأب الثأي وأوزم العطلة (¬10)، وامتاح ¬

_ (¬1) لأنها من أمهات المؤمنين أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]. (¬2) السحر: الرئة، والنحر: أعلى الصدر، تريد أنه مات محضونا بين يديها وصدرها. (¬3) تشير إلى حديث الإفك المعروف، وخلاصته أن قوما اتهموها بريبة فنزل الوحي ببراءتها وعلم أن المنافقين هم الذين شنعوا في التهمة، وقد سبق ذكره. (¬4) تشير إلى انه من الأوائل السابقين في التشرف بدخول الإسلام. (¬5) لأنه كان كلما تحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء أجابه ((صدقت)). (¬6) أي ثقلها. (¬7) الرتق ضد الفتق، وأثناء الشيء: قواه، تريد لما اضطرب الأمر يوم الردة أحاط به من جوانبه وضمه. (¬8) النبع: العين التي يخرج منها الماء، وأغاضه: أنقصه، تريد أنه لافى فورتها من أصلها. (¬9) تريد أنهم كانوا في حالة جهد وبلاء، أجحظوا عيونهم أي أبرزوها وهم ينظرون الوثبة عليهم ويسمعون للتصايح إليهم، وقد أسقط في يدهم. (¬10) العطلة: الدلو المعطلة عن الاستقاء لانقطاع وزمها: أي السيور التي بين آذانها أو عراها، وأوزمها: أي شدها وأصلحها.

من المهواة (¬1)، واجتحى دفين الداء، ثم انتظمت طاعتكم بحبله، فولى أمركم رجلا شديدا في ذات الله عز وجل، مذعنا إذا ركن إليه، بعيدا ما بين اللابتين (¬2) عركة للأذاة بجنبه، فقبضه الله وأطا على هامة النفاق، مذكيا نار الحرب للمشركين، يقظان الليل في نصرة الإسلام، صفوحا عن الجاهلين، خشاش المرآة والمخبرة، فسلك مسلك السابقية، تبرأت إلى الله من خطب جمع شمل الفتنة، ومزق ما جمع القرآن، أنا نصب المسألة عن مسيري هذا، ألا وإني لم أجرد إثما أدرعه، ولم أدنس فتنة أوطئكموها، أقول قولي هذا صدقا وعدلا واعتذارا وتعذيرا، وأسأل الله أن يصلي على محمد عبده ورسوله وأن يخلفه في أمته بأفضل خلافة المرسلين)) (¬3). وكانت هذه الخطبة قمة في البلاغة والفصاحة، ذات تأثير عميق، فبهرت فصاحتها السامعين وسحرتهم بلاغتها، وأدهشتهم عارضتها، لم يسمع الناس أفخم ولا أحسن منها، وقد وقعت موقع السهم في هدفه، وافترق أصحاب عثمان بن حنيف فرقتين، فقالت فرقة: صدقت والله وبرت، وجاءت والله بالمعروف، وقال الآخرون: كذبتم، والله ما نعرف ما تقولون، فتحاثوا وتحاصجوا وأرهجوا، فلما رأت ذلك عائشة انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان، حتى وقفوا في المربد، وبقي أصحاب عثمان على حالهم يتدافعون حتى تحاجزوا، ومال بعضهم إلى عائشة، وبقي بعضهم مع عثمان. وفي اليوم الثاني بدأت المعركة بين الفريقين حيث أقبل حكيم بن جبلة، وقد خرج وهو على الخيل، فأنشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة (ض) ¬

_ (¬1) امتاح: انتزع، والمهواة: أرادت بها البئر العميقة. (¬2) اللابتان: مثنى اللابة، وهي حرة المدينة. وهي أرض ذات حجارة سود كبيرة، تريد أنه واسع الصدر، فاستعارت له اللابة كما يقال: ((رحب الفناء واسع الجناب)). (¬3) انظر: بلاغات النساء لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور الخراساني، تحقيق د. عبد الحميد الهنداوي، ط: دار الفضيلة القاهرة، كما ذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد باب الخطيب، وذكر واقعة الجمل. وكذلك أحال إليه العلامة الشاه ولي الله الدهلوي في كتابه إزالة الخفاء.

رماحهم وأمسكوا ليمسكوا فلم ينته ولم يثن، فقاتلهم، وأصحاب عائشة كافون إلا ما دافعوا عن أنفسهم، وحكيم يذمر خيله ويركبهم بها، ويقول: إنها قريش ليردينها جبنها، واقتتلوا على فم السكة، وأشرف أهل الدور ممن كان له في واحد من الفريقين هوى، فرموا باقي الآخرين بالحجارة. وأمرت عائشة أصحابها، فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن، فوقفوا بها مليا، وثار إليهم الناس، فحجز الليل بينهم، فرجع عثمان إلى القصر، ورجع الناس إلى قبائلهم، وجاء أبو الجرباء أحد بني عثمان بن مالك بن عمرو بن تميم إلى عائشة وطلحة والزبير فأشار عليهم بأمثل من مكانهم، فاستنصحوه وتابعوا رأيه، فساروا من مقبرة بني مازن، فأخذوا على مسناة البصرة من قبل الجبانة، حتى انتهوا إلى الزابوقة، فباتوا يتأهبون، وبات الناس يسيرون إليهم، وأصبح عثمان بن حنيف فغاداهم، وغدا حكيم بن جبلة وهو يبربر، وفي يده الرمح، فقال له رجل من عبد القيس: من هذا الذي تسب وتقول له ما أسمع؟ قال: عائشة، قال: يا ابن الخبيثة! ألأم المؤمنين تقول هذا؟ فوضع حكيم السنان بين ثدييه فقتله، ثم مر بامرأة وهو يسبها يعني عائشة، فقالت: من هذا الذي ألجأك إلى هذا؟ قال: عائشة، قالت: يا ابن الخبيثة! ألأم المؤمنين تقول هذا؟ فطعنها بين ثدييها فقتلها، وقد كثر القتلى في أصحاب ابن حنيف، وفشت الجراحة في الفريقين، ومنادي عائشة يناشدهم ويدعوهم إلى الكف، فيأبون، حتى إذا مسهم الشر وعضهم، نادوا أصحاب عائشة إلى الصلح فأجابوهم، وتواعدوا وكتبوا بينهم كتابا على أن يبعثوا رسولا إلى المدينة، وحتى يرجع الرسول إلى المدينة، فإن كانا أكرها (طلحة والزبير) خرج عثمان عنهما وأخلى لهما البصرة، وإن لم يكونا أكرها خرج طلحة والزبير. فخرج كعب حتى يقدم المدينة، فاجتمع الناس لقدومه، وكان قدومه يوم الجمعة، فقام كعب وقال: يا أهل المدينة إني رسول أهل البصرة إليكم، أأكره هؤلاء القوم هذين الرجلين على بيعة علي أم أتياها طائعين؟ فلم يجبه أحد من القوم، إلا ما كان من أمامة بن زيد، فإنه قام فقال: اللهم إنهما لم يبايعا إلا

مكاتبة عائشة لأهل الكوفة

وهما كارهان، فواثبه سهل بن حنيف والناس، وثار صهيب بن سنان وأبو أيوب بن زيد في عدة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيهم محمد بن مسلمة حين خافوا أن يقتل أسامة، فقال: اللهم نعم، فانفرجوا عن الرجل فانفرجوا عنه، وأخذ صهيب بيده حتى أخرجه، فأدخله منزله، وبلغ عليا الخبر الذي كان بالمدينة من ذلك، فبادر بالكتاب إلى عثمان يعجزه، ويقول: والله ما أكرها إلا كرها على فرقة، ولقد أكرها على جماعة وفضل، وقدم كعب فأرسلوا إلى عثمان أن اخرج عنا فاحتج عثمان بالكتاب، وقال: هذا أمر آخر غير ما كنا فيه، فجمع طلحة والزبير الرجال في ليلة مظلمة باردة ذات رياح وندى، ثم قصدا المسجد فوافقا صلاة العشاء، وكانوا يؤخرونها فأبطأ عثمان بن حنيف فقدما عبد الرحمن بن عتاب، فشهر الزط والسيابجة السلاح، ثم وضعوه فيهم، فأقبلوا عليهم فاقتتلوا في المسجد، وصبروا لهم، فأناموهم وهم أربعون، وأدخلوا الرجال على عثمان ليخرجوه إليهما، فلما وصل إليهما توطؤوه، وما بقيت في وجهه شعرة، ثم بعثت (ض): لا تحبسا عثمان ودعاه، ففعلا، فخرج عثمان، وقالت عائشة (ض): لا تقتلوا إلا من قاتلكم. ونادوا من لم يكن من قتلة عثمان (ض) فليكفف عنا، فإنا لا نريد إلا قتلة عثمان، ولا نبدأ أحدا، فأنشب حكيم القتال ولم يرع للمنادي. مكاتبة عائشة لأهل الكوفة: وكتبت عائشة (ض) إلى أهل الكوفة مع رسولهم: ((أما بعد فإني أذكركم الله عز وجل والإسلام، أقيموا كتاب الله بإقامة ما فيه، اتقوا الله واعتصموا بحبله وكونوا مع كتابه، فإنا قدمنا البصرة فدعوناهم إلى إقامة كتاب الله بإقامة حدوده، فأجابنا الصالحون إلى ذلك، واستقبلنا من لا خير فيه بالسلاح، وقالوا: لنتبعنكم عثمان، ليزيدوا الحدود تعطيلا، فعاندوا فشهدوا عليا بالكفر وقالوا لنا المنكر، فقرأنا عليهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 23])) فأذعن لي بعضهم واختلفوا بينهم فتركناهم وذلك، فلم يمنع ذلك من كان منهم على رأيه

الأول من وضع السلاح في أصحابي، وعزم عليهم عثمان بن حنيف إلا قاتلوني حتى منعني الله عز وجل بالصالحين، فرد كيدهم في نحورهم، فمكثنا ستا وعشرين ليلة ندعوهم إلى كتاب الله وإقامة حدوده، وهو حقن الدماء أن تهراق دون من قد حل دمه، فأبوا واحتجوا بأشياء فاصطلحنا عليها، فخافوا وعذروا وخانوا، فجمع الله عز وجل لعثمان ثأرهم، فأقادهم، فلم يفلت منهم إلا رجل، وأردأنا الله ومنعنا منهم بعمير بن مرثد ومرثد بن قيس ونفر من قيس ونفر من الرباب والأزد، فالزموا الرضا إلا عن قتلة عثمان بن عفان، حتى يأخذ الله حقه، ولا تخاصموا الخائنين، ولا تمنعوهم، ولا ترضوا بذوي حدود الله فتكونوا من الظالمين (¬1). وكتبت عائشة (ض) إلى رجال بأسمائهم خاصة وفيما يأتي نص الرسالة: ((فثبطوا الناس عن منع هؤلاء القوم ونصرتهم، واجلسوا في بيوتكم، فإن هؤلاء القوم لم يرضوا بما صنعوا بعثمان بن عفان (ض)، وفرقوا بين جماعة الأمة، وخالفوا الكتاب والسنة، حتى شهدوا علينا فيما أمرناهم به وحثثناهم عليه من إقامة كتاب الله وإقامة حدوده، بالكفر وقالوا لنا المنكر، فأنكر ذلك الصالحون، وعظموا ما قالوا، وقالوا ما رضيتم أن قتلتم الإمام حتى خرجتم على زوجة نبيكم أن أمرتكم بالحق لتقتلوها، وأصحاب رسول الله وأئمة المسلمين، فعزموا وعثمان بن حنيف معهم على من أطاعهم من جهال الناس، وغوغائهم على زطهم وسيابجهم، فلذنا منهم بطائفة من الفساط، فكان ذلك الدأب ستة وعشرين يوما، ندعوهم إلى الحق وألا يحولوا بيننا وبين الحق، فغدروا وخانوا، فلم نقايسهم، واحتجوا ببيعة طلحة والزبير، فأبردوا بريدا فجاءه بالحجة فلم يعرفوا الحق ولم يصبروا عليه، فغادوني في الغلس ليقتلوني والذي يحاربهم غيري، فلم يبرحوا حتى بلغوا سدة بيتي ومعهم هاد يهديهم إلي، فوجدوا نفرا على باب بيتي منهم عمير بن مرثد ومرثد بن قيس ويزيد بن عبد الله بن مرثد ونفر من قيس ونفر من الرباب والأزد، فدارت عليهم ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 20/ 3.

معركة الجمل

الرحى، فأطاف بهم المسلمون فقتلوهم، وجمع الله عز وجل كلمة أهل البصرة على ما أجمع عليه الزبير وطلحة، فإذا قتلنا بثأرنا وسعنا العذر، وكانت الوقعة لخمس ليال بقين من ربيع الآخر سنة ست وثلاثين)) (¬1). معركة الجمل: خرج علي (ض) من المدينة ومعه مبعمئة شخص، فلما وصل إلى الكوفة اجتمع معه سبعة آلاف، وأهل البصرة كانوا ينتظرونهم، فلما وصلوا إلى البصرة كانوا حوالي عشرين ألفا. أما عائشة (ض) فاجتمع حواليها ثلاثون ألف شخص تقريبا، وتواجه الفريقان في ساحة المعركة والتقوا، فنزلت القبائل إلى قبائلهم، مضرهم إلى مضرهم، ربعيهم إلى ربعيهم، يمانيهم إلى يمانيهم، فوضعوا فيهم السلاح. فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين بهتوهم. كانت هذه المأساة المروعة تعتبر من أعظم المآسي في تاريخ المسلمين، وهذا اليوم المشؤوم المفجع الذي لم ير المسلمون أسوأ منه في تاريخهم، وبالرغم من أن القلوب كانت عامرة بالحب والمودة، إلا أن الفكرة السياسية قد فرقت بين الأشقاء، وفلذات أكباد أم واحدة، فواحد هنا والآخر هناك، كل واحد يرى الحق في مكان دون مكان، وكان الشوق إلى البحث عن الحق والوصول إليه مرتبطا بالحب الأخوي، وقلب كل مسلم يبكي دما لما يعاني من هذا الموقف العصيب الشديد، ويواجه هذه المأساة الأليمة، ويرى أن تلك السيوف التي كانت تصيب رؤوس المشركين وتقضي على الباطل، سوف تستخدم الآن لإصابة أيدي وصدور الأصدقاء والإخوان من المسلمين، ولما رأى الزبير (ض) هذا المنظر المفجع لم يلبث إلا أن قال: لما أصبح المسلمون مثل الجبال الراسيات في القوة والطاقة يريدون أن يحطم بعضهم بعضا. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 21/ 3 - 20.

مجهودات القعقاع للإصلاح بين الفريقين

وكان كلا الفريقين يعتبر نفسه على الحق دون الآخر، ولا يرضى أن يتزعزع من موقفه، ويتنازل عنه ولو قيد شبر. وأرسل بعض بني عدي فيمن أرسل، فأقبل رسوله حتى نادى على باب مسجدهم: ألا إن أبا نجيد عمران بن الحصين يقرئكم السلام ويقول لكم: والله لأن أكون في جبل حضن مع أعنز وضأن، أجز أصوافها وأشرب ألبانها، أحب إلي من أن أرمي في شيء من هذين الصفين بسهم، فقالت بنو عدي جميعا بصوت واحد: إنا والله لا ندع ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشيء، يعنون أم المؤمنين. هذا وكان كلا الفريقين على يقين أن هذه المعركة لا تطول إلى المواجهة والمحاربة، وإنما تنحل بالصلح والإصلاح، فأرسل علي القعقاع بن عمرو إلى طلحة والزبير فخرج القعقاع حتى قدم البصرة، فبدأ بعائشة (ض) وقال: أي أمه ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني، إصلاح بين الناس، فسأل طلحة والزبير: ما تقولان أنتما: أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان، قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عرفنا لنصلحن، ولئن أنكرناه لا نصلح، قالا: قتلة عثمان (ض)، فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن، وإن عمل به كان إحياء للقرآن، فقال: قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة، وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمئه إلا رجلا، فغضب لهم ستة آلاف، واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم، فلما سمعوا ذلك أثر فيهم هذا الكلام وقالوا: نعم إذا قد أحسنت، وأصبت المقالة، فارجع، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر، فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، فكره ذلك من كرهه ورضيه من رضيه (¬1). مجهودات القعقاع للإصلاح بين الفريقين: هذا وقد أثمرت مساعي القعقاع التي بذلها للإصلاح بين الفريقين، ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 29/ 3، والبداية والنهاية 238/ 7، السيرة الحلبية 3/ 358.

تذكير علي طلحة والزبير بمقالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورجوعهما عن المعركة، وشهادة الزبير

وأيقن الجميع ان الصلح قريب، ولكن أدرك الثائرون على عثمان (ض) أن الصلح ليس في صالحهم، وأن الدائرة ستدور عليهم، وأن كل ما بذلوه من الجهود طوال السنوات الماضية سيذهب سدى في لحظة واحدة، وكان أكثر السبئية مع علي (ض)، وبات الفريقان على الصلح، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة، وباتوا يتشاورون، ثم اتفقوا على إنشاب الحرب في السر، واستسروا ذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر، فغذوا مع الغلس، وما يشعر بهم جيرانهم، وانسلوا إلى ذلك الأمر انسلالا، وعليهم ظلمة، فخرج مضريهم إلى مضريهم، وربعيهم إلى ربعيهم، ويمانيهم إلى يمانيهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين بهتوهم (¬1). وهكذا قامت الحرب على قدم وساق، وتبارز الفرسان وجالت الشجعان، وكان علي (ض) ينادي: أيها الناس كفوا فلا شيء، فلا يسمع أحد، وثار كل فريق إلى سلاحه، وقام الناس من منامهم إلى السلاح فقالوا: طرقتنا أهل الكوفة ليلا وبيتونا وغدروا بنا، وأصبحوا على القتال، فلما سمعت عائشة (ض) بالغوغاء سألت: ما هذا؟ فقالوا: ضجة العسكر، وأقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة (ض) فقال: أدركي، فقد أبى القوم إلا القتال، لعل الله يصلح بك، فركبت وألبسوا هودجها الأدرع ثم بعثوا جملها. تذكير علي طلحة والزبير بمقالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورجوعهما عن المعركة، وشهادة الزبير: وطلب علي طلحة والزبير ليكلمهما، فاجتمعوا حتى التقت أعناق خيولهم، وذكرهما بمقالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفيها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليهما فقال لعلي: ما يقول ابن عمتك؟ ((ليقاتلنك وهو لك ظالم)) (¬2). فانصرف عنه الزبير ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 3/ 40 - 39، البداية والنهاية 240/ 7. (¬2) تاريخ الطبري 3/ 40.

وقال: اللهم نعم، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، ووالله لا أقاتلك (¬1). ومضى الزبير (ض) متجها إلى المدينة المنورة، فرآه عمرو بن جرموز وتبعه، وحضرت الصلاة، فقال ابن جرموز: الصلاة، فقال الزبير: الصلاة، فنزلا، واستدبره ابن جرموز فطعنه من خلفه في حربان درعه فقتله، وأخذ فرسه وخاتمه وسلاحه، ودخل على علي (ض) فأخبره، فدعا بالسيف فقال: سيف طالما جلى الكرب عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وكان طلحة يريد أن ينصرف، إذ رآه مروان بن الحكم وكان يعتقد أن حياته هي الحاجز الأكبر في سبيل الأمويين، فرماه بسهم غرب نظم ركبته بصفحة الفرس حتى امتلأ جرموقه دما، ثم مات (ض)، فأخذ كعب بن سور مصحف عائشة فبدر بين الصفين يناشدهم الله عز وجل، في دمائهم وأعطي فرمى بها تحته وأتى يترسه فتنكبه فرشقوه رشقا واحدا فقتلوه (ض). ووقف الناس للقتال، فكان القتال نصف النهار مع عائشة، وتزاحف الناس، فهزمت يمن البصرة يمن الكوفة، وأفلت الأمر من يد عائشة (ض)، المتقاتلون كلهم كانوا إخوانا، كانوا يضربون على الأيدي والأرجل، ويتجنبون الصدور والرؤوس، وجعلوا يبترون الأطراف الأيدي والأرجل، فما رئيت وقعة قط قبلها ولا بعدها، ولا يسمع بها أكثر يدا مقطوعة ورجلا مقطوعة منها لا يدرى من صاحبها. وحاول السبئية أنهم لو حصلوا على عائشة (ض) ليعاملنها معاملة سيئة، وتقدم أهل الكوفة بعد طلحة والزبير إلى هودج عائشة (ض) أكثرهم ضبة والأزد، فقالت لمن عن يسارها: من القوم؟ قالوا: صبرة بن شيمان بنوك ¬

_ (¬1) البداية والنهاية 241/ 7، قلت: قال ابن كثير في البداية والنهاية: وفي هذا السياق كله نظر، والمحفوظ منه الحديث الذي رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أبي حازم المازني قال: شهدت عليا والزبير حين توافقا، فقال له علي: يا زبير أنشدك الله أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنك تقاتلني وأنت ظالم؟ قال: نعم لم أذكره إلا في موقفي هذا ثم انصرف، ورواه البيهقي مرسلا. (¬2) تاريخ الطبري 3/ 56.

عقر جمل عائشة (ض) لإيقاف المعركة

الأزد، قالت: يا آل غسان حافظوا اليوم جلادكم الذي كنا نسمع به، وقالت لمن عن يمينها: من القوم؟ قالوا: بكر بن وائل، وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت: من القوم؟ قالوا: بنو ناجية، ثم أطافت بها بنو ضبة، وكانت بنو الأزد ترتجز بهذه الأبيات: يا أمنا يا خير أم نعلم … أما ترين كم شجاع يكلم وتختلى هامته والمعصم عقر جمل عائشة (ض) لإيقاف المعركة: وأدرك علي (ض) أن القتال لن يتوقف حتى يعقر الجمل، فنادى: اعقروا الجمل، فإنه إن عقر تفرقوا، وكانت بنو ضبة محيطة بالجمل، لا يمر أحد من حواليه إلا قضوا عليه، وكانوا يحضضون قومهم، وقد تعاوروا الخطام ويرتجزون: ((نحن بنو ضبة لا نفر … حتى نرى جماجم تخر يخر منها العلق المحمر يا أمنا يا عيش لا تراعي … كل بنيك بطل شجاع يا أمنا يا زوجة النبي … يا زوجة المبارك المهدي وكانوا أكثر ما يرتجزون به من الأبيات هي: ((نحن بنو ضبة أصحاب الجمل … الموت أحلى عندنا من العسل نحن بنو الموت إذا الموت نزل … ننعى ابن عفان بأطراف الأسل ردوا علينا شيخنا ثم بجل وقد استبسلت بنو ضبة حول جمل السيدة عائشة (ض) فقاتلوهم، فقتل يومئذ سبعون رجلا، كلهم يأخذ بخطام الجمل، وحمل الأشتر فاعترضه عبد الله بن الزبير فاختلفا ضربتين، ضربه الأشتر فأمه وواثبه عبد الله فاعتنقه فخر به وجعل يقول: اقتلوني ومالكا، وكان الناس لا يعرفونه بمالك، ولو قال والأشتر وكانت له ألف نفس ما نجا منها شيء. ورأى رجل من بني ضبة أنه لو لم يعقر الجمل سيقضى على قبيلته، ولن

توديع علي عائشة وتشييعها بكل الإجلال والتوقير

يبقى لها أي أثر، فجاء من الخلف وعقر الجمل فسقط الجمل، ثم أتى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر إلى عائشة وقد عقر الجمل فقطعا غرضة الرحل، واحتملا الهودج فنحياه، وأمر علي محمد بن أبي بكر فضرب عليها قبة، وقال: انظر هل وصل إليها شيء، فلما وضعاه أدخل محمد يده وقال: أخوك محمد، فقالت: مذمم، قال: يا أخية هل أصابك شيء؟ قالت: ما أنت من ذاك؟ قال: فمن إذا الضلال؟ قالت: بل الهداة. توديع علي عائشة وتشييعها بكل الإجلال والتوقير: وانتهى إليها علي فقال: كيف أنت يا أمه؟ قالت: بخير، قال: يغفر الله لك، قالت: ولك (¬1). ولما كان من آخر الليل خرج محمد بن أبي بكر بعائشة حتى أدخلها البصرة فأنزلها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية بنت الحارث، وجهز علي عائشة بكل شيء ينبغي لها من مركب أو زاد وأخرج معها كل من نجى ممن خرج معها إلا من أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات. وقال لأخيها: تجهز يا محمد فبلغها، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاءها حتى وقف لها، وحضر الناس فخرجت على الناس، وودعوها وودعتهم وقالت: يا بني تعتب بعضنا على بعض استبطاء واستزادة، فلا يعتدن أحد منكم على أحد بشيء بلغه من ذلك، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم، إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه عندي - على معتبتي - لمن الأخيار. وقال علي: صدقت والله وبرت ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة، وشيعها علي أميالا وسرح بنيه معها يوما (¬2). وارتحلت (ض) قاصدة مكة، وأقامت فيها إلى الحج، ثم رجعت إلى المدينة المنورة بعد طول غياب. ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 3/ 55. (¬2) تاريخ الطبري 61/ 3.

تأسف عائشة (ض) على خطئهما الاجتهادي

تأسف عائشة (ض) على خطئهما الاجتهادي: وكانت تتأسف طول عمرها على ما صدر منها م الخطأ الاجتهادي في اختيارها المنهج الإصلاحي، وكانت تقول حين حضرتها الوفاة: يا ليتني لم أخلق، يا ليتني كنت شجرة، أسبح وأقضي ما علي. وكانت تقول: يا ليتني كنت شجرة، يا ليتني كنت مدرة، يا ليتني كنت حجرا (¬1). روى الطبري في تاريخه أن كوفيا دخل على عائشة (ض) بالمدينة فقالت: من أنت؟ فقال: رجل من الأزد، أسكن الكوفة، قالت: أشهدتنا يوم الجمل؟ قال: نعم، قالت: ألنا أم علينا؟ قال: عليكم، قالت: أفتعرف الذي يقول: ((يا أمنا يا خير أم نعلم))؟ قال: نعم، ذاك ابن عمي، فبكت حتى ظننت أنها لا تسكت (¬2). وقد أوصت (ض) أن لا تدفن مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل مع غيرها من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في البقيع، ((عن عائشة (ض) أنها أوصت عبد الله بن الزبير (ض): لا تدفني معهم، وادفني مع صواحبي بالبقيع، لا أزكى به أبدا)) (¬3). وفي رواية ((فإني أكره أن أزكى)) (¬4) وفي رواية للحاكم ((قالت عائشة وكانت تحدث نفسها أن تدفن في بيتها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، فقالت: إني أحدثث بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثا، ادفنوني مع أزواجه، فدفنت بالبقيع)) (¬5). وكانت (ض) إذا قرأت قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 31] بكت حتى تبل خمارها (¬6). ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 74 - 73. (¬2) تاريخ الطبري 48/ 3 - 47. (¬3) أخرجه الإمام البخاري في صحيه كتاب الجنائز برقم 1391. (¬4) صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة برقم 7327. (¬5) أخرجه الحاكم في المستدرك 7/ 4 برقم 6717، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (¬6) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 80.

الرد على القول بالجفاء في علاقة علي بعائشة (ض)

الرد على القول بالجفاء في علاقة علي بعائشة (ض): لقد زعم بعض المؤرخين من ذوي العصبيات السياسية والأفكار المريضة أن السبب الحقيقي لمشاركة أم المؤمنين عائشة (ض) في معركة الجمل يرجع إلى حديث الإفك الذي سبق ذكره، وذلك أن عليا (ض) حينما استأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - في فراق أهله بعد أن استلبث الوحي عليه قال: ((يا رسول الله لم يضيق الله عليك))، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك (¬1) ولذا فإن عائشة (ض) لم تنس له تلك البادرة التي كادت تعصف بروحها عصفا لولا لطف الله بنبيه وبها، فأنزل عليه براءتها. ولكن الواقع يرفض هذا التصور من كل الوجوه، ويكفينا لبيان بطلان هذه المزاعم ما سردناه من تفاصيل المعركة، وهذا ما دفعنا إلى ذكر سائر الرسائل التي كتبت، والخطب التي ألقيت، ومن أمعن النظر فيها لا يجد أمرا يوحي ويؤشر إلى تعكير صفو العلاقة بين علي وعائشة (ض)، بل كانت المعركة مصادفة، وكان الفريقان بريئين إلا الذين تعمدوا هذه الجريمة وأشعلوا نيران الفتن من الثائرين على عثمان (ض). وصحيح أن عائشة (ض) ردت مزاعم السبئية القائلة بأن عليا وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للخلافة، وكانت تقول: ((متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري أو قالت حجري، فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري وما شعرت أنه قد مات، فمتى أوصى إليه)) (¬2). ولكن لا يدل ذلك على أنه نجم خلاف بينهما أو ساءت علاقتهما، ¬

_ (¬1) يراجع حديث الإفك، صحيح البخاري كتاب الشهادات برقم 2661 وكتاب المغازي برقم 4141. (¬2) صحيح البخاري كتاب الوصايا برقم 2741، صحيح مسلم كتاب الوصية برقم 1636، سنن النسائي كتاب الطهارة برقم 33 وكتاب الوصايا برقم 3624، سنن ابن ماجه كتاب ما جاء في الجنائز برقم 1626.

وإنما غاية ما فيه هو بيان تاريخي لواقعة لا أكثر ولا أقل. وقد سألها عقبة بن صهبان الهنائي عن تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] فقالت له: يا بني كل هؤلاء في الجنة، فأما السابق إلى الخيرات فمن مضى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحياة والرزق، وأما المقتصد فمن تبع وجاء من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم (¬1). وأتى عمار ومعه الأشتر إلى عائشة (ض) يستأذن عليها، قال: يا أمه، فقالت: لست لك بأم، قال: بلى وإن كرهت، قالت: من هذا معك؟ قال: هذا الأشتر، قالت: أنت الذي أردت قتل ابن أختي؟ قال: قد أردت قتله وأراد قتلي، قالت: أما لو قتلته ما أفلحت أبدا، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاثة: رجل قتل فقتل، أو رجل زنى بعد ما أحصن، أو رجل ارتد بعد إسلامه))، وفي رواية الطيالسي: ((قالت لعمار: أما أنت يا عمار فقد علمت ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل فيقتل)) (¬2). وفي هذا الحديث دليل صريح على أن عائشة (ض) لم يكن هدفها من وراء هذه الجنود والجيوش وإعداد العدة والعتاد هو سفك الدماء، والتقاتل ومحاربة الناس الأبرياء، وإنما وضعت نصب عينيها منذ خرجت من مكة ¬

_ (¬1) أخرجه الطيالسي في مسنده 1/ 209 برقم 1489، كما أخرجه الحاكم في المستدرك 462/ 2 برقم 3593، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 96/ 7، والطبراني في الأوسط 167/ 6 رقم 6094. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 205 برقم 25741، والطيالسي في مسنده 216/ 1 رقم 1543، كما أخرجه الحاكم في المستدرك 393/ 4 رقم 8039، وإسحاق بن راهويه في مسنده 913/ 3 برقم 1602.

رد الإمام الزهري على الوليد بن عبد الملك

العمل من أجل إصلاح الأمة والمطالبة بالقصاص من قتلة عثمان وإيقاع العقوبة بهم، وقد أثيرت هذه الشبهة من قبل بعض بني أمية الذين استغلوا قول علي (ض): ((يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير))، واستخدموه لغرضهم السيئ، بينما كان قصد علي (ض) من ذلك هو أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا فارقها سكن ما عنده من القلق بسببها إلى أن تتحقق براءتها فيمكن مراجعتها، وهؤلاء لما لم يتمكنوا من الحصول على مستند قوي وبرهان قاطع للإساءة إلى علي - رضي الله عنه وأكرم وجهه - وتشويه شخصيته وسمعته، أدخلوا هذه القصة في مثالبه، والسبب في ذلك أن الله تعالى وصف الذين تولوا كبره منهم أنهم أصحاب النار. رد الإمام الزهري على الوليد بن عبد الملك: يقول الإمام الزهري: كنت عند الوليد بن عبد الملك ليلة من الليالي وهو يقرأ سورة النور مستلقيا، فلما بلغ هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} ... حتى بلغ {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} جلس، ثم قال: يأ أبا بكر من تولى كبره منهم؟ أليىس علي بن أبي طالب؟ قال: قلت في نفسي لقد عودني الله على الصدق، فقلت: أصلح الله الأمير ليس الأمر كذلك، أخبرني عروة عن عائشة (ض) أنها نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول (¬1). وفي رواية البخاري: عن الزهري قال: قال لي الوليد بن عبد الملك: أبلغك أن عليا كان فيمن قذف عائشة، قلت: لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك: أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أن عائشة قالت لهما: ((كان علي مسلما في شأنها)) فراجعوه فلم يرجع (¬2). ¬

_ (¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 437/ 7، وانظر: تفسير القرطبي 198/ 12. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي برقم 4142.

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه، ثم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس والآخر علي (ض)، فعائشة لما كانت تحدث هذه الواقعة لا تذكر اسم علي وكانت تقول: فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بين رجلين، بين عباس ورجل آخر (¬1) واستنتج من هذا الحديث بعض أهل الأهواء وأصحاب الظنون السيئة والأفكار الخاطئة أن عائشة (ض) لم تذكر عليا لأنها لم تطب نفسها له بخير، مع أن الواقع أن العباس (ض) كان في جانب واحد أما الجانب الآخر فقد يكون هناك علي، ويمكن أسامة بن زيد، ومن أجل عدم تأكدها من الأمر لم تسم شخصا وقالت: ((رجل آخر)). كما يرد على هذا الزعم الباطل ما أورده الإمام الطبري في تاريخه من كلام عائشة (ض) في علي وكلام علي في عائشة يبديان فيه انطباع كل منهما نحو الآخر بسعة قلب ورحابة صدر وأن علاقته معها كانت قائمة على المودة والاحترام المتبادلين بينهما. تقول عائشة (ض): ((إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه عندي - على معتبتي - لمن الأخيار، فقال علي: صدقت والله وبرت، ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة (¬2))). كما يدل على ذلك أنها لما سئلت أي الناس كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: ((فاطمة، فقيل: من الرجال؟ قالت: زوجها، إن كان ما علمت صواما قواما)) (¬3). كما أن معرفتنا بكون علي من أهل البيت مستندها ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأذان برقم 665 و687، وكتاب الهبة برقم 2588، ومسلم في صحيحه كتاب الصلاة برقم 418، والدارمي في سننه كتاب الصلاة برقم 1257. (¬2) انظر تاريخ الطبري 3/ 61. (¬3) أخرجه الترمذي في سننه كتاب المناقب برقم 3874 وقال: هذا حديث حسن غريب، =

عائشة (ض) ترشد المستفتين إلى علي (ض)

عائشة (ض) نفسها، وإن أهل السنة والجماعة لم يعرفوا ذلك إلا عن طريق عائشة (1). عائشة (ض) ترشد المستفتين إلى علي (ض): وقد حدث مرات أن المستفتي جاء عائشة (ض) يستفتيها في مسألة من أمور الدين فأرشدته أن يذهب إلى علي (ض) (¬2)، كما أنها كانت تقريه لما يقدم من السفر (¬3)، ولما قتل علي (ض) شهيدا بيد الخوارج في الكوفة، حكى لها الناس قصته، فجاء عبد الله بن شداد فسألته: يا عبد الله بن شداد هل أنت صادقي عما أسألك عنه؟ حدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي، فقال: وما لي لا أصدقك، قالت: فحدثني عن قصتهم، فحكى لها عبد الله كل التفاصيل، من مصالحة معاوية وعلي وتحكيمه، ثم مخالفة الخوارج، وإفهام علي لهم، وعدم إطاعتهم لعلي وكل الموضوعات التي صارت، فلما سمعت عائشة (ض) كل ذلك قالت: أجل صدق الله ورسوله، يرحم الله عليا (ض)، إنه ¬

_ = وأخرجه ابحاكم في المستدرك 3/ 171 برقم 4744 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (1) وذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه قالت عائشة (ض): خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي، فأدخله ثم جاء الحسن فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: ((إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)). (أخرجه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2424). (¬2) مثاله ما أخرجه الإمام أحمد عن شريح بن هانئ قال: سألت عائشة (ض) عن المسح على الخفين، فقالت: ((سل عليا، فإنه أعلم بهذا مني)). انظر: مسند الإمام أحمد 96/ 1 برقم 748 وكذلك 155/ 6 برقم 25259. (¬3) أخرج الإمام أحمد عن يزيد بن أبي يزيد الأنصاري عن امرأته أنها سألت عائشة عن لحوم الأضاحي، فقالت عائشة: قدم عليا علي من سفر فقدمنا إليه منه فقال: لا آكله حتى أسأل عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فسأله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلوه من ذي الحجة إلى ذي الحجة)) 155/ 6 برقم 25259.

كان من كلامه لا يرى شيئا يعجبه إلا قال: صدق الله ورسوله، فيذهب أهل العراق يكذبون عليه ويزيدون عليه في الحديث (¬1). ... ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/ 87 - 86 برقم 656، كما أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 165 برقم 2657، والمقدسي في الأحاديث المختارة 223/ 2 برقم 605، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 180.

الفصل التاسع أم المؤمنين في عهد معاوية رضي الله عنهما

الفصل التاسع أم المؤمنين في عهد معاوية رضي الله عنهما كانت مدة خلافة علي (ض) أربع سنين فقط، ثم أقبل معاوية وتولى سلطة الحكم، وحكم البلاد الإسلامية لمدة طويلة امتدت إلى عشرين سنة متوالية، وقد توفيت عائشة (ض) قبل انتهاء زمن حكمه بسنتين، وأمضت ثماني عشرة سنة من عمرها في عهد معاوية (ض)، بكل هدوء وسكوت تام، إلا في بعض الأحوال. وذات مرة أقبل معاوية ودخل على عائشة (ض) فقالت له: أما خفت أن أقعد لك رجلا فيقتلك؟ فقال: ما كنت لتفعلين وأنا في بيت أمان، وقد سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: يعني الإيمان قد الفتك، كيف أنا في الذي بيني وبينك؟ وفي حوائجك؟ قالت: صالح، قال: فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا عز وجل (¬1). كان حجر بن عدي (ض) من أصحاب علي (ض) ورئيس الفرقة العلوية في الكوفة. وأعظم القضايا التي اشتد فيها إنكار عائشة (ض) على معاوية، هي قضية قتل حجر بن عدي وأصحابه، وقد أرسل والي الكوفة سائر أفراد هذه الفرقة إلى دمشق وكان منهم حجر، وهو من قبيلة كندة اليمنية، ورغم وجود هذه الفرقة في الكوفة لم ينهض أحد منهم لمساعدة حجر ومؤازرته وإنقاذه من أيدي الأعداء، وكان (ض) يوقره العلماء والصلحاء ويجلونه ويحترمونه، فشق عليهم ذلك، وسمعت عائشة فبعثت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية في حجر وأصحابه فقدم عليه، وقد قتلهم، وقالت: لولا أنا لم نغير شيئا إلا آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنا فيه لغيرنا قتل حجر، أما والله إن كازما علمت لمسلما حجاجا معتمرا. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/ 92.

رأي عائشة في الخوارج

ولما حج معاوية مر على عائشة فاستأذن عليها فأذنت له، فلما قعد قالت له: أأمنت أن أخبئ لك من يقتلك؟ قال: بيت الأمن دخلت، قالت: يا معارية أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه؟ قال: لست أنا قتلتهم، إنما قتلهم من شهد عليهم (¬1). وفي رواية أخرى: قالت: يا معاوية أين كان حلمك عن حجر؟ فقال لها: يا أم المؤمنين لم يحضرني رشيد (¬2). وروى مسروق التابعي عن عائشة (ض) قالت: ((أما والله لو علم معاوية أن عند أهل الكوفة منعة ما اجترأ على أن يأخذ حجرا وأصحابه من بينهم حتى يقتلهم بالشام. ولكن ابن آكلة الأكباد علم أنه قد ذهب الناس، أما والله إن كانوا لجمجمة العرب عزا ومنعة وفقها، ولله در لبيد حيث قال: ذهب الذين يعاش في أكنافهم … وبقيت في خلف كجلد الأجرب يتأكلون مغالة وملاذة … ويعاب قائلهم وإن لم يشغب (¬3) رأي عائشة في الخوارج: كان أهل العراق ومصر يسبون عثمان (ض)، وأهل الشام كانوا يسبون عليا، أما الخوارج فيسبونهما، فلما أخبرت عائشة (ض) بذلك قالت: ((أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فسبوهم)) (¬4). قال الإمام النووي: قولها ((أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فسبوهم)) الظاهر أنها قالت هذا عندما سمعت أهل مصر يقولون في عثمان ما قالوا، وأهل الشام في علي ما قالوا، والحرورية في الجميع ما قالوا (¬5). وكانت الخوارج لما اعتزلوا عليا (ض) نزلوا في موضع ((حروراء)) وتعاقدوا عندها على قتال أهل ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الطبري 232/ 3 والسيرة الحلبية 163/ 3. (¬2) تاريخ الطبري 3/ 220. (¬3) انظر: الاستيعاب لابن عبد البر 332/ 1، انظر ديوان لبيد 156 - 157. (¬4) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب التفسير برقم 3022. (¬5) شرح النووي لصحيح الإمام مسلم 157/ 18 ط: دار إحياء التراث العربي بيروت.

واقعة دفن الحسن بن علي ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

العدل، فسموا حرورية، (وحروراء بفتح الحاء والمد قرية بالعراق). جاءت امرأة إلى عائشة (ض) وقالت: أتقضي إحدانا صلاتها أيام محيضها؟ فقالت: ((أحرورية أنت)) (¬1)؟ فدل على أنها كانت تكره هذه الطائفة. كتب معاوية (ض) إلى عائشة أم المؤمنين يستنصحها: اكتبي إلي كتابا توصيني فيه ولا تكثري علي، فكتبت عائشة (ض) إلى معاوية: ((سلام عليك أما بعد فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، والسلام عليك)) (¬2). إن هذه الكلمات الجامعة من عائشة (ض) هي بمثابة تعليق موجز منها على حياة معاوية (ض). كان مروان قد استعمله معاوية على الحجاز، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا؛ فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي}، فقالت عائشة من وراء الحجاب: ((ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري)) (¬3)، وهذا يوحي بأن عائشة (ض) لم تكن راضية بتولية يزيد بن معاوية. واقعة دفن الحسن بن علي ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توفي الحسن بن علي (ض) بالمدينة عام 49هـ في إمارة معاوية (ض). وقد كان عهد إلى أخيه الحسين (ض) أن يدفن مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الموضع الخالي جنب قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن خاف أن يكون في ذلك قتال أو شر فليدفن بالبقيع، فأبى مروان أن يدعه، وكان معزولا يومئذ ويريد أن يرضي معاوية، ولم يزل عدوا لبني هاشم، فلبس الحسين السلاح ومعه بنو هاشم، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الحيض برقم 321، وصحيح الإمام مسلم كتاب الحيض برقم 335 واللفظ له. (¬2) أخرجه الإمام الترمذي في سننه كتاب الزهد برقم 2414. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن برقم 4827.

موقف عائشة (ض)

وتسلح بنو أمية بقيادة مروان وقالوا: لا ندعه يدفن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكادت الفتنة تقع بين الحسين بن علي ومروان بن الحكم، فخرج أبو هريرة (ض)، وأشار على الحسين أن لا يقاتل، فامتثل، وذكره عهد الحسن حيث إنه أوصى إذا خيفت الفتنة والشر فادفنوني مع أمي، وفي النهاية دفنوه بالبقيع قريبا من قبر أمه (ض). موقف عائشة (ض): والسؤال الذي يطرح نفسه الآن ماذا كان موقف عائشة (ض) من هذه الواقعة؟ ذكر بعض المؤرخين من الشيعة أن عائشة (ض) خرجت بنفسها على بغلة بيضاء ومعها بعض الجنود، تمنع جنازة الحسن من الدفن في بيتها قرب قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ أقبل أخوها فلما واجهها قال: ما زالت وصمة العار التي خلفتها معركة الجمل باقية على جبين أسرتنا، وأنت تريدين أن تخوضي معركة أخرى؟ فرجعت عائشة (ض). هذه الرواية موجودة في نسخة مترجمة إلى اللغة الفارسية من تاريخ الطبري، المطبوعة في الهند، وأما النسخة العربية وهي الأصل فلا توجد فيها هذه الرواية، والواقع أن هذه الترجمة الفارسية لتاريخ الطبري مليئة بالإضافات والزيادات، والحذوفات التي لا توجد في النسخة العربية، وقد صرح بذلك المترجم نفسه في المقدمة، إلا أن اليعقوبي (المؤرخ الشيعي من القرن الثالث الهجري) قد نقل هذه القصة دون أن يسوق لها إسنادا، وذكرها بكلمة ((قيل)) كما أنه لم يذكر القتال أو رمي السهام، وذكر أبو الفداء أنه لما تنازعت بنو أمية وبنو هاشم، وتسبب ذلك في القتال بينهما بلغتهم عائشة (ض): ((أن هذه الدار ملكي ولا آذن لأحد أن يدفن فيها)) إلا أن هذه الرواية كذلك غير صحيحة، وإنما الصحيح من ذلك ما صرح به ابن الأثير وغيره من المؤرخين الثقات، قال الإمام ابن الأثير في (الكامل): ووصى أن يدفن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن تخاف فتنة، فينقل إلى مقابر المسلمين، فاستأذن الحسين عائشة فأذنت له، فلما توفي أرادوا دفنه عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يعرض لهم سعيد بن العاص،

وهو الأمير، فقام مروان بن الحكم، وجمع بني أمية وشيعتهم ومنع عن ذلك، فأراد الحسين الامتناع، فقيل له: إن أخاك قال: إذا خفتم الفتنة ففي مقابر المسلمين، وهذه فتنة فسكت، وصلى عليه سعيد بن العاص، فقال له الحسين: لولا أنه سنة لما تركتك تصلي عليه (¬1). وقد روى كل من الإمام ابن عبد البر وابن الأثير في (أسد الغابة) والسيوطي في (تاريخ الخلفاء)، بعبارة واحدة ونصها: ((قد كنت طلبت إلى عائشة إذا مت أن تأذن لي فأدفن في بيتها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: نعم، وإني لا أدري لعل ذلك كان منها حياء، فإذا أنا مت، فاطلب ذلك إليها، فإن طابت نفسها فادفني في بيتها، وما أظن إلا القوم سيمنعونك إذا أردت ذلك، فإن فعلوا فلا تراجعهم في ذلك، وادفني في بقيع الغرقد، فإن فيمن فيه أسوة، فلما مات الحسن أتى الحسين عائشة فطلب ذلك إليها فقالت: نعم وكرامة، فبلغ ذلك مروان، فقال مروان: كذب وكذبت، والله لا يدفن هناك أبدا، منعوا عثمان من دفنه في المقبرة ويريدون دفن الحسن في بيت عائشة (¬2). ... ¬

_ (¬1) الكامل في التاريخ 3/ 460 للإمام ابن الأثير، ط: دار صادر بيروت 1385هـ. (¬2) انظر: الاستيعاب لابن عبد البر 392/ 1، وتاريخ الخلفاء للإمام السيوطي 1/ 170 باب ذكر وفاة الحسن (ض) وأسد الغابة لابن الأثير 2/ 15.

الفصل العاشر وفاة عائشة رضي الله عنها

الفصل العاشر وفاة عائشة رضي الله عنها إن نهاية إمارة معاوية (ض) كانت آخر أيام حياة عائشة (ض). وكانت قد بلغت من العمر سبعا وستين سنة، ومرضت في شهر رمضان المبارك سنة ثمان وخمسين من الهجرة، فإذا سئلت: كيف أصبحت؟ قالت: صالحة الحمد لله (¬1)، وكل من يعودها يبشرها فترد عليه قائلة: يا ليتني كنت حجرا، يا ليتني كنت مدرة. واستأذن عليها ابن عباس (ض) في مرضها فأبت أن تأذن له، فقال لها بنو أخيها: ائذني له، فإنه من خير ولدك، قالت: دعوني من تزكيته، فلم يزالوا بها حتى أذنت له، فلما دخل عليها قال: إنما سميت أم المؤمنين لتسعدي، وإنه لاسمك قبل أن تولدي، إنك كنت من أحب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب إلا طيبا، وما بينك وبين أن تلقي الأحبة إلا أن تفارق الروح الجسد، ولقد سقطت قلادتك ليلة الأبواء، فجعل الله للمسلمين خيرة في ذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى آية التيمم، ونزلت فيك آيات من القرآن، فليس مسجد من مساجد المسلمين إلا يتلى فيه عذرك آناء الليل وآناء النهار، فقالت: دعني من تزكيتك لي يا ابن عباس، فوددت أني كنت نسيا منسيا (¬2). وقالت عند وفاتها: ((لا تدفني معهم وادفني مع صواحبي بالبقيع، لا ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 75/ 8. (¬2) أخرج الجزء الأول من الحديث الإمام البخاري في صحيحه كتاب المناقب برقم 3771 وكذلك في كتاب تفسير القرآن سورة النور. وقد أخرجه كاملا الحاكم في المستدرك 9/ 4 برقم 6726 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والإمام أحمد في مسنده 1/ 220 برقم 1905.

