بذل المجهود في إفحام اليهود ت طويلة

السموأل بن يحيى المغربي

مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم الافتتاح: 1 - {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40]. 2 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟! قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين"، أخرجه البخاري ومسلم. 3 - وعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارا، فأحسنها وأكملها وأجملها، وترك موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون بالبناء ويعجبون منه، ويقولون: لو تم موضع تلك اللبنة، وأنا في النبيين موضع تلك اللبنة" أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. 4 - وروى الشيخان عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- نحوه، وزاد مسلم في روايته: "فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء". 5 - وجاء في المزمور الثامن عشر بعد المائة من مزامير داود: 22 - الحجر الذي رفضه البناءون، قد صار رأس الزاوية.

23 - من قِبَل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا. وفي الترجمات القديمة: الحجر الذي أخَّره البناءون، صار حجر الزاوية. 6 - وجاء في إنجيل متى 21/ 42 ومرقس 12/ 10 - 11 ولوقا 20/ 17: قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناءون، هو قد صار رأس الزاوية. من قبل الرب كان هذا. وهو عجيب في أعيننا. متى 21/ 43: لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله يُنزع منكم، ويُعطى لأمة تعمل أثماره. وفي ترجمة دار الكتاب المقدس سنة 1980: لذلك أقول لكم: سيأخذ الله ملكوته منكم، ويسلمه إلى شعب يجعله يثمر. متى 21/ 44 ولوقا 20/ 18: من سقط على هذا الحجر ترضض -وفي ترجمة دار لكتاب: تهشم- ومن سقط هو عليه سحقه.

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة: الحمد لله الذي أكرمنا بالإيمان، وأعزنا بالإسلام، وأنعم علينا بنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- فهدانا من الضلال، وجمعنا من الشتات، وأغنانا بشريعته التي تدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وتتضمن الأمر بالعدل والإحسان، والنهي عن الفحشاء والمنكر. نسأل الله سبحانه أن يهدينا إلى الحق، وأن يثبتنا عليه، وأن يرزقنا شكره على ذلك. أما بعد، فإن الانتقال من دين إلى دين ليس بالأمر العادي في صعوبته. والعاقل يحسب ألف حساب قبل أن يقدم على تبديل دينه، ولا سيما إذا كان قومه قد عودوه منذ الصغر على الاستعلاء والتعصب لعرقه واحتقار الآخرين ودياناتهم، بل عودوه على الحقد والكراهية لغير بني جنسه أو مذهبه كاليهود ومن لف لفهم. لكن إذا صدع الحق قلبه، وولج فيه، فإنه يقدم على ذلك غير مبالٍ ولا هياب؛ لأنه يريد أن ينقذ نفسه باتباع الحق، ليس في هذه الحياة فحسب، بل في الحياة الآخرة التي لا نهاية لها. وكلامي هذا لا يشمل الذين يغيرون دينهم لغرض دنيوي أو هوى أو حاجة استُغلوا من أجلها. فمن يُغرى بالمناصب ونحوها، أو تستغل فاقته ومرضه، كما يفعل دعاة النصرانية اليوم، لا يوصف بأنه بدل دينه؛ لأنه فريسة، ولأن عملهم ضرب من التلصص الروحي. بل إنما ينصب كلامي على العقلاء والمفكرين، وبخاصة علماء الدين، الذين يفكرون فيما اختاروه من دين وعقيدة سنوات، ثم يقدمون على ما رأوا من الحق غير عابئين بما

يخسرون من مادة ومكانة، ولا بما قد يصيبهم من تحامل وضرر. فيقدمون فرحين على اعتناق الحق الذي رأوه، ثم يبينون ويعلنون سبب دخولهم في دين الله، ويصبحون من الذابين عنه أكثر ممن وُلد من أبوين مسلمين. وكثير من مفكري أهل الكتاب دخلوا في دين الإسلام رغبة في اتباع الحق بعد دراسة عميقة وتدبر لهذا الدين، انقشعت فيها الشبهات والتشويهات، وتجلت فيها الحقائق الثابتة، فكان إيمانهم عن رغبة وعلم ومعرفة. وكانت البشارات بهذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- في كتبهم المقدسة، وذكر أوصافه وأوصاف أمته من أكبر العوامل الداعية لهم للدخول في دين الإسلام. فمن النصارى الذين اعترفوا بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- ودخلوا في دينه القس الأسباني إنسلم تورميدا. فقد ترك التثليث وأقبل على التوحيد تاركا المكانة الدينية التي بلغها. سافر إلى تونس في القرن الثامن الهجري، وسمى نفسه عبد الله، وأضيف إليه لقب الترجمان لاشتغاله بالترجمة. ألف كتابا سماه "تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب" ذكر فيه سبب إسلامه والدوافع التي أدت به إلى ترك التثليث. وفي عصرنا الحاضر اعتنق الإسلام الطبيب والعالم الفرنسي موريس بوكاي الذي درس الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، واستطاع أن يثبت بالأدلة العلمية أن القرآن الكريم هو الكتاب المقدس الوحيد الذي خلا من التحريف والتبديل، وقد تضمن حقائق علمية أتى الزمان مترجما لها. ثم صنف في ذلك كتابا سماه "القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم" صدر باللغة الفرنسية، ثم ترجم بعد ذلك إلى العربية وغيرها. وكذلك العالم المفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه جيرودي المعروف بكثرة مقالاته ودفاعه عن الإسلام. بل إن له نظرات ثاقبة في فهم بعض الآيات والأحاديث مما يدل على الإيمان العميق والعلم والمعرفة.

والشاهد في ذلك أن هؤلاء وأمثالهم من مفكري الغرب وعلمائه، إنما يعتنقون الإسلام رغبة في اتباع الحق، وهم مَن هم في بلادهم من العلم والفكر والثقة. أما اليهود الذين يصعب زحزحة أحدهم عن دينه لما أشرب منذ نعومة أظفاره من نظريات عرقية ودينية تجعله يتعالى على سائر بني البشر، فقد آمن منهم في القديم وصدَّق بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن سلام ومخيريق وكعب الأحبار وغيرهم. وما زال علماء منهم يدخلون في دين الله على مرور الزمن. ففي عهد السلطان "بيازيدخان" اعتنق حبر من أحبار اليهود الإسلام، وتسمى بعبد السلام، وألف رسالة سماها "الهادية" ذكر فيها كثيرًا من بشارات التوراة بالنبي الأمي صلى الله عليه وسلم1. ومن اليهود السامريين الذين اعترفوا بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- ولم يدخلوا في دين الله الكاهن أبو الفتح بن أبي الحسن السامري الدنفي مؤلف كتاب "التاريخ مما تقدم عن الآباء"، فقد كتب فيه عن محمد -صلى الله عليه وسلم- ما هو حق وعدل وإنصاف. ومن ذلك ما يلي: "ومحمد ما أساء إلى أحد من أصحاب الشرائع ... وأقام في المملكة عشر سنين، وكل العالم طائعون له. ومنه انتقلت مملكته إلى أقاربه بني أمية على ما أوصاهم، ولم يزيدوا، ولم ينقصوا، ولا أساءوا إلى أحد قط"2. غير أن با الفتح أخطأ النجعة. فإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ليس بملَك، وإنما هو نبي مجاهد مطاع في أصحابه. ثم إن الحكم من بعده لم ينتقل إلى بني أمية. بل صار أولا إلى خلفائه الراشدين أبي بكر فعمر فعثمان فعلي -رضي الله عنهم- وهم كلهم من قريش، ليس فيهم أموي سوى عثمان -رضي الله عنه- وبعد مقتل علي -رضي الله عنه- بايع الناس ابنه الحسن -رضي الله

_ 1 إظهار الحق ص528 طبعة قطر. 2 تقديم التوراة السامرية لأحمد حجازي ص19.

عنه- فتنازل لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- وهو قرشي من بني أمية. وبذلك بدأ العصر الأموي. أما قبل ذلك فهو عصر الخلفاء الراشدين المهديين. ومن اليهود الذين اعتنقوا الإسلام مؤلف كتابنا هذا الحكيم المحقق السموءل بن يحيى بن عباس المغربي الأندلسي المتوفَّى عام 570هـ-1174م. كنيته أبو نصر. كان من أعاظم اليهود قبل إسلامه. وهو طبيب رياضي مشارك في بعض العلوم. قدم مع أبيه إلى بلاد المشرق. كان أبوه ينشد المال شأن كل يهودي، أما هو فكان يحب العلم ويطلبه بشغف ومثابرة. سكن في بغداد مدة، ثم انتقل إلى أذربيجان في بلاد العجم، وأقام في مراغة، ولم يزل بها إلى آخر عمره. أتقن كثيرًا من العلوم والفنون وتبحر فيها، كالرياضيات والطب والحكمة والتاريخ وغير ذلك، وصنف في ذلك مصنفات منها ما يلي: المفيد الأوسط في الطب، إعجاز المهندسين، المنبر في مساحة أجسام الجواهر المختلفة لاستخراج مقدار مجهولها، رسالة إلى أبي خدود في مسائل حسابية، نزهة الأصحاب في معاشرة الأحباب، وغير ذلك. وكتابه هذا "بذل المجهود في إفحام اليهود" يدل على واسع علمه وكثرة خبرته؛ فقد أظهر في أثناء مناقشاته لعقائد اليهود وتحليله لنصوص التوراة أوهام الأحبار وضلالاتهم والأسرار التي تنطوي عليها نفوسهم، وكشف أخطاءهم ومغالطاتهم، وفضح طرقهم الملتوية وحيلهم الماكرة. ولا عجب في ذلك، فقد كان قبل إسلامه من أعاظم أحبار اليهود؛ ولذلك استطاع بما وصل إليه من علم بالتوراة وسعة اطلاع على الكتب -متونا وشروحا- أن يفحم علماء عصره من اليهود، ولا يزال هذا الإفحام يتحدى أحبارهم حتى يومنا هذا. وهو يتبع في ذلك طريقة "الفناقلة" فيورد السؤال، ويتصور جوابه وما يمكن أن يستدرك عليه، ثم يرد على ذلك كله ويجيب عنه سادًّا الأبواب كلها على خصمه، ومُحكِّمًا القارئ في ذلك: نقول لهم ... فإن قالوا ....

قلنا ... وهو يورد نصوص التوراة باللغة العبرية، ثم يفسرها بالعربية من غير أن يشير إلى مكانها في التوراة وسائر كتب الأنبياء غالبا، وإذا ذكر ذلك في بعض الأحيان، فإنما يذكر السِّفْر أو رقمه دون أن يحدد المكان. ولذلك قمت بتخريج هذه النصوص من خلال الكتب التالية: الكتاب المقدس الصادر عن دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط عام 1984م، والكتاب المقدس الصادر عن جمعيات الكتاب المقدس المتحدة عام 1966م، وكلاهما من ترجمة البروتستانت، والكتاب المقدس الصادر عن دار المشرق ببيروت عام 1983م وهو من ترجمة الكاثوليك، وفي آخره حواشٍ وتعليقات على بعض فصوله، والتوراة السامرية التي قدم لها وعلق عليها الدكتور/ أحمد حجازي. وقد اعتمدت ترجمة البروتستانت؛ لأنهم إنما يعترفون بالتوراة العبرانية دون الترجمة اللاتينية وغيرها، ثم إنهم لم يغيروا نصوص ترجمتهم، فالطبعات القديمة والحديثة نصوصها واحدة؛ وبذلك كانت توراتهم أقرب إلى توراة اليهود الذين نحن بصددهم، بخلاف غيرهم، فإنك تجد الفوارق الشاسعة في أمور حساسة بين طبعة وأخرى. وقمت أيضا بالتعليق على النصوص والأفكار والبشارات التي يوردها موضحا لها وزائدا في أدلتها؛ لتقوم الحجة وتكتمل الفكرة. ومما دفعني إلى ذلك أن الكتاب قد أفاد منه واستشهد بنصوصه كثير من العلماء والباحثين الذين اشتغلوا بمناظرة أهل الكتاب أو مقارنة الأديان قديما وحديثا، وعلى رأسهم ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى". وقد أضفت إليه بعض العناوين وجعلتها بين هاتين الإشارتين []. ولنستمع الآن إلى المؤلف -رحمه الله- يحدثنا عن نفسه فيقول: إن أبي كان يقال له: الرآب يهوذا بن آبون من مدينة فاس بأقصى المغرب. والرآب لقب تفسيره: الحبر. وكان أعلم أهل زمانه بعلوم التوراة، وأقدرهم على التوسع في ارتجال منظوم العبراني ومنثوره. وكان اسمه المدعو به بين أهل العربية أبا البقاء بن يحيى بن عباس المغربي؛ وذلك أن كثيرًا من

متخصصيهم يكون له اسم عربي غير اسمه العبري أو مشتق منه. أما أمي فأصلها من البصرة، وهي إحدى الأخوات الثلاث المنجبات في علوم التوراة، وهن بنات إسحاق بن إبراهيم البصري الليوي -أعني: سبط ليوي- وهو مضبوط النسب؛ لأن منه كان موسى -عليه السلام- وكان اسم أمي باسم أم شموائيل النبي -عليه السلام- ومكثت أمي عند أبي مدة لا ترزق ولدا حتى استشعرت العقم، فنذرت أنها إن رزقت ولدا ذكرًا تسميه شموائيل، فحين رُزقتني دعتني شموائيل، وهو إذا عُرب: السموءل. وكناني أبي أبا نصر. وشغلني بالكتابة بالقلم العبري، ثم بعلوم التوراة وتفاسيرها. حتى إذا أحكمت علم ذلك عند كمال الثالثة عشر من مولدي شغلني حينئذ بتعلم الحساب الهندي وحل الزيجات عند الأستاذ العالم أبي الحسن الدسكري. وقرأت علم الطب على الفيلسوف أبي البركات هبة الله بن علي، والتأمل في علاج الأمراض ومشاهدة ما ينفق من الأعمال الصناعية في الطب والعلاجات التي يعالجها خالي أبو الفتح الطبيب. فأما الحساب الهندي والزيج، فإني حملت علمهما في أقل من سنة، حين كمل لي أربع عشرة سنة، ثم قرأت الحساب الديواني وعلم المساحة على العالم أبي المظفر الشهرزوري، وقرأت الجبر والمقابلة عليه وعلى الكاتب ابن أبي تراب، وترددت إلى الأستاذ أبي الحسن بن الدسكري وأبي الحسن بن النقاش لقراءة الهندسة، حتى حللت المقالات التي كانا يحلانها من كتب إقليدس، وأنا في خلال ذلك متشاغل بالطب. وبقي بعض كتاب الواسطي في الحساب والكتاب السابع في الجبر والمقابلة للكرخي لا أجد من يعرف منه شيئًا، وغير ذلك من العلوم الرياضية مثل كتاب شجاع بن أسلم في الجبر والمقابلة وغيره. وكان لي من الشغف بهذه العلوم والعشق لها ما يلهيني عن المطعم والمشرب إذا فكرت في بعضها. فخلوت بنفسي في بيت، وحللت جميع تلك الكتب وشرحتها، ورددت على من أخطأ فيها، وأظهرت أغلاط مُصنفيها. كل ذلك في السنة الثامنة عشرة من مولدي. واتصلت تصانيفي في هذه العلوم،

وفتح الله عليَّ كثيرًا مما أُرتج على من سبقني من الحكماء المتدربين، فدونت ذلك لينتفع به من يقع عليه. وفي خلال ذلك ليس لي مكسب إلا بضاعة الطب. وكان لي منها أوفر حظ؛ إذ أعطاني الله من التأييد فيها ما عرفت به كل مرض يقبل العلاج من الأمراض التي لا علاج لها. فالحمد لله على جزيل مننه وعظيم فضله ونعمه. وقد كنت قبل اشتغالي بهذه العلوم -وذلك في السنة الثانية عشرة والثالثة عشرة- معتنيًا بالأخبار والحكايات، شديد الحرص على الاطلاع على ما كان من الزمن القديم، فاطلعت على التصانيف المؤلفة في الحكايات والنوادر على اختلاف فنونها، وطلبت الأخبار الصحيحة، فمالت نفسي إلى التواريخ، فقرأت كتاب أبي علي بن مسكويه الذي سماه تجارب الأمم، وطالعت تاريخ الطبري وغيرهما من التواريخ. وكانت تمر بي في هذه التواريخ أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- وغزواته وما أظهر الله تعالى له من المعجزات، وحباه به من النصر والتأييد في غزوة بدر وغزوة خيبر وغيرهما، وقصة منشئه في اليتم والضعف، ومعاداة أهله له، وإقامته فيما بين أعدائه يجاهدهم بإنكار دينهم عليهم، والدعوة إلى دينه مدة طويلة وسنين كثيرة إلى أن أَذِنَ الله له في الهجرة إلى دار غيرها، وما جرى لأعدائه من النكبات ومصرعهم بين يديه بسيوف أوليائه ببدر وغيرها، وظهور الآية العجيبة في هزيمة الفرس، ورستم الجبار معهم في ألوف كثيرة، في غاية من الحشد والقوة، بين يدي أصحاب سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- وهم يسير على حالة شديدة من الضعف، وانكسار الروم وهلاك عساكرهم على يدي أبي عبيدة عامر بن الجراح وخالد بن الوليد -رضي الله عنهما- ثم سياسة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- وعَدْلهما وزهدهما. ومع ذلك، فإني لكثرة شغفي بأخبار الوزراء والكتاب قد اكتسبت بكثرة مطالعتي لحكاياتهم وأخبارهم وكلامهم قوة في البلاغة ومعرفة بالفصاحة. وكان لي في ذلك طبع يحمده الفصحاء، ويُعجب به البلغاء، فشاهدت

المعجزة التي لا تباريها الفصاحة الآدمية في القرآن العظيم، فعلمت صحة إعجازه. ثم إني لما هذبت خاطري بالعلوم الرياضية، ولا سيما الهندسة وبراهينها، راجعت نفسي في اختلاف الناس في الأديان والمذاهب، فعلمت أن العقل حاكم يجب تحكيمه على كليات أمور عالمنا هذا؛ إذ لولا أن العقل أرشدنا إلى اتباع الأنبياء والرسل، لما صدقناهم في سائر ما نقلنا عنهم. وعلمت أنه إذا كان أصل التمسك بالمذاهب الموروثة عن السلف، وأصل اتباع الأنبياء مما أدى إليه العقل، فإن تحكيم العقل على كليات جميع ذلك واجب1. وإذا نحن حكمنا العقل على ما نقلناه عن الآباء والأجداد علمنا أن النقل عن السلف ليس يوجب العقل قوله من غير امتحان لصحته، بل لمجرد كونه مأخوذًا عن السلف، لكن من أجل أن يكون أمرًا ذا حقيقة في ذاته، والحجة موجودة بصحته. فأما الأبوة السلفية وحدها فليست بحجة؛ إذ لو كانت حجة لكانت أيضا حجة لسائر الخصوم الكفار كالنصارى، فإنهم نقلوا عن أسلافهم أن عيسى ابن الله، وأنه الرازق المانع الضار. فإن كان تقليد الآباء والأسلاف يدل على صحة ما ينقل عنهم، فإن ذلك يلزم منه الإقرار بصحة مقالة المجوس2، وإن كان هذا التقليد لأسلاف اليهود خاصة دون غيرهم من الأمم، فلا يقبل ذلك منهم، إلا أن يأتوا بدليل على أن

_ 1 لا شك في أن ما ينزل به الوحي على الأنبياء يتفق مع العقل السليم والفطرة الصافية. والشارع لا يأتي بما تحيله العقول، بل إنما يأتي بما تُحار فيه. لكن من يضمن لنا سلامة العقل وصفاء الفطرة وعدم تأثرهما بشيء؟ لذا كان الوحي هو الفيصل في ذلك، لكن بعد أن يصح النقل ويسلم. 2 وهذا مطابق لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 23، 24].

آباءهم وأسلافهم كانوا أعقل الأمم. فإذا ادعت اليهود ذلك في حق آبائهم وأسلافهم، فجميع أخبار أسلافهم ناطقة بتكذيبيهم في ذلك. وإذا تركنا التعصب لهم، فنحن نجعل لآبائهم أسوة بسائر آباء غيرهم من الأمم. فإذا كانت آباء النصارى وغيرهم قد نقلوا عن آبائهم الكفر والضلال الذي تهرب العقول منه، وتنفر الطباع السليمة عنه، فليس بممتنع أن يكون ما نقله اليهود عن آبائهم أيضًا بهذه الصفة. فلما علمت أن اليهود لهم أسوة بغيرهم فيما نقلوه عن الآباء والأسلاف، علمت أن ليس بأيديهم حجة صحيحة بنبوة موسى -عليه السلام- إلا شهادة التواتر. وهذا التواتر موجود لعيسى ومحمد -عليهما الصلاة والسلام- كوجوده لموسى -عليه السلام- فإن كان التواتر يفيد تصديقًا، فالثلاثة صادقون ونبوتهم معا صحيحة. وعلمت أيضا أني لم أرَ موسى بعيني ولم أشاهد معجزاته، ولا معجزات غيره من الأنبياء -عليهم السلام- ولولا النقل وتقليد الناقلين لما عرفنا شيئا من ذلك. فعلمت أنه لا يجوز للعاقل أن يصدق واحدا ويكذب واحدا من هؤلاء الأنبياء -عليهم السلام- لأنه لم يرَ أحدهم ولا شاهد أحواله إلا بالنقل. وشهادة التواتر موجودة لثلاثتهم. فليس من العقل ولا من الحكمة أن يصدق أحدهم ويكذب الباقين. بل الواجب عقلا أن يصدق الكل. فأما تكذيب الكل، فإن العقل لا يوجبه أيضا؛ لأنا إنما نجدهم أتوا بمكارم الأخلاق، وندبوا إلى الفضائل، ونَهَوا عن الرذائل، ولأنا نجدهم قد ساسوا العالم سياسة بها صلاح حاله. فصح عندي بالدليل القاطع نبوة المسيح والمصطفى -عليهما الصلاة والسلام- وآمنت بهما. فمكثت برهة أعتقد ذلك من غير أن ألتزم الفرائض الإسلامية؛ مراقبة لأبي. وذلك أنه كان شديد الحب لي، قليل الصبر عني،

كثير البر بي. وكان قد أحسن تربيتي؛ إذ شغلني منذ أول حداثتي بالعلوم البرهانية، وزيَّن ذهني وخاطري في الحساب والهندسة المعلمين. فمكثت مدة طويلة لا يُفتح عليَّ وجه الهداية، ولا تُحل عني هذه الشبهة، وهي مراقبة أبي، إلى أن حالت الأسفار بيني وبينه، ومدت داري عن داره، وأنا مقيم على مراقبته، والتذمم من أن أفجعه بنفسي. وحان وقت الهداية، وجاءتني الموعظة الإلهية برؤيتي للنبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، في ليلة الجمعة تاسع ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وكان ذلك بالمراغة من أذربيجان. اهـ بتصرف. وهكذا كان رؤياه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سببًا في اطمئنان قلبه وإعلان إسلامه بعد أن آمن عقله من حيث الحجة والبرهان، وإنك لواجد في كتابه هذا ما يدل على أنه أسلم عن خبرة ويقين، فرحمه الله وجزاه خيرا1. المدينة المنورة 29/ 11/ 1408 عبد الوهاب طويلة

_ 1 انظر في ترجمته في: معجم المؤلفين 4/ 281، والأعلام للزركلي 3/ 205.

بذل المجهود في إفحام اليهود

مقدمة المؤلف: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله، عدة للقاء الله أما بعد، حمد الله على ما ألهم من الهداية، وعصم من الغواية، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطاهرين. فإن سبيل من فُضِّل بالفطانة والرشاد، أن يجد في البحث عن أحوال المعاد، والتأمل لما أخذه الآباء والأجداد، بعين الامتحان والانتقاد؛ فإن رآه فضيلة سما لإدراكها، وإن ألفاه رذيلة نجا من أشراكها1؛ لتضحى حقائبه بطانًا من الزاد2؛ فإن هاتف الموت لبالمرصاد، ولن تُحمد العقبى لمضيِّع في تحصين شرعه، وموزع مواقيته على ما ينقاد إليه بطبعه. ولن يظفر بضالة الحق إلا ناشدوها3. ولن يهدج4 الأباطيل على أنفسهم إلا معتدوها. والغرض الأقصى من إنشاء هذه الكلمة: الرد على أهل اللجاج والعناد5، وأن يظهر ما يعتور كلمتهم من الفساد. على أن الأئمة

_ 1 جمع شَرَك -بفتحتين- أي حبالة الصياد، الواحدة شركة. 2 أي: مملوءة بالإيمان والعمل الصالح. 3 الضالة: ما ضل من البهيمة. والناشد: طالب الضالة. والمراد: الباحث عن الحق. 4 هدج وتهدج: تكلم بصوت فيه تقطع وارتعاش. 5 المراد بذلك اليهود لاشتهارهم بذلك.

-ضوعف ثوبهم- قد انتُدبوا لذلك، وسلكوا في مناظرتهم اليهودَ أنواع المسالك. إلا أن أكثر ما نوظروا به لا يكادون يفهمونه، أو لا يلتزمونه. وقد جعل الله إلى إفحامهم طريقًا مما يتداولونه في أيديهم، من نص تنزيلهم، وإعمالهم كتاب الله عند تبديلهم؛ ليكون حجة عليهم موجودة في أيديهم، وهذا أول ما ابتدئ به من إلزامهم:

النسخ

[النسخ]: النسخ من نص كتابهم وما تقتضيه أصولهم: أقوال لهم: هل كان قبل نزول التوراة شرع أو لا؟ 1

_ 1 صرحت التوراة التي في أيدي أهل الكتاب في عدة مواضع بأن النسخ لا يقع البتة، مع أن النسخ واقع ولازم في نصوص التوراة وشرح التلمود، والمؤلف -رحمه الله- يلزمهم بذلك من عدة وجوه كما سنرى إن شاء الله. واليهود والنصارى يعترضون على المسلمين، ويعيبون عليهم وجود النسخ في شريعتهم، ويفهمون من ذلك أن الله سبحانه أعطى عن عمد حكمًا ناقصًا لا يوصل إلى المطلوب. ويرون أن هذا وصف لله بالجهل وعدم الحكمة. ويقولون: كيف يجوز أن ينسب إلى الله تعالى كتاب ينقض بعضه بعضًا؟ يريدون بذلك: ينسخ بعضه بعضا. وهذا الفهم إنما نشأ من كتمانهم للحق أولًا، ومن جهلهم بحقيقة النسخ ثانيا؛ لذا سأذكر نُبْذَة عن حقيقة النسخ وحكمته: تعريف النسخ: النسخ لغة: الإزالة. يقال: نسخت الشمس الظل: أي أزالته وحلت محله. ويقال له: التبديل أيضا، وهو جعل شيء مكان شيء آخر. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = واصطلاحًا: "بيان انتهاء مدة حكم عملي جامع للشروط" أو "رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم، بخطاب آخر متراخ عنه". ومعناه: أن الله سبحانه وتعالى كان يعلم في الأزل أن هذا الحكم سيكون معمولا به لدى المكلفين إلى وقت محدد في علمه، ثم ينسخ. فلما انتهى الوقت المحدد أنزل حكمًا آخر ظهر منه الزيادة أو النقصان -أي: النسخ الجزئي أو التخصيص- أو الرفع مطلقا -أي: النسخ الكلي- وهو العالم بما كان وما سيكون علمًا قديمًا أزليًّا أبديًّا. ففي الحقيقة هذا بيان انتهاء المدة المعينة للحكم الأول؛ لكن لما لم يكن الوقت المحدد له مذكورا معه، تقرر في أوهام الناس استمراره بطريق التراخي، فلما جاء ميعاد انتهائه وابتداء الحكم الثاني وظهر الأمر، صار بحسب الظاهر للناس نسخا وتبديلا. حكمته: النسخ جائز عقلا وواقع شرعا قديما وحديثا من لدن آدم -عليه السلام- إلى أن ختم الله سبحانه الشرائع والكتب بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- والكتاب الذي أنزله عليه. ولا ريب أن في نسخ الأحكام حِكَمًا ومصالح نظرًا إلى حال المكلفين والزمان والمكان. كما أن الطبيب الحاذق يبدل الأدوية والأغذية بملاحظة حال المريض والمراحل التي وصل إليها وغير ذلك وفق المصلحة التي يراها، مع الرفق بحاله. وما يدعيه أهل الكتاب وغيرهم من امتناع النسخ باطل مخالف للواقع. كيف لا وأن المصالح تختلف باختلاف الزمان والمكان وأحوال المكلفين؟! قال سبحانه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106]. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وقال تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]. وقال جل جلاله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النمل: 100]. أمثلته: 1 - كان الصحابة -رضي الله عنهم- في بداءة الأمر مأمورين بترك القتال والإعراض عن المشركين. وقيل لهم: "كفوا أيديكم" ثم نسخ هذا الحكم، وأنزل الله عليهم قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}. 2 - ثم فرض الله عليهم الجهاد، وأوجب عليهم الثبات للمشركين في الحرب بمعدل واحد من المسلمين لعشرة من المشركين؛ نظرا للحالة التي كانوا عليها، ثم نسخ ذلك الحكم بوجوب مصابرة الواحد من المسلمين لاثنين من المشركين. قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 65، 66]. 3 - كان الناس حديثي عهد بالإسلام، وكان أهل الجاهلية إذا مات لهم قريب أظهروا من الجزع والنعي ما لا يقره عاقل. فنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين في بداءة الأمر عن زيارة القبور. ثم لما تمكن الإيمان من نفوسهم رخص لهم في ذلك؛ لما فيه من اتعاظ ودعاء للأموات. قال صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها تذكرة بالآخرة". =

فإن جحدوا كُذِّبوا بما نطق به الجزء الثاني من السِّفْر الأول من التوراة؛ إذ شرع الله على نوح -عليه السلام- القصاص في القتل، ذلك في قوله تعالى1: "شوفَيخ دام هاأذم باذام دامو استافيخ كي يصيلم ألويهم عاسا إت هاذام". تفسيره: سافك دم الإنسان، فليحكم بسفك دمه؛ لأن الله خلق آدم بصورة شريفة2. وما يشهد به الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة؛ إذ شرع على إبراهيم -عليه السلام- ختان المولود في اليوم الثامن من ميلاده3.

_ = تنبيهان: 1 - إنما يكون النسخ من صاحب الشرع عن طريق الوحي دون العبادة. 2 - لا يطرأ النسخ على الأمور القطعية العقلية، ولا على الأمور الحسية، ولا على الأحكام الواجبة نظرا إلى ذاتها، ولا على الأحكام المؤبدة، ولا على القصاص ونحو ذلك. فلا نسخ مثلا في تحريم الكذب والقتل والزنا والسرقة والخيانة وبر الوالدين وحرمة نكاح الأمهات والبنات وسائر المحارم، ونحو ذلك. وإنما يطرأ النسخ على الأحكام العملية المحتملة للوجود والعدم، وتسمى الأحكام المطلقة، ويشترط فيها ألا يكون الوقت والمكلف والوجه متحدة فيها؛ بل لا بد من الاختلاف في الكل أو البعض من هذه الثلاثة. أصول فقه الشاشي ص268، 269، إظهار الحق ص310. 1 كأن المؤلف -رحمه الله- يجاريهم. ولا يجوز نسبة القول إلى الله ما لم يكن ثابتا. وما بين أيديهم محرَّف كما سيذكر المؤلف فيما بعد. 2 جاء في سفر التكوين 9/ 6: سافك دم الإنسان، بالإنسان يسفك دمه؛ لأن الله على صورته عمل الإنسان. 3 جاء في سفر التكوين 17/ 10: هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وبينكم، وبين نسلك من بعدك: يختن منكم كل ذكر. 17/ 11: فتختنون في لحم غرلتكم. فيكون علامة عهد بيني وبينكم. 17/ 12: ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم، وليد البيت والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك. 17/ 13: يختن ختانا وليد بيتك والمبتاع بفضتك، فيكون عهدي في لحمكم عهدا أبديا. 17/ 14: وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته، فتقطع تلك النفس من شعبها، إنه قد نكث عهدي. إذن فقد كان الختان أبديا في شريعة إبراهيم -عليه السلام- وبقي هذا الحكم في أولاد إسماعيل وإسحاق -عليهما السلام- وأكدته شريعتا موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. جاء في سفر الأحبار "اللاويين" 12/ 2، 3: إذا حبلت امرأة وولدت ذكرا تكون نجسة سبعة أيام. كما في أيام طمث علتها تكون نجسة. وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته. وخُتن المسيح -عليه السلام- كما في إنجيل لوقا 2/ 21: ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سُمي يسوع، كما تسمى من الملاك قبل أن حُبل به في البطن. وفي العهد الجديد الصادر عن دار الكتاب المقدس في العالم العربي عام 1980م: ولما بلغ الطفل يومه الثامن، وهو يوم ختانه، سمي يسوع كما سماه الملاك قبلما حبلت به مريم. ولا زال ثمة صلاة لدى النصارى يؤدونها يوم ختان المسيح تذكرة لذلك اليوم. لكن بولس -صاحب الشخصية الغامضة- ومن تبعه نسخوا هذا الحكم كما في الباب الخامس من سفر الأعمال. وقد شدد بولس في نسخه تشديدا بالغا، كما في رسالته إلى أهل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = غلاطية. فقد جاء فيها ما يلي: 5/ 2: هأنا بولس أقول لكم: إنه إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئا. 5/ 3: لكن أشهد أيضا لكل إنسان مختتن أنه ملتزم أن يعمل بكل الناموس. 5/ 4: وقد تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبرَّرون بالناموس. سقطتم من النعمة. 5/ 6: لأنه في المسيح يسوع، لا الختان ينفع شيئا ولا الغُرلة. بل الإيمان العامل بالمحبة. وجاء في 6/ 15: لأن في المسيح يسوع، ليس الختان ينفع شيئا، ولا الغرلة. بل الخليقة الجديدة. وإذا كان النصارى يعيبون على المسلمين النسخ، ويرون أنه يستلزم وصف الله بالجهل وعدم الحكمة. فهذا إنما يرد على مقدسهم بولس الذي لم يكتفِ بنسخ الختان الأبدي فحسب، بل قال عن التوراة وسائر أسفار العهد القديم: إنها بطلت ونزعت، وإن العهد القديم كان ضعيفا وعديم النفع وغير مكمل لشيء، وجعله أحق بالاضمحلال والإبطال. فهل يتصور أن يصدر هذا التشريع وهذا النسخ من ذات الله قديم الصفات وكاملها؟! جاء في رسالته إلى العبرانيين 7/ 18: فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها. 7/ 19: إذ الناموس لم يكمل شيئا. ولكن بصير إدخال رجاء أفضل، به نقترب إلى الله. وفي العهد الجديد الصادر عام 1980: لأن شريعة موسى ما حققت الكمال في شيء، فحل محلها رجاء أفضل. =

وهذه وأمثالها شرائع؛ لأن التشريع لا يخرج عن كونه أمرًا أو نهيًا من الله لعباده، سواء نزل على لسان رسول أو كتب في أسفار وألواح أو غير ذلك. فإذا أقروا بأنه قد كان شرع لهم. قلنا لهم: ما تقولون في التوراة؟ هل أتت بزيادة على تلك الشرائع أو لا؟ فإذا قالوا: لا، فقد صارت عبثًا؛ إذ لا زيادة فيها على ما تقدم، ولم تغن شيئا. فلا يجوز أن تكون صادرة عن الله. فيلزمكم أن التوراة ليست من عند الله تعالى. وذلك كفر على مذهبكم. وإن كانت التوراة أتت بزيادة. فهل في تلك الزيادة تحريم ما كان مباحا أو لا؟ فإن أنكروا ذلك بطل قولهم من وجهين: أحدهما: أن التوراة حرمت الأعمال الصناعية في يوم السبت بعد أن كان مباحا. وهذا بعينه هو النسخ1.

_ = 8/ 7: فإنه لو كان ذلك الأول -أي العهد القديم- بلا عيب لما طُلب موضع لثان. 8/ 13: فإذ قال: جديدا، عتق الأول. وأما ما عتق وشاخ، فهو قريب من الاضمحلال. وفي العهد الجديد الصادر عام 1980م: والله بكلامه على عهد جديد جعل العهد الأول قديما. وكل شيء عتق وشاخ يقترب من الزوال. 10/ 9: ثم قال: هأنذا أجيء لأفعل مشيئتك يا ألله؛ يَنْزِعُ الأول لكي يُثبِّتَ الثاني. انظر إظهار الحق طبعة قطر ص35 وص306، 307. 1 كان تعظيم السبت حكما أبديا في الشريعة الموسوية، وما كان لأحد أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = يعمل فيه أدنى عمل. ومن عمل فيه عملا ولم يحفظه فقد وجب قتله. جاء في سفر التكوين 2/ 2، 3: وفرغ الله في اليوم السابع -وفي التوراة السامرية: السادس- من عمل يده الذي عمل. فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدسه؛ لأن فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقا، وفي السامرية: لأن فيه بطل من جميع صناعته التي صنع الله للفعل. وجاء في سفر الخروج 20/ 8 - 11: اذكر السبت لتقدسه، ستة أيام تعمل، وتصنع جميع عملك. وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك. لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك؛ لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها. واستراح في اليوم السابع؛ لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه. 23/ 12: ستة أيام تعمل عملك. وأما اليوم السابع ففيه تستريح؛ لكي يستريح ثورك وحمارك، ويتنفس ابن أمتك والغريب. 31/ 13 - 17: سبوتي تحفظونها؛ لأن علامة بيني وبينكم في أجيالكم ... فتحفظون السبت؛ لأنه مقدس لكم. من دنسه يقتل قتلا ... لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض. وفي اليوم السابع استراح وتنفس. وفي السامرية: بل سبوتي تحفظون. إنها آية بيني وبينكم لأجيالكم ... مبذلها قتلا يقتل ... ستة أيام تصنع صناعة، وفي السابع أعطل ... إن في ستة أيام صنع الله السماوات والأرض. وفي اليوم السابع عطل وأراح. فالله -سبحانه وتعالى- بزعمهم ضعيف، يحتاج إلى الراحة كالبشر. فبعد أن فرغ من خلق السماوات والأرض تنفس واستراح، وكان ذلك يوم السبت؛ ولذلك حرم العمل فيه. وقد رد الله سبحانه في القرآن الكريم =

الثاني: أنه لا معنى لزيادة في الشرع إلا تحريم ما تقدمت إباحته، أو إباحة ما تقدم تحريمه. فإن قالوا: إن الحكيم لا يحظر شيئا ثم يبيحه؛ لأن ذلك إن جاز مثله كان كمن أمر بشيء وضده. فالجواب أن من أمر بشيء وضده في زمانين مختلفين غير متناقض في أوامره. وإنما يكون كذلك لو كان الأمران في وقت واحد. فإن قالوا: إن التوراة حظرت أمورا كانت مباحة من قبل، ولم تأتِ بإباحة محظور. والنسخ المكروه هو إباحة المحظور؛ لأن من أبيح له شيء فامتنع عنه، وحظره على نفسه فليس بمخالف. وإنما المخالف من منع من شيء فأتاه لاستباحته المحظور. فالجواب: أن من أحل ما حظره الشرع في طبقة المحرِّم لما أحله الشرع؛ إذ كل منهما قد خالف المشروع، ولم يقر الكلمة على معاهدها. فإذا جاز أن يأتي شرع التوراة بتحريم ما كان إبراهيم -عليه

_ = على زعمهم هذا فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] أي: من تعب أو نَصَب. هذا، وقد تكرر حكم تعظيم يوم السبت وتحريم العمل فيه في مواضع أخرى كثيرة من أسفار العهد القديم، مثل: سفر الخروج 34/ 21 و35/ 2، 3، وسفر الأحبار -اللاويين- حيث وردت عدة فقرات منثورة في الباب الثالث والعشرين، وسفر العدد 15/ 32 - 36، حيث ذكرت قصة الذي جمع حطبا في يوم السبت، فقتل خارج المحلة رجما بالحجارة، وسفر التثنية 5/ 12 - 15، وسفر نحميا 9/ 14، وسفر إشعياء، ففيه فقرات منثورة في البابين السادس والخمسين والثامن والخمسين، وسفر إرمياء 17/ 21 - 27.

السلام- ومن تقدمه على استباحته، فجائز أن تأتي شريعة أخرى بتحليل ما كان في التوراة محظورا. وأيضا فلا تخلو المحظورات من أن يكون تحريمها مفترضا في كل الأزمنة؛ لأن الله سبحانه يكره ذلك المحظور لعينه1. وإما ألا يكرهه لعينه، بل نهى عنه في بعض الأزمنة. فإن كان الله نهى عن عمل الصناعات في يوم السبت لعين السبت، فينبغي أن يكون هذا التحريم على إبراهيم ونوح أيضا؛ لأن عين السبت كانت أيضا موجودة في زمانهم، وهي علة التحريم. وإذا كان ذلك غير محرم على إبراهيم ومن تقدمه، فليس النهي عنه لعينه -أعني: في جميع أوقات وجود عينه- وإذا لزمكم أن تحريم الصناعة في يوم السبت ليس تحريما في جميع أوقات السبت، فليس يمتنع أن ينسخ هذا التحريم في زمن آخر. وإذا ظهر قائم بمعجزات الرسالة وأعلام النبوة في زمن آخر بعد فترة طويلة، فجائز أن يأتي بنسخ كثير من أحكام الشريعة، سواء حظر مباحاتها، أو أباح محظوراتها. وكيف يجوز أن تحاج البينة باعتراض فيما ورد به من أمر ونهي، سواء وافق العقول البشرية أو باينها؟ لا سيما أن الخصوم قد طالما تعبدوا بفرائض مباينة للعقول، كطهارة أنجاسهم برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها قبيل أوان الحج، ونجاسة طاهرهم بذلك الرماد بعينه2.

_ 1 المحظور لعينه ما يترتب على الإتيان به ضرر أو فساد أو ما أشبه ذلك، مثل الكذب والقتل والزنا والسرقة والخيانة ونحو ذلك. فهذا لا يباح قط، ولا يتأتى فيه النسخ. 2 سيتعرض المؤلف لهذا الموضوع قريبا؛ وإنما مراده هنا أن الأمور التعبدية قد تخفي حكمتها. ثم ضرب لليهود مثلا على ذلك من واقع كتابهم وحياتهم، ألا وهو طهارة من انتابته نجاسة منهم مادية أو معنوية برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها بعد ذبحها، وفي طرح هذا الرماد على الشخص نجاسة وقذارة، فأين التنزه عن النجاسة؟

على أن الذي يروم تنزيله منزلة هذا أقرب كثيرا إلى العقل. فإن الأفعال والأوامر الإلهية منزهة عن الوقوف عند مقتضى العقول البشرية1.

_ 1 من الجدير بالذكر أنه لا تعارض بين العقل السليم أو الفطرة الصافية وبين ما جاء به الأنبياء -عليهم السلام- فالله سبحانه وتعالى لم يتعبدنا بشيء يخالف العقل الكامل أو الفطرة. والكتب السماوية إنما تأتي بما تحار فيه العقول لا بما تحيله. ولو أن ذا فطرة سليمة فكر بحق وعمق لأدرك كثيرا من حكم التشريع. وليس ثمة ما يمنع من أن تأتي الرسل مؤيدة لما رأته العقول السليمة. بل يكون ذلك من باب ترادف الأدلة. ولذلك وافق القرآن عمر -رضي الله عنه- في أمور ارتآها بفطرته الصافية التي نفض الإسلام عنها غبار الجاهلية. لكن من يضمن لنا سلامة العقل وصفاء الفطرة في شخص ما ولو نسبيا؟ ومن يضمن لنا خلو ذلك الشخص من المؤثرات النفسية والاجتماعية؟ ثم من يضمن لنا استمرار ذلك كله؟ وكيف نوفق بين العقول المختلفة والمتفاوتة؟ فمن أجل هذا وغيره كان لا بد من إرسال الرسل بتشريع سماوي يحسم الخلاف، ويكون الوحي المنزل عليهم هو الفيصل في جميع الأمور. هذا، والأنبياء جميعا يدعون إلى أصول مشتركة، لا تختلف في حقيقتها وجوهرها، ويبنون أحكامهم على أسس متناسقة. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ =

وإذا كانت التعبدات الشرعية غير عائدة بنفع لله عز وجل، ولا دافعة عنه ضررا لتنزهه -سبحانه وتعالى- عن الانتفاع والتأذي بشيء. فما الذي يحيل أو يمنع كونه تعالى يأمر أمة بشريعة، ثم ينهى أمة أخرى عنها؟ أو يحرم محظورا على قوم، ويحله لأولادهم، ثم يحظره ثانية على من يجيء بعدهم؟ وكيف يجوز للمتعبد أن يعارض الرسول في تحليله ما كان حراما على قوم، ويستدل بذلك على كذبه بعد أن جاء بالبينة، وأوجب العقلاء تصديقه وتحكيمه؟ أليس هذا تحكما وضلالا وعدولا عن الحق؟!

_ = وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقال جل شأنه: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت: 43]. وقد استهدفت جميع الشرائع السماوية في عباداتها وتشريعاتها وأحكامها ما يحقق مصالح الناس في الدنيا، ويهيئهم للظفر بسعادة الآخرة. قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. غير أن تفاصيل الشرائع وفروع الأحكام وأشكال العبادة تختلف من أمة إلى أمة تبعًا لاختلاف زمان الناس وأحوالهم واستعداداتهم وما يحيط بهم من عوامل وملابسات. قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. وقال أيضًا: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67].

[نسخ السبت بالصوم الأكبر]: نقول لهم: ما تقولون في السبت؟ أيهما أقدم: افتراضها عليكم أو افتراض الصوم الأكبر؟ فيقولون: السبت أقدم؛ لأنهم إن قالوا: الصوم أقدم، كذبناهم بأن السبت فرضت عليهم في أول إعطائهم المن، والصوم الأكبر فرض عليهم بعد نزول اللوحين ومخالفتهم وعبادتهم العجل. ولما رُفع عنهم عقاب ذنبهم ذلك في هذا اليوم، فُرض عليهم صومه وتعظيمه. فإذا أقروا بتقديم السبت قلنا لهم: ما تقولون في يوم السبت؟ هل فرضت فيه عليكم الراحة والدعة وتحريم المشقات أو لا؟ فيقولون: بلى. فنقول لهم: فلم فرضتم فيه الصوم إذ اتفق صومكم الأكبر يوم السبت، مع كون صومكم فرض بعد فريضة السبت؟ ولكم في هذا الصوم أنواع من المشقة، منها القيام جميع النهار، أليس هذا أيضا قد نسخ فريضة السبت؟! 1 ما يحكونه عن عيسى -عليه السلام-[وعمله يوم السبت]: هم يزعمون أنه كان من العلماء، وأنه كان يطبب المرضى

_ 1 ومما يلزم اليهود بوقوع النسخ عندهم أن التوراة تنطق بوجوب الختان في اليوم الثامن من الولادة كما سلف، وتنطق بتحريم الصنائع العملية يوم السبت كما سلف أيضا. ولا بد من أن ينسخ أحد الفرضين الآخر إذا اتفق ثامن يوم الولادة مع يوم السبت. ولا ينفعهم ما تعللوا به -كما ذكره ابن كمونة في تنقيح الأبحاث ص47 - بأن إيجاب الختان أسبق من تعظيم السبت، فحيث حرمت الأعمال الصناعية فيه كان الختان مستثنى؛ لأنه وقع تعارض والمتأخر هو الذي ينسخ. وإلا فإنه كان من اللائق أن يستثنى ذلك صراحة عندما نزل تعظيم السبت. وما لم ينزل فهو نسخ بالاجتهاد لا بالنص.

بالأدوية، ويوهمهم أن الانتفاع الْمُنال حصل لهم بدعائه. وأنه أبرأ جماعة من المرضى من أسقامهم يوم السبت، فأنكرت عليه اليهود ذلك. فقال لهم: أخبروني عن الشاة من الغنم: إن وقعت في البئر يوم السبت، أما تنزلون إليها، وتحلون السبت لتخليصها؟ قالوا: بلى. قال: فلماذا أحللتم السبت لتخليص الغنم، ولا تحلونه لتخليص الإنسان الذي هو أكبر حرمة من الغنم؟ فأفحمهم، ولم يؤمنوا. وأيضا، فإنهم يحكون عنه أنه كان مع جماعة من تلاميذه في جبل، ولم يحضرهم الطعام. فأذن لهم في تناول الحشيش يوم السبت، فقال لهم: أرأيتم لو أن أحدكم كان وحيدا مع قوم على غير ملته، وأمروه بقطع النبات في يوم السبت وإلقائه لدوابهم، ألستم تجيزون له قطع النبات؟ قالوا: بلى. قال: فإن هؤلاء القوم أمرتهم بقطع النبات ليأكلوه؛ لينقذوا أنفسهم، لا للطعن في أمر السبت. كل ذلك ملاطفة منه لعقولهم التي لا ينطبع فيها النسخ. ولئن كان ما يحكونه من ذلك صحيحا، فلعله كان في ابتداء أمر المسيح عليه السلام1.

_ 1 جاء في إنجيل يوحنا 5/ 16: فأخذ اليهود يضطهدون يسوع، ويطلبون أن يقتلوه؛ لأنه كان يفعل ذلك يوم السبت. وانظر متن 12/ 1 - 12. ويظهر -والله أعلم- أن المسيح -عليه السلام- إنما أنكر على اليهود الغلو والتشدد في أمر السبت، ولم ينكر عليهم تعظيمه. لكن بولس ومَن لف لفه هم الذين أسقطوا تعظيمه وغيروا وبدلوا. جاء في رسالة بولس إلى أهل كولوسي 2/ 16: لا يحكم عليكم أحد في المأكول والمشروب، أو في الأعياد والأهلة والسبوت. 2/ 17: فما هذه كلها إلا ظل الأمور المستقبلة. أما الحقيقة فهي في المسيح. وذكر الشيخ الهندي -رحمه الله- في إظهار الحق ص306 أنه جاء في تفسير "دوالي ورجر دمينت" في شرح هذه الجملة ما يلي: قال بركت والدكتور وت بي: "كانت -أي الأعياد- في اليهود على ثلاثة أقسام: في كل سنة سنة، وفي كل شهر شهر، وفي كل أسبوع أسبوع. فنسخت هذه كلها، بل يوم السبت أيضًا، وأقيم سبت المسيحيين مقامه". وقال بِشُب هارسلي: "زال سبت كنيسة اليهود، وماشى المسيحيون في عمل سبتهم على رسوم طفولية الفريسيين". اهـ.

وجه آخر في إثبات النسخ بأصولهم

وجه آخر في إثبات النسخ بأصولهم: نقول لهم: فهل أنتم اليوم على ملة موسى عليه السلام؟ فإن قالوا: نعم. قلنا لهم: أليس في التوارة "أن من مس عظما، أو طئ قبرا، أو حضر ميتا عند موته، فإنه يصير من النجاسة في حالة لا طهارة له منها إلا برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها"؟ فلا يمكنهم مخالفة ذلك؛ لأن نصُّ ما يتداولونه1.

_ 1 إن مس الميت وما يتعلق به نجاسة مغلظة عندهم، تحتاج إلى طهارة خاصة. جاء في سفر الأحبار "اللاويين" 21/ 1 - 3: وقال الرب لموسى: كلم الكهنة بني هارون، وقل لهم: لا يتنجس أحد منكم لميت في قومه، إلا لأقربائه الأقرب إليه: أمه وأبيه وابنه وابنته وأخيه وأخته العذراء القريبة التي لم تصر لرجل، لأجلها يتنجس. وجاء في سفر العدد 19/ 1 - 4: وكلم الرب موسى وهارون قائلا: هذه فريضة الشريعة التي أمر بها الرب قائلا: كلم بني إسرائيل أن يأخذوا إليك بقرة حمراء صحيحة لا عيب فيها، ولم يعلُ عليها نِير، فتعطونها لأَلِعازارَ الكاهن، فتخرج إلى خارج المحلة، وتذبح قدامه. ويأخذ ألعازار الكاهن من دمها بإصبعه، وينضح من دمها إلى جهة وجه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = خيمة الاجتماع سبع مرات. 19/ 5، 6: وتحرق البقرة أمام عينيه، يحرق جلدها ولحمها ودمها مع فرثها. ويأخذ الكاهن خشب أرز وزوفا وقِرْمِزًا ويطرحهن في وسط حريق البقرة. 19/ 7، 8: ثم يغسل الكاهن ثيابه، ويرحض جسده بماء. وبعد ذلك يدخل المحلة، ويكون نجسا إلى المساء. والذي أحرقها يغسل ثيابه بماء، ويرحض جسده بماء، ويكن نجسا إلى المساء. 19/ 9: ويجمع رجل طاهر رماد البقرة، ويضعه خارج المحلة في مكان طاهر، ويكون محفوظا لجماعة بني إسرائيل لأجل ماء النضح. إنها ذبيحة خطية. 19/ 10: والذي يجمع رماد البقرة يغسل ثيابه، ويكون نجسا إلى المساء. فتكون لبني إسرائيل وللغريب النازل في وسطهم فريضة دهرية؛ أي: فيكون ذلك الرماد رسم الدهر لهم. 19/ 11، 12: من مس ميتا، ميتة إنسان ما يكون نجسا سبعة أيام. يتطهر بهذا الماء في اليوم الثالث، وفي اليوم السابع يكون طاهرا. وإن لم يتطهر في اليوم الثالث، ففي اليوم السابع لا يكون طاهرا. 19/ 13: كل من مس ميتا ميتة إنسان قد مات، ولم يتطهر، يُنجِّس مسكن الرب. فتقطع تلك النفس من إسرائيل؛ لأن ماء النجاسة -أي النضح- لم يرش عليها. تكون نجسة ونجاستها لم تزل فيها. 19/ 14، 15: هذه هي الشريعة؛ إذا مات إنسان في خيمة، فكل من دخل الخيمة، وكل من كان في الخيمة يكون نجسا سبعة أيام. وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فهو نجس. 19/ 16: وكل من مس على وجه الصحراء قتيلا بالسيف أو ميتا أو عظم إنسان أو قبرا يكون نجسا سبعة أيام. =

فنقول لهم: فهل أنتم اليوم على ذلك؟ فيقولون: لا نقدر على ذلك. فنقول لهم: فكيف جعلتم أن من لمس العظم والقبر والميت فهو طاهر، يصلح للصلاة وحمل المصحف، والذي في كتابكم خلافه؟ فإن قالوا: لأنا عدمنا أسباب الطهارة، وهي رماد البقرة، والإمام المطهر المستغفر. قلنا: فهل ترون هذا الأمر مع عجزكم عنه مما تستغنون عنه في الطهارة أو لا؟

_ = 19/ 17 - 19: فيأخذون للنجس من غبار ذبيحة الخطية، ويُصب عليه ماء معين في إناء. ويأخذ رجل طاهر زوفا، ويغمسها في الماء، وينضحه على الخيمة وعلى جميع الأمتعة وعلى الأنفس الذين كانوا هناك، وعلى الذي مس العظم أو القتيل أو الميت أو القبر. ينضح الطاهر على النجس في اليوم الثالث واليوم السابع، ويطهره في اليوم السابع، فيغسل ثيابه ويرحض بماء، فيكون طاهرًا في المساء. 19/ 20، 21: وأما الإنسان الذي يتنجس ولا يتطهر، فتُباد تلك النفس من بين الجماعة؛ لأنه نَجَّس مقدس الرب. ماء النجاسة -أي النضح- لم يرش عليه. إنه نجس. فتكون لهم فريضة دهرية. اهـ. هذا هو طَهور أحدهم إذا مس ميتا أو ما يتعلق به أو ما يحيط به: ماء ممزوج برماد حريق تلك البقرة التي ذبحت وأحرقت أمام الكاهن الهاروني، ثم جُمع رمادها وحفظ خارج المحلة في مكان طاهر. فأين المحلة وأين ذلك الرماد اليوم؟ فإن استغنوا عن ذلك مع عجزهم عنه فقد أقروا بالنسخ. وإلا كانوا أنجاسًا أبدًا، ويجب أن يبادوا. وما أكثر ما ينقلون رفات جنودهم اليوم وسائر من قتل أو مات منهم في أرض لا يريدونها إلى فلسطين المحتلة. فهل وجدوا ذلك الرماد في الحفريات؟

فإن قالوا: نعم، قد نستغني عنه، فقد أقروا بالنسخ لتلك الفريضة لحال اقتضاها هذا الزمان. وإن قالوا: لا نستغني في الطهارة عن ذلك الطهور، فقد أقروا بأنهم الأنجاس أبدا ما داموا لا يقدرون على سبب الطهارة. فنقول لهم: فإذا كنتم أنجاسا على رأيكم وأصولكم، فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام اعتزالا تُفرطون فيه إلى حد أن أحدكم لو لمس ثوبه ثوب المرأة الحائض لاستنجستموه مع ثوبه؟ 1

_ 1 جاء في سفر اللاويين 15/ 19، 20: وإذا كانت امرأة لها سيل، وكان سيلها دما في لحمها، فسبعة أيام تكون في طمثها، وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء، وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسا، وكل ما تجلس عليه يكون نجسا. 15/ 21، 22: وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء، ويكون نجسا إلى المساء. وكل من مس متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم بماء، ويكون نجسا إلى المساء. 15/ 23: وإن كان على مضجعها أو على ما هي جالسة عليه شيء، فإن لمسه يكون نجسا إلى المساء. 15/ 24: وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام. وكل فراش يضطجع عليه يكون نجسا. 15/ 25: وإذا كانت امرأة يسيل سيل دمها أياما كثيرة في غير وقت طمثها، أو إذا سال بعد طمثها، فتكون كل أيام سيلان نجاستها كما في أيام طمثها. إنها نجسة. 15/ 28: وإذا طهرت من سيلها تحسب لنفسها سبعة أيام ثم تطهر. 15/ 29: وفي اليوم الثامن تأخذ لنفسها يمامتين أو فرخي حمام، وتأتي بهما إلى الكاهن إلى باب خيمة الاجتماع. 17/ 19: ولا تقترب إلى امرأة في نجاسة طمثها لتكشف عورتها.

فإن قالوا: لأن ذلك من أحكام التوراة. قلنا: أليس في التوراة أن ذلك يراد به الطهارة؟ فإذا كانت الطهارة قد فاتتكم، فإن النجاسة التي أنتم فيها على معتقدكم لا ترتفع بالغسل كنجاسة الحيض، فهي لذلك أشد من نجاسة الحيض، ثم إنكم ترون أن الحائض طاهرة إذا كانت من غير ملتكم، ولا تستنجسون لامسها ولا الثوب الذي تلمسه. وتخصيص الأمر -أعني نجاسة الحائض بطائفتكم- مما ليس في التوراة، فهذا كله منكم نسخ أو تبديل. فإن قالوا: إن هذا وإن كان النص غير ناطق به فقد جاء في الفقه. قلنا لهم: فما تقولون في فقهائكم؛ هل الذي اختلفوا فيه من مسائل الخلاف والمذهب -على كثرتها لديكم- كان ثمرة اجتهاد واستدلال منقولا بعينه؟ فهم يقولون: إن جميع ما في كتب فقهنا نقله الفقهاء عن الأحبار عن الثقات من السلف عن يوشع بن نون عن موسى الكليم -عليهما السلام- عن الله تعالى. فيلزمكم في هذا أن المسألة الواحدة التي اختلف فيها اثنان من فقهائكم أن يكون كل واحد منهما ينقل مذهبه فيها نقلا مستندا إلى الله عز وجل. وفي ذلك من الشناعة اللازمة أن يجعلوا الله قد أمر في تلك المسألة بشيء وخلافه. وهو النسخ الذي يدفعونه بعينه. فإن قالوا: إن الخلاف غير مستعمل؛ لأن الأولين كانوا بعد

اختلافهم في المذهب في المسألة يرجعون بها إلى أصل واحد هو المقطوع به. قلنا: إن رجوعهم بعد الاختلاف إلى الاتفاق على مذهب واحد، إما لأن أحدهم رجع عما نقل، أو طعن في نقله، فيلزمه السقوط عن العدالة. ولا يجوز لكم أن تعاودوا الالتفاف إلى نقله، وإما أن يكون الفقهاء اجتمعوا على نسخ أحد المذهبين، أو تكون رواية أحدهما ناسخة لرواية الآخر. وما من الفقهاء إلا قد ألغى مذهبه في مسائل كثيرة. وهذا جنون ممن لا يقر بالنسخ، ولا يرى كلام أصحاب الخلاف اجتهادا ونظرا. بل نقلا محضا1.

_ 1 الفقه لغة: الفهم. واصطلاحا: العلم بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد من أدلتها التفصيلية. والاجتهاد لغة: بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال؛ ولا يستعمل إلا فيما فيه مشقة. واصطلاحا: بذلك الوسع في النظر في الأدلة للحصول على القطع أو الظن بحكم شرعي. والحق في قول واحد من المجتهدين المختلفين، لكن المخطئ في الفروع التي ليس فيها دليل قطعي معذور، وعبادته مقبولة بفضل الله. قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}. وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر". وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. وعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" رواه مسلم وأبو داود والترمذي. وعن سلمة بن نفيل الكندي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ولا تزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام، ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله" أخرجه أحمد والنسائي.

إلزامهم النسخ بوجه آخر: نقول لهم: ما تقولون في صلواتكم وصومكم؟ هل هي التي فارقكم عليها موسى عليه السلام؟ فإن قالوا: نعم. قلنا: فهل كان موسى وأمته يقولون في صلاتهم كما تقولون: "تقاع شوفار كاذول لحيروا ثلتووسانيس لقبو صينو وقصلنو باحد تياره باع كنفوث ها أرص نوى قد شيخا يا روح أتا أدوناي مقبيص ندحى عموا يا روح برائل"؟ تفسيره: اللهم اضرب ببوق عظيم لعتقنا، واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك يا جامع تشتيت قوم بني إسرائيل. أم هل كانوا على عهد موسى -عليه السلام- يقولون كما تقولون في كل يوم: "هاشيب شوفطينو كبار شيونا ويوعصينو كبتحلا وبن أشير برشالايم عير قد شخا يحيتوونا حمينو بلسنا ناياروخ أنا أدوناي بوي بروشالايم"؟ تفسيره: رد حكامنا كالأولين، ومسراتنا كالابتداء، وابن يروشلم قرية قدسك في أيامنا، وأعزنا ببنائها، سبحانك يا باني يروشليم. أَمَا هذه فصول شاهدة بأنكم لفقتموها بعد زوال الدولة؟ 1

_ 1 سيذكر المؤلف -رحمه الله- في آخر باب "ذكر السبب في تبديل التوراة" أن الفرس كثيرا ما منعوا اليهود عن الصلاة لمعرفتهم بأن معظم صلوات =

وأما صوم إحراق بيت المقدس وصوم حصاره وصوم كداليا الذي جعلتموه فرضا. هل كان موسى -عليه السلام- يصومها وأمر بها، هو أو خليفته يوشع؟ أو صوم صلب هامان؟ هل هذه الأمور مفترضة بالتوراة، أو زيدت لأسباب اقتضت زيادتها في هذه الأعصار؟ فإن قالوا: وكيف يلزمنا النسخ بهذه الآي؟ قلنا: لأن التوراة بهذه الآية نطقت، وهي: "لوثوا سيفوا عل هدا باراشيرا نوضي مصوي أتخيم ولوتغر عد ممينو". تفسيره: لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئا، وإذا زدتم أشياء من الفرائض، فقد نسختم تلك الآية1.

_ = هذه الطائفة دعاء على الأمم بالبوار وعلى العالم بالخراب سوى بلادهم التي هي أرض كنعان. فلما رأت اليهود الجد من الفرس في منعهم من الصلاة، اخترعوا أدعية زعموا أنها فصول من صلاتهم، وسموها الخزانة، وصاغوا لها ألحانا عديدة، وصاروا يجتمعون في أوقات صلواتهم على تلحينها وتلاوتها. والفرق بين هذه الخزانة وبين الصلاة: أن الصلاة بغير لحن، وأن المصلي يتلو الصلاة وحده، وأما الخزانة فيشارك جماعة في الجهر بها، ويعاونونه في الألحان. وكانت الفرس إذا أنكرت ذلك منهم زعمت اليهود أنهم يغنون أحيانا، وينوحون على أنفسهم أحيانا أخرى، فتركوهم وذاك. ثم صارت الخزانة عندهم من السنن المستحبة؛ بل إنهم في الأعياد والمواسم والأفراح يستغنون بها عن الصلاة من غير ضرورة. 1 جاء في سفر التثنية 4/ 1: فالآن يا إسرائيل اسمع الفرائض والأحكام التي أنا أعلمكم لتعملوها ... 4/ 2: لا تزيدوا على الكلام الذي أنا أوصيكم به، ولا تنقصوا منه؛ لكي تحفظوا وصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها.

إثبات النسخ على وجه آخر: نقول لهم: أليس عندكم أن الله اختار من بني إسرائيل الأبكار ليكونوا خواص في الخدمة للأقداس؟ 1 فيقولون: بلى. فنقول لهم: أليس عندكم أيضا أن موسى -عليه السلام- لما نزل من الجبل، ومعه الألواح، ووجد القوم عاكفين على العجل، وقف بطرف المعسكر ونادى: من كان لله تعالى فليحضرني. فانضم إليه بنو لاوى، ولم ينضم إليه البكور؛ إذ هم خاصة الله يومئذ، دون أولاد لاوى. فلما خذله البكور ونصره أولاد لاوى، قال الله لموسى: "وأقاح اث هلويم ثاحث كل نحور بني إسرائيل"؟ تفسيره: وقد أخذت اللاويين عوضا عن كل بكر في بني إسرائيل2.

_ 1 جاء في سفر الخروج 13/ 1، 2: وكلم الرب موسى قائلا: قدس لي كل بكر كل فاتح رحم من بني إسرائيل من الناس ومن البهائم، إنه لي. 13/ 11 - 13: ويكون متى أدخلك الرب أرض الكنعانيين ... أنك تقدم لرب كل فاتح رحم ولك بكر من نتاج البهائم التي تكون لك. الذكر للرب. ولكن كل فاتح رحم ولك بكر من نتاج البهائم التي تكون لك. الذكور للرب. ولكن كل بكر حمار تفديه بشاة. وإن لم تفده، فتكسر عنقه. وكل بكر إنسان من أولادك تفديه. 13/ 14 - 16: ويكون متى سألك ابنك غدا قائلا: ما هذا؟ تقول له: بيد قوية أخرجنا الرب من مصر من بيت العبودية. وكان لما تقسى فرعون عن إطلاقنا أن الرب قتل كل بكر في أرض مصر، من بكر الناس إلى بكر البهائم؛ لذلك أنا أذبح للرب الذكور من كل فاتح رحم. وأفدي كل بكر من أولادي. 2 جاء في سفر الخروج 32/ 1 - 5: ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = الجبل، اجتمع الشعب على هارون، وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا .. فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وائتوني بها .. فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل عجلا مسبوكا. فقالوا: هذه آلهتك يإسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر. فلما نظر هارون بنى مذبحا أمامه، ونادى: غدا عيد الرب. اهـ. وهكذا اتهم واضعو التوراة هارون -عليه السلام- بصنع العجل وبناء مذبح له وغير ذلك. وقد ذكر الله سبحانه تفاصيل هذه القصة في سورتي الأعراف 148 - 152، وطه 83 - 98، وبين أن الذي صنع العجل وفتنهم به إنما هو السامري [الشمروني]، وأن هارون -عليه السلام- لم يأل جهدا في نهيهم ونصحهم؛ لكنهم أصروا على عبادة العجل ولم يستجيبوا له. وأن كل ما أخذه موسى على أخيه هارون -عليهما السلام- أنه لم يتركهم ويلحق به، أو لم يقاتلهم بمن معه. وجاء أيضا في 32/ 5: فانصرف موسى ونزل من الجبل، ولوحا الشهادة في يده. 32/ 19، 20: وكان عندما اقترب موسى إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص، فحمي غضبه، وطرح اللوحين من يده، وكسرهما في أسفل الجبل. ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه وطحنه حتى صار ناعما، وذراه على وجه الماء، وسقى بني إسرائيل. 32/ 25، 26: ولما رأى موسى أن الشعب معرى .. وقف في باب المحلة وقال: من للرب فإليّ. فاجتمع إليه جميع بني لاوى. 32/ 27 - 29: فقال لهم: هكذا قال الرب إله إسرائيل: ليتقلد كل واحد سيفه، واذهبوا وارجعوا من باب إلى باب في المحلة، وليقتل كل واحد أخاه وصاحبه وقريبه. ففعل بنو لاوى بحسب قول موسى. ووقع من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل. وقال موسى: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = املئوا أيديكم اليوم للرب، حتى كل واحد بابنه وبأخيه، فيعطيكم اليوم بركة. وجاء في سفر العدد 3/ 11 - 12: وكلم الرب موسى قائلا: وها إني قد أخذت اللاويين من بين بني إسرائيل بدل كل بكر فاتح رحم من بني إسرائيل، فيكون اللاويون لي. 3/ 13: لأن كل بكر هو لي يوم أهلكت كل بكر في أرض مصر قدست لي كل بكر في إسرائيل من الناس والبهائم. إنهم يكونون لي أنا الرب. 3/ 40: وقال الرب لموسى: عُدَّ كل بكر ذكر من بني إسرائيل، من ابن شهر فصاعدا. 3/ 41: فتأخذ اللاويين لي أنا الرب بدل كل بكر في بني إسرائيل. 8/ 5: وكلم الرب موسى قائلا: خذ اللاويين من بين بني إسرائيل وطهرهم. 8/ 13 - 14: فتوقف اللاويين أمام هارون وبنيه، وترددهم ترديدًا للرب. وتفرز اللاويين من بين بني إسرائيل، فيكون اللاويون لي. 8/ 16: لأنهم موهوبون لي هبة من بين بني إسرائيل. بدل كل فاتح رحم بكر من بني إسرائيل قد اتخذتهم لي. 8/ 18 - 19: فاتخذت اللاويين بدل كل بكر في بني إسرائيل. ووهبت اللاويين هبة لهارون وبنيه من بني إسرائيل ليخدموا خدمة بني إسرائيل في خيمة الاجتماع ... 18/ 1 - 3: وقال الرب لهارون: أنت وبنوك وبيت أبيك معك تحملون ذنب المقدس ... وأيضا إخوتك سبط لاوى سبط أبيك قربهم معك، فيقترونوا بك ويؤازروك. وأنت وبنوك قدام خيمة الشهادة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = 18/ 8 و19: وقال الرب لهارون: وهأنذا قد أعطيتك حراسة رفائعي مع جميع أقداس بني إسرائيل، لك أعطيتها المسحة ولبنيك [وبناتك معك] فريضة دهرية. ومن العجيب أن يتهم واضعو التوراة هارون -عليه السلام- وهو من سبط لاوى بعمل العجل وعبادته، ثم يذكروا أن الله اصطفاه وبنيه وأعطاهم جميع رفائع الأقداس التي يرفعها بنو إسرائيل للرب، ويذكروا أيضا أن الله سبحانه وهب اللاويين كلهم لهارون، وأمرهم بالوقوف أمام هارون وبنيه! فهل هو الذي صنع العجل حقا؟ وصفوة القول: إن النسخ بتعريفه السابق لا يعني أن الله سبحانه أمر ونهى أولا، وما كان يعلم العاقبة، ثم فوجئ بأمور أو بدا له رأي، فنسخ الحكم الأول، ليلزم منه الجهل، ولا يعني أيضا أنه أمر ونهى ثم نسخ مع الاتحاد في الوقت والشخص والوجه، ليلزم منه الشناعة عقلا. بل إنما هو إخبار عن انتهاء مدة لحكم قدرها الله في الأزل. هذا، والنسخ كان معروفا في الشرائع السابقة بكثرة، سواء كان في شريعة واحدة، أو في شريعة نبي لاحق لحكم كان في شريعة نبي سابق. وأمثلة القسمين كثيرة في الكتاب المقدس، ذكر بعضها الشيخ رحمه الله الهندي في إظهار الحق ص302 - 314. أ- فمن أمثلة القسم الأول ما يلي: 1 - أمر الله سبحانه إبراهيم -عليه السلام- بذبح ابنه الوحيد. ثم نسخ هذا الحكم قبل العمل به كما في سفر التكوين 22/ 1 - 8. 2 - جاء في سفر صموئيل الأول 2/ 30 خطاب الله للكاهن عالي: لذلك يقول الرب إله إسرائيل: إني قلت: إن بيتك وبين أبيك يسيرون أمامي إلى الأبد. والآن يقول الرب: حاشى لي. فإني أكرم الذين يكرمونني، والذين يحتقرونني يصغرون. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = 2/ 31: هو ذا تأتي أيام أقطع فيها ذراعك وذراع بيت أبيك حتى لا يكون شيخ في بيتك. 2/ 35: وأقيم لنفسي كاهنا أمينا يعمل حسب ما بقلبي ونفسي، وأبني له بيتا ... ذكر الشيخ رحمه الله الهندي في إظهار الحق ص311 طبعة قطر: أنه جاء في تفسير "دوالي ورجر دمينيت" قول العالم باترك: "ينسخ الله هاهنا حكما كان وعده وأقره؛ بأن رئيس الكهنة يكون منكم إلى الأبد. أعطي هذا المنصب ألعازار الولد الأكبر لهارون، ثم أعطي تامار الولد الأصغر لهارون، ثم انتقل الآن بسبب ذنب أولاد عالي الكاهن إلى أولاد ألعازار". 3 - جاء في سفر التثنية 17/ 15 - 17: فإنك تجعل عليك ملكا الذي يختاره الرب إلهك .. ولكن لا يكثر له الخيل .. ولا يكثر له نساء لئلا يزيغ قلبه، وفضة وذهبا لا يكثر له كثيرا. فلا يجوز للملك الذي يملكه الإسرائيليون عليهم أن يستكثروا من الخيل أو النساء أو من الذهب أو من الفضة. مع أن داود -عليه السلام- فقد استكثر من النساء والخيل. أما ولده سليمان -عليه السلام- فقد استكثر من الجميع استكثارا عظيما. وهذا يدل على وقوع النسخ. 4 - جاء في سفر الأحبار -اللاويين- 17/ 3 - 5: كل إنسان من بيت إسرائيل يذبح بقرا أو غنما أو معزى في المحلة أو يذبح خراج المحلة. وإلى باب خيمة الاجتماع لا يأتي به ليقرب قربانا للرب أمام مسكن الرب، يحسب على ذلك الإنسان دم، قد سفك دما، فيقطع ذلك الإنسان من شعبه. لكي يأتي بنو إسرائيل بذبائحهم التي يذبحونها على وجه الصحراء، ويقدمونها للرب إلى باب خيمة الاجتماع إلى الكاهن، ويذبحوها ذبائح سلامة للرب. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ثم نسخ هذا الحكم فقد جاء في سفر التثنية 12/ 13: احترز من أن تصعد محرقاتك في كل مكان تراه. 12/ 14: بل في المكان الذي يختاره الرب في أحد أسباطك .. 12/ 15: ولكن من كل ما تشتهي نفسك تذبح، وتأكل لحما في جميع أبوابك حسب بركة الرب وإلهك التي أعطاك. النجس والطاهر يأكلانه كالظبي والأُيَّل. 12/ 20: إذا وسع الرب إلهك تخومك كما كلمك، وقلت: آكل لحما .. فمن كل ما تشتهي نفسك تأكل لحما. 12/ 21: إذا كان المكان الذي يختاره الرب إلهك ليضع اسمه فيه بعيدا عنك، فاذبح من بقرك وغنمك التي أعطاك الرب كما أوصيتك، وكل في أبوابك من كل ما اشتهت نفسك. 12/ 22: كما يؤكل الظبي والأيل هكذا تأكله. النجس والطاهر يأكلانه سواء. 5 - جاء في سفر حزقيال 4/ 10: وطعامك الذي تأكله يكون بالوزن، كل يوم عشرين شاقلا -مثقالا. 4/ 12: وتأكل كعكا من الشعير على الخُرء الذي يخرد من الإنسان تخبزه أمام عيونهم. 4/ 13: وقال الرب: هكذا يأكل بنو إسرائيل خبزهم النجس بين الأمم الذين أطردهم إليهم. 4/ 14: فقلت: آه يا سيد الرب، ها نفسي لم تتنجس، ومن صباي إلى الآن لم آكل ميتة أو فريسة، ولا دخل فمي لحم نجس. 4/ 15: فقال لي: انظر. قد جعلت لك خثي البقر بدل خرء الإنسان، فتصنع خبزك عليه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = 6 - جاء في إنجيل متى 10/ 5 - 7: وأرسل يسوع هؤلاء التلاميذ الاثني عشر، وأوصاهم قائلا: لا تقصدوا أرضا وثنية، ولا تدخلوا مدينة سامرية، بل اذهبوا إلى الخراف الضالة من بني إسرائيل، وبشروا في الطريق بأن ملكوت السماوات قد اقترب. وفي 15/ 22 - 23: فأقبلت إليه امرأة كنعانية من تلك البلاد وصاحت: ارحمني يا سيدي ... فما أجابها يسوع بكلمة. فدنا تلاميذه. وتوسلوا إليه. 15/ 24: فأجابهم يسوع: ما أرسلني الله إلا إلى الخراف الضالة من بين إسرائيل -وفي طبعة 1984م: لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. 15/ 26: فأجابها: لا يجوز أن يؤخذ خبز البنين ويرمَى إلى الكلاب. وجاء في إنجيل مرقس 7/ 26 - 27: وكانت المرأة غير يهودية، ومن أصل سوري فينيقي. فأجابها يسوع: دعي البنين أولا يشبعون، فلا يجوز أن يؤخذ خبز البنين ويرمى للكلاب. فقد دلت النصوص على أن رسالته خاصة ببني إسرائيل، ثم زعموا أن هذا الحكم نسخ. جاء في إنجيل متى 28/ 19: فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وفي إنجيل مرقس 16/ 15: وقال لهم: اذهبوا إلى العالم كله، وأعلنوا البشارة إلى الناس أجمعين. فهل هذا نسخ أو تحريف؟ وأحس علماء النصارى بذلك فقالوا -كما جاء في الكتاب المقدس المطبوع ببيروت عام 1983م ص471: "كان من أحكام الله أن المسيح يبشر اليهود بنفسه والأمم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = برسله". ولا أدري لماذا منعهم في الأول من الدخول إلى أرض وثنية، ولم يبين لهم أن هذا سيكون في المستقبل؟! وعلى كل حال فإن الذي يعنينا الآن وقوع النسخ. ب- ومن أمثلة القسم الثاني ما يلي: 1 - جاء في سفر التكوين 9/ 2 - 3: كل ما يدب على الأرض، وكل أسماك البحر قد دفعت إلى أيديكم. كل دابة حية تكون لكم طعاما كالعشب الأخضر. دفعت إليكم الجميع. فكانت جميع الحيوانات مباحة الأكل في شريعة نوح -عليه السلام- ثم حرمت الشريعة الموسوية حيوانات كثيرة، أهمها الخنزير كما في الباب الحادي عشر من سفر اللاويين والباب الرابع عشر من سفر التثنية. ثم جاء بولس فأفتى بالإباحة العامة. جاء في رسالته إلى أهل رومية 14/ 14: إني عالم ومتيقن في الرب يسوع أن ليس شيء نجسا بذاته، إلا من يحسب شيئا نجسا، فله هو نجس. وجاء في رسالته إلى تيطس 1/ 15: كل شيء طاهر للطاهرين، وأما المتنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهر، بل قد تنجس ذهنهم أيضا وضميرهم. وجاء في رسالته إلى تيموثاوس 4/ 4 - 5: لأن كل خليقة الله جيدة، ولا يرفض شيء إذا أخذ مع الشكر. لأن يتقدس بكلمة الله والصلاة. 2 - جاء في سفر التكوين 29/ 21 - 31: أن يعقوب جمع بين ليئة وراحيل ابنتي خاله لابان. وهذا الجمع حرام في الشريعة الموسوية. فقد جاء في سفر =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = الأحبار اللاويين 18/ 18: ولا تأخذ امرأة على أختها للضر، لتكشف عورتها معها في حياتها. فلو لم يكن الجمع بين الأختين جائزا في شريعة يعقوب للزم أن يكون أولاد الثانية أولاد زنى. وأكثر أنبياء بني إسرائيل من أولادها كما في سفر التكوين 29/ 31 - 35 والباب السادس والعشرين من سفر العدد. 3 - جاء في سفر التكوين 6/ 20: وأخذ عَمرام -عمران- يوكابد عمته زوجة له. فولدت له هارون وموسى ... وفي سفر العدد 26/ 59 - 60: واسم امرأة عمرام يوكابد بنت لاوى التي ولدت للاوى في مصر. فولدت لعمرام هارون وموسى ومريم أختهما. وهذا الزواج محرم في الشريعة الموسوية؛ لأن العمة والخالة من المحارم. جاء في سفر الأحبار اللاويين 18/ 12: عورة أخت أبيك لا تكشف. إنها قريبة أبيك. 20/ 19: عورة أخت أمك أو أخت أبيك لا تكشف. إنه قد عرى قريبته، يحملان ذنبهما. فلو لم يكن هذا الزواج جائزا قبل شريعة موسى -عليه السلام- للزم أن يكون موسى وهارون وأختهما مريم أولاد زنى بنص توراتهم. 4 - جاء في سفر التثنية 24/ 1 - 3: إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها، فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء، وكتب لها كتاب طلاق، ودفعه إلى يدها، وأطلقها من بيته. ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر. فيجوز في الشريعة الموسوية أن يطلق الرجل امرأته بكل علة، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ويجوز أن يتزوجها بعد أن تخرج من بيته رجل آخر. لكن النصارى منعوا الطلاق إلا لعلة الزنى. وحرموا كذلك أن يتزوج المطلقة رجل آخر، وهو بمنزلة الزنى عندهم. جاء في إنجيل متى 5/ 31 - 32: وقيل: من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق. وأما أنا فأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني. ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني. 19/ 3 - 6: وجاء إليه الفريسيون ليجربوه قائلين له: هل يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب؟ فأجاب وقال لهم: أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى؟ .. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان. 19/ 7 - 8: قالوا له: فلماذا أوصى موسى أن يعطي كتاب طلاق فتطلق؟ قال لهم: إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم. ولكن من البدء لم يكن هذا. 19/ 9: وأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنى، وتزوج بأخرى يزني. والذي يتزوج بمطلقة يزني. 5 - نسخ تلاميذ المسيح -عليه السلام- بعد المشاورة جميع الأحكام العملية المدرجة في التوراة إلا أربعة: تحريم ذبيحة الصنم وتحريم الدم وتحريم المخنوق وتحريم الزنى. وأرسلوا كتابا بذلك إلى الكنائس. جاء في سفر الأعمال 15/ 24: إذا قد سمعنا أن أناسا خارجين من عندنا قد أزعجوكم بأقوال مقلبين أنفسكم وقائلين: أن تختتنوا وتحفظوا الناموس. الذين نحن لم نأمرهم. 15/ 28 - 29: لأنه قد رأى الروح القدس -ونحن لا نضع عليكم ثقلا أكثر من غير هذه الأشياء الواجبة- أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام وعن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = الدم والمخنوق والزنى، التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعما تفعلون. وإنما أبقوا حرمة هذه الأربعة لئلا ينفروا اليهود الذين دخلوا في النصرانية، وكانوا يحبون أحكام التوراة ورسومها. ثم لما رأى بولس أن هذه الرعاية ليست ضرورية أيضا، نسخ حرمة الثلاثة الأولى بفتوى الإباحة العامة كما سلف. ومن ثم لم يبقَ من أحاكم التوراة سوى تحريم الزنى. ولما لم يكن في الزنى حد في شريعة النصارى، فهو أيضا منسوخ من هذا الوجه. وهكذا حصل الفراغ في شريعة النصارى بعد أن نسخوا جميع الأحكام العملية التي كانت في الشريعة الموسوية، سواء كانت أبدية أو غير أبدية. فأحكام الذبائح كانت كثيرة وأبدية في شريعة موسى -عليه السلام- وكذلك الأحكام المختصة بآل هارون من الكهانة واللباس وقت الحضور للخدمة الدينية وفي غير ذلك، كانت أبدية، وقد نسخت كلها لدى النصارى. ونحن المسلمين نعتقد أن المسيح -عليه السلام- نسخ بعض الأحكام التي كانت مقررة لدى اليهود. ولكن إنما نريد سلامة النقل وصحته. وظهر من الأمثلة السابقة جميعها ما يلي: 1 - أن نسخ بعض الأحكام في شريعة سابقة بشريعة لاحقة لم تنفرد به شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- بل كان معروفا في الشرائع السابقة. 2 - أن كثيرا من الأحكام العملية في التوراة نسخت ببعثة المسيح -عليه السلام- بل إن بولس صرح بنسخ جميع الأحكام سواء كانت أبدية أو غير أبدية. 3 - إنما يقع الإشكال في نسخ الأحكام التي صرح فيها بأنها أبدية، أو يجب رعايتها طبقة بعد طبقة. مما يدل على وقوع الدس والحذف والتحريف. 4 - من العجيب أن أهل الكتاب من يهود ونصارى يعيبون على =

وفي عقيب نزول هذه الآية، أليس أن الله عزل الأبكار عن ولاية الاختصاص، وأخذ أولاد لاوى عوضا عنهم؟ فهم لا يقدرون على إنكار ذلك. وهذا يلزمهم منه القول بالبداء أو النسخ.

_ = المسلمين وجود النسخ في شريعتهم مع أن كتب العهد القديم التي يزعمون أنها وحي ناطقة بإخلاف الله وعده وندامته على فعله واتهامه بالبداء! كما سيذكر المؤلف رحمه الله فيما بعد. وانظر "تنقيح الأبحاث" لابن كمونة اليهودي ص45 - 47، "وهداية الحيارى" لابن القيم ص582 - 583، "وإظهار الحق" ص53 - 54.

إفحام أهل الكتاب وإلزامهم بالإسلام

إفحام أهل الكتاب وإلزامهم بالإسلام: [طرق إثبات النبوة] 1: لا يسع عاقلا أن يكذب نبيا ذا دعوى شائعة وكلمة صادقة، ويصدق غيره؛ لأنه لم يرَ أحدهما، ولا شاهد معجزاته. فإذا خص أحدهما

_ 1 لا بد أن يخص الله سبحانه النبي الذي يرسله بأمر من دون الناس يدل على صدقه. وهو ما يسمى بالآيات المادية أو المعنوية. وإلا لم يكن قبول قوله بأولى من قبول غيره. والناس من حيث الإيمان بالنبوة قسمان: منهم من يؤمن بها، ومنهم من لا يؤمن بها مطلقا. فطريقة إثبات نبوة شخص ما لمن يؤمن بالله، ولا يؤمن بجنس النبوة أن يعرف أحوال هذا الشخص ويدرس سيرته، ويتأمل أخباره وما يأمر به من العبادات وأفعال الخير ومحاسن العادات، وما ينهى عنه من أضداد ذلك. ويكون ذلك إما بالمشاهدة، وإما بالتواتر والتسامع. وأما من يؤمن بجنس النبوة فنوعان: - نوع يؤمن بجنس النبوة لكنه لا يدري أيبعث نبي أم لا؟ وهذا يحتاج إلى أن يعلم أن هذا المدعي هل هو من جنس الأنبياء الصادقين أو من جنس المتنبئين الكاذبين؟ ويعرف صدق النبي بثبوت دلائل الصدقة المستلزمة لصدقه وانتفاء لوازم الكذب. كما يعرف صدقه بما يخصه الله به من آيات وبراهين =

بالتصديق والآخر بالتكذيب، فقد تعين عليه الملام والإزراء عقلا. ولنضرب لذلك مثلا: إذا سألنا يهوديا عن موسى -عليه السلام- وهل رآه وعاين معجزاته؟ فهو بالضرورة يقر بأنه لم يشاهد شيئا من ذلك عِيَانا. فنقول له: بماذا عرفت نبوة موسى وصدقه؟ فإن قال: إن التواتر قد حقق ذلك، وشهادات الأمم بصحته دليل

_ = وبمقارنة ما جاء به بما جاء به الأنبياء قبله. فالأنبياء جميعا يدعون إلى أصول مشتركة لا تختلف في حقيقتها وجوهرها. والأخبار الصادقة لا تتناقض. لكن قد يكون بعض الأنبياء أعلم ببعض الأمور أو بتفاصيلها من بعض. - ونوع عرف أن نبيا سيبعث. وربما عرف بعض صفاته وأموره، فيحتاج إلى أن يعرف عينه. وما يحتاج إليه هذا النوع من دلائل الصدق أيسر مما يحتاج إليه من لا يؤمن بالرسل أو من لا يعرف أن نبيا سيبعث. وأهل الكتاب من يهود ونصارى كانوا من هذا النوع قبل بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنهم كانوا ينتظرون مجيء نبي آخر الزمان الذي بشرت به الأنبياء، وبينت نعوته، وأخذت له من أممها العهد بالاتباع والنصرة. انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 3/ 298 و4/ 321، الفصل لابن حزم 1/ 73 - 74، مجموع فتاوى ابن تيمية 4/ 48 و99 و209. ومن تتبع سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- وتدبرها من حين ولد إلى أن بعث، ومن حين بعث إلى أن انتقل إلى جوار ربه، وتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله وما جرى معه وما انتهى إليه بتجرد وإنصاف وصل إلى طمأنينة القلب بصدق هذا الرجل.

ثابت في العقل، كما قد ثبت عقلا وجود بلاد وأنهار لم نشاهدها، وإنما تحققنا وجودها بتواتر الأنباء والأخبار. قلنا: إن هذا التواتر موجود لمحمد وعيسى -عليهما الصلاة والسلام- كما هو موجود لموسى -عليه السلام- فيلزمك التصديق بهما. وإن قال اليهودي: إن شهادة أبي عندي بنبوة موسى -عليه السلام- هي شبه تصديق بنبوته. قلنا له: ولِمَ كان أبوك عندك صادقا في ذلك معصوما عن الكذب؛ وأنت ترى الكفار أيضا يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك؛ إما تعصبا من أحدهم لدينه، وكراهية لمباينة طائفته، ومفارقة قومه وعشيرته، وإما لأن أباه وأشياخه نقلوه إليه، فتلقنه منهم معتقدا فيه الهداية والنجاة؟ فإذا كنت يا هذا قد ترى جميع المذاهب التي تكفر بها قد أخذها أبناؤها عن آبائهم كأخذ مذهبك عن أبيك، وكنت عالما أن ما هم عليه ضلال وجهل، فيلزمك أن تبحث عما أخذته عن أبيك من أن تكون هذه حالتك. فإن قال: إن الذي أخذته عن أبي أصح مما أخذه الناس عن آبائهم، لزمه أن يقيم البرهان على نبوة موسى -عليه السلام- من غير تقليد لأبيه؛ لأنه قد ادعى صحة ذلك بغير تقليد. وإن زعم أن العلة في صحة ما نقله عن أبيه أنه رجح أباه على آباء الناس بالصدق والمعرفة -كما يدعي اليهود في حق آبائهم- لزمه أن يأتي بالدليل على أن أباه أعقل من سائر آباء الناس وأفضل. فإن هو ادعى ذلك فقد كذب فيه؛ لأنه من ادعى مثل هذا يجب أن يستدل على فضائله بآثاره. وقول اليهود باطل؛ فإنهم ليس لهم من الآثار في العالم ما ليس لغيرهم مثله. بل هم على الحقيقة لا ذكر لهم بين الأمم الذين استخرجوا العلوم الدقيقة ودونوها لمن يأتي بعدهم. وجميع ما نسب إليهم من العلوم مع استفادوه من علوم غيرهم لا يضاهي بعض الفنون

الحكمية التي استخرجها حكاء اليونان، والعلوم التي استنبطها النبط. وأما تصانيف المسلمين، فيستحيل لكثرتها أن يقف أحد من الناس على جميع ما صنفوه في أحد الفنون العلمية لسعته وكثرته. وإن كان هذا موقعهم من الأمم فقد بطل قولهم: إن آباءهم أعقل الناس وأفضلهم وأحكمهم. ولهم أسوة بسائر آباء الناس المماثلين لهم من ولد سام بن نوح -عليهما السلام- فإذا أقروا بتأسي آبائهم بآباء غيرهم، وقد علموا أن آباء غيرهم قد لقنوهم الكفر. لزمهم أن شهادة الآباء لا يجوز أن تكون حجة في صحة الدين. فلا يبقى لهم حجة في نبوة موسى إلا شهادة التواتر. وهذا التواتر موجود لعيسى ومحمد -عليهما الصلاة والسلام- كوجوده لموسى -عليه السلام. وإذا كانوا قد آمنوا بموسى -عليه السلام- لشهادة التوتر بنبوته، فقد لزمهم التصديق بنبوة المسيح والمصطفى -عليهما السلام.

إلزامهم بنبوة عيسى والمصطفى "عليهما السلام"

إلزامهم بنبوة عيسى والمصطفى عليهما السلام: نقول لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فيقولون: ولد يوسف النجار سفاحا. كان قد عرف اسم الله الأعظم، يسخر به كثيرا من الأشياء. فنقول لهم: أليس عندكم في أصح نقلكم: أن موسى -عليه السلام- قد أطلعه الله تعالى على الاسم المركب من اثنين وأربعين حرفا، وبه شق البحر وعمل المعجزات؟ 1 فلا يقدرون على إنكار ذلك. فنقول لهم: فإذا كان موسى -عليه السلام- قد عمل المعجزات

_ 1 جاء في سفر الخروج 3/ 13 - 14: فقال موسى: هأنا آتي إلى بني إسرائيل، وأقول لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم. فإذا قالوا لي: ما اسمه؟ فماذا أقول لهم؟ فقال الله لموسى: أهْيَهْ الذي أهيه. وقال: هكذا تقول لبني إسرائيل: أهيه أرسلني إليكم. 3/ 15: وقال الله أيضا لموسى: هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله آبائكم .. أرسلني إليكم. هذا اسمي إلى الأبد. وهذا ذكري إلى دور فدور. =

بأسماء الله تعالى، فلم صدقتم نبوته، وكذبتم نبوة عيسى عليه السلام؟ فيقولون: لأن الله تعالى علم موسى الأسماء، وعيسى لم يتعلمها من الوحي، ولكنه تعلمها من حيطان بيت المقدس1. فنقول لهم: فإذا كان الأمر الذي يتوصل به إلى عمل المعجزات قد يصل إلى من لا يختصه الله به، ولا يريد تعليمه إياه، فبأي شيء جاز تصديق موسى عليه السلام؟ فيقولون: لأنه أخذها عن ربه.

_ = 6/ 3: وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء. وأما باسمي يهوه فلم أعرف عندهم. اهـ. ذاك هو نص الكتاب المقدس الصادر عن دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط عام 1984 وهو من ترجمة البروتستانت. أما من الكتاب المقدس الصادر عن دار المشرق في بيروت عام 1983م فالنص فيه هكذا: 3/ 14: فقال الله لموسى: أنا هو الكائن. وقال: كذا قل لبني إسرائيل: الكائن أرسلني إليكم. 3/ 15: وقال الله لموسى ثانية: كذا قل لبني إسرائيل: الرب إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب بعثني إليكم. هذا اسمي إلى الدهر، وهذا ذكري إلى جيل فجيل. 6/ 3: أنا الذي تجليت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب إلها قادرا على كل شيء. وأما اسمي يهوه فلم أعلنه لهم. 1 وكيف تعلمها من حيطان بيت المقدس، وهو ابن السفاح كما يقولون؟ ولِمَ لم يتعلمها أحد من كبار الكهنة فيضاهيه بمعجزاته، ويدفع الضر الذي نزل ببني إسرائيل؟!