أزكى به أبدا)) (¬1)، وفي رواية ابن سعد: ((إني قد أحدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فادفنوني مع أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2) كما أمرت أن تدفن من ليلتها. وأخرج الإمام محمد في (الموطأ) قيل لعائشة (ض): لو دفنت معهم؟ قال: قالت: ((إني إذا لأنا المبتدأة بعملي)) (¬3). توفيت (ض) سنة ثمان وخمسين، ليلة سبع عشرة من شهر رمضان بعد الوتر، الموافق يونيو عام 678م، فاجتمع الناس وحضروا فلم تر ليلة أكثر ناسا منها. عن عثمان بن أبي عتيق عن أبيه قال: ((رأيت ليلة ماتت عائشة ورأيت النساء بالبقيع كأنه عيد)) (¬4) وسمعت أم سلمة (ض) الصرخة فقالت لجارية: اذهبي فانظري، فقالت: وجبت، فقالت أم سلمة: والذي نفسي بيده لقد كانت أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أباها (¬5)، وفي رواية الطيالسي: سمعت أم سلمة الصرخة على عائشة فأرسلت جاريتها: انظري ماذا صنعت؟ فجاءت فقالت: قد قضت، فقالت: يرحمها الله، والذي نفسي بيده لقد كانت أحب الناس كلهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أباها (¬6). وكان أبو هريرة (ض) والي المدينة بالنيابة فصلى على عائشة (ض)، ونزلها في القبر كل من القاسم بن محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عتيق، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن الزبير، ودفنت بالبقيع (¬7)، وقامت القيامة في المدينة المنورة لأفول شمعة من شموع المدينة. يقول ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز برقم 1391 وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة برقم 7327. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك 7/ 4 برقم 6717، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وابن سعد في الطبقات الكبرى 8/ 74. (¬3) موطأ الإمام محمد برقم 973 باب النوادر ص 311. (¬4) الطبقات الكبرى لابن سعد 77/ 8. (¬5) أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 15 برقم 6746. (¬6) أخرجه الطيالسي في مسنده 224/ 1. (¬7) الطبقات الكبرى لابن سعد 77/ 8.

كنية عائشة (ض)

مسروق (التابعي الجليل): لولا بعض الأمر لأقمت المناحة على أم المؤمنين (¬1). سئل رجل من أهل المدينة كيف كان وجد الناس على عائشة؟ فقال: كان فيهم وكان، قال: أما إنه لا يحزن عليها إلا من كانت أمه (¬2). وقد تركت عائشة (ض) مما تركت غابة، فورثتها أختها أسماء (ض) ثم اشتراها منها معاوية (ض) بمئة ألف درهم، فوزعتها أسماء في القاسم بن محمد وابن أبي عتيق (¬3). كنية عائشة (ض): لم تحمل عائشة (ض) قط ولم تلد ولدا، ومع ذلك لم يكن أصابها حزن أو تأسف على ذلك، ولا هي اشتكت طول حياتها، وكان من عادة أشراف العرب أنهم كانوا يكتنون بأسماء أولادهم، فلا يناديهم أحد بأسمائهم الأصلية، بل كانوا يخاطبون بكناهم، فقالت عائشة (ض) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل صواحبي لهن كنى، قال: ((فاكتني بابنك عبد الله، يعني ابن أختها، فكانت تكنى بأم عبد الله)) (¬4) وقد أشكلت هذه الكنية على ابن الأعرابي، فروى أنها أسقطت ولدا سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله، فكانت لهذا تكنى بأم عبد الله (¬5) ولكن هذه الرواية واهية، في غاية الضعف سندا، والصحيح الثابت الذي نصت عليه الأحاديث أنها لم تلد (¬6). والمراد بعبد الله هو ابن أختها عبد الله بن الزبير أول مولود في الإسلام ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 78/ 8. (¬2) الطبقات الكبرى لابن سعد 78/ 8. (¬3) صحيح البخاري ترجمة الباب. (¬4) سنن أبي داود كتاب الأدب برقم 4970. (¬5) شرح الزرقاني على المواهب 269/ 3. (¬6) أخرج الإمام أحمد أن عائشة (ض) قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله كل نسائك لها كنية غيري، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اكتني أنت أم عبد الله، فكان يقال لها أم عبد الله حتى ماتت ولم تلد قط. (6/ 156 برقم 25222).

بعد الهجرة، وكانت اليهود تقول: قد أخذنامم فلا يولد لهم ولد ذكر، فكبر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ولد عبد الله، ولما ولد أخذه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوضعه في حجره وأتى بتمرة فمصها ثم مضغها ثم وضعها في فيه فحنكه بها، فكان أول شيء دخل بطنه ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وقد تبنته عائشة (ض)، وكانت تحبه حبا شديدا، وهو كذلك يحبها أكثر من أمه، كما أن عائشة (ض) كانت تربي أيتاما آخرين في حضنها وتحت رعايتها، روى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه قال: كانت عائشة تليني وأخا لي يتيمين في حجرها، فكانت تخرج من أموالنا الزكاة (¬2). وقصة تربيتها لبنت أنصارية وتزويجها مذكورة في الأحاديث، تقول (ض): كانت في حجري جارية من الأنصار فزوجتها، قالت: فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرسها فلم يسمع لعبا فقال: ((يا عائشة إن هذا الحي من الأنصار يحبون كذا وكذا)) (¬3). وإليك قائمة بأسماء أولئك العباقرة الذين تخرجوا من مدرسة أم المؤمنين، ربتهم في حجرها وعلمتهم فصنع الله منهم على يدها حفظة الإسلام ونقلته إلى الأجيال اللاحقة، وهؤلاء هم مسروق بن الأجدع، عمرة بنت عائشة بنت طلحة، عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عروة بن الزبير، القاسم بن محمد وأخوه عبد الله بن يزيد (¬4)، كما أنها هي التي ربت بنات محمد بن أبي بكر الصديق (ض) وزوجتهن (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك 632/ 3 برقم 6330. (¬2) موطأ الإمام مالك 1/ 251 برقم 589. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 269/ 6 برقم 26356 وابن حبان في صحيحه 13/ 185 برقم 5875، وأورده الهيثمي في موارد الظمآن 494/ 1 برقم 2016 والطبراني في الأوسط 5/ 352 برقم 5527. (¬4) انظر: موطأ الإمام مالك باب زكاة أموال اليتامى 1/ 251 ومسند الإمام أحمد 32/ 6 برقم 24084. (¬5) موطأ الإمام مالك باب ما لا زكاة فيه من الحلي 1/ 250 برقم 586.

الباب الثاني عائشة رضي الله عنها شمائلها ومناقبها ومكانتها العلمية

الباب الثاني عائشة رضي الله عنها شمائلها ومناقبها ومكانتها العلمية * الفصل الأول: شمائلها (ض). * الفصل الثاني: مناقبها (ض). * الفصل الثالث: مكانتها العلمية (ض). ** البحث الأول: علمها بالقرآن الكريم. ** البحث الثاني: علمها بالحديث الشريف. ** البحث الثالث: علمها بالفقه والقياس وأصولها في الاجتهاد. ** البحث الرابع: علمها بالتوحيد أو العقيدة. ** البحث الخامس: علمها بأسرار الدين. ** البحث السادس: معرفتها بالطب والتاريخ والخطابة والشعر. * الفصل الرابع: دور عائشة في التعليم والإفتاء والإرشاد. * الفصل الخامس: فضل عائشة ومننها على نساء العالمين.

الفصل الأول شمائلها رضي الله عنها

الفصل الأول شمائلها رضي الله عنها هيئتها ولباسها: كانت عائشة (ض) من أولئك السيدات التي تنمو وترعرع بسرعة هائلة من حيث النمو الجسمي، فكانت لما بلغت التاسعة أو العاشرة من عمرها سمنت كأحسن سمنة (¬1)، أما في باكورة عمرها فكانت نحيفة الجسم خفيفة لم يغشها اللحم (¬2)،ثم مالت بعد سنوات إلى شيء من السمنة، ولما كبرت بدنت ورهقها اللحم (¬3)، وجملة ما يفهم من وصفها على التحقيق أن لونها كان أبيض يميل إلى الحمرة (¬4)، كانت وضيئة بهية المنظر رائعة الجمال (¬5)، وكانت على أقصى غاية من الزهد والقناعة، لم تكن تملك إلا ثوبا واحدا، فإذا أصابه شيء تغسله ثم تلبسه (¬6). وكان عندها قميص ثمين غال ثمنه خمسة دراهم، وكانت النساء ¬

_ (¬1) لأنها زفت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبنى بها وهي بنت تسع سنين، كما ورد في الأحاديث الصحيحة، وقد سبق أن ذكرناها بالتفصيل. (¬2) يراجع: حديث الإفك في صحيح البخاري ومسلم، وسنن أبي داود باب السبق، صحيح البخاري رقم 4141، صحيح الإمام مسلم كتاب التوبة برقم 2770، سنن أبي داود كتاب الجهاد برقم 2578. (¬3) سنن أبي داود باب السبق برقم 2578. (¬4) والدليل على كونها بيضاء ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، قال - صلى الله عليه وسلم -: إني رأيت بياض كف عائشة في الجنة (138/ 6 برقم 25120). (¬5) يدل عليه قول أم رومان ((يا بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها)) (صحيح البخاري برقم 4141)، وكذلك قول عمر (ض) لحفصة: ((يا بنية لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها)) يقصد عائشة، (صحيح البخاري برقم 5218) وقوله: ((لأن كانت جارتك أوضأ منك)) (صحيح البخاري برقم 5191). (¬6) تقول عائشة (ض): ((ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد، تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها، فقصعته بظفرها)) (صحيح البخاري كتاب الحيض برقم 312 وسنن =

خلقها (ض)

تستعيره منها ليلبسنه عرائسهن ليلة زفافهن (¬1)، كما أنها كانت تلبس ثوبا مصبوغا بزعفران في بعض الأحيان (¬2). وكانت تتزين بالحلي والمجوهرات، وكانت في عنقها قلادة من جزع أظفار (¬3)، وتلبس الخاتم من الذهب (¬4). خلقها (ض): مما لا شك فيه أن أم المؤمنين عائشة (ض) نالت شرف صحبة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - منذ نعومة أظفارها إلى مرحلة الشباب، وقضت هذه الفترة الطويلة تحت ظلال وفي رعاية ذلك النبي المقدس الذي بعثه فاطر السماوات والأرض في هذا الكون ليكمل مكارم الأخلاق، وقد وصفه قائلا: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] فأوصلتها هذه التربية العظيمة والصحبة الكريمة إلى أوج الخلق الحسن، والمكانة العالية الرفيعة التي تعتبر قمة الترقية الروحانية ونهاية مطاف العلو المعنوي للإنسانية الحائرة. ولذا كانت عائشة (ض) قد احتلت مكانة سامية مرموقة في الأخلاق الحسنة النبيلة الرفيعة، وكان الزهد والورع والعبادة والسخاء والجود والشفقة على الناس من أهم وأكبر معالم شخصيتها (ض). المرأة والقناعة صفتان متضادتان ومفهومان متغايران، وقد صدق الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: ((إني أريتكن أكثر أهل النار))، فقلن: بم يا رسول الله؟ قال: ¬

_ = أبي داود كتاب الطهارة برقم 358. (¬1) تقول عائشة (ض): كان لي منهن درع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما كانت امرأة تقين -تزين لزفافها - بالمدينة إلا أرسلت إلي تستعير)) (البخاري كتاب الهبة باب الاستعارة للعروس برقم 2628). (¬2) قال البخاري في ترجمة الباب من صحيحه: ولبست عائشة (ض) الثياب المعصفرة وهي محرمة. (باب ما يلبس المحرم من الثياب). (¬3) انظر: حديث التيمم وواقعة الإفك، ص 126. (¬4) قال البخاري: باب الخاتم للنساء، وكان على عائشة خواتيم ذهب (كتاب اللباس من صحيح البخاري).

مساعدة النساء

((تكثرن اللعن وتكفرن العشير)) (¬1) ولكن عبقرية عائشة (ض) جمعت بين هذين الوصفين بأتم وجه وأكمل صورة، وقد مر بنا سابقا أنها عاشت حياتها في كنف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وثبتت على شظف العيش وعسره وقسوته، ولم يسمع على لسانها كلمة شكوى قط، ورغم أنها كانت تشاهد ما يرد بيت المال من الخزائن والأموال والخيرات بالكثرة الكاثرة لكنها لم تتقدم قط بأي طلب لزيادة نفقة ولم يخطر على بالها، وعاشت حياتها حياة زهد وقناعة، لم تتيسر لها الملابس القيمة والمجوهرات الثمينة الغالية، والقصور الفاخرة الفخمة والنعم اللذيذة، والعيش الرغيد الهنيء. يقول مسروق: دخلت على عائشة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعت لي بطعام وقالت: ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكي إلا بكيت، قال: قلت: لم؟ قالت: ((أذكر الحال التي فارق عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدنيا، والله ما شبع من خبز ولحم مرتين في يوم)) (¬2). كانت (ض) محرومة من نعمة الأولاد، فكانت تربي أولاد المسلمين واليتامى منهم، تلي أمورهم وترعاهم وتعلمهم وتقوم بواجب زواجهم. مساعدة النساء: كانت (ض) حرم بيت النبوة وزوجة أعظم وأرفع رجل - صلى الله عليه وسلم -، فكان لديها شعور كامل بعظم هذه المسؤولية، ولذا فإنها تهتم كل اهتمام بأداء هذه المسؤولية والقيام بها خير قيام، وكلما تأتيها امرأة لحاجة تمد إليها يد العون والمساعدة، وتقضي حاجتها، وتعرض قضاياها على الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الحيض برقم 304 وكتاب الزكاة برقم 1462 وصحيح الإمام مسلم كتاب الإيمان برقم 80 وكتاب صلاة العيدين برقم 885، سنن ابن ماجه كتاب الفتن برقم 4003. (¬2) أخرجه الإمام الترمذي في سننه كتاب الزهد برقم 2356، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) انظر الأدلة عليه في مسند الإمام أحد بن حنبل 226/ 6 برقم 25934 و 25935.

طاعة الزوج

طاعة الزوج: كانت (ض) تصرف كل جهودها صباح مساء في طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتنفيذ أوامره ونواهيه، والبحث عن رغباته ومرضاته (¬1)، ولو شعرت من وجهه - صلى الله عليه وسلم - بسمة الحزن وعلامة القلق والكراهية تضطرب له ويشق عليها ذلك. كما أنها كانت تراعي أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ترد لهم طلبهم، وذات مرة قالت: علي نذر إن كلمت عبد الله بن الزبير، فاستشفع إليها ابن الزبير برجال من قريش وبأخوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، فامتنعت (¬2) وكانت توقر أصدقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتحترمهم ولا ترفض طلباتهم (¬3). الاحتراز من الغيبة: وكان من شيمتها أنها لم تكن تغتاب أحدا، وقد بلغ عدد مروياتها الآلاف لكننا لم نحصل في هذه الذخيرة الكبيرة حرفا واحدا قصدت به إهانة شخص أو إساءة إلى أحد، إن التقاول على الضرائر، وشدة الكلام بينهن من خصائص النساء وطبيعتهن الأنثوية، لكن مر بنا كيف كانت عائشة (ض) تحدث بمناقب ضرائرها برحابة الصدر وسعة القلب وتذكرهن، بأوصاف حميدة، وهذا حسان بن ثابت (ض) الذي انصدمت منه عائشة صدمة عنيفة في حادث الإفك كان يستأذن عليها فتأذن له بكل رضا، ومرة دخل عليها حسان بن ثابت ينشدها شعرا يشبب بأبيات له وقال: ((حصان رزان ما تزن بريبة … وتصبح غرثى من لحوم الغوافل)) فتذكرت (ض) حادثة الإفك فقالت: ((لكنك لست كذلك) ((¬4). ¬

_ (¬1) من الأدلة عليه ما أخرجه أحمد: سألت امرأة عائشة (ض): ما تقولين يا أم المؤمنين في الحناء؟ فقالت: كان حبيبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه لونه ويكره ريحه ... 117/ 6 برقم 24905 وانظر كذلك 4/ 58 و138/ 6 برقم 25122. (¬2) في صحيح البخاري ذهب عبد الله بن الزبير مع أناس من بني زهرة إلى عائشة وكانت أرق شيء عليهم لقرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كتاب المناقب برقم 3503. (¬3) صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة رقم 7328. (¬4) صحيح البخاري كتاب المغازي برقم 4146، كتاب تفسير القرآن برقم 4755/ 4558، =

التورع من قبول الهدايا

وعن عروة قال: ذهبت أسب حسان عند عائشة (ض) فقالت: لا تسبه فإنه كان ينافح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذات مرة ذكر رجل عند عائشة فلعنته أو سبته، فقيل لها: إنه قد مات، فقالت: أستغفر الله له، فقيل لها: يا أم المؤمنين لعنته ثم استغفرت له؟ فقالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تذكروا موتاكم إلا بالخير)) (¬2). التورع من قبول الهدايا: قلما كانت تقبل هدايا الآخرين، وإن قبلتها فتكافئ عليها في أقرب وقت، وقد قدم درج إلى عمر (ض) من العراق وفيه جوهر، فقال لأصحابه: تدرون ما ثمنه؟ قالوا: لا، ولم يدروا كيف يقسمونه، فقال: تأذنون أن أبعث به إلى عائشة لحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها؟ فقالوا: نعم، فبعث به إليها، ففتحته فقالت: ماذا فتح علي ابن الخطاب بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ اللهم لا تبقي لعطيته لقابل (¬3). تقول عائشة بنت طلحة: كان الناس يأتونها من كل مصر، فكان الشيوخ ينتابوني لمكاني منها، وكان الشباب يتآخوني فيهدون إلي ويكتبون إلي من الأمصار، فأقول لعائشة: يا خالة هذا كتاب فلان وهديته، فتقول لي عائشة: أي بنية فأجيبيه وأثيبيه، فإن لم يكن عندك ثوب أعطيتك، فقالت. فتعطيني (¬4). وقد بعث إليها عبد الله بن عامر بنفقة وكسوة فقالت للرسول: أي بني لا أقبل من أحد شيئا، فلما خرج قالت: ردوه علي، فردوه، قالت: إني ذكرت ¬

_ = وصحيح الإمام مسلم كتاب فضائل الصحابة برقم 2488. (1) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3531. (¬2) مسند الطيالسي 209/ 1 برقم 1494. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك 9/ 4 برقم 6725، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إذا صح سماع ذكوان أبي عمرو، ولم يخرجاه، كما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 190/ 2، وقال: هذا مرسل، والإمام أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة 2/ 875 برقم 1642. (¬4) أخرجه الإمام البخاري في الأدب المفرد 382/ 1 برقم 1118، ونقله عنه العلامة شمس الحق العظيم آبادي في عون المعبود شرح سننن أيي داود 268/ 10.

تجنب المدح والإطراء

شيئا، قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عائشة من أعطاك عطاء بغير مسألة فاقبليه فإنما هو رزق عرضه الله لك)) (¬1). تجنب المدح والإطراء: كانت (ض) تكره الثناء عليها بنفسها، كما لا تحب أن يثني عليها أحد عند حضورها، وقد استأذن عليها ابن عباس (ض) في مرضها الذي ماتت فيه، لكنها عرفت أنه يأتي يمدحها ويثني عليها فرفضت أن تأذن له، ثم أذنت له بعدما شفع فيه بعض الناس، فلما دخل عليها ابن عباس بدأ يثني عليها فقالت: ((وددت أني كنت نسيا منسيا)) (¬2). الإباء والأنفة: ومع هذا التواضع وانكسار النفس فإنها كانت أبية النفس، وقد تشتد فيها هذه الصفة بإزاء الآخرين، وتتحول إلى تدلل الحبيب إلى حبيبه عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ولنذكر هنا موقفها (ض) في حادث الإفك لما نزلت براءتها من فوق سبع سماوات كان أول كلمة تكلم بها النبي يا عائشة أما الله عز وجل فقد برأك، وتلا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. قالت لها أمها: قومي إليه، فقالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أكرمني بإنزال براءتي (¬3). وكذلك نذكر موقفها الأبي من النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما تغضب عليه فلا تحلف بـ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 77/ 6 برقم 24524 و6/ 259 برقم 26276، كما أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 100 وقال: رجاله ثقات، إلا أن المطلب بن عبد الله مدلس، واختلف في سماعه من عائشة، كما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 184/ 6 برقم 11823 وفي شعب الإيمان 282/ 3 برقم 3555، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب 339/ 1 رقم 1250. (¬2) تقدم تخريجه قريبا. (¬3) يراجع حديث الإفك، ص 126.

((ورب محمد)) وإنما كانت تحلف فتقول: ((لا ورب إبراهيم)) (¬1) كل ذلك من أنواع وطرق التدلل للحبيب، ينبغي أن ينظر إليه بنظرة العلاقة الزوجية. كان عبد لله بن الزبير يخدم عائشة (ض) ومن أحب البشر إليها وأبر الناس بها، وكان من عادتها (ض) أنها لا تمسك شيئا مما جاءها من رزق الله إلا تصدقت به، فقال لها ابن الزبير: ينبغي أن يؤخذ على يديها، فقالت: أيؤخذ على يدي؟ علي نذر إن كلمته، فاستشفع إليها برجال من قريش وبأخوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاصة فامتنعت (¬2). قلما يوجد شخص يكون أبيا صاحب غيرة وأنفة، ويكون عادلا منصفا في الوقت نفسه، فاجتماع صفة الإباء والعدل في وقت واحد في شخص يعد من النوادر، ولا ينالها إلا من حاز أعلى درجات الأخلاق النبيلة وقمة السلوك الطيب، إلا أن عائشة (ض) التي ربتها اليد النبوية الكريمة، كان من أهم خصائصها ومميزاتها الجمع بين تلك الصفات وأنواع الأخلاق التي ظاهرها التضاد ويصعب على كل من هب ودب أن يجمعها، وبالتالي فكانت (ض) تتصف بصفة العدل والإنصاف مع كونها أبية النفس، فقد أخرج الإمام مسلم (ح) في صحيحه عن عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء، فقالت: ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئا، إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة، فقالت: اما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في بيتي هذا: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به)) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في صحيحه كتاب النكاح برقم 5228 وكتاب الأدب برقم 6078، صحيح الإمام مسلم كتاب فضائل الصحابة برقم 2439. (¬2) صحيح البخاري باب مناقب قريش برقم 3505. (¬3) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر برقم 1828، وابن حبان في صحيحه 313/ 2 برقم 553.

الشجاعة والمجاهدة

الشجاعة والمجاهدة: كانت (ض) من ذوات الشجاعة النادرة، رابطة الجأش، ثابتة القلب، جريئة، تمشي إلى البقيع في الليل دون أن يصدها خوف أو تردد، تنزل في ساحة المعارك، وفي غزوة أحد لما ساد المسلمين الاضطراب خرجت مع النساء تسقي الجرحى وتحمل القرب على متنها لتفرغها في أفواه المجاهدين (¬1)، وفي غزوة الخندق نزلت من الحصن الذي وضع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء والأطفال، وتقدمت إلى الصفوف الأمامية، تقول (ض): خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس، فسمعت وئيد الأرض ورائي يعني حس الأرض ... الحديث (¬2)، وقد استأذنت من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - ((جهادكن الحج)) (¬3). ومجيئها في معركة الجمل بالقوات والعساكر بطريقة مثالية دليل على شجاعتها النادرة وبطولتها العظيمة. السخاء والكرم: إن الجود والكرم والبذل والعطاء من أهم معالم أخلاقها النبيلة الفاضلة، والجوهر الغالي فيها، وهي فيه إلى النجدة أقرب منها إلى السخاء، وهي فيه على آسال من أبيها العظيم (ض)، وقد أعانها على هذا الخلق السمح أنها رزقت القدوة القريبة بسيد المواسين للضعفاء ومعلم الجابرين لكسر القلوب. وهكذا شقيقتها أسماء بنت أبي بكر الصديق (ض)، كلتاهما كانت كريمة النفس وعلى أعلى درجات الفضل والعطاء. يقول عبد الله بن الزبير (ض): ما رأيت امرأتين أجود من عائشة وأسماء، وجودهما مختلف، أما عائشة فكانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمت، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئا لغد (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح الإمام البخاري كتاب الجهاد والسير برقم 2880. (¬2) من الإمام أحمد بن حنبل 6/ 141، كما أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 136/ 6، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف 7/ 373 برقم 36796. (¬3) صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير برقم 2875. (¬4) أخرجه الإمام البخاري في الأدب المفرد 106/ 1 برقم 280، وذكره الذهبي في سير =

وكانت تستقرض في أكثر الأحيان وتدان، فقيل لها: ما لك وللدين؟ فقالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من عبد كانت له نية في أداء دينه إلا كان له من الله عز وجل عون)) فأنا ألتمس ذلك العون (1)، إنها كانت تتصدق بكل مال يصل إلى يدها، سواء كان قليلا أو كثيرا وتنفقه في السائلين. ذات مرة دخلت عليها امرأة معها ابنتان لها تستطعم، قالت: فسألتني فلم تجد عندي إلا تمرة واحدة، فأعطيتها فقسمتها بين ابنتيها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثته، فقال: ((من يلي من هذه البنات شيئا فأحسن إليهن كن له سترا من النار)) (¬2). وذات مرة كان استطعمها مسكين وبين يديها عنب، فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويعجب، فقالت: أتعجب؟ كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة (¬3)؟ كأنها تشير إلى قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. وعن عروة (ض) قال: رأيتها تصدق بسبعين ألفا وإنها لترقع جانب درعها (¬4). ¬

_ = أعلام النبلاء 2/ 292، وأبو الفرج بن الجوزي في صفة الصفوة 2/ 58. (1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 99/ 6 برقم 24723 و6/ 131 برقم 25037 و234/ 6 برقم 26019، والحاكم في المستدرك 26/ 2، برقم 2202 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 132 وقال بعد ذكر ألفاظ الحديث المختلفة: ورجال أحمد رجال الصحيح إلا أن محمد بن علي بن الحسين لم يسمع من عائشة، وإسناد الطبراني متصل إلا أن فيه سعيد بن الصلت، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 354 برقم 10739، 10740، والطيالسي في مسنده 214/ 1 برقم 1524. (¬2) البخاري في الأدب المفرد 1/ 59 برقم 132، وابن حبان في صحيحه 7/ 201 برقم 2939. (¬3) موطأ الإمام مالك 997/ 2 برقم 1811، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 352 برقم 9820. أن سائلا سأل عبد الرحمن بن عوف وبين يديه عنب، فناوله حبة فكأنهم أنكروا ذلك، فقال: في هذه مثقال ذرة كثير. (¬4) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 67/ 8، كما أخرجه هناد في الزهد 337/ 1 برقم 617، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 187/ 2.

وقد بعث معاوية (ض) إلى عائشة بمئة ألف فقسمتها حتى لم تترك منها شيئا، فقالت بريرة: أنت صائمة فهلا ابتعت لنا بدرهم لحما؟ فقالت عائشة: لو أني نكرت لفعلت (¬1). كذلك بعث إليها ابن الزير (ض) بمال في غرارتين يكون مئه ألف، فدعت بطبق فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست قالت: هاتي يا جارية فطوري، فقالت أم ذرة: يا أم المؤمنين أما استطعت أن تشتري لنا لحما بدرهم، قالت: لا تعنفيني لو ذكرتيني لفعلت (¬2). كانت (ض) تؤثر السائل على نفسها بما تفطر عليه في صيامها، فذات مرة جاءها مسكين فسألها وهي صائمة، وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه، فقالت: أعطيه إياه، قالت: فعلت، فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدي لنا شاة وكفها، فدعتني عائشة أم المؤمنين فقالت: كلي من هذا، هذا خير من قرصك (¬3). وقد باعت (ض) مسكنها لمعاوية (ض) بمئة وثمانين ألف درهم، ويقال بمئتي ألف درهم، وحمل إليها المال فما رامت من مجلسها حتى قسمته (¬4) , كان عبد الله بن الزبير ابن أختها، وكان أحب البشر إليها وأبر الناس بها، وكانت لا تمسك شيئا مما جاءها من رزق الله إلا تصدقت، فقال ابن الزبير: ينبغي أن يؤخذ على يديها، فقالت: أيؤخذ على يدي؟ علي نذر إن كلمته، فاستشفع إليها برجال من قريش وبأخوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاصة فامتنعت (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك 15/ 4 برقم 6745، كما أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في الحلية 47/ 2. (¬2) أخرجه هناد في الزهد 337/ 1 برقم 619، وأبو نعيم الأصبهاني في الحلية 47/ 2 وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 187/ 2، وكذلك ابن سعد في الطبقات الكبرى 67/ 8. (¬3) أخرجه الإمام مالك في الموطأ 997/ 2 برقم 1810 باب الترغيب في الصدقة، كما أخرجه البيهفي في شعب الإيمان 3/ 260 برقم 3482، والمنذري في الترغيب والترهب 8/ 2 برقم 1286. (¬4) ذكره ابن سعد في الطبقات 165/ 8، وأبو نعيم الأصبهاني في الحلية 48/ 2 - 47. (¬5) صحيح البخاري باب مناقب قريش برقم 3505.

وكانت (ض) بمكانة سامية من الخشية والورع، رقيقة القلب لا تملك نفسها من البكاء، ولما أصابها في حجة الوداع ما يصيب بنات آدم، فلم تقدر أن تعتمر، بدأت تبكي، فدخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي، فأمر أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر أن يأخذها لتهل بعمرة من التنعيم، فقر قرارها وهدأ خاطرها (¬1). وذات مرة تذكرت الدجال فبكت بكاء شديدا فدخل عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي، فقال لها: ((ما يبكيك))؟ قالت: يا رسول الله ذكرت الدجال (¬2). وتذكرت عند الاحتضار بعض أخطائها الاجتهادية فقالت: يا ليتني لم أخلق، يا ليتني كنت شجرة أسبح وأقضي (¬3) ما علي. وذات مرة نذرت أن لا تكلم ابن الزير، فلما أكثروا عليها كلمت ابن الزبير، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها ذلك فيما بعد وتبكي حتى تبل دموعها خمارها (¬4). وقد مرت معنا قصة بكائها لما علمت بالبهتان العظيم الذي افتراه عليها المنافقون حيث كانت لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم، حتى ظن أبواها أن البكاء فالق كبدها (¬5). وها هي عائشة (ض) تحكي لنا قصة سائلة ومعها ابنتان لها: دخلت علي سائلة ومعها ابنتان لها فأمرت لها بثلاث تمرات، فأطعمتهما تمرة تمرة، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الحج باب عمرة التنعيم برقم 1784 وكتاب الجهاد والسير برقم 2585. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 75 برقم 24511، وابن حبان في صحيحه 15/ 235 رقم 6822 والهيثمي في موارد الظمآن 1/ 469 برقم 1905 وفي مجمع الزوائد 7/ 338. (¬3) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 74. (¬4) صحيح البخاري باب الهجرة وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث. (¬5) حديث الإفك.

العبادة

ورفعت تمرة إلى فيها لتأكلها، ثم لحظا إلى أمهما فأخرجت التمرة من فيها فشقتها بينهما، قالت: فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك يا عائشة؟ قلت: يا رسول الله الوالدة ورحمتها، وأخبرته (¬1). العبادة: كانت عائشة (ض) تداوم على العبادة، وتواظب على التطوع والنوافل، وكل وقتها في الذكر والتسبيح، كانت تصلي الضحى وتقول: صليت صلاة كنت أصليها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أن أبي نشر فنهاني عنها ما تركتها (¬2). وتقوم في الليل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كنت أقوم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة التمام، فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء، فلا يمر بآية فيها تخوف إلا دعا الله عز وجل واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل ورغب إليه)) (¬3). وإذا نامت عن صلاة أو نسيت قيام الليل صلته قبل صلاة الفجر. وذات مرة نامت عن صلاتها فدخل عليها القاسم بن محمد قبل صلاة الفجر وهي تصلي، فقال لها: ما هذه الصلاة؟ قالت: نمت عن جزئي الليلة فلم أكن لأدعه (¬4). كانت تهتم بصلاة التراويح اهتماما بالغا، فإذا صار رمضان تأمر مولاها ذكوان فهو يؤمها ويقرأ من المصحف (¬5)، وكانت تصوم معظم الأيام، وتقول بعض الروايات أنها كانت تصوم الدهر (¬6)، وذات مرة دخل عليها عبد الرحمن بن أبي بكر يوم عرفة، وهي صائمة يرش عليها، فقال لها عبد الرحمن: أفطري، فقالت: أفطر وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك 196/ 4 برقم 7349 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، كما أخرجه الطيالسي في مسنده 1/ 204 برقم 1447 واللفظ له. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 138/ 6 برقم 25112. (¬3) مسند الإمام أحمد 92/ 6 برقم 24654. (¬4) سنن الدارقطني 246/ 1. (¬5) صحيح البخاري، باب إمامة العبد والمولى وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف. (¬6) الطبقات الكبرى لابن سعد 68/ 6.

صوم يوم عرفة يكفر العام الذي قبله))؟ (¬1). وأما الحج فلا تدعه يفوتها أي سنة، فقد حجت واعتمرت مرات كثيرة، تقول (ض): قلت: يا رسول الله ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج، حج مبرور، فقالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ولما استأذنت من عمر (ض) للحج أرسل معها عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف (¬3). هذا وكانت قد حددت أماكن إقامتها أيام الحج، ففي بداية أمرها كانت تنزل في آخر حدود عرفة بنمرة، اتباعا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأت زحمة الناس هناك ضربت خيمتها بعيدا عن ذلك، وانتقلت إلى الأراك، وأحيانا كانت تقف مجاورة لجبل ثبير (¬4). وكانت (ض) تهل ما كانت في منزلها ومن كان معها، فإذا ركبت فتوجهت إلى الموقف تركت الإهلال، وكان من عادتها أنها كانت تعتمر بعد الحج من مكة في ذي الحجة، ثم تركت ذلك، فكانت تخرج قبل هلال محرم حتى تأتي الجحفة فتقيم بها حتى الهلال، فإذا رأت الهلال أهلت بعمرة (¬5). وكانت تصوم يوم عرفة ثم تقف حتى يبيض ما بينها وبين الناس من الأرض ثم تدعو بشراب فتفطر (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده 128/ 6 برقم 25014، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 189/ 3 وقال: رواه أحمد، وعطاء لم يسمع من عائشة، بل قال ابن معين: لا أعلمه لقي أحدا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبقية رجاله رجال الصحيح، والمنذري في الترغيب والترهيب 68/ 2 برقم 1518 وقال: رواته ثقات محتج بهم في الصحيح إلا أن عطاء الخراساني لم يسمع من عبد الرحمن بن أبي بكر. (¬2) صحيح البخاري باب حج النساء برقم 1861. (¬3) نفس المصدر باب حج النساء برقم 1860. (¬4) قصة إقامتها في ثبير مذكورة في صحيح البخاري باب طواف النساء عن عطاء (ض). (¬5) ذكره الإمام مالك في الموطأ باب قطع التلبية برقم 750. (¬6) أخرجه مالك في الموطأ 1/ 275 برقم 836، وابن أبي شيبة في المصنف مختصرا 197/ 3 برقم 13399.

الاحتراز من الأشياء التافهة

الاحتراز من الأشياء التافهة: وكانت (ض) تجتنب حتى الأشياء التافهة والأمور البسيطة من المنهيات، عن مجاهد أن مولى لعائشة أخبره: أنه كان يقود بها وأنها كانت إذا سمعت الجرس أمامها قالت: قف بي، فيقف حتى لا تسمعه، وإذا سمعته ورآها قالت: أسرع بي حتى لا أسمعه (¬1). وقد بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا فيها عندهم نرد، فأرسلت إليهم: لئن لم تخرجوها لأخرجنكم من داري، وأنكرت ذلك عليهم (¬2). وذات مرة قتلت جانا فأريت فيما يرى النائم فقيل لها: والله لقد قتلت مسلما، فقالت: والله لو كان مسلما ما دخل على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقيل لها: وهل كان يدخل عليك إلا وأنت متجلببة أو مخمرة؟ فأصبحت وهي فزعة، فتصدقت وأعتقت رقابا (¬3). الرحمة بالأرقاء والموالي والرفق بهم: كانت (ض) كثيرة الرفق بالأرقاء، وقد أعتقت في كفارة يمين واحدة أربعين رقبة (¬4). وبلغ عدد المعتقين على يدها سبعا وستين رقبة (¬5)، وكانت عندها جارية من قبيلة تميم فسمعت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن هذه القبيلة من ولد إسماعيل فأعتقتها (¬6)، وكذلك بريرة جاءتها تستعينها في كتابتها، ولم تكن ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده 152/ 6 برقم 25229. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد 435/ 1 برقم 1274، قال البخاري: موقوف صحيح الإسناد، كما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 216/ 10 وفي شعب الإيمان 239/ 5 برقم 6505، وابن عبد البر في التمهيد 178/ 13. (¬3) أورده الهيثمي في الزوائد 485/ 1 برقم 419 وفيه ((فأمرت باثني عشر ألفا فجعلتها في سبيل الله عز وجل)) وذكره القرطبي في تفسيره 317/ 1 وقال: روي من وجوه، وابن أبي شيبة في المصنف 182/ 6 برقم 30514، وابن عبد البر في التمهيد 118/ 11، وأبو نعيم الأصبهاني في الحلية 49/ 2. (¬4) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3505، وكتاب الأدب برقم 6075. (¬5) ذكره محمد بن إسماعيل الصنعاني في سبل السلام 139/ 4. (¬6) ((وكانت سبية منهم عند عائشة فقال: أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل)) صحيح البخاري =

إعانة الفقراء وأصحاب الحاجة على قدر مراتبهم

قضت من كتابتها شيئا، فاشترتها وأعتقتها (¬1). وذات مرة أصابها مرض، وبعض أولاد أخيها ذكروا شكواها لرجل من الزط يتطبب وأنه قال لهم: إنهم ليذكرون امرأة مسحورة سحرتها جارية في حجرها صبي، في حجر الجارية الآن صبي، قد بال في حجرها، فقال: ائتوني بها، فأتي بها، فقالت عائشة (ض): سحرتيني؟ قالت: نعم، قالت: لم؟ قالت: أردت أن أعتق، وكانت عائشة (ض) قد أعتقتها عن دبر منها، فقالت: إن لله علي أن لا تعتقي أبدا، انظروا شر البيوت ملكة فبيعوها منهم، ثم اشتروا بثمنها رقبة فأعتقوها (¬2). فكأنها أرادت أن تعاقبها، لكن تأمل كيف كان العقاب؟. إعانة الفقراء وأصحاب الحاجة على قدر مراتبهم: إن مساعدة الفقراء والمساكين ينبغي أن تكون حسب درجاتهم وعلى قدر منازلهم، فإذا جاء شخص مسكين من الدرجة المتدنية فيكفي أن تقضي حوائجه، ولكن لو جاء أحد أرفع منه درجة وأعظم مكانة فإنه يستحق الاحترام والتوقير أكثر من الأول، كانت عائشة (ض) تراعي هذا الترتيب دائما، فذات مرة جاءها سائل فأعطته كسرة من الخبز، فأخذها الفقير ومضى، ثم مر بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته، فأكل، فقيل لها في ذلك: فقالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنزلوا الناس منازلهم)) (¬3). ¬

_ = كتاب العتق برقم 2543. (¬1) صحيح البخاري كتاب العتق برقم 2563 و 2564 و2565 وصحيح مسلم كتاب العتق برقم 1504، وسنن أبي داود كتاب العتق برقم 3929، موطأ الإمام مالك كتاب العتق برقم 1519. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك 244/ 4 برقم 7516 واللفظ له، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والبيهقي في السنن الكبرى 137/ 8، والدارقطني في سننه 4/ 140 برقم 53، وأحمد في مسنده 6/ 40 برقم 24172، والبخاري في الأدب المفرد 68/ 1 برقم 162. (¬3) سنن أبي داود كتاب الأدب برقم 4842 باب تنزيل الناس منازلهم.

الاهتمام البالغ بالحجاب

الاهتمام البالغ بالحجاب: كانت (ض) تهتم بالحجاب اهتماها بالغا، وقد تأكد ذلك الأمر بعد نزول آية الحجاب (¬1)، وإذا أرادت أن يدخل عليها أحد من تلاميذها الخواص تأمر إحدى قريباتها - أختها أو بنت أختها - فترضعه، وذلك استنادا إلى حديث خاص من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وبالتالي فتكون جدة لذلك التلميذ من الرضاعة، فيدخل عليها (¬3)، وإلا فيكون هناك حجاب بينها وبين تلاميذها (¬4)، ومن شدة اهتمامها وعنايتها البالغة بأمور الحجاب أنها لم تكن تخالط الرجال في الطواف، ((وكانت تطوف حجرة من الرجال، لا تخالطهم، فقالت امرأة: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري حديث الإفك، وقد مر عدة مرات. (¬2) وهو الحديث الذي ذكر فيه رضاعة سالم: عن عائشة (ض) قالت: ((جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم، وهو حليفه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أرضعيه، قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: وقد علمت أنه رجل كبير)) (صحيح الإمام مسلم كتاب الرضاع برقم 1453). وقد أخرجه الإمام أبو داود بتفصيل أكثر وفيه سبب احتجاج عائشة بهذا الحديث، ونصه: جاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ... فقالت: يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فضلا (أي متبذلة في ثوب واحد من ثياب محضتي) وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: أرضعيه، فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة، فبذلك كانت عائشة (ض) تأمر بنات أخواتها وبتات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيرا، خمس رضعات ثم يدخل عليها)) ... (سنن أبي داود كتاب النكاح برقم 2061، وانظر كذلك مسند الإمام أحمد 272/ 6). (¬3) هذه المسألة قد تفردت بها عائشة (ض) من بين سائر الأزواج المطهرات، قال الإمام أبو داود في الحديث السابق برقم 2061: وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحدا من الناس حتى يرضع في المهد، وقلن لعائشة: والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لسالم دون الناس. (وسوف نتناول هذا الموضع بشيء من التفصيل لاحقا في مبحث المسائل الفقهية الخلافية). (¬4) ورد في صحيح البخاري: كنت آتي عائشة أنا وعبيد بن عمير وهي مجاورة في جوف ثبير ... (كتاب الحج برقم 1618).

انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: عنك، وأبت)) (¬1). وإذا أرادت الطواف في النهار يخلى المطاف من الرجال (¬2)، وفي رواية أنها كانت تخمر وجهها بالجلباب أثناء الطواف، ودخل عليها مكاتب لها ببقية مكاتبته فقالت له: ما أنت بداخل مرتك هذه فعليك الجهاد في سبيل الله (¬3). كذلك من ورعها وشدتها في أمر الحجاب أنها كانت احتجبت من إسحاق التابعي وكان ضريرا، فقال لها: أتحتجبين مني ولست أراك! قالت: إن لم تكن تراني فإني أراك (¬4). لم تفرض الشريعة الإسلامية الاحتجاب من الأموات لكن عائشة (ض) من شدة ورعها، واهتمامها بالحجاب، والأخذ بالحيطة الكاملة لم تكن تدخل بيتها بعد دفن عمر (ض) إلا مشدودة عليها ثيابها. تقول (ض): ((كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي (ض) واضعة ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر (ض) والله ما دخلت إلا مشدودة علي ثيابي، حياء من عمر (ض)) (¬5). ... ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الحج برقم 1618. (¬2) نفس المصدر، وكذلك: مسند الإمام أحمد 117/ 6 برقم 24905. عن كريمة بنت همام قالت: دخلت المسجد الحرام فأخلوه لعائشة. (¬3) مسند الإمام أحمد بن حنبل 85/ 6 برقم 24592، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 275 وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط، ورجال أحمد ثقات. (¬4) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 69/ 8. (¬5) أخرجه الحاكم في المستدرك 8/ 4 برقم 6721 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

الفصل الثاني مناقبها رضي الله عنها

الفصل الثاني مناقبها رضي الله عنها قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله ..... وأهل بيتي)) (¬1) ومقصوده - صلى الله عليه وسلم - أن كتاب الله العظيم بالرغم من أن الله عز وجل قد يسره وجعله سهل البيان متيسر الفهم بحيث لا يحتاج إلى من يقوم بالتطبيق العملي، إلا أن الحاجة ظلت دائما ماسة إلى أولئك العباقرة الذين يحلون رموزه ويكشفون عن أسراره، ويوضحون للعالم فحواه العلمي والعملي، والآن بعد ما استأثرت رحمة الله تعالى بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ينبغي لنا أن نبحث عن هؤلاء العباقرة في أهل بيته - صلى الله عليه وسلم -، وقد مر معنا في تفسير سورة الأحزاب من هم المقصودون بأهل البيت. ونظرا إلى العناية الفائقة والاهتمام البالغ الذي أولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة (ض)، وما توفر لها من إمكانات وفرص للاستفادة من صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقي العلوم من فم الرسول الكريم مباشرة، وما أكرمها الله تعالى من البراعة والجوهر الطبيعي والمواهب والصلاحيات، لا يبقى لأحد مجال للشك أن أم المؤمنين عائشة (ض) قد احتلت مكانة مرموقة متميزة سامية في أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا فمن يكون أحسن ترجمان للقرآن الكريم وأعرف بتأويل سنن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وأنجح معلم للأمة جمعاء بأحكام الشريعة الإسلامية من عائشة (ض)؟ كان الناس يرون النبي - صلى الله عليه وسلم - خارج المنزل فقط، لكن عائشة (ض) سنحت لها الفرصة أن تعيش مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خارج المنزل وداخله، وإذا كان الأمر كما ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2408.

أسلفنا فحكم الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى كان حكما في غاية من العدالة عندما قال: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) (¬1) وقد أريها النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وبشر بأنها زوجته، يقول - صلى الله عليه وسلم - لعائشة (ض): ((أريتك في المنام مرتين، أرى أنك في سرقة من حرير ويقول هذه امرأتك فاكشف عنها، فإذا هي أنت، فأقول: إن يك هذا من عند الله يمضه)) (¬2) ولم ينزل عليه وحي في لحاف واحدة من أمهات المؤمنين غيرها (¬3)، وكان جبريل (س) يقرأ عليها السلام، قالت: قال - صلى الله عليه وسلم - يوما: يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام، فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى، تريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) وقد رأت جبريل (س) مرتين بأم عينيها، وقد شهد الباري تعالى على عفافها وبراءتها من فوق سبع سماوات، وبشرها الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - بكونها أحب أزواجه في الآخرة (¬5). كانت (ض) تقول: ((خلال لي تسع لم تكن لأحد من النساء قبلي، ما أقول هذا أني أفخر على أحد من صواحباتي، قالت: جاء الملك بصورتي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابنة سبع سنين، وأهديت إليه وأنا ابنة تسع سنين، وتزوجني بكرا لم يكن في أحد من الناس، وكان يأتيه الوحي وأنا وهو في لحاف واحد، وكنت من أحب الناس إليه، ونزل في آيات ¬

_ (¬1) صحيح الإمام البخاري فضل عائشة برقم 3769، 3770، وصحيح الإمام مسلم فضل عائشة برقم 2431، 2446، وصحيح ابن حبان 16/ 50 برقم 7113، 7115، وسنن الترمذي برقم 1834، 3887. (¬2) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3895، وصحيح الإمام مسلم كتاب فضائل الصحابة برقم 2438، وسنن الترمذي كتاب المناقب رقم 3880. (¬3) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3775، سنن الترمذي كتاب المناقب برقم 3879، سنن النسائي كتاب عشرة النساء برقم 3949، 3950. (¬4) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3768، كتاب الأدب 6201، كتاب الاستئذان برقم 6253 صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة برقم 2447، سنن الترمذي كتاب الاستئذان والآداب برقم 2693. (¬5) أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 11 برقم 6729.

من القرآن كادت الأمة تهلك فيه، ورأيت جبريل - صلى الله عليه وسلم - ولم يره أحد من نسائه غيري، فأتى في بيت لم يله الملك إلا أنا)) (¬1) وفي رواية ((ومات في يومي وليلتي وبين سحري ونحري)) (¬2). ... ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 11 برقم 6730، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 389/ 6 برقم 32278، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 241/ 9، والذهبي في سير أعلام النبلاء 191/ 2، والإمام الطبري في تاريخه، هذا وقد ورد في بعض الروايات سبع خلال بدل تسع، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 241 والطبراني في المعجم الكبير 23/ 31 برقم 77، والإمام أبو يوسف في كتاب الآثار 1/ 209 برقم 932. كما ورد في رواية ابن سعد قالت (ض): فضلت على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشر ... الحديث (63/ 8 - 64). (¬2) هذا لفظ كتاب الآثار 209/ 1.

الفصل الثالث مكانتها العلمية رضي الله عنها

الفصل الثالث مكانتها العلمية رضي الله عنها تمهد: لم تكن مكانتها العلمية وتفوقها العلمي أرفع وأسمى من عامة النساء فحسب، بل لا نحسبها قصرت عن شأو واحد من معاصريها بين الرجال والنساء على السواء في سرعة الفهم وقدرة التحصيل. والذكاء المتوقد والبديهة الواعية، باستثناء عدد من كبار الصحابة فقط، ولا يقصر علمها على وعي الكلمات والعبارات، قال أبو موسى الأشعري (ض): ما أشكل علينا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - حديث قط، فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علما (¬1). وهذا الإمام محمد بن شهاب الزهري الذي ترعرع في حضن كبار الصحابة رضوان الله عليهم يقول: ((كانت عائشة أعلم الناس، يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2). وقال عطاء بن أبي رباح والذي قد نال شرف التتلمذ على يد عديد من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيا في العامة)) (¬3). وقال التابعي الجليل أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: ((ما رأيت أحدا أعلم بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أفقه في رأي إن احتيج إليه، ولا أعلم بآية ¬

_ (¬1) سنن الترمذي باب فضل عائشة (ض) برقم 3883. (¬2) ذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى 2/ 374. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 15 برقم 6748، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 185/ 2 و2/ 200، والحافظ ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب 12/ 463، وابن عبد البر في الاستيعاب 1883/ 4.

فيما نزلت ولا فريضة، من عائشة)) (¬1). وذات مرة قال معاوية: يا زياد أي الناس أعلم؟ قال: أنت يا أمير المؤمنين، قال: أعزم عليك، قال: ((أما إذا عزمت علي فعائشة)) (¬2). وقال عروة بن الزبير بن العوام حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((ما رأيت أحدا أعلم بالحلال والحرام والعلم والشعر والطب من عائشة أم المؤمنين)) (¬3). وفي رواية أخرى: ((ما رأيت أحدا أعلم بالقرآن ولا بفريضة ولا بحرام ولا بحلال ولا بفقه ولا بشعر ولا بطب ولا بحديث العرب ولا نسب من عائشة)) (¬4). وقد سئل مسروق التابعي الجليل وكان قد تربى في حضن عائشة (ض) هل كانت أم المؤمنين تحسن الفرائض فقال: أي والذي نفسي بيده لقد رأيت مشيخة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونها عن الفرائض (¬5). لقد كان غيرها من أمهات المؤمنين كذلك يقمن بواجب حفظ السنة وإشاعتها وتبليغها إلا أن المكانة التي وصلت إليها عائشة (ض) لم يصل إليها أحد غيرها، يقول محمود بن لبيد: ((كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يحفظن من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ولا مثلا لعائشة وأم سلمة)) (¬6) وقال محمد بن شهاب الزهري: ((لو جمع علم الناس كلهم ثم علم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لكانت عائشة أوسعهم علما)) (¬7). ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 375/ 2. (¬2) الحاكم في المستدرك 4/ 15 برقم 6747. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك 12/ 4 برقم 6733. (¬4) ذكره أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء 2/ 49، وأبو الفرج ابن الجوزي في صفة الصفوة 2/ 32. (¬5) أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 12 برقم 6736، والدارمي في سننه 2/ 442 برقم 2859، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 242، والخراساني في كتاب السنن 1/ 118 رقم 287، وابن أبي شيبة في المصنف 6/ 239 رقم 31037، والطبراني في المعجم الكبير 23/ 181. (¬6) الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 375. (¬7) رواه الحاكم في المستدرك 2/ 12 رقم 6734، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/ 199.

العلم والاجتهاد

وقد روى بعض المحدثين حديث ((خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء)) (¬1) في مناقب عائشة (ض) وقد أورده ابن الأثير في النهاية والديلمي في مسند الفردوس باختلاف في اللفظ، لكنه حديث موضوع لا يصح، ولو أن معناه صحيح. العلم والاجتهاد: هذا الفصل من أهم أبواب حياة أم المؤمنين عائشة (ض)، والذي تتميز فيه شخصيتها تميزا مسلموما ليس في صنف النساء فحسب، وإنما في صنف الرجال على السواء. ونظرا إلى مكانتها الرفيعة ودرجتها السامية في معرفة الكتاب والسنة والاطلاع على معانيها وإدراك فحواها لاستنباط الأحكام، إنها تستحق أن يذكر اسمها في عداد علماء الصحابة الأجلاء، أمثال عمر الفاروق، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس (ض). وها نحن نستهل هذا العمل بذكر مكانتها في معرفة كتاب الله تعالى وتفسيره وتأويله وآرائها القيمة في علوم التفسير. ... ¬

_ (¬1) ذكره الملا علي القاري في الموضوع 1/ 98 برقم 121 وقال: لا يعرف له أصل، وقال محمد بن أبي بكر: كذب مختلق، نقد المنقول 1/ 51،كذا ذكره ابن القيم في المنار المنيف 1/ 61.

البحث الأول علمها بالقرآن الكريم

البحث الأول علمها بالقرآن الكريم الكل يعرف أن القرآن الكريم قد تم نزوله في مدة ثلاث وعشرين سنة، وعائشة (ض) زفت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التاسعة من عمرها، فيكون ذلك السنة الرابعة عشرة من نزول القرآن الكريم، أو من البعثة، وعلى هذا فإنها قد عاشت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - زهاء عشر سنوات، ونستوحي من ذلك أن أكثر من نصف القرآن الكريم يكون قد نزل قبل بلوغ عائشة (ض) سن الرشد. وبالرغم من هذا السن المبكر فلم يثبت أنها فوتت فرصة من فرص الاستفادة حتى أيام طفولتها - أيام اللهو واللعب - وتركتها تذهب سدى دون أن تغتنمها، وخاصة أنه لم يمر يوم إلا ويأتي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيت أبي بكر طرفي النهار بكرة وعشية (¬1). وكان أبو بكر الصديق (ض) قد ابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن (¬2)، وكانت عائشة (ض) تنتهز هذه الفرصة السانحة فتحفظ ما يقرع سمعها من آيات الكتاب الحكيم، وتعيها وتخزنها في ذاكرتها القوية التي وهبها الله تعالى إياها. تقول (ض): ((لقد أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - بمكة وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46])) (¬3). ¬

_ (¬1) تقول عائشة (ض): لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر عليهما يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار بكرة وعشية (صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3906). (¬2) صحيح البخاري كتاب الصلاة برقم 476. (¬3) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التفسير برقم 4876 وكتاب فضائل القرآن برقم 4993.

لم تكن عائشة (ض) تحفظ الشيء الكثير من كتاب الله حتى الثالثة عشرة من عمرها، وقد اعترفت بذلك وصرحت به قائلة عندما وقعت حادثة الإفك: ((وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرا)) (¬1) ومع ذلك فإنها كانت تستدل بالآيات القرآنية، والقرآن الكريم لم يتم تدوينه كتابة في شكل كتاب حتى وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن جاء الخليفة الراشد أبو بكر الصديق (ض) فقام بتدوينه في عهده المجيد، وخلال هذه الفترة قام بعض الصحابة بتدوينه على حدة للتلاوة اليومية، ولم يكن هناك اختلاف في التدوين إلا ما كان في تقديم سورة أو تأخيرها، كان أبو يونس مولى لعائشة (ض) وهو يعرف الكتابة فأمرته عائشة (ض) أن يكتب لها مصحفا (¬2)، ومعظم الاختلافات في القراءة كان في بلاد العراق، وذلك نظرا للاختلاط بالعجم هناك (¬3). جاء عراقي إلى عائشة (ض) فقال: أريني مصحفك، قالت: لم؟ قال: لعلي أولف القرآن عليه، فإنه مؤلف، قالت: وما يضرك أية آية قرئت قبل، إنما نزل أول ما نزل منه ..... فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور (¬4). وقد وهبها الله تعالى لسانا سؤولا فلا يهدأ لها بال إذا أشكل عليها شيء من معاني القرآن حتى أن تشفي غليلها بالاستفسار من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ورد في الأحاديث أنها كثيرا ما كانت تستفسر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن تفاسير الآيات ومعانيها وتأويلاتها، كيف لا وقد أمرهن الباري عز وجل فقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] فكان تنفيذ هذا الأمر واجبا عليهن، وذلك لا يكتمل إلا بمعرفة معاني الذكر ¬

_ (¬1) صحيح البخاري حديث الإفك بأرقام 2661، 4141، 4750. (¬2) صحيح الإمام مسلم رقم 629، ومسند الإمام أحمد 6/ 73 رقم 24492. (¬3) جاء في صحيح البخاري أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة (باب جمع القرآن). (¬4) صحيح البخاري باب تأليف القرآن.

الحكيم. كما أنها كانت تقوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة التمام، وتستمع لما يقرأه - صلى الله عليه وسلم - من سور طوال المفصل: البقرة وآل عمران والنساء (¬1)، ولم ينزل القرآن الكريم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في لحاف واحدة غير عائشة (ض) (¬2)، فكانت أول من تلقى القرآن مباشرة من فم النبوة فور نزوله، تقول (ض): ((وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده)) (¬3). وبالجملة فإن هذه هي الأسباب التي مكنت عائشة (ض) من فهم معاني كل آية من الآيات القرآنية، وتحديد فحواها الحقيقي، واختلاف الأحرف السبعة، وإدراك مواضع الاستدلال فيها، وطرق الاستنباط منها، وجعلتها تحتل مكانة رفيعة، وتنال براعة كاملة وملكة كبيرة في هذا الموضوع. ولذلك نراها ترجع إلى كتاب الله العزيز قبل كل شيء في حل كل مشكلة صغيرة أو كبيرة والكشف عن عقدة تفسيرية، أو رد سؤال موجه إليها في هذا الصدد. فهو المرجع الأول لها في كل الأمور، وإنها لم تكن تراجع القرآن الكريم في قضايا العقائد والفقه والأحكام الشرعية فحسب، بل في كل الأمور حتى في موضوع سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيان أخلاقه وسلوكه، وكذلك في المسائل ذات الصلة بالتاريخ والأخبار. وقد جاءها ذات مرة ناس يسألونها عن خلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - قالت: ألست تقرأ القرآن؟ فإن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن، قالوا: حدثيني عن قيام الليل؟ قالت: ألت تقرأ ياأيها المزمل (¬4). وسوف نتحدث لاحقا بالتفصيل عن طرق ومناهج استنباطاتها ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد بن حنبل 92/ 6 برقم 24653. (¬2) صحيح البخاري باب تأليف القرآن. (¬3) صحيح البخاري باب تأليف القرآن. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه برقم 1342، ومسلم في صحيحه بشيء من التفصيل باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض برقم 746، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 171 برقم 1127، وابن حبان في صحيحه 292/ 6 برقم 2551، والبيهقي في السنن الكبرى 29/ 3 برقم 4588.

واستخراجاتها وسعة نطاق البحث الذي كان سمة رئيسة بارزة لأم المؤمنين (ض). إن عدد الروايات الصحيحة عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين التي تتناول تفسير الآيات القرآنية قليل جدا، فنرى صحيح الإمام البخاري الذي يتضمن كتابا كبيرا ومفصلا عن تفسير الآيات القرآنية، إلا أن معظمه روايات عن التابعين في حل اللغات، أو سرد مختلف القصص والوقائع ضمن تفسير الآيات لوجود مناسبة ولو بسيطة بينهما، كما هو عادة الإمام البخاري (ح)، وإلا فإن التفسير الحقيقي منه قليل جدا، كذلك الإمام الترمذي فكتابه ((السنن)) يحتوي على كتاب كبير من التفسير، لكن عليه ملاحظت آتية: 1 - لم يراع فيه صحة الأسانيد إلا قليلا. 2 - يعزو فيه تفسير الآية بمعنى الكلمة. أما الإمام مسلم (ح) فإنه جمع كتابا خاصا بتفسير القرآن الكريم في آخر صحيحه، لكنه لم يأت بالشيء الكثير، ومعظم ما فيه من الروايات فهي مروية عن ابن عباس وعائشة (ض)، وعلى كل فإن ما روي عن عائشة (ض) حول تفسير الآيات القرآنية ليس بقليل، وفيما يأتي نقتصر على ذكر تلك الروايات التفسيرية التي توجد فيها نكتة خاصة بينتها عائشة (ض). 1 - إن السعي بين الصفا والمروة من شعائر الحج، وقد ورد فيه قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]. قال عروة: سألت عائشة (ض) فقلت: أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة. قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت ((لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما)). ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا

قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قالت عائشة (ض): وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا لعلم ... (¬1). ولا شك أن هذا هو الواقع. إن عائشة (ض) كانت على علم كاف وبصيرة تامة، وقد كشفت عن عقدة معقدة لأصول التفسير، ولا بد أن تراعى هذه الأصول في كل تفسير، وهي أن فحوى الآية ومقصودها الحقيقي يحدد في ضوء ما يتبادر إلى الذهن من معاني الألفاظ حسب استعمالات العرب، والأمثال العربية، وإلا -كما تقول أم المؤمنين - لكان من الممكن أن يعبر الله تعالى عن ذلك بعبارة أخرى يكون معناها المتبادر واضحا جليا. 2 - قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110]. قال عروة وهو يسأل عائشة (ض) عن هذه الآية: قلت: أ ((كذبوا)) أم ((كذبوا)) قالت عائشة: كذبوا، قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم، فما هو بالظن؟. قالت: أجل لعمري، لقد استيقنوا بذلك، فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا، قالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الحج يرقم 1643، وصحيح الإمام مسلم كتاب الحج برقم 1277، وسنن الترمذي كتاب تفسير القرآن برقم 2965، وسنن النسائي كتاب مناسك الحج برقم 2968.

وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك (¬1). 3 - قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. والظاهر عدم وجود المناسبة والمطابقة بين هذه الآية والتي قبلها، فالأولى تحدثت عن الجور في حقوق الأيتام، والثانية تحدثت حول إذن النكاح. وقد سأل عائشة أحد تلاميذها عن هذه الآية وانسجامها مع سابقتها فقالت: ((اليتيمة تكون عند الرجل وهو وليها فيتزوجها على مالها ويسيء صحبتها ولا يعدل في مالها، فليتزوج ما طاب له من النساء سواها مثنى وثلاث ورباع)) (¬2). 4 - قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127]. فسئلت عائشة (ض) عن هذه الآية فقالت: والذي ذكر الله تعالى أنه {يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} (لآية الأولى التي قال الله فيها: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رغبة أحدكم عن اليتيمة التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن (¬3). 5 - اختلفوا في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن برقم 4696. (¬2) صحيح البخاري كتاب النكاح برقم 5098، صحيح الإمام مسلم كتاب التفسير برقم 3018. (¬3) صحيح الإمام مسلم كتاب التفسير برقم 3018، وصحيح البخاري كتاب الشركة برقم 2494، وكتاب الوصايا برقم 2763.

فقالت عائشة (ض): ((أنزلت في ولي اليتيم الذي يقيم عليه ويصلح في ماله إن كان فقيرا أكل منه بالمعروف)) (¬1) وروي عن ابن عباس (ض) أن هذا الإذن نسخه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] لكن ظاهر الآية يدل على أن مستحقي هذا العقاب هم أولئك الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، تقول عائشة (ض): إن الآية الأولى التي فيها إذن بالأكل هي لولاة الأيتام إذا كانوا فقراء، فإنهم يأكلون منه مكان قيامهم عليهم بالمعروف، فإن كان ولاة الأيتام من الموسرين فلا يجوز لهم أن يأخذوا منه شيئا، مكان قيامه عليهم، وإن كانوا فقراء فلهم ذلك. 6 - آية نشوز الزوج: قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]. فالرجوع إلى الصلح لدفع الغضب وإزالة سوء التفاهم أمر طبيعي، إذن ما فائدة هذا الحكم؟ تجيب عائشة (ض) عن هذا السؤال قائلة: ((الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها، فيريد طلاقها ويتزوج غيرها فتقول له: أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج غيري فأنت في حل من النفقة علي والقسمة لي، فذلك قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ})) (¬2). 7 - الآيات التي تدل على الخوف أو فيها ذكر المشاهد المفزعة والمناظر المرعبة، يربطها المفسرون بالقيامة، لكن الصحابة الكرام بموجب معرفتهم بمجمل سائر الآيات القرآنية، كان بإمكانهم أن يحددوا مفهوم الآية على أكمل وجه وأحسن طريق، مثلا قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] يقول عبد الله بن مسعود (ض) في تفسير هذه الآية وسبب نزولها: ((إنما كان هذا لأن قريشا لما استعصوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسني يوسف، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب البيوع برقم 2212، كتاب الوصايا برقم 2765، كتاب التفسير برقم 4575 ومسلم في صحيحه كتاب التفسير برقم 3019. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المظالم والغضب رقم 2450 وكتاب الصلح برقم 2694 وكتاب تفسير القرآن برقم 4601 وكتاب النكاح برقم 5206، ومسلم في صحيحه كتاب التفسير برقم 2021.

فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (*) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 10 - 11])) (¬1). كذلك قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] تقول عائشة (ض) عن هذه الآية: ((كان ذاك يوم الخذدق)) (¬2) تعني أن هذا تصوير لاضطراب المسلمين وابتلائهم يوم الخندق. 8 - تفسير ((الصلاة الوسطى)) في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]. اختلفت أقوال الصحابة (ض) في تفسير ((الصلاة الوسطى)) فروى الإمام أحمد في مسنده عن زيد بن ثابت وأسامة (ض) أنها صلاة الظهر (¬3)، وروي عن البعض منهم أنها صلاة الصبح، بينما ترى عائشة (ض) أنها صلاة العصر، وكانت تقول ذلك بغاية من الثقة والاعتداد، حتى إنها سجلت هذا التفسير على هامش المصحف الذي كتبه لها مولاها أبو يونس (¬4). وهذا هو التفسير ¬

_ (¬1) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجمعة برقم1007/ 1020 وكتاب تفسير القرآن برقم 4693، 4774، 4809، ومسلم في صحيحه كتاب صفة القيامة والجنة رقم 2798، وسنن الترمذي كتاب التفسير برقم 3254. (¬2) صحيح البخاري كتاب المغازي برقم 4103، وصحيح مسلم كتاب التفسير برقم 3020. (¬3) أخرج الإمام أحمد في مسنده 5/ 205 برقم 21840 أن رهطا من قريش مر بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى فقال: هي العصر، فقام إليه رجلان منهم فسألاه فقال: هي الظهر، ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه فقال: هي الظهر، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الظهر بالهجير، ولا يكون وراءه إلا الصف والصفان من الناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله تعالى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وأبو داود في سننه كتاب الصلاة برقم 411. (¬4) أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي يونس مولى عائشة أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى=

المعتمد لدى كبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ومنهم سيدنا علي بن أبي طالب (ض) وعبد الله بن مسعود وسمرة بن جندب (ض) (¬1)، وهو ما يقتضيه العقل، لأن صلاة العصر هي في وسط النهار بين الظهر والمغرب. 9 - تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284]. ظاهر الآية أن الإنسان يحاسب بما تحدث به نفسه ولا يدري ما يغفر منه وما لا يغفر منه، ولا شك أن الإنسان إذا حوسب بما يخطر على باله من الأحاديث والوساوس يشق عليه ذلك وتضيق عليه الحياة. قال علي وابن عباس (ض): نسختها الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬2) وهذا هو رأي ابن عمر (ض) (¬3). 10 - أما عائشة (ض) فإنها لما سئلت عن تفسير هذه الآية وكذلك قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] فقالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذه معاتبة الله العبد فيما يصيبه من الحمى والنكبة، حتى البضاعة يضعها في كام قميصه فيفقدها فيفزع لها، حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير (¬4). هذا وقد روي عن عائشة (ض) تفسير الآيات الأخرى كذلك، إلا أننا ¬

_ = وصلاة العصر - قُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} قالت عائشة: سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم 629، كما أخرجه الترمذي في سننه كتاب تفسير القرآن برقم 2982 والنسائي في سننه كتاب الصلاة برقم 472 وأبو داود في سننه كتاب الصلاة برقم 410). (¬1) أخرج الإمام الترمذي في سننه كتاب التفسير أقوال هؤلاء العلماء: حديث سمرة بن جندب برقم 2983 وحديث ابن مسعود (ض) برقم 2985 وحديث علي (ض) برقم 2984. (¬2) أخرج الترمذي في سننه كتاب التفسير قول ابن عباس (ض) برقم 2992 وقول علي (ض) برقم 2990. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التفسير برقم 4545 وكذلك 4546. (¬4) أخرجه الترمذي في سننه كتاب التفسير برقم 2991، وكذلك الإمام أحمد في مسنده.

اقتصرنا على هذا القدر، وتفسير هذه الآيات بالذات لأن لها رأيا خاصا ووجهة نظر منفردة فيها، أما تفاسير الآيات الأخرى فليس هناك وجهة نظر خاصة ملموسة لها من بين عامة الصحابة، وسوف يتضح لنا مدى عمق اطلاعها وسعة علمها ومعرفتها العالية في مجال علوم القرآن بآرائها الحديثية والفقهية والكلامية، والتي سوف نتطرق إليها لاحقا إن شاء الله. القراءات الشاذة المروية عن عائشة (¬1): وقد رويت عن عائشة (ض) بعض القراءات الشاذة ومنها: 1 - (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر)، يقول أبو يونس مولى عائشة: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني، {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فلما بلغتها آذنتها فأملت علي (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين) قالت عائشة: سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، فقولها: (وصلاة العصر) غير موجود في أصل القرآن. والواقع أن عائشة (ض) لم تقصد زيادة (وصلاة العصر) في أصل القرآن الكريم، وإنما كان غرضها من ذلك هو بيان تفسير الصلاة الوسطى فقط (¬3)، إلا أن الراوي أساء فهم قولها. ¬

_ (¬1) القراءات الشاذة: لمعرفة القراءات الشاذة لا بد من معرفة ضابط القراءة الصحيحة، وفي هذا يقول الشيخ ابن الجزري: كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها ... قال: ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة، أطلق عليها: ضعيفة أو شاذة أو باطلة. انظر للتفصيل: النشر في القراءات العشر، لابن الجزري 1/ 9 ط: دار الكتب العلمية بيروت. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم 629، والترمذي في سننه برقم 2982 كتاب التفسير، والنسائي في سننه كتاب الصلاة برقم 472، وأبو داود في سننه كتاب الصلاة برقم 410. (¬3) وهو ما اصطلح عليه باسم القراءة التفسيرية (الناشر).

2 - روي عنها في باب الرضاعة أنها قالت: ((كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن)) (¬1) لكن لا توجد آية في القرآن باتفاق العلماء تدل على خمس رضعات، ولو صحت نسبة هذا الحديث إلى عائشة (ض)، فلعله وهم منها، أو أنها قصدت أن خمس رضعات كانت سابقا، أما القول بوجود هذا الحكم في القرآن الكريم فليس بصحيح، ويمكن أن الراوي أساء الفهم (¬2). ... ¬

_ (¬1) صحيح الإمام مسلم كتاب الرضاع برقم 1452، وسنن الترمذي كتاب الرضاع برقم 1150، وسنن النسائي كتاب النكاح برقم 3307. (¬2) وقد روى بعض العلماء عن عائشة (ض) قولها: ((لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشرا، ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها)) (أخرجه ابن ماجه في سننه باب رضاع الكبير برقم 1944، والدارقطني في سننه 179/ 4، والطبراني في الأوسط 12/ 18 برقم 7805، وأبو يعلى في مسنده 8/ 64 برقم 4588، وابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث 310/ 1، والإمام ابن حزم في المحلى236/ 11) وهذا باطل، لأنه لم يثبت نزول أي آية في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - بإجماع العلماء، ولو قلنا إنها نزلت قبل مرض الموت فكان من المفروض أن تكون محفوظة عند كتاب الوحي، وحفظها عامة المسلمين، لا أن تكون تحت سريرها. وراوي الحديث هو محمد بن إسحاق، وهو ضعيف في باب الأحاديث والأحكام عند العلماء، أما حديث خمس رضعات فموجود في صحيح الإمام مسلم والموطأ وغيرهما من كتب الأحاديث الصحيحة، لكنهم لم يتطرقوا إلى قصة أكل الداجن هذه الصحيفة، فدل على أنه زيادة من أحد الرواة. والله تعالى أعلم.

البحث الثاني علمها بالحديث الشريف

البحث الثاني علمها بالحديث الشريف أم المؤمنين عائشة وبقية أمهات المؤمنين: مما لا شك فيه أن موضوع علم الحديث هو ذات النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن كان أقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونال شرف صحبته أكثر فقد تمكن من الحصول على هذا العلم المبارك أكثر، وقد قدر الله سبحانه وتعالى لعائشة (ض) أن تنال الحظ الأوفر والنصيب الأكمل من هذا الجوهر الغالي الثمين، وتهيأت لها كل الأسباب التي جعلتها تتبوأ مكانة رفيعة، وتفوز بفرص قيمة سانحة للاستفادة من فم النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - مباشرة دون أي واسطة، فقد نكحها الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة بثلاث سنين، وأثناء هذه الفترة لم يمر يوم إلا ويأتيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتها. أما بعد الهجرة فلم تتمكن من معايشة حبيبها والتشرف برؤية محياه لست شهور، ثم حان وقت زفافها فزقت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شوال، ثم رافقته منذ ذلك الوقت إلى أن توفاه الله تعالى، وبالرغم أن في ابتداء الإسلام كانت تمر بزمن طفولتها إلا أن ذكاءها المتوقد وفطنتها الجبلية وذاكرتها النادرة قد أكملت ما انتقص من أجل سن الطفولة، فاستدركت ما فاتها في صباها. وأم المؤمنين سودة (ض) هي الوحيدة التي نالت شرف صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة أشهر زائدة من أم المؤمنين عائشة (ض)، إلا أن الوضع مختلف تماما بين سودة وعائشة (ض)، فهناك فرق شاسع وبون كبير واختلاف ملموس واضح في المواهب والقدرات، وقوة الفهم والإدراك، والوعي وحسن الحفظ والتعبير بين عائشة وسودة، زد على ذلك أن سودة كانت كبيرة في السن، ضعفت قواها ووهنت أعصابها، حتى لم تعد قادرة على أداء الحقوق الزوجية قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - بعدة سنوات.

أم المؤمنين عائشة وكبار الصحابة والمكثرون منهم

أما عائشة (ض) فكانت شابة، وقد مكنتها هذه المرحلة من العمر من أن تزداد كل يوم نموا في العقل وتطورا في الفهم وعمقا في النظر والتفكير، وبالتالي فقد قدر لها أن تنال شرف صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى اللحظات الأخيرة من حياته، بكل جدارة ولياقة، فكانت النتيجة بطبيعة الحال أن تكون هي أوسع علما وأكثر معرفة واطلاعا على أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخباره من غيرها من أمهات المؤمنين. وقد تزوح الرسول سائر الأزواج المطهرات إلا سودة بعد عائشة (ض) بفترة طويلة، ومع ذلك لم يحصلن إلا يوما واحدا من كل ثمانية أيام لخدمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن عائشة (ض) تحظى يومين يوم لها ويوم لسودة، لأنها وهبت نوبتها لعائشة، كما أن حجرة عائشة (ض) كانت ملاصقة للمسجد النبوي الشريف المدرسة الأولى في الإسلام، حيث تعقد حلقات الدروس والوعظ والإرشاد، وكان المعلم هو سيد المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكان المسجد المنبع الأصلي والمصدر الحقيقي للأحاديث الشريفة. فكان من الطبيعي أن لا تدانيها أي واحدة من أمهات المؤمنين في معرفة الأحاديث، والاطلاع على الآثار، وهي تعد من كبار حفاظ السنة من الصحابة، ولم يسبقها أحد من الصحابة ولا وصل إلى مكانتها المتميزة في الحديث سوى خمسة أشخاص من الرجال، فما بالك بالنساء؟! أم المؤمنين عائشة وكبار الصحابة والمكثرون منهم: أما كبار الصحابة أمثال أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي (ض)، فإنهم وإن كانوا على أرفع مكانة وأعلى درجة في نيل شرف صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهم باع في الفهم والإدراك وبعد في النظر والتفكير أكثر من عائشة (ض)، إلا أن الزوجة هي الزوجة، وما تتمكن من معرفته في شهور لا يتمكن من معرفته خاصة الأصحاب في سنين، وهناك جانب آخر وهو أن هؤلاء الكبار من الصحابة قد انشغلوا بأمور الخلافة وقضايا الناس، ورغم ذلك ما رووه من الأحاديث حول موضوع الخلافة وما أصدروا من الأحكام هي التي ينبني عليها

فقهنا الإسلامي ويقوم عليها صرحه، وبالتالي فقام بواجب رواية الأحاديث الصحابة الآخرون الذين لم تثقل كواهلهم بحمل هذه الأعباء من مهمات الخلافة ومسؤوليات رعاية الأمة. وسبب آخر لقلة الروايات من عباقرة الصحابة وكبارهم كما أشار إليه ابن سعد فقال: إنما قلت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم توفوا قبل أن يحتاج إليهم، وإنما كثر الغرماء عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، لأنهما وليا فسئلا وقضيا بين الناس، وكل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا أئمة يقتدى بهم ويحفظ عنهم ما كانوا يفعلون ويستفتون فيفتون، وسمعوا أحاديث فأدوها. فكان الأكابر من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقل حديثا عنه من غيرهم، مثل أبي بكر، وعثمان، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من نظرائهم، فلم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء عن الأحداث من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل جابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص ونظرائهم، وكل هؤلاء كانوا يعدون من فقهاء الصحابة، وكانوا يلزمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع غيرهم من نظرائهم، فكان أكثر الرواية والعلم في هؤلاء ونظرائهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم بقوا وطالت أعمارهم واحتاج الناس إليهم، ومضى كثير من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلهم وبعدهم بعلمهم لم يؤثر. ((ثم كان التابعون بعد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم، فيهم فقهاء وعلماء، وعندهم رواية الحديث والآثار، والفقه، والفتوى ...)) (¬1). والمكثرون في الرواية من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يبلغ عدد مروياتهم إلى الآلاف هم سبعة: ¬

_ (¬1) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 78 - 76.

مكانة عائشة (ض) عند المكثرين من الصحابة

الأسماء .................................................... سنة الوفاة .......... عدد الروايات 1 - . أبو هريرة (ض) ............................. 57هـ .......... 5364 2 - . عبد الله بن عمر (ض) ...................... 73هـ .......... 2630 3 - . أنس بن مالك (ض) ........................ 91هـ .......... 2286 4 - . عائشة أم المؤمنين (ض) ................... 58هـ .......... 2210 5 - . عبد الله بن عباس (ض) ................... 68هـ ........... 1660 6 - . جابر بن عبد الله (ض) ................... 78هـ ............ 1540 7 - . أبو سعيد الخدري (ض) ................. 74هـ ............ 1170 مكانة عائشة (ض) عند المكثرين من الصحابة: تأتي عائشة (ض) في المرتبة الرابعة في حفظ وكثرة الرواية، و [الثلاثة] الذين ذكرت أسماؤهم قبل اسمها كانوا قد عاشوا بعد وفاة أم المؤمنين (ض)، هذا في جانب، وفي جاب آخر إذا قارنا بين عائشة وأقرانها من المكثرين نرى: أ - أن عائشة (ض) كانت من أولئك النساء اللاتي يلزمن بيوتهن، ولم تكن تخرج وتحضر المجالس مثل أقرانها من الرجال، ولا أن طلاب العلم يأتون إليها في كل حين، ولا أنها تيسر لها السفر إلى كبرى مدن البلاد الإسلامية مثل ما تيسر لأقرانها من الرجال، إذا نظرنا إلى ذلك كله يتضح لنا أن كفة أم المؤمنين (ض) هي الأرجح على هؤلاء النجوم السبعة. عدد رواياتها: لقد تبين لنا من الجدول السابق أن عدد رواياتها يبلغ ألفين ومئتين وعشر روايات، فمنها في الصحيحين: مئتان وست وثمانون حديثا، اتفق البخاري ومسلم منها على إخراج مئة وأربع وسبعين حديثا، وانفرد البخاري بأربع وخمسين حديثا، وانفرد مسلم بثمان وخمسين حديثا، وعلى هذا فلها في صحيح البخاري مئتان وثمانية وعشرون حديثا، وفي صحيح مسلم مئتان واثنان وثلاثون حديثا، أما بقية مروياتها فهي موزعة في كتب الأحاديث الأخرى، وتقع مروياتها في المجلد السادس من مسند الإمام أحمد فقط في مئتين وثلاث

الاهتمام بالدراية مع الرواية عند المكثرين من الصحابة

وخمسين صفحة من الطبعة المصرية بحيث لو جمعت في صحيفة مستقلة لخرجت في شكل كتاب ضخم. الاهتمام بالدراية مع الرواية عند المكثرين من الصحابة: ومما لا شك فيه أن فضل أم المؤمنين عائشة (ض) ومكانتها العالية ليس في كثرة الرواية فقط، وإنما الشيء الذي يميزها والجوهر الأصلي الذي يفضلها هو الدقة والبراعة في الفهم، والقوة في الاجتهاد والإدراك، والعمق في التفقه والاستنباط، ولذلك نرى أن كبار فقهاء الصحابة وأصحاب الفتيا منهم معظمهم من المقلين في الرواية. بخلاف الذين يحدثون كل ما يسمعونه فهم عادة يقل فيهم الاعتناء بالفهم والدراية وقوة الاستنباط، ولذلك نرى أن الصحابة الخمس الذين ذكرت أسماؤهم في جدول المكثرين يعدهم الأصوليون من رواة الحديث فقط، وهم ليسوا من فقهاء الصحابة، وكل ما لدينا من ذخائر السنة النبوية وخزائن الحديث الشريف لم نطلع فيها لسيدنا أبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك (ض)، على أي اجتهاد أو استنباط حكم من كتاب أو سنة لمسألة لم يرد فيها نص صريح من الشارع الحكيم. ولم يشارك عائشة (ض) في هذه الفضيلة العظيمة والميزة المباركة،- ألا وهي العناية بالتفقه والاجتهاد وقوة الاستنباط -إلا عبد الله بن عباس (ض)، وهو الذي قد رزقه الله ملكة في التفقه في الدين وبراعة في الاجتهاد وإدراكا في المعرفة وقوة في الاجتهاد والاستنباط مع كثرة الرواية. اعتناء عائشة (ض) ببيان حكم وأساب الحكم الشرعي: هذا وبالإضافة إلى خصائص عائشة في الرواية من الكثرة والتفقه والدراية وقوة التفكير وطاقة الاسنباط والاستخراج هناك ميزة أخرى لمرويات عائشة. وهي أنها لما تبدأ في بيان الحكم لا تقتصر على بيان حكم من الأحكام الشرعية في مسألة ما، وإنما تقوم بتوضيح علل ذلك الحكم وشرح مصالحها وحكمها، حتى يرسخ ذلك الحكم في ذهن السائل والسامع ويقتنع بمشروعيته، وأوضح دليل على ذلك حديث الاغتسال يوم الجمعة، فقد أخرجه

البخاري في صحيحه عن كل من عبد الله بن عمر، وأبي سعيد الخدري، وعائشة (ض) متتابعا، وفيما يلي نص الروايات الثلاث لكي يتضح الفرق بينها: 1 - حديث ابن عمر (ض): ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من جاء منكم الجمعة فليغتسل)) (¬1). 2 - حديث أبي سعيد الخدري: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)) (¬2). 3 - حديث عائشة (ض) أم المؤمنين: ((كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي فيأتون في الغبار، يصيبهم العرق والغبار فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم وهو عندي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا)) (¬3). وفي رواية أخرى لها: ((كان الناس مهنة أنفسهم، وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم)) (¬4). 4 - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في عام فقال: ((لا يأكل أحدكم من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام))، ففهم منه عبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري (ض) أن هذا حكم مؤبد (¬5)، فأفتوا بذلك، ولكن عائشة (ض) فهمت أن النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث كان من قبيل المندوب والمستحب فقالت: [لحم] الضحية كنا نملح منه فنقدم به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فقال: ((لا تأكلوا إلا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الجمعة برقم 894، وسنن الترمذي كتاب الجمعة برقم 492، وسنن النسائي كتاب الجمعة برقم 1376. (¬2) صحيح البخاري كتاب الجمعة برقم 895، وصحيح الإمام مسلم كتاب الجمعة برقم 846، وسنن النسائي كتاب الجمعة برقم 1377. (¬3) صحيح البخاري كتاب الجمعة برقم 902، وصحيح مسلم كتاب الجمعة رقم 847، وسنن النسائي كتاب الجمعة برقم 1379. (¬4) صحيح البخاري كتاب الجمعة برقم 903، وصحيح سلم كتاب الجمعة برقم 847، وسنن أبي داود كتاب الطهارة برقم 352. (¬5) صحيح البخاري كتاب الأضاحي برقم 5568 و5574، وصحيح مسلم كتاب الأضاحي برقم 1970 و1973.

ثلاثة أيام))، وليست بعزيمة، ولكن أراد أن يطعم منه، والله أعلم (¬1)، ثم وضحت عن علة منع الادخار، لما سألها ابن ربيعة: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن لحوم الأضاحي؟ قالت: لا، ولكن قل من كان يضحي من الناس، فأحب أن يطعم من لم يكن يضحي، لقد كنا نرفع الكراع فنأكله بعد عشرة أيام)) (¬2). 5 - أخرج الخمسة (¬3) إلا أبا داود (¬4) عن أبي هريرة (ض) ((أن الذراع كانت أحب اللحم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن تروي لنا عائشة (ض) سبب إعجابه - صلى الله عليه وسلم - بلحم الذراع، فتقول: ((ما كان الذراع أحب اللحم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن كان لا يجد اللحم إلا غبا، فكان يعجل إليه، لأنه أعجلها نضجا)) (¬5). 6 - ((روي في الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث عامله إلى خيبر كل سنة، فيذهب العامل وينظر في الثمار ويخرصها)) (¬6) هكذا يرويه عامة الصحابة، بينما ترويه عائشة (ض) فتبين لنا سبب الخرص وتقول: ((وإنما كان أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمرة وتفرق)) (¬7). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الأضاحي برقم 5570. (¬2) سنن الترمذي كتاب الأضاحي برقم 1511. (¬3) صحيح البخاري كتاب أحاديث الأنبياء برقم 3340، وكتاب تفسير القرآن برقم 4712، وصحيح مسلم كتاب الإيمان برقم 194، وسنن الترمذي كتاب الأطعمة برقم 1837، وكتاب صفة القيامة برقم 2434، وسنن ابن ماجه كتاب الأطعمة برقم 3307. (¬4) قلت: وقد أخرجه أبو داود في سننه بسنده عن عبد الله بن مسعود (ض) كتاب الأطعمة برقم 3780، وأخرجه الدارمي في سننه عن أبي عبيد، كتاب المقدمة برقم 44. (¬5) أخرجه الترمذي في سننه كتاب الأطعمة برقم 1838، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. (¬6) أخرجه ابن الجارود في المنتقى 96/ 1 برقم 351، والترمذي في سننه باب ما جاء في الخرص برقم 644، وابن حبان في صحيحه 73/ 8 برقم 3278، 3279، والبيهقي في السنن الكبرى 121/ 4 برقم 7223، وأبو داود في سننه باب في خرص العنب برقم 1603. (¬7) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 4/ 41 برقم 2315، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 76/ 3، باب الخرص، وأحمد في مسنده 6/ 163 برقم 25344، والبيهقي في السنن =

التحري في رواية الحديث

7 - إن من أسباب قلة الأخطاء في مرويات عائشة (ض)، أن عامة الناس كانوا يسمعون حديثا أو يشاهدون قصة مرة واحدة فيحدثون بها ويروونها، بينما عائشة (ض) كان منهجها شديدا جدا في هذا الباب، حيث إنها لا تروي حديثا أو قصة إلا إذا اقتنعت بموردها وتفهمه جيدا، وإذا أشكل عليها أمر فلا يهدأ لها بال ولا يقر لها قرار حتى تراجعح النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الأمر حتى يطمئن قلبها (¬1)، ولا شك أن هذه الفرصة قلما تتوفر لآخرين. ولذا نرى أن هناك عددا كبيرا من الروايات اختلفت فيها رواية عائشة عن رواية الصحابة الآخرين، نظرا إلى المصالح والأسباب والحكم، وسوف نتحدث عن ذلك بشيء من التفصيل في مبحث ((علمها بأسرار الشريعة)). كان من عادتها (ض) أنها إذا لم تلق الحديث من فم النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، وإنما حدثها به أحد غيره، تسلك في ذلك طريق التحري والأخذ بالحيطة، وتفحصه فحصا كاملا ثم تعتمد عليه، ذات مرة خدثت بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص. حدثها به عروة، ثم إن عبد الله بن عمرو حج بعد، فقالت: ((يا ابن أختي (تقصد عروة) انطلق إلى عبد الله فاستثبت لي منه الذي حدثتني عنه، يقول عروة: فجئته فحدثني به كنحو ما حدثني فأتيت عائشة فأخبرتها، فعجبت وقالت: والله لقد حفظ عبد الله بن عمرو)) (¬2). التحري في رواية الحديث: ولهذا السبب لو جاء أحد يطلب منها أن تحدثه بحديث حدثها به شخص آخر، فلا تسرع في رواية الحديث، وإنما ترسل الطالب إلى الشخص نفسه الذي حدثها به وذلك لكي يتلقى الحديث من مصدره المباشر، كما يكون ¬

_ = الكبرى 123/ 4 برقم 7231، وأبو داود في سننه باب في الخرص برقم 3413، وعبد الرزاق في المصنف 123/ 4 برقم 7203. (¬1) أخرج البخاري في صحيحه عن ابن أبي مليكة: أن عائشة (ض) كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، (كتاب العلم باب من سمع شيئا فراجع برقم 103). (¬2) صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة برقم 7307.

غرضها من ذلك تقليل الوسائط، والحصول على السند العالي، فمثلا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الركعتين بعد العصر في البيت، والأصل أنه لا تطوع ولا نافلة بعد العصر، فأشكل ذلك على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلوا كريبا إلى عائشة (ض) فقالوا: ((اقرأ عليها السلام منا جميعا، وسلها عن الركعتين بعد صلاة العصر، وقل لها: إنا أخبرنا عنك تصلينها، وقد بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها، قال كريب: فدخلت عليها فبلغتها ما أرسلوني، فقلت: سل أم سلمة ... الحديث)) (¬1). كذلك في مسألة المسح على الخفين، يقول شريح بن هانيء: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: ((عليك بابن أبي طالب فسله، فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..)) (¬2). وقد أشار الإمام الحازمي (ح) في كتاب ((الاعتبار)) إلى منهج عائشة (ض) هذا. ولم يقتصر الأمر عندها أنها جنبت مروياتها من الأخطاء والتسامحات، بل وصلت إلى درجة أنه يصل أحيانا إلى سمعها عن بعض العلماء من الصحابة روايات وأحكام على غير وجهها، فتصحح لهم ما أخطؤوا فيه أو تبين ما خفي عليهم، ولها فضل عظيم يعترف به، وجميل لا ينكر على الإسلام، إنها استدركت على أقرانها ومعاصريها في مسائل شتى، ونبهتهم على أخطائهم. وقد حاول بعض الأئمة في فن الحديث جمع هذه الاستدراكات في رسالة (¬3) خاصة، وآخرها رسالة العلامة جلال الدين السيوطي (ح) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الجمعة برقم 1233، وصحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها برقم 834، وسنن أبي داود كتاب الصلاة برقم 1273، وسنن الدارمي كتاب الصلاة برقم 1436. (¬2) صحيح مسلم كتاب الطهارة برقم 276، وسنن النسائي كتاب الطهارة برقم 129، وسنن ابن ماجه، كتاب الطهارة برقم 552. (¬3) أول من صنف في هذا الموضوع هو أبو منصور عبد المحسن بن محمد بن علي البغدادي، المحدث التاجر الرحلة، عاش في القرن الخامس الهجري، ولد سنة 411م ومات سنة 489 هـ، تلقى الحديث في دمشق، ومصر، والرحبة، وروى عن =

الأصول التي تنبني عليها استدراكات عائشة

(ت سنة 911 هـ)، وقد سماها ((عين الإصابة فيما استدركته السيدة عائشة على الصحابة)) (¬1) ورتبها المؤلف حسب الأبواب الفقهية، وبالرغم من أن أصول الحديث وقواعده لم يتم تدوينها في عصر الصحابة، إلا أن المراحل الابتدائية لهذا الفن تكون قد بدئت. الأصول التي تنبني عليها استدراكات عائشة: وإذا أمعنا النظر فيما استدركته عائشة (ض) على الصحابة يتبين لنا أن استدراكاتها تنبني على الأسس التالية: أ - لا يحتج بالسنة إذا خالفت الكتاب: ولعل أول أصل أصلته عائشة (ض) في فن الحديث هو أن لا تكون الرواية مخالفة لكتاب الله، ونظرا إلى هذه القاعدة فإنها أنكرت صحة عدة أحاديث، وأولتها حسب وجهة نظرها، واستنادا إلى علمها. ولتوضيح أكثر نضرب الأمثلة الآتية: 1 - مسألة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه: روى ابن عمر وابن عباس وآخرون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((إن الميت ليعذب ¬

_ = ابن غيلان والعتيقي وطبقتهما وكتب وحصل الأصول، وجملة ما استدرك في مصنفه خمسة وعشرين حديثا ينظر: شذرات الذهب 3/ 392 ثم جاء الإمام محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي أبو عبد الله بدر الدين مصري المولد والوفاة تركي الأصل شافعي المذهب، ولد سنة (745هـ) وتوفي (794هـ) كان إماما علامة مصنفا محررا أخد عن جمال الدين الأسنوي، وسراج الدين البلقيني، كان فقيها أصوليا، أديبا، فاضلا، مؤلفاته كثيرة كلها نافعة ومفيدة من أهمها كتاب ((البحر المحيط في أصول الفقه)) و ((البرهان في علوم القرآن)) و ((تخريج أحاديث الرافعي)) ومنها رسالة ((الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة)) وهي مطبوعة بتحقيق الأستاذ سعيد الأفغاني، بالمطبعة الهاشمية بدمشق عام 1358هـ، (لترجمة الزركشي يراجع: شذرات الذهب 335/ 6، الفتح المبين 209/ 2). (¬1) رسالة لطيفة مختصرة لخصها السيوطى (ح) من كتاب الزركشي السابق ذكره، وقد طبعت في حيدرآباد الدكن كما هي مطبوعة مع كتاب ((سيرة عائشة (ض))) للعلامة السيد سليمان الندوي، الذي نحن بصدد ترجمته إلى اللغة العربية.

ببكاء أهله)) فذكر عند عائشة (ض) قول ابن عمر، فقالت: ((رحم الله أبا عبد الرحمن سمع شيئا فلم يحفظه، إنما مرت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة يهودي وهم يبكون عليه، فقال: ((أنتم تبكون وإنه ليعذب)) (¬1) وكان مقصود عائشة (ض) كما في صحيح البخاري: ((إنه ليعذب بخطيئته وذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن)) (¬2) لأن البكاء عمل الآخرين فهم يتحملون عقابه وليس الميت، ثم قالت: وحسبكم القرآن: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال ابن عباس (ض) عند ذلك: ((والله هو أضحك وأبكى)) قال ابن أبي مليكة: ((والله ما قال ابن عمر (ض) شيئا)) (¬3). يقول الإمام البخاري (ح) وهو يفصل لنا قول عائشة، وابن عمر (ض): ((قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه، إذا كان النوح من سنته لقول الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته))، فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة (ض) {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وهو كقرله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} ذنوبا {إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} (¬4) وهو رأي عبد الله بن المبارك (¬5). ولكنني أرى أن استدلال عائشة (ض) صحيح في كل الصور الثلاث، وقد وافقها في هذه المسألة من الأئمة: الشافعي (¬6)، ومحمد، والإمام ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الجنائز برقم 1289، وصحيح مسلم كتاب الجنائز برقم 931، وسنن الترمذي كتاب الجنائز برقم 1004. (¬2) صحيج البخاري كتاب المغازي برقم 3979، وصحي مسلم كتاب الجنائز برقم 932. (¬3) صحيح البخاري كتاب الجنائز برقم 1288، وصحيح الإمام مسلم كتاب الجنائز برقم 929. (¬4) صحيح البخاري كتاب الجنائز (ترجمة الباب). (¬5) قال الإمام الترمذي: وقال ابن المبارك: ((أرجو إن كان ينهاهم في حياته أن لا يكون عليه من ذلك شيء)) (سنن الترمذي باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت حديث رقم 1002). (¬6) قال أبو عيسى الترمذي: حديث عائشة حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن عائشة، وقد ذهب أهل العلم إلى هذا وتأولوا هذه الآية: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وهو قول الشافعي (كتاب الجنائز برقم 1004).