فنقول: وبأي شيء عرفتم أنه أخذها عن ربه؟ فيقولون: بما تواتر من أخبار أسلافنا. وأيضا فإنا نلجئهم إلى نقل أسلافهم ونقول لهم: بماذا عرفتم نبوة موسى؟ فإن قالوا: بما عمله من المعجزات. قلنا لهم: وهل فيكم من رأى هذه المعجزات؟ ليس هذا لعمري طريقا إلى تصديق النبوة؛ لأن هذا كان يلزمكم منه أن تكون معجزات الأنبياء -عليهم السلام- باقية من بعدهم ليراها كل جيل بعد جيل، فيؤمنوا به، وليس ذلك بواجب. لأنه إذا اشتهر النبي في عصر، وصحت نبوته في ذلك العصر بالمعجزات التي ظهرت منه لأهل عصره، ووصل خبره لأهل عصر آخر، وجب عليهم تصديق نبوته واتباعه؛ لأن المتواترات والمشهورات مما يجب قبولها في العقل1. وموسى وعيسى ومحمد -عليهم الصلاة والسلام- في هذا الأمر متساوون. ونقول: تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادات بنبوة عيسى ومحمد -عليهما الصلاة والسلام- لأن شهادة المسلمين والنصارى بنبوة موسى ليست إلا بسبب أن كتابيهما يشهدان له بذلك. فتصديقهم بنبوة موسى -عليهم السلام- فرع عن تصديقهم بكتابيهما. وأما معجزات القرآن فإنها باقية، وإذا كانت باقية، فتلك فضيلة زائدة لا تحتاج إلى كونها سبب الإيمان. فأما من أعطي ذوق الفصاحة،

_ 1 هذا إذا صحت النبوة وقامت دلائلها وأقر بها أهل الحجى الذين يميزون بين المعجزة وبين السحر ونحوه، والذين يمتنع في العادة تواطؤهم على الكذب. ثم نقلت بالتواتر. أما مجرد الإشاعة التي لا يُدرى أولها من آخرها، فليس لها أثر، وإن نقلت جيلا فجيل.

فإن إيمانه بإعجاز القرآن إيمان من شاهد المعجزات، لا من اعتمد على الخبرة، إلا أنه هذه درجة لم يرسخ بها كل أحد. فإن قالوا: إن نبينا يشهد له جميع الأمم، فإن التواتر به أقوى، فكيف تقولون: إنه أضعف؟ قلنا: أكان إجماع شهادات الأمم صحيحا لديكم؟ فإن قالوا: نعم. قلنا: فإن الإمم الذين قبلتم شهاداتهم مجتمعون على تكفيركم وتضليلكم. فليزمكم ذلك. لأن شهادتهم عندكم مقبولة. فإن قالوا: لا نقبل شهادة أحد. لم يبق لهم تواتر إلا من طائفتهم. وهي أقل الطوائف عددا. فيصير تواترهم وشرعهم لذلك أضعف الشرائع. ويلزمهم مما تقدم أن كل من أظهر معجزات شهد بها التواتر مصدق في مقالته. ويلزمهم من ذلك التصديق بنبوة المسيح والمصطفى عليهما الصلاة والسلام.

إلزامهم بنبوة المسيح "عليه السلام"

إلزامهم بنبوة المسيح "عليه السلام": نقول لهم: أليس في التوراة التي في أيديكم: "لو ياسور وشبيط منجهوزا ومحوقق مين دوغلاو"؟ تفسيره: لا يزول الملك من آل يهوذا والراسم من بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح1 فلا يقدرون على جحده ..

_ 1 جاء في سفر التكوين 49/ 1: ودعا يعقوب بنيه وقال: اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام. 49/ 8: يهوذا إياك يحمد إخوتك. يدك على قفا أعدائك. يسجد لك بنو أبيك. 49/ 9: يهوذا جرو -شبل- أسد. من فريسة صعدت يا ابني. جثا وربض كأسد وكَلَبْوة. من يُنهضه؟ 49/ 10: لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون، وله يكون خضوع شعوب. هكذا النص في الكتاب المقدس الصادر عن جمعيات الكتاب المقدس عام 1966م، والكتاب المقدس الصادر عن دار الكتب المقدس في الشرق الأوسط عام 1984م، وكلاهما للبروتستانت. وذكر الشيخ رحمه الله الهندي في إظهار الحق 2/ 252 طبعة المغرب أن النص في الترجمات المطبوعة عام 1722م وعام 1831م وعام 1844م هكذا: "فلا يزول القضيب من يهوذا والمدبر من فخذه حتى يجيء الذي له الكل، وإياه تنتظر الأمم". وفي ترجمة عام 1811م هكذا: فلا يزول القضيب من يهوذا والرسم من تحت أمره إلى أن يجيء الذي هو له، وإليه تجتمع الشعوب. اهـ. وذكره ابن كمونة اليهودي في تنقيح الأبحاث ص63 هكذا: لا يزول القضيب من يهوذا أو الراسم من بين أقدامه إلى أن يجئ الذي له الأمر، وله تجتمع الشعوب. وفي الكتاب المقدس الصادر عن دار المشرق ببيروت عام 1986م هكذا: لا يزول صولجان من يهوذا ومشترع من صلبه حتى يأتي شيلو، وتطيعه الشعوب. وكذلك في ترجمة اليسوعيين. وفي التوراة السامرية: لا يزول القضيب من يهوذة والمرسم من بين بنوده حتى يأتي سليمان، وإليه تنقاد الشعوب. وذكر القرافي في الأجوبة الفاخرة ص71 النص بالعبري هكذا "لوياسور وشبيط ميهوذا ومحوقيق مبين رغلا". ثم قال: وتفسيره: لا يزال الملك من آل يهوذا والراسم من بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح. لكنه ذكره ص164 هكذا: لا يعدم سبط يهوذا ملك مسلط، وأفخاذه بنو إسرائيل حتى يأتي الذي له الكل. وأصل وصية يعقوب لبنيه مذكور في القرآن. قال تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.

فنقول لهم: أما علمتم أنكم أصحاب دولة وملك إلى ظهور المسيح، ثم انقضى ملككم؟ فإن لم يكن لكم ملك، فقد لزمكم من التوراة أن المسيح قد أرسل. وأيضا فإنا نقول لهم: أليس منذ بعث المسيح عيسى -عليه السلام- استولت ملوك الروم على اليهود وبيت المقدس، وانقضت دولتهم، وتفرق شملهم؟ فلا يقدرون على جحد ذلك إلا بالبهتان. ويلزمهم على أصلهم الذي في التوراة أن عيسى ابن مريم -عليه السلام- هو المسيح الذي ينتظرونه1.

_ 1 اختلف الناس في فهم هذا النص وتعيين المبشر به: أ- ذهب النصارى إلى أن المراد بالقضيب أو الصولجان: الملك والسلطة الدنيوة، وبالراسم: النبي، كما في تنقيح الأبحاث لابن كمونة ص63، وإظهار الحق 2/ 253 طبعة المغرب. أما قوله: "حتى يأتي شيلو، أو شيلون في العبرية، وسليمان في السامرية" فيقول مفسرو التوراة في المجلة الأولى ص460 من تفسير الكتاب المقدس لجماعة من اللاهوتيين: "هذه عبارة غير واضحة، ويبدو أن أفضل تفسير لها هو الذي يعد نوعا من الحديث عن المسيا إذا تحرك الحرف الساكن -وهو أمر مسموح به في اللغة العبرية- فإن الكلمة يمكن أن تترجم: الذي له" انظر: تعليق أحمد حجازي على التوراة السامرية =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ص410، وجاء في الكتاب المقدس المطبوع في بيروت عام 1976م تعليق على "شيلون" يقول: أي أمان. وعند البعض معناها: الذي له، المرجع السابق ص361 - 362. قال النصارى: والمراد بشيلون هو المسيح -عليه السلام- فهو المبشر به. ومعنى النص: سييقى الملك مع اليهود إلى أن يأتي المسيح. قالوا: وكذلك كان. فإنه ما زالت لليهود ملوك ودول إلى زمن المسيح -عليه السلام- فلما ظهر بطلت النبوة فيهم، وانقطع الملك عنهم، وصاروا محتقرين مذمومين. انظر: تنقيح الأبحاث ص63، والأجوبة الفاخرة للقرافي ص71، وعلى هذا التفسير جرى مؤلف كتابنا هذا -رحمه الله- فقال: نقول لهم: أما علمتم أنكم أصحاب دولة وملك إلى ظهور المسيح؟ ثم انقضى ملككم؟ فإن لم يكن ملك فقد لزم من التوراة أن المسيح قد أرسل. ب- وذهب اليهود إلى أن المراد بشيلون المسيح المنتظر الذي يأتي في آخر الزمان، وينصر دين موسى -عليه السلام- ويظهر الحق على يديه. وهم لا يزالون إلى اليوم ينتظرونه ليقيم دولتهم. انظر: الأجوبة الفاخرة ص72. ورد ابن كمونة اليهودي في تنقيح الأبحاث ص64 على ادعاء النصارى فقال: إن الملك زال من آل يهوذا قبل إيشوع المسيح بأكثر من أربعمائة عام. والملوك في البيت الثاني كانوا من بني "حمشوناي" وهم هارونيون من سبط لاوى. وكان الملك من بعدهم في هيرودس، وبعده في أولاده. ولم يكن أيضا من سبط يهوذا. قال: وليس لهم أن يقولوا: إن يعقوب كني بيهوذا عن اليهود بأسرهم، تسمية لكل الشيء بأشرف ما فيه؛ لأنه يقال: إن هذا غير محتمل. فإن يعقوب خص كل واحد من أولاده بما يكون منه. وخص =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = يهوذا بهذا القول. فلا يكون اسمه عبارة عن الجملة. ثم قولهم: "إن القضيب هو قضيب الملك، والرسم هو النبي" غير متيقن. فالنبوة انقطعت قبل ظهور المسيح بما يزيد عن ثلاثمائة عام. واللفظة المستعملة في اللغة العبرانية بمعنى القضيب تستعمل بمعنى السبط أيضا. فقد يمنع المانع أنها استعملت للقضيب، أو أن المراد بالقضيب إن استعملت له قضيب الملك. ثم قال: "والأظهر أن المراد: البشارة بداود -عليه السلام- والمعنى: لا يزول السبط من يهوذا، ولا الرئاسة من بين ظهرانيهم إلى أن تبلغ رياستهم في الزيادة إلى أن يملك داود، ويتفق على تمليكه جميع شعوب إسرائيل". اهـ. موازنة وترجيح: وقد رد الشيخ رحمه الله الهندي في إظهار الحق -2/ 5 طبعة المغرب- على ادعاء اليهود النصارى فقال: "ويفهم من رسائل القسيسين من فرق البروتستانت أن المراد من القضيب: السلطة الدنيوية. ومن المدبر: الحاكم الدنيوي. وعليه فلا يصح أن يراد بشيلون مسيح اليهود كما يزعمون؛ لأن السلطة الدنيوية والحاكم الدنيوي زالا من آل يهوذا من مدة هي أزيد من ألفي عام، من عهد بختنصر، ولم يسمع إلى الآن حسيس مسيح اليهود. ولا عيسى كما يزعم النصارى. لأنهما -أي السلطة والحكم الدنيوين- زالا من آل يهوذا قبل ظهور عيسى بمقدار ستمائة سنة. وهو إجلاء بني يهوذا إلى بابل. فكيف يصدق عليه؟! ". اهـ. ومن ناحية أخرى فقد ورد في إنجيل متى 2/ 5 - 6 ما يدل على أن المدبر أو الراسم هو المسيح -عليه السلام- حيث جاء: "لأنه هكذا مكتوب بالنبي: وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = يهوذا. لأن منك يخرج مدبر يرعى شعب إسرائيل" فكيف يكون هو المدبر؟ وكيف يكون هو شيلون؟! ثم إن المسيح -عليه السلام- لم يخضع له أي شعب، حتى إن خراف إسرائيل الضالة التي أرسل إليها لم تجتمع كلها تحت رعايته. هذا، والترجمات التي بين أيدينا مضطربة، ولا يمكن أن نصل إلى حقيقة النص وصيغته الأصلية لانعدام السند عند أهل الكتاب. ومع ذلك لو حللنا النص الذي بين أيدينا لظهر لنا ما يلي: 1 - أنه من الظاهر أن المراد بالقضيب أو الصولجان: الملك والسلطة والحكم. وليس السبط كما زعم ابن كمونة. وإلا فما معنى: لا يزول السبط من يهوذا؟ وهل يقصد أن نسله لن ينقرض؟ والنصوص التي بين أيدينا لا تساعدنا على معرفة المراد بهذا الملك على وجه الحقيقة. أهو عدم نسخ شريعة موسى بشريعة أخرى إلى ذلك الوقت، أم غير ذلك؟ 2 - أن المراد بقوله: "والمرسم من بين بنوده" كما تقول السامرية أو "الرسم من تحت أمره" كما في ترجمة عام 1811م: شريعة التوراة التي تظل مع علماء اليهود. وتكون هذه الشريعة من علامات ملك اليهود. فإن الرسم والتدبير إنما هو التشريع. وسباق النص وسياقه يدلان على ذلك. ولا سيما ترجمة اليسوعيين وترجمة عام 1984م التي آخذ منها. أما إن كان النص: "والراسم من بين أقدامه" كما نقله ابن كمونة، أو "المدبر من فخذه" كما في ترجمة سنة 1722م وسنة 1831 وسنة 1844م، فالمراد به عيسى -عليه السلام- لأنه ما جاء بعد موسى -عليه السلام- من عَدَّل في شريعته زيادة أو نسخا سواه. 3 - أن المراد بقوله: "حتى يأتي شيلون" نبي السلام والأمان كما ذكرت حاشية الكتاب المقدس المطبوع في بيروت عام 1976م. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وبعض الترجمات لم يذكر فيها لفظ "شيلون" بل ذكر فيها "الذي له الكل" أو "الذي هو له" أو "الذي له الأمر" أي: صاحب الأمر والذي ينتهي إليه. وهذا يدل على أن شريعة المبشر به تكون عامة شاملة ناسخة لما قبلها، وأن الكتاب الذي ينزل عليه يكون مهيمنا على ما سبقه من الكتب. 4 - أن قول: "وإياه تنتظر الأمم" أو "تنقاد -أو تجتمع أو تخضع- له الشعوب" كما في بعض الترجمات يدل على أن رسالته عالمية، وقد سبقت البشارة به. وهذه كلها علامات صريحة ودلالات واضحة على المبشر به إنما هو محمد بن عبد الله الذي ينتهي نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم -عليهم الصلاة والسلام- لأن الشعوب ما اجتمعت قط لأحد قبله، ولم يأت نبي برسالة عامة سواه. قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. وعن جابر ب عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ... وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" الشيخان والنسائي. وعليه يكون معنى البشارة: سيبقى الملك وحكم الشريعة التي سينزلها الله على موسى -عليه السلام- مع العلماء من نسلكم حتى تنتهي مدة البركة الممنوحة لبني إسحاق، وتبدأ مدة البركة الممنوحة لبني إسماعيل بظهور النبي الذي له الكل، وتخضع لشريعته الشعوب. هذا هو ما يفهم من نصوص التوراة عامة؛ إذ النصوص يفسر بعضها بعضا. انظر: الأجوبة الفاخرة ص164، وتعليق أحمد حجازي على التوراة السامرية ص398 - 400. =

ذكر الموضع الذي أشير فيه إلى نبوة الكليم والمسيح والمصطفى "عليهم السلام"

ذكر الموضع الذي أُشير فيه إلى نبوة الكليم والمسيح والمصطفى "عليهم السلام": وهو: "وامار أدوناي اتكلي وريفور يعارير سيعير انخرى لانا استخي بعبوريته على طورد فاران وعمه ربوان قد يشير". تفسيره: "إن الله تعالى من سيناء تجلى، وأشرق نوره من سيعير، واطلع من جبال فاران، ومعه ربوات المقدسين"1.

_ = هذا، ويمكن أن يكون المراد من الحاكم موسى -عليه السلام- لأنه بعد يعقوب -عليه السلام- لم يأتِ صاحب شريعة غيره، وسماه الحاكم لأن شريعته إلزامية، وقد بعث بالجهاد وإقامة الحدود والتعزير. أما الراسم فهو عيسى -عليه السلام- لأنه عدل في شريعة موسى -عليه السلام- وسماه الراسم؛ لأن شريعته ليس فيها جهاد. ومن بعد موسى وعيسى -عليهما السلام- لم يأتِ صاحب شريعة عامة شاملة كاملة مبعوث للكل وخضع له الكل سوى محمد -صلى الله عليه وسلم- فيكون هو المراد صونا لكلام يعقوب عن الخلل. وقد جانب ابن كمونة الحق في قوله: "إلى أن يملك داود، ويتفق على تمليكه جميع شعوب إسرائيل"؛ لأن داود -عليه السلام- ليس بصاحب شريعة، بل إنما كان تابعا لشريعة موسى -عليه السلام- وحاكما بها. وليس في الزبور أي حكم تشريعي. ثم إن سباق النص وسياقه يدلان على أن الحكم والشريعة تنزع منهم بمجيء المبشر به، لا أنها تزداد وتقوى به كما حصل في زمن داود -عليه السلام- وقد فسر ابن كمونة الشعوب بأسباط إسرائيل، مع أن النص لا يساعد على ذلك، ولا سيما ما ورد في بعض الترجمات: "وإياه تنتظر الأمم". 1 جاء في سفر التثنية 23/ 1: وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته. =

وهم يعلمون أن جبل سيعير هو جبل الشراة الذي فيه بنو العيص الذين آمنوا بالمسيح -عليه السلام- بل في هذا الجبل كان مقام المسيح -عليه السلام- وهم يعلمون أن سيناء هو جبل الطور. لكنهم لا يعلمون أن جبل فاران هو جبل مكة. وفي الإشارة إلى هذه الأماكن الثلاثة التي كانت مقام نبوة هؤلاء الأنبياء ما يقتضي للعقلاء أن يبحثوا عن تأويله المؤدي إلى الأمر باتباع مقالتهم. فأما الدليل الواضح من التوراة على أن جبل فاران هو جبل مكة، فهو أن إسماعيل لما فارق أباه الخليل -عليهما السلام- سكن إسماعيل في برية فاران. ونطقت التوراة بذلك في قوله: "وبيثب بمديار فاران وتقاح لوأمو أشامئا يزمن مصرايم".

_ = 23/ 2: فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرف لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران. وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم. وفي طبعة 1983م: وعن يمينه قبس شريعة لهم. 23/ 3: فأحب الشعب. جميع قديسيه في يدك، وهم جالسون عند قدمك، يتقبلون من أقوالك. وفي بعض التراجمات ومنها المطبوعة عام 1822م وعام 1844: جاء الرب من سيناء، وأشرق لنا من ساعير، واستعلن من جبل فاران. ومعه ألوف الأطهار. في يمينه سنة نار. أما في التوراة السامرية فالنص هكذا 33/ 2: فقال: الله من سينين أتى، وأشرق من الشعير، ولهم لمع من جبل فاران. ومعه من ربوات القدس. وعن يمينه شريعة لهم. 33/ 3: وأيضا محب الشعوب. وكل أقداس أقداسه بيدك. وهم يخضعون لرجليك، ويتحملون من أقوالك.

تفسيره: وأقام في برية فاران، وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر1. فقد ثبت في التوراة أن جبل فاران مسكن لآل إسماعيل. وإذا كانت التوراة قد أشارت في الآية التي تقدم ذكرها إلى نبوة تنزل على جبل فاران، لزم أن تلك النبوة على آل إسماعيل؛ لأنهم سكان فاران. وقد علم الناس قاطبة أن المشار إليه بالنبوة من ولد إسماعيل هو محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنه بعث من مكة التي كان فيها مقام إبراهيم وإسماعيل. فدل ذلك على أن جبال فاران هي جبال مكة. وأن التوراة أشارت في هذا الموضع إلى نبوة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وبشرت به. إلا أن اليهود -لجهلهم وضلالهم- لا يجوزون الجمع بين هاتين العبارتين من الآيتين، بل يسلمون بالمقدمتين، ويجحدون النتيجة لفرط جهلهم2.

_ 1 جاء في سفر التكوين 21/ 20 - 21: وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية. وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران. وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر. 2 زعمت يهود أن فاران هي أرض الشام، وليست أرض الحجاز. قال ابن كمونة في تنقيح الأبحاث ص97: "فالتوراة تنطق أن موسى وبني إسرائيل اجتازوا بفاران وأقاموا بها، وخوطب موسى هناك عدة مرات -يشير إلى ما جاء في سفر العدد 12/ 16 و13/ 1 - 3 و35 - 36 وسفر التثنية 1/ 1 وغير ذلك -وأيضا فإن من قرأ ما قبل المستشهد به وما بعده علم أن الكلام كله مختص ببني إسرائيل، لا بما يشاركهم فيه غيرهم. ثم إن الألفاظ كلها مخبرة عن أمر ماض، مثل أقبل وأشرق وطلع، لا عن أمر متوقع. وإن حمل على المتوقع فهو مجاز وخروج عن الظاهر". اهـ. وزعمت النصارى أن فاران هي إيلات من أعمال الشام -كما في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = قاموس الكتاب المقدس؛ ومن ثم حملوا البشارة على بعض أحوال المسيح عليه السلام. موازنة وترجيح: جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي 4/ 225 طبعة دار صاد: فاران كلمة عبرانية معربة، وهي من أسماء مكة. وقيل: هو اسم لجبال مكة. قال ابن ماكولا: أبو نصر بن القاسم بن قضاعة القضاعي الفاراني الإسكندري، سمعت أن ذلك نسبة إلى جبال فاران، وهي جبال الحجاز. وفاران أيضا قرية من نواحي صُفَد من أعمال سمرقند، وقال أبو عبد الله القضاعي: فاران والطور كورتان من كور مصر القبلية. اهـ. وجاء في معجم ما استعجم من البلدان لأبي عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي بتحقيق مصطفى السقا 3/ 1013، وفي معجم معالم الحجاز للمقدم عاتق غيث البلادي 7/ 11 ما يلي: وقال البكري: فاران على وزن فاعال: معدن حديد منازل بني سليم، ينزله بنو الأخثم بن عوف بن حبيب بن عُصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بُهثة بن سليم؛ ولذلك قيل لهم القيون. قال خفاف بن عمير السلمي: متى كان للقينين قين طمية ... وقين بلى معد بفاران. اهـ إذن فهناك أكثر من مكان اسمه فاران، لكن إطلاق هذا الاسم على الحجاز كان أكثر وأشهر. بل هو المراد هنا في هذا النص لما يلي: 1 - جاء في تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب للقس انسلم تورميدا -عبد الله الترجمان- ص135: وفاران اسم رجل من ملوك العمالقة الذين اقتسموا الأرض، فكان الحجاز وتخومه لفاران. فتسمى القطر كله باسمه. اهـ. 2 - ذكر ابن كمونة في تنقيح الأبحاث ص94 أن بعض الناس =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وجدوا هذا الاسم بالخط الكوفي في كتاب منازل مكة. 3 - قال ابن تيمية في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 3/ 301 بصدد الكلام عن هذه البشارة: وعلى هذا فيكون قد ذكر الجبال الثلاثة: حراء الذي ليس حول مكة أعلى منه، وفيه ابتدئ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- نزول الوحي عليه. وحوله جبال كثيرة. وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم، والبرية التي بين مكة وطور سيناء تسمى برية فاران. اهـ. وهذا يدل على أن اسم فاران ظل يطلق على الجبال المحيطة بمكة إلى ما بعد القرن الثامن الهجري؛ لأن ابن تيمية -رحمه الله- ولد عام 661هـ وتوفي عام 728هـ، ويدل على أن برية فاران تمتد إلى طور سيناء، أما جبال فاران فهي في الحجاز. 4 - جاء في سفر التكوين 21/ 20 - 21: وكان الله مع الغلام فكبر ... وسكن في برية فاران .. فلا يشك أهل الكتاب في أن فاران هي مسكن آل إسماعيل، وأن إسماعيل هو جد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد علم بالتواتر واتفاق الأمم أن إسماعيل بن إبراهيم إنما ربي في مكة بواد غير ذي زرع، وأنه مع أبيه بنى البيت بذلك الواد. فعلم قطعا أن فاران هي أرض مكة في الحجاز. وقد اعترف اليهود بأن الوحي هو المراد في طور سيناء. فلا بد أن يكون الأمر كذلك في ساعير وفاران. ويكون في ذلك إشارة إلى أماكن الرسالات الثلاث. وإلا فأين الموضع الذي استعلن الله منه، واسمه فارن؟ وأين النبي الذي أنزل عليه كتاب بعد المسيح؟ وأية نبوة خرجت فاستعلت استعلاء ضياء الشمس، وتلألأت وظهرت فوق ظهور النبوتين السابقتين؟ وأي دين ظهر بعدهما وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها غير الإسلام؟ انظر: الجواب الصحيح 3/ 301، الأجوبة الفاخرة ص165، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = إظهار الحق 2/ 250. أما قول ابن كمونة: "إن الكلام كله مختص ببني إسرائيل" فنعم لأن الخطاب موجه إليهم كما أن البشارة والتنبيه لهم. ومثل هذا كثير في التوراة، لكن لا يعني أن البركة دائما لهم، وأن النبوة أبدا فيهم. ومن ناحية أخرى فإن نبي آخر الزمان مرسل إليهم وإلى غيرهم. وأما الإخبار بلفظ الماضي: "جاء، أشرق، تلألأ" فلتحقق الوقوع وتأكيده. وهذا أمر متعارف عليه في مثل هذا المقام. ويشهد لذلك الانتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب في قوله: "جميع قديسيه في يدك، وهم جالسون عند قدمك ... ". واليهود بأسرهم مجمعون على أن في التوراة بشارات بصاحب شريعة يأتي في آخر الزمان. وهم يعلمون أنه يبعث في برية فاران في الحجاز. ولذلك ترك قسم كبير منهم بلاد الشام وغيرها، وهاجر إلى تلك البقاع في الجزيرة العربية، وأقاموا القلاع والحصون قرب مدينة ذات نخل واقعة بين حرتين، فإنها دار هجرية ومنطلق دينه. فلما ظهر وأعلن الحق بفاران ثم هاجر إلى دار هجرته هجروه وتركوا نصرته، بل عادوه وكادوا له، فأظهره الله عليهم. ويقال للنصارى: أي نبي جاء بعد المسيح -عليه السلام- من إيلات؟ أهو المسيح نفسه؟ وإذا كان كذلك، فلم ذكر مرتين؟ وهل نزل عليه كتاب آخر هناك؟ ومتى؟ وأية نبوة خرجت من بلاد الشام أو من بين مكة وطور سيناء بعد المسيح سوى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وصفوة القول: إنه لم ينزل بعد المسيح -عليه السلام- كتاب سماوي سوى القرآن الكريم، ولم يبعث بعده غير محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي ولد في مكة في برية فاران مسكن أجداده آل إسماعيل بن إبراهيم. وقد نزل عليه الوحي لأول مرة في غار حراء الذي هو جزء من جبال فاران =

وقد شهدت عليهم التوراة بالإفلاس من الفطنة والرأي، ذلك قوله تعالى: "كي غوى أوباذ عيصون هيما وابن باهيم تسونا". تفسيره: إنهم لشعب عادم الرأي، وليس فيهم فطانة1.

_ = حيث كان يخلو ويتعبد. وبذلك يكون الله سبحانه قد ذكر الجبال الثلاثة حقا، وذكر الكتب المنزلة على الترتيب الزماني صدقا. وهذا مطابق لقوله تعالى في سورة آل عمران: {الم، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}. وقوله في البشارة: "ومعه من ربوات القدس" أو "ومعه ألوف الأطهار" يشير إلى أنه سيكون مع النبي الثالث جماعات كثيرة من أصحابه الأطهار لا يفارقونه. وكذلك كان. وقوله: "وعن يمينه نار شريعة لهم" وفي ترجمة اليسوعيين: "قبس شريعة لهم" إشارة إلى أنه سيكون مع هذا النبي شريعة يقتبس منها المجتهدون ولا يخرجون عنها. ويؤكد ذلك قوله: "يتقبلون -أو يتحملون- من أقوالك". فهم يتلون الكتاب الذي أنزل عليه وظهر من فمه، ويتناقلون سننه المطهرة، ويستنبطون منهما ما يحل مشكلات البشر. وقوله: "فأحب الشعب" إشارة إلى محبة الله وتأييده لأمة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. 1 هذا النص من الباب الثاني والثلاثين من سفر التثنية. وقد جاء فيه ما يلي: 32/ 6: الرب تكافئون بهذا، يا شعبا غبيا غير حكيم. وفي طبعة 1983م: أيها الشعب الأحمق الذي لا حكمة له. 32/ 19 - 20: فرأى الرب ورذل من الغيظ بنيه وبناته. وقال: أحجب وجهي عنهم، وانظر ماذا تكون آخرتهم، إنهم جيل متقلب، أولاد لا أمانة فيهم. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = 32/ 28 - 29: إنهم أمة عديمة الرأي، ولا بصيرة فيهم. لو عقلوا لفطنوا بهذه، وتأملوا آخرتهم. وفي طبعة 1983م: ليتهم يعقلون ويفهمون هذا، ويتدبرون عاقبتهم. وجاء في 9/ 13 - 14 من السفر نفسه: وكلمني الرب قائلا: رأيت هذا الشعب، وإذا هو شعب صُلْب الرقبة. اتركني فأبيدهم وأمحو اسمهم من تحت السماء، وأجعلك شعبا أعظم وأكثر منهم. 9/ 27: أذكر عبيدك إبراهيم وإسحاق ويعقوب. لا تلتفت إلى غلاظة هذا الشعب وإثمه وخطيته. وفي طبعة 1983م: إلى قساوة هذا الشعب. وجاء في سفر العدد 14/ 26 - 27: وكلم الرب موسى وهارون قائلا: حتى متى أغفر. وفي طبعة 1983م: احتمل -لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة عليّ؟ 14/ 35: أنا الرب قد تكلمت: لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة عليّ -وفي طبعة 1983م: فلأوقعن بجميع هذه الجماعة الشريرة المجتمعة عليّ- في هذا القفر يفنون، وفيه يموتون. وجاء في سفر الخروج 33/ 5: وكان الرب قد قال لموسى: قل لبني إسرائيل: أنتم شعب صلب الرقبة. إن صعدت لحظة واحدة في وسطكم أفنيتكم. وجاء في 34/ 9 من السفر نفسه: وقال -أي موسى عليه السلام: إن وجدت نعمة في عينيك أيها السيد -الرب- فليسر السيد في وسطنا. فإنه شعب صلب الرقبة. وهذا مطابق لما وصفهم به الله سبحانه في القرآن الكريم؛ حيث قال سبحانه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. ثم خاطب الله المؤمنين فقال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 72 - 75].

ذكر الآيات والعلامات التي في التوراة الدالة على نبوة سيدنا محمد "صلى الله عليه وسلم"

ذكر الآيات والعلامات التي في التوراة الدالة على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: إنهم لا يقدرون على أن يجحدوا هذه الآية من الجزء الثاني من السفر الخامس من التوراة: "لاهيم وهي نابي أقيم مقارب أحيحيم كاموخا إيلاو شيماعون". تفسيره: نبيا أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك، به فليؤمنوا1.

_ 1 جاء في سفر التثنية 18/ 15: يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون. وفي طبعة 1983م: يقيم لك الرب إلهك نبيا من بينكم من إخوتك ... 18/ 17 - 18: قال لي الرب: قد أحسنوا فيما تكلموا. أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به. وفي بعض الترجمات: سوف أقيم ... وفي طبعة 1983م: نبيا من بين إخوتهم ... 18/ 19: ويكون الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه. وفي طبعة 1983م: فإني أحاسبه عليه. وفي بعض الترجمات: ومن لم يطع كلامه الذي يتكلم فيه باسمي، فأنا أكون المتنقم منه. =

وإنما أشار بهذا أنهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم. فإن قالوا: إنه قال: من وسط إخوتهم. وليس في عادة كتابنا أنه يعني بقوله: "إخوتهم" إلا بني إسرائيل. قلنا: بلى. قد جاء في التوراة

_ = 18/ 20: وأما النبي الذي يطغى، فيتكلم باسمي كلاما لم أوصه أن يتكلم به، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى، فيموت ذلك النبي. وفي طبعة 1983م: فليقتل ذلك النبي. 18/ 21 - 22: وإن قلت في قلبك: كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب؟ فما تكلم به النبي باسم الرب، ولم يحدث ولم يصر، فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب. بل بطغيان تكلم به النبي، فلا تخف منه. هذا ما في التوراة العبرانية، أما في السامرية، فقد ذكر النص مرتين: مرة في سفر الخروج، ومرة في سفر التثنية. وهأنا أنقله من المكانين جامعا بينهما مبينا ما انفرد به كل سفر: تثنية 18/ 15: نبيا من جملة إخوتك مثلي، يقيم لك الله إلهك. ومنه تسمعون. وجاء في سفر الخروج 20/ 21، وهو بقية نص سفر التثنية في السامرية ما يلي: 18/ 18 - 19: نبيا أقمت لهم من جملة إخوتهم مثلك. وجعلت خطابي بفيه، فيخاطبهم بكل ما أوصيه به. ويكون الرجل الذي لا يسمع من خطابه الذي يخاطب باسمي أنا أطالبه. 18/ 20: والمتنبئ الذي يتقح على الخطاب باسمي ما لم أوصه من الخطاب، ومن يخاطب باسم آلهة أخرى، فليقتل ذلك المتنبئ. 18/ 21 - 22: وإذ تقول في سرك: كيف يتبين الأمر الذي لم يخاطبه الله؟ ما يقوله المتنبئ: باسم الله، ولا يكون ذلك الأمر ولا يأتي، هو الأمر الذي لم يقله الله. باتقاح قاله المتنبئ. لا تخف منه.

"إخوتهم" لبني العيص. وذلك في الجزء الأول من السفر الخامس، وهو قوله: "ايم عوبريم بقبول احيحيم بني عيسى وهيوشيم بسيعير". تفسيره: أنتم عابرون في تخم إخوتكم بني العيص المقيمين في سيعير. إياكم أن تطمعوا في شيء من أرضهم1. فإذا كان بنو العيص إخوة لبني إسرائيل؛ لأن العيص وإسرائيل ولدا إسحاق. فكذلك بنو إسماعيل إخوة لجميع ولد إبراهيم. وإن قالوا: إن هذا القول إنما أشير به إلى شموائيل النبي -عليه السلام- لأنه قال: "من وسط إخوتهم مثلك". وشموائيل كان مثل موسى؛ لأنه من أولاد لاوى. يعنون من السبط الذي كان منه موسى عليه السلام. قلنا لهم: فإن كنتم صادقين، فأي حاجة بكم إلى أن يوصيكم بشموائيل، وأنتم تقولون: إن شموائيل لم يأتِ بزيادة ولا نسخ؟! أأشفق من ألا تقبلوه لأنه إنما أرسل ليقوي أيديكم على أهل فلسطين، وليردكم إلى شرع التوراة؟ وبين صفته، فأنتم أسبق الناس إلى الإيمان به؟ لأنه إنما يخاف تكذيبكم لمن ينسخ مذهبكم، ويغير أوضاع ديانتكم، فالوصية بالإيمان به مما لا يستغني مثلكم عنه. ولذلك لم يكن بموسى

_ 1 جاء في سفر التثنية 2/ 4: وأوصى الشعب قائلا: أنتم مارون بتخم إخوتكم بني عيسو الساكنين في سعير، فيخافون منكم. فاحترزوا جدا. 2/ 8: فعبرنا عن إخوتنا بني عيسو الساكنين في سعير ... وجاء أيضا في سفر العدد 20/ 14: وأرسل موسى رسلا من قادش إلى ملك أدوم، هكذا يقول أخوك إسرائيل: قد عرفت كل المشقة التي أصابتنا.

-عليه السلام- حاجة إلى أن يوصيكم بالإيمان بنبوة إرمياء وإشعياء وغيرهما من الأنبياء. وهذا دليل على أن التوراة أمرتهم في هذا الفصل بالإيمان بالمصطفى واتباعه صلى الله عليه وسلم1.

_ 1 تنازع في هذا النص اليهود والنصارى: أ- قال بعض اليهود: إن المبشر هو يوشع بن نون. وقال بعض آخر: بل المراد به شموائيل كما ذكر المؤلف رحمه الله. وانظر: هداية الحيارى ص526، وإظهار الحق 2/ 2240 طبعة المغرب. وذهب جمهور اليهود إلى أنه نبي يبعث في آخر الزمان، يقيم ملك اليهود، ويضرب سائر الأمم والملل، فيعلو به شأنهم. وهم لا يزالون إلى اليوم ينتظرونه. ويعبرون عنه بالمسيح المنتظر. هداية الحيارى ص526. وهم يزعمون أنه سيكون من بني إسرائيل؛ لأن لفظة "إخوتكم" أكثر ما وردت في مخاطبة بني إسرائيل، أريد بها من هو منهم، إلا في النادر؛ لأنهم إخوة، وبعضهم من بعض ... تنقيح الأبحاث ص96. قالوا: ويعضد ذلك أنه جاء في الفقرة 18/ 15: "من وسطك من إخوتك". وفي بعض الترجمات، ومنها طبعة 1983م: "من بينكم من إخوتك" فإنه يدل دلالة ظاهرة على أن المبشر به يكون من بني إسرائيل لا من غيرهم. ب- وحملته النصارى على البشارة بالمسيح ابن مريم -عليه السلام- واستدلوا بما يلي: 1 - جاء في حاشية الكتاب المقدس المطبوع عام 1983م ما يلي: في هذه الآية نبوة مختصة بالمسيح وحده؛ لأن الروح القدس عينه فسرها في هذا المعنى، ووجهها إلى مخلص العالم جليا في كتاب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = أعمال الرسل 3/ 22 و7/ 37، وقد اتفق الآباء القديسون كلهم على هذا التفسير. 2 - جاء في إنجيل يوحنا 5/ 45 - 47: لا تظنوا أني أشكوكم إلى الآب. يوجد الذي يشكوكم، وهو موسى الذي عليه رجاؤكم؛ لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني؛ لأنه هو كتب عني. فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك، فيكف تصدقون كلامي؟ فالمسيح نسب هذه البشارة إلى نفسه. وليس بعد كلامه كلم. 3 - أن الضمير في "لهم" عائد إلى بني إسرائيل. وفي "مثلك" عائد إلى موسى. وهذا إشارة إلى المسيح. قالوا: وبذلك فسره شمعون الصفا قال: "إن النبي الذي وُصِّي بنو إسرائيل بقبول أمره والإيمان به هو المسيح" قالوا: وتفسير شمعون عندنا حجة قاطعة. ونحن عولنا عليها لا على مفهوم اللفظ. هداية الحيارى ص527، إظهار الحق 2/ 246 - 248، تنقيح الأبحاث ص63 - 64. تحليل وترجيح: بشرت التورة بنبي يأتي في المستقبل، ووصفته بصفتين: الأول: كونه من إخوة بني إسرائيل، لا منهم حقيقة. الثانية: كونه نبيا يشابه موسى في أوصافه، ويماثله في نبوته. وهاتان الصفتان لا تتحققان في يوشع بن نون ولا في شموائيل ولا في عيسى ابن مريم ولا في سائر أنبياء بني إسرائيل. أ- أما الصفة الأولى: فلأنهم كلهم من بني إسرائيل، وليسوا من إخوتهم أي أبناء عمومتهم؛ لأن الاستعمال الحقيقي لهذا اللفظ يقتضي ألا يكون المبشر به له علاقة الصلبية أو البطنية بالمخاطبين وهم بنو إسرائيل. بل من فرع آخر غير فرعهم. ومن تبع هذه اللفظة في التوراة وجد أن المراد بها في أكثر ما وردت أبناء عم المخاطبين. كما ذكر في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = الحاشية السابقة. وكما جاء في سفر الأحبار -اللاويين- 10/ 6: "وقال موسى لهارون وألعازار وإيثامار ابنيه: لا تكشفوا رءوسكم، ولا تشقوا ثيابكم لئلا تموتوا، ويسخط على كل الجماعة. وأما أخوتكم كل بيت إسرائيل، فيبكون على الحريق الذي أحرقه الرب". فالمخاطبون هنا هارون وولداه، وهما من سبط لاوى؛ ولذلك قال لهم عن سائر الأسباط: "وأما إخوتكم". وما ورد في بعض المواضع من استعمال لفظ "إخوة بني إسرائيل" في بعضهم مثل ما جاء في سفر التثنية 17/ 15 فهو استعمال مجازي اقتضته الحال؛ إذ لا يعقل أن يقال في لغة من اللغات: بنو إسرائيل هم إخوة بني إسرائيل؛ لأن إخوة القوم ليسوا أنفسهم، بل بنو أبيهم. ولا تترك الحقيقة ما لم يمنع منها مانع قوي. ويدعم ذلك ما يلي: 1 - لا شك أن الأسباط الاثني عشر كانوا حاضرين في ذلك الوقت مع موسى -عليه السلام- والخطاب موجه إليهم جميعا. فلو كان النبي المبشر به منهم لقال: أقيم لهم نبيا منهم أو من أنفسهم. ولم يقل: من إخوتك أو من إخوتهم. أما ما تمسكوا به من قوله: "من وسطك من إخواتك" أو "من بينكم" فيظهر -والله أعلم- أن هذه العبارة ملحقة أضيفت إلى النص بقصد التحريف والتعمية. يدل على ذلك أربعة أمور: الأول: أن الخطاب موجه هنا لجميع بني إسرائيل، وليس إلى بعضهم كما سلف. فإذا كانت هذه العبارة أصلية كان قوله: "من إخوتك" لغوا محضا لا معنى له. الثاني: أن لفظ "من إخوتك" تكرر في الفقرة الأخرى 18/ 18 دون لفظ "من وسطك" أو "من بينك" فيكون المكرر هو الصحيح الأصلي دون غيره. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = الثالث: أن موسى -عليه السلام- لما نقل كلام الله في الفقرة الأخرى لإثبات قوله الذي ذكره أولا، لم يذكر فيه هذا اللفظ. ولا يمكن أن يكون ما قاله موسى مخالفا لقول الله زيادة أو نقصانا. الرابع: أن التوراة السامرية خلت من هذا اللفظ، وإنما جاء فيها "نبيا من جملة إخوتك مثلي". وكذلك فإن من نقل هذه الفقرة من تلاميذ المسيح -عليه السلام- لم يذكر هذه العبارة. جاء في سفر الأعمال 3/ 22 - 23 في خطبة بطرس في الهيكل: "فإن موسى قال للآباء: إن نبيا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يكلمكم به. ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبي تباد من الشعب". فسقوط هذه العبارة من هذه الأماكن دليل على عدم ثبوتها، وعلى فرض ثبوتها يكون المراد بها أن هذا النبي الآتي لن يكون بعيدا عن بني إسرائيل لا في النسب ولا في المكان. 2 - جاء في سفر التكوين 16/ 12 في بشارة هاجر بإسماعيل: "وأمام جميع إخوته يسكن". وفي 25/ 18: "أمام جميع إخوته نزل" أي: في وسطهم. وإخوة إسماعيل هم أولاد إبراهيم -عليه السلام- وإخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل -أي العرب- وبنو العيس -أي الروم- فأما بنو العيس فلم يقم فيهم نبي سوى أيوب -عليه السلام- وكانت بعثته قبل أن يخلق موسى. فلا يجوز أن يكون هو الذي بشرت به التوراة. فلم يبقَ إلا العرب بنو إسماعيل. فتعين أن يكون المبشر به منهم. ولم يخرج من ولد إسماعيل نبي سوى محمد -صلى الله عليه وسلم- فيكون هو المبشر به وهو المنتظر. ويدعم ذلك وعد الله لهاجر وإبراهيم في حق إسماعيل كما في سفر التكوين 16/ 6 - 16 والبركة الممنوحة له إجابة لدعاء إبراهيم كما في 17/ 18 - 20 من السفر نفسه. وأما قول النصارى: إن المسيح -عليه السلام- نسب هذه البشارة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = إلى نفسه، واستشهادهم بإنجيل يوحنا وغيره، فجوابه ما جاء في المثل: "ثبت العرش ثم انقش". وعلى فرض ثبوت هذا النص عن المسيح -عليه السلام- ونقله عنه بالسند الصحيح المتصل، فليس فيه تصريح بأن موسى كتب في حقه في موضع كذا أو في مكان كذا. وإنما فيه أن موسى كتب في حقه. وهذا يصدق على أي موضع في التوراة ذكر فيه إشارة إليه. ونحن نسلم بهذا. وقولهم: إن الضمير في "لهم" عائد إلى بني إسرائيل، وفي "مثلك" عائد إلى موسى -عليه السلام- صحيح لا نزاع فيه، لكن ليس فيه إشارة إلى المسيح -عليه السلام- بل إنما فيه تصريح بمن يشابه موسى -عليه السلام- وكل ما في الأمر يدل على أن هذا النبي سيرسل إلى بني إسرائيل. وكذلك قوله: "أقيم لهم" فإنه يدل على عموم رسالته. وخاطبهم بذلك لئلا يظنوا إذا جاء أن مرسل إلى العرب خاصة. إظهار الحق 2/ 248. وأما احتجاجهم بقول شمعون الصفا فقد أجاب عنه ابن كمونة اليهودي في تنقيح الأبحاث ص64 فقال: وقول شمعون غير مسلم به. بل هو إشارة إلى كل نبي يأتي على دين موسى. وسياقة الكلام المنزل في هذا المعنى لا تقتضي التخصيص بنبي دون غيره. وبتقدير أن تقتضي ذلك، فنمنع أن يكون المقصود بالتخصيص هو المسيح. اهـ. ب- وأما الصفة الثانية فإنها تدل على أن هذا النبي المبشر به يشابه موسى -عليه السلام- في أوصافه وأعماله، ويماثله في كونه صاحب شريعة عامة شاملة لكل نواحي الحياة. ولا توجد مماثلة أو مشابهة من هذه النواحي بين موسى ويوشع أو شموائيل؛ لأن موسى صاحب كتاب وشريعة عامة شاملة. ويوشع وشموائيل لم يكونا كذلك. وإنما كانا تابعين لشريعة موسى من بعده. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وكذلك لا توجد مماثلة بين موسى والمسيح -عليهما السلام- من النواحي التالية: 1 - أن موسى -عليه السلام- عبدٌ لله أرسله إلى بني إسرائيل. وغايته أن يكون نبيا يوحى إليه بشرع. والمسيح في زعم النصارى ليس بنبي ولا عبد، لكن إله تام من إله تام يرسل الرسل. والبشارة إنما جاءت بنبي مرسل يشابه موسى. ثم إن البشارة بواحد من إخوة بني إسرائيل. وبنو إسرائيل وإخوتهم عبيد لله، ليس فيهم إله. 2 - أن المهمة التي جاء من أجلها المسيح في عقيدة النصارى لا تشابه المهمة التي بعث موسى من أجلها؛ فالمسيح في زعمهم أقنوم من الأقانيم الثلاثة الأزلية تجسد لكي يفدي الإنسان الذي شوهته الخطيئة البشرية، ويموت على خشبة الصليب كإنسان كامل بدون خطيئة -أقنوم الحق الفريد لرأفت عماري ص15 و16 - والمسيح في زعمهم دخل الجحيم بعد صلبه قبل قيامه ومكث هناك ثلاثة أيام، وأخرج الأنبياء والصالحين؛ لأن صلبه كان كفارة للخطيئة البشرية. أما موسى -عليه السلام- فقد كانت مهمته تنحصر في أنه بشر رسول يبلغ عن الله الواحد، ولم يصلب فداء عن أحد، بل مات موتا عاديا، ولم يدخل الجحيم ليخلص أحدا. فبين المهمتين بون شاسع. 3 - أن موسى -عليه السلام- كان صاحب شريعة كاملة شاملة مستقلة، والمسيح -كما تذكر الأناجيل الأربعة- لم يكن كذلك. جاء في إنجيل متى 5/ 17 - 18: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء". والنصارى يأخذون معظم تشريعهم من العهد القديم، وقد تضمنت الأناجيل بعض عبارات للمسيح تتصل بالتشريع مع إقراره بالتشريع اليهودي. وبعد رفع المسيح أقام القُسُس على أساس تلك العبارات مع العهد القديم نظاما قانونيا للكنيسة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = 4 - أن موسى -عليه السلام- كان رئيسا مطاعا في قومه أمرهم بالجهاد، وجاهد هو معهم. وكان متزوجا وله أولاد. والمسيح -عليه السلام- لم يكن كذلك البتة. 5 - لو حملت هذه البشارة على أحد أنبياء بني إسرائيل للزم منه تكذيب نصوص التوراة التي بين أيديهم. فقد جاء في سفر التثنية 34/ 10 - 12: "ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرف الرب وجها لوجه" أي: خاطبه شفاها من غير وساطة. وهذا النص يحتمل أن يكون معناه أن هذا النبي المنتظر لم يكن أتى حتى زمان كتابة هذا السفر إبان السبي في بابل أو بعده. لكن التوراة السامرة منعت أن يكون هذا النبي من بني إسرائيل البتة. فقد جاء فيها 34/ 10 "ولا يقوم أيضا نبي في بني إسرائيل كموسى الذي ناجاه الله شفاها". وبما أنه لا مثيل لموسى في بني إسرائيل، فلا بد أن يكون من ولد إسماعيل للبركة الممنوحة له وللوعد بتكثير نسله. ولم يأت أحد لا من بني إسرائيل ولا من غيرهم برسالة عامة شاملة غيره. وهو يشابه موسى -عليه السلام- في أمور كثيرة؛ أهمها ما يلي: - كلاهما عبد ورسول لله، فهما من أب وأم، وقد تزوجا، ولهما أولاد، وماتا على الفراش، ودفنا في القبر. - كلاهما كلمة بدون وساطة، وكلاهما صاحب شريعة كاملة تشتمل على نظام ديني ودنيوي للحياة البشرية. - كلاهما رئيس مطاع في قومه، قادر على تطبيق الأحكام الشرعية فيهم. وقد أمرا بالجهاد، فجاهدا مع أتباعهما، وكانت العاقبة لهما. وهذا مصداق قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل: 15]. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وقوله في الفقرة 18: "وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به" يشير إلى أن هذا النبي سيوحى إليه بكتاب يظهر للناس عن طريق فمه. وكذلك كان. كما يدل على أنه لا ينطق من تلقاء نفسه، بل إنما بوحي من الله. وقوله في الفقرة 19: "ويكون الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه". وفي بعض الترجمات: "فأنا أكون المنقم منه" يدل على أن من يكفر بهذا النبي ويعاديه فإن الله سيكون هو المنتقم منه بطريقة من الطرق في الدنيا والآخرة. وقوله في الفقرة 20: "وأما النبي الذي يطغى ... فيموت ذلك النبي". وفي السامرية: "فليقتل ذلك النبي" يدل على أن المتنبئ الكاذب ستكون نهايته القتل. والمسيح في زعم أهل الكتاب قتل وصلب، فلو كانت هذه البشارة في حقه كما يزعم النصارى للزم أن يكون متنبئا كاذبا. إظهار الحق 2/ 245. أما محمد -صلى الله عليه وسلم- فلم يستطع أحد قتله رغم كثرة المحاولات من قريش ثم من يهود والمنافقين وسائر المشركين في السفر والحضر. بل عصمه الله من الناس. وقد ادعى النبوة في زمنه وبعده ناس كثيرون، وكانت نهايتهم القتل؛ مثل: مسيلمة الحنفي والأسود العنسي وسجاح وطليحة وغيرهم. جاء في الفقرة 22: "فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر، فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب. بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه". وهذه علامة تميز النبي الصادق من المتنبئ الكاذب، فالنبي المبشر به سيتحدث عن الغيب الماضي والحاضر والمستقبل، فإذا وقع الأمر كما أخبر فهو الصادق، وإلا فهو الكاذب فعاده ولا تخف منه؛ لأنه سيخفق وتكون نهايته القتل. ومحمد -صلى الله عليه وسلم- تحدث عن الغيب الماضي والحاضر في زمنه مما غاب عنه، وعن المستقبل، فكانت أخباره كلها صادقة، ولا سيما أخباره عن المستقبل، فمنها ما وقع ورآه الصحابة أو التابعون أو من تبعهم بإحسان بعد موته، ومنها ما لا يزال المسلمون إلى اليوم ينتظرون وقوعه مثل فتح روما وانتصار المسلمين على اليهود ومطاردتهم وتتبعهم.

الإشارة إلى اسمه "صلى الله عليه وسلم" في التوراة

الإشارة إلى اسمه "صلى الله عليه وسلم" في التوراة: قال الله تعالى في الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة مخاطبا إبراهيم الخليل عليه السلام: "وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك. قد باركت فيه، وأثمره وأكثره جدا جدا"1. ذلك قوله: "وليشماعيل

_ 1 جاء في سفر التكوين 17/ 15: وقال الله لإبراهيم: ساراي امرأتك لا تدع اسمها ساراي. بل اسمها سارة. 17/ 16: وأباركها، وأعطيك أيضا منها ابنا، أباركها فتكون أمما، وملوك شعوب منها يكونون. 17/ 17: فسقط إبراهيم على وجه وضحك ... 17/ 18: وقال إبراهيم: ليت إسماعيل يعيش أمامك. وفي السامرية: يحيى في طاعتك. 17/ 20: وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. هأنا أباركه وأثمره وأكثره جدا جدا. اثني عشر رئيسا يلد، وأجعله أمة كبيرة. وفي السامرية: وفي إسماعيل استجبت منك، هو ذا باركته، وأثمره وأكثره جدا جدا. اثني عشر رئيسا يلد، وسأجعله شعبا عظيما. وجاء في 16/ 9 - 10 من السفر نفسه في قصة هروب هاجر من اضطهاد سارة: وقال لها -أي لهاجر- ملاك الرب: ارجعي إلى مولاتك، واخضعي تحت يدها. تكثيرا أكثر نسلك، فلا يعد من الكثرة. 16/ 11: وقال لها ملاك الرب: هأنت حبلى، فتلدين ابنا =

شمعتيخا هني بيراختي أوثو وهفريتي أوثو وهربيتي بمادماد"1. فهذه الكلمة "بمادماد" إذا عددنا حساب حروفها بالجمل وجدناه اثنين وتسعين. وذلك عدد حاسب حروف محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنه أيضا اثنان وتسعون. وإنما جعل ذلك في هذا الموضع ملغزا؛ لأنه لو صرح به لبدلته اليهود أو أسقطته كما علموا في غير ذلك2.

_ = وتدعين اسمه إسماعيل؛ لأن الرب قد سمع لمذلتك. 16/ 12: وإنه يكون إنسانا وحشيا. يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه. وأمام جميع إخوته يسكن. وفي بعض الترجمات: هو يكون عين الناس، وتكون يده فوق الجميع، ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع. وفي السامرية: هو يكون وحشيا من الناس. يده بالكل، ويد الكل به. وجاء في 21/ 12 - 13: لأنه بإسحاق يدعى لك نسل. وابن الجارية أيضا سأجعله أمة عظيمة. وفي السامرية: ابن الأمة هذه لشعب كبير أجعله. 21/ 17 - 18: ونادى ملاك الله هاجر من السماء، وقال لها: ما لك يا هاجر ... قومي احملي الغلام، وشدي يدك به؛ لأني سأجعله أمة عظيمة. 21/ 20 - 21: وكان الله مع الغلام، فكبر وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر. 1 مع إشمام ألف "بمادماد" الضمة وإمالتها نحو الواو. 2 إن من عادة بني إسرائيل الاعتماد في الوقائع والأسماء على قيمة حروف الكلمة من جهة الحساب. وحساب الجمل هو حساب الأعداد للحروف =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = الهجائية في اللغة العبرية على ما يستعمله اليهود فيما بينهم في هذه الكلمات "أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت" فالألف بواحد والباء باثنين والجيم بثلاثة والدال بأربعة والهاء بخمسة والواو بستة والزاي بسبعة والحاء بثمانية والطاء بتسعة والياء بعشرة، والكاف بعشرين واللام بثلاثين والميم بأربعين، والنون بخمسين والسين يستين والعين بسبعين والفاء بثمانين والصاد بتسعين والقاف بمائة، والراء بمائتين والشين بثلاثمائة والتاء بأربعمائة. وتوضيح ذلك أن "جدا جدا" في اللغة العبرية "بمادماد" و"شعبا عظيما" "لجوى جدول" -بالجيم المصرية- وقد قال كثير من علماء اليهود العبرانيين والسامريين: إن كانت التوراة وضع "بمادماد" و"لجوى جدول" في سياق بركة إسماعيل لتدل كل كملة منهما على اسم النبي الآتي بحساب الجمل. فإذا أتى من أولاد إسماعيل من يدعي النبوة، قارنوا اسمه بتلك الكلمات، فإذا وجدوا اسمه مساويا لحساب تلك الكلمات عرفوا أنه النبي المنتظر من نسل إسماعيل. وكلمة محمد بحساب الجمل عددها اثنان وتسعون؛ لأن الميم الأولى بأربعين والحاء بثمانية والميم الثانية بأربعين والدال بأربعة. وكذلك "بمادماد" عددها اثنان وتسعون؛ لأن الباء باثنين والميم الأولى بأربعين والألف بواحد والدال بأربعة والميم الثانية بأربعين والألف بواحد والدال بأربعة. وكذلك كلمة "لجوى جدول" عددها اثنان وتسعون؛ فاللام بثلاثين والجيم بثلاثة والواو بستة والياء بعشرة والجيم بثلاثة والدال بأربعة والواو بستة واللام بثلاثة. انظر: هداية الحيارى ص536 - 537 وص555، إظهار الحق 2/ 251 طبعة المغرب، التوراة السامرية تقديم وتعليق أحمد حجازي ص406 - 407. جاء في إظهار الحق 2/ 251 - 252: وقد صنف أحد أحبار اليهود بعد أن أسلم وتسمى بعبد السلام رسالة صغيرة سماها "الرسالة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = الهادية" قال فيها: إن أكثر أدلة اليهود بحرف الجمل الكبير، وهو حرف أبجد. فإن أحبار اليهود حين بنى سليمان بيت المقدس اجتمعوا وقالوا: يبقى هذا البناء عشر سنوات وأربعمائة، ثم يعرض له الخراب. وذلك لأنهم حسبوا لفظ "بزات". ثم قال عبد السلام: واعترضوا على هذا الدليل بأن الباء في "بماد" ليست من نفس الكلمة، بل هي حرف جيء به للصلة. فلو أخرج منه اسم محمد -صلى الله عليه وسلم- لاحتاج إلى باء ثانية، فيقال "بمادماد". قلنا: المشهور عندهم إذا اجتمعت الباءان إحداهما أداة، والأخرى من نفس الكلمة تحذف الأداء، وتبقى التي هي من نفس الكلمة. وهذا شائع عندهم في مواضع غير معدودة. اهـ. وذكر الأستاذ أحمد زكي باشا في جريدة البلاغ القاهرية الصادرة في آب أغسطس عام 1933م أنه حصل عام 1913م على نسخة من التوراة التي كانت لدى شلبي سامري من طائفة اليهود السامريين، وهي منقولة من أقدم نسخة من التوراة تحتفظ بها تلك الطائفة. وقال أيضا: إن التوراة التي اشتراها مترجمة إلى العربية، وقد تخللها كتابات باللغة السامرية تؤدي إلى أسرار السامريين. ومن هذ العبارات جملة في آخر الباب السابع عشر ص39 من الكتاب. وقد كتب الكاهن الأعظم بخط يده على هامشها عبارات رتبها كما يلي: "92 بمادماد "محمد"، لجوى جدول أي شعبا عظيما أي محمد 92". ثم وضع في ذيلها الجملة التالية: "انظر كيف أن لله في كل كلمة من كلامه تعالى أسرارا مدموجة وآيات عظيمة" حرره العبد الفقير إسحاق الكاهن السامري، عن مجلة الوعي الإسلامي الكويتية العدد 256 عام 1406هـ. وقال ابن القيم في هداية الحيارى ص536: واختلف علماء أهل الكتاب؛ فطائفة تقول: معناها: جدا جدا أي كثيرا كثيرا. فإن كان هذا =

فإن قالوا: إنه يوجد في التوراة عدة كلمات مما يكون حساب حروفه مساويا لعدد حساب حروف اسم زيد وعمرو وخالد. فلا يلزم من ذلك أن يكون زيد وعمرو وخالد أنبياء. فالجواب: إن الأمر كما يقولون لو كان لهذه الآية أسوة بغيرها من كلمات التوراة. لكنا نقيم البراهين والأدلة على أنه لا أسوة لهذه الكلمة بغيرها في سائر التوراة. وذلك أنه ليس في التوراة من الآيات ما حاز به إسماعيل الشرف كهذه الآية؛ لأنها وعد من الله تعالى لإبراهيم بما يكون من شرف إسماعيل. وليس في التوراة آية أخرى مشتملة على شرف لقبيلة زيد وعمرو وخالد وبكر، كما أنه ليس في الآية كلمة تساوي "بمادماد" التي معناها "جدا جدا". وذلك أنها كلمة المبالغة من الله سبحانه وتعالى. فلا أسوة لها من كلمات الآية المذكورة. وإذا كانت هذه الآية أعظم الآيات مبالغة في حق إسماعيل وأولاده. وكانت تلك الكلمة أعظم مبالغة من باقي كلمات تلك الآية، فلا عجب أن تتضمن الإشارة إلى أجل أولاد إسماعيل شرفا، وأعظمهم قدرا محمد صلى الله عليه وسلم. وإذ قد بينا أنه ليس لهذه الكلمة أسوة بغيرها من كلمات هذه

_ = معناها، فهي بشارة بمن عظم من بنيه كثيرا كثيرا. ومعلوم أنه لم يعظم من بنيه أكثر مما عظم محمد -صلى الله عليه وسلم- وطائفة أخرى تقول: بل هو صريح اسم محمد -صلى الله عليه وسلم- ويدل عليه أن الألفاظ العبرانية قريبة من الألفاظ العربية. فإذا أخذت لفظة "مؤذ مؤذ" وجدتها أقرب شيء للفظة محمد -صلى الله عليه وسلم- ويدل على ذلك الباء؛ إذ لا يقال: أعظمه جدا جدا، بخلاف أعظمه بمحمد. وكذلك كان، فإن إسماعيل -عليه السلام- قد عظم بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وازداد شرفا وتعظيما. ثم نقل عن ابن قتيبة قوله: وقد قال لي ولغيري بعض من أسلم من علمائهم: إن "مئذ مئذ" هو محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو بكسر الميم والهمزة، بعضهم يفتح الميم ويدنيها من الضمة. اهـ.

الآية، ولا لهذه الآية أسوة بغيرها من آيات التوراة فقد بطل اعتراضهم1.

_ 1 تضمن البابان السابع عشر والحادي والعشرون من سفر التكوين وعدا من الله سبحانه لإبراهيم -عليه السلام- في حق ولديه إسماعيل وإسحاق -عليهما السلام- بأن يباركهما. وتضمن البابان السادس عشر والحادي والعشرون من السفر نفسه وعدا لهاجر ببركة إسماعيل إيضا. وقد فسرت التوراة البركة بأنها تعني أمما وملوكا على الشعوب من نسل إسماعيل وإسحاق. وقد تحقق الوعد لإسحاق فكثر نسله، واصطفى الله من ذريته موسى -عليه السلام- برسالاته وكلامه. وقام من بعده من بني إسرائيل بالدعوة أنبياء وعلماء وملوك. هذه بركة إسحاق. فما بركة إسماعيل؟ إن علماء المسلمين يقولون: إنها كبركة إسحاق، تعني أمما وملوكا ونبوة وتشريعا. وعلماء أهل الكتاب يقولون: إنه كبركة إسحاق غير أنها لا تعني سوى الأمم والملوك من ذريته. أما النبوة والتشريع فلا. وهذا تعسف واضح؛ إذ كيف يكون هذا، ومفهوم البركة لهما واحد لم يرد عليه استثناء لأحدهما؟ إن الله لا يصطفي أمما وملوكا، ويتركهم بدون هدى منه. بل كيف يصطفي أمة من ذرية مبارك، ولا ينزل عليها كتابا ينظم حياتها وعبادتها؟! وكيف يستخلص ملوكا، ولا يعطيهم شريعة يسوسون بها شعوبهم؟! وإذا ماشينا أهل الكتاب، فمتى تحققت هذه البشارات، وكانت الملوك والأمم في ذرية إسماعيل؟ إنه من المقطوع به أنه لم يأت من صلب إسماعيل من بورك وعظم وكان لشعب كبير غير محمد -صلى الله عليه وسلم- وأن أولاده من بعده لم يكونوا متصرفين في معظم الأمم، ولم يظهر فيهم الملك إلا بعد بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- حيث ظهرت أمته على سائر الأمم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وكانت الخلافة من بعده في قريش. فإذا لم يكن محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا فهو ملك. وقد علم الخاص والعام أنه أخبر عن نفسه أنه رسول الله إلى الناس كافة وخاتم النبيين. فإن كان صادقا عدلا، فقد وجب الإيمان به. وإلا فكيف تكون البشرى لهاجر وإجابة دعاء إبراهيم بملك ظالم جبار متسلط؟ لا سيما إذا ادعى النبوة، فإنه يكون شرا من ملك ظالم لم يدع النبوة، ولم يفتر على الله الكذب. أية بشارة تكون لهاجر وإبراهيم بولد طاغية؟ وأين البركة الممنوحة لإسماعيل؟ ومتى تحققت؟ وصفوة القول: إن البركة التي تعني أمما وملوكا ونبوة وتشريعا، والتي وعد الله بها إبراهيم وهاجر في ابنهما إسماعيل لم تتحقق إلا بنوة محمد -صلى الله عليه وسلم- فدل على أنه هو المبشر به وأن رسالته عالمية. انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/ 312 - 313، الجواب الصحيح 3/ 311 - 314 و1/ 180، هداية الحيارى ص542 و544 - 545 و634، الأجوبة الفاخرة ص163 و165، تحفة الأريب ص134، إظهار الحق 2/ 251، قصص الأنبياء ص293، محمد رسول الله لبشرى ص74، هذا ومن أطرف التعنت ما جاء في حاشية الكتاب المقدس المطبوع بيروت عام 1983م على الفقرة 21/ 14: بين بولس المعنى السري فيما فعل إبراهيم مع سارة وهاجر؛ إذ قال عن سارة: إنها رمز الكنيسة، وعن هاجر: إنها رمز مجمع اليهود. فلذلك يدل إسماعيل على اليهود الذين كفروا بالمسيح، وإسحاق على المؤمنين بمخلص العالم. اهـ. ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

افتراءات اليهود

[افتراءات اليهود]: إبطال ما يدعون من محبة الله تعالى إياهم: هم يزعمون أن الله سبحانه وتعالى يحبهم دون جميع الناس، ويحب طائفتهم وسلالتهم، وأن الأنبياء والصالحين لا يختارهم الله تعالى إلا منهم1.

_ 1 وقد حكى الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ادعاءهم هذا ورد عليهم؛ فقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18]. وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 23 - 25]. وقال تعالى مخاطبا مشركي العرب وأهل الكتاب: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 123، 124]. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وقال جل جلاله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 112، 113]. ولنر الآن تبيان قوله تعالى: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: جاء في سفر الخروج 19/ 5 - 6: فالآن إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون له خاصة من بين جميع الشعوب، فإن لي كل الأرض. وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة. وجاء في سفر الأحبار -اللاويين- 19/ 1 - 2: وكلم الرب موسى قائلا: كلم كل جماعة بني إسرائيل، وقل لهم: تكونون قديسين؛ لأني قدوس الرب إلهكم. 20/ 24: وقلت لكم: ترثون أنتم أرضهم .. أنا الرب إلهكم الذي ميزكم من الشعوب. 20/ 26: وتكونون لي قديسين، لأني قدوس أنا الرب، وقد ميزتكم من الشعوب لتكونوا لي. وجاء في سفر التثنية 7/ 6: لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك، إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعبا أخص من جميع الشعوب الذين هم على وجه الرض. 7/ 7 - 8: ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم واختاركم لأنكم أقل من سائر الشعوب. بل من محبة الرب إياكم وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم، أخرجكم الرب بيد شديدة ... 7/ 12 - 13: ومن أجل أنكم تسمعون هذه الأحكام وتحفظون وتعملونها، يحفظ لك إلهك العهد .. ويحبك ويباركك ويكثرك. 7/ 14: مباركا تكون فوق جميع الشعوب. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وجاء في 9/ 29: وهم شعبك وميراثك الذي أخرجته بقوتك العظيمة وبذراعك الرفيعة. وجاء في 10/ 15: ولكن الرب إنما التصق بآبائك ليحبهم، فاختار من بعدهم نسلهم الذي هو أنتم فوق جميع الشعوب كما في هذا اليوم. وجاء في 14/ 1 - 2: أنتم أولاد للرب إلهكم، لا تخمشوا أجسامكم ولا تجعلوا قَرَعة بين أعينكم لأجل ميت؛ لأنك شعب مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب لكي تكون له شعبا خاصا فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض. 14/ 21: لا تأكلوا جثة ما. تعطيها للغريب الذي في أبوابك فيأكلها أو يبيعها لأجنبي. لأنك شعب مقدس للرب إلهك. وجاء في 26/ 17 - 18: قد واعدت الرب أن يكون لك إلها، وأن تسلك في طرقه، وتحفظ فرائضه ووصاياه وأحكامه وتسمع لصوته. وواعدك الرب اليوم أن تكون له شعبا خاصا كما قال لك، وتحفظ وصاياه. 26/ 19: وأن يجعلك مستعليا على جميع القبائل التي عملها في الثناء والاسم والبهاء، وأن يكون شعبا مقدسا للرب إلهك. كما قال. وجاء في 28/ 1 - 4: وإن سمعت سمعا لصوت الرب إلهك ... يجعلك الرب إلهك مستعليا على جميع قبائل الأرض. وتأتي عليك جميع هذه البركات وتدركك إذا سمعت لصوت الرب إلهك. مباركا تكون في المدينة ومباركا تكون في الحقل، ومباركة تكون ثمرة بطنك ... 28/ 9 - 11: يقيمك الرب لنفسه شعبا مقدسا كما حلف لك إذا حفظت وصايا الرب إلهك، وسلكت في طرقه. فيرى جميع شعوب الأرض أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = اسم الرب قد سمي عليك ويخافون منك. ويزيدك الرب خيرا في ثمرة بطنك وثمرة بهائمك. ولا ريب في أن الله سبحانه فضلهم على عالمي زمانهم كما جاء في القرآن، وكان هذا التفضيل مشروطا بطيبهم وستقامتهم كما دلت بعض النصوص عليه، فإذا غيروا غير الله حالهم. بيد أنهم لفرط جهلهم ولقساوة قلوبهم فرحوا بالوعد، ونسوا الشرط، فظنوا أنهم شعب الله المختار. بل أبناء الله وأحباؤه. وافتروا على الله الكذب، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون. ويدل على ذلك ما يلي: جاء في سفر التثنية 8/ 19 - 20: وإن نسبت الرب إلهك، وذهبت وراء آلهة أخرى وعبدتها وسجدت لها، أُشهد عليكم اليوم أنكم تبيدون لا محالة. كالشعوب الذين يبيدهم الرب من أمامكم، كذلك يبيدون؛ لأجل أنكم لم تسمعوا لقول الرب إلهكم. وجاء في 11/ 26 - 28 من السفر نفسه: انظر أنا واضع أمامكم اليوم بركة ولعنة: البركة إذا سمعتم لوصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها اليوم، واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا الرب إلهكم، وزغتم عن الطريق التي أنا أوصيكم بها اليوم لتذهبوا وراء آلهة أخرى لم تعرفوها. وجاء في 28/ 15: ولكن إذا لم تسمع لصوت الرب إلهك ... تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك. 28/ 32: يُسلم بنوك وبناتك لشعب آخر، وعيناك تنظران إليهم ... 28/ 43 - 44: الغريب الذي في وسطك يستعلي عليك متصاعدا، وأنت تنحط نازلا. هو يكون رأسا وأنت تكون ذنبا. اهـ. وهذا ما حصل، فغضب الله عليهم ولعنهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة. وما من أمة إلا وقصدهم أشد القصد. ولم يروا العدل إلا في بلاد المسلمين؛ ولذلك يكافئونهم اليوم على حسب جبلتهم.

ونحن نناظرهم على ذلك، فنقول لهم: ما قولكم في أيوب النبي عليه السلام؟ أتقرون بنبوته؟ فيقولون: نعم1. فنقول لهم: ما تقولون في جمهور بني إسرائيل؟ أعني: التسعة أسباط والنصف الذين أغواهم برعام بن نباط الذي خرج على ولد سليمان بن داود، ووضع لهم الكبشين من الذهب، وعكف على عبادتهما جماعة من بني إسرائيل وأهل جميع ولاية دار ملكهم الملقبة يومئذ شومرون، إلى أن جرت الحرب بينهم وبين السبطين والنصف الذين كانوا مؤمنين مع ولد سليمان ببيت المقدس، وقتل منهم في معركة واحدة خمسمائة ألف إنسان. فما تقولون في أولئك القتلى بأسرهم؟ وفي التسعة أسباط والنصف؟ هل كان الله يحبهم لأنهم إسرائيليون؟ فيقولون: لا؛ لأنهم كفار2.

_ 1 أيوب -عليه السلام- نبي من ذرية العيس بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم السلام- وبنو العيس هم الروم. وأهل الكتاب يقرون بنبوته مع أنه ليس من بني إسرائيل، بل من إخوتهم. وهم ينسبون له سفرا في العهد القديم يسمونه باسمه. ويتكون من ثلاثة وأربعين بابا. مطلعه 1/ 1: كان رجل في أرض عَوْض اسمه أيوب، وكان هذا الرجل كاملا ومستقيما، يتقي الله ويحيد عن الشر. وغاية المؤلف -رحمه الله- من ذكره أن يقيم الحجة على اليهود بأن الخير والفضل لا يختصان بهم. 2 بعد وفاة سليمان -عليه السلام- أعلن ابنه رَحُبعام نفسه ملكا على اليهود، وبايعه سبطا يهوذا ونيامين في أورشليم. لكن تم تدبير المؤامرة في شكيم -نابلس- فإنه لما اتجه إليها لأخذ البيعة من سائر الأسباط =

فنقول لهم: أليس عندكم في التوراة أنه لا فرق بين الدخيل في دينكم وبين الصريح النسب منكم؟

_ = اجتمعوا عليه وطلبوا منه تخفيف الوطأة التي سار عليها أبوه، فرفض بشدة؛ لأنه كان يريد أن يقيم كلام الله. فأبوا مبايعته، وبايعوا يربعام بن نباط الذي أراد سليمان قتله فهرب إلى مصر. وكانوا قد استدعوه. ولما رجع رحبعام إلى أورشليم جهز جيشا من السبطين لقتالهم؛ لكن شمعيا الذي كانوا يرونه نبيا نهاهم عن قتال بعضهم فأطاعوه، وهكذا انقسمت المملكة إلى مملكتين: جنوبية اسمها يهوذا، وعاصمتها أورشليم، وشمالية اسمها إسرائيل، وعاصمتها شكيم في جبل أفرائيم، وكانت أوسع رقعة من تلك. وخاف يربعام أن يعود الناس إلى رحبعام إذا ذهبوا ليقربوا الذبائح في أورشليم، فصنع عجلين من ذهب، ونادى فيهم: هو ذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر. ثم وضع أحدهما في بيت إيل والآخر في دان. وأقام لهما كهنة من غير سبط لاوى، ثم حدد لهم عيدا، وأمرهم بتقديم الذبائح للعجلين. وكانت تنشب حروب بسيطة بين الدولتين. ثم مات رحبعام وخلفه ابنه أبيا. انظر: الباب "2" من سفر الملوك الأول والبابين "10" و11 و12/ 15 - 16 من سفر أخبار الأيام الثاني. ثم نشبت حرب بين أبيا وبين يربعام. قد حشد أبيا جيشا من جبابرة القتال عدده أربعمائة ألف مختار، فحشد يربعام بدوره ثمانمائة ألف مختار -أخبار الأيام الثاني 13/ 1 - 3 - لكن يربعام جعل الكمين يدور ليأتي من خلفهم. وفوجئ رجال يهوذا، فاستغاثوا بالرب، فضرب الله يربعام وكل إسرائيل، ودفعهم الله ليد أبيا وقومه فسقط منهم قتلى خمسمائة ألف مختار -منه 13/ 13 - 18.

فيقولون: بلى؛ لأن التوراة ناطقة بهذا: "ككيركا از كاخيم بيهي لقي أدوناي". تفسيره: إن الأجنبي والصريح النسب سواء بينكم عند الله. "توراحات ومتنفاط إيحاد يهي لاخيم ولكيرهكار بنو ححيم". تفسيره: شريعة واحدة وحكم واحد يكون لكم وللغريب الساكن فيما بينكم1.

_ 1 جاء في سفر الأحبار -اللاويين- 19/ 33 - 34: وإذا نزل عندك غريب في أرضكم فلا تظلموه. كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم، وتحبه كنفسك ... وجاء في 24/ 16 من السفر نفسه: ومن جدَّف على اسم الرب فإنه يقتل. يرجمه كل الجماعة رجما. الغريب كالوطني عندما يجدف على الاسم يقتل. وجاء في سفر العدد 9/ 14: وإذا نزل عندكم غريب فليعمل فصحا للرب. حسب فريضة الفصح وحكمه كذلك يعمل. فريضة واحدة تكون لكم: للغريب ولوطني الأرض. وجاء في 15/ 13: كل وطني يعمل هذه هكذا لتقريب وقود رائحة سرور للرب. 15/ 14: وإذا نزل عندكم غريب أو كان أحد في وسطكم في أجيالكم وعمل وقود رائحة سرور للرب، فكما تفعلون كذلك يفعل. 15/ 15: أيتها الجماعة لكم وللغريب النازل عندكم فريضة واحدة دهرية في أجيالكم. مثلكم يكون مثل الغريب أمام الرب. 15/ 16: شريعة واحدة وحكم واحد يكون لكم وللغريب النازل عندكم. 15/ 29: للوطني في بني إسرائيل وللغريب النازل بينهم تكون =

فإذا اضطررناهم إلى الإقرار بأن الله لا يحب الضالين منهم، ويحب المؤمنين من غير طائفتهم، ويتخذ أولياء وأنبياء من غير سلالتهم. فقد نفوا ما ادعوه من اختصاص محبة الله سبحانه وتعالى لطائفتهم من بين المخلوقين.

_ = شريعة واحدة للعامل بسهو. وجاء في سفر التثنية 16/ 14: وتفرح في عيدك أنت وابنك وعبدك وأمتك واللاوي والغريب واليتيم والأرملة الذين في أبوابك. 26/ 11: وتفرح بجميع الخير الذي أعطاه الرب ألهك لك ولبنيك، وأنت واللاوي والغريب الذي في وسطك. هذه هي أبرز النصوص التي تسوي بين بني إسرائيل وبين غيرهم في الحكم أمام الله سبحانه. وقد كان فيهم الملوك العصاة والمرتدون وقاتِلو الأنبياء كما نطقت بذلك التوراة. فهل هؤلاء أفضل ممن آمن بالله وعمل صالحا من غير بني إسرائيل مثل أيوب ومن تبعه؟! يكفي في الرد عليهم ما جاء في التوراة من وصفهم بالإفلاس من الفطنة والرأي، وأنهم شرذمة شريرة وشعب صلب الرقبة. انظر الحاشية الأخيرة في البحث المتقدم "الموضع الذي أشير فيه إلى نبوة الكليم والمسيح والمصطفى عليهم السلام" ص73.

فصل في ذكر طرف من كفرهم وتبديلهم

فصل في ذكر طرف من كفرهم وتبديلهم: إن سبيل ذوي التحصيل أن يجتنبوا الرذائل، وينفروا مما قبح في العقول السليمة، ورجح زيفه عند الأفهام المستقيمة. ولهذه الطائفة من الفنون الضلالية ما تنبو عن مثله العقول، ويخالفه المشروع والمعقول. فمن ذلك: أنهم مع ذهاب دولتهم وتفرق شملهم، وعلمهم بالغضب الممدود عليهم. يقولون كل يوم في صلواتهم: إنهم أبناء الله وأحباؤه. وذلك قولهم كل يوم في الصلاة: "اهباث عولام أهبثانو أدوناي الوهينو" تفسيره: الدهر أحببتنا يا إلهنا. "هثبيو أبينو الترورأثخينا" تفسيره: ارددنا يا أبانا إلى شريعتك. "أبينو ملكينو الوهينو" تفسيره: يا أبانا يا ملكنا يا إلهنا. "أنا أدوناي أبينو اكوالينوا" تفسيره: أنت اللهم أبونا منقذنا. "وايث كل رود في يانخا واويبي عدا شخاكوالام كساموا أيام إيحاد ميهم لونوا أثار" تفسيره: وجميع الذين اقتفوا أثر نيبك، وأعداء جماعتك كلهم غطاهم البحر، واحد منهم لم يبق1. ويمثلون أنفسهم بعناقيد العنب، وسائر الأمم بالشوك المحيط

_ 1 هذه الصلاة يسمونها محبة الدهر كما ذكر ابن القيم في هداية الحيارى ص613.

بأعالي حيطان الكرم. وهذا من قلة عقولهم ونظرهم. فإن المعتني بمصالح الكرم، إنما يجعل على حيطانه الشوك حفظا وحياطة للكرم. ولسنا نرى لليهود من بقية الأمم إلا الضرر والذل والصغار. وذلك مبطل لقولهم1. وينتظرون قائما يأتيهم من نسل داود، وإذا حرك شفتيه بالدعاء مات

_ 1 سيذكر المؤلف -رحمه الله- في آخر هذا الفصل أنه ما من أمة من الأمم إلا وقصدهم أشد القصد، وبالغ في طلب استئصالهم وخراب بلادهم إلا المسلمين. وأشد ذلك ما نالهم من ملوكهم المرتدين. وسبب هذه الغطرسة أن اليهود غرهم ما افتروا على الله في دينهم من أنهم أبناء الله وأحباؤه. وبالغوا مستندين إلى النصوص المذكورة في الحاشية الأولى من الفصل السابق "إبطال ما يدعون من محبة الله إياهم" بالغوا في بيان فضلهم واختيارهم، فذكروا أن الفرق بينهم وبين سائر الأمم كالفرق بين الإنسان والحيوان، وأن الناس مسخرون لهم كما أن الحيوان مسخر للإنسان. وقد قرروا أيضا أن لليهود وحدهم الحياة الأبدية، وأن أرواحهم من روح الله دون سائر الناس. ويزعمون أن هذا سيتحقق عند مجيء المسيح المنتظر كما سيأتي قريبا. وتتجلى هذه الأفكار ويظهر تطبيقها والعمل بمقتضاها في كتاب الخطر الصهيوني "بروتوكولات حكماء صهيون". ويؤيد ذلك ما ذكره المفكر الجزائري مالك بن نبي -رحمه الله- من أنه كان في متجر في باريس يشتري بعض الحاجات، فدخلت امرأة جزائرية من قسنطينة، ومعها ولد لها يبكي فزجرته أمه بلهجة تلك البلدة التي تشبه لهجة يهود الجزائر. فما إن سمعتها امرأة أخرى كانت قابعة هناك حتى اقتربت منها وسلمت عليها بتلك اللهجة، وقالت لها مشيرة إلى الشعب الفرنسي: الحمد لله الذي سخر لنا هذه الأبقار. ظانة إياها أنها يهودية مثلها.

جميع الأمم، ولا يبقى إلا اليهود. وهذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به. وقد كانت الأنبياء -عليهم السلام- ضربوا لهم أمثالا أشاروا بها إلى جلالة دين المسيح -عليه السلام- وخضوع الجبارين لأهل ملته، وإتيانه بالنسخ العظيم. فمن ذلك قول إشعياء في نبوته: "وغار زائب عم كبيش يحذا ويربضوا شنيهم وفارا واذوب ترعينا وارياء كبار قارا بوخل تبين" تفسيره: إن الذئب والكبش يرعيان جميعا، ويربضان معا، وإن البقرة والدب يرعيان جميعا، وإن الأسد يأكل التبن كالبقرة1.

_ 1 جاء في سفر إشعياء 11/ 1 - 5: ويخرج قضيب من جذع يسَّى، وينبت غصن من أصوله. ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب. ولذته تكون في مخافة الرب، فلا يقضي بحسب نظر عينيه، ولا يحكم بحسب سمع أذنيه. بل يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويميت المنافق بنفخة شفتيه. ويكون البر منطقة متنيه، والأمانة منطقة حقويه. 11/ 6 - 10: فيسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي والعجل والشبل والمسمن معا، وصبي صغير يسوقها. والبقرة والدبة ترعيان، تربض أولادهما معا، والأسد كالبقر يأكل تبنا. ويلعب الرضيع على سرب الصل، ويمد الفطيم يده على حجر الأفعوان. لا يسوؤن ولا يفسدون في كل جبل قدسي؛ لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تعطي المياه البحر. ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب، إياه تطلب الأمم، ويكون محله مجدا. 11/ 11: ويكون في ذلك اليوم أن السيد يعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه التي بقيت ... =

فلم يفهموا من تلك الأمثال إلا صورها الحسية دون معانيها العقلية، فتولوا عن الإيمان بالمسيح عند مبعثه، وأقاموا ينتظرون الأسد يأكل التبن، وتصح لهم حينئذ العلائم بمبعث المسيح. ويعتقدون أيضا أن هذا المنتظر متى جاءهم يجمعهم بأسرهم إلى

_ = 11/ 12 - 16: ويرفع راية للأمم، ويجمع منفي إسرائيل، ويضم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض. فيزول حسد أفرايم، وينقرض المضايقون من يهوذا. أفرايم لا يحسد يهوذا، ويهوذا لا يضايق أفرايم. وينقضان على أكتاف الفلسطينيين غربا، وينهبون بني المشرق معا ... ويبيد الرب لسان بحر مصر، ويهز يده على النهر بقوة ريحه ويضربه إلى سبع سواق، ويحيز فيها بالأحذية. وتكون سكة لبقية شعبه التي بقيت من أشور، كما كان لإسرئيل يوم صعوده من أرض مصر. وجاء في 61/ 1 - 3: روح السيد الرب علي؛ لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمسببين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق. لأنادي بسنة مقبولة للرب، وبيوم انتقام لإلهنا، لأعزي كل النائحين. لأجعل لنائحي صهيون، لأعطيهم جمالا عوضا عن الرماد، ودهن فرح عوضا عن النوح ورداء نسيج عوضا عن الروح اليائسة ... 61/ 4 - 6: ويبنون الخِرب القديمة ... ويقف الأجانب، ويرعون غنمكم، ويكون بنو الغريب حراثيكم وكرَّاميكم. أما أنتم فتدعون كهنة الرب، تسمون خدام إلهنا. تأكلون ثروة الأمم، وعلى مجدهم تتأمرون. وجاء في سفر صموئيل الثاني 7/ 11 - 13: والرب يخبرك أن الرب يصنع لك بيتا متى كلمت أيامك، واضطجعت مع آبائك. أقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك، وأثبتت مملكته. هو يبني بيتا لاسمي، وأنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد.

القدس، وتصير لهم الدولة، ويخلو العالم من سواهم، فيحجم الموت عن جنابهم المدة الطويلة. وسبيلهم أن يعولوا على متابعة الأسود في غاباتها، وطرح التبن بين أيديها؛ ليعلموا وقت أكلها إياه1.

_ 1 يرى بعض العلماء أنه نتيجة لما لاقاه اليهود من اضطهادات نشأت عندهم عقيدة المخلص الذي سيجيء ليعيد مجد إسرائيل، ويجمع أشتات اليهود بفلسطين. وقد أطلقوا عليه اسم النبي أو المسيح المنتظر. وكلمة مسيح معناها عندهم: الممسوح بزيت البركة المقدس؛ لأنهم كانوا يمسحون الملوك والأنبياء والكهنة عند تقليدهم المناصب، كما مسح صموئيل كلا من شاؤل وداود بالزيت ملكا بأمر الرب. ويظهر -والله أعلم- أنهم إنما أطلقوا عليه هذا اللقب ليظهروا للعالم أنه سيكون من بني إسرائيل. ويرى بعضهم أيضا أن هذه الفكرة إنما برزت لهم بعد سقوط دولتهم وخلال أسرهم في بابل، ثم تبلورت بعد خضوعهم للفرس. مما دفع بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن هذه الفكرة مستعارة من الديانة الزرداشتية التي يدين بها الفرس. اليهودية لأحمد شلبي ص216 و218 - 219. ومن الطريف في ذلك ما كتبه العالم اليهودي الدكتور رافائيل باتاي في الصلاة المدراشية التالية: "وعندما لفَّت أعمدة الله الهيكل صعد ثلاثة كهنة شبان إلى السطح، وألقوا بمفاتيح بيت الله نحو السماء، فامتدت يد نزولا، والتقطت المفاتيح. قال الكهنة: إلى متى أدوناي إلى متى؟ فقال صوت سماوي: لا أكثر من يومين يا أولادي. فعرفوا عنذئذ أن سبي الشخينة وتشتيت إسرائيل سيدوم ألفين من السنين؛ إذ مكتوب -أي في المزمور 90/ 4 بروتستانت-: لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر. فقالوا له: يا سيد الكون، كيف يستطيع بنو إسرائيل تحمل ألفي سنة من العذاب؟ فقال لهم: سأعطيهم شعاعا من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = النور يضيء ليل تشتيتهم، سأعطيهم من لن يشاهدوا أبدا، لكنهم سيشعرون بوجوده في كل الأوقات، من لن يأتي أبدا، لكنه سيكون على وشك القدوم دوما من سيفتشون عنه، لكنه يوجد في قلوبهم فقط سأعطيهم إياه، وهو لن يكون أبدا، ولكنه سيساعدهم على البقاء، سأعطيهم المسيح المنتظر. التوراة بين الوثنية والتوحيد لسهيل ديب ص117 - 118. وأنت ترى أن هذا النص يجمع بين الإيمان العميق والرفض المطلق. وهو يعبر عن الحيرة والقلب اللذين سيطرا على المفكرين من اليهود في عصرنا هذا. ويظهر -والله أعلم- أن فكرة النبي أو المسيح المنتظر ليست مستعارة لا من الزرداشتية ولا من غيرها؛ بل إنما هي فكرة أصيلة في عقيدة بني إسرائيل؛ فقد بشرت الأنبياء جميعا -ومنهم أنبياء بني إسرائيل- بنبي يأتي في آخر الزمان من ذرية إسماعيل بشريعة عامة شاملة عادلة فيجاهد الكفار ويؤيده الله بنصره فيمتد دينه، وتسود شريعته وهو خاتم الأنبياء، بيد أن دينه وأمته لا ينقرضان إلى قيام الساعة؛ لكن أحبار اليهود حرفوا النصوص ولعبوا فيها على مقتضى أهوائهم التي تحتقر غيرهم -ولا سيما ذرية إسماعيل- ومن هنا بدأ اللبس واختلط السم بالدسم. وكان الله سبحانه قد بشر بني إسرائيل أيضا بالمسيح ابن مريم -عليه السلام- على ألسنة أنبيائه من لدن موسى إلى من بعد داود من الأنبياء -عليه السلام- وأكثر الأنبياء به تبشيرا داود -عليه السلام- فكانت اليهود تنتظره بشغف بالغ رجاء أن يحررهم من نير القهر والغلبة. ومما لا شك فيه أن الأنبياء ذكروا عودته الثانية إلى الأرض قبل قيام الساعة ومحاربته للمسيح الدجال وقتله إياه، وانتصاره على سائر الكفرة بجهاده =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ودعائه، وإقامته حكم الله في الأرض. لكن بسبب فقدان التوراة وسائر كتب الأنبياء الحقيقية، ووجود النصوص المضطربة والمحرفة، بالإضافة إلى من يريدون طمس الحقائق، حدث سوء الفهم الموجه لدى عامة بني إسرائيل، فالتبست مهمة المسيح ابن مريم قبل رفعه إلى السماء بمهمة غيره ممن أمر بالجهاد، وبمهمته أيضا بعد عودته. الأمر الذي جعل سواد اليهود ينتظرون مسيحا سياسيا وبطلا عسكريا، يعبئ طاقاتهم للبطش بأعدائهم. وتهيأ الرأي العام اليهودي لهذا المسيح، وطال الانتظار. فمنذ العودة من السبي كانوا ينتظرون عهد الله بإقامة الدولة اليهودية على يد المسيح المنتظر. وكانت عقيدتهم به تتجدد كلما ألمت بهم النوائب وحاقت بهم المحن. وجاء المسيح ابن مريم -عليه السلام- يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وينادي بالخلاص الروحي وتطهير النفس ونحو ذلك. فكذبوه وطردوه ظانين أنه ليس الذي بُشروا به، بحجة أن المبشر به تؤمن به الأمم كلها. وهموا بقتله مرارا إلى أن أجمعوا على القبض عليه وقتله، فصانه الله وأنقذه من أيديهم. الجواب الصحيح 3/ 324 و393، هداية الحيارى ص642، اليهودية لأحمد شلبي ص220 و222، الشرائع الدينية ص124، مَن هو المسيح؟ ص23 - 24. والنصارى يحملون جميع بشارات العهد القديم على المسيح ابن مريم -عليه السلام- ويتأولون ما لا ينطبق عليه ولا على زمانه بتأويلات سخيفة، ومن ذلك قولهم عما جاء في سفر إشعياء الباب الحادي عشر: "يتضمن هذا الفصل وصف أزمان المسيح وما يكون فيها من السعادة والدعة، وهو المراد بهذا الملك الذي سيخرج من أرومة داود، وينشر العدل والسلام، وترتد إليه الأمم الوثنية، ويجتمع تحت رايته المشتتون =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = من بني إسرائيل من كل وجه الأرض. فيصيرون تحت سلطان مملكة -أي روحية- مقتدرة. انظر حاشية الكتاب المقدس المطبوع عام 1983م ببيروت. قال ابن كمونة اليهودي في تنقيح الأبحاث ص61: وقد جاء في كتب الأنبياء من علامات المسيح وما يكون في زمانه ما لم يظهر في يشوع ولا في زمانه. مثل ما جاء في كلام بعضه أنه يضرب الأرض بسوط فيه، وبريح شفتيه يميت الخاطئ، وأنه يجلس على منبر داود، فيقضي بين الناس بعدل وحق. وأن الحروب ترتفع، ولا يرفع أحد على أحد سيفا، وأن الذئب والكبش يربضان معا، ويرعيان جميعا، وأن الأسد يأكل التبن مع البقر ... ثم قال: وهذا إن كان على ظاهره فلم يجر ولم يقع في أيام يشوع ولا بعده، وإن كان مثلا، فهو مثل لارتفاع الشرور من العالم وزوال العدوان من بين الخلق. ولم يجر في زمانه إلا خلاف ذلك من زيادة العداوة بين الناس بسبب ظهوره، وارتكابهم الذنوب العظيمة فيه وفي أصحابه. اهـ. ولا يزال اليهود حتى يومنا هذا ينتظرون مسيحهم الذي يجعل بالقوة من أورشليم محور العالم، ويقيم الموتى ويرعى الشعوب بقضيب موسى. وقد تعداهم السعد. فلهذا إذا خرج المسيح الدجال يضل الناس بما استدرجه الله من قدرات اتبعوه وكانوا جنده. قال ابن تيمية في الجواب الصحيح 1/ 177 و3/ 293 و324 وابن القيم في هداية الحيارى ص585: واليهود في الحقيقة إنما ينتظرون المسيح الدجال الذي حذرت منه الأنبياء. فإنه هو الذي ينتظرون حقا. وهم عسكره وأتبع الناس له. ويخرج معه سبعون ألف مطيلس من يهود أصبهان. ويكون لهم في زمانه شوكة ودولة إلى أن ينزل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = مسيح الهدى ابن مريم، فيقتل منتظرهم المسيح الدجال، ويضع هو وأصحابه السلام فيهم، كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحيحة. اهـ. فظهر أن كلا من اليهود والنصارى والمسلمين ينتظر مسيحا في آخر الزمان: فمسيح اليهود هو الأعور الدجال كما سلف. ومسيح النصارى لا حقيقة له؛ لأنه عندهم إله تام من إله تام من جوهر أبيه. ينزل في آخر الزمان ليدين الناس يوم القيامة. وكانوا يظنون أن هذا سيكون قبل موت جميع الحواريين. بل إن بعضهم ليشهد ذلك. ولكن مات الحواريون ومضى على ميلاده قرابة ألفي عام، ولم يأت في ملكوته ليدين الناس. أما المسيح الذي يؤمن به المسلمون، فهو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه ليس غير. وقد صح في الأخبار عن سيد الأبرار -صلى الله عليه وسلم- أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق على جناحي ملكين، فيقتل مسيح الضلالة على بضع عشرة خطوة من باب لد، ويظهر دين الله وتوحيده، ويقتل أعداءه الذين رموه وأمه بالعظائم، وأعداءه الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون الله. وتعود الملل في زمنه ملة واحدة، ألا وهي دين الإسلام ملة إبراهيم وسائر الأنبياء -عليهم السلام- وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حاله وقت نزوله، وعن ملبسه الذي عليه، وأخبر بما يفعله بعد نزوله بالتفصيل. وأوصى من أدركه من أمته أن يقرأ عليه السلام منه. ومما ورد في ذلك ما يلي: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد". ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ =

وأيضا، إنهم في العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة يقولون في صلاتهم: "ألوهيبود ألوهي ايوثينو ملوخ على كل يوشي تبيل ارصيحا ويوماركول اشبرنشا ماباقو أدوناي الوهي يسرائيل ملاخ وملخوثو ايلول ماشالا" تفسيره: يا آلهنا وإله آبائنا املك على جميع أهل الأرض ليقول كل ذي نسمة: الله إله إسرائيل قد ملك، ومملكته في الكل متسلطنة. ويقولون في هذه الصلوات أيضا: "وسيكون لله الملك، وفي ذلك اليوم يكون الله واحد". ويعنون بذلكأنه لا يظهر أن الملك لله إلا إذا صارت الدولة إلى اليهود الذين هم أمته وصفوته. فأما ما دامت الدولة لغير اليهود، فإن الله خامل الذكر عند الأمم، وأنه مطعون في ملكه مشكوك في قدرته. فهذا معنى قولهم: "اللهم املك على جميع أهل

_ = أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ .... } الآية، أخرجه الشيخان والترمذي. وفي رواية لمسلم: "والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية ولتتركن القلاص -أي النوق- فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد". وفي رواية أبي داود: "ليس بيني وبينه نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، ينزل بين ممصرتين -أي ثوبين فيهما صفرة خفيفة- كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل. فيقال: الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال. ثم يمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون".