أبو حنيفة رحمهم الله (¬1). 2 - مسألة سماع الموتى: عن ابن عمر (ض) قال: اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل القليب فقال: ((وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقيل له: يا رسول الله تدعو أمواتا! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون)) (¬2) وفي رواية: فقال عمر: ((يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، رواه قتادة قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة)) (¬3) فلما ذكر ذلك لعائشة (ض) قالت: ((إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق، ثم قرأت: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ..} حتى قرأت الآية)) (¬4) وحاول علماء الحديث التطبيق بين الروايتين، فقال قتادة التابعي: ((أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما)) (¬5) يعني أن الله سبحانه وتعالى أودع فيهم قوة السماع لفترة من الوقت كمعجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. 3 - الشؤم في ثلاثة في المرآة والدابة والدار: لما أخبرت عائشة (ض) أن أبا هريرة (ض) يحدث أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((الشؤم في ثلاثة: في المرأة والدابة والدار)) فقالت: لم يحفظ أبو هريرة، لأنه دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ((قاتل الله اليهود، يقولون الشؤم في ثلاثة في الدار والمرأة والفرس)) (¬6) فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله)). روى الإمام أحمد في مسنده أن أبا بردة جاء إلى عائشة (ض) فقال: ¬

_ (¬1) يراجع موطأ الإمام محمد. (¬2) صحيح البخاري كتاب الجنائز برقم 1370. (¬3) صحيح البخاري كتاب المغازي برقم 3976. (¬4) صحيح البخاري كتاب المغازي برقم 3981، وصحيح مسلم كتاب الجنائز برقم 932، وسنن النسائي كتاب الجنائز برقم 2076. (¬5) صحيح البخاري كتاب المغازي برقم 3976. (¬6) أخرجه أبو داود الطيالسي في سننه 1/ 215 برقم 1537.

((يا أمتاه حدثيني شيئا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: قال رسول الله: الطير تجري بقدر، وكان يعجبه الفأل الحسن)) (¬1) وفي رواية أنها لما سمعت حديث أبي هريرة (ض) السابق قالت: ((والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول ...)) ثم قرأت: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] (¬2). كما أنه يوجد هناك بعض الروايات يمكن بها التطبيق بين روايتي عائشة، وأبي هريرة (ض) ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن كان الثؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس)) (¬3) وهذا ليس حكاية للواقع وإنما على صورة التعليق (¬4). 4 - رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - الرب تعالى: عن ابن عباس (ض) أنه كان يقول: ((إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه مرتين، مرة ببصره، ومرة بفؤاده)) (¬5) فسأل مسروق عائشة (ض) فقال: يا أمتاه هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث، من حدثكهن فقد كذب، من حدثك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]. وقد وردت أحاديث أخرى صحيحة في تأييد قول عائشة (ض) كما في صحيح ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد 129/ 6 رقم 25026. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده 6/ 150 برقم 25209، والحاكم في المستدرك 521/ 2 برقم 3788، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 140، وابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث 1/ 105. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح برقم 5094، ومسلم في صحيحه كتاب السلام برقم 2225، وأبو يوسف في كتاب الآثار 199/ 1 برقم 900، والطبراني في الأوسط 279/ 7 رقم 7497. (¬4) عين الإصابة للسيوطي نقلا عن الإجابة للزركشي ص 29 - 127. (¬5) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 79/ 1 وقال: رواه الطبراني في الأوسط 6/ 50 رقم 5761، ورجاله الصحيح خلا جهور بن منصور الكوفي وذكره ابن حبان في الثقات، كما أورده البيهقي في الاعتقاد 304/ 1، والقرطبي في تفسيره 56/ 7 و 92/ 17 وكذلك ابن كثير في تفسيره 4/ 251.

ب - الوصول إلى فحوى الكلام ولبه

الإمام مسلم قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((نور أنى أراه)) (¬1). 5 - قضية المتعة: كانت المتعة (¬2) مباحة في الجاهلية، وفي الإسلام حتى السنة السابعة من الهجرة النبوية، ثم حرمها الإسلام وأعلن تحريمها في غزوة خيبر، وكان ابن عباس (ض) ومعه بعض الصحابة يقولون بإباحتها، ولكن جمهور الصحابة يقولون بتحريمها، ويستدلون عليه بأحاديث مختلفة صحيحة وصريحة، ولما سئلت عائشة (ض) عن المتعة لم تجب مستدلة بالحديث الشريف وإنما قالت: بيني وبينهم كتاب الله (¬3)، ثم قرأت: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (*) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنين: 5 - 6] فلا يجوز للمؤمن إلا هاتان الصورتان، ومعلوم أن المرأة التي ينكحها الإنسان عن طريق المتعة لا تكون زوجة ولا مما ملكت يمينه، فلا تجوز. 6 - ولد الزنا شر الثلاثة: بلغ عائشة (ض) أن أبا هريرة يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ولد الزنا شر الثلاثة)) فقالت: أما قوله: ((ولد الزنا شر الثلاثة)) فلم يكن الحديث على هذا، إنما كان رجل من المنافقين يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من يعذرني من فلان؟ قيل: يا رسول الله، مع ما به ولد زنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((هو شر الثلاثة والله عز وجل يقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] يعني أن التقصير كان من الوالدين فما ذنب الابن فيه)) (¬4). ب - الوصول إلى فحوى الكلام ولبه: إن اختلاف بعض الصحابة فى رواية بعض الأحاديث قد يكون ناتجا عن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان برقم 178، والترمذي في سننه كتاب تفسير القرآن برقم 3282. (¬2) المتعة هي: أن يقول الرجل لامرأة: خذي هذه العشرة، وأتمتع بك مدة معلومة، فتقبله. (التعريفات للجرجاني ص 315). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك 334/ 2 برقم 3193 و 427/ 2 رقم 3484، والبيهقي في السنن الكبرى 206/ 7 رقم 13952. (¬4) عن الإصابة للسيوطي ص 309 والإجابة للزركشي ص 134 - 131.

الاختلاف في فهم لب الكلام وإدراك فحواه الحقيقي، وعائشة (ض) كانت من أولئك اللاتي أكرمهن الله سبحانه وتعالى بحظ وافر ونصيب كامل من نعمة الفهم، والذكاء المتوقد، والفطنة النادرة، فاستغلت (ض) هذه الموهبة الربانية في فهم السنة النبوية وإدراك روحها الحقيقي، والأمثلة التالية توضح ما قلناه سابقا: 1 - روى أبو هريرة (ض) عن الرسول (ض) أنه قال: ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت هزلا)) (¬1) ثم دخل أبو هريرة على عائشة (ض) فقالت: يا أبا هريرة أنت الذي تحدث أن امرأة عذبت في هرة لها ربطتها لم تطعمها ولم تسقها، فقال أبو هريرة: سمعته منه، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت عائشة: ((أتدري ما كانت المرأة؟ قال: لا، قالت: إن المرأة مع ما فعلت كانت كافرة، إن المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه في هرة، فإذا حدثت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانظر كيف تحدث)) (¬2). 2 - عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها ثم قال: ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها)) (¬3) فلما سمعت عائشة (ض) بحديث أبي سعيد قالت: ((رحم الله أبا سعيد كان قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - باللباس أعمال الإنسان)) (¬4) وقد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه باب ما ذكر عن بني إسرائيل. (¬2) مسند الطيالسي 199/ 1 برقم 1400، وأخرجه أحمد في مسنده 519/ 2 برقم 10738، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 190 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الجنائز رقم 3114، والحاكم في المستدرك 490/ 1 برقم 1260 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والبيهقي في السنن الكبرى 384/ 3 رقم 6395، وأورده المنذري في الترغيب والترهب 205/ 4 رقم 5417، وقال: رواه أبو داود، وابن حبان في صحيحه، وفي إسناده يحيى بن أيوب وهو الغافقي المصري، احتج به البخاري ومسلم وغيرهما، وله مناكير، وقد قال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال أحمد: سيئ الحفظ، وقال النسائي: ليس بالقوي. (¬4) تأويل عائشة (ض) للحديث وإنكارها على أبي سعيد الخدري ذكره السيوطي في عين =

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم محشورون حفاة عراة غرلا)) وفي رواية: ((حفاة عراة مشاة غرلا)) (¬1). 3 - الأصل في الإسلام أن المطلقة تعتد في بيت زوجها، لكن فاطمة بنت قيس (ض) تحكي قصتها خلاف ذلك وتقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لها بالخروج من بيت زوجها أيام اعتدادها، كما أنها احتجت بقصتها في مختلف الأوقات عند عدد من الصحابة الكرام، فقبل بها البعض ورفضها الأكثرون، ثم حدث أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق ابنة عبد الرحمن بن الحكم، فأخرجها عبد الرحمن من بيته، فأرسلت عائشة أم المؤمنين إلى مروان بن الحكم وهو أمير المدينة: اتق الله وارددها إلى بيتها)) قال مروان: أو ما بلغك شأن فاطمة بنت قيس؟ قالت: ((لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة)) (¬2) وفي رواية: ((قالت: أما إنه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث)) وزاد ابن أبي الزناد: ((وعابت عائشة أشد العيب، وقالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص لها النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3). 4 - روى أبو هريرة (ض) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لأن أمتع بسوط في سبيل الله أحب إلي أن أعتق ولد زنية)) (¬4) دل الحديث على أن ولد الزنا إذا ¬

_ = الإصابة ص 301، وقال الزركشي: ورأيت في كتاب أصول الفقه لأبي الحسين أحمد بن القطان من قدماء أصحابنا من أصحاب ابن سريج في الكلام على الرواية بالمعنى: أن أبا سعيد فهم من الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بالثياب الكفن، وأن عائشة (ض) أنكرت عليه ذلك وقالت: يرحم الله أبا سعيد إنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - عمله الذي مات عليه)) (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة للزركشي ص 146). (¬1) صحيح البخاري كتاب أحاديث الأنبياء رقم 3349 و 3447، وكتاب التفسير برقم 4625، وصحيح مسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها برقم 2859 و 2860. (¬2) صحيح البخاري كتاب الطلاق برقم 5322، وصحيح مسلم كتاب الطلاق برقم 1481. (¬3) صحيح البخاري كتاب الطلاق برقم 5326، وسنن أبي داود كتاب الطلاق برقم 2292 وسنن ابن ماجه كتاب الطلاق 2032. (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك 233/ 2 برقم 2853، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

كان رقيقا فلا ثواب في إعتاقه، فلما سمعت عائشة (ض) بحديث أبي هريرة هذا قالت: ((رحم الله أبا هريرة أساء سمعا فأساء إصابة)) أما قوله: ((لأن أمتع بسوط في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولد الزنا)) أنها لما نزلت: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (*) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (*) فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 11 - 13] قيل: يا رسول الله ما عندنا ما نعتق، إلا أن أحدنا له جارية سوداء تخدمه وتسعى عليه، فلو أمرناهن فزنين فجئن بالأولاد فأعتقناهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن أمتع بسوط في سبيل الله أحب إلي أن آمر بالزنا ثم أعتق الولد)) (¬1). 5 - أخرج أصحاب الصحاح إلا أبا داود عن أبي هريرة (ض) أن الذراع كانت أحب اللحم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما سمعت عائشة (ض) ذلك قالت: ((ما كان الذراع أحب اللحم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن كان لا يجد اللحم إلا غبا، فكان يعجل إليه، لأنه أعجلها نضجا)) (¬2). 6 - روي عن عمر (ض) وغير واحد من الصحابة أن لا صلاة بعد صلاة الصبح والعصر، فلما سمعت عائشة (ض) قالت: وهم عمر، إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها)) (¬3). هذا وقد علل الفقهاء المنع بأن هذا وقت عبادة الشمس، فوجب تجنب التشبه بعباد الشمس، وإن صح هذا فما ذهبت إليه عائشة (ض) هو أقرب إلى الصواب، وأصح وأنسب من حيث الدراية، ويعلم من ذلك أن عائشة (ض) كانت قد فهمت علة المنع والغرض منه، وقد ورد في الحديث أن من تفوته الركعتان قبل الفجر يصليهما بعد صلاة الفجر (¬4)، وقال قوم من أهل مكة ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك 234/ 2، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 58. (¬2) أخرجه الترمذي في سننه كتاب الأطعمة برقم 1838. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصلاة برقم 833، والإمام أحمد في مسنده 6/ 124، وأما قول عمر (ض) ومعه علي، وعقبة بن عامر، وأبو هريرة، وابن عمر، وسمرة بن جندب (ض)، ذكره الترمذي في سننه كتاب الصلاة برقم 183. (¬4) أخرج الترمذي في سننه عن قيس قال: أخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقيمت الصلاة فصليت معه الصبح، ثم انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدني أصلي فقال: مهلا يا قيس أصلاتان معا؟ =

بهذا، حيث لم يروا بأسا أن يصلي الرجل الركعتين بعد المكتوبة قبل أن تطلع الشمس، كما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد العصر ركعتين، وروي عن عائشة (ض): ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما دخل عليها بعد العصر إلا صلى ركعتين)) (¬1) فكان بعض الصحابة يصلونهما، والبعض الآخر يقولون: إنهما مما اختص به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروي عن أم سلمة أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هاتين الركعتتن فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنه شغل عن ركعتي الظهر فصلاهما بعد العصر (¬2). وعلى كل يبدو أن رواية عائشة (ض) هي الأقوى والأنسب نظرا إلى الروايات السابقة، ولكونها أقرب إلى المصلحة الشرعية والمعقول. لكن شخصية عمر رضي الله عنه أيضا ليست من عامة الناس حتى لا يدرك روح الشريعة ومقصد كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وغرصه من المنع، مثلما فهمت عائشة (ض)، والأصل أن الشريعة إن تمنع من شيء فإنها تمنع من مبادئها كذلك، فالصلاة ممنوعة عند طلوع الشمس وغروبها، ولكن أطلق عليه بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر لكي لا تصلى صلاة بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس ومن بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس. 7 - روى أبو هريرة ((عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من لم يوتر فلا صلاة له)) فبلغ ذلك عائشة (ض) فقالت: من سمع هذا من أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -؟ والله ما بعد العهد وما نسيت، إنما قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: ((من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينقص منها شيئا، فليس له عند الله عهد إن شاء رحمه وإن شاء عذبه)) (¬3) والمقصود أن الوتر ¬

_ = قلت: يا رسول الله إني لم أكن ركعت ركعتي الفجر، قال: فلا إذن)) (كتاب الصلاة برقم 422، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الصلاة برقم 1154). (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الحج برقم 1631، وصحيح الإمام مسلم كتاب صلاة المسافرين برقم 835، وسنن النسائي كتاب المواقيت برقم 575. (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه مفصلا عن أم سلمة (ض)، كتاب صلاة المسافرين برقم 834، والنسائي في سننه كتاب المواقيت برقم 579. (¬3) انظر: مجمع الزوائد للهيثمي 1/ 93 و 292/ 1، والمعجم الأوسط للطبراني 4/ 215 =

ج - المعرفة الشخصية

تطوع وسنة، ومعاقبة تاركه بعدم قبول صلاته معناه أنه لا يغفر له أبدا، والمعاقبة بعدم الغفران تكون على ترك الفرائض وليست على ترك السنن. ج - المعرفة الشخصية: لقد هيأ الله سبحانه وتعالى لأم المؤمنين عائشة (ض) كل الأسباب التي جعلت منها أحد الأعلام حاملي علوم النبوة، ومعروف أن الزوجة أدرى الناس بأقوال زوجها وأفعاله، ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة ونموذجا مثاليا للأمة جمعاء، كانت سنته الفعلية والعملية بمثابة القوانين، وقد توفر للأزواج المطهرات من وسائل وإمكانات المعرفة الشخصية لأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله ما لم يتوفر للآخرين، وتراثنا الفقهي الإسلامي غني بتلك القضايا والمسائل التي قضى فيها: أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكم لجوءا إلى اجتهادهم الشيخصي أو استنادا إلى حديث يعرفونه، بينما رفضت عائشة (ض) ذلك الحكم نظرا إلى علمها الخاص ومعرفتها الشخصية واطلاعها الذاتي على الحكم الذي قد لا يطلع عليه الآخرون، وظل قولها هو المعول عليه والمعتمد في تلك المسائل إلى يومنا هذا، وفيما يلي بعض الأمثلة: 1 - كان عبد الله بن عمرو بن العاص يفتي أن النساء إذا اغتسلن ينقضن رؤوسهن فبلغ ذلك عائشة (ض) فقالت: ((يا عجبا لابن عمرو، هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينتقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات)) (1). 2 - كان ابن عمر (ض) يفتي بانتقاض الوضوء من التقبيل، فلما سمعت عائشة (ض) بذلك قالت: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قال الراوي: قلت: من هي إلا أنت؟ قال: فضحكت)) (¬2). ¬

_ = برقم 4012، وانظر كذلك الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ص 134. (1) صحيح الإمام مسلم كتاب الطهارة رقم 331. (¬2) أخرجه الترمذي في سننه كتاب الطهارة برقم 86، والنسائي في سننه كتاب الطهارة =

3 - سمعت عائشة (ض) حديث أبي هريرة (ض): ((يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة)) فقالت: ((قد شبهتمونا بالحمير والكلاب، والله لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وأني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأوذي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنسل من عند رجليه)) (¬1) وفي رواية مسلم: ((كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وإذا قام بسطتهما)) (¬2). 4 - روي عن أبي الدرداء (ض) أنه خطب فقال: ((من أدركه الصبح فلا وتر له)) فذكر ذلك لعائشة (ض) فقالت: ((كذب أبو الدرداء، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح فيوتر)) (¬3). 5 - قال بعض الناس: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في خلة يمنية، فلما سمعت عائشة (ض) ذلك قالت: ((أدرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر، ثم نزعت عنه، وكفن في ثلاثة أثواب سحولية يمانية ليس فيها عمامة ولا قميص)) (¬4). 6 - كان أبو هريرة (ض) يقول: ((من أصبح جنبا فلا يصم، فانطلق أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبوه حتى دخلا على أم سلمة وعائشة (ض)، فكلاهما قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا ثم يصوم، فانطلق أبو بكر وأبوه إلى أبي هريرة فحدثاه، فقال: هما أعلم)) (¬5). ¬

_ = برقم 170، وأبو داود في سننه كتاب الطهارة برقم 178، وابن ماجه في سننه كتاب الطهارة برقم 502. (¬1) صحيح البخاري كتاب الصلاة برقم 514، وصحيح مسلم كتاب الصلاة برقم 512. (¬2) صحيح الإمام مسلم كتاب الصلاة برقم 512. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 478/ 2 برقم 4298، وذكره المقريزي في مختصر كتاب الوتر 1/ 157 برقم 72، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 246/ 2 وحسن إسناده، والإمام أحمد في سننه 242/ 6 برقم 26100. قلت: أهل الحجاز يستعملون (كذب) بمعنى (أخطأ) فليعلم ذلك (الناشر). (¬4) صحيح الإمام مسلم كتاب الجنائز برقم 941، وصحيح البخاري. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصوم رقم 1109، وابن حبان في صحيحه 8/ 261 =

7 - إن المحرم يحل له كل شيء بعد الرمي والحلق إلا الطيب والنساء (¬1)، ولكن عائشة (ض) ترى أنه لا حرج في الطيب، وتقول: ((طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي هاتين حين أحرم ولحله حين أحل قبل أن يطوف)) وبسطت يديها (¬2). 8 - كان ابن عباس (ض) يفتي أن من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه، فلما سمعت بذلك عائشة (ض) قالت: ((ليس كما قال ابن عباس، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، ثم قلدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، ثم بعث به مع أبي، فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحله الله حتى نحر الهدي)) (¬3). 9 - كان ابن عمر (ض) يقول: ((ما أحب أن أصبح محرما أنضخ طيبا، لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك)) فذكر قول ابن عمر لعائشة (ض) فقالت: ((أنا طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم طاف في نسائه ثم أصبح محرما)) (¬4) وأحيانا كانت تقول: ((كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم)) (¬5). ¬

_ = برقم 3486، وأخرجه الترمذي بدون القصة كتاب الصوم برقم 779، والدارمي في سننه 2/ 23 برقم 1725، وأبو داود في سننه كتاب الصوم برقم 2388. (¬1) هذا مذهب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو مذهب الأحناف، أما غيرهم فيرون أنه يحل له كل شيء إلا النساء، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه باب الطيب عند رمي الجمار والحلق قبل الإفاضة برقم 1754، ومسلم في صحيحه كتاب الحح برقم 1189. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه باب إشعار البدن برقم 1699، 1700، ومسلم في صحيحه كتاب الحج برقم 1321، وينظر: المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم 3/ 397 برقم 3058. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الغسل برقم 270، ومسلم في صحيحه كتاب الحج برقم 1192، والنسائي في سننه كتاب الغسل برقم 417، وكتاب الحج رقم 2704. (¬5) صحيح البخاري كتاب الحج برقم 1538، ومسلم في صحيحه كتاب الحج برقم 1190.

د - الذاكرة القوية والحافظة النادرة

د - الذاكرة القوية والحافظة النادرة: إن قوة الذاكرة والحافظة من منح الله تعالى الغالية والثمينة، وقد رزقت أم المؤمنين عائشة (ض) حظا وافرا من هذه النعمة الجليلة، وقد مر معنا حفظها آيات من القرآن الكريم أثناء لعبها مع صديقاتها في صباها. ومعروف أن الذاكرة تلعب دورا بارزا وأساسيا في مجال رواية الأحاديث الشريفة، فحفظ الوقائع التي كانت تقع في العصر النبوي ليل نهار صباح مساء، ووعيها بمعنى الكلمة ثم القيام بأدائها كما هي وبتعبير وألفاظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، هذا كله من أهم وأعظم مسؤوليات المحدث، ومن أكبر واجباته. ولذا نلاحظ أن ما استدركته عائشة (ض) على أقرانها ومعاصريها وأنكرت عليهم من بعض الأمور، إنما يرجع إلى التفاوت في مراتب قوة الحفظ واختلاف درجات الوعي، وما يأتي من الأمثلة يوضح ما قلناه: 1 - لما مات سعد بن أبي وقاص (ض) أمرت عائشة (ض) أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ((ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد)) (¬1). 2 - سأل الناس عبد الله بن عمر (ض) كم اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: ((أربعا، إحداهن في رجب، فقال عروة: يا أماه يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: ما يقول؟ قال: يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب، قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده، وما اعتمر في رجب قط)) (¬2). 3 - عن ابن عمر (ض) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الشهر تسع وعشرون، فذكروا ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الجنائز برقم 973، ومالك في الموطأ كتاب الجنائز برقم 538. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الحج برقم 1776، ومسلم في صحيحه كتاب الحج برقم 1255.

جمع وتدوين مرويات أم المؤمنين عائشة (ض)

ذلك لعائشة فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، إنما قال: الشهر يكون تسعا وعشرين)) (¬1). 4 - روى غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (ومنهم عمر وابن عمر (ض) قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الميت يعذب ببكاء أهله عليه)) فلما بلغ عائشة قول عمر وابن عمر قالت: ((إنكم لتحدثوني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطىء)) (¬2) وفي رواية: ((رحم الله أبا عبد الرحمن سمع شيئا فلم يحفظه)) (¬3). وفي رواية قالت: ((يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ)) ثم قالت: ((إنما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهودية يبكى عليها، فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها)) (¬4). جمع وتدوين مرويات أم المؤمنين عائشة (ض): لقد بدأ علماؤنا رحمهم الله منذ منتصف القرن الهجري الأول بجمع وتحرير مرويات صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتدوينها في الكتب والصحف، وفي مستهل القرن الثاني الهجري لما تولى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (ح) أمور الخلافة، وولى أبا بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري (ض) على المدينة، وكان فضل علمه وكماله يرجع إلى خالته عمرة التي تربت في كنف عائشة (ض)، وكانت أحد الثقات العالمات بعائشة والأثبات فيها، وكانت من أعلم الناس بحديثها، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد 6/ 51 برقم 24292 و 243/ 6 برقم 26109. (¬2) صحيح مسلم كتاب الجنائز برقم 928، ومسند النسائي كتاب الجنائز 1858، ومسند الإمام أحمد 281/ 6 برقم 26452. (¬3) صحيح الإمام مسلم كتاب الجنائز برقم 931. (¬4) صحيح الإمام مسلم كتاب الجنائز برقم 932، وسنن الترمذي كتاب الجنائز برقم 1006، وسنن النسائي كتاب الجنائز برقم 1856، ومسند الإمام أحمد 39/ 6 رقم 24161 و 107/ 6 برقم 24802 و 6/ 255 برقم 26223.

((أن انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو سنة ماضية أو حديث عمرة فاكتبه، فإني قد خفت دروس العلم وذهاب أهله)) (¬1). ... ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 480، والتمهيد لابن عبد البر 17/ 251، وتهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني 466/ 12، رقم الترجمة 2850. قلت: انظر (الرسالة المحمدية) للمؤلف (الناشر).

البحث الثالث علمها بالفقه والقياس وأصولها في الاجتهاد

البحث الثالث علمها بالفقه والقياس وأصولها في الاجتهاد إذا تأملنا من وجهة النظر الأصولية يتضح لنا أن الكتاب والسنة بمثابة الأدلة. والفقه هو اسم للاستنباطات والنتائج المستخرجة من تلك الدلائل، وما سبق حول عنوان ((الحديث)) و ((القرآن)) وما سيأتي لاحقا حول عنوان ((الإفتاء والإرشاد)) كل ذلك سوف يجلي لنا مكانة أم المؤمنين عائشة (ض) في علم الفقه، وما هي الأصول التي تستند إليها في استنباط المسائل والاجتهاد والقياس. وكما هو معروف فإن شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت هي المصدر الوحيد للتعليم والإفتاء والإرشاد في العصر النبوي، ثم خلفه بعد انقراض هذا العصر المبارك كبار الصحابة الأكفاء العدول الذين حملوا هذه الأمانة العلمية والفقهية والقوة الاجتهادية من قائد هذا الركب المبارك - صلى الله عليه وسلم -، فكان أبو بكر وعمر (ض) إذا عرضت عليهما قضية جديدة يناديان في العلماء فيجتمعون ثم يستشيرانهم فيها، فإن وجدا أحدا عنده حديث سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث الناس به، وإلا كانا يقيسانه على الحكم المنصوص عليه ثم يحكمان. وظل هذا المجمع الفقهي الإسلامي منوطا بالمركز النبوي حتى مستهل عصر الخلافة الثالثة، ولما اشتعلت نيران الفتن في عهد عثمان (ض)، وعم الاضطراب، وشاعت الغوغاء، وبدأ الناس يغادرون إلى مكة، والطائف، والشام، والبصرة، ثم اتخذ علي (ض) الكوفة مقرا للخلافة، وانتشرت هذه الطائفة المباركة التي تربت في ظلال الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في شتى البلاد، وهذا الانتشار وإن أدى إلى توسيع نطاق العلم والفقه في مختلف أرجاء البلاد وأطرافها، إلا أنه خلف تأثيرا سلبيا في جانب، ألا وهو القضاء على الوحدة

القرآن الكريم

الاجتماعية التي شاهدها العصر سابقا، وإن بقي هذا الاتحاد والتجمع في مكان، فكان في رحاب بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة وأم المؤمنين عائشة (ض) هم الأربعة المشهورون الذين تبوؤا مناصب الفقه، ومنابر الإفتاء والدعوة والإرشاد في المدينة المنورة بعد خلوها من كبار الصحابة، علما أن هؤلاء الأربعة تختلف وجهات نظرهم، وتتباين أصولهم ومناهجهم في استنباط الأحكام للوقائع الجديدة التي لم يرد في حكمها نص صريح، فكان منهج عبد الله بن عمر وأبي هريرة (ض) أنهما إذا عرض عليهما حادث بحثا عن حكمه في الكتاب والسنة والأثر، فإن وجداه أفتيا به، وإن لم يجدا سكتا عنه، أما عبد الله بن عباس (ض) فإنه لا يقتصر على البحث في الكتاب والسنة وإنما يقيس الوقائع الجديدة على الأحكام المنصوص عليها، ثم يفتي بما يراه مناسبا من حيث العقل. القرآن الكريم: أما عائشة (ض) فكان منهجها أنها كانت ترجع أولا إلى كتاب الله العزيز، ثم إلى السنة النبوية ثم إلى القياس وإلحاق النظير بالنظير، وقد سبق أن ذكرنا في مبحث ((مكانتها في الحديث)) استدلالها بالآيات القرآنية بشكل تلقائي، فذات مرة سئلت عن متعة النساء فقالت: بيني وبينكم كتاب الله، وقرأت: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (*) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6] (¬1) والمرأة المتمتع بها ليست بزوجة ولا أمة، فلا تجوز المتعة. وسألها رجل عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت: ((ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم)) (¬2) وكأنها استنبطت ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 334 برقم 3913، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 206 برقم 1395. (¬2) ذكره القرطبي في تفسيره 2/ 224، وكذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره 1/ 206.

هذا الحكم من قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173]. جاءت أم محبة إلى عائشة (ض) فقالت لها: ((يا أم المؤمنين أكنت تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته جارية إلى عطائه بثمانمئة نسيئة، وإنه أراد بيعها فاشتريتها منه بستمئة نقدا، فقالت لها: بئس ما اشتريت وبئس ما اشترى أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب)) (¬1) ومعنى ذلك أن عائشة (ض) قررت المئتين في هذه الصورة من الربا، وقد اقتصرت بعض الروايات على ذكر هذه القصة دون التطرق إلى مستند عائشة في هذا الحكم، إلا أن هناك روايات أخرى (¬2) تصرح أن مستندها في هذا الحكم هو قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 228]. يقول الباري تعالى في عدة المطلقة: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] واختلف العلماء في تحديد معنى القرء، ولما طلقت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وانتقلت حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: صدق عروة، وقد جادلها في ذلك ناس، فقالوا: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فقالت عائشة (ض): ((صدقتم، تدرون، إنما الأقراء الأطهار)) (¬3). يقول الإمام مالك (ح) وهو يروي عن ابن شهاب قال: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: ((ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا، يريد قول عائشة)) (¬4). أما أهل العراق فيفسرون الأقراء بالحيض. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5/ 330 برقم 10579 و10580، والدارقطني في سننه 52/ 3 برقم 211، وعبد الرزاق في المصنف 185/ 8 برقم 14812، 14813. (¬2) المصدر نفسه. (¬3) موطأ الإمام مالك 576/ 2 برقم 1197. (¬4) المصدر السابق برقم 1198.

السنة النبوية

السنة النبوية: إن السنة النبوية تلي الكتاب في المرتبة والمكانة. * وقد عرض على عائشة (ض) موضوع التخيير بحيث إذا خير الزوج امرأته في الطلاق فرفضت هذا الخيار واختارت زوجها فهل يقع عليها طلاق أم لا؟ ذهب علي وزيد (ض) إلى وقوع طلقة واحدة عليها، بينما ترى عائشة (ض) (ض) عدم وقوع الطلاق، واحتجت بمسألة التخيير حيث قالت: ((خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترناه، فلم يعده طلاقا) (¬1). وفي رواية: ((خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفكان طلاقا)) (¬2)؟! * لو أعتق أحد عبده فإنها تحدث قرابة الولاية بين المعتق والعتيق، ويجري التوارث بينهما، ويصبح المولى قريبا للمعتق شرعا، وهكذا دخل غلام على عائشة (ض) وقال: يا أم المؤمنين إني كنت غلاما لعتبة بن أبي لهب، وإن عتبة مات، وورثني بنوه، وإنهم باعوني من عبد الله بن أبي عمرو المخزومي، فأعتقني ابن أبي عمرو، واشترطوا (أي بنو عتبة) ولائي، فمولى من أنا؟ فقالت عائشة (ض): ((دخلت علي بريرة وهي مكاتبة، فقالت: اشتريني يا أم المؤمنين فأعتقيني، فقلت: نعم، فقالت: إن أهلي لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اشتريها وأعتقيها، الولاء لمن أعتق، وإن اشترطوا مئة شرط)) (¬3). وفي رواية أخرى كانت بريرة مكاتبة فدخلت على عائشة (ض) فقالت: اشتريني وأعتقيني، قالت: نعم، قالت: لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الطلاق برقم 5262، ومسلم في صحيحه كتاب الطلاق برقم 1477، والنسائي في سننه كتاب النكاح برقم 3203. (¬2) صحيح البخاري كتاب الطلاق برقم 5264، وصحيح مسلم كتاب الطلاق برقم 1477، وسنن الترمذي كتاب الطلاق برقم 1179، وسنن النسائي كتاب النكاح برقم 3202. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب العتق برقم 2565، صحيح مسلم كتاب العتق برقم 1504، سنن أبي داود كتاب العتق رقم 3929، موطأ الإمام مالك كتاب العتق برقم 1519.

فقالت: لا حاجة لي بذلك، فسمع بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بلغه فقال: اشتريها وأعتقيها ودعيهم يشترطون ما شاؤوا، فأعتقتها عائشة (ض)، واشترط أهلها الولاء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مئة شرط)). تقول عائشة (ض): ((وكان في بريرة ثلاث سنن: خيرت على زوجها حين عتقت، وأهدي لها لحم فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والبرمة على النار، فدعا بطعام فأتي بخبز وأدم من أدم البيت، فقال: ألم أر برمة على النار فيها لحم؟ فقالوا: بلى يا رسول الله ذلك لحم تصدق به على بريرة، فكرهنا أن نطعمك منه، فقال: هو عليها صدقة، ولنا هدية)) (¬1). هذه القصص ولو كانت بسيطة في نظر العامة إلا أن عائشة (ض) استنبطت منها عدة أصول وقواعد فقهية، كما أن قصة بريرة أطلعتنا على ثلاثة من أحكام الإسلام، وهي: 1 - الولاء لمن أعتق. 2 - الجارية تخير على زوجها حين تعتق. 3 - لو تصدق بمال على صاحب حاجة وهو أهداه إلى غيره يجوز أخذه، وذلك لوجود التغير في الحقيقة والماهية. وهناك بعض الاستنباطات الأخرى لم تصرح بها أم المؤمنين لكن كلامها يقتضيها، ثم بنى عليها الفقهاء والأصوليون والمجتهدون جزئيات وفروعا فقهية كثيرة. * الكل يعرف أن حوالي مئة ألف صحابي كانوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، وكان منهم كبار الصحابة، وكل ما حدث في هذا السفر حفظه الصحابة الكرام، وكذلك عائشة (ض) حفظته، وكل تلك الوقائع مسجلة محفوظة في الأحاديث، إلا أن ما حدثت به عائشة (ض) من وقائع هذا السفر ¬

_ (¬1) صحيح البخاري باب الحرة تحت العبد برقم 5097 و 5279 و 5430، كتاب الأطعمة، وصحيح مسلم كتاب العتق برقم 1504، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه 101/ 4 برقم 2449، وابن حبان في صحيحه 518/ 11 برقم 5116.

المبارك أصبحت بمثابة الأصول والقواعد لدى المجتهدين يعتمدون عليها في بيان الأحكام وتفريع الفروع. ولما قدمت (ض) مكة حاضت فلم تقدر أن تطوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضوا الحج أرسلها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت، فقال: ((هذه مكان عمرتك)) (¬1). قال الإمام ابن القيم (¬2) (ح) بعد ذكر هذه الرواية: ((وحديث عائشة هذا يؤخذ منه أصول عظيمة من أصول المناسك: أحدها: اكتفاء القارن بطواف واحد وسعي واحد. الثاني: سقوط طواف القدوم عن النساء في حالة العذر. الثالث: أن إدخال الحج على العمرة للحائض جائز، كما يجوز للطاهر، وأولى، لأنها معذورة محتاجة إلى ذلك. الرابع: أن الحائض تفعل أفعال الحج كلها إلا أنها لا تطوف بالبيت. الخامس: أن التنعيم من الحل. السادس: جواز عمرتين في سنة واحدة، بل في شهر واحد. السابع: أن المشروع في حق المتمتع إذا لم يأمن الفوات أن يدخل الحج على العمرة. الثامن: أنه أصل في العمرة المكية)) (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الحج برقم 1556 و 1638 و 1651 و 1785، وكتاب المغازي برقم 4395، وصحيح مسلم كتاب الحج برقم 1212. (¬2) هو محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي شمس الدين أبو عبد الله ابن قيم الجوزية الحنبلي الفقيه الأصولي المفسر النحري، قال عنه الشوكاني: يرع في جميع العلوم وفاق الأقران، من كتبه: مدارج السالكين وزاد المعاد وإعلام الموقعين. والطرق الحكمية، توفي سنة (751هـ)، انظر: البدر الطابع 143/ 2، شذرات الذهب 168/ 6، الدرر الكامنة 21/ 4. (¬3) زاد المعاد لابن قيم الجونية 175/ 2 ط: مؤسسة الرسالة، ت: شعيب الأرناؤوط (1407هـ).

القياس العقلي

* كانت صفية بنت حيي أم المؤمنين (ض) قد حاضت ليلة النفر فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أحابستنا هي؟ فقيل: إنها أفاضت، فقال: فلا إذا)) (¬1) فاستنبطت منه عائشة أن طواف الوداع ليس بواجب على أصحاب الأعذار، فكل النساء اللاتي كانت تحج معها تعمل بهذا الحكم. تقول عمرة بنت عبد الرحمن: ((إن عائشة أم المؤمنين (ض) كانت إذا حجت ومعها نساء تخاف أن يحضن قدمتهن يوم النحر فأفضن، فإن حضن بعد ذلك لم تنتظرهن فتفر بهن وهن حيض، إذا كن قد أفضن) ((¬2). القياس العقلي: ويأتي دور القياس بعد الكتاب والسنة، وليس معنى القياس العقلي أن يأتي من هب ودب ويقضي بحكم ما في دين الله تعالى بعقله، وإنما المقصود من ذلك أولئك العلماء الجهابذة الذين أكرمهم الله تعالى بالتفقه في الدين، فبرعوا فيه وصارت لهم ملكة في ذلك، ورسخت علومهم في فهم الكتاب والسنة، واستفرغوا كل المجهودات في الوصول إلى أعماق الأحكام الشرعية، ومارسوا الاجتهاد بمعنى الكلمة، فأمثال هؤلاء العباقرة إذا عرضت لهم مسألة فإنهم يدركون مباشرة بما أودع الله فيهم من المواهب والقدرات أن الشارع لو كان موجودا لحكم بكذا في قضية كذا، مثل المحامي البارع الخبير الذي مرت عليه نظائر وأحكام كثيرة لمحكمة خاصة، إذا رأى قضية تشبه السابقة فإنه يستطيع أن يقول بكل ثقة واعتماد: إن هذه القضية لو رفعت في المحكمة الفلانية، لقضت بالحكم الفلاني. ونحن نعلم مدى سعة اطلاع أم المؤمنين عائشة (ض)، وعلمها الراسخ وفهمها العميق لنظام الشريعة وأحكامها، ولذا فنسبة الأخطاء في قياساتها تكون ضئيلة جدا، والأمثلة الآتية تسلط الضوء على قياسها العقلي: 1 - كانت النساء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - تدخل المساجد وتصلي بالجماعة مع ¬

_ (¬1) موطأ الإمام مالك باب إفاضة الحائض 412/ 1 رقم 926. (¬2) نفس المصدر برقم 928.

الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتكون صفوف الرجال ثم الأطفال ثم النساء، وقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصحابة بالسماح للمرأة بالذهاب إلى المساجد فقال: ((إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها)) (¬1) وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)) (¬2). فلما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وفتح المسلمون البلاد ووصلت الغنائم وكثرت الخيرات وازدادت النعم والثروات، ودخل في الإسلام ناس من شتى الحضارات والثقافات، يحملون طابع مختلف العادات والتقاليد، أثر ذلك كله في نساء المسلمين، وفتح لهن أبواب الزينة والتجمل على مصراعيه، وحدث كل ذلك بمرأى ومسمع من أم المؤمنين، فلم تلبث إلا وجهت نداءها إلى أبنائها وبناتها، ترشدهم إلى ما فيه صلاحهم وتقواهم، فقالت فيما روته عمرة (ض): ((لو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء لمنعهن، كما منعت نساء بني إسرائيل)) (¬3) وإن لم يعمل برأي أم المؤمنين عائشة (ض) في ذلك الحين إلا أن مصدر هذا الاستنباط كان هو القياس العقلي. 2 - كان أبو هريرة (ض) يفتي أن من غسل جنازة يغتسل ومن حمل جنازة يعيد وضوءه، فلما سمعت عائشة (ض) ذلك قالت: ((أونحس موتى المسلمين؟ وما على رجل لو حمل عودا)) (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الأذان برقم 873، وكتاب النكاح برقم 5238، وصحيح مسلم كتاب الصلاة برقم 442، وسنن النسائي كتاب المساجد برقم 706. (¬2) صحيح البخاري كتاب الجمعة برقم 900، وصحيح الإمام مسلم كتاب الصلاة برقم 442. (¬3) صحيح البخاري كتاب الأذان برقم 869، وصحيح مسلم كتاب الصلاة برقم 445، وسنن أبي داود كتاب الصلاة برقم 569. (¬4) قال الزركشي: ذكر أبو منصور البغدادي بإسناده ... عن أبى هريرة (ض)، أنه قال: ((من غسل ميتا اغتسل، ومن حمله توضأ)) فبلغ ذلك عائشة (ض) فقالت: ((أو نجس موتى المسلمين؟ وما على رجل لو حمل عودا؟)) واعلم أن جماعة من الصحابة رووا هذا الحديث ولم يذكروا فيه الوضرء على من حمله، منهم عائشة أخرجه أبو داود ومنهم حذيفة أخرجه البيهقي وهو يقوي إنكار عائشة، لكن قال البيهقي: ((الروايات المرفوعة في هذا الباب عن أبي هريرة غير قوية لجهالة بعض رواتها وضعف بعضهم، والصحيح أنه موقوف على أبي هريرة)) (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ص 36 - 135).

تقسيم السنة

3 - هل يلزم خروج المني لوجوب الغسل الشرعي؟ اختلفوا في هذا، فكان جابر (ض) يقول: الماء من الماء، فلما سمعت عائشة (ض) بذلك قدمت في البداية حديثا مخالفا له، ثم قالت: ((لو زنى أحد ولم يخرج الماء هل ترجمونه؟ فلماذا لا يجب الغسل إذن؟)) (¬1). تقسيم السنة: إن تحديد نوعية السنة الصادرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في توقيت خاص أو لمصلحة خاصة، وهل هي سنة عادة أو سنة عبادة، من أهم موضعات الفقه وأدقها، فكل ما يصدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعبر عنه بالسنة، وقد قسمها العلماء قسمين: 1 - سنة عبادة. 2 - سنة عادة. سنة عبادة: هي تلك الأفعال التي صدرت من النبي - صلى الله عليه وسلم - تعبدا بنية الثواب. وهي على قسمين: المؤكدة: وهي ما واظب عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - دون الترك. المندوبة: ما واظب عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الترك أحيانا. سنة عادة: هي تلك الأفعال التي صدرت من النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتبار كونه إنسانا وبشرا، أو فعلها - صلى الله عليه وسلم - لحاجة مؤقتة أو ذاتية، ولا يجب على الأمة اتباع الأفعال التي صدرت من النبي - صلى الله عليه وسلم - عادة، إلا أن المحبين والعشاق يعتقدون أن القيام بهذه الأفعال واتباع السنة طلبا للبركة من ثمرات الحب ونتائجه. وذلك لأن ((كل فعل من الحبيب حبيب)) (¬2). ¬

_ (¬1) ذكر الزركشي في كتابه قول عائشة: أخطأ جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، أيوجب الرجم ولا يوجب الغسل؟ انظر: الإجابة للزركشي ص 158 وعين الإصابة للسيوطي ص 297 مع سيرة عائشة (ض). (¬2) انظر: ((الإحكام في تمييز الفتاوى والأحكام)) للإمام القرافي (الناشر).

يتبين من الأحاديث أن عائشة (ض) قد رسخت في نفسها هذه الأصول فنرى أنها الوحيدة التي روت لنا حديث صلاة التراويح وقد صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى معه الناس ثلاث ليال، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فلم يحضر النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: ((أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفترض عليكم فتعجزوا عنها)) (¬1). فيتضح من هذا أن عائشة (ض) كانت تعرف أن ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من دون ترك فإنه يصبح مؤكدا، وما يتركه أحيانا فلا يكون مؤكدا ولا يصل إلى درجة الوجوب. وكان عبد الله بن عمر (ض) لا يرى تقسيم السنة إلى عبادة وعادة، بل إنه كان يقول إن كل ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - عبادة أو عادة مثل قضاء الحاجات البشرية، والمقتضيات الإنسانية، أو فعل شيء لسبب أو مصلحة مؤقتة، كل ذلك عنده من عداد السنة التي ينبغي اتباعها للمسلم، ولذلك روي أنه كان يتتبع أفعال النبي عليه الصلاة والسلام حتى في منازل السفر، فلو عرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ في المكان الفلاني، كان يتوضأ فيه، ولو لم تكن عنده حاجة إلى الوضوء. لكن أم المؤمنين عائشة (ض) وكذلك ابن عباس (ض) كانا يقولان بذلك التقسيم، ولذلك لم تعتبر عائشة (ض) نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأبطح سنة، تقول (ض): ((نزول الأبطح ليس بسنة، إنما نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج)) (¬2). ¬

_ (¬1) الحديث بالتفصيل أخرجه البخاري في صحيحه كتاب صلاة التراويح برقم 2012، ومسلم في صحيحه كتاب صلاة التراويح برقم 761، والنسائي في سننه كتاب قيام الليل برقم 1604، وأبو داود في سننه كتاب الصلاة برقم 1373. (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الحج برقم 1311، والبخاري في صحيحه =

اختلافها مع الأقران والمعاصرين

اختلافها مع الأقران والمعاصرين: لقد خالفت عائشة (ض) معاصريها وأقرانها في كثير من الأحكام الفقهية، وكانت موفقة في ذلك، بحيث كان رأيها أقرب إلى الصواب والسداد، وسار عليه العمل عند فقهاء الحجاز، والجدول التالي يلقي الضوء على اختلافها مع الصحابة الآخرين في المسائل الفقهية، وقد انتفيتاه من سنن الترمذي وغيره من كتب الأحاديث. رأي عائشة (ض) ............................................................ رأي الصحابة الآخرين 1 - لا ترى انتقاض الوضوء بتقبيل المرأة ..................................... ابن عمر: ينتقض 2 - لا ترى انتقاض الوضوء بحمل الجنازة .................................... أبو هريرة: ينتقض 3 - لا يلزم المرأة نقض شعرها في غسل الجنابة .............................. ابن عمر: يلزمها ذلك 4 - ترى وجوب الغسل بالتقاء الختانين ولو لم يحدث إنزال ................... جابر: الماء من الماء 5 - القرء هو الطهر ......................................................... القرء هو الحيض عند الصحابة الآخرين 6 - لا ترى وجوب الغسل بعد تغسيل الميت ................................. أبو هريرة: يجب الغسل 7 - لا ترى تمشيط أشعار الميت إذا كانت امرأة ............................... أم عطية: ينبغي تمشيطها 8 - لا ترى بطلان الصلاة بمرور المرأة ........................................ أبو هريرة: تبطل 9 - ترى إقامة صلاة الفجر في الغلس ........................................ رافع بن خديج: تصلى في الإسفار 10 - ترى التعجيل في صلاة العصر .......................................... أم سلمة: ينبغي أن تؤخر 11 - ترى التعجيل في صلاة المغرب ......................................... أبو موسى الأشعري: ينبغي أن تؤخر 12 - ترى عدم بطلان الصوم إذا أصبح الصائم جنبا ........................... أبو هريرة: يبطل 13 - ترى التعجيل في الإفطار ............................................... أبو موسى الأشعري: ينبغي أن يؤخر 14 - ترى جواز أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام ........................... علي، وابن عمر: لا يجوز 15 - النزول في وادي المحصب في الحج ليس سنة ......................... ابن عمر: هو سنة 16 - جواز التطيب بعد الحلق في الحج ..................................... ابن عمر: لا يجوز

_ = كتاب الحج برقم 1765، والترمذي في سننه كتاب الحج برقم 923، وابن ماجه في سننه كتاب المناسك برقم 3067.

17 - من أهدى الهدي إلى ببت الله الحرام فلا يحرم عليه ما يحرم على الحاج .......... ابن عباس: يحرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه 18 - الحائض لا تنتظر في الحج طواف الوداع ......................................... ابن عمر: تنتظر 19 - ترى جواز لبس الثياب المعصفرة للنساء في الحج .................................. عمر: يكره لها ذلك 20 - يكفي للنساء تقصير بعض الرأس في الحج ........................................ ابن الزبير: يلزم تقصير ربع الرأس على الأقل 21 - لا ترى وجوب الزكاة في الحلي (في رواية) ......................................... الآخرون: تجب الزكاة 22 - ترى وجوب الزكاة في أموال اليتامى والصغار ....................................... ابن مسعود: لا تجب 23 - عدة الحامل المتوفى عنها زوجها وضع الحمل ..................................... ابن عباس: عدتها بأقصى الأجلين 24 - تخيير الزوج زوجته لا يعد طلاقا .................................................. زيد بن ثابت، وعلي: تقع طلقة واحدة 25 - ترى ثبوت الحرمة برضاعة الكبير ................................................. بقية أمهات المؤمنين: لا تثبت (¬1) 26 - لا ترى ثبوت الرضاعة بأقل من خمس رضعات .................................... بعض الصحابة: تثبت برضعة واحدة (¬2) ¬

_ (¬1) وأصل الواقعة أن سالما مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فلما بلغ سالم أتت سهلة بنت سهيل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوا، وإنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة، فرجعت فقالت: إني قد أرضعته، فذهب الذي في نفس أبي حذيفة)). صحيح الإمام مسلم باب رضاعة الكبير برقم 1453، يقول النووي: اختلف العلماء في هذه المسألة فقالت عائشة وداود: تثبت حرمة الرضاع برضاع البالغ كما تثبت برضاع الصبي، لهذا الحديث، وقال سائر العلماء من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار إلى الآن: لا يثبت إلا بإرضاع من له دون سنتين، إلا أبا حنيفة فقال: سنتين ونصف، وقال زفر: ثلاث سنين، وعن مالك رواية سنتين وأيام، وأحتج الجمهور بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وبالحديث الذي ذكره مسلم بعد هذا: ((إنما الرضاعة من المجاعة)) وبأحاديث مشهورة، وحملوا حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم، وقد روى مسلم عن أم سلمة وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهن خالفن عائشة في هذا (شرح النووي لصحيح مسلم 10/ 30، ط: دار إحياء التراث العربي، بيروت 1392هـ). (¬2) أورد النسائي في سننه أن عليا وابن مسعود كانا يقولان: ((يحرم من الرضاع قليله وكثيره)) (برقم 3311).