الأرض"، ومعنى قولهم: "وسيكون الملك لله"1. ومما ينخرط في هذا السلك قولهم: "لا ما يومر وهو كوييم إلى أنا ألوهيم". تفسيره: لِمَ تقول الأمم: أين إلههم؟ وقولهم: "عور إلا ما يثشنان أدوناي هاقيصا مشاثيخا". تفسيره: انتبه لِمَ تنام يا رب؟ استيقظ من رقدتك2.

_ 1 والصلاة التي يرددونها كثيرا هي: "فليتمجد وليتقدس اسم الرب العظيم في كل العالم الذي خلقه حسب مشيئته، وليتحقق ملكه في أثناء حياتكم وخلال أيامكم، وفي أثناء حياة كل بني إسرائيل بسرعة وبالقريب العالج. آمين". انظر: التورة تاريخها وغاياتها تعريب سهيل ديب ص43، وهو ينقل عن كتاب "الصلاة للسبت والأعياد". 2 جاء في سفر الملوك الثاني 19/ 15 - 16: وصلى حزقيا أمام الرب وقال: أيها الرب إله إسرائيل ... أمل يا رب أذنك واسمع. افتح يا رب عينيك وانظر. واسمع كلام سنحاريب الذي أرسلته ليعير الله الحي. ومما جاء من وقاحتهم مع الله وخطابهم إياه على وجه يتنافى مع التنزيه ما يلي: جاء في سفر نحميا 1/ 6: لتكن أذنك مصغية، وعيناك مفتوحتين لتسمع صلاة عبدك .. وجاء في المزمور 89/ 38 - 39 في مخاطبتهم لله تعالى: لكنك رفضت ورذلت، غصبت على مسيحك. نقضت عهد عبدك، نجست تاجه في التراب. 89/ 46: حتى متى يا رب تختبئ كل الاختباء؟ وجاء في إشعياء 63/ 17: لماذا أضللتنا يا رب عن طرقك؟ قسَّيت قلوبنا عن مخافتك؟ ارجع من أجل عبيدك. وجاء في دانيال 19/ 18: أمل أذنك يا إلهي واسمع، افتح عينيك وانظر خربنا والمدينة التي دُعي اسمك عليها. وجاء في إرمياء 4/ 10: فقلت: آه يا سيد الرب، حقا إنك خداعا خادعت هذا الشعب وأورشليم قائلا: يكون لكم سلام. وقد بلغ السيف النفس.

وهؤلاء إنما نطقوا بهذه الهذيانات والكفريات من شدة الضجر من الذل والعبودية والصغار، وانتظار فرج لا يزداد منهم إلا بعدا. فأوقعهم ذلك في الطيش والضجر، وأخرجهم إلى نوع من الزندقة والهذيان الذي لا تستحسنه إلا عقولهم الركيكة. فتجرءوا على الله بهذه المناجاة القبيحة، كأنهم ينخون الله بذلك لينتخي لهم، ويحمى لنفسه. لأنهم إذا ناجوا ربهم بذلك، فكأنهم يخبرونه بأنه قد اختار الخمول لنفسه، وينخونه للنباهة واشتهار الصيت. فترى أحدهم إذا تلا هذه الكلمات في الصلاة يقشعر جلده، ولا يشك في أن كلماته تقع عند الله تعالى بموقع عظيم، وأنه يؤثر في ربه، ويحركه بذلك، ويهزه وينخيه. وهؤلاء على الحقيقة ينبغي أن يُرحم جهلهم وضعف عقولهم. وأيضا، فإن عندهم في توراتهم: أن موسى صعد الجبل مع مشايخ أمته، فأبصروا الله جهرة، وتحت رجليه كرسي منظره كمنظر البلور. ذلك قوله: "وتراءى ألوهي يسرائيل رعلاي كراي كبناث هشيفير وخعيصم هشامايم لاطوهره"1.

_ 1 جاء في سفر الخروج 24/ 9 - 11: ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل. ورأوا إله إسرائيل، وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة. ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل. فرأوا الله، وأكلوا وشربوا. وفي التوراة السامرية. ونظروا ولي إسرائيل، وتحت رجليه كصنعة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = حجر المها، وكجرم السماء من النقاء. وإلى جانب بني إسرائيل لم يمد يده. فلما شاهدوا ملاك الله أكلوا وشربوا. وقد ورد في توراتهم نصوص كثيرة تذكر أن الله ظهر للإنسان فرآه وخاطبه: فزعموا في سفر التكوين 17/ 1 - 22: أن إبراهيم -عليه السلام- رآه. وزعموا في 18/ 1 - 8: أنه رآه وجادله. بل زعموا في 32/ 24 - 30: أنه ظهر ليعقوب ليلا فتصارعا حتى الصباح، وأبى يعقوب أن يطلقه حتى يباركه، فباركه وسماه إسرائيل. وادعوا في 35/ 9 - 13: أنه رآه مرة آخرى، ثم صعد الله عنه. وزعموا في سفر الخروج 3/ 5 - 6: أنه ظهر لموسى بينما كان يرعى الغنم في أقصى البرية عند جبل الله، فستر موسى وجهه؛ لأنه خاف أن ينظر إلى وجه الله. بل ادعوا أنه رآه هو وسبعون من شيوخ إسرائيل كما ذكر المؤلف رحمه الله. وقد ذكرت القصة في القرآن الكريم في سورة طه "9 - 48"، وفي سورة الأعراف "143 و147 - 157" وهي خالية من وقوع الرؤية، بل نفتها سورة الأعراف، حتى إن القرآن نفى إمكانية الرؤية في الحياة الدنيا، قال تعالى في سورة الأنعام "103": {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}. وقد جاء في سفر الخروج 33/ 18 - 23 ما ينفي الرؤية أيضا: "فقال: أرني مجدك. فقال: أجيز كل جودتي قدامك .. وقال: لا تقدر أن تري وجهي؛ لأن الإنسان لا يراني ويعيش. وقال الرب: هو ذا عندي مكان، فتقف على الصخرة، ويكون متى اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة، وأسترك بيدي حتى أجتاز، ثم أرفع يدي فتنظر ورائي. وأما وجهي فلا يُرى". ومن الجدير بالذكر أن التوراة السامرية في جميع تلك النصوص تذكر أن الرؤية إنما كانت لملائكة الله.

ويزعمون أن اللوحين مكتوبان بإصبع الله، ذلك قولهم: "بأصباع ألوهيم"1. ويطول الكتاب إن عددنا ما عندهم من كفريات التجسيم. على أن أحبارهم قد تهذبوا كثيرا عن معتقد آبائهم بما استفادوا من عندهم بما يدفع عنهم إنكار المسلمين عليهم ما تقتضيه الألفاظ التي فسروها ونقلوها. وصاروا متى سئلوا عنا عندهم من هذه الفضائح استتروا بالجحد والبهتان خوفا من فظيع ما يلزمهم من الشناعة. ومن ذلك أنهم ينسبون إلى الله تعالى الندم على ما يفعل: فمن ذلك قولهم في التوراة التي في أيديهم: "ويناجم أدوناي كي عاشا اث أذام أرض وبتعصيب ال لبو". تفسيره: وندم الله على خلق البشر في الأرض، وشق عليه2.

_ 1 جاء في سفر الخروج 24/ 12: وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم، 31/ 18: ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه لوحي الشهادة، لوحي حجر مكتوبين بإصبع الله، 32/ 15 - 16: فانصرف موسى ولوحا الشهادة في يده، لوحان مكتوبان على جانبهما. واللوحان هما صنعة الله، والكتابة كتابة الله منقوشة على اللوحين. وقد ورد نحو ذلك في 34/ 1 من السفر نفسه وفي سفر التثنية 5/ 22 و9/ 10/ 1 - 2 و10/ 4. ومن الطريف أن النصارى يزعمون أن الأصبع التي كتبت اللوحين هي التي دق فيها المسمار على الصليب. 2 جاء في سفر التكوين 6/ 5 - 7: ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شر كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض. وتأسف في قلبه. فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء؛ لأني حزنت أني عملتهم. أي: أن الله سبحانه لم يكن يدرك -على حد قولهم- أن فساد البشر سيكثر بهذا الشكل. فندم على خلقهم بعد أن رأى كثرة شرهم.

وقد أفرط المترجم في تعصبه وتحريفه للألفاظ عن موجب اللغة، وفسر "ويناجم أدوناي وناب أدوناي تمير به" يعني: عاد الله في رأيه. وهذا التأويل أيضا، وإن كان غير موافق اللغة، فهو أيضا كفر مناقض لما يدفعونه من البداء والنسخ. وأما الدليل على تفسيره: وبتعصيب ال لبو: وشق عليه، فهو ما جاء في مخاطبة حواء: "بتعصيب تيلدي بانيم" تفسيره: بمشقة تلدين الأولاد. فقد تبين أن "العصيب" عندهم في اللسان العبراني: هو المشقة. وهذه الآية عندهم في قوم نوح عليه السلام: زعموا أن الله تعالى لما رأى فساد قوم نوح، وأن شرهم وكفرهم قد عظم، ندم على خلق البشر وشق عليه1. ولا يعلم البله أن من يقول بهذه المقالة يلزمه أن الله تعالى

_ 1 جاء في سفر التكوين 6/ 11 - 14: ورأى الله الأرض، فإذا هي قد فسدت؛ إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض. فقال الله لنوح: نهاية كل بشر قد أتت أمامي؛ لأن الأرض امتلأت ظلما منهم، فهأنا مهلكهم مع الأرض. وأطرف شيء في هذا النص: وجود "إذا" الفجائية.

قبل أن يخلق البشر، لم يكن عالما بما سيكون من قوم نوح وغير ذلك من النقص، تعالى الله عما يكفرون. وفي موضع آخر من سفر شموائيل: "وأدوناي يخام كي همليح اث شاؤل على يسرائيل". تفسيره: والله ندم على تمليكه شاؤل على إسرائيل1. وأيضا فإن عندهم في كتابهم أن نوحا النبي -عليه السلام- لما خرج من السفينة بدأ ببناء مذبح لله تعالى، وقرب عليه قرابين. ويتلو ذلك: "ويارح أدوناي ايث ريخ هينحمورح ويومز أدوناي ال لبو أوسيف عود لقليل اث لهاذا ما يا عيور هااذام كي يبصر كيب ها إذام راغ منعورا وولو أوسيف عوز لهكوث اث كل حاي طا اشير عاسيثي". تفسيره: فاستنشق الله تعالى رائحة القتار. فقال الله تعالى في ذاته: لن أعاود لعنة الأرض بسبب الناس؛ لأن خاطر البشر مطبوع على الردة، ولن أعاود إهلاك جميع الحيوانات كما صنعت2.

_ 1 جاء في سفر صموئيل الأول 15/ 10 - 11: وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلا: ندمت على أني قد جعلت شاول ملكا؛ لأنه رجع من ورائي، ولم يقم كلامي. 15/ 35: ولم يعد صموئيل لرؤية شاول إلى يوم موته؛ لأن صموئيل ناح على شاول، والرب ندم لأنه ملك شاول على إسرائيل. 2 جاء في سفر التكوين 8/ 20 - 22: وبني نوح مذبحا للرب، وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة، وأصعد محرقات على المذبح. فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض من أجل الإنسان؛ لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته. ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت. قال ابن القيم في هداية الحيارى ص583 وص590: ومن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = العجب تواطؤهم على امتناع النسخ على الله فيما شرعه لعباده؛ لئلا يلزم منه البداء، ثم يقولون: إن الله ندم وبكى على الطوفان، وعض أنامله حتى رمدت عيناه، وعادته الملائكة. اهـ. والأدهى من ذلك والأمر زعمهم أن الله سبحانه خشي أن يأخذه الغضب ثانية فاتخذ ما يذكِّره: جاء في سفر التكوين 9/ 8 - 11: وكلم الله نوحا وبنيه معه قائلا: وهأنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم، ومع كل ذوات الأنفس الحسية التي معكم الطيور والبهائم .. أقيم ميثاقي معكم، فلا ينقرض كل ذي جسد أيضا بمياه الطوفان، ولا يكون أيضا طوفان ليخرب الأرض. 9/ 13 - 17: وقال الله: هذه علامة الميثاق إلى أجيال الدهر: وضعت قوسي في السحاب، فيكون متى أنشر سحابا على الأرض، وتظهر القوس في السحاب أني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية. فلا تكون أيضا المياه طوفانا. فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لأذكر ميثاقا أبديا. وقد جاء في أسفار العهد القديم نصوص أخرى تنسب إلى الله الندم والبداء. منها ما يلي: جاء في سفر الخروج 32/ 9 - 14: وقال الرب لموسى: رأيت هذا الشعب، وإذا هو شعب صلب الرقبة. فالآن اتركني ليحمى غضبي عليهم وأفنيهم. فتضرع موسى أمام الرب إلهه وقال: لماذا يا رب يحمى غضبك على شعبك .. ارجع عن حمو غضبك واندم على الشر بشعبك .. فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه. والطريف في هذا النص أن موسى -عليه السلام- وهو المعروف بحدة الطبع، جعلوه أحلم من ربه؛ ولذلك لم يتركه يفنيهم، بل هدأ من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = غضبه، وطيَّب خاطره. وفي التوراة السامرية نجد العبارات ألطف نوعا ما. فقد جاء فيها: وعلى هارون تواجد الله جدا لاستئصاله -أي بسبب صنعه العجل وعبادته كما يزعمون- فشفع موسى بسبب هارون، وابتهل في حضرة الله إلهه وقال: لا -يا الله- يشتد وجدك على قومك الذين أخرجتهم من مصر .. عد عن حمية وجدك، واصفح عن سيئة قومك. وجاء في سفر القضاة الأول 2/ 18: وخلصهم من أعدائهم كل أيام القاضي؛ لأن الرب ندم من أجل أنينهم، بسبب مضايقتهم وزاحميهم. وجاء في سفر أخبار الأيام الأول 21/ 15: وأرسل الله ملاكا على أورشليم لإهلاكها. وفيما هو يهلك رأي الرب، فندم على الشر، وقال للملاك المهلك: كفى الآن، رد يدك. والعاقل يتساءل: ما الشر الذي ندم عليه؟ أكان حكمه الأول ظلما فكان شرا، أم ظهرت له أدلة جديدة قطعت ببراءتهم؟! وجاء في مزامير داود 89/ 39: نقضت عهد عبدك. نجست تاجه في التراب. إنها وقاحة ما بعدها وقاحة. أهكذا ينسبون إلى داود -عليه السلام- مخاطبة ربه عز وجل؟ وفي المزمور 106/ 44 - 45: فنظر إلى صنيعهم إذ سمع صراخهم، وذكر عهده، وندم حسب كثرة رحمته. وجاء في سفر حزقيال 20/ 25: وأعطيتهم أيضا فرائض غير صالحة وأحكاما لا يحيون بها. 20/ 26: ونجستهم بعطاياهم؛ إذ أجازوا في النار كل فاتح رحم. لأبيدهم حتى يعلموا أني أنا الرب. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وجاء في سفر يونان 1/ 1 - 2: وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلا: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة، وناد عليها لأنه قد صعد شرهم أمامي. 3/ 10: فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم. فلم يصنعه. 4/ 2: وصلى -أي يونان- إلى الرب وقال: آه يا رب ... لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش لأني علمت أنك إله رءوف ورحيم وبطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر. هذا، وإن في أسفار العهد القديم نصوصا كثيرة تجسم الخالق وتشبهه بالإنسان، بل وتنسب مشاعره الضعيفة إلى الله سبحانه بشكل يستحيل معه التنزيه، كما تصفه بكثير من صفات الحوادث والنقص التي يمتنع وصفه بها، إلى غير ما هناك من الأمور التي تستبعدها العقول، وتمنع وقوعها من قبل الله سبحانه، وتنزهه عنها بما يدل على أن هذه الأسفار قد انتابها كثير من التحريف والتبديل القصدي وغير القصدي زيادة ونقصانا. فبالإضافة إلى ما ذكر وردت نصوص كثيرة تنافي الوحدانية، وتجعل لله سبحانه شريكا أو شركاء؛ كما في سفر التكوين 3/ 22، وسفر الخروج 7/ 1، والمزمور 110/ 1 - 5. ووردت نصوص تنسب إلى الله البنوة كما في سفر التكوين 6/ 1 - 5. ونصوص تنسب إليه المخادعة والجهل كما في سفر التكوين 2/ 15 - 17 و2/ 21 - 25 و3/ 1 - 14، وكما في سفر التثنية 32/ 19 - 22 و26 - 27، وكما في سفر إرمياء 4/ 10. ولا ريب في أن الله سبحانه منزه عن هذا كله. وكل عاقل يقطع =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ببراءة التوراة التي أنزلها الله على موسى -عليه السلام- من هذه الأمور. وكذلك سائر كتب الأنبياء وتعاليمهم. بدليل نص التوراة التي بأيديهم وغيرها، فإن النهي عن الشرك والتشبيه والتمثيل مذكور في عدة مواضع من العهد القديم، ومن ذلك ما يلي: جاء في سفر الخروج 34/ 14: فإنك لا تسجد لإله آخر. لأن الرب اسمه غيور. إله غيور هو. 34/ 17: لا تصنع لنفسك آلهة مسبوكة. وجاء في سفر التثنية 4/ 23: احترزوا من أن تنسوا عهد الرب إلهكم الذي قطعه معكم، وتصنعوا لأنفسكم تمثالا منحوتا، صورة كل ما نهاك عنه الرب إلهك. لأن الرب إلهك هو نار آكلة، إله غيور. وجاء في 5/ 7 - 10 من السفر نفسه: لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالا منحوتا صورة ما ... لا تسجد لهن، ولا تعبدهن؛ لأني الرب إله غيور. 6/ 14: لا تسيروا وراء آلهة أخرى من آلهة الأمم التي حولكم؛ لأن الرب إلهكم غيور. 10/ 20: الرب إلهك تتقي، إياه تعبد، وبه تلتصق، وباسمه تحلف. 11/ 16: فاحترزوا من أن تنغوي قلوبكم فتزيغوا وتعبدوا آلهة أخرى، وتسجدوا لها. 13/ 4 - 7: وراء الرب إلهكم تسيرون، وإياه تتقون، ووصاياه تحفظون، وصوته تسمعون، وإياه تعبدون، وبه تلتصقون .. وإن أغواك سرا أخوك قائلا: نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك من آلهة الشعوب، فلا ترضَ منه، ولا تسمع له، ولا تشفق عينك عليه، ولا ترق له، ولا تستره. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وجاء في سفر أيوب 9/ 32: لأن -أي الله- ليس إنسانا مثلي فأجاوبه، فنأتي جميعا إلى المحاكمة. وجاء في سفر العدد 23/ 19: أن بلعام -وهو رجل صالح يوحى إليه- قال لرؤساء مواب: ليس الله إنسانا فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم. هل يقول ولا يفعل، أو يتكلم ولا يفي؟ فهذا التناقض والاختلاف الكثير يدل على أن الأسفار التي بين أيديهم محرفة مبدلة؛ دس فيها ما دس، ونزع منها ما نزع، وشوه منها ما شوه. ويظهر من استقراء تاريخ اليهود أن فهم أكثرهم للذات العلية لم يكن في أكثر العصور مطابقا للتوحيد والتنزيه. وكأن نفوسهم لا تطمئن إلى عبادة إله لا يرونه. هذا، وقد حاول بعض اليهود أن يحمل تلك النصوص وأمثالها على المجاز. قال ابن كمونة في تنقيح الأبحاث ص34 - 35: "وأما استنشاق قتار القرابين، فهو كناية عن تقبلها، كما يقال: سمع الله دعاءه: بمعنى تقبله. ومن يفعل ما يفعله النادم يسمى نادما بالمجاز. وقد نطقت التوراة وكتب الأنبياء بأن الله لا يصح عليه الندم. فلا بد من حمل الندم المنسوب إليه على التأويل بما قلناه؛ وذلك أنه لما أهلك الخلائق بالطوفان، أخبر قبل ذلك أنه يهلكهم، وعبر عن ذلك بأنه ندم على خلقهم تمثيلا بمن يندم على شيء فعله ... ثم قال: وعلى مثل هذا تأويل كل ما ورد من ذلك وما يناسبه في كتب سائر الأنبياء الذين على ملة موسى، وفي كتب الأحبار والعلماء". اهـ. قلت: وما أقبح هذا المجاز، فإن نسبة الندم إلى الله سبحانه نقيصة يتنزه عنها، سواء كانت حقيقة أو مجازا. وكذلك النسيان والبداء وغير ذلك. ومهما حاول المدافعون من اليهود التستر عن هذه العورات والتشبث بالمجاز وغيره، فلن يغنيهم ذلك من الحق شيئا؛ لأن المجاز =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = اللغوي هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. وإلا فما المجاز في مصارعة الله ليعقوب حتى الفجر، وإعيائه من ذلك، وطلبه من يعقوب أن يتركه، وامتناع يعقوب من تركه إلا بعد أن يباركه؟ ما وجه المجاز هنا وما وجه الحقيقة؟! اتسع الخرق على الراقع. ولو أنك رأيت أسفار التلمود لرأيت عجبا من وصفها لله سبحانه بكثير من صفات الحوادث والنقص، من بكاء وعض أصابع ورمد وغفلة عن مختبئ يستمع إلى النياحة ونحو ذلك، ووصف لجسم الإله وضخامة أعضائه وغير ذلك كما في سفر توما. أما النصارى -وهم يعتقدون بهذه التوراة وسائر كتب الأنبياء، ويسمونها العهد القديم- فيزعمون أن الله سبحانه أعلن ذاته للإنسان في التوراة بوسائل مختلفة؛ لكي يدعوه إلى الإيمان به والعمل بوصاياه وانتظار الخلاص الذي هيأه له -أي بصلب المسيح كما يدعون- وقد تنوعت مظاهر إعلانه لذاته؛ فكان بعضها مباشرا، بأن يظهر للإنسان ويخاطبه في هيئة بشرية، وفي أثناء يقظته، أو في حلم في أثناء النوم. وكان بعضها الآخر غير مباشر بأن يرسل إليه ملكا يتراءى له ويخاطبه، أو يرسل إليه نبيا يوحي إليه بما يشاء من أوامر ونواه. اليهود لزكي شنودة ص369 - 370. وأنت ترى أنهم أعظموا الفرية على الله بادعائهم أنه تجسد فرآه بعض الناس بأعينهم وصارعه يعقوب. قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51]. قال زكي شنوده في كتابه ص408: أراد الله أن يكون كلامه إلى اليهود قريبا من أفهامهم، فتنازل وخاطبهم باللغة التي يفهمونها، وأراد أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = يكون تصويره لنفسه قريبا مداركهم، فتنازل وأعطى لهم الصورة التي يمكنهم أن يتصوروها، لعلهم يدركون طبيعته، ويعرفون شريعته، ويسيرون على مقتضى أحكامه. اهـ. والواقع أن قول اليهود وقول النصارى يدلان على اضطرابهم في الذات الإلهية، وعدم معرفة ما يليق بها وما لا يليق بعد أن ضاعت منهم النصوص الصحيحة أو حرفت. فاليهود وقعوا في التجسيم، ووصفوا الله سبحانه بكثير من صفات الإنسان الذي يعتريه ضعف ونقص؛ لضعف عقولهم كما ذكرت التوراة. والنصارى سلبوا منه الوحدانية، فجعلوه ثلاثة آلهة بثلاث مشيئات، ثم ادعوا أنهم موحدون. ثلاثة أقانيم -أي أصول- في أقنوم واحد. كل أقنوم له إرادة مستقلة، ومشيئة متميزة. واختلفوا في الطبيعة، غير أنهم اتفقوا على أن كلا من الابن والروح القدس إله تام من إله تام. فليسمع العقلاء. أما نحن المسلمين، فنؤمن بوحدانية الله المطلقة، لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته، ليس له صاحبة ولا ولد. ونؤمن بأسمائه وصفاته، فله الأسماء الحسنى، وله الصفات العلى الكاملة، لا شريك له في أسمائه وصفاته، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء. قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء، قائم بذاته غني عن العالمين، متصف بكل كمال منزه عن كل نقصان. ونؤمن بثبوت كل ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الأسماء والصفات، بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورة: 11] ونؤمن بانتفاء كل ما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. لأن ما أثبه الله لنفسه أو نفاه عنها، هو خبر أخبر به عن نفسه، وهو أعلم بنفسه وأصدق قيلا. وما أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو نفاه عنه، فهو خبر أخبر به عن الله، وهو أعلم الناس بربه، وأصدق الخلق وأفصحهم. أما العباد فلا يحيطون بربهم واجب الوجود علما.

ولسنا نرى أن هذه الكفريات كانت في التوراة المنزلة على موسى -عليه السلام- ولا نقول أيضا: إن اليهود قصدوا تغييرها وإفسادها، بل الحق أولى ما اتبع. ونحن نذكر الآن حقيقة سبب تبديل التوراة.

ذكر السبب في تبديل التوراة

ذكر السبب في تبديل التوراة: علماؤهم وأحبارهم يعلمون أن هذه التوراة التي بأيديهم، لا يعتقد أحد منهم أنها المنزلة على موسى البتة؛ لأن موسى -عليه السلام- صان التوراة عن بني إسرائيل، ولم يبثها فيهم؛ وإنما سلمها إلى عشيرته أولاد لاوى. ودليل ذلك قول التوراة: "ويختوب موسى اث هتود هزوث وتيناه الهكوهيم بني ليوي". تفسيره: "وكتب موسى هذه التوراة، ودفعها إلى الأئمة بني لاوى". وكان بنو هارون قضاة اليهود وحكامهم؛ لأن الإمامة وخدمة القرابين وبيت المقدس كانت موقوفة عليهم. ولم يبذل موسى من التوراة لبني إسرائيل إلا نصف سورة يقال لها: "هاأزينوا" فإن هذه السورة من التوراة هي التي علمها موسى لبني إسرائيل. وذلك قوله: "ويختوب موسى اث هثيرا هزرث ويلمذاه لبني يسرائيل". تفسيره: "وكتب موسى هذه السورة، وعلمها بني إسرائيل". وأيضا فإن الله قال لموسى عن هذه السورة: "وها يثالي هيشرا هزوث لعيد بني يسرائيل". تفسيره: "وتكون لي هذه السورة شاهدا على بني إسرائيل". وأيضا فإن الله قال لموسى عن هذه السورة: "كي لونشا خاخ مفي زرعوا". تفسيره: "لأن هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم"1.

_ 1 جاء في سفر الخروج 24/ 12: وقال الرب لموسى: اصعد إلَيَّ إلى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = الجبل، وكن هناك، فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة الوصية التي كتبتها لتعليمهم. 24/ 15: فصعد موسى إلى الجبل، فغطى السحاب الجبل. وجاء في 25/ 10 - 22 من السفر نفسه: أنه أمره أن يأمر بني إسرائيل، فيصنعوا تابوتا من خشب السنط، بين لهم أوصافه، ليضع فيه موسى -عليه السلام- الشهادة التي سيعطيه الله إياها. كما أمره في 28/ 1 - 43: أن يقرب أخاه هارون -عليه السلام- وبنيه من بين بني إسرائيل ليكونوا كهنة لله. وأمره أن يصنع لهم ثيابا مقدسة خاصة بهم، بين وصفها. وجاء في 34/ 27: وقال الرب لموسى: اكتب لنفسك هذه الكلمات؛ لأنني بحسب هذه الكلمات قطعت عهدا معك ومع إسرائيل. 34/ 29: نزل موسى من جبل سيناء، ولوحا الشهادة في يده. 40/ 1 - 3: وكلم الرب موسى قائلا: في الشهر الأول في اليوم من الشهر، تقيم مسكن خيمة الاجتماع. وتضع فيه تابوت الشهادة، وتستر التابوت بالحجاب. 40/ 16: ففعل موسى بحسب كل ما أمره الرب. 40/ 20 - 21: وأخذ الشهادة وجعلها في التابوت، وأدخل التابوت إلى المسكن. وجاء في سفر التثنية 31/ 9 - 11: وكتب موسى هذه التوراة، وسلمها للكهنة بني لاوى حاملي تابوت عهد الرب. ولجميع شيوخ إسرائيل. وأمرهم موسى قائلا: في نهاية السبع سنين في ميعاد سنة الإبراء في عيد المظال، حينما يجيء جميع إسرائيل لكي يظهروا أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره، تقرأ هذه السورة أمام كل إسرائيل =

يعني: أن هذه السورة مشتملة على ذم طباعهم، وأنهم يخالفون شرائع التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك، ويخرب ديارهم، ويشتتون في البلاد. قال: فهذه السورة تكون متداولة في أفواههم كالشاهد عليهم، والموافق لهم على صحة ما قيل لهم. فهذه السورة لما قال الله عنها: إنها لا تنسى من أفواه أولادهم، دل ذلك على أن غيرها من السور تنسى. وأيضا، فإن هذا دليل على أن

_ = في مسامعهم. 31/ 12: اجمع الشعب الرجال والنساء والأطفال والغريب الذي في أبوابك لكي يسمعوا ويتعلموا أن يتقوا الرب إلهكم، ويحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة. 31/ 19: فالآن اكتبوا لأنفسكم هذا النشيد، وعلم بني إسرائيل إياه، ضعه في أفواههم لكي يكون لي هذا النشيد شاهدا على بني إسرائيل. وفي التوراة السامرية: والآن اكتبوا لكم الشيرة هذه، وعلمها لبني إسرائيل. اجعلها بأفواههم حتى تكون لي الشيرة هذه شاهدة في بني إسرائيل. 31/ 22 و30: فكتب موسى هذا النشيد في ذلك اليوم، وعلم بني إسرائيل إياه. فنطق موسى في مسامع كل جماعة إسرائيل بكلمات هذا النشيد إلى تمامه -والنشيد في الباب الثاني والثلاثين. 31/ 24 - 26: فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها، أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلا: خذوا كتاب التوراة هذا، وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم؛ ليكون هناك شاهدا عليكم.

موسى -عليه السلام- لم يعط بني إسرائيل من التوراة إلا هذه السورة. فأما بقية التوراة، فدفعها إلى أولاد هارون، وجعلها فيهم، وصانها عن سواهم1. وهؤلاء الأئمة الهارنيون الذين كانوا يعرفون التوراة، ويحفظون أكثرها قتلهم بختنصر على دم واحد يوم فتح بيت المقدس. ولم يكن

_ 1 وهكذا صان موسى -عليه السلام- التوراة عن سائر بني إسرائيل، ولم يبثها فيهم خوفا من اختلافهم بعده في تأويلها أو نحو ذلك مما يؤدي إلى انقسامهم. والهارونيون وحدهم هم الذين كانوا يعرفون التوراة. وهذا مصداق قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44]. قال الزمخشري في الكشاف 1/ 615 في قوله تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} بما سألتهم أنبياؤهم حفظه من التوراة؛ أي: بسبب سؤال أنبيائهم إياه أن يحفظون من التغيير والتبديل. {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} أي: رقباء لئلا يبدل. اهـ. وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية 4/ 168 - 169. فالكتب السماوية السابقة أوكل حفظها إلى العلماء؛ ولذلك ضاعت بعد جيل أو جيلين -كما سنرى في الحاشية التالية- أما القرآن الكريم فلكونه آخر الكتب، وقد نزل على خاتم الأنبياء تكفل الله بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وقد عُني المسلمون الأولون والآخرون رجالا ونساء كبارا وصغارا بحفظه وتلاوته وسلامته عناية فائقة ملكت عليهم كل مشاعرهم وأحاسيسهم. فكانت هذه العناية مصداق الآية الكريمة.

حفظ التوراة فرضا ولا سُنة، بل كان كل واحد من الهارونيين يحفظ فصلا من التوراة1.

_ 1 لمحة تاريخية عن التوراة والأدوار التي مرت بها: بعد وفاة موسى -عليه السلام- خلفه يشوع -يوشع- بن نون في قيادة بني إسرائيل. فعبر بهم نهر الأردن واستولى على فلسطين -كما في سفر يوشع- ثم قسم الأرض بين الأسباط ما عدا سبط لاوى الذي اختص بالخدمة الدينية، واختص منه أبناء هارون بالكهنوت، فلم يفرز له نصيبا مستقلا من الأرض. لكنه خصص لهم بعض المدن من نصيب كل سبط ليسكنوا فيها ويقوموا بالخدمة الدينية لدى الأسباط جميعا -كما في البابين الثالث عشر والرابع عشر من سفر يشوع. التوراة إبان حكم القضاة: بعد موت يشوع ظل الشعب بأسباطه مقيما في تلك الجهات بين الشعوب المحيطة بهم. وكان ذلك الجيل على شاكلة آبائه، يعبد الرب وحده؛ وذلك لما رأوا من الآيات العظام. سفر القضاة الأول 2/ 7. ثم قام من بعدهم جيل آخر لم يعرف الرب. بل عمل الشر، وعبد آلهة الشعوب الذين حوله. فسلط الله عليهم أعداءهم فنهبوهم ونالوا منهم، ولم يقدروا على الوقوف أمامهم. القضاة الأول 2/ 10 - 15. ولما ضاق بهم الأمر أقام لهم الرب قضاة ليخلصوهم من ناهبيهم. وكان الرب مع القاضي، فخلصهم من أعدائهم كل أيامه. ولكنهم كانوا يرتدون بعد موت كل قاضي، ويفسدون أكثر مما أفسد آباؤهم. فتخلى الله عنهم، ولم يدفع عنهم أعداءهم. القضاة 2/ 16 - 20. وفي إحدى المعارك مع الفلسطينيين انكسر الإسرائيليون وقتل منهم نحو أربعة آلاف رجل. فاستنصروا بتابوت عهد الرب وأخذوه معهم وهم يهتفون هتافا عظيما. فانكسروا ثانية وهربوا. وكانت الضربة عظيمة جدا؛ سقط منهم ثلاثون ألف رجل وأخذ منهم التابوت. صموئيل الأول 4/ 1 - 11. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = أما عودة التابوت فعجيبة جدا كما يقصها سفر صموئيل الأول 5 و6/ 1 - 4: فقد أدخل الفلسطينيون التابوت إلى بيت إلههم "داجون" وأقاموه بقربه. وفي الصباح وجدوا داجون ساقطا على وجهه أمام التابوت، فأقاموه مكانه. وفي صباح اليوم التالي وجدوه كذلك، وقد قطعت رأسه ويداه. ثم أصيب أهل تلك القرية بالبواسير. وتدافعت مدن الفلسطينيين حفظ التابوت إلى أن قرروا إعادته مع كمية من الذهب بعد سبعة أشهر. لكن ماذا حل بالتوراة التي بداخله مع الألواح؟ لم يتعرض السفر لها بذكر. فهل ذلك ناتج عن أنه من البديهي أن تكون التوراة عادت مع التابوت سالمة غانمة، أو أنه من من البديهي أن تكون قد أخرجت من التابوت ومزقت؟ التوراة إبان حكم الملوك: أمام خطر الفلسطينيين اجتمع شيوخ بني إسرائيل، وطلبوا من القاضي صموئيل أن يجعل لهم ملكا ليحاربوا أعداءهم. وتحت إلحاحهم اختار لهم شاؤل بن قيس من سبط بنيامين -وهو الذي يسميه القرآن الكريم طالوت- فمسحه بالدهن المقدس ملكا عليهم. وقادهم بشجاعة في الحروب -كما في سفر صموئيل الأول الأبواب 8 و9 و10 - وبعد موت شاؤل استقر الأمر لداود -عليه السلام- فحارب الفلسطينيين وفتح القدس. فنقل التابوت من قرية يعاريم إليها في احتفال بهيج، حيث أقام له خيمة هناك وعين اللاويين لخدمته. صموئيل الأول 7/ 1 وصموئيل الثاني 6. وورث سليمان داود، فبنى الهيكل، وبنى بداخله المحراب -قدس الأقداس- وهيأ مكانا في وسط البيت ليضع فيه التابوت، كما في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = سفر صموئيل الثاني 29/ 23 - 25، وسفر الملوك الأول 2/ 12 و6/ 14 - 35، والباب السابع منه. وجمع سليمان شيوخ إسرائيل في العيد لوضع التابوت في المحراب. وفتح التابوت بعد وضعه في مكانه، وكانت المفاجأة: ليس في التابوت إلا لوحا الحجر. الملوك الأول 8/ 1 - 11. وبعد موت سليمان انقسمت المملكة إلى مملكتين: جنوبية اسمها يهوذا، وبقي الملك فيها في بيت داود إلى نهايتها. وشمالية اسمها إسرائيل، وتنقل الملك فيها بين أسر مختلفة. الملوك الأول 12/ 21. وعكف معظم بني إسرائيل مع ملوكهم على عبادة الأصنام مددا طويلة. وكانت الأنبياء تترى إليهم. لكنك هيهات، كفر مستمر وقتل للأنبياء. سقوط إسرائيل: كان الكفر والارتداد في مملكة إسرائيل أشد منه في الأخرى؛ ولذلك هاجر الكهنة اللاويون ومن بقي معهم إلى مملكة يهوذا. وسلط الله أعداءهم عليهم. ففي عام 721 ق. م أغار ملك آشور "سلمناصر" على عاصمة إسرائيل وحاصرها، ثم دكها دكا. ثم جاء خليفته "سرجون" فأسر الشعب وأجلاهم عن بلادهم، وفرقهم في ممكلته، وأسكن بدلا منهم وثنيين من بابل وغيرها. ولم يبق من اليهود إلا شرذمة قليلة اختلطت بالوثنيين، فتزاوجوا وتوالدوا. فمنذ قيام إسرائيل إلى أن محتها يد الأسر الآشوري، وأزالت شعبها لم يكن للأسباط الذين فيها غرض بالتوراة؛ لأن من بقي منهم على التوراة هاجر إلى مملكة يهوذا. العثور على التوراة قبيل سقوط مملكة يهوذا: جلس على حكم يهوذا بعد موت سليمان أكثر من عشرين ملكا من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = أحفاده. كان عدد المرتدين منهم أكثر من الذين يعترفون بالدين، حتى غدا أكثر أهل المملكة وثنيين، فوضعت الأصنام حتى في البيت المقدس، وبنيت لها المذابح، كما في سفر الملوك الثاني الباب 21 وسفر أخبار الأيام الثاني الباب 33. وهذا ضاعت التوراة وأصبحت نسيا منسيا. ثم آل الأمر إلى يوشيا بن آمون، وكان فتى طيبا. فتاب إلى الله، واتجه إلى نشر الدين والعمل بالشريعة، فرمم الهيكل، وأزال منه رسوم الكفر، وبحث عن التوراة وجد في البحث لكن دون جدوى. ومضى من حكمه سبعة عشر عاما دون أن يعثر أحد على نسخة من التوراة، أو يسمع عنها شيئا. وفي السنة الثامنة عشرة من حكمه ادعى رئيس الكهنة "حلقيا" أنه وجد سفر شريعة الرب بيد موسى -أي التوراة- في بيت الرب بين الفضة التي جمعت من الشعب لترميم البيت. وسلمه للكاتب شوفان ليقرأه على الملك. فلما سمع الملك كلام سفر الشريعة مزق ثيابه، كما في سفر الملوك الثاني 22/ 1 - 11، وسفر أخبار الأيام الثاني 34/ 1 - 20. ثم إن الملك جمع شعب يهوذا عند الهيكل، وقرأ عليهم السفر، فتعجب الناس والملك من فرط ما ارتكبه اليهود من مخالفات. ثم أخبر الملك الناس عن عزمه على العمل به. سفر الملوك الثاني 23/ 1 - 23، وأخبار الأيام الثاني 34/ 29 - 33 و35/ 1. هذا، ولا يقبل الباحثون ادعاء حلقيا؛ لأن البيت نهب مرتين قبل عهد الملك آخذ، ثم جعل بيتا للأصنام. وكان سدنة الأصنام يدخلون البيت كل يوم. أما ي عهد يوشيا فقد كان الكهنة يدخلون إلى البيت يوميا مدة سبعة عشر عاما في أثناء الترميم وبعده. فلا يعقل أن تكون نسخة التوراة في البيت، ولا يراها أحد خلال تلك المدة الطويلة رغم البحث والتفتيش. ويرى الباحثون أن حلقيا ومن معه من الكهنة لما رأوا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ميل الملك يوشيا إلى الدين والعمل بالتوراة، انتهزوا هذه الفرصة للوقوف في وجه ارتداد اليهود والعودة بهم إلى الدين، فجمعوا هذه النسخة من الروايات اللسانية التي وصلت إليهم دون تحر أو تمحيص، خلال السبعة عشر عاما التي مضت من حكمه، وأضافوا إليها ما يوافق رغبات اليهود من تاريخ وعقيدة وغير ذلك. ثم لما انتهوا من الجمع والتلفيق والكتابة. ادعى حلقيا أنه عثر على هذه النسخة وسلمها للكاتب شوفان ليسلمها للملك. انظر: إظهار الحق 1/ 325 - 326، اليهودية لأحمد شلبي ص259. وعلى كل حال لم يعمل بتلك التوراة سوى ثلاثة عشر عاما، وهي المدة المتبقية من حكم يوشيا. فما إن مات وخلفه في الحكم ابنه "يهوآحاز" حتى ارتد وأشاع الكفر. واستمر الكفر والارتداد وقتل الأنبياء ومطاردة المصلحين في عهد إخوته وأولادهم. الملوك الثاني 23/ 31 - 37، وأخبار الأيام الثاني 36/ 1 - 17. وتوالت النكبات على اليهود من قبل الشعوب المحيطة بهم، حتى إن "نبوخذ ناصر" -بختنصر- ملك بابل اجتاح مملكة يهوذا عدة مرات، بسب ما يلقاه من غدر ونقض للعهود، إلى أن هاجمها أخيرا -عام 588 ق. م. تقريبا- فدك أسوار القدس وأحرق المدينة والهيكل بعد أن أخذ منه التابوت، وتتبع الهارونيين وسائر الكهنة فقتلهم على دم واحد. ثم سبى اليهود جميعا إلى بابل مقيدين بالسلاسل ولم يترك فيها إلا شرذمة قليلة من أفقر الفقراء. انظر: الملوك الثاني البابين 24 و25، وأخبار الأيام الثاني الباب 36، وسفر إرميا الأبواب 39 - 40 و52. وفي هذه الحادثة انعدمت التوراة وسائر أسفار العهد القديم التي كانت مصنفة. وأهل الكتاب من يهود ونصارى يقرون بذلك كما ذكر المؤلف رحمه الله. وانظر الحاشية التالية لإكمال البحث.

فلما رأى عزرا أن القوم قد أحرق هيكلهم، وزالت دولتهم، وتفرق جمعهم، ورفع كتابهم، جمع من محفوظاته ومن الفصول التي يحفظها الكهنة ما لفق منه هذه التوراة التي في أيديهم؛ ولذلك بالغوا في تعظيم عزرا هذا غاية المبالغة، وزعموا أن النور إلى الآن يظهر على قبره الذي عند البطائح بالعراق؛ لأنه عمل لهم كتابا يحفظ لهم دينهم. فهذه التوراة التي في أيديهم على الحقيقة كتاب عزرا، ولست كتاب الله1. وهذا يدل على أنه -أعني الذي جمع هذه الفصول التي بأيديهم- رجل فارغ جاهل بالصفات الإلهية؛ فلذلك نسب إلى الله تعالى صفات التجسيم والندم على ما مضى من أفعاله والإقلاع عن مثلها وغير ذلك مما تقدم ذكره.