27 - أيما عبد كاتب على مبلغ فأداه إلا حبة فهو عبد ..................................... الآخرون: إذا بقي عليه أقل من درهم فليس بعبد 28 - تقطع اليد في سرقة قيمتها ثلاثة دراهم على الأقل ................................... ابن عباس، وابن مسعود: لا قطع في أقل من عشرة دراهم (¬1) 29 - لا طلاق ولا عتاق في الإغلاق ...................................................... الأحناف: يعتق العبد ويقع الطلاق 30 - المطلقة ثلاثا تعتد في بيت زوجها ولا تخرج .......................................... فاطمة بنت قيس: يجوز خروجها من بيت زوجها. 31 - لو خلف الميت بنتين وبنت بنت واحدة وابن ابن واحد، فالثلثان للبنتين والباقي بين بنت البنت وابن الابن .................... ابن مسعود: الباقي لولد الولد فقط (¬2) ولا نصيب فيه لبنت البنت. بالإضافة إلى عدد كبير من الآراء الفقهية والمسائل الفرعية التي تزخر بها كتب الأحاديث، ومعظمها موجود في موطأ الإمام مالك (ح)، وينبني عليه فقه أهل المدينة. ... ¬

_ (¬1) قول ابن عباس في سنن الدارقطتي 3/ 190 - 192. (¬2) سنن الدارمي برقم 2892.

البحث الرابع علمها بالتوحيد أو العقيدة

البحث الرابع علمها بالتوحيد أو العقيدة كما أن الإسلام دين اليسر والسهولة غاية في السماحة، فكذلك عقائده التي ينبني عليها صرح هذا الدين وقاعدته كذلك كانت صافية نقية سمحة منسجمة مع طبيعة البشر بكل معانيها، لكن التعايش مع الديانات الأخرى والاختلاط مع الثقافات والحضارات المختلفة، وكذلك المجادلات الكلامية والمناقشات العقلية التي لا طائل من ورائها - كل ذلك ساعد على ظهور شتى الآراء ومختلف الأفكار والنظريات تجاه هذه العقيدة، وذلك بعد انقراض عصر الصحابة، وإذا أمعنا النظر في العصر النبوي نجد أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الحل الوحيد الفصل القاطع والحاسم لكل مشكلة يواجهها أحد في أمر دينه. إذا كان هناك أحد اعتراه شك أو وقع في شبهة نحو قضية ما فإنه سرعان ما يراجع النبي - صلى الله عليه وسلم - ويروي غليله من عنده، ولما انقرض العصر النبوي المبارك السعيد كان الصحابة هم المرجع الأساسي في كل ما يواجهه المسلمون من الوقائع والمستجدات والمستحدثات، فإن وجدوا لها حلا في آية صريحة أو حديث فبها ونعمت، وإلا فكانوا يلجؤون إلى الاجتهاد والقياس في ضوء الكتاب والسنة. وفي الأسطر الآتية نتناول ما ثبت عن أم المؤمنين عائشة (ض) من المرويات في باب العقيدة والتوحيد. إثبات اليد ونحوها لله سبحانه وتعالى: لقد كثر الجدل والنقاش والنزاع حول هذه المسألة العقدية في القرن

رؤية الباري تعالى

الثاني الهجري بعد وفاة عائشة (ض) بكثير، وذلك أن الكتاب والسنة أثبتا لله سبحانه وتعالى اليد والرجل والعين، فهل المراد بها أعضاء حقيقية كما تقتضيه اللغة، أم تحمل على المعنى المجازي، فاليد هل هي اليد الحقيقية أم يراد بها القوة والقدرة؟ وكذلك العين هل المراد بها الباصرة الحقيقية أم العلم؟ وهلم جرا، ورغم أن الصحابة الكرام (ض) لم يتطرقوا إلى تفاصيل هذه المسألة، إلا أن عقيدة السلف الصالح في هذا الباب هي إثبات هذه الصفات لله سبحانه وتعالى وإمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تمثيل، والإيمان بمعانيها الحقيقية، وعدم الخوض في تفاصيلها، ولعل أم المؤمنين عائشة (ض) تميل إلى هذا المذهب، كما تدل عليه مقالتها في صحيح البخاري: ((الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات)) (¬1). رؤية الباري تعالى: زعمت المعتزلة ومن نحا نحوهم استحالة رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة، وأثبتها جمهور أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا، ليس فقط إمكانية الرؤية، وإنما وقوعها كذلك، كما أن مذهب أهل السنة استحالة رؤية الباري تعالى في الدنيا، أما في الآخرة فتتحقق رؤيته تعالى وينظر إليه المسلمون كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر، إلا أن عائشة (ض) صرحت في أكثر من رواية وقالت لتلاميذها: ((من حدثك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه فقد كذب)) (¬2)، ثم قرأت: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] (¬3) {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}. (¬2) صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن برقم 4855، وسنن الترمذي كتاب تفسير القرآن برقم 3068. قلت: انظر ((الجوهرة في قواعد العقائد)) للشيخ طاهر الجزائري ط دار القلم بدمشق و ((الأسماء والصفات نقلا وعقلا)) للعلامة محمد الأمين الجكني الشنقيطي. (الناشر). (¬3) الرؤية شيء والإدراك شيء آخر (الناشر).

علم الغيب

[الشورى: 451] ولم تحصل المعتزلة إلى يومنا هذا على دليل أقوى من هذه الآية، وكان ابن عباس (ض) يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تشرف برؤية الباري تعالى في المعراج، وكان يستدل بآيتي سورة النجم: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] (¬1) بينما تقول عائشة (ض): إن المقصود في الآية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل (¬2) ولم ير الله تعالى، وهذا ما يتضح لنا بعد التأمل في الآيات التي بعدها وهي: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (*) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم: 5، 6]. ونظرا إلى هذه الروايات عن عائشة (ض) يزعم المعتزلة أنها من منكري رؤية الله تعالى، والواقع أنها أنكرت الرؤية في الدنيا فقط وليس في الآخرة، وهو الواضح جليا إذا أنعمنا النظر في ألفاظ الحديث: ((ومن حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب)) فالمقصود من ذلك إنكار رؤية الله في المعراج لا في الآخرة، وبالتالي فلا علاقة لمقالة عائشة (ض) بعقيدة إنكار رؤية الله تعالى البتة. علم الغيب: معلوم من الدين بالضرورة أن الغيب لا يعلمه إلا الله، فهو سبحانه وتعالى يليق بجلالة شأنه ويجدر بعظيم سلطانه أن يكون عنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو، فإنه تعالى عالم الغيب والشهادة قال تعالى: {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] ويزعم البعض أن الاطلاع على سائر المغيبات من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أنكرت عائشة (ض) على هذه العقيدة بشدة، فكانت تقول: ((ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب)) ثم قرأت: {مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} (¬3) فنفي علم الغيب عن كل واحد يتضمن النفي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك. ¬

_ (¬1) انظر: صحيح مسلم كتاب الإيما ن برقم 176، وسنن الترمذي كتاب التفسير برقم 3279/ 3281. (¬2) صحيح البخاري كتاب التفسير برقم 4855، وصحيح مسلم كتاب الإيمان 177، وسنن الترمذي كتاب التفسير برقم 3068، 3278. (¬3) صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن برقم 4855، والآية من سورة لقمان، الآية: 34.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكتمان ما أنزل الله

تقول الربيع بنت معوذ بن عفراء: جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل حين بني بي، فجلس على فراشي، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: ((وفينا نبي يعلم ما في غدا) فقال: ((دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين)) (¬1) فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعي هذه ..)) ينفي كل أنواع وأصناف علم الغيب عنه - صلى الله عليه وسلم - مطلقا، ويستثنى من هذا ما يطلع الله تعالى أنبياءه عليه من أمور الغيب لحكمة لا يعلمها إلا هو. الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكتمان ما أنزل الله: من المستحيل أن يسيء أحد الظن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى درجة أن يقول إنه - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئا مما أنزل الله تعالى عليه، تقول عائشة (ض): ((من حدثك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئا من الوحي فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] (¬2) كما أنها كانت تستدل على عدم كتمانه، بما أنزل الله تعالى من الآيات في قصة زيد، ومعروف أنه لا أحد يرضى أن يعلن عن شيء من مواضع ضعفه على رؤوس الأشهاد، مع أنه يوجد في القرآن الكريم عدد من الآيات نبه الله تعالى فيها الأنبياء على أخطائهم الاجتهادية، وكان زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بزوجة ابنه المتبنى موضع نقد شديد وكراهة لدى جهلة العرب، وقد فصل القرآن الكريم هذه الواقعة كل تفصيل، فتقول عائشة (ض): ((لو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاتما شيئا مما أنزل الله عليه لكتم هذه الآيات على نفسه: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37] ولم يكتمها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب النكاح برقم 5147، كتاب المغازي برقم 4001، وسنن الترمذي كتاب النكاح برقم 1090، وسنن ابن ماجه كتاب النكاح برقم 1897. (¬2) الحديث أخرجه أحمد في مسنده 6/ 241.

عصمة الأنبياء

فدل ذلك على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغ أمته كل ما أنزل الله عليه من غير شطط أو نقص أو تقصير. عصمة الأنبياء: اختلفت عائشة، وابن عباس (ض) في قراءة آية من سورة يوسف، فقرأها ابن عباس (ض): {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} خفيفة، وأما عائشة (ض) فسألها عروة عن هذه الآية فقالت: ((معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها)) وكانت تقرأ: ((كذبوا)) وقالت: ((هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك)) (¬1). المعراج الروحي: لقد اختلفت روايات الإسراء والمعراج هل أسري به - صلى الله عليه وسلم - بروحه أم بجسده؟ وهل كان ذلك في النوم أم في اليقظة؟ أما القرآن الكريم فقد عبر عنه بالرؤيا حيث قال: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] كما عبر عنه في موضع آخر برؤية القلب حيث قال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] وفي رواية صحيح البخاري صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان)) (¬2) وفي رواية أخرى قال بعد ذكر تفاصيل المشاهدات والوقائع: ((فاستيقظت)). وذكر ابن إسحاق أن عائشة (ض) كانت تقول بالمعراج الروحي، ونصه: حدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: ((ما فقدت جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن أسري بروحه)) (¬3) وقد اعترض القاضي عياض (ح) في ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب أحاديث الأنبياء برقم 3389، وكتاب التفسير برقم 4696. (¬2) صحيح البخاري كتاب بدء الخلق برقم 3207، وصحيح مسلم كتاب الإيمان برقم 164، وسنن الترمذي كتاب تفسير القرآن برقم 3346. (¬3) أورده ابن هشام في سيرته ((السيرة النبوية)) 245/ 2، وابن كثير في البداية والنهاية 114/ 3.

كتابه: ((الشفا بتعريف حقوق المصطفى)) (¬1) على هذه الرواية، ونقله عنه القسطلاني حرفيا فقال: وأما قول عائشة: ((ما فقدت جسده)) فعائشة لم تحدث به عن مشاهدة، لأنها لم تكن حينئذ زوجة، ولا في سن من يضبط، ولعلها لم تكن ولدت بعد، على الخلاف في الإسراء متى كان، ... فإذا لم تشاهد ذلك عائشة دل على أنه حدثت بذلك عن غيرها، فلم يرجح خبرها على خبر غيرها، وغيرها يقول خلافها مما وقع نصا في حديث أم هانىء وغيره، وأيضا فليس حديث عائشة (ض) بالثابت، والأحاديث الأخر أثبت، لسنا نعني حديث أم هانىء، وما ذكرت فيه خديجة، وأيضا فقد روي في حديث عائشة: ((ما فقدت)) ولم يدخل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بالمدينة، وكل هذا يوهنه، بل الذي يدل عليه صحيح قولها: ((إنه بجسده الشريف لإنكار رؤيته لربه رؤية عين، ولو كانت عندها مناما لم تنكره، وحديثها هذا ليس بثابت عنها)) (¬2). وإن صح ما قاله القاضي عياض فيلزم منه ترك عدد كبير من تلك الأحاديث التي صححها جمهور المحدثين، وصححها القاضي نفسه، وكلها تتعلق بحوادث ما قبل ولادة أم المؤمنين عائشة (ض)، مثلا أحاديث بدء الوحي، فإن معظمها مروية عن طريق عائشة (ض) ولم يروها أحد غيرها بذاك التفصيل الذي روته عائشة (ض)، بل إن مروياتها هي الأساس والمصدر الأصيل للاطلاع على تفاصيل هذه الوقائع، إذن تكون رواية بدء الوحي أكثر تضررا بهذا النقد والاعتراض من رواية الإسراء والمعراج، لأنها لم تكن ولدت عند بدء الوحي قطعا، أما حادث المعراج فقد وقع بعد أعوام من ذلك، والأصل وكما صرح به العلامة الزرفاني، وابن دحية، وابن سريج أن هذه الرواية لم تثبت عن عائشة (ض)، لأن راوي الحديث هو محمد بن إسحاق وقد ضعفه بعض المحدثين، وهو يروي عن مجهول (شخص من آل أبي بكر) ¬

_ (¬1) انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض 1/ 73 - 272، ط: مكتبة الفارابي، مؤسسة علوم القرآن دمشق. (¬2) انظر: شرح الزرقاني على المواهب اللدنية للعلامة القسطلاني 6/ 4 - المقصد الخامس في ذكر الإسراء والمعراج. ط: المطبعة الأزهرية المصرية 1327هـ.

الصحابة عدول

عن عائشة (ض)، فيوجد انقطاع بين شيخ ابن إسحاق، وعائشة (ض)، وعلى هذا فلا يحتج بهذه الرواية. الصحابة عدول: مذهب أهل السنة والجماعة أن الصحابة كلهم عدول مطلقا لظواهر الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به بالشهادة لهم بذلك، إلى أن يثبت عن أحد منهم شيء ينافي العدالة. كان أهل مصر، والعراق، والشام يتلاعنون فيما بينهم، وكل فريق يطعن على الفريق الآخر من الصحابة، كما يسب بعضهم بعضا في الحروب الأهلية التي صارت بعد استشهاد عثمان (ض) وكان فيها علي ومعاوية (ض)، فلما سمعت عائشة (ض) بذلك قالت: إن هذا الأمر - تقصد التلاعن والسب والشتم - مناقض لما أمر الله تعالى به في صحابة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واستدلت على ذلك بآية قرآنية وقالت: ((يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فسبوهم)) (¬1) واستنبطت ذلك بما ذكره الله تعالى في مدح المهاجرين والأنصار: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. الترتيب في أمر الخلافة: روى الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة (ض) قالت: ((قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)) (¬2) وعن ابن أبي مليكة قال: سمعت عائشة وقد سئلت من كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخلفا لو استخلفه؟ قالت: ((أبو بكر، فقيل لها: ثم من بعد ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب التفسير برقم 3022. (¬2) صحيح مسلم فضائل أبي بكر برقم 2387، وبمعناه رواه البخاري في صحيحه كتاب المرض برقم 5666.

سماع الموتى

أبي بكر؟ قالت: عمر، ثم قيل لها من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح، ثم انتهت إلى هذا)) (¬1). سماع الموتى: اختلفت أقوال الصحابة (ض) في مسألة سماع الأموات، فذهب عمر، وابن عمر، وابن عباس (ض) أجمعين إلى أن الموتى يسمعون، وذهبت عائشة (ض) إلى أنهم لا يسمعون، واحتجت على ذلك بالآيات القرآنية: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] وقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] فدل على أنهم لا يسمعون بعد الموت إلا أن يسمعوا شيئا في بعض الأحوال الخاصة. ... ¬

_ (¬1) صحيح الإمام مسلم كتاب فضائل الصحابة برقم 2385.

البحث الخامس علمها بأسرار الشريعة

البحث الخامس علمها بأسرار الشريعة مما لا شك فيه أن كل ما جاء من الله سبحانه وتعالى من الأحكام أنها تنبني على المصالح والحكم، وليس من الضروري أن يطلع العبد على هذه المصالح، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد بين هذه المصالح رحمة بالعباد وشفقة عليهم، وشرح لهم في الكتاب العزيز مصالح الأحكام التي فرضت عليهم، وكذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما سن للمؤمنين من سنن وشرع لهم من الفرائض والواجبات، فأحيانا بيين مصالحها بنفسه، وأحيانا بطلب من أحد واستفسار منه، وكان كبار الصحابة وساداتهم يعرفون هذه الدرر الثمينة والجواهر العلمية الغالية أتم المعرفة. وهذا الإمام العلامة الشاه ولي الله الدهلوي (¬1) الذي ألف كتابه ((حجة الله البالغة)) في علم أسرار الشريعة، رد فيه على الذين يقولون: إن سلفنا الصالح لما لم يتعرضوا لموضوع علم أسرار الشريعة، ولم يولوه عناية واهتماما فكيف تستطيعون؟ قلنا (القائل هو العلامة الدهلوي): ((لا يضر عدم تدوين السلف إياه بعدما مهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أصوله وفروعه، واقتفى أثره فقهاء الصحابة كأميري ¬

_ (¬1) هو الإمام المحدث الفقيه الرحالة كوكب الديار الهندية شيخ الإسلام العالم المجتهد أحمد بن عبد الرحيم المعروف بولي الله الدهلوي ولد في عام 1114هـ، طلب العلم في بلده ثم رحل إلى الحجاز عام 1143هـ ورجع إلى الهند، نشر أعلام الحديث وأخفق لواءه وجدد معالمه، وهو رئيس المحدثين ويعد من حفاظ القرن الثاني عشر، ومن أهم مؤلفاته: ((حجة الله البالغة - في علم أسرار الدين، والفوز الكبير في أصول التفسير، ورسالة في اختلاف الأمة وغيرها)) توفي عام 1176هـ (ترجمته في نزهة الخواطر).

المؤمنين عمر وعلي، وزيد وابن عباس وعائشة (ض) وغيرهم ممن بحثوا عنه وأبرزوا وجوها منه)) (¬1). ولو لم أتهم بتمجيد الأبطال والأعلام والحب المفرط لهم لوضعت اسم أم المؤمنين عائشة (ض) في رأس القائمة التي عملها العلامة الدهلوي لفقهاء الصحابة، وهذا لا يعني أنها كانت أوسع علما وأكثر معرفة واطلاعا ممن سبقها من أكابر الصحابة، بل الغرض من ذلك هو أنها كانت أكثر نشرا وإشاعة فيما بين الناس لهذه الخزائن العلمية المختومة والدرر المكنونة، وذخيرة الأحاديث والآثار خير دليل على هذه الدعوى. سبق أن ذكرنا أن النساء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يشاركن الرجال في الصلاة في المساجد دون أي تردد، وتكون صفوفهن وراء صفوف الأطفال، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوصى بعدم منع النساء من المساجد، فلما انقرض عهد النبوة المبارك، وكثرت الأموال والغنائم، ووجد الاختلاط مع غير المسلمين، وشاهدت أم المؤمنين عائشة (ض) هذه الأوضاع قالت: ((لو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل)) (¬2). هذه واقعة جزئية لكنها تدل على أن أحكام الشريعة الغراء في نظر أم المؤمنين (ض) تنبني على حكم وأسباب، فإذا تغيرت تلك الأسباب والحكم يتغير الحكم، تقول عائشة (ض): ((جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن عليها بعدما نزل الحجاب. وكان أبو القعيس أبا عائشة من الرضاعة، قالت عائشة: ((فقلت: والله لا آذن لأفلح حتى أستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته، قالت عائشة: ((فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) انظر: حجة الله البالغة مقدمة الكتاب تحت عنوان ((السلف لم يدونوا كل شي)) 1/ 15 ط: دار الكتب العلمية بيروت 1415هـ. (¬2) صحيح البخاري كتاب الأذان برقم 869، وصحيح مسلم كتاب الصلاة برقم 445، وسنن أبي داود كتاب الصلاة برقم 569.

الترتيب في نزول القرآن الكريم

قلت: يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس جاءني يستأذن علي، فكرهت أن آذن له حتى أستأذنك، قالت: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ائذني له فإنه عمك (¬1) وقد تبين من هذا الحديث أنها كانت تبحث حتى عن المصالح العقلية في الأحكام. وفيما يأتي نتناول تلك المسائل التي كشفت عائشة (ض) النقاب عن مصالحها وحكمها وأسرارها في الأحاديث، وبالرغم من أننا استوعبنا في ذكر هذه المسائل كل كتب الأحاديث وقمنا باستقصائها وتتبعها، لكن الكمال لله سبحانه وتعالى، ولذا فالتقصير وارد، ويمكن أن تكون هناك مسائل فاتتنا، ولم نطلع عليها. الترتيب في نزول القرآن الكريم: ينقسم القرآن الكريم من حيث أماكن النزول إلى قسمين: 1 - المكي: وهو ما نزل قبل الهجرة. 2 - والمدني: وهو ما نزل بعد الهجرة. وكلا الصنفين يختلف بعضهما عن بعض في الخصائص المعنوية، وهذه الخصائص وإن لم تظهر لعامة الناس إلا أن الذين لهم براعة في معرفة اللغة العربية، واطلاع على مميزاتها ودقائق معانيها وأساليبها، فإنهم يقدرون على التمييز بين هذين الصنفين بمجرد سماع آيات السور، وأهم مميزات السور المكية، والمدنية كالتالي: السور المكية ................................................................... السور المدنية 1 - تكون غنية بالمشاعر والعواطف ........................................... 1 - تكون في غاية من العمق والقوة والرسوخ. 2 - تستخدم فيها كلمات فخمة في قمة البلاغة والفصاحة .................... 2 - تتميز بكلمات أصولية وتعبيرات وأساليب تشريعية. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم كتاب الرضاع برقم 1445، وصحيح البخاري كتاب تفسير القرآن برقم 4796، وكتاب النكاح برقم 5239، وكتاب الأدب برقم 6156، وسنن النسائي كتاب النكاح برقم 3318.

3 - تحتوي على آيات المواعظ والنصائح والتوحيد وذكر القيامة وآيات الحشر والنشر، وذكر الأمم والعذاب، في معظم الأحيان .......... 3 - تحتوي على آيات الحدود والفرائض والأحكام. 4 - تراعى فيها الفواصل وتكون قصيرة على العموم ............................... 4 - يقل فيها استخدام الفواصل والسجع، وإن كانت فالفواصل كبيرة وطويلة. 5 - لا تتناول المناظرات والمباحثات مع اليهود والنصارى ......................... 5 - تكثر فيها المناظرات مع اليهود والنصارى. 6 - قلما يطالب فيها بالأعمال والعبادات، وإنما يكون التركيز فيها على مباحث العقائد ....................... 6 - يطالب فيها بالأعمال والعبادات 7 - لا تتناول موضوعات الجهاد، وتقتصر على موضوع الدعوة والتبلغ والإرشاد والتلاطف في الكلام .......... 7 - يكون فيها أمر بالجهاد وبيان لأحكام الجهاد مع الأمر بالدعوة والتبليغ والإرشاد. إن علماء ومحققي أوربة المستشرقين يفتخرون بهذا الاكتشاف العلمي ويعتزون به لكنهم يجهلون أن حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - وحاملة أسرار النبوة قد كشفت القناع عن هذا السر، وأفشته بين الناس قبل ألف وأربعمئة سنة، فقد ورد في صحيح البخاري من قولها (ض): ((إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام ثم نزل الحرام والحلال، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة وأنا جارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده)) (¬1). والمقصود أن الإسلام جعل من أصوله أن لا يوسع نطاق أحكامه وتعاليمه جملة واحدة، بل يختار في ذلك منهج التدرج والتمهل، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد بعث هذا الدين في قوم من الأميين، فبدأ بذكر الجنة والنار بطريقة خطابية، وأسلوب رشيق جذاب مؤثر، ولما تأثروا بذلك انتقل بهم بعد ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن باب تأليف القرآن برقم 4993.

سر نجاح الدعوة الإسلامية في المدينة المنورة

هذه المرحلة إلى إنزال الأحكام والحدود والفرائض، فنزلت آيات الأحكام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو طولبوا بالامتناع عن الزنا والفواحش وشرب الخمر وغيرها من العادات السيئة من أول يوم لما كان لهذا النداء من ملب؟ ومعروف أن الفرق في اللغة، وطريقة الأداء والأسلوب ناجم عن الفرق في المعاني والمطالب، فلا يدعي أحد أن لغة وأسلوب كتاب المواعظ والإرشاد تكون نفس لغة وأسلوب كتاب قوانين التعزيرات. وسورة البقرة، والنساء التي تقول عائشة (ض) إنهما نزلتا في المدينة تتناولان موضوع المناظرات مع اليهود والنصارى، لأنهم كانوا في المدينة، وبما أن الدعوة الإسلامية تكون قد اكتملت في المدينة المنورة، نزلت فيها الأحكام، وقلت فيهما الفواصل بسبب استخدام أسلوب الأحكام والقوانين فيهما، وتقول (ض): إن سورة القمر نزلت بمكة، وفيها ذكر موضوع القيامة، لأن تلك فترة بداية الإسلام، وفيها الإنكار على المشركين والرد عليهم، لأن المواجهة كانت معهم هناك. واستخدمت فيها الفواصل الصغيرة لأنها تؤدي إلى إيجاد تأثير عميق في الأسلوب والبيان. وخلاصة القول: إن الفوارق الموجودة بين السور المكية، والمدنية هي بالنظر إلى الاختلاف في الأوضاع والظروف، واختلاف الأوضاع هو الذي أدى إلى الفرق في اختيار الأسلوب وطريقة الأداء واختيار اللغة. سر نجاح الدعوة الإسلامية في المدينة المنورة: قد يظن البعض أن هذا السؤال لم يكن متوقعا أن يطرحه أحد قبل القرن العشرين، والتاريخ لم يتطور إلى درجة أن يسعه إنشاء مثل هذه الأسئلة، واليوم إذا جلس كبار المؤلفين وأفاضل الكتاب لكي يحلوا هذه العقدة ويزيحوا الستار عنها فإنهم يحسبون أنهم يصنعون الأعاظم ويفعلون الأفاعيل، ولكن الواقع أن الشخص الذي حدثت أمامه هذه الوقائع وهو يشاهدها بأم عينيه، لم يكن جاهلا بهذا السر الخفي، ولم تخف عليه هذه الحكمة. ومما لا شك فيه أن اتساع نطاق دعوة الإسلام ونموه وتطوره في جو

الاغتسال يوم الجمعة

مكون من التيارات المضادة، والهجمات الشرسة والضربات المعادية إنما هو معجزة ربانية بحتة، ولكن ليس من اللازم ظهور المعجزات من دون الأسباب أو الدوافع المؤدية إلى ظهورها، بل إن إيجاد هذه الأسباب والدوافع وتهيئتها وجمعها في وقت مناسب وملائم بفضل من الله تعالى كذلك يعتبر نوعا من المعجزات التي لا تتيسر ولا يتهيأ لكل عمل يعمله الإنسان، وإلا لما فشلت حركة قط في هذه المعمورة، مع أننا نرى آلافا من الحركات التي تبوء بالفشل ولا تتكلل بالنجاح لعدم توفر الأسباب. كانت قبائل المدينة قد شغلتها الحروب الأهلية فيما بينها قبل بزوع شمس الإسلام، وراح ضحيتها معظم زعماء هذه القبائل، الذين كانوا أكبر عائق وأخطر حاجز في سبيل الدعوة، وذلك خوفا منهم أن تتضرر بها مناصبهم وسيادتهم، وهذه الحروب قد أتعبت الأنصار وأرهقتهم إلى حد أنه لما طلع فجر الإسلام وجدوا فيه ضالتهم، وحصلوا على بغيتهم، وحسبوا أنه رحمة لهم، وبما أن طبقة الزعماء قد قضت عليها الحروب لم يعد أحد يتمكن من إحداث الحواجز في طريقها، وبهذا يكون قد مهد الله سبحانه وتعالى كل طرق لنمو شجرة الإسلام وتطوره من جميع الجوانب وسائر النواحي في المدينة المنورة. تقول عائشة (ض): ((كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد افترق ملؤهم، وقتلت سراتهم وجرحوا، فقدمه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في دخولهم في الإسلام)) (¬1). الاغتسال يوم الجمعة: الاغتسال يوم الجمعة واجب، وهذه أم المؤمنين عائشة (ض) توضح لنا سبب هذا الوجوب فتقول: ((كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغبار ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب المناقب باب القسامة في الجاهلية برقم 3777، 3848، 3930.

تقصير الصلاة في السفر

يصيبهم الغبار والعرق فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم وهو عندي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((ولو تطهرتم ليومكم هذا)) (¬1). تقصير الصلاة في السفر: شرع في الإسلام تقصير الصلاة في السفر، فتصلى ذوات الأربع ركعتين، ويبدو ظاهرا أن سبب هذا التقصير وعلته هو التسهيل والتيسير، إلا أن عائشة (ض) تروي لنا سببا آخر تقول: ((فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ففرضت أربعا وتركت صلاة السفر على الأولى)) (¬2). النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر: روي في الأحاديث الصحيحة عن عمر (ض) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب، (¬3) وليس هناك سبب ظاهري لهذا المنع، لأن العبادة مأمور بها في كل الأوقات، وها هي عائشة (ض) تكشف الستار عن هذا الإشكال، وتوضح لنا سبب المنع فتقول: ((وهم عمر، إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها)) (¬4) يعني حتى لا يكون هناكاشتباه بعبادة الشمس أو لا يظن التشابه مع المجوس في وقت العبادة. الصلاة جلوسا: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصلي النوافل جالسا في بعض الأحيان، فاستحب بعض الناس أن يصلوا النوافل جالسين ولو من دون عذر، علما بأن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الجمعة برقم 902، وصحيح الإمام مسلم كتاب الجمعة برقم 847. (¬2) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3935، وصحيح الإمام مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها برقم 685، وكذلك سنن النسائي كتاب الصلاة برقم 453. (¬3) انظر: صحيح البخاري كتاب مواقيت الصلاة برقم 581، وصحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين برقم 826، وسنن الترمذي كتاب الصلاة برقم 183، وسنن النسائي كتاب المواقيت برقم 562. (¬4) صحيح الإمام مسلم كتاب صلاة المسافرين برقم 833، وسنن النسائي كتاب المواقيت برقم 570، ومسند الامام أحمد 6/ 124.

سبب مشروعية صلاة المغرب ثلاث ركعات

ثواب الصلاة قاعدا نصف ثواب الصلاة قائما، وقد سئلت عائشة (ض): هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو قاعد؟ قالت: ((نعم بعد ما حطمه الناس)) (¬1). وفي رواية أخرى: ((ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في شيء من صلاة الليل جالسا قط حتى دخل في السن .... الحديث)) (¬2) وفي رواية: ((لما بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثقل كان أكثر صلاته جالسا)) (¬3) (فدل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنع بنصف الأجر في حالة العذر، فالذين ينظرون إلى قلة الأجر وكثرته يفضلون الصلاة قائما، لكن الذين ينظرون بنظر الحب والعشق فيؤثرون حب الحبيب واتباعه في كل أمر على كثرة الأجر والثواب، وبهذا فإنهم وإن لم ينالوا الأجر الكثير في صلاتهم لكنهم يعوضون ما نقص لهم من الأجر بثواب اتباع الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله تعالى. سبب مشروعية صلاة المغرب ثلاث ركعات: زيد في الصلاة بعد الهجرة وصارت الركعتان أربعا، فلماذا تصلى المغرب ثلاث ركعات؟ تجيب عائشة (ض) عن هذا السؤال فتقول: ((قد فرضت الصلاة ركعتين ركعتين بمكة، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة زاد مع كل ركعتين ركعتين، إلا المغرب، فإنها وتر النهار .. الحديث)) (¬4). سبب مشروعية صلاة الفجر ركعتين: إن صلاة الفجر يكون فيها الاطمئنان أكثر، وتوقيتها أوسع فكان من المفترض أن يزاد في ركعاتها، لكن الشارع الحكيم اقتصر على مشروعيتها ¬

_ (¬1) صحيح مسلم كتاب صلاه المسافرين برقم 732، وسنن النسائي كتاب قيام الليل برقم 1657، سنن أبي داود كتاب الصلاة برقم 956. (حطمه الناس) كبر فيهم. (¬2) سنن أبي داود كتاب الصلاة برقم 953، ونحوه في صحيح البخاري كتاب الجمعة برقم 1118، وصحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين برقم 731، وسنن النسائي كتاب قيام الليل رقم 1649، وسنن ابن ماجه كتاب إقامة الصلاة برقم 1227. (¬3) صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها برقم 732. (¬4) مسند الإمام أحمد 241/ 6.

سبب صوم عاشوراء

بركعتين فقط، وهذه عائشة (ض) توضح لنا سبب الاقتصار على الركعتين فتقول: ((وصلاة الفجر لطول قراءتها)) (¬1) فاهتمت الشريعة بالخشوع والخضوع في صلاة الفجر بدرجة خاصة، وكثرة القيام والقعود قد تخل في هذا الخشوع فزيد في الكيفية بدل الكمية، وذلك في شكل طول القراءة. سبب صوم عاشوراء: تقول عائشة (ض): ((إن قريشا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصيامه حتى فرض رمضان، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شاء فليصمه ومن شاء أفطر)) (¬2) كذا روي عن ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد بن حنبل 6/ 241. (¬2) صحيح البخاري كتاب الصوم برقم 1893، وصحيح مسلم كتاب الصيام برقم 1125، وسنن الترمذي كتاب الصوم برقم 753، وسنن أبي داود كتاب الصوم برقم 2442، وموطأ الإمام مالك كتاب الصيام برقم 665، وسنن الدارمي كتاب الصوم برقم 1763. هذا وقد اختلفت رواية ابن عباس (ض) عن رواية عائشة، ونص رواية: ((قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه)) (صحيح البخاري كتاب الصوم برقم 2004). كما روي عن أبي موسى الأشعري (ض) (صحيح البخاري كتاب الصوم برقم 2005). أما حديث عائشة فقد رواه الإمام مالك في الموطأ، والبخاري ومسلم في صحيحيهما، وأبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم، وأحمد في مسنده. وتوجد رواية عن ابن عمر مثل رواية عائشة في سنن أبي داود (كتاب الصوم برقم 2443)، وسنن ابن ماجه (كتاب الصيام برقم 1737). كذلك روى الطبراني في المعجم الكبير عن زيد (ض) مثل رواية عائشة (5/ 138 برقم 4876). وروي في سنن أبي داود وابن ماجه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((نخالف اليهود فإنهم يصومون العاشوراء ونحن نصوم اليوم التاسع)). ورواية عائشة تترجح على رواية ابن عباس (ض) من ثلاثة وجوه: 1 - كثرة الروايات. 2 - تأييد ابن عمر لرواية عائشة (ض). 3 - اقتضاء القياس، يعني لو صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء اتباعا لليهود، فلم تكن هناك حاجة إلى مخالفتهم. =

سبب عدم مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على صلاة التراويح في شهر رمضان

ابن عمر (ض) (¬1)، إلا أنه لم يصرح بالسبب الذي من أجله كانوا يصومونه في الجاهلية، وعائشة (ض) هي التي بينت لنا سبب هذا الصوم في الجاهلية فقالت: ((كانوا يصومون يوم عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، كان يوم تستر فيه الكعبة)) (¬2). سبب عدم مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على صلاة التراويح في شهر رمضان: يقول ابن عباس (ض): ((كانت عائشة (ض) أعلم أهل الأرض بصلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الليل)) (¬3) وتقول عائشة (ض): ((كانت صلاته - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان وغيره ثلاث عشرة ركعة بالليل منها ركعتا الفجر)) (¬4) وذات مرة خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الليلة الثانية فصلوا بصلاته، فاجتمع الناس يذكرون ذلك فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر ¬

_ = وعلى كل فإنه يمكن التطبيق بين الروايتين بأن نقول: إن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء وكان - صلى الله عليه وسلم - كذلك يصوم، واليهود, كذلك كانوا يصومون نفس اليوم فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وجد اليهود يصومون، فصام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسب العادة السابقة وليس تقليدا لليهود، ولذلك روي عن ابن عباس (ض) يقول: حين صام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمرنا بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا كان العام القابل صمنا اليوم التاسع فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (مسلم 1134، أبو داود 2445)، فظهر من القطعة الأخيرة من الحديث أن هذه الواقعة كانت في السنة العاشرة من الهجرة، مع أن أكثر الروايات تقول إنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بصيام يوم عاشوراء في السنة الأولى من الهجرة!! ومعنى صيام اليوم التاسع أن يصام التاسع والعاشر مع بعض. (¬1) صحيح البخاري كتاب الصوم برقم 1892. (¬2) صحيح البخاري كتاب الحج برقم 1592. (¬3) نص قول ابن عباس (ض): ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: من؟ قال: عائشة (صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين برقم 746). (¬4) صحيح الإمام مسلم كتاب صلاة المسافرين برقم 738.

حقيقة مناسك الحج

أقبل على الناس ثم تشهد فقال: ((أما بعد فإنه لم يخف علي شأنكم الليلة، ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها)) (¬1) ولما زال خوف الفرضية وذلك بعد انقطاع الوحي بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أداها الصحابة بالمواظبة والمداومة، فالذين ينظرون إلى أصل الحديث يقولون إنها مستحبة، لكن الذين اتبعوا الصحابة قالوا: إنها سنة مؤكدة. حقيقة مناسك الحج: قد يستشكل بعض الجهلة أن مناسك الحج كلها - مثل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، ورمي الجمار - هذه الأعمال كلها ليس فيها فائدة ظاهرية، لكن عائشة (ض) تفحم هؤلاء الجهلة فتقول: ((إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل)) (¬2) يعني أن الهدف الحقيقي ليس هذه الأعمال فحسب، بل إنها مواضع لذكر الله تعالى، كما نص القرآن الكريم إشارة على أن هذه المناسك كانت طريقة مسلوكة لأداء العبادة أيام زمن إبراهيم، والحج الذي هو تذكار لسنة إبراهيم (س) فرض فيه الطريقة السابقة للعبادة، ويجب على كل مسلم مستطيع أن يقوم بأدائها مرة واحدة في عمره كله. النزول في وادي المحصب: المحصب اسم لواد عند مكة المكرمة، نزل به النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام الحج، ثم تبعه الخلفاء الراشدون بعده فنزلوا به، ويرى ابن عمر (ض) أن النزول في وادي المحصب من سنن الحج (¬3)، لكن عائشة (ض) كانت لا تعتبره سنة ولا ¬

_ (¬1) صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين برقم 761، وصحيح البخاري كتاب الأذان برقم 729، وكتاب الجمعة برقم 924، وكتاب صلاة التراويح برقم 2012. (¬2) مسند الإمام أحمد بن حنبل 6/ 64 برقم 24396، وسنن أبي داود كتاب الحج برقم 1888، وصحيح ابن خزيمة كتاب الحج 279/ 4 برقم 2882، وسنن الدارمي برقم 1853. (¬3) ((كان يرى التحصيب سنة)) صحيح مسلم كتاب الحج برقم 1310.

النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق الثلاث

كانت تنزل هنا، وتقول: ((إنما نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان منزلا أسمح لخروجها) (¬1) ووافقها في هذه المسألة ابن عباس (¬2) ورافع (¬3) (ض)، أجمعين. النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق الثلاث: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى ذات مرة عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فروي عن علي، وابن عمر، وعبد الله بن واقد (ض) (¬4) أن هذا المنع كان للأبد، لكن روي عن عائشة، وجابر، وأبي سعيد الخدري، وسلمة بن الأكوع، وثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبريدة (ض) أجمعين أن المنع كان حكما مؤقتا (¬5)، ثم بينت لنا عائشة (ض) علة هذا المنع المؤقت، عن عابس بن ربيعة قال: ((قلت لعائشة: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم لحوم الأضاحي، بعد ثلاث؟ قالت: لا، ولكن لم يكن يضحي منهم إلا قليل، ففعل ذلك ليطعم من ضحى من لم يضح، ولقد رأيتنا نخبىء الكراع من أضاحينا ثم نأكلها بعد عشر)) (¬6). هذا وقد روى الإمام مسلم في صحيحه جزءا من رواية عائشة هذه ونصها: قالت عمرة: ((سمعت عائشة تقول: دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادخروا ثلاثا ثم تصدقوا بما بقي، فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون منها الودك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك؟ قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: إنما نهيتكم من أجل ¬

_ (¬1) صحيح مسلم كتاب الحج برقم 1311. (¬2) صحيح مسلم كتاب الحج برقم 1312. (¬3) صحيح مسلم كتاب الحج برقم 1313. (¬4) انظر أحاديثهم في صحيح الإمام مسلم كتاب الأضاحي بأرقام 1969، 1970، 1971. (¬5) انظر أحاديثهم في صحيح مسلم بأرقام 1971، 1972، 1973، 1974، 1975، 1977. (¬6) مسند الإمام أحمد 102/ 6.

الحطيم وبناء الكعبة المشرفة

الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا)) (¬1). وروي مثل هذا عن سلمة بن الأكوع ونصه: ((من ضحى منكم فلا يصحبن في بيته بعد ثالثة شيئا، فلما كان في العام المقبل قالوا: يا رسول الله نفعل كما فعلنا عام أول؟ فقال: لا، إن ذاك عام كان الناس فيه بجهد، فأردت أن يفشو بينهم)) (¬2). الحطيم وبناء الكعبة المشرفة: يوجد مكان صغير في الجانب الشمالي من جدار الكعبة يلي الميزاب يسمى الحطيم، وهو من البيت، فلا بد أن يدخل في الطواف، ويطاف بالبيت من وراء الحطيم، فلو دخل فيها أحد في طوافه لم يجزئه، لأنه من البيت، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه أنه ما دام هذا المكان ليس داخلا في الكعبة فلماذا يطاف من ورائه؟ ويمكن أن بعض الصحابة استشكلوا هذا الأمر، وعرضوه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن ذخائر الحديث الشريف المتوافرة لدينا خالية عن اسم الذي استفسر عن هذه المسألة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير عائشة (ض) تقول (ض): ((سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجدار أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فلم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ....)) (¬3). يقول ابن عمر (ض): لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم)) (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح الإمام مسلم كتاب الأضاحي برقم 197. (¬2) صحيح الإمام مسلم كتاب الأضاحي برقم 1974. (¬3) صحيح الإمام مسلم كتاب الحح باب جدار الكعبة وبابها برقم 1333، وصحيح البخاري كتاب الحج برقم 1584، وكتاب التمني 7243، وسنن ابن ماجه كتاب المناسك برقم 2955. (¬4) صحيح الإمام مسلم كتاب الحج برقم 1333.

لكن ثمة سؤال ينشأ وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إن كان يعرف أن الكعبة لم يتم بناؤها على قواعدها الأصلية، فكان واجبا عليه باعتبار كونه مجددا للشريعة الإبراهيمية أن يبنيها من جديد، كما قالت عائشة: ((يا رسول الله أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت)) (¬1) يعني أن عامة العرب كانوا حديثي العهد بالإسلام، فإنهم إن رأوا نقض الكعبة وبناءها من جديد، قد يدفعهم ذلك إلى إثارة الفتن والشغب، وفي الحديث دليل على جواز التأخير في تنفيذ عمل شرعي إذا اقتضت المصلحة ذلك، ولا يلام صاحبه على التأخير، بشرط أن لا يطلب الشارع تتفيذه على الفور، ونظرا إلى رواية عائشة (ض) قام عبد الله بن الزبير (ابن أخت عائشة (ض)) أيام خلافته، ونقض الكعبة وبناها على قواعد إبراهيم وستر عليها الستور، وقال: إني سمعت عائشة تقول: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقوي على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ولجعلت لها بابا يدخل الناس به وبابا يخرجون منه، قال: فأنا اليوم أجد ما أنفق ولا أخاف الناس)) (¬2). فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أسس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: ((إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاد في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه)) (¬3). ولكن لما أخبره الثقات من الناس أن هذا البناء كان حسب رواية أم المؤمنين عائشة (ض) فنكت ساعة بعصاه، ثم قال: ((وددت أني تركته، وما تحمل)) (¬4) وفي ¬

_ (¬1) نفس المصدر. (¬2) نفس المصدر. (¬3) صحيح الإمام مسلم كتاب الحج برقم 1333. (¬4) نفس المصدر.

سبب الطواف بالبيت راكبا

رواية قال: ((لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير)) (¬1). سبب الطواف بالبيت راكبا: لقد طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبيت راكبا في حجة الوداع، ففهم منه بعض الناس أن الطواف بالبيت راكبا سنة، وهو مذهب بعض الأئمة من المجتهدين، وليس الأمر كما ظنوا، لأن طواف النبي - صلى الله عليه وسلم - راكبا كان نظرا إلى مصلحة وحكمة وسبب، وقد صرح لنا ثلاثة من الصحابة بثلاثة وجوه وأسباب، فيقول ابن عباس (ض): ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته، كلما أتى الركن استلم الركن بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين)) (¬2) ويقول جابر ((طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس غشوه)) (¬3) وتقول عائشة (ض): ((طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن كراهية أن يضرب عنه الناس)) (¬4) والسبب الذي ذكره ابن عباس (ض) قد يتردد في قبوله، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لو كان مريضا لعلمه الناس كلهم، ولم يختص هذا العلم بابن عباس (ض)، بل أعلن ذلك في عامة الناس، فدل أن كلا من هؤلاء الثلاثة عللوا الواقعة حسب فهمهم واجتهادهم. الكشف عن حقيقة الهجرة: تعني الهجرة في هذه الأيام أن يترك الواحد موطنه ويغادر إلى المدينة المنورة أو إلى مكة المشرفة، حتى ولو كان بلد إقامته آمنا يسوده الاستقرار والأمن والسلامة، وقد سأل عطاء بن أبي رباح (أحد الأئمة التابعين) عائشة (ض) عن حقيقة الهجرة فقالت: ((لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله ¬

_ (¬1) نفس المصدر. (¬2) سنن أبي داود كتاب المناسك برقم 1881. (¬3) صحيح الإمام مسلم كتاب الحج رقم 1273. (¬4) صحيح الإمام مسلم كتاب الحج رقم 1274.

دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحجرة الشريفة

الإسلام، واليوم يعبد ربه حيث شاء ولكن جهاد ونية)) (¬1). وبهذا اتضح معنى قول ابن عمر (ض): ((لا هجرة بعد الفتح)) (¬2) لأن مكة صارت بعد الفتح بلدا آمنا، وسادها الأمان والاطمئنان، إلا إذا هاجر أحد بنية نيل جوار الرب أو جوار الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فينال ثواب النية. دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحجرة الشريفة: لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - اختلف الصحابة في مدفنه - صلى الله عليه وسلم -، وقد ورد في رواية أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: ((النبي يدفن حيث يموت)) (¬3) ولذلك دفن - صلى الله عليه وسلم - في حجرة عائشة (ض) حيث فاضت روحه إلى الملأ الأعلى، ويمكن عزو هذا القول إلى أبي بكر إلا أن هذا موضوع تاريخي لا بد من التثبت في ذلك، وأما السبب الحقيقي لدفنه - صلى الله عليه وسلم - في الحجرة فتبينه لنا أم المؤمنين عائشة (ض) تقول: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: لعن الله اليهود، والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أو خشي أن يتخذ مسجدا)) (¬4) كما ثبت من ذلك سبب رص بنيان قبره - صلى الله عليه وسلم - والحفاظ عليه بين الجدران المحكمة والسقف الراسخة. ... ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3900، وكتاب المغازي برقم 4312. (¬2) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3899. (¬3) أخرج الترمذي في سننه عن عائشة قالت: ((لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ما نسيته، قال: ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه، ادفنوه في موضع فراشه)) قال أبو عيسى: هذا حديث غريب (كتاب الجنائز برقم 108). (¬4) صحيح البخاري كتاب الجنائز برقم 1390، مسند الإمام أحمد 121/ 6.

البحث السادس معرفتها بالطب والتاريخ والخطابة والشعر

البحث السادس معرفتها بالطب والتاريخ والخطابة والشعر يشهد تلاميذ أم المؤمنين عائشة (ض) أنها كانت بارعة ولديها اطلاع كبير واسع في فن التاريخ، وكانت على ملكة من الأدب، وحظيت بقوة فائقة في الخطابة والشعر، ولها باع في الطب كذلك. يقول هشام بن عروة: ((ما رأيت أحدا من الناس أعلم بالقرآن ولا بفريضة ولا بحلال ولا حرام ولا شعر ولا بحديث العرب ولا النسب من عائشة (ض)، (¬1). الطب: يقول عروة: ((ما رأيت أحدا أعلم بالطب منها)) (¬2) ومعروف أن فن الطب لم يكن رائجا عند العرب بكل أصوله وقواعده، وأكبر طبيب للعرب في ذلك الوقت كان الحارث بن كلدة، كما كان هناك أطباء صغار منتشرون في البلاد، وقد تعلمت عائشة (ض) فن الطب من هؤلاء الأطباء الذين كانوا يعالجون بالأعشاب وخواص الأشياء الطبيعية، وقد سألها عروة بن الزبير، وكان يتملكه العجب من إحاطة السيدة بكل هذه العلوم فيقول لها متعجبا: ((يا أمتاه لا أعجب من فهمك، أقول زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس أو من أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو؟ ومن أين هو؟ قال: فضربت على منكبه وقالت: أي عرية: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسقم عند آخر ¬

_ (¬1) تذكرة الحفاظ للذهبي ترجمة عائشة (ض) 28/ 1، صفة الصفوة 32/ 2. (¬2) تذكرة الحفاظ 28/ 1.

التاريخ

عمره أو في آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات وكنت أعالجها له فمن ثم)) (¬1). وأرى أن معرفة أم المؤمنين عائشة (ض) بالطب كانت مثل ما كانت تعالج النساء الكبيرات في السن الأطفال، وتحفظ بعض الأنعات والوصفات الطبية المجربة لبعض الأمراض والأسقام، لأن النساء كانت تشارك الرجال في صدر الإسلام في تحمل أعباء الجهاد في سبيل الله، وكان جهادهن يتناسب مع أنوثتهن، وكان في الأعم الأغلب مقتصرا على إعداد الطعام وسقي الماء وتمريض الجرحى وإخلاء القتلى، وأم المؤمنين عائشة (ض) نفسها شاركت في غزوة أحد فخرجت مع النساء تسقي الجرحى وتحمل قرب الماء على عاتقها لتفرغها في أفواه المجاهدين (¬2). وفي هذا دليل على أن نساء ذلك العصر كن يلممن بهذا الفن قدر الحاجة. التاريخ: كان أبو بكر الصديق (ض) من أعلم الناس بأيام العرب وأنسابهم والطقوس والتقاليد التي كانت في الجاهلية، وأم المؤمنين عائشة (ض) كانت ابنته، فبالطبع ورثت هذه الفنون والعلوم من أبيها الكريم، وقد سبق قول هشام بن عروة: ((ما رأيت أحدا من الناس أعلم ... بحديث العرب ولا النسب من عائشة)) وكل ما وصلنا من المعلومات والاطلاع على أحوال الجاهلية ومعرفة طقوسهم وعاداتهم، وأخبارهم الاجتماعية، في كتب الحديث كلها مروية عن طريق عائشة (ض). مثلا: الطرق المتبعة في النكاح والزواج عند العرب (¬3)، وكيفية الطلاق ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد 67/ 6 برقم 24425، والحاكم مختصرا في المستدرك 218/ 4 برقم 7426، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 242/ 9. (¬2) صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير برقم 2880، وكتاب المناقب برقم 3811، وكتاب المغازي برقم 4060، وصحيح الإمام مسلم كتاب الجهاد والسير برقم 1811. (¬3) أخرج البخاري عن عروة بن الزير أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته ان النكاح في =

عندهم (¬1)، وكيفية الغناء واللهو في حفلات زواجهم (¬2)، متى كان يوم صيامهم (¬3)؟ أين كانت تنزل قريش في الحج (¬4)؟ ماذا كانوا يقولون عند رؤيتهم ¬

_ = الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت مر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم)) (البخاري كتاب النكاح برقم 5127 وأبو داود كتاب الطلاق برقم 2272). (¬1) أخرج الترمذي عن عائشة (ض) قالت: كان الناس والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبينى مني ولا آويك أبدا، قالت: وكيف ذاك؟ قال: أطلقك، فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها، فسكتت عائشة حتى جاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل القرآن: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (سورة البقرة، الآية: 229) قالت عائشة: ((فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا من كان طلق ومن لم يكن طلق)) (كتاب الطلاق واللعان برقم 1192). (¬2) أخرج الطبراني في المعجم الصغير عن عاثشة (ض): ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بنساء من الأنصار في عرس لهن وهن يغنين ...)) (214/ 1 برقم 343). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 243 رقم 26110. (¬4) عن عائشة (ض) قالت: ((كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ... الحديث)) (صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن برقم 4520، وصحيح مسلم كتاب الحج برقم 1219، وسنن الترمذي كتاب الحج برقم 884، وسنن النسائي كتاب مناسك الحج برقم 3012، وسنن أبي داود كتاب المناسك برقم 1910).

الميت (¬1)، كما أننا لم نسمع أخبار معارك ((بعاث)) (¬2) التي دارت فيما بين الأنصار إلا من فم عائشة (ض)، كذلك بعض تقاليد الأنصار في عباداتهم، وعاداتهم فيها مثل عبادتهم لأصنام (¬3) المشلل وغير ذلك مما لم نطلع عليه إلا عن طريق عائشة (ض). وهكذا أهم الوقائع التاريخية مثل بدء الوحي، وأحوال النبوة في مستهل أيامها، والأخبار التفصيلية عن أحداث الهجرة، وحديث الإفك بسائر تفاصيله كأننا نراه ونشاهده أمام أعيننا، كل ذلك لم يتلقه المسلمون إلا من فم عائشة (ض)، ومما يجدر بالذكر أن الأحاديث الموجودة في كتب الصحاح مختصرة لا تتجاوز سطرين أو ثلاثة، لكن مرويات عائشة (ض) التي تتضمن سرد هذه الوقائعع والأحداث احتوت على صفحتين أو ثلاث صفحات، وكذلك كيفية نزول القرآن الكريم وترتيبه، وطرق أداء الصلاة في الإسلام، وكيفية مرض موت النبي - صلى الله عليه وسلم - من البداية إلى النهاية، وعدد أكفان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونوعيتها، كل ذلك لم نطلع عليه إلا عن طريق عائشة (ض). فما سبق ذكره في هذا الإطار كان متعلقا بالشؤون المنزلية والأمور الداخلية، ولم يقتصر علمها (ض) على هذا فقط، بل إنها صورت لنا غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - تصويرا دقيقا، فحكت لنا قصة غزوة بدر الكبرى وغزوة أحد وغزوة الخندق، وشيئا عن غزوة بني قريظة، وكذلك كيفية صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، وبيعة النساء في فتح مكة، وأهم وقائع حجة الوداع، والمعلومات الدقيقة والمهمة المفصلة عن سيرة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، من ¬

_ (¬1) عن عائشة (ض) قالت: ((كان أهل الجاهلية يقومون لها (الجنازة) يقولون إذا رأوها: كنت في أهلك ما أنت مرتين)) (صحيح البخاري كتاب المناقب باب أيام الجاهلية برقم 3837). (¬2) أخرج البخاري عن عائشة (ض) قالت: ((كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا، قدمه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في دخولهم في الإسلام، (كتاب المناقب باب القسامة في الجاهلية برقم 3847). (¬3) صحيح البخاري كتاب الحج باب وجوب الصفا والمروة برقم 1643.

الأدب

ذكر عبادته وقيامه في الليل، واشتغاله بمهنة أهله، والتصوير الدقيق الكامل لأخلاقه الحسنة النبيلة الطيبة، كانت عائشة (ض) هي المصدر الأول والأساس لسائر هذه المعلومات، كما أنها هي التي بينت لنا أشد ما لقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته المباركة. وكذلك قصة خلافة أبي بكر الصديق (ض)، ودعوى فاطمة والأزواج المطهرات بطلب توزيع ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحزن علي (ض)، وتفاصيل البيعة، كل ذلك تلقيناه عن طريقها (ض). كانت معرفتها بتاريخ الإسلام مبنية على ما شاهدته من الوقائع بأم عينيها، لكن ما هي مصادرها في معرفة أحوال الجاهلية؟ يظهر من رواية عروة أنها اكتسبت هذا الفضل العلمي من أبيها المبجل، ((ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس أقول ابنة أبي بكر)). الأدب: المراد بالأدب جمال الألفاظ وحسن التعبير في الأحاديث العامة، واختيار أسلوب رشيق جذاب في مخاطبة الناس، فما من أحد سمع أم المؤمنين عائشة (ض) أو قرأ كلامها إلا وبهرته فصاحتها وسحرته بلاغتها وأدهشته عارضتها. يقول أحد تلاميذها، موسى بن طلحة: ((ما رأيت أحدا أفصح من عائشة)) (¬1). ويقول التابعي الأحنف بن قيس: ((ما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم ولا أحسن من في عائشة (ض) (¬2). ورغم أن عدد مرويات عائشة (ض) وصل إلى الآلاف، إلا أن المحدثين مجمعون على أن الأحاديث المحفوظة بألفاظها الأصلية قليلة جدا، وعلى كل ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك 12/ 4 برقم 6735، والترمذي في سننه كتاب المناقب برقم 3884، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 243/ 9، والطبراني في المعجم الكبير 182/ 23 برقم 292. (¬2) المستدرك للحاكم 12/ 4 برقم 6732.

الخطابة

فإننا لو لمسنا في أي رواية جملة واحدة صادرة من في عائشة (ض) لوجدنا أنها تنفخ روحا جديدة في الحديث، ونلاحظ ذلك جليا مثلا في حديث بدء الوحي، حينما تذكر الرؤيا الصادقة، تقول: ((فما رأى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)) (¬1) وتعبر عن المشقة التي تصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزول الوحي، قائلة: ((حتى أنزل عليه الوحي فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات)) (¬2)، كما تعبر عن اضطرابها وغياب النوم عن عينيها عندما افترى عليها المفترون حديث الإفك، فتقول: ((وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم)) (¬3). والحديث الذي رواه البخاري حول أم زرع كل فقرة من فقراته نموذج رائع ومثالي للتشبيهات العربية، والاستعارات، والبديع والمعاني، وقد اعتنى أهل اللغة والأدب بعدة شروح لصفحة واحدة من هذا الحدث فقط وعلقوا عليه تعليقات وسودوا فيه صفحات (¬4). وسوف نذكر لاحقا في مبحث التعليم أنها كانت توصي تلاميذها بالعناية بالتلاوة الصحيحة للقرآن وحسن تجويده وصحة أدائه، والإقبال عليه دراسة وحفظا. الخطابة: إن الخطابة وقوة البيان من الجواهر الفطرية والطبائع الحرة للعرب، فكانت هذه الملكة والموهبة متوافرة في الرجال والنساء على السواء، ولذلك نجد في تاريخ القرون الأولى من شروق فجر الإسلام، عندما كانت روح العربية حية في قلوب الناس وضمائرهم، كانت هناك خطيبات وأديبات رفيعات المستوى من ذوات المكانة السامية، بلغن القمة في الفصاحة والبيان، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب بدء الوحي برقم 4، وكتاب تفسير القرآن برقم 4954، وكتاب التعبير برقم 6982. (¬2) صحيح البخاري كتاب الشهادات برقم 2661. (¬3) نفس المصدر. (¬4) من أهم ما كتب في شرح حديث أم زرع كتاب ((بغية الرائد بما في حديث أم زرع من الفوائد)) للقاضي عياض بن موسى اليحصبي. (الناشر).

وقد حفلت كتب الأدب والنقد بكثير من الصور والنماذج الأدبية الرفيعة لعدد ليس بالقليل من أولئك النساء في شتى العصور، وها هو أحمد بن أبي طاهر (ت 204هـ) قد ألف كتابا جمع فيه نماذج عديدة من بلاغات النساء في صدر الإسلام، وصدر كتابه بخطب عائشة أم المؤمنين (ض)، كما أن الإمام الطبري ذكر خطبها التي ألقتها أمام جموع وحشود من الناس في ساحات القتال عند معركة الجمل، كما نقل ابن عبد ربه خطبة لها في كتابه: ((العقد الفريد)). وهذا الأحنف بن قيس التابعي الجليل البصري (ويعتقد أنه سمع خطبتها في البصرة) يقول: ((سمعت خطبة أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب والخلفاء كلهم هلم طرا إلى يومي هذا، فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم ولا أحسن منه من في عائشة (ض))) (¬1). وأرى أن كلام الأحنف لا يخلو من المبالغة، كما أن التأثيرات الخارجية كذلك لها دخل في هذه الخطبة، لأن هذه خطبة امرأة، وفي ساحة القتال، فلا بد لها من التأثير العميق، وعلى كل فمما لا شك فيه أنها كانت خطيبة مصقعة بلغت الغاية من الفصاحة والبلاغة والبيان. يقول معاوية (ض): ((والله ما سمعت قط أبلغ من عائشة (ض))) (¬2). وعن موسى بن طلحة قال: ((ما رأيت أحدا أفصح من عائشة (ض))) (¬3). والخطيبة كما أنها تحتاج إلى لسان فصيح ذرب، وبيان أدهى من السحر وأمر من الصبر، كذلك هي في أمس الحاجة إلى صوت قوي يكون موضع التجلة والاحترام وإلى لهجة فخمة تسترعي انتباه السامعين، كانت عائشة (ض) تتمتع بهذه الصفات كلها على أكمل وجه. روى الإمام الطبري في تاريخه: ((فتكلمت عائشة، وكانت جهورية ¬

_ (¬1) مستدرك الحاكم 12/ 4 برقم 6732. (¬2) ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 183/ 2. (¬3) سبق تخريجه في الصفحة الماضية.

الشعر

الصوت، يعلو صوتها كثيرا، كأنه صوت امرأة جليلة)) (¬1) وخطبها التي ذكرناها عند ذكر وقعة الجمل تدلنا على قوتها في البيان ووفور عاطفتها ورصانة أسلوبها ورسوخ كلماتها. الشعر: كان الشعر هو رأس مال العرب كله في مجال العلم قبل بزوغ شمس الإسلام، وكان له دور بارز ملموس في المجتمع العربي، يقوم الشاعر العربي وينفخ روحا جديدة في الأقوام الميتة روحيا وفكريا، ببلاغته وفصاحته وقوة حجته، كما أنه كان يستخدم هذا الجوهر الثمين فيرفع به أقواما ويضع به آخرين، ولما كانت النساء شقائق الرجال فقد شاركنهم في هذا الصنف الأدبي العظيم، وشعرهن يباري شعر الرجال في جودته وسعة أغراضه وجزالته، وما دام المسلمون محتفظين بجوهر اللغة العربية قبل الإسلام وبعده بقرن كانت هناك مئات من الشاعرات والأديبات التي كان أدبهن الشعري زينة للشعر العربي. ولدت عائشة (ض) في هذا العصر، وكانت بنت الصديق أعلم رجالات قريش بأيام العرب وأنسابها وأخبارها، وقد مر معنا تنويه عروة وإشادته بهذه الحقيقة عندما قال لعائشة (ض): ((وأجدك عالمة بأيام العرب وأنسابها وأشعارها، فقلت: وما يمنعها وهي ابنة علامة قريش)) (¬2). وروى الإمام البخاري في الأدب المفرد عن عروة عن عائشة (ض) أنها كانت تقول: ((الشعر منه حسن ومنه قبيح، خذ بالحسن ودع القبيح، ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارا منها، القصيدة فيها أربعون بيتا، ودون ذلك)) (¬3). وسألها شريح: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: ((كان يتمثل بشيء من شعر عبد الله بن رواحة: ((ويأتيك بالأخبار من لم تزود))) (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 15/ 3. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) الأدب المفرد للبخاري 299/ 1 برقم 866. (¬4) أخرجه البخاري في الأدب المفرد 1/ 300 برقم 867، وقد أخرجه الترمذي في سننه =

ومدح الشاعر الجاهلي أبو كبير الهذلي ابنه تأبط شرا بقصيدة فيها البيتان التاليان: ومبرأ من كل غبر حيضة … وفساد مرضعة وداء مغيل فإذا نظرت إلى أسرة وجهه … برقت كبرق العارض المتهلل)) فمدحت عائشة (ض) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذين البيتين وقالت: ((لو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره، قالت: فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل بين عيني وقال: جزاك الله يا عائشة خيرا ما سررت مني كسروري منك)) (¬1). وقد حفلت كتب الأحاديث بكثير من الأشعار التي كانت السيدة عائشة (ض) تستشهد بها. ولما توفي عبد الرحمن بن أبي بكر حمل إلى مكة فدفن فيها، فلما قدمت عائشة مكة أتت قبر عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت: وكنا كندماني جذيمة حقبة … من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكا … لطول اجتماع لم نبت ليلة معا (¬2) تقول عائشة (ض): ((لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وعك أبو بكر، وبلال، وعامر بن فهيرة، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: ¬

_ = برقم 2848، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، ونسب الشعر إلى طرفة بن العبد 8/ 128، وكذلك النسائي نسبه إلى طرفة في السنن الكبرى 6/ 247 برقم 10833، 10834، وإلى ابن رواحة 6/ 248 برقم 10835، وكذلك ابن أبي شيبة في المصنف 5/ 278 برقم 26060، ونسبه إلى طرفة، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 297، ونسبه إلى ابن رواحة، وكذلك أحمد في مسنده 6/ 138 برقم 25115 و6/ 156 برقم 25270 و 6/ 222 برقم 25904. (¬1) ذكره ابن قيم الجوزية في مدارج السالكين 1/ 490 وكذلك في روضة المحبين 277، كما ذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 13/ 253. (¬2) أخرجه الترمذي في سننه برقم 1055، والحاكم في المستدرك 3/ 541 برقم 6013، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 60/ 3، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 29 برقم 11811.

كل امرىء مصبح في أهله … والموت أدنى من شاك نعله وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة … بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة … وهل يبدون لي شامة وطفيل (¬1) وسألت عامرا فقال: إني وجدت الموت قبل ذوقه … إن الجبان حتفه من فوقه (¬2) وقد رثى الشاعر القرشي كفار قريش وصناديدها الذين قتلوا في غزوة بدر. فحفظت لنا السيدة عائشة (ض) بعض أبيات تلك القصيدة: ((وماذا بألقليب قليب بدر … من الشيزى تزين بالسنام وماذا بالقليب قليب بدر … من القنيات والشرب الكرام تحيينا السلامة أم بكر … وهل لي بعد قومي من سلام يحدثنا الرسول بأن سنحيا … وكيف حياة أصداء وهام (¬3) تقول عائشة (ض): ((أسلمت امرأة سوداء لبعض العرب، وكان لها حفش في المسجد، قالت: فكانت تأتينا فتحدث عندنا، فإذ فرغت من حديثها قالت: ((ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا … ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني (¬4) وخرجت عائشة (ض) يوم الخندق تقفو أثر الناس إذ مر سعد بن معاذ وهو يرتجز: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الحج برقم 1889، وكتاب المناقب برقم 3926، وكتاب المرض برقم 5677/ 5654. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده 65/ 6 برقم 24405 و221/ 6 برقم 25898 و 239/ 6 برقم 26072، وابن حبان في صحيحه 413/ 12 برقم 5600. (¬3) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3921. (¬4) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3835، وكذلك كتاب الصلاة برقم 439.

((البث قليلا يدرك الهيجا جمل … ما أحسن الموت إذا حان الأجل)) (¬1) وكانت نساء الأنصار يغنين في أعراسهن: ((وأهدى لها أكبشا … تبجج في المربد وزوجك في النادي … ويعلم ما في غد)) (¬2) ولما هجا المشركون المسلمين رد عليهم المسلمون ردا عنيفا، وهذه عائشة (ض) تروي لنا هذا الرد، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اهجوا قريشا فإنه أشد عليها من رشق بالنبل، فأرسل إلى ابن رواحة، فقال: اهجهم، فهجاهم، فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه، ثم أدلع لسانه فجعل يحركه، فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تعجل، فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبا حتى يلخص لك نسبي فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول الله قد لخص لي نسبك، والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين)). وقال: ((وإن سنام المجد من آل هاشم … بنو بنب مخزوم ووالدك العبد)) تقول عائشة (ض): ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هجاهم حسان فشفى واشتفى، قال حسان: ((هجوت محمدا فأجبت عنه … وعند الله في ذاك الجزاء هجوت محمدا برا حنيفا … رسول الله شيمته الوفاء ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه 5/ 498 برقم 7028، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 137/ 6، وابن أبي شيبة في المصنف 373/ 7 برقم 36796. (¬2) المعجم الصغير للطبراني 214/ 1برقم 343، والمعجم الأوسط 360/ 3 برقم 3401، والبيهقي في السنن الكبرى 289/ 7 برقم 14466.

فإن أبي ووالده وعرضي … لعرض محمد منكم وقاء ثكلت بنيتي إن لم تروها … تثير النقع من كنفي كداء يبارين الأعنة مصعدات … على أكتافها الأسل الظماء تظل جيادنا متمطرات … تلطمهن بالخمر النساء فإذ أعرضتمو عنا اعتمرنا … وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لضراب يوم … يعز الله فيه من يشائ وقال الله قد أرسلت عبدا … يقول الحق ليس به خفاء وقال الله قد يسرت جندا … هم الأنصار عرضتها اللقاء لنا في كل يوم من معد … سباب أو قتال أو هجاء فمن يهجو رسول الله منكم … ويدحه وينصره سواء وجبريل رسول الله فينا … وروح القدس ليس له كفاء (¬1) ولما اطلعت عائشة (ض)؛ على الأحوال السيئة والظروف الحرجة التي كانت تمر بها المدينة المنورة بعد استشهاد عثمان (ض) تمثلت بقول الشاعر: ((ولو أن قومي طاوعتني سراتهم … لأنقذتهم من الحبال أو الخبل (¬2) ولما وصلت البصرة تمثلت بقول الشاعر: ((دعي بلاد جموع الظلم إذ صلحت … فيها المياه وسيري سير مذعور)) تخيري النبث فارعي ثم ظاهرة … وبطن واد من الضماد مطمور)) (¬3) كما أنها كانت تحفظ الأبيات التي ارتجز بها الأبطال في معركة الجمل، ومرة تذكرت ذلك المنظر وبكت بكاء شديدا: يا أمنا يا خير أم نعلم … أما ترين كم شجاع يكلم وتختلى هامته … والمعصم (¬4) ¬

_ (¬1) صحيح الإمام مسلم رحمه الله باب فضائل حسان بن ثابت (ض) برقم 2489، 2490. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 3. (¬3) تاريخ الطبري 10/ 3. (¬4) تاريخ الطبري47/ 3، وكذلك البداية والنهاية 244/ 7.

ونظرا إلى هذا الذوق العالي الرفيع للشعر لدى عائشة (ض) كان الشعراء يعرضون عليها قصائدهم، وهذا حسان بن ثابت (ض) الذي كان معلم الشعراء في الأنصار دون منازع، رغم سخط عائشة (ض) عليه لكونه خاض في الإفك، كان يدخل عليها وينشدها شعرا (¬1)، وكانت تكره أن يسب عندها، بل كانت تمدحه، وتذكره بالخير. يقول عروة: ذهبت أسب حسان عند عائشة، فقالت: ((لا تسبه، فإنه كان ينافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2)، كما أنها كانت تذكر شعراء النبي - صلى الله عليه وسلم - الآخرين مثل كعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة (ض) أجمعين. روى أبو هريرة (ض) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتليء شعرا)) (¬3) وبما أن هذا الحديث فيه ذم للشعر فقال بعض الرواة: إن عائشة (ض) لما سمعت بحديث أبي هريرة (ض) قالت: يرحم الله أبا هريرة لم يحفظ الحديث، إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن يمتليء جوف أحدكم قيحا ودما خير له من أن يمتلئ شعرا هجيت به)) (¬4) وهي رواية الكلبي، وهو ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب المغازي برقم 4146. (¬2) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3531، كتاب المغازي برقم4145، 4146، كتاب الأدب برقم 6150 صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة برقم 2482. (¬3) صحيح البخاري كتاب الأدب برقم 6155، وصحيح مسلم كتاب الشعر برقم 2257، وابن حبان في صحيحه 93/ 13 برقم 5777، والترمذي في سننه كتاب الأدب برقم 2851، وأبو داود في سننه كتاب الأدب باب ما جاء في الشعر برقم 5009، والطحاوي في شرح معاني الآثار 296/ 4. (¬4) ذكره الإمام بدر الدين الزركشي عن أبي عروبة بسنده عن الكلبي عن أبي صالح عن أبي هريرة (ض)، (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ص 136) وعنه السيوطي في ((عين الإصابة ص 308)). قلت: وقد ذكر هذه الزيادة الإمام الطحاوي (ح) في شرح معاني الآثار 296/ 4 باختلاف يسير في الألفاظ من حديث أبي هريرة (ض) مرفوعا، وكذلك عن الشعبي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرسلا، كما أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 120 وأبو يعلى في مسنده 47/ 4، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: ((في مسند أبي يعلى راو لا يعرف، وأخرج الطحاوي، وابن عدي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن أبي هريرة ... =

كذاب معروف، فلما عرف أن عائشة (ض) استدركت على الصحابة، وكان لديه ذوق رفيع للشعر فانتهز هذه الفرصة، ونسب الحديث إلى عائشة (ض)، وقد صرح المحدثون بأن هذا الحديث موضوع مختلق (¬1). والأصل في هذا الباب أن إنشاد الشعر في واقع الأمر ليس بشر ولا بخير، وإنما هو صنف من الكلام، وحسن الكلام وقبحه لا يرجع إلى القوافي والأوزان الشعرية، وإنما يبتني على المعاني والمطالب التي يحتويها الكلام، فإن كان مضمون الكلام مشتملا على الذكر والزهد وتقوى الله تعالى وسائر المواعظ دون إفراط فيها ولا مبالغة، فلا يكون الشعر قبيحا، وإن كان عكس ذلك فهو إذن وصمة عار على جبين الأخلاق الحسنة والسلوك الطيب، وفساد اللسان، وهذا الأمر لا يقتصر على الشعر، وإنما ينطبق على النثر كذلك. وهذا ما رواه البخاري عن عائشة (ض) في وصفها للشعر تقول (ض): ((الشعر منه حسن ومنه قبيح، خذ بالحسن ودع القبيح)) (¬2) ويروي عبد الله بن عمر (ض) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفس هذا المعنى بشيء من التفصيل: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبحه كقبح الكلام)) (¬3) وتقول عائشة (ض): إن أعظم الناس جرما إنسان شاعر يهجو القبيلة من أسرها ورجل تنفى من أبيها)) (¬4). ... ¬

_ = الحديث)) الكلبي واهي الحديث، وأبو صالح شيخه ليس السمان المتفق على تخريج حديثه في الصحيح عن أبي هريرة، بل هذا آخر ضعيف، يقال له: باذان، فلم تثبت هذه الزيادة. (فتح الباري 10/ 549، ط: دار المعرفة بيروت 1379هـ). (¬1) قاله الشوكاني في كتاب ((الموضوعات)). (¬2) الأدب المفرد 299/ 1 برقم 866. (¬3) الأدب المفرد 299/ 1 برقم 865، وسنن الدارقطني 4/ 106، ومسند الشافعي عن عروة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - 366/ 1، وبسنده رواه السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء 71/ 1. (¬4) الأدب المفرد 302/ 1 برقم 874، وابن حبان في صحيحه 102/ 13 برقم 5785، وأبو المحاسن في معتصر المختصر 2/ 230، وإسحاق بن راهويه في مسنده 3/ 607 برقم 1178.

الفصل الرابع دور عائشة في التعليم والإفتاء والإرشاد

الفصل الرابع دور عائشة في التعليم والإفتاء والإرشاد إن الخدمة الحقيقية للعلم هي تبليغه إلى الآخرين واستخدامه في مجال تزكية النفوس وإصلاح الأمة، وإرشادها إلى الصراط المتقيم، ولذلك جاء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكل صراحة ووضوح (افليبي الشاهد الغائب)) فهل قامت عائشة (ض) بأداء هذه الفريضة؟ وأدت مؤولية التعليم الملقاة على كاهلها؟ سوف نتناول الرد على هذا الزاد في المباحث التالية: التعلبم، والإفتاء، والإرشاد. ومن هنا ندعو أولئك الذين يزعمون أن القيام بفريضة التعليم، وتبليغه ونشره اختص به صنف الرجال دون النساء أن يصحبونا لكي يتكشف عنهم الغبار ويتضح لديهم الوابع ويتجلى أمام أعينهم الدور البارز الملموس لهذا الصتف الرقيق الذي شبهه النيي. بالقوارير. 1 - التعليم: من الحقائق التاريخية الثابتة أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد انتشروا في مختلف أرجاء العالم وشتى البلدان بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - للقيام بواجب التعليم والدعوة والإرشاد، وكان بلد الله الحرام والطائف، والبحرين، واليمن، والشام، ومصر، والكوفة، والبصرة وغيرها من المدن الكبار مقزأ لهؤلاء الطائفة المباركة من الصحابة. وانتقلت دار الخلافة الإسلامية بعد مضي سبع وعشرين سنة من المدينة المنؤرة إلى الكوفة، ثم إلى دمشق، إلا أن هذه الحوادث وانتقال دار الخلافة من مكان إلى مكان لم يزلزل تلك الهيبة العلمية، والمعنوية، واروحية التي قد ترسخت في قلوب الناس تجاه المدينة المنؤرة، وكانت المدينة المنؤرة حينذاك محتضنة عدة مدارس علمية ودينية يشرف عليها كل من أبي هريرة،

وابن عباس، وزيد بن ثابت وغيرهم إلا أن أعظم مدرسة شهدتها المدينة المنورة في ذاك الوقت هي زاوية المسجد النبوي التي كانت قريبة من الحجرة النبوية وملاصقة لمسكن زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، كانت هذه المدرسة مثابة للناس يقصدونها متعلمين ومستفتين، وأصبحت كعبة المحبين ومقصد المشتاقين وروح أرواح المؤمنين، ويمم طلاب العلم وشداة المعرفة وجوههم قبل هذه المدرسة، حتى غدت أول مدارس الإسلام، وأعظمها أثرا في تاريخ الفكر الإسلامي. ومعلمة هذه المدرسة كانت أم المؤمنين عائشة (ض)، فالذين كانوا من محارمها وأقربائها من الرجال والنساء ضمتهم إليها وربتهم في حجرها وعلمتهم، أما الآخرون فيدخلون وعليها الحجاب، ويجلسون بين يديها من وراء الحجاب في المسجد النبوي (¬1). كان الناس يستفتونها ويسألونها عن مختلف القضايا وهي تجيبهم (¬2)، فينالون بركة تلقي السنة النبوية الشريقة غضة ندية من فم أم المؤمنين السيدة التي كانت ألصق الناس بحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقربهم منه، وربما كانت هي التي تثير سؤالا ثم تبدأ في الإجابة عليه، ويستمع لها الناس بآذان صاغية وقلوب واعية، كما أنها كانت تولي عناية فائقة واهتماما بالغا بتصحيح لغة تلاميذها وتعويدهم على النطق الصحيح مع مراعاة القواعد اللغوية. قال ابن أبي عتيق: تحدثت أنا والقاسم عند عائشة (ض) حديثا. وكان القاسم رجلا لحانة وكان لأم ولد، فقالت له عائشة: ((ما لك لا تحدث كما يتحدث ابن أخي هذا؟ أما إني قد علمت من أين أتيت؟ هذا أدبته أمه وأنت آدبتك أمك)) (¬3) وكانت أم القاسم أمة. كما أنها كانت تقوم بتربية وحضانة عدد من اليتامى والمساكين غير هؤلاء التلامذة، وما كانت تضن على أحد منهم بشيء من العلم، أما غير ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد بن حنبل 6/ 71 برقم 24474. (¬2) مسند الإمام أحمد بن حبل 73/ 6 برقم 24497. (¬3) صحيح الإمام مسلم باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام برقم 560.

المحارم فكانت تحتجب عنهم وربما طلبت من أخواتها أو بنات أخواتها أن ترضعهم فتكون لهم جدة، ثم تأذن لهم بالدخول عليها، لأنها كانت ترى أن حرمة المصاهرة في الإرضاع تثبت مهما كان سن الرضيع، وتستدل على رأيها بحديث سالم مولى أبي حذيفة. والذين لم تسنح لهم فرص الدخول على أم المؤمنين لكونهم من غير المحارم كانوا يتأسفون ويحزنون على عدم تمكنهم من الاستفادة الخاصة، يقول قبيصة: ((كان عروة يغلبنا بدخوله على عائشة)) (¬1) وقد دخل الإمام إبراهيم النخعي (إمام أهل العراق بالإجماع) على عائشة (ض) في صباه، فكان أقرانه يحسدونه على ذلك، عن أبي معشر عن إبراهيم النخعي: ((أنه كان يدخل على عائشة، قال: قلت: وكيف كان يدخل عليها؟ قال: كان يخرج مع خاله الأسود، قال: وكان بينه وبين عائشة إخاء وود)) (¬2). كان من عادتها (ض) أنها كانت تحج كل عام، حيث تكون نقطة تجمع للمسلمين في مكان واحد وفي يوم واحد، فتضرب لها الخيام بين جبل حراء وثبير (¬3)، ويقصدها طلاب العلم وعطاش المعرفة من مشارق الأرض ومغاربها لينالوا بركة تلقي السنة النبوية غضة ندية من فم أم المؤمنين (ض) (¬4)، ولم تكن رضي الله عنها تتحرج من إجابة المستفتين عن أي مسألة من مسائل الدين، ولو كانت تتعلق بالشؤون الخاصة، بل كانت تشجع المستفتين الذين يأخذهم الحياء أحيانا من السؤال عن مثل هذه الشؤون، وعندما قال لها الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري (ض): إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أستحييك، فقالت: ((سل ولا تستحي فإنما أنا أمك)) (¬5). ¬

_ (¬1) تهذيب التهذيب، ترجمة عائشة (ض) 463/ 12. (¬2) مسند الإمام أحمد بن حنبل 172/ 6 برقم 25434. (¬3) صحيح البخاري باب طواف النساء مع الرجال برقم 1618، والطبقات الكبرى لابن سعد 5/ 295. (¬4) الطبقات الكبرى لابن سعد 68/ 8، ومسند الإمام أحمد بن حنبل 40/ 6. (¬5) مسند الإمام أحمد 97/ 6 برقم 24699.

وفي رواية: استأذنت على عائشة فأذن لي، فقلت لها: يا أماه أو يا أم المؤمنين إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أسحييك، فقالت: ((لا تستحي أن تسألني عما كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك فإنما أنا أمك)) (¬1) والواقع أنها كانت تربي تلامذتها مثل الأم، وتتجلى لنا هذه الصفة في تعليم وتربية عروة، والقاسم، وأبي سلمة، ومسروق، وعمرة، وصفية (ض)، وكانت تتكفلهم وتنفق عليهم من مالها الخاص. وكان بعض أقاربها يحسد بعض تلامذتها لما يرون من معاملتها الخاصة معهم، وهذا عبد الله بن الزبير الذي كان من أحب الناس إلى عائشة (ض) وابن أختها كان يقول للأسود بن يزيد: ((أخبرني بما كانت تفضي إليك أم المؤمنين)) (¬2) وكان تلاميذها أيضا يرقرونها ويجلونها، وهذه عمرة - تلميذتها الخاصة - كانت أنصارية لكنها تنادي أم المؤمنين بالخالة، وقد تبنت عائشة (ض) مسروق (¬3) بن الأجدع التابعي الجليل، فكان إذا حدث عنها يقول: ((حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله المبرأة)) (¬4). هذا وقد تخرج من مدرسة أم المؤمنين عائشة (ض) عدد كبير من سادة العلماء ومشاهير التابعين، ومسند الإمام أحمد بن حنبل يضم في طياته أكبر عدد من مروياتها (ض)، وحسب الإحصائية التي قمت بها أنها بلغت مئتي رواية، سواء رواها عنها الصحابي أو التابعي، الحر أو العبد، القريب أو البعيد، قد أفرد الإمام أبو داود الطيالسي (ح) (ت 204هـ) مرويات تلامذتها على حدة في مسنده، ولكنه مختصر جدا، فلم يحتو على عدد كبير من ¬

_ (¬1) صحيح الإمام مسلم كتاب الطهارة برقم 439، وموطأ الإمام مالك كتاب الغسل. (¬2) مسند الإمام أبي داود الطيالسي 197/ 1 برقم 1382. (¬3) سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي 67/ 4. (¬4) ذكره الإمام أحمد بن حنبل في مسنده 6/ 241 برقم 26086، والإمام البيهقي في السنن الكبرى 2/ 458 برقم 4193، وأبو نعيم الأصبهاني في مسند أبي حنيفة 1/ 54، والطبراني في المعجم الأوسط 5/ 314 برقم 5411، وفي الكبير 181/ 23 برقم 289، وإسحاق بن راهويه في مسنده 813/ 3 برقم 1452.

الأحاديث، وعن الإمام ابن سعد في الطبقات الكبرى تلامذتها وذكر أخبارهم، كما أن الحافظ ابن حجر العسقلاني قام بإحصاء الرواة عنها من أقاربها ومواليها والصحابة والتابعين، في كتابه تهذيب التهذيب. أما الصحابة الذين رووا عنها فمنهم: أبو موسى الأشعري، أبو هريرة، عبد الله بن عمر، عبد الله بن عباس، عمرو بن العاص، زيد بن خالد الجهني، ربيعة بن عمرو الخرشي، سائب بن يزيد، الحارث بن عبد الله، وغيرهم (ض) أجمعين. وأما من الموالي فهم: أبو يونس، ذكوان، أبو عمرو، ابن فروخ، هؤلاء الذين ذكرهم ابن حجر في تهذيب التهذيب (¬1). وأبو مدلة مولى عائشة، ذكره الإمام الترمذي (¬2)، وأبو لبابة مروان ذكره ابن سعد في الطبقات (¬3)، وأبو يحيى وأبو يوسف ذكرهما الإمام أحمد في المسند (¬4)، وأشهر هؤلاء ذكوان، وأبو يونس. كما ذكر في المسند عبد الله بن يزيد (¬5) رضيع عائشة (ض) هكذا ذكر في كتب أسماء الرجال، دون التطرق إلى تفاصيل أخبارهم. أما من الأقارب: أختها أم كلثوم بنت أبي بكر، أخوها من الرضاعة عوف بن حارث، ابنا أخيها قاسم بن محمد، وعبد الله بن محمد، وابنتا أخيها حفصة بنت عبد الرحمن، وأسماء بنت عبد الرحمن، وابن حفيد أخيها عبد الله بن عتيق بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وابنا أختها عبد الله بن الزبير، والقاسم بن الزبير، وبنت أختها عائشة بنت طلحة، وحفيد ابن أختها عباد بن حبيب، وعباد بن حمزة، وكثير غيرهم من أولاد أقاربها الذين تربوا ¬

_ (¬1) تهذب التهذب 12/ 462. (¬2) سنن الترمذي باب في العفو والعافية رقم الحديث 3598. (¬3) الطبقات الكبرى لابن سعد 5/ 296. (¬4) مسند الإمام أحمد 6/ 258. (¬5) مسند الإمام أحمد بن حنبل 6/ 32 برقم 240845.

في ظلها، واستفادوا منها في مجال العلم والدعوة، ويوجد في الطبقات الكبرى لابن سعد تفاصيل عن هؤلاء كلهم. أما من التابعين: فقد تخرج من مدرستها سادة علماء التابعين، وكل من اشتغل بالحديث في عصرها فإنه قد تشرف بالتلقي عنها، وقد انتقينا حوالي مئة وخمسين اسما لأولئك التابعين من كتب المسانيد، ولو أردنا سرد جميع هذه الأسماء فإنه يحتاج إلى عدة صفحات، ولذلك نقتصر على ذكر أسماء النساء منهم فقط اللاتي تخرجن عالمات جليلات ساهمن في حفظ السنة وروايتها ونقلها إلى الأجيال اللاحقة. (أ) 1 - أسماء بنت عبد الرحمن. (ب) 2 - بريرة مولاة عائشة (ض). 3 - بنانة مولاة عبد الرحمن. 4 - بهية مولاة الصديق. (ت) 5 - تبالة بنت يزيد العبشمية. (ج) 6 - جسرة بنت دجاجة. (ح) 7 - حفصة بنت عبد الرحمن. (خ) 8 - خيرة أم الإمام الحسن البصري. (ذ) 9 - ذفرة بنت غالب. (ر) 10 - رميثة. (ز) 11 - زينب بنت أبي سلمة. 12 - زينب بنت محمد. 13 - زينب بنت نصر. (س) 14 - سائبة. 15 - سلمى البكرية. 16 - سمية البصرية. (ش) 17 - شميسة العتكية. (ص) 18 - صفية بنت الحارث. 19 - صفية بنت شيبة. 20 - صفية بنت أبي عبيد. 21 - صفية بنت عطية. (ع) 22 - عائشة بنت طلحة. 23 - عمرة بنت عبد الرحمن. 24 - عمرة بنت قيس العدوية.

(ف) 25 - فاطمة بنت أبي حبيش. (ق) 26 - قمير بنت عمرو الكوفية. (ك) 27 - كريمة بنت همام. 28 - كلثم بنت عمرو صاحبة عائشة. (م) 29 - معاذة. 30 - ميمونة بنت عبد الرحمن. (د) 31 - هند. 32 - هنيدة. (الكنى) 33 - أم بكر. 34 - أم جحدر. 35 - أم حميدة. 36 - أم الدرداء. 37 - أم ذرة مولاة عائشة. 38 - أم سالم. 39 - أم سعيدة. 40 - أم عاصم. 41 - أم علقمة. 42 - أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق. 43 - أم كلثوم بنت ثمامة. 44 - أم كلثوم الليثية. 45 - أم محمد. 46 - أم عبد الله. 47 - أم هلال. ومن هؤلاء المستفيدين والمسترشدين من ضمتهم السيدة أم المؤمنين (ض) إليها وربتهم في حجرها، وعلمتهم وشرفتهم بالتلقي منها، فصنع الله منهم على يدها حفظة الإسلام ونقلة السنة النبوية إلى الأجيال اللاحقة بعد جيل الصحابة والتابعين، وكان هؤلاء أقرب إلى السيدة من الآخرين، فيعتبرون من حملة علومها ومعارفها بكل معنى الكلمة، وهم: 1 - عروة بن الزبير: أبو عبد الله القرشي (ض)، أمه أسماء بنت أبي بكر، كان ابن أخت عائشة (ض) ومن أحب الناس إليها، تربى في حضنها، من كبار علماء المدينة، ولد في آخر خلافة عمر (ض) سنة 23هـ، تفقه على أم المؤمنين عائشة (ض)، وحمل علمها وكثيرا من شمائلها، لا يدانيه فيها أحد من أقرانه، حتى كان يقول: لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج أو خمس حجج وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها إلا وقد

وعيته (¬1)، توفي (ض) سنة أربع وتسعين ودفن يوم الجمعة. 2 - القاسم بن محمد بن أبي بكر: ابن أخي أم المؤمنين عائشة (ض)، تربى في حجر عمته وتفقه عليها حتى أصبح الإمام القدوة في المدينة، أحد الفقهاء السبعة، ورث (ح) عن أم المؤمنين رواية السنة، والحرص على الرواية بألفاظها، فكان يحدث الحديث بحروفه. كان عفيفا كريما، ورعا، فقيها، ذا الحسب العتيق، وكان لغوامض الأحكام فائقا، وإلى محاسن الأخلاق سابقا، توفي سنة ثمان ومئة وقيل: سنة سبع ومئة وقيل: سنة ست ومئة. 3 - أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف (ض): توقي أبوه وهو صغير، كان من أقران عروة بن الزبير، جمع بين الفقه والسنة، من كبار محدثي المدينة، روى عنه كبار المحدثين، أمثال عروة، والزهري، والشعبي، كان ثقة ففيها كثير الحديث توفي سنة أربع وتسعين من الهجرة. 4 - مسروق بن الأجدع بن مالك الكوفي: العابد أبو عائشة، كان (ح) كوفيا، لكنه لم يشارك في الحروب الأهلية والمعارك الداخلية، ذكر الإمام الذهبي أن أم المؤمنين عائشة (ض) تبنته (¬2)، وذكر الإمام ابن سعد عن مسروق بن الأجدع قال: ((أتينا أم المؤمنين عائشة فقالت: خوضوا لابني عسلا، ثم قالت: ذوقوه، فإن رابكم شيء فزيدوا فيه عسلا ...)) (¬3). ولما توفيت أم المؤمنين عائشة (ض) قال مسروق: ((لولا بعض الأمر لأقمت على أم المؤمنين مناحة)) (¬4). وقد أخرج البخاري في صحيحه والإمام أحمد في مسنده معظم مروياته عن عائشة (ض). كان (ح) يعد من فقهاء العراق، وكان على مكانة عالية من الزهد، ¬

_ (¬1) تهذيب التهذيب 165/ 7. (¬2) سير أعلام النبلاء للذهبي 4/ 67. (¬3) الطبقات الكبرى لابن سعد 79/ 6. (¬4) الطبقات الكبرى لابن سعد 81/ 6.

يصلي فتتورم قدماه، كان قاضي الكوفة، لكنه لا يأخذ على القضاء رزقا ولا جزاء، قال الشعبي: كان مسروق أعلم بالفتوى من شريح، وكان شريح يستشير مسروقا، مات سنة ثلاث وستين للهجرة. أما من النساء فأول من ينبغي أن نستهل بذكرها هي: 1 - السيدة عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة الأنصارية المدنية، كانت مثالا رائعا لتعليم وتربية أم المؤمنين (ض)، فقد نشأت وترعرعت في حجرها، وذكرها ابن المديني ففخم أمرها وقال: ((عمرة أحد الثقات العلماء بعائشة الأثبات فيها)) (¬1). وقال ابن حبان: ((كانت من أعلم الناس بحديث عائشة)) (¬2) وقال سفيان: ((أثبت حديث عائشة حديث عمرة، والقاسم، وعروة)) (¬3) كانت أم المؤمنين تحبها كثيرا، ونظرا إلى حب أم المؤمنين لها كان الناس كذلك يدارونها ويحترمونها، فكانت هي التي يتأخاها الناس وتستلم هدايا الناس لعائشة (ض)، فكانت تثيب الناس وترد عليهم (¬4)، وكان أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ابن أخيها فكتب إليه عمر بن عبد العزيز أن انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو سنة ماضية أو حديث عمرة بنت عبد الرحمن فاكتبه (¬5). كما أنها كانت تقوم بإصلاح الأخطاء الاجتهادية لابن أخيها (¬6)، يقول الزهري: قال لي القاسم بن محمد: ((أراك تحرص على العلم أفلا أدلك على وعائه؟ قلت: بلى، قال: عليك بعمرة بنت عبد الرحمن، فإنها كانت في حجر عائشة، فأتيتها فوجدتها بحرا لا ينزف)) (¬7). ¬

_ (¬1) تهذب التهذيب 466/ 12. (¬2) الثقات لابن حبان 5/ 288 رقم الترجمة 4881. (¬3) تهذيب التهذيب 466/ 12. (¬4) الأدب المفرد للإمام البخاري 382/ 1 برقم 1118. (¬5) تهذيب التهذيب 466/ 12، وكذلك الطبقات الكبرى 381/ 2. (¬6) موطأ الإمام مالك باب ما لا قطع فيه برقم 1531. (¬7) انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 112/ 1، وكذلك سير أعلام النبلاء 4/ 508 و 5/ 347.

2 - صفية بنت شيبة رحمها الله: كانت من التابعيات المشهورات، وابنة صاحب مفتاح الكعبة، روى عنها المحدثون، ومروياتها موجودة في سائر كتب الأحاديث، وتذكر في كتب الأحاديث بـ ((صفية بنت شيبة صاحبة عائشة)) (¬1) ورثت عن عائشة (ض) رواية السنة، فكان الناس يسألونها، ويقصدونها طلبا لأحاديث عائشة (ض)، وفي سنن أبي داود (ض): ((خرجت مع عدي بن عدي الكندي حتى قدمنا مكة، فبعثني إلى صفية بنت شيبة وكانت قد حفظت من عائشة)) (¬2). 3 - كلثم بنت عمرو القرشية: هي كذلك تلقب في كتب الرجال بصاحبة عائشة، وقد روت بعض الأحاديث. 4 - عائشة بنت طلحة: أم عمران التيمية المدنية، أمها أم كلثوم بنت أبي بكر، تربت في حضن خالتها عائشة (ض)، قال ابن معين: ((ثقة حجة، وقال العجلي: مدنية تابعية ثقة، وقال أبو زرعة الدمشقي: حدث عنها الناس لفضلها وأدبها)) (¬3). 5 - معاذة بنت عبد الله العدوية: أم الصهباء البصرية، تتلمذت على أم المؤمنين عائشة (ض)، وروت معظم أحاديثها، وورثت عنها حبها لكثرة العبادة، كانت من العابدات، يقال: إنها لم تتوسد فراشا بعد وفاة زوجها (أبي الصهباء) حتى ماتت. روي عن شيخ من أهل البصرة قال: أتيث معاذة فقالت: إني اشتكيت بطني فوصف لي نبيذ الجر، فأتيتها منه بقدح، فوضعته، فقالت: اللهم إن كنت تعلم أن عائشة حدثتني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نبيذ الجر فاكفنيه بما شئت، قال: فانكفأ القدح وأهريق ما فيه، وأذهب الله تعالى ما كان بها (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل 276/ 6 برقم 26403، والطبقات الكبرى لابن سعد 133/ 8 و 139/ 8. (¬2) سنن أبي داود كتاب الطلاق رقم 2193. (¬3) انظر أقوال العلماء فيها في تهذيب التهذيب لابن حجر 12/ 464. (¬4) تهذيب التهذيب 479/ 12.