_ 1 التوراة إبان السبي: سقطت مملكتا اليهود، فدالت دولتهم واندثرت أمتهم، كان أكثرهم مشتتا بين نهري دجلة والفرات وما حولهما، فذابوا بين تلك الشعوب وعبدوا آلهتهم. وكانت قلة منهم مشردة في مصر. واستمر هذا النفي إلى عام 538 ق. م. تقريبا حيث قام الملك الفارسي كورش -كيروس الثاني- بالهجوم على الميديين فأخضعهم، واستولى على آشور وبابل. ومن ثم أصبح له السلطان على فلسطين واليهود. وتودد اليهود للحكم الجديد واستعطفوه -وما أبرعهم في ذلك وأبرع بهم- ثم التمسوا منه أن يسمح لهم بالعودة إلى بلادهم وبناء هيكلهم واستئناف الحرية في ظله فوافق. وعاد كثير منهم إلى فلسطين فأعادوا بناء المدينة والهيكل بعد إعاقات كثيرة بسبب خلافاتهم. أخبار الأيام الثاني 36/ 30 - 33، وسفر عزرا من 1 حتى 6، وسفر نحميا الأبواب 1 - 7. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وفي عهد الملك الفارسي "أرتحشستا" كان في بابل كاهن يهودي اسمه عزرا بن سرايا من سبط هارون، استطاع التقرب إلى الملك. وكان كاتبا ماهرا في شريعة موسى. وفي السنة السابعة من حكم الملك طلب منه أن يسمح بعودة فوج آخر من اليهود إلى القدس فوافق. وعاد عزرا إلى القدس عام 458 ق. م. تقريبا، ومعه عامة الشعب وجماعة من الكتبة اللاويين وغيرهم، ومعه أيضا أموال كثيرة وكتاب توصية وتأييد -سفر عزرا الباب السابع- ودأب عزرا ومن معه من الكهنة على تبصير اليهود بالشريعة؛ ولذلك لقبوه بالكاهن والكاتب والوراق أي العالم والفقيه. سفر عزرا الباب العاشر. والاعتقاد السائد لدى اليهود أن عزرا هو الذي جمع أسفار التوراة ورتبها كما ذكر المؤلف رحمه الله. لكن الدلائل تشير إلى أنها كتبت في مراحل متباعدة، ثم قام عزرا بجمعها وكتابة بعضها، وأعانه على ذلك قوم آخرون؛ فهناك في المنفى بينما كان زعماؤهم يتحرقون دون أن يستطيعوا المقاومة، تفتقت عبقريته عن فكرتي "الشريعة والوعد". وغايتهم المحافظة على أنفسهم عرقا متمردا منظما تنظيما شبه عسكري منطويا على نفسه غير قابل للاندماج مع غيره. وقد اتخذوا إجراءات صارمة ليحولوا دون انصهار اليهود مع الشعوب الآخرى. التوراة تاريخها وغاياتها تعريب سهيل ديب ص16 - 17 وص20. وهناك في المنفى قام أنبياؤهم وعلماؤهم -وأولهم حزقيال- بإعادة كتابة الشريعة من جديد، وألفوا الأسفار المعروفة بأسمائهم في العهد القديم. ومع مرور الزمن أدخلوا عليها التعديلات والأساطير المختلفة، وخلطوا بين أحداث وأخرى عن عمد وبغير عمد، إلى أن كان يوم الخلاص كما سبق، فعادوا إلى فلسطين، وأعادوا النظر في دينهم وشرعهم، فكانت اليهود المنظمة. فقد وضع عزرا بتأييد من الفرس =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = نظاما للجماعة اليهودية برئاسة الكاهن الأكبر ومجلس الكهنة من غير أن يكون لهم أي كيان سياسي. وعلماء الكتاب المقدس مجمعون على أن العهد القديم جرى وضعه إبان النفي وبعده. الأجوبة الفاخرة ص79، التوراة بين الوثنية والتوحيد لسهيل ديب ص80 - 81 وص87، التوراة تاريخها وغاياتها تعريبه ص20 و25 و39، الشرائع الدينية ص65. قال العالم ول ديورانت في قصة الحضارة 2/ 367 - 368: إن العلماء مجمعون على أن أقدم ما كتب في أسفار التوراة هو سفر التكوين. وقد كتب بعضه في يهوذا وبعضه في إسرائيل، ثم تم التوافق بين ما كتب هنا وهناك بعد سقوط دولتي اليهود. والرأي الغالب أن سفر التثنية من كتابة عزرا. ويبدو أن أسفار التوراة الخمسة اتخذت صورتها الحاضرة حوالي عام 300 ق. م. وقرر أيضا أن أسفار العهد القديم جمعت لأول مرة في بابل، ثم ظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد. اهـ. وقد أعلن بحاثة يهودي -هو أستاذ علم الاجتماع في الجامعة العبرية في القدس- أن الأسس التاريخية لهذه العقيدة اليهودية قد أعطيت لليهود في تشريعات عزرا ونحميا حوالي سنة 400 ق. م، ثم عدلت ونقحت في القرون التالية في الشريعة غير المكتوبة؛ أي: الشفوية وتلمود بابل. ويجمع الباحثون وعلى رأسهم علماء اليهود على أن كتاب حزقيال وضع أولا، ثم ركبت من حوله الكتب الأخرى، وذكر بعضهم أن نبوءة حزقيال الموضوعة بين عامي 592 - 570 ق. م كانت بداءة سيطرة المبدأ الفريسي على اليهودية. التوراة تاريخها وغاياتها ص25 وص39. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ظهور نسختين مختلفتين للتوراة: رفض السامريون -وهم من بقايا مملكة إسرائيل- أن يعترفوا بسيادة مجمع كهنة القدس وبالنظام الذي وضعه عزرا وغيره. ومن ثم رفض طلبهم بالاشتراك في بناء الهيكل بحجة أنهم كانوا أقرب إلى الوثنية. وتفاقم الخلاف بين الجهتين، فسكن كل منهم في مدن خاصة به. مما أدى بالسامريين إلى مراجعة أمورهم وانفصالهم بتوراة خاصة لا تضم إلا الأسفار الخمسة. ويقول العبرانيون: إننا على حق، ويقول السامريون: بل نحن وحدنا على الحق، وأنتم الذين حرفتم وغيرتم وزدتم وأنقصتم من كتاب الله. كما يدعي السامريون أن التوراة العبرانية كتبها عزرا، وساعده زر بابل بن شألتئيل. هداية الحيارى ص581، الشرائع الدينية ص65، اليهود لزكي شنودة ص145 - 146، تقديم التوراة السامرية لأحمد حجازي ص6 وص21. ولو كانت إحدى التوراتين منقولة بالتواتر، أو على الأقل بسند صحيح متصل لما ضرها وجود غيرها. لكن كلتاهما ليس لها شبه سند. ويظهر أن التوراتين كانتا في الأصل توراة واحدة كتبت في أثناء السبي، ثم نقحت وزيد فيها بعده؛ إذ يكاد العلماء يجمعون -لا سيما اليهود- على أن التوراة جرى تأليفها في القرن السادس قبل الميلاد في أثناء السبي. لكن العداء الشديد هو الذي أدى إلى وجود نسختين. التوراة إبان حكم اليونان: ظل اليهود تحت سيطرة الفرس زهاء قرنيين من الزمن، إلى أن هزم الإسكندر الأكبر الدولة الفارسية واستولى على بلاد الشام عام 332 ق. م. تقريبا، فدان له اليهود جميعا من عبرانيين وسامريين. وبعد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = موت الإسكندر عام 323 ق. م تقاسم قواده الإمبراطورية بينهم، كما في سفر المكابيين الأول 1/ 10. وفي عهد أنطيوكس الرابع طفق كثير من اليهود يتشبهون باليونان، ويتعودون بعاداتهم، ويعتنقون ديانتهم. وكان منهم من يتزلف إلى الملك طمعا في المناصب والمكاسب، منه 1/ 11 - 16. ولما هاجم بطليموس السادس سورية دحره أنطيوكس الرابع، ثم تبعه إلى مصر فقتله. لكن أشيع العكس في القدس. فقام رئيس الكهنة السابق "ياسون" وانقض على المدينة بمن معه، فقتل الحراس، وطفق يذبح معارضيه. وعاد أنطيوكس من مصر بجيش كثيف، فدخل القدس، وأمر جنوده بقتل كل من يرونه من اليهود ثم اقتحم الهيكل فاستولى على ما فيه من نفائس، ثم أحرقه بما فيه، ثم هدم بيوت المدينة وهدم بعض أسوارها. سفر المكابيين الأول 1/ 17 - 42. ولم يلبث أن قرر توحيد الديانة في جميع البلاد الخاضعة لحكمه، وإلزام شعوبها بعبادة آلهة اليونان. فأصدر أوامره إلى اليهود بالامتناع عن ممارسة عباداتهم وعاداتهم، وأمر ببناء مذبح للأصنام في الهيكل وفي كل مدينة من مدن اليهود، فانضم إليه كثير منهم. وأمر جنوده أن يمزقوا كل ما يجدونه من أسفار الشريعة، وأن يتتبعوا كل من يخفي نسخة أو سفرا من العهد القديم أو يؤدي رسما من رسوم الشريعة فيقتلوه. وكان ينفذ ذلك علنا كل شهر. فلم يعد أحد يعترف بأنه يهودي أصلا. سفر المكابيين الأول 1/ 43 - 67. ولا شك أن التوراة التي كتبها عزرا وغيره كانت في الهيكل عند كهنة اليهود، ولم تكن عند عامتهم. وعلى أحسن تقدير فإن كل كاهن كان يحفظ قسما منها. وإذا كان الملك قد قتل معظم الكهنة، وأمر بقتل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = من عنده سفر من التوراة، أو يؤدي مراسيم الشريعة، وكان التفتيش مستمرا، والقتل يجري كل شهر علنا، واستمر الأمر على هذه الشاكلة ثلاث سنوات ونصف كما هو مفصل في تاريخهم ولا سيما تاريخ يوسيفوس اليهودي، فكيف تبقى التوراة وسائر الأسفار سليمة بعد هذا كله؟! وإذا كان ثمة نسخة استطاع شخص ما إخفاءها في بلاد اليهود أو خارجها، فإن بقاءها أمر احتمالي. وهبها بقيت، فإنها مظنة التحريف والتبديل بسبب انعدام السند في النقل عندهم. إظهار الحق 1/ 327 طبعة المغرب. التوراة إبان حكم المكابيين: في تلك الأيام خرج كاهن يهودي اسمه متاتيا من القدس وسكن في مدين مع بنيه الخمسة متألمين مما حل بقومهم. وذات مرة رأى يهوديا يقدم ذبيحة لآلهة اليونان فوثب عليه وقتله مع مندوب الملك، ثم هرب مع بنيه إلى الجبال، ثم تبعهم عدد من اليهود، وأصبحوا مصدر إزعاج للحكام. سفر المكابيين الأول 2/ 1 - 48. وبعد موت متاتيا خلفه ابنه يهوذا الملقب بالمكابي فالتف حوله إخوته وأنصار أبيه. وقام بعدة عمليات في مدن اليهود، فازداد أنصاره وقويت مكانته، فأوقع باليونانيين هزائم متلاحقة -كما في الباب الثالث والرابع من السفر نفسه- إلى أن تمكن بعد ذلك من الاستيلاء على القدس والوصول إلى جبل صهيون، فأزالوا معالم الوثنية وأعادوا الهيكل من جديد. منه 4/ 36 - 61. وما زال يهوذا في صراع مع اليونان ثم مع الرومان، وكذلك خلفاؤه من بعده إلى أن اقتحم الرومان عام 63 ق. م القدس، ودخلوا الهيكل حتى وطئوا قدس الأقداس، وأخذوا الملك وأولاده أسرى معهم إلى روما عام 63 ق. م تقريبا، وأقاموا له خليفة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = التوراة إبان حكم الرومان: في عام 37 ق. م اقتحم الرومان القدس ثانية بعد تمرد يهودي، فقتلوا آخر ملوك المكابيين، وأشاعوا في المدينة القتل والدمار. وانتقلت السلطة بعد ذلك بأمر الرومان إلى يهودي من أصل أدومي، اسمه "هيرودس". فعمل لاسترضاء اليهود، وبنى لهم هيكلا على نسق هيكل سليمان. لكنهم ظلوا على كراهيتهم له؛ لأنه ليس من أصل يهودي صرف، فنكل بهم أشد تنكيل. وبعد موته وقع خلاف بين أولاده، وتظلم الشعب لدى الإمبراطور الروماني منهم، فما كان منه إلا أن عين واليا رومانيا على بلاد اليهود عام 6م. وفي سة 26م عين الإمبراطور الروماني طيباروس حاكما على بلاد اليهود اسمه "بيلاطس". وفي عهده طلب مجلس الكهنة إعدام المسيح -عليه السلام- ولكن هموا بما لم ينالوا. اليهود لزكي شنودة ص156 - 159 وص162 - 165 و186 - 187 و190 - 191 و203 - 204 و206، الشرائع الدينية ص65 - 66، اليهود لأحمد شلبي ص93 - 94. ولا شك أن التوراة خلال ذلك كله إنما هي التوراة المظنونة أو النقول المتبقية بعد الاضطهادات في زمن اليونان. ولم يلبث الرومان أن ضاقوا ذرعا بتمرد اليهود وكيدهم ومكرهم ودسائسهم، فأرسلوا إليهم عام 70م جيشا ضخما بقيادة "فسباسيان"، فحاصر القدس وضيق عليهم الخناق. وفي هذه الأثناء انتخبه الجيش امبراطورا، فعاد إلى بلاده، وخلفه في قيادة الجيش ابنه "تيطس". فواصل الحصار حتى اقتحم المدينة، وأشاع فيها القتل والدمار، وأضرم النار في الهيكل بعد أن سلب ما فيه. ثم طفق يتتبع اليهود مصمما على =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = أن يفنيهم عن آخرهم. ولما اندلع التمرد الثاني لليهود عام 130 - 135م وقضى عليه الإمبراطور "أدريانوس"، أزال معالم المدينة والهيكل تماما، بل إنه حرث الأرض وزرعها، ولاحق اليهود بشدة للتخلص منهم نهائيا. ثم أقام مكان الهيكل هيكلا وثنيا باسم "جوبيتار" رب الآلهة عند الرومان. وبقي هذا الهيكل إلى أن دمره النصارى من أساسه في عهد الإمبراطور قسطنطين. وهكذا ألحق الرومان الخراب والدمار بمدن اليهود وقراهم، بعد أن أبادوا معظمهم، ولم يبق منهم إلا عدد قليل هاموا على وجوههم في أنحاء الأرض. وظلوا على مر العصور مشردين مكروهين ممن حولهم لدى كل جيل وفي كل أرض. ولما ظهر نور الإسلام كادوا له، وحاولوا قتل نبيه وطمسه، لكنهم أخفقوا ورد الله كيدهم في نحرهم. ومع ذلك نعم كثير منهم بالأمن بعد ذلك في بلاد المسلمين، غير أن معظمهم كان مشتتا ممقوتا. اليهود لزكي ص209 - 211، الشرائع الدينية ليسري ص66، اليهودية لأحمد شلبي ص94. وصفوة القول: إن اليهود قد نالهم الاضطاد بما كسبت أيديهم من قبل الكلدانيين والبابليين والفرس، فاليونان فالرومان فالنصارى. وما من أمة إلا وقصدهم أشد القصد. وأشد ذلك ما نالهم من ملوكهم العصاة والمرتدين. فأي توراة توراة تبقى مع هذا كله؟ وأي بديل لها مما كتبه عزرا وغيره يبقى صحيحا سالما؟ إنه مما لا ريب فيه أن التوراة التي بين أيدي أهل الكتاب اليوم ليست هي التوراة التي أنزلها الله سبحانه على موسى -عليه السلام- قطعا. وإنما هي من جمع وتلفيق عزرا وغيره إبان السبي وبعده على أحسن تقدير. ثم ألحق بها أسفار خلفها كتاب مجهولون، عالجوا النصوص على مزاجهم، وبحسب الظروف التي عاشوها، والضرورات =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = التي كان عليهم مواجهتها. ولم يقم دليل على عصمة عزرا ومن ساعده أو على تأييدهم بالوحي، ولا على أن تلك النصوص التي جمعت هي من عين التوراة التي أنزلها الله على موسى -عليه السلام- كما أنه لم يقم دليل على أن التوراة التي أنزلها الله على موسى -عليه السلام- كما أنه لم يقم دليل على أن التوراة التي بين أيدي أهل الكتاب اليوم هي عين التوراة التي لفقها عزرا وغيره بدون زيادة ولا نقصان؛ لأنه ليس لها شبه سند، فضلا عن أن يكون لها سند صحيح متصل، أو تكون منقولة بالتواتر. لا سيما وأن أهل الكتاب لا يعتمدون على الأسانيد، ولا يعرفون علم الرواية ونقل الأخبار كما هو الحال لدى المسلمين في نقل كتاب ربهم وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وما ذكره الباحثون من واقع العهد القديم خير دليل على ذلك. قال العالم الكاثوليكي جان ميلز: اتفق أهل العلم على أن نسخة التوراة الأصلية وكذا نسخ كتب العهد القديم ضاعت في أيدي عسكر بختنصر. ولما ظهرت نقولها بوساطة عزرا ضاعت تلك النقول أيضا في حادثة أنتيوخوس. إظهار الحق 1/ 229. وقد بحث المجمع المسكوني -أي العالمي- الثاني للفاتيكان بين عامي 1962م-1965م المشكلة التي تتعلق بوجود أخطاء في بعض نصوص العهد القديم. وقدمت للمجمع خمس صور مقترحة، وبعد ثلاث سنوات من الجدل والمناقشة تم قبول صيغة حظيت بأغلبية "2344" صوتا ضد "6" أصوات. وأدرج في الوثيقة المسكونية الرابعة عن التنزيل فقرة تختص بالعهد القديم، جاء في الفصل الرابع منها، وفي الصفحة ذات الرقم "53". وما يلي: "بالنظر إلى الوضع الإنساني السابق على الخلاص الذي وضعه المسيح، تسمح أسفار العهد القديم للكل بمعرفة من هو الله، ومن هو الإنسان، بما لا يقل عن معرفة الطريقة التي يتصرف بها الله في عدله ورحمته مع الإنسان. غير أن هذه الكتب تحتوي على شوائب وشيء من البطلان. ومن ذلك فيها شهادة عن تعليم إلهي. دراسة لموريس ص26 وص53 وص59 - 62.

وأيضا فمما يستدل به على بطلان تأويلاتهم وإفراطهم في التعصب وتشديد الإصر ما ذكره في هذه الآية: "ريشيب بكوري إذا ماثخا تابي بيث أدوناي الوهيني لوتبثيل كذي باحليب أمو". تفسيره: بكور ثمار أرضك تحمل إلى بيت الله ربك. لا ينضج الجدي بلبن أمه1. والمراد من ذلك أنهم أمروا عقيب افتراض الحج عليهم أن يستصحبوا معهم إذا حجوا إلى القدس أبكار أغنامهم، وأبكار مستغلات أرضهم؛ لأنه قد فرض عليهم قبل ذلك أن تبقى سخولة البقر والغنم وراء أمهاتها سبعة أيام. ومن اليوم الثامن فصاعدا تصلح أن تكون قربانا لله. فأشار في هذه الآية في قوله: "لا ينضج الجدي بلبن أمه" إلى أنهم لا يبالغوا في إطالة مكث بكور أولاد البقر والغنم وراء أمهاتها؛ بل يستصحبون أبكارها اللاتي قد عبرت سبعة أيام من ميلادها معهم إذا حجوا إلى البيت المقدس؛ ليتخذوا منها القرابين، فتوهم المشايخ البله المترجمون لهذه الآية والمفسرون لمعانيها أن المشروع يريد بالإنضاج هاهنا إنضاج الطبيخ في القدر وهبهم صادقين في هذا التفسير فلا يلزم من تحريم الطبخ تحريم الأكل؛ إذ لو أراد المشرع تحريم الأكل لما منعه مانع من التصريح بذلك. وما كفاهم هذا الغلط في تفسير هذه اللفظة حتى حرموا أكل سائر اللحمان باللبن. وهذا مضاف إلى ما يستدل به على جهل المفسرين

_ 1 جاء في سفر التثنية 14/ 21: لا تأكلوا جثة ما ... لا تطبخ جديا بلبن أمه. 26/ 2: فتأخذ من أول كل ثمر الأرض الذي تُحصِّل من أرضك التي يعطيك الرب إلهك، وتضعه في سلة وتذهب إلى المكان الذي يختاره الرب إلهك، ليحل اسمه فيه.

والنقلة، وكذبهم على الله تعالى، وتشديد الأكل على طائفتهم. فأما الدليل على تفسيره "تبل" الإنضاج، الذي هو البلوغ فهو قول رئيس السقاة ليوسف الصديق وهو في السجن؛ إذ شرح له رؤياه، فقال في جملة كلامه: "وبكيفن شلوشا سارنيم وهي خفور أحب عالشانصاه هلبشيلوا أثيها غنايم". تفسيره: وفي الكرمة ثلاثة عناقد، وهي كأنها قد أثمرت وصعد نوارها، ونضجت عناقيدها عنبا1. فقد تبين أن الإنضاج الذي يعبر عنه "بالهيشيلو" إنما هو البلوغ. ولا ينبغي للعاقل أن يستبعد اصطلاح كافة هذه الطائفة على المحال واتفاقهم على فنون من الكفر والضلال. فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها وأخذ بلادها، انطمس حقائق سالف أخبارها، واندرس قديم آثارها، وتعذر الوقوف عليها؛ لأن الدولة إنما يكون زوالها عن أمة بتتابع الغارات والمضايقات وإخراب البلاد وإحراق بعضها. فلا تزال هذه الفنون متتابعة إلى أن تستحيل علومها جهلا وآثارها تلالا، كان حظها من اندراس الآثار أكثر. وهذه الطائفة بلا شك أعظم الطوائف حظا مما ذكرنا؛ لأنها من أقدم الأمم عهدا، ولكثرة الأمم التي استولت عليها مثل الكلدانيين والبابليين والفرس واليونان والنصارى والإسلام. وما من هذه الأمم إلا وقصدهم أشد القصد وطلب استئصالهم وبالغ في إحراق بلادهم وإخرابها وإحراق كتبهم إلا

_ 1 جاء في سفر التكوين 40/ 9: فقص رئيس السقاة حلمه على يوسف: وقال له: كنت في حلمي وإذا كرمة أمامي. 40/ 10: وفي الكرمة ثلاثة قضبان. وهي إذا أفرخت طلع زهرها وأنضجت عناقيدها عنبا.

المسلمين. فإن الإسلام صادف اليهود تحت ذمة الفرس. ولم يبقَ لهم مدينة ولا جيش إلا العرب المتهودة بخيبر. وأشد على اليهود من جميع هذه الممالك ما نالهم من ملوكهم العصاة مثل أحاب وأحزيا وأمصيا وبهورام وبرعام بن نباط وغيرهم من الملوك الإسرائيليين الذين قتلوا الأنبياء، وبالغوا في تطلبهم ليقتلوهم، وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سدنة الأصنام لتعظيمها وتعليم رسوم عبادتها، وابتنوا لها البيع والهياكل، وعكف على عبادتها الملوك ومعظم بني إسرائيل، وتركوا أحكام التوراة والشرع مدة طويلة وأعصارا متصلة. فإذا كان هذا تواتر الآفات عليهم من قبل ملوكهم ومنهم على أنفسهم، فما ظنك بالآفات المتفننة التي تواترت عليهم من استيلاء الأمم فيما بعد، وقتلهم أئمتهم وإحراقهم كتبهم، ومنعهم إياهم عن القيام بشرائعهم، فإن الفرس كثيرا ما منعوهم عن الختان وكثيرا ما منعوهم عن الصلاة؛ لمعرفتهم بأن معظم صلوات هذه الطائفة دعاء على الأمم بالبوار وعلى العالم بالخراب سوى بلادهم التي هي أرض كنعان1.

_ 1 جاء في سفر التثنية 28/ 58 - 62: إن لم تحرص لتعمل بجميع كلمات هذا الناموس المكتوبة في هذا السفر يجعل الرب ضرباتك وضربات نسلك عجيبة ... فتبقون نفرا قليلا ... 28/ 63: وكما فرج الرب لكم ليحسن إليكم ويكثركم، كذلك يفرح الرب لكم ليفنيكم ويهلككم فتستأصلون من الأرض التي أنت داخل فيها لتمتلكها. 28/ 64: ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصائها ... 28/ 65: وفي تلك الأمم لا تطمئن، ولا يكون قرار لقدمك؛ بل يعطيك الرب هناك قلبا مرتجفا وكلال العينين وذبول النفس. 28/ 66: وتكون حياتك معلقة قدامك، وترتعب ليلا ونهارا، ولا تأمن على حياتك. 28/ 67: في الصباح تقول: يا ليته المساء، وفي المساء تقول: يا ليته الصباح من ارتعاب قلبك الذي ترتعب، ومن منظر عينيك الذي تنظر.

فلما رأت اليهود الجِد من الفرس في منعهم من الصلاة، اخترعوا أدعية زعموا أنها فصول من صلاتهم، وسموها الخزانة، وصاغوا لها ألحانا عديدة، وصاروا يجتمعون في أوقات صلواتهم على تلحينها وتلاوتها. والفرق بين هذه الخزانة وبين الصلاة أن الصلاة بغير لحن، وأن المصلي يتلو الصلاة وحده، ولا يجهر معه غيره. وأما الخزانة، فيشاركه جماعة في الجهر بالخزانة، ويعاونونه في الألحان. وكانت الفرس إذا أنكرت ذلك منهم زعمت اليهود أنهم يغنون أحيانا، وينوحون أحيانا على أنفسهم، فتركوهم وذاك. ومن العجب أن دولة الإسلام لما جاءت مقرة لأهل الذمة على ديانتها، وصارت الصلاة مباحة لهم، صارت الخزانة عند اليهود من السنن المستحبة في الأعياد والمواسم والأفراح، يجعلونها عوضا عن الصلاة، ويستغنون بها عنها من غير ضرورة تبعثهم على ذلك.

فصل فيما يعتقدونه في دين الإسلام

فصل فيما يعتقدونه في دين الإسلام: هم يزعمون أن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كان قد رأى أحلاما تدل على أنه صاحب دولة، وأنه سافر إلى الشام في تجارة لخديجة -رضي الله عنها- واجتمع بأحبار اليهود، وقص عليهم أحلامه، فعلموا أنه صاحب دولة -زعموا- فأصحبوه عبد الله بن سلام، فقرأ عليه علوم التوراة وفقهها مدة. زعموا وأفرطوا في دعواهم، إلى أن نسبوا الفصاحة المعجزة التي في القرآن إلى تأليف عبد الله بن سلام1.

_ 1 طفق أهل الكتاب قديما وحديثا يتهمون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه إنما تعلم من غيره، ثم لفَّق منه الدين الذي ادعاه: فزعمت النصارى أنه تعلم من الراهب بحيرا. وزعمت اليهود أنه تعلم من عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- كما ذكر المؤلف -رحمه الله- والادعاء سهل، ولا سيما مع الضغن، لكن العقلاء إنما يعولون على الوقائع والبراهين. ومما يدل على بطلان دعواهم وتعسفهم فيها ما يلي: 1 - أن أخبار محمد -صلى الله عليه وسلم- منذ ولد إلى أن بعثه الله بالنبوة والرسالة ثم توفاه مستفيضة مشهورة متواترة، فقد ظهر أمره، وانتشرت أخباره أكثر من سائر أولاد آدم. وقد علم بالتواتر أنه -صلى الله عليه وسلم- ولد في مكة المكرمة، ونشأ بها بعد أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = كان مسترضعا في بني سعد بن بكر. وكانت مكة من الصغر بحيث يعرف أهلها بعضهم أخبار بعض معرفة تامة محيطة. ومن حكمة الله سبحانه أنه لم يكن فيها أحد من علماء أهل الكتاب مطلقا. بل كان قومه المشركون يرسلون في أول بعثته إلى البلاد التي فيها علماء من أهل الكتاب يسألونهم عن أمره. فيرسل اليهود إليهم بمسائل يمتحنون بها نبوته. والآيات التي نزلت في ذلك والأحاديث التي وردت كثيرة مشهورة. إن قومه المعادين له -وهم أعرف الناس بحاله من مولده إلى مبعثه- يعلمون حق العلم أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يتعلم لا من أهل الكتاب ولا من غيرهم، ولم يجتمع بأحد من علماء أهل الكتاب ممن يعرف اللسان العربي؛ لأنهم يعلمون أنه لم يغادر مكة قبل البعثة إلا مرتين تحت سمعهم وبصرهم: - مرة وهو صغير يقارب عمره اثني عشر عاما مع عمه أبي طالب في نفر من قريش، لم يفارقهم فيها حتى رآه الراهب بحيرا، فعرفه من صفاته، وألح على عمه أن يرده إلى مكة مخافة أن تعرفه يهود. فرده عمه إلى مكة. أخرج ابن أبي شيبة وابن إسحاق أنه لما بلغ -صلى الله عليه وسلم- اثنتي عشرة سنة خرج مع عمه أبي طالب -وعند رزين: في أشياخ من قريش- حتى بلغ بصرى، فرآه بحيرا الراهب -واسمه جرجس- فعرفه بصفته، فقال: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال: وما علمك بذلك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبقَ حجر ولا شجر إلا وخر ساجدا. ولا تسجد إلا لنبي، وأقبل، وعليه غمامة تظله، وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا. وسأل أبا طالب أن يرده خوفا عليه من اليهود، وعند رزين =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = والترمذي: وجعل يناشدهم ألا يذهبوا به. ويقول: إن رأوه عرفوه بالصفة وآذوه. ثم قال: أنشدكم أيكم وليه؟ قالوا: هذا -يعنوني- فمازال يناشدني حتى رددته مع رجال. وزوده الراهب كعكا وزيتا. - ومرة أخرى وهو كبير مع ركب من قريش في تجارة، لم يفارقهم فيها أيضا، ولا خلا أو اجتمع بأحد دونهم، ولا سيما ميسرة غلام خديجة -رضي الله عنها- فإنه كان مساعده في التجارة. ثم عاد وأخبر خديجة -رضي الله عنها- بكل ما رآه من صدقه وأمانته وطيب نفسه وغير ذلك، مما مهد لزواجها منه فيما بعد. فإذا كان لم يسافر إلا هاتين السفرتين، ولم يره بحيرا إلا بعض نهار مع نفر من قريش، ولم يكلمه إلا كلمات يسيرة، يستخبرها بها عن حاله في حضور عمه وغيره. فكيف يتعلم هذه العلوم في سفرتين صغيرتين من بحيرا أو من غيره؟! علما بأن قومه المشركين كانوا أشد الناس عداوة له وحرصا على تكذيبه وإبطال أمره. ولو أنه تعلم من بشر لعلموا بذلك قطعا، ولطعنوا فيه وأظهروه لينفض عنه أتباعه بدلا من اضطهادهم أولا ثم محاربتهم. ولو حصل هذا بشهوده وبراهينه لتناقله الناس ووصل إلينا. فمع كمال علمهم بحاله يمتنع ألا يعلموا ذلك لو كان، ومع حرصهم على القدح فيه يمتنع ألا يقدحوا فيه، ولو قدحوا فيه من هذه الناحية لامتنع ألا يظهر ذلك ويصل إلينا؛ لأنه من أعظم ما تتوفر الدواعي على نقله وإشاعته. قال تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16]. الجواب الصحيح 1/ 141، 3/ 24 و29 - 30 و262، 4/ 29 و34 و54 - 55، إظهار الحق 2/ 51 - 52. 2 - أنه من الثابت في التاريخ، بل قد نقل بالتواتر أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = محمدا -صلى الله عليه وسلم- كان أميا لا يعرفه الكتابة ولا القراءة باللغة العربية، فضلا عن أن يحسن غيرها أو يشتغل بمدارسة العلماء. قال سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] فلم يقرأ في صحيفة، ولم يكتب شيئا بيده منذ ولد إلى أن توفاه الله. وإنما كان له كُتَّاب بعد البعثة، يكتبون له الوحي والرسائل. ولو كان ثمة شيء من ذلك لارتاب في أمره المبطلون من مشركي العرب فقالوا: لعله تعلمه من غيره، وكتبه بيده، ولارتاب أيضا المبطلون من أهل الكتاب فقالوا: إن الذي نجده في كتبنا أمي لا يكتب ولا يقرأ، وهذا يقرأ ويكتب. ومن المعلوم أن من يتعلم من غيره، إما أن يأخذه تلقينا وحفظا منه، وإما أن يأخذه من كتابه. ومحمد -صلى الله عليه وسلم- لم يتعلم شيئا من أحد في حضر أو سفر بشهادة قومه المعادين له، ولم يكن يقرأ شيئا من الكتب لا نسخا ولا حفظا؛ لأنه أمي. الحواب الصحيح 1/ 141 و4/ 34، إظهار الحق 2/ 51 - 52، الكشاف للزمخشري 2/ 498. ومن الجدير بالذكر أن التوراة وسائر أسفار العهد القديم لا يطلع عليها إلا علماء أهل الكتاب دون عوامهم كما هو معروف، وأن العهد القديم لم يكن مترجما إلى اللغة العربية في ذلك الوقت، إلا صفحات يسيرة كانت مع بعض علماء اليهود في الجزيرة العربية. وأول ترجمة إلى العربية جرت في أوائل العصر العباسي أو عند منصرم العصر الأموي. وليس ثمة قرائن تدل على وجود ترجمة عربية سابقة لظهور الإسلام كما ذكرت الموسوعة البريطانية. وقد قام بالترجمة عالم يهودي اسمه "سعدية بن يوسف" عاش ما بين عامي 892 - 942م في غير أن الترجمة كانت بأحرف عبرية. ثم قام من بعده "يافث بن علي" وهو يهودي من طائفة القرائين بترجمة ثانية إلى العربية في القرن العاشر الميلادي. وفي القرن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = الثالث عشر قام "أبو سعيد البركات" بترجمة ثالثة. غير أن تلك الترجمات تختلف عن بعضها كثيرا تبعا للأصل المترجم عنه. فقد يكون عبرانيا أو يونانيا أو سريانيا أو قبطيا أو لاتينيا كما فصلت الموسوعة البريطانية. التوراة بين الوثنية والتوحيد لسهيل ديب ص26 - 27. 3 - أنه من المقطوع به أن المشركين من قريش وسائر العرب لم يكونوا يعرفون ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من أخبار وقصص وأحكام وتشريع وغير ذلك. بل كانوا أمة عارية حتى من العلوم العقلية. قل فيهم من يحسن القراءة والكتابة. قال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. أي: بعث في الأميين رسولا أميا مثلهم، يتلو عليهم آياته. ولو كان غير أمي، وقد نزلت هذه الآية وغيرها مما يدل على أنه أمي، لكذبه قومه، وفي مقدمتهم من آمن به. ولم يكن يومئذ بمكة مدرسة ولا كِتَاب مدون. فقد كانوا جاهلين بعائد الملل وتاريخ الأمم وعلوم الشرائع والفلسفة، بعكس اليونان والمصريين والصينيين وغيرهم. فما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من الدين التام والتشريع الكامل العادل والعقيدة الثابتة وغير ذلك من آيات الله والحكمة، لا يمكن أن يكون مكتسبا من بشر، أو مستنبطا من فكر. بل إنما هو محض وحي من رب العالمين. قال تعالى عقب قصة نوح: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]. فإذا كان قومه لا يعلمون ذلك، وهو -صلى الله عليه وسلم- لم يعاشر إلا قومه، فكيف يتعلم منهم؟! وقومه يعلمون أنه لم يعاشر غيرهم. فمن ثم قامت الحجة عليهم وعلى من بلغه الأمر من بعدهم. الجواب الصحيح 4/ 23 =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = و53، إظهار الحق 2/ 52، الكشاف 2/ 498. 4 - أنه لو تعلم هذه الأمور من أهل الكتاب مع عداوتهم له وعداوته لهم، لأخبروا بذلك وأظهروه، لا سيما بعد أن هاجر إلى المدينة، وتأججت العداوة بينه وبينهم، ثم نال منهم وأجلاهم. وكل ما في الأمر أنهم كانوا يسألونه عن الغيوب وغيرها مما لا يعلمه إلا نبي إحراجا وتعجيزا، فيخبرهم ويتلو عليهم ما يوحيه إليه ربه. فآمنت طائفة منهم به وكفرت طائفة. والطائفتان ليس فيهم من يقول: إن هذا تعلمه منا أو من نظرائنا، أو قرأه في كتبنا، لا سيما وهو يفعل فيهم ما يفعل لغدرهم وتآمرهم في الخفاء. ومن أسلم منهم، فإنما كان يقبل على الحرمان والمقاطعة. ولو أنهم قالوا ذلك لنقل إلينا وعرف، فإنه من الحوادث التي تتوافر الهمم والدواعي على نقلها. الجواب الصحيح 3/ 25 و4/ 57 - 58. عن صفوان بن عسال -رضي الله عنه- قال: قال بعض اليهود لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي. فقال صاحبه: لا تقل: نبي. إنه لو سمعك كان له أربعة أعين. فأتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألاه عن تسع آيات بينات؟ فقال لهم: "لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا الأدبار يوم الزحف، وعلكيم خاصة اليهود ألا تعدوا في السبت". فقبلا يده ورجله، وقالا: نشهد أنك نبي. فقال: ما يمنعكما أن تتبعاني؟ قالا: إن داود دعا ربه ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود. أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح. 5 - لو أنه -صلى الله عليه وسلم- تعلم من غيره لكان لا بد أن يعرفه ولو خواص الناس، وبالتالي لا بد أن يفشو ويشيع، حتى لو تواصوا بكتمانه عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = طريق الترغيب والترهيب. ولكان خواص أصحابه يعلمون في الباطن أنه كذاب، وإن صدقوه ظاهرا، مع أن الوقائع تثبت أن تصديقهم الظاهر والباطن له بلغ حد العجب لدى المشركين. وكان خواص أصحابه وأعلمهم بحاله أعظمهم محبة له وفداء، مع أنهم لاقوا باتباعه الأذى والحرمان، وعادى كثير منهم أباه وأخاه. بل إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغ الأنصار بأثرة يلقونها من بعده، وطلب منهم الصبر. ثم إن الصحابة -رضي الله عنهم- وقع بينهم خلف كبير بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يذكر أحد منهم شيئا من هذا القبيل البتة. الجواب الصحيح 4/ 25 و55. 6 - أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- أنزل عليه في القرآن ما لا وجود له عند أهل الكتاب مثل قصة هود وصالح وشعيب -عليهم السلام- ووردت كذلك بعض التفاصيل في القصص مما لا وجود له في كتبهم، مثل قصة إبراهيم وموسى، وإيمان امرأة فرعون، وسليمان، وعيسى وتكليمه الناس في المهد، ونزول المائدة على الحواريين وغير ذلك. حتى إنه قد نزل عليه ما صحح أخطاء لدى أهل الكتاب مثل نفي قتل المسيح وصلبه، وتبيان أن الذي صنع العجل لبني إسرائيل إنما هو السامري وليس هارون -عليه السلام- وغير ذلك مما برئت به ساحة كثير من الأنبياء -عليهم السلام- ولو أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- كان يتعلم من أهل الكتاب لما زاد هذه الزيادات، ولما خطأهم في بعض ما ذكر في كتبهم حتى لا يفتح عليه باب معارضتهم؛ إذ لا يليق بالعاقل أن يقدم على فعل يمنعه من مطلوبه، ويبطل مقصوده من غير فائدة. الجواب الصحيح 4/ 54، إظهار الحق 51 - 52. ومخالفة القرآن لبعض ما في كبت أهل الكتاب، إنما يرجع إلى كون هذه الكتب غير أصلية. قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76]. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = هذا. وقد قام العالم والمفكر الفرنسي الطبيب موريس بوكاي بمقارنة بين الروايات القرآنية وروايات التوراة فيما يختص بهذا الموضوع، فتبين له أن الآيات القرآنية لا صلة لها البتة بالعهد القديم، ولا علاقة لها بتلك الأوهام التي يبرزها المعلقون على التوراة. انظر كتابه "القرآن والتوراة والإنجيل والعلم" ص40 - 47 و52 - 54 و244 - 248 و254 - 271. أما عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- الذي يزعمون أنهم أصحبوه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأ عليه علوم التوراة وفقهها مدة، فهو أحد أحبار اليهود في المدينة، وهو من سبط يوسف بن يعقوب -عليهما السلام- وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يغادر مكة المكرمة قبل البعثة إلا مرتين تحت سمع قريش وبصرها كما سلف. ثم بعث في مكة بعد أن بلغ الأربعين، ومكث في مكة ينزل عليه القرآن أكثر من عشر سنوات. فأين كان عبد الله بن سلام؟ وفي بيت من كان يختبئ؟ ثم هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فعادته يهود بمن فيهم عبد الله بن سلام. أخرج البخاري عن أنس -رضي الله عنه- قال: بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فأتاه وقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟ ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبرني بهن آنفا جبريل: أما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غشي المرأة، فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقت كان الشبه لها". قال: أشهد أنك رسول الله. ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك. فجاءت =

وزعموا أنه -أي عبد الله بن سلام- قرر في شرع النكاح أن الزوجة لا تستحل بعد الطلاق الثالث إلا بنكاح رجل آخر ليجعل

_ = اليهود، ودخل عبد الله البيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ " قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا وابن أخيرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟ " قالوا: أعاذه الله من ذلك -زاد في رواية: فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك- قال: فخرج عبد الله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه. زاد في رواية: قال ابن سلام: هذا الذي كنت أخافه يا رسول الله. وإنما أسلم في المدينة المنورة في وقت شدة من الأمر، وقلة من المسلمين وضعف وحاجة، وأهل الأرض مطبقون على عداوتهم، واليهود والمشركون هم أهل الشوكة والسلاح. ثم أعز الله الإسلام وأهله وحاربهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بسبب غدرهم وتآمرهم ونقضهم العهود. ولم يأل عبد الله -رضي الله عنه- جهدا في محاربة قومه اليهود وإعلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعاداتهم ومكرهم. مات سنة 43هـ في خلافة معاوية -رضي الله عنه- وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يرون أن فيه نزلت هذه الآية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ}. الاستيعاب 3/ 921. فإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يرَ عبد الله قبل الهجرة مطلقا. وقد نزل عليه أكثر الآيات فصاحة وإعجازا في مكة المكرمة. فكيف ينسبون الفصاحة المعجزة في القرآن إلى تأليف عبد الله بن سلام؟ ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت تنزل عليه الآيات حضرا وسفرا بسبب سؤال ورد أو حادثة وقعت، وعبد الله بن سلام -رضي الله عنه- بعيد كل البعد عن ذلك المكان، فكيف يعلمه؟!

بزعمهم أولاد المسلمين "ممزيريم". وهذه كلمة جمع، واحده "ممزير"، وهو اسم لولد الزنى؛ لأن في شرعهم أن الزوج إذا راجع زوجته بعد أن نكحت غيره، كان أولادها معدودين في أولاد الزنى1.

_ 1 جاء في سفر التثنية 24/ 1: إذا أخذ رجل امرأة، وتزوج بها، فإن لم تجد نعمة في عينيه؛ لأن وجد فيها عيب شيء، وكتب لها كتاب طلاق، ودفعه إلى يدها، وأطلقها من بيته. 24/ 2: ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر. 24/ 3: فإن أبغضها الرجل الآخر، وكتب لها كتاب طلاق، ودفعه إلى يدها، وأطلقها من بيته، أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة. 24/ 4: لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست؛ لأن ذلك رجس لدى الرب. هذا ما عند اليهود. وذهب النصارى إلى منع الطلاق إلا لعلة الزنى: جاء في إنجيل متى 19/ 3 - 9: وجاء إليه الفريسيون ليجربوه قائلين له: هل يجوز للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب؟ فأجاب: أما قرأتم: أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى؟ وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسدا واحدا. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان. قالوا له: فلماذا أوصى موسى أن يُعطى كتاب طلاق فتطلق؟ قال لهم: إن موسى، من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم، ولكن من البدء لم يكن هذا. وأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنى، وتزوج بأخرى يزني، والذي يتزوج بمطلقة يزني. وجاء في إنجيل مرقس 10/ 2 - 12: فتقدم الفريسيون وسألوه: هل يحل للرجل أن يطلق امرأته؟ ليجربوه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = فأجاب: بماذا أوصاكم موسى؟ فقالوا: موسى أذن أن يكتب كتاب طلاق فتطلق. فأجاب يسوع: من أجل قساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصية. ولكن من بدء الخليقة ذكرا وأنثى خلقهما الله. من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسدا واحدا. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان. ثم في البيت سأله تلاميذه عن ذلك أيضا فقال لهم: من طلق امرأته وتزوج بأخرى يزني عليها، وإن طلقت امرأة زوجها وتزوجت بآخر تزني. وجاء في إنجيل لوقا 16/ 18: كل من يطلق امرأته ويتزوج بأخرى يزني، وكل من يتزوج بمطلقه من رجل يزني. اهـ. والحق الواقع أن في الطلاق هدما للأسرة وتمزيقا لشمل أفرادها، كما أن ضرره يتعدى الزوجين إلى الأولاد والأقارب. لكن إن لم تجد وسائل الإصلاح جميعها للتوفيق بين الزوجين كان الطلاق ضرورة لا مندوحة عنه. وذلك لدفع ضرر أكبر وتحصيل مصلحة أعظم، ألا وهي التفريق بين متباغضين من الخير أن يفترقا. لأن الشقاق والنزاع استحكم بينهما. ولذلك أباح الله سبحانه في شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- الطلاق وجعله مكروها إلا لضرورات قاهرة وظروف استثنائية ملحة تجعله دواء وعلاجا للتخلص من شقاء يمتد إلى الأسرة كلها. وقد انفردت الشريعة الإسلامية بنظام المراجعة في الطلاق دون الشرائع الآخرى حرصا على إعادة الرباط بين الزوجين، وحفاظا على الذرية من الضياع والتشرد. قال سبحانه وتعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ =

فلما كان النسخ مما لا ينطبع في عقولهم فهمه، ذهبوا إلى أن الحكم في شرع النكاح من موضوعات عبد الله بن سلام. قصد به أن يجعل أولاد المسلمين "ممزيريم" بزعمهم1.

_ = يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 228 - 230]. فالطلاق الذي تجوز به الرجعة مرتان. وقد دلت السنة المطهرة على أن تكون المرتان متفرقتين في طهرين، فيكون الزوج على بينة مما يأتي وما يذر. فإما أن يمسكها بالمعروف، فيحسن معاشرتها وصحبتها، وإما أن يدعها فتتزوج بمن شاءت لعلها تسعد بالزواج الثاني. فإذا طلقها الثالثة بعد أن راجعها مرتين، فلا تحل له حتى تتزوج بعد رجلا آخر -وهي التي يسميها الفقهاء بينونة كبرى- ولن يتفرق بالطلاق بعد هذه الروية وهذه الأناة إلا زوجان من الخير ألا يجتمعا لصالحهما ولصالح أولادهما. والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة قاصدا دوام عشرتها كما هو مقتضي الزواج، دون التحليل الذي وردت الأحاديث بذمة ولعن فاعله؛ أي: أن يكون زواجا صحيحا عن رغبة في دوامه. فإن طلقها الثاني بعد أن جربت الحياة معه وانقضت عدتها منه، فلا بأس أن تعود إلى الأول إن كان ثمة دلائل على الوفاق وطرح النزاع. هذه هي شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- جمعت بين المثالية والواقعية دون أن يطغى جانب على جانب، فكان فيها العدل والاعتدال؛ ولذلك جعلها خاتمة الشرائع، فهي شريعة عامة شاملة أبدية دائمة ناسخة لكل ما خالفها من الشرائع السابقة. 1 من العجب أن يهود ينكرون على المسلمين في تشريعهم عودة المطلقة من زوجها الثاني بعد أن تنقضي عدتها إلى زوجها الأول، ويرون هذا العمل زنى. ولا ينكرون على أنفسهم ما يزعمون من أن الأخ إذا مات ولم يكن له عقب، فإن من الواجب على أخيه الآخر أن يدخل على زوجة المتوفى ويجامعها لتحمل منه، فإذا ولدت نسبوه إلى أخيه الميت، ودعوه ابنه كما سيأتي في فصل معرب عن بعض فضائحهم إن شاء الله.