2 - الإفتاء

2 - الإفتاء: ما سبق من الأدلة على فضل عائشة (ض) وكمالها في مختلف المباحث وتحت عديد من العناوين يصور لنا بكل وضوح حياة عائشة (ض) بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبإمكاننا أن ندرك كيف أنها قضت بقية عمرها كمرجع أساسي للسائلين والمستفتين ومثابة للزوار والطالبين، وقدوة يقتدى بها في سائر المجالات والشؤون، لكن من حسن حظنا أن خزانة تراثنا الإسلامي غنية بتلك الشهادات المسجلة القاطعة والحاسمة التي تؤكد لنا وتجعلنا نقطع بالقول إن عائشة (ض) كانت مرجع الصحابة في كل شيء، وما أشكل عليهم شيء من الحديث أو الفقه إلا وجدوا عندها منه علما، وكان الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومشيختهم يسألونها ويستفتونها. تقسيم ابن قيم علماء الصحابة المفتين: هذا وقد صنف المحدثون علماء الصحابة إلى ثلاث طبقات، وذلك نظرا إلى قلة أو كثرة فتاواهم: قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وكانوا بين مكثر منها ومقل ومتوسط)): المكثرون من الفتيا: والذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة ونيف وثلاثون نفسا ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس (ض). قال أبو محمد ابن حزم: ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم، قال: وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عباس (ض) في عشرين كتابا، وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث. المتوسطون في الفتيا: قال أبو محمد: والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير (ض) ... الخ.

المقلون في الفتيا: والباقون منهم مقلون في الفتيا، لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك .... وهم أبو الدرداء، وأبو اليسر، وأبو سلمة المخزومي، وأبو عبيدة بن الجراح، والحسن، والحسين ابنا علي، والنعمان بن بشير، وأبي بن كعب، وأبو أيوب، وأبو طلحة، وأبو ذر، وأم عطية، وصفية أم المؤمنين، وحفصة، وأم حبيبة رضي الله عنهم أجمعين ....)) (¬1). عائشة تفتي في عهد الخلفاء الراشدين: كانت أم المؤمنين عائشة (ض) قد استقلت بالفتوى وحازت على هذا المنصب الجليل المبارك منذ وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصبحت مرجع السائلين ومأوى المسترشدين وبقيت على هذا المنصب في زمن الخلفاء كلهم إلى أن وافاها الأجل. يقول القاسم بن محمد أحد الفقهاء السبعة في المدينة المنورة: ((كانت عائشة قد استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان وهلم جرا إلى أن ماتت يرحمها الله)). وحتى عمر الفاروق رضي الله عنه الذي كان مجتهد الإسلام والدين لم يستغن عن هذه المشكاة التبوية: ((كانت عائشة تفتي في عهد عمر، وعثمان إلى أن ماتت يرحمها الله، وكان الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عمر، وعثمان بعده، يرسلان إليها فيسألانها عن السنن)) (¬2). وكما هو معروف أن كل صحابي لم يكن مسموحا له بالإفتاء في عهد عمر رضي الله عنه، بل كان ذلك الأمر إلى البعض من خاصة أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهم الذين كانوا يفتون، وهذا يدلنا على مدى اعتماد عمر (ض) ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين للإمام ابن القيم رحمه الله 12/ 1، 13، ط: دار الجيل بيروت 1973م. (¬2) الطبقات الكبرى لابن سعد 375/ 2.

على عائشة أم المؤمنين والاعتراف بفضلها ومكانتها العلمية وسعة اطلاعها ومعرفتها. وهذا الأمير معاوية (ض) كان والي دمشق، وكان إذا أشكل عليه شيء يرسل إلى أم المؤمنين يستفسرها عنه (¬1)، وفي بعض الأحيان يكتب إليها يستنصحها، أخرج الإمام الترمذي في سننه: ((كتب معاوية إلى عائشة أم المؤمنين (ض) أن اكتبي إلي كتابا توصيني فيه ولا تكثري علي، فكتبت عائشة (ض) إلى معاوية: سلام الله عليك أما بعد: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، والسلام عليك)) (¬2). كانت المدينة المنورة مقر كبار الصحابة ومركزهم، وقد بقي في المدينة حتى خلافة الشيخين كل من عثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي بن كعب، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وزيد بن ثابت، وأمثالهم من كبار الصحابة وعلماء الإفتاء (ض) أجمعين، فلما تولى عثمان (ض) الخلافة، توفي معظم هؤلاء الكبار من الصحابة. وبدأ عصر الشباب منهم، وكان على رأس قائمتهم عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن الزبير، وأبو هريرة (ض) أجمعين وكما مر معنا فإن عائشة (ض) قد حازت على منصب الافتاء منذ صغرها في زمن كبار الصحابة (ض)، وكان جلة الصحابة يراجعونها في معضلات الأمور، أخرج الإمام الترمذي عن أبي موسى الأشعري (ض): ((ما أشكل علينا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - حديث قط فسألنا عائشة ¬

_ (¬1) (فأخبرته معاوية بن أبي سقيان (يقصد حديث استشهاد عثمان (ض)) فلم يرض بالذي أخبرته، فكتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إلي به، فكتبت إليه به كتابا)) (مسند الإمام أحمد بن حنبل 6/ 86). (¬2) سنن الترمذي باب ما جاء في حفظ اللسان برقم 2414.

إلا وجدنا عندها علما)) (¬1)، وأخرج الإمام ابن سعد: ((يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ويقول التابعي الجليل مسروق: ((أي والذي نفسي بيده لقد رأيت مشيخة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونها عن الفرائض)) (¬3). حتى أمثال ابن عباس، وابن عمر (ض) الذين كانوا يدانونها في الاجتهاد والفقه كذلك يسألونها في بعض القضايا ويتأكدون منها فيها (¬4)، وكذلك أبو موسى الأشعري (ض) الذي يعد من علماء الصحابة لم يكن في غنى عنها (¬5). كانت المدينة المنورة قلب بلاد الإسلام، فكان الناس يقصدونها من مشارق الأرض ومغاربها ليتشرفوا بزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيأنسوا بجواره ويتبركوا بآثاره، وينالوا شرف زيارة أم المؤمنين عائشة (ض)، وكانوا يأتون من بلدان بعيدة وأجنبية، لا يكون عندهم اطلاع على الآداب والتقاليد التي لا بد من مراعاتها عند الدخول على أم المؤمنين عائشة (ض)، فكانوا يتعلمون الآداب أول ما يصلون ويبدأون بالسلام. يقول عبد الله بن أبي موسى: ((أرسلني مدرك أو ابن مدرك إلى عائشة أسألها عن أشياء، فأتيتها فإذا هي تصلي الضحى، فقلت أقعد حتى تفرغ، فقالوا: هيهات، فقلت لآذنتها: كيف أستأذن عليها؟ فقال: قل: السلام عليك ورحمة الله وبركاته)) (¬6). وكانت توقر من كان يأتيها وتعاملهم معاملة الإكرام والاحترام، ويحول بينها وبينهم الحجاب (¬7)، عن يزيد بن بابنوس قال: ((ذهبت أنا وصاحب لي ¬

_ (¬1) سنن الترمذي باب فضل عائشة برقم 3883. (¬2) الطبقات الكبرى لابن سعد 375/ 2. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 12 برقم 6736، وابن سعد في الطبقات الكبرى 2/ 375. (¬4) صحيح البخاري كتاب الجنائز، وأبواب الوتر، وكذلك النسائي كتاب الزينة برقم 5306. (¬5) موطأ الإمام مالك باب الغسل. (¬6) مسند الإمام أحمد بن حنبل 6/ 125 برقم 24989. (¬7) انظر: صحيح البخاري باب طواف النساء مع الرجال برقم 1618، ومسند الإمام أحمد 219/ 6 برقم 25883.

إلى عائشة فاستأذنا عليها فألقت لنا وسادة وجذبت إليها الحجاب)) (¬1). ولم تكن (ض) تتحرج في إجابة المستفتين عن أي مسألة من مسائل الدين، ولو كانت متعلقة بالشؤون الخاصة، بل إنها كانت تشجع المستفتين الذين كانوا يستحيون من السؤال الخاص بهم، وذلك عملا بقوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} تطمئنهم وتقول لهم: ((أنا أمك فلا تستحي أن تسألني عما كنت سائلا عنه أمك)) (¬2). ولم يكن يفوتها الحج أي سنة، فلما حجت أقامت عند جبل ثبير (¬3)، فيقصدها هناك عدد كبير من السائلين والمستفتين، وقد تجلس في سقيفة زمزم (¬4)، ويأتيها طلاب العلم وشداة المعرفة يروون غليلهم العلمي وينهلون من المنهل الصافي، فيسألونها في كل صنف من المسائل وهي تجيبهم في ضوء الكتاب والسنة. ولو اختلف أحد منهم في قضية أو أشكل عليهم أمر يراجعونها لحسم القضية، عن سعيد بن المسيب قال: ((إن أبا موسى الأشعري (ض) أتى عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: لقد شق علي اختلاف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر إني لأعظم أن أستقبلك به، فقالت: ما هو؟ ما كنت سائلا عنه أمك فسلني عنه، فقال: ((الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل، فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فقال أبو موسى الأشعري: لا أسأل عن هذا أحدا بعدك أبدا)) (¬5). وكان أبو الدرداء (ض) يفتي فيقول: لا وتر لمن أدرك الصبح، فانطلق رجال من المؤمنين إلى عائشة (ض) فقالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح فيوتر)) (¬6). ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد 219/ 6 برقم 25883. (¬2) مسند الإمام أحمد 6/ 265 برقم 26332 و 97/ 6 برقم 24699. (¬3) صحيح البخاري باب طواف النساء مع الرجال برقم 1618. (¬4) مسند الإمام أحمد 95/ 6 رقم 24685 و 219/ 6 رقم 25883. (¬5) أخرجه مالك في الموطأ باب الغسل برقم 104، والشافعي في مسنده 1/ 158، وعبد الرزاق في المصنف 248/ 1 رقم 954، وابن عبد البر في التمهيد 23/ 100 برقم 507. (¬6) مسند الإمام أحمد 48/ 6 برقم 24258، وأخرجه الترمذي باب ما جاء في تعجيل =

وكان عبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري (ض) من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدهما يعجل الإفطار والآخر يؤجله فسئلت عائشة (ض) عن ذلك فقالت: أيهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة؟ قالوا: عبد الله بن مسعود، قالت: ((كذلك كان يصنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). وكان ابن عباس (ض) يفتي أن من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي، فكتب زياد بن أبي سفيان إلى عائشة (ض) أن عبد الله بن عباس (ض) قال: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه، فقالت عائشة (ض): ليس كما قال ابن عباس، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، ثم قلدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحله الله حتى نحر الهدي (¬2). وفي سنن البيهقي قال الزهري: أول من كشف الغمى عن الناس وبين لهم السنة في ذلك عائشة (ض)، فلما بلغ الناس قول عائشة هذا أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس (¬3). وكان أبو هريرة (ض) يفتي أن من أدركه الفجر جنبا فلا يصم، فانطلق عبد الرحمن إلى عائشة وأم سلمة (ض) وسألهما فقالت: كان النبي يصبح جنبا من غير طهر ثم يصوم، يقول عبد الرحمن: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان فقال مروان: عزمت عليك إلا ذهجت إلى أبي هريرة فرددت عليه ما يقول، ¬

_ = الإفطار برقم 702، وأبو داود في سننه باب ما يستحب من تعجيل الفطر برقم 2354، والنسائي في سننه باب قدر ما بين السحور وبين صلاة الصبح برقم 2161، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 153. (¬1) مسند الإمام أحمد 6/ 242 برقم 26100، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 246، باب فيمن فاته الوتر، وذكره الزركشي في ((الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة)) ص 160. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الحج برقم 1696، 1699، 1700، ومسلم في صحيحه برقم 1321. (¬3) سنن البيهقي الكبرى 5/ 234 برقم 9971، وانظر لمزيد من التفصيل ((الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، للزركشي)) ص 96، 95.

قال: فجئنا أبا هريرة، فقال أبو هريرة: أهما قالتاه لك؟ قال: نعم، قال: هما أعلم (¬1). يحرم على المحرم لبس الخفين، فلو لم يجد المحرم النعال فيقطع أعلى الخفين حتى تصير نعالا، فكان ابن عمر (ض) يفتي بقطع رأس الخفين للمرأة المحرمة، ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد أن عائشة (ض) حدثتها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان رخص للنساء في الخفين، فترك ذلك (¬2). وذات مرة تذاكر أبو هريرة وابن عباس (ض) عدة الحامل المتوفى عنها زوجها تضع بعد وفاة زوجها بأيام، فقال ابن عباس: عدتها آخر الأجلين، وقال أبو هريرة: عدتها وضع الحمل، فبعثوا إلى عائشة وأم سلمة (ض) فقالتا: ((وضعت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بثلاثة أيام فذكر أمرها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرها فنكحت)) (¬3). اختلف أبو هريرة، وابن عمر (ض) في ثواب اتباع الجنائز، فقال أبو هريرة: من تبع جنازة فله قيراط، فقال ابن عمر: أكثر أبو هريرة علينا، فصدقت عائشة (ض) أبا هريرة وقالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله (¬4). إن فتاوى أم المؤمنين عائشة (ض) رغم إحاطتها بسائر القضايا التي لها اتصال بقواعد الدين وأصول الطهارة وشروط العبادات ونواقض الصلاة ¬

_ (¬1) صحيح الإمام مسلم باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب برقم 1109، وانظر: الإجابة للزركشي ص 124. (¬2) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 201/ 4 برقم 2686، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 52 رقم 8858، وأبو داود في سننه 166/ 2 برقم 1831، ومسند أحمد29/ 2 برقم 4836 و 6/ 35 برقم 24113، والإجابة ص 118. (¬3) صحيح مسلم باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل رقم 1480، وصحيح ابن حبان 132/ 10 برقم 4292، وسنن الترمذي برقم 1195، الدارمي برقم 2279، ومسند إسحاق بن راهويه 493/ 2 برقم 1078. (¬4) صحيح البخاري باب فضل اتباع الجنائز رقم 1324، وصحيح الإمام مسلم كتاب الجنائز برقم 945.

والصيام إلا أن معظمها يتعلق بأحكام النساء والعلاقات الزوجية، وأسلوبها في تبليغ هذه الأحكام وفي خطاب بناتها وبنيها من المسترشدات والمسترشدين هو أسلوب التعليم، ولم يكن في مقدورها أن تتوخى أسلوبا غير هذا الأسلوب، ولو عرضت لأخص الأمور التي تسكت عنها النساء، لأنها المرجع الذي لا يغني عنه مرجع في سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومأثوراته وأعماله. فهي التي أفصحت عن كل فتوى نسوية سئلت عنها. وكما قال الإمام ابن حزم، والإمام ابن القيم رحمهما الله: إن فتاواها إذا جمعت كانت مجلدا ضخما كبيرا. وكيف لا وقد كان هناك حشد من الناس رجالا ونساء يقدمون إليها من العراق (¬1)، والشام (¬2)، ومصر (¬3) يستفتونها في أمور دينهم ويقتنعون بأجوبتها. بل كان الناس يتقربون إلى أولئك الذين يخدمونها ويلازمونها، فقد كانت عائشة بنت طلحة (ض) واحدة من الملازمين لها والمتشرفين بخدمتها، تقول: كان الناس يأتونها من كل مصر، فكان الشيوخ ينتأبوني لمكاني منها، وكان الشباب يتأخوني، فيهدون إلي ويكتبون إلي من الأمصار، فأقول لعائشة: يا خالة هذا كتاب فلان وهديته، فتقول لي عائشة: ((أي بنية فأجيبيه وأثيبيه)) (¬4). ورغم كل هذا الفضل والاطلاع الواسع والمعرفة الجليلة لو عرض عليها مسألة لم يكن عندها علم بها، أو وجدت أحدا غيرها هو أحسن إجابة عنها، فإنها تأمر المستفتي أن يذهب إليه، عن شريح بن هانيء قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت: ((عليك بابن أبي طالب، فسله، فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..)) (¬5). ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد بن حنبل 93/ 6 برقم 24667. (¬2) مسند الإمام أحمد بن حنبل 173/ 6 برقم 25446 و 95/ 6 برقم 24685. (¬3) مسند الإمام أحمد بن حنبل 6/ 258 برقم 26255. (¬4) الأدب المفرد للإمام البخاري 1/ 382 برقم 1118. (¬5) صحيح الإمام مسلم باب التوقيت في المسح على الخفين برقم 276، وسنن البيهقي =

3 - الإرشاد

ومرة سئلت عن الركعتين بعد العصر فقالت: ((سل أم سلمة)) (¬1)، كما سئلت عن لبس الحرير فقالت: ((سل عبد الله بن عمر) ((¬2). 3 - الإرشاد: إن أي دين أو مذهب لما يطرأ على أهله الجمود وتتوقف عجلة الحركة الدموية فيه بعد مرور فترة زمنية عليه فإنه يكون في حاجة إلى من ينهض ويقوم بتجديده وإحيائه مرة أخرى، أما إذا كان العهد قريبا ولم يمض عليه وقت طويل فإنه يحتاج إلى من يقوم بواجب الإرشاد والتوعية، ويبذل قصارى مجهوداته في استعادة ما ضاع من أحكامه وتعاليمه، ولا يتركه حتى تختفي معالمه من بين أعين الناس ويتناساه الناس، وهذا ما يسمى بالإرشاد والتوعية. وإن جهود أم المؤمنين عائشة (ض) نحو القيام بأداء هذه الفريضة ليست بأقل من جهود الصحابة الآخرين، فإنها سواء كانت في حجرتها الشريفة، أو بين أظهر الناس أو في مواسم الحج، لم تنس هذه الفريضة ولم تغفل عنها في أي لحظة وفي أي مكان. كانت رضي الله عنها تحزن وتقلق من كل ما كان يحدث في زمن خلافة عثمان (ض) وما يحاك فيه من شبكات المؤامرات والمعاندات والتي كانت تنقض عرى الإسلام عروة عروة، ومشاركتها في معركة الجمل لم تكن إلا نتيجة ذلك. ولما أكثر الناس في عثمان (ض) وسخطوا منه من أجل الفتنة التي أثارها العجم وأهل مصر حتى بدأ البعض منهم يلعنه ويسبه ويشتمه، فأرسل ¬

_ = الكبرى 272/ 1 برقم 1207، وشرح معاني الآثار للطحاوي 1/ 81 وفيه ((فهو أعلم بذلك مني))، ومسند الإمام أحمد 96/ 1 برقم 748 و 146/ 1 برقم 1244 و 149/ 1 برقم 1276. (¬1) صحيح البخاري كتاب الجمعة باب إذا كلم وهو يصلي فأشار بيده واستمع برقم 1233. (¬2) أخرجه النسائي في سننه باب التشديد في لبس الحرير برقم 5306.

المخارق بن ثمامة - وكان من سادات البصرة - أخته أم كلثوم بنت ثمامة إلى عائشة (ض) وقال: ((ادخلي على عائشة وسليها عن عثمان بن عفان فإن الناس قد اكثروا فيه عندنا، قالت: فدخلت عليها فقلت: بعض بنيك يقرئك السلام ويسألك عن عثمان بن عفان، قالت: أما أنا فأشهد على أني رأيت عثمان في هذا البيت في ليلة قائظة ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - وجبريل يوحي إليه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يضرب كف أو كتف ابن عفان بيده، اكتب عثم، فما كان الله ينزل تلك المنزلة من نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلا رجلا عليه كريما، فمن سب ابن عفان فعليه لعنة الله)) (¬1). وقد روى القصة الإمام أحمد بن حنبل في مسنده باختلاف يسير في الألفاظ وفيه: ((قالت: لعن الله من لعنه، لا أحسبها إلا قالت ثلاث مرات، لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مسند فخذه إلى عثمان وإني لأمسح العرق عن جبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإن الوحي ينزل عليه، ولقد زوجه ابنتيه إحداهما على إثر الأخرى وإنه ليقول اكتب عثمان، قالت: ما كان الله لينزل عبدا من نبيه تلك المنزلة إلا عبدا عليه كريما)) (¬2). وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف بينه وبين أناس خصومة، فذكر لعائشة (ض) فقالت: يا أبا سلمة اجتنب الأرض فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين)) (¬3). وكان العرف في المدينة المنورة أنه إذا ولد الصبيان يؤتى بهم إلى عائشة (ض) تبركا فتدعو لهم بالبركة، فأتيت بصبي فذهبت تضع وسادته فإذا تحت رأسه موسى، فسألتهم عن الموسى فقالوا: نجعلها من الجن، فأخذت الموس فرمت بها ونهتهم عنها وقالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره الطيرة ويبغضها (¬4). ¬

_ (¬1) الأدب المفرد 288/ 1، باب من دعا صاحبه فيختصر وينقص من اسمه شيئا برقم 828، والطبراني في الأوسط 117/ 4 رقم 3758، باختلاف يسير. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 261/ 6 رقم 26290. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه باب إثم من ظلم شيئا من الأرض رقم 2452، 2453، وكتاب بدء الخلق 3195، ومسلم في صحيحه كتاب المساقاة برقم 1612. (¬4) أخرجه البخاري في الأدب المفرد 314/ 1 رقم 912.

هذا وقد اختلط المسلمون مع العجم في عهد عمر الفاروق (ض)، لكن قوته التنفيذية وسلطته القوية حالت دون تسرب سموم العجمية وجراثيمها إلى مجتمعات المسلمين، إلا أن عهد عثمان (ض) لم يقدر على مقاومتها، وظل هذا الاختلاط يتركز على مر الأيام إلى أن أخذت تلك السموم الطريق إلى المجتمعات الإسلامية، وبدأت تسمم البيئة العربية، فسادت أنواع من الملاهي وصنوف من الأشياء المسلية مجتمع المسلمين، وعم فيهم اللعب بالشطرنج والنردشير وشتى أنواع الترفيه مما تسبب في تضييع الأوقات، فلما رأى ذلك صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرعوا إلى الزجر عنها، وبدأوا يردعون الناس عن هذه الأعمال، وقد بلغ عائشة (ض) أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا فيه عندهم نرد فأرسلت إليهم ((لئن لم تخرجوها لأخرجنكم من داري)) وأنكرت ذلك عليهم (¬1). وكان ابن أبي السائب من أشهر الوعاظ والقصاص في المدينة، وكما هي عادة القصاص فإنهم يدعون بأدعية مسجعة ذات نغمات خاصة حتى يستجلبوا الناس ويسترعوا انتباههم، وكذلك كان يفعل ابن أبي السائب، فلما سمعت عائشة (ض) عن ابن أبي السائب قالت له: ((ثلاثا لتبايعني عليهن أو لأناجزنك؟ فقال: ما هن؟ بل أنا أبايعك يا أم المؤمنين، قالت: اجتنب السجع في الدعاء، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا لا يفعلون ذلك، وقص على الناس في كل جمعة مرة، فإن أبيت فثنتين فإن أبيت فثلاثا، فلا تمل الناس. ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقطع عليهم حديثهم، ولكن اتركهم فإذا جرؤوك عليه وأمروك به فحدثهم) ((¬2). وقد أمر الإسلام المطلقة أن تعتد في بيت زوجها، ولم يستثن من هذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد 1/ 435 برقم 1274. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 217 برقم 25862، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 191، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 6/ 21 برقم 29164 جزءا منه، ونحوه إسحاق بن راهويه في مسنده 3/ 933 برقم 1634.

الحكم إلا فاطمة بنت قيس (ض)، حيث طلقها زوجها، وانتقلت إلى بيت آخر واعتدت هناك، فكانت فاطمة تستدل بقصتها على جواز انتقال المطلقة من بيت زوجها واعتدادها خارجه، فنقل عبد الرحمن بن الحكم ابنته من بيت زوجها استنادا إلى قصة فاطمة، فلما أخبرت عائشة (ض) بذلك أرسلت إلى مروان بن الحكم وهو أمير المدينة: ((اتق الله وارددها إلى بيتها، فقال مروان: إن عبد الرحمن بن الحكم غلبني، وفي رواية: قال: أو ما بلغك شأن فاطمة ابنة قيس؟ قالت: لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة، وأضافت قائلة: إن فاطمة كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص لها النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1). ولما فتح المسلمون بلاد العجم تعرفوا على بعض الأسماء الحديثة والأصناف الجديدة من الخمور، ومنها كانت ((بادق)) أي ((باده)) وكانت الخمر في اللغة العربية تطلق على أصناف خاصة وأنواع متميزة، فتساءل الناس عن حكم هذه الأصناف الحديثة هل هي داخلة في معنى الخمر أم لا؟ فأعلنت عائشة في مجلسها تحريمها، تقول كريمة بنت همام: ((سمعت عائشة أم المؤمنين تقول: نهيتم عن الدباء، نهيتم عن الحنتم، نهيتم عن المزفت، ثم أقبلت على النساء فقالت: إياكن والجر الأخضر، وإن أسكركن ماء حبكن فلا تشربنه (¬2). وبطبيعة الحال كان معظم من يدخل عليها من صنف النساء، فيستفتينها في أمور دينهن فترشدهن أم المؤمنين عائشة (ض) إلى الحق وتقدم لهن حلول مشاكلهن، وتطلب منهن أن يبلغن أزواجهن بذلك. فذات مرة دخلت عليها نسوة من البصرة فقالت لهن: مرن أزواجكن يغسلوا عنهم أثر البول والخلاء، فإنا نستحيي أن ننهاهم عن ذلك، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله (¬3). ومرة أتتها أم محبة فقاك لها: ((يا أم المؤمنين أكنت تعرفين زيد بن ¬

_ (¬1) الحديث كله أخرجه البخاري في صحيحه برقمي 5322 و 5326، باب قصة فاطمة بنت قيس. (¬2) سنن النسائي باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب السكر برقم 5681. (¬3) مسند الإمام أحمد 95/ 6 برقم 24683 و 93/ 6 برقم 24667.

أرقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته جارية إلى عطائه بثمانمئة نسيئة، وإنه أراد بيعها فاشتريتها منه بستمئة نقدا، فقالت لها: بئس ما اشتريت وبئس ما اشترى، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب)) (¬1). ودخلت نسوة من أهل الشام على عائشة (ض) فقالت: أنتن اللاتي تدخلن الحمامات؟ قال رسول الله ((ما من امرأة وضعت ثيابها خارج بيتها إلا هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجلا)) (¬2). وقد كانت عائشة أم المؤمنين (ض) مأوى لمئات الآلاف من القلوب المسلمة، ولا سيما في موسم الحج حيث تحيط بها النسوة، وهي تمشي أمامهن مثل الإمام والقائد، وأثناء هذا المشي تقوم بأداء واجب الدعوة والإرشاد والإفتاء بكل دقة وبراعة. تقول ذفرة: كنت أمشي مع عائشة في نسوة بين الصفا والمروة، فرأيت امرأة عليها خميصة فيها صلب، فقالت لها عائشة: انزعي هذا من ثوبك، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رآه في ثوب قضبه (¬3). وكانت تمنع التحلي بالحلي التي يطلع منها الصوت، وكذلك أصوات الجرس، تقول بنانة مولاة عبد الرحمن بن حبان الأنصاري عن عائشة أم المؤمنين قالت: بينما هي عندها إذ دخل عليها بجارية عليها جلاجل يصوتن، فقالت: لا تدخلوها علي إلا أن تقطعوا جلاجلها، فسألتها بنانة عن ذلك فقالت: ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه جرس ولا تصحب رفقة فيها جرس)) (¬4). ودخلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة، وعلى حفصة خمار رقيق ((فشقته عائشة وكستها خمارا كثيفا)) (¬5). وإن مكاتبا لأم المؤمنين دخل عليها ببقية مكاتبته، فقالت له: ادخل ¬

_ (¬1) سنن البيهقي الكبرى 5/ 330 برقم 10580. (¬2) مسند الإمام أحمد 173/ 6 برقم 25446. (¬3) مسند الإمام أحمد 6/ 225 برقم 25923 و 6/ 140 برقم 25134. (¬4) مسند الإمام أحمد 242/ 6 برقم 26094، وكذلك أخرجه أبو داود في سننه باب ما جاء في الجلاجل رقم 4231، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب 4/ 40 برقم 4718. (¬5) موطأ الإمام مالك باب ما يكره للنساء لبسه من الثياب برقم 1625، والبيهقي في السنن الكبرى 235/ 2 رقم 3082.

مرتك هذه، فعليك الجهاد في سبيل الله، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما خالط قلب امرىء مسلم رهج في سبيل الله إلا حرم الله عليه النار)) (¬1). وذات مرة جاءها أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر فأساء الوضوء فقالت له عائشة: يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ويل للأعقاب من النار)) (¬2). وذات مرة نزلت عائشة أم المؤمنين (ض) على صفية أم طلحة الطلحات فرأت بنات لها يصلين بغير خمر قد حضن، فقالت عائشة: لا تصلين جارية منهن إلا في خمار، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل علي وكانت في حجري جارية، فألقى علي حقوه فقال: ((شقيه بين هذه وبين الفتاة التي في حجر أم سلمة، فإني لا أراها إلا قد حاضت)) (¬3). ويقول عروة: إن عائشة (ض) أتتها امرأة فقالت: إن ابنتي عروس مرضت فتمزق شعرها أفأصل فيه؟ فقالت: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواصلة والمستوصلة)) (¬4). وفي تلاوة القرآن يظن بعض الناس أن السرعة دليل على عظم الثواب وزيادة في الأجر فكلما يكون التالي مسرعا يكون ثوابه أعظم وأزيد، فجاء شخص إلى عائشة (ض) وسألها أن ناسا يقرؤون القرآن في الليلة مرة أو مرتين؟ فقالت: ((أولئك قرؤوا ولم يقرؤوا، كت أقوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة التمام، فكان يقرأ سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، فلا يمر بآية فيها تخوف إلا دعا الله عز وجل واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل ورغب إليه)) (¬5). وكان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلين من سفر حج، وكان فيهم ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد 6/ 85 برقم 24592. (¬2) مسند الإمام أحمد 6/ 258 برقم 26257 (¬3) مسند الإمام أحمد 96/ 6 برقم 24690. (¬4) مسند الإمام أحمد 6/ 111 برقم 24747. (¬5) مسند الإمام أحمد 92/ 6 برقم 24653.

أسيد بن حضير - أحد كبار الصحابة وأجلتهم - فلما وصلوا ذا الحليفة كان غلمان من الأنصار تلقوا أهليهم، فلقوا أسيد بن حضير فنعوا له امرأته فتقنع وجعل يبكي، فقالت له عائشة: ((غفر الله لك أنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولك من السابقة والقدم، مالك تبكي على امرأة؟)) (¬1). ومن المعروف أن الكعبة المشرفة تكسى كل عام كساء جديدا وينزع عنها الكساء القديم، وكان من عادة متولي الكعبة أنه كان يدفن الكساء القديم بعد نزعه منها لكي لا تصيبها يد نجسة، وإن شيبة بن عثمان هو الذي كان في يده مفتاح الكعبة، فدخل على عائشة (ض) فقال: ((يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تجتمع علينا فتكثر، فتعمد إلى آبار فنحتفرها فنعمقها ثم ندفن ثياب الكعبة فيها كي لا يلبسها الجنب والحائض)) فأدركت عائشة (ض) بفهمها روح الشريعة ومقاصدها أن هذا التعظيم لثياب الكعبة أمر غير شرعي، لم يأمر به الله تعالى ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويمكن أن يسبب ذلك إفساد العقائد في الزمن التالي، فقالت له: ((ما أحسنت ولبئس ما صنعت، إن ثياب الكعبة إذا نزعت منها لم يضرها أن يلبسها الجنب والحائض، ولكن بعها واجعل ثمنها في المساكين وفي سبيل الله)) (¬2)، ولعل تقطيع ثياب الكعبة بقطعات ثم بيعها صار بعد هذه الواقعة، وتمكن المسلمون من شرائها يتبركون بها وينظرون إليها بنظر الاحترام والإجلال، ولا شك أن فضل ذلك يرجع إلى عائشة (ض) التي فتحت باب اقتناء هذه البركة والحصول عليها؛ جاء شخص (يعتقد أنه أبو هريرة (ض) إلى المسجد النبوي بجانب حجرة عائشة (ض) وبدأ يحدث الناس بصوت عال حتى يسمعها، وكانت هي تصلي، فلما فرغت من صلاتها مر بها عروة فقالت له: ألا يعجبك أبو فلان جاء وجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) الحاكم في المستدرك 228/ 3 برقم 4927، وأورده الهيثمي في مجمع الزواد 9/ 308، وأحمد في المسند 4/ 352، وابن أبي شيبة في المصنف 7/ 376 برقم 36803. (¬2) البيهقي في السنن الكبرى 5/ 159 برقم 9512، والفاكهي في أخبار مكة 5/ 231 برقم 210، والزركشي في الإجابة ص 161.

يسمعني ذلك وكنت أسبح؟ فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسرد الحديث كسردكم)) (¬1). تقصد (ض) أنه لا بد من المطابقة بين القول والعمل، للذين يتدارسون الحديث النبوي، وإلا فلا يبقى له أي تأثير في قلوب المستمعين. ذات مرة كانت عائشة (ض) في الخيمة بمنى أيام الحج وكان الناس يأتونها لزيارتها فدخل عليها شباب من قريش وهم يضحكون فقالت: ما يضحككم؟ قالوا: فلان خر على طنب فسطاط، فكادت عنقه أو عينه أن تذهب، فقالت: لا تضحكوا، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة)) (¬2). ... ¬

_ (¬1) البخاري في صحيحه كتاب المناقب برقم 3568، ومسلم في صحيحه كتاب الزهد برقم 2493، وأبو داود في سننه كتاب العلم برقم 3654. (¬2) صحيح الإمام مسلم كتاب البر والصلة والآداب برقم 2572.

الفصل الخامس فضل عائشة ومننها على نساء العالمين

الفصل الخامس فضل عائشة ومننها على نساء العالمين بهذا الفصل نكون قد قطعنا آخر شوط من هذا الكتاب ووصلنا إلى نهاية مطافه, ولذا رأينا من المناسب أن يكون مسك ختام هذا السفر المختصر وخاتمته تلك الخدمات الجليلة والمآثر العظيمة التي قامت بها أم المؤمنين عائشة (ض) لصالح أخواتها من بنات حواء. وأكبر فضل وأعظم منة منت بها أم المؤمنين عائشة (ض) على سائر صنف الأنوثة هو أنها أثبتت للعالم أن المرأة المسلمة رغم كونها وراء الحجاب فإنها قادرة على القيام بكل المسؤوليات والواجبات، سواء كانت في مجال الدعوة والإرشاد أو الوعظ والنصيحة والتعليم والتربية أو ميدان السياسة والاجتماع، وبالجملة فإن حياة أم المؤمنين ميزان صادق لتلك المكانة والمرتبة التي أنعم بها الإسلام على المرأة، ونموذج حي للدرجة العالية التي تبوأتها المرأة في الشريعة الإسلامية، حيث رفعتها درجات فوق أرفع درجة بلغتها بين العرب أو بين الأمم الأخرى، وجاء الإسلام فبدأ من النهاية التي انتهت إليها آداب الحضارة والسعادة في معاملة المرأة، ووهبها منزلة من الرعاية لم تصل إليها أرفع النساء في أرفع البيوتات قبل الدعوة المحمدية، ولو كان هناك من الصحابة من يصدق عليهم خطاب ((مسيح الأمة المسلمة)) واستأهلوا أن يكونوا ((هارون)) العهد المحمدي، فالحمد لله على أنه يوجد في الصحابيات من كانت ((مريم)) الدين المحمدي. كانت الصابيات يعرضن قضاياهن على النبي - صلى الله عليه وسلم - بواسطة أم المؤمنين (ض) وهي تشفع لهن وتقف بجانبهن وتطالب بحقوقهن المشروعة الكاملة وتدافع عنهن، وإليها وحدها كانت تتطلع أبصار المستضعفات والمضطهدات، كما حدث مع زوجة عثمان بن مظعون (ض) حيث دخلت على

أم المؤمنين وهي باذة الهيئة، فسألتها: ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل ويصوم النهار، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت عائشة ذلك له، فلقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان فقال: ((يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفما لك في أسوة؟ فوالله إني أخشاكم لله وأحفظكم لحدوده)) (¬1) يعني أعطي كل ذي حق حقه، ومنه حق الزوجة. وكانت حولاء (ض) من الصحابيات اللاتي لا تنام بالليل، فمرت بأم المؤمنين عائشة (ض) فقالت للرسول - صلى الله عليه وسلم -: هذه الحولاء، وزعموا أنها لا تنام بالليل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لا تنام بالليل؟ خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا)) (¬2). وإن امرأة سرقت في غزوة الفتح فأتي بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أمر فقطعت يدها، فحسنت توبتها فتزوجت، وكانت تزور عائشة (ض) فيما بعد فترفع عائشة حاجتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، بينما قد لا ترضى غيرها أن تأتيها وتزورها. وجاءت صحابية إلى عائشة (ض) وقد ضربها زوجها وعليها خمار أخضر فشكت إليها وأرتها خضرة بجلدها، فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - والنساء ينصر بعضهن بعضا - قالت عائشة: ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات، لجلدها أشد خضرة من ثوبها، فلما سمع زوجها أنها قد أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ومعه ابنان له من غيرها، قالت: والله ما لي إليه من ذنب إلا أن ما معه ليس بأغنى عني من هذه، وأخذت هدبة من ثوبها، فقال: ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 226/ 6 برقم 25935، كما أخرجه الإمام ابن حبان في صحيحه 1/ 185، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 301، باب حق المرأة على الزوج، وكذلك في موارد الظمآن 313/ 1 برقم 1288، ورواه عبد الرزاق في مصنفه 6/ 68 - 167 رقم 10375. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 247/ 6 رقم 26137، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الصلاة برقم 784، وابن حبان في صحيحه 2/ 74 برقم 359، والبيهقي في السنن الكبرى 17/ 3 برقم 4513. (¬3) صحيح البخاري باب شهادة القاذف والسارق والزاني رقم 2648، وكتاب المغازي رقم 4304، وصحيح الإمام مسلم كتاب الحدود رقم 1688، وسنن النسائي كتاب قطع السارق برقم 4903.

الدفاع عن حقوق المرأة

((كذبت والله يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم ولكنها ناشز تريد رفاعة .. الحديث)) (¬1). الدفاع عن حقوق المرأة: وكانت أم المؤمنين (ض) زعيمة المدافعين عن المرأة وحقوقها، فكانت تنكر على كل من يتكلم بشيء ينال من كرامة المرأة أو يحط منزلتها، وعندما ذكر لها ما يقطع الصلاة من الكلب، والحمار، والمرأة قالت: ((إن المرأة إذا دابة سوء، بئس ما عدلتمونا بالحمار والكلب، ولقد رأيتني وأنا معترضة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتراض الجنازة وهو يصلي)) (¬2) وفي رواية: ((فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فضممتهما إلي ثم يسجد)) (¬3)، وفي هذا رد صريح على أولئك الفقهاء الذين يقولون بانتقاض الوضوء بمس المرأة، وقد ثار غضب أم المؤمنين (ض) عندما سمعت حديث أبي هريرة (ض) يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((إنما الطيرة في المرأة، والدابة، والدار)) فطارت شقة منها في السماء وشقة منها في الأرض وقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول، ولكن كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنما كان أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك)) (¬4). وهناك بعض الجوانب الفقهية والفروع والجزئيات التي اختلفت فيها آراء العلماء إلا أن عائشة (ض) اختارت فيها الجانب الذي يكون أكثر سهولة ويسرا للنساء، لأنها كانت أدرى بمثل هذه الحاجات من الرجال، ثم تخبرهن على ما تختاره من الكتاب والسنة. وبالتالي رجح الفقهاء آراءها في معظم الأحوال، وهي المعول عليها والمفتى بها في أغلب البلدان الإسلامية، ومن الأمثلة على ذلك: 1 - كان ابن عمرو (ض) يقول بوجوب نقض الضفائر للنساء عند ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب اللباس باب الثياب الخضر برقم 5825. (¬2) مسند الطيالسي 1/ 205 رقم 1458. (¬3) سنن أبي داود باب من قال المرأة لا تقطع الصلاة برقم 712. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 150 برقم 25209.

الاغتسال، فلما بلغ عائشة (ض) أن عبد الله بن عمرو بن العاص يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن فقالت: ((يا عجبا لابن عمرو، هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات)) (¬1). 2 - التحليق أو التقصير من واجبات الحج والعمرة، فما هو القدر الواجب في ذلك للنساء؟ كان ابن الزبير (ض) يفتي المرأة المحرمة أن تأخذ من شعرها قدر أربع أصابع، فلما سمعت عائشة (ض) بذلك قالت: ((ألا تعجبون من ابن الزبير، يفتي المرأة المحرمة أن تأخذ من شعرها أربع أصابع وإنما يكفيها من ذلك التطريف)) (¬2). 3 - يحرم على المحرم لبس الخفين إلا لمن لم يجد النعلين، فمن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين (¬3). فكان ابن عمر (ض) يفتي بقطع الخفين للمرأة المحرمة، ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد أن عائشة حدثتها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان رخص للنساء في الخفين، فترك ذلك (¬4). 4 - يحرم على المحرم استخدام الطيب في حالة الإحرام، فاستنتج منه بعض الصحابة منع التطيب عند الإحرام، فبلغ ذلك عائشة (ض) فقالت: ((كنا نخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهاها)) (¬5). 5 - روي عن ابن عمر (ض) أنه قال: ((لا تنتقب المحرمة)) (¬6) (كانت ¬

_ (¬1) صحيح الإمام مسلم باب حكم ضفائر المغتسلة برقم 331. (¬2) ذكره الزركشي في الإجابة ص 155 نقلا عن كتاب الإمام أحمد بن حنبل ((المناسك الكبير)). (¬3) .......... سنن أبي داود باب ما يلبس المحرم برقم 1823. (¬4) .......... سنن أبي داود باب ما يلبس المحرم برقم 1831. (¬5) .......... سنن أبي داود باب ما يلبس المحرم برقم 1830. (¬6) .......... سنن أبي داود ما يلبس المحرم برقم 1826/ 1825.

النساء والعرب ينتقبون اتقاء من الحر الشديد) لكن مواظبة النساء على ذالك كان أمرا صعبا، فقالت عائشة (ض): ((كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه)) (¬1) فكانت النساء في القرن الأول يعملن بقول عائشة (ض)، تقول فاطمة بنت المنذر: ((كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق (ض))) (¬2). 6 - عن عبد الله بن عمر (ض) أنه قال: قام رجل فقال: يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لا تلبسوا القميص ولا السراويلات ولا العمائم ولا البرانس، إلا أن يكون ليست له نعلان فليلبس الخفين، وليقطع أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئا مسه زعفران ولا الورس)) (¬3). فاستدل بعض الصحابة بهذا الحديث على منع النساء من لبس الثياب المصبوغة بالزعفران، إلا أن ما يظهر بعد إمعان النظر في الحديث أن الخطاب يرجع إلى الرجال دون النساء، كما أن الحديث جواب لسؤال سأله رجل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك نرى أن عائشة (ض) لبست الثياب المعصفرة, وهي محرمة، بل إنها لا ترى بأسا بالحلي والثوب الأسود والمورد والخف للمرأة (¬4). 7 - اختلف العلماء في زكاة حلي الذهب والفضة، فذهب عبد الله بن مسعود (ض) وغير واحد من أهل العلم من الصحابة والتابعين إلى وجوب الزكاة، وهو اختيار الأحناف، بينما ذهب ابن عمر، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله (ض) إلى عدم وجوب الزكاة. وهو اختيار مالك، والشافعي، وأحمد، ومعروف أن الحلي من الأشياء التي لها صلة بالنساء في ¬

_ (¬1) سنن أبي داود باب في المحرمة تغطي وجهها برقم 1833. (¬2) موطأ الإمام مالك باب تخمير المحرم وجهه برقم 726. (¬3) صحيح البخاري باب ما لا يلبس المحرم من الثياب برقم 1542 وبرقم 1838. (¬4) صحيح البخاري ترجمة الباب في كتاب الحج.

الأغلب، فيكون رأي عائشة (ض) هو المعول عليه في هذا الموضوع، إلا أنه لم يرد عنها نص صريح أو عمل ظاهر بصدد هذا الموضوع، ففي جانب روى الإمام مالك في الموطأ عن القاسم ((أن عائشة (ض) كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي، فلا تخرج من حليهن الزكاة)) (¬1). وفي جانب آخر روى الإمام أبو داود، والدارقطني عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: ((دخلنا على عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، قال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: هو حسبك من النار)) (¬2) ومن المستحيل أنها لا تؤدي زكاتها ¬

_ (¬1) موطأ الإمام مالك باب ما لا زكاة فيه من الحلي والتبر والعنبر برقم 586، وانظر سنن الترمذي باب ما جاء في زكاة الحلي تحت حديث رقم 636. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه باب الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي برقم 1565، والدارقطني في سننه باب زكاة الحلي 2/ 105، والبيهقي في السنن الكبرى 139/ 4 برقم 7339. هذا وقد روي الحديث من طريق محمد بن عطاء عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال الدارقطني عن محمد بن عطاء: هذا مجهول، لكن صرح أبو داود أنه محمد بن عمرو بن عطاء، وهو مشهور، فلا يصح تجريح الدارقطني له، وقال الإمام الترمذي عن حديثه في زكاة الحلي: ولا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء، ولكن روى الدارقطني عن فاطمة بنت قيس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((في الحلي زكاة)) (107/ 2) وأخرج الترمذي أن امرأتين أتتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي أيديهما سواران من ذهب، فقال لهما: ((أتؤديان زكاته؟ قالتا: لا، قال: فأديا زكاته)) قال أبو عيسى: هذا حديث رواه المثنى عن عمرو بن شعيب نحو هذا، والمثنى وابن لهيعة يضعفان في الحديث، (سنن الترمذي برقم 637) إلا أنه توجد روايات أخرى تؤيد هذا المعنى. وعلى كل فقد اختلف أهل العلم في ذلك من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين، ودلائل كلا الفريقين موجودة ومبسوطة في كتب الفقه، وأكبر دليل على وجوب الزكاة في الحلي هو ورود الوعيد الشديد للذين يكنزون الذهب والفضة ولا يؤدون زكاتهما، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية وأخرج أبو داود في سننه عن أم سلمة (ض) قالت: كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: ((ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز)) (باب الكنز ما هو وزكاة الحلي برقم 1564) وقد اتضح معنى الكنز وتفسيره من هذا الحديث، كما فيه دلالة على أن الحلي وإن كانت للاستعمال فإنها إذا لم تؤد زكاتها فهي من الكنز، وتستوجب الوعيد الشديد الوارد في القرآن الكريم.

بعد سماع هذا الوعيد الشديد، ولذا أخرج الإمام الدارقطني في سننه عن عائشة (ض) قولها: ((لا بأس بلبس الحلي إذا أعطي زكاته)) (¬1) وهذا يدل على أنها كانت ترى وجوب الزكاة في الحلي، أما ما روي عنها أنها لم تكن تودي زكاة حلي بنات أخيها اللاتي كن في حجرها، فيمكن القول أنها لا ترى إيجاب الزكاة على الصغار كما هو مذهب كثير من الصحابة والتابعين. لكن يرد عليه ما روي عنها في موطأ الإمام مالك أيضا أنها كانت تخرج الزكاة عن أموال اليتامى الذين كانوا في حجرها، فيجاب عن هذا أنها لا ترى وجوب الزكاة في أموال الصغار بل تقول باستحباب الزكاة، لأن حلي الصغار كانت موجودة بعينها ولم تحولها إلى العروض ولا أعطتها لمن يتجر فيها حتى تزداد قيمتها بالتجارة والبيع والشراء، كما أن البنات كن في حاجة إليها، فكانت عائشة ترى من المناسب أن لا تنقص قيمتها بأداء الزكاة، وأما أموال اليتامى الذين كانوا في حجرها، فإنها قد سلمتها إلى من يتجر فيها فترى من المناسب أن تؤدى زكاتها. 8 - لو أراد القاتل دفع الدية لأولياء المقتول فعليه أن يسترضي جميع الأولياء، الأول فالأول، تقول عائشة (ض): على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة (¬2). تعني أن المرأة إذا كانت أحد الأولياء فينبغي أن تكف أيضا عن القود، فليس هذا خاصا بالرجال فقط، وذلك لأن حق الوراثة ليس بخاص بالرجال. 9 - أثبت الإسلام تقديره للمرأة ورعايته لحقوقها بإعطائها حق الميراث، خلافا لما كان عليه عرب الجاهلية وكثير من الشعوب القديمة الذين كانوا يحرمونها منه، أما في الإسلام فقد تولى القرآن الكريم بنفسه بيان معظم قضايا الميراث، بما فيها تفاصيل عن أسهم البنات، إلا أن هناك بعض القضايا ¬

_ (¬1) سنن الدارقطي 2/ 107 برقم 5، باب ما أدي زكاة الحلي. (¬2) سنن أبي داود كتاب الديات باب عفو النساء برقم 4538، وسنن النسائي كتاب القسامة برقم 4788.

المسجدة في هذا الصدد قد دعت الحاجة إلى بذل مزيد من الجهود وإعمال الفكر لاستنباط الأحكام الشرعية مستمدة من الكتاب والسنة، فلعبت عائشة (ض) دورا رائدا وملموسا في هذا المجال، ولم تأل جهدا في إثبات حقوق المرأة المسلمة. ومن صور تقسيم الميراث: ((إذا خلف الميت ابنتين وابنة ابن وابن ابن فكيف يقسم المال بينهم؟ كانت عائشة (ض) تشرك بين ابنتين وابنة ابن وابن ابن، فتعطي الابنتين الثلثين وما بقي فتشركهم، وكان عبد الله بن مسعود (ض) لا يشرك، يعطي الذكور دون الإناث)) (¬1). 10 - كان النساء يقدمن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للاستفسار عن المسائل بعضها يكون من القضايا الدقيقة قد يصعب شرحها على عامة النساء، وكان - صلى الله عليه وسلم - يمنعه الحياء عن التفصيل في سائر الجزئيات، فكانت عائشة (ض) هي التي تعين أخواتها على فهم هذه المسائل، وتجذبها إليها ثم تعلمها (¬2). وكان العرب يفتخرون بإطالة الذيول، وجر الثوب خيلاء، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وقال: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) (¬3) فقالت عائشة (ض): ((فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبرا، فقالت: إذا تنكشف أقدامهن؟ قال: فيرخيته ذراعا، لا يزدن عليه)) (¬4). ¬

_ (¬1) سنن الدارمي كتاب الفرائض برقم 2893. (¬2) أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة (ض) أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحيض كيف تغتسل منه، قال: تأخذين فرصة ممسكة ... قالت عائشة: ((فعرفت الذي يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجذبتها إلي فعلمتها)). (صحيح البخاري كتاب الحيض برقم 315، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة برقم 7357، وسنن النسائي كتاب الغسل والتيمم برقم 427). (¬3) صحيح البخاري كتاب المناقب رقم 3665، وكتاب اللباس برقم 5783 و 5784، ومسلم في صحيحه باب تحريم جر الثوب خيلاء رقم 2085. (¬4) أخرجه الإمام الترمذي باب ما جاء في جر ذيول النساء برقم 1731، وفيه أن أم سلمة هي التي سألت وليست عائشة (ض)، وقد ورد في الروايات الأخرى أن عائشة هي التي سألت، ويمكن التطبيق بالجمع، كما أورده الهيثمي في موارد الظمآن =

11 - أمر الإسلام بأن تستأذن البنات عند نكاحهن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن)) إلا أن البكر يصعب عليها الإعراب عن رضاها ورغبتها بلسانها نظرا إلى حيائها الطبيعي والفطري، وقد أحست بذلك أم المؤمنين عائشة (ض) فقالت للرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((يا رسول الله إن البكر تستحي، قال: رضاها صمتها)) (¬1). 12 - يزوج بعض أولياء الأمور بناتهن من دون رضاهن، وقد حدث ذلك في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، تقول عائشة (ض): ((إن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء)) (¬2). 13 - من طلق زوجته طلقة أو طلقتين، تجب عليه نفقتها وسكناها إلى أن تنقضي عدتها، وهذا بإجماع العلماء، لكن إذا طلقها ثلاثا اختلف العلماء في وجوب النفقة والسكنى على الزوج؟ فقال بعض العلماء بعدم وجوب النفقة والسكنى عليه، واستدلوا بقوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] في سياق قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] أي أن الحكمة من الأمر بعدم إخراج المطلقة المعتدة من بيت زوجها إلى بيت آخر هي أمل حصول الصلح بينهما بعد إزالة البغضاء والشحناء، لكن لما ¬

_ = 1/ 350 برقم 1451، ورواه الدارمي في سننه باب ذيول النساء برقم 2644، وأبو داود في سننه باب في قدر الذيل برقم 4117، والنسائي في السنن الكبرى 5/ 494 برقم 9737، 9738، 9739، وابن ماجه في سننه باب ذيل المرأة كم يكون برقم 3580، وأحمد في مسنده 123/ 6 برقم 24962 و 293/ 6 برقم 26554. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح برقم 5137. (¬2) أخرجه النساني في سننه باب البكر يزوجها أبوها وهي كارهة برقم 3269، والدارقطني في سننه 3/ 232 كتاب النكاح، وابن ماجه في سننه باب من زوج ابنته وهي كارهة برقم 1874، وعبد الرزاق في المصنف 146/ 6 برقم 10302.

طلقها ثلاثا لم يبق أي أمل في رجوعها، ولذا انعدمت علة السكنى في بيت الزوج، فعلم أن الحكم متعلق بالطلاق الرجعي لا البائن، لكن في هذا الاستدلال نظر، لأن الإقامة في بيت الزوح إلى انقضاء العدة بأمل إيجاد الصلح بينهما وترك الفرصة الكافية لإعادة الصفاء بين الزوجين بعد أن تهدأ أعصاب كل منهما، ويريان نتيجة الانفصال وآثاره السيئة على حياتهما فلعلهما يعودان عن الخصام والنزاع ويعود الهدوء والحب إلى جو الأسرة، ليس هذا هو السبب الكلي فقط، وإنما هناك حكم ومصالح أخرى غير ذلك، ومنها أن المرأة تنتظر لتبرئة الرحم من الحمل، ولا يمكنها أن تتزوح إلا بعد انقضاء عدتها لكي يتحقق أن رحمها خال من أي حمل، ولا شك أن هذا الانتظار كان من أجل الزوح، وبالتالي فهو الذي يتحمل نفقتها وسكناها، وهذا هو الأمر الذي دفع عائشة (ض) إلى مخالفتها لاستدلال فاطمة بنت قيس بقصتها على جواز الانتقال من بيت الزوج، فقالت: ((ما لفاطمة بنت قيس خير في أن تذكر هذا الحديث)) (¬1) وفي رواية البخاري: ((أما أنه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث)) وقالت: ((إن فاطمة كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها فلذلك أرخص لها النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ولما حدثت نفس الواقعة في عهد مروان أرسلت عائشة إلى مروان بن الحكم وهو أمير المدينة: اتق الله وارددها إلى بيتها (¬3). كما ورد في بعض الروايات أن فاطمة بنت قيس كانت امرأة فتنت الناس، إنها كانت لسنة، فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى)) (¬4). 14 - إن المتوفى عنها زوجها تمكث مدة أربعة أشهر وعشرا، ولا تخرج من بيتها، فاستنبط منه بعض العلماء أنها لو كانت مع زوجها تعتد حيث مات ¬

_ (¬1) صحيح مسلم كتاب الطلاق برقم 1481. (¬2) صحيح البخاري باب قصة فاطمة بنت قيس برقم 5326. (¬3) صحيح البخاري باب قصة فاطمة بنت قيس برقم 5322. (¬4) سنن أبي داود كتاب الطلاق برقم 2296، السنن الكبرى للبيهقي 433/ 7 برقم 15270، المصنف لعبد الرزاق 284/ 2 برقم 4174 و 26/ 7 برقم 12038.

زوجها، فإن لم تكن معه فتعتد حيث يأتيها نعي زوجها، ويحرم عليها السفر في هذه الحالة، واحتجوا بما وردت الأحاديث في المنع من خروج المتوفى عنها زوجها من بيتها، وبلدها، ومن تلك الأحاديث: حديث فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قالت: خرج زوجي في طلب أعبد له فأدركهم بطرف القدوم فقتلوه، فأتاني نعيه وأنا في دار شاسعة من دور أهلي، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ((إنه أتاني نعي زوجي وأنا في دار شاسعة من دور أهلي لم يدع لي نفقة ولا مالا، وليس المسكن لي، ولو تحولت إلى إخوتي وأهلي كان أرفق بي في بعض شأني، فقال: تحولي، فلما خرجت إلى المسجد أو الحجرة دعاني أو أمر بي فدعيت له، فقال: امكثى في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله، فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشرا)) (¬1) فاستدلوا بهذا الحديث وأمثاله على منع الخروج من البيت، والمفروض أن يثبتوا عدم جواز الانتقال إلى البيت إذا كانت خارجة وكذلك عدم العودة إلى البلد إذا كانت خارجها. ولذلك نرى أم المؤمنين عائشة (ض) لم تسلم لهم بهذا الاستدلال، وأخرجت أختها أم كلثوم في عدتها حين قتل عنها طلحة بن عبيد الله، فأخرجتها إلى مكة (¬2)، ولما حدث بهذا أيوب فقال: إنها نقلتها إلى بلادها (¬3). والواقع أن هذا كان جوابا صحيحا، لأننا لو تأملنا في ضوء الوقائع التاريخية لوجدنا أن أم المؤمنين عائشة (ض) لو لم توضح هذه المسألة لوقعت النساء في مشكلة وواجهت صعوبات كثيرة. ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك 226/ 2 برقم 2833، والبيهقي في السنن الكبرى باب سكن المتوفى عنها زوجها 434/ 7 برقم 15274، والنسائي في السنن الكبرى 3/ 393 برقم 5722، وابن أبي شيبة في المصف 4/ 155. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 29/ 7 برقم 12054، والطحاوي في شرح معاني الآثار 81/ 3، وابن عبد البر في التمهيد 32/ 2، وابن سعد في الطبقات الكبرى 8/ 462. (¬3) الطبقات الكبرى لابن سعد 462/ 8.

15 - كما هو معلوم إن الطلاق أبغض المباحات إلى الله تعالى، وآخر وسيلة يرجع إليها الإنسان في الحياة الزوجية، فكان ينبغي تقليل نسبة وقوعه، وتضييق نطاقه إلى أقصى حد ممكن، ولو خير الزوج زوجته بين البقاء والمفارقة فاختارت زوجها فماذا يكون الحكم؟ يرى بعض أهل العلم من الصحابة وقوع طلاق واحد، ولما بلغ ذلك عائشة (ض) أنكرت هذه الفتوى بشدة وقالت: خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترناه أفكان طلاقا (¬1)؟. كما أن القول بوقوع الطلاق لا يأتي من الأخلاق في شيء، ففيه جرح لشعور الحب والإخلاص والوفاء الذي دفع الزوجة لاختيار زوجها، وكسر لخواطر صنف القوارير، ورد الجميل بالسيء، ووصمة عار في المجتمع، ولذلك نرى أن جمهور الفقهاء والمحدثين اختاروا قول عائشة (ض) وأفتوا به. 16 - لو أكره أحد على تطليق زوجته وهدد بالقتل أو التعذيب لا يقع عليها الطلاق عند عائشة (ض)، تقول (ض): ((لا طلاق في إغلاق)) (¬2) وفي رواية: ((لا طلاق في غلاق)) (¬3) وقد سلم بهذا الأصل سائر الفقهاء والمحدثين، سوى الإمام أبي حنيفة (ح)، وفعلا لو لم يكن هذا الأصل من أحكام ديننا الإسلامي الحنيف لصعب على المحصنات الغافلات ذوات الشرف والعزة التخلص من أيدي الجبابرة والمتكبرين من السلاطين والأمراء. 17 - كان من ضمن أغلال الطقوس وسلاسل التقاليد والعادات التي أثقلت أعناق النساء في الجاهلية عدم تحديد عدد الطلاق، وكذلك عدم تحديد مدة الرجعة بعد الطلاق، فكان الرجل يطلق أهله ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة، وإن طلقها مئة مرة أو أكثر، حتى قال رجل ¬

_ (¬1) سنن الترمذي كتاب الطلاق واللعان برقم 1179، والبخاري في صحيحه كتاب الطلاق برقم 5262. (¬2) سنن ابن ماجه كتاب الطلاق برقم 2046، مستدرك الحاكم 2/ 216 برقم 2802 و 2803، وسنن البيهقي الكبرى 7/ 357 برقم 14874، وسنن الدارقطتي 36/ 4. (¬3) سنن أبي داود كتاب الطلاق رقم 2193.

لامرأته: والله لا أطلقك فتبينين مني ولا آويك أبدا، قالت: وكيف ذاك؟ قال: أطلقك، فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة (ض) فأخبرتها فسكتت عائشة حتى جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل القرآن: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] قالت عائشة: ((فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا من كان طلق ومن لم يكن طلق)) (¬1). 18 - إن موسم الحج يدخل في بداية الشهر، وهذه الفترة بالذات تكون فترة انشغال معظم النساء بالعذر الشرعي، فإن منعن من أداء مناسك الحج إلى أن يطهرن ستتحول ساحات الحج، والعمرة إلى ساحة القيامة، وتضطر الآلاف من النساء لانتظار انقطاع الدم وحصول الطهارة أو أداء المناسك ناقصة، وكذلك أقاربهن وأولياء أمورهن سوف يضطرون للبقاء معهن، وكلتا الصورتين فيهما من المعاناة والمشكلات للنساء ما لا يمكنهن تحمله. لكن عائشة (ض) قد حلت هذه العقدة وكشفت هذه الغمة بنفسها حيث إنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الموضوع، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عائشة: افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري (¬2)، وإن حدث هذا العذر قريبا من يوم النحر فيسقط عنها طواف الوداع، ولذلك نرى أن أم المؤمنين عائشة (ض) إذا حجت ومعها نساء تخاف أن يحضن قدمتهن يوم النحر فأفضن، فإن حضن بعد ذلك لم تنتظرهن فتنفر بهن وهن حيض إذا كن قد أفضن)) (¬3) وقد خالفها في هذه المسألة من الصحابة زيد، وابن عمر، وعمر (ض)، وقد ¬

_ (¬1) سنن الترمذي كتاب الطلاق واللعان رقم 1192، ومستدرك الحاكم 2/ 307 برقم 3106، وموطأ الإمام مالك 2/ 588 رقم 1222، والسنن الكبرى للبيهقي 7/ 444 برقم 15337. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الحيض برقم 305، وكتاب الحج برقم 1650، ومسلم في صحيحه كتا ب الحج برقم 1211، ومالك في الموطأ كتاب الحج برقم 941، والدارمي في سننه كتاب المناسك برقم 1846. (¬3) موطأ الإمام مالك كتاب الحج برقم 944.

مكانة عائشة وفضلها في عالم النساء

ثبت رجع زيد، وابن عمر (ض) إلى رأيها، أما عمر (ض) فثبت على رأيه ولم يرجع عنه، حتى إنه قد حبس امرأة قد حاضت في مكة إلى أن طهرت (¬1). فلما بلغ ذلك عائشة (ض) قالت: ((إن كان ذلك لا ينفعهن، ولو كان الذي يقولون لأصبح بمنى أكثر من ستة آلاف امرأة حائض كلهن قد أفاضت)) (¬2) ولا شك أن الرأي الذي يميل إليه كل واحد هو رأي عائشة (ض) وهو أحق وأجدر بالقبول, ولو لم دكن عائشة بمثابة المرجع والمصدر في مثل هذه المسائل فمن يكون؟ مكانة عائشة وفضلها في عالم النساء: ها نحن الآن على وشك إكمال دراسة سيرة العبقرية الفذة أم المؤمنين عائشة الصديقة (ض)، وقد بدت لنا من خلال هذه الصفحات معالم حياتها المقدسة ووقائعها جملة وتفصيلا: ولا شك أن كلنا عنده إلمام بأحوال وأخبار مئات نساء العالم العظيمات ذوات الشأن الرفيع والدرجات العالية، كما أن كتب التاريخ والسير سجلت لنا تراجم نساء العالم اللاتي اشتهرن على السدة العالمية بخصائصهن، وذاع صيتهن في الأوساط العلمية والثقافية، ولكن هل قارنا بين هذه وتلك؟ إن لدينا من قائمة النساء المعروفات غير المسلمات معظمهن من أولئك اللاتي قمن عن طريق المصادفة بعمل يفوق مستوى طبيعتهن، وأصبح ذلك العمل هو السبب الرئيس والأصيل لكسبهن شهرة عظيمة، ونيلهن صيتا ذائعا، فنجد مثلا امرأة نهضت فخطبت خطبة بليغة سحرت بها قلوب الناس، وحركت أوتار خاطرهم، ونفخت فيهم روحا جديدة من الثورة والمقاومة، أو أفشلت مؤامرة عدو بتدابير خاصة، أو نالت الفوز، ورافقها النجاح في ضرب ¬

_ (¬1) روى ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: ((طافت امرأة بالبيت يوم النحر ثم حاضت فأمر عمر بحبسها بمكة بعد أن سافر الناس حتى تطهر وتطوف)) (شرح الزرقاني على الموطأ 502/ 2). (¬2) الزرقاني على الموطأ باب إفاضة الحائض.

العدو ونكايته، فهذه هي الأسباب المباشرة التي جعلتها تشتهر بين الناس، وينال اسمها بقاء سرمديا وتاريخيا. فهل من المعقول أن نقارن بين هذه الأعمال التي حصلت بطريقة المصادفة ولفترة مؤقتة، تلك الأعمال والمآثر التي كانت حصلت على وجه الدوام والاستمرار؟ إن لدينا نماذج من النساء الجميلات اللاتي كن ملكات الحسن والجمال وغاية في الروعة والبهاء، متوجات بالتاج الملكي، متمكنات من العرش، لكن كيف كانت نهاية هؤلاء؟ لو تأملنا وأمعنا النظر في تراثنا التاريخي لوجدنا أن نهاية مطافهن كانت الفشل والتحسر، لا غير، وتاريخ بلاد مصر، وإيران، والروم خير دليل على ما قلناه. ألا تكون المقارنة بين حياة هذه وتلك التي كانت حياتها حياة نموذجية ناجحة مقدسة سوء أدب؟ بلى. ... وبصرف النظر عن هذه الجوانب العامة إذا تأملنا في حياة هذه العبقرية أم المؤمنين عائشة (ض) من ناحية الدين والشرع والخلق والتبجيل والقدسية فيتجلى لنا أنه لا يدانيها ولا يعدلها أي شهيرة من شهيرات عالم النساء في هذه الخصائص، بل لا نحسب أن امرأة بلغت شأوها من معاصريها أو بعدها في هذه الميزات، إن سجلات التاريخ البشري عاجزة عن تقديم أي مثال للمرأة غير أم المؤمنين عائشة (ض) التي قامت بأداء كل الواجبات العلمية، ونهضت بأمانة التبليغ والتعليم أحسن نهوض وأوفاه، ولعبت دورا بارزا ملموسا في الأمور السياسية والاجتماعية بالإضافة إلى المواظبة على الفراص الدينية، والشرعية والحفاظ على الأخلاق النبيلة والسلوك الحسن القويم. هذه هي شخصية أم المؤمنين (ض) التي اتصفت بهذه الصفات العالية وقدمت أمام أكثر من مئة مليون امرأة أسوة حسنة لحياة مثالية كاملة، ورسمت

لكل من أتى بعدها أمثل الطرق وأنفعها، وذلك بمآثرها الخالدة، وعبادتها وخضوعها أمام الباري تعالى، والمثل الحية والأساليب العملية للأخلاق الرفيعة الفاضلة وتعليمات التزكية والزهد، وشرح الأحكام الدينية والأمور الشرعية شرحا تفصيليا، فلها المن والفضل من جميع النواحي الدينية والعلمية والاجتماعية على هذا العدد الهائل من صنف النساء. وعلى هذا لا يوجد أحد في تاريخ النساء المسلمات من يستأهل أن يذكر بإزائها في المرتبة والشرف والمكانة العالية، سوى الأزواج المطهرات وبنات النبي - صلى الله عليه وسلم - الطاهرات رضوان الله عليهن أجمعين. وقد أجمع العلماء على أن أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، والسيدة فاطمة الزهراء، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهن أجمعين هن خير نساء العالم وأفضلهن إطلاقا، أما جمهور العلماء فيرون أن السيدة فاطمة الزهراء (ض) هي في المرتبة الأولى، ثم تليها أم المؤمنين خديجة بنت خويلد (ض) ثم تليها أم المؤمنين عائشة (ض)، إلا أن هذا الترتيب لا يستند إلى نص صريح أو حديث صحيح ثابت، بل مرجعه اجتهاد العلماء ووجهات نظرهم الخاصة، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة مناقب وفضائل هؤلاء العبقريات الثلاث. ولذلك اختار بعض العلماء التوقف في مسألة التفضيل بينهن، بينما خالف العلامة ابن حزم (ح) في هذه المسألة كل العلماء وزعم أن أم المؤمنين عائشة (ض) أفضل الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس في النساء فحسب بل في الرجال كذلك. وبرهن على دعواه بأدلة وحجج أوردها في كتابه ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) مبحث فضائل الصحابة. وأنا أميل في هذه المسألة إلى رأي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم اللذين يقولان: إن جهات الفضل بينهما متفاوتة كما قاله ابن تيمية، قال في الفتح: وكأنه رأى التوقف، وقال ابن القيم: إن أريد بالفضل كثرة الثواب عند الله فذلك أمر لا يطلع عليه، فإن عمل القلوب أفضل من عمل الجوارح، وإن أريد كثرة العلم فعائشة لا محالة، أو شرف الأصل ففاطمة لا

محالة، وهي فضيلة لا يشاركها فيه غير أخواتها، أو شرف السيادة فقد ثبت النص لفاطمة وحدها)) (¬1). وبالرغم من أننا نعرف مكانة السيدة ((مريم عليها السلام)) وقدسيتها عن طريق الإسلام، لكن روايات الإنجيل عاجزة عن أن تميزها بعمل ما، وكذلك زوجة فرعون ((آسية)) قد استحقت الفضيلة والشرف في الشريعة الإسلامية، إلا أن التوراة ساكتة عن إظهار شرفها وفضلها ومكانتها، ولذا فإننا نؤمن بشرفهما وفضلهما إجمالا، لكن لسان التاريخ والوقائع ساكت عن التعبير عن أي مناقب لها، وعلى كل فمن أصدق قولا وأعدل حكما من لسان الوحي المعصوم الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: عن أبي موسى الأشعري (ض) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) (¬2). اللهم صل على محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الكرام وأزواجه المطهرات)). ... ¬

_ (¬1) شرح الإمام العلامة محمد بن عبد الباقي الزرقاني المالكي على المواهب اللدنية للعلامة القسطلاني 226/ 3. (¬2) صحيح البخاري كتاب أحاديث الأنبياء برقم 3411، كتاب المناقب برقم 3769، كتاب الأطعمة برقم 5418، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة برقم 2431، سنن الترمذي كتاب الأطعمة برقم 1834، سنن ابن ماجه كتاب الأطعمة برقم 3280.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع

_ 1 - الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة: للإمام بدر الدين الزركشي، ت: سعيد الأفغاني، ط: المطبعة الهاشمية بدمشق 1358هـ. 2 - الآحاد والمثاني: لأحمد بن عمرو بن الضحاك أبي بكر الشيباني، ت: د. باسم فيصل الجوابرة، ط: دار الراية، الرياض 1411هـ. 3 - الأحاديث المختارة: للإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي، ت: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، ط: مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة 1410هـ. 4 - إحياء علوم الدين: للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، ط: دار الكتب العلمية، بيروت 1419هـ. 5 - الأخبار الطوال: لأبي حنيفة أحمد داود الدينوري، ت: عبد المنعم عامر، ط: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة 1960م. 6 - أدب الإملاء والاستملاء: لعبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني، ت: ماكس فايسفايلر، ط: دار الكتب العلمية، بيروت 1401هـ. 7 - الأدب المفرد: للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، ط: دار البشائر الإسلامية، بيروت 1409هـ. 8 - أسد الغابة في معرفة الصحابة: لعز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري المعروف بابن الأثير، ط: المطبعة الإسلامية بطهران. 9 - الإصابة: للإمام أحمد بن علي بن حجر أبي الفضل العسقلاني الشافعي، ت: البجاوي، ط: دار الجيل، بيروت 1412هـ. 10 - إعلام الموقعين عن رب العالمين: للإمام ابن قيم الجوزية، ط: دار الجيل، بيروت 1971م. 11 - الأمالي: للحسين بن إسماعيل الضبي المحاملي، ت: د. إبراهيم القيسي، ط: المكتبة الإسلامية، عمان - الأردن 1412هـ.

_ 12 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب: للإمام يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي، ت: علي محمد البجاوي، ط: دار الجيل، بيروت 1412هـ. 13 - البداية والنهاية: للإمام أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، ط: مكتبة المعارف، بيروت. 14 - بلاغات النساء: لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور الخراساني، ت: د. عبد الحميد الهنداوي، ط: دار الفضيلة، القاهرة. 15 - تاريخ الخلفاء: للإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ت: محمد محي الدين عبد الحميد، ط: المكتبة التجارية الكبرى، مصر. 16 - التاريخ الصغير: للإمام البخاري، ت: محمود إبراهيم زايد، ط: مكتبة التراث، القاهرة 1379هـ. 17 - تاريخ الطبري: للإمام محمد بن جرير أبي جعفر الطبري، ط: دار الكتب العلمية، بيروت 1407هـ. 18 - التاريخ الكبير: للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، ت: السيد هاشم الندوي، ط: دار الفكر. 19 - تاريخ بغداد: لأحمد بن علي أبي بكر الخطيب البغدادي، ط: دار الكتب العلمية، بيروت. 20 - تذكرة الحفاظ: للإمام أبي عبد الله شمس الدين الذهبي، ط: مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد، الدكن - الهند 1375هـ. 21 - الترغيب والترهيب: للإمام عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، ت: إبراهيم شمس الدين، ط: دار الكتب العلمية 1417هـ. 22 - تفسير القرطبي: للإمام محمد بن أحمد بن أبي بكر أبي عبد الله القرطبي، ت: أحمد عبد العليم البردوني، ط: دار الشعب، القاهرة 1372هـ. 23 - التمهيد: للإمام يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري أبي عمر، ت: العلوي والبكري، ط: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب 1387هـ. 24 - تهذيب التهذيب: للإمام الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ط: دار الفكر، بيروت 1404هـ. 25 - الجامع الصغير: للإمام جلال الدين السيوطي، ط: جدة المملكة العربية السعودية.

_ 26 - جامع معمر بن راشد الأزدي، ت: الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، ط: المكتب الإسلامي، بيروت 1403هـ (منشور كملحق لكتاب المصنف للصنعاني ج 10). 27 - الجرح والتعديل: لعبد الرحمن بن أبي حاتم أبي محمد الرازي التميمي، ط: دار إحياء التراث العربي، بيروت 1952م، الطبعة الأولى. 28 - جزء خلق أفعال العباد: للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، ت: د. عبد الرحمن عميرة، ط: دار المعارف السعودية، الرياض 1398هـ. 29 - حجة الله البالغة: للإمام أحمد بن عبد الرحيم المعروف بالشاه ولي الله الدهلوي، ط: دار الكتب العلمية، بيروت 1415هـ. 30 - حلية الأولياء: لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ط: دار الكتاب العربي، بيروت. 31 - روضة المحبين ونزهة المشتاقين: للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية، ط: دار الكتب العلمية، بيروت 1412هـ. 32 - زاد المعاد في هدي خير العباد: للإمام محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدشقي أبي عبد الله ابن قيم الجوزية، ت: شعيب الأرناؤوط، ط: مؤسسة الرسالة 1407هـ. 33 - الزهد: للإمام الهناد بن السري الكوفي، ت: عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، ط: دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت 1406هـ. 34 - سنن الإمام سعيد بن منصور، ت: د. سعد بن عبد الله آل حميد، ط: دار العصيمي، الرياض 1414هـ. 35 - سنن الدارقطني، تحقيق عبد الله هاشم المدني، ط: دار المعرفة، بيروت. 36 - سنن الدارمي لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي، ترقيم: فواز أحمد زمرلي، ط: دار الكتاب العربي، بيروت. 37 - السنن الكبرى: للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، ت: عبد القادر عطا، ط: مكتبة دار الباز، مكة المكرمة 1414هـ. 38 - السنن الكبرى: للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، ط: دار الكتب العلمية، بيروت 1411هـ.

_ 39 - سنن النسائي: لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب، تحقيق وترقيم: الشيخ عبد الفتاح أبي غدة (ح)، ط: مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب 1406هـ. 40 - سير أعلام النبلاء: لأبي عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، ط: مؤسسة الرسالة، بيروت. 41 - السيرة الحلبية في سيرة الأمين والمأمون لعلي بن برهان الدين الحلبي، ط: دار المعرفة، بيروت 1400هـ. 42 - السيرة النبوية: للإمام عبد الملك بن هشام أبي محمد المعروف بابن هشام، ت: طه عبد الرؤوف سعد، ط: دار الجيل، بيروت 1411هـ. 43 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لعبد الحي ابن العماد الحنبلي، ط: القدسي بالقاهرة 1350هـ. 44 - شرح الإمام النووي لصحيح الإمام مسلم، ط: دار إحياء التراث العربي، بيروت 1392هـ. 45 - شرح الزرقاني على الموطأ: لمحمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني، ط: دار الكتب العلمية، بيروت 1411هـ. 46 - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية: للإمام القسطلاني، ط: المطبعة الأزهرية المصرية 1327هـ. 47 - شرح معاني الآثار: للإمام أحمد بن محمد بن سلامة أبي جعفر الطحاوي، تحقيق: زهري النجار، ط: دار الكتب العلمية، بيروت. 48 - شعب الإيمان: للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت: محمد زغلول، ط: دار الكتب العلمية، بيروت 1410هـ. 49 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى: للعلامة القاضي عياض اليحصبي الأندلسي (ح) ت: جماعة من العلماء، ط: مكتبة الفارابي، مؤسسة علوم القرآن، دمشق. 50 - الشمائل المحمدية والخصائص المصطفوية: للإمام أبي عيسى الترمذي، ط: مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت 1412هـ. 51 - صحيح الإمام ابن خزيمة: تحقيق: الدكتور مصطفى الأعظمي، ط: المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان. 52 - صحيح الإمام محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، ط: مؤسسة الرسالة، بيروت.

_ 53 - صحيح الإمام مسلم بن الحجاج القشيري، تحقيق وترقيم: فؤاد عبد الباقي، ط: دار الدعوة إسطانبول. 54 - صحيح البخاري: للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري مع فتح الباري، تحقيق وترقيم: فؤاد عبد الباقي، ط: المطبعة السلفية، القاهرة. 55 - صفة الصفوة: لعبد الرحمن بن علي بن محمد أبي الفرج، ت: محمود الفاخوري ود. رواس قلعجي، ط: دار المعرفة، بيروت 1399هـ. 56 - طبقات الشافعية الكبرى: للسبكي تاج الدين عبد الوهاب بن علي، ط: المطبعة الحسينية بمصر. 57 - الطبقات الكبرى: لمحمد بن سعد أبي عبد الله البصري الزهري، ط: دار صادر، بيروت. 58 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري: للعلامة بدر الدين العيني. 59 - عين الإصابة فيما استدركته السيدة عائشة على الصحابة: تصحيح وتحقيق: العلامة السيد سليمان الندوي، ط: إدارة إسلاميات، لاهور - باكستان (مطبوع كملحق لكتاب سيرة السيدة عائشة (ض)) 1413هـ. 60 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري: للعلامة الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، ط: دار المعرفة، بيروت 1379هـ. 61 - فتح المغيث شرح ألفية الحديث: للإمام شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، ت: عبد الرحمن محمد عثمان، مطبعة العاصمة، القاهرة. 62 - الفتن: لنعيم بن حماد أبي عبد الله المروزي، ت: سمير أمين الزهري، ط: مكتبة التوحيد، القاهرة 1412هـ. 63 - فتوح البلدان: للبلاذري، ت: رضوان محمد رضوان، ط: دار الكتب العلمية، بيروت 1403هـ. 64 - الفردوس بمأثور الخطاب: للإمام أبي شجاع شيرويه بن شهردار من شيرويه الديلمي، تحقيق: سعيد بن بسيوني زغلول، ط: دار الكتب العلمية، بيروت. 65 - الفصل في الملل والأهواء والنحل: للإمام أبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري، الطبعة الأولى بالمطبعة الأدبية بمصر 1320هـ. 66 - الفوائد البهية في تراجم الحنفية ومعه التعليقات السنية على الفوائد البهية وكذلك طرب الأماثل بتراجم الأفاضل: للإمام محمد عبد الحي اللكنوي المتوفى 1304هـ، ط: دار الأرقم للطباعة والنشر، بيروت.

_ 67 - القاموس المحيط: لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي، ضبط وتوثيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي، ط: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع 1415هـ. 68 - الكامل في التاريخ: لعز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري المعروف بابن الأثير، ط: دار صادر، بيروت. 69 - كتاب الآثار: للإمام يعقوب بن إبراهيم أبي يوسف الأنصاري، ت: أبو الوفاء، ط: دار الكتب العلمية، بيروت 1355هـ. 70 - كتاب التعريفات: للإمام علي بن محمد بن علي الجرجاني، ط: دار الكتاب العربي. 71 - كتاب الثقات: لمحمد بن حبان بن أحمد أبي حاتم التميمي البستي، ت: السيد شرف الدين أحمد، ط: دار الفكر 1975م. 72 - كتاب الخراج: للإمام يعقوب بن إبراهيم الأنصاري أبي يوسف، ط: المطبعة السلفية ومكتبتها بالقاهرة 1346هـ. 73 - كتاب الزهد: لأحمد بن عمر بن أبي عاصم الشيباني، ت: عبد العلي عبد الحميد حامد، ط: دار الريان للتراث، القاهرة 1408هـ. 74 - كشف الخفاء: للإمام العجلوني، ط: مؤسسة الرسالة 1405هـ. 75 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: لحاجي خليفة وعبد الله جلبي، ط: دار الكتب العلمية، بيروت 1413هـ. 76 - الكفاية في علم الرواية: للإمام أحمد بن علي بن ثابت أبي بكر الخطيب البغدادي، ط: المكتبة العلمية، المدينة المنورة. 77 - لسان العرب: لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، ط: دار صادر، بيروت 1955م. 78 - لسان الميزان: للإمام محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ط: مؤسسة الأعلمي، بيروت. 79 - موطأ الإمام مالك برواية الإمام محمد بن الحسن الشيباني، ت: عبد الوهاب عبد اللطيف، ط: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية وزارة الأوقاف، القاهرة - مصر 1407هـ. 80 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، ط: دار الريان للتراث، القاهرة 1407هـ. 81 - مختار الصحاح.

_ 82 - مدارج السالكين بين منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: للإمام ابن قيم الجوزية، ت: محمد حامد الفقي، ط: دار الكتاب العربي، بيروت 1393هـ. 83 - المستدرك على الصحيحين في الحديث: للحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري، ط: دار الكتب العلمية، بيروت. 84 - مسند الإمام أبي حنيفة: لأبي نعيم الأصبهاني، ت: نظر محمد الفاريابي، ط: مكتبة الكوثر، الرياض 1415هـ. 85 - مسند الإمام أحمد بن علي بن المثنى أبي يعلى الموصلي التميمي، ت: حسين سليم أسد، ط: دار المأمون للتراث، دمشق. 86 - مسند الإمام أحمد (ح) ط: مؤسسة قرطبة بمصر (مطبوع في ست مجلدات). 87 - مسند الإمام إسحاق بن راهويه، ت: د. عبد الغفور البلوشي، ط: مكتبة الإيمان، المدينة المنورة. 88 - مسند الإمام سليمان بن داود الفارسي البصري الطيالسي، ط: دار المعرفة، بيروت. 89 - مسند الحميدي، تحقيق: الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، ط: دار الكتب العلمية، بيروت. 90 - المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم: للإمام أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ط: دار الكتب العلمية، بيروت. 91 - مشكاة المصابيح: للإمام محمد بن خطيب التبريزي، ت: الشيخ ناصر الدين الألباني، ط: المكتب الإسلامي، بيروت 1985م. 92 - مصباح الزجاجة: للشيخ أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل الكناني، ت: محمد المنتقى الكشناوي، ط: دار العربية، بيروت 1403هـ. 93 - مصنف الإمام أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، ت: الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، ط: المكتب الإسلامي، بيروت 1403هـ. 94 - المصنف: للإمام أبي عبد الله ابن أبي شيبة، تحقيق: كمال يوسف الحوت، ط: مكتبة الرشد، الرياض. 95 - المصنوع في معرفة الموضوع: للإمام الملا علي القاري، ت: الشيخ عبد الفتاح أبي غدة، ط: مكتبة الرشد، الرياض.

_ 96 - معتصر المختصر: للإمام أبي المحاسن يوسف بن عيسى الحنفي، ط: عالم الكتب، بيروت. 97 - المعجم الأوسط: للإمام أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ط: دار الحرمين، القاهرة. 98 - المعجم الكبير: للإمام سليمان بن أحمد بن أيوب أبي القاسم الطبراني، ط: مكتبة العلوم والحكم، الموصل، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي. 99 - مكارم الأخلاق: للإمام أبي بكر القرشي، ط: مكتبة القرآن، القاهرة. 100 - المنار المنيف: للإمام ابن قيم الجوزية، ت: الشيخ عبد الفتاح أبي غدة، ط: مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب. 101 - المنتقى: لعبد الله بن علي بن الجارود أبي محمد النيسابوري، ت: عبد الله عمر البارودي، ط: مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت 1408هـ. 102 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال: لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: علي محمد عوض وعادل أحمد، دار الكتب العلمية، بيروت. 103 - وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى: للإمام نور الدين علي بن أحمد المصري السمهودي، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان. ***

فهرست الموضوعات

فهرست الموضوعات

_ الموضوع ............................................ الصفحة * تقديم .............................................. 5 * مقدمة المعرب ..................................... 9 لمحة موجزة عن حياة العلامة سليمان الندوي .......... 15 كلمة عن كتاب سيرة عائشة .......................... 26 كلمة شكر وتقدير .................................... 29 كتاب سيرة السيدة عائشة (ض) ....................... 31 مقدمة ................................................ 33 الباب الأول سيرة السيدة عائشة أم المؤمنين تمهيد ................................................ 37 الاسم والكنية والنسب ................................. 37 الولادة ................................................ 40 الطفولة .............................................. 41 الفصل الأول: الزواج الميمون ........................ 44 مهر عائشة (ض) .................................... 47 التاريخ الذي تزوجت فيه عائشة (ض) ................ 48 هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ......................... 50 بناؤه - صلى الله عليه وسلم - بعائشة .................................... 52 أهم مميزات نكاحه - صلى الله عليه وسلم - بعائشة وبنائه بها ............ 54 الفصل الثاني: عائشة في مدرسة النبوة ................ 56 الدراسة وطلب العلم ................................... 56

_ من حكم تعدد أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ........................................... 57 حزم أبي بكر في تربية أولاده ............................................... 59 مراجعة عائشة (ض) النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يشكل عليها .................... 61 الشؤون المنزلية ............................................................ 70 فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - العطية لأزواجه بعد فتح خيبر ............................ 73 عمر (ض) زاد في أعطيات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - .............................. 74 العشرة الزوجية ونظر الإسلام إلى المرأة مقارنة بنظر الشرق والغرب .......... 76 الزوجة الحبيبة ............................................................. 77 سبب حبه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة .................................................... 79 الزوج الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ........................................................ 81 نماذج من غيرة عائشة على ضرائرها ........................................ 82 مداراة الزوجة ............................................................... 85 الملاطفة والمؤانسة .......................................................... 87 سمره - صلى الله عليه وسلم - معها ............................................................ 87 المؤاكلة ..................................................................... 89 الصحبة في السفر .......................................................... 90 المسابقة .................................................................... 91 الدلال ...................................................................... 91 غيرتها على خديجة ونماذج من تدللها ....................................... 93 القيام بالأعمال المنزلية ..................................................... 95 الطاعة واتباع الأحكام ...................................................... 97 النبي - صلى الله عليه وسلم - رباها على السخاء والكرم ....................................... 98 التعايش الديني ............................................................. 99 القيام بواجب النبوة في البيت ................................................ 101 الفصل الثالث: معاملتها للضرائر والأقارب ................................... 104 خديجة (ض) ............................................................... 104 سودة (ض) ................................................................. 105

_ حفصة (ض) ............................................................. 106 أم سلمة (ض) ............................................................ 107 جويرية (ض) ............................................................. 108 زينب بنت جحش (ض) ................................................... 109 أم حبيبة (ض) ............................................................ 113 ميمونة (ض) .............................................................. 113 صفية بنت حيي (ض) ..................................................... 113 تنبيه على بعض الروايات الضعيفة ......................................... 115 علاقتها الوطيدة بالسيدة فاطمة (ض) ....................................... 121 تنبيه على بعض الروايات الواهية والضعيفة ................................. 125 الفصل الرابع: حديث الإفك ومشروعية التيمم ................................ 127 حديث الإفك ............................................................... 128 أهداف المناففين من وراء حادث الإفك ...................................... 135 موقف المستشرق وليم موير من حديث الإفك ................................ 137 مشروعية التيمم ............................................................. 140 الفصل الخامس: وقائع التحريم والإيلاء والتخيير ............................. 142 التحريم ..................................................................... 142 تفنيد بعض الشبهات ........................................................ 145 الإيلاء ...................................................................... 147 التخيير ..................................................................... 150 الفصل السادس: وداع الحبيب - صلى الله عليه وسلم - في السنة الحادية عشرة للهجرة .......... 151 سبب رغبته - صلى الله عليه وسلم - في التمريض في بيت عائشة ............................. 151 خبر منام عائشة (ض) ..................................................... 154 الفصل السابع: عائشة (ض) بعد رحيل الحبيب ............................. 157 عهد أبي بكر (ض) ........................................................ 157

_ عهد عثمان (ض) ................................................................................... 161 الفصل الثامن: نشوء الفتن ومعركة الجمل: ........................................................... 163 اعتناق عبد الله بن سبأ الإسلام ...................................................................... 165 استشهاد الخليفة عثمان وبيعة علي (ض) ............................................................ 167 عهد علي (ض) ..................................................................................... 168 الإصلاح وواجبات المرأة المسلمة ..................................................................... 170 عائشة ترفع راية الإصلاح وتغادر إلى البصرة ........................................................ 172 قصة ماء الحوأب وعزم عائشة على الرجوع ........................................................... 173 أوضاع المسلمين في الكوفة .......................................................................... 174 خطبة عائشة في البصرة ............................................................................. 177 خطبة أخرى لعائشة .................................................................................. 178 مكاتبة عائشة لأهل الكوفة ............................................................................ 181 معركة الجمل ......................................................................................... 183 مجهودات القعقاع للإصلاح بين الفريقين .............................................................. 184 تذكير علي طلحة والزبير (ض) بمقالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورجوعهما عن المعركة وشهادة الزير (ض) ........ 185 عقر جمل عائشة لإيقاف المعركة ..................................................................... 187 توديع علي عائشة وتشييعها بكل الإجلال والتوقير ..................................................... 188 تأسف عائشة (ض) على خطئها الاجتهادي ........................................................... 189 الرد على القول بالجفاء في علاقة علي بعائشة ........................................................ 190 رد الإمام الزهري على الوليد بن عبد الملك ............................................................ 192 عائشة ترشد المستفتين إلى علي (ض) ............................................................... 194 الفصل التاسع: أم المؤمنين في عهد معاوية (ض) .................................................... 196 رأي عائشة في الخوارج .............................................................................. 197 واقعة دفن الحسن بن علي ريحانة رسول الله (ض) ................................................... 198 موقف عائشة (ض) ................................................................................. 199 الفصل العاشر: وفاة عائشة (ض) ................................................................... 201

_ كنية عائشة (ض) ............................................................. 203 الباب الثاني عائشة: شمائلها ومناقبها ومكانتها العلمية الفصل الأول: شمائلها (ض) .......... 207 هيئتها ولباسها ................................................................. 207 خلقها .......................................................................... 208 مساعدة النساء ................................................................. 209 طاعة الزوج ................................................................... 210 الاحتراز من الغيبة ............................................................ 210 التورع عن قبول الهدايا ........................................................ 211 تجنب المدح والإطراء ......................................................... 212 الإباء والأنفة ................................................................. 212 الشجاعة والمجاهدة ........................................................... 214 السخاء والكرم ................................................................ 214 العبادة ....................................................................... 218 الاحتراز من الأشياء التافهة .................................................. 220 الرحمة بالأرقاء والموالي والرفق بهم ........................................... 220 إعانة الفقراء وأصحاب الحاجة على قدر مراتبهم .............................. 221 الاهتمام البالغ بالحجاب ..................................................... 222 الفصل الثاني: مناقبها (ض) ................................................ 224 الفصل الثالث: مكانتها العلمية (ض) ........................................ 227 تمهيد ....................................................................... 227 العلم والاجتهاد .............................................................. 229 البحث الأول: علمها بالقرآن الكريم .......................................... 230 القراءات الشاذة المروية عن عائشة .......................................... 239 البحث الثاني: علمها بالحديث الشريف ...................................... 241 عائشة وبقية أمهات المؤمنين ............................................... 241

_ عائشة وكبار الصحابة والمكثرون منهم .............................. 242 مكانة عائشة عند المكثرين من الصحابة ............................. 244 عدد رواياتها ........................................................ 244 الاهتمام بالدراية مع الرواية عند المكثرين من الصحابة ............... 245 اعتناء عائشة ببيان حكم وأسباب الحكم الشرعي ..................... 245 التحري في رواية الحديث ........................................... 248 الأصول التي تنبني عليها استدراكات عائشة على الصحابة .......... 250 لا يحتج بالسنة إذا خالفت الكتاب ................................... 250 مسألة تعذيب الميت بالبكاء عليه .................................... 250 مسألة سماع الموتى ................................................. 252 الشؤم في ثلاثة في المرأة والدابة والدار ............................... 252 رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - الرب تعالى ....................................... 253 قضية المتعة ....................................................... 254 ولد الزنا شر الثلاثة ................................................ 254 الوصول إلى فحوى الكلام ولبه ..................................... 254 المعرفة الشخصية .................................................. 259 الذاكرة القوية والحافظة النادرة ....................................... 262 جمع وتدوين مرويات عائشة ....................................... 263 البحث الثالث: علمها بالفقه والقياس وأصولها في الاجتهاد ........... 265 القرآن الكريم ....................................................... 266 السنة النبوية ...................................................... 268 القياس العقلي ..................................................... 271 تقسيم السنة ....................................................... 273 اختلافها مع الأقران والمعاصرين ................................... 275 البحث الرابع: علمها بالتوحيد والعقيدة .............................. 278 إثبات اليد ونحوها لله تعالى ....................................... 278 رؤية الباري ...................................................... 279

_ علم الغيب ...................................................... 280 الرسول وكتمان ما أنزل الله ...................................... 281 عصمة الأنبياء .................................................. 282 المعراج الروحي .................................................. 282 الصحابة عدول .................................................. 284 الترتيب في أمر الخلافة .......................................... 284 سماع الموتى ..................................................... 285 البحث الخامس: علمها بأسرار الشريعة ............................ 486 الترتيب في نزول القرآن الكريم .................................... 288 سر نجاح الدعوة في المدينة المنورة ................................ 290 الاغتسال يوم الجمعة ............................................. 291 تقصير الصلاة في السفر ......................................... 292 النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر ......................... 292 الصلاة جلوسا .................................................... 292 سبب مشروعية صلاة المغرب ثلاث ركعات ........................ 293 سبب مشروعية صلاة الفجر ركعتين ............................... 293 سبب صوم عاشوراء .............................................. 294 سبب عدم مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على صلاة التراويح في رمضان .......... 295 حقيقة مناسك الحج ................................................ 296 النزول في وادي المحصب ......................................... 296 النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ........................ 297 الحطيم وبناء الكعبة المشرفة ....................................... 298 سبب الطواف بالبيت راكبا ......................................... 300 الكشف عن حقيقة الهجرة .......................................... 300 دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحجرة الشريفة ............................... 301 البحث السادس: معرفتها بالطب والتاريخ والخطابة والشعر .......... 302 الطب ............................................................ 302

_ التاريخ .............................................................. 303 الأدب ............................................................... 306 الخطابة ............................................................. 307 الشعر ............................................................... 309 الفصل الرابع: دور عائشة (ض) في التعليم والإفتاء والإرشاد .......... 316 التعليم .............................................................. 316 الإفتاء .............................................................. 326 تقسيم ابن القيم علماء الصحابة المفتين .............................. 326 عائشة تفتي في عهد الخلفاء الراشدين ................................ 327 الإرشاد ............................................................. 334 الفصل الخامس: فضل عائشة ومننها على نساء العالمين ............ 342 الدفاع عن حقوق المرأة ............................................. 344 مكانة عائشة وفضلها في عالم النساء ............................... 355 المصادر والمراجع ................................................. 359 فهرس الموضوعات ................................................ 367

§1/1