فأما دفعهم لإعجاز القرآن للفصحاء، فليست بأعجب منه؛ إذ كانوا لا يعرفون من العربية ما يفرقون به بين الفصاحة والعي، مع طول مكثهم فيما بين المسلمين. وأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وعظم- فله فيما بينهم اسمان فقط. فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ أحدهما "فاسول". وتفسيره: الساقط. والثاني: "موشكاع". وتأويله: المجنون. وأما القرآن العظيم، فإنه يسمى فيما بينهم "قالون" وهو اسم للسوءة بلسانهم. يعنون بذلك أنه عورة المسلمين وسوءتهم. وبذلك وأمثاله صاروا أشد الناس عداوة للذين آمنوا. فكيف لا يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون؟! 1

_ 1 من تتبع سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- وتدبرها منذ ولد إلى أن بعثه الله نبيا، ومن حين بعث إلى أن انتقل إلى جوار ربه الكريم، وتدبر نسبه وأصله وفصله وما جرى معه وما انتهى إليه بتجرد وإنصاف، وصل إلى طمأنينة القلب بصدق هذا الرجل. فقد اجتمع له أمور لا يجتمع مثلها إلا لنبي. ومن ذلك ما يأتي: 1 - شرف نسبه: فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- من أشرف العرب نسبا، من صميم سُلالة إبراهيم -عليه السلام- الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، ثم من قريش صفوة بني إبراهيم، ثم من بني هاشم صفوة قريش. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وقد ذكر البخاري في ترجمة باب مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ونسبه فقال: هو محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. اهـ. ولا خلاف في أن عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليها السلام. 2 - أخلاقه الكريمة: كان -صلى الله عليه وسلم- أكمل الناس تربية؛ فلم يزل معروفا بالصدق والأمانة والبر والعدل والشفقة والتواضع وسائر مكارم الأخلاق، منذ ولد إلى أن مات. ولم يعرف له شيء يعاب به، لا في أقواله ولا في أفعاله. شهد له بذلك جميع من يعرفه قبل النبوة وبعدها ممن آمن به أو كفر. كما شهد له بذلك ربه سبحانه فأنزل عليه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، فلولا أنه كذلك لكذبه قومه بهذا الوصف. ولم يبعث بالنبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة، وهي سن الكمال ورجاحة العقل وانتهاء نزوات الطيش والطموح. 3 - آياته ومعجزاته التي أجرها الله على يديه: فالآيات والبراهين الدالة على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- كثيرة متنوعة. وهي أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء، كما أنها لا تختص بحياته. بل منها ما كان قبل مولده، كالإرهاصات وبشارات الأنبياء به. ومنها ما كان قبل البعثة كتسليم الحجر عليه. ومنها ما كان بعد البعثة كالمعجزات المادية والمعنوية التي أجراها الله على يديه. ومنها ما كان بعد مماته كإخباره بالغيب؛ فقد أخبر عن أمور كثيرة وحوادث تقع في المستقبل. فمنها ما وقع في زمانه ورآها أصحابه على الوجه الذي أخبر. ومنها ما وقع بعد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = زمانه فأتت كما قال. ومنها ما لم يقع حتى الآن، والمسلمون ينتظرون وقوعه. وأكتفي منه بذكر أمرين أخبر عنهما، ونحن ننتظر وقوعهما: عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- وسئل: أي المدينتين تفتح أولا: القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد لله بصندوق له حلق. قال: فأخرج منه كتابا. قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولا: أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مدينة هرقل تفتح أولا" يعني قسطنطينية. أخرجه أحمد في المسند وابن أبي شيبة والدارمي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وأخرجه المقدسي في كتاب العلم وقال: حسن الإسناد. وقد تحقق الفتح الأول على يد السلطان العثماني محمد الثاني المعروف بالفاتح -رحمه الله- فقد فتحها وسماها "إسلام بول" أي: مدينة الإسلام. أما رومية هي روما عاصمة إيطاليا اليوم ومقر بابا النصارى الكاثوليك. ولتفتحن بإذن الله كما أن الشمس تشرق كل يوم. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، تعالَ فاقتله. إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود" رواه البخاري ومسلم. ومن تقدير الله سبحانه أن الأوربيين عرضوا على اليهود أن يقيموا دولتهم في أستراليا فرضي بعضهم وأبَى أكثرهم، وأصروا على فلسطين واستكبروا استكبارا. وكان ما كان. ولا يعلم إلا الله متى يخلص المسلمون في جهادهم حتى يكون كله لله ليتحقق وعد الله. وإن ذلك =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = لكائن بإذن الله كما أن الشمس تشرق كل يوم. ومن الطريف ما حدثني به فلسطيني يتردد إلى الأرض المحتلة أن اليهود يكثرون من زراعة شجر الغرقد، ولا سيما في مداخل المدن للزينة. والله غالب على أمره. ومن معجزاته الباقية إلى اليوم القرآن الكريم، بل هو معجزته الكبرى العلمية والعقلية؛ فهو كلام الله القديم، نزل به الروح الأمين على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته، المتحدَّى بأقصر سورة من سوره. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر. وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي. فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" رواه البخاري ومسلم. ووجوه إعجاز القرآن الكريم كثيرة متنوعة أهمها ما يلي: 1 - الإعجاز اللغوي: فقد جاء القرآن في الدرجة العالية من الفصاحة والبلاغة التي لم يعهد مثلها في تراكيب العرب. عرفها فصحاؤهم بسليقتهم فتقاصرت عنها درجة بلاغتهم. وهذه المعجزة ظاهرة أيضا في هذا الزمان لأهل اللسان وماهري علم البيان. ومن كان أعرف بلغة العرب وفنون بلاغتها وأساليبها كان أعرف بإعجاز القرآن. تحدى العرب الذين هم الغاية في الفصاحة مرة بعد مرة فعجزوا عن معاوضته: أما تحديهم به، فقد تواترت الآيات والأخبار الدالة على ذلك؛ كقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. وأما عجزهم، فلأن الدواعي كانت متوفرة على الإتيان =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = بالمعارضة، وليس ثمة مانع منها، ولم يأتوا بها. فدل على عجزهم. مع أن الكلام والفصاحة فيه شعرا ونثرا كان شغلهم الشاغل قبل البعثة وبعدها. فكانوا يعقدون لذلك الندوات ويقومون في الأسواق العامة والمواسم السنوية بخطبهم وشعرهم، يتحدى بعضهم بعضا ويتحاكمون إلى كبرائهم. حتى إنهم علقوا القصائد السبع أو العشر بباب الكعبة تحديدا لمعارضتها. وإذا كانت معارضة القرآن الكريم مبطلة لأمر محمد -صلى الله عليه وسلم- ودعوته، فما الذي صرفهم جميعا عن هذا التحدي القاسي؟ حتى رأوا أن سبيل الحرب والدماء أيسر عليهم من مقابلة تحدي القرآن. ولو أنهم أتوا بالمعارضة لكان اشتهارها أولى من اشتهار القرآن نفسه؛ لأن القرآن يصير حينئذ كالشبهة، وتكون تلك المعارضة كالحجة المسقطة أُبهة المدعى. 2 - الإعجاز المعنوي: إن القرآن الكريم كتاب مشتمل على أنواع كثيرة في العلوم؛ فقد جمع علومًا كلية ومعارف جزئية، كما نبه على طرق الحجج العقلية بشكل لم يعهد في علم الشرائع قبله. والعلوم نوعان: دينية وغير دينية. والدينية تشمل علم العقائد وعلم الأعمال: فعلم العقائد أخبر فيه عن الله سبحانه وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وعن المعاد في اليوم الآخر والحساب والجنة والنار وغير ذلك. فليس في غيره من الكتب السماوية المتقدمة من خبر عن ذلك إلا وقد زاده بيانا وتفصيلا، وأتى به على أكمل وجه من دلائل وتفاريع وتفاصيل. بل قد أخبر عن أمور لا وجود لها في غيره من الكتب. وعلم الأعمال هو علم التكاليف المتعلقة بالظاهر والباطن وغير =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ذلك من الأخلاق ونحوها. ويدخل في ذلك علم المعاملات وما يتبعها. وقد جاء في القرآن الكريم من مباحث هذا النوع ما لم يأت في غيره، كما سيأتي في الإعجاز التشريعي إن شاء الله. أما العلوم غير الدينية، وهي العلوم التجريبية ونحوها، فقد بين الله سبحانه أنه سخر للإنسان ما في الأرض جميعا، وجعله خليفة فيها، وأمر بالنظر في السماوات والأرض والتفكر فيها، وضرب بعض الأمثلة العلمية، كما سيأتي في الإعجاز العلمي إن شاء الله. والقرآن متجدد في معانيه عند من تدبره. وأنعم النظر فيه بصدق وإخلاص، تتجلى فيه براهين الخالق، لدى كل قراءة، فتزيد المتدبر إيمانا وخشوعا. ويظهر تجدده من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية والأمثلة المضروبة، وغير ذلك مما أخبر عنه وبينه من الدلائل. فقد جادل المكذبين والمعاندين ورد على أرباب الضلالات بأنواع من الحجج والبراهين، وقرر الشرائع الكلية التي بعث بها الرسل. كل ذلك بعبارات سهلة المباني مختصرة المعاني. قال سبحانه: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58]. والأمثال المضروبة في القرآن منها ما يصرح فيه بتسميته مثلا، ومنها ما لا يصرح فيه بذلك. فثبت أن القرآن الكريم جامع لجميع العلوم النقلية والعقلية أصولها وفروعها. 3 - الإعجاز السماعي: والقرآن له إعجاز نفسي عجيب لدى القارئ والسامع، فهو متجدد عند قارئه يقرؤه فلا يسأمه، وعند سامعه يسمعه فلا يمله. بل إن تكراره يوجب زيادة محبته بخلاف غيره. أضف إلى ذلك الخشية التي تلحق قلوب سامعيه، والهيبة التي تعتري تاليه؛ ولذلك كان يأخذ العرب وغيرهم بروعته وبيانه، فلا يملكون أنفسهم عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = سماعه. قال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83] أي: إذا سمعوا القرآن فاضت أعينهم لمعرفتهم الحق وتأثرهم بكلام الله الجليل. 4 - الإعجاز العلمي: إن وجوه إعجاز القرآن لا تقف عند الحد الذي ذكره الأقدمون. بل هو متجدد في معانيه كما سلف. وإن أهل العلم ليكتشفون كل يوم في الكون ما كان مجهولا بالأمس. فما يهل على الناس عصر حتى تتكشف لهم معاني القرآن في بعض النواحي أكثر مما تكشفت لأسلافهم. غير أن القرآن الكريم لا يهدف إلى عرض القوانين التي تسود نظام الكون في ميادين العلوم المتنوعة. بل إن له هدفا دينيا جوهريا معروفا في إسعاد الإنسان في حياتَيْه معا. ومع ذلك فإنه يذكر أنواعا كثيرة من الحقائق العلمية والظاهرات الطبيعية، أتت الاكتشافات العلمية الحديثة مؤيدة لها. مع أنها لم تكن في عصر التنزيل تخطر على قلب بشر. وإنما يرمي القرآن الكريم من ذكر هذه الوقائع العلمية أن تكون إشارات ودعوات للملاحظة الإنسانية كي تدرك من ورائها عظمة الخلاق الحكيم. قال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وقال جل شأنه: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]. ومن الجدير بالذكر أن الحقيقة العلمية لا تتعارض مع الحقيقة القرآنية البتة؛ لأن الحقيقة العلمية بمعناها الصحيح مخلوقة من قبل الله وحده. والعلماء إنما يحاولون اكتشافها ومعرفتها واستغلالها. والقرآن الكريم كلام الله خالق الأكوان والعوالم. فأنَّى يأتي التعارض؟! وإذا ما ظهر لأحد تعارض، فإن هذا ناتج عن خطأ في فهم إحدى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = الحقيقتين قطعا، ولا بد من إعادة النظر من جديد. 5 - الإعجاز التشريعي: جاء القرآن بتشريع كامل شامل عادل صالح لكل زمان ومكان جمع بين المثالية والواقعية من غير أن تطغى إحداهما على الأخرى. فقد اشتمل على كثير من المبادئ السامية التي تدل على عظمته وأصالته كما شهد بذلك علماء القانون من مسلمين وغيرهم. ومن هذه المبادئ ما يلي: أ- مبدأ حرية العقيدة والرأي: ويتجلى ذلك في حسن معاملة أهل الذمة وسائر المعاهدين وعدم المساس بمعتقداتهم وأعراضهم وأموالهم. ب- قواعد عادلة في المعاملات بين الناس. ج- تشريعات راسخة في النواحي المدنية "القانون المدني". د- قوانين رحيمة حكيمة في الأحوال الشخصية. هـ- تشريعات جمعت بين المثالية والواقعية في القصاص والحدود والتعزير "القانون الجزائي". وأصول جمعت بين العدل والرحمة في معاملة الأمم الأخرى سلما وحربا "القانوني الدولي". ز- إرشادات أخلاقية وسلوكية في معاملة الأرحام والجيران وغيرهم من أصحاب الحقوق. أضف إلى ذلك أن القرآن الكريم يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات من مأكل ومشرب ومنكح، ويحرم الخبائث منها. لم يبق معروف تعرف العقول السليمة أنه معروف إلا أتى به. ولا منكر تعرف العقول السليمة أنه منكر إلا نهى عنه. ولم يأمر بشيء، فقيل: ليته لم يأمر به، ولم ينه عن شيء، فقيل: ليته لم ينه عنه، وأحل الطيبات، لم يحرم شيئا منها كما حرم في غيره، وحرم الخبائث، لم يحل شيئا منها كما استحلها غير أتباعه. بل جمع محاسن كتب الأمم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = السابقة كلها، فليس فيها إيجاب لعدل، وقضاء بفضل، وترغيب في حسنات إلا وقد جاء به وبما هو أحسن منه. والمعجزة الكبرى إنما تتجلى في أنه كيف استطاع هذا الأمي الذي ولد في أمة أمية وعاش في بلدة ليس فيها مدرسة ولا كتاب مدون. كيف استطاع أن يأتي في القرآن والسنة المبينة له بنظام كامل عادل شامل للفرد والأسرة والمجتمع، وبنظام شامل أيضا للحكم وعلاقات الأمم، وبنظام لعلاقات الناس بينهم وبين ربهم، بشكل أعجز الخلق عن مجاراته في أي جانب من جوانبه أو ناحية من نواحيه. قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. الجواب الصحيح 4/ 74 و78 و83 - 84، إظهار الحق 2/ 52 - 54.

افتراؤهم على الأنبياء

افتراؤهم على الأنبياء: ثم أكثر العجب منهم أنهم جعلوا داود النبي -عليه السلام- "ممزير" من وجهين، وجعلوا منتظرهم "ممزير" من وجهين: وذلك أنهم لا يشكون في أن داود بن بشاي بن عابد. وأبو عابد يقال له "بوعز" من سبط يهوذا. وأمه يقال لها "روث" المؤابية من بني مؤاب1. وهذا مؤاب منسوب عندهم في نص التوراة في هذه القصة. وهي أنه لما أهلك الله أمة لوط لفسادها، ونجا بابنتيه فقط، خالتا أن الأرض قد خلت ممن تستبقيان منه نسلا. فقالت الكبرى للصغرى: إن أبانا لشيخ، وإنسان لم يبق في الأرض، فهلمي بنا نسقي أبانا خمرا ونضاجعه، لنبتغي من أبينا نسلا، ففعلتا ذلك بزعمهم. وجعلوا ذلك النبي قد شرب الخمر حتى سكر، ولم يعرف ابنتيه، ووطئهما فأحبلهما، وهو لا يعرفهما. فولدت إحداهما ولدا سمته

_ 1 جاء في سفر أخبار الأيام الأول 2/ 1 - 15: أن يهوذا بن يعقوب ولد فارص، وأن فارص ولد حصرون، وأن حصرون ولد رام، وأن رام ولد عميناداب، وأن عميناداب ولد نحشون، وأن نحشون ولد سلمو، وأن سلمو ولد بوعز، وأن بوعز ولد عوبيد، وأن عوبيد ولد يسى، وأن يسى ولد داود.

"مؤاب" تعني أنه من الأب، والثانية سمت ولدها "بني عمون" تعني أنه من قبيلتها1.

_ 1 إن أسفار العهد القديم التي ورثها النصارى عن اليهود، تنسب لكثير من الأنبياء من الفحش والأعمال القبيحة ما يتنافى مع وضعهم الديني والاجتماعي، ويمتنع أن يصدر عنهم عقلا وشرعا وعادة. بل إنه ليتعارض مع الخلق الكريم، ولا يمكن أن يتصور وقوعه إلا من سفلة الناس. مما يدل على أن هذه الأسفار قد لعبت بها الأيدي كثيرا. ومن ذلك ما يلي: جاء في سفر التكوين 19/ 30 - 38: وصعد لوط من صوغر، وسكن في الجبل وابنتاه معه؛ لأنه خاف أن يسكن صوغر، فسكن في المغارة هو وابنتاه. وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض، هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة. ودخلت البكر، واضطجعت مع أبيها. ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: إني قد اضطجعت البارحة مع أبي. نسقيه خمرا الليلة أيضا، فادخلي اضطجعي معه، فنحيي من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا. وقامت الصغيرة واضطجعت معه. ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. فحبلت ابنتا لوط من أبيهما، فولدت البكر ابنا، ودعت اسمه مؤاب. وهو أبو المؤابيين إلى اليوم. والصغيرة أيضا ولدت ابنا، ودعت اسمه بن عمي، وهو أبو بني عمون إلى اليوم. اهـ. وعوبيد جد داود، واسم أمه راعوث كما في إنجيل متى 1/ 5 - 6، وراعوث مؤابيه. فهي من جدات سليمان وعيسى -عليهما السلام- ورحبعام بن سليمان من أجداد عيسى -عليه السلام- كما في إنجيل متى 1/ 7 - 16، واسم أمه نعمة العمونية كما في سفر الملوك الأول 14/ 21. فراعوث المؤابية جدة داود وسليمان وعيسى -عليهم السلام- ونعمة العمونية جدة عيسى -عليه السلام- على حد زعم أهل الكتاب.

وذلك الولدان عند اليهود من "الممزريم" ضرورة؛ لأنهما من الأب وابنتيه. فإن أنكروا ذلك لأن التوراة لم تكن نزلت لزمهم ذلك. لأن عندهم أن إبراهيم الخليل -عليه السلام- لما خاف في ذلك العصر، من أن يقتله المصريون بسبب زوجته، أخفى نكاحها وقال: هي أختي. علما منه بأنه إذا قال ذلك لم يبقَ للظنون إليهما سبيل1.

_ 1 جاء في سفر التكوين 12/ 10 - 20: وحدث جوع في الأرض، فانحدر أبرام -إبراهيم- إلى مصر ليتغرب هناك؛ لأن الجوع في الأرض كان شديدا. وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر، فيكون إذا رآكم المصريون أنهم يقولون: هذه امرأته. فيقتلونني ويستبقونك. قولي: إنك أختي، ليكون لي خير بسببك، وتحيا نفسي من أجلك. فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدا، ورآها رؤساء فرعون، ومدحوها لدى فرعون، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون فصنع إلى أبرام خيرا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال. فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام. فدعا فرعون أبرام وقال: ما هذا الذي صنعت بي؟ لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت: هي أختي حتى أخذتها لي لتكون زوجتي؟ والآن هو ذا امرأتك، خذها واذهب. فأوصى عليه فرعون رجالا، فشيعوه وامرأته وكل ما كان له. اهـ. وفي السفر نفسه 20/ 1 - 18: أن هذه الحادثة تكررت أيضا مع ملك جرار أبيمالك. وجاء في الفقرة "12": "وبالحقيقة أيضا هي أختي ابنة أبي. غير أنها ليس ابنة أمي، فصارت لي زوجة". وجاء في التعليق على هذه الفقرة في الكتاب المقدس المطبوع ببيروت عام 1983م: ومع ذلك فاللفظة العبرانية المترجمة بلفظ "أخت" معناها: ذات القرابة أيضا.

وهذا دليل على أن حظر نكاح الأخت كان في ذلك الزمان مشروعًا. فما ظنك بنكاح البنت الذي لا يجوز ولا في زمن آدم عليه السلام؟ وهذه الحكاية منسوبة إلى لوط النبي -عليه السلام- في التوراة الموجودة في أيدي اليهود، فلن يقدروا على جحدها، فيلزمهم من ذلك أن الولدين المنسوبين إلى لوط "ممزيريم"؛ إذ توليدهما على خلاف المشروع. وإذا كانت "روث" وهي من ولد مؤاب، جدة داود -عليه السلام- وجدة مسيحهم المنتظر، فقد جعلوهما جميعا من نسل الأصل الذي يطعنون فيه. وأيضا فمن أفحش المحال أن يكون شيخ كبير قد قارب المائة سنة، قد سقي الخمر حتى سكر سكرا حال بينه وبين معرفة ابنتيه، فضاجعته إحداهما واستنزلت منيه وقامت عنه، وهو لا يشعر، كما نطق كتابهم في قولهم: "ولو باداع بشنخباه ويقوماه" تفسيره: ولم يشعر باضطجاعهما وبقيامهما. وهذا حديث من لا يعرف الحبل؛ لأنه من المحال أن تعلق المرأة من شيخ طاعن في السن قد غاب عنه حسه لفرط سكره. ومما يؤكد استحالة ذلك، أنهم زعموا أن ابنته الصغرى فعلت به كذلك في الليلة الثانية، فعلقت أيضا. وهذا ممتنع من المشايخ الكبار أن تعلق المرأة من أحدهم في ليلة، وتعلق منه أيضا الأخرى في الليلة الثانية. إلا أن العداوة التي ما زالت بين بني عمون ومؤاب وبين بني

إسرائيل بعثت واضع هذا الفصل على تلفيق هذا المحال؛ ليكون أعظم الأخبار فحشا في حق بين عمون ومؤاب1. وأيضا فإن عندهم أن موسى -عليه السلام- جعل الإمامة في الهارونيين، فلما ولي طالوت، وثقلت وطأته على الهارونيين، وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم انتقل الأمر إلى داود، بقي في نفوس الهارونيين التشوف إلى الأمر الذي زال عنهم. وكان عزرا خادما لملك الفرس حظيا عنده، فتوصل إلى بناء بيت المقدس، وعمل لهم هذه التوراة التي بأيديهم. فلما كان هارونيا كره أن

_ 1 جاء في الأبواب 20، 21، 22، 23 من سفر العدد أن العمونيين والمؤابيين منعوا بني إسرائيل من المرور بأراضيهم عند خروجهم من مصر، ورفضوا تزويدهم بالماء والطعام، بل استعدوا عليهم بلعام بن بعور، وأغروه بالفضة إن حاربهم. لكنه لم يفعل. وجاء في سفر التثنية 23/ 2: لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب، حتى الجيل العاشر لا يدخل منه أحد في جماعة الرب. 23/ 3: لا يدخل عموني ولا مؤابي في جماعة الرب، حتى الجيل العاشر لا يدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد. 23/ 4: من أجل أنهم لم يلاقوكم بالخبز والماء في الطريق عند خروجكم من مصر، ولأنهم استأجروا عليك بلعام بن بعور من فتور أرام النهرين لكي يلعنك. 23/ 6: لا تلتمس سلامهم ولا خيرهم كل أيامك إلى الأبد. اهـ. والعجب كله من أهل الكتاب، كيف دخل داود وسليمان وعيسى في جماعة الرب؟! بل كيف صار عيسى ابنا لله ونسب ناسوته هكذا؟! وهل التعويل في النسب عندهم على الآباء أو الأمهات؟ وإذا كان على الآباء فمن أبوه؟

يتولى عليهم في الدولة الثانية داودي، فأضاف إلى التوراة فصلين طاعنين في نسب داود؛ أحدهما قصة بنات لوط، والآخر قصة تامار. وسيأتي ذكرها. ولقد بلغ -لعمري- غرضه. فإن الدولة الثانية التي كانت بنت لهم بيت المقدس لم يتملك عليهم فيها داوديون. بل كان ملوكهم هارونيين. وهذا عزرا ليس هو العزيز كما يظن؛ لأن العزيز هو تعريب ألعازار. فأما عزرا فإنه إذا عرب لم يتغير عن حاله؛ لأنه اسم خفيف الحركات والحروف. ولأن عزرا عندهم ليس بنبي. وإنما يسمون عزرا "هوفير" وتفسير: الناسخ. وأيضا فإن عندهم في التوراة قصة أعجب من هذه: وهي أن يهوذا بن يعقوب النبي -عليه السلام- زوج ولده الأكبر من امرأة يقال لها: "تامار". وكان يأتيها مستدبرا، فغضب الله تعالى من فعله فأماته. فزوجها يهوذا من ولده الآخر. فكان إذا دخل بها أمنى على الأرض. علما منه بأنه إن أولدها كان أول الأولاد باسم أخيه، ومنسوبا إلى أخيه. فكره الله ذلك من فعله، فأماته أيضا. فأمرها يهوذا باللحاق بأهلها إلى أن يكبر "شيلا" ولده، ويتم عقله، حذرا أن يصيبه ما أصاب أخويه. فأقامت في بيت أبيها. فماتت بعدُ زوجةُ يهوذا. وأصعد إلى منزل يقال له "تمناث" ليجز غنمه. فلما أخبرت تامار بإصعاد حميها إلى تمناث، لبست زي الزاني، وجلست في مستشرف على طريقه لعلمها بشيمته. فلما مر بها خالها زانية فراودها، فطالبته بالأجرة، فوعدها بجدي، ورهن عندها عصاه وخاتمه، فدخل بها، فعلقت منه بفارص وزارح1.

_ 1 جاء في سفر التكوين 38/ 6 - 7: وأخذ يهوذا زوجة لعير بكره، اسمها =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ثامار. وكان عير بكر يهوذا شريرا في عيني الرب، فأماته الرب. 38/ 8: فقال يهوذا لأونان: ادخل على امرأة أخيك، وتزوج بها، وأقم نسلا لأخيك. 38/ 9: فعلم أونان أن النسل لا يكون له. فكان إذا دخل على امرأة أخيه أنه أفسد على الأرض لكيلا يعطي نسلا لأخيه. 38/ 10: فقبح في عيني الرب ما فعله، فأماته أيضا. 38/ 11: فقال يهوذا لثامار كنته: اقعدي أرملة في بيت أبيك حتى يكبر "شيلة" ابني. لأنه قال: لعله يموت هو أيضا كأخويه. فمضت ثامار، وقعدت في بيت أبيها. 38/ 12: ولما طال الزمان ماتت ابنة شوع امرأة يهوذا. ثم تعزى يهوذا، فصعد إلى جزاز غنمه في تمنة، هو وحيرة صاحبه العدلامي. 38/ 13: فأخبرت ثامار، وقيل لها: هو ذا حموك صاعد إلى تمنة ليجز غنمه. 38/ 14: فخلت عنها ثياب ترملها، وتغطت ببرقع، وتلففت وجلست في مدخل عينايم؛ لأنها رأت أن شيلة قد كبر، ولم تعط له زوجة. 38/ 15: فنظرها يهوذا، وحسبها زانية؛ لأنها كانت قد غطت وجهها. 38/ 16: فمال إليها على الطريق، وقال: هاتي أدخل عليك؛ لأنه لم يعلم أنها كنته. فقالت: ماذا تعطيني لكي تدخل علي؟ 38/ 17: فقال: إني أرسل جدي معزى من الغنم. فقالت: هل تعطيني رهنا حتى ترسله؟ 38/ 18: فقال: ما الرهن الذي أعطيك؟ فقالت: خاتمك وعصابتك وعصاك التي في يدك. فأعطاها ودخل عليها، فحبلت منه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = 38/ 19: ثم قامت ومضت وخلعت عنها برقعها، ولبست ثياب ترملها. 38/ 20: فأرسل يهوذا جدي المعزى بيد صاحبه العدلامي ليأخذ الرهن من يد المرأة، فلم يجدها. 38/ 24: ولما كان نحو ثلاثة أشهر، أخبر يهوذا، وقيل له: قد زنت ثامار كنتك، وها هي حبلى أيضا من الزنى. فقال يهوذا: أخرجوها فتحرق. 38/ 25: أما هي، فلما أخرجت أرسلت إلى حميها قائلة: من الرجل الذي هذه له أنا حبلى ... 38/ 26: فتحققها يهوذا وقال: هي أبر مني؛ لأني لم أعطها لشيلة ابني. فلم يعد يعرفها أيضا. 38/ 27: وفي وقت ولادتها، إذا في بطنها توءمان. 38/ 28 - 30: وكان في ولادتها أن أحدهما أخرج يدا، فأخذت القابلة، وربطت على يده قرمزا قائلة: هذا خرج أولا. ولكن حين رد يده، إذا أخوه قد خرج، فقالت: لماذا اقتحمت؟ عليك اقتحام. فدعي اسمه فارص. وبعد ذلك خرج أخوه الذي على يده القرمز، فدعي اسمه زارح. اهـ. وفارص هذا جد كل من داود وسليمان والمسيح -عليهم السلام- كما في سفر أخبار الأيام الأول 2/ 12 - 15 وفي الباب الأول من إنجيل متى. وهكذا يكون أهل الكتاب قد طعنوا في نسب هؤلاء الأنبياء من ناحيتين: من ناحية راعوث المؤابية، ومن ناحية جدهم فارص المولود بالزنى مع المحارم. وطعنوا في نسب المسيح من ناحية ثالثة ألا وهي نعمة العمونية أم رحبعام بن سليمان -عليه السلام- وهو من أجداد المسيح -عليه السلام- كما سلف.

ومن نسل فارص هذا كان "بوعز" المتزوج بـ"روث" التي هي من نسل مؤاب. ومن ولدهما كان داود النبي عليه السلام. وأيضا ففي هذه الحكاية دقيقة ملزمة بالنسخ: وهي أن يهوذا لما أخبر بأن كنته قد علقت من الزنى، أفتى بإحراقها، فبعثت إليه بخاتمه وعصاه، وقالت له: من رب هذين أنا حامل. فقال: صدقت، مني ذلك. واعتذر بأنه لم يعرفها. ولم يعاودها. وهذا يدل على أن شريعة ذلك الزمان كانت مقتضية إحراق الزواني، وأن التوراة أتت بنسخ ذلك، وأوجبت الرجم عليهن. وفيه أيضا من نسبتهم الزنى والكفر إلى أهل بيت النبوة ما يقارب ما نسبوه إلى لوط النبي -عليه السلام- وهذا كله عندهم في نص كتابهم. وهم يجعلون هذا نسبا لداود وسليمان ولمسيحهم المنتظر، ثم يرون أن المسلمين أحق بهذا اللقب من منتظرهم. وكذبهم في هذا القول من أظهر الأمور وأبينها.

فصل معرب عن بعض فضائحهم

فصل معرب عن بعض فضائحهم: ومن الفضائح التي عندهم مذهبهم في قصة البياما والحالوص؛ وذلك أنهم أمروا إذا أقام أخوان في موضع واحد، ومات أحدهما ولم يعقب ولدا، فلا تخرج امرأة الميت إلى رجل أجنبي، بل ولد حميها ينكحها. وأول ولد يولد لها ينسب إلى أخيه الدارج. فإن أبى أن ينكحها شكته إلى مشيخة قومها قائلة: "قد أبى ابن حمي أن يستبقي لأخيه في إسرائيل، ولم يرد نكاحي". فيحضر الحاكم هناك، ويكلفه أن يقول: "لوحا فصتي لقتحاه". تفسيره: ما أردت نكاحها. فتتناول المرأة نعله، فتخرجها من رجله، وتمسكها بيدها، وتبصق في وجهه، وتنادي عليه: "كاخا ييأسي لا ايش اشير لو بيني اث بيت احيوا". تفسيره: كذا فليصنع بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه. ويدعى اسمه فيما بعد بالمخلوع النعل. وينبز بيته بهذا اللقب -أعني بيت المخلوع النعل- هذا كله مفترض في التوراة عليهم1. وفيه حكمة ملجئة للرجل

_ 1 جاء في سفر التثنية 25/ 5: إذا سكن إخوة معا، ومات واحد منهم، وليس له ابن، فلا تصير امرأة الميت إلى خارج لرجل أجنبي. أخو زوجها يدخل عليها، ويتخذها لنفسه زوجة، ويقوم بواجب أخي الزوج. 25/ 6: والبكر الذي تلده يقوم باسم أخيه الميت. لئلا يمحى اسمه من إسرائيل. =

إلى نكاح زوجة أخيه الدارج. لأنه إذا علم أنه قد فرض على المرأة أن تشتكيه إلى نادي قومها، فذلك مما يحمله على نكاحها، فإن لم يردعه الحياء من ذلك فربما إذا حضر استحى أن يقول: ما أردت نكاحها. فإن لم يخجله ذلك فلربما يستحي من انتهاك العرض بخلع نعله، وكون المرأة تشيل نعله، وتبصق في وجهه، وتنادي عليه بقلة البركة والمروءة. فإن هو استهان بذلك فربما استعظم أن ينبز باللقب، ويبقى عليه وعلى آله من بعده عار وقبح اسمه، فيلجئه ذلك إلى نكاحها. فإن كان من الزهد فيها بحيث يهون عليه جميع ذلك، فقد فرق الشرع بينهما بعد ذلك.

_ = 25/ 7: وإن لم يرض الرجل أن يأخذ امرأة أخيه، تصعد امرأة أخيه إلى الباب إلى الشيوخ وتقول: قد أبى أخو زوجي أن يقيم لأخيه اسما في إسرائيل، لم يشأ أن يقوم لي بواجب الزوج. 25/ 8 - 9: فيدعونه شيوخ مدينته، ويتكلمون معه. فإن أصر وقال: لا أرضى أن أتخذها، تتقدم امرأة أخيه إليه أمام أعين الشيوخ، وتخلع نعله من رجله، وتبصق في وجهه، وتصرح وتقول: هكذا يفعل بالرجل الذي لا يبني بيت أبيه. 25/ 10: فيدعى اسمه في إسرائيل: بيت مخلوع النعل. وسبق في بحث "افتراؤهم على الأنبياء" ادعاؤهم أن يهوذا بن يعقوب أمر بنيه بمثل هذا، ثم زنى بكنته. لكن الطريف في تشريعهم ما في الفقرة التالية: 25/ 11 - 12: إذا تخاصم رجلان بعضهما بعضا رجل وأخوه، وتقدمت امرأة أحدهما لكي تخلص رجلها من يده ضاربه، ومدت يدها، وأمسكت بعورته، فاقطع يدها، ولا تشفق عينك. اهـ. ومن العجيب أنهم لم يحكموا بقطع الممسوك أيضًا!

وليس في التوراة غير هذا. ففرَّع فقهاؤهم على ذلك ما فيه خزيهم وفضيحتهم. وذلك أنه إذا زهدت المرأة في نكاح أخي زوجها المتوفى، أكرهوه على النزول عنها، ثم ألزموها الحضور عند الحاكم بمحضر من مشيختهم، ولقنوها أن تقول: "ميابن سيامي لها فيما حبوشيم يسرائيل". تفسيره: "أبى ابن حمي أن يقيم لأخيه اسما في إسرائيل، ولم يرد نكاحي". فيلزمونها بالكذب عليه؛ لأنه أراد فمنعته، وكان الامتناع منها والإرادة منه. وإذا لقنوها تلك الألفاظ فهم يأمرونها بالكذب، ويحضرونه ويأمرونه بأن يقول: "لوحا فاصتي لقحتاه" تفسيره: ما أردت نكاحها. ولعل ذلك خلاف سؤله ومناه. فيأمرونه أن يكذب. وأما خلع نعله وبصقها في وجهه فغاية التعدي؛ لأنه ما كفاهم أن كذبوا عليه وألزموه بأن يكذب، حتى ألزموه عقابا على ذنب لم يجنه. فصاروا كما قال الشاعر: وجرم جره سفهاء قوم ... فحل بغير جانيه العقاب

ذكر السبب في تشديدهم الإصر على أنفسهم

ذكر السبب في تشديدهم الإصر على أنفسهم: تشديدهم الإصر على أنفسهم له سببان: أحدهما: من جانب فقهائهم، وهم الذين يُدعون "الحاخاميم" وتفسيره: الحكماء. وكانت اليهود في قديم الزمان تسمي الفقهاء بالحكماء. وكان لهم في الشأم والمدائن مدارس. وكان لهم ألوف من الفقهاء. وذلك في زمن دولة النبط البابليين والفرس ودولة الروم. حتى اجتمع لهم الكتابان اللذان اجتمعت فقهاؤهم على تأليفهما. وهما "المشنا والتلمود". فأما المشنا: فهو الكتاب الأصغر. ومبلغ حجمه ثمانمائة ورقة. وأما التلمود: فهو الكتاب الأكبر. ومبلغه نحو نصف حمل بغل لكثرته. ولم يكن الفقهاء الذين ألفوه في عصر واحد، وإنما ألفوه في جيل بعد جيل1.

_ 1 تفرع عن دراسة التوراة لدى أحبار اليهود نوعان من الأسفار؛ هما: التلمود -أي التعاليم- والمدراش. وأسفار التلمود في الأصل روايات شفوية تناقلها الحاخامات من جيل إلى جيل. وهي قسمان: المشناة، وهو الأصل -أي المتن- والجمارا، وهو الشرح. فالمشناة معناه المثنى أو المكرر؛ لأن ما فيها تكرار للشريعة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وإيضاح لها وتكميل. وهي أول لائحة قانونية وضعها اليهود لأنفسهم بعد التوراة. وقد تكونت من بحوث أحبار اليهود وربانييهم وفقهائهم في شئون العقيدة والشريعة والتاريخ المقدس وغير ذلك خلال القرنين الأول والثاني بعد الميلاد. وعددها ثلاثة وستون سفرا. واختلفوا فيمن جمعها ودونها. فالمشهور أنه يهوذا هاناسي، وأنه قام بجمعها بين عامي 190 - 200م. وقيل: يوضاس. وأما الجمارا فهي شروح وتعليقات على المشناة، ألفت في فترة طويلة تمتد من القرن الثاني الميلادي إلى أواخر القرن السادس. وهي نوعان: جمارا أورشليم: وهو سجل للمناقشات التي أجراها حاخامات فلسطين، أو بالأحرى علماء مدارس طبرية لشرح أصول المشناة. ويرجع ابتداء جمعه إلى عام 400م. جمارا بابل: وهو أيضا سجل مماثل للمناقشات حول تعاليم المشناة، دونها علماء اليهود، وانتهوا من جمعها عام 500م. والمشناة مع شرحه جمارا أورشليم يسمى"تلمود أورشليم"، ومع شرحه جمارا بابل يسمى "تلمود بابل". وكل منهما يطبع على حدة. وأكثرهما تداولا بين اليهود تلمود بابل. وهو المراد عن إطلاق اللفظ. فالتلمود -بمتنه المشناة وشرحه الجمارا- توضيح وتفصيل وتكميل لما ورد في التوراة. وقد أنزله معظم اليهود منزلة لا تقل عن التوراة؛ فهو يليها في قدسيته، ويتقدمها في أهميته، ويمتاز بسريته. بل إن بعضهم ليضعه في مكان أسمى من التوراة نفسها. انظر: التلمود تاريخه وتعاليمه لظفر الإسلام خان ص40 - 49، الأسفار المقدسة لعلي عبد الواحد ص10 وص21 - 22، اليهودية لأحمد شلبي ص273 - 274 وص226 - 227. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وقد ألفت المشناة باللغة العبرية الربانية أو التلمودية، وهي تختلف عن عبرية العهد القديم اختلافا بينا. أما شروحها الجمارا فقد ألفت باللغة الآرامية، فكان يدون المتن "المشناة" بالعبرية والشرح "الجمارا" بالآرامية. وعن هاتين اللغتين ترجم التلمود إلى كثير من لغات العالم قديمها وحديثها. الأسفار المقدسة لعلي عبد الواحد ص10 - 11 وص22 - 23. وآخر هذه التراجم هي التي وضعها الدكتور "إيزودور إيشتاين" بين عامي 1935 - 1952م باللغة الإنكليزية. وقد اشتملت على خمسة وثلاثين مجلدا. وقد جرى حديثا في فلسطين المحتلة إعادة طبع النسخة العبرية الأصل من تلمود بابل. وذلك بعد مائة سنة من آخر طبعة منها. وقام على طبعها الحاخام "آدين شتاينز". وقد أعلن وقتئذ أنه سيطبع ستة آلاف نسخة فقط، بينما تطبع الملايين من نسخ الكتاب المقدس. مما يدل على حرص اليهود على سرية التلمود. ومن الجدير بالذكر أن التراجم العديدة للتلمود يحذف منها كلها الحواشي والفصول التي لا يجوز لغير الحاخامات المتقدمين في العلم الاطلاع عليها. وحدث أن طبع التلمود بشكله الأصلي في بعض البلدان التي توصل بها اليهود إلى شيء من السيطرة سابقا، فأدى ذلك إلى كثير من المتاعب والاضطهادات والحرق العلني لنسخ التلمود؛ بسبب ما حواه من أشياء مستنكرة. ومنذ ذلك الحين أصبح التلمود قطعا نادرا، حتى قيل: إن نصه الأصلي الكامل المطبوع في البندقية عام 1920 - 1923م لا يوجد منه سوى ثلاث نسخ فقط. التلمود لظفر الإسلام ص40 - 49، التوراة تاريخها وغاياتها تعريب سهيل ديب ص82. والتملود بشكل عام يتكون من ستة مباحث يسمونها "سيداريم" أي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = الأحكام. وهي: 1 - زيرائيم -أي البذور- ويتضمن اللوائح الزراعية. 2 - موئيد -أي الأيام المقررة- ويحتوي على لوائح الأعياد والصيام. 3 - نشيم -أي المرأة- ويتضمن قوانين الزواج والطلاق والنذور. 4 - نزيكين -أي الأضرار- ويشمل القوانين المدنية والجنائية. 5 - كواشيم -أي الأشياء المقدسة- ويبحث في الصلاة. 6 - توهاروث -أي الطهارة- ويبحث في قواعد الطهارة والنجاسة. انظر التلمود لظفر الإسلام خان ص40 - 49. وفي التلمود من عجائب الخيالات: فقد ورد في بعض أسفاره أن الله يقضي الساعات الثلاث الأولى من النهار في مذاكرة الشريعة، والثلاث الثانية في شئون الحكم بين الناس، والثلاث الثالثة في تدبير العيش لخلقه، والثلاث الأخيرة في اللعب مع الحوت ملك الأسماك. وأما ساعات الليل، فيقضيها في مذاكرة التلمود مع الملائكة ومع ملك الشياطين الذي يصعد كل ليلة إلى السماء ثم يهبط منها إلى الأرض بعد انتهاء الندوة العلمية. غير أن هذا النظام تغير بعد هدم الهيكل وتشريد بني إسرائيل. فإن الله -كما يقول التلمود- قد اعترف بخطئه، وندم على ما فعل. فخصص ثلاثة أرباع الليل للبكاء، وكان إذا بكى سقطت من عينيه دمعتان في البحر، فيسمع دويهما في الآفاق، وتضطرب المياه، وترجف الأرض، وتحدث الزلازل. ويزعم التلمود أن الله يردد في أثناء بكائه ونحيبه عبارات الندم، فيقول: تبا لي أمرت بخراب بيتي وإحراق الهيكل وتشريد أولادي. وتذكر بعض أسفار التلمود أن رجلا اسمه إسماعيل، سمع الله إثر =

فلما نظر المتأخرون منهم إلى هذا التأليف، وأنه كلما مر جيل عليه زادوا فيه، وأن هذه الزيادات المتأخرة تناقض أوائل هذا التأليف؛ علموا أنهم إن لم يقطعوا ذلك، ويمنعوا من الزيادة فيه، أدى إلى الخلل الظاهر والتناقض الفاحش. فوقفوا الزيادة فيه، ومنعوا من ذلك، وحظروا على الفقهاء الزيادة فيه. وحرموا من يضيف إليه شيئا آخر. فوقف على ذلك المقدار. وكانت أئمتهم قد حرموا عليهم في هذين الكتابين مؤاكلة الأجانب

_ = خراب بيت المقدس يئن كما تئن الحمامة ويبكي وهو يقول: الويل لمن خرب بيته، وضعضع ركنه، وهدم قصره وموضع سكينته، وَيْلي على ما فرقت من بنيَّ وبناتي، قامتي منكسة حتى ابني بيتي، وأرد إليه بني وبناتي. فلما شعر بوجود إسماعيل بجواره أخذ بثيابه وقال له: أسمعتني يابني إسماعيل؟ فقال: لا يا رب. فقال له الرب: يابني إسماعيل بارك علي. فبارك عليه ومضى. ويقرر التلمود كذلك أن الله سبحانه قد تستولي عليه نزوة الغضب، فيقسم ليأتين أفعالا شريرة، ثم يثوب إلى رشده، فيتحلل من يمينه. ويستدل أيضا من أسفار التلمود على أنهم كانوا يخصصون عشرة أيام من أول شهر تشرين الثاني كل عام لعبادة الرب الصغير الملك "صندلفون" خادم التاج الذي في رأس معبودهم. فإن فيه ألف قنطار ذهب. وأسفار التلمود تحث أيضا على ذبح الآدميين من غير بني جنسهم، وتقديمهم قربانا لإلههم، ومزج دمائهم بعجين الفطائر المقدسة التي يتناولونها في أعيادهم. الأسفار المقدسة لعلي ص27 - 30، الفصل لابن حزم 1/ 163 - 165، اليهودية لأحمد شلبي ص275، التلمود شريعة إسرائيل ص17 - 18.

-أعني من كان من غير ملتهم- وحظروا عليهم أكل اللحمان من ذبيحة من لم يكن على دينهم؛ لأنهم -أعني علماءهم وأئمتهم- علموا أن دينهم لا يبقى عليهم في هذه الحالة، مع كونهم تحت الذل والعبودية، إلا بأن يصدوهم عن مخالطة من كان على غير ملتهم، وحرموا عليهم مناكحتهم والأكل من ذبائحهم، ولم يمكنهم المبالغة في ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم، ويكذبون بها على الله؛ لأن التوراة إنما حرمت عليهم مناكحة غيرهم من الأمم؛ لئلا يوافقوا أزواجهم في عبادة الأصنام والكفر بالله تعالى. وحُرم عليهم في التوراة أكل ذبائح الأمم التي يذبحونها قربانا للأصنام؛ لأنه قد سمي عليها غير اسم الله. فأما الذبائح التي لا تذبح قربانا، فلم تنطق التوراة بتحريمها. وإنما نطقت التوراة بإباحة تناول المأكل من يدي غيرهم من الأمم في قول الله تعالى لموسى حين اجتازوا على أرض بني العيص: "لو تشكار وأيام كي لواتين لخاميا رصام عاذ مذراخ كف داغل". تفسيره: فإني لا أعطيك من أرضهم ولا مسلك قدم. "أواخر تشير وميالمام بكيف واخليتم وغم مايم تخرد وميانام بكيسف وشيشم". تفسيره: مأكولا تمتاروا منهم بفضة، وتأكلونه. وأيضا ماء تشترون منهم بفضة وتشربونه1. فقد تبين من نص التوراة أن المأكول مباح لليهود تناوله من غيرهم من الأمم وأكله. وهم يعلمون أن بني العيص عابدو أصنام

_ 1 جاء في سفر التثينة 2/ 4: وأوصى الشعب قائلا: أنتم مارون بتخم إخواتكم بني عيسو الساكنين في سعير، فيخافون منكم، فاحترزوا جدا. 2/ 5: لا تهجموا عليهم؛ لأني لا أعطيكم من أرضهم ولا وطأة قد؛ لأني لعيسو قد أعطيت جبل سعير ميراثا. 2/ 6: طعاما تشترون منهم بالفضة لتأكلوا، وماء أيضا تبتاعون منهم بالفضة لتشربوا.

وأصحاب كفر. فلا يكون المسلمون على كل حال دون هذه المنزلة -أعني أن يساوى بينهم وبين بني العيص- فينبغي أن يأكلوا من مأكولات المسلمين، وأن يجعلوا للمسلمين تفضيلا بتوحيدهم وإيمانهم وكونهم لا يعبدون الأصنام. فموسى -عليه السلام- إنما نهاهم عن مناكحة عباد الأصنام وأكل ما يذبحونه بأسمائهم. ولسنا نعرف أحدا من المسلمين يذبح ذبيحته باسم صنم ولا وثن. فما بال هؤلاء لا يأكون من ذبائح المسلمين؟! بل من سكن في الشام وبلاد العجم لا يأكلون من أيدي المسلمين اللبن والجبن والحلوى والخبز وغير ذلك من المأكولات. فإن قالوا: لأن التوراة حرمت علينا أكل "الطريفا". قلنا: إن الطريفا هي الفريسة التي يفترسها الأسد أو الذئب أو غيره من السباع. ودليل ذلك قوله في التوراة: "وياسار ساذي طريفا لوثو خيلو الكيلب يسيليخوا واثوا". تفسيره: ولحما في الصحراء فريسة لا تأكلوا، للكلب ألقوه1. فلما نظر أئمتهم أن التوراة غير ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عباد الأصنام، وأن التوراة قد صرحت بأن تحريم مؤاكلتهم ومخالطتهم خيف منه استدراجهم بالمخالطة إلى مناكحتهم، إنما يكون لخوف اتباعهم والانتقال إلى أديانهم وعبادة أوثانهم. ووجدوا جميع هذا واضحا في التوراة، اختلقوا كتابا سموه "هلكت شحيطا" ومعناه: علم الذباحة. ووضعوا في هذا الكتاب من تشديد الإصر عليهم ما شغلوهم به عما هم فيه من الذل والمشقة. وذلك أنهم أمروهم بأن ينفخوا الرئة

_ 1 جاء في سفر اللاويين 17/ 15 - 16: وكل إنسان يأكل ميتة أو فريسة، وطنيا كان أو غريبا، يغسل ثيابه ويستحم بماء، ويبقى نجسا إلى المساء، ثم يكون طاهرا. وإن لم يغسل ولم يرحض جسده يحمل ذنبه.

حتى تمتلئ هواء، ويأملوها هل يخرج الهواء من ثقب منها أولا؟ فإن خرج منها الهواء حرموه، وإن كان بعض أطرف الرئة لاصقا ببعض لم يأكلوه. وأيضا فإنهم أمروا الذي قدَّ الذبيحة أن يدخل يده في بطن الذبيحة ويتأمل بأصابعه؛ فإن وجد القلب ملتصقا إلى الظهر أو إلى أحد الجانبين، ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة، حرموه ولم يأكلوه، وسموه "طريفا". يعنون بذلك أنه نجس، فحرام أكله. وهذه التسمية هي أول التعدي منهم؛ لأنه ليس موضوعها باللغة إلا المفترس الذي يفترسه بعض الوحوش. ودليل ذلك قول يعقوب لما جاءوا بقميص يوسف ملوثا بالدم: "ويكبراة ويومره كثرنث بني خيار أعا أخالا شهو طارف طوارف يوسف". وتفسيره: فتأملها وقال: دراعة ابني، وحش رديء أكله، افتراسا افترس يوسف1. فالطريفا هي الفريسة. ودليل آخر: وهو أنه قال: "ولحما في الصحراء فريسة لا تأكلوا" والفريسة أبدا إنما تكون في الصحراء. وليس ينبغي أن يعجب من ذلك، فإن هذا النهي عن أكل الفريسة إنما نزل على قوم ذوي أخبية يسكنون البر. وذلك أنهم مكثوا يترددون في التيه والبراري تمام أربعين سنة. وكانوا أكثر هذه المدة لا يجدون

_ 1 جاء في سفر التكوين 37/ 31 - 32: فأخذوا قميص يوسف، وذبحوا تيسا من المعزى، وغمسوا القميص في الدم، وأرسلوا القيص الملون، وأحضروه إلى أبيهم، وقالوا: وجدنا هذا، حقق أقميص ابنك هو أم لا؟ 37/ 33: فتحققه وقال: قميص ابني. وحش ردي أكله. افترس يوسف افتراسا.

طعاما إلا المن. فلما اشتد قرمهم إلى اللحم جاءهم موسى بالسلوى. وهو طائر يشبه السماني1. وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية، ويذهب بالخنزوانة2 والقساوة. وذلك أن هذا الطائر يموت إذا سمع صوت الرعد، كما أن الخطاف يقتله البرد، فيلهمه الله عز وجل أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون بها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوان المطر، فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض. فجلب الله إليهم هذا الطائر لينتفعوا بما في أكل لحمه من الخاصية، وهي تليين القلوب القاسية. وكان قد اشتد قرمهم إلى اللحم، بحيث لم يمنعهم من أكل الفريسة والميتة إلا نزول تحريمها في التوراة3.

_ 1 السماني: طائر صغير لحمه طيب المذاق. ولا يقال سماني بتشديد الياء. الواحدة سُمَانات والجمع: سُمَانيات. 2 الْخُنْزُوانة بوزن الأسطوانة: التكبر. يقال: هو ذو خنزوانات. 3 القَرَم بفتحتين: شدة الشهوة إلى اللحم. وقد قرِم إلى اللحم من باب طرب. جاء في سفر العدد 11/ 4 - 6: فعاد بنو إسرائيل أيضا وبكوا وقالوا: من يطعمنا لحما؟ قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم. والآن قد يبست أنفسنا. ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن. وفي 11/ 18: أن الله قال لموسى: وللشعب تقول: تقدسوا للغد، فتأكلون لحما. لأنكم قد بكيتم في أذني الرب قائلين: من يطعمنا لحما؟ إنه كان خير في مصر. 11/ 31: فخرجت ريح من قبل الرب، وساقت سلوى من البحر، وألقتها على المحلة نحو مسيرة يوم من هنا ومسيرة يوم من هناك حوالي المحلة، ونحو ذراعين فوق الأرض. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = 11/ 32: فقام الشعب كل ذلك النهار وكل الليل وكل يوم الغد وجمعوا السلوى. أما التيه في الصحراء فقد ذكر مرات في التوراة، منها ما يلي: جاء في سفر العدد 14/ 22 - 23: إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية، وجربوني الآن عشر مرات، ولم يسمعوا لقولي، لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم. وجميع الذين أهانوني لا يرونها. 14/ 29: في هذا القفر تسقط جثثكم، جميع المعدودين منكم حسب عددكم، من ابن عشرين فصاعدا، الذين تذمروا علي. 14/ 30: لن تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأسكننكم فيها، ما عدا كالب بن يفنة، ويشوع بن نون. 14/ 31: وأما أطفالكم الذين قلتم: يكونون غنيمة، فإني سأدخلهم، فيعرفون الأرض التي احتقرتموها. 14/ 32 - 34: فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر، وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة، ويحملون فجوركم حتى تفنى جثثكم في القفر .. تحملون ذنوبكم أربعين سنة، فتعرفون ابتعادي. 14/ 35: أنا الرب قد تكلمت: لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة علي. في هذا القفر يفنون، وفيه يموتون. وجاء في 32/ 10 - 12: فحمي غضب الرب في ذلك اليوم، وأقسم قائلا: لن يرى الناس الذين صعدوا من مصر، ابن عشرين سنة فصاعدًا، الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لأنهم لم يتبعوني تماما، ما عدا كالب بن يفنة ويشوع بن نون؛ لأنهما اتبعا الرب تماما. 32/ 13: فحمي غضب الرب على إسرائيل، وأتاهم في البرية =

فقد تبين التعدي من مشايخهم في تفسير الطريفا، وأنها الفريسة. وأما فقهاؤهم فإنهم اختلقوا من أنفسهم هذيانات وخرافات تتعلق بالرئة والقلب، وقالوا: ما كان من الذبائح سليما من هذه الشروط فهو "دخيا" وتفسير هذه الكلمة: طاهر، وما كان خارجا عن هذه الشروط فهو "طريفا". وتفسير هذه الكلمة: "حرام". وقالوا: معنى قول التوراة: "ولحما فريسة في الصحراء لا تأكلوه، للكلاب ألقوه" يعني إذا ذبحتم

_ = أربعين سنة، حتى فني كل الجيل الذي فعل الشر في عيني الرب. وجاء في سفر التثنية 1/ 34 - 36: وسمع الرب صوت كلامكم فسخط، وأقسم قائلا: لن يرى إنسان من هؤلاء الناس من هذا الجيل الشرير الأرض الجيدة التي أقسمت أن أعطيها لآبائكم ما عدا ... 1/ 37 - 39: وعلي أيضا غضب الرب بسببكم قائلا: وأنت أيضا لا تدخل إلى هناك. يشوع بن نون الواقف أمامك هو يدخل ... وأما أطفالكم الذين قلتم: يكونون غنيمة وبنوكم الذين لم يعرفوا الخير والشر، فهم يدخلون إلى هناك، ولهم أعطيها، وهم يملكونها. 1/ 40: وأما أنتم، فتحولوا وارتحلوا إلى البرية على طريق بحر سوف. وجاء أيضا في السفر نفسه 8/ 2 - 3: وتذكر كل الطريق التي سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر لكي يذلك ويجربك .. فأذلك وأجاعك، وأطعمك من المن الذي لم تكن تعرفه. 8/ 4 - 5: ثيابك لم تبل عليك، ورجلك لم تتورم هذه الأربعين سنة. فاعلم في قلبك: أنه كما يؤدب الإنسان ابنه، قد أدبك الرب إلهك. وفي 29/ 5: فقد سرت بكم أربعين سنة في البرية، لم تبل ثيابكم عليكم، ونعلك لم تبل على رجلك.

ذبيحة، ولم توجد فيها هذه الشروط. فلا تأكلوها بل بيعوها على من ليس من أهل ملتكم. وذلك أنهم فسروا قوله: "للكلب ألقوه" أي لمن ليس على ملتكم أطعموه وبيعوه. إلا أنهم على الحقيقة أشبه بالكلاب وأحق بهذا اللقب والتشبيه؛ لقبح عقولهم وسوء ظنونهم في سواهم من الأمم.

فرق اليهود من حيث قبولهم التلمود

[فِرَقُ اليهود من حيث قبولهم التلمود]: ثم إن اليهود فرقتان: - إحداهما: عرفت أن أولئك السلف الذين ألفوا "المشنا والتلمود" هم فقهاء اليهود. وهم قوم كذابون على الله وعلى موسى النبي -عليه السلام- أصحاب حماقات ورقاعات هائلة: من ذلك أن أكثر مسائل فقههم ومذاهبهم مختلفون فيها، ويزعمون أن الفقهاء كانوا إذا اختلفوا في كل واحدة من هذه المسائل يوحي الله إليهم بصوت يسمعه جمهورهم يقول: الحق في هذه المسألة مع الفقيه فلان. وهم يسمون الصوت "بث قول". فلما نظر اليهود القراءون -وهم أصحاب عانان وبنيامين- إلى هذه المحالات الشنيعة وهذا الافتراء الفاحش والكذب البارد، انفصلوا بأنفسهم عن الفقهاء وعن كل من يقول بمقالتهم. فكذبوهم في كل ما افتروا به على الله، وقالوا: بعد أن ثبت كذبهم على الله، وأنهم قد ادعوا النبوة، وزعموا أن الله كان يوحي إليهم جميعهم في كل يوم مرات، قد فسقوا، ولا يجوز قبول شيء منهم. فخالفوهم في سائر ما ألفوه من الأمور التي لم ينطق بها نص التوراة، وأكلوا اللحم باللبن، ولم يحرموا سوى لحم الجدي بلبن أمه فقط، مراعاة للنص، أعني قول

التوراة: "لا ينضج الجدي بلبن أمه"1. وأما الترهات التي ألفها الحاخاميم -أعني الفقهاء- وسموها "هلكت شحيطا" -أعني علم الذباحة- وهي المسائل الفقهية التي رتبها الفقهاء، ونسبوها إلى الله عن موسى، فإن القرائين اطرحوها مع غيرها وألقوها. وصاروا لا يحرمون شيئا من الذبائح التي يتولون ذباحتها البتة. فهذا حال هذه الطائفة من اليهود، أعني القرائين. ولهم أيضا فقهاء أصحاب تصانيف، إلا أنها لم يبالغوا في الكذب على الله إلى حد أن يدعوا النبوة، ولا نسبوا أشياء من تفاسيرهم إلى النبوة ولا إلى الله، بل إلى اجتهادهم2. - والفرقة الثانية يقال لهم: "الربانيون"، وهم أكثر عددا، وهم أكثر "الحاخاميم" الفقهاء المفترين على الله، الذي يزعمون أن الله كان

_ 1 سبق تخريج هذا النص في بحث بطلان تأويلاتهم. 2 القراءون أو العنانيون فرقة حديثة نشأها عنان بن داود أحد علماء اليهود في بغداد أواخر القرن الثامن الميلادي في عهد أبي جعفر المنصور. ويقوم مذهبها على التمسك بما جاء في كتاب الأسفار وحده، وعدم الاعتراف بأحكام التلمود وتعاليم الربانيين والحاخامات. لذا سموا بالقرائين. نسبة إلى كلمة "مقرا" بمعنى الكتاب أو المكتوب. وهي الكلمة التي كانت تطلق عند اليهود على أسفار العهد القديم. وهم يقولون بالاجتهاد وإمكان رد الخلف أحكام السلف في حال الخطأ. وقد ألغى عنان جميع التشريعات التي قررها الربانيون مستندين في تقريرها إلى أسفار التلمود، وأدخل على كثير من تشريعاتهم تعديلات استمدها من اجتهاده الخاص وفهمه لنصوص كتابهم. انظر: الأسفار المقدسة لعلي عبد الواحد ص61 وص63، واليهودية لأحمد شلبي ص231.

يخاطبهم في كل مسألة بالصوت الذي سموه "بث قول"1. وهذا الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم من سائر اليهود.

_ 1 الفَرّيسيّون أو الربانيون أهم فرق اليهود وأكبرها قديما وحديثا. ويطلقون على أنفسهم لقب: الإخوة أو الأحبار أو الرفاق. أما كلمة "الفريسيون" فتعني: المعتزلة. ويظهر أن خصومهم هم الذين أطلقوا عليهم هذا اللقب، وهم يكرهونه. وتعترف هذه الفرقة بجميع الأسفار والروايات الشفوية المنسوبة إلى موسى -عليه السلام- وكذلك تعترف بأسفار التلمود؛ بل إن فقهاءهم الذين يطلق عليهم "الربانيون" هم الذين وضعوا أسفار التلمود كما ذكر المؤلف -رحمه الله- وهذه الفرقة تؤمن بالبعث، وتعتقد أن الأموات الصالحين سينشرون في الأرض ليشتركوا في ملك المسيح المنتظر. وللحاخامات سلطة عليا عندهم، بل هم معصومون في نظرهم، وأقوالهم صادرة عن الله. انظر: الأسفار المقدسة لعلي ص55 - 56، واليهودية لأحمد شلبي ص226 - 227. أما الصدوقيون فلا يعترفون إلا بكتاب الأسفار، ويرفضون الأحاديث الشفوية لموسى، ومن باب أولى شروح الربانيين. بل إنهم لا يروين للتوراة قدسية مطلقة. وهم لا يؤمنون بالبعث يوم القيامة، ويعتقدون أن عقاب العصاة وإثابة المحسنين إنما يحصلان في الدنيا. الأسفار المقدسة ص56 - 57 وص14 وص30، اليهودية لأحمد ص229 - 231، الشرائع الدينية لأحمد يسري ص123. وهذه الفرق جميعها من العبرانيين، أما السامريون فلهم توراة خاصة بهم، ليس فيها سوى أسفار موسى الخمسة؛ لأنهم ينكرون ما عداها. بل يبطلون كل نبوة بعد موسى ويوشع. إلا أن بعضهم يضيف إلى التوراة سفري يوشع والقضاة. تعريف بالتوارة السامرية ص4 - 5 و14 و17 و26، الأسفار المقدسة لعلي ص58.

لأن أولئك الفقهاء المفترين على الله قد أوهموهم أن المأكولات والمشروبات إنما تحل للناس بأن يستعملوا فيها هذا العلم الذي نسبوه إلى الله وإلى موسى، وأن سائر الأمم لا يعرفون هذا، وأنهم إنما شرفهم الله بهذا وأمثاله من الترهات التي أفسدوا بها عقولهم. وصار أحدهم ينظر إلى من ليس على ملته كما ينظر إلى سائر الحيوانات التي لا عقل لها، وينظر إلى المآكل التي تأكلها الأمم كما ينظر الرجل إلى العذرة أو إلى صديد الموتى وغير ذلك من الأشياء القذرة التي لا يسوغ لأحد أكلها. فهذا هو الأصل في بقاء هذه الطائفة على أديانها لشدة مباينتها لغيرها من الأمم، ولأنهم ينظرون إلى الناس بعين النقص والازدراء إلى أبعد غاية. وأما الطائفة الأولى -وهم القراءون- فأكثرهم خرج إلى دين الإسلام أولا فأولا إلى أن لم يبق منهم إلا نفر يسير؛ لأنهم أقرب إلى الاستعداد لقبول الإسلام؛ لسلامتهم من محاولات فقهاء الربانيين أصحاب الافتراء الزائد، الذين شددوا على جماعتهم الإصر. فقد تبين مما ذكرنا أن الحاخاميم هم الذين شددوا على هذه الطائفة دينهم، وضيقوا عليهم المعيشة والإصر. قصدوا بذلك مبالغتهم في مضادة مذاهب الأمم حتى لا يختلطوا بهم، فيؤدي اختلاطهم بهم إلى خروجهم من دينهم. والسبب الثاني في تضييق الإصر عليهم: أن اليهود مبددون في شرق البلاد وغربها، فما من جماعة منهم في بلدة إلا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة، يظهر لهم الخشونة في دينه والمبالغة في التورع والاحتياط، فإن كان من المتفقهين فهو يشرع في إنكار أشياء عليهم، ويوهمهم التنزه عما هم فيه، وينسبهم إلى قلة الدين، وينسب ما ينكره عليهم إلى مشايخهم وأهل بلدهم، ويكون في أكثر ذلك

الإسناد كاذبا. ويكون قصده بذلك إما الرياسة عليهم وإما تحصيل غرض منهم، ولا سيما إن أراد المقام بينهم أو التدبير عندهم. فتراه أول ما ينزل عندهم لا يأكل من أطعمتهم ولا من ذبائحهم، ويتأمل سكين ذابحهم، وينكر عليهم بعض أمره، ويقول: أنا لا آكل إلا من ذباحة يدي. فتراهم معه في عذاب، لا يزال ينكر عليهم الحلال والمباح، ويوهمهم تحريمه بإسنادات يخترعها حتى لا يشكوا في ذلك. فإن وصل بعد مدة طويلة من أهل بلده من يعرف أنه كاذب في تلك الإسنادات فلا يخلو من أن يوافقه أو يخالفه؛ فإن وافقه فإنما يوافقه ليشاركه في الرياسة الناموسية التي حصلت له، وخوفا من أن يكذب إن خالفه وينسب إلى قلة الدين. وأيضا فإن القادم الثاني في أكثر الأمر يستحسن ما اعتمده القادم الأول من تحريم المباحات وإنكار المحللات ويقول: لقد عظَّم الله ثواب فلان؛ إذ قوى ناموس الشرع في قلوب هذه الجماعة، وشيد سياجه. وإذا لقيه على الانفراد يشكره، ويجزيه خيرا ويقول له: لقد زين الله بك أهل بلدنا. وإن كان القادم الثاني ينكر ما أتى به القادم الأول من الإنكار عليهم والتضييق، لم يبق أحد من الجماعة يستنصحه، ولا يصدقه، بل جميعهم ينسبون إلى قلة الدين؛ لأن هؤلاء القوم يعتقدون أن تضييق المعيشة وتحريم المحللات هو المبالغة في الدين والزهد، وهم أبدا يعتقدون الدين والحق مع من يضيق عليهم، ولا ينظرون هل يأتي بدليل أم لا، ولا يبحثون عن كونه محقا أو مبطلا. هذا حال القادم إلى بلد من متفقهة اليهود. فأما إن كان القادم أحد أحبار اليهود وعلمائهم، فهناك ترى العجب من الناموس الذي يعتمده، والسنن التي يحدثها ويلحقها بالفرائض. ولا يقدر أحدهم على الاعتراض عليه. فتراهم مستسلمين إليه، وهو يجتلب درهم، ويجلب بحيلة درهمهم. حتى لو بلغه أن بعض

أحداث اليهود قد جلس على قارعة الطريق في يوم السبت، أو اشترى لبنا من بعض المسلمين أو خمرا، لببه1 وسبه في مجمع من يهود المدينة وأباحهم عرضه، ونسبه إلى قلة الدين. فهذا السبب الذي ذكرناه والسبب الذي قبله هما العلة في تشديد الإصر الذي جعلته اليهود على أنفسها، وتضييق المعيشة عليها، وتجنبهم مآكل غيرهم، ومخالطة من كان على غير ملتهم. وقد أوضحناها للمتأمل.

_ 1 لببه: أخذ بتلابيبه.

خاتمة الكتاب

خاتمة الكتاب: أحق الناس بأن يوسم بالجهالة وينبذ بالضلالة مَن كان طبعه أبيا عن الانقياد للحقائق، وعقله بعيدا عن فهم اليقين. فأما من سفل درجة عن ذلك، وكان مع الامتناع عن تسليم الحقائق مسرعا إلى قبول الباطل وتصديق المستحيل، فهو حقيق بالنسبة إلى الجنون والسقوط. وهذه الطائفة أحق الناس بذلك؛ لأن آباءهم كانوا يشهدون في كل يوم من الآيات الحسية والمنارات السامية ما لم يره غيرهم من الأمم. وهم مع ذلك يهمون برجم موسى وهارون -عليهما السلام- في كثير من الأوقات. وكفى باتخاذهم العجل في أيام موسى -عليه السلام- وإيثارهم العودة إلى مصر والرجوع إلى العبودية؛ ليشبعوا من أكل اللحم والبصل والقثاء. ثم عبادتهم الأصنام بعد عصر يوشع بن نون، ثم انضمامهم إلى أبشالوم الولد العاق ولد داود من بيت ملك الكرج، فإن سوادهم الأعظم انضم إلى هذا الولد العاصي العاق، وشدوا معه على حرب الملك الكبير داود -عليه السلام- ثم إنهم لما عادوا إلى طاعة داود جاءت وفودهم وعساكرهم متقاطرة إلى داود مستغفرين مما ارتكبوه، مستبشرين بسلامة الملك داود، بحيث اختصم الأسباط مع سبط يهوذا؛ إذ عبروا بالملك الأردن قبل مجيء عساكر الأسباط، غيرة منهم على السبق إلى خدمة الملك. وتعاتبوا في ذلك عتابا دقيقا، فقال سبط

يهوذا: نحن أحق الناس بالسبق إلى الملك والاختصاص بخدمته لأنه منا، فلا وجه لعتبكم علينا يا بني إسرائيل في ذلك. فنبغ فضولي يقال له: "نجزى بن يوشع" فنادى برفيع صوته: "لا حظ لنا في داود، ولا نصيب لنا في ابن يساي. ليمض كل منكم إلى خبائه يا إسرائيليين". فما كان بأسرع من انفضاضهم -أي جميع عساكر بني إسرائيل- عن داود بسبب كلمة ذلك الفضولي. ولما توصل الوزير "يؤاب" إلى قتل المشغب عادت العساكر جميعها إلى طاعة داود1. فما كان القوم إلا مثل رعاع همج العوام الذين تجمعهم دبدبة وتفرقهم صيحة. وأما عبادتهم الكبشين، وتركهم الحج إلى القدس، ثم إصرارهم على مخالفة الأنبياء إلى انقضاء دولتهم، فمما لا يصدر عن متمسك بأهداب العقل. وسبيلهم ألا يتطرقوا إلى معايب أحد من الأمم إذا كانت هذه مخازيهم وفضائحهم. فأما تسرعهم إلى قبول الباطل والمستحيل، فإننا نذكر منه طرفا ينبئ عن قلة عقولهم: وهو ما جرى في زماننا من أذكاهم وأكيسهم وأمكرهم، وهم يهود بغداد. فإن محتالا من شبان اليهود نشأ في سواد الموصل، يقال له: "مناحيم بن سليمان" ويعرف بابن الروحي. وكان ذا جمال في صورته. وقد تفقه في دينهم بالإضافة إلى الجمهور من اليهود الساكنين بالناحية المعروفة بالعمادية من بلاد الموصل. وكان المتولي لقلعة هناك زميل لذلك المحتال، وأحبه لحسن اعتقاده فيه، ولما توهم

_ 1 قصة خروج أبشالوم على أبيه داود مذكورة في سفر صموئيل الثاني في الأبواب من 15 - 20، وأطرف ما في ذلك أنهم ادعوا أن داود طفق يبكي على ابنه بعد مقلته ويقول وهو يمشي: يابني أبشالوم يابني، يابني أبشالوم، يا ليتني مت عوضا يا أبشالوم ابني ابني، كما في 18/ 33.

فيه من ديانة تظاهر بها؛ بحيث إن الوالي كان يسعى إلى زيارته. فطمع ذلك المحتال في جانب الوالي، واستضعف عقله، فتوهم أنه يتمكن من الوثب على القلعة وأخذها، وأنها تبقى له معقلا حصينا. فكتب إلى اليهود القرائين المتفرقين بنواحي أذربيجان وما والاها؛ لأنه علم أن اليهود الأعاجم أقوى جهالة من سائر اليهود. وذكر في كتبه: أنه قائم قد غار لليهود من يد المسلمين. وخاطبهم بأنواع المكر والخديعة. فمن بعض فصول كتبه التي رأيتها ما هذا معناه: "ولعلكم تقولون: هذا لأي شيء قد استنفرنا لحرب أم لقتال؟ لا، لسنا نريدكم لحرب ولا لقتال، بل لتكونوا واقفين بين يدي هذا القائم ليراكم هناك من يفشاه من رسل الملوك الذين ببابه". وفي أواخر الكتاب الكيد: "ينبغي أن يكون مع كل واحد منكم سيف أو غيره من آلات الحرب، ويخفيه تحت أثوابه". فاستجابت إليه يهود الأعاجم وأهل نواحي العمادية وسواد الموصل، ونفروا إليه بالسلاح المستتر، حتى صار عنده منهم جماعة كثيفة. وكان الوالي لحسن ظنه به يظن أن أولئك القادمين إنما جاءوا لزيارة ذلك الحبر الذي قد ظهر لهم بزعمه في بلده إلى أن انكشفت له مطامعهم، وكان حليما عن سفك الدماء. فقتل صاحب الفتنة المحتال وحده. وأما الباقون فتهاجوا مدبرين، بعد أن ذاقوا وبال المشقة والخسارات والفقر. ولم تنكشف هذه القصة لهم مع ظهورها لكل ذي عقل. بل هم إلى الآن يفضلونه على كثير من أنبيائهم -أعني يهود العمادية- ومنهم من يعتقد أنه المسيح المنتظر بعينه. ولقد رأيت جماعة من يهود الأعاجم: بخوى وسلماس وتبريز ومراغة قد جعلوا اسمه قَسَمهم الأعظم. وأما من في العمادية من اليهود فصاروا أشد مباينة ومخالفة في جميع أمورهم لليهود من النصارى. وفي تلك الولاية جماعة منهم على دين ينسبونه إلى مناحيم المحتال المذكور.

ولما وصل الخبر إلى بغداد اتفق هناك شخصان من محتالي اليهود ودواهي مشيختهم، فزوروا على لسان مناحيم كتابا إلى بغداد، تبشرهم بالفرج الذي كانوا قديما ينتظرونه، وأنه يعين لهم ليلة يطيرون فيها أجمعين إلى بيت المقدس. فانقاد اليهود البغداديون إليهما مع ما يدعونه من الذكاء، ويفخرون به من الخب. انقادوا بأسرهم إلى تصديق ذلك، وذهبوا بنسوانهم وأموالهم وحليهم إلى ذينك الشيخين؛ ليتصدقا به على من يستحقه بزعمهما. وصرف اليهود جل أموالهم في هذا الوجه، واكتسبوا ثيابا خضرا، واجتمعوا في تلك الليلة على السطوح ينتظرون الطيران بزعمهم على أجنحة الملائكة إلى بيت المقدس. وارتفع من النساء بكاء على أطفالهم المرتضعين، خوفا أن يطرن قبل طيران أولادهن، أو يطير أطفالهن قبلهن، فتجوع الأطفال بتأخر الرضاع عنهن. وتعجب المسلمون هناك مما اعترى اليهود حينئذ؛ بحيث أحجموا عن معارضتهم حتى تنكشف آثار مواعيدهم العرقوبية. فما زالوا متهافتين إلى الطيران إلى أن أسفر الصباح عن خذلانهم وامتهانهم. ونجا ذانك المحتالان بما وصل إليهما من أموال اليهود، وانكشف لهم بعد ذلك وجه الحيلة، وما تظاهروا به من جلباب الرذيلة. فسموا ذلك العام عام الطيران، وصاروا يعتبرون به سنين كهولهم والشبان. وهو تاريخ البغداديين من المتهودة في هذا الزمان. فكفاهم هذا الأمر عارا دائما وشنارا ملازما1. وفيما قد أوردناه كفاية قاضية للوطر من إفحامهم وإلجامهم بما هو عين ما عندهم، وأعوذ بالله مما يشركون، وإليه البراءة مما يكفرون. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_ 1 الشَّنار بالفتح: العيب والعار.

فهرس الكتاب والتعليق عليه

فهرس الكتاب والتعليق عليه: 5 الافتتاح 7 المقدمة 8 مفكرون من اليهود والنصارى اعتنقوا الإسلام 10 قصة إسلام السموءل 17 مقدمة المؤلف 19 النسخ 19 اعتراض اليهود والنصارى على النسخ إنما نشأ بسبب جهلهم لحقيقته 19 تعريف النسخ وحقيقته 20 النسخ جائز عقلا وواقع شرعا قديما وحديثا 21 أمثلة على النسخ 22 تنبيهان: حدود النسخ ومصدره 22 إلزام المؤلف لليهود بوقوع النسخ عندهم من عدة وجوه 22 وجوه القصاص في شريعة نوح والختان في شريعة إبراهيم 22 نصوص من سفر التكوين تدل على أن الختان أبدي في شريعة إبراهيم 23 إنجيل لوقا ينص على أن المسيح ختن 23 بولس صاحب الشخصية الغامضة شدد في نسخ الختان

24 العهد القديم ضعيف عديم النفع كما قال بولس 25 المؤلف يسأل اليهود: هل أتت التوراة بزيادة على الشرائع السابقة أو لا؟ 25 إلزام المؤلف لهم بأن التوراة أتت بزيادة ومنها تحريم العمل يوم السبت وكان مباحا 26 نصوص من سفر التكوين تدل على تعظيم السبت ووجوب قتل من لم يحفظه 26 اتهام اليهود لله سبحانه بأنه تعب واستراح في اليوم السابع 27 الإشارة إلى الأماكن التي تنص على تعظيم السبت في العهد القديم 27 تحريم ما تقدمت إباحته في درجة إباحة ما تقدم تحريمه 28 المحظورات إما أن تكون محرمة لعينها فهي أبدية أو لظرف اقتضى ذلك 28 إذا كان تحريم السبت لعينه فينبغي أن يكون على آدم ونوح وإبراهيم 28 تعبد اليهود بفرائض مباينة للعقول 29 لا تعارض بين العقل السليم وبين ما جاءت به الأنبياء 29 الأنبياء جميعا يدعون إلى أصول مشتركة 30 إذا كان الله غنيا عن العالمين فما الذي يمنع النسخ لحكمة؟ 31 نسخ السبت بالصوم الأكبر 31 إذا اتفق يوم الختان وهو الثامن للمولود مع يوم السبت فالنسخ حتم لازم 31 ما يحكونه عن عيسى وكسره للسبت ومناظرته لهم 32 وجه آخر للمؤلف في إثبات النسخ بأصولهم 33 مس الميت أو شيء من لوازمه أو حضور موته نجاسة مغلظة تحتاج إلى طهارة مغلظة

33 التطهير برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها لمن مس ما يتعلق بالميت 35 عجز اليهود اليوم عن التطهير برماد تلك البقرة لانعدام الرماد والإمام 36 إن استغنوا عن ذلك لعجزهم فقد أقروا بالنسخ وإلا بقوا أنجاسا 36 تشديدهم الأمر على الحائض والمستحاضة 37 ادعاء فقهاء اليهود أن جميع ما في كتبهم منقول عن موسى ورد المؤلف عليهم 38 تعريف الفقه والاجتهاد لغة واصطلاحا 39 لفق اليهود أدعية أضافوها إلى صلاتهم 40 ابتداع اليهود أصواما جعلوها فرضا مع أن نص التوراة يمنع الزيادة والنقصان 41 اصطفاء اللاويين بدلا من الأبكار بعد عبادة العجل 42 افتراؤهم على هارون واتهامهم إياه بصنع العجل وعبادته 43 من العجيب أن تنسب التوراة لهارون صنع العجل ثم تذكر أن الله وهب اللاويين له 44 صفوة القول في النسخ 44 أمثلة على النسخ الواقع في شريعة واحدة: 44 1 - أمر الله إبراهيم بذبح ابنه ثم نسخه قبل العمل به كما في سفر التكوين 44 2 - أعطى الله الكهانة لألعازار وأولاده ثم سلخه عنهم وأعطاه لتامار ثم أعاده إلى أولاد ألعازار كما في سفر صموئيل 45 3 - تحريم سفر التثنية على الملك إكثار المال والنساء واستكثار داود وسليمان منهما

45 4 - نسخ حصر الذبح بباب خيمة الاجتماع 46 5 - خثي البقر بدل خرء الإنسان من أجل خبزهم 47 6 - نصت الأناجيل على أن رسالة المسيح خاصة ببني إسرائيل ثم زعموا أن الحكم نسخ 48 أمثلة على قوع النسخ في شريعة نبي لاحق لحكم كان في شريعة نبي سابق: 48 1 - كانت جميع الحيوانات مباحة الأكل في شريعة نوح ثم حرمت التوراة حيوانات كثيرة 48 2 - يذكر سفر التكوين أن يعقوب جمع بين الأختين ثم نسخ في الشريعة الموسوية 49 3 - جاء في سفر التكوين عمران تزوج عمته ثم نسخ هذا في الشريعة الموسوية 49 4 - يجوز للرجل أن يطلق امرأته لأية علة في شريعة موسى لكن النصارى نسخوا ذلك 50 5 - نسخ تلاميذ المسيح بعد المشاورة جميع الأحكام العملية في التوراة إلا أربعة 51 ثم نسخ بولس الأحكام الثلاثة ولم يبق سوى تحريم الزنى 51 حصول الفراغ في شريعة النصارى 51 ما ظهر من الأمثلة السابقة بنوعيها 53 إفحام أهل الكتاب وإلزامهم بالإسلام: 53 طرق إثبات النبوة وأقسام الناس من حيث الإيمان بها 54 بم عرف اليهود نبوة موسى؟ 55 بطلان قول اليهود فإن ما ثبت لموسى ثابت لعيسى ومحمد 57 إلزامهم بنبوة عيسى والمصطفى عليهما السلام: 57 ادعاؤهم أن عيسى عرف اسم الله الأعظم من حيطان بيت المقدس ثم عمل به المعجزات

59 تواتر الشهادات بنبوة عيسى ومحمد أقوى من تواترها بنبوة موسى 59 معجزات القرآنية باقية 60 إلزامهم بنبوة المسيح: 60 وصية يعقوب لبنيه 61 اختلاف النص من ترجمة إلى أخرى قديما وحديثا 62 اختلاف الناس في فهم هذا النص وفي تعيين المبشر به 64 رد الشيخ رحمه الله الهندي على ادعاء اليهود والنصارى 65 تحليل نص البشارة وما ينتج عن ذلك 67 الموضوع الذي أشير فيه إلى نبوة الكليم والمسيح والمصطفى عليهم السلام: 67 نص البشارة وتفسير المؤلف لها 69 زعمت اليهود أن فاران هي أرض الشام 69 وزعمت النصارى أنها إيلات 70 موازنة وترجيح 70 الدليل على أن المراد بفاران أرض الحجاز 72 الرد على ابن كمونة اليهودي 72 الرد على النصارى 72 صفوة القول في ذلك 73 الإشارة إلى الصحابة والمجتهدين في البشارة 73 شهادة التوراة على اليهود بالإفلاس من الفطنة والرأي 74 نصوص من شهادتها عليهم بقساوة القلب وعمى البصيرة 75 الآيات والعلامات الدالة على نبوة محمد في التوراة: 75 نص البشارة 76 المراد بقوله: "من إخوتهم"

77 رد المؤلف على ادعاء اليهود بأن المراد بالبشارة شموائيل 78 حمل بعض اليهود النص على البشارة بيوشع، وأكثرهم على المسيح المنتظر 78 وحملته النصارى على البشارة بالمسيح ابن مريم 79 تحليل وترجيح 80 لفظ "من وسطك" أو "من بينكم" مختلق موضوع والدليل على ذلك 81 الرد على أدلة النصارى 82 لا مماثلة بين موسى ويوشع 83 لا مماثلة بين موسى والمسيح 84 لا بد أن يكون المبشر به من ولد إسماعيل للبركة الممنوحة له 84 المماثلة والمشابهة بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام 85 معنى قوله: "وأجعل كلامي في فمه" 85 أخبر النص أن نهاية المتنبئ القتل 85 لم يستطع أحد قتل محمد -صلى الله عليه وسلم- رغم كثرة المحاولات 86 ذكر النص أن المبشر به يطلعه الله على بعض علم الغيب 86 الإشارة إلى اسمه -صلى الله عليه وسلم- في التوراة: 86 نص البشارة 87 كلمة "بمادماد" تساوي كلمة محمد في حساب الجمل 87 من عادة اليهود الاعتماد في الوقائع والأسماء على حساب حروف الكلمة 88 شهادة حبر يهودي أسلم بذلك 89 شهادة الكاهن السامري إسحاق بذلك 89 تحليل ابن القيم لذلك واستشهاده بكلام ابن قتيبة 90 رد المؤلف على اعتراض محتمل لليهود

91 بركة إسماعيل وبركة إسحاق وتحقق ذلك 93 افتراءات اليهود: 93 إبطال ما يدعون من محبة الله إياهم 94 نصوص من توراتهم تبين اغترارهم بما افتروه على الله 97 مناظرة المؤلف لهم وإقامته الحجة على أن الخير غير مختص بهم والعقول تنزل بعصاتهم 97 الحرب بين رحبعام بن سليمان ويربعام ومقتل الكثيرين منهم 98 التوراة سوت بين صريح النسب فيهم والدخيل في دينهم 99 بعض النصوص الواردة في ذلك 101 فصل في ذكر طرف من كفرهم وتبديلهم: 101 ادعاؤهم في أدعيتهم أنهم أبناء الله وأحباؤه 101 مثلوا أنفسهم بعناقيد العنب وسائر الأمم بالشوك 102 انتظارهم المسيح الذي وعدوا به من نسل داود 103 النصوص التي يستشهدون بها على ذلك 104 العلامات التي عولوا عليها 105 أسباب تعلق اليهود بفكرة المخلص المنتظر 105 عالم يهودي معاصر يجمع بين الإيمان بالفكرة والرفض 106 حقيقة فكرة عودة المسيح وتخبط اليهود والنصارى في ذلك 108 رأي ابن كمونة في ذلك 108 اليهود إنما ينتظرون المسيح الدجال فهم عسكره 109 إيمان المسلمين بالمسيح ابن مريم وعودته 110 ما يدعون به أول كل عام في صلاتهم 111 مخاطبتهم الله على وجه لا يليق به 112 أسباب نطقهم بهذه الهذيانات 112 ادعاؤهم رؤية شيوخهم لله 113 القرآن الكريم ينفي إمكانية الرؤية في الدنيا

114 زعمهم أن الله كتب اللوحين بأصبعه 114 نسبتهم الندم إلى الله سبحانه 114 ادعاؤهم أن الله ندم على خلق البشر في الأرض 116 ادعاؤهم أن الله ندم على تمليكه شاؤل على إسرائيل 116 ادعاؤهم أن الله ندم على إهلاك قوم نوح بالطوفان 117 ادعاؤهم أن الله ينسى ويحتاج إلى ما يذكره من علامات 118 نصوص من العهد القديم تنسب الندم إلى الله سبحانه 119 في العهد القديم نصوص تجسم الخالق وتشبهه بالإنسان وغير ذلك 120 النهي عن الشرك والتشبيه والتمثيل مذكور في عدة مواضع من العهد القديم 121 هذا التناقض يدل على التحريف والتبديل 121 حمل ابن كمونة لتلك النصوص على المجاز لم يحل المشكلة 122 رأي النصارى في تلك النصوص 123 اليهود وقعوا في التجسيم والنصارى في التثليث 123 عقيدة المسلمين في تنزيه الخالق 125 ذكر السبب في تبديل التوراة: 125 لم يبذل موسى من التوراة لبني إسرائيل سوى سورة صغيرة 126 تسلم موسى للتوراة وتسليمها للكهنة بني لاوى 128 الهارونيون وحدهم كانوا يعرفون التوراة 129 لمحة تاريخية عن التوراة والأدوار التي مرت بها 129 التوراة بعد موت موسى 129 التوراة إبان عهد القضاة 129 استيلاء الفلسطينيين على التابوت 130 عودة التابوت 130 التوراة إبان حكم الملوك

131 فتح سليمان التابوت فلم يجد التوراة 131 انقسام المملكة وسقوط دولة إسرائيل 131 العثور على التوراة قبيل سقوط مملكة يهوذا 132 لا يقبل الباحثون ادعاء حلقيا الكاهن 133 لم يعمل بتلك التوراة سوى ثلاثة عشر عاما 133 توالي النكبات على اليهود وانعدام التوراة 134 عزرا لفق لهم بعض التوراة فعظموه 134 التوراة إبان السبي 135 الدلائل تشير إلى أنها كتبت في مراحل متباعدة 137 ظهور نسختين للتوراة بعد العودة من السبي 137 التوراة إبان حكم اليونان 139 التوراة إبان حكم المكابيين 140 التوراة إبان حكم الرومان وتدمير الهيكل 141 صفوة القول: أن توراتهم لفقها عزرا وغيره قبل السبي وبعده 142 ليس لكتابهم المقدس سند أو شبه سند 142 قرار المجمع المسكوني عام 1965م بأن العهد القديم فيه شوائب وشيء من البطلان 143 أساء اليهود فهم عبارة "لا ينضج الجدي بلبن أمه" فشددوا 144 اتفاق هذه الطائفة على فنون من الكفر والضلال 145 أشد البلاء عليهم كان من ملوكهم العصاة 146 اخترع اليهود أدعية مزجوها بصلاتهم سموها الخزانة 147 فصل فيما يعتقدونه في دين الإسلام: 147 زعمهم أن المصطفى رأى أحلاما فقصها على الأحبار فأصحبوه ابن سلام 147 الرد على زعم اليهود والنصارى بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تعلم من علمائهم

148 من حكمة الله أنه لم يكن بمكة يومئذ أحد من علماء أهل الكتاب 148 النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يغادر مكة قبل البعثة إلا مرتين تحت سمع قومه وبصرهم 149 لو تعلم من أحد لعلم بذلك قومه المعادون له وأظهروه 149 من المقطوع به أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- كان أميا فكيف يتعلم من غيره 150 أسفار العهد القديم لم تكن مترجمة إلى العربية في ذلك الوقت 151 لم يكن العرب يعرفون ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من أخبار وقصص وأحكام 152 لو تعلم من أهل الكتاب لأظهروا ذلك في وقته مع أنهم كانوا يمتحنونه 152 لو تعلم من غيره لعرفه خواص أصحابه ثم شاع بين الناس 153 أنزل عليه في القرآن ما لا وجود له عند أهل الكتاب 154 المفكر الفرنسي موريس بوكاي قام بدراسة القرآن وقارنه بالكتاب المقدس فلم يجد انتحالا 154 ترجمة عبد الله بن سلام 155 زعموا أن عبد الله بن سلام قرر أن المطلقة ثلاثا لا تستحل إلا بنكاح رجل آخر 156 رجوع المطلقة إلى زوجها الأول بعد أن تتزوج آخر يعد زنى عندهم 156 النصارى منعت الطلاق إلا لعلة الزنى 157 الطلاق في شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- جمع بين المثالية والواقعية 158 أنكروا على المسلمين عودة المطلقة ولم ينكروا على أنفسهم وجوب زواج الأخ امرأة أخيه الميت 159 ما يطلقونه من الألفاظ القبيحة على محمد -صلى الله عليه وسلم- والقرآن الذي أنزل عليه 159 اجتمع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمور لا يجتمع مثلها إلا لنبي 159 شرف نسبه

160 أخلاقه الكريمة 160 آياته ومعجزاته 161 إخباره -صلى الله عليه وسلم- بفتح القسطنطينية وفتح روما 161 انتصار المسلمين على اليهود وتتبعهم لهم 162 وجوه إعجاز القرآن الكريم: 162 الإعجاز اللغوي 163 الإعجاز المعنوي 164 الإعجاز السماعي 165 الإعجاز العلمي 166 الإعجاز التشريعي 167 تجلي المعجزة الكبرى 169 افتراؤهم على الأنبياء: 169 جعلوا داود ابن زنى من وجهين 169 اتهامهم لوطا بالزنى بابنتيه بعد شربه الخمر 171 راعوث المؤابية جدة داود وسليمان وعيسى عليهم السلام 171 اتهامهم إبراهيم بالكذب مع أنه استعمل التورية عند الضرورة 172 العداوة بين بني إسرائيل وبين بني عمون ومؤاب دفعت واضع السفر إلى ذلك 173 الحساسية بين الهارونيين والداوديين 174 عزرا غير العزير 179 اتهامهم يعقوب بالزنى بكنته وإنجابه منها ولدين 179 فصل معرب عن بعض فضائحهم:: 179 قصة البياما والحالوص 183 ذكر السبب في تشديدهم الإصر على أنفسهم: 183 المشنا والتلمود الذي ألفه فقهاؤهم هما السبب الأول في التشديد

184 منزلة التلمود عندهم 185 المباحث التي يتكون منها التلمود 186 من عجائب التلمود 187 ما حرمته عليهم أئمتهم في هذا الكتاب 188 إنما حرمت التوراة ما ذبح قربانا للأصنام 189 لو أنصف اليهود لأكلوا ذبائح المسلمين لأنهم موحدون 189 اختلاقهم كتاب علم الذباحة "الطريفا" 190 مكثوا في التيه أربعين سنة 191 أكلهم المن والسلوى 195 فرق اليهود من حيث قبولهم التلمود 195 ادعاء فقهائهم أنهم عند الاختلاف يوحي الله إليهم بصوت يحدد الحق 195 القراءون أنكروا ذلك على عامة اليهود 196 الربانيون هم شيعة الحاخاميم 197 الصدوقيون 197 طائفة الربانيين أشد اليهود عداوة لغيرهم 198 القراءون أكثرهم اعتنق الإسلام 198 السبب الثاني: تبددهم في الأرض ونفاق علمائهم بادعائهم التمسك بالناموس 201 خاتمة الكتاب 201 وصف المؤلف لطبع اليهود 201 اتخاذهم العجل في أيام موسى وعبادتهم الأصنام بعد عصر يوشع 201 خروجهم على داود وانضمامهم إلى أبشالوم العاق ثم اعتذارهم 202 عبادتهم الكبشين 202 ما فعله مناحيم المحتال في اليهود المتفرقين بأذربيجان حيث وعدهم بالطيران إلى القدس

§1/